موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
مقدمة موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"
تتناول هذه الموسوعة كل جوانب تاريخ العبرانيين فى العالم القديم، وتواريخ الجماعات اليهودية بامتداد بلدان العالم، وتعداداتها وتوزيعاتها، وسماتها الأساسية، وهياكلها التنظيمية، وعلاقات أفراد الجماعات اليهودية بالمجتمعات التى يوجدون فيها وبالدولة الصهيونية. وتغطى الموسوعة كذلك أشهر الأعلام من اليهود (مثل موسى بن ميمون) وغير اليهود ممن ارتبطت أسماؤهم بتواريخ الجماعات اليهودية (مثل نابليون وهتلر) . كما تتناول هذه الموسوعة كل الجوانب المتعلقة بتاريخ اليهودية، وفرقها وكتبها الدينية، وطقوسها وشعائرها، وأزمتها فى العصر الحديث، وعلاقتها بالصهيونية وبمعاداة السامية (معاداة اليهود) . وتغطى الموسوعة الحركة الصهيونية ونشاطاتها ومدارسها وأعلامها، وبعض الجوانب الأساسية للدولة الصهيونية.
وتهدف الموسوعة إلى توفير الحقائق التاريخية المعاصرة عن الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، وإلى تقديم رؤية جديدة للموضوعات التى تغطيها. وهى تحاول إنجاز ذلك من خلال عدة طرق:
1 - تقديم تاريخ عام للعقيدة والجماعات اليهودية وللحركة الصهيونية: تقدم الموسوعة رؤية تاريخية جديدة لكل من العقيدة والجماعات اليهودية والحركة الصهيونية أكثر علمية وحياداً وتفسيرية من تلك الرؤية الغربية التقليدية التى تبناها المؤلفون اليهود وغير اليهود فى الشرق والغرب، والمتأثرة بما يسمى "التاريخ المقدس" - أى التاريخ الذى ورد فى العهد القديم. والرؤية الجديدة تضع تواريخ الجماعات اليهودية فى أنحاء العالم فى إطار التاريخ الإنسانى العام. كما أن الموسوعة قامت بربط تاريخ الصهيونية، عقيدة وحركة وتنظيماً، بتاريخ الفكر الغربى والإمبريالية الغربية.(1/1)
2- التعريف الدقيق للمفاهيم والمصطلحات السائدة، والتأريخ لها من منظور جديد، وإبراز جوانبها الإشكالية: فعلى سبيل المثال حينما تتعرض الموسوعة لظاهرة مثل يهود الاتحاد السوفيتى (سابقاً) فإنها تفعل ذلك من خلال عدة مداخل عن تاريخ اليهود وتوزيعهم الوظيفى وأعدادهم وأسباب هجراتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية فى كل من روسيا القيصرية وروسيا السوفيتية. كما توجد عدة مداخل أخرى عن أنواع يهود الاتحاد السوفيتى (قرائين - الكرمشاك - جورجيين - يهود البايشية - يهود الجبال - يهود بخارى … إلخ) . وتضم الموسوعة أيضاً مداخل عن موقف ماركس وإنجلز والبلاشفة من المسألة اليهودية، وعلاقة اليهود بالفكر الاشتراكى وتطور الرأسمالية الغربية.
3- إسقاط المصطلحات المتحيزة وإحلال مصطلحات أكثر حياداً وتفسيرية محلها: تتسم المصطلحات المستخدمة لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية بأنها متحيزة لأقصى حد، وتجسد التحيزات الصهيونية والغربية. ولتجاوز هذا الوضع تم استبعاد مصطلح مثل "الشعب اليهودى" الذى يفترض أن اليهود يشكلون وحدة عرقية ودينية وحضارية متكاملة (الأمر الذى يتنافى مع الواقع) ، وحل محله مصطلح "الجماعات اليهودية"، وبدلاً من كلمة "الشتات" استخدمت العبارة المحايدة "أنحاء العالم"، وبدلاً من "التاريخ اليهودى" تشير الموسوعة إلى "تواريخ الجماعات اليهودية". والمصطلحات البديلة ليست أكثر حياداً وحسب، وإنما أكثر دقة وتفسيرية.
ويمكن تلخيص هدف الموسوعة فى أنها محاولة تطوير خطاب تحليلى (مصطلحات ومفاهيم) لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية، وهو خطاب يسترجع البعد التاريخى لهذه الظاهرة، من حيث كونها ظاهرة تاريخية اجتماعية يمكن فهمها والتعامل معها.(1/2)
وغنى عن القول أن موسوعة عربية عن الظواهر اليهودية أمر له أهمية بالغة بالنسبة للمتخصصين وغير المتخصصين فى هذا الحقل، أما بالنسبة للمتخصصين، فإن الموسوعة تحاول أن تضع إطاراً شاملاً وجديداً يمكن من خلاله دراسة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل. وعلى المستوى القومى، فإن هذه الموسوعة ستزود صانع القرار العربى، مهما كانت اتجاهاته السياسية، بقدر كبير من المعلومات اللازمة لاتخاذ أى قرار. كما أن العاملين فى مجالى السياسة والإعلام، وفى غيرهما من المجالات، سيجدون مرجعاً عربياً يزودهم بالمعلومات الضرورية عن اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل. وسيستفيد من الموسوعة أيضاً المتخصصون فى الفروع الأخرى من المعرفة ممن يتصدون للظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية بالدراسة، كل فى حقل تخصصه.
وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي صدرت عام 1999، والتي نالت جائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة للكتاب ذلك العام، هي من ضمن مساعي الدكتور المسيري العديدة الرامية إلى إلقاء الضوء على حقيقة الحركة والدولة الصهيونية (والعقيدة اليهودية والجماعات اليهودية في العالم) . وقد استغرق إعدادها ما يزيد عن ربع قرن واشترك في هذه العملية عشرات الأفراد (مؤلفون - محرر فني - مساعدي باحث - سكرتارية - مكتب للترجمة العبرية - محرر لغوي - طابع على الكمبيوتر) . وقد قام الدكتور المسيري بجهوده الذاتية بإعداد هذه الموسوعة والإنفاق عليها طيلة هذه الفترة.(1/3)
وحينما عرف بأمر الموسوعة، قام "مائير كاهانا" (عضو الكنيست السابق ورئيس جماعة كاخ الصهيونية الإرهابية) بإرسال خطابات تهديد بالقتل لمؤلفها والمشرف عليها في يناير عام 1984، واعترف بإرسال الخطابات، في حديث مع جريدة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في عددها الصادر في 21 فبراير 1984. وبلغ عدد هذه الخطابات ثلاثة عشر خطاباً، أرسل ستة منها على عنوان الدكتور المسيري بالرياض (المملكة العربية السعودية) وأرسلت الستة الأخرى على عنوانه بالقاهرة، أما الخطاب الثالث عشر فقد أرسل له في القاهرة فور عودته من الرياض، جاء فيه أن مرسلي الخطاب يعلمون بأمر عودته، وأنهم "يعدون قبراً له". كما جاء في هذه الرسائل أنه إن لم يتوقف الدكتور المسيري عن نشاطاته المعادية للصهيونية (وأهم هذه النشاطات - بطبيعة الحال - هو تأليف الموسوعة) فستصل إليه الأيدي الصهيونية، وستقوم بتصفيته. وقد وضع الدكتور المسيري تحت حراسة سلطات الأمن المصرية، حمايةً له.
كما أرسلت جامعة بار إيلان خطاباً إلى الملحق الثقافي الإسرائيلي تطلب منه الكتابة إلى السفير الأمريكي لتشويه سمعة بعض الشخصيات المصرية المعادية للصهيونية ومن ضمنها الدكتور المسيري (نشرت جريدة العربي المصرية نص الخطاب في عددها الصادر بتاريخ 11 نوفمبر 1993) .
تقع موسوعة فى ثمانية مجلدات، متوسط عدد صفحات كل منها 450 صفحة، ويتناول كل مجلد واحد منها موضوعاً محدداً. فالمجلد الأول يتناول الإطار النظرى للموسوعة وقضايا المنهج. أما المجلدات التالية (الثانى والثالث والرابع) فتتناول موضوع الجماعات اليهودية. ويتناول المجلد الخامس اليهودية، والمجلد السادس الصهيونية، والمجلد السابع إسرائيل.(1/4)
ويضم كل مجلد عدة أجزاء، ويضم كل جزء عدة أبواب، ويضم كل باب عدة مداخل. وعدد مداخل الموسوعة حوالى 2300 مدخل. والموسوعة مرتبة موضوعياً، فعلى سبيل المثال يتناول المجلد الرابع تواريخ الجماعات اليهودية فى بلدان العالم الغربى ويضم 18 باباً يتناول كل باب منها تاريخ جماعة يهودية بعينها فى إحدى بلدان العالم الغربى (إنجلترا - ألمانيا - روسيا… الخ) . ويضم باب إنجلترا ثلاثة مداخل (إنجلترا من العصور الوسطى حتى عصر النهضة - إنجلترا منذ عصر النهضة - إنجلترا فى الوقت الحاضر) تغطى موضوع تاريخ الجماعة اليهودية فى إنجلترا.
إلا أن الموسوعة لا تقتصر على التصنيف الموضوعى إذ يوجد فى المجلد الثامن فهرس ألفبائى عربى بكل مداخل الموسوعة. فإذا أراد القارئ أن يعرف شيئاً عن "إنجلترا من العصور الوسطى حتى عصر النهضة" فإنه سيذهب إلى حرف الألف حيث سيجد عنوان المدخل وبجواره رقم المجلد والصفحة.
وحتى نعطى القارئ فكرة عن مدى شمول الموسوعة فسنورد فى الصفحات التالية عناوين المجلدات والأجزاء والأبواب.
المحتويات:
المجلد الأول: الإطار النظري
الجزء الأول: إشكاليات نظرية
1 ـ مقدمة.
2 ـ مفردات.
3 ـ فشل النموذج المادى في تفسير ظاهرة الإنسان.
4 ـ إشكاليات الإنساني والطبيعى والذاتى والجزئى والكلى.
الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية
1 ـ النماذج: سماتها وطريقة صياغتها.
2 ـ أنواع النماذج.
3 ـ النموذج الاختزالي والنموذج المركب.
الجزء الثالث: الحلول الكمونية الوحدانية
1 ـ الحلول ووحدة الوجود والكمونية.
2 ـ الحلول الكمونية الواحدية والعلمانية الشاملة.
الجزء الرابع: العلمانية الشاملة
1 ـ إشكالية تعريف العلمانية.
2 ـ اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم (علمانية) .
3 ـ نموذج تفسيري مركب وشامل للعلمانية.(1/5)
4 ـ مصطلحات الواحدية والاستيعاب فيها.
5 ـ مصطلحات تشير إلى تفكيك الإنسان وتقويضه.
6 ـ مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن.
7 ـ الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة وما بعد الحداثة.
8 ـ العلمانية الشاملة والإمبريالية.
9 ـ العلمانية الشاملة: تاريخ موجز وتعريف.
الجزء الخامس: الجماعات الوظيفية
1 ـ السمات الأساسية للجماعات الوظيفية.
2 ـ الجماعات الوظيفية والحلولية والعلمانية الشاملة.
المجلد الثاني:الجماعات اليهودية: إشكاليات
الجزء الأول: طبيعة اليهود في كل زمان ومكان
1 ـ إشكالية الجوهر اليهودي.
2 ـ إشكالية الوحدة والنفوذ اليهودي.
3 ـ إشكالية العبقرية والجريمة اليهودية.
4 ـ إشكالية العزلة والخصوصية اليهودية.
5 ـ منفي وعودة أم هجرات وانتشار؟
6 ـ هجرات وانتشار أعضاء الجماعات اليهودية.
الجزء الثاني: يهود أم جماعات يهودية؟
1 ـ الجماعات اليهودية الأساسية.
2 ـ الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية.
3 ـ إشكالية الهوية اليهودية.
4 ـ اليهود والجماعات اليهودية.
5 ـ إشكالية التعداد.
الجزء الثالث: يهود جماعات يهودية؟
1 ـ الجماعات الوظيفية اليهودية.
2 ـ الجماعات الوظيفية اليهودية القتالية والاستيطانية والمالية.
3 ـ أقنان ويهود البلاط.
4 ـ جماعات وظيفية أخرى (البغاء ـ الطب ـ الترجمة ـ الجاسوسية) .
5 ـ مسألة الحدودية والهاشمية.
الجزء الرابع: عداء الأغيار الأزلي لليهود واليهودية
1 ـ إشكالية معاداة اليهود.
2 ـ بعض التجليات المتعينة لمعاداة اليهود.
3 ـ معاداة اليهود والتحيز لهم.
4 ـ الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة.
5 ـ بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا.
6 ـ إشكالية التعاون بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية والنازيين.
المجلد الثالث:الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة
الجزء الأول: التحديث
1 ـ من التحديث إلى ما بعد الحداثة.
2 ـ العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية.(1/6)
3 ـ التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية.
4 ـ الإعتاق.
5 ـ الاستنارة اليهودية.
6 ـ الرأسمالية والجماعات اليهودية.
7 ـ رأسماليون من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم (ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية) .
8 ـ رأسماليون من أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة.
9ـ الاشتراكية والجماعات اليهودية.
الجزء الثاني: ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية
1 ـ ثقافات الجماعات اليهودية (تعريف وإشكالية) .
2 ـ فلكلور (طعام وأزياء) الجماعات اليهودية.
3 ـ الفنون التشكيلية والجماعات اليهودية.
4 ـ إشكالية المتحف اليهودي.
5 ـ الموسيقى والرقص والجماعات اليهودية.
6 ـ الكوميديا والسينما والجماعات اليهودية.
7 ـ الأدب اليهودي والصهيوني.
8 ـ الآداب المكتوبة بالعبرية.
9 ـ الأدب اليديشي.
10 ـ لهجات أعضاء الجماعات اليهودية ولغاتهم.
11 ـ المفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية.
12 ـ الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية.
13 ـ علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية.
14 ـ علماء النفس من أعضاء الجماعات اليهودية.
15 ـ التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية حتى العصر الحديث.
16 ـ التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في العصر الحديث.
المجلد الرابع:الجماعات اليهودية: تواريخ
الجزء الأول: تواريخ الجماعات اليهودية فى العالم القديم
1 ـ إشكالية التاريخ اليهودي.
2 ـ أشكال الإدارة الذاتية.
3 ـ مصر والإمبراطورية الحيثية.
4 ـ الشعوب السامية: الآشوريين والبابليون.
5 ـ الشعوب والأقوام السامية الأخرى.
6 ـ الحوريون والفلستيون.
7 ـ العبرانيون.
8 ـ عصر الآباء.
9 ـ التسلل أو الغزو العبرانى لكنعان.
10 ـ عصر القضاة.
11 ـ عبادة يسرائيل.
12 ـ الهيكل.
13 ـ المملكة العبرانية المتحدة.
14 ـ المملكة الجنوبية والمملكة الشمالية.
15 ـ التهجير الآشورى والبابلى.
16 ـ الفرس.
17 ـ اليونانيون.
18 ـ الرومان.
19 ـ التمردات اليهودية.(1/7)
الجزء الثانى: تواريخ الجماعات اليهودية فى العالم الإسلامي
1 ـ الشرق الأدنى القديم قبل وبعد انتشار الإسلام.
2 ـ إسبانيا الإسلامية (الأندلس) .
3 ـ الدولة العثمانية وفارس بعد انتشار الإسلام.
4 ـ العالم العربى منذ القرن التاسع عشر.
الجزء الثالث: تواريخ الجماعات اليهودية فى بلدان العالم الغربى
1 ـ الإقطاع الغربى وجذور المسألة اليهودية.
2 ـ الجيتو.
3 ـ الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وإسبانيا المسيحية.
4 ـ فرنسا.
5 ـ إنجلترا.
6 ـ ألمانيا.
7 ـ النمسا وهولندا وإيطاليا.
8 ـ بولندا قبل التقسيم (ظهور يهود اليديشية) .
9 ـ بولندا من التقسيم حتى الوقت الحاضر.
10 ـ روسيا القيصرية حتى عام 1885.
11 ـ روسيا القيصرية حتى اندلاع الثورة.
12 ـ الاتحاد السوفيتي.
13 ـ يهود اليديشية في أوكرانيا وجا ليشيا ورومانيا والمجر.
14 ـ أمريكا اللاتينية.
15 ـ جنوب أفريقيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
16 ـ الولايات المتحدة حتى منتصف القرن التاسع عشر.
17 ـ الولايات المتحدة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1971.
18 ـ اليهود الجدد أو الأمريكيون اليهود في الوقت الحاضر.
المجلد الخامس:اليهودية: المفاهيم والفرق
الجزء الأول: بعض الإشكاليات
1 ـ إشكالية التركيب الجيولوجي التراكمي والشريعة الشفوية.
2 ـ إشكالية الحلولية اليهودية.
3 ـ إشكالية علاقة الغنوصية باليهودية.
4 ـ إشكالية علاقة اليهودية بالصهيونية.
الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية
1 ـ الإله.
2 ـ الشعب المختار.
3 ـ الأرض.
4 ـ الكتب المقدسة والدينية.
5 ـ الأنبياء والنبوة.
6 ـ اليهودية الحاخامية (التلمودية) .
7 ـ الفقهاء (الحاخامية) .
8 ـ القبالاه.
9 ـ قبالاه الزوهار والقبالاه اللوريانية.
10 ـ السحر والقبالاه المسيحية.
11 ـ الشعائر.
12 ـ المعبد اليهودي.
13 ـ الحاخام (بمعنى "القائد الديني للجماعة اليهودية") .
14 ـ الصلوات والأدعية.
15 ـ الأغيار والطهارة.(1/8)
16 ـ الأسرة.
17 ـ التقويم اليهودي.
18 ـ الأعياد اليهودية.
19 ـ الفكر الأخروي.
20 ـ الماشيح والمشيحانية.
الجزء الثالث: الفرق الدينية اليهودية
1 ـ الفرق الدينية اليهودية (حتى القرن الأول الميلادي) .
2 ـ اليهودية والإسلام.
3 ـ اليهودية والمسيحية.
4 ـ الحسيدية.
5 ـ اليهودية الإصلاحية.
6 ـ اليهودية الأرثوذكسية.
7 ـ اليهودية المحافظة.
8 ـ تجديد اليهودية وعلمنتها.
9 ـ اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة.
10 ـ اليهودية بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرير.
11 ـ العبادات الجديدة.
المجلد السادس:الصهيونية
الجزء الأول: إشكاليات وموضوعات أساسية
1 ـ التعريف بالصهيونية.
2 ـ التيارات الصهيونية.
3 ـ العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية.
4 ـ وضع العقد موضع التنفيذ.
5 ـ الصهيونية والعلمانية الشاملة.
6 ـ الخطاب الصهيوني المراوغ.
الجزء الثاني: تاريخ الصهيونية
1 ـ تاريخ الصهيونية.
2 ـ الإرهاصات اليهودية الأولى: حملات الفرنجة (الصليبيين) .
3 ـ صهيونية غير اليهود المسيحية.
4 ـ صهيونية غير اليهود العلمانية.
5 ـ الصهيونية التوطينية.
6 ـ المؤسسات التوطينية.
7 ـ الصهيونية الاستيطانية (العملية) .
8 ـ تيودور هرتزل.
9 ـ الصهيونية السياسية.
10 ـ الصهيونية العامة (أو الصهيونية العمومية) .
11 ـ الصهيونية العمالية.
12 ـ الصهيونية الإثنية الدينية.
13 ـ الصهيونية الإثنية العلمانية.
14 ـ الصهيونية الإقليمية.
15 ـ الدولة مزدوجة القومية.
الجزء الثالث: المنظمة الصهيونية
1 ـ المنظمة الصهيونية العالمية.
2 ـ اللوبي اليهودي والصهيوني.
3 ـ الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة.
4 ـ الجباية الصهيونية.
الجزء الرابع: الصهيونية والجماعات اليهودية
1 ـ موقف الصهيونية وإسرائيل من الجماعات اليهودية في العالم.
2 ـ موقف الجماعات اليهودية من الصهيونية.
3 ـ الرفض اليهودي للصهيونية.(1/9)
4 ـ شخصيات ومنظمات يهودية معادية للصهيونية.
المجلد السابع:إسرائيل: المستوطن الصهيوني
الجزء الأول: إشكالية التطبيع والدولة الوظيفية
1 ـ إشكالية التطبيع.
2 ـ الدولة الصهيونية الوظيفية.
الجزء الثاني: الدولة الاستيطانية الإحلالية
1 ـ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
2 ـ إحلالية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
3 ـ التهجير (الترانسفير) والهجرة الاستيطانية.
4 ـ هجرة اليهود السوفيت.
الجزء الثالث: العنصرية والإرهاب الصهيونيان
1 ـ العنصرية الصهيونية.
2 ـ الإرهاب الصهيوني / الإسرائيلي حتى عام 1948.
3 ـ الإرهاب الصهيوني / الإسرائيلي منذ عام 1948.
الجزء الرابع: النظام الاستيطاني الصهيوني
1 ـ الاستيطان والاقتصاد.
2 ـ التوسع الجغرافي أم الهيمنة الاقتصادية؟
3 ـ النظام السياسي الإسرائيلي.
4 ـ نظرية الأمن.
الجزء الخامس: أزمة الصهيونية والمسألة الإسرائيلية
1 ـ أزمة الصهيونية.
2 ـ الاستجابة الصهيونية / الإسرائيلية للأزمة.
3 ـ المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية.
4 ـ المسألة الفلسطينية.(1/10)
السيرة الذاتية لمؤلف الموسوعة (الدكتور/ عبد الوهاب المسيرى)
* ليسانس آداب ـ أدب إنجليزي ـ جامعة الإسكندرية (1959)
* ماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن ـ جامعة كولومبيا Columbia University ـ الولايات المتحدة الأمريكية (1964)
* دكتوراه في الأدب الإنجليزي والأمريكي والمقارن ـ جامعة رتجرز Rutgers University ـ الولايات المتحدة الأمريكية (1969)
* خبير الصهيونية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام (حتى عام 1975) .
* عضو الوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم (حتى عام 1979) .
* أستاذ بجامعة عين شمس وجامعة الملك سعود وجامعة الكويت (حتى عام 1989)
* أستاذ غير متفرغ بجامعة عين شمس (1989 ـ حتى الآن)
* المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي (1992 ـ حتى الآن) .
* عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية ـ واشنطن ـ الولايات المتحدة (1997 ـ حتى الآن)
* أستاذ زائر بجامعة ماليزيا الإسلامية فى كوالالامبور، وبعديد من الجامعات العربية وبأكاديمية ناصر العسكرية.
* صدر له العديد من الكتب من أهمها: نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيونى (1972) كتبه حينما كان يعمل رئيساً لوحدة الفكر الصهيونى وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، كما صدر له كتاب من جزأين بعنوان: الأيديولوجية الصهيونية، دراسة حالة فى علم اجتماع المعرفة (صدرت منه طبعة ثانية من جزء واحد عام (1988) ، وقد وضع المؤلف عدة مؤلفات بالإنجليزية حينما كان يشغل منصب المستشار الثقافى للوفد الدائم للجامعة العربية لدى هيئة الأمم المتحدة (1975-1979) ، من أهمها كتاب عن الصهيونية بعنوان أرض الوعد: نقد الصهيونية السياسية.
(قرر تدريسه فى عدد من الجامعات الأمريكية) ، وكتاب أخر عن تطور العلاقة بين إسرائيل وجنوب أفريقيا (نشرت منه عدة طبعات بعدة لغات) كما صدر له كتاب ثالث (بالعربية) عنوانه: الفردوس الأرضى: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية.(1/11)
وفى السنوات الأخيرة صدرت للدكتور المسيرى عدة كتب من أهمها: الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية وهجرة اليهود السوفييت، وقد نشرت له دار الشروق عام 1997 الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، ومن هو اليهودى؟ كما نشرت له عام 1998 اليد الخفية، ونشر له مركز الدراسات المعرفية والمعهد العالمى للفكر الإسلامى بواشنطن والقاهرة كتاب إشكالية التحيز (سبعة مجلدات) من تأليفه وتحريره، وللدكتور المسيرى العديد من المقالات فى الجرائد والمجلات والحوليات، العربية والأجنبية، وقد قام الدكتور المسيرى بكتابة المداخل الخاصة بالصهيونية والانتفاضة فى عدد من الموسوعات والكتب والمراجع المتخصصة، وقد ترجمت بعض أعماله إلى الفارسية والتركية والبرتغالية والفرنسية، وللدكتور المسيرى اهتمام خاص بالنقد الأدبى وتاريخ الفكر والحضارة (بحكم تخصصه الأكاديمى) ، فألقى العديد من المحاضرات عن هذه الموضوعات فى الجامعات والمؤتمرات العربية والغربية، كما نشر العديد من المقالات فى الجرائد والمجلات والحوليات العربية والأجنبية، وله عدة كتب فى الشعر الرومانتيكى الإنجليزى وشعر المقاومة الفلسطينى، ويكتب الدكتور المسيرى فى الوقت الحاضر سلسلة من القصص للأطفال تنشرها دار الشروق تحت عنوان حكايات هذا الزمان.
المراجع والمرجعية
جرت العادة أن تضم قائمة المراجع الكتب التي استعان بها المؤلف في وضع بحثه أو مؤلفه، وخصوصاً تلك التي اقتبس منها بشكل مباشر. وهذا يدل على هيمنة النماذج التراكمية والمادية. فالمصادر التي لم نقتبس منها قد تكون أكثر أهمية من تلك التي نقتبس منها، وذلك إن أثَّرت في صياغة النموذج الإدراكي والتفسيري نفسه الذي يستخدمه الكاتب في طريقة رؤيته للظواهر، بينما نجد أن كثيراً من الكتب التي نقتبس منها هي مجرد مصدر للحقائق؛ مادة أرشيفية وحسب.(1/12)
ويمكننا هنا أن نميِّز بين المراجع والمرجعية. فالمراجع تتناول الاقتباسات المباشرة أما المرجعية فتتناول جذور الفكر نفسه وتشكل النموذج التفسيري والتحليلي. وأعتقد أنه لابد أن يوجد ثبت بالمرجعية إلى جانب ثبت المراجع، تُدرج فيه أسماء الأساتذة والمؤلفين والشخصيات التي أثَّرت في الكاتب حتى لو لم يقتبس مباشرةً من كتاباتهم.
أ) المرجعية:
من أهم مرجعياتي الأستاذ سعيد البسيوني (بالبنك الأهلي) صديقي منذ الصبا، الذى ساهم في تدريبي على التفكير وعلى التعمق في الأمور وتجاوز السطح؛ والدكتور إميل جورج، مدرس الفلسفة بدمنهور الثانوية، والدكتورة نور شريف، رئيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بالإسكندرية؛ والدكتور محمد مصطفى بدوي، أستاذ بجامعة أوكسفورد، والأستاذ ديفيد وايمر، أستاذ الأدب الأمريكي بجامعة رتجرز؛ وليونيل تريلنج، الناقد الأمريكي المعروف والأستاذ بجامعة كولومبيا، والأستاذ كافين رايلى، المؤرخ الأمريكى وزميلى فى جامعة رتجرز.
ومن أهم الكتابات التي ساعدت على تشكيل مرجعيتي والمنهج التحليلي الذي أتبناه كتابات كارل ماركس الإنسانية وجورج لوكاتش وروجيه جارودي وماكس فيبر وبازل ويلي وإرفنج بابيت. وقد ساهمت كتابات أبراهام ماير، مؤلف كتاب المرآة والمصباح، وزيجمونت باومان، عالم الاجتماع، في تشكيل كثير من أفكاري ومقولاتي التحليلية. وفي الآونة الأخيرة قرأت أعمال رئيس البوسنة علي عزت بيجوفيتش ووجدت فيها فكراً عميقاً ومنهجاً واضحاً ساعدني كثيراً على تعميق فكري ومنهجي.(1/13)
أما فيما يتصل بالشأن الصهيوني فلعل كتابات الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي عن اليهودية والصهيونية (وهو أستاذ ديانات مقارنة) هي التي بيَّنت لي الطريق لتجاوز السياسي وصولاً إلى المعرفي. وكان أسلوب معالجته للموضوعات مختلفاً تماماً عما كنت أقرؤه، فقد وضَّح لي كثيراً من الأبعاد الغامضة التي أخفقت كتب السرد التاريخي في توضيحها. وقد استفدت إلى حدٍّ كبير بكتابات حبيب قهوجي وبديعة أمين وأسعد رزوق، كما قرأت أعمال جمال حمدان وتأثرت بها بشكل عميق (كما بيَّنت في كتابى المعنون اليهود فى عقل هؤلاء والصادر عن دار المعارف عام 1998) .
وغني عن القول أن المرجعية النهائية لهذه الموسوعة (وللمشرف عليها) هو ما أسميه «المرجعية المتجاوزة» ، والإيمان بوحدانية الله وثنائية الوجود الإنساني (كما هو مبيَّن في المجلد الأول المعنون الإطار النظري) .
ب) المراجع:
جرت العادة على ألا تورد الموسوعات بشكل عام، والموسوعات المتخصصة على وجه التحديد، قائمة بالمراجع التي استخدمها كاتب مدخل ما. ولعل هذا يعود إلى أن مراجع المداخل التي تدور حول موضوع ما ستكون في الغالب واحدة وهو ما يؤدي إلى التكرار. كما أن مراجع مدخل واحد قد تكون من الضخامة بحيث أن حجم الموسوعة يمكن أن يتضاعف نتيجة هذا.
ولأضرب مثلاً بالمداخل التي تغطي حروب الفرنجة (المجلد السادس المعنون «الصهيونية» ) وسأورد فيما يلي ثبت المراجع الخاص بهذه المداخل.
1 ـ المراجع العربية:
كتب:
الأسطل، كمال محمد، مستقبل إسرائيل بين الاستئصال والتذويب: دراسة حول المشابهة التاريخية بين الغزوة الصليبية والغزوة الصهيونية. القاهرة، دار الموقف العربي، 1980.
أمين، بديعة، المشكلة اليهودية والحركة الصهيونية. بيروت، دار الطليعة 1974.
الخالدي، وليد وآخرون، القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني. الموصل، العراق. دار الكتب والنشر لجامعة الموصل واتحاد الجامعات العربية 1983، الفصول التالية:(1/14)
دكتور شاكر مصطفى، "العرب والإسلام وفلسطين عبر التاريخ".
دكتور مروان بحيري، "اليهود في أوربا الغربية والشرقية ما بين 750 و1850"، "الحركة الصهيونية منذ نشأتها حتى نشوب الحرب العالمية الأولى".
قاسم، قاسم عبده، الخلفية الأيديولوجية للحروب الصليبية، دراسة في الحملة الأولى، 1095 ـ 1099 ـ الكويت، ذات السلاسل للطباعة والنشر، 1988.
دوريات:
المستقبل العربي، أغسطس 1987:
عاشور، سعيد عبد الفتاح، "ملامح المجتمع الصليبي في بلاد الشام".
قاسم، قاسم عبده، "الحروب الصليبية في الأدبيات العربية والأوربية واليهودية".
2 ـ المراجع الأجنبية:
كتب:
Bradford, Ernle, The Sword and the Samitar: The Saga of the Crusades. London, Victer Gallancz, 1974.
Cutler, Allan H and H. E. Cutler, The Jew as Ally of the Muslim: Medieval Roolts of Anlti-Semitism. Indiana, Uninversity of Notre Dame, 1986.
Erdman, Carl, The Origin of the Idea of the Crusade, translated from the German by Marshall W. Baldwrin and Walter Goffart. Princeton, Princeton Universsity Press, 1977.
Mayer, Hans Eberhard, The Csusades, translated by John Gillingham. Oxford Univessity Press, 1972.
Mc Gasry, Daniel D., Medieval History and Civiliztion. New York, Macmillan, 1976.
موسوعات ومعاجم:
Concise Dictionary of World History by Bruce Wettereau. New York, Macmillan, 1983.
Encyclopedia Britannica. Chicago, Encyclopedia Britannica, 1968.
Encyclopedia Judaica. Israel, Jesusalem, Keter Publishing, 1972.
Encyclopedia of Religion and Ethics. Edinblurgh, T and T Clark, 1938.
Encyclopedia of Jewish History: Events and Eras of the Jewish People, ed. Illana Shamir and Shlomo Shairt, Israel, Massada, 1986.(1/15)
فإذا أضفنا إلى كل هذا التواريخ الأساسية للجماعات اليهودية مثل جرايتز وبارون وفنكلشتاين وبن ساسون وغيرهم، ثم المراجع الخاصة بالخلفية الأوربية والعربية الإسلامية لحروب الفرنجة لزاد ثبت المراجع صفحتين أو ثلاثة ولاقترب حجمه من حجم المداخل!
لكل هذا نجد أن كل الموسوعات لا تدرج المراجع التي استخدمها مؤلف المدخل، ويكتفي بعضها بإدراج قائمة ببعض المراجع المهمة تحت عنوان "لمزيد من الاطلاع" (بالإنجليزية: فور فيرذر ريدنج For Further Reading) . وقد وجدنا أن ما يحتاجه القارئ العربي ليس مجرد ثبت عادي بالمراجع وإنما ثبت نقدي يلخص أطروحات الكتب والمقالات التي ترد عناوينها فيه ويبيِّن مواطن قوتها أو ضعفها والتحيزات الكامنة فيها. وهو جهد ضخم يقع خارج نطاق هذه الموسوعة.
وأحب أن أشير إلى أننا استفدنا في المجلد السابع الخاص بإسرائيل بكتاب دليل إسرائيل العام تحرير صبري جريس وأحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1996) ، وبكتابات الدكتور فضل النقيب.(1/16)
المجلد الأول: الإطار النظرى
الجزء الأول: إشكاليات نظرية
الباب الأول: مقدمة
بعض مواطن القصور فى الخطاب التحليلى العربى
قد يكون من المفيد أن نبيِّن بعض مواطن القصور الأساسية في الخطاب التحليلي العربي والغربي في حقل الدراسات اليهودية والصهيونية.
ولنبدأ أولاً باستبعاد بعض أشكال الخطاب من دائرة الخطاب التحليلي والتفسيري مثل الخطاب العملي (بشقيه التعبوي ـ الدعائي والقانوني) والخطاب الأخلاقي:
1 ـ الخطاب العملي: هو خطاب له أهداف عملية مثل تعبئة الجماهير أو الرأي العام، وهو لا يُعنَى كثيراً بقضية التفسير. ونحن نُقسِّم الخطاب العملي إلى قسمين: الخطاب العملي التعبوي والخطاب العملي القانوني.
أ) الخطاب العملي التعبوي: هو الخطاب الدعائي المحض الذي يتوجه، على سبيل المثال، إلى الرأي العام العالمي فيُوضِّح له أن "إسرائيل دولة معتدية" وأن "اللاجئين الفلسطينيين سُبة في جبين البشرية"، وأن "المستوطنين الصهاينة يستولون على الأراضي الفلسطينية دون وجه حق" وأنهم "عنصريون يعذبون النساء والأطفال"، وهكذا. ويمكن أن يتوجه الخطاب الدعائي نحو الداخل ليصبح خطاباً تعبوياً يهدف إلى تعبئة الجماهير ضد العدو الصهيوني وضد المؤامرة المستمرة (أو العكس الآن، إذ يمكن أن يقوم الخطاب التعبوي بالتبشير بالسلام) . وغني عن القول أن مثل هذا الخطاب لا يفيد كثيراً في فَهْم ما يجري حولنا، فهو لا يكترث به أساساً. ونحن لا نقف ضد الدعاية أو التعبئة ولكن الهام أن نعرف أنهما أمران مختلفان عن التفسير.
ب) الخطاب العملي القانوني: ويمكن للخطاب العملي أن يكون قانونياً وتصبح القضية هي المرافعة لتوضيح الحق العربي والأساس القانوني له. والشكل الأساسي الذي يأخذه هذا الخطاب هو مراكمة قرارات هيئة الأمم المتحدة الواحد تلو الآخر في مجلدات ضخمة تُطبَع بعناية فائقة وتُوزَع على الهيئات والدول والمنظمات الدولية المعنية. ومثل هذا الخطاب لا يُعنَى كثيراً بتفسير أسباب الصراع أو بنيته أو طرق حله أو تصعيده أو إدارته. ولا شك في أن معرفة الإطار القانوني للصراع أمر مهم للغاية ولكنه يختلف تماماً عن عملية التفسير التي تنطوي على جهد أكثر تركيباً من مراكمة القوانين.(1/17)
ومن الأشكال الأخرى للخطاب القانوني ما يُنشر من دراسات تحت شعار "من فمك ندينك يا إسرائيل". وهذه الدراسات تتكون عادةً من اقتباسات من كتابات بعض المؤلفين الإسرائيليين ومن أعضاء الجماعات اليهودية ينتقدون فيها اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وإسرائيل. وتوضع الاقتباسات التي لا يربطها رابط، جنباً إلى جنب ثم تُقدَّم باعتبارها أدلة دامغة في المرافعة التي لا تنتهي ضد الصهيونية وإسرائيل وكل اليهود!
2 ـ الخطاب الأخلاقي: وهو الخطاب الذي يَصدُر عن قيم أخلاقية إنسانية ويحاول أن يحض على وضعها موضع التطبيق. ويمكن القول بأن ثمة نقط تشابه أساسية بين الخطابين الدعائي التعبوي والعملي القانوني من جهة والخطاب الأخلاقي من جهة أخرى، فجميعها ذات تَوجُه عملي غير تفسيري. فمقولات أخلاقية مثل الاعتدال والتسامح والإنصاف والخير ليست مقولات تحليلية أو تفسيرية، فهي تعبير عن حالات عقلية أو عاطفية وعن مواقف أخلاقية ولا علاقة لها ببنية الواقع المُركَّبة أو العملية التفسيرية. وهذه المقولات تجعل الباحث يُركِّز على الحالة العاطفية والعقلية للفاعل ويستبعد العناصر الأخرى، أو تجعله يُركِّز هو نفسه على إصدار الحكم الأخلاقي الصحيح على الأحداث بدلاً من دراسة بنية الواقع وآلياته وحركياته بهدف تفسيره. ولنأخذ قضية الاعتدال. يمكن القول بأن الكيان الصهيوني هو بنية عدوانية بغض النظر عن نية الفاعل الصهيوني ومواقفه الأخلاقية الفردية. فالمشروع الصهيوني هو مشروع يهدف إلى نقل كتلة بشرية من العالم الغربي إلى فلسطين بحيث تحل الكتلة البشرية المُهجَّرة محل سكان البلد الأصليين، بكل ما يَنتُج عن ذلك وبشكل حتمي من إحلال وطرد وإبادة. وهي نتائج تتجاوز نوايا العناصر البشرية الفردية المُشتركة في عملية النقل. ولكن هناك بعض الصهاينة المعتدلين، حسني النية والطوية، ممن تخلوا عن القيم الداروينية الشائعة. ولكنهم، رغم إنسانيتهم الحقة وأخلاقيتهم(1/18)
الواضحة، لم يستطيعوا أن يحققوا شيئاً بسبب طبيعة الصهيونية الاستيطانية الإحلالية. فتمسُّك هؤلاء بالقيم الأخلاقية النبيلة لا يَصلُح كثيراً لتفسير الظاهرة المركبة، لكن هذا لا يعني إسقاط نوايا الفاعل أو توجهه الأخلاقي، وخصوصاً إذا كانت هذه النوايا حقيقية، والمهم ألا نخلط بينها وبين بنية الصراع.
ولنضرب مثلاً آخر على عدم جدوى استخدام مقولة «الاعتدال» لتفسير الظواهر. فمن المعروف أن الاعتدال الصهيوني اختلف من جيل إلى جيل، حتى أن المعتدلين الآن (بعد تآكل العرب) هم في واقع الأمر متطرفو الأمس. ولذا، فإن طالب العرب (على سبيل المثال) بقبول قرار تقسيم فلسطين الصادر عام 1948 كأساس لحل القضية الفلسطينية عام 1996، أو حتى بالانسحاب لحدود عام 1967، فإن مثل هذه المطالب يُعتبَر تطرفاً وتشدداً وإرهاباً. ويُطلَب من العرب بعد ذلك أن يُظهروا شيئاً من التسامح وأن يتنازلوا عن أوطانهم حتى يمكن وصفهم بالاعتدال!
أما الإنصاف، فيمكن أن أضرب مثلاً على انعدام قيمته التفسيرية من كتاب صدر عن اليهود والماسون في مصر وحاول مؤلفه أن يكون "منصفاً"، فبيَّن أنه ليس كل اليهود ماسوناً وليس كل الماسون يهوداً، وأن هناك قيادات وطنية مصرية لا شبهة في وطنيتها انضمت للحركة الماسونية وهناك قيادات أخرى لم تنضم. وقد وثَّق المؤلفُ كل هذا بمادة أرشيفية ممتازة دون أن يُفسِّر لنا شيئاً عن الماسونية أو عن الظواهر التي أشار لها.(1/19)
وقد ظهرت مؤخراً مصطلحات أخلاقية مثل «ثقافة السلام وثقافة الحرب» ليست لها قيمة تحليلية كبيرة، وهي مصطلحات تخلق الوهم بوجود شيء أخلاقي مطلق اسمه «السلام» مقابل شيء آخر لا أخلاقي مطلق يُسمَّى «الحرب» ولا يوجد أي منهما داخل أي سياق إنساني وتاريخي أو اجتماعي. وقد تمت تعبئة مصطلح «ثقافة السلام» بكل الإيحاءات الإيجابية الممكنة وأصبح الحديث عن "الحرب" مهما كانت أسبابها ومهما كانت الدوافع وراءها (مثل الحرب من أجل تحرير الأرض والذات على سبيل المثال) أمراً سلبياً وشكلاً من أشكال العنف. ونحن نطرح جنباً إلى جنب مع «ثقافة السلام والحرب» مصطلح «ثقافة العدل والظلم» . ولذا يمكننا أن نتحدث عن «ثقافة السلام والعدل» مقابل «ثقافة الحرب والظلم» . كما يمكن أن نتحدث عن «ثقافة السلام والظلم» وثقافة «الحرب والعدل» . والهدف من كل هذا هو أن نبيِّن البُعد الأخلاقي لمثل هذه المصطلحات وأنها ليست، في واقع الأمر، مصطلحات وصفية وإنما هي مصطلحات وعظية وتعبوية، وأن نزيد من تركيبيتها ومقدرتها على التعامل مع واقع الإنسان المُركَّب.
ونحن لا نرفض القيم الأخلاقية وضرورتها للإنسان كإنسان، بل نرى أن التفسير لابد أن يُترجم نفسه في نهاية الأمر إلى فعل إنساني فاضل، بحيث يقف الإنسان وراء ما يُتصوَّر أنه إنساني وأخلاقي (المعروف) ، ويقف ضد ما يُتصوَّر أنه غير إنساني وغير أخلاقي (المنكر) . إلا أن مثل هذا الموقف الأخلاقي الإنساني، هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابد أن يسبقه إدراك كامل لطبيعة الموقف الأخلاقي وتحليل للواقع المتعيِّن بكل مكوناته وتركيبيته حتى يمكن فهمه قبل الحكم عليه.
ويمكننا الآن أن ننصرف إلى عيوب الخطاب التحليلي الذي يهدف إلى تفسير الواقع:(1/20)
1 ـ ولنبدأ بأهم الأشياء، أعني المسلمات أو المقولات التحليلية الأساسية. فمن الواضح أن كثيراً من الدراسات العربية تبنت (عن وعي أو عن غير وعي) معظم أو كل المسلمات أو المقولات التحليلية الغربية التي تتعامل الحضارة الغربية من خلالها مع العقيدة اليهودية ومع أعضاء الجماعات اليهودية، وهي مقولات أو مسلمات في معظمها ذات أصل إنجيلي مثل «التاريخ اليهودي» و «الشعب اليهودي» . وهذه المقولات الإنجيلية احتفظت ببنيتها الأساسية دون تغيير، حتى بعد أن تم علمنتها وتفريغها من القداسة والأبعاد الدينية، فاليهود لا يزالون (في الوجدان الغربي الحديث) كياناً مستقلاً يتحركون داخل تاريخهم المستقل. وبعد أن كانوا يهيمون في البرية ويصعدون إلى كنعان ويهبطون إلى مصر، أصبحوا الآن يهيمون في أنحاء العالم، وبخاصة العالم الغربي، متطلعين طيلة الوقت إلى الصعود إلى فلسطين. ومن ثم، يخلع الوجدان الغربي على اليهود التفرُّد باعتبارهم الشعب المختار، وينزع عنهم القداسة باعتبارهم قتلة الرب والشعب المنبوذ الذليل، ثم يُحيِّدهم تماماً باعتبارهم مادة استعمالية ليس لها أهمية خاصة.(1/21)
وهذه البنية تشكل نموذجاً محدَّداً (صهيونياً معادياً لليهود في ذات الوقت) ، فهي ترى اليهود باعتبارهم إما ملائكة رحيمة أو شياطين رجيمة، إما باعتبارهم مركز الكون فلا يمكن للتاريخ البشري التحرك بدونهم أو باعتبارهم مجرد أداة أو شيء هامشي لا أهمية له في ذاته على الإطلاق. ومن خلال هذا النموذج، تم استبعاد كم كبير من المعلومات أو تم تهميشه، كشيء ليست له أهمية كبيرة. فعداء بلفور لليهود هو حقيقة تُذكر ثم يطويها النسيان باعتبارها انحرافاً وشذوذاً. وصهيونية غير اليهود التي تمتد من عصر النهضة في الغرب حتى الوقت الحاضر والتي تسبق صهيونية اليهود، والتي اكتملت فيها ملامح الفكر الصهيوني، تُذْكَر هي الأخرى بشكل وثائقي وكأنها طُرفة دون أن تُعطَى المركزية التفسيرية التي تستحقها. ذلك لأن النموذج التفسيري الغربي يرى أن الصهيونية هي حركة يهودية، وأنها تنبع من صفحات العهد القديم أو تطلعات اليهود الأزلية للعودة إلى صهيون.(1/22)
2 ـ أدَّى هذا الخضوع لإمبريالية المقولات الغربية، وغيره من العناصر، إلى أن أصبح العقل العربي يميل هو الآخر إلى أن ينزَع اليهود من سياقهم الحضاري والتاريخي والإنساني المختلف والمتنوع ويُشيِّئهُم ويجردهم تماماً من إنسانيتهم المتعيِّنة، ومن هنا تم اختزال واقع الجماعات اليهودية المتنوع والثري وغير المتجانس إلى بُعد واحد أو اثنين أو إلى أطروحة واحدة بسيطة أو أطروحتين. ولذا، يسقط الخطاب التحليلي العربي أحياناً في النظر إلى الظواهر اليهودية كمعطى حسي مادي، كشيء لا تاريخ له ولا أبعاد مركبة معروفة أو مجهولة، ومن ثم يتم إهمال التاريخ كمصدر أساسي للمعرفة الإنسانية وللأنماط المتكررة وللنماذج التفسيرية التي تزودنا بمتتاليات نماذجية تفسيرية لفوضى الواقع وتفاصيله. وحينما يُستدعَى التاريخ، فإنه يُستدعَى بطريقة معلوماتية وثائقية، فيتم قتله أولاً ويتحول من بنَى مركبة حية إلى مادة أرشيفية (أو إلى شكل من أشكال الأنتيكة) ينقض عليها الباحث لينزع منها المعلومة الملائمة.
3 ـ ولكن الأهم من ذلك، حينما يُسقَط البُعد التاريخي والإنساني المركب للظواهر اليهودية، أن اليهود يتحولون إلى كل متماسك ويبدأ الباحث في التعامل مع اليهود ككل، اليهود في كل زمان ومكان، اليهود على وجه العموم. ومثل هذه المقولات غير التاريخية تؤدي إلى تأرجح شديد بين قطبين متنافرين:
أ) النظر لليهود في كل زمان ومكان باعتبارهم كياناً فريداً ليس له نظير وله قانونه الخاص.
ب) النظر لهم باعتبارهم شيئاً عاماً لا يختلف عن الوحدات الأخرى المماثلة يسري عليها ما يسري على كل الظواهر الأخرى.(1/23)
نتج عن هذا التأرجح اختلال في تحديد مستوى التعميم والتخصيص الملائم لدراسة الظاهرة. فهناك، من ناحية، الميل نحو التركيز على التفرُّد والخصوصية اليهودية والتفاصيل المتناثرة. ومن ناحية أخرى، هناك الميل نحو التركيز على ما هو عام جداً وتجاهل نتوء الظاهرة وخصوصيتها ومنحناها الخاص، ومحاولة تفسيرها في إطار القانون العام الواحد الشامل وكأنها سطح أملس ليست له شخصية أو هوية. وهذا التأرجح يسم معظم النماذج التحليلية السائدة.
4 ـ من النتائج الأخرى لنزع الظواهر اليهودية من سياقها التاريخي الإنساني المركب أنها لم يَعُد يُنظَر لها باعتبارها ظواهر كلية مركبة لها تجلياتها على المستويات السياسية والاقتصادية والدينية والمعرفية، ولذا تم تسييس الخطاب التحليلي العربي بشكل متطرف، بحيث يُناقَش كل موضوع في إطار أبعاده السياسية والاقتصادية المباشرة وحسب، وتم استبعاد الأبعاد المعرفية (رؤية الصهاينة للكون ـ رؤية العالم الغربي لذاته ولليهود) التي لا يمكن فهم الأبعاد السياسية والاقتصادية حق الفهم بدونها. وبذلك، تم عزل هذه الظواهر عن كثير من السياقات الفكرية والدينية والحضارية، وتم اختزالها إلى بُعد واحد واضح وسهل ومباشر.
5 ـ ويرتبط بهذا عيب آخر هو أن "الفكر الصهيوني" ينحل في عقل كثير من الباحثين إلى "أفكار صهيونية"، أي مجموعة من الأفكار لا يربطها رابط وليست جزءاً من منظومة مترابطة متكاملة. وعملية التفتيت هذه تؤدي إلى مزيد من التسطح وتعوق عملية التفسير النقدية المتعمقة.(1/24)
6 ـ ويرتبط كل هذا ببُعد آخر نطلق عليه «التطبيع المعرفي والتحليلي للظواهر الصهيونية» إذ يهمل كثير من الدارسين خصوصية الظاهرة الصهيونية الإسرائيلية من حيث هي ظاهرة استيطانية إحلالية ذات ديباجات يهودية. ويتعامل هؤلاء الدارسون مع النظام الحزبي الإسرائيلي (على سبيل المثال) مثلما يتعاملون مع النظام الحزبي في إنجلترا أو فرنسا متجاهلين أن الأحزاب الإسرائيلية مُمثَلة في المنظمة الصهيونية العالمية وأن لها فروعاً في الخارج وأنها مُموَّلة من الخارج وأن لها نشاطات لا تقوم الأحزاب السياسية عادةً بمثلها. فالتطبيع هنا يعني تجاهل خصوصية الكيان الاستيطاني الصهيوني وإدراكه باعتباره كياناً سياسياً عادياً طبيعياً مثل الكيانات السياسية الأخرى.(1/25)
7 ـ ويمكن أن أشير أيضاً إلى إهمال الخطاب التحليلي العربي لما أسميه «قضية المنظور» (الوعي ـ الدوافع ـ التوقعات) والمعنى، وهو الدلالة الداخلية التي يراها الإنسان فيما يقع له من أحداث وفيما يحيط به من ظواهر وفيما يقوم به من أفعال. فالإنسان ليس، مثل الحيوان، مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات المادية، وسلوكه ليس مجرد أفعال وردود أفعال مشروطة بالبيئة المادية أو العضوية، فهو أكثر تركيباً من ذلك. فالمعنى الذي يُسقطه على الظواهر يحدد وعيه ودوافعه وتوقعاته. ولكل هذا، لا يمكن رصد الإنسان من الخارج كما يُرصد الدجاج أو النحل. وأعتقد أن كثيراً من الدراسات العربية تُسقط هذا البٌعد المهم للظاهرة الصهيونية، أي باعتبارها ظاهرة اجتماعية تاريخية إنسانية مركبة، وأن الصهاينة والإسرائيليين بشر لا يمكن رد سلوكهم إلى مجموعة من العناصر والملابسات المادية، فدوافعهم وتوقعاتهم مرتبطة برؤيتهم. ولذا، نجد كثيراً مما كُتب عن إسرائيل يدور في إطار وهم الموضوعية المادية المتلقية، بحيث تتحول عملية رصد المجتمع الإسرائيلي إلى مجرد رصد براني للظواهر والتفاصيل المتفرقة لا يكترث بالوعي أو بالدوافع ويُسقط فكرة المعنى تماماً (أي المعنى الذي يخلعه الصهاينة على أفعالهم وأفعال الآخرين) ويتجاهل قضية التوقعات، فيأتي الحكم على مدى نجاح الظاهرة الصهيونية أو فشلها بمقاييس كمية خارجية عامة مثل «القوة العسكرية للمجتمع» و «مستوى التقدم الاقتصادي للمجتمع» و «معدلات الدخل المرتفعة للمواطن الإسرائيلي» و «مدى اتساع حدود الدولة الصهيونية أو ضيقها» ، دون أن يؤخذ في الاعتبار إدراك المستوطنين الصهاينة أنفسهم لهذه الظواهر وكيفية استجابتهم وتفسيرهم لها، ودون تحديد لطبيعة توقعاتهم من مجتمعهم الصهيوني سواء من الناحية المادية أو من الناحية المعنوية.(1/26)
8 ـ ويرتبط بقضية المنظور والدوافع والتوقعات والمعنى قضية حدود الآخر. فنحن، حينما ندرس الآخر، عادةً ما نسقط في عملية اختزالية:
أ) نسقط فيما أسميه «النصوصية» ، أي أن يفترض الباحث أن ما ورد في الكتب المقدَّسة لليهود يكفي أن يكون نموذجاً تفسيرياً لسلوك اليهود.
ب) عادةً ما نأخذ تصريحات الإسرائيليين باعتبارها تعبيراً عن دوافعهم وخططهم الحقيقية وليست مجرد مزاعم وآمال. ثم تتشيأ النصوص المقدَّسة والتصريحات وتتحول من الدوافع الكامنة، والمُخطَط المُبيَّت، لتصبح القوة الذاتية وأخيراً الواقع الموضوعي. وبذا، تتم المساواة بين الزعم والآمال وبين التوقعات والواقع. كل هذا يؤدي إلى إهمال حقيقة بديهية وهي أن الآخر قد يفشل في إدراك دوافعه الحقيقية (بسبب التزامه الأيديولوجي) ، وأنه قد يعني ما يقول ويصدقه ولكنه مع هذا لا يعبِّر عن دوافعه الكامنة الحقيقية التي تحركه لأنه لا يستطيع أن يواجه نفسه. وهناك، إلى جانب ذلك، الادعاء الواعي إذ قد يكون من صالح الشخص أن يعلن مزاعمه ويخبئ دوافعه حتى يخدم مصلحته. فقد يزعم المهاجر اليهودي أنه هاجر بسبب رغبته اليهودية العارمة النبيلة في العودة إلى أرض الميعاد ليخبئ دوافعه الخسيسة في الهرب من البطالة والبحث عن الحراك الاجتماعي والحصول على الدعم الصهيوني السخي لمن يستوطن في صهيون. وقل نفس الشيء عن القوة الذاتية. فمزاعم الآخر عن قوته قد تكون خاطئة تماماً وقد تكون تزييفاً واعياً. وحينما صرح الصهاينة أن عدد المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي في موجة الهجرة الأخيرة سيصل إلى الملايين، فلعلهم كانوا مخلصين فيما يقولون ولكنهم فشلوا في تقييم موقف اليهود السوفييت وعوامل الطرد والجذب العامة والخاصة التي تتجاذبهم، ولعل آمالهم الأيديولوجية قد ضللتهم. وهناك احتمال أن يكون الصهاينة قد قاموا بتضليل الجميع عن عمد حتى يتم تخويف العرب (فيسرعوا إلى مائدة المفاوضات) وحتى تزيد(1/27)
الولايات المتحدة (ومن ورائها يهود العالم) من دعمها المادي والسياسي. ومن المعروف أن الملايين المزعومة من المهاجرين لم تصل.
وقل نفس الشيء عن مخططات الاستيطان في الضفة الغربية التي كانت تطمح إلى توطين مئات الألوف (على أمل أن يصل عدد المستوطنين إلى ثلاثة أرباع المليون) . وقد حرص الصهاينة على إعلان هذه المخططات على الملأ. ولكن من المعروف أن هذه المخططات لم تتحقق. فلعل من أدلوا بهذه التصريحات لم يدركوا أن مصادر الهجرة اليهودية في العالم قد بدأت تجف، وأن يهود العالم مستقرون في بلادهم مندمجون فيها، وخصوصاً في العالم الغربي، وأن الولايات المتحدة تمثل نقطة الجذب الكبرى لمن يريد أن يهاجر منهم، وأن كل هذا يضع قيوداً بنيوية على تحقيق المخططات ويؤدي إلى إفشالها. ومن المحتمل أنهم كانوا مدركين تماماً لأبعاد الموقف وأصدروا التصريحات بهدف التخويف وجمع الأموال أيضاً.
ولذا، فإن من المهم بمكان أن نقرر ما إذا كان الزعم الصهيوني يُعبِّر عن آمال الصهاينة بإخلاص أم أنه ادعاء صهيوني كاذب وواع، فلو كان أملاً فسيؤثر في خطة عمل صهيونية، أما إذا كان ادعاءً واعياً أو أكذوبة فلابد أن يسقط من الاعتبار لأن الهدف منه هو تضليلنا. وعلينا بعد ذلك أن نقرر إن كانت الآمال تتطابق مع الواقع أم لا، ومدى إمكان تحقيقها، وذلك بدلاً من السقوط في قبضة تشيؤ المزاعم والتصريحات والنصوص المقدَّسة.(1/28)
9 ـ لكل ما تَقدَّم، هيمن على الخطاب التحليلي العربي نموذج معلوماتي موضوعي متلقٍ وثائقي. فتُراكَم المعلومات والحقائق والأفكار والتصريحات والنصوص المقدَّسة وتُرص رصاً بغض النظر عن مدى أهميتها ومدى مركزيتها ومقدرتها التفسيرية. وهي عادةً حقائق لا يربطها رابط ولا تخضع لأي شكل من أشكال التحليل المتعمق إذ يأخذ التحليل شكل تحليل مضمون بدائي جداً يلجأ للتصنيف السطحي بناء على عدد الكلمات وتكرار الجُمل والموضوعات وذلك في إطار الأطروحات العامة المسيطرة. وبالتالي، تُجمَّد الظواهر والحقائق وتُعزَل عن بعضها البعض وتُجرَد من تاريخها وسياقها. ويكون الرصد رصداً لحقائق متفرقة، لا لأنماط متكررة، ومن ثم يمكن للباحث أن يفرض عليها أي معنى عام أو خاص يشاء، وإن قام بفرض نمط ما عليها فهو أطروحة اختزالية بسيطة. ويأخذ البحث العلمي شكل اختيار الحقائق التي يبرهن بها الباحث على البدهية الاختزالية الأولى التي بدأ بها (اليهود مصدر الشر ـ الصهيونية شكل من أشكال الإمبريالية) بدلاً من أن يكون عملية اكتشاف واختبار للأطروحات القائمة. وقد أصبح التصور العام الآن في العقل العربي أن التأليف هو التوثيق بغض النظر عن المقدرة التفسيرية للمسلمة التي تم توثيقها، وأصبح معيار الجودة والتميُّز هو كم المعلومات أو الحقائق التي أتى بها المؤلف، وكم المراجع التي أدرجها في ثبت المراجع، وتاريخ صدورها، فإن كانت حديثة كان هذا دليلاً قاطعاً على مدى جدية الباحث وإبداعه!(1/29)
10 ـ ساد نموذج الهزيمة وتغلغل في الذات العربية، وأصبحت الهزيمة مترادفة مع الموضوعية المتلقية (التي تعني التجرد من الذات والذاكرة التاريخية والقيم الأخلاقية الخاصة والمثاليات والبطولة) . وأصبح من البديهيات الموضوعية والمسلمات تَقَبُّل أطروحة أن العدو "متقدم" وأن قوته لا تُقهَر وأننا متخلفون وضعفنا واضح ونهائي. وفي هذا الإطار، أصبح من دلائل الموضوعية التنقيب بكل نشاط وشراهة عن القرائن والاستشهادات التي تُثبت هذا عملياً، فيبحث الدارسون عن مواطن القوة والتفوق في المجتمع الإسرائيلي دون أن يكلفوا خاطرهم مشقة التعمق وراء هذه الشواهد والقرائن ودون أن يبحثوا عن قرائن أخرى تدل على مواطن القوة في الذات وعن لحظات الانتصار.
وإن حدث العكس وقام باحث بإيضاح مواطن الضعف في العدو وبيَّن أن اليهود بشر يخضعون لما يخضع له كل البشر من أفراح وأتراح، ومن انتصار وانكسار، وأنهم ينضوون في إطار النماذج التفسيرية المتاحة في العلوم الإنسانية والاجتماعية ومن ثم يمكن تفسيرهم ومعرفة مواطن القوة وأسبابها ومواطن الضعف وأسبابها. إن حدث ذلك، فإن الجميع يتذمرون ويحتجون ويُلقون بالاتهام بعدم الموضوعية. بل يخلط البعض بين هذا التفسير المركب للموقف وبين الوهم الشائع عند البعض أن إسرائيل قد تنهار من الداخل من تلقاء نفسها.
ويمكننا إرجاع قصور الخطاب التحليلي العربي إلى عدة أسباب تنضوي كلها أو معظمها تحت سبب واحد وهو غياب النموذج التفسيري الاجتهادي المُركَّب الذي لا يتبنى المسلمات القائمة ولا يستبعد أياً من عناصر الواقع بقدر الإمكان ويسترجع الفاعل الإنساني ككيان مركب لا يمكن رده إلى عنصر مادي (أو روحي) واحد أو اثنين.(1/30)
ولعل من الهام بمكان في هذه المرحلة أن ندرس الشأن اليهودي والصهيوني دون أن نسقط ضحية لإمبريالية المقولات ودون أن نجرد أعضاء الجماعات اليهودية من سياقاتهم التاريخية والاجتماعية ودون أن نتبنى تحيزات الآخرين سواء مع "اليهود" أو ضدهم، لقد حان الوقت أن ندرسهم من وجهة نظرنا وأن نخضع تحيزاتنا (ونماذجنا التحليلية) للاختبار المستمر لنرى مقدرتها التفسيرية بالمقارنة للنماذج التحليلية الأخرى. ولعل الموسوعة (دائرة المعارف) هي العمل الذي يعرض بشكل شامل رؤية مجتمع ما لظاهرة ما أو لمجموعة من الظواهر.
موسوعة (دائرة معارف)
«الموسوعة» يُطلَق عليها في الإنجليزية «أنسيكلوبيديا encyclopedia» ، وهي كلمة مشتقة من اليونانية وتعني حرفياً «التعليم في دائرة» ، أي «المنهج التعليمي الكامل» . وعلى هذا فإنها تعني تقديم المعرفة بشكل منهجي من خلال دراسات يكتبها متخصصون، كلٌ في حقل تخصُّصه، تكون في العادة حسب تصنيف ألفبائي. وحينما استخدم فرانسوا رابليه (1490 ـ 1553) الكلمة لأول مرة في الفصل العشرين من بانتاجرويل Pantagruel، استخدمها بمعنى «تعليم» . وكان أول من استخدمها بالمعنى الاصطلاحي للكلمة الكاتب الألماني بول سكاليش Paul Scalich حيث استخدمها كعنوان لموسوعته عام 1559. والموسوعات التي صدرت قبل ذلك التاريخ إما أنها كانت لا تصف نفسها بأنها «موسوعة» أو كانت تستخدم كلمة «معجم dictionary» . وظلت الكلمة غير شائعة إلى أن استخدمها ديدرو في موسوعته. وحتى الآن، لا تزال بعض الموسوعات يُشار إليها بأنها «معجم» (وإن كان المعجم لا يُشار له بلفظ «موسوعة» ) . ويمكن أن تكون الموسوعة من جزء واحد، كما تُوجَد موسوعات من عشرات الأجزاء.(1/31)
وتُعرَّف الموسوعة بأنها سجل للمعرفة الإنسانية في المستوى الذي وصلت إليه وقت ظهورها. ومهمة الموسوعة هي تلخيص ما تَوصَّل إليه المتخصصون إما في كل حقول المعرفة (إن كانت موسوعة عامة) أو في حقل من حقول المعرفة (إن كانت الموسوعة متخصصة) ، أي أنها بهذا المعنى تتعامل مع علم مستقر ومصطلحات مستقرة ورؤى تم الإجماع عليها تقريباً من قبَل المتخصصين.
وفي اللغة العربية تُستخدَم كلمة «موسوعة» بهذا المعنى أحياناً، ولكن في أحيان أخرى تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى أي كتاب كبير. كما يميل البعض للتمييز بين كلمتي «موسوعة» و «دائرة معارف» ، ولكن ورد في المعجم الوسيط أن «دائرة المعارف» و «الموسوعة» تترادفان ويُقصد بهما: عمل يضم معلومات عن مختلف ميادين المعرفة أو عن ميدان خاص منها ويكون عادةً مرتباً ترتيباً هجائياً.
موسوعة اليهودية(1/32)
يعود تاريخ أول موسوعة متخصصة في تراث أعضاء الجماعات اليهودية والعقيدة اليهودية إلى منتصف القرن الثامن عشر حين ظهر في مدينة فيرارا بإيطاليا عام 1750 أول جزء من موسوعة يهودية، جمعها وألفها طبيب يُدعَى إسحق بن صمويل لامبرونتي (وانتهى نشرها عام 1888) وتقع في ثلاثة عشر جزءاً. والموسوعة تعالج تراث اليهود وتاريخهم، ولكنها كانت تخلط بين التاريخ والتلمود ولا تفصل بين الواقع التاريخي والنصوص الدينية. ثم ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر موسوعة ألمانية متخصصة أخرى، جمعها وكتب مادتها جيكوب هامبرجر، كبير حاخامات إحدى الإمارات الألمانية. وكانت هذه الموسوعة، مثل سابقتها، ذات طابع ديني محض. ثم تتالت الموسوعات، فظهرت أول موسوعة عن اليهودية باللغة الإنجليزية في أوائل القرن الحالي (1901 ـ 1906) ، وهي الموسوعة اليهودية (ذا جويش أنسيكلوبيديا The Jewish Encyclopedia) التي تتألف من 12 جزءاً حررها أ. سنجر. أما الموسوعة اليهودية العالمية (ذا يونيفرسال جويش أنسيكلوبيديا The Universal Jewish Encyclopedia) ، فقد حررها إسحق لاندمان ونُشرت في نيويورك بين عامي 1939 و1943 وظهرت في عشرة أجزاء. ونُشرت موسوعة سيسل روث وجفري ويجودر في جزء واحد عام 1958، كما نُشرت منها عدة طبعات كان آخرها طبعة 1970.(1/33)
وظهرت أول موسوعة متخصصة في الصهيونية وإسرائيل (دون تراث أعضاء الجماعات اليهودية) عام 1971 بعنوان موسوعة الصهيونية وإسرائيل (ذا أنسيكلوبيديا أوف زايونيزم آند إسرائيل The Encyclopedia of Zionism and Israel) ، وكُتبت تحت رعاية زلمان شازار، أحد رؤساء الدولة الصهيونية السابقين. وظهرت منها طبعة جديدة مزيَّدة ومنقَّحة عام 1994 وحرَّرها ويجدور. وأخيراً، في عام 1972، ظهرت الموسوعة اليهودية (أنسيكلوبيديا جودايكا Encyclopeia Judaica) ، وهي أكبر عمل موسوعي حتى الآن يختص بتراث أعضاء الجماعات اليهودية بكل جوانبه، وضمن ذلك الصهيونية وإسرائيل، وتقع في 16 جزءاً. وهي تُعتبَر تلخيصاً لكل الدراسات السابقة وتصنيفاً لكل جوانب تراث أعضاء الجماعات اليهودية عقيدةً وتاريخاً، وتُصدر هذه الموسوعة كتاباً سنوياً يعمل على تزويد قارئ الموسوعة بالمعلومات الحديثة.(1/34)
وابتداءً من عام 1935، ظهرت موسوعة عبرية تحت إشراف كلاوزنر في ستة أجزاء، وظهرت موسوعة عبرية أخرى بين عامي 1950 و1961 في ستة عشر جزءاً. ولكن أهم الموسوعات العبرية هي الموسوعة العبرية التي صدرت في 31 جزءاً بين عامي 1941 و1971. وقد ظهرت موسوعات إنجيلية مختلفة ولكنها لا تهمنا كثيراً، لأننا في مجال دراستنا للصراع العربي الإسرائيلي لا نهتم باليهودية إلا كأحد عناصر هذا الصراع، والموسوعات الإنجيلية لا تهتم باليهودية إلا كدين وحسب. كما ظهرت موسوعة لشخص يُدعَى سيجيلا فيري تصفها المصادر اليهودية بأنها كُتبت تحت رعاية «المعادين للسامية» . وإن صدق هذا القول، فإن مثل هذه الموسوعة لن تنفعنا كثيراً لأنها مليئة ولا شك بادعاءات عنصرية ولا تفيدنا من قريب أو بعيد في إدارة أي صراع أو في فهم أية ظاهرة، وهي في نهاية الأمر لم تُنشَر كاملة. والملاحَظ أن كل الموسوعات آنفة الذكر (باستثناء الموسوعات الإنجيلية وموسوعة فيري) قام بتأليفها باحثون يدينون باليهودية، بل الأهم من هذا أن معظمهم لهم ولاءات صهيونية (باستثناء محرري الموسوعة اليهودية الروسية التي نُشرت بين عامي 1906 و1913 في 16 جزءاً وحررها يهودا كاتزنلسون وسيمون دبنوف من منظور مؤيد لما يُسمَّى «قومية الدياسبورا» ، كما يمكن القول بأن محرري موسوعة لاندمان لا يدينون بالولاء للصهيونية) .
ومعظم ـ إن لم يكن كل ـ الموسوعات اليهودية التي صدرت بعد احتدام الصراع العربي الإسرائيلي قام بكتابتها يهود متحمسون للمشروع الصهيوني الاستيطاني. وقد كان لهذا الوضع أعمق الأثر في وجهات النظر التي تُبرزها هذه الموسوعات. ولتوضيح هذه النقطة سنضرب مثلاً بالموسوعة اليهودية الأخيرة باعتبار أنها أهم عمل موسوعي يختص بتراث الجماعات اليهودية والصهيونية وإسرائيل.(1/35)
تذكر مقدمة هذه الموسوعة أن محررها هو سيسل روث المؤرخ اليهودي المعروف "بورعه وتقواه وتدينه العميق". وأنه استقر في إسرائيل بعد أن تقاعد من عمله الجامعي في وطنه الأصلي إنجلترا. وأنه قام بالتدريس في إسرائيل في جامعة بارإيلان الدينية حيث اتُهم، رغم ورعه وتقواه، بالانحراف عن الشريعة اليهودية، وأُصيب بنوبة قلبية فاستقال. وفي مجال تقديم روث للقارئ في الموسوعة اليهودية (جودايكا) ، تذكر مقدمتها أن هذا العالم سافر ليلة الخامس من يونيه من نيويورك إلى القدس ليكون مع شعبه في إسرائيل، وأنه حينما وصل إلى القدس جلس في المخبأ طيلة هذه الليلة. ثم تقول المقدمة إن روث نظر من شرفته ورأى المعارك التي أعادت القدس لليهود بعد ألفي عام.. وبعد أن سكتت المدافع ورأى الحجاج بالألوف يحجون لحائط المبكى، أصر على أن يُلقي صلاة خاصة في هذه المناسبة، ثم ألقى خطاباً على العاملين معه في الموسوعة. وقد تكون هذه كلها أحداثاً شخصية لا علاقة لها بالعمل الموسوعي الضخم الذي يُعَدُّ الآن أكبر مصدر مُعتَمد للمعلومات في العالم عن اليهودية واليهود والصهيونية. وقد يُقال إن ولاءات روث الدينية وحتى السياسية لا علاقة لها بالعمل الذي قام به، ولكن كاتب مقدمة الموسوعة اليهودية لا يترك لنا أية فرصة للتخمين أو المناورة من أجله، فهو يؤكد بما لا يقبل الشك أن رؤية روث لحرب 1967 جعلته يضيف بُعداً آخر للأحداث العظيمة التي كانت تتكشف أمامه. وقد كتب روث نفسه في مذكراته قائلاً: "إن الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط ـ والتي تُوجت بالنصر الإسرائيلي المدهش ـ قد جعلت كل المراجع السابقة غير متطابقة مع الواقع ولهذا السبب أصبح نشر الموسوعة اليهودية أمراً ملحاً أكثر من ذي قبل"، أي أن انتصارات إسرائيل العسكرية قد عدلت رؤيته التاريخية (ولروث كتاب عنوانه تاريخ اليهود منذ ميلاد يسرائيل حتى حرب الأيام الستة) .(1/36)
وقد يُقال إن هذا التحيز أمر يختص بسيسل روث وحده دون بقية الكُتَّاب المشتركين في الموسوعة. ولكن، مرة أخرى، حينما يفتح القارئ أول صفحة في أول مجلد من الموسوعة يفاجأ بالجملة التالية: "لقد حشد روث جيشاً جراراً من المحررين والمؤلفين من بين أحسن العلماء اليهود في العالم"، كما نكتشف أن الموسوعة اليهودية (جودايكا) تُوصَف بأنها أعظم "عمل أدبي يهودي" في هذا القرن! ولكن بأي معنى من المعاني يمكن أن تُوصَف موسوعة بأنها "عمل يهودي"؟ ولم كان من الضروري أن يكتبها «يهود» وليس أي علماء متخصصين؟ هل اليهودية منهج في البحث ورؤية للتاريخ أم عقيدة دينية وانتماء أخلاقي؟ وحتى إذ افترضنا أنها منهج في البحث وعقيدة دينية تشكل رؤية صاحبها، ألم يكن من الضروري أن يُبيِّن لنا الكاتب كيف توصَّل المحرر للإطار النظري لموسوعته من خلال عقيدته؟ وهل يَفضُل هذا المنهج المناهج الأخرى؟ ولكن بدلاً من ذلك، تظهر العبارة التالية في المقدمة: "هذه المفاهيم ـ حب يسرائيل، ومركزية القدس، وفهم رسالة الشعب اليهودي ـ هي مفاهيم كلها أساسية بالنسبة لروث وتتضح كلها في صفحات الموسوعة"، أي أننا أمام عمل دعائي يستخدم لغة البحث العلمي وأساليبه ومناهجه نشره ناشر إسرائيلي في القدس المحتلة. ولذا، لابد أن نكون واعين تمام الوعي بأثر هذا الحب وهذه المركزية على ما يكتبون وعلى ما يقدمون للقارئ.(1/37)
ومن الأمور المثيرة للدهشة حقاً، أنه بعد مرور ما يقرب من خمسين عاماً من الصراع العربي الإسرائيلي الرسمي، وما يزيد على مائة عام من الصراع التاريخي، لم يَصدُر حتى الآن معجم عربي واحد يُعرِّف مصطلحات هذا الصراع ويُفسِّر مفاهيمه، وبالذات المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالعدو، سواء من ناحية وضعه التاريخي أو من ناحية رؤيته لنفسه. (ظهرت الموسوعة الفلسطينية من 4 أجزاء، ثم ظهرت ستة أجزاء أخرى ولكنها «موسوعة فلسطينية» ، أي أن الجانب الصهيوني هامشي، أما فيما يختص بالعقيدة وبالجماعات اليهودية فلا توجد سوى إشارات هنا وهناك) . وقد نجم عن هذا الوضع أن كل باحث عربي لا يزال يتعيَّن عليه أن يبدأ دائماً من نقطة الصفر، ولا يزال يتعيَّن عليه أن يُعرِّف كل المصطلحات التي يستخدمها. ولذا، فإن الدراسات العربية للصراع تمتلئ بتعريفات مبدئية عن «اليشوف» ، و «التلمود» ، فماذا تعني عبارة مثل «الشعب المختار» مثلاً؟ وقد أدَّى هذا إلى تكرار الجهد وإضاعته، وانخفاض مستوى البحث، لأن الباحث، شاء أم أبى، يجد نفسه مضطراً إلى افتراض أن قارئه لا يزال عند نقطة الصفر.
ولكن الأخطر من هذا أن غياب «معجم عربي» اضطر الباحث العربي إلى أن يعود باستمرار إلى المصادر الصهيونية التي قد تعطيه كمية هائلة من المعلومات هي، في نهاية الأمر، متحيِّزة ومُوجَّهة وموظَّفة في خدمة هدف معيَّن. ولذا، يظل الباحث العربي دائماً تحت رحمة المصادر الصهيونية ومقولاتها التحليلية التي لا تكشف له من الظاهرة إلا تلك الجوانب التي يهمها كشفها، حاجبةً عنه كل الجوانب الأخرى.(1/38)
وحتى عندما تكشف المراجع الصهيونية عن كل جوانب الظاهرة أو الواقعة، فهي تفعل ذلك بعد تفتيتها إلى عناصر متفرقة متناثرة، وهو ما يُحوِّل الظاهرة إلى كم غير متحدد، ليس له مضمون معيَّن، يَصعُب الكشف عن مدلوله الحقيقي. وقد نجم عن كل هذا أن كماً هائلاً من المفاهيم والمصطلحات الصهيونية تسرب إلى عقولنا ولغتنا دون أن ندري.
موسوعة تفكيكية (نقدية)
حينما بدأت أولى دراساتي المنشورة بالعربية عن الصهيونية (نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني [القاهرة 1972] ) ، وجدت أن معظم المؤلفين العرب يُضطرون إلى التوقف عند كل صفحة لتعريف بعض المصطلحات والشخصيات التي يشيرون إليها ( «الكيبوتس» ـ «بن جوريون» ـ «الماباي» ) . ولهذا، قررت أن أستمر في كتابة دراستي دون توقُّف لتعريف كل مصطلح، ذلك التوقف الذي يؤدي حتماً إلى تشتُّت القارئ، على أن أُلحق بالدراسة مسرداً أُوضِّح فيه ما غَمُض من مصطلحات وأُعرِّف فيه بالأعلام. وتحوَّل مشروع المسرد تدريجياً إلى مشروع كتيب معجمي مستقل ترد فيه معاني المصطلحات وتُعرَّف فيه الشخصيات بطريقة معجمية. ثم تحوَّل مشروع الكتيب إلى معجم صغير، والمعجم الصغير إلى معجم كبير، والمعجم الكبير إلى مشروع موسوعة صغيرة (من جزء واحد) تهدف إلى توفير المعلومات (العربية والغربية) المتاحة حتى لا يُضيِّع الباحث العربي وقته في البحث عن المعلومات وحتى يتفرغ للعملية البحثية الحقيقية، أي عملية التفسير والتقييم. ولكنني حين بدأت في تنفيذ مشروع الموسوعة اكتشفت بعد قليل من البحث والتعمق أن مرجعية حقل الدراسات المعني باليهود واليهودية ومصطلحاته مُشبَّعة بالمفاهيم الأولية (القَبْلية) لليهودية والصهيونية، وأن عدداً هائلاً من المفردات (مثل «الشعب» و «الأرض» ) يكتسب دلالات خاصة تُخرجها عن معناها المعجمي المألوف، وأننا نترجم، ليس فقط حين نترجم، ولكننا نترجم حتى حين نؤلف وذلك بسبب غياب الرؤية النقدية. كما(1/39)
اكتشفت أن المعلومات، مهما بلغت من كثافة وذكاء وحذق، هي عملية لا نهاية لها، ولا جدوى من ورائها، فهي تشبه الرمال المتحركة، وهي لا تأتي بالمعرفة ولا بالحكمة لأنها محكومة بمقولات قَبْلية محدَّدة تتم مراكمة المعلومات في إطارها.
حينما أدركت ذلك تحولت الموسوعة من مجرد موسوعة معلوماتية صغيرة عادية تُعرِّف بالمصطلحات والأعلام إلى موسوعة كبيرة تحاول تفكيك المصطلحات والمفاهيم القائمة وتوضيح المفاهيم الكامنة وراءها بدلاً من تلخيصها والعرض لها. ولذا، فقد صدرت الموسوعة عام 1975 بعنوان فرعي رؤية نقدية حتى أنبه القارئ إلى أنه يتعامل مع موسوعة من نوع جديد، وهى تعد أول موسوعة متكاملة عن اليهود واليهودية والصهيونية، كتبها مؤرخ غير يهودي.
موسوعة تأسيسية(1/40)
وفي عام 1975، قررت تحديث موسوعة المصطلحات اليهودية والصهيونية: رؤية نقدية (القاهرة 1975) وتعميق الجانب التفكيكي النقدي، بعد أن أصبحتُ أكثر وعياً به. ولذا قررت أن أكتب ما سميته حينذاك «موسوعة مضادة» (بالإنجليزية: آنتي أنسيكلوبيديا anti-encyclopedia) ، فدعوت حشداً كبيراً من الباحثين الشبان والمتخصصين وطلبت من كل واحد منهم أن يكتب مدخلاً في حقل تخصصه، على أمل أن أنتهي من تحديث الموسوعة في غضون عام أو عامين. واستغرقت العملية التفكيكية ما يقرب من عشر سنوات أي حتى عام 1985 حين اكتشفت أنني انتقلت من مرحلة إلى مرحلة أخرى دون أن أشعر، إذ وجدت أنني في واقع الأمر، شأني شأن الباحثين الذين تعاونوا معي، أقوم بعملية تمديد أفقي للمعلومات في الإطار التفكيكي العام. ولا شك في أن التفكيك له فائدة، بل هو أمر حتمي وضروري، فهو يكشف المفاهيم الكامنة ويزيل الغشاوات، ولكنه يترك كثيراً من جوانب الظاهرة دون تفسير. فالتفكيك عملية هدم جذرية تطهيرية ولكنه ليس عملية تفسيرية. والتفسير غير التفكيك، فهو عملية إبداعية تركيبية تتطلب نحت نماذج مختلفة والربط بينها والغوص في كل الأبعاد السياسية والاقتصادية والدينية والمعرفية للظاهرة، وإعادة ترتيب الوقائع وتصنيفها في ضوء النماذج الجديدة، واكتشاف حقائق جديدة مُهمَّشة ومنحها المركزية التفسيرية التي تستحقها، وتوليد مصطلحات جديدة وإعادة تعريف بعض المصطلحات القائمة.(1/41)
وقد حدث شيء مهم جداً في حياتي الفكرية عام 1985 وهو أن همومي الفكرية الأساسية (الصهيونية كاستعمار استيطاني وكأيديولوجية لأعضاء الجماعات اليهودية ـ الهيجلية والحلولية ونهاية التاريخ ـ الاستهلاكية ومصير الإنسان ـ التحيزات المعرفية والحاجة لمشروع حضاري مستقل ـ الحاجة إلى استخدام النماذج كأدوات تحليلية) ، التي كانت مترابطة بشكل ما، تلاحمت تماماً وأدركت العلاقات فيما بينها، الأمر الذي كان يعني ضرورة البدء من جديد. ومما ساعد على تعميق هذا الاتجاه، اكتشافي معلومات مهمة، أي إدراكي أهميتها التفسيرية (فهي معلومات معروفة ولكنها مُهمَّشة تماماً) ، فقد وجدت أن الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في نهاية القرن الثامن عشر كانوا يوجدون في بولندا، وأننا حينما نتحدث عن يهود العالم الغربي (أي معظم يهود العالم) فإنما نتحدث في واقع الأمر عن يهود بولندا الذين اقتسمتهم روسيا والنمسا وألمانيا باقتسام بولندا نفسها، ومن صفوفهم خرجت الألوف والملايين التي هاجرت إلى إنجلترا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ثم فلسطين. ولذا، لابد للمتخصص في اليهود واليهودية والصهيونية أن يُلم إلماماً كبيراً بتاريخ بولندا وتشكيلها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفريد. وهنا اكتشفت جهلي التام. هل سمع أحد منا بجمهورية يحكمها ملك منتخب؟ وما علاقة بولندا بلتوانيا وما علاقتهما بأوكرانيا؟ هل سمع أحد منا بطبقة الشلاختا (طبقة النبلاء البولنديين) أو بنظام الأرندا (نظام استئجار الأراضي من النبلاء) ؟ وما دور اليهود في الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا؟ إن هذه العناصر والمفردات هي التي تكوِّن تاريخ بولندا ومن ثم تاريخ الجماعة اليهودية فيها، ولا يمكن فهم المسألة اليهودية إلا بعد الإحاطة بهذه العناصر وغيرها إحاطة كاملة.(1/42)
هذا بالنسبة لليهود. أما بالنسبة لليهودية، فقد اكتشفت الدور المتزايد الذي لعبته القبَّالاه اللوريانية (أي الصوفية اليهودية على طريقة إسحق لوريا) في تقويض دعائم التلمود حتى حلّت كتب القبَّالاه محله. وبناءً على هذا، فقد أحضرت عدداً كبيراً من الدراسات في تاريخ بولندا والقبَّالاه وفي غير ذلك لأملأ الفراغات في تكويني الثقافي.
عند هذه اللحظة، أدركت أنني تركت مرحلة التفكيك بصورة تلقائية وانتقلت إلى مرحلة التركيب، وأنني لم أعد أفكك وحسب وإنما بدأت أطرح أسئلة وإشكاليات ومصطلحات ونماذج ومقولات تحليلية جديدة كان من شأنها تركيب تصوُّر جديد لتاريخ اليهودية ولأعضاء الجماعات اليهودية. وعلى هذا، فإن الموسوعة لم تعد موسوعة معلوماتية تحاول توفير المعلومات للقارئ، ولا حتى موسوعة تفكيكية تحاول أن تهدم النماذج القائمة، وإنما هي موسوعة تأسيسية. ولو كانت هذه الموسوعة موسوعة معلوماتية، لأصبح هذا العمل ضعف حجمه الحالي ولتم إنجازه في بضع سنوات، ولو كانت موسوعة تفكيكية وحسب لنُشرت عام 1983 مع انتهاء السادة الباحثين الذين قدَّموا إسهاماتهم في موعدها، ولكنها موسوعة تأسيسية كما أسلفت.
دراسة حالة
«دراسة حالة» هي ترجمة لعبارة «كيس ستدي case study» الإنجليزية التي تعني دراسة الظواهر الإنسانية من خلال التحليل المتعمق لحالة فردية (قد يكون شخصاً أوجماعة أو حقبة تاريخية) . ويفترض هذا المنهج أن الباحث يرى أن الحالة الفردية موضع الدراسة هي حالة ممثلة لحالات أخرى كثيرة (حالة نماذجية في مصطلحنا) ، أي أنها جميعاً تنتمي لنفس النموذج. وهدف الدراسة هو الوصول لهذا النموذج متمثلاً بشكل متبلور في الحالة عن طريق التحليل المتعمق. وبعد الوصول إلى هذا النموذج يمكن تطبيقه على حالات أخرى تندرج تحته.(1/43)
وهذه الموسوعة قامت بتطوير نماذج ثلاثة أساسية: الحلولية الكمونية الواحدية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعات الوظيفية، ثم حاولت تحديد معالم هذه النماذج، ثم قامت باختبارها عن طريق تطبيقها على حالة محددة هي الجماعات اليهودية في العالم منذ ظهورها على مسرح التاريخ حتى الوقت الحاضر.
ثلاثة نماذج أساسية: الحلولية - العلمانية الشاملة - الجماعة الوظيفية
يمكن القول بأن الأداة التحليلية الأساسية في هذه الموسوعة هي النموذج المعرفي التحليلي المركب الذي يبتعد عن الاختزالية والتفسيرات أحادية البُعد. فقد قمنا بصياغة نموذج مركب فضفاض يحاول أن يتناول الظواهر اليهودية والصهيونية في أبعادها السياسية والاقتصادية والحضارية والمعرفية، بل يشير إلى بعض العناصر التي قد يعجز هو ذاته عن تفسيرها. والنموذج التحليلي المركب الذي طورناه يتسم (في تصورنا) بأنه لا يتأرجح بحدة بين العمومية الشاملة والخصوصية المتطرفة (المتأيقنة) فهو نموذج على مستوى معقول من العمومية والخصوصية يرمي إلى وضع اليهود واليهودية والصهيونية، باعتبارهم حالة محددة، في سياق إنساني عالمي مقارن يضم كل البشر ويدرك إنسانيتنا المشتركة، حتى ندرك أن الحالة المحددة ليست شيئاً مطلقاً وإنما تنتمي إلى نمط إنساني عام ومجرد، ومع هذا يحاول النموذج التحليلي في الوقت نفسه ألا يهمل الملامح الفريدة والمنحنى الخاص للظواهر اليهودية والصهيونية. ولذا لم نقذف باليهود واليهودية والصهيونية في صحراء العمومية المُسطَّحة التي وضعهم فيها أصحاب النماذج التحليلية الموضوعية الملساء (ومن بينهم صهاينة يريدون تطبيع اليهود) الذين يرون اليهود باعتبارهم وحدات مادية، اقتصادية أو سياسية عامة، ليست لها ملامح متميِّزة ولا تتمتع بأية خصوصية. كما أننا لم نتركهم في جيتو الخصوصية اليهودية، المفاهيمي والمصطلحي، جيتو التفرُّد المطلق، والقداسة والدناسة، والطهارة والنجاسة، والاختيار والنبذ.(1/44)
ذلك الجيتو الذي وضعهم فيه أصحاب النماذج التحليلية من الصهاينة وأعداء اليهود الذين يرون اليهود باعتبارهم ظاهرة مستقلة، مكتفية بذاتها، تحوي داخلها كل أو معظم ما يكفي لتفسيرها. وانطلاقاً من هذا التصور تم تأسيس مخصصاً "علمياً" يُسمَّى «الدراسات اليهودية» .
بدلاً من كل هذا، حاولنا أن ندخل الظواهر اليهودية والصهيونية المجال الرحب للعلوم الإنسانية وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا والتاريخ الإنساني، حيث يمكن من خلال نماذج مركبة رؤية علاقة الكل (العام) بالجزء (الخاص) دون أن يفقد أيٌّ منهما استقلاله وحدوده.
ولإنجاز كل هذا، قمنا بتفكيك مقولات مثل «اليهودي العالمي» و «اليهودي المطلق» و «اليهودي الخالص» و «المؤامرة اليهودية» و «التاريخ اليهودي» ( ... إلخ) لنبيِّن المفاهيم الكامنة فيها، فهي تفترض أن اليهود لا يتغيرون بتغير الزمان أو المكان، وحتى إن تغيَّروا فإن مثل هذا التغيُّر يحدث داخل إطار يهودي مقصور على اليهود داخل حركيات وآليات التاريخ اليهودي. وبيَّنا عجز مثل هذه المقولات عن تفسير الواقع بأن أشرنا إلى عدد كبير من العناصر التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية التي لم تتعرض لها هذه المقولات لأنها تقع خارج نطاق مقدرتها التفسيرية. وبيَّنا أن هذه المقولات تتسم بالعمومية المفرطة (اليهود في كل زمان ومكان) والخصوصية المفرطة (اليهود وحدهم دون غيرهم) . وأوضحنا كذلك أن من المستحيل أن نفهم سلوك اليهود، وآلامهم وأشواقهم وخيرهم وشرهم، من الداخل، أي بالعودة إلى كتبهم المقدَّسة (التوراة والتلمود) أو شبه المقدَّسة (القبَّالاه) أو غير المقدَّسة (البروتوكولات كما يزعم المعادون لليهودية) أو بالعودة إلى تصريحات الصهاينة وغيرهم.(1/45)
ولذا، فإننا في سياق محاولة نحت نموذج تحليلي جديد مركب، لم نذهب إلى التوراة والتلمود والبروتوكولات وحارات الجيتو ولا إلى بقعة جغرافية معيَّنة أو لحظة تاريخية بعينها. وحاولنا ألا نستنيم لأية أطروحات أو مسلمات عامة (الصراع العربي الإسرائيلي إن هو إلا صراع طبقي أو اقتصادي ـ العنصر الاقتصادي هو الذي يحرك كلاً من العرب واليهود ـ اليهود إن هم إلا بورجوازيون صغار ـ إسرائيل إن هي إلا قاعدة للاستعمار الغربي) ، فدرسنا كل جماعة يهودية في سياقها السياسي والاقتصادي والتاريخي والحضاري والديني والإنساني المتعيِّن حتى نفهم العناصر التي تنفرد بها عن غيرها والعناصر التي توجد في كل الجماعات.
وقد وجدنا أن من الأجدى من الناحية التفسيرية، ألا نشير إلى اليهود في كل زمان ومكان باعتبارهم «اليهود» وحسب، وبشكل مجرد وكلي ومغلق، بل رأينا أن نشير إليهم باعتبارهم «أعضاء الجماعات اليهودية» في هذا المكان أو ذاك الزمان، وذلك حتى ينفتح الجيتو وحتى نستخدم مصطلحاً قادراً على التعامل مع كل الجوانب المتعددة والثرية للظواهر اليهودية. ونفس الشيء بالنسبة لمسألة «التاريخ اليهودي» الذي يصبح «تواريخ الجماعات اليهودية» و «الهوية اليهودية» التي تصبح «الهويات اليهودية» و «الجريمة اليهودية» التي تصبح «الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية» . فهذه الجماعات اليهودية يمكن أن نجدها في الصين في القرن الرابع عشر أو في بولندا في القرن التاسع عشر أو في جنوب أفريقيا في القرن العشرين. وبينما تميل الدراسات الصهيونية (والمعادية لليهود) والمتأثرة بها إلى أن تؤكد عناصر التشابه بين هؤلاء، وجدنا أن من الأجدى أن نرصد كلاًّ من عناصر التشابه والتجانس والاختلاف وعدم التجانس ثم نرتب العناصر حسب مقدرتها التفسيرية. ولقد وجدنا أن عناصر التشابه والتجانس، رغم أهميتها أحياناً، أقل أهمية من عناصر الاختلاف وعدم التجانس (ومن هنا صيغة الجمع) .(1/46)
ثم طورنا عدة نماذج لكل مستواه التعميمي وسياقاته ومستويات فعاليته، ولكنها مع هذا ينتظمها نموذج تحليلي مركب أكبر تلتقي من خلاله كل أو معظم النقط الأساسية:
1 ـ أول هذه النماذج هو نموذج الجماعات الوظيفية الذي طورناه لدراسة وضع الجماعات اليهودية في العالم الغربي ووضع الأقليات المماثلة في الحضارات الأخرى (الصينيون في جنوب شرق آسيا والهنود في أفريقيا ... إلخ) . أي أن دراسة الحالة هنا أخذت شكل دراسة أعضاء الجماعات اليهودية في إطار عِلم اجتماع الأقليات والجماعات التجارية الهامشية والجماعات الإثنية. وما يحدث لليهودي يحدث لكل أعضاء الأقليات (والجماعات الوظيفية) الأخرى، أي أن اليهودي يظهر باعتباره الإنسان عضو الأقلية الدينية أو الإثنية أو الوظيفية.
2 ـ اكتشفنا الحقيقة البديهية (والتي غابت عن الكثيرين) : أن الظاهرة اليهودية ابتداءً من عصر النهضة في الغرب تحوَّلت تدريجياً إلى ظاهرة غربية بالدرجة الأولى، أي أن السياق الأساسي للجماعات اليهودية في العالم أصبح هو الحضارة الغربية الحديثة. وفي داخل هذا الإطار، اكتشفنا أن تجربة يهود بولندا هي أهم التجارب التاريخية للجماعات اليهودية سواء من ناحية الكم (الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي، مع نهاية القرن التاسع عشر، إما من بولندا أو من أصل بولندي) أو من ناحية الكيف والتطورات التاريخية اللاحقة. فالصهيونية هي حركة نشأت أساساً في صفوف يهود اليديشية، والتجربة الاستيطانية الصهيونية اللاحقة أكدت أهمية تجربة يهود الأرندا في أوكرانيا كممثلين لطبقة الشلاختا (النبلاء البولنديين) في إطار الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا وثورة شميلنكي ضد هذا الإقطاع.(1/47)
لكن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة منذ عصر النهضة، سواء في شرق أوربا أم خارجها، هو تاريخ التحديث والتغريب والعلمنة الجزئية والشاملة والمشاكل المرتبطة بظهور الدولة العلمانية القومية المركزية. وهذا التاريخ ليس تاريخ العلمنة وحسب وإنما هو أيضاً تاريخ الإمبريالية، فتاريخ التشكيل الحضاري الغربي الحديث هو أيضاً تاريخ التشكيل الإمبريالي الغربي الحديث. وقد ارتبطت الجماعات اليهودية في الغرب، منذ البداية، بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، وتحدَّد مسار هجرة أعضاء الجماعات اليهودية بحركة الاستيطان الغربي. كما أن رؤية الإنسان الغربي للعالم ولذاته وللجماعات اليهودية أصبحت رؤية علمانية إمبريالية. ومن هنا، كان لابد من توسيع نطاق النموذج ليشمل هذه الرؤية. وكان هذا يعني ضرورة تطوير نموذج آخر هو نموذج الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، وهو نموذج أكثر اتساعاً من نموذج الجماعات الوظيفية وأكثر عمومية إذ لا يضع اليهود في سياق الأقليات وحسب وإنما في سياق التشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي، وهو التشكيل الذي هيمن على العالم بأسره وضمنه أعضاء الجماعات اليهودية. وقد طبقنا هذا النموذج على اليهود باعتبارهم حالة محددة: أقلية إثنية دينية تعيش في عصر العلمانية الشاملة. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان الغربي الحديث، وما يحدث له (من اندماج ودمج وتدجين وتوظيف وتنميط وعلمنة وإبادة) هو ما يحدث للملايين من البشر في العصر الحديث. وهو إنسان يعيش في عصر أزمة الحداثة (ما بعد الحداثة) .(1/48)
3 ـ استخدمنا في دراستنا لتطور اليهودية نموذج الحلولية الكمونية الواحدية مقابل نموذج التوحيد والتجاوز (الذي يفترض وجود ثنائية فضفاضة) ، وبيَّنا أن الصراع بين النموذجين يشكل التوتر الأساسي في اليهودية (وفي كل الأديان) . فهو تعبير عن تناقض إنساني أساسي يسم إنسانيتنا المشتركة، يأخذ شكل النزعة الجنينية (وهي الرغبة في فقدان الهوية والالتحام بالكل والتخلي عن الوعي وعن المسئولية الخلقية) في مقابل النزعة الإنسانية والربانية (وهي أن يؤكد الإنسان هويته الإنسانية المستقلة عن الطبيعة ويتحمل المسئولية الخلقية عن هذا الوضع) .
ومن خلال نموذج الحلولية الكمونية هذا أرّخنا للعقيدة اليهودية ولتصاعد معدلات الحلولية الكمونية فيها إلى أن سيطرت القبَّالاه عليها تماماً. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان ممثل الإنسانية المشتركة في واقعها المأساوي والملهاوي، وفي مقدرتها الهائلة على تجاوز عالم المادة وعلى الغوص فيه، وعلى الصعود إلى أعلى درجات النبل، وعلى الهبوط إلى أدنى درجات الخساسة.
النماذج الثلاثة الأساسية: استقلالها الواضح ووحدتها الكامنة(1/49)
كل نموذج من النماذج الثلاثة الفرعية (الحلولية الكمونية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعة الوظيفية) له استقلاله عن النموذجين الأخرين، وكل سياق له آلياته وحركياته وسماته، ويتفاوت البُعد الزماني في النماذج الثلاثة، فهو أكثر وضوحاً في نموذج الجماعة الوظيفية، ويكاد يتلاشى في نموذج الحلولية، ولكن النماذج كلها مع هذا تتلاقى وتتقاطع. فسنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية من حملة الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية/المادية) . ولكن ثمة تقابلاً اختيارياً بين الحلولية والعلمانية الشاملة، كما أن عضو الجماعة الوظيفية إنسان وظيفي متحوسل ذو بُعد واحد، لذا سنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية هم عادةً من حملة الفكر العلماني الشامل (الحلولي الكموني الواحدي المادي) الذي يُترجم نفسه عادةً إلى رؤية إمبريالية.(1/50)
والنقطة المشتركة بين كل هذه النماذج أنها واحدية تنكر التجاوز وتُلغي الثنائيات الفضفاضة والحيز الإنساني، فالحلولية الكمونية هي رؤية للواقع ترى أن الإله قد حل في العالم حتى أصبح الإله غير متجاوز للعالم متوحداً معه، ومن ثم أصبح الإله والطبيعة والإنسان شيئاً واحداً، أي أن ثنائيات: الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والكل والجزء، والعام والخاص تم إلغاؤها لتظهر الواحدية الكونية المادية. والعلمانية (الشاملة) ترى أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره وأنه لا حاجة لتجاوز هذا العالم الذي تسوده قوانين واحدة تسري على الطبيعة والإنسان، وهو ما يقضي على ثنائية الإنسان والطبيعة لتظهر الواحدية المادية (والإمبريالية بطبيعة الحال تنظر للعالم باعتباره مادة محضة يمكن للأقوى حوسلتها لصالحه، أي أنها هي الأخرى تدور في إطار شكل من أشكال الواحدية المادية التي نطلق عليها «الواحدية الذاتية الإمبريالية» ) . ويُعرَّف أعضاء الجماعات الوظيفية في ضوء وظيفتهم وحسب لا في ضوء إنسانيتهم المتعينة، ومن ثم فإن أبعادهم الإنسانية الأخرى يتم إنكارها لتظهر الواحدية الوظيفية. فثمة محور مشترك وسمة أساسية، وهي الواحدية الكاملة، والتي تتبدَّى على مستويات مختلفة. فالحلولية الكمونية تتبدَّى بالدرجة الأولى على المستوى الديني والمعرفي (الكلي والنهائي) ، بينما تتبدَّى الجماعات الوظيفية أساساً على المستوى الاقتصادي والوظيفي، أما العلمانية والإمبريالية الشاملة فإنها تتبدَّى بشكل مكثف على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.(1/51)
ولقد قلنا "بالدرجة الأولى" و"أساساً" و"بشكل مكثف" عن عمد، لأن كل نموذج يتبدَّى في واقع الأمر على كل المستويات، وكل ما في الأمر أنه قد يتبدَّى بشكل أكثر كثافة على مستوى معيَّن دون المستويات الأخرى. ولهذا، فقد احتفظنا بتعدد المستويات واستقلالها ومقدرتها التفسيرية ولكن مع تأكيد وحدتها على مستوى أعمق وهو المستوى المعرفي (الكلي والنهائي) .
وكل النماذج الفرعية ـ كما أسلفنا ـ تنضوي تحت نموذج أكبر ووحدة أساسية كامنة فيها، إلا أننا أكدنا أن هذا النموذج الأكبر لا يتبدَّى بنفس الطريقة في كل زمان ومكان وفي جميع الحالات، فالنموذج مثل الإمكانية التي قد تتحقق، وقد لا تتحقق، وإن تحققت فإن ما يتحقق هو أجزاء وجوانب منها وحسب، ومن هنا فإن النموذج العام لا يُغني عن دراسة كل حالة على حدة. ولذا فإننا رغم حديثنا عن نموذج الجماعات الوظيفية اليهودية داخل الحضارة الغربية، أكدنا أن هذا النموذج لا يتطور بنفس الطريقة ولا يَطَّرد بنفس الأسلوب وعلى نفس المستوى من مرحلة زمانية لأخرى. ونحن ننبه دائماً إلى أن النموذج الذي طرحناه نموذج عام جداً، يصلح إطاراً تصورياً ذا قيمة تحليلية وتفسيرية كلية وحسب، ويظل التطور التاريخي نفسه مختلفاً ومليئاً بالتعرجات والنتوءات والمنحنيات الخاصة التي يتطلب رصدها وفهمها وتفسيرها جهداً إبداعياً خاصاً وإدراكاً للطبيعة الاحتمالية للنموذج التحليلي التفسيري.(1/52)
ويمكن أن نُعرِّف دراستنا بأنها دراسة لحالة محدَّدة هي اليهود واليهودية في الحضارة الغربية أساساً والصهيونية وإسرائيل، وهي دراسة تاريخية اجتماعية مقارنة تركز على العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين أعضاء الجماعات اليهودية (بما في ذلك المستوطن الصهيوني) من جهة، وأعضاء المجتمعات المختلفة من جهة أخرى، كما تركز على الأبعاد المعرفية لهذه العلاقات. لكن هذه الدراسة، رغم أنها دراسة حالة، إلا أنها دراسة لنماذج تحليلية مركبة ذات مقدرة تطبيقية تتجاوز الحالة موضع الدراسة، فهذه النماذج تتوجه لقضايا عامة مثل: علاقة الأقلية (خاصةً أعضاء الجماعات الوظيفية) بالأغلبية، وعلاقة الأقليات بالدولة القومية المركزية، وطبيعة الحضارة الغربية الحديثة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الحلولية بالتوحيد، وعلاقة الفكر بالمادة، وعلاقة الذات بالموضوع والصراع بين الواجدية (المادية) والثنائية الفضفاضة (استبعدنا أربعة مجلدات كانت تشكل الإطار النظري، وقمنا بتلخيصها في هذا المجلد، وسوف تَصدُر هذه المجلدات كموسوعة مستقلة بعنوان موسوعة العلمانية الشاملة بعد صدور هذه الموسوعة) .(1/53)
والجماعات اليهودية تشكل جماعات وظيفية مثل كل الجماعات الوظيفية الأخرى، لكن وجودها داخل الحضارة الغربية أعطاها تفرُّداً معيَّناً. وهي تتفاعل مع المجتمعات العلمانية ومع التشكيل الإمبريالي تفاعل الجماعات البشرية الأخرى، ولكنها نظراً لوضعها الخاص فإن تفاعلها مع العلمانية يأخذ شكلاً أكثر حدة. وهي جماعات تتنازعها النزعات الجنينية والربانية شأنها شأن كل البشر في كل زمان ومكان، لكن اليهودي هو الإنسان في حالة ضيق متبلورة. وبسبب حالة الضيق هذه، تظهر كثير من أبعاد الظاهرة الإنسانية بشكل نماذجي متبلور من خلاله. وخصوصية الجماعات اليهودية، أو خصوصياتها التي تتنوع في كل زمان ومكان، هي خصوصيات لا تختلف عن خصوصيات الجماعات الأخرى، وإن كان هناك شيء فريد بالفعل فربما يكون متمثلاً في نوعية العناصر الإنسانية العامة التي تدخل في تشكيل الموضوع اليهودي وطريقة ترابطها. وهي عناصر تدخل في تشكيل كثير من الظواهر الإنسانية الأخرى وتترابط بطرق فريدة مختلفة!
هيكل الموسوعة(1/54)
«هيكل الشيء» هو دعامته الأساسية الملموسة، فهيكل المنزل هو دعامته الخرسانية والهيكل العظمي هو دعامة الجسد. وتُطلق كلمة «هيكل» على الشكل الخارجي الذي يمكن معاينته. ويمكن القول بأن مصطلح «هيكل» يتداخل مع مصطلح «بنية» ، فكلاهما يعبِّر عن طريقة أو منطق ترتيب الأشياء. ولكن بينما يتسم الهيكل بالوضوح فإن البنية تتسم بالكمون. وهيكل هذه الموسوعة هو تعبير عن نموذجها التفسيري. وقد قلنا عن هذه الموسوعة إنها «موسوعة تأسيسية» بمعنى أنها ليست موسوعة معلوماتية ولا موسوعة نقدية تفكيكية، فهي تطمح إلى أن تطرح نموذجاً تفسيرياً وتصنيفياً جديداً. ولهذا السبب، نجد أن الجزء النظري طويل نسبياً فلم يكن هناك مفر من إعادة تعريف كل المصطلحات. ولنفس السبب نجد أن تبويب الموسوعة تم على أساس موضوعات. فقد رتبناها ترتيباً مختلفاً عن ترتيب الموسوعات العادية، لأن الترتيب الألفبائي يعني أن القارئ عارف بالمصطلحات والشخصيات، أو أنه يقابل مصطلحاً جديداً أو شخصية جديدة ويريد المزيد من المعلومات عنها. أما الترتيب حسب موضوعات، فإنه يعني أن القارئ لابد أن يتدرج مع الموسوعة من الإشكاليات إلى محاولة الإجابة إلى العرض التاريخي وهكذا (على أننا زودنا الموسوعة بفهرس ألفبائي حتى يُيسِّر عملية الوصول إلى المداخل المختلفة، وحتى يستطيع القارئ أن يصل إلى أي مصطلح أو شخصية يقابلها) .
ويعكس هيكل الموسوعة محاولة الوصول إلى قدر من التعميم دون إلغاء لخصوصية الأجزاء واستقلالها، فنحن نؤمن بأن القصص الصغرى (كما يقول دعاة ما بعد الحداثة) مهمة وممتعة ومباشرة ولها شرعيتها المحدودة، ولذا لابد أن تُروَى هذه القصص. لكن هناك داخل كل قصة صغرى إشارات للقصة العظمى التي تربط القصص الصغرى وتعطيها مغزاها، وبدون هذه الإشارات، تصبح القصص الصغرى لا معنى لها؛ محض تسلية ولغو حديث.(1/55)
ويتضح الالتزام بكل من التعميم والتخصيص من خلال تقسيم الموسوعة إلى ثمانية مجلدات. أما المجلد الأول فهو يضم الإطار النظري العام (الذي يتجاوز الظاهرة اليهودية) ، فهو بمنزلة المستوى الأكثر تجريداً وكلية، نشرح فيه النموذج الأكبر وما يتفرع عنه من نماذج صغرى، بل نشرح فيه فكرة النموذج ذاتها كأداة تحليلية كما نشرح المصطلحات التي نستخدمها. وتناولنا في المجلدين الثاني والثالث الإشكاليات العامة المتعلقة بدراسة الشأن اليهودي. وفي المجلد الرابع خفضنا مستوانا التعميمي، فتناولنا تواريخ الجماعات اليهودية كلاًّ على حدة في مختلف بلدان العالم والتشكيلات الحضارية. ولذا، كان التقسيم هنا جغرافياً، فهناك باب عن فرنسا وآخر عن إنجلترا وعدة أبواب عن كلٍّ من روسيا وبولندا والولايات المتحدة. وحاولنا أن نبيِّن التجليات المتعيِّنة للإشكاليات النظرية العامة في كل بلد على حدة، كما حاولنا أن نبيِّن بعض الجوانب التي لا تندرج بالضرورة تحت إطار النموذج المطروح. كما بيَّنا التطور التاريخي داخل كل بلد في جانبيه العام والخاص. ففي بولندا، مثلاً، أفردنا عدة مداخل لتاريخ بولندا ومداخل مستقلة لطبقة الشلاختا والإقطاع الاستيطاني وجماعات الهايدماك، وهكذا. وتناول المجلد الخامس اليهودية، والسادس الصهيونية، والسابع إسرائيل. أما المجلد الثامن فيضم آليات الموسوعة وملحق خاص بالمفاهيم والمصطلحات الأساسية وثبت تاريخي والفهارس الألفبائية.(1/56)
وقُسِّم كل مجلد في الموسوعة إلى أجزاء أقل عمومية من عنوان المجلد. فالمجلد الثاني يُسمَّى «إشكاليات» حيث يتناول كل باب إشكالية بعينها (طبيعة اليهود في كل زمان ومكان ـ إشكالية الجوهر اليهودي ـ يهود أم جماعات يهودية؟ ـ يهود أم جماعات وظيفية يهودية؟ ـ إشكالية العداء الأزلي لليهود) . وقُسِّم كل جزء إلى أبواب مختلفة، وكل باب يضم مداخل مختلفة تبدأ عادةً بما يمكن تسميته «المدخل المظلة» (المدخل العام بالنسبة لهذا الباب) وهو المدخل الذي تُطرَح فيه إشكالية الباب ككل، وفيه تتم محاولة الإجابة عنها من خلال النموذج التفسيري الجديد. ويعقب ذلك المدخل الرئيسي مداخل تفصيلية تمثل التطبيق والتوضيح لما جاء في المدخل الرئيسي، وهي أيضاً بمنزلة الوصف التفصيلي المُكثَّف الذي يوضح النموذج بشكل متعيِّن ويُبيِّن تجلياته المختلفة وتحوراته. كما أنه يقوم بتعديل النموذج ويتجاوزه دون إلغائه. فنحن ننكر، على سبيل المثال، أن البُعد اليهودي في إسهامات المبدعين من أعضاء الجماعات اليهودية له قيمة تفسيرية عالية، ولكننا مع هذا أدرجنا مداخل عن ظواهر وشخصيات لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء البُعد اليهودي، فكأننا ننبه القارئ بذلك إلى فعالية نموذجنا التفسيري وعدم شموليته في الوقت نفسه.(1/57)
والعلاقة بين مداخل الموسوعة ليست عضوية أو صلبة، فهي تَجَل لنفس النموذج، ولذا لابد أن تكون ثمة علاقة تَماثُل قوية بينها. ولكن التماثل ليس ترادفاً، ولذا فإن هناك فراغات بين المداخل هي تعبير عن قدر من عدم التجانس والانقطاع وعدم الترابط الذي لا يؤدي بالضرورة إلى نفي فكرة الحقيقة. وعلى القارئ أن يتخيل وجود عبارة "والله أعلم" مع نهاية كل مدخل (وتظهر بالفعل في نهاية المدخل الأخير من كل مجلد) تعبيراً عن هذا البحث عن الحقيقة الذي يعرف من يخوضه مسبقاً أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة والكاملة مستحيل، ففوق كل ذي علم عليم. وقد يحاول القارئ أن يقوم بعملية الربط، وقد يكتشف أن الظاهرة موضع الدراسة تتَّسم بالاستمرار والانقطاع، وأن الأجزاء لا تلتحم عضوياً مع الكل، وأن القصة الكبرى لا تبتلع القصص الصغرى. وقد رُتبت المداخل حسب منطق محدد، وكان الترتيب في معظم الأحيان هرمياً، بحيث نبدأ بالأكثر عمومية وأهمية ونتدرج منه لنصل إلى الخاص وربما الهامشي. والمداخل التفصيلية المختلفة (الشخصيات ـ الجمعيات) ليست شاملة وإنما مُمثِّلة وحسب لما نتصور أنه حالات مختلفة لنفس النموذج، حالات لها دلالة من ناحية المنهج أو من ناحية الممارسة التاريخية المتعيِّنة.(1/58)
وقد حاولت الموسوعة أن تجمع بين التعاقب الذي يكشف البُعد التاريخي للظاهرة (المتغيِّر عبر الزمان) والتزامن الذي يكشف البُعد البنيوي (المستقر نسبياً عبر الزمان) . ففي المجلدات الثلاثة الخاصة بالجماعات اليهودية (من المجلد الثاني إلى المجلد الرابع) ، تناول المجلدان الثاني والثالث موضوعاتهما من منظور التزامن (إشكاليات عامة ـ إشكاليات التحديث والثقافات) وكان البُعد التاريخي ثانوياً بالنسبة للبُعد الإشكالي والبنيوي. أما في المجلد الرابع، فالعكس هو الصحيح إذ تناولنا تواريخ الجماعات اليهودية وأصبح البُعد البنيوي ثانوياً. وطبقنا المبدأ نفسه داخل المجلدات الخاصة باليهودية والصهيونية وإسرائيل. وبنية المداخل نفسها تتضمن التعاقب والتزامن، فمعظم المداخل الرئيسية تبدأ بمحاولة تفكيكية حيث يرفض كل مدخل التعريف القائم إن كانت مقدرته التفسيرية ضعيفة، ثم يطرح مصطلحاً جديداً من خلال عملية تركيب جديدة تركز على السمات البنيوية الأساسية التي تجاهلها أو هَمَّشها النموذج القديم، ثم يتم عرض لتاريخ الظاهرة. وفي آخر المدخل، نطرح بعض الإشكاليات. ومع هذا، يتنوع شكل المداخل فلم يتم تنميطها تماماً حتى يمكن أن تتناول هذه المداخل المنحنيات الخاصة للظواهر المختلفة. ورغم أن هذا التناول للظواهر موضع الدراسة تناول نماذجي، إلا أننا حاولنا قدر استطاعتنا أن نزود القارئ بالمعلومات التي نبرهن بها على المقدرة التفسيرية لنموذجنا وبما نراه ضرورياً حتى ولو كان الأمر لا يخدم إطارنا التفسيري. ويُلاحَظ أن كل مدخل هو وحدة مستقلة، قائمة بذاتها، ولكنها تنتمي إلى كل. وبسبب هذا، فإن هناك بعض التكرار إذ أن استقلالية المدخل كانت تتطلب ذكر بعض العناصر التي وردت في مداخل أخرى.
المصطلح(1/59)
كلمة «مصطلح» ، وهي على زنة «مُفتَعَل» ، من الفعل «اصْطَلَح» ، أو قولهم «اصطلح القوم» أي «زال ما بينهم من خلاف» و «اصطلحوا على الأمر» أي «تعارفوا عليه واتفقوا» و «تصالحوا» بمعنى «اصطلحوا» . و «مصطلح» هو «الاصطلاح» . و «الاصطلاح» اسم منقول من مصدر الفعل «اصطلح» ومعناه اتفاق طائفة ما على شيء مخصوص، ولذا سُمِّي علم الاصطلاح «علم التواطؤ» . ولكل علم اصطلاحاته. و «الاصطلاح» في العلم هو اتفاق جماعة من الناس المتخصصين في مجال واحد على مدلول كلمة أو رقم أو إشارة أو مفهوم، وذلك يتم عادةً نتيجة تراكم معرفي وحضاري وممارسات فكرية لمدة من الزمن، ويتبع ذلك محاولة تقنين هذه المعرفة.
وتحديد المفاهيم والمصطلحات مسألة ضرورية لضبط وتنظيم العملية الفكرية وتأطير ممارسات الفكر الاجتماعي في سياق منهجي بعيداً عن الفوضى والشتات الذهني، من أجل صياغة منطق مشترك بين تفاعلات الأفراد.
ومشكلة المصطلح لها شقان:
أ) محاولة توليد مصطلحات جديدة نتيجة تعريف المفاهيم ووصف الظواهر الأساسية ثم تسميتها.
ب) ترجمة المصطلح، فالترجمة شكل من أشكال التفسير، ومترجم المصطلح يجد نفسه، شاء أم أبى، متوجهاً للقضايا الفلسفية والمعرفية الكامنة وراء المصطلح.
والقضيتان رغم انفصالهما متداخلتان وتثيران الإشكاليات نفسها.(1/60)
ولكن، إذا كان المصطلح أو الاصطلاح تصالحاً، فما العمل إن كان من يسك المصطلح لم يتصالح معنا؟ أو كان يسك المصطلح لتغييبنا نتيجة لخصومته معنا ولأن وجودنا يعني غيابه؟ أو يسك مصطلحاً يخبئ مفاهيم وقيماً تتنافى مع مفاهيمنا وقيمنا، ويتبنى نموذجاً تحليلياً معرفياً متحيزاً ضدنا؟ وهذه هي الإشكالية التي تواجهنا بخصوص المصطلحات المستخدمة في وصف الظواهر اليهودية والصهيونية. فقد تم سكها في العالم الغربي بعناية بالغة، وهي مصطلحات تنبع من تجارب تاريخية ونماذج تحليلية ورؤى معرفية ووجهات نظر غربية وصهيونية، متمركزة حول الذات الغربية واليهودية، وتحتوي على تحيزات إنجيلية وإمبريالية وعرْقية لا نشارك فيها بل نرفضها، وهي تحيزات جعلت الدارسين الغربيين والصهاينة يضخِّمون كثيراً من جوانب بعض الظواهر ويهملون الجوانب الأخرى، وجعلتهم يفترضون وجود وحدة حيث لا وحدة، ولا يدركون في الوقت نفسه العلاقة بين ظواهر نرى نحن أنها وثيقة الصلة. وهي مصطلحات تعبر عن خلل واضح (من وجهة نظرنا) في المستوى التعميمي والتخصيصي، فيتحدثون بصيغة العام عن ظواهر خاصة وفريدة، وبصيغة الخاص عن ظواهر عامة، ويُهمِّشون ما هو مركزي وأساسي ويضفون صفة المركزية على ما هو هامشي من وجهة نظرنا. ويمكن أن ندرج بعض سمات المصطلحات الغربية/الصهيونية فيما يلي: ـ
1 ـ تنبع المصطلحات الغربية من المركزية الغربية، فالإنسان الغربي يتحدث، على سبيل المثال، عن «عصر الاكتشافات» وهي عبارة تعني أن العالم كله كان في حالة غياب ينتظر الإنسان الأبيض لاكتشافه. والصهاينة يشيرون أيضاً إلى أنفسهم على أنهم «رواد» ، والرائد هو الشخص الذي يرتاد مناطق مجهولة فيستكتشفها بنفسه ويفتحها لينشر الحضارة والاستنارة فيها بين شعوبها البدائية.(1/61)
وحروب العالم الغربي تُسمَّى «الحروب العالمية» ونظامه الاستعماري يُسمَّى «النظام العالمي الجديد» . ويتبع الصهاينة نفس النمط، فقد كان هرتزل يحاول تأسيس دولة يضمنها «القانون الدولي العام» وكان يعني في واقع الأمر «القانون الغربي» أو بمعنى أصح «القوى الإمبريالية الغربية» . والمنظمة الصهيونية تُوجَد أساساً في العالم الغربي حيث تتركز الغالبية الساحقة ليهود العالم إذ لا يوجد يهود في الصين أو الهند أو اليابان أو في معظم بلاد آسيا (باستثناء بضعة أفراد في الصين وبضع عشرات في اليابان وبضع مئات في الهند) . ولا يوجد يهود في أفريقيا إلا في جنوب أفريقيا (في الجيب الاستيطاني الغربي) وبضعة آلاف في المغرب. ورغم هذه الحقيقة، إلا أن المنظمة الصهيونية تشير إلى نفسها باعتبارها «المنظمة الصهيونية العالمية» لا «المنظمة الصهيونية الغربية» . وحينما صدر وعد بلفور، وردت فيه إشارة إلى «الجماعات غير اليهودية» ، أي سكان فلسطين من العرب البالغ عددهم آنذاك ما يزيد عن 95% من عدد السكان، أي أن الغالبية الساحقة من سكان فلسطين تم تهميشها لصالح المستوطنين الصهاينة. ولا يمكن فهم عملية التهميش هذه إلا في إطار أن الصهاينة هنا هم ممثلو الحضارة الغربية التي تظن أنها تحتل مركز الكون والتاريخ، ولذا فإن حقوقهم في فلسطين حقوق مركزية مطلقة. أما حقوق غيرهم من البشر ممن أقاموا في هذه الأرض وزرعوها وحصدوا ثمارها وبنوا منازلهم فيها عبر آلاف السنين، فهي هامشية، وهم مجرد جماعات غير يهودية.(1/62)
ومن أهم المصطلحات التي أحرزت شيوعاً في لغات العالم مصطلح «معاداة السامية» ، وهو مصطلح يعكس التحيزات العرْقية والمركزية الغربية التي ترجمت نفسها إلى نظام تصنيفي (آري/سامي) ، والسامي بالنسبة للغرب هو اليهودي، وهو ما لا يمكن أن يقبله أي دارس للتشكيل الحضاري السامي. ومع هذا، شاع المصطلح وسبب الخلل. وقد أصبح المجال الدلالي لمصطلح «معاداة السامية» يشير إلى أي شيء ابتداءً من محاولة إبادة اليهود، وانتهاءً بالوقوف ضد إسرائيل بسبب سياساتها القمعية ضد العرب، مروراً بإنكار الإبادة.
2 ـ يَصدُر الغرب عن رؤية إنجيلية لأعضاء الجماعات اليهودية. وحتى بعد أن تمت علمنة رؤية العالم الغربي لليهود، ظلت بنية كثير من المصطلحات ذات طابع إنجيلي، فاليهود هم «شعب مقدَّس» أو «شعب شاهد» أو «شعب مدنَّس» أو «شعب ملعون» . وبغض النظر عن الصفات التي تلتصق باليهود، فإن صفة الاستقلال والوحدة هي الصفة الأساسية، فسواء كان اليهود شعباً مقدَّساً أم مدنَّساً فهم شعب واحد. وقد ترجم هذا المفهوم نفسه إلى فكرة «الشعب اليهودي» ، تماماً كما أصبح «التاريخ المقدَّس» الذي ورد في التوراة هو «التاريخ اليهودي» . وتُشكِّل مفاهيم الوحدة والاستقلال هذه الإطار النظري لكل من الصهيونية ومعاداة اليهود.
ومشكلة هذه المصطلحات أنها تفترض وجود وحدة تاريخية بل عضوية بين يهود الصين في القرن الرابع عشر ويهود الولايات المتحدة في القرن العشرين. وهي تؤكد وجود استمرارية حيث هناك انقطاع. والعكس أيضاً صحيح، فهي تفترض وجود انقطاع كامل بين اليهود والأغيار حيث يوجد في واقع الأمر استمرار. ونجم عن ذلك فشل في رصد كثير من العناصر التي تفاعل معها أعضاء الجماعات اليهودية وتأثروا بها وأثروا فيها.(1/63)
3 ـ انطلق الصهاينة من المركزية الغربية هذه وعمَّقوها بإضافة المركزية الصهيونية، وجوهر هذه المركزية هو أن اليهود كيان مستقل لا يمكن دراسته إلا من الداخل في إطار مرجعية يهودية خالصة، أو شبه خالصة، وهو ما أدَّى إلى ظهور ما أسميه «جيتوية المصطلح» . فكثير من الدراسات التي كُتبت عن الموضوع اليهودي والصهيوني تستخدم مصطلحات من التراث الديني اليهودي (بعضها بالعبرية أو الآرامية) أو من تراث إحدى الجماعات اليهودية (عادةً يهود اليديشية) أو من الأدبيات الصهيونية لوصف الظواهر اليهودية والصهيونية، وكأن هذه الظواهر من الاستقلالية والتفرد بحيث لا يمكن أن تصفها مفردات في أية لغة أخرى.
وتتضح جيتوية المصطلح الصهيوني الكاملة في أوجه عدة أهمها ظهور مصطلحات مثل «التاريخ اليهودي» و «العبقرية اليهودية» و «الجوهر اليهودي» وهي مصطلحات تفترض وجود تاريخ يهودي مستقل له حركياته المستقلة عن تاريخ البشر، ومن ثم لا يُفسَّر سلوك أعضاء الجماعات اليهودية في ضوء تاريخ المجتمع الذي يعيشون فيه وإنما في إطار حركيات تاريخ مقصور عليهم (ومما يجدر ذكره أن المعادين لليهود يتبنون جيتوية المصطلح هذه فيتحدثون عن «الجريمة اليهودية» وعن «المؤامرة اليهودية» ) .
وتتضح هذه الجيتوية بشكل متطرف في رفض المراجع الصهيونية ترجمة الكلمات العبرية وفي الإصرار على إبرازها بمنطوقها العبري. وعدم ترجمة المصطلح نابع من الإيمان "بتَفرُّد" التراث اليهودي و"تميُّز" الذات اليهودية وقدسيتها.. إلخ. ولذا تتحدث هذه المراجع عن «الليكود» و «المعراخ» و «أحدوت هاعفوداه» و «المتسفاه» . أما حرب أكتوبر فهي حرب «يوم كيبور» .(1/64)
والمراجع العربية مع الأسف تتبع المصادر الصهيونية في معظم الأحيان، فنترجم عبارة Conservative Party إلى العربية فنقول «حزب المحافظين» (ولا نقول «كونسيرافتيف بارتي» مثلاً) بينما يظل «الليكود» أو «أحدوت هاعفوداه» على شكلهما العبري الغريب والشاذ، وأقول غريباً وشاذاً، لا لأن اللغة العبرية غريبة وشاذة، فهي لغة مثل أية لغة في العالم، لها قواعدها وقوانينها، ولكن الغرابة والشذوذ يكمنان في السياق العربي نفسه. فإذا كانت عبقرية اللغة العربية تتجه نحو الترجمة، إذن فلنترجم ولا نستثني من القاعدة إلا ما يُستثنى عادةً، مثل بعض الكلمات التي يتصور المترجمون عجز اللغة عن ترجمتها، مثل «الجمهورية الفيدرالية» ، أو الاختصارات مثل «اليونسكو» وصاروخ «سام» ، فهذه الاختصارات أصبحت مثل أسماء الأعلام (وإن كان يجرى أحياناً ترجمة الاختصارات فحلف «الناتو» أصبح حلف شمال الأطلنطي) . ولكننا لا نُطبِّق هذه القواعد على المصطلح الصهيوني، ونتركه عبرياً دون تغيير أو تعديل وكأنه قدس الأقداس الذي يجب ألا يطأه إلا كبير الكهنة وحده، أو كأنه الشيم هامفوراش الذي ينطق به كوهين جادول مرة واحدة كل عام. وبقاء المصطلح على شكله العبري يجعلنا مُستوعَبين نفسياً فيه وفي حالة انهزام كامل أمامه، فالتركيبة الصوتية التي تخلط بين الهاء والعين (هاعفوداه) ، والتركيبة الصوتية الأخرى «تسي» (الكيبوتس) لا تتواتران في اللغة العربية وبالتالي فهي تسبب جهداً لدى القارئ ولدى السامع العربيين على حدٍ سواء، هذا على عكس التركيبات الصوتية المألوفة للأذن العربية. كما أن معنى «أحدوت» أو معنى «هاعفوداه» يظل شيئاً غريباً على العقل، يضرب الإنسان أخماساً في أسداس ليصل إليه، ولا يملك المرء أمام هذا إلا أن يكرر الأصوات التي يسمعها دون أن يحيط بها إحاطة كاملة.(1/65)
كما تظهر جيتوية المصطلح أيضاً في ترجمة أسماء الأعلام (وللأسماء دلالة خاصة في الدين اليهودي) ، فالمصطلح الصهيوني نابع من الإيمان بأن اليهودية هي انتماء قومي، ولذا يجب عبرنة كل الأسماء، فيصبح «موسى هس» هو «موشيه» بغض النظر عن انتمائه القومي الحقيقي ويصبح «سعيد» هو «سعديا» ، ويصبح «إسحق» هو «يتسحاق» كما لو كان الأمر المنطقي هو أن تُنْطَق هذه الأسماء بالعبرية، مع أن بعض حملة هذه الأسماء لا يعرفوا العبرية ولم يُنادَوا بهذه الأسماء مرة واحدة طيلة حياتهم.
ويظهر الانغلاق الجيتوي التام في اصطلاحات مثل «الهولوكوست» و «العالياه» وهي اصطلاحات وجدت طريقها أيضاً إلى اللغة العربية. والعالياه اصطلاح ديني يعني العلو والصعود إلى أرض الميعاد ولا علاقة له بأية ظاهرة اجتماعية، ومع هذا يستخدم الصهاينة الكلمة للإشارة للهجرة الاستيطانية، أي أن الظاهرة التي لها سبب ونتيجة أصبحت شيئاً فريداً، وظاهرة ذاتية لا تخضع للتقنين والمناقشة. و «الهولوكوست» هو تقديم قربان للرب في الهيكل يُحرَق كله ولا يبقى منه شيء للكهنة، ومع هذا يستخدم الصهاينة هذه الكلمة للإشارة إلى الإبادة النازية لليهود. والغرض من استخدام كل هذه المصطلحات الدينية العبرية هو إزالة الحدود والفوارق بين الظواهر المختلفة، بحيث تصبح «عالياه» هي «الهجرة الصهيونية الاستيطانية» ، وتصبح الهجرة الصهيونية هي العلو والصعود إلى أرض الميعاد، أما الهجرة منها فهي «يريداه» هبوط ونكوص وردة. ولعل مما له دلالته أن العبرية توجد فيها كلمة محايدة تصف الهجرة وحسب، ولكن الصهاينة استبعدوها، وهو ما يؤكد المضمون الأيديولوجي لهذا المصطلح.(1/66)
ويُقسَّم علماء اليهود إلى «جاؤونيم» و «صابورائيم» و «تنائيم» وهكذا، وتشير لهم كثير من المراجع بهذه الكلمات. وهذا يعني أن القارئ الذي لا يعرف العبرية يقف مدهوشاً أمام هذه الأسماء والظواهر وكأنه أمام شيء عجائبي غير إنساني (فالشيء الفريد الذي يتأيقن يضع نفسه خارج حدود ما هو إنساني) . وقد اختار الصهاينة عدة مصطلحات دينية مختلفة ليطلقوها على كيانهم الاستيطاني فسموه «كنيست يسرائيل» ثم «يشوف» ثم سُمِّي أخيراً «إسرائيل» وكلها مصطلحات تحمل دلالات دينية لا علاقة لها بأية ظواهر سياسية أو اجتماعية. ولكن الغرض من استخدام المصطلح الديني للإشارة لظاهرة سياسية هو الخلط بين الحدود، ونقع نحن في المأزق ونجد أنفسنا نناقش ما إذا كانت حدود إرتس يسرائيل كما وردت في العهد القديم مطابقة لحدود إسرائيل كما فرضت نفسها على الوطن الفلسطيني، وننسى أن ما حدد هذه الحدود هو العنف الذاتي الصهيوني والدعم الغربي من الخارج.
وتصل الجيتوية إلى قمتها في رفض المراجع الصهيونية وبعض المراجع الغربية استخدام كلمة «فلسطين» للإشارة إلى هذه الرقعة الغالية من الأرض العربية، حتى قبل عام 1948. ولذا نجد مرجعاً صهيونياً "علمياً" يتحدث عن المسرح العربي في فلسطين في الثلاثينيات فيشير إلى المسرح العربي في "إرتس يسرائيل"، ولا يملك الإنسان إزاء هذا إلا أن يضحك في مرارة من سخف وتفاهة الجيتوية وتحيزاتها.(1/67)
4 ـ وهناك بُعد آخر في المصطلح الصهيوني يقف على طرف النقيض من «الجيتوية» وهو ما نسميه «التطبيع» . وهو محاولة إسباغ صفة العمومية والطبيعية على الظواهر الصهيونية رغم ما تتسم به، في بعض جوانبها من تفرد، بسبب طبيعتها الاستيطانية الإحلالية. فالحركة الصهيونية في إحدى ديباجاتها تحاول تقديم الحركة الصهيونية، ومن بعدها الكيان الصهيوني، باعتبارهما ظواهر سياسية عادية وكأن الكيان السياسي الإسرائيلي لا يختلف في أساسياته عن أي كيان سياسي آخر، فيتم الحديث عن "نظام الحزبين في الديموقراطية الإسرائيلية"، وعن الصهيونية باعتبارها "القومية اليهودية" بل "حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي"، وكأن الأقليات اليهودية في العالم إن هي إلا شعب صغير مثل شعوب العالم الثالث وأن الصهيونية ليست شكلاً من أشكال الاستعمار الاستيطاني الإحلالي وإنما حركة تطرد المغتصبين وتستعيد لهم أرض الأجداد المُستعمَرة. وقد سُمِّيت بعض جوانب التجربة الاستيطانية الصهيونية بـ "الحركة التعاونية" و"الصهيونية الاشتراكية" ولهذا نجحت الصهيونية في تطبيع ذاتها على مستوى المصطلح واكتسبت مضموناً عاماً وعادياً وطبيعياً غير مضمونها الحقيقي.(1/68)
ورغم رفضنا لتفرُّد الظواهر اليهودية والصهيونية ورفض جيتوية المصطلح وإيماننا بأن الظاهرة التي يشير إليها دال ما تخضع في كثير من جوانبها للقوانين العامة التي تحكم هذه الظاهرة، إلا أن كل ظاهرة تظل لها خصوصيتها (المنحنى الخاص للظاهرة) وما يميزها عن غيرها من الظواهر، وعملية التطبيع تتجاهل هذا كله. فكلمة «ديموقراطية» حينما تُطبَّق على إسرائيل فهي تُطبَّق على كيان سياسي يستند إلى عملية سرقة تاريخية لا تزال آثارها واضحة، ولذا يجب على هذا الكيان "الديموقراطي" قمع أصحاب الأرض بشكل مستمر حتى يضمن بقاءه، كما أن هذا الكيان يستند إلى عملية تمويل ودعم مستمرة من الغرب تضمن أمنه وانتماءه للغرب وعمالته له، وهو ما يعني أن هذه الديموقراطية في واقع الأمر ليست لها إرادة أو سيادة مستقلة.
ومصطلح مثل «التفسير» في العقائد الدينية (التوحيدية) يعني بذل جهد من جانب المؤمن لتفسير الكتاب المقدس الذي يؤمن به، ومع هذا يظل التفسير تفسيراً (إنسانياً) ويظل الكتاب المقدَّس هو كلام الإله. أما كلمة «تفسير» في اليهودية فهي تدور في إطار «الشريعة الشفوية» التي تضعها اليهودية الحاخامية في منزلة تفوق منزلة الكتاب المقدَّس. ونفس الشيء ينطبق على مفردات مثل «الإله» و «النبي» فهي تكتسب مضموناً جديداً يختلف عن مضمونها في العقائد الأخرى. ولعل ما حدث للدال «يهودي» مَثَل مثير على ما نقول، فمن المفروض أن يكون أبسط الدوال ولكنه أصبح من أكثر المدلولات خلافية، حتى نصل إلى المصطلح المختلط تماماً، الدال الذي لا مدلول له «اليهودي الملحد» (و «اليهودية الإلحادية» ) وهو مصطلح ليس له نظير في أيٍّ من العقائد التي نعرفها. وعملية التطبيع المصطلحية تُسقط كل هذا وتُسطِّحه.(1/69)
وفي محاولة منا لتجاوز هذه الصعوبات وللوصول إلى مصطلحات أكثر تركيباً وتفسيرية وشمولاً ودقة نحتنا مصطلحات تَنبُع من نموذج تحليلي جديد مركب لا يتبنى المرجعية الغربية أو الصهيونية ويستند إلى إدراك عربي إسلامي للظواهر وإلى مرجعية عربية إسلامية. وكان ديدننا في ذلك هو محاولة تشجيع العقل العربي على أن يتجاوز التلقي وينطلق إلى الإبداع من خلال تجربته الحضارية المتعيِّنة ومعجمه الحضاري الخاص كما فعل الفلاحون الفلسطينيون في نهاية القرن الماضي حينما قابلوا المستوطنين الصهاينة فلم يسموهم «الرواد» أو «الحالوتسيم» كما نفعل نحن الموضوعيين المتجردين من الذات وإنما سموهم «المسكوب» أي "أولئك الذين جاءوا من موسكو"، أي "الغرباء الغربيين" الذين جاءوا لاغتصاب الأرض، شأنهم في هذا شأن كل النفايات البشرية التي كانت تسبق جيوش الاحتلال الغربي وتمشي في ذيلها. فالفلاحون هنا نظروا بعيونهم العربية وشعروا بما شعروا به ثم سموا الأشياء بأسمائها خارج نطاق الديباجات والاعتذاريات والادعاءات عن الذات وعن الآخر. كما أننا نتصور أن المصطلحات التي تستند إلى تجربتنا التاريخية الحية ستتضمن جوانب من الواقع آثر الغربيون والصهاينة تجاهلها، عن وعي أو غير وعي، ولذا ستكون مصطلحاتنا أكثر تفسيرية. وكون مصطلحاتنا تعبِّر عن ذاتيتنا العربية الإسلامية لا يعني بالضرورة أنها محصورة في هذه الذاتية لا تتجاوزها. ومن هنا إصرارنا على مقدرة هذه المصطلحات التفسيرية، رغم أنها تنطلق من ذاتيتنا. وقد عبَّر كل هذا عن نفسه من خلال المصطلحات التي استُخدمت في هذه الموسوعة في أشكال عديدة:(1/70)
1 ـ يَصدُر النموذج المركب الذي نستخدمه عن الإيمان باستقلال الإنسان عن الطبيعة، وهو ما يعني ضرورة فصل مصطلحات العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية والتزام الحذر تجاه المصطلحات التي تُستعار من عالم الطبيعة، وخصوصاً الصور المجازية العضوية التي تفترض مركزية الطبيعة/المادة. ويظهر هذا في استخدامنا لمصطلح «الإنسان الطبيعي» في مقابل مصطلح «الإنسان الرباني» (أو «الإنسان الإنسان» ) . وحينما استخدمنا مصطلح «عضوي» ، كما في «القومية العضوية» أو «الشعب العضوي» ، بيَّنا دلالة ذلك، كما بيَّنا دلالة الصور المجازية العضوية على وجه العموم. وقد استخدمنا مصطلحي «أكثر تفسيرية وأقل تفسيرية» بدلاً من «موضوعي وذاتي لنفس السبب وهو ما نوضحه بإسهاب في المدخل المخصص للموضوع.
2 ـ يَصدُر النموذج المركَّب عن الإيمان بوجود ثنائية أساسية في الكون (الإنسان والطبيعة) تتبدَّى في حالة اللغة من خلال ثنائية الدال والمدلول، أي ثنائية المصطلح والمفهوم الكامن وراءه والاستقلال النسبي للواحد عن الآخر. وهذا يجعل من الممكن مراجعة المصطلحات عن طريق تفكيكها والوصول إلى مرجعيتها الكامنة (كمونية أم متجاوزة ـ واحدية أم ثنائية؟) . وقد قمنا بمناقشة معظم المصطلحات المتداولة في حقل الدراسات اليهودية والصهيونية وبيَّنا عدم كفاية الكثير منها وتحيزها ثم طرحنا مصطلحاتنا الجديدة.(1/71)
ومن المصطلحات المستخدَمة في هذه الموسوعة كلمة «ديباجة» ، وهي كلمة يمكنها في تصوُّرنا التعبير عن المسافة التي تفصل الدال عن المدلول. فالديباجة " تُضاف " إلى النص فيمكن أن توضحه، ويمكن أن تُخفي معانيه، ويمكن أن تبرره عن حق أو عن باطل. وقد استخدمنا هذا المصطلح لنشير إلى الصهيونيات كافة، فنقول «الصهيونية ذات الديباجة المسيحية» بمعنى أنها صهيونية تدَّعي أن لها أسساً مسيحية وهي في واقع الأمر ليست كذلك، كما نقول «الصهيونية ذات الديباجة الديموقراطية» فهي صهيونية تدَّعي الديموقراطية، ولكنها تظل صهيونية تلتزم بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.
3 ـ تفرز النماذج الاختزالية تفسيرات شاملة نهائية مغلقة، ومن ثم فالمصطلحات النابعة من هذه النماذج تتسم بالانغلاق والطموح إلى الشمول الكامل واليقين التام. أما النماذج التحليلية المركبة فهي تؤدي إلى ظهور مصطلحات منفتحة ذات مقدرة تفسيرية معقولة ولا تتسم بالتماسك العضوي الصلب، ولذا فهي قادرة على رصد الأجزاء في علاقتها بالكل، دون أن يذوب الجزء في الكل، وترصد العام والخاص دون أن تتجاهل أياً منهما. وهي مصطلحات منفتحة قابلة للتعديل ولا تطمح للوصول إلي مستوى من الدقة واليقينية يقترب من المستوى الذي يتوهم البعض أن بإمكانه الوصول إليه في العلوم الطبيعية. والبناء المصطلحي ككل لا يتسم بالدقة والالتزام بالمعايير المجردة الثابتة وإنما بالتركيب. والتركيب لا يعني عدم الدقة وإنما يعني محاولة زيادة المقدرة التفسيرية عن طريق محاولة الإحاطة بأكبر عدد ممكن من المكونات المادية الواضحة للظاهرة مع إدراك وجود جوانب مجهولة لا يعرف عنها الإنسان الكثير وبعضها لا يمكن رده لقوانين المادة، ومع هذا يمكن الإشارة إليها والتعبير عنها بطرق مختلفة.(1/72)
وفي إطار النموذج المركب يتم تحديد المستوى التعميمي والتخصيصي للمصطلح ليتناسب مع الظاهرة بدلاً من محاولة الوصول إلى أعلى مستويات التعميم دائماً، فمثل هذه محاولة تنتهي بنا دائماً في عالم الجبر والهندسة والرياضة والأشياء، وهو عالم يقتل الإنسان ولا يعرف الضحك أو البكاء. ولعل مصطلح «جماعات يهودية» المركب مقابل مصطلح «اليهود» البسيط (الذي يتأرجح بشدة بين العمومية والتفرُّد) هو مَثَل على هذا، فهو مصطلح يحاول أن يشير، في ذات الوقت، إلى قدر من الوحدة وإلى قدر أكبر من عدم التجانس ويتعامل مع الخاص ( «جماعات» ) والعام ( «يهودية» ) ، ولذا فهو مصطلح دقيق لا بسبب بساطته وإنما بسبب تركيبيته. ونفس الشيء ينطبق على مصطلح «تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية» . ونحن نتحدث كذلك عن «المسألة اليهودية» بشكل عام، ثم نخصص فنقول «المسألة اليهودية في شرق أوربا» ثم نزيد في التخصيص فنقول «المسألة اليهودية في روسيا» ، وبذلك نربط بين العام ( «المسألة اليهودية» ) والخاص ( «في شرق أوربا» ) والخاص الذي يقترب من التفرُّد ( «في روسيا» ) ، نربط بينها دون أن نُغلِّب مستوى على الآخر، فالمستوى التحليلي هو الذي يحدد المصطلح المناسب لدرجة التعميم أو التخصيص.(1/73)
ونحن نشير على سبيل المثال إلى «حركة الاستنارة الغربية» و «حركة التنوير اليهودية» لنميز بين الأصل والفرع والكل والجزء والفاعل والمفعول به، فحركة الاستنارة حركة غربية قامت بتنوير أعضاء الجماعات اليهودية، ولذا فحركة الاستنارة حين تنتقل إلى صفوفهم تُصبح «حركة تنوير» . والنمط نفسه يُوجَد في مصطلح «آداب مكتوبة بالعبرية» بدلاً من مصطلح «أدب عبري» . ففي أواخر القرن التاسع عشر كان يُوجَد أدباء يكتبون بالعبرية، ولكن العبرية نفسها كانت لغة فجة جامدة، ليس لها تراث أدبي ثري، ولذا كانت المرجعية الأدبية والعاطفية والحياتية للأدباء هي التراث الأدبي للبلاد التي يعيشون فيها، ومن ثم فأدبهم هو «أدب مكتوب بالعبرية» ، ومن ثم فهناك «آداب مكتوبة بالعبرية» . أما الأدب العبري نفسه فنحن نرى أن المصطلح يمكن استخدامه ابتداءً من الستينيات بعد أن استقرت التقاليد الأدبية العبرية في إسرائيل وأصبحت من الثراء بما يكفي لإلهام الأدباء الإسرائيليين وغيرهم ممن يكتبون بالعبرية.
ويُلاحَظ أن مدلولات المصطلحات قد تتغير من مرحلة تاريخية لأخرى ومن منطقة جغرافية لأخرى، ومع هذا يظل هناك دالٌّ واحد. وهذا ما لاحظناه في مصطلح «الماسونية» إذ اكتشفنا وجود ماسونيات عديدة يُشار لها كلها باعتبارها «الماسونية» . ولذا قسمناها إلى «ماسونية ربوبية» و «ماسونية إلحادية» و «ماسونية العالم الثالث» ... إلخ.
4 ـ وفي محاولة زيادة تركيب الهيكل المصطلحي قمنا بإدخال مصطلحات جديدة تعبِّر عن مفاهيم تحليلية جديدة مثل «حوسلة» (كلمة منحوتة من صياغتنا بمعنى «يُحوِّل إلى وسيلة» ) ـ «العربي الغائب» و «اليهودي الخالص» (مفاهيم تحليلية كامنة في الخطاب الصهيوني ولم يفصح عنها لأنها تفضحه وتسبب له الحرج) ـ «الجماعة الوظيفية» (مفهوم تحليلي جديد) ـ «الإقطاع الاستيطاني» (مفهوم تحليلي جديد يستند إلى مفاهيم قديمة) .(1/74)
وقد حاولنا تفتيت بعض المصطلحات الصهيونية التي تشير إلى أكثر من ظاهرة، فاصطلاح «إسرائيل» فتتناه إلى «إسرائيل» (الدولة الصهيونية) ، و «يسرائيل» (العبرانيون بالمعنى الديني) ، و «يسرائيل (إفرايم) » (مملكة يسرائيل العبرانية) ، وحاولنا توضيح الحدود بين مصطلحات متداخلة مثل «عبراني» و «يهودي» و «إسرائيلي» و «يسرائيلي» و «صهيوني» ، واصطلاح «الصهيونيتان» هو محاولة لتفتيت مصطلح يشير إلى ظاهرتي «الصهيونية الاستيطانية» و «الصهيونية التوطينية» كما لو كانتا ظاهرة واحدة، ومن خلال التفتيت بيَّنا حدود وتاريخ تطور كل منهما (والشيء نفسه ينطبق على مفهوم «العلمانيتان» ) . ونحن نشير إلى «المسيح المخلِّص اليهودي» باعتباره «الماشيَّح» حتى نحتفظ بمسافة بين التراث الديني اليهودي والتراث الديني المسيحي.
5 ـ طورنا طريقة جديدة في التعريف نطلق عليها «التعريف من خلال دراسة الحقل الدلالي لمجموعة من المصطلحات المتداخلة المتشابكة» وتوصلنا إلى تعريف للنموذج والعلمانية والحلولية الكمونية من خلال هذه الطريقة. وهي طريقة تتسم بالتركيب، نقوم فيها باستعراض كل التعريفات المتاحة بدلاً من الإتيان بتعريف جديد ثم نحاول اكتشاف الرقعة المشتركة (النموذج الكامن) فيما بينها ونجردها، ويصبح هذا هو التعريف الجديد. كما أن تَعدُّد المصطلحات وتَنوُّعها يفرض علينا ألا نكتفي بدراسة التعريفات المعجمية الهزيلة بل نخرج من نطاق الكلمات والتعريفات لنتواصل مع الظواهر الاجتماعية والتاريخية نفسها ومن ثم يتسع نطاق عملية التعريف. وإذا كان التعريف هو النموذج النظري، فتوسيع نطاق عملية التعريف يعني دراسة الطريقة التي تمت من خلالها ترجمة هذا النموذج في الواقع، والمشاكل الناجمة عن هذا التطبيق، وهو الأمر الذي تتجاهله طريقة التعريف السائدة.(1/75)
وفي تعريفنا للصهيوني قمنا برفض كل التعريفات القائمة، ومن خلال عملية تفكيك وتحليل وصلنا إلى ما نتصور أنه الثوابت البنيوية أو المسلمات الأساسية الكامنة، ثم قمنا بعملية إعادة تركيب تهدف إلى التركيز على هذه الثوابت والمسلمات ووصلنا إلى ما سميناه «الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة» .
6 ـ نجد أن النماذج الاختزالية المغلقة تدفع بنا عن غير وعي إلى الثنائيات المتعارضة، إذ تنقسم كل الأشياء إلى سالب وموجب، قابل ورافض، ناجح وساقط، صقور وحمائم ... إلخ (كما تقول إحدى قوانين الديالكتيك) . ولعل الثنائيات المتعارضة في المصطلحات قد تسللت لنا من نماذج العلوم الطبيعية والرياضية، فنحن نميل للتحدث عن الطبيعة باعتبارها إما سالب أو موجب، وهو أمر مريح جداً، حتى إن كان غير دقيق، ولكن حينما يُنقَل هذا إلى عالم الإنسان، فإن النتيجة تكون سلبية إلى أقصى حد. ولعل هذا أحد العيوب الأساسية للخطاب السياسي العربي ولطريقته في التصنيف، وأعني سقوطه في الثنائيات المتعارضة التي استوردها من العلوم الطبيعية من خلال المراجع الأجنبية. ولكن الواقع الإنساني (بما يتضمن من ثغرات وتركيب واستمرار وانقطاع) أكثر تركيبية ورحابة وأقرب إلى قوس قزح، تتداخل فيه الألوان برغم استقلالها، لا توجد له بداية حادة ولا نهاية حادة ولا حتى وسط مطلق (رغم إمكان افتراض وجود هذه الأشياء من الناحية التحليلية) . ومع هذا، توجد نقطة تَركُّز للظاهرة يمكن أن يجتهد الإنسان في اكتشافها، ولذا فإن النموذج التركيبي يشجع على رصد الواقع من خلال متصل مستمر من المقولات المتداخلة ليست بالضرورة سالبة أو موجبة وإنما بين بين. والمقولات الوسطية عادةً ما تكون أكثر تركيباً ودلالة من المقولات المتطرفة. كما أن هذه المقولات الوسطية تُعبِّر عن نفسها من خلال مصطلحات جديدة استبعدها الصهاينة (والمعادون لليهود) تماماً، فهم يدورون في إطار ثنائيات صلبة متعارضة ساذجة. وتتضح(1/76)
المقولة الوسط المُستبعَدة في مجموعة من المصطلحات الجديدة. فبين ثنائية «الرفض اليهودي للصهيونية» و «الإذعان اليهودي لها» يوجد «التملص اليهودي» منها، وبين «العداء لليهود» و «التحيز لهم» يوجد «التحامل عليهم» و «عدم الاكتراث بهم» ، وبين ثنائية «نجاح التحديث» و «فشله» يوجد «تعثر التحديث» .
7 ـ في إطار النموذج المركب يمكن استخدام المجاز كوسيلة تعبيرية تحليلية مشروعة، فالمجاز هو اعتراف ضمني بتركيبية العالم واستحالة رده إلى عالم الطبيعة/المادة الأحادي. والمجاز ليس مجرد زخرفة وإنما هو أداة لغوية مركبة طورها الإنسان لتساعده على إدراك حالات إنسانية بعينها لا تستطيع اللغة النثرية العادية أن تحيط بها. واستخدام المجاز ليس أمراً جديداً أو غير مألوف، فنحن حين نتحدث عن «الإنسان الاقتصادي» أو «رجل أوربا المريض» نستخدم صوراً مجازية تتسم بقدر من التركيب من وجهة نظر صاحبها كما تتسم بمقدرتها التفسيرية للواقع. وقد استخدمنا المجاز أيضاً في صياغة المصطلحات، فبجوار «رجل أوربا المريض» وضعنا «رجل أوربا النهم» ، كما أن اصطلاح «التركيب الجيولوجي التراكمي» هو صورة مجازية تقف بين ثنائية العضوي والآلي، واصطلاح «العربي الغائب» هو اصطلاح يستند إلى قدر من المجاز.(1/77)
8 ـ حاولنا بقدر الإمكان الإتيان بمصطلحات تتسم بقدر من الحياد وتتجاوز التحيزات الغربية والصهيونية. فبدلاً من كلمة «يهود» أو «الشعب اليهودي» استخدمنا مصطلح «جماعات يهودية» ، وأسقطنا مصطلحات متحيزة مثل «العبقرية اليهودية» و «المؤامرة اليهودية» و «عداء الأغيار الأزلي لليهود» وهي مصطلحات تمتلئ بها كتب الصهاينة وأعداء اليهود، فكنا نتحدث عن «العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية» أو «المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية» . وبالطبع واجهنا قضية محاولة نقل وجهة نظر العدو للقارئ. وفي هذه الحالة كان علينا أن نورد المصطلح كما هو، ترجمة مباشرة ودقيقة من العبرية أو الإنجليزية أو الألمانية فـ «الفولك Volk» هو «الشعب العضوي» ، و «الجويش بيبول Jewish People» هو «الشعب اليهودي» . وقد عرَّفنا هذه المصطلحات لنبيِّن للقارئ مضمونها الأيديولوجي الصهيوني. وكلما وردت في إحدى نصوصنا فإننا ننسبها للعدو ولمرجعيته ونخلق مسافة بيننا وبينها.
9 ـ تبنينا نفس المنطق في ترجمة المصطلحات:
أ) فكلمة «إكزايل exile» الإنجليزية و «جالوت» العبرية لم نترجمها "حرفياً " إلى «منفى» أو «شتات» إذ أن هذا يعني تبني المرجعية والتحيزات الصهيونية. وكلمة «أنتي سيمتيزم anti-semitism» لم نترجمها إلى «معاداة السامية» وكلمة «هولوكوست» لم ننقلها بمنطوقها العبري. بل أشرنا للظاهرة الأولى بعبارة «انتشار الجماعات اليهودية في العالم» ، وللظاهرة الثانية بعبارة «معاداة اليهود» ، والثالثة بعبارة «الإبادة النازية لليهود» . وما فعلناه هو ما فعله الفلاحون الفلسطينيون في نهاية القرن الماضي إذ نظرنا للظاهرة ودرسناها ودرسنا المفاهيم الكامنة وراءها ثم سميناها بمصطلحات تقع خارج نطاق التحيزات الغربية والصهيونية. ولم تَرد كلمات مثل «منفى» و «جالوت» إلا في محاولة نقل وجهة نظر الآخر للقارئ العربي.(1/78)
ب) وفي بعض الأحيان كنا نترجم المصطلح إلى العربية ثم نضع المصطلح البولندي أو الألماني أو العبري بين قوسين لأن المصطلحات تُعبِّر عن ظواهر تتسم بقدرٍ عالٍ من الخصوصية: «التعجيل بالنهاية (دحيكات هاكتيس) » ـ «شال الصلاة (طاليت) » ـ «الشعب العضوي (فولك) » ـ «طبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) » .
جـ) ومع هذا هناك كلمات لم نتمكن من تطبيق هذا المنطق عليها:
* فالاختصارات على سبيل المثال (الهستدروت ـ ويزو) تم نقلها كما هي.
* بعض الاصطلاحات الأعجمية التي شاعت مثل «الكيبوتس» و «المشناه» و «الجيتو» .
* حاولنا قدر استطاعتنا استبعاد صيغة الجمع العبرية «الكيبوتسيم» ، وبدلاً من ذلك نقول «الكيبوتسات» .
د) فيما يتصل بأسماء الأعلام:
* اليهود الذي نشأوا خارج فلسطين ترجمنا أسماءهم من لغاتهم الأصلية مباشرةً «فموسى هس» هو «موسى هس» وليس «موشيه هس» و «إسحق لامدان» ليس «يتسحاق لامدان» وإنما «إسحق» وحسب.
* اليهود المولودون في فلسطين عبرنَّا أسماءهم لأن هذه هي لغتهم «فموسى ديان» هو «موشيه ديان» و «إسحق رابين» هو «يتسحاق رابين» ، ورغم أن اسم «موسى» عادةً ما يُعرَّب ( «موزيس» الإنجليزية تصبح «موسى» ) إلا أننا عبرنَّا أسماء الأعلام الإسرائيلية حتى نكون متسقين مع أنفسنا ولأن أسماءهم العبرية قد شاعت.
هـ) أدخلنا أداة التعريف العربية على المصطلحات التي لم يمكن ترجمتها مثل «الهاجاناه» ، ولكن حينما يرد المصطلح الأعجمي بين قوسين بعد الترجمة فهو يرد دون أداة التعريف.(1/79)
و) حاولنا قدر الإمكان استخدام كلمات عربية وتفعيل إمكانيات المعجم العربي (استخدام المثنى ـ النحت ... إلخ) . وحينما كانت ترد كلمة أعجمية كُتبت بالحروف اللاتينية أوردنا قبلها نطقها بالحروف العربية حتى يستطيع القارئ العربي أن يتعامل مع الكلمة بشيء من الألفة ولا تُولَد في نفسه الرهبة. ومع أنه لا توجد قواعد محددة لطريقة كتابة نطق الكلمات الأعجمية بالعربية، فقد أخذنا بهذه الطريقة من باب الدعوة إلى أن يُفتح باب الاجتهاد في هذه الناحية.
ز) لكن مذهبنا في تناول الكلمات الأجنبية لم يكن يعني بالضرورة الانغلاق، فحينما وجدنا مثلاً صعوبة في توليد كلمة لتقابل كلمة «إثنيك ethnic» الإنجليزية عرَّبنا الكلمة واستخدمنا كلمة «إثني» جنباً إلى جنب.
ح) لكن كل هذا لا يعني بطبيعة الحال أننا رفضنا كل الاصطلاحات والتعريفات القائمة، فقد أخذنا بكثير منها ولكن بعد أن وضحنا بُعدها المعرفي والنهائي.
حدود الموسوعة
الحديث عن إنجازات الموسوعة أمر سنتركه للمفكرين والنقاد والقراء. ومع هذا، قد يكون من المفيد أن نشير إلى ما تحاول الموسوعة إنجازه وما لم تحاوله، حتى يستطيع القارئ تحديد مستوى توقعاته منها وحتى تمكن محاكمتها من هذا المنظور وداخل الحدود التي وضعتها لنفسها.
1 ـ الموسوعة ليست موسوعة معلوماتية، ومن ثم فهي لا تهدف إلى حشد أكبر قدر ممكن من المعلومات. ورغم أنها تقدِّم قدراً كبيراً من المعلومات يفوق أحياناً ما يُقدَّم في الموسوعات المعلوماتية، إلا أن كم المعلومات ليس همها الأساسي، كما أنها لا تزعم أنها ستقدِّم للقارئ " آخر ما تم التوصل إليه " في حقل الدراسات التي تُعنَى باليهودية والصهيونية والجماعات اليهودية مع أن مؤلفها قد استفاد بكل ما أتيح له من دراسات، ومن ذلك أحدثها.(1/80)
كما أنها لا تحاول أن تقدِّم عرضاً تاريخياً للظواهر التي تناولتها، رغم تأكيدها البُعد التاريخي، ورغم رفضها أن تُنزَع الظواهر من سياقها التاريخي. وهي لا تزعم لنفسها الشمول. فعلى سبيل المثال لم تضم الموسوعة كل الأعلام اليهود، وإنما حاولت تقديم أهمهم مع التركيز على الجوانب النماذجية من حياتهم. كما أن بعض الشخصيات الهامشية (من منظور النماذج السائدة) تم التركيز عليها بسبب أهميتها النماذجية. وحينما تعاملنا مع النظام السياسي الإسرائيلي، لم نقم بتغطيته تغطية شاملة بكل عناصرة، بل ركزنا وحسب على بعض الموضوعات الأساسية.
2 ـ الموسوعة، قبل كل شيء، دعوة إلى إعادة التفكير في طرق التفكير حتى نُحسِّن من أدائنا التنظيري والتفسيري الذي يجعلنا ندرك الواقع بشكل أكثر تركيباً دون الاستنامة للمقولات الاختزالية العامة الجاهزة. وتطرح الموسوعة فكرة النماذج التحليلية باعتبارها طريقة أكثر كفاءة من الطرق الأخرى في عملية رصد الواقع ودراسته وفي تنظيم المعلومات وتصنيفها وفي كيفية استخلاص النتائج والتعميمات منها، أي أن الموسوعة لا ترفض المعلومات ولا تبدأ من العدم (فهذا مستحيل) وإنما ترى ضرورة البحث عن المعلومات والتعامل معها شريطة عدم الاستسلام لها وتَوهُّم أن المعلومات هي المعرفة. ولو لم تكن المعلومات أساسية لاكتفى المؤلف منطقياً بالمجلد الأول الذي يوضح فيه نماذجه التحليلية.
3 ـ حين تناولت الموسوعة الدولة الصهيونية تعاملت مع الأنماط المتكرة والثوابت الإستراتيجية وحسب وركزت على البُعد الصهيوني للظواهر الإسرائيلية وعلى تلك الظواهر الإسرائيلية التي استقرت نوعاً ما وأصبحت ذات طابع بنيوي مثل «عنصرية المجتمع الإسرائيلي» باعتباره مجتمعاً استيطانياً إحلالياً، ووظيفية الدولة الصهيونية.(1/81)
4 ـ لا تكتفي الموسوعة بتقديم شرح منهج محدَّد (دراسة الواقع من خلال نماذج تفسيرية) وإنما تحاول أن تُقدِّم دراسة حالة: اليهود واليهودية والصهيونية وبعض جوانب التجمُّع الصهيوني. في هذا الإطار حاولت الموسوعة أن تقدم تاريخاً عاماً للعقيدة اليهودية والحركة الصهيونية ودراسة متكاملة على مستوى عالمي (زماني ومكاني) يضم الصين والهند وغرب أوربا وشرقها، قبل عصر النهضة وبعدها؛ وهي دراسة تبرز التنوع وعدم التجانس بين الجماعات اليهودية.
5 ـ تحاول الموسوعة أن تقدم الظواهر اليهودية من خلال مجموعة من النماذج والسياقات (التاريخية ـ الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ الدينية) المختلفة التي تساهم في تعريف المفاهيم والمصطلحات السائدة تعريفاً أكثر تفسيرية وتبرز جوانبها الإشكالية وتبتعد بذلك عن الواحدية السببية التي تُفسِّر كل الظواهر في إطار سبب واحد (مادي عادةً) . واعتراضنا على المادية ليس بسبب ماديتها، فهناك من الظواهر ما لا يمكن تفسيره إلا من خلال نماذج مادية، وإنما بسبب زعمها الشمولية التفسيرية التي تؤدي إلى الاختزالية والواحدية. فعلى سبيل المثال، حينما تتعرض الموسوعة لظاهرة مثل يهود الاتحاد السوفيتي فإنها تفعل ذلك من خلال عدة مداخل عن تاريخ اليهود وتَوزُّعهم الوظيفي وأعدادهم وأسباب هجرتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية والدينية في كلٍّ من روسيا القيصرية وروسيا السوفيتية والمشاكل المادية والمعنوية التي قابلوها. كما توجد عدة مداخل أخرى عن أنواع يهود الاتحاد السوفيتي (القراءون ـ الكرمشاك ـ الجورجيون ـ يهود اليديشية ـ يهود الجبال ـ يهود بخارى.. إلخ) . وتضم الموسوعة أيضاً مداخل عن موقف ماركس وإنجلز والبلاشفة من المسألة اليهودية، وعلاقة اليهود بالفكر الاشتراكي، وتطور الرأسمالية الغربية، وتطور العلمانية.(1/82)
6 ـ تقوم الموسوعة باستخدام النماذج التحليلية. والنماذج هي ثمرة عملية تجريد بحيث يمكن النظر للظاهرة في علاقتها بظواهر أخرى مماثلة. وهذه قضية في غاية الأهمية في حالة دراسة اليهود، إذ يمكن من خلال النماذج التحليلية الخروج بالظواهر اليهودية من جيتو التفرُّد (الصهيوني المعادي لليهود واليهودية) بحيث يتم ربطها بظواهر مماثلة. فاشتغال اليهود بالتجارة في الحضارة الغربية يتم ربطه باشتغال الصينيين بالتجارة في جنوب شرق آسيا، وظاهرة اليهود المتخفين (المارانو) في شبه جزيرة أيبريا يتم ربطها بظاهرة المسلمين المتخفين (الموريسكيين) . ونحن بذلك لا نَسقُط في أية عنصرية تفسيرية أو فعلية، كما أننا نبيِّن بذلك أن اليهود بشر وأن مفهوم الإنسانية المشتركة مفهوم له مقدرة تفسيرية.
7 ـ طوَّرت الموسوعة مفهوم الجماعات الوظيفية باعتبارها مفهوماً تحليلياً مركباً، كما بيَّنت أهمية الدور الوظيفي للجماعات اليهودية وإدراك الجماعات اليهودية باعتبارها وظيفة تُؤدَّى ودوراً يُلعَب داخل مجتمع الأغلبية. ومن خلال هذا المفهوم، أمكن لنا أن ندرك الاستمرارية بين المفهوم الغربي لليهود باعتبارهم جماعات وظيفية وبين الرؤية الغربية للدولة الصهيونية باعتبارها دولة وظيفية (قاعدة للاستعمار الغربي وحليفاً إستراتيجياً له) . وأبرز لنا هذا المفهوم التحليلي الأهمية التاريخية لتجربة أعضاء الجماعات اليهودية في بولندا في إطار الإقطاع الاستيطاني.
8 ـ طوَّرت الموسوعة نموذج الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة كنموذج تفسيري شامل، وبيَّنت العلاقة بين العلمنة الشاملة والإمبريالية وأثر كل هذا على الجماعات الوظيفية في الغرب والعالم.(1/83)
9 ـ طوَّرت الموسوعة نموذج الحلولية الكمونية الواحديةكنموذج تفسيري. وفي ضوء هذا، أعدنا كتابة تاريخ اليهودية وتاريخ أعضاء الجماعات اليهودية وبيَّنا الأهمية المحورية لظهور القبَّالاه (باعتبارها نسقاً غنوصياً حلولياً كمونياً متطرفاً) .
10 ـ أبرزت الموسوعة التمييز البديهي بين اليهود واليهودية، أي التمييز بين المثالي والمعياري من جهة، والفعلي والمتحقق من جهة أخرى؛ بين أحلام البشر وأشواقهم من جهة، وأدائهم وواقعهم من جهة أخرى.
11 ـ تميِّز الموسوعة بين التاريخ المقدَّس الذي ورد في العهد القديم والتاريخ الزمني الذي يعيش في إطاره أعضاء الجماعات اليهودية. وانطلاقاً من هذا، بيَّنا أنه لا يوجد تاريخ يهودي عام وعالمي مستقل عن تواريخ البشر. ومن ثم، حاولت الموسوعة أن تُعيد كتابة تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية بطريقة أكثر تركيبية وتفسيرية، ومن ثم أكثر إنسانية عما كُتب من تواريخ اختزالية. وحاولنا أن نُبيِّن أنه لا يوجد تاريخ ليهود مصر بمعزل عن تاريخ مصر، ولا تاريخ ليهود بابل بمعزل عن تاريخ بابل، ولا تاريخ ليهود الولايات المتحدة بمعزل عن تاريخ بلدهم.
12 ـ تُبيِّن الموسوعة أنه لا يوجد تاريخ للصهيونية مستقل عن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، ولا تاريخ للصهيونية غير اليهودية منفصل عن تاريخ الصهيونية بين اليهود، ولا تاريخ للصهيونية منفصل عن تاريخ العداء لليهود، ولا تاريخ للفكر اليهودي الغربي بمعزل عن تاريخ الفكر الغربي. ورغم إدراكنا للوحدة النهائية، إلا أننا طوَّرنا مفهوماً للوحدة الفضفاضة لا يَجُبُّ استقلالية كل ظاهرة عن الأخرى.(1/84)
13 ـ حاولت الموسوعة ضبط المستوى التعميمي والتخصيصي، فقامت بتأكيد البُعد الإنساني العام في الظواهر اليهودية، ذلك البُعد الذي تحرص الدراسات الصهيونية والمعادية لليهودية على إخفائه، وحاولت أن تبتعد عن الأيقنة وتأكيد الخصوصية والتفرُّد (الذي تحرص الدراسات الصهيونية والمعادية لليهودية على إبرازه) . ولكنها، في الوقت نفسه، لم تسقط في التعميم الذي يُفقد الظاهرة ملامحها وقسماتها ومنحناها الخاص. وقد بيَّنا أن هذا الخطاب التحليلي السائد في تلك الدراسات التي تُعنَى باليهود واليهودية والصهيونية يتأرجح بين التعميم الشديد والتخصيص الشديد. فالإبادة النازية لليهود إن هي إلا تعبير عن نمط متكرر عام هو العداء الأزلي لليهود من قبَل الأغيار. ويمكن أيضاً المغالاة في التخصيص، فيُقال إن الإبادة النازية لليهود إن هي إلا جريمة ألمانية خالصة ضد اليهود وحدهم. وذهبنا في هذا إلى أن الإبادة النازية لحظة نماذجية فريدة ولكنها تعبير عن نمط عام هو استخدام الإبادة (بصورة عامة) من قبَل التشكيل الإمبريالي الغربي كآلية إمبريالية لإعادة صياغة العالم ونقل الفائض السكاني الغربي خارج القارة الأوربية وإحلاله محل العناصر البشرية التي تتم إبادتها. ولذا فإن إبادة اليهود على يد النازيين تشبه إبادة سكان أمريكا الأصليين على يد المستوطنين البيض ولا تختلف كثيراً عن المشروع الصهيوني الذي كان يهدف إلى نقل الفائض السكاني اليهودي خارج القارة الأوربية وتوطينه في فلسطين ليحل محل الفلسطينيين الذين يتم طردهم وإبادتهم أحياناً. ومع هذا، فالإبادة النازية لها خصوصيتها إذ أنها عملية الإبادة الوحيدة التي تمت داخل أوربا وليس خارجها، على عكس عمليات الإبادة الأخرى. كما أنها تمت بمنهجية صارمة لم تتسم بها عمليات الإبادة الأخرى.(1/85)
14 ـ من خلال نموذج الحلولية، تحاول الموسوعة أن تطرح أساساً جديداً لعلم مقارنة الأديان يبتعد عن الرصد البراني للشعائر والعقائد ويحاول أن يصل للنماذج الكامنة التي تبين الاختلاف حين يُظَن الاتفاق، والاتفاق حين يُظَن الاختلاف. ففي ضوء نموذج الحلولية الكمونية أمكن إعادة تحديد علاقة اليهودية بالمسيحية، كما أمكن إعادة تعريف العلاقة بين المسيحية واليهودية والإسلام بحيث يتضح التقارب بين المسيحية والإسلام (والتباعد بين الإسلام واليهودية) على عكس ما هو مُتصوَر في كثير من الدراسات. وتحاول الموسوعة تفسير ظاهرة الإصلاح الديني (وما صاحبها من حركات صوفية متطرفة) باعتبارها تعبيراً عن تزايد معدلات الحلولية الكمونية ومن ثم تصاعد معدلات العلمنة. وبهذه الطريقة، أمكن الربط بين البروتستانتية والإنسانية الهيومانية رغم تعارضهما الظاهر.
15 ـ ارتبط بهذا تطوير مصطلحات جديدة تعبِّر عن مفاهيم جديدة. فبدلاً من «الصهيونية العالمية» نتحدث عن «الصهيونيتين (التوطينية والاستيطانية) » و «العلمانيتين (الجزئية والشاملة) » . ويُلاحَظ أن المصطلحات المُستخدَمة في حقل الدراسات التي تُعنَى باليهود واليهودية والصهيونية تُجسِّد التحيزات الصهيونية والغربية، ولذا فقد تم إحلال مصطلحات أكثر حياداً محلها؛ فتم مثلاً استبعاد مصطلح مثل «الشعب اليهودي» الذي يفترض أن اليهود يشكلون وحدة عرقية ودينية وحضارية متكاملة (الأمر الذي يتنافى مع الواقع) ليحلّ محله مصطلح «الجماعات اليهودية» ، وبدلاً من كلمة «الشتات» استُخدمت العبارة المحايدة «أنحاء العالم» ، وبدلاً من «التاريخ اليهودي» تشير الموسوعة إلى «تواريخ الجماعات اليهودية» . والمصطلحات البديلة ليست أكثر حياداً وحسب وإنما أكثر دقة وتفسيرية.(1/86)
16 ـ حاولت الموسوعة أن توضح أن المؤشرات لا تشير بالضرورة إلى ما هو مُتَعارَف عليه في الأوساط العلمية. فهجرة يهودي إلى إسرائيل ليست بالضرورة تعبيراً عن انتمائه الصهيوني، وبناء معبد يهودي لا يعني بالضرورة تزايد معدلات التمسك بالعقيدة اليهودية.
17 ـ والعناصر السابقة، رغم أنها مرتبطة أساساً بحقل الدراسات الخاصة باليهود واليهودية، إلا أن تعميمها على حقول معرفية أخرى أمر ممكن، فقضية النماذج الاختزالية في مقابل النماذج المركبة يواجهها كل الدارسين في حقل الدراسات الإنسانية.
18ـ من خلال نموذج الحلولية، حاولت الموسوعة أن تُلقي أضواء جديدة على تاريخ العلمنة والعلمانية الشاملة وعلى تَطوُّر الحضارة الغربية الحديثة (من التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة) ودور الترشيد (في الإطار المادي) . وطرحت الموسوعة فكرة التراكم الإمبريالي بدلاً من التراكم الرأسمالي.
19ـ تحاول الموسوعة أن تبيِّن علاقة مفهوم الحلولية بمقولة التجاوز والإنسانية المشتركة (باعتبار الإنسان مقولة متجاوزة للطبيعة/المادة رغم أنها تتبدى من خلالها، وباعتبار ثنائية الإنسان والطبيعة صدى لثنائية الخالق والمخلوق وتعبير عن نموذج التوحيد) . كما تحاول أن تبيِّن الدلالات المعرفية والإمكانات البحثية لهذه العلاقة.
20ـ تحاول الموسوعة أن تشرح مفهوم المسافة (الحيز الإنساني) التي تفصل الخالق عن المخلوق (والدال عن المدلول، والكل عن الجزء، والمطلق عن النسبي، والنموذجي عن الواقع) . وأن تطرح حلاًّ لمشكلة القيمة في العلوم الاجتماعية؛ فالقيمة الأخلاقية معيارية ومثالية يحتكم إليها الفاعل الإنساني ولكنها لا تتجسد بالضرورة في الواقع، ومن ثم فهي لا تخضع للبحث الإمبريقي رغم تبدِّيها في سلوك الناس وطموحاتهم وأشواقهم.(1/87)
21 ـ حاولت الموسوعة أن تطرح طرقاً جديدة للتعريف وإعادة التعريف: «التعريف من خلال دراسة الحقل الدلالي لمجموعة من المصطلحات المتداخلة المتشابكة» و «التعريف من خلال التفكيك وإعادة التركيب في ضوء الثوابت البنيوية والمسلمات الكامنة» .
22 ـ بل تحاول الموسوعة توسيع نطاق علم الاجتماع من خلال ربطه بمستويات جديدة من الوعي والنشاط الإنساني، بحيث لا يُستبعَد المجهول ويبقى المعلوم، ولا يُستبعَد المعرفي (الكلي والنهائي) ويبقى السياسي والاقتصادي والملموس، ولا يُستبعَد الإنساني المركب ويبقى المادي الواحدي.
23 ـ تحاول الموسوعة أن تستعيد الفاعل الإنساني وتركيبيته، وأحد العناصر الأساسية هنا هو الإنسانية المشتركة (كبديل لمفهوم الطبيعة البشرية الجامد والإنسانية الواحدة) . وتقترح الموسوعة إمكانية توليد معيارية من هذه الإنسانية المشتركة وتذهب إلى أن رفض العلوم الإنسانية الغربية لمفهوم الإنسانية المشتركة والثوابت الإنسانية العالمية أدَّى بها إلى السقوط في النسبية والسيولة والعمومية وأخيراً العدمية.
24 ـ تطرح هذه الموسوعة نفسها كمحاولة أولية لإعادة تأسيس أحد حقول الدراسة (دراسة اليهود واليهودية والصهيونية) انطلاقاً من رؤية عربية إسلامية. ونحن نذهب إلى أنه يمكن محاكاتها أو الاستفادة منها في محاولة تأسيس علوم إنسانية عربية بشكل منهجي. والموسوعة، كشكل من أشكال التأليف، تحاول تغطية المصطلحات والمفاهيم والأعلام في تخصص ما. وتحاول الموسوعة (في جانبها التفكيكي) أن تقوم بتفكيك المفاهيم السائدة، وهي في أغلب الأحيان مفاهيم غربية، ثم تحاول بعد ذلك (في جانبها التأسيسي) تأسيس نماذج تحليلية تتفرع عنها مفاهيم ومصطلحات نابعة من التجربة العربية والإسلامية، ومن زاوية رؤيتنا.(1/88)
25 ـ يمكن القول بأن الموسوعة ككل هي موسوعة كتبها مؤلف يشعر أن الحداثة الغربية (التي تدور في إطار العقلانية واللاعقلانية المادية والعلمانية الشاملة) قد أدخلت الجنس البشري بأسره في طريق مسدود. وتطرح الموسوعة أسئلة معرفية (كلية ونهائية) : ماذا يحدث للإنسان في عالم بدون إله؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم نسبي لا توجد فيه ثوابت ولا مطلقات ولا قيم عالمية؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم توجد فيه حقائق بلا حقيقة ولا حق؟ وما هو مصير الإنسان في عالم انفصل فيه العلم عن القيمة وعن الغائية الإنسانية؟. واليهودي الذي تم تهجيره إلى إسرائيل تحت مظلة الإمبريالية الغربية وتم تحويله إلى شخصية داروينية شرسة حتى يتسنى توظيفه في خدمتها، والذي تتم إبادته في ألمانيا النازية بطريقة منهجية، وتم دمجه في الحضارة الاستهلاكية حتى لم يبق من ماضيه وهويته سوى القشور وتم قمعه وترشيده من الداخل والخارج: أليس هذا اليهودي مثلاً صارخاً لما يحدث للإنسان في عصر الحداثة والعقلانية واللاعقلانية المادية؟ ومن هنا، فإن الموسوعة تطالب بالبحث عن حداثة جديدة لا تنتهي إلى موت الإنسان والطبيعة بعد أن أعلنت بصلف وخيلاء موت الإله.
26ـ ومع أن الموسوعة حاولت إنجاز الكثير، إلا أن ما تقدمه هو أساساً برنامج بحثي وطرح لأسئلة وإثارة لإشكاليات، أي أنها ورقة عمل بشأن الموضوعات التي تناولتها أكثر من كونها إجابات محدَّدة. وقد حاولنا أن نُحدِّد بعض معالم الإجابات وأن نوضح المنهج الذي استخدمناه في الوصول إلى هذه الإجابات. ومع هذا، تظل الموسوعة في نهاية الأمر جدول عمل، أي اجتهاداً أولياً.(1/89)
وبقية مداخل هذا المجلد هو محاولة توضيح الإطار النظري الذي تنطلق منه الموسوعة فيتناول الجزء الأول الأساس الفلسفي، فنتناول المفردات الأساسية التي نستخدمها انطلاقاً من نموذجنا التحليلي، وما نسميه «إشكالية الإنساني والطبيعي والموضوعي والذاتي» . أما الجزء الثاني فيتناول النموذج كأداة تحليلية. وتتناول بقية الأجزاء (الثاني والثالث والرابع) النماذج الأساسية الثلاثة المستخدمة في الموسوعة: الحلولية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعات الوظيفية. وبقية مجلدات الموسوعة هي محاولة لتطبيق هذا الإطار النظري على حالة محددة هي حالة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل.
الباب الثانى: مفردات
المرجعية النهائية، المتجاوزة والكامنة
كلمة «مرجع» من «رجع» بمعنى «عاد» . يُقال «رجع فلان من سفره» أي «عاد منه» ، و «المرجع» هو «محل الرجوع» وهو «الأصل» . وفي التنزيل العزيز "إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون" (المائدة 105) . ومن هنا كلمة «مرجعية» التي تعني الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها (فهي ميتافيزيقا النموذج) . والمبدأ الواحد الذي تُردّ إليه كل الأشياء وتُنسَب إليه ولا يُردّ هو أو يُنسَب إليها. ومن هنا، يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته الذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه. وعادةً ما نتحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء. ويمكننا الحديث عن مرجعيتين: مرجعية نهائية متجاوزة ومرجعية نهائية كامنة.
1 ـ المرجعية النهائية المتجاوزة:(1/90)
المرجعية النهائية يمكن أن تكون نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها وهي ما نسميها «المرجعية المتجاوزة» (للطبيعة والتاريخ والإنسان) . هذه النقطة المرجعية المتجاوزة، في النظم التوحيدية، هي الإله الواحد المنزَّه عن الطبيعية والتاريخ، الذي يحركهما ولا يحل فيهما ولا يمكن أن يُردَّ إليهما. ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تُختَزل ولن تُلغى. فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرَّمه واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، أي أن الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الأمانة والاستخلاف. كل هذا يعني أن الإنسان يحوي داخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز ورفض الذوبان في الطبيعة، ولذا فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي. كما أنه يعني أن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه. ومع هذا فبإمكان النظم الإنسانية الهيومانية (التي لا تعترف بالضرورة بوجود الإله) أن تجعل الإنسان مركز الكون المستقل القادر على تجاوزه ومن ثم تصبح له أسبقية على الطبيعة/المادة.
2 ـ المرجعية النهائية الكامنة:(1/91)
يمكن أن تكون المرجعية النهائية كامنة في العالم (الطبيعة أو الإنسان) ، ومن هنا تسميتنا لها بالمرجعية الكامنة. وفي إطار المرجعية الكامنة، يُنْظر للعالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي. ولذا، لابد أن تسيطر الواحدية (المادية) ، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة يتم محوها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء، وضمن ذلك المركز الكامن نفسه (ومن هنا إشارتنا أحياناً إلى «المرجعية النهائية الكامنة» باعتبارها «المرجعية الكامنة المادية» أو «المرجعية الواحدية المادية» ) . ونحن نذهب إلى أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، ومن هنا إشارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية.
وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فإن الإنسان كائن طبيعي وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي، وإنما هو مُستوعَب تماماً فيه، ويسقط تماماً في قبضة الصيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية.
ويذهب دعاة المرجعية المادية الكامنة إلى أن رغبة الإنسان في التجاوز رغبة غير طبيعية، ومن ثم غير إنسانية (باعتبار أن الطبيعي والإنساني مترادفان) ، وإلى أن الأجدر بالإنسان أن يذوب في الكل الطبيعي بحيث يظهر الإنسان الطبيعي. وبهذا المعنى، فإن المرجعية الكمونية المادية تشكل هجوماً على الإنسان ككيان حر مستقل عن الطبيعة/المادة وعلى مركزيته في الكون.(1/92)
وقد وُصفت الوثنية بأنها محاولة إنزال الآلهة من السماء إلى الأرض (وإدخالها في نطاق المرجعية المادية الكامنة) بحيث تخضع لقوانين الأرض الطبيعية/المادية، ومن ثم يخضع الإنسان هو الآخر لهذه القوانين، إذ كيف يمكنه تجاوزها إذا كانت الآلهة نفسها خاضعة لها؛ مستوعَبة تماماً في الواحدية المادية الكونية؟ (والنزعة الوثنية لا تختلف في هذا عن النزعات العلمانية المادية الطبيعية التي ترجع كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر أي إمكانية للتجاوز الإنساني) . أما الديانات التوحيدية، فهي نوع من محاولة الصعود بالإنسان إلى الإله في السماء (وإدخاله في نطاق المرجعية المتجاوزة) . فالإنسان، بما فيه من رغبة في التجاوز، له قانون خاص ووجود مستقل عن المادة وعن الطبيعة. ومن ثم تُطرح أمام الإنسان إمكانية أن يعبِّر عما بداخله من طاقات غير مادية (ربانية إن شئت) ، وأن يتجاوز قوانين الطبيعة والمادة ويحقق القانون الإلهي (أو الجوهر الإنساني) المختلف عن القانون المادي الطبيعي.
الرد (رد إلى)
«ردَّ الشيء» أي «حوَّله من صفة إلى صفة» ، و «ردَّ الشيء إلى الشيء» «أرجعه إليه» . والرد في اصطلاح الفلاسفة إرجاع الشيء إلى ما نتصور أنه عناصر أساسية وتخليته من العناصر الغريبة عنه. كأن نقول "رد المذهب إلى نقاطه الأساسية". وفي إطار المرجعية المادية الكامنة يتم رد كل الظواهر إلى المركز الكامن في الكون وهو الطبيعة/المادة وهو ما يؤدي إلى هيمنة الواحدية المادية، على عكس المرجعية المتجاوزة إذ لا يمكن رد الإنسان في كليته إلى شيء كامن في الكون، فهو يحوي داخله النزعة الربانية. وأية عملية تفسيرية تحليلية تتضمن عملية رد، إذ تُردَّ التفاصيل الكثيرة الظاهرة إلى الوحدة الكامنة غير الظاهرة.
المسافة والحدود والحيز الإنسانى(1/93)
«المسافة» هي «البُعْد» وهي أيضاً «المساحة» ، وقد تُستخدَم في الزمان فيُقال «مسافة يوم أو شهر» . والمسافة مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الحدود. والحد في اللغة يعني «المنع والفصل بين الشيئين» ، و «منتهى كل شيء» هو «حده» (المعنى الأنطولوجي) . والحد هو أيضاً تأديب المذنب كقولنا: «طُبِّقَ عليه الحد» ، و «حدود الله تعالى» هي الأشياء التي بيَّن حرامها وحلالها (المعنى الأخلاقي) . و «الحد» هو «التعريف الكامل» أو «تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه» ، و «حد الشيء» هو «الوصف المحيط بمعناه المميَّز له عن غيره» (المعنى الدلالي) . وأخيراً «حدّ الشيء» هو مصدر تميُّزه وهويته (المعنى النفسي) . فكأن الحدود مرتبطة كل الارتباط بوجود الشيء وبمضمونه الأخلاقي وبإمكانية معرفته ودلالته وهويته.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل العقائد التوحيدية) نظم تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز ومخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. ولذا، تظل المسافة والحدود قائمة بين الخالق والمخلوق لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ومن هنا، لا يمكن في الإطار التوحيدي أن "يصل" المتصوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ولذا، فإن رسول الله نفسه (صلى الله عليه وسلم) لم "يصل"، بل ظل قاب قوسين أو أدنى في أقصى حالات الاقتراب. وهذا ما سماه أحد الفقهاء «البينية» ، أي وجود حيز "بين" الخالق والمخلوق.
ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أنه له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ومن ثم فهو كائن حر مسئول.(1/94)
والمسافة بين الخالق والمخلوق يمكن أن تصبح ثغرة أو هوة إن ابتعد المخلوق عن خالقه وانعزل عنه ونسي خصائصه الإنسانية (المرتبطة بأصله الرباني) التي تميزه عن بقية الكائنات. ولكن إن حاول الإنسان التفاعل مع الإله وتذكَّر أصوله وأبعاده الربانية التي تميزه عن الكائنات الطبيعية، فإن المسافة تتحول إلى مجال للتفاعل ويصبح الإنسان نفسه كائناً مُستخلَفاً في الأرض يشغل المركز، وذلك بسبب القبس الإلهي داخله وبسبب تفاعله مع الخالق.
أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة (مثل النظم الحلولية) ، يحاول المخلوق، أي الإنسان، أن يضيِّق المسافة بينه وبين الخالق تدريجياً إلى أن يصل إلى الإله ويلتصق به ثم يتوحد معه، وبذا يصل إلى مرحلة وحدة الوجود حين يصبح المركز كامناً في الإنسان وفي كل المخلوقات وفي العالم المادي، إذ تُلغى المسافة بين الخالق ومخلوقاته ويختفي الحيز الإنساني ويصبح الخالق ومخلوقاته واحداً، ويُردُّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد فتُلغى المسافات وتُسد الثغرات، ويصبح الكون كياناً عضوياً صلباً (أو ذرياً مفتتاً) تسوده الواحدية المادية. وهنا يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة ليس له ما يميِّزه عن بقية الكائنات، وتضيع الحدود بين الخير والشر وبين الدال والمدلول.
المركز(1/95)
كلمة «المركز» من فعل «ركز» ، ويقال " ركز السهم في الأرض " بمعنى «غرزه» و «ركز الله المعادن في الأرض أو الجبال» بمعنى «أوجدها في باطنها» . و «المركز» هو «المقر الثابت الذي تتشعب منه الفروع» ، و «مركز الدائرة» هو نقطة داخل الدائرة، تتساوى الشعاعات الخارجة منها إلى المحيط. ونحن نستخدم كلمة «مركز» في هذه الموسوعة بمعنى: مطلق مكتف بذاته، لا يُنسَب لغيره، واجب الوجود، لا يمكن أن تقوم رؤية للعالم بدونه. وفي إطار المرجعية المتجاوزة، فإن مركز الكون متجاوز للكون منزَّه عنه، أما في إطار المرجعية المادية الكامنة فمركز الكون كامن فيه. والمركز عادةً موضع الكمون والحلول أو النقطة التي تتحقق فيها أعلى درجاته، ومن ثم فإن العنصر (المادي) الذي يشغل المركز في المنظومات الكمونية تكون له أسبقية على بقية العناصر.
المبدأ الواحد(1/96)
«المبدأ الواحد» عبارة تتواتر في هذه الموسوعة وتشير في المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) إلى مصدر وحدة الكون وتماسكه وهو القوة الدافعة التي تضبط وجوده، قوة سارية في الأجسام، كامنة فيها، وتتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد. وهي النظام الضروري الكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضاً، لا يمنحه أو أي كائن آخر أية أهمية خاصة. هذه القوة قد يجسدها الموجود ويصل إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها هي أيضاً قوة غير متعينة لا تكترث بالتمايز الفردي. وهذه القوة يسميها دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله» ، بينما يطلق عليها دعاة وحدة الوجود المادية «قوانين الحركة» ، أو أية عبارات أخرى. وحيث إن المبدأ الواحد كامن في الظواهر الطبيعية فنحن نشير إليه أحياناً باعتباره «المبدأ المادي الواحد» . والمبدأ الواحد هو عادةً مركز النسق، وهو يأخذ أشكالاً مختلفة أهمها «الطبيعة/المادة» ، وتنويعات أخرى عليها نسميها «المطلقات العلمانية» .
المعنى والهدف والغاية(1/97)
«المعنى» هو «ما يُقصَد بشيء» ، و «معنى الكلام» فحواه ومضمونه وما يدل عليه القول أو اللفظ أو الرمز أو الإشارة. ومن هنا تُستخدَم عبارة «معنى الوجود» أو «معنى الحياة» ، أي أن الوجود له هدف وغاية (باليونانية: تيلوس) ، و «الغائية» هي الإيمان بأن العالم له معنى وغاية (وعكسها هو «العدمية» ) ، وهذا ما تفترضه الديانات التوحيدية ("ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك" آل عمران 191) فإن كان للوجود معنى، فحياة كل إنسان لها معنى، ولا يمكن تصوُّر معنى لعالم تسود فيه الصدفة، وتتم عملية خلقه بالصدفة المحضة، أو تكون حركته حركة مادية آلية مثل حركات الذرة. فإذا كانت حركة الإنسان هي نفسها حركة المادة، وكانت حركة المادة حتمية وتتم خارج وعي الإنسان وخارج أية غائية إنسانية، فإن كل ما يحدث سيحدث، ولا يمكن أن تنطبق عليه معايير خارجة عنه، أي أن كل الأمور تصبح نسبية بل حتمية وتتم تسوية الإنسان بالأشياء. والعلم الطبيعي الذي يتعامل مع الأشياء أو مع الإنسان بمنطق الأشياء ينتج معرفة منفصلة عن القيم الأخلاقية، بل إن تَقدُّم العلم مرتبط تمام الارتباط بانفصاله عن القيمة والغائية (إلى أن تنفصل النزعة التجريبية عن النزعة العقلانية تماماً) . ومن هنا التمييز بين «المعنوي» و «المادي» ، فالمعنوي مرتبط بالهدف والغاية وهما يتجاوزان المادة، أما المادي فلا هدف له ولا غاية. ونلاحِظ أنه في الحضارات المادية (سواء الوثنية القديمة أو العلمانية الحديثة) التي تعلي شأن المادة وترى أسبقيتها على الإنسان، أي ترى أسبقية المادي على المعنوي، يظهر ما يُسمَّى «أزمة المعنى» التي يعبَّر عنها بتعبيرات مثل «الاغتراب» أو «اللامعيارية (الأنومي) » و «التشيؤ» و «التسلع» وغيرها. ويعبِّر الأدب الحداثي عن أزمة المعنى التي يواجهها الإنسان الغربي.(1/98)
ويُلاحَظ أن النسبية الحديثة تأخذ شكلاً جديداً تماماً، فهي لا تنكر إمكانية الوصول إلى المعنى، وإنما تطرح إمكانية الوصول إلى معان كثيرة كلها متساوية في الشرعية. وهي تنكر من ثم فكرة الحقيقة الكلية، فالكل بطبيعته، مادياً كان أم روحياً متجاوز للأجزاء، ومن ثم يشير إلى ما وراء الأجزاء وما وراء المادة. فوجود الكل المتجاوز للأجزاء يعني أن الأجزاء خاضعة للكل، وهي خاضعة له حسب فكرة ما ومعنى ما، لوجوس ثابت متجاوز، مطلق، وفي نهاية الأمر ميتافيزيقا، أي الإله، وهنا لا يمكن الاستمرار في إنكار القصد والغاية والمعنى وهرمية الواقع. وفكر ما بعد الحداثة هو تعبير عن هذا الاتجاه الذي يشكل في واقع الأمر إذعاناً كاملاً لأزمة المعنى وعملية تطبيع اللامعيارية التي يواجهها الإنسان الحديث.
التجاوز والتعالى (مقابل الحلول والكمون)
«التجاوز والتعالي» تُترجَم بالإنجليزية بكلمة «الترانسندانس transcendence» ، وهي من اللاتينية: «ترانس كنديري transcendere» من مقطعي «ترانس» بمعنى «وراء» ، و «كنديري» بمعنى «يتسلق» ، أي «يذهب وراء» . وكلمة «تجاوز» عادةً ما توضع مقابل «كمون» ، و «حلول» (وقد ترجمت الكلمة الإنجليزية إلى الكلمات العربية التالية: «صوري» - «مفارق» - «متسام» - «ترانسندنتالي» - وأحياناً «جواني» ) . والتعالي هو أن يعلو الشيء ويرقى حتى يصير فوق غيره؛ ولذا فهو شيء مفارق ليس فوقه شيء، وهو يجاوز كل حدٍّ معلوم أو مقام معروف. والشيء المتعالي لهذا السبب يتحدى التجربة المادية والتفسير العلمي المادي. وعكس التعالي والتجاوز الحلول والكمون. بالإنجليزية «مانثيزم pantheism» ، و «إمننانس immanence» (انظر الباب المعنون «الحلولية ووحدة الوجود الكمونية» ) .(1/99)
وفلسفة التعالي تذهب إلى القول بأن وراء الظواهر الحسية المتغيرة جواهر ثابتة أو حقائق مطلقة قائمة بذاتها مجردة من شروط الزمان والمكان، وأن هناك علاقات ثابتة محيطة بالحوادث ومستقلة، أي أن النظام الطبيعي، بكل ما يتسم به من تغيُّر وتعدُّد ونسبية وسيولة وراءه نظام يتسم بالوحدة والثبات والمطلقية، وثمة مركز ثابت للظواهر العارضة متجاوز لها (وهذا ما نسميه «المرجعية المتجاوزة» ) . ولذا، توصف أية فلسفة تذهب إلى القول بأن في العالم ترتيباً تصاعدياً تخضع فيه الحوادث للتصورات والتصورات للمبادئ بأنها فلسفة متعالية (على عكس فلسفات الحلول والكمون الواحدية التي تأخذ شكل مسطح أفقي تحوي مركزها داخلها أو تكون بغير مركز، ولا يكون فيها أعلى أو أسفل وتتسم بالواحدية) .
وفي الأنساق التوحيدية، التعالي الحق هو ارتقاء يستمر إلى غير نهاية إلى أن يصل إلى اللانهاية. والتعالي النهائي، بهذا المعنى، لا يمكن أن يُرد إلى ما هو دونه لأنه لو رُد إلى ما هو دونه لفقد تجاوزه وتعاليه وتَنزُّهه، أي أن فلسفة التعالي الحقة تصل دائماً إلي أن وجود الإله يسبق كل الموجودات الأخرى، ومن ثم فهو سببها النهائي ولكنه منزه عنها وله وجود مستقل، وهو مركزها وهو الغاية التي تسعى نحوها. فالله تعالى هو المتعالي والعالي والعلي وهو «الكبير المتعال» البائن عن خلقه، أي أنه مركز الكون والمدلول النهائي المتجاوز للطبيعة والتاريخ المنزه عنهما. ورغم وجود مسافة تفصل بين الكائن المتجاوز العلي وعالم المادة، فإن له تجلياته في العالم المادي، فالمتجاوز والمتعالي هو اللامحدود اللامتناهي الذي يعبِّر عن وجوده داخل المحدود والمتناهي دون أن يُرد إليهما. وهذه التجليات تشكل انقطاعاً في النظام الطبيعي ولكنها تزوِّده كذلك بقَدْر من التماسك وباتجاه متصاعد لا يمكن فهمهما أو تفسيرهما في إطار مادي محض.(1/100)
والعلمنة هي إنكار إمكانية التجاوز، فالعالم الطبيعي/المادي مكتف بذاته، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه (مرجعية كامنة) . والإنسان جزء من هذا العالم، فهو إنسان طبيعي/مادي لا يمكنه تجاوز الطبيعة/المادة ولا تجاوز ذاته (الطبيعية) أو التحكم ضد التجاوز. فالإنسان القادر على التجاوز لا يمكن التحكم فيه تماماً، ولا يمكن تسويته بالكائنات الطبيعية إذ يظل داخله ما يتحدى القوانين الطبيعية المادية، ومن ثم فهو غير خاضع لقوانين المادة ولا يمكن حوسلته.
ويُلاحَظ أن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة هو تاريخ تصاعُد معدلات الحلول (الكمون) والإنكار المتصاعد لأي تجاوز، ومن ثم فهو تصاعد للواحدية المادية وتصفية لثنائية المتجاوز/الكامن إلى أن نصل إلى الفكر التفكيكي وفكر ما بعد الحداثة الذي ينكر أي تجاوز وأية مركزية لأي شيء بل ينكر فكرة الكل نفسها باعتبار أن الكل متجاوز للأجزاء.
المطلق والنسبى(1/101)
«المُطلَق» في المعجم الفلسفي (هو عكس النسبي) ويعني «التام» أو «الكامل» المتعرى عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط، والخالص من كل تعيُّن أو تحديد، الموجود في ذاته وبذاته، واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان حتى إن تجلى فيهما. والمطلق عادةً يتسم بالثبات والعالمية، فهو لا يرتبط بأرض معيَّنة ولا بشعب معيَّن ولا بظروف أو ملابسات معيَّنة. والمُطلَق مرادف للقَبْليّ، والحقائق المطلقة هي الحقائق القَبْلية التي لا يستمدها العقل من الإحساس والتجربة بل يستمدها من المبدأ الأول وهو أساسها النهائي. ويمكن وصف الإله الواحد المتجاوز بأنه «المُطلَق» ، ويشار إليه أحياناً بأنه «المدلول المتجاوز» ، أي أنه المدلول الذي لا يمكن أن يُنسَب لغيره فهو يتجاوز كل شيء. وقد عرَّف هيجل المُطلَق بأنه «الروح» (بالألمانية: جايست Geist) ويُقال «روح العصر» (أي جوهر العصر ومطلقه) و «روح الأمة» (جوهرها ومطلقها) . وتَحقُّق المطلق في التاريخ هو اتحاد الأضداد والانسجام بينها، والحقيقة المطلقة هي النقطة التي تتلاقى عندها كل الأضداد وفروع المعرفة جميعاً من علم ودين، وهي النقطة التي يتداخل فيها المقدَّس والزمني (فهي وحدة وجود كاملة) .
وفي مجال المعرفة، تعبِّر المطلقية (مصدر صناعي من «المطلق» ) عن اللا نسبية وهي القول بإمكان التوصل إلى الحقيقة واليقين المعرفي بسبب وجود حقائق مطلقة وراء مظاهر الطبيعة الزمنية المتغيِّرة المتجاوزة لها. والمطلقية في الأخلاق هي الذهاب إلى أن معايير القيم - أخلاقيةً كانت أم جماليةً - مطلقةٌ موضوعيةٌ خالدةٌ متجاوزةٌ للزمان والمكان، ومن ثم يمكن إصدار أحكام أخلاقية. أما في السياسة، فهي تعني سيادة الحاكم أو الدولة بغير قيد ولا شرط. والدولة المطلقة هي الدولة التي لا تُنسب أحكامها إلى غيرها فمصلحتها مطلقة وإرادتها مطلقة وسيادتها مطلقة.(1/102)
أما «النسبي» ، فهو ينُسَب إلى غيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلا مقروناً به، وهو عكس المطلق، وهو مقيد وناقص ومحدود مرتبط بالزمان والمكان يتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذا فالنسبي ليس بعالمي.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أنه داخل المنظومات التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل الرؤية التوحيدية) لا ينقسم العالم بشكل حاد إلى مطلق ونسبي، فالمطلق النهائي الوحيد (المطلق المطلق) هو الإله المتجاوز وهو مركز النموذج والنسق والدنيا الذي يوجد خارجها، أما ما عداه فيتداخل فيه المطلق والنسبي، فالإنسان يعيش في الطبيعة النسبية ولكنه يحوي داخله النزعة الربانية التي لا يمكن ردها إلى العالم المادي النسبي، ولذا فهو يشعر بوجود القيم المطلقة ويهتدي بهديها (إن أراد) . والكائنات نسبية فهي تُنسَب لغيرها، ومع هذا لها قيمة مطلقة، ولذا لا يمكن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق لأنها مطلقة، ومن قَتَل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. وأقل المخلوقات في الكون هي من صنع الله، ولذا فلها قيمتها المطلقة. وتداخل النسبي مع المطلق لا يلغي المسافة بينهما، ولذا فهما لا يمتزجان ولا يذوب الواحد في الآخر.
ويمكننا الحديث عن النسبية الإسلامية باعتبارها نسبية تنصرف إلى خطاب الخالق، فنحن نؤمن بأن ثمة مطلقات نهائية لا يمكن الجدال بشأنها، نؤمن بها بكل ما تحوي من عقل وغيب؛ منها ننطلق وإليها نعود، أما ما عدا ذلك فخاضع للاجتهاد والحوار.
أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، كالنظم الحلولية الواحدية والمادية، فإن مركز العالم كامن فيه. ولذا، قد يتجسد المطلق في أحد عناصر الدنيا (يتجسد فيه ولا يتبدى من خلاله) فيصبح هذا العنصر المادي أو الملموس هو المطلق والمقدَّس وأما ما عداه فمدنَّس.(1/103)
وأي نموذج مهما بلغ من مادية ونسبية يحتوي على ركيزة أساسية تدَّعي لنفسها المطلقية والقَبْلية، ولذا فإن النماذج المعرفية العلمانية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة تحتوي على مطلق علماني يفترض فيه أنه الركيزة الأساسية والمرجعية النهائية لكل الأشياء، يمنحها الوحدة والتماسك. وأهم مطلق علماني هو الطبيعة/المادة والتنويعات المختلفة عليه مثل الدولة وحتمية التاريخ ... إلخ. وكلمة «مُطلَق» هنا تكاد تكون مرادفة لكلمة «ركيزة أساسية» وكلمة «مركز» أو «المبدأ الواحد» أو «اللوجوس» ، فحينما نقول: "لقد حلَّ المُطلَق في المادة"، فنحن نعني "لقد حل المركز في المادة" وأصبح كامناً فيها غير متجاوز لها.
المركب والبسيط
«المركب» هو الذي يشتمل على عناصر كثيرة متشابكة، ويقابله «البسيط» ، وهو الذي يشتمل على عناصر قليلة، وإن كانت كثيرة فهي غير متشابكة. وفي إطار المرجعية الكامنة في الطبيعة والإنسان، يظهر الإنسان الطبيعي/المادي (الذي يُردّ إلى الطبيعة/المادة) وهو كائن يتسم بالبساطة (العضوية أو الآلية) البالغة. أما في إطار المرجعية المتجاوزة، يظهر الإنسان الرباني حاوياً داخله القبس الإلهي (الذي يأتيه من خارج النسق الطبيعي ولا يمكن أن يُردَّ إليه) ، ولذا فهو يحوي الأسرار واللامحدود والمجهول والغيب، جنباً إلى جنب مع العناصر الطبيعية الأخرى، ويتشابك داخله المحدود مع اللامحدود، والمعلوم مع المجهول، والجسد مع الروح، والبراني مع الجواني، والعقل مع القلب، وعالم الشهادة مع عالم الغيب. ولذا، لا يمكن أن يُرد مثل هذا الإنسان إلى عالم الطبيعة/المادة ولا يمكن أن يُختَزل إلى صيغ مادية بسيطة، فهو قادر على تجاوزه، إذ ثمة مسافة تفصل بينه وبينها.
المجرد والعينى (أو المتعين ((1/104)
التجريد، في اللغة، هو «التعرية من الثياب» وهو «التشذيب» ، و «جرَّد الشيء» يعني «قشَّره وأزال ما عليه» ، و «جرَّد الكتاب» يعني «عراه من الضبط والزيادات» ، و «جرَّده من ثوبه» يعني «عرَّاه» ، و «جرَّد الجرادُ الأرضَ» يعني «أكل ما عليها من النبات، وأتى عليه فلم يبق منه شيء» ، ويقال أيضاً «جرَّد القحطُ الأرضَ» أي «أذهب نباتها» .
التجريد، إذن، عزل صفة أو علاقة عزلاً ذهنياً، وقَصْر الاعتبار عليها، مثلما يُجرَّد امتداد الجسم من كتلته، مع أن هاتين الصفتين لا تنفكان عن الجسم في الوجود الخارجي، فهو عملية تفكيك لظاهرة ما ثم إعادة تركيب لها بهدف عزل الصفة موضع الاهتمام.
والهدف من التجريد توفير إمكانية النظر إلى ما يتصوَّر المرء أنه أهم سمات ظاهرة ما وحدودها في صورتها النقية البحتة (جوهرها) بدون مراعاة مختلف التأثيرات الثانوية والجانبية والعرضية. وهي عملية تحديد وفصل، أي تعيين حدود تتم من خلالها استبعاد جزئيات وتفاصيل وصولاً إلى الظاهرة التي يحاول العقل فهمها، فالتجريد من ثم إستراتيجية تحليلية أساسية. والتجريد مسألة أساسية في عملية صياغة النماذج وفي عملية استخدامها واكتشافها، فالتفكيك والتركيب هما في جوهرهما عمليتان تجريديتان.(1/105)
ويرتبط التجريد بفكرة الكل، إذ لا يمكن الوصول إلى الكل المتجاوز للأجزاء، والثبات الكامن وراء الصيرورة، والجوهر الكامن وراء الظواهر المتنوعة إلا من خلال عملية تجريدية. ولذا نجد أن فلسفة ما بعد الحداثة المعادية تعادي التجريد لأنها ترى أن فكرة الكل ملوثة بالميتافيزيقا (باعتبارها شكلاً من أشكال الثبات) ولأنها تريد أن تدفع بكل شيء إلى قبضة الصيرورة حتى يختفي الكل والجوهر، بما في ذلك الكل والجوهر الإنساني، وتؤدي إلى موت الإنسان بعد موت الإله، بل وتزيل ظلال الإله تماماً من الكون، وتأخذ الفلسفة البنيوية موقفاً مغايراً تماماً، فهي تزيد من معدلات التجريد إلى أن تصل إلى مستويات تجريدية عالية جداً، تصل إلى عالم الذرات والأرقام مما يؤدي إلى اختفاء الكل والجوهر الإنساني، فتؤدي هي الأخرى إلى موت الإنسان.
و «العيني» هو «الشخصي» ، وهو ما يُدرَك بالحواس، ولذلك نُسب إلى العين، وهو أهم ما يميِّز أيَّ شيء نوعي أو فردي. ويُستخدم المصطلح ليشير إلى حادثة مفردة أو موضوع خاص، فيمكن أن نتحدث عن تفاحة حمراء، وهذا شيء عيني، أما الفاكهة فهي شيء مجرد، أي أن المعيَّن أو المتعين أو العيني يقابل المجرد أو المحسوس:
أ) يشير المجرد إلى كيفية من كيفيات الموجود، وإلى صفة من صفاته، أما العيني فيشير إلى الموجود بالفعل.
ب) يشير المجرد إلى الوجود الذهني، أما العيني فيشير إلى الوجود الخارجي الحسي المتجسم.
جـ) يشير المجرد إلى ما هو عام ومتكرر في الظاهرة، أما العيني فيشير إلى صفاتها النوعية والفردية والفريدة.
د) لكل ما تقدَّم، يتسم المجرد بالبساطة والوضوح ويتسم العيني بالتركيب والإبهام.(1/106)
ومع هذا، يمكن القول بأن المجرد لا يمكن فصله عن العيني تماماً، فلا توجد فكرة مجردة كل التجريد، ولا شيء متعيِّن كل التعيُّن. فهذه حالات افتراضية نماذجية، إذ أن وجدان الإنسان وعقله يوجدان في المنطقة التي يلتقي فيها المجرد بالمتعين. ولذا إن تحدَّث الإنسان عن تفاحة حمراء بعينها فهو لا يستطيع أن يستبعد فكرة الفاكهة المجردة، وإن تحدَّث عن الفاكهة على وجه العموم فإنها تستدعي الثمرات المتعيِّنة المختلفة. ومع هذا، تتطلب عملية الإدراك ونحت النماذج وتشغيلها عملية تجريد (تفكيك وتركيب) .
السببية الصلبة واللاسببية السائلة
«السببية» نسبة إلى «السبب» ، والسبب هو كل ما كان ذا تأثير وما يترتب عليه مسبب، وهو ما يتوقف عليه وجود شيء، وما يحتاج إليه الشيء في ماهيته أو وجوده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. فالمقدمات الصادقة سبب صدق النتيجة، وبعض الظواهر الطبيعية سبب ظواهر أخرى.
والسبب عند علماء الأخلاق ما يفضي إليه العقل ويبرره، وهو مرادف للحق، نقول: "فلان يبغضني بغير سبب"، أي "بغير وجه حق". والسبب تام وغير تام، فالتام هو الذي يُوجَد المسبب بوجوده، وغير التام هو الذي يتوقف وجود المسبب عليه، ولكن المسبب لا يوجد بوجود السبب وحده، والسبب هو المبدأ الذي يفسر الشيء تفسيراً نظرياً. و «السببي» هو المنسوب إلى «السبب» ، و «السببية» هي العلاقة بين السبب والمسبب.(1/107)
والإشكاليات التي تثار حول العقل هي نفسها التي تثار حول السببية، فهل السببية شيء كامن في الأشياء نفسها، بمعنى أن السبب (شيء ما كامن في الظاهرة) هو الذي يؤدي بالفعل إلى النتيجة المادية، أم أن السببية علاقة اقتران مطرد وحسب، بمعنى أنه كلما حدث (أ) حدث (ب) دون أن تكون (أ) هي المؤدية إلى (ب) وبدون أن تكون (ب) ناتجة عن (أ) بالضرورة؟ وإن لم تكن السببية كامنة في الأشياء نفسها - فهل هي، إذن، أمر مفطور في عقولنا من قبل قوة حاكمة للعالم، أم أننا نفرضها على الواقع فرضاً (لأنها تخدم مصالحنا) .
والنظريات المادية التي تحاول أن ترد الكون بأسره إلى مبدأ مادي واحد (أو مقولات مادية) تتأرجح في معظم الأحيان بين افتراض السببية الصلبة وبين إنكار السببية تماماً. أما السببية الصلبة، فهي الإيمان بأن لكل ظاهرة (طبيعية أم إنسانية - بسيطة أم مركبة) سبباً واضحاً ومجرداً وبأن علاقة السبب بالنتيجة علاقة حتمية بمعنى أن (أ) تؤدي دائماً وبنفس الطريقة وحتماً إلى (ب) . كما أنها سببية مطلقة بمعنى أنها تغطي كل المعطيات والظواهر بشكل مطلق في كل تشابكها وتداخلها وتفاعلها. ولحظة نهاية التاريح هي لحظة إدخال كل شيء في شبكة السببية الصلبة المطلقة، وهي أيضاً لحظة الاستنارة الكاملة، حين تتم إنارة كل شيء وضمن ذلك الإنسان فيُستوعَب في شبكة السبب ويدخل القفص الحديدي.
والسببية الصلبة المطلقة تؤدي إلى التفسيرية الصلبة المطلقة، بمعنى أن يحاول الإنسان التوصل إلى الصيغة/ القانون العام الذي يفسر الكليات والجزئيات وعلاقاتها. والسببية الصلبة المطلقة تترجم نفسها إلى صورة مجازية آلية أو صورة مجازية عضوية مصمتة لا تحتوي على أي فراغات أو مسافات، ولا تتحمل أي عدم استمرار، وتلغي أي حيز بما في ذلك الحيز الإنساني. وتسود السببية الصلبة المطلقة في عصر المادية البطولي (عصر التحديث) والثنائية الصلبة والعقلانية المادية.(1/108)
ولكن النماذج المادية تفشل، بطبيعة الحال، في إدخال العالم (الطبيعة والإنسان) في شبكة السببية الصلبة. كما أنه، مع تصاعد معدلات الحلولية الكمونية الواحدية، يتراجع المركز إلى أن يختفي ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة ويصبح الواقع في حالة سيولة غير مفهومة، والعقل نفسه جزء من الصيرورة غير قادر على تجاوزها، ومن ثم غير قادر على إدراك الواقع كسبب ونتيجة. وهنا، بدلاً من السببية الصلبة المطلقة، تظهر اللاسببية السائلة واللاعقلانية المادية والمادية الجديدة (عصر ما بعد الحداثة) .
وهناك بطبيعة الحال من يحاول الحفاظ على موقف وسط بين السببية الصلبة المطلقة واللاسببية العدمية (مثل كانط على سبيل المثال) ولكنه موقف يستند إلى أرضية واهية، ولذا فعادةً ما تتفتَّت هذه الوسطية وتتحول إلى حتمية واحدية صارمة (كما هو الحال في المنظومات الهيجلية) أو إلى لاسببية سائلة (كما هو الحال في النظم المعادية للهيجلية [نيتشه وغيره] ) .
السببية الفضفاضة
تفترض النظم التوحيدية وجود المركز خارج العالم ولذا فالعالم مترابط ومن ثم بإمكان الإنسان أن يتوصل إلى قدر معقول من المعرفة، ولكن ترابط العالم ليس صلباً ولا مطلقاً ولا عضوياً مصمتاً إذ يتخلله الحيز الإنساني وهو ما يسمح بوجود الأسرار والتركيب والثنائيات والانقطاع، فهو نظام يعترف بوجود قدر من الاستمرار ومن ثم بالسببية ولكنها سببية فضفاضة تؤدي فيها المقدمات إلى النتائج ولكن ليس بشكل حتمي معروف مسبقاً. ولذا لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى القانون العام والنهائي الذي يجعله قادراً على معرفة الكون معرفة كاملة ومن ثم يمكنه إدخال كل شيء شبكة السببية الصلبة، وعلى الإنسان أن يقنع بقدر من التحكم في الكون والتوازن معه.
الواحدية الكونية: المادية أو المثالية / الروحية(1/109)
«الواحدية» مصدر صناعي من كلمة «واحد» ، وتُعبِّر عن واقع تآصل ظواهر مختلفة وعن كونها تُرَدُّ إلى أصل أو جوهر واحد. وقد عرَّف المجمع اللغوي بالقاهرة كلمة «الواحدية» (في الفلسفة) بأنها مذهب يَرُدّ الكون كله إلى مبدأ واحد، كالروح المحض أو كالطبيعة المحضة. أما «أُحادية» ، فهي من كلمة «أُحاد» . وهي، في مثل «جاء الأضياف أُحادَ» ، بمعنى «واحداً بعد واحد» ، أي «جاء الأضياف واحداً واحداً» . فهي إذن تدل على الانفراد. ومن هنا، فقد استُخدم المصدر الصناعي «أُحادية» حديثاً للتعبير عن حالة الانفراد. وهي تعني، في التعبير الفلسفي، رد الظاهرة (وهي بطبيعتها متعددة الجوانب) ، أو أية عملية، إلى أحد أوجهها دون أوجهها الأخرى. فيقال مثلاً «النظرة الأحادية» ، أي النظرة التي تضع في اعتبارها عنصراً واحداً دون عناصر أخرى في الظاهرة كان لابد من وضعها في الاعتبار. والاختلاف كبير بين المفهومين: الواحدية والأحادية. ويمكن القول بأن الواحدية الكونية مفهوم أُنطولوجي (وجودي) ينسب الواحدية إلى الكون، بينما الأحادية مفهوم إبستمولوجي (معرفي) يرى أن الأحادية خاصية تسم بعض طرق التعريف والتحليل والإدراك.
وفي هذه الموسوعة، نستخدم عبارة «واحدية كونية» للإشارة إلى الرؤية الحلولية الكونية القائلة بأن الكون بأسره يمكن أن يُردّ إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، وهي قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي تشكل نظاماً ضرورياً كلياً للأشياء لا يمنح الإنسان أو أي كائن آخر أهمية خاصة أو مركزية. وهذا المبدأ الواحد هو الإله في وحدة الوجود الروحية وهو الطبيعة/المادة في وحدة الوجود المادية (وهذا النمط الأخير هو الأكثر شيوعاً، ولذا فنحن نخصص أحياناً ونشير إليه بأنه «الواحدية الكونية المادية» أو «الواحدية المادية» أو «الواحدية الموضوعية المادية» ) .(1/110)
ويمكن القول بأن ثمة أنواعاً مختلفة من الواحدية هي تعبير عن مستويات مختلفة من الحلول. فالواحدية الكونية هي حلول الإله في الكون بأسره (وهو عادةً ما يحتفظ باسمه «وحدة الوجود الروحية» ) . ولكن يمكن أن ينحصر الحلول في الإنسان ومن ثم تظهر «الواحدية الذاتية» التي تترجم نفسها إلى النزعة الإنسانية الهيومانية المتطرفة ( «الواحدية الإنسانية» ) وإلى الذاتية الفلسفية. ولكن حينما يتركز الحلول في جنس بعينه (الجنس الأبيض ـ شعوب أوربا) تتحول الواحدية الذاتية إلى «واحدية إمبريالية وعنصرية» . وحينما ينتقل الحلول من الإنسان إلى الطبيعة تظهر «الواحدية الطبيعية المادية» (أو «الواحدية الموضوعية المادية» ) ويهتز مفهوم الطبيعة البشرية إذ يظهر الإنسان الطبيعي الذي يذعن للطبيعة/المادة. وتتصاعد معدلات الحلول فتبدأ الكليات في الغياب والتفكك ويغيب مفهوم الإنسانية المشتركة تماماً إلى أن نصل إلى ما يمكن تسميته «الواحدية الذرية» حين ينتشر الحلول في كل أرجاء الكون وذراته فلا يوجد فارق بين إنسان وحيوان، وذكر وأنثى، ومقدَّس ومدنَّس. والواحدية الذرية هي بطبيعة الحال واحدية سائلة (على عكس أشكال الواحدية الأخرى التي تتسم بالصلابة) . ويُلاحَظ أن تصاعد معدلات الحلولية يعني تراجع الحيز الإنساني وضموره ثم اختفاؤه الكامل حين يتوحَّد الإله تماماً بالنظام الطبيعي ويصبح الإله هو القانون الطبيعي.
ويمكن القول بأن الواحدية الكونية هي تَوحُّد الإله بالإنسان بالطبيعة (وهذه هي الوثنية القديمة) ؛ أما الواحدية المادية فهي تَوحُّد الإنسان بالطبيعة (بعد موت الإله) ؛ وهذه هي العلمانية الشاملة الحديثة واللحظة الجنينية الكاملة. ورغم هذه التفرقة المبدئية، فإننا أحياناً نتحدث عن «الواحدية الكونية المادية» إذا استدعى السياق ذلك لنبيِّن الوحدة الكامنة بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية.(1/111)
ونموذج الواحدية الكونية المادية هو نموذج يدور في إطار المرجعية الكامنة، فهو يفترض أن مركز العالم كامن فيه. ومن ثم، فإن الكون المادي لا يشير إلى أي شيء خارجه. فهو عالم لا ثغرات فيه ولا مساحات ولا انقطاع ولا غائيات، تم إلغاء كل الثنائيات الفضفاضة داخله (وضمنها ثنائية الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والخير والشر، والأعلى والأدنى) ، وتم تطهيره تماماً من المطلقات والقيم، وتم اختزاله كله إلى مستوى واحد يتساوى فيه الإنسان بالطبيعة هو مستوى القانون الطبيعي/المادي أو الطبيعة/المادة (المطلق العلماني النهائي) . وفي مثل هذا العالم الواحدي الأملس لا يوجد مجال للوهم القائل بأن الإنسان يحوي من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه وأن ثمة جوانب فيه غير خاضعة لقوانين الحركة المادية. بل يمكن تطبيق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان، كما يمكن إدارة العالم بأسره حسب هذه الصيغ. ويتحول العالم إلى واقع حسي مادي نسبي خاضع للقوانين العامة للحركة (ومن ثم قابل للقياس والتحكم الهندسي والتنميط) وإلى مادة استعمالية يمكن توظيفها وحوسلتها.(1/112)
في هذا الإطار تصبح المعرفة مسألة تستند إلى الحواس وحسب، ويصبح العالم الطبيعي المصدر الوحيد أو الأساسي للمنظومات المعرفية والأخلاقية، وتُردُّ الأخلاق إلى الاعتبارات المادية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) ، وتنفصل الحقائق المادية تماماً عن القيمة، ويظهر العلم المنفصل عن الأخلاق والغائيات الإنسانية والدينية والعاطفية والأخلاقية، وتصبح الحقائق المادية (الصلبة أو السائلة) المتغيرة هي وحدها المرجعية المعرفية والأخلاقية المقبولة، وتصبح سائر الأمور (المعرفية والأخلاقية) نسبية صالحة للتوظيف والاستخدام. بل إن هذه الرؤية الواحدية المادية، في مراحلها المتقدمة، بإنكارها أي ثبات، ينتهي بها الأمر إلى إنكار وجود الماهيات والجوهر، بل الإنسانية المشتركة نفسها، باعتبارها جميعاً أشكالاً من الثبات والميتافيزيقا. عالم العلمانية الشاملة والترشيد في الإطار المادي وهو أيضاً عالم الجماعة الوظيفية والواحدية الوظيفية والإنسان الوظيفي.
ورغم أن «الواحدية الكونية المادية» هي الأكثر شيوعاً، إلا أننا يمكننا أيضاً الحديث عن «الواحدية المثالية» أو «الواحدية الروحية» ، أي الإيمان بأن ثمة مبدأً واحداً في الكون تُرَدُّ إليه كل الظواهر الإنسانية والطبيعية. وهذا المبدأ قد يكون مثالياً خالصاً: الإله ـ نفس العالم (باللاتينية: أنيموس موندي animus mundi) ـ الروح (بالألمانية: جايست Geist) ـ الروح الدافعة (بالفرنسية: إيلان فيتال élan vital) ؛ أو قد يكون شيئاً روحياً اسماً مادياً فعلاً: روح الشعب ـ روح التاريخ ـ جدلية التاريخ ـ البقاء للأصلح ـ حب السيطرة والبقاء ـ اللبيدو. وسواء أكان المبدأ الواحد مادياً خالصاً أو كان مثالياً أو مثالياً اسماً مادياً فعلاً، ففي إطار الواحدية يُرَدّ كل شيء إلى هذا المبدأ وتذوب الأجزاء في الكل وتنتفي هويتها ويختفي التعدد ويختفي الإنسان ككيان مستقل.(1/113)
و «الواحدية» غير «التوحيد» أو «الوحدانية» ، فالوحدانية والتوحيد يدوران في إطار المرجعية المتجاوزة التي تفترض أن مركز الكون متجاوز له وأن الإله ليس كامناً في الكون وإنما متجاوز له، فهو الواحد الأحد العلي، ولكن وحدانية الإله لا تُلغي التعدد والتنوع والهوية المتعينة للأشياء. بل هي على العكس ضمان لها، فهو المركز المتجاوز الذي لا يمكن أن يتوحد معه شيء. والإنسان ليس ذاتاً مطلقة لا حدود لها ولا موضوعاً مطلقاً خاضعاً تماماً للحدود، إذ يتمتع بهوية مُتعيِّنة يتضح تَعيُّنها من خلال الحدود. والإنسان ليس حراً تماماً في أفعاله، فالمركز المتجاوز يضع حدوداً على هذه الحرية، ولكنه ليس مُسيَّراً تماماً فالمركز المتجاوز هو ضمان حريته.
الثنائية الفضفاضة (التكاملية – التفاعلية)
«الثنائية» مصطلح يقابل «الواحدية» وهي الإيمان بوجود أكثر من مبدأ وأكثر من جوهر في العالم. وفي إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية، فإن مركز الكون يكون كامناً فيه ويتوحد الخالق بمخلوقاته وتختفي الثنائية المبدئية، ثنائية المتجاوز المتعالي والحالّ الكامن، وتختفي معها كل الثنائيات الأخرى لنصل إلى عالم الواحدية المادية والكمون الكامل.(1/114)
والثنائية الفضفاضة الحقيقية لا يمكن أن توجد إلا في إطار المرجعية المتجاوزة حيث يوجد هذا العالم وما يتجاوزه، فتظهر الثنائية الأساسية: الخالق والمخلوق (أو ثنائية المتجاوز والحال الكامن) والتي تفترض أسبقية الخالق على كل ما هو مخلوق وأن الخالق لا يمكن أن يُرد إلى مخلوقاته أو يلتحم بها أو يذوب فيها. وهي ثنائية فضفاضة تفاعلية (لا تعادلية) ، إذ أن الإله مفارق للعالم ولكنه لم يهجره ولم يتركه وشأنه (أي أنه ليس مفارقاً حتى التعطيل) . والثنائية التفاعلية الفضفاضة مختلفة عن الاستقطاب (أو الثنائية الصلبة أو الاثنينية) حيث يقف كل طرف في الثنائية مقابل الطرف الآخر. وتَنتُج عن هذه الثنائية الفضفاضة ثنائية تكاملية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة (وثنائية النزعة الجنينية والنزعة الربانية) وتفترض انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها بسبب وجود المرجعية المتجاوزة، أي الإله الذي يستخلفه في الأرض، ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليس بمركز الكون.
الثنائية الصلبة (الثنوية – الأثينية)(1/115)
«الثنائية الصلبة» (ويُقال لها «الثنوية» و «الاثنينية» ) هي غير الثنائية الفضفاضة، فالثنائية الصلبة تفترض تساوي عنصرين تساوياً كاملاً (رغم وجود صراع بينهما) وهذا أمر غير ممكن إلا في إطار المرجعية الكامنة والحلولية الكمونية (إذ أن المرجعية المتجاوزة تجعل مثل هذا التساوي أمراً مستحيلاً لأن وجود الإله ـ المدلول المتجاوز ـ يعطي للعالم شكلاً هرمياً بحيث يصبح أحد عناصر الثنائية أفضل من الآخر، وإن تساويا يكون ثمة تكامل بدلاً من الصراع) . وأهم أشكال الثنائية الصلبة في النظم الحلولية الكمونية الروحية ثنائية الخير والشر، حيث يتصارع إلهان: واحد هو إله الخير والنور، والآخر هو إله الشر والظلام. وهي محاولة حلولية لتفسير وجود الشر. وعادةً ما تُحسَم قضية الشر بأن يلتحم إله الشر بإله الخير ويصبحان واحداً، كما أن الشر يُفسَّر بأنه مجرد وجه آخر للخير، أي أن الشر في جميع الحالات ليس له وجود حقيقي. أما في إطار النظم الحلولية الكمونية المادية فأهم أشكال الثنائية الصلبة هي ثنائية الإنسان والطبيعة. إذ يحل الإله في الكون ثم يختفي ويصبح مركز الكون داخله يتأله الإنسان وتتأله الطبيعة، وهذا أمر مستحيل فتأله الإنسان يعني أنه يسبق الطبيعة ويريد أن يهزمها ويسخرها، وتأله الطبيعة يعني أنها تسبق الإنسان ومن ثم فإنها تستوعبه. وتُعبِّر هذه الثنائية الصلبة عن نفسها في التأرجح بين الذات وبين الموضوع، وبين الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية (كما هو الحال في الحالة الجنينية) . والثنائية الصلبة هي في واقع الأمر شكل من أشكال الواحدية باعتبار أن العنصرين المتصارعين لا يوجد بينهما اختلاف جوهري. وعادةً ما تُحسَم الثنائية الصلبة باندماج العنصرين (وهو أمر متيسِّر لأنهما متساويان وتعارضهما عادةً ناجم عن أن الواحد مقلوب الآخر ولا يختلف عنه في البنية) ، أو بانتصار العنصر الأقوى. وفي حالة الصراع بين الإنسان والطبيعة، فإن(1/116)
الطبيعة هي التي تنتصر لأنها أكثر شمولاً ومادية، وينتهي الأمر بعد مرحلة أولية من الواحدية الإنسانية والتمركز حول الذات الإنسانية إلى الواحدية الموضوعية المادية والتمركز حول الموضوع المادي.
الطبيعة البشرية
يشير مصطلح «الطبيعة البشرية» إلى «طبيعة الإنسان» ، أي جوهره وإلى السمات الأساسية التي تُميِّز الإنسان وتفصله عن غيره من الظواهر الكونية، ويرتبط بهذا المصطلح مفهوم «الإنسانية الواحدة» ، ونحن نفضل استخدام مصطلح «الإنسانية المشتركة» بدلاً من ذلك.
الإنسانية المشتركة(1/117)
يتسم الوجود الإنساني ـ في تصوُّرنا ـ بثنائية أساسية لا يمكن إلغاؤها هي صدى للثنائية الحاكمة الكبرى، ثنائية الخالق والمخلوق. وهي ثنائية الجوانب الطبيعية/المادية في الإنسان مقابل الجوانب غير المادية، أي الروحية أو الثقافية أو المعنوية. فالإله، في تصوُّرنا، خلق العالم (الإنسان والطبيعة) ولم يحل فيه. ونتج عن هذا وجود مسافة بين الخالق ومخلوقاته، هذه المسافة هي في واقع الأمر الحيز الإنساني الذي يتحرك فيه الإنسان حراً مسئولاً ولكن داخل حدود، وهو الحيز الذي يُحقِّق (أو يُجهض) فيه جوهره الإنساني. والمسافة هي أيضاً الحيز الطبيعي، الذي يتحرك فيه الإنسان باحترام وحذر (فهو ليس مركز الطبيعة، لأن الإله هو مركز الكون الذي وضعه في المركز واستخلفه في الأرض، وهو ليس سيد الطبيعة، لأن الله هو مالكها الذي استأمنه عليها) . ولذا فإن ثمة احتياجات طبيعية/مادية، مثل حاجة البشر إلى الطعام والهواء والنوم والتناسل وتلبية كل ما يتعلق بتركيبهم العضوي (بغض النظر عن أماكن إقامتهم أو نمط الحضارة الذي ينتمون إليه) . فالإنسان هنا هو موجود طبيعي مادي يشارك بقية الكائنات في بعض الصفات. فمن حيث هو جسم، يخضع الإنسان للقوانين الطبيعية وضرورات الحياة العضوية، إذ تسري عليه، وعلى بقية الكائنات، مجموعة من الآليات والحتميات ويدور في إطار المثيرات والاستجابات العصبية المباشرة. فهو في هذا الجانب من وجوده، جزء عضوي لا يتجزأ من عالم الطبيعة/المادة، ليس له حدود مستقلة عن حدود الكائنات الأخرى، يتحرك في الحيز الطبيعي في عالم واحدي لا يمكن تجاوزه. ولذا يمكن رصد هذا الجانب من وجوده من خلال النماذج المُستمَدة من العلوم الطبيعية. (والفلسفات المادية، منطلقةً من مرجعيتها المادية وإيمانها بأسبقية الطبيعة/المادة على الإنسان، تركز على هذا الجانب من الوجود الإنساني وترد كل جوانبه الأخرى إليه) .(1/118)
ولكن هناك جانباً آخر للوجود الإنساني متجاوز للطبيعة/المادة غير خاضع لقوانينها ومقصور على عالم الإنسان ومرتبط بإنسانيته، وهو يُعبِّر عن نفسه من خلال مظاهر عديدة من بينها النشاط الحضاري للإنسان (الاجتماع الإنساني ـ الحس الخلقي ـ الحس الجمالي ـ الحس الديني) .
فالإنسان كائن صاحب إرادة حرة رغم الحدود الطبيعية والتاريخية التي تَحدُّه. وهو كائن واع بذاته وبالكون، قادر على تجاوز ذاته الطبيعية/المادية وعالم الطبيعة/المادة. وهو عاقل قادر على استخدام عقله، ولذا فهو قادر على إعادة صياغة نفسه وبيئته حسب رؤيته. والحرية قائمة في نسيج الوجود البشري نفسه، فالإنسان له تاريخ يروي تجاوزه لذاته (وتعثُّره وفشله في محاولاته) ، وهو تعبير عن إثباته لحريته وفعله في الزمان والمكان. والإنسان كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي/المادي الذي يحكم جسده واحتياجاته المادية وغرائزه، وهو قادر على الالتزام بها وقادر أيضاً على خرقها، وهو الكائن الوحيد الذي طوَّر نسقاً من المعاني الداخلية والرموز التي يدرك من خلالها الواقع. وهو النوع الذي يملك ذاكرة قوية ونظاماً رمزياً أصبح جزءاً أساسياً من كيانه حتى أنه يمكن القول بأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستجيب مباشرةً للمثيرات وإنما يستجيب لإدراكه لهذه المثيرات وما يُسقطه عليها من رموز وذكريات.(1/119)
والإنسان هو النوع الوحيد الذي يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها. فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً لنفس القوالب التفسيرية، فكل فرد وجود غير مكتمل، مشروع يتحقق في المستقبل واستمرار للماضي، ولذا فإن زمن الإنسان هو زمن العقل والإبداع والتغيير والمأساة والملهاة والسقوط، وهو المجال الذي يرتكب فيه الإنسان الخطيئة والذنوب، وهو أيضاً المجال الذي يمكنه فيه التوبة والعودة، وهو المجال الذي يُعبِّر فيه عن نبله وخساسته وطهره وبهيميته. فالزمان الإنساني ليس مثل الزمان الحيواني أو الطبيعي/المادي الخاضع لدورات الطبيعة الرتيبة، زمان التكرار والدوائر التي لا تنتهي و"العود الأبدي". ولكل هذا، فإن ممارسات الإنسان ليست انعكاساً بسيطاً أو مركباً لقوانين الطبيعة/المادة، فهو مختلف كيفياً وجوهرياً عنها، فهو ظاهرة متعددة الأبعاد وتبلغ الغاية في التركيب ولا يمكن اختزاله إلى بُعد واحد من أبعاده أو وظيفة واحدة من وظائفه البيولوجية أو حتى إلى كل هذه الوظائف.
ومن المظاهر الأخرى لهذا الجانب أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطرح تساؤلات عما يُسمَّى «العلل الأولى» (من أين جئنا؟ وأين سينتهي بنا المطاف؟ وما الهدف من وجودنا؟) . وهو لا يكتفي أبداً بما هو كائن وما هو مُعطَى ولا يرضى بسطح الأشياء؛ فهو دائب النظر والتدبر والبحث، يغوص وراء الظواهر ليصل للمعاني الكلية الكامنة وراءها والتي ينسبها إليها، وهو الكائن الوحيد الذي يبحث عن الغرض من وجوده في الكون. وهذه جميعاً تساؤلات تجد أصلها في البنية النفسية والعقلية للكائن البشري (النزعة الربانية) ، ولذا سُمِّي الإنسان «الحيوان الميتافيزيقي» .(1/120)
ولا تُوجَد أعضاء تشريحية أو غدد أو أحماض أمينية تشكل الأساس المادي لهذا الجانب الروحي أو الرباني في وجود الإنسان وسلوكه. ولهذا، فهو يشكل ثغرة معرفية كبرى في النسق الطبيعي/المادي، وهو ليس جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة وإنما هو جزء يتجزأ منها، يوجد فيها ويعيش عليها ويتصل بها وينفصل عنها. قد يقترب منها ويشاركها بعض السمات، ولكنه لا يُردُّ في كليته إليها بأية حال، فهو دائماً قادر على تجاوزها، وهو لهذا مركز الكون وسيد المخلوقات. وهو، لهذا كله، غير قابل للرصد من خلال النماذج المُستمَدة من العلوم الطبيعية.
ونحن نرى أن ثنائية الإنسان (الطبيعة المادية للإنسان مقابل سماته الإنسانية) تعبِّر عن نفسها في الصراع أو التكامل بين ما نسميه «النزعة الجنينية» و «النزعة الربانية» . فالنزعة الجنينية هي نزعة للعودة إلى الطبيعة/المادة والبساطة الأولى. أما النزعة الربانية فهي إحساس الإنسان بذاته ككائن مستقل عن الطبيعة، له حدوده الخاصة وهويته ووعيه المستقل، وإحساسه بالمسئولية الخلقية.
ومما تجدر ملاحظته أن الرؤية الواحدية المادية تنظر للإنسان باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة، خاضع لحتمياتها، ومن ثم يذهب أصحاب هذه الرؤية إلى أن هناك إنسانية واحدة (تتطور حسب قانون طبيعي واحد ثابت) تُرصَد كما تُرصَد الظواهر الطبيعية، وأن الناس كيان واحد وإنسانية واحدة خاضعة لبرنامج بيولوجي ووراثي واحد عام، يَصدُق على كل البشر في كل زمان ومكان، وأن هذا البرنامج قد لا يكون معروفاً في كليته ولكنه سيُعرف حتماً في المستقبل (وكأنه لا يوجد فارق بين عالم النمل والنحل والطير وبين عالم الإنسان) .(1/121)
وهذا الادعاء يتنافى مع العقل ومع التجربة الإنسانية ومع إحساسنا ووعينا بتركيبيتنا وتنوعنا الحضاري. وهذا ما يعيه أصحاب النماذج غير المادية الذين يدركون الثنائية الأساسية التي يتحرك داخلها الإنسان، فهم ينطلقون من الإيمان بأن عقل الإنسان محدود ولكنه خلاَّق يتمتع بقدر من الاستقلال عن الطبيعة ولا يخضع لحتمياتها في بعض جوانب وجوده. ولهذا السبب لا يؤمن أصحاب مثل هذه النماذج بطبيعة بشرية جامدة أو بإنسانية واحدة وإنما يؤمنون بإنسانية مشتركة. وهذه الإنسانية ليست مثالاً أفلاطونياً جامداً يتجاوز الواقع تماماً بحيث يصبح الواقع مجرد ظلال له وإنما هي إمكانية (بشرية) . فالإنسان يتمتع بطاقة إبداعية كامنة (ولذا لا يمكن رصدها أو ردها إلى قوانين مادية عامة) . هذه الإمكانية تختلف عن الأداء الإنساني، فهي لا تتحقق في فرد بعينه أو شعب بعينه أو جنس بعينه وإنما تتحقق بدرجات متفاوتة حسب اختلاف الزمان والمكان والظروف ومن خلال جهد إنساني (وقد لا تتحقق على الإطلاق، فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على الانحراف عن طبيعته بسبب حريته) ، ولذا فإن ما يتحقق لن يكون أشكالاً حضارية عامة وإنما أشكال حضارية متنوعة بتنوع الظروف والجهد الإنساني. فتَحقُّق جزء يعني عدم تحقُّق الأجزاء الأخرى التي تحققت من خلال شعوب أخرى وتحت ظروف وملابسات مختلفة ومن خلال درجات من الجهد الإنساني الذي يزيد وينقص من شعب لآخر ومن جماعة لأخرى) . ومما يزيد التنوع أن الإنسان قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب وعيه الحر وحسب ما يتوصل إليه من معرفة من خلال تجاربه. هذه الأشكال الحضارية تفصل الإنسان عن الطبيعة/المادة وتؤكد إنسانيتنا المشتركة (فهي تعبير عن الإمكانية الإنسانية) دون أن تلغى الخصوصيات الحضارية المختلفة. لكن التفرُّد لا يعني عدم وجود أنماط تجعل المعرفة ممكنة، والحرية لا تعني أن كل الأمور متساوية ونسبية. فالإنسانية المشتركة، تلك(1/122)
الإمكانية الكامنة فينا، هذا العنصر الرباني الذي فطره الله فينا (ودعمه بما أرسله لنا من رسل ورسالات) تشكل معياراً وبُعداً نهائياً وكلياً.
والإيمان بالإنسانية المشتركة يجعل استخدام النماذج المركبة مسألة أساسية بل حتمية في دراسة البشرية، ويجعل الرصد الموضوعي البراني أو استخدام النماذج الاختزالية أمراً غير كاف بالمرة، فالرصد الموضوعي المباشر لا يتم إلا في إطار البحث عن القانون العام الذي يسري على عالم الأشياء. أما محاولة فهم الإنسان ككائن مستقل عن الطبيعة/المادة فيتطلب تَجاوُز الواحدية المادية وقبول ثنائية الإنسان والطبيعة الفضفاضة، وهو ما يحتم استخدام نماذج مركبة.(1/123)
ونحن نرى أن كل خطاب (مهما كانت سطحيته وماديته) يحوي بُعداً معرفياً، هو، في واقع الأمر، إجابة على بعض الأسئلة الكلية والنهائية (وهي أسئلة تدور حول ماهية الإنسان: أهو مادة ومتجاوز للمادة أم مادة وحسب؟ هل لحياته معنى أم لا؟ ومن أين يستمد معياريته؟) . والإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تحدد طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والمعرفي والأخلاقي والدلالي والجمالي. فإن كان الإنسان مادة وحسب خاضعاً لقوانين الحركة يستمد معياريته من الطبيعة/المادة، فإن هذا يؤدي إلى تَوجُّه مختلف تماماً عما لو كان الافتراض الأساسي هو أن الإنسان مكوَّن من مادة وما يتجاوز المادة، وأن حياته لها معنى، وأنه يستمد معياريته مما هو متجاوز للطبيعة/ المادة. والمرجعية الكامنة (في المادة) ترى أن الإنسان مادة وحسب، حدود المادة هي حدوده، ولذا فهي تجعل له إنساناً ذا بُعد واحد تقضي عليه وترده إلى المادة وينتهي الأمر بالفلسفات المادية إلى إنكار مفهوم الإنسانية المشتركة، باعتبار أنه يشكل نقطة ثبات متجاوزة لحركة المادة، أي أنه يفلت من قبضة الصيرورة. أما المرجعية المتجاوزة، فترى أن الإنسان مادة وشيء غير المادة (يُسمَّى «الروح» في المنظومات التوحيدية، وله أسماء أخرى في المنظومات الإنسانية الهيومانية) وأن حدود هذا الإنسان بالتالي ليست حدود المادة، ولذا فهو إنسان متعدد الأبعاد قادر على تجاوز الطبيعة/المادة وذاته الطبيعية/المادية.
الباب الثالث: النزعة الجينية(1/124)
«النزعة الجنينية» مصطلح قمنا بصياغته لنصف نزعة نتصور أنها أصلية كامنة في النفس البشرية، وهي نزعة لرفض كل الحدود وإزالة المسافة التي تفصل بين الإنسان وما حوله حتى يصبح كائناً لا حدود له. ولكن حينما تتحقق هذه الرغبة، يجد الإنسان نفسه جزءاً من كل أكبر منه يحتويه ويشمله. وهذه الرغبة في إزالة الحدود هي، في واقع الأمر، رغبة في التخلص من تركيبية الذات الإنسانية وتعيُّنها ومن عبء الخصوصية والوعي الإنساني، وهي محاولة للهرب من الواقع الإنساني بكل ما فيه من ثنائيات وتدافع، وخير وشر، وإمكانيات نجاح وفشل، ونهوض وسقوط، وحرية وحتمية، ومحاولة التجاوز والتكيف، أي أنها نزعة للهروب من الحيز الإنساني المُركّب إلى عالم واحدي أملس بلا حدود.
هذا العالم الذي يهرب إليه الإنسان يشبه الرحم حيث كان يعيش الجنين بلا حدود ولا قيود خارج أي حيز إنساني، لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن رحم أمه ولا توجد مسافة أو حيز تفصل بينهما، أو يشبه حياة الطفل الرضيع في الأشهر الأولى من حياته، حين كان يتصور أنه لا يزال جنيناً في الرحم لا يفصله فاصل مادي أو معنوي عن أمه وأنه جزء لا يتجزأ منها، وحينما يمسك بثديها يتصور أنه قد تحكَّم في العالم بأسره وأنه قد تواصل مع العالم كله، وأن الدائرة قد انغلقت تماماً فيشعر بالطمأنينة الكاملة.(1/125)
هذه الحالة الجنينية الرحمية حالة دائرة عضوية مطلقة مصمتة لا تتخللها أية مسافات (واحدية عضوية) لا تختلف كثيراً عن حالة وحدة الوجود حين يحل المبدأ الواحد في الإنسان والطبيعة ويمتزج بهما تماماً، فتختفي الثنائيات والخصوصيات ولا يوجد سوى جوهر واحد في العالم أو مركز واحد. ولهذا تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها من خلال مفردات الحلولية الكمونية (الجنس ـ الرحم ـ ثدي الأم ـ الأرض) ومن خلال الصور المجازية العضوية حيث يصبح الجزء جزءاً عضوياً لا يتجزأ من الكل. وهي حالة من التأيقن الكامل حيث يتحد الدال والمدلول، والشكل والمضمون، والصورة والفكرة، والمقدَّس والمدنَّس، وتذوب الجواهر الفردية في جوهر كوني واحد، والجزئيات في كل واحد. فالحالة الجنينية هي الواحدية بامتياز.
الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة: نمط جينى عام
تعبِّر النزعة الجنينية عن نفسها من خلال نمط أساسي هو نمط التأرجح بين الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة، وبين الصلابة والسيولة الشاملة:(1/126)
1 ـ الواحدية الذاتية: يدور الإنسان في الحالة الجنينية في إطار المرجعية الكامنة، فهو داخل الدائرة العضوية المغلقة يظن أنه مكتف بذاته، ومرجعية ذاته، مركز الحلول والقداسة، اللوجوس، الذي لا يُرد إلى شيء خارج محيط دائرته، ولا يمكن أن تُفرَض عليه حدود أو سدود أو قيود. وهو يرفض التجريد، فالتجريد يعني وجود المسافة التي تفصل الجزء عن الكل، وهو الآلية التي يدرك الجزء من خلالها أنه الكل، ويعرف أنه جزء وليس الكل، وأن العالم مختلف عن الذات، ومن ثم فالإنسان في الحالة الجنينية يعيش في عالم الحواس بشكل مباشر. وهو يرفض الرؤية الثنائية الفضفاضة التي تعني وجود الذات ووجود الآخر. وهو يتصور أنه قادراً على أن يتحكم في كل شيء وأن يبتلع كل شيء حتى يصبح كل شيء جزءاً لا يتجزأ منه، أي أن يصبح سوبرمان إذ أنه هو البداية والنهاية، فهو متمركز حول ذاته، تسود في عالمه الواحدية الذاتية (والإنسانية الهيومانية والإمبريالية) .
في هذا الإطار تظهر الواحدية الإمبريالية ثم يظهر ما يمكن أن نسميه «الإباحية المعرفية» . فمع إسقاط الحدود، تسقط الحدود الوجودية (نسبة إلى الوجود) والمعرفية والأخلاقية فلا حرام ولا حلال، ولا محرمات ولا حُرمات. فكل إنسان يوجد داخل قصته الصغيرة لا يبرحها، لا يكترث بالمنظومات التي توجد خارجه، والهدف من وجوده هو تعظيم اللذة (لذته هو) والمصلحة (مصلحته هو) ليحوسل العالم لمصلحته، تماماً كما كان يفعل مع ثدي أمه أو في رحمها. وهو انطلاقاً من هذا يعامل الآخر خارج أي إطار اجتماعي، فإن كان من الجنس الآخر فهو يستهلكه لتحقيق اللذة (دون أي التزام تجاه الأطفال، ثمرة اللذة العابرة) ، وإن كان من الأعراق الأخرى فهو يبيدهم أو يستعبدهم (دون اكتراث بحقوقهم وإنسانيتهم) ، فهو شخصية إمبريالية توسعية كاملة، لا حدود لها.(1/127)
2 ـ الثنائية الصلبة: ولكن رغم هذا الإحساس بالواحدية الذاتية، يظل العالم الموضوعي قائماً صلباً. وقد ترفض الذات المتمركزة حول نفسها أن تتفاعل مع الموضوع، ولكن الموضوع هناك، لا يختفي ولا يتلاشى، فتظهر حالة أولية من الاستقطاب والثنائية الصلبة (الواحدية الذاتية مقابل الواحدية الموضوعية المادية) . ولكنها ثنائية وهمية، إذ تتفكك الذات تدريجياً وتدرك مركزية الموضوع فتذوب فيه وتختفي الواحدية الذاتية لتهيمن الواحدية الموضوعية أو الواحدية الطبيعية/المادية أو الواحدية الصلبة.
3 ـ الواحدية الموضوعية المادية: مع اختفاء الحدود والمسافة التي تفصل الكل عن الجزء، يختفي الحيز الإنساني الذي يفصل الذات عن الموضوع، فيذوب الجوهر الإنساني ويمتزج بالكل الموضوعي، ومن ثم تتحول الذات الإمبريالية المكتفية بذاتها إلى جزء من كل وتُرد في كليتها إلى ما هو خارجها تماماً، أي إلى هذا الكل. وهكذا تختفي الواحدية الذاتية التي نجمت عنها ازدواجية الذات والموضوع، واختفى الجزء وذاب ليظهر الكل (الرحم ـ الطبيعة ـ الإله) ، أو أية تنويعات عليه (مثل: الفولك ـ الدولة ـ اللبيدو ـ الحتمية التاريخية ـ البقاء المادي) حيث تتمركز الذات حول الموضوع، الذي يصبح مركز الكون وموضع الحلول، اللوجوس الذي يرتكز إليه الكون، وتظهر الواحدية الموضوعية الصلبة (وهذا ما نسميه «التمركز حول الذات» الذي يؤدي إلى «التمركز حول الموضوع» ) .(1/128)
ورغم الاختلاف الظاهر بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع فإنهما يؤديان إلى النتيجة نفسها: إنكار الثنائية والتركيب وإمكانية التجاوز واختفاء الذات الإنسانية، الاجتماعية والمركبة، التي ترضى بالحدود التي تفصلها عن الطبيعة والمجتمع، فهذه الحدود هي التي تخلق لها حيزاً إنسانياً اجتماعياً تاريخياً يمكنها أن تتحرك فيه بقدر من الحرية، وتمارس إرادتها داخل حدوده، فتكتسب منه تعينها وهويتها. ووعيها الإنساني ككيان مستقل حر، يتفاعل مع العالم ويتجاوزه دون أن ينكره، يدرك حدوده دون أن يُرد إليها ودون أن تُطبَّق عليه هذه الحدود.(1/129)
4 ـ الواحدية السائلة: الحالة الجنينية سواء في تمركزها حول الذات أو تمركزها حول الموضوع هي حالة صلبة، تدور حول مركز (لوجوسنتريك logo-centric) . ولكن ثمة مرحلة جنينية ثالثة هي حالة من السيولة الشاملة والنسبية المطلقة. وإذا كانت الحالة الجنينية في المراحل الأولى تعني إنكار الحدود تماماً والمسافة والحيز الإنساني، فإنها في المرحلة الأخيرة تعني تقبُّل المسافة باعتبارها أمراً قائماً ونهائياً. ولكن المسافة هنا هوة (أبوريا) لا يمكن اجتيازها إذ يختفي مفهوم الإنسانية المشتركة. فرغم اختفاء الرحم الكوني الأكبر ورغم انشطار الجنين الكوني إلى عدة أجنة واختفاء التجسُّد الكوني الأعظم، إلا أن كل جنين يعيش داخل رحمه، يظن أنه لا حدود له ولا قيود عليه، فيذوب بطبيعة الحال فيما حوله. ولذا بدلاً من القصة العضوية الكبرى والنظرية الشاملة التي تنتظم كل شيء، يدور كل إنسان في قصته الجنينية الصغرى دون وجود قصة كبرى. وفي حالة المراحل الأولى (الصلبة) تعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها على هيئة التأيقن والتحام الدال بالمدلول. ولكن في المرحلة السائلة ينفصل الدال عن المدلول ويبدأ رقص الدوال. وعلى مستوى النصوص بدلاً من الإيمان بحرفية النص ونهائيته تظهر حالة التناص، وهي أن تتساوى كل النصوص وتتداخل ويحيل كل نص إلى نص آخر وتحيل كل كلمة إلى كلمة أخرى.(1/130)
وتعبِّر الحالة الجنينية عن نفسها في كثير من النماذج المعرفية عبر العصور مثل الغنوصية، والنماذج الاختزالية التي ترد العالم إلى عنصر واحد أو اثنين، ولعل من أهمها نموذج العلمانية الشاملة الذي يمثل انتصاراً للحالة الجنينية (فالإنسان الطبيعي/المادي هو تجسُّد للحالة الجنينية) . ويمكن القول بأن كثيراً من النزعات المرتبطة بالعلمانية الشاملة مثل النزعة التعاقدية والرغبة في التحكم التكنولوجي والحلم باليوتوبيا التكنولوجية ونهاية التاريخ والإيمان بوحدة (أي واحدية) العلوم بحيث يسري قانون واحد طبيعي/مادي على كل من الإنسان والحيوان والجماد، هي جميعاً تعبير عن النزعة الجنينية.
وإذا كانت الفلسفة الهيجيلية بواحديتها وعضويتها هي تعبير عن الحالة الجنينية في حالة الصلابة الأولى فإن فلسفة نيتشه هي تعبير عن حالة السيولة. وما بعد الحداثة هو انتصار حالة الجنينية الواحدية السائلة. فحديث دريدا عن عالم بلا إشارات، عالم برئ من الصيرورة الكاملة، عالم لا مركز له non logo-centric، هو وصف لعالم الحالة الجنينية في حالة السيولة الشاملة. وإذا كان النظام الاستعماري القديم تعبيراً عن النزعة الجنينية الغربية في مرحلة الصلابة، فإن النظام العالمي الجديد تعبير عنها في مرحلة السيولة. ونحن نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية والنزعة الربانية.
الطبيعة / المادة
«الطبيعة/المادة» مصطلح نستخدمه كثيراً في هذه الموسوعة بدلاً من مصطلح «الطبيعة» . ومفهوم الطبيعة مفهوم أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصاً في الغرب، فكلمة «طبيعة» داخل السياق الفلسفي الغربي لا تشير إلى الأحجار والأشجار والسحب والقمر والتلقائية والحرية، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:(1/131)
1 ـ تتسم الطبيعة بالوحدة، فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص منها، فهي لا تتحمل وجود أية مسافات أو ثغرات أو ثنائيات. وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحد صارم.
2 ـ تتسم الطبيعة بالقانونية (لكل ظاهرة سبب وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان) ، أي أن الطبيعة بأسرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائياً بقوة دفع نابعة منها، وهي خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة مطردة وآلية، قوانين رياضية عامة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلها أو التدخل فيها، وهي قوانين كامنة فيها.
3 ـ الحركة أمر مادي، ومن ثم، لا توجد غائية في العالم المادي (حتى لو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية) .
4 ـ لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية ولا الإنسان الفرد واتجاهاته ورغباته، ولا تمنح الإنسان أية مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات ويمكن تفسيره في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة. والإنسان الفرد (أو الجزء) يذوب في الكل (الطبيعي/المادي) ذوبان الذرات فيها، أي أن الطبيعة تلغي تماماً الحيز الإنساني.
5 ـ الإيمان بأنه لا توجد غيبيات ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أي نوع، فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.(1/132)
يُلاحَظ أن الطبيعة، حسب هذا التعريف الفلسفي، هي نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، تُوجَد مقومات حركته داخله، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة (ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان) . وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي. ولذا، فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تُضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية.
ولعل كثيراً من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدمنا كلمة «مادي» بدلاً من كلمة «طبيعي» ، فبدلاً من «المذهب الطبيعي» نقول «المذهب المادي» ، وبدلاً من «القانون الطبيعي» نقول «القانون المادي» ، وبدلاً من «الإنسان الطبيعي» يمكننا أن نقول «الإنسان المادي» ، وبدلاً من «الطبيعية (بالإنجليزية: ناتشوراليزم naturalism) » نقول «مادية» . وحينئذ، فإننا نؤكد أن الإنسان الطبيعي، في واقع الأمر، شخص يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها، ولذا فهو يجمع براءة الذئاب وتلقائية الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتها. وحينما نقول «العودة للطبيعة» ، فنحن نقصد أن العودة ستكون لقوانين الطبيعة، أي قوانين المادة. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وقد تبع في ذلك كلاً من داروين ونيتشه.
المادية(1/133)
«المادية» هي المصدر الصناعي من كلمة «المادة» ، وهي لا علاقة لها بجمع المال أو بالإقبال على الدنيا كما قد يتوهم البعض. ويمكن للإنسان المادي المغالى في ماديته أن يكون زاهداً تماماً في النقود والدنيا (كما هو الحال مع إنجلز وإسبينوزا) . ويمكن القول بأن كل الفلسفات إما مادية أو غير مادية، ولا يمكن تجزيء هاتين المقولتين إلى ما هو أصغر منهما. والفلسفة المادية هي المذهب الفلسفي الذي لا يقبل سوى المادة باعتبارها الشرط الوحيد للحياة (الطبيعية والبشرية) ، ومن ثم فهي ترفض الإله كشرط من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه، وأي منظومات فكرية أو قيمية متجاوزة للمادة. ولذا، فإن الفلسفة المادية تَرُدُّ كل شيء في العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ مادي واحد هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام والكامنة فيها والتي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها. قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. وإن دخل عنصر غير مادي على هذا المبدأ الواحد، فإن الفلسفة تصبح غير مادية.
وكلمة «مادة» قد تبدو لأول وهلة وكأنها كلمة واضحة، ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. ومع هذا، يمكن تعريف الشيء المادي تعريفاً إجرائياً بأنه ذلك الشيء الذي تكون سائر صفاته مادية: حجمه ـ كثافته ـ كتلته ـ لونه ـ سرعته ـ صلابته ـ كمية الشحنة الكهربائية التي يحملها ـ سرعة دورانه ـ درجة حرارته ـ مكان الجسم في الزمان والمكان ... إلخ. والصفات المادية هي الصفات التي يتعامل معها علم الطبيعة (الفيزياء) ، فالمادة ليست لها أية سمة من سمات العقل: الغاية ـ الوعي ـ القصد ـ الرغبة ـ الأغراض والأهداف ـ الاتجاه ـ الذكاء ـ الإرادة ـ المحاولة ـ الإدراك ... إلخ، أي أن المادي ليس له أية سمة من السمات التي تُميِّز الإنسان كإنسان.(1/134)
ويمكن القول بأن الأطروحات الأساسية للفلسفة المادية هي ما يلي:
1 ـ لا يوجد إلا المادة، ولا توجد أية صفات سوى الصفات المادية. فالمادة أزلية، فهي لا تفنى ولا تُستحدَث من العدم. وهي الأصل الراسخ لكل الموجودات، وهي الجوهر الواحد والمبدأ الوحيد الأول والأخير الذي تُردُّ إليه جميع ظواهر الحياة المادية والإنسانية والحوادث التاريخية.
2 ـ لا توجد أية صفات سوى الصفات المادية، وطبيعة كل شيء وخصائصه إنما هي نتيجة تركيب لبعض ذرات هذه المادة تم بشكل آلي ومن تلقاء نفسه من خلال الحركة الأزلية للمادة. أما أحوال الشعور والفكر والعقل، فهي ظواهر تابعة (بالإنجليزية: إبي فينومنون epiphenomenon) ناتجة عن ذلك الجوهر. ولا يوجد سوى الكم في العالم، وكافة الكمَّات يمكن المقارنة بينها (أما الكيف فهو مجرد شكل من أشكال الكم) ، أي أنه لا يوجد سوى الكمي، أما الكيفي فهو ظاهري.
3 ـ عادةً ما تُقرن المادة بالحركة، فالمادة والحركة لهما وحدهما وجود وحقيقة نهائية. ولكن الحركة كامنة في المادة، ومن ثم فإن المادة ليس لها سبب أو محرك أول.
4 ـ حركة المادة حركة آلية محايدة ليس لها قصد أو غاية أو معنى، وهي خاضعة لقوانين طبيعية لا تختلف ولا تتغيَّر أو خاضعة لقانون الصدفة.
5 ـ كل تَغيُّر، مهما اختلف مجاله، له أساس مادي. وكل الظواهر تتغيَّر وتختفي وتذوب في مادة كونية أزلية. والتطور، بما في ذلك التطور في المجتمعات الإنسانية، هو نتيجة تطور متصل في القوى المادية، ولا علاقة له بالقيم أو الغائية الإنسانية.(1/135)
والمادية ترى أسبقية المادة على الإنسان بكل نشاطاته، وهي تمنح العقل مكانة تالية على المادة. ولذا، ليس للعقل أية فعالية سببية، ووجوده ليس ضرورياً لاستمرار حركة المادة في العالم. وتُقر نظرية المعرفة المادية (في مراحلها الأولى) بإمكانية قيام المعرفة، فالعالم قابل لأن يُعرَف لأنه مُعطَى لإحساسنا ووعينا، بل إن مادية العالم هي شرط لمعرفته. ولمعرفة هذا العالم، لا يحتاج الإنسان إلى استعارة وسائل من خارج عالم الطبيعة/المادة؛ فهناك أولاً حواسه الخمس التي ترصد المحسوسات، وهناك عقله الذي يرتب ويُركِّب المحسوسات ولكنه غير منفصل عن الوجود المادي الحسي ـ فالمعرفة هي انعكاس الواقع الخارجي في دماغنا عبر إحساساتنا وتراكم المعطيات الحسية على صفحة العقل البيضاء. ويمكن للإنسان أن يكتسب المزيد من المعرفة من خلال التجريب ومراكمة المعلومات في ذاكرته. وفي بعض أشكال المادية، لا توجد حدود للمعرفة، فكل ما هو موجود قابل لأن يُعرَف، أما التساؤلات الميتافيزيقية فهي ليست موجودة أو ليست موضوعاً للمعرفة.
والمادة لا تسبق العقل وحسب وإنما تسبق كل ما هو إنساني، فهي مثلاً تسبق الأخلاق (ولذا فإن الأخلاق تُفسَّر تفسيراً مادياً ووفقاً لقانون طبيعي) ، فمنطق الحاجة الطبيعية المباشرة هو الذي يتحكم في الأخلاق الإنسانية تماماً مثلما تتحكم الجاذبية في سقوط التفاحة. ولذا، تنادي المذاهب الأخلاقية المادية بأن الشيء الوحيد الذي يجدر بالإنسان أن يسعى إليه هو الخيرات المادية التي تجود بها الحياة. وثمة قيم أخرى في النظام المادي، ولكنها قيم مادية مثل البقاء والنمو والحركة. وإذا كانت القوة هي الآلية التي يتم بها حسم الصراع في عالم الطبيعة، فهي تصبح بالتالي الآلية الأخلاقية المادية الكبرى.(1/136)
والشيء نفسه ينطبق على المعايير الجمالية، فالشعور والإحساس بالجمال وكل الأحاسيس الإنسانية يمكن فهمها بردها إلى المبدأ الطبيعي/المادي الواحد، فهي مجرد تعبير عن شيء مادي يُوجَد في الواقع المادي. والمادة تسبق التاريخ، ولذلك فإن كل تَطوُّر (اجتماعي وتاريخي) يتوقف على الظروف المادية والاقتصادية (على سبيل المثال: تَطوُّر أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج والمصلحة الاقتصادية) . وأسلوب الإنتاج في الحياة المادية هو شرط تَطوُّر الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية على العموم. بل إن المشاعر الإنسانية الكونية الأولية مثل مشاعر الأبوة والأمومة والرغبة في الاطمئنان والائتناس بالآخر، ومظاهر النبل والخساسة، كلها أمور مادية. وكما يقول الماديون، فإن البناء الفوقي (الفكري والعقلي والنفسي) يُردُّ، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى المادة، وما لا يُردُّ إلى المادة لا وجود له، وقبول وجوده هو سقوط في الميتافيزيقا والغيبية والجهالة.
وهذه هي نقطة انطلاق الحداثة المادية الغربية والفلسفات العلمانية الشاملة، وهي فلسفات حلولية كمونية واحدية مادية تَردُّ كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر وجود قانونين أحدهما يسري على الطبيعة/المادة ويسري الآخر على الطبيعة البشرية. وبدلاً من ذلك، تؤكد هذه الفلسفات وجود قانون طبيعي واحد يسري على كل الظواهر ليتساوى، في ذلك، الإنسان والأشياء (وهذا هو أساس فكرة وحدة أو واحدية العلوم) . ولذا، فالنتيجة المنطقية للفلسفات العلمانية المادية الشاملة حينما تُطبَّق على الإنسان بصرامة هي تفكيكه ورده إلى القوانين الطبيعية/المادية والإحاطة به ككائن لا استقلال له عن النظام الطبيعي/المادي.
الإنسان الطبيعى) المادى ((1/137)
«الإنسان الطبيعي» هو «الإنسان الطبيعي/المادي» ، أي الإنسان الذي يدور في إطار المرجعية الكامنة في المادة، يعيش بالطبيعة/المادة وعلى الطبيعة/المادة. والإنسان الطبيعي/المادي تعبير متبلور عن النزعة الجنينية وعن اختفاء النزعة الربانية، ولذا نجد نفس النمط الذي تتسم به النزعة الجنينية يعبِّر عن نفسه من خلاله: التأرجح بين الواحدية والثنائية وبين الصلابة والسيولة:
1 ـ الإنسان الطبيعي/المادي إنسان بلا حدود، يتمتع بكل السمات الأساسية للطبيعة/المادة، فهو مكتف بذاته، مرجعية ذاته، ومعيارية ذاته، لا توجد أية حدود أو سدود أو قيود عليه: اجتماعية أو تاريخية أو أخلاقية أو جمالية، فهو سوبرمان حقيقي. إنسان يعيش في الزمان الطبيعي الحر وليس في الزمان التاريخي الإنساني الذي تتحكم فيه القيم والأعراف، فهو تعبير واضح عن الواحدية الذاتية.
2 ـ هذا يعني في واقع الأمر أنه لا توجد مسافة تفصله عن الطبيعة أو عن قوانينها الكامنة في المادة، فما هو إلا جزء عضوي لا يتجزأ منها، لا يمكنه تجاوزها، حدودها حدوده، فضاؤها فضاؤه، أي أن الحيز الإنساني يختفي تماماً.
3 ـ هذا يعني أن الإنسان خاضع تماماً لقوانين الطبيعة الكامنة في المادة تحركه أينما شاءت لا يمكنه الفكاك من حتمياتها، يُرد في كليته إلى النظام الطبيعي/المادي، يمكن تفسيره في إطار مقولات طبيعية/مادية مستمدة من عالم الطبيعة/المادة: وظائفه البيولوجية (الهضم ـ التناسل ـ اللذة الحسية) ، ودوافعه الغريزية المادية (الرغبة في البقاء المادي ـ القوة والضعف ـ الرغبة في الثروة) ، والمثيرات العصبية المباشرة (بيئته المادية ـ غدده ـ جهازه العصبي) ، فهو سبمان حقيقي، تعبير واضح عن الواحدية الموضوعية المادية.
ويمكننا الآن أن نتعامل مع سمات الإنسان الطبيعي/المادي:(1/138)
1 ـ جوهر الإنسان الطبيعي ليس جوهراً إنسانياً، مستقلاً وفريداً، وإنما هو جوهر طبيعي/مادي، فالإنسان لا يختلف، بشكل جوهري، عن الكائنات الطبيعية الأخرى. قد يكون سلوك الإنسان أكثر تركيباً من سلوك الكائنات الطبيعية الأخرى، ولكن الاختلاف بينه وبينها هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع. ولذا فالإنسان، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، هو وأفكاره وتاريخه وأشواقه وأحزانه مجرد جزء من بناء فوقي وهمي يُرد، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى البناء المادي التحتي الحقيقي، الطبيعة/المادة وقوانينها.
2 ـ الإنسان الطبيعي، شأنه شأن الكائنات الطبيعية، جزء من النظام الطبيعي، وهو نظام واحدي صارم لا يعرف الثنائيات أو التركيب وليس بإمكان كائن تجاوزه، ولذا فالإنسان الطبيعي إنسان أحادي البُعد (إنسان وظيفي) سلوكه يتبع نسقاً منطقياً واضحاً يمكن التنبؤ به. ولذا يمكن اختزاله إلى تلك الصيغ الكمية والرياضية البسيطة المستخدمة في العلوم الطبيعية، ويمكن تفسيره من خلال مقولات مادية محضة، ويمكن توظيفه وحوسلته وجعله مادة استعمالية نافعة.
3 ـ لأن الطبيعة يمكن أن توجد دون الإنسان فيمكن القول بأنه لا يشكل المركز في الكون، فما هو إلا جزء عرضي فيه، وينبغي عليه أن يزعن لقوانينها وألا يحاول تجاوزها.(1/139)
4 ـ معرفة الإنسان الطبيعي، محدودة بحدود الطبيعة والعلاقات بينها، فالإنسان، شأنه شأن الكائنات الطبيعية جزء من برنامج طبيعي مادي، ذاتي الحركة والتنظيم. بل يُلاحَظ أن الحيوانات العليا تشترك مع الإنسان (الطبيعي) في درجات من الذكاء ووسيلة من وسائل الاتصال والتنظيم الاجتماعي وأشكال من الاقتصاد، ولكنها جميعاً تتسم بالبساطة والمنطقية البالغة. ويشير علي عزت بيجوفيتش، المفكر الإسلامي رئيس جمهورية البوسنة، إلى أن صناعة الأدوات واستخدامها (وهي ظاهرة تدل على التقدُّم الشديد في حلقة التَطوُّر) تُمثِّل استمراراً للتَطوُّر البيولوجي، وهو تَطوُّر خارجي كمي يمكن تتبُّعه من الأشكال البدائية للحياة حتى ظهور الحيوان الكامل. فالوقفة المنتصبة، واكتمال اليد، واللغة والذكاء، كلها حالات ولحظات من التطور تبقى بطبيعتها في إطارها الحيواني. والإنسان، عندما استخدم لأول مرة حجراً لكسر ثمرة صلبة أو لضرب حيوان، فلابد أنه فعل شيئاً مهماً جداً ولكنه ليس جديداً كل الجدة، ذلك لأن آباءه الأوائل من فصيلته الحيوانية حاولوا فعل الشيء نفسه.
من هذا المنظور يمكن القول بأن عقل الإنسان ليس له أية فعالية، فوجوده ليس ضرورياً لحركة الكون. بل إن العقل والخيال ومقدرة الإنسان على التجاوز والترميز والتجريد تشكل عوائق تقف في طريق محاولة الإنسان الإذعان للطبيعة والتحرك معها والخضوع لحتمياتها.(1/140)
5 ـ الإنسان الطبيعي/المادي، شأنه شأن كل الكائنات الطبيعية لا يعرف القلق أو التفكير في المجهول ولا يفكر في مصيره ولا في مصير الكون، ولا تعكر صفوه أية أسئلة معرفية، نهائية وكلية كبرى، فأسئلته كلها أسئلة عملية مادية محصورة بالبيئة والاحتياجات المادية المباشرة. وعقل كل من الإنسان (الطبيعي) والحيوان صفحة بيضاء تُسجَّل عليها الأحاسيس المادية، ولذا فإن كليهما يدرك السطح بكفاءة عالية ولا يحاول الغوص إلى باطن غير مادي مُتوهَّم. وكلاهما لا ينسب إلى الأشياء دلالات رمزية غير موجودة في جبلة الأشياء المادية.
6 ـ يمكن تفسير قيم هذا الإنسان الطبيعي/المادي ودوافعه ونشاطاته على أُسس طبيعية/مادية. فما يحركه هو أخلاقيات طبيعية/مادية برانية تستند إلى المنفعة والمصلحة والرغبة في البقاء الكامنة في المادة. قد يتوهم الناس أن القيم من لدن الإله أو من إبداع الإنسان، وهذا وهم. فمصدر القيم هو الطبيعة، ومن ثم يمكن من خلال دراسة الطبيعة وقوانينها المختلفة دراسة إمبريقية أن نصل إلى منظومات قيمية ومعرفية وجمالية (طبيعية/مادية) يستطيع الإنسان أن يعيش بها وأن يحقق مصلحته وبقاءه المادي ولذته.
7 ـ الطبيعة البشرية، شأنها شأن الطبيعة المادية، في حالة حركة دائمة وتغيُّر دائم، ولذا لا توجد إنسانية مشتركة، ولا يمكن أن توجد أية معايير دينية أو أخلاقية أو حتى إنسانية، فمثل هذه المعايير خاضعة لقوانين الحركة.
8 ـ على المستوى الرمزي يتم إدراك الإنسان الطبيعي من خلال رموز طبيعية مستمدة من عالم الطبيعة/المادة وهي عادةً صور مجازية مستمدة من عالم الحيوان والنبات (عضوية) أو من عالم الأشياء (آلية) أو خليط منهما.(1/141)
وتَصدُر الفلسفات المادية عن الإيمان بأسبقية الطبيعة/المادة على الإنسان ولذا فهي تركز على الإنسان الطبيعي والجوانب الطبيعية/المادية من الوجود الإنساني، وتَرُد كل جوانب الوجود الإنساني الأخرى له، ولذا فهي تُلغي ثنائية الإنسان/الطبيعة (والرباني الجنيني) حتى تسود الواحدية المادية. ولذا، فنحن نربط بين الإنسان الطبيعي والنزعة الجنينية التي تعفي الإنسان من عبء الهوية والمسئولية والاختيار وتدور في إطار الواحدية المادية.
والعلوم الإنسانية في الغرب، وكذلك النماذج التحليلية السائدة فيها، تدور معظمها حول مفهوم الإنسان الطبيعي، ولذا فهي تنظر إلى الإنسان باعتباره مجموعة من الوظائف البيولوجية والحقائق المادية، فالإنسان مجرد نظام طبيعي كغيره من النظم الطبيعية ويخضع بدوره للقواعد الحتمية الصلبة للطبيعة، ويمكن تفكيكه إلى أجزائه المادية الأساسية إلى أن يتلاشى تماماً في النهاية. وحتى في تطوُّره، نجد أن الإنسان الطبيعي لا يختلف عن الحيوان الطبيعي، فهما نتيجة عملية تَطوُّر طويلة تبدأ من أدنى أشكال المادة حيث لا يوجد أي تميُّز واضح بينهما؛ فكلاهما مجرد وظائف بيولوجية، وكلاهما نتاج لبيئته وعمله ولمحاولة البقاء من خلال الصراع والتكيف.(1/142)
وتَطوُّر الإنسان الطبيعي، مثل تَطوُّر الحيوان الطبيعي، داخل نسق بسيط مستمر منطقي، ومهما بلغ من تركيب فهو يظل داخل إطار الطبيعة/المادة. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقد أوضح إنجلز أن الإنسان نتاج علاقات اجتماعية (أو بدقة أكثر) نتاج أدوات الإنتاج الموجودة، إنه مجرد نتاج حقائق [مادية] معينة". ولقد أخذ داروين هذا الإنسان اللاشخصي بين يديه ووصف تَقلُّبه خلال عملية الاختيار الطبيعي حتى أصبح إنساناً قادراً على الكلام وصناعة الأدوات وعلى أن يمشي منتصباً. ثم يأتي علم البيولوجيا ليستكمل الصورة، فيرينا أن كل شيء يرجع إلى أشكال الحياة البدائية التي هي بدورها عملية طبيعية كيميائية: لعب بالجزيئيات (أما الحياة والضمير والروح فلا وجود لها، وبالتالي فليس هناك جوهر إنساني) . وإنسان نيتشه، نتاج عملية التطور هذه، هو إنسان كامل اسماً، فهو في جوهره حيوان كامل خاضع تماماً لقوانين التطور الطبيعية. وكل المدن الفاضلة المادية (اليوتوبيات التكنولوجية التكنوقراطية) ، التي تُدار على أسس علمية/مادية، يظهر فيها إنسان مثالي تماماً، إنسان في مثالية النحل والنمل والحيوانات التي تبلغ الغاية في التنظيم، وهي كائنات تعيش في مجتمعها بشكل آلي منطقي؛ كالإنسان الآلي المغسول في الرشد المادي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه؛ إنسان لا يختار ولا يقرر، فكل شيء قد تم اختياره وتقريره له؛ وهو لا يحمل أية أعباء أخلاقية، فهو يتصرف بشكل آلي حسب طبيعته؛ وطبيعته لا خير فيها ولا شر ولا قلق ولا أسئلة كبرى. إن هذا الإنسان الآلي هو تَطوُّر طبيعي للإنسان الطبيعي/المادي لا يختلف عنه في الجوهر.(1/143)
إن عالم الإنسان الطبيعي عالم واحدي براني أملس. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش: "لقد دأب الماديون على توجيه نظرنا إلى الجانب الخارجي للأشياء. فيقول إنجلز: إن اليد ليست عضو العمل فقط وإنما هي أيضاً نتاج العمل.. فمن خلال العمل اكتسبت اليد البشرية هذه الدرجة الرفيعة من الإتقان الذي استطاعت من خلاله أن تنتج لوحات روفائيل، وتماثيل ثورفالدسن، وموسيقى باجانيني".
"إن ما يتحدث عنه إنجلز هو استمرار النمو البيولوجي وليس النمو الروحي. ولكن الإنسان ليس مجرد وظائف بيولوجية. والنمو البيولوجي وحده، حتى لو امتد إلى أبد الآبدين، ما كان بوسعه أن يمنحنا لوحات روفائيل، ولا حتى صور الكهوف البدائية التي ظهرت في عصور ما قبل التاريخ".
ونحن نضع في مقابل الإنسان الطبيعي الإنسان الإنسان، وهو إنسان غير طبيعي/مادي يحوي داخله عناصر (ربانية) متجاوزة لقوانين الحركة (التي تسري على الإنسان والحيوانات) ومتجاوزة للنظام الطبيعي/ المادي. وهذه العناصر هي التي تشكل جوهر الإنسان والسمة الإنسانية لإنسانيته وتفصله عن بقية الكائنات وتُميِّزه كإنسان. فالإنسان الإنسان (غير الطبيعي) ، هو الإنسان الحق، أما الإنسان الطبيعي فهو الإنسان الذي لا يحوي جوهراً إنسانياً (ولذا فهو يمتزج بسهولة مع الكائنات الطبيعية ويتصف بصفاتها) . فهو تعبير عن النزعة الجنينية والرغبة في فقدان الذات والحدود.(1/144)
وهنا يطرح بيجوفيتش مفهوم ازدواجية الطبيعة الإنسانية التي "جاء أحد جانبيها من الأرض (الطبيعة/المادة) وجاء الآخر من السماء". والوظائف البيولوجية والنشاطات الطبيعية (مثل الصيد وصنع الأدوات) هي التي جاءت من الأرض، أما النشاطات الأخرى (مثل الدين والفن) فهي ليست من سمات الإنسان الطبيعي وإنما من سمات الإنسان الإنسان، وهو كائن مركب متعدد الأبعاد، قَلق يسأل أسئلة كلية، يحمل عبء الهوية والمسئولية الخلقية، لا يمكن اختزاله في صيغ رياضية كمية كما لا يمكن رده في كليته إلى عالم الطبيعة/المادة وواحديته المادية، ولذا فهو يعيش ثنائية فضفاضة لا يمكن إلغاؤها.
الإنسان الاقتصادى والإنسان الجسمانى (الجنسى (
هناك ـ في تصوُّرنا ـ تنويعان أساسيان على فكرة الإنسان الطبيعي: الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني أو الجنسي.
1 ـ الإنسان الاقتصادي: إنسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الاقتصادية والرغبة في تحقيق الربح والثروة، وإنسان ماركس المحكوم بعلاقات الإنتاج. وهو يعبِّر عن مبدأ المنفعة بحيث لا يعرف الإنسان سوى صالحه الاقتصادي، ولذا فهو إنسان يتسم بالتقشف والإنتاج وحب التراكم. وهو إنسان متحرر تماماً من القيمة (شأنه شأن الطبيعة) دوافعه الأساسية اقتصادية بسيطة، وتحركه القوانين الاقتصادية، وتحكمه حتمياتها (تماماً مثل الإنسان الطبيعي الذي يخضع لقوانين الطبيعة وحتميات القانون الطبيعي لا يملك تجاوزاً لها) ، إنسان لا ينتمي إلى حضارة بعينها وإنما ينتمي إلى عالم الاقتصاد العام، وهو لا يعرف الخصوصية ولا الكرامة ولا الأهداف السامية التي تتجاوز الحركة الاقتصادية، وهو يجيد نشاطاً واحداً هو البيع والشراء، وهذا هو إنسان ماركس وآدم سميث. ويُشار إلى هذا الإنسان في النظم الرأسمالية بأنه «دافع ضرائب» ، أما في النظم الاشتراكية فيمكن أن يكون «بطل الإنتاج» .(1/145)
2 ـ الإنسان الجسماني أو الجنسي: إنسان فرويد وبافلوف الذي تحركه دوافعه الجنسية وغدده وجهازه العصبي. وهو يعبِّر عن مبدأ اللذة ولا يعرف سوى متعته ولذته؛ إنسان الاستهلاك والترف والتبذير؛ إنسان فرويد والسلوكيين، وهو إنسان أحادي البُعد خاضع للحتميات الغريزية متجرد من القيمة لا يتجاوز قوانين الحركة.
إن الإنسان الطبيعي هو نفسه الإنسان الاقتصادي، وهو نفسه الإنسان الجسماني، وقد تختلف المضامين ولكن البنية واحدة. ولو أننا وضعنا كلمة «اقتصاد» أو كلمة «جنس» بدلاً من كلمة «طبيعة» لظل كل شيء على ما هو عليه ولما غيَّرنا شيئاً من خطابنا.
وثنائية الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني تُعبِّر عن نفسها من خلال مرحلتين في تاريخ الاقتصاد العلماني: المرحلة التقشفية التراكمية وتليها المرحلة الفردوسية التي بدأت في العالم الرأسمالي في بداية القرن العشرين، وبدأت في شرق أوربا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبدأت في العالم الثالث بين أعضاء النخب الحاكمة المتغربة. وما يسود الآن في المجتمعات الحديثة هو خليط بين الاثنين.
العقلانية المادية واللاعقلانية المادية
«العقلانية» هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة من بينها الحسابات المادية الصارمة دون استبعاد العاطفة والإلهام والحدس والوحي. والحقيقة حسب هذه الرؤية يمكن أن تكون حقيقة مادية بسيطة، أو حقيقة إنسانية مركبة، أو حقائق تشكل انقطاعاً في النظام الطبيعي. ومن ثم يستطيع هذا العقل أن يدرك المعلوم وألا يرفض وجود المجهول. وهذا العقل يدرك تماماً أنه لا "يؤسِّس" نظماً أخلاقية أو معرفية، فهو يتلقَّى بعض الأفكار الأولية ويصوغها استناداً إلى منظومة أخلاقية ومعرفية مسبقة.(1/146)
ولكن هناك من يذهب إلى أن العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده دون مساعدة من عاطفة أو إلهام أو وحي، وبأن الحقيقة هي الحقيقة المادية المحضة التي يتلقاها العقل من خلال الحواس وحدها، وبأن العقل إن هو إلا جزء من هذه الحقيقة المادية فهو يُوجَد داخل حيز التجربة المادية محدوداً بحدودها (لا يمكنه تجاوزها) ، وأنه بسبب ماديته هذه قادر على التفاعل مع الطبيعة/المادة يمكنه انطلاقاً منها (ومنها وحدها) أن "يؤسس" منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية تهديه في حياته ويمكنه على أساسها أن يفهم الماضي والحاضر ويفسرهما ويُرشِّد حاضره وواقعه ويخطط لمستقبله.(1/147)
هذا يعني، في واقع الأمر، أن العقل عقل مادي يقوم بإعادة إنتاج العالم المادي من خلال مقولات الطبيعة/المادة وحسب (لا من خلال أية مقولات إنسانية) . فيرصد الواقع باعتباره كماً وأرقاماً وسطحاً بسيطاً خالياً من الأسرار والتفاصيل المتناثرة. وهو عقل قادر على وصف ما هو عام ولكنه لا يستطيع أن يرصد ما هو خاص وفريد، وهو قادر على رصد ما هو كائن ولكنه غير قادر على إدراك ما ينبغي أن يكون، فـ «ما ينبغي» مقولة أخلاقية مثالية متجاوزة لعالم الطبيعة/المادة. ولذا، فإن العقل المادي يتعرف على الحقائق المادية فقط (يعرف ثمنها أو حجمها أو كثافتها، أي صفاتها المادية وحسب) ولكنه لا يعرف قيمتها، فالقيمة شيء متجاوز لعالم المادة. ومن ثم، لا يُوجَد بالنسبة للعقل المادي خير وشر أو عدل وظلم. وحتى إن أدرك العقل المادي قيمة شيء، فسرعان ما يرده إلى عالم المادة، فهو عقل تفكيكي عدمي قادر على تفكيك الأشياء ونزع القداسة عنها ولكنه غير قادر على تركيبها. وهو، لكل هذا، عقل لا يملك إلا أن يساوي بين الطبيعة/المادة والإنسان وأن يسوي بينهما، فيمحو ثنائية الإنسان والطبيعة لتسود الواحدية المادية، أي أن العقل المادي يصبح أداة الطبيعة/المادة في الهجوم على الإنسان بدلاً من أن يكون رمزاً لانفصاله عنها.(1/148)
وقد يبدو هذا الحديث الفلسفي وكأنه غير ذي صلة بالتاريخ المتعيِّن. ولكن الأمر ليس كذلك، فهناك من يرى أن قيام النازية بإبادة الملايين (من الغجر والسلاف واليهود والأطفال المعوقين ومن المسنين) ممن صُنِّفوا باعتبارهم "أفواهاً مستهلكة غير منتجة" (بالإنجليزية: يوسلس إيترز useless eaters) إنما هو أحد إنجازات العقلانية المادية التي "حرَّرت" النازية من أية أعباء أخلاقية مثالية (غير مادية) وتعاملت مع البشر بكفاءة بالغة وبمادية صارمة كما لو أنهم مادة استعمالية نسبية تخضع لقوانين الطبيعة/المادة، فمن يحيد عنها (مثل الأطفال المعوقين والرجال المسنين) لابد من التخلص منه في أسرع وقت وبأكثر الطرق كفاءة. أي أن العقل المادي هنا قام بتفكيك البشر بصرامة بالغة وكفاءة مدهشة، ونظر للجميع بعيون زجاجية وكأنه كمبيوتر متألِّه، يبلغ الغاية في الذكاء، لا قلب له ولا روح، يُحيي ويُميت.
ويمكننا القول بأن هناك نمطاً من الحكام الإرهابيين الثوريين لا يختلفون كثيراً عن هتلر ويدورون في إطار العقلانية المادية؛ مثل روبسبيير الذي قام بتفكيك البشر في إطار «مصلحة الشعب» التي يقررها هو، فأباد الملايين من غير النافعين، ومثل ستالين الذي قام بتفكيكهم في إطار علاقات الإنتاج ومعدلات النمو فأباد ملايين الفلاحين (الكولاك) الذين كانوا يعوقون عملية الإنتاج المادية الحتمية. ويرى بعض مؤرخي الثورات التي تدور في إطار النماذج العقلانية المادية أن ظهور مثل هذا الكمبيوتر المتأله مسألة حتمية، وأنه قد يأخذ (بعد استقرار الثورة وتحوُّلها إلى مؤسسات) شكل لجان خبراء ومستشارين. بل يرون أن هذه ظاهرة حتمية لصيقة بالمجتمعات الحديثة التي تُعرِّف النمو والتقدم والإنسان من منظور عقلاني مادي، وأن التكنوقراطية ونظريات التلاقي ووحدة العلوم والاتجاه نحو التنميط والكوكلة والعولمة إنما هي تعبير عن هذا الاتجاه.(1/149)
ويمكننا الآن أن نثير نقطتين أساسيتين تتصلان بالعقلانية المادية:
1 ـ نحن نذهب إلى أنه لا توجد علاقة ضرورية بين العقلانية والمادية، فهناك نظم سياسية مادية عقلانية وأخرى مادية لاعقلانية. فالنظام السياسي الأمريكي مبني على الفصل بين الدين والدولة فصلاً كاملاً، وقد نجح الأمريكيون، في بعض مراحل تاريخهم على الأقل، في تطوير نظام عقلاني يُعبِّر عن مطامح الشعب الأمريكي بشكل معقول. والنظام النازي، هو الآخر، كان نظاماً مادياً شرساً في ماديته، ولكنه كان لاعقلانياً بصورة تامة، وكان يتحرك في إطار نظريته العرْقية الشمولية التي شكلت مرجعيته المادية الكامنة. والنظام الستاليني، كان هو الآخر نظاماً مادياً بشكل نماذجي، ولكن لا يمكن أن يزعم أحد أنه كان نظاماً عقلانياً. وهناك نظم عقلانية تستند إلى عقائد دينية يزخر بها تاريخ الإنسان.
2 ـ بل إننا نذهب إلى أن العقلانية المادية تؤدي في مراحلها المتقدمة إلى اللاعقلانية المادية وهذا ما سنتناوله في بقية هذا المدخل.(1/150)
وقد أشرنا إلى أن العقل المادي عقل تفكيكي عدمي غير قادر على التركيب أو التجاوز. ويتضح هذا في أنه عقل قادر على إفراز قصص (نظريات) صغرى مرتبطة بفضائها الزماني والمكاني المباشر على أحسن تقدير (كما يقول دعاة ما بعد الحداثة) ، أي أنه قادر على إفراز مجموعة من الأقوال التي لا شرعية لها خارج نطاقها المادي المباشر الضيق المحسوس (فالعقل المادي يُدرك الواقع بطريقة حسِّية مباشرة) . ومن ثم فهو عقل عاجز عن إنتاج القصص الكبرى أو النظريات الشاملة عاجز عن التوصل للحقيقة الكلية المجردة التي تقع خارج نطاق التجريب. ولذا فالعقل المادي لا يُنكر الميتافيزيقا وحسب وإنما يُنكر الكليات تماماً وينتهي به الأمر بالهجوم على العقل الإنساني والعقل النقدي لأنهما يتوهمان أنهما يتمتعان بقدر من الاستقلال عن حركة الطبيعة/المادة. وبذلك يختفي الإنسان كمرجعية نهائية بل يختفي مفهوم الطبيعة البشرية نفسه، ثم تختفي سائر المرجعيات وتصبح الإجراءات الشيء الوحيد المتفق عليه. وهكذا لا يتحرر العقل المادي من الأخلاق وحسب وإنما يتحرر من الكليات والهدف والغاية والعقل، ومن ثم تتحوَّل العقلانية المادية إلى لاعقلانية مادية.(1/151)
وإذا كانت العقلانية المادية قد أفرزت فكر حركة الاستنارة والوضعية المنطقية والكل المادي المتجاوز للإنسان، فقد أفرزت اللاعقلانية المادية: النيتشوية والوجودية والفينومينولوجية وهايدجر وما بعد الحداثة. والانتقال من التحديث إلى الحداثة وما بعد الحداثة هو الانتقال من العقلانية المادية التي تربط بين التجريب والعقلانية (في مرحلة المادية القديمة ومرحلة الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية المادية) إلى اللاعقلانية المادية التي تفصل بينهما، فيتم التجريب دون ضابط ودون إطار (في مرحلة المادية الجديدة والسيولة الشاملة) . وتسود الآن في مجال العلوم نزعة تجريبية محضة ترفض الكليات العقلية) إنسانية كانت أم مادية) وتلتصق تماماً بالمادة وحركتها وعالم الحواس.
ومع هذا يمكن القول بأن العقلانية المادية كثيراً ما تتعايش مع اللاعقلانية المادية وترتبط بها. فالوضعية العلمية المنطقية تعبير عن العقلانية المادية حيث لا يؤمن الإنسان إلا بالتجريب والأرقام، ولكنها في الوقت نفسه تعبير عن اللاعقلانية المادية، فهي لا تشغل بالها بالكليات أو المنطلقات الفلسفية. وقد أشرنا إلى أن النازية، كما يراها بعض المؤرخين، هي قمة العقلانية المادية، ونحن نتفق معهم في هذا، ونضيف أن هذا لا يمنع أن تكون قمة اللاعقلانية المادية أيضاً، فهي تعبير عن تَبلور نزعة تجريبية محضة ترفض الكليات الإنسانية والعقلية وأي شكل من أشكال الميتافيزيقا وتلتصق تماماً بحركة المادة وعالم الحواس، وتُمجِّد الإرادة الفردية على حساب أية مفاهيم إنسانية كلية. ولعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية، أي الداروينية الاجتماعية، هي تعبير عن هذا التعايش والترابط بين العقلانية واللاعقلانية المادية.(1/152)
الباب الثالث: فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان
تؤكد العقلانية المادية عناصر التجانس والتكرار والكم والسببية والآلية، ولذا فهي تتسم بمقدرة عالية، نوعاً ما، على رصد حركة الأشياء ودراستها. فالعقلانية المادية تتحرك في إطار الواحدية المادية التي تخضع لها الأشياء، أما الإنسان فهو ظاهرة تتجاوز حدود الواحدية المادية. ولذا، فإن سلوكه، سواء في نُبله أو ضعته، في بطولته أو خساسته، ليس ظاهرة مادية محضة وإنما ظاهرة مركبة لأقصى حد:
1 ـ فعقل الإنسان له مقدرات تتحدى النموذج التفسيري المادي، حتى أننا نجد عالماً مثل تشومسكي ينكر تماماً أن عقل الإنسان مجرد صفحة بيضاء سلبية (وهو الافتراض الوحيد المتاح أمام الماديين) وإنما هو عقل نشيط يحوي أفكاراً كامنة فطرية. ولذا، نجد أن تشومسكي يتحدث عن «معجزة اللغة» باعتبارها ظاهرة لا يمكن تفسيرها في إطار مادي وإنما لابد من تفسيرها في إطار نموذج توليدي يفترض كمون المقدرة اللغوية في عقل الطفل بما يعني أن العقل ليس مجرد المخ، مجموعة من الخلايا والأنزيمات. ويقدم جان بياجيه رؤية توليدية لتطور الإنسان وتطوُّر إحساسه بالزمان والمكان. وتزايد الاعتماد على النماذج التوليدية، مقابل النماذج التراكمية، هو دليل على تراجُع النموذج المادي.(1/153)
2 ـ ثم نأتي إلى مشكلة الفكر. يدَّعي الماديون أن الفكر صورة من صور المادة أو أثر من آثارها (فالعقل صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية وتتحول إلى أفكار كلية بطريقة آلية) . وهي مقولة قد تبدو معقولة ولكنها تخلق من المشاكل أكثر مما تحل. والسؤال هو: لماذا يأخذ الفكر هذه الصورة بالذات؟ ولماذا تختلف أفكار شخص عن أفكار شخص آخر يعيش في نفس الظروف؟ وهل الأفكار عصارات وأنزيمات تتحرك أم أنها شيء آخر؟ وما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية أو العاطفية؟ ولنأخذ فكرة مثل «السببية» . المعطيات الحسية المادية غير مترابطة ولا علاقة لها بأية كليات، ومع هذا يُدرك العقل الواقع لا كوقائع متناثرة وإنما كجزئيات تنضوي تحت كلٍّ متكامل، ولا يمكن أن يتم الإدراك إلا بهذه الطريقة، ولذا نجد أن الماديين (في عصر ما بعد الحداثة) ينكرون تماماً فكرة الكل، ويعلن نيتشه موت الإله الذي يعني في الواقع نهاية الكل. وهجوم الماديين والطبيعيين على الكل أمر مُتوقَّع، ففكرة الكل تُذكِّرنا بمعجزة الإنسان الذي يتجاوز النظام الطبيعي وحركة الأنزيمات والذرات والأرقام، ومن ثم فإنها تخلق ثنائية فضفاضة تستدعي مرجعية متجاوزة للنظام الطبيعي هي الإله. فالكل يؤكد تجاوز الإنسان، وتجاوز الإنسان يؤكد وجود الإله كمقولة تفسيرية معقولة. ولذا، لابد أن تهاجم هذه الفلسفة فكرة الكل حتى يعود الإنسان إلى الطبيعة ويُستوعَب فيها. وهكذا بدأت المادية بمحاولة تحطيم خرافة الميتافيزيقا، وانتهت بالهجوم على فكرة الحقيقة نفسها.(1/154)
3 ـ وهناك حس الإنسان الخُلقي والديني، والجمالي، وقلقه، وتساؤله عن الأسئلة النهائية الكبرى. وهي أحاسيس لا يمكن تفسيرها على أساس مادي، فالأمر أكثر صعوبة من مجرد تفسير وجود الأفكار. وكما ينتهي الفكر المادي بإنكار الفكر، وإنكار الكل، فهو ينكر أيضاً الحس الخُلقي والجمالي ويُسقط الأسئلة النهائية. وعلى هذا، فإن عبارات مثل «القتل شر» و «هذه اللوحة جميلة» و «قلق الإنسان على مصيره في الكون» هي عبارات لا معنى لها من منظور مادي، تماماً مثل عبارة «الله رحيم» أو «الله موجود» ، فكلها عبارات لا يمكن إثباتها أو دحضها من خلال المنهج العلمي المادي.
4 ـ المادية تفشل في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى للكون ومركزاً له. والحقيقة أنه حينما لا يجد هذا المعنى، فإنه لا يستمر في الإنتاج المادي مثل الحيوان الأعجم وإنما يتفسخ ويصبح عدمياً ويتعاطى المخدرات وينتحر ويرتكب الجرائم دون سبب مادي واضح. وتزداد قضية المعنى حدة مع ازدياد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي. والبحث عن المعنى عبَّر عن نفسه على هيئة فنون وعقائد. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش، فإن "الدين والفن مرتبطان بالإنسان منذ أن وُجد على وجه الأرض، أما العلم (المادي) فهو حديث، وفشل العلم المادي (الذي يدور في إطار نماذج مادية) في تفسير الإنسان وفي التحكم فيه هو دليل فشله في إدراك الظاهرة الإنسانية وإدراك أن الحلول التي يأتي بها حلول ناقصة".
5 ـ والفلسفات المادية تدور في إطار المرجعية المادية، ولذا فإنها ترسم صورة واحدية للإنسان إما باعتباره شخصية صراعية دموية قادرة على خرق كل الحدود وعلى إعلاء إرادتها وتوظيف قوانين الحركة لحسابها، أو باعتباره شخصية قادرة على التكيف مع الواقع والخضوع لقوانين الحركة. وهذه صورة ساذجة غير حقيقية:(1/155)
أ) الصورة الأولى تفشل في رصد تلك الجوانب النبيلة في الإنسان مثل مقدرته على التضحية بنفسه من أجل وطنه أو من أجل أبيه أو أمه، ومقدرته على ضبط نفسه من أجل مُثُل عليا.
ب) الصورة الثانية تؤكد أن الإنسان غير قادر على الثورة والتجاوز. وبالفعل، يُلاحَظ في العصر الحديث هيمنة نظم سياسية تسيطر عليها رؤى تكنوقراطية محافظة. ومع هذا، لم تنجح المادية تماماً في قمع الإنسان وتسويته بالأمر الواقع. فالإنسان لا يزال قلقاً وغير راض، وهو إن لم يُعبِّر عن قلقه من خلال الثورة الناضجة فهو يُعبِّر عن هذا القلق بأشكال مرضية.
وفي محاولة لتفسير هذه الجوانب الإنسانية غير المادية من الوجود الإنساني، يذهب الماديون إلى أن كل هذا حدث بالصدفة من خلال عملية كيميائية بسيطة ثم وصلت الكائنات بعد ذلك إلى درجة من التركيب من خلال قانون التطور. وهو ما يعني أن قانون الصدفة وقانون التطور هما القانونان الأساسيان؛ فالصدفة هي سفر التكوين أو قصة الرؤية المادية بشأن الخلق، والتطور هو تاريخها غير المقدَّس، الزمني المكاني. والتطور نفسه خاضع للصدفة وصراع القوة، فكأن الصدفة أو القوة (أو كلتيهما) محرك للكون وضمنه الإنسان. هذا التفسير المادي للأمور هو تفسير ميتافيزيقي رغم إنكاره للميتافيزيقا؛ وهو يهدف إلى سد الثغرة في النظام الطبيعي وإلى تصفية ظاهرة الإنسان وإلغاء الحيز الإنساني، ذلك لأن التفسيرات المادية غير قادرة على استيعاب أية ثنائية أو أي تركيب يتحدى النظام الواحدي المادي البسيط (فهي تفسيرات تُؤثر البساطة والواحدية على التركيب والتعددية) .(1/156)
ولكن ليست هناك أية ضرورة لرفض مقولة الإنسان المركب الذي لا يُرَدُّ إلى المادة أو الاستغناء عنها، وخصوصاً أنها جزء من تجربتنا الوجودية وإدراكنا لذاتنا وواقعنا الإنساني. ولذا، وبدلاً من التأرجح بين العقلانية المادية التي تحاول تفسير كل شيء من خلال السببية الصلبة المطلقة من جهة واللاعقلانية المادية التي تعجز عن تفسير أي شيء من جهة أخرى، وبدلاً من الإصرار على إلغاء الثنائية نشعر (نحن البشر) بوجودها في عالمنا المادي، وذلك باسم البساطة والواحدية والتناسق الهندسي القاتل، قد يكون من الأمانة أن نُسمِّي هذا الجانب في الوجود الإنساني «الجانب الرباني» ، وعلينا من ثم أن نستدعي ثنائية أخرى ذات مقدرة تفسيرية عالية لا يمكن إلغاؤها. وبدلاً من مجرد استخدام مقولات مادية تفسيرية تفرض الواحدية على الواقع، وتُسوي الإنسان بالطبيعة والكيف بالكم وغير المادي بالمادي، يمكن استخدام مقولات تفسيرية مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية، كما يمكن استدعاء مدلول متجاوز للنظام الطبيعي ولقوانين المادة نصنف تحته كل الظواهر التي لا تخضع للقياس ونفسر من خلاله كل ما لا يدخل شبكة السببية الصلبة المطلقة وندرك من خلاله كل التجليات التي تظهر في عالمنا الطبيعي دون أن نتمكن من تفسير جميع جوانبها، أي مقولة غير مادية تكمِّل (ولا تَجبُّ) المقولات المادية، مقولة تتجاوز العقل المادي دون أن تحطمه، وهذه المقولة هي ما يُطلَق عليه «الإله» ؛ مركز الكون الموجود خارج المادة، والذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد، يُعنَى بدنيانا وبمسار التاريخ ولكنه ليس كمثله شيء، ووجوده تعبير عن وجود كل من الطبيعة وما وراء الطبيعة، وما يُقاس وما لا يُقاس، ووجود الإنسان كإنسان يستند إلى وجوده.
النزعة الربانية(1/157)
نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية نحو إزالة الحدود والحيز الإنساني والهوية الإنسانية والذات المتعينة ومحو الذاكرة التاريخية والذوبان في الطبيعة/المادة والهرب من المسئولية الأخلاقية والمقدرة على التجاوز من ناحية، ومن ناحية أخرى، النزعة الربانية نحو تجاوز الطبيعة/المادة وتقبُّل الحدود والمسئولية وعبء الوعي وتأكيد الهوية الإنسانية وتركيبيتها. والنزعة الربانية تعبير عن وجود عنصر غير مادي غير طبيعي داخل الإنسان، وهو عنصر لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة نسميه «القبس الإلهي» ، وهو ذلك النور الذي يبثه الإله الواحد المتجاوز في صدور الناس (بل في الكون بأسره) ، فيمنحه تركيبيته اللامتناهية، ويولِّد في الإنسان العقل الذي يدرك من خلاله أنه ليس بإله، وأنه ليس بالكل، وأنه مكلف بحمل الأمانة، وأن عليه أعباء أخلاقية وإنسانية تشكل حدوداً وإطاراً له. ولكن هذه الحدود هي نفسها مصدر تميزه، فهي تفصله عن كل من الإله والكائنات الطبيعية، وتميِّزه عن هذه الكائنات بعقله ووعيه والمسئولية المناطة به. فكأن الحدود هي حيزه الإنساني الذي يمكن للإنسان أن يحقق فيه إمكانياته أو يجهضها. وهو الحيز الذي يتحول فيه الإنسان إلى كائن اجتماعي قادر على أن يرجئ رغباته ويُعلي غرائزه ولا يطلق لشهواته العنان حتى يمكنه أن يعيش مع الآخرين ويتواصل معهم، وأن ينتج أشكالاً حضارية إنسانية تتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعالم المثيرات والاستجابات العصبية والجسدية المباشرة.(1/158)
والإنسان الإنسان، ثمرة النزعة الربانية، يقف على طرف النقيض من الإنسان الطبيعي/المادي ثمرة النزعة الجنينية، فهو ذو هوية محدَّدة يكتسبها من خلال الحدود المفروضة عليه ولكنه لا يتمركز حول ذاته، وفي إطار المرجعية المتجاوزة يمكنه تأكيد إنسانيته لا بالعودة إلى ذاته الضيقة (الطبيعية) والرغبة في التحكم في الكون، وإنما بالإشارة إلى النقطة المرجعية المتجاوزة. وهو أيضاً لا يفقد ذاته ولا يتمركز حول الموضوع (الطبيعة/المادة) ، أي أنه لا يتأرجح بين الواحدية والثنائية الصلبة ولا بين الصلابة والسيولة. فوجود المركز المتجاوز ضمان لأن يحتفظ بهويته وذاته ولا يغوص في حمأة المادة ولا يذعن لقوانينها وحتمياتها.
والإنسان الإنسان، على عكس الإنسان في الحالة الجنينية، قادر على تفسير العالم والنصوص، فاللغة ليست أيقونات تُشير إلى ذاتها، وإنما مفردات وجُمل لها قواعدها، وهو للسبب نفسه قادر على التواصل مع الآخرين، ومن ثم قادر على تجاوز ذاته والتحرك مع الآخرين داخل الحدود التاريخية والاجتماعية والحضارية، التي تشكل حيزنا الإنساني الذي نحقق فيه جوهرنا الإنساني. فهو إنسان فرد له قصته الصغيرة، ولكنها صدى للإنسانية المشتركة وللقصة الإنسانية الكبرى.
الثنائية الفضفاضة: نمط إنسانى (ربانى) عام(1/159)
«النزعة الربانية» تعني خروج الإنسان من نطاق المرجعية الكامنة المادية ودخوله في نطاق المرجعية المتجاوزة مما يعني ظهور ثنائية أساسية لا يمكن محوها، هي ثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة. هذه الثنائية تعني زوال أية واحدية ذاتية كانت أم موضوعية. لأن في إطار المرجعية المتجاوزة لا يمكن للإنسان أن يسقط في الجنينية التي تحطم الحدود بين الكل والجزء، ولا يمكن أن يتمركز حول ذاته. كما لا يمكن للموضوع (المادي) أن يتمركز حول نفسه، إذ يظل مركز الكون خارجه. وثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة ينتج عنها ثنائية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة، فالإله يزود الإنسان بالعقل الذي يميِّزه عن سائر الكائنات، وهذا ما يجعله إنساناً إنسان (أو إنساناً ربانياً) ، أي إنساناً غير طبيعي/ مادي، له جوهره الإنساني المتميز عن الطبيعة/المادة، يعيش في الحيز الطبيعي/المادي نفسه ولكنه قادر على تجاوزه وتجاوز ذاته الطبيعية. وهذا الكائن الذي يحوي داخله الأسرار، يستعصي على التفسيرات الطبيعية/المادية ولا يمكن اختزاله أو رده إلى مبدأ واحد ولا يمكن التحكم فيه تحكماً كاملاً، إنه إنسان يبحث عن المعنى في الكون ولا يستسلم للعبث أو العدمية أو الواحدية المادية، إنسان حر قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية، ومن ثم يشكِّل ثغرة في النظام الطبيعي وتحدياً للمنظومات المعرفية والأخلاقية الواحدية المادية.
كل هذا يعني انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها. ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليس بمركز الكون، وهو ليس سيد الطبيعة، فمالكها هو الله. ولذا فهو مستخلف فيها يتفاعل معها.(1/160)
إن الثنائية الفضفاضة (ثنائية الخالق والمخلوق والإنسان/الطبيعة) ليست اثنينية أو ثنائية صلبة لأن الإنسان، من خلال النزعة الربانية داخله، ينفصل عن الإله وعن الطبيعة ولكنه يتفاعل ويتجاوب معهما، ومن خلال تفاعله يكتسب المقدرة على التجاوز وتزداد حريته. والوجود الإنساني الأمثل ليس محو النزعة الجنينية والتعبير الخالص عن النزعة الربانية، ولا هو محو النزعة الربانية والتعبير الخالص عن النزعة الجنينية، وإنما التكامل والتقابل بينهما. وهذه الثنائية الوجودية الأنطولوجية الأساسية الفضفاضة تتجلى في المنظومات المعرفية (مجهول/معروف ـ غيب/علم ـ مطلق/نسبي ـ روح/جسد) والمنظومات الأخلاقية (خير/شر) والدلالية (دال/مدلول) والجمالية (جميل/قبيح) ، وعلى كل المستويات (ذكر/أنثى ـ أعلى/أسفل ـ سماء/أرض) . وهناك ثنائية غير متعادلة تُفترَض فيها أسبقية العنصر الأول على العنصر الثاني (جميل/قبيح) ولكن هناك أيضاً ثنائيات لا تُفترَض فيها أسبقية عنصر على الآخر (ذكر/أنثى) وإن كانت تفترض الاختلاف.
الباب الرابع: الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية
في كل المداخل السابقة حاولنا أن نبيِّن أن ثمة ثنائية فضفاضة تسم الوجود الإنساني (الخالق/المخلوق ـ النزعة الربانية/النزعة الجنينية ـ الإنسان/الطبيعة) . وثنائية الإنسان/الطبيعة هي أهم هذه الثنائيات. وقد عبَّرت عن نفسها في الجدل المثار في العلوم الإنسانية منذ بداية ظهورها في القرن التاسع عشر وهل هناك «علم طبيعي» مختلف عن «العلوم الإنسانية» أم أن هناك وحدة (أي واحدية) للعلوم.(1/161)
ويُطلَق مصطلح» العلم الطبيعي» على كل دراسة تتناول معطيات الواقع المادي بكلياته وجزئياته. ووسيلة هذه الدراسة هي منهج الملاحظة المباشرة والتجربة المتكررة والمتنوعة. والدراسة وكذلك عمليات التجريب تتم بهدف التفسير من خلال التوصل إلى تعميمات وقوانين تحقق الانتقال من الخاص إلى العام وتكشف عن العلاقات المطّردة الثابتة بين الظواهر. وهذه القوانين يتم التعبير عنها عن طريق تحويل صفات الكيف (التي لا تُقاس) إلى صفات كم بحيث يتم التعبير عنها برموز رياضية. وتتميَّز قوانين العلوم الطبيعية بأنها دقيقة وعامة تتخطى الزمان والمكان، وهي حتمية (ولكنها، بعد اهتزاز الحتمية، أصبحت احتمالية ترجيحية: ترجيحية تقارب اليقين وتظل صالحة للاستعمال حتى يثبت بطلانها (.
ويذهب البعض إلى أن نموذج العلوم الطبيعية (بما ينطوي عليه من واحدية موضوعية مادية) لابد أن يُطبَّق في كل العلوم الأخرى (وضمن ذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية) . وقد لاحظ كثير من العلماء في الشرق والغرب خلل مثل هذه المحاولة نذكر منهم د. حامد عمار، د. توفيق الطويل، د. حسن الساعاتي (الذين يعتمد هذا المدخل على كتاباتهم) وبينوا الاختلافات بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية، ونوجزها فيما يلي:
1ـ أ) الظاهرة الطبيعية مُكوَّنة من عدد محدود نسبياً من العناصر المادية التي تتميَّز ببعض الخصائص البسيطة، وهذا يعني أنه يمكن تفتيتها إلى الأجزاء المكوِّنة لها. كما أن الظاهرة الطبيعية توجد داخل شبكة من العلاقات الواضحة والبسيطة نوعاً والتي يمكن رصدها.(1/162)
ب) الظاهرة الإنسانية مُكوَّنة من عدد غير محدود تقريباً من العناصر التي تتميَّز بقدر عال من التركيب ويستحيل تفتيتها لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم لنا. وحينما يُفصَل الجزء عن الكل، فإن الكل يتغيَّر تماماً ويفقد الجزء معناه. والظاهرة الإنسانية توجد داخل شبكة من علاقات متشابكة متداخلة بعضها غير ظاهر ولا يمكن ملاحظته.
2ـ أ) تنشأ الظواهر الطبيعية عن علة أو علل يسهل تحديدها وحصرها، ويسهل بالتالي تحديد أثر كل علة في حدوثها وتحديد هذا الأثر تحديداً رياضياً.
ب) الظاهرة الإنسانية يصعب تحديد وحصر كل أسبابها، وقد تُعرَف بعض الأسباب لا كلها، ولكن الأسباب تكون في العادة متداخلة متشابكة، ولذا يتعذر في كثير من الحالات حصرها وتحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة التي ندرسها.
3ـ أ) الظاهرة الطبيعية وحدة متكررة تَطَّرد على غرار واحد وبغير استثناء: إن وُجدت الأسباب ظهرت النتيجة. ومن ثم، نجد أن التجربة تُجرَى في حالة الظاهرة الطبيعية على عينة منها ثم يُعمَم الحكم على أفرادها في الحاضر والماضي والمستقبل.
ب) الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تَطَّرد بنفس درجة الظاهرة الطبيعية لأن كل إنسان حالة متفردة، ولذا نجد أن التعميمات، حتى بعد الوصول إلىها، تظل تعميمات قاصرة ومحدودة ومنفتحة تتطلب التعديل أثناء عملية التطبيق من حالة إلى أخرى.
4ـ أ) الظاهرة الطبيعية ليس لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا ضمير ولا شعور ولا أنساق رمزية تُسقطها على الواقع وتدركه من خلالها، فهي خاضعة لقوانين موضوعية (برانية) تحركها.(1/163)
ب) الظاهرة الإنسانية على خلاف هذا، ذلك لأن الإنسان يتسم بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية، كما أن الإنسان له وعي يسقطه على ما حوله وعلى ذاته فيؤثر هذا في سلوكه. والإنسان له ذاكرة تجعله يُسقط تجارب الماضي على الحاضر والمستقبل، كما أن نمو هذه الذاكرة يُغيِّر وعيه بواقعه. وضمير الإنسان يجعله يتصرف أحياناً بشكل غير منطقي (من منظور البقاء والمنفعة المادية) ، كما أن الأنساق الرمزية للإنسان تجعله يُلوِّن الواقع البراني بألوان جوانية.
5ـ أ) الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها ويدل عليه دلالة تامة بسبب ما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل يُوحِّد بينهما فيجعل الظاهرة الطبيعية كلاًّ مصمتاً تحكمه من الداخل والخارج قوانين بالغة الدقة لا يمكنها الفكاك منها، ولهذا تنجح الملاحظة الحسية والملاحظة العقلية في استيعابها كلها.
ب) الظواهر الإنسانية ظاهرها غير باطنها (بسبب فعاليات الضمير والأحلام والرموز) ولذا فإن ما يَصدُق على الظاهر لا يَصدُق على الباطن. وحتى الآن، لم يتمكن العلم من أن يُلاحظ بشكل مباشر التجربة الداخلية للإنسان بعواطفه المكبوتة وأحلامه الممكنة أو المستحيلة.
6ـ أ) لا يوجد مكوِّن شخصي أو ثقافي أو تراثي في الظاهرة الطبيعية؛ فهي لا شخصية لها، مجردة من الزمان والمكان تَجرُّدها من الوعي والذاكرة والإرادة.
ب) المكوِّن الشخصي والثقافي والذاتي مكوِّن أساسي في بنية الظاهرة الإنسانية. والثقافة ليست شيئاً واحداً وإنما هي ثقافات مختلفة، وكذا الشخصيات الإنسانية.
7ـ أ) معدل تحوُّل الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدماً (من وجهة نظر إنسانية) ، فهو يتم على مقياس كوني، كما أن ما يلحق بها من تغير يتبع نمط برنامج محدد، ولذا فإن الظواهر الطبيعية في الماضي لا تختلف في أساسياتها عنها في الحاضر، ويمكن دراسة الماضي من خلال دراسة الحاضر.(1/164)
ب) معدل التغيُّر في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير ويتم على مقياس تاريخي، وما يطرأ عليها من تغير قد يتبع أنماطاً مسبقة ولكنه قد ينسلخ عنها. وعالم الدراسات الاجتماعية لا يستطيع أن يرى أو يسمع أو يلمس الظواهر الإنسانية التي وقعت في الماضي، ولذا فهو يدرسها عن طريق تقارير الآخرين الذين يلونون تقاريرهم برؤيتهم، فكأن الواقعة الإنسانية في ذاتها تُفقَد إلى الأبد فور وقوعها.
8ـ أ) بعد دراسة الظواهر الطبيعية والوصول إلى قوانين عامة، يمكن التثبت من وجودها بالرجوع إلى الواقع. ولأن الواقع الطبيعي لا يتغيَّر كثيراً، فإن القانون العام له شرعية كاملة عبر الزمان والمكان.
ب) بعد دراسة الظواهر الإنسانية، يصل الإنسان إلى تعميمات. فإن هو حاول تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة فإنه سيكتشف أن المواقف الجديدة تحتوي على عناصر جديدة ومكونات خاصة إذ من غير الممكن أن يحدث في الميادين الاجتماعية ظرفان متعادلان تماماً، ومتكافئان من جميع النواحي.
9ـ أ) لا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجارب التي تُجرَى عليها سلباً أو إيجاباً، كما أن القوانين العامة التي يُجرِّدها الباحث والنبوءات التي يطلقها لن تؤثر في اتجاهات مثل هذه الظواهر، فهي خاضعة تماماً للبرنامج الطبيعي.
ب) تتأثر العناصر الإنسانية بالتجربة التي قد تُجرَى عليها، فالأفراد موضوع البحث يحوِّلون من سلوكهم (عن وعي أو عن غير وعي) لوجودهم تحت الملاحظة، ففي إمكانهم أن يحاولوا إرضاء صاحب التجربة أو يقوضوا نتائجه. كما أن النبوءات التي يطلقها الباحث قد تزيد من وعي الفاعل الإنساني وتغيِّر من سلوكه.
10ـ أ) بإمكان الباحث الذي يدرس الظاهرة الطبيعية أن يتجرد إلى حدٍّ كبير من أهوائه ومصالحه لأن استجابته للظاهرة الطبيعية وللقوانين الطبيعية يَصعُب أن تكون استجابة شخصية أو أيديولوجية أو إنسانية، ولذا يمكن للباحث أن يصل إلى حدٍّ كبير من الموضوعية.(1/165)
ب) أما الباحث الذي يدرس الظاهرة الإنسانية فلا يمكنه إلا أن يستجيب بعواطفه وكيانه وتحيزاته، ومن خلال قيمه الأخلاقية ومنظوماته الجمالية والرمزية، ولذا يَصعُب عليه التجرد من أهوائه ومصالحه وقيمه التي تعوقه في كثير من الأحيان عن الوصول إلى الموضوعية الصارمة.
ولكل ما تقدَّم، فإن من الممكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة المتكررة على العناصر الطبيعية ويمكن قياسها بمقاييس كمية رياضية فهي تخلو من الاستثناءات والتركيب والخصوصيات، ويمكن التَوصُّل إلى قوانين عامة تتسم بالدقة تنطبق على الظاهرة في كليتها وفي جوانيتها وبرانيتها. أما الظاهرة الإنسانية، فلا يمكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة عليها ويستحيل تصويرها بالمعادلات الرياضية الدقيقة إذ لا تخلو من الاستثناءات والتركيب والخصوصيات، ولذا لا يمكن التَوصُّل إلى قوانين عامة (وإن تم التوصل إلى قوانين فلابد أنه تعوزها الدقة والضبط) . وهناك عدد كبير من الكُتَّاب الغربيين من أوائلهم فيكو ومن أهمهم كانط وديلتاي وريكرت ينطلقون من محاولة التمييز بين الإنسان والطبيعة. ولكن غالبية المفكرين الغربيين يدورون في إطار الواحدية المادية (أو الواحدية المثالية) ويحاولون القضاء على هذه الثنائية تماماً وإلغاء الحيز الإنساني وبالتالي يدافعون عن وحدة (أو واحدية) العلوم.
إشكالية الإنسانى والطبيعى في العالم العربى(1/166)
ثمة وعي عميق بإشكالية التمييز بين الإنساني والطبيعي في الأدبيات العربية، فالمفكر الماركسي د. فؤاد مرسي يدعو بوضوح في كتاب إشكالية العلوم الاجتماعية (في دراسة له بعنوان "المنهج بين الوحدة والتعدد") إلى عدم التمييز بين الإنسان والطبيعة فيُعرِّف الإنسان بأنه "قوة من قوى الطبيعة"؛ إنسان طبيعي/مادي يتكيف معها ولكنه في الوقت نفسه يُعيد صياغتها. وهذه هي الإشكالية الكبرى التي تواجه الماديين ودعاة العلمانية الشاملة: هل الإنسان الطبيعي/المادي يزعن للطبيعة أم يهيمن عليها؟ وتتضح الإشكالية في كتابات د. فؤاد مرسي نفسه، فهو يؤكد أن الإنسان سيزداد وعياً ومن ثم سيزداد بُعداً عن الحيوان. ولكنه يعود ويُعرِّف الإنسان في إطار طبيعي مادي ويجد أن "الاقتصاد هو مجال رئيسي للعلاقة المتبادلة بين الطبيعة والمجتمع"، فبعد أن "ابتعد" الإنسان عن الحيوان، وهو ما يعني ابتعاده عن الطبيعة وتفوقه عليها فإنه يعود فيدخل في علاقة "تبادلية" تفترض المساواة الكاملة. وتظهر هذه التبادلية بشكل أوضح حين يُوحِّد د. فؤاد مرسي بين الطبيعة والمادة فيقول "لهذا أصبح العلم كله، طبيعياً واجتماعياً، علماً ذا طابع اجتماعي". و"أصبح تَقدُّم البشرية حالياً رهناً إلى حدٍّ كبير بالتداخل الأكبر والتفاعل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية". والتداخل والتفاعل قد يعني ثنائية (وهو ما يرفضه الفكر المادي) ، وقد يعني مساواةً وتَوحُّداً، وهو الأرجح، ولذا نجده في السطر التالي يقول: "إن كل محاولة للفصل بين المجتمع والطبيعة تصبح محاولة وهمية. فوجود المجتمع هو جانب من وجود الطبيعة". ولكنه يعود للثنائية فيقول: "وتاريخ المجتمع هو تاريخ امتلاك الإنسان للطبيعة"، ثم يعود للواحدية فيقول: "إن وحدة الثورتين التكنولوجية والاجتماعية كفيلة في المستقبل أن تجعل من البشر لأول مرة في التاريخ، السادة الحقيقيين للطبيعة". ثم يتحدث عن احتدام الصراع بين الطبيعة(1/167)
والإنسان وعن "الإنسان الشامل الذي يختزن في نفسه قدراً لا مثيل له من المعرفة بالكون كله". ولكن ما هي النتيجة النهائية لهذا التأرجح الكوميدي بين الاندماج العضوي في الطبيعة والإذعان لها من جهة، والانفصال عنها وتملكها والهيمنة عليها من جهة أخرى. يختتم الدكتور مرسي مقاله بقوله "هناك يتوحَّد الإنسان تماماً مع المجتمع والطبيعة"، أي أن الحالة الجنينية والواحدية المادية تنتصر تماماً. وعلى كلٍّ، فإن عنوان هذا الجزء من المقال هو "نحو وحدة الكون" وليس "نحو مركزية الإنسان في الكون أو هيمنته عليه".
ولكن العدد الأكبر من علمائنا الأجلاء كانوا من المدافعين عن الإنسان ضد المادية والطبيعية. فعلى سبيل المثال، يقول الدكتور حامد عمار في كتابه من همومنا التربوية والثقافية:
"إن منهج التفكير العلمي الذي أرسته العلوم الطبيعية قد شاع باعتباره المنهج الصحيح الوحيد في الوصول إلى المعرفة الصحيحة. واصطنعت العلوم الاجتماعية الإنسانية هذا المنهج في دراستها وبحوثها. بيد أن معظمها قد توقف عند المرحلة النيوتونية من مناهج البحث العلمي الطبيعي، واختزال المنهج إلى تجزئة الظواهر وتفكيك أجزائها، ومحاولة فرض الفروض المرتبطة بذلك الجزء أو ذاك، وإخضاع الفروض حوله للقياس والاختبار. وجرى العُرْف عند الكثيرين على اعتبار النتائج علمية ثابتة غير قابلة للتعديل.
"وأُطلق على هذه التجزئة للظواهر وإخضاعها للدراسة الميدانية العينية ما عُرف باسم المنهج الإمبيريقي أو الوصفي، محللاً للظاهرة كما تُوجَد في موقعها الزماني والمكاني ... ودون تَصوُّر لأنواع العلاقات ودينامياتها في الظاهرة المدروسة مع سياقها الثقافي الاجتماعي. ومن ثم فقدت الدراسة منظوماتها العضوية الدينامية في إطار الزمان والمكان والبُعد التاريخي لنشأتها وتطورها وتوظيفها الاجتماعي.(1/168)
واستقر في أذهان كثير من الباحثين الاجتماعيين أن نتائجهم علمية لا يرقى إليها التصحيح ... وأصبح من المسلمات في الرسائل الجامعية في العلوم الاجتماعية الإنسانية ألا تُعاد دراسة الموضوع؛ لأن ما سبق من بحوث قد استقر [باعتباره] حقائق علمية. ثم إن هذه البحوث تدَّعي الموضوعية العلمية المطلقة، وأن لا شأن لذات الباحث أو أيديولوجيته أو تحيزاته أي تدخُّل في مختلف مراحل البحث وتفسيراته، فالنتائج جاءت «علمية» من خلال معطيات الواقع العيني.
"ومع هذا الاختزال الإمبريقي الوضعي الوظيفي للمنهج العلمي الطبيعي في آفاقه الرحبة والمتجددة، فإن ثمة مناهج أخرى للمعرفة العلمية تبدأ من الملاحظة والمشاركة الملاحظة (بكسر الحاء) امتداداً إلى الحس التاريخي والوعي الذاتي. والبصيرة والحدس، والفهم الكيفي في السياق الثقافي الاجتماعي التاريخي والخبرة الإنسانية. وليس بالضرورة أن تلجأ تلك المناهج إلى البيانات الرقمية والقياس؛ إذ أن تلك الأدوات كثيراً ما تُشوِّه المعرفة بعالم الوعي والخبرة والفهم النوعي للواقع وإمكانات المستقبل، فضلاً عن قصورها عن فهم القيم وديناميات الدوافع والأخلاق.(1/169)
"إن هذه الأساليب والأدوات المعرفية تصبح علمية طالما قامت على ملاحظة منتظمة أو خبرة مطردة، وطالما كانت بياناتها وشواهدها منطقية ومتسقة في نموذج مفاهيمي. وتتدعم علميتها مع اختبارها وتقييمها على أرض الواقع ومن خلال الممارسة، وقد تتدعم فيما بعد بجوانب كمية للتوضيح والتعزيز. ومن هنا فإن على العلوم الاجتماعية الإنسانية أن تُعنَى بمعالجة القضايا النوعية والقيمية المستمدة من الخبرة الإنسانية ومجالاتها فيما يستقر بها من الشعور والوعي ومن اللاشعور والحدس دون أن تُنقص عوامل الذاتية من جدوى المعارف المُتوَلدة من مثل هذه المناهج. وفي قضايا التربية والاجتماع وعلم النفس مساحات عريضة لجدوى توظيف تلك المناهج بما فيها من ضبط وتنظيم وقابلية للمراجعة والتفنيد والتطوير".
وفي كتاب إشكالية العلوم الاجتماعية، يُبيِّن الدكتور حسن الساعاتي في مقال بعنوان "إشكالية المنهج في العلوم الاجتماعية" أن علماء الاجتماع الذين تأثَّروا بمناهج الدراسة والعلوم الطبيعية يذهبون إلى "أن العلوم الاجتماعية، وعلى رأسها علم الاجتماع، لا تكوِّن علوماً بمعنى الكلمة، أي دقيقة ومضبوطة النتائج، إلا إذا تَرسَّم علماؤها خطى الباحثين في العلوم الطبيعية التي يرتكز محور التفكير في ظواهرها على التجريب، أي ما يجرونه عليها من تغيير مقصود وبطريقة مرسومة من قبل، مستهدفين أهدافاً معيَّنة يستنتجون منها الحقائق، إذا تكرر استقراؤها من تجارب مماثلة صارت نظريات علمية أو قوانين ثابتة.(1/170)
"وقد فات هؤلاء العلماء ... ، وغيرهم ممن قلدوهم في مسارهم الفكري بدون رويّة واستبصار، أن الظواهر الاجتماعية تختلف تماماً عن الظواهر الطبيعية التي لا عقل ولا إرادة لعناصرها، والتي ينمُّ مظهرها عن مخبرها، لأنها، في رأينا، أحادية النسق، تحكمها كلاًّ أو جزءاً قوانين ونظريات واحدة لا تتبدل. ولذلك نجد أن كلاًّ من الملاحظة الحسية، أي المشاهدة، والملاحظة العقلية، أي التأمل والاستبصار، وجميع خطوات التجريب التي تُجرَى عليها، بوصفها ظواهر طبيعية أحادية النسق، تستوعبها كلها في جميع مظاهرها، لأن ظاهرها لا يختلف عن باطنها في شيء، حتى إنه ليدل عليه دلالة تامة، لما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل متكامل.
"أما الظواهر الاجتماعية فتختلف عن الظواهر الطبيعية في أنها، بوصفها ظواهر عنصرها الأساسي الإنسان الاجتماعي العاقل ذو الإرادة، الذي يعيش مُعاشراً لغيره من البشر ومرتبطاً بهم بشتى العلاقات الاجتماعية، نقول تختلف في أنها ثنائية النسق. فكما أن للإنسان جوانية وبرانية، فهي بالمثل ذات نسقين، أحدهما جواني أي باطن، والآخر براني أي ظاهر. ومادامت كذلك، فإن البحث فيها ينقسم إلى قسمين: أحدهما يُعنَى بالنسق البراني، أي بما يتبدَّى من الظاهرة الاجتماعية للحواس فتدركه وتتعقله، والآخر يُركِّز على النسق الجواني الخفي منها، الذي يُعدُّ غرفة عمليات للنسق البراني، ليستجلبه ويدركه ويتعقله".
إشكالية الموضوعية والذاتية: مقدمة(1/171)
تترجم الإشكاليات السابقة نفسها إلى إشكالية الموضوعي والذاتي، فإذا كان الإنسان كياناً طبيعياً مادياً فبالإمكان رصده بشكل مادي براني وكأنه شيء بين الأشياء، وهو شيء لا تفرُّد فيه ومن ثم يمكن رده باعتباره جزءاً إلى الكل الطبيعي/المادي يسري عليه ما يسري على الكائنات المادية الأخرى، ومن ثم لا يوجد فارق بين الجزء الإنساني والكل الطبيعي/المادي، فتمحي كل الثنائيات وتُرد كل الظواهر إلى مبدأ (مادي) واحد وننتهي في الواحدية الموضوعية المادية. أما إذا كان الإنسان كياناً مركباً يحوي عناصر مادية تُرد إلى عالم الطبيعة/المادة وعناصر غير مادية، فالرصد البراني، الموضوعي المادي، يصبح غير كاف، ويصبح كل إنسان فرد كيانه مستقل عن الكل، ولا يسقط الإنسان في قبضة الواحدية الموضوعية المادية.
وليام ديلتاى (1833 – 1911 (
عالم اجتماع ألماني، كان قليل الكتابة، ويعود إسهامه الأساسي في محاولته التنبيه إلى أن ثمة فارقاً جوهرياً بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية. وقد أكد ديلتاي أن معرفة الإنسان من خلال الملاحظة البرانية وتبادل المعلومات الموضوعية المادية عنه أمر غير ممكن، فهو كائن ذو قصد، أي أن سلوكه تحدده دوافع إنسانية جوانية (معنى ـ ضمير ـ إحساس بالذنب ـ رموز ـ ذكريات الطفولة ـ تأمل في العقل) يصعب شرحها وشرح أسبابها. والإنسان لا يعيش منعزلاً وإنما يتفاعل مع الآخرين وتتحدد تجربته الشخصية من خلال هذا التفاعل. ولكل هذا، لا يمكننا أن نشرح الإنسان وسلوكه بشكل براني أو نخضعه للتجريب.(1/172)
ولكن ديلتاي يشير إلى حقيقة أساسية وهي أننا قد لا نعرف العقل البشري بنفس الدرجة أو الطريقة التي تُعرَف بها الأشياء ولكن هناك مناهج أخرى غير مناهج العلوم الطبيعية. فالعلوم الطبيعية لا تنفذ إلى كينونة الأشياء والعمليات الفيزيائية، أما الجوهر الإنساني فيمكننا الوصول إليه مباشرةً من خلال تَفهُّم ومعايشة تجربة الآخر والتعاطف معها وتخيلها وفهم المعنى الذي يسقطه الفاعل الإنساني على فعله.
كما أن ثمة ثنائية جوهرية تبين الفرق بين الإنساني والطبيعي وبين مناهج العلوم الاجتماعية ومناهج العلوم الطبيعية، وهي ثنائية تتبدَّى في قول دلتاي ليس بإمكاننا أن نشرح الإنسان وإنما نحن نشرح الطبيعة بطريقة برانية ونفهم أو نتفهم (فرشتيهن) الإنسان، أي نُفسِّره بطريقة اجتهادية جوانية.
الهرمنيوطيقا
«هرمنيوطيقا» من الكلمة اليونانية «هرمنويين hermeneuin» بمعنى «يُفسِّر» أو «يُوضح» . والفعل مشتق من كلمة «هرمنيوس» وهي كلمة مجهولة الأصل وإن كان يُقال إنها تعود إلى الإله هرميس رسول الإله زيوس. وفي اللاهوت المسيحي، تشير الكلمة إلى ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المَعْنيِّ بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي والسطحي المباشر وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية للنصوص المقدَّسة (وخاصةً الإنجيل) والقواعد التي تحكم التفرُّد المشروع للنص المقدَّس. وقد استخدم هايدجر هذا المصطلح ليشير إلى أن دراسته في طبيعة الوجود الإنساني هي دراسة ميتافيزيقية (أي هرمنيوطيقية (.
والكلمة، في الوقت الحاضر، تعني محاولة فهم العالم لا باعتباره نظاماً ميتافيزيقياً وإنما باعتباره موضوع الفكر والعقل الإنساني وباعتباره تجربة معاشة (بالألمانية: ليبنزفلت Lebenswelt، أي عالم الحياة) كما أصبحت مرتبطة بالمعنى العميق (والروحي) للنصوص وتَميُّز الظاهرة الإنسانية عن الظواهر الطبيعية.(1/173)
وقد قام ديلتاي بنقل المصطلح من اللاهوت إلى الفلسفة ثم إلى العلوم الإنسانية. واستخدمه للإشارة إلى المناهج الخاصة بالبحث في المؤسسات الإنسانية والسلوك الإنساني باعتباره سلوكاً تحدده دوافع إنسانية جوانية يَصعُب شرحها عن طريق مناهج العلوم الطبيعية. ومن ثم، فإن الهرمنيوطيقا لا تتناول فقط المعطيات الخام للحواس وإنما تحاول فهم معناها الداخلي. وأصبحت الهرمنيوطيقا بالنسبة لبعض العلماء هي الطريقة الوحيدة الممكنة لقراءة النصوص الدينية والشعرية والتاريخية والفلسفية وأي نص يتحدث عن الإنسان.
والأطروحات الأساسية للهرمنيوطيقا هي (كما لخصها ديلتاي (:
1 ـ التفسير العلمي ليس هو الشكل الوحيد للتفسير. فالتفسير العلمي ينظر للإنسان باعتباره كياناً عضوياً تحركه الدوافع الفيزيقية، بينما يُفترَض أن ننظر إليه باعتبار أن له دوافع داخلية وقيماً.
2 ـ إننا نفهم العالم الإنساني من خلال طرح أسئلة عليه. ويتحدد كل سؤال، من ناحية الشكل والمضمون، بمقدار الاهتمام الكامن وراءه.
3 ـ السؤال ذاته يمثل تفسيراً جزئياً للظاهرة موضع السؤال.
ومن هذه الأطروحات، يظهر ما يُسمَّى «الدائرة الهرمنيوطيقية» :
1 ـ لا يمكن أن نفهم أجزاء أية وحدة أو أن نتعامل معها إلا وعندنا إدراك مسبق بالمعنى الكلي، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع معرفة المعنى الكلي إلا من خلال معرفة معاني أجزائه.
2 ـ ويمكن طرح القضية بطريقة أخرى فنقول: إن التفسير لا يمكن أن يكون إلا بعد أن يبدأ التفسير، فالعالم لا يوجد كموضوع لوعينا إلا من خلال اللغة.
ودائرة الهرمنيوطيقا ليست حلقة مفرغة، إذ أن فهمنا يتعمق من خلال عملية حلزونية تبدأ بالإحساس بالمعنى الكلي، ثم ندرس المكونات الجزئية في ضوء المعنى الكلي فيتعمق المعنى الكلي من خلال معرفة معنى الأجزاء، ثم نعود للأجزاء مرة أخرى ... وهكذا.
الشرح والتفسير (فرشتيهن ((1/174)
أصبحت كلمة «يشرح» تعني «يشرح تماماً» أو «يُزيل اللبس تماماً» . بل أصبحت لها أبعاد تفكيكية، فهي تعني «تعريف أسباب الظاهرة وردها إلى مبدأ عام واحد أو عدة مبادئ» . كما أنها قد تعني «يفضح» أو «ينزع السر عن» . وهذه الأبعاد ليست واضحة في اللغة العربية بالقدر الكافي، إلا أنها أكثر وضوحاً في اللغة الإنجليزية. فكلمة «يشرح» باللغة الإنجليزية هي «إكسبلين explain» من الفعل اللاتيني «إكسبلاناري explanare» بمعنى «يُسطِّح الشيء» أو «يسويّه» أو «يجعله مستوياً» (كلمة «بلين plane» الإنجليزية تعني «السطح المستوي» ) . هذا على عكس فعل «إنتربريت interpret» (من الفعل اللاتيني «إنتربريتاري interpretari» وهو يعني «يُفاوض» ) . ففعل «إنتربريت» يعني «يُبرز المعنى الكامن ويوضحه» و «يؤول النص» و «يعطي تفسيراً للموضوع» و «يترجم» أو «يقوم بدور المترجم» ، ومن الواضح أن كلمة «يشرح» تدور في إطار المرجعية الموضوعية: يُسطِّح وىُسوِّي حتى يستوي مع معيارية برانية، أما كلمة «يُفسِّر» ، فهي لا تنفي الأبعاد الذاتية الاجتهادية لعملية الإدراك.(1/175)
وهذا التداخل بين التفسير (بمعنى الاجتهاد في فهم الظاهرة وجعلها مفهومة إلى حدٍّ ما من خلال التعاطف معها وفهمها أو تفهمها من الداخل) والشرح (بمعنى إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة) يعود إلى أن العلوم الطبيعية والرياضة بنماذجها الواحدية الموضوعية المادية تلقي بظلالها الكثيفة على العلوم الإنسانية. فالاستنباط (العقلاني) هو منهج العلوم الرياضية، والاستقراء (التجريبي) هو منهج العلوم الطبيعية، وكلاهما يحاول أن يصل إلى درجة عالية من الدقة والعمومية في نتائجه. ومن ثم، يحاول بعض علماء الدراسات الإنسانية تبني المناهج السائدة في العلوم الطبيعية والرياضية (العلوم الدقيقة!) ويحاولون تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية تماماً مثلما تُفسَّر الظواهر الطبيعية بطريقة كمية، فيتبنون نماذج رصد موضوعية واحدية مادية تُسقط الأبعاد الجوانية والخاصة والكيفية للظاهرة الإنسانية وتُهمل الدوافع والوعي والقيمة تماماً، ثم تُرَدُّ الظاهرة في كل تفاصيلها إلى قانون أو مبدأ عام واحد، وتُزال كل المسافات والثغرات والثنائيات والخصوصيات حتى نصل إلى ما يُتصوَّر أنه التفسير الموضوعي الكامل أو شبه الكامل للظاهرة، أي أن دراسة سلوك الإنسان لا يختلف عن دراسة سلوك اليرقات فكلاهما يُدرَس من خلال سلوكه البراني وحركته الخاصة (ومع هذا، ينبغي الإشارة إلى أن العلوم الطبيعية نفسها قد انسلخت عن هذه الرؤية وأصبحت أكثر احتمالية في رؤيتها، كما أنها أخذت بالتدريج تكوِّن لنفسها عالماً خاصاً بها مؤلفاً من كيانات عقلية ورياضية لا تستطيع أن تجد لها وجوداً في عالم الظواهر. ويبدو أن الفرض العلمي، الذي كان يمثل الخطوة الثانية التي تلي خطوة الملاحظة والتجربة والذي كان يشير إلى مُدرَكات حسية، أصبح في المنهج العلمي المعاصر فرضاً صورياً لا يشير إلى مدركات حسية ويأتي(1/176)
سابقاً على الملاحظة والتجربة. لكن الفرض العلمي لم يعد تعميقاً لوقائع تجريبية ـ كما كان شائعاً في الماضي ـ وإنما هو نتاج العبقرية العلمية الخلاقة التي تأتي به بأية طريقة أو بأي منهج. وما يهم في الفرض العلمي مدى مقدرته على أن تجعل هذا العالم مفهوماً ومعقولاً، أي أن الحاجة إلى حقائق صلبة أو سببية صلبة لم تَعُد موجودة) .
وفي العالم الغربي، اكتشف كثير من العلماء سذاجة بل تفاهة الرؤية التجريبية والوضعية (الواحدية الموضوعية المادية) التي تصر على الحقائق الصلبة وعلى السببية الصلبة والمطلقة والتي ذهبت إلى أن قوانين التاريخ والمجتمع الإنسانيين تشبه قوانين الطبيعة (بالمعنى الساذج لفكرة القانون العلمي) وحاولت اكتشاف هذه القوانين وصياغتها بطريقة "علمية" دقيقة كمية، وأصر هؤلاء العلماء الذين رفضوا مثل هذه الرؤية الساذجة على ضرورة التمييز بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وعلى ضرورة رفض فكرة وحدة (أي واحدية) العلوم. ومن مظاهر هذه الثورة محاولة التمييز بين الشرح من جهة والفهم (بمعنى «التفهم» و «التفسير الاجتهادي» ) من جهة أخرى.(1/177)
وقد بدأ استخدام الفعل الألماني «فرشتيهن verstehen» بمعنى «يفهم» أو «يتفهم» مقابل «إركليرين erklaren» بمعنى «يشرح من خلال ملاحظة الحوادث وربطها بالحوادث الأخرى حسب القوانين الطبيعية» ، وذلك لوصف عملية فهم السلوك الإنساني المركب من خلال التعاطف وإدراك الدوافع الإنسانية الجوانية (مقابل شرح الأسباب البرانية) . وقد استخدم هذا المصطلح كلٌّ من فلهلم ديلتاي وجورج زيميل وكارل ياسبرز وماكس فيبر وآخرون. وقال ياسبرز: "إن الحياة النفسية [الإنسانية] لا يمكن دراستها من الخارج، كما أن الحقائق الطبيعية لا يمكن دراستها من الداخل. الأولى يمكن فهمها من خلال النفاذ النفسي، أما الثانية فيمكن شرحها من خلال دراسة العلاقة الموضوعية المادية". وقارن ياسبرز بين دراسة حَجَر يَسقُط من عل (من جهة) ودراسة علاقة تجارب الإنسان في طفولته ببعض الأمراض النفسية في شبابه وشيخوخته (من جهة أخرى) ، فالأول لا يمكن أن نراه إلا بشكل براني (في إطار قانون الجاذبية) ، أما الثاني فيتطلب عمليات فكرية وعقلية أكثر تركيباً.(1/178)
ولكن المصطلح ارتبط أساساً باسم ماكس فيبر. فقد بيَّن فيبر الفرق بين الرصد الموضوعي المتلقي المادي وعمليات التفسير الاجتهادية حين قال إن دراسة حظيرة الدجاج أمر جدُّ مختلف عن دراسة المجتمع الإنساني، فعلم اجتماع الدجاج لن يدرس سوى أنماط سلوكية متكررة من الخارج يمكن فهمها في إطار المثير المادي والاستجابة السلوكية. ونحن لا نعرف شيئاً عن العالم الجواني للدجاج وعواطفه وأفكاره وتأملاته إن كان هناك مثل هذا العالم. أما في حالة المجتمع الإنساني، فنحن مزودون بقدر كبير من المعرفة عن العالم الجواني للإنسان (نتوصل إليه من خلال معرفتنا لذواتنا ومن خلال ألفتنا للطبيعة البشرية) وعن الدوافع الداخلية المركبة وعالم المعنى الذي ينبع منه السلوك الإنساني. ولذا، إذا كان من الممكن شرح سلوك الدجاج في إطار شبكة السببية الصلبة المطلقة ومن خلال الملاحظة البرانية المباشرة، فلن يكون هذا كافياً بالنسبة للبشر. والمحاولة الوضعية السلوكية لوصف عالم الإنسان من خلال سلوكه البراني محكوم عليها بالفشل ومحكوم عليها بأن تظل سطحية تافهة، فهي بإصرارها على ضرورة الشرح البراني الموضوعي ستستبعد قضايا إنسانية أساسية مثل انشغال الإنسان بمصيره وتجربته في الكون وإحساسه بالاغتراب. ولكن هذا لا يعني أن السلوك الإنساني لا يخضع لأية سببية وإنما يعني أن الرصد البراني لا يكفي، والمطلوب هو عملية تفسير لا تدور في إطار الواحدية الموضوعية المادية وتسعى إلى الفهم العميق من خلال التعاطف المستمر والإدراك المبدع لتركيبية الدوافع الإنسانية وغموضها.
التحول عن التنظير المركب إلى الممارسة الاختزالية(1/179)
هناك وعي محدد بقضية الفرق بين الطبيعي والإنساني واستقلال الحيز الإنساني عن الحيز الطبيعي في العالم العربي (كما أسلفنا) ، ولكننا مع هذا نجد أن النموذج الاختزالي المعلوماتي التراكمي (الواحدي الموضوعي المادي) الذي لا يُفرِّق بين الظاهرة الطبيعية البسيطة والظاهرة الإنسانية المركبة يهيمن على الدراسات والبحوث في جامعاتنا ومراكزنا البحثية بل يكتسحها تماماً. وأعتقد أن ما يحدث هو أنه رغم وجود الوعي النظري بالاختلاف الجوهري بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية إلا أنه لا يتم تفعيله ولا ينتقل إلى مستوى الممارسة البحثية نفسها. وأعتقد أن كثيراً من الباحثين يتخلون عن وعيهم هذا ويَسقُطون في الممارسة الاختزالية التي لا تُفرِّق بين الطبيعي البسيط والإنساني المركب.
وعادةً ما يحدث هذا في مرحلة صياغة الفروض. وقد عُرِّف الفَرْض العلمي بأنه منطوق أو مقولة أو تقرير مبدئي لما نعتقد أنه علاقة بين متغيرين أو أكثر، ويعكس الفرض تكهنات الباحث بالنسبة لنتائج البحث المرتقبة. ويَتبنَّى الباحث الفرض بشكل مؤقت حتى يتحقق صدقُه أو كَذبه عن طريق الملاحظة والتجريب. ويقوم الفرض بتوجيه الباحث إلى المعلومات والبيانات التي يتعين جمعها وهو ما يوفر كثيراً من الوقت والجهد كان يمكن أن ينفقه في الحصول على بيانات محدودة أو عديمة القيمة تتصل بالمشكلة قيد الدراسة. فمن الواضح أن مرحلة صياغة الفروض هي من أهم مراحل البحث إن لم تكن أهمها. ولكنها، بدلاً من أن تكون المرحلة التي يبدأ الباحث فيها عملية التفكيك والتركيب بشكل مُتعمِّق وبلورة الإشكالية التي سيتناولها، أصبحت (في كثير من الأحيان) المرحلة التي يَتبنَّى فيها الباحث النماذج الاختزالية الواحدية المادية التي تقتل الواقع الإنساني وتميته وتقضي على أبعاده المركبة وتقذف بالباحث في براثن النماذج المعلوماتية التراكمية والموضوعية المتلقية.(1/180)
وقد صدرت بعض الدراسات التي تُميِّز بين الظواهر الطبيعية والإنسانية بحماس شديد وبراديكالية صارمة على المستوى النظري. ومع هذا، حينما وصلت هذه الدراسات إلى قضية الفروض، وصفتها في عبارات مثل:
ـ كلما كانت الفروض واضحة، ساعد ذلك الباحث على دقة تحديد أهداف البحث وحسن اختيار عينة البحث وأسلوبه وأدواته.
ـ يجب أن تُصاغ الفروض في كلمات بسيطة كلما أمكن.
ـ يجب أن تكون الفروض محدَّدة في منظورها لا واسعة عريضة.
ـ يجب أن تكون الفروض متمشية مع معظم الحقائق المعروفة السابقة التي ثبت صدقها أو صحتها.
ولابد أن نقرر أن الأمثلة السابقة حالة متطرفة من الاختزالية ولكنها حالة متطرفة ممثِّلة. وما يهمنا تقريره هنا أن النموذج المهيمن في مرحلة صياغة الفروض هو عادةً نموذج اختزالي يستبعد الإنسان كإنسان ويحدد ويُشيِّئ الظاهرة الإنسانية ليجعلها تشبه الظاهرة الطبيعية في بساطتها وبرانيتها، وهو ما يخلق لدى الباحث وهماً مفاده أن الظاهرة الإنسانية يمكن رصدها بشكل براني، عن طريق مراكمة المعلومات التي تتوافر عنها.
بل يمكننا القول بأن العلوم الإنسانية في بلادنا أصبحت تعيش في ظلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية باعتبارها نماذج بسيطة وواضحة ودقيقة، وأصبح الطموح الخفي للعلوم الإنسانية أن تصبح في بساطة ووضوح ودقة وموضوعية العلوم الطبيعية مما يعني افتراض أن الإنسان ظاهرة طبيعية وأنه جزء لا يتجزأ منها، مما يعني ضمور بل اختفاء الحيز الإنساني (وعلى العكس من هذا نجد أن افتراض انفصال الإنسان عن الطبيعة هو تأكيد للتركيب على حساب البساطة، وللكيف على حساب الكم، وللعمق على حساب الوضوح والدقة) .(1/181)
ومما ساعد على هذا الاتجاه نحو «تطبيع» الظاهرة الإنسانية (أي النظر إليها كما لو كانت ظاهرة طبيعية) اتساع قاعدة المعلومات وما يُسمَّى «ثورة المعلومات» أو "انفجارها". فإذا كان على الأستاذ الجامعي (أو المؤلف) أن يقرأ عشرات الكتب والحوليات ويحضر عشرات المؤتمرات ويشرف على عشرات المشاريع البحثية والرسائل الجامعية، فلابد أن يفضل التعامل مع المسلمات البسيطة الواضحة والدقيقة فمعالجتها أمر سهل، وتقبُّلها أمر حتمي، أما مناقشتها واختبارها فأمر يحتاج جهداً مركباً ووقتاً طويلاً. والخطاب التحليلي لنفس الأستاذ لابد أن يتسم بنفس البساطة والوضوح والدقة، والرسائل التي يناقشها لابد أن تتسم بالخصائص نفسها حتى يتمكن خط التجميع الأكاديمي من أن يستمر في السير وأن تستمر آلة المؤتمرات في الدوران. ولذا فكثيراً ما تُعزَل الفرضية عما حولها حتى يمكن "معالجتها" في رسالة أو كتاب. ويتحول الفكر إلى مجموعة أفكار متراصة، وكأن كل فكرة ليست سوى شيء لا يربطه رابط بالأفكار الأخرى، وكأنها ليست جزءاً من رؤية للكون.(1/182)
إن النموذج الفعال، الذي يُستخدَم أثناء صياغة الفروض في الرسائل الجامعية وفي عملية التأليف، يعيش في ظلال النماذج المستقاه من العلوم الطبيعية، ولذا نجده لا يُفرِّق في كثير من الأحيان بين مناهج البحث في العلوم الطبيعية وفي العلوم الإنسانية، ولا بين الظواهر الطبيعة والظواهر الإنسانية. وحيث إن النموذج الفعال مستبطن بشكل غير واع فإنه لا يُعلن عن نفسه بصراحة إلا في حالات نادرة (وعلى كل، من يجرؤ أن يصرح بالقول بأن الإنسان والشيء لا فرق بينهما؟) إلا أنه مع هذا يتبدَّى من خلال مجموعة من الافتراضات والآراء والاختيارات. فيُلاحَظ على سبيل المثال أن ثمة إيماناً في حقل العلوم الإنسانية بأن هناك معنى واحداً نهائياً صائباً ننجح في الاقتراب منه إن تحلينا بالموضوعية والحياد. ويسود الاعتقاد بأن المعرفة سلسلة مترابطة الحلقات كل حلقة تؤدي إلى التي تليها، ولا يمكن تَخطِّي الحلقات المتجاورة لأن سلسلة المعرفة ـ حسب هذا التصوُّر ـ سلسلة تراكمية صلبة (تماماً كما هو الحال في حقل العلوم الطبيعية) ، ومفهوم السببية الذي يسود فيها هو بنفس الصلابة. وتأخذ عملية التأليف من ثم شكل إضافة معلومات الواحدة للأخرى ومراكمتها، ويصبح التأليف هو إجراء تجارب في إطار النظرية العامة السائدة حتى نزداد اقتراباً من الحقيقة الواحدة (التي تعادل القانون الطبيعي أو الرياضي في العلوم الطبيعية) .(1/183)
ويتبدَّى هذا النموذج الفعال في اقتراحات الرسائل الجامعية في حقل العلوم الإنسانية. أذكر في الماضي (أي حتى أواخر الستينيات) حينما كان طالب الماجستير أو الدكتوراه يسجل موضوع بحثه كان يكتفي باختيار عنوان الموضوع (أي الإشكالية التي سيتناولها الباحث) في سطر أو سطرين، ويُترَك بعد ذلك هو وأستاذه، فالمسألة "بحث" والبحث لابد أن يكون منفتحاً، ولابد أن يؤدي إلى تحولات فكرية. أما الآن مع افتراض إجراء التجربة في إطار النظرية العامة السائدة، ومع افتراض فكرة التراكم المعلوماتي، فإن مشروع الرسالة يصل أحياناً إلى ستين صفحة حيث يذكر الباحث كل ما سيقوله مسبقاً، وكل المراجع بل فصول البحث. ولكن إذا كان "الباحث" يعرف ما سيقول، فلماذا يكتب الرسالة إذن؟(1/184)
وانطلاقاً من نفس التصور التراكمي والطموح نحو البساطة والوضوح والدقة والموضوعية والإيمان بوجود معنى واحد نهائي صائب (يشبه القانون العام في العلوم الطبيعية) ، أصبح من الأمور الشائعة الآن في حقل الدراسات العليا في العلوم الإنسانية أن يتقدم الطالب باقتراح لكتابة دراسة عن "الفكر التربوي للشيخ محمد عبده"، على سبيل المثال، فيُقال له "إن هذا الموضوع قد دُرس من قبل" وأنه "تمت تغطيته". والافتراض هنا أن الدراسة تغطي موضوعاً (الفكر التربوي للشيخ محمد عبده بشكل عام) ، لا إشكالية أو إشكاليات محددة (علاقة فكر الشيخ محمد عبده التربوي بفكره الديني ـ التناقضات بينهما، إن كان ثمة تناقضات ـ علاقة فكر الشيخ محمد عبده التربوي بفكر من سبقه من المفكرين ومن أتوا بعده ـ علاقة فكره السياسي بفكره التربوي) . وإذا كان موضوع الرسالة هو موضوع بشكل عام (وليس إشكاليات محددة) يرصد بشكل موضوعي براني، فمن المنطقي أن يتحول كاتب الرسالة إلى عامل أرشيف ومن ثم يمكن أن يُقال له: "إن هذا الموضوع قد دُرس من قبل وتمت تغطيته"، بمعنى أن المعلومات الخاصة بهذا الموضوع تم جمعها، تماماً مثلما تُجمَع المعلومات البرانية عن إحدى الكائنات (وهي ـ في واقع الأمر ـ مرحلة دنيا من مراحل الدراسة في العلوم الطبيعية، لابد أن تعقبها مرحلة ربط المعلومات بعضها ببعض ثم التعميم منها، وهي عمليات عقلية تتطلب قدراً عالياً من الخيال والمقدرة على التجريد) .(1/185)
هذا الموقف يستبعد بطبيعة الحال الذات المركبة المُدركة المتفاعلة مع الموضوع التي تصوغ الإشكالية المحددة ويستبعد فكرة أن التساؤلات التي يطرحها باحث ما في العلوم الإنسانية، يحمل أعباءه النفسية والفلسفية الخاصة، لابد أن تكون مختلفة عن تلك التي يثيرها باحث آخر يحمل أعباء نفسية وفلسفية أخرى، وأن اختلاف التساؤلات لابد أن يؤدي إلى اختلاف النتائج. كما يعني هذا الموقف تجاه البحث والتأليف إنكار إمكانية التحولات الفكرية أثناء عملية البحث بسبب تركيبية الإنسان وتركيبية الظاهرة. ولذا انتهى الأمر بأن أصبحت عملية البحث والتأليف في العلوم الإنسانية هي مجرد إجراء تجارب في إطار النظرية والفروض العامة السائدة، وظهر ولع غير طبيعي بالأرقام والإحصاءات والجداول والرسوم البيانية، وأصبح الاستبيان سبيل الوصول إلى الدقة المزعومة والتوصل إلى الحقيقة الواحدة. وفي نهاية الأمر أصبح التأليف، عند الكثيرين، هو التوثيق: توثيق شيء معروف مسبقاً أو تطبيق لنظرية (ثبت صدقها تماماً) على جزئية ما دون أن تثمر عملية التطبيق الجديدة أي تعديل للنظرية أو اكتشاف للمنحى الخاص للظواهر موضع الدراسة، وهو ما أسميه التوثيق الأفقي: أن يأخذ الباحث مقولة معروفة مستقرة ويوثقها من كتب أخرى دون إبداع أو تساؤل، كأن يثبت الباحث بما لا يقبل الشك أن الصهيونية حركة عنصرية، وأن الرومانتيكية عودة للطبيعة والعواطف، وأن مصر هبة النيل، وأن حافظ إبراهيم شاعر الوطنية!(1/186)
وقد أصبح كثير من البحوث الأكاديمية التي يُقال لها «علمية» ، والتي يتقدم أصحابها من أساتذة الجامعة للترقية، ويحصلون عليها في معظم الأحيان، ليست إلا إعادة ترتيب لبعض الحقائق التي وردت في دراسات سابقة أو ربما اكتشاف حقيقة جديدة لا علاقة لها بنموذج أو نمط (وكأن الباحث مُخبر أو شرلوك هولمز) ، بحيث أصبح البحث العلمي مثل الكائن الطفيلي الذي يعيش على البحوث المنشورة أو مثل الطائر الجارح الذي ينقض على فريسته إن غفل الآخرون عنها. وأصبحت معايير الترقية مسألة كمية مثل: عدد المراجع ـ تاريخ نشرها ـ عدد اللغات التي كُتب بها ـ هل هي من آخر المراجع ... إلخ، وهي كلها تنم عن أن كثيراً من أساتذة الجامعة (من المتقدمين للترقيات وممن يقومون بمنحها) يدورون في هذا الإطار العقيم. وأصبحت الرسائل الجامعية دراسات في موضوعات عامة مثل "تاريخ ليبيا في النصف الأول من القرن العشرين" أو "المدرسة الطبيعية في الأدبين الإنجليزي والفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر". وتصبح القضية لبحث الطالب عن موضوع "لم يكتب عنه أحد من قبل". وحينما يختار "الموضوع" يقف الطالب مدهوشاً في حيرة من أمره لا يدري ماذا يفعل وأين يبدأ وأين ينتهي. ولكن عادةً ما يتم التغلب على هذه الحيرة عن طريق صيغة نمطية محددة: تحديد عدد الصفحات ـ كتابة فصل عن حياة الكاتب ـ فصل آخر عن خلفيته ـ فصل ثالث عن أفكاره ـ فصل رابع عن أعماله الأولى ـ فصل خامس عن أعماله في شبابه، وهكذا. وتبدأ الآلة في الدوران وفي مراكمة المعلومات ولا تتوقف إلا حينما يشعر الأستاذ أن الدارس قد أُنهك بما فيه الكفاية وجمع من المعلومات الكثير. ولابد أن تأتي الإشارة من الأستاذ لأن مثل هذه الدراسة لا يمكن أن تكون لها نهاية، فهي ليست لها بداية بسبب افتقار الإشكالية وعدم وجود أسئلة محددة. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة مناقشة الرسالة والتي لا تختلف عادةً في منهجها عن المنهج المتبع في كتابتها(1/187)
(وذاك الشبل من ذاك الأسد) ،فالمناقشات تدور في الغالب حول حصر آخر المراجع وآخر المعلومات وكم المعلومات. و"النقد الموضوعي" يأخذ شكل نقد معلوماتي كميّ، إذ يُحصي الأستاذ المناقش الأخطاء المطبعية والمعلوماتية التي وقع فيها الكاتب والمَرَاجع التي لم يَطلِّع عليها، أما وجود أو غياب الإشكالية، أما العملية الإبداعية الأساسية، عملية التفكيك والتركيب، فهذه أمور تُترَك وشأنها وكأنها أمر ثانوي لا أهمية له.
وغني عن القول أن مناهجنا التعليمية تَصدُر عن فلسفة تراكمية ذرية مماثلة فكتبنا الدراسية تركز على المعلومات وكمها، لا على طريقة تصنيفها والربط بينها والتعميم منها وتفسيرها ونقدها، والهدف من العملية التربوية هو تلقين الطالب حشداً هائلاً من المعلومات (معلومة بجوار معلومة، درساً بعد درس) فيبرز متوسطو الذكاء الذين لا يتمتعون إلا بموهبة الحفظ والتكرار والاجترار، وتفقد الأجيال مقدرتها على التفسير والإبداع والنقد.(1/188)
ويصل النظام التربوي إلى قمته أو هوته في ظاهرة الدروس الخصوصية، حيث تصبح الكفاءة الأساسية هي الكفاءة في تلقِّي الحقائق البسيطة الواضحة الدقيقة. وعلى مستوى الجامعة يقوم الأستاذ بإملاء محاضراته فيدوِّنها الطلبة بكفاءة عالية، ثم تتطور الأمور فيطبع الأساتذة محاضراتهم فيما يُسمَّى «المذكرات الجامعية» فيقوم الطلبة بحفظها ويقوم الأساتذة بجَمْع "فائض القيمة". وتدور العملية التربوية بأسرها حول الامتحانات: أي كفاءة تلقِّي الحقائق البسيطة الواضحة الدقيقة وكفاءة كتابتها في بساطة ووضوح ودقة في ورقة الامتحانات في أسرع وقت! وتدريجياً تصبح القضية التربوية الأساسية هي الأرباح التي يتقاضاها المدرسون عن دروسهم الخصوصية والأساتذة عن مذكراتهم الجامعية. ويطالب بعض "المصلحين" بضرب هذه العملية الاستغلالية عن طريق تنظيم مجموعات في المدارس وعن طريق دعم الكتاب الجامعي، ويسقط الجميع في الموضوعية المتلقية حيث يصبح المعلم شيئاً مسيطراً ويصبح الطالب شيئاً مذعناً، ويتحرك الجميع داخل إطار جامد لا يؤدي إلى أية تحولات فكرية أو إثراء فكري أو معرفة جديدة، فما يُعرَف هو عادةً مجموعة من الحقائق المتناثرة (البسيطة الواضحة الدقيقة) التي ينساها الطالب بعد الامتحان ويصبح عقله مرة أخرى صفحة بيضاء من غير سوء، ويضمر الإبداع وتضيع الحقيقة. ولحسن الحظ فإن كثيراً من الباحثين الأذكياء يفلتون من قبضة هذه النماذج، ولكن هناك العديد أيضاً ممن يسقطون صرعى لها، فيسقطون الإبداع والخيال والمقدرة على التفكيك والتركيب ويراكمون المعلومات بشكل موضوعي متلق، محايد بارد. وترتبط هذه القضية ارتباطاً وثيقاً بمشكلة الموضوعية والذاتية في العلوم الإنسانية.
الموضوع(1/189)
«الموضوع» بالإنجليزية «أوبجيكت object» من الفعل اللاتيني «أوبجيكتاري objcetare» ، ومعناه «يُعارض» أو «يُلقي أمام» ، المشتق من فعل «جاكري jacere» بمعنى «يلقي بـ» ، و «أوب ob» بمعنى «ضد» . و «الموضوع» هو الشيء الموجود في العالم الخارجي وكل ما يُدرَك بالحس ويخضع للتجربة وله خارجيته وشيئيته، وكل ما هو مستقل عن الإرادة ويوجد خارج الوعي الإنساني مستقلاً عن رغائبنا وآرائنا. والموضوع ينطوي على طبيعته وحقيقته، ووجوده ليس رهناً بمعرفته ولا بتسميته. وعادةً ما يجري تصوُّر الموضوع على أنه ثابت مستقر. ويمكن القول بأن «الموضوع» في الفلسفات التي يمكن تصنيفها على أنها «موضوعية» هو الركيزة الأساسية للعالم، وهو المطلق الموجود بذاته، وهو الكل المركب المتجاوز للأجزاء، فليس له سبب متقدم عليه ولا فاعل ولا صورة ولا مادة ولا غاية فهو بمقام المحرك الأول.
ويرى البعض أن الذات هي التي تضفي الحقيقة على الموضوع. وعند بعض المفكرين المحدثين، الموضوع هو الفعل وعند الآخرين هو نتائج وآثار الفعل.
وتُستخدَم كلمة «موضوع» للإشارة إلى أي شيء نتحدث عنه وإلى المادة التي يَبني عليها المتكلم أو الكاتب كلامه وإلى مادة البحث، فنقول مثلاً: "موضوع هذا البحث هو كذا". وموضوع العلم هو معطياته ومادته وظواهره وحقائقه. وموضوع القضية (بالإنجليزية: سابجيكت subject) يقابل المحمول (بالإنجليزية: بردكيت predicate) ، فهو الذي يُتحدَث عنه ويُحكَم عليه في أي قضية إما إثباتاً أو نفياً.(1/190)
ونحن نذهب إلى أن الفلسفات العلمانية الشاملة تفترض الطبيعة/المادة كنقطة مرجعية نهائية وكركيزة أساسية، فهو الموضوع النهائي الذي يستوعب كل شيء بما في ذلك الذات الإنسانية. وتشير كلمة «موضوع» في هذه الموسوعة إلى هذا المطلق باعتباره الموضوع النهائي المتجاوز، كما تشير أيضاً إلى أية مجردات ومطلقات مادية لا إنسانية هي في جوهرها تنويع على الطبيعة/المادة ومرجعيتها النهائية واحدية مادية. وهذه المطلقات المادية تتجاوز الإنسان ولا يتجاوزها وتستوعب الإنسان ولا يستوعبها. ونشير إليها أحياناً بتعبير «المطلق العلماني» ، فهي مرجعية ذاتها (الدولة القومية ـ السوق/المصنع ـ الدافع الاقتصادي ـ المنفعة ـ اللذة ـ حتمية التاريخ (.
كما نذهب إلى أن المنظومات الحلولية الكمونية، حيث يكون المركز كامناً حالاً في المادة، تنطوي على صراع حاد بين الذات والموضوع، فتتمركز الذات حول نفسها باعتبار أنها هي المركز ولكنها تفقد حدودها وتجد نفسها متمركزة حول الموضوع مذعنة له.
الذات
«الذات» بالإنجليزية «سابجيكت subject» عن نفس أصل كلمة «أوبجيكت object» ، وهما من فعل «جاكري jacere» بمعنى «يُلقي» . ولكن، بدلاً من «أوب ob» والتي تعني «فوق» التي تضاف لكلمة «أوبجيكت object» ، يضاف مقطع «سب sub» بمعنى «تحت» أو «مع» . والأصل الإنجليزي يشير إلى حالة الاستقطاب بين الموضوعي والذاتي. والذاتي هو ما يُنسَب إلى الذات، أي ما يتصل بها أو يخضع لها:
1 ـ ذات الشيء هي جوهره وهويته وشخصيته. والذات هي حقيقة الموجود ومقوماته. ويقابله «العَرَض» ، أي التبدلات الظاهرة على سطح الأشياء. والذات ثابتة أما الأعراض فمتبدلة.
2 ـ ما به الشعور والتفكير، فتقف الذات على الواقع وتتقبل الرغبات والمطالب وتُوجِد الصور الذهنية وتُقابِل العالم الخارجي (غير موضوعي) الذي يقع خارج نطاق الوعي.(1/191)
3 ـ العقل أو الأنا أو الفاعل الإنساني المفكر وصاحب الإرادة الحرة أو الكيان الذي يتصف بصفات محدَّدة (الموضوع هو المفعول به (.
4 ـ العقل الديكارتي أو الكانطي الذي يُدرَك العالم الخارجي من خلال مقولاته.
5 ـ صانع التاريخ كفرد أو طبقة (باعتبار أن التاريخ هو الموضوع (.
ونحن نشير في هذه الموسوعة إلى الذات باعتبارها الذات الإنسانية الحرة الفاعلة المسئولة. وفي إطار المنظومة العلمانية العقلانية المادية، يمكن القول بأن الذات الإنسانية ذات طبيعية مادية ليس لها أصول ربانية. ومع أنها لا توجد إلا في الزمان والمكان، فإنها تصر على أنها مركز الكون وأنها ستحقق تجاوزاً لقوانين الطبيعة. ولكنها، لأنها ذات طبيعية، تفقد حدودها وتتفكك ويهيمن الموضوع النهائي على الطبيعة/المادة، وبذا يؤدي التمركز حول الذات (الإنسانية) داخل المنظومة المادية إلى التمركز حول الموضوع (الطبيعة/المادة) وتحل الموضوعية المادية محل الواحدية الذاتية الإنسانية.
إشكالية الموضوعية والذاتية
«الموضوعية» مصدر صناعي من كلمة «موضوع» . والموضوعية هي إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوهها نظرة ضيقة أو أهواء أو ميول أو مصالح أو تحيزات أو حب أو كره. ولذا، فإن وُصف شخص بأن "تفكيره موضوعي"، فإن هذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه تستند إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل وبعد معرفة كل الملابسات والظروف والمكونات.(1/192)
والموضوعية هي الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجوداً مادياً خارجياً في الواقع، وبأن الحقائق يجب أن تظل مستقلة عن قائليها ومدركيها، وبأن ثمة حقائق عامة يمكن التأكد من صدقها أو كذبها، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المُدركة) إدراكاً كاملاً، وأن بوسعه أن يحيط بها بشكل شامل، هذا إن واجه الواقع بدون فرضيات فلسفية أو أهواء مسبقة، فهو بهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى تَصوُّر موضوعي دقيق للواقع يكاد يكون فوتوغرافياً.
وكلمة «الذاتي» تعني «الفردي» ، أي ما يخص شخصاً واحداً، فإن وُصف شخص بأن "تفكيره ذاتي" فهذا يعني أنه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنية على شعوره وذوقه. ويُطلَق لفظ «ذاتي» توسعاً على ما كان مصدره الفكر لا الواقع، ومنه الأحكام الذاتية (مقابل الأحكام الموضوعية) وهي الأحكام التي تعبِّر عن وجهة نظر صاحبها وشعوره وذوقه. فمعرفتنا بالواقع محدودة تماماً عن طريق خبرتنا الذاتية الخاصة وتجربتنا الفريدة ووعينا وإدراكنا.
و «الذاتي» في الميتافيزيقا هو رد كل وجود إلى الذات، والاعتداد بالفكر وحده. أما «الموضوعي» ، فهو رد كل الوجود إلى الموضوع، المبدأ الواحد المتجاوز للذات. أما في نظرية المعرفة، فإن «الذاتية» تعني أن التفرقة بين الحقيقة والوهم لا تقوم على أساس موضوعي، فهي مجرد اعتبارات ذاتية، وليس ثمة حقيقة مطلقة، أما «الموضوعية» فترى إمكانية التفرقة. وفي عالم الأخلاق، تذهب الذاتية إلى أن مقياس الخير والشر إنما يقوم على اعتبارات شخصية إذ لا تُوجَد معيارية متجاوزة، أما الموضوعية فترى إمكانية التوصل إلى معيارية. وفي عالم الجمال، تذهب الذاتية إلى أن الأحكام الجمالية مسألة ذوق، أما الموضوعية فتحاول أن تصل إلى قواعد عامة يمكن عن طريقها التمييز بين الجميل والقبيح.(1/193)
ورغم أن هذه التعريفات تبدو سلسة وبسيطة، ورغم أن التعارض بين الذاتي والموضوعي سلس وواضح، فإن ثمة مفاهيم معرفية كلية نهائية متضمَنة غير واضحة تجيب على الأسئلة الكلية النهائية (ما الإنسان؟ ما العناصر المكونة له؟ ما علاقة عقله بالواقع؟ ما الهدف من وجوده؟ أيهما يسبق وجوده وجود الآخر ـ الإنسان أم الطبيعة؟) . وسنلاحظ ابتداءً أن هناك أشكالاً كثيرة من الموضوعية (تماماً كما أن هناك أشكالاً كثيرة من العقلانية) ، ولكن المرجعيات عادةً غير واضحة. فإذا قلنا "فلنكن موضوعيين" أو "فلنُحكِّم العقل" ولم نزد، فنحن نقول في واقع الأمر "فلنكن موضوعيين ولنُحكِّم العقل في إطار المنظومة المعرفية السائدة التي تسبق كلاًّ من الموضوع والعقل". وفي العصر الحديث، نجد أن المنظومة المهيمنة هي المنظومة المادية ونموذج الطبيعة/ المادة حيث لا فرق بين الطبيعة والإنسان. ولذا، فإن عبارة بريئة مثل «فلنكن موضوعيين» تعني في واقع الأمر «فلنتجرد من عواطفنا وذكرياتنا ومنظوماتنا الأخلاقية وتراثنا ولنرصد الواقع الإنساني والطبيعي كما هو» ، أي أن كلمة «موضوعية» بشكل مجرد تعني عادةً «الموضوعية المادية» أو «المتلقية» (تماماً كما أن كلمة «عقل» بشكل مجرد تعني «العقل المادي» ) . وبهذا المعنى، فإن الموضوعية هي، في واقع الأمر، العقلانية المادية في مرحلة التمركز حول الموضوع (لا التمركز حول الذات) . وأنها نتاج الرؤية المتمركزة حول الطبيعة/المادة، وعادةً ما تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة في الطبيعة/المادة (على عكس الذاتية، فهي نتاج الرؤية المتمركزة حول الذات والإنسان، وعادةً ما تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة في الذات) .(1/194)
ويمكن تلخيص الأبعاد الكلية والنهائية (المعرفية) للموضوعية (المادية) بأنها الإيمان بأن العالم (الإنسان والطبيعة) كل متجانس مكتف بذاته. وتبدأ المتتالية النماذجية للموضوعية المادية (شأنها شأن أية منظومة حلولية كمونية مادية) بمرحلة إنسانية ذاتية (واحدية ذاتية ـ تَمركُز حول الذات) . ومع تحقُّق المتتالية وبعد مرحلة قصيرة من الثنائية الصلبة تصبح الطبيعة/المادة هي المركز وتهيمن الواحدية الموضوعية المادية (التمركز حول الموضوع) وهذا يعني في واقع الأمر استبعاد الإنسان كعنصر فاعل وتحويله إلى عنصر سلبي متلق، والطبيعة نفسها تتحول إلى كيان بسيط منبسط مُسطَّح يستوعب هذا الإنسان، أي أن ثنائية الإنسان والطبيعة الفضفاضة يتم القضاء عليها لصالح الطبيعة وتسود الواحدية المادية.
وتتبدَّى هذه الأبعاد التفكيكية للموضوعية (المادية) في موقفها من القضايا التالية:
1 ـ عقل الإنسان:
أ) العقل السليم من منظور الرؤية الموضوعية (المادية) إن هو إلا صفحة بيضاء أو سطح شمعي (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa) ، وهو ما يعني أنه مادة محضة، فهو دماغ أو مخ أكثر منه عقلاً (فالعقل مفهوم فلسفي وليس مجرد وجود فسيولوجي) .
ب) العقل سلبي بسيط محايد، فهو كالآلة تنطبع عليه المعطيات والمدركات الحسية وتتراكم.
جـ) عقل الإنسان لا متناه في قدرته الاستيعابية والامتصاصية والتسجيلية.
د) العقل السليم يسجل ويمتص ويرصد بحياد شديد دون أن يُشوِّه أو يغيِّر أو يُعدِّل ما يصله من معطيات حسية وحقائق صلبة.(1/195)
هـ) هذا العقل جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة، أي أن الحيز الإنساني ليس له وجود مستقل، ولهذا السبب تسري على عقل الإنسان القوانين المادية العامة التي تسري على الأشياء، فهو لا يتمتع بأي استقلال عنها ومن ثم فلا هوية له ولا شخصية ولا حدود (حدوده تتطابق تماماً مع حدود الطبيعة/المادة) ، وهو مثل الطبيعة يتحرك في إطار القانون المادي العام ويرى العالم في إطار التشابه والتجانس. وهذا هو المعنى الحقيقي للقول بأن ثمة تقابلاً بين قوانين العقل وقوانين الواقع، وبين الذات والموضوع.
و) ولهذا السبب نفسه، فإن العقل قادر على التعامل مع العالم الموضوعي الخارجي، أي العالم المحسوس، بكفاءة بالغة، أما حينما يتعامل مع عالم الإنسان الداخلي، فهو أقل كفاءة.
2 ـ الواقع:
أ) الواقع الموضوعي (الطبيعة) واقع خام بسيط (يأخذ في أغلب الأحوال شكل ذرات متحركة) ، وهو مجموعة من الحقائق الصلبة والوقائع المحددة (التي تنطبع على العقل) .
ب) ثمة قانون طبيعي واحد يسري على الظواهر الطبيعية وعلى الظواهر الإنسانية، وعلى جسد الإنسان وعقله، وعلى الأمور المادية والمعنوية. وهذا يعني أيضاً أن تُعامَل الظاهرة الإنسانية تماماً مثلما تُعامَل الظواهر الطبيعية، وتُزال الفروق بين الإنسان والطبيعة بحيث يتحول الإنساني إلى طبيعي، أي أن الموضوعية تَصدُر عن الإيمان بوحدة (أي واحدية) العلوم بحيث يصبح الإنسان موضوعاً لا يختلف عن الموضوع الطبيعي، يُوصَف ويُرصَد من الخارج وتُستخدَم مناهج العلوم الطبيعية لدراسته.
جـ) الحقائق، لهذا السبب، عقلية وحسية (فالعقل جزء من الطبيعة) وقابلة لأن تُعرَف من جميع جوانبها، والموجود هو ما نحسه ونعقله وما وراء ذلك فأوهام. المعرفة، إذن، عقلية وحسية فقط (ولكن العقلي والحسي متقابلان فهما شيء واحد) .(1/196)
د) أجزاء الواقع الموضوعي تترابط من تلقاء نفسها حسب قوانين الترابط الطبيعية/المادية العامة، وحسب حلقات السببية الواضحة المطلقة، وبشكل صلب لا تتخلله ثغرات أو فجوات، فكل شيء يدخل شبكة السببية الصلبة ومن ثم يمكن رد كل الأجزاء المتعينة المتفردة إلى الكل العام المجرد.
هـ) هذه السببية كامنة في الأشياء أو لصيقة بها تماماً.
3 ـ الإدراك:
أ) عملية الإدراك تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، ولذا فهي عملية اتصال بسيطة مباشرة (جسدية مادية؟) بين صفحة العقل البيضاء والواقع البسيط الخام (منبه فاستجابة) ، وهي عملية محكومة مسبقاً بقوانين الطبيعة/المادة، تلك القوانين التي تسري على الإنسان سريانها على الأشياء.
ب) وهي عملية تلقٍ موضوعية مادية تراكمية (ذرية) إذ يقوم العقل بتلقي الحقائق الصلبة والوقائع المحددة المتناثرة التي تأتي من الواقع الموضوع الطبيعي/المادي الذي يتراكم فوق عقل الإنسان.
جـ) وبإمكان هذا العقل أن يقوم بعمليات تجريبية، أي أن يختار عناصر من الواقع ويستبعد عناصر أخرى ثم يربطها ببعضها البعض. ولكنه، حتى في نشاطه هذا، لا يمكنه أن يكون مستقلاً عن قوانين الطبيعة/المادة. ولذا، سيختار العقل (بشكل تلقائي أو آلي) الجوانب العامة والمشتركة والمتشابهة في الظواهر (فهي وحدها المحسوسة والقابلة للقياس والنظر العقلي) وهي التي تساعد على التوصل إلى القانون العام.
د) ونحن حين نقول «العقل يربط» فهذا من قبيل التجاوز. فالأشياء ـ كما أسلفنا ـ مرتبطة في الواقع برباط السببية الواضح. والواقع والمعطيات الحسية ترتبط في عقل الإنسان من تلقاء نفسها، بشكل آلي، حسب قوانين الترابط المادية الألية العامة. إذ تترابط الأحاسيس الجزئية وتتحوَّل إلى أفكار بسيطة، ثم تترابط الأفكار البسيطة لتتحوَّل إلى أفكار مركبة تترابط بدورها لتصبح أفكاراً أكثر تركيباً، وهكذا حتى نصل إلى الأفكار الكلية.(1/197)
هـ) عملية الإدراك عملية عامة لا تتأثر بالزمان والمكان أو بموقع المدرك من الظاهرة.
و) العقل قادر على زيادة التجريد إلى أن يصل إلى القوانين العامة للحركة ويصوغ هذه القوانين في لغة بسيطة عامة يُستحسن أن تكون لغة الجبر، حتى لا تختلف لغة الإفصاح من مدرك لآخر.
4 ـ بعض نتائج الموضوعية) المادية: (
تُلغي الموضوعية (المادية) كل الثنائيات، وخصوصاً ثنائية الإنسان والطبيعة، وتُرجِّح المرجعية الكامنة الموضوعية على المرجعية الكامنة الذاتية:
أ) تدور الموضوعية (المادية) في إطار الواحدية السببية (المرتبطة تمام الارتباط بوحدة [أي واحدية] العلوم) ، فثمة سبب واحد أو عدة أسباب لتفسير كل الظواهر.
ب) ثمة إيمان بضرورة الوصول إلى درجة عالية من اليقينية وشمولية التفسير تتفق مع الواحدية السببية.
جـ) تنقل الموضوعية (المادية) مركز الإدارك من العقل الإنساني إلى الشيء نفسه، ولذا فإن هناك اتجاهاً دائماً نحو تأكيد الحتميات الموضوعية المادية المختلفة.
د) تستبعد النماذج الموضوعية (المادية) الإنسان كعامل قادر على تَجاوُز المعطيات المادية حوله، بل ترده في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير لهذه المعطيات.
هـ) الموضوعية (المادية) لا تعترف بالخصوصية، ومنها الخصوصية الإنسانية، فهي تُركِّز على العام والمشترك بين الإنسان والطبيعة، ولذا فإن الفكر الموضوعي يُعبِّر عن نفور عميق من الهوية والخصوصية.
و) لا تعترف الموضوعية (المادية) بالغائيات الإنسانية ولا بالقصد، فالغائيات لا يمكن دراستها أو قياسها، كما أنها مقصورة على الإنسان دون عالم الطبيعة، ولذا تستبعد الموضوعية فكرة المعنى.
ز) لا تعترف الموضوعية (المادية) بالإبهام، فهي تُفضِّل الدقة الكمية التي يمكن استخدامها في دراسة كلٍّ من الإنسان والطبيعة، ولذا فهي تستبعد، بقدر الإمكان، عناصر الإبهام وعدم التحدد في الطبيعة والإنسان.(1/198)
ح) تفضل الموضوعية (المادية) البراني (فهذا هو المشترك بين الإنسان والحيوان) وتهمل الجواني.
ط) دوافع الإنسان بسيطة واضحة برانية مستمدة إما من البيئة الاجتماعية أو من العناصر الوراثية، وهي دوافع يمكن رصدها ببساطة.
ي) المعرفة نتاج تراكم براني للمعلومات.
ك) يمكن تفسير سلوك الإنسان وأفكاره في إطار التأثير والتأثر (البراني) لا التوليد أو الإبداع (الجواني) .
ل) تفضل الموضوعية الاستمرار (استمرار عالم الطبيعة والإنسان كعنصر أساسي في وحدة العلوم) وترفض الانقطاع (أي تَميُّز الإنسان عن الطبيعة) ، أو تنظر له بكثير من الشك.
م) الالتزام بالموضوعية (المادية) يعني أن يتجرد الباحث من ذاتيته وخصوصيته الحضارية بل الإنسانية، ومن عواطفه وحواسه وحسه الخلقي وكليته الإنسانية، بحيث يمكنه أن يُسجِّل ويصف بحياد شديد لدرجة تموت معها الأشياء، ويتشيأ الإنسان ويُرصَد من الخارج كما تُرصَد الأشياء. فالالتزام يُعبِّر عن موقف مسبق قد يؤثر في الرؤية الموضوعية، كما أنه يفترض غائية إنسانية لا أساس لها في الطبيعة/المادة.
5 ـ الموضوعية (المادية) والنموذج التراكمي:
النموذج الكامن في الرؤية الموضوعية (المادية) نموذج تراكمي:
أ) فثمة إيمان بأن كل المشتركين في العلوم (إن توافرت لهم الظروف الموضوعية) يفكرون بنفس الطريقة ويسألون نفس الأسئلة، وهذا يعني أن ثمة حقيقة موضوعية ثابتة واحدة نحاول الوصول إليها جميعاً وبنفس الطريقة، وهو ما يؤدي إلى تراكم الإجابات وتشابكها على مستوى الجنس البشري بأسره، وهذا التراكم والتشابك سيؤدي إلى تزايد رقعة المعلوم تدريجياً ويؤدي بالتالي إلى تَقلُّص رقعة المجهول.(1/199)
ب) عملية التراكم ستوصلنا إلى نموذج النماذج، القانون العام، الإجابة الكلية (النهائية) ، فما هو مجهول في الطبيعة (المادية والبشرية) هو أمر مؤقت، إذ سيصبح من خلال تراكم المعلومات معلوماً، وتتراجع رقعة المجهول، وسيؤدي تزايد رقعة المعلوم والتراكم المعرفي المستمر إلى سد كل الثغرات والتحكم الكامل أو شبه الكامل وإلى معرفة الطبيعة البشرية المادية معرفة كاملة أو شبه كاملة بحيث تصبح كل الأمور (إنسانية كانت أم طبيعية) أموراً نسبية مادية معروفة ومحسوبة ومبرمجة، ويصبح العالم مادة استعمالية لا قداسة لها.
جـ) يُحكَم على المعرفة من منظور مدى قُربها أو بُعدها من النقطة النهائية الواحدية التي يتحقق فيها القانون العام وتتطابق الكليات مع الجزئيات.
د) هدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، وهدف العلم هو السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة وتسخير مواردها وتحقيق الهيمنة الكاملة للإنسان على الطبيعة. ولتحقيق هذا، لابد من إدخال كل الأشياء (الإنسان والطبيعة) في شبكة السببية الصلبة والمطلقة حتى يتم شرحها وإخضاعها للقوانين الطبيعية. ويعني تزايد الدراسة الموضوعية تزايُّد التحكم وصولاً إلى الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ أو على الأقل إلى النظام العالمي الجديد.
هـ) العقل قادر على إعادة صياغة الإنسان وبيئته المادية والاجتماعية في ضوء ما تراكم عنده من معرفة وبما يتفق مع القوانين الطبيعية العامة التي أدركها الإنسان من خلال دراسته الموضوعية لعالم الطبيعة والأشياء (وهذا ما يسمى عملية الترشيد، أي تنميط الواقع من خلال فرض الواحدية المادية عليه حتى يمكن التحكم الكامل فيه ثم حوسلته، أي تحويله إلى وسيلة ومادة استعمالية يمكن توظيفها بكفاءة عالية كما يمكن تعظيم فائدتها (.(1/200)
ويُلاحَظ أن ثمة استقطاباً حاداً في كل المنظومات الحلولية الكمونية المادية. يتضح هذا في الاستقطاب بين الموضوعية (في تأليهها للكون وإنكارها للذات) والذاتية (في إنكارها للكون وتأليهها للذات) . فالموضوعية تَفترض أن الواقع معقول وأنه مكمن الحقيقة وأنه يمكن معرفته وتفسيره في ضوء القوانين العامة التي يستخلصها الإنسان من خلال إذعان الذات للموضوع. أما الذاتية فترى أن الواقع غير موجود أو لا يمكن الوصول إليه ولا يمكن إدراكه أو تفسيره ولا يمكن التوصل إلى أية قوانين أو حقائق عامة، ومن ثم تصبح علاقة الذات بالموضوع واهية، وقد تختفي تماماً.
وقد واجه الفلاسفة مشكلة الاستقطاب الحاد بين الذات والموضوع (الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية) ، وطُرحت القضية التالية: هل الذات قادرة على معرفة الموضوعات، أم أن الموضوعات برانية بحيث لا يمكن الوصول إليها؟ وهل الذات هي مقياس حقيقة الأشياء (أي معقوليتها) أم أن الموضوع يحتوي نظامه (ومعقوليته) دون ارتباطه بالذات الإنسانية؟ وقد حاول كثير من فلاسفة القرن العشرين حل إشكالية ثنائية الذات والموضوع عن طريق إلغائها تماماً، فقالوا بعدم انفصال الذات عن الموضوع، فالموضوع ليس شيئاً مستقلاً عن الإرادة البشرية وإنما هو الفعل الناجم عن ممارسة القوة (فلسفات القوة) . وقال البعض الآخر إن الفعل ليس هو في ذاته ولكنه نتائج وآثار الفعل (الفلسفة البرجماتية) . والأمر عند فريق ثالث لا هذا ولا ذاك وإنما هو ما يتجه نحوه الوعي (الفلسفة الفينومينولوجية) . ومن ثم، فإن الذات لا وجود لها خارج الموضوع، وهي تستمد وجودها من تقابلها معه.(1/201)
ولكن، ورغم الاستقطاب الشديد، فإن ثمة نقط تشابه بين الذاتية والموضوعية، فكلاهما يدور في إطار الحلولية الكمونية التي تفترض وجود مركز الكون داخله (الذات أو الموضوع) ، ومن ثم فإن كليهما واحدي يُلغي المسافة وإمكانية التجاوز. وتؤكد الموضوعية (المادية) أن الأشياء المحسوسة مادية ولها وجود موضوعي. ولكن هل العلاقة بين هذه الأشياء المحسوسة علاقة مادية وموضوعية تماماً أم أن رصدها يتطلب إجراء عمليات عقلية (ذاتية) تختلف من شخص لآخر؟ وجوهر الموضوعية هو الاستقراء، أي التعميم من عدد من الحالات الموضوعية، ولكن يمكننا أن نسأل: كيف يَحق للإنسان أن ينتقل من عدد من الظواهر الفردية إلى كل الظواهر التي تندرج تحت هذا النوع في الماضي (الذي لم يرصده الإنسان) والحاضر (الذي رصد بعض حالاته) والمستقبل (المجهول تماماً) ؟ ألا يشكل هذا الانتقال شكلاً من أشكال الإيمان بالثبات؟ وإذا كانت الحواس الفردية للإنسان مصدر المعرفة، فهل هي مصدر يمكن الاعتماد عليه؟ كل هذا يُبيِّن أن الحديث عن معارف كلية يقينية (نتوصل إليها من خلال عمليات الربط والتعميم) أمر يتنافى مع الموضوعية، وأن أي حديث عن معرفة نتوصل إليها من خلال الحواس يفتقد إلى المصداقية، ولذا تنحل الموضوعية في اتساقها مع نفسها وتسقط في ذاتية كاملة إذ أن كل واحد فينا (حسب الرؤية الموضوعية المادية نفسها) حبيس حواسه وحبيس التفاصيل التي يرصدها.(1/202)
ويمكن أن تحل الموضوعية (المادية) هذه الإشكالية بأن تُضيِّق نطاقها بقدر المستطاع فتقتصر وظيفتها على تعريف الظواهر ووصفها واكتشاف قوانينها (المادية) وترتيب القوانين من الخاص إلى العام، وتحل الملاحظة محل الخيال والتأمل والاستدلال النظري، وتقوم التجربة المادية مقام التصورات والافتراضات. ثم تضيق الحلقة وتصبح الموضوعية (المادية) هي تسجيل التفاصيل والحقائق المتناثرة. وفي هذه الحالة، تصبح الموضوعية موضوعية متلقية سلبية لا تستطيع التمييز بين مختلف المعطيات الحسية والمعطيات العقلية. ويصبح الرصد الموضوعي رصداً لأمور غير مهمة وربما تافهة ولكنها، مع هذا، "موجودة" موضوعياً ومادياً في الواقع. ويمكن أن يكون الرصد أفقياً بمعنى أن تُوضَع كل التفاصيل جنباً إلى جنب دون ربط أو ترتيب هرمي. كما يمكن أن تصبح الموضوعية (المادية) احتمالية تماماً، تضع الحقائق والتعليمات دون أن تَنسب لها أي ثبات. ولهذا يجب ألا يُطرَح السؤال على هذا النحو: هل الحقائق موجودة بالفعل أم لا؟ وإنما يجب أن يُطرَح بهذه الطريقة: ما دلالة الحقائق ومعناها وأهميتها؟ وهل تستحق التسجيل أم لا؟ فإن قلنا مثلاً إن الأساتذة الجامعيين يلبسون بذلاً زرقاء أما غيرهم فيلبسون بذلاً خضراء، فهل يصلح هذا أساساً لتصنيف أساتذة الجامعة؟(1/203)
إن أساس اختيار الحقائق أكثر أهمية ودلالة من الحقائق في ذاتها. وكم المعلومات (مهما تضخَّم) لا علاقة له بالصدق أو الدلالة، فالصدق والكذب ليسا كامنين في الحقائق الموضوعية (أي من حيث هي كذلك) وإنما في طريقة تناولها وفي القرار الخاص باختيارها أو استبعادها. ومن هنا قولي بأن الحقائق شيء والحقيقة شيء آخر والحق شيء ثالث. فالحقائق أشياء مادية صرفة تُوجَد في الواقع على هيئة تفاصيل متناثرة منعزلة عن ماضيها التاريخي وسياقها الحاضر وعن الحقائق الأخرى، أما الحقيقة فهي لا توجد في الواقع وإنما يقوم العقل المبدع بتجريدها واستخلاصها من خلال عمليات عقلية تُجرَى على كم المعلومات والوقائع والحقائق المتناثرة فيقوم العقل بربط الوقائع والحقائق والتفاصيل ببعضها البعض الآخر ويراها في علاقتها بالحقائق المشابهة ومعارضتها للحقائق الأخرى كما يربطها بماضيها التاريخي وواقعها الاجتماعي ثم يربطها بحقائق وأنماط مماثلة حتى يصل إلى النموذج التفسيري الذي يُفسِّر أكبر قدر ممكن من الحقائق المتناثرة (أما الحق، فهو ينتمي إلى عالم المُثُل والإيمان وهو يشكِّل المنظور الأخلاقي [المطلق] الذي لا يجده الإنسان جاهزاً في الواقع المادي وإنما يُحاكم على أساسه كلاًّ من الحقائق المادية والحقيقة الفكرية العقلية) .(1/204)
ولنضرب مثلاً مثيراً من واقع أعضاء الجماعات اليهودية يبرهن على انعدام جدوى عملية الرصد الموضوعي (المتلقي) مهما بلغ من دقة وأمانة ونزاهة. ولنتخيل باحثاً (سنشير إليه بعبارة «الباحث الافتراضي» ) قرر أن يتخذ موقفاً موضوعياً تماماً من هجرة أعضاء الجماعات اليهودية وأن يرصدها بأمانة. سيبدأ هذا الباحث الافتراضي بعمل جدول يدرج فيه أسماء الجماعات اليهودية في العالم، وبجانب كل جماعة سيدرج الأرقام الخاصة بعدد اليهود الذين هاجروا منها ثم قد يضيف جدولاً آخر بأسماء البلاد التي هاجروا إليها. وقد يقرر أن يعمل جدولاً تاريخياً يضم أسماء الجماعات اليهودية وأسماء البلاد التي هاجروا إليها وتواريخ الهجرة والنسب المئوية المختلفة. وستكون النهاية أو الثمرة جدولاً ضخماً أو عدة جداول ضخمة أو متوسطة الحجم. ولا شك في أن مثل هذه الجداول، باختلاف أحجامها وأشكالها مرحلة أساسية في عملية الرصد. ولكن أن نكتفي بهذه الخطوة، فهذا هو التلقي السلبي بعينه، فالجدول قد يحتوي على كل شيء ولكنه لا يقول شيئاً، إذ يجب أن يُنظَر له باعتباره مادة خام، مجرد حقائق، يتعامل معها العقل لا كنهاية في حد ذاتها وإنما كي يفسرها ويجردها ويستخرج الأنماط منها حتى نصل إلى الحقيقة، ولكن لا يمكن أن نتصور أن المادة الخام هي النمط وأن الحقائق هي الحقيقة. ولكن صاحبنا، الباحث الموضوعي الافتراضي الذي أشرنا إليه، يكتفي بالرصد ولا يُعمل عقله ولا يجتهد ولا يسأل ولا يطرح الإشكاليات ولا يربط ولا يجرد ولا يبقي ولا يستبعد، ولعله لو فعل لاكتشف أن هجرة اليهود في العالم القديم لم تكن مجرد أرقام متراكمة بلا شكل أو اتجاه وإنما جزءاً من نمط، فقد كانت في معظم الأحيان هجرة من المناطق المتقدمة إلى المناطق المتخلفة، ولاكتشف أن هذا النمط انعكس مع بداية القرن السادس عشر. ولاكتشف أيضاً أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يهاجرون والسلام وإنما يتحركون عادةً داخل حدود(1/205)
إمبراطورية ما، تُيسِّر لهم الحركة وتؤمِّنهم، وأن هذا ما حدث لهم في العصر الحديث مع التشكيل الاستعماري الإمبريالي (الإمبراطوري) الغربي، وأن ما يحدد حركتهم (هجرتهم) هو حركيات التشكيل الاستيطاني الغربي. ولذا هاجر 80% من المهاجرين اليهود في العالم الغربي إلى الولايات المتحدة (تماماً كما هاجر 85% من مهاجري العالم الغربي إليها) . ولعل باحثنا الافتراضي هذا لو أعمل عقله قليلاً لاكتشف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يتحركوا داخل هذا التشكيل الاستعماري الغربي على وجه العموم وإنما داخل التشكيل الأنجلو ساكسوني على وجه التحديد، ومن هنا تواجدهم المكثف في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا، ومن هنا أيضاً إسرائيل، فهي ليست جزءاً من الحركة العامة لليهود وإنما هي جزء من التشكيل الاستعماري الأنجلو ساكسوني. الرصد الموضوعي سيُعطي كل البيانات ويُرهقنا تماماً (حقائق بلا حقيقة) ، أما الاجتهاد فسيُعطينا الحقائق داخل أنماط قد لا تضم كل الحقائق وقد لا تنطق بكل الحقيقة ولكنها بلا شك ستُفسِّر لنا كثيراً من جوانب الواقع.
والافتراضات التي يستند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر الاستنارة، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة تماماً أو بسيطة إلى درجة كبيرة، ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة. وهذا يعود لعدة أسباب:
1 ـ تركيبية الواقع وخصوصية الظواهر:
الواقع المادي ليس بسيطاً ولا منبسطاً ولا صلباً ولا صلداً وإنما مركب ومليء بالثغرات والنتوءات، ولا ترتبط معطياته الحسية برباط السببية الصلبة الواضحة إذ ثمة عناصر مبهمة فيه وثمة احتمالات وإمكانيات كثيرة يمكن أن يتحقق بعضها وحسب ولا يتحقق البعض الآخر.(1/206)
وكما بيَّن الدكتور حامد عمار فإن صورة عالم نيوتن المادي الآلي الثابت لم تَعُد الصورة المهيمنة في العلوم الطبيعية، فقد جاءت نظرية النسبية والحركة والطاقة لتكمل مفهومنا عن عالم المادة التي تبدو في السطح مستقرة ثابتة، لكن استقرارها إنما هو نتيجة لدينامية في انتظام الحركة داخل مكوناتها. والجُزَيْءُ النووي يتمثل في مادة كما يتمثل في موجات، ويتوقف التعامل معه على نوع السؤال الموجه له في أي من البُعدين. كذلك أدَّت نظرية أينشتاين في النسبية إلى القضاء على المفهوم المطلق لكل من الزمان والمكان، وإلى اعتبارهما بُعداً واحداً رابعاً يعمل في سياق بيئة معيَّنة. وامتدت أبحاث الفيزياء الحديثة من خلال نظرية الكم (كوانتوم) إلى أن الحقائق الكونية تتحدد أكثر ما تتحدد بعلاقتها بغيرها. وأن تعريفها يعتمد أكثر ما يعتمد على نوع علاقتها المتبادلة مع غيرها. أضف إلى ذلك أن تحديد المادة وفهمها إنما يتأثر إلى حدٍّ ما بالمشاهد نفسه، فهو مشارك في تحديد طبيعة ما يراه، وليس مجرد ملاحظ سلبي لما يراه. وهذا يعني أننا لا يمكن أن نفصل العقل عن إدراك عالم الإلكترون كما يقول علماء الفيزياء، باعتبار أن له خصائص مستقلة عن الشخص المُدرك، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن عالم الطبيعة والمادة دون أن نتحدث عن أنفسنا وطبيعة ذواتنا، ووعينا ومقاصدنا.
ومن خلال هذه الجهود والنظريات العلمية في عالم الفيزياء الحديثة أصبح التوجه العام في النظر إلى الكون نظرة يمكن وصفها بأنها عضوية وكلية بيئية، أي من خلال نظرية المنظومة العامة. وهذا المنطلق العلمي يناقض النظرة الميكانيكية التي تنظر إلى الكون باعتباره (آلة ـ ماكينة) تتألف من أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، لكنها أجزاء مترابطة في علاقات متبادلة في هذا الكل الكوني الموحد. فالأشياء إنما هي علاقات بين أشياء، وأن هذه الأشياء إنما هي علاقات بين أشياء أخرى، وهكذا.(1/207)
وينبع قدر كبير من الخلل في تَصوُّر الكائنات الحية عموماً باعتبارها آلات، مع أن هناك خلافاً جوهرياً بينهما، فالآلات تُصنَع وتُركَّب، بينما الكائنات الحية تنمو وتتطور. كذلك فبينما تتحدد أنشطة الآلة من خلال بنية أجزائها، فإن نشاط الكائنات الحية، وبخاصة الإنسان، إنما يتحدد بالعكس، أي أن بنيتها تتحدد من خلال العمليات التي تقوم بها. ثم إن عمل الآلة محكوم بسلسلة خطية من السبب والنتيجة، وحين يحدث خلل يمكن التعرف على السبب في ذلك الخلل، أما في الكائن الحي فإن جسمه يعمل من خلال علاقات دائرية يؤثر بعضها في البعض، ثم يعود ليؤثر مرة أخرى في المؤثر الأول من خلال التغذية الراجعة. ومن ثم يصبح الخلل ناجماً عن مجموعة مركبة من العوامل يعزز بعضها بعضاً، وبالتالي يصبح التعرف على السبب الأول غير ذي موضوع، وإنما الأهم هو محصلة العلاقات المتداخلة".
ولذا، لا يمكن فهم الواقع من خلال القوانين البسيطة الصلبة المطلقة وإنما من خلال الافتراضات والقوانين الاحتمالية والسببية الترابطية، ولذا أصبحنا ندرك خطورة التجريب العلمي وأنه ليس من الممكن القيام بكل التجارب الممكنة التي تغطي كل الاحتمالات. ولعل ظهور مفهوم الـ «إيكو سيستم eco-system» ، أي «النظام البيئي» ، تأكيد لتركيبية هذا العالم الذي نعيش فيه وأنه لن يقع في قبضة السببية الصلبة المطلقة التي توهمها العلم الغربي في القرن التاسع عشر، قبل أن يصل إلى قدر من النضوج فيما يتصل بقدراته وحدوده.
ومما يزيد من تركيبية الكون وجود أهم الثغرات طُراً فيه، أي الإنسان، فهو أكثر الكائنات تركيباً، لا يقف في الكون كشيء ضمن الأشياء الأخرى، ظاهرة مثل الظواهر، وإنما يقف شامخاً في مركز الكون تأتي عنده القوانين الطبيعية فتُعدِّل من مسارها وتتغير وتتحور، بل قد تتوقف أحياناً تماماً.
2 ـ خصوصية وتركيبية الإدراك:(1/208)
ما ينطبق على الإنسان ينطبق، بطبيعة الحال، على عقله الذي يرصد الكون، فقد اكتشفنا أن العقل قاصر وله حدوده الخاصة ولا يمكنه تسجيل كل المعطيات المادية المحيطة به ولا الإحاطة بكل جوانب الفعل. نعم ينطبع الواقع على خلايا المخ، ولكن عدد الانطباعات الحسية في أية لحظة يكون هائلاً لدرجة يستحيل معها تسجيله. والعقل، رغم هذا، بل بسبب هذا، أبعد ما يكون عن السلبية والبساطة، فهو ليس بصفحة بيضاء تتراكم عليها المعلومات وتصبح معرفة من تلقاء نفسها، فالعقل في أبسط العمليات الإدراكية فاعل فعال، مبدع حر، يتمتع بقدر من الاستقلال عن المعطيات المادية المحيطة به وعن قوانين الطبيعة/المادة، فاللحظة الحسية في عملية الإدراك ليست سوى لحظة.(1/209)
وعملية الإدراك ليست بسيطة تأخذ شكل منبه أو مثير فاستجابة فهي مسألة تبلغ الغاية في التركيب، فبين المنبه المادي والاستجابة الحسية والعقلية والإدراكية يُوجَد عقل نشيط مبدع ينظم وهو يتلقى. والمعرفة تتضمن فهماً وتركيباً وتنظيماً، والحواس عاجزة بذاتها عن فهم المحسوسات وتنظيمها إذ أن التنظيم يستدعي قدرة أخرى وفاعلية أخرى تصل وتفصل وتقارن وترتب وتنظم، ولن تكون هذه القوة ناشئة عن المحسوسات لأن الحواس لا تمدنا إلا ببعض الصفات الظاهرة للمُعطَى الحسي كاللون والرائحة والطعم والحجم. وهي معطيات جزئية فردية منعزلة لا تؤلف وحدة متكاملة ومترابطة. وما يحدث أن الكم الهائل والحصيلة الضخمة للمعطيات الحسية التي تُسجَّل على عقل الإنسان، والتي تصل إليه على هيئة جزئيات غير مترابطة، هذا الكم يفرض عليه جهازه الحسي والعصبي ترشيحها وفرزها وترتيبها (فهو لا يستوعب إلا الكليات المترابطة) ، ثم يجري العقل عملية تجريدية تفكيكية تركيبية تتضمن استبعاد بعض العناصر وإبقاء البعض الآخر، ثم يقوم بترتيب ما تم إبقاؤه من معطيات فيُبرز بعضها باعتباره مركزياً ويُهمِّش البعض الآخر باعتباره ثانوياً بحيث تصبح الجزئيات المتناثرة كلاً مفهوماً وتصبح العلاقات بين المعطيات المادية التي أدركها العقل تتشاكل، ولا تتطابق بالضرورة، مع ما يتصور الإنسان أنه العلاقات الجوهرية في الواقع.(1/210)
وعملية الإبقاء والاستبعاد هذه لا تتم بشكل عشوائي (ذاتي) محض، ولا تتم بشكل آلي (موضوعي) محض، وإنما على أساس مجموعة من المسلمات الكلية النهائية التي استبطنها المُدرك (وهي مفطورة في عقل الإنسان) . وهذه العملية ليست عملية محايدة، مفرغة تماماً من القيم (بالإنجليزية: فاليو فري value-free) وإنما تدور في إطار المنظومة القيمية للمدرك. ومما يزيد عملية الإدراك تركيباً أن عقل الإنسان لا ينظم المعطيات الحسية ويفككها ويركبها وحسب، بل يختزن ذكريات عن الواقع هي في حقيقة الأمر صورة مثالية وذاتية لهذا الواقع، وهو يُولِّد من المعطيات الحسية رموزاً وأساطير، وتصبح الذكريات والمثل والرموز والأساطير جزءاً من آليات إدراكه. كما أن وضع المُدرك في الزمان والمكان يؤثر ولا شك في علاقته بالظاهرة التي يدرسها.
وعملية رصد الإنسان عملية تبلغ الغاية في التركيب. فالحقائق الإنسانية لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة دوافع الفاعل وعالمه الداخلي والمعنى الذي يُسقطه عليه، فالإنسان ليس مجرد سلوك براني مادي وحسب يُرصَد من خارجه وإنما هو سلوك براني تُحركه دوافع جوانية يَصعُب الوصول إليها مباشرةً من خلال الوصف الموضوعي وغيره، ولذا يحاول العقل البشري أن يصل إليها من خلال عملية حدس وتخمين وتعاطف وتخيُّل وتركيب عقلي ومقاربات ذهنية يَصعُب أن نسميها «موضوعية» . وقد قيل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستجيب للمنبهات وإنما لفهمه لها ولدلالتها وللمعنى الذي يُسقطه هو عليها. والبُعد الجواني في الظاهرة الإنسانية يفوق في أهميته السلوك البراني الخاضع للرصد المادي، فكأن الموضوعية عاجزة عن رصد الإنسان باعتباره كائناً مركباً، وتنجح فقط في تحويله إلى كائن طبيعي، وهو ما يُبيِّن أنها تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية الكامنة.
3 ـ خصوصية القول وتركيبية الإفصاح:(1/211)
ويمكن أن نضيف لكل هذا أن اللغة التي يستخدمها المُدرك للإفصاح عن إدراكه للواقع يمكن أن تكون لغة جبرية دقيقة في المواقف التافهة البسيطة أو في وصف بعض الظواهر الطبيعية. أما إن انتقلنا إلى الظواهر الأكثر تركيباً، فنحن عادةً ما نستخدم لغة مركبة قد تكون مجازية أو رمزية أو غير لفظية، وهي لغة تختلف من شخص لآخر.
الواقع مركب لا يمكن رصده ببساطة، والإنسان تبلغ الغاية في التركيب ويستحيل أحياناً رصد عالمه الجواني. وهو نفسه، كراصد للواقع، لا يتلقى المعطيات وإنما يفككها ويركبها ويعيد صياغتها، وحينما يفصح عنها، فإن لغة الإفصاح تكون مرتبطة به وبتجربته. ولذا، فقد اتضح تدريجياً أن فكرة الموضوعية الكاملة والانفصال الكامل للذات المدركة عن الموضوع المدرَك مجرد أوهام. وفي السنوات العشرين الأخيرة، اتضح لنا كل هذا على صعيد حياتنا اليومية، فرقعة المعلوم آخذة في التزايد بشكل مذهل ولكن رقعة المجهول تزايدت معها بشكل أكبر. وقد حقق الإنسان معدلات تقدم مادية مذهلة ولكن آدابه تتحدث عن نكبة الإنسان الحديث، وتحكي مدنه (بتلوثها وجرائمها) قصة مختلفة عما تقوله الإحصاءات. لكل هذا، أدركنا أن المعرفة الموضوعية النهائية هي حلم المستحيل وكابوسه، وأن التحكم الإمبريالي الموعود الذي يفترض انفصال الذات المتحكمة عن الموضوع المُتحكَّم فيه هي أضغاث أحلام.(1/212)
ونحن نرى أن استخدام النماذج كأداة تحليلية قد يزيد مقدرتنا على الاحتفاظ بالحدود بين الإنسان والطبيعة، وبين الذات والموضوع، وبين الحيز الإنساني والحيز الطبيعي دون أن ينكر بالضرورة إمكانية التفاعل بينهم. كما ستساعدنا النماذج على صياغة الفروض بطريقة تجعلنا قادرين على رصد الواقع وتحليله بطريقة أكثر تركيبية وتفسيرية. ونحن بطبيعة الحال لا نزعم أن الباحث الذي سيستخدم النماذج التحليلية سيفلت من قبضة الاختزالية والتراكمية والكمية والواحدية الموضوعية وأن استخدام النماذج يؤدي حتماً وبالضرورة إلى رؤية تركيبية، فالنموذج نفسه يمكن أن يُصاغ بطريقة اختزالية تلغي الحيز الإنساني والفوارق بين الإنسان والطبيعة (كما سنبين فيما بعد) . فكل ما نذهب إليه أن استخدام النماذج يخلق التربة الخصبة لبحث يتسم بقدر معقول من التركيب ويبتعد عن الاختزال.
الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية
الباب الأول: النماذج: سماتها وطريقة صياغتها
النموذج: التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل
كلمة «نموذج» كلمة معرَّبة، كما جاء في معاجم اللغة، من كلمة «نموذه» الفارسية، وجمعها «نموذجات» و «نماذج» . ونموذج البناء نسخة مُبسَّطة مجردة من بناء، ومن ثم فهو يحتوي العناصر الأساسية للبناء ولكنه يختلف عن الأصل. وقد استُعيرت هذه الكلمة في اللغة العربية وتُستخدَم للإشارة إلى «النموذج» بوصفه أداة تحليلية ونسقاً كامناً يدرك الناس من خلاله واقعهم ويتعاملون معه ويصوغونه.(1/213)
والنموذج بنية فكرية تصورية يُجرِّدها العقل الإنساني من كم هائل من العلاقات والتفاصيل فيختار بعضها ثم يُرتبها ترتيباً خاصاً، أو يُنسقها تنسيقاً خاصاً، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطاً يتميَّز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يُقال لها أحياناً «عضوية» . وطريقة التنسيق والترتيب هي التي تعطي النموذج هويته المحددة، وفرديته وتفرُّده. ويتصور صاحب النموذج أن العلاقة بين عناصره تُماثل العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. ولذا، فهو يرى أنه يشكل الإطار الكلي الذي يُفسِّر تفاصيل الواقع وعلاقاته. وقد يتصوَّر البعض أن النموذج يُشاكل الواقع ولكنه في حقيقة الأمر لا يتطابق معه، فهناك فرق بين النموذج من ناحية والمعلومات والحقائق من ناحية أخرى (وكلمتا «نموذج» و «نسق» مترادفتان تقريباً في هذه الموسوعة، وإن كانت كلمة «نموذج» تنطوي على قدر أعلى من الوعي (.
وهناك عدة كلمات ومصطلحات في اللغات الغربية واللغة العربية متقاربة في معناها العام، قد تختلف في مدلولاتها الضيقة ولكنها تغطي رقعة مشتركة في حقل دلالي واسع متداخل:
1ـ اللغات الغربية:
باترن pattern ـ ستركتشر structure ـ تايب type ـ موديل model ـ سيستم system ـ كونستراكتيف تايب constructive type ـ أيديال تايب ideal type ـ باراديم paradigm ـ كونفيجوريشن configuration ـ ثيوري theory ـ هايبوثيسيس hypothesis ـ ثيسيس thesis ـ سينثيسيس synthesis ـ جنرال لو general law ـ فريم وورك framework ـ بيرسبكتيف perspective.
2 ـ اللغة العربية:
نموذج ـ نمط ـ نسق ـ هيكل ـ نظرية ـ فرض أو فرضية ـ منطق ـ منظور ـ رؤية ـ جوهر ـ أصول ـ منطلقات ـ مرجعية ـ إطار مرجعي.
ولا شك في أن هناك مصطلحات أخرى في اللغات الغربية وفي اللغة العربية تتعامل مع نفس هذه الرقعة المشتركة. والسمة الأساسية المشتركة في كل هذه المصطلحات والكلمات ما يلي:
1 ـ أنها ذاتية وموضوعية في آن واحد:(1/214)
أ) الذاتية:
* ثمرة عملية تجريدية عقلية، وليس لها وجود مادي.
* غير متوحدة بظاهرة بعينها فهي تصورية.
* ليست شيئاً بعينه وإنما مجموعة علاقات أو عناصر مجردة.
* تشير إلى كلٍّ مجرد متماسك يتجاوز الأجزاء الفردية المحسوسة المتناثرة.
* تفترض قدراً من الانفصال عن الواقع الخام أو التجريبي.
ب) الموضوعية:
* تزعم كل المصطلحات أن لها علاقة بالواقع، وأنها نابعة منه (يُلاحَظ أن كلمة «واقع» هنا لا تعني بالضرورة الواقع المادي الطبيعي وحسب، فهي تشير أيضاً إلى الواقع الإنساني والاجتماعي والأخلاقي، أي «الواقع» الذي يتضمن كلاًّ من عالم المادة وعالم الرؤى) .
* تفترض هذه المصطلحات أن الواقع ليس عشوائياً وأنه يتسم بقدر من الاتساق الكامن.
* يمكن القول بأن كل المصطلحات تتعامل مع النقطة التي تلتقي فيها الذات بالموضوع وتتفاعل معه.
2 ـ عنصر الزمان إما مختف من المصطلحات تماماً أو ضعيف بدرجات متفاوتة.
3 ـ لا يمكن أن يقوم الإنسان بإدراك واقعه وتنظيم ما يحيط به من ظواهر وتفاصيل إلا من خلالها، فاستخدامها حتمي.
4 ـ يُفرِّق الإنسان من خلال هذه المصطلحات بين ما هو ثابت وما هو عرضي، وبين ما هو جوهري وما هو هامشي، وبين ما هو أساسي وما هو ثانوي، وبين ما هو كلي وما هو جزئي، كما تُبيِّن العلاقات بينهما.
وسنستخدم كلمة «نموذج» للإشارة إلى هذه الرقعة المشتركة نظراً لشيوع الكلمة في الأوساط العلمية ونظراً لعدم ارتباطها بأي تعريف دقيق، أي أن صلتها بالرقعة المشتركة قوية وتَصلُح أن تكون دالاً عليها، وذلك دون أن ننسى المصطلحات الأخرى حتى نظل واعين بأن نقطتنا المرجعية هي الحقل الدلالي المشترك وليس هذا الدال أو ذاك. وعلينا أن نتبنى الكلمة وأن ننسى قدر طاقتنا المعجم الغربي حتى لا نستورد ما فيه من اضطراب وخلل وإبهام، ويكفينا ما لدينا من اضطراب وخلل وإبهام (ولا بأس من استخدام الكلمات الأخرى للإشارة إلى مدلولات أخرى) .(1/215)
وسنحاول تعريف النموذج كأداة تحليلية من خلال الإشارة إلى بعض سماته الأساسية:
1 ـ النموذج والتجريد:
النموذج ليس هو الحقيقة أو الواقع، وهو لا يوجد جاهزاً في الواقع، وهو ليس وجوداً عيانياً ولكنه ثمرة الملكات الفكرية (المنطقية والتخيلية) للعقل. وهو ثمرة عملية اجتهادية تجريدية مُتعمِّقة، فهو صورة عقلية ونسق فكري ونمط تَصوُّري وبنية عقلية مجردة وتمثيل رمزي للحقيقة حتى يتسنى للعقل الإنساني الوصول إلى جوانب منها (باعتبار أن المسافة لا يمكن تجاوزها تماماً، كما لا يمكن ملء كل الفراغات ولا الوصول إلى الواقع في ذاته) . فالنموذج يتسم عادةً بقدر من البساطة والتجريد والوحدة والاتساق الداخلي، وهو ما يعني اختلافه عن الواقع. والهدف من التجريد هو تحرير النموذج بشكل معقول من تفرُّد الظاهرة (تأيقنها) ومن عنصري الزمان والمكان، ولذا فالنموذج له زمانه الخاص وفضاؤه الخاص ويتسم بقدر من الانغلاق والتَحدُّد وبقدر من الثبات. وكون النموذج نتاج عملية تجريدية عقلية لا يُنقص من قدره، فكل الفكر الإنساني يحوي قسطاً من التجريد، وبدون التجريد يصبح النموذج صورة فوتوغرافية غير قادرة على التفسير أو التنبؤ، ويصبح الفكر الإنساني انعكاساً أبله لكل تفاصيل الواقع المتناثرة المتعاقبة.
وبسبب تجريديته، يفتقر النموذج إلى البعد الزماني، وهو ما قد يُنقص من قيمته كأداة تحليلية، ولذا فإننا نحاول تطوير النموذج كأداة تحليلية ونتحدث لا عن «النموذج» وحسب وإنما عن «المتتالية النماذجية» أيضاً.
2 ـ النموذج والمعلومات:(1/216)
النموذج كما قلنا بنية تصورية، منفصل إلى حدٍّ ما عن الزمان والمكان، واستخدامه حتمي وأساسي في مواجهة الواقع والمعلومات، فلو واجهنا الواقع والمعلومات بدونه لما فهمنا شيئاً. ولكن، هل هذا يعني إهمال المعلومات والواقع تماماً؟ الرد على هذا سيكون بطبيعة الحال بالنفي، فالمطلوب هو ألا يتحوَّل الإنسان إلى صفحة بيضاء تسجل كل شيء ببلاهة موضوعية متلقية، ولكن هذا لا يعني أن يصبح الإنسان مثل بعض الآلهة الآسيوية التي تحلم بالعالم، بحيث يصبح العالم مجرد حلم ووهم. فصياغة النموذج تبدأ في الواقع ومن خلال الاحتكاك به، ومن خلال هذا الاحتكاك والتفاعل الخلاَّق يبدأ الدارس في صياغة نموذجه. وكلما اتسعت رقعة التفاصيل المطروحة ازداد النموذج تركيبية وتفسيرية. ويمكن القول بأن الصياغة الأولية للنموذج ليست هي نهاية المطاف بل هي بداية البحث، إذ يبدأ الباحث من خلال النموذج في تنظيم المعلومات وتحديد أهميتها بحيث تتحول من مجرد معلومات متناثرة إلى أنماط متماسكة ذات معنى. فالمعلومات، إذن، أساسية في المراحل الأولية للدراسة.
بل إنها أساسية أيضاً خلال كل مراحلها. إذ لا يستطيع الباحث أن يختبر نموذجه دون العودة للمعلومات والواقع. كما أن المعلومات ستساعد الباحث على اكتشاف علاقة الكل بالأجزاء ومدى ترابطهما وابتعادهما. فنحن يمكننا الحديث عن «الرأسمالية» بشكل عام «نماذجي» ، ولكن هذا ليست له فائدة كبيرة فمن خلال الدراسة التفصيلية سندرك الفرق بين الرأسمالية الإنجليزية والرأسمالية في الهند وبين الرأسمالية الإنجليزية في عصر المركنتالية والرأسمالية الإنجليزية في النظام العالمي الجديد. ويمكن القول بأن النموذج المركب لا يستند إلى المعلومات وحسب، بل إنه قد يولِّدها لا بمعنى أنه يخترعها (فهذا أمر مستحيل بطبيعة الحال) وإنما بمعنى أنه يبرز أهمية تفاصيل كان يُظَن أنها لا أهمية لها.
3 ـ النموذج والواقع:(1/217)
ينفصل النموذج عن الواقع المباشر ويتجاوزه. ولكنه، مع هذا، يتضمن مجموعة من العناصر تُشاكل العلاقة بينها (في تصوُّر صاحب النموذج) العلاقة الموجودة بين عناصر الواقع. وبذا، يصبح النموذج قادراً على تفسير العلاقة بين الظواهر، وعلى شرح علاقاتها الداخلية، وتفسير أثرها المتبادل، وعلى الفصل والربط بين الظواهر على أساس قد يكون جديداً تماماً بحيث يبين أوجه التشابه بين بعضها رغم الاختلاف الظاهري ويبين أن ما هو مشترك بينها أكثر أهمية مما هو مختلف. والعكس صحيح أيضاً، إذ يبين الاختلاف بين بعض الظواهر الأخرى رغم التشابه الظاهري الواضح بينها.
والنموذج، كما هو واضح، لا يسقط في الانفصال الكامل عن الواقع (حيث تصبح المسافة هوّة) أو في التطابق الكامل معه والتأيقن (حيث تُلغَى المسافة تماماً) أو في الحرفية (بمعنى أنه يمكن اجتياز المسافة تماماً) . فلو تشابهت جميع الظواهر التي تنضوي تحت النموذج تشابهاً كاملاً لفقد النموذج فائدته وجدواه لأنه يُفتَرض فيه أنه يحاول أن يصنف ظواهر مختلفة تتضح وحدتها من خلال تنوعها. ولو اختلفت كل الظواهر التي تنضوي تحت نموذج ما بشكل كامل لفقد النموذج فائدته وجدواه أيضاً لأنه سيقوم بربط ظواهر لا يصح الربط بينها وباكتشاف الوحدة حيث لا وحدة. فالنموذج يتناول الظواهر التي يوجد حد أدنى مشترك أو معقول بينها، وهو ما يبرر وضعها داخل إطار تصنيفي واحد رغم اختلافها.(1/218)
والنموذج عادةً لا يتحقق إلا في لحظات نماذجية نادرة، إذ أن الواقع عادةً أكثر تركيباً وتشابكاً وأقل تبلوراً من التركيبة الذهنية التي يتكون منها النموذج، كما أن الإنسان الفرد، مهما بلغ من تسطح عادةً ما يكون ـ والحمد لله ـ أكثر تركيباً وعمقاً من النموذج المعرفي الذي يؤمن به. ولذا، فإن من النادر أن يُردَّ إنسان أو مجتمعٌ إنسانيًّ في كليته إلى النموذج المعرفي والحضاري الذي يدفعه ويحركه. فلا شك في أن الإنسان يتحرك داخل حدود مادية وإدراكية، ولكنه يظل، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، عنصراً حراً مستقلاً مسئولاً أخلاقياً عما يفعله. ونحن في رؤيتنا هذه نختلف عن الباحثين الذين يستخدمون النموذج في إطار الرؤية المادية الحتمية، فهم يردُّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المادي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) الذي يحركه. كما أننا نختلف عن الباحثين المثاليين الهيجليين الذين يردّون الفاعل الإنساني في كليته إلى النموذج المثالي الذي يحركه. وكلا الفريقين يُنكر على الإنسان حريته ومسئوليته الأخلاقية، ولا يرى سوى حتميات، مادية أو مثالية، اختزالية معادية للإنسان.
ونحن نستخدم النماذج المختلفة (الإنسان العادي ـ الثورة الصناعية) ونحن نعرف أنها مجرد بنَى ذهنية تصورية ولا نتوقع قط أن نقابل هذا الإنسان العادي في الواقع، فنحن ندرك أن فلاناً من الناس إنسان عادي بمعنى أنه تَحقُّق جزئي لنموذج الإنسان العادي ولكنه لا يتطابق معه تمام التطابق (إلا في بعض الحالات النادرة التي عادةً ما تثير الدهشة بسبب ندرتها) . ونحن نتحدث عن «الثورة الصناعية» ونعرف تمام المعرفة أنها ليست «ثورة» على الإطلاق، وأنها لم تقع في يوم من الأيام أو في مكان من الأمكنة. إذ أننا بفطرتنا الإنسانية ندرك أن النموذج المجرد ليس هو الواقع المادي أو الإنساني المُركَّب.(1/219)
ولنأخذ عصابات المافيا على سبيل المثال. جعل عضو المافيا هدفه في الحياة (النموذج الحاكم الذي يحركه) سلب الآخرين حياتهم وممتلكاتهم وأعراضهم، فهو ذئب بشري كامل، ترجمة حقيقية لإنسان هوبز وداروين ونيتشه. ومع هذا، نجد أن عضو المافيا هذا يُبقي على علاقات التراحم مع أعضاء أسرته وعصابته وقد يُضحي بحياته من أجلهم. فالنموذج الأصغر الهامشي التراحمي الذي يتعامل المجرم من خلاله مع حياته الخاصة يتعايش مع النموذج الأكبر الرئيسي الحاكم المادي الإجرامي. وسواء أكان المجرم يدرك هذا التناقض أم لا، فهذا أمر ثانوي لا يهمنا، إذ أن ما يهمنا هو هذا التعايش في حياته اليومية. وأعضاء الجماعات الوظيفية يعيشون في مثل هذه الثنائية الصلبة التي تقترب من الثنوية، فهم متراحمون فيما بينهم، محايدون تعاقديون مع أعضاء مجتمع الأغلبية.
والمجتمعات الاشتراكية كانت أكثر تنوعاً وحيوية وإنسانية من الرؤية الاشتراكية المادية. فالإنسان السوفيتي الفرد، رغم إخضاعه بشكل شرس لعمليات الترشيد المادية الاشتراكية، لم يكن قط ذلك الإنسان الاشتراكي الأممي الذي كانت تتحدث عنه كتب الدعاية السوفيتية. والإنسان الأمريكي الفرد، رغم خضوعه للعمليات القمعية التدجينية التي تقوم بها الإعلانات التي تهاجم أولاده ومنزله ليل نهار ولعمليات غسيل المخ التي يقوم بها الإعلام الأمريكي بطريقة مصقولة ذكية لا يعرف التاريخ لها مثيلاً، احتفظ بقدر من الإنسانية والتركيب يجعله مختلفاً عن إنسان الحلم الأمريكي والإعلانات المتكررة والأكاذيب السياسية اليومية.(1/220)
وهذا التناقض يوجد أحياناً داخل الأنساق الفلسفية نفسها. والإنسان الفرد ـ كما أسلفنا ـ أكثر تركيباً من الأنساق ومن النماذج التي يؤمن بها ويروج لها. ولهذا السبب، فكثيراً ما يفزع مفكر ما من وحشية نموذجه فيضيف من الأقوال ما يخفف من حدتها ويستعيد بعض التركيبية ويضفي عليه غلالة إنسانية لا تغير عادةً من البنية الوحشية للنسق. والفكر الرومانسي، على سبيل المثال، كان محاولة لتهذيب النموذج العلماني الآلي (الميت) لإدخال بعض العناصر العضوية (الحية) التي تستعيد للإنسان استقلاليته عن الطبيعة. ومع هذا، سقط الفكر الرومانسي العضوي في الواحدية المادية. ولكل هذا، نجد أن النماذج الفلسفية لا تُفصح عن نفسها بشكل خالص أو متبلور في الواقع الاجتماعي والتاريخي الإنساني، وتظل هناك مسافة تفصل النموذج (المجرد) عن الواقع (المركب) .
وهذا لا يعني أن نقرر أن النماذج (لهذا السبب) لا فائدة تُرجى منها. فهي أدوات تحليلية مفيدة طالما أدركنا بُعدها الاجتهادي، وأنها أداة تفسيرية ليس إلا، وليس لها وجود مادي موضوعي، أي إذا نحن لم نشيئها ولم نتصور أن النموذج هو الواقع. فنحن لو رفضنا النموذج كأداة تحليلية، نكون بذلك قد رفضنا محاولة الوصول إلى قدر معقول من المعرفة عن الحقيقة الكلية وسقطنا في التشظي وفي التعامل مع الجزئيات المنفصلة عن الكليات وتصوَّرنا أننا نفهمها، مع أن كل ما يحدث هو أننا نقوم بعملية وصف يُقال لها «موضوعية» ، وهي في واقع الأمر عملية تسجيل عشوائية ليس لها عقل أو حتى قَدَم.
4 ـ محدودية النموذج وتحيزه:(1/221)
النموذج بنية تصورية عقلية مجردة، ولذا فهو لا يمكن أن يغطي كل أجزاء الواقع مهما بلغت شموليته. وإنْ تطابق النموذج مع الواقع، أصبح هو نفسه واقعاً وفقد نماذجيته ونمطيته، وهذا يعني حتمية المسافة أو وجود مسافة بين الدال والمدلول، والسبب والنتيجة، والمدرك والمدرَك، والذات والموضوع، والفكرة والمادة. هذه المسافة تعني حتمية محدودية النموذج وقصوره، أي أنه سيظل أقل ثراءً وتركيباً من الواقع ولكنه سيظل أيضاً أكثر تركيزاً وبلورة منه. وهذا يعني أن التعامل مع الواقع من خلال نماذج يعني حتمية الانتقاء والاختيار، والإبقاء والإبعاد، أي حتمية تَحيُّز صاحب النموذج أو من يستخدمه. ولذا، فإن الموضوعية المطلقة (الخالية من أي تحيزات أو كليات أو مطلقات) أمر مستحيل من الناحية المعرفية.
ولكن تَحيُّز النموذج لا يعني العبثية والعدمية والذاتية، فالنموذج التفسيري الذي يعلن عن نفسه صراحةً يحمي المتلقي من وهم الموضوعية المطلقة إذ أن المتلقي سيدرك أن النموذج ليس هو الواقع المادي، وأن عقلاً إنسانياً قام بصياغته وبالتالي فهو يحوي حتماً عنصراً ذاتياً، وأن ثمة مسافة تفصل بين النموذج والواقع، ولذا سيأخذ المتلقي حذره وسيعرف أن ما يتلقاه ليس علماً محايداً وإنما هو علم يحمل تحيزات صاحبه، فهو نتاج رؤية بشر.
ولكن، رغم تحيزات النموذج، فإن هذا لا ينفي أن المتلقي قد يتلقى قدراً من العلم ومن المعرفة والخبرة يؤهله للتعامل مع الواقع وفهمه وتفسيره والتنبؤ به دون أن يتحكم فيه بالضرورة. وحتى إن تَحكَّم في بعض جوانبه، فإن هذا لا يعني بالضرورة السيطرة الإمبريالية الكاملة عليه، أي أن المتلقي سيُحقق قدراً من الحرية ولكنه سيقبل أيضاً بقدر من الضرورة. كما أن بوسع المتلقي أن يختبر المقدرة التفسيرية للنموذج ضمن عملية تتم خارج ذاتية صاحب النموذج.
5 ـ حتمية استخدام النماذج:(1/222)
الإدراك ـ كما أسلفنا ـ ليس مجرد عملية تسجيل لكل المعطيات الحسية التي ترد للعقل ومراكمة لها، والعقل نفسه ليس أداة كفئاً لتحقيق ذلك، لأنه أداة محدودة مبدعة فعالة ولأن الواقع مركب فإن عملية الإدراك تصبح عملية انتقاء وصياغة، وهو ما يعني استحالة الوصول إلى المعرفة الموضوعية المطلقة أو معرفة الأسباب في علاقتها بالنتائج بشكل صارم. وهذا يعني، في واقع الأمر، حتمية استخدام النماذج إن أراد الإنسان تجاوز الرصد التوثيقي المباشر الأبله المستحيل، وإن أراد تجاوز وجوده المادي المباشر حيث يتماس الجهاز العصبي بالواقع المادي بشكل مباشر (وكأن كل المعرفة هي مثل معرفة الطفل الذي لا يُدرك النار إلا باحتراق أصابعه، وكأننا كلنا مثل كلب بافلوف الشهير) .(1/223)
ونحن نذهب إلى أننا لا نستطيع كتابة أي شيء (إلا قائمة المشتريات من البقال) بدون نموذج. فنحن لا يمكننا إدراك الواقع الخام مباشرةً إذ لابد أن نتعامل معه من خلال خريطة إدراكية تُبقي وتَستبعد. فالنموذج، بهذا المعنى، مرتبط تمام الارتباط بأبسط العمليات الإدراكية بل بالحالة الإنسانية نفسها وبطبيعة الإنسان؛ لا ككائن مادي طبيعي، شيء بين الأشياء، وإنما ككائن بشري أو رباني لا يخضع لمنطق الذرات والأرقام. إنه مرتبط بخروج الإنسان من حالة الطبيعة البسيطة الجنينية (حيث لا تُوجَد مسافة بين المدرك والمدرَك وبين المثير والاستجابة) إلى حالة الحضارة المركبة. إن استخدام النماذج أمر حتمي للإدراك الإنساني ولإجراء أي بحث. فلو جابه الإنسان الواقع، ولو جابه الباحث موضوع بحثه بصفحة عقله المادية البيضاء، لأصابه الشلل، ولوجد نفسه مذعناً إما لنماذج الآخرين دون وعي، أو لبعض جوانب الظاهرة موضوع الإدراك والبحث، بحيث يرصدها بشكل ذري مفتت غير متماسك. وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحسن أن ننطلق من إدراك هذه الحتمية وأن نواجه الواقع بتساؤلاتنا وإشكالياتنا ونماذجنا التحليلية، مدركين ذلك تمام الإدراك، الأمر الذي سيُحسِّن أداءنا النظري والتطبيقي.
وهذه الموسوعة هي بمعنى من المعاني دراسة لحالة معيَّنة (اليهود واليهودية والصهيونية) من خلال استخدام مجموعة من النماذج المستقلة المتشابكة.
المنحنى الخاص للظاهرة
تتأرجح كثير من المناهج بين الموضوعية والذاتية، أي افتراض موضوع خالص يوجد بذاته في العالم الخارجي يمكن إدراكه بطريقة فوتوغرافية دون تشويه، أو افتراض ذات خالصة تقف مستقلة تماماً عن الموضوع، تشوه كل ما يصلها من معطيات مادية لأنها تسقط نفسها عليه.(1/224)
ونحن نطرح فكرة المنحنى الخاص للظاهرة كمحاولة لتجاوز هذه الثنائية الصلبة. وتفترض هذه الفكرة وجود موضوع، ولكنه له جوانب عدة منسقة بشكل معين تمنحه تفرُّد وتجعله مستقلاً عن الكل (مستقلاً وليس منفصلاً تماماً) . والعقل البشري لا يمكنه رصد الموضوع بشكل كامل فوتوغرافي، لا بسبب محدوديته وحسب وإنما بسبب مقدرته التوليدية وبسبب تركيبية الظاهرة نفسها، وأخيراً بسبب وجود كل من الظاهرة والعقل البشري داخل الزمان والمكان.
ولكن العقل البشري مع هذا قادر على إدراك الظواهر والتوصل إلى قدر معقول من المعرفة بالواقع يمكِّنه من التعامل معه، وإن كان لا يكفي للهيمنة عليه. فالعقل البشري مسلحاً بحواسه وعواطفه وذكرياته ينظر للظاهرة فيدرك بعض جوانبها بطريقة تتفق مع طريقة الآخرين في بعض جوانبها وتختلف عنهم في بعض الجوانب الأخرى. فكأن المنحنى الخاص للظاهرة ليس أمراً موضوعياً كامناً في الظاهرة تماماً ولا هو نتيجة إبداع الذات المدركة أو قصورها، وإنما هو نتيجة تفاعل بين الذات المحدودة المبدعة والموضوع المركب.
ضبط المستوى التحليلى للنموذج حسب نوعية الظاهرة موضع الدراسة(1/225)
يمكن دراسة أية ظاهرة من منظور تَفرُّدها الكامل أو من منظور عموميتها وخصائصها المشتركة مع ظواهر مماثلة. ولهذا، فإن بعض المدارس الفكرية يذهب إلى أن كل ظاهرة إنسانية ظاهرة فريدة تتحدى التصنيف والتعميم بحيث تقف الظاهرة كياناً عضوياً فريداً يشبه الأيقونة المكتفية بذاتها والتي لا تشير إلى شيء خارجها. ومن ثم، فإن فهم هذه الظاهرة أمر مستحيل إلا لمن يلتحمون بها عضوياً. ولكن حتى هؤلاء، نظراً لالتحامهم بها، هم أيضاً غير قادرين على الإفصاح عنها. ولذا فإن المعرفة في هذه الحالة لا تكون إلا معرفة إشراقية من خلال الحدس والإلهام والتخيل وحسب. كما يرى هؤلاء أن الواقع الذي يعيش فيه الإنسان واقع مستمر مترابط يشبه ألوان الطيف المتداخلة. ولذا، فإن كل ما يمكن أن يفعله الإنسان أمام هذا التكامل العضوي هو أن يتقبله كما هو دون تفسير أو تجزئة.
ولكن هناك من يذهب إلى عكس ذلك فيرى الواقع من خلال مجموعة من القوانين العلمية العامة التي ترى أن الجوانب الفريدة في ظاهرة ما (ما نسميه المنحنى الخاص للظاهرة) أمر لا يستحق التسجيل أو الرصد، وإن سُجِّلت فهي لا تُعدِّل القانون العلمي الأساسي القادر على تفسير كل الظواهر عن طريق رد الأجزاء إلى الكل، والخاص إلى العام، ورد كل شيء إلى عنصر واحد أو بُعد واحد أو سبب واحد، فيصبح الواقع كله كماً واحداً لا قسمات له ولا ملامح، ولا يتسم بأي تَعيُّن أو تركيب أو خصوصية، فهو يشبه الصور النيجاتيف التي تنتجها أشعة إكس والتي لا تتسم بالجمال أو القبح، وهي صور "صادقة" و"حقيقية" ولكنها تثير الفزع.(1/226)
والنموذج، كأداة تحليلية، يتسم بمقدرته على ربط الخاص بالعام، والجزء بالكل، والنتيجة بالسبب، والذات بالموضوع، دون أن يفقد أي عنصر منها شخصيته وهويته واستقلاليته، وذلك على عكس الاتجاه نحو التأيقن الذي يُسقط العام والكل، وعلى عكس فكرة القانون العام التي لا تتعامل إلا مع العام والكل، فكلاهما يُسقط المسافة الموجودة بين الكل والجزء والعام والخاص.
يحاول النموذج حل المشكلة بافتراض وجود مسافة تفصل الكل عن الأجزاء (والسبب عن النتيجة والذات عن الموضوع) بحيث لا يمكن رد الكل إلى الجزء (فهو كيان مجرد متجاوز للأجزاء) ولا يمكن ردُّ الجزءفي كليته إلى الكل، إذ أن لكل ظاهرة منحناها الخاص الذي يعطيها هويتها الخاصة. فرغم أنها جزء من كل، إلا أنها ليست جزءاً عضوياً لا يتجزأ، وإنما هي جزء يتجزأ. ولذا، يحاول النموذج أن يرى ظاهرة ما في علاقتها بالظواهر الأخرى (وهذا ما يكسبها دلالتها العامة) دون إهمال استقلالها النسبي وشخصيتها المستقلة (المنحنى الخاص) ، ولذا فهي لا تفقد تَعيُّنها وخصوصيتها. وينجح النموذج في إنجاز هذا عن طريق ما نسميه «تعدُّد المستويات» ، وعن طريق ضبط المستوى التحليلي من ناحية التعميم (التجريد) والتخصيص (التعيُّن) بحيث يتناسب المستوى التحليلي مع الظاهرة موضع الدراسة.(1/227)
والنموذج حينما يتعامل مع الظواهر الإنسانية يشبه كلاًّ من الاسكتش المجرد العام والصورة الزيتية وحينما يتعامل مع الظواهر الطبيعية فهو يشبه كلاًّ من الصورة الفوتوغرافية وأشعة إكس، فالنماذج ليست جميعها على نفس مستوى التعميم أو القدرة على التفسير، فنموذج "الحضارة الغربية الحديثة" على سبيل المثال (مقابل الحضارة الغربية التقليدية أو الحضارة اليابانية الحديثة) يتمتع بمستوى عال من التعميم والتجريد فهو يغطي رقعة كبيرة من الأزمنة والأمكنة. لكن هذه الرقعة تتقلص حينما نتعامل مع نموذج "الحضارة الإنجليزية الحديثة" وتزداد تقلصاً حينما نتحدث عن "الحضارة الإنجليزية في القرن التاسع عشر" إلى أن نصل إلى "حضارة أو ثقافة سكان مدينة مانشستر في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر" وحينما نتحدث عن نموذج حياة النحل فنحن نسقط الزمان والمكان بشكل شبه كامل تقريباً. وزيادة الرقعة الزمانية أو المكانية لا يُنقص المقدرة التفسيرية للنموذج ولا يزيدها وإنما يُغيِّر مجاله وحسب. وكلما ازدادت درجة عمومية النموذج والمستوى الحضاري ازدادت مقدرته التفسيرية في المجالات الحضارية التي لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتفاصيل التجريبية أو بحقبة زمانية محدَّدة (مثل مفهوم الشكل عند الإنسان الغربي) . ولكن هذه المقدرة نفسها تتناقص في الوقت نفسه في مجال التفاصيل التجريبية المرتبطة بمكان محدَّد وحقبة زمنية محدَّدة (زيادة معدلات الجريمة في مانشستر في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر) إلى أن تنعدم تقريباً حينما نأتي للظواهر الطبيعية. والعكس صحيح أيضاً، فكلما ازدادت درجة خصوصية النموذج يضيق نطاقه، وتزداد مقدرته التفسيرية في مجال التفاصيل التجريبية وتَضعُف في مجال الظواهر الحضارية. فمستوى التعميم والتخصيص لنموذج ما يحدِّدان نوعية التفاصيل أو الظواهر التي يمكن التعامل معها من خلاله. ولا يمكن مثلاً تفسير تزايد الجريمة في مانشستر(1/228)
بالحديث عن أزمة الحضارة الغربية، كما لا يمكن استخدام تزايد الجريمة في مانشستر (وهو دليل واحد فحسب) برهاناً على أزمة الحضارة الغربية الحديثة!
ويمكن أن يتحرك النموذج في إطار السببية الصلبة التي تسود عالم الأشياء وفي إطار السببية الفضفاضة الاحتمالية التي تقبل بوجود مسافة بين السبب والنتيجة بسبب وجود عناصر كثيرة لا يمكن إدخالها شبكة السببية. ولهذا السبب فإن السببية الفضفاضة (التي لا يمكن دراسة ظاهرة الإنسان بدونها) تخلق حيزاً للحركة وللفعل الذي يُلغي الحتمية ويجعل التنبؤ العلمي الصارم أمراً مستحيلاً وتوقعاً طفولياً. فعالم الإنسانيات الذي يستخدم النماذج مثله مثل عالم الطبيعة الذي يجري تجارب على الضوء ولكنه لا يعرف ماهية هذا الضوء: هل هي موجات أم ذرات؟ وإذا كان الضوء (وهو في نهاية الأمر ظاهرة طبيعية) بهذا التركيب وبهذه الدرجة من المراوغة، فما بالك بالإنسان، ذلك المجهول الذي يحمل داخله أحلاماً وذكريات وحضارة وتاريخاً وخيراً وشراً لا يعلم كنهها إلا الله!
ومفهوم السببية مرتبط تمام الارتباط بدرجة اليقين التي يحاول الباحث أن يصل إليها، فإن كان الباحث يتعامل مع حقائق رياضية فهو سيصوغ نماذج رياضية (تستبعد الفاعل الإنساني تماماً وتلغي الحيز الإنساني) لتتعامل مع الكم وحسب ولذا يمكن الوصول إلى درجات عالية من اليقين، والشيء نفسه ينطبق على الحقائق الطبيعية/المادية. ولكن حين يتعامل الباحث مع حقائق إنسانية فهو سيصوغ نماذج مركبة ولذا فالنتائج التي سيتوصل إليها لن تتمتع بقدر عال من اليقينية وستكون أكثر احتمالية وتقريبية.(1/229)
ويمكن أن يتجاوز النموذج الزمان ولكن يمكنه أيضاً أن يُقدِّم تصوراً للزمان لا باعتباره أحداثاً متتالية متراصة صلبة، وإنما باعتباره أحداثاً واقعة وإمكانات كامنة، وباعتبارها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تفصلها ثغرات وانقطاعات تشكل مجال الحرية الإنسانية. ولذا، يسمح النموذج لمن يستخدمه برصد الماضي والحاضر والمستقبل ما هو ظاهر وما هو باطن وما هو قائم وما هو ممكن.
ويمكن القول بأن النماذج التفسيرية يمكن أن تكون قانوناً عاماً أو نظرية كلية صارمة تُفسِّر الظواهر الطبيعية، ولكن بوسعها أن تبتعد عن فكرة القانون العام أو النظرية الكلية التي تحاول أن تشرح كل شيء، ومن ثم تصبح أقرب إلى الفرض العلمي، ولكنه فرض لن تتم البرهنة عليه أو تفنيده، بل هو فرض دائم ـ إن صح التعبير ـ يُستخدَم لدراسة بعض جوانب الواقع والأنماط المتكررة فيه. والنماذج التفسيرية التي تُستخدَم لتفسير ظاهر الإنسان تُشبه الصور المجازية من بعض الوجوه في وظيفتها الإدراكية والتفسيرية. فالصورة المجازية، مثل النموذج التفسيري، جزء من العملية الإدراكية ومن نسيج لغة البشر (وليست مجرد زخرفة تضاف هنا وهناك) . ويلجأ الإنسان للتعبير المجازي ليكتشف علاقة غامضة مركبة في الواقع أو عناصر لا محدودة لا يمكنه الإمساك بها، ومع هذا فهو يشعر بوجودها من خلال تجلياتها المادية المُتقطِّعة التي لا تتبع نمطاً واضحاً (علاقات: الجزء الملموس بالكل المُتصوَّر ـ الإنسان بالإله ـ المعلوم بالمجهول ـ المحدود بغير المحدود ـ النسبي بالمطلق ـ الماضي بالمستقبل) ، أو يلجأ للتعبير عن أحاسيس عميقة يشعر المرء أن اللغة النثرية المعتادة لا تكفي للإفصاح عنها (تماماً مثل الرصد المتلقي المباشر في حالة الظواهر المركبة) فيصوغ صورة مجازية هي في جوهرها ربط للمعروف بغير المعروف واكتشاف للعناصر الرئيسية في الواقع وإبرازها، وهذه هي أيضاً طريقة النموذج في الرصد والتفسير.(1/230)
وباختصار شديد، يمكن أن نقول إن النموذج أداة تفسيرية تَصلُح لتفسير كل من الظواهر الطبيعية والإنسانية، تَصدُر عن تَفهُّم لمحدودية الإدراك البشري في رصد الواقع الطبيعي والإنساني. ولكن النموذج مع هذا لا يسقط في العبثية أو العدمية بسبب هذه المحدودية فهو أداة تستند إلى الإيمان بالمقدرة الإبداعية للعقل البشري على صياغة نماذج مركبة فضفاضة يمكنها تفسير الواقع المركب الحركي خارج إطار الحتميات المطلقة والسببيات الصلبة والمطلقة والوحدة الصارمة. وغنيٌّ عن القول أن فكر ما بعد الحداثة يرفض فكرة النماذج تماماً.
ويجب الانتباه إلى أن النموذج، كأداة تحليلية، لا يؤدي حتماً إلى الإدراك المركب وتشغيل الخيال، فهناك دائماً من يصوغ نماذج تحليلية بسيطة واختزالية. وهناك كذلك خطورة تشيؤ النموذج. فبعض الباحثين قد يغفل عن حقيقة أن النموذج أداة إدراكية، تماماً مثل الصور المجازية، ويتصور أن النموذج هو الواقع فينقض على الواقع مسلحاً بنموذجه ويقوم بجمع المعطيات المادية التي تؤيد رؤيته المسبقة. كل ما نؤكده هنا هو أن النموذج يخلق تربة خصبة (ارتباطاً اختيارياً) لمن يريد تجاوز الواحدية السببية والاختزالية، ولمن يريد أن يرصد الظواهر الإنسانية دون اختزال الحيز الإنساني أو الحيز الطبيعي. (وهو ما نحاول إنجازه في هذه الموسوعة) .
وظيفة النموذج(1/231)
من أهم وظائف النموذج وظيفته الإدراكية الإنسانية الفطرية، فهو يحتوي على رؤية الإنسان للكون (مسلماته الكلية) التي يرتب الحقائق وينظم المعلومات على أساسها، وذلك أثناء أبسط عمليات الإدراك. فكأن وظيفة النموذج هنا وظيفة فطرية، ومن ثم يمكن تسمية النموذج من حيث هو أمر فطري «النموذج الإدراكي» . فنحن حين نقول إن فلاناً «دمنهوري» أو «بريطاني» فنحن في واقع الأمر نستدعي صورة ذهنية تؤكد بعض الصفات وتستبعد صفات أخرى. ويمكن القول بأن كل المناهج البحثية تستخدم فكرة النموذج بشكل شبه واع أو غير واعٍ، فكل نص إنساني، مهما بلغت سطحيته أو عمقه، يحتوي على نموذج ما (بمعنى رؤية للكون) . فدراسة ماركس للمجتمع الغربي تدور حول نموذج «الرأسمالية الرشيدة» (رغم أنه لم يستخدم المصطلح) ، وأي كتاب تاريخ يستخدم نماذج تحليلية مثل «الثورة الصناعية» أو «عصر النهضة» ، فهذه ليست وقائع إمبريقية، وإنما هي مفهوم أو صورة مجازية تضم ما يتصوره الباحثون السمات العامة لهذه الثورة أو ذلك العصر.
ولكننا نضع مقابل هذا النموذج الإدراكي (غير الواعي أو شبه الواعي) ما نسميه «النموذج التفسيري التحليلي» وهو النموذج الذي يصوغه باحث ما بشكل واع ليقوم من خلاله بتحليل الظواهر، أي أنه يحوِّل النشاط غير الواعي إلى عملية واعية بذاتها وبالإجراءات اللازم اتباعها. وبهذا المعنى تكون الدراسة من خلال النموذج (أداة) لا تُشكِّل قطيعة معرفية مع المناهج القائمة بقدر ما تُشكِّل محاولة للتنبيه على أهمية شيء قائم بالفعل، ربما على مستوى الكمون (أو شبكة العلاقات التي تشكل ماهية الشيء) ، ثم نضع مقابل كل هذا البنية، وهي النموذج كما يتبدَّى في نص أو ظاهرة ما، خارج عملية الإدراك.(1/232)
إن النماذج (كأداة واعية) تندرج في إطار ما يُسمَّى «المنهج العلمي» ، أي النسق المفاهيمي والنظري الذي يُنظم الحقائق والظواهر المتناثرة، ويربط بعضها ببعض. وثمة إجماع على أن العلم عملية فكرية لا تتوقف عند وصف الظواهر، وإنما تحاول أن تصل إلى النمط الكامن وراءها لتكشف العلاقات الضرورية القائمة بين الظواهر وبين الأحداث التي تلازمها أو تسبقها. وبعد عملية الكشف يقوم الباحث بصياغة تعميمات قابلة للتحقيق ترتبط بمجموعة أخرى من التعميمات التي تمت مراكمتها من قبل. هذه التعميمات تساعدنا على التنبؤ بالطريقة التي ستعمل بها الظاهرة في المستقبل، ويُقال أيضاً إن الهدف النهائي من العلم هو التحكم. ومسلمات العلم ثلاث: الحتمية (أن هناك نظاماً معيَّناً في الكون) ، والاطَّراد (أن نظام الكون مطَّرد) ، والوصفية أو الحسية في المعرفة (أن معرفتنا لهذا النظام لا تتأتى عن طريق آخر غير الملاحظة والخبرة الحسية) . والدراسة من خلال النماذج تدور في هذا الإطار وتقبل بهذه الأهداف والمسلمات، ولكنها تتيح فرصة توسيع نطاق الأهداف وتفسير المسلمات بطريقة تسمح بأن نفرِّق بين النماذج التي تُستخدَم لدراسة الظواهر الإنسانية، وتلك التي تُستخدَم لدراسة الظواهر الطبيعية. فنحن نؤمن بوحدة العلوم (لا بواحديتها) بمعنى أن ثمة إجراءات عامة تُستخدَم في عملية تحصيل المعرفة، ولكن ثمة اختلافات جوهرية بين معرفتنا بسلوك النحل والبقر ومعرفتنا بسلوك البشر. ومن ثم رغم الوحدة العامة المبدئية، ثمة فروق منهجية أساسية. ولكننا سنؤكد الاختلافات ونتعامل معها بالتفصيل على حساب الوحدة، لأن العلوم الإنسانية تعيش في ظلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية، ومن ثم يسيطر عليها الواحدية. وكل هذا هو جزء من دفاعنا عن الإنسان.
النسق
كلمة «نسق» مصطلح يكاد يكون مرادفاً لكلمة «نموذج» وإن كانت الكلمة الأخيرة تحمل قدراً أعلى من الوعي والتركيب والانفصال عن الذات.(1/233)
المنظومة
كلمة «منظومة» تكاد تكون مترادفة مع كلمة «نسق» .
الإشكالية
«إشكالية» ترجمة لكلمة «بروبليماتيك problematic» الإنجليزية. وهي من «شَكَل الأمر شكولاً» بمعنى «التبس» . و «المشكلة» أو «المُشكل» هي «الأمر الصعب الملتبس» . وفي علم الاجتماع «المشكلة» هي "ظاهرة تتكون من عدة أحداث أو وقائع متشابكة وممتزجة بعضها بالبعض لفترة من الوقت ويكتنفها الغموض واللبس، تواجه الفرد أو الجماعة ويصعب حلها قبل معرفة أسبابها والظروف المحيطة بها وتحليلها للوصول إلى اتخاذ قرار بشأنها". و «الإشكال» ، في قانون المرافعات، هو «الأمر الذي يوجب التباساً في الفهم» . ويبدو أنه تم اختيار كلمة «إشكالية» ، مؤنث «إشكال» ، قياساً على كلمتي «مشكلة» و «مُشكل» .
ومجموعة الكلمات هذه تؤكد عنصري الالتباس والتشابك بين العناصر، أي أنها تؤكد تركيبية الظواهر وتشابك عناصرها. وهي علاوة على هذا تؤكد ذاتية الإدراك، فالالتباس شيء يحدث للإنسان المدرك وليس للشيء المدرَك. كل هذا يبتعد بهذه الكلمات عن عملية الرصد الموضوعي ويقترب بها من عمليات الرصد من خلال نماذج حيث لا يوجد انفصال بين الذات والموضوع.
وكلمة «إشكالية» (بروبليماتيك) كلمة ثرية تعني «سمة حكم أو قضية قد تكون صحيحة لكن الذي يتحدث لا يؤكدها صراحةً» ويضرب مثلٌ على ذلك موقف العقل من القضايا الأولية التي تشكل قضية شرطية أو قطعية: "إما أن يكون العالم نتاج مصادفة، وإما أن يكون نتاج ضرورة داخلية". كما أن كلمة «إشكالية» تؤكد العنصر الذاتي، فإذا كانت المشكلة موجودة في الواقع، فالإشكالية يصوغها عقل الإنسان. وأخيراً تؤكد كلمة «إشكالية» أن القضية موضع الدراسة ذات طابع فكري وأن حلها ليس سهلاً ولا يمكن أن يكون نهائياً أو قاطعاً.(1/234)
ويمكن القول بأنه حينما يواجه المرء ظاهرة أو موضوع ما يتسم بقدر من التركيب فإنه يجد نفسه مضطراً لصياغة الإشكالية ومجموعة الأسئلة التي يتصور أنه سيمكنه عن طريقها تفكيك الظاهرة وإعادة تركيبها حسب نموذجه التصنيفي والتفسيري. وهو إن لم يضع الإشكاليات ولم يطرح الأسئلة فإنه إما أن يبتلعه الموضوع تماماً أو يظل قابعاً داخل ذاتيته لا يبرحها.
وهذه الموسوعة هي دراسة لظاهرة اليهود واليهودية والصهيونية من خلال نماذج، ولذا تبدأ بصياغة الإشكاليات ثم تأتي بالنماذج التفسيرية الملائمة، وهذا تعبير عن محاولة الفكاك من أسر كل من الواحدية الذاتية والواحدية الموضوعية المادية وصولاً إلى مستوى تحليلي قد يكون أقل يقينية ولكنه يطمح أن يكون أكثر تفسيرية. والمجلد الأول (الإطار النظري) يطرح إشكالية الطبيعي والإنساني، والموضوعي والذاتي، والكلي والجزئي ثم يقدم فكرة النموذج حلاً لها. والمجلد الثاني يتعامل مع الإشكاليات الأساسية الخاصة بالجماعات اليهودية. ولا يختلف الأمر كثيراً بخصوص المجلدات الخاصة باليهودية والصهيونية وإسرائيل، إذ يبدأ كل مجلد بمجموعة من الأبواب تطرح فيها الإشكاليات الأساسية التي تدور حول موضوع المجلد ثم يرد في بقية الأبواب النماذج التفسيرية الملائمة التي نتصور أنها ذات مقدرة تفسيرة عالية.
فكر وأفكار
نميز في هذه الموسوعة بين «الفكر» و «الأفكار» ، فكلمة «فكر» ـ في تصوُّرنا ـ تشير إلى منظومة من الأفكار مترابطة من خلال نموذج معرفي كامن فيها، أما «الأفكار» فهي مجموعة من الأفكار لا يربطها سوى رباط سطحي براني.
وحينما يتعامل الإنسان مع الأفكار (وليس مع الفكر) يهمل النموذج المعرفي الكامن وراء الأفكار فيقوم بنقلها أو تناولها دون إدراك لأبعادها المعرفية (الكلية والنهائية) ، ومن ثم يختفي المنظور النقدي وتتعايش الأفكار المتناقضة جنباً إلى جنب بسهولة ويسر ولا يمكن التمييز بين الجوهري منها والهامشي.(1/235)
النماذجى
«النماذجي» كلمة تم توليدها من كلمة «نموذج» . والنماذجي هو ما يُعبِّر عن جوهر النموذج ومنطقه الأساسي ويتحقق فيه النموذج. وقد فضلنا استخدام كلمة «نماذجي» بالنسب إلى صيغة الجمع على استخدام كلمة «نموذجي» بالنسب إلى الصيغة المفردة للكلمة، وذلك لأننا حينما نقول «اللحظة النموذجية» قد نتوهم أن كلمة «نموذجية» تعني «مثالية» (كما في قولنا «المدرسة النموذجية» ) . وتأكيداً على هذا البُعد التحليلي لمفهوم النموذج، فإننا نُفضِّل في سياقنا استخدام كلمة «نماذجية» على كلمة «نموذجية» الأكثر شيوعاً واستقراراً.
المتتالية النماذجية
يتسم النموذج، كأداة تحليلية، بأنه يكاد يكون خالياً من الزمان، كما يتسم بشيء من السكون. ولكن عنصر الزمان يمكن أن يدخل عليه، ومن ثم فإنه يأخذ شكل متتالية متعددة الحلقات تتحقق تدريجياً عبر الزمان.
والمتتالية، مثل النموذج، رؤية تَصوُّرية نماذجية جردها عقل الإنسان من ملاحظته للظواهر في نموها وتطورها عَبْر حلقات مختلفة أو تَطوُّرها من خلال عملية عقلية تصورية. وقد استخدمنا مفهوم المتتالية النماذجية في دراستنا لتطور الصهيونية (من صهيونية غير يهودية إلى صهيونية توطينية إلى صهيونية استيطانية) ، وفي دراستنا للانتقال من التحديث إلى الحداثة وما بعد الحداثة، ومن مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة.
اللحظة النماذجية
يأخذ النموذج عادةً شكل متتالية متعددة الحلقات تتحقق تدريجياً عبر الزمان. ويصل النموذج إلى أقصى درجات تحققه في آخر السلسلة. والنموذج في العادة لا يتحقق أبداً إذ أن الواقع يكون عادةً أكثر تركيباً وتشابكاً وعمقاً وأقل تبلوراً من المتتالية النماذجية التي تُوجِّه فرداً أو مجتمعاً ومن التركيبة الذهنية التي يتكون منها النموذج.(1/236)
ومع هذا، فإن هناك لحظات نادرة قد يفصح فيها النموذج عن مرجعيته النهائية إفصاحاً كاملاً في كتابات الفيلسوف صاحب النموذج أو في ممارسات من يحاولون وضع هذا النموذج موضع التنفيذ أو بعد اكتمال حلقات المتتالية التي تُعبِّر عن تَجلِّي النموذج في التاريخ. هذه اللحظة النماذجية النادرة (والنهائية) هي ما نسميه "لحظة تَعيُّن النموذج وتبلوره". وهذه اللحظة ـ رغم ندرتها ـ تُعبِّر عن جوهر النموذج أكثر من اللحظات الأخرى. وقد تحدث هذه اللحظة فجأة قبل اكتمال المتتالية. وقد لا تحدث هذه اللحظة أبداً. ولكن افتراضها، مع هذا، أمر مهم من الناحية التحليلية، إذ أنه سيمكِّن الباحث من تَخيُّل ما هو قائم وما يمكن أن يكون إن تحققت الظروف المثالية (التي قد لا تتحقق أبداً) ، وهي عملية تخيلية توضح للباحث جوهر النموذج ومنطقه وتساعده على رصد الواقع بطريقة ذكية، كما تساعده على ترتيب تفاصيله في إطار ما هو مهم وما هو أقل أهمية، وفي تَجاوُز الموضوعية المتلقية.(1/237)
وعادةً ما يحاول حملة نموذج ما أن يُهِّمشوا اللحظة النماذجية الكاشفة الدالة باعتبارها مجرد انحراف عن الجوهر (كما تفعل الحضارة الغربية مع اللحظة النازية) . ويمكن للدارس من خلال عملية التفكيك وإعادة التركيب المتأنية أن يكشف طبيعة النموذج، ومن ثم علاقته الوثيقة (بل العضوية) باللحظة النماذجية. ودراسة اللحظة النماذجية ـ من هذا المنظور ـ لا تختلف كثيراً عن دراسة الحالة، ولكنها حالة نماذجية. وإذا كانت دراسة الحالة العادية، هي دراسة لحالة ممثِّلة متكررة، فإن دراسة الحالة أو اللحظة النماذجية هي أيضاً دراسة لحالة ممثِّلة، وإن كانت فريدة، وهي ممثِّلة لا بالرغم من تفرُّدها، وإنما بسببها. وهذا لا يختلف كثيراً عن دراستنا لشخصيات نماذجية، ترمز لعصر أو لفكرة. ففاوستوس رمز عصر النهضة والحلم الإنساني الهيوماني بابتلاع العالم وكل المعرفة (ورمز الخوف من هذا الطموح في آن واحد) ، وفرانكنشتاين رمز الخوف الإنساني من العقل المادي والتكنولوجيا. أما الكاوبوي فهو رمز الإنسان الذي يخرج إلى الواقع الإنساني فلا يُفرِّق بين الإنساني والطبيعي ويحسم كل مشاكله بفوهة البندقية، فيصيد البقر ويصرع الهنود بنفس البساطة والحس العملي الذي يتجاوز سائر المنظومات الأخلاقية! وهتلر نفسه أصبح رمزاً للعقل الإمبريالي المادي، والسوبرمان (superman) النيتشوي الذي يتألَّه ويمنح الحياة ويقرر الموت ويقرر ما هو الخير وما هو الشر. أما أيخمان فقد أصبح رمزاً للجلاد البيروقراطي، السبمان (subman) ما دون الإنسان، الذي ينفذ ما يَصدُر له من أوامر دون أي تساؤل. وقد استخدمنا مفهوم اللحظة النماذجية في هذه الموسوعة، وبخاصة في دراستنا للنازية.
البنية(1/238)
«البنية» شبكة العلاقات القائمة في الواقع التي قد يعقلها الإنسان ويجردها بعد ملاحظته للواقع في كل علاقاته المتشابكة، ويرى أنها تربط بين عناصر الكل الواقعي أو تجْمع أجزاءه، وأنها القانون الذي يضبط هذه العلاقات ولكنه قد لا يدركها على الإطلاق. ومن ثم فالبنية، كما تتبدَّى في عقل الإنسان، ليست ذاتية ولا موضوعية تماماً. هذا لا يعني أن البنية مجرد "إدراك" لشبكة العلاقات ونموذج عقلي يجرده الإنسان، وإنما هي كل من "الإدراك" (الذاتي) و"الشبكة" (الموضوعية) ، أي أن البنية، إلى جانب وجودها الذاتي في العقل، لها وجود موضوعي في الواقع، قد يدرك الإنسان معظم أو بعض جوانبه، وقد لا يدرك أياً منها.
وقد يكون من المفيد التمييز بين «البنية السطحية» و «البنية العميقة» ، فالبنية السطحية هي هيكل الشيء ووحدته المادية الظاهرة، أما البنية العميقة فهي كامنة في صميم الشيء وهي التي تمنح الظاهرة هويتها وتُضفي عليها خصوصيتها. وعادةً ما يعي كثير من الدارسين البنية السطحية المادية المباشرة، فإدراكها أمر متيّسر ويتم بالحواس الخمسة، أما إدراك البنية الكامنة فهو أمر أكثر صعوبة، يتطلب استخدام الحواس وإعمال العقل والخيال والحدس. وكثيراً ما يعيش البشر داخل بنى اجتماعية وتاريخية واقتصادية يستبطنونها فتؤثر في سلوكهم وتشكِّل رؤيتهم للكون وتُحدِّد خطابهم الحضاري دون وعي منهم. ومن ثم، فإن ثمة فارقاً بين «البنية» من جهة، و «النية» و «النموذج» الذي يحرك المرء ويحدد سلوكه من جهة، فقد تَخلُص النية ولكنها تتعارض مع قوانين البنية، ولذا قد يجد المرء نفسه يسلك سلوكاً يختلف تماماً عما نواه.(1/239)
وحينما نقول في هذه الموسوعة "إن هذا الشيء لصيق ببنية المجتمع" فإننا نعني أنه جزء جوهري وليس عرضياً منه، حتى لو لم يدرك أعضاء المجتمع هذه الحقيقة. وترد عبارات مثل «معاداة اليهود البنيوية» ، بمعنى أن بنية العلاقات في المجتمع، كما تشكلت، تؤدي إلى العداء لليهود، بغض النظر عن نوايا أعضاء المجتمع والقائمين عليه والنماذج المعرفية التي يحملونها. كما أن عبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي» تعني أن «بنية اليهودية» ليست كلاً عضوياً متكاملاً متجانساً، وإنما مجموعة من الطبقات الجيولوجية المتراكمة المتجاورة غير المتفاعلة، وأن هذا التركيب لا علاقة له بإرادة اليهود أو نيتهم أو ادعاءاتهم أو الديباجات التي يستخدمونها. وعبارة «إحلالية المجتمع الصهيوني» تعني أنه تجمُّع إحلالي بحكم تكوينه وبنيته، وأنه كي تكون إسرائيل فلابد أن يُنفى كل الفلسطينيين أو على الأقل عدد كبير منهم. وثمة فارق بين بنية الشيء وتاريخه ووظيفته. فتاريخ الشيء هو سببه (أصوله ـ عوامل تكوينه ـ مضمونه) أما وظيفته فهي النتيجة (دوره في المجتمع ـ احتكاكه بعناصر الواقع) ، أما البنية فهي تركيب الشيء في لحظة محدَّدة. والفارق بين «النموذج» و «البنية» قد يكون طفيفاً أحياناً، وقد يتطابق الاثنان تمام التطابق، ولكنهما قد يفترقان تماماً بل يتصارعان.(1/240)
ويمكن أن نضرب مثلاً على الانفصال الكامل بين النموذج والبنية. إن سألنا ربة البيت: ماذا تعملين يا سيدتي؟ سيكون ردها "لا شيء"، فهذا هو النموذج الذي تؤمن به ويحركها. ولكنها مع نهاية اليوم ستكون منهكة تماماً من أثر ما قامت به من "أعمال". وإن دققنا قليلاً لاكتشفنا أن النموذج الذي تدرك هذه المرأة الواقع من خلاله قد عرَّف العمل بأنه ما يتم أداؤه في رقعة الحياة العامة شريطة أن يتقاضى عنه الإنسان أجراً، أما ما يتم في رقعة الحياة الخاصة وما لا يتقاضى عنه أجراً فهو ليس عملاً، رغم أن ربة البيت هذه قضت سحابة يومها تعمل (تنشئة الأطفال ـ الطبخ ـ تنظيف المنزل ... إلخ) ، أي أن بنية واقعها متناقضة تماماً مع نموذجها المعرفي والإدراكي.
وحينما توصلت الحضارة الغربية إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة فهي قد توصلت إلى نموذج معرفي لا علاقة له ببنية الواقع في فلسطين (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) . ويتبدَّى هذا في وعد بلفور الذي أشار إلى شعب فلسطين باعتباره «الجماعات غير اليهودية» ، وما حدث في فلسطين منذ ذلك التاريخ هو إعادة صياغة العلاقات القائمة في الواقع (بنيته) حتى يتفق النموذج المعرفي مع البنية. وهو ما حدث إلى حدٍّ ما مع ظهور كتلة بشرية استيطانية احتلت فلسطين وطردت كثيراً من سكانها، ولكن التطابق ليس كاملاً، ومن يقاوم الاستعمار الاستيطاني الصهيوني يقول في واقع الأمر إن بنية العنف والظلم التي تشكلت في الواقع ليست نهائية، فنحن نحمل نموذجاً معرفياً أكثر إنسانية وأكثر عدلاً من النموذج السائد في الوقت الحاضر. ونحن نهدف إلى تغيير بنية العلاقات في الواقع، فنقيم العدل في الأرض ونحقق السلام الشامل الدائم المبني على العدل.(1/241)
ونحن نستخدم أحياناً كلمة «نسق» و «منظومة» لنؤكد انفصال «النموذج» عن الذات تماماً كما نفعل مع «البنية» ولعل الفارق بين هذه المفردات أن كلمتي «نسق» و «منظومة» تتعاملان بالدرجة الأولى مع عالم الفكر المترابط متمثلاً في العلاقات السائدة في المجتمع. أما البنية فتتعامل بالدرجة الأولى مع العلاقات السائدة في المجتمع إما باعتبارها تعبيراً عن نموذج معرفي أو باعتبارها كياناً موضوعياً يعبِّر عن نموذج ما لم ندرك طبيعته بعد. فالبنية تؤكد عنصر انفصال «النموذج» تماماً عن الذات، دون التركيبية.
كما أننا نتحدث أحياناً عن «بنية الفكر» أو «بنية النموذج» ، ونحن في هذه الحالة لا نتحدث عن علاقات في الواقع وإنما عن طريقة ترابط الأفكار داخل نموذج ما، وما هو جوهري منها وما هو عرضي (بغض النظر عن رؤية حامل النموذج) . فبعض المؤمنين بالأيديولوجية النازية كانوا يؤمنون بأن جوهر النازية هو رسالتها الحضارية لتوحيد العالم وسيادة الجنس الآري باعتباره أمراً يخدم صالح البشرية جمعاء، أما ما تم من عنصرية وإبادية فهي أمور عرضية، أو أمور استبعدها النموذج تماماً. والصهاينة كانوا يتحدثون عن عودة اليهود إلى وطنهم القومي، وهذا هو جوهر الفكر الصهيوني والنموذج المعرفي الصهيوني. أما طَرْد الفلسطينيين والمذابح التي ارتكبت ضدهم فقد تم التزامه الصمت تجاهها باعتبارها غير موجودة أساساً أو أمراً تافهاً عرضياً مع أن طرد العرب هو جزء جوهري من النموذج، لا يمكن أن يتحقق دونه.
النموذج والأقوال (والنوايا)(1/242)
النموذج أداة تحليلية يتمكن الدارس من خلالها من الاقتراب من جوهر الظاهرة بحيث يمكنه أن يعرف ما هو جوهري فيها وما هو فرعي، وما هو نماذجي وما هو عرضي. ونحن نطلق على ما هو عرضي اصطلاح «قول» أو «أقوال» بمعنى أنها مجرد كلمات زخرفية لا تُعبِّر عن حقيقة النموذج. ولكن ثمة مشكلة عميقة تواجهنا أثناء التحليل النماذجي لظاهرة ما أو لنص ما، وهو وجود عناصر نرى أنها لا تتفق مع جوهر هذا النص أو الظاهرة مع أنها "موجودة" بالفعل. ولنضرب مثلاً بالإمبريالية والصهيونية: الصهيونية والإمبريالية حركتان سياسيتان تهدفان إلى اغتصاب أرض الآخر وإلى إبادته أو طرده أو تسخيره. ومع هذا كان الإنسان الغربي يتحدث عن العبء الحضاري الواقع على كاهله (بالإنجليزية: وايت مانز بردين white man's burden) أو رسالته الحضارية (بالفرنسية: مسيون سيفيلاتريس mission civilatrice) ، وعن رغبته العارمة في أن يُحضر النور إلى الشرق ليبدد الظلمات. وكان الصهاينة كثيراً ما يثرثرون عن: التعاون مع إخوتهم العرب وضرورة مساعدة الشرق على النهوض، وتحقيق الحلم الصهيوني دون إلحاق أي أذى بالعرب. بل كانوا يزعمون أن بالإمكان إقناع العرب بالطرق الديموقراطية بمشروعية الحلم الصهيوني. ولا تزال الدعاية الصهيونية مستمرة في هذه الثرثرة وفي تلك المزاعم. ومع خطاب ألقاه رئيس للولايات المتحدة أثناء حرب الخليج، تَحوَّل الاستعمار العالمي (القديم) الذي ينهب العالم بطريقة منهجية منظمة إلى نظام عالمي جديد يحاول إقامة العدل.
فعلى أي أساس يمكننا أن نقرر أن العنف والاستغلال والبطش هي السمات النماذجية الإمبريالية والصهيونية، وأن ما قد تدعيانه من تسامح، بل ما قد تقومان به من أفعال خيِّرة لا يشكل الجوهر، فهو مجرد "قول" أو "أقوال"؟
أعتقد أن بالإمكان إزالة اللبس عن طريق خطوتين:(1/243)
1 ـ من الداخل: بالعودة إلى طبيعة النموذج ومرجعيته النهائية (الكامنة الحاكمة) ومنطقه الداخلي الحاكم. فنُصنِّف ما لا يتفق مع النموذج ولا يتفق مع مرجعيته النهائية الحاكمة باعتباره مجرد أقوال زخرفية وديباجات ليس لها أية دلالة أو مقدرة تفسيرية، أو باعتبار أن دلالتها ضعيفة ومقدرتها التفسيرية جزئية، بمعنى أنها قد تفسر عدداً من العناصر ولكنها ستترك العدد الأكبر دون تفسير. أما ما يتفق مع المرجعية الحاكمة والمنطق الداخلي فهو صاحب الدلالة والمقدرة التفسيرية والمركزية.
2 ـ من الخارج: بالعودة إلى تجليات النموذج وتَحقُّقه الفعلي في بنية العلاقات وعلاقات القوة، إذ أن هذا سيساعدنا على التمييز بين ما هو أصلي وجوهري وما هو فرعي وعرضي وزخرفي.
إن طبقنا هذا على الإمبريالية العالمية، وجدنا أن منطق داروين يُعلي من شأن القوة ويتقبلها معيارية نهائية، ولذا ليس من السهل تصوُّر أن النظام الاستعماري القديم سيغير طبيعته بتغيير اسمه إلى «النظام العالمي الجديد» . كما أن تاريخ النظام الاستعماري القديم وممارسات النظام العالمي الجديد وبنيته تبيِّن حقيقة الاستمرارية بين هذين النظامين.(1/244)
ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الصهيونية بالنظر للمنطق الداخلي للأيديولوجية الصهيونية، فالصهيونية التي تدَّعي أنها حركة تحرير الشعب اليهودي تعني في واقع الأمر نقل عدد من يهود العالم إلى فلسطين ليستأنفوا تاريخهم الذي توقف مع هدم الهيكل منذ ألفي عام (حسب الإذعان الصهيوني) . لكن هذه المجموعة ستشغل ولا شك حيزاً مكانياً لتستأنف فيه تاريخها الذي توقف، وهو حيز يشغله آخرون. وهذا ما يعني أن المنطق الداخلي هو ضرورة طرد هؤلاء الآخرين. كما أن الممارسة الصهيونية منذ عام 1882 حتى الوقت الحاضر تدل على أن مسألة النهوض بالعرب ومساعدتهم هي مجرد أقوال وزخارف، فالجميع يعرف ملامح البنية التي تشكلت في الواقع: بنية القمع الصهيوني والمقاومة العربية، وحلقة العنف التي لم تنته.
وفي جميع الأحوال، يمكن أن ننظر إلى كثير من النصوص الإمبريالية أو الصهيونية التي كتبها أصحابها وأعلنوا فيها عن المنطق الداخلي والأساسي لمنظومتهم بصراحة كاملة ودون مواربة، وذلك لأسباب كثيرة من بينها أن النص ربما يكون موجهاً للعالم الغربي أو أن صاحب النص وجد أن من الأسلم الإعلان عن جوهر النسق. بل أحياناً يكون الهدف من النص المخاتلة والمخادعة، ولكن الحقيقة تُعبِّر عن نفسها. ولا شك في أن آليات دراسة النصوص وتحليلها، وهي آليات تطورت مؤخراً بشكل مذهل، تساعد في هذا المضمار.
والسؤال هو: لماذا تلجأ نظرية مثل الصهيونية (تدعو للعنف والصراع الدموي والاستيلاء على أراضي الآخرين) من أجل البقاء إلى زخارف وأقوال وديعة وإنسانية؟ لتفسير هذا يمكن أن نسوق بعض الأسباب:
1 ـ هناك السبب الواضح وهو التعمية، فلا يدرك أحد المقاصد الحقيقية للنموذج.(1/245)
2 ـ ولكن الأمر يمكن أن يكون أعمق من ذلك. فبعد أن يصوغ الفيلسوف الإرهابي نموذجه المعرفي، يشعر بتوحشه الكامل ولا إنسانيته وسيولته. ولذا فهو، من خلال الديباجات الزخرفية، يُدخل قدراً من الإنسانية عليها، ولكن هذه اللحظة تظل إنسانية على مستوى البنية الظاهرة والأقوال والديباجات، أما البنية الكامنة والمرجعيات النهائية فتظل على وحشيتها ولا إنسانيتها. وهذه الزخارف تزيد القيمة التعبوية للنموذج، فالبشر (بسبب تركيبيتهم وإنسانيتهم) لا يمكنهم أن يقبلوا نموذجاً وحشياً لا إنسانياً ولا يمكنهم تبنِّيه، ولهذا فإن الأقوال والديباجات الزخرفية تيسر لهم هذا الأمر.(1/246)
ويمكن هنا أن نثير قضية النوايا المعلنة الحقيقية، وطبيعة علاقة النموذج بالنوايا. فإن كان هناك فيلسوف يدافع عن فلسفة وحشية، فهو لابد يظن (عن نية صادقة) أن مثل هذه الفلسفة ليست وحشية، بل يرى أنها ستأتي بالخير للبشر. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الأيديولوجيات السياسية. ففي حالة الصهيونية، على سبيل المثال، هناك كثير من الصهاينة كانوا "صادقي النية" بالفعل في رغبتهم ألا يلحقوا الأذى بالعرب. وفي التحليل النماذجي يمكن لنا أن نقول إن النوايا (ودوافع الفاعل بشكل عام) هي مجرد عنصر من بين عناصر كثيرة تشكل الواقع أو النموذج ويمكن إخضاعها لنفس العملية التحليلية، أي التحليل من الداخل (منطق النموذج) ومن الخارج (تجلياته في البنية) . وفي حالة الصهيونية، على سبيل المثال، أخبر هرتزل صديقه عالم الاجتماع الدارويني جومبلوفيتش أنه ينوي إقامة الدولة الصهيونية بالطرق الليبرالية، أي أنه عبَّر عن نيته الالتزام بالنموذج الليبرالي. فكتب له هذا الأخير قائلاً: "أتظن أن بإمكانك أن تقيم مثل هذه الدولة بدون خديعة وإرهاب؟ ". وما فعله جومبلوفيتش هو أنه درس المنطق الصهيوني الداخلي ودرس التجارب المماثلة وتَوصَّل إلى أن هرتزل ساذج وأن نواياه الطيبة ودوافعه الليبرالية لا علاقة لها بالنموذج أو الظاهرة التي ستتحقق والتي تحققت في نهاية الأمر بكل ما صاحبها من طرد وبطش وتهجير وإبادة. وقد علق أحد المؤرخين الإسرائيليين على نوايا هرتزل الطيبة بقوله: "إنه يود أن يطبخ أومليت دون أن يكسر البيض"، فنموذج الأومليت وتَحقُّقه يتطلب ويحتم بنية كسر البيض! وفي هذه الموسوعة، حاولنا تَجاوُز الادعاءات والأقوال الصهيونية لنصل إلى البنية الكامنة التي تشكَّلت في الواقع. ونحن نميل إلى التفرقة بين النوايا والديباجات من جهة، والبنية من جهة أخرى.
الديباجة(1/247)
تعني كلمة «ديباجة» حسب معجم الرائد: "1ـ القطعة من الديباج (ثوب لحمته وسداه من الحرير) ؛ 2 ـ من الوجه (حُسْنُ بَشرَته) ؛ 3 ـ من الكتاب (فاتحته) ؛ 4 ـ ديباجة الكاتب (أسلوبه) ". وبالتالي تفترض الكلمة وجود مسافة بين الشكل والمضمون وبين الظاهر والباطن وبين الواقع والاعتذاريات، ولكنها لا تستبعد في الوقت نفسه إمكانية التوافق التام والامتزاج (فحُسن بشرة الوجه قد يكون رمزاً جيداً ينم عن شخصية صاحبه، وقد يكون قناعاً يخبئ ما وراءه، وكذا الثوب والأسلوب) . ومن ثم، فهي كلمة يمكن أن نصفها بأنها مركبة. ونحن نرى أنها مصطلح مهم يمكن أن تستفيد منه العلوم العربية الإنسانية في محاولة دراسة ظاهرة ما، إذ يمكن تفتيتها مع الاحتفاظ بوحدتها. وفي الظواهر ذات الطابع الأيديولوجي الحاد، مثل النازية، التي تصاحبها اعتذاريات مصقولة تحاول فرض تفسير ما على حَدَث أو فعل، فإنها تصبح مصطلحاً حيوياً ومهماً. وفي ظاهرة مثل الصهيونية تشارك فيها قوى مختلفة (متحالفة ومتصارعة، يحاول كل منها أن يفرض تفسيره عليها بما يتفق مع مصلحته وبما يمليه عليه موقعه) ، يصبح مصطلح «الديباجة» ضرورياً، وربما حتمياً. وتحل كلمة «ديباجة» إشكالية الفرق بين النموذج من جهة والأقوال والنوايا من جهة أخرى.
الكلى والنهائى
يُوصَف «المعرفي» بأنه ما يتعامل مع الظاهرة من منظور «كلي ونهائي» . و «الكلي» مقابل «الجزئي» هو ما يُنسَب إلى الكل. و «الكل» في اللغة اسم لمجموع أجزاء الشيء. وكلمة «كلي» في هذه الموسوعة تفيد الشمول والعموم، وهي لا تعني الكليات بالمعنى الفلسفي، أي الحقائق التي لا تقع تحت حكم الحواس بل تُدرَك بالعقل والمنطق وحسب. وعلى هذا، فإن كلمة «كلي» في هذه الموسوعة تشمل كل شيء في جوانبه كافة؛ ما يقع منها تحت حكم الحواس وما لا يقع.(1/248)
أما كلمة «نهائي» فهي كلمة منسوبة إلى «نهاية» ، ونهاية الشيء غايته وآخره وأقصى ما يمكن أن يبلغه الشيء. قال ابن سينا "النهاية ما به يصير الشيء ذو الكمية إلى حيث لا يوجد وراءه مزاد شيء فيه".
المسلمات الكلية والنهائية للنموذج (الركيزة النهائية)
عملية الإدراك، في أبسط أشكالها، تتم من خلال نماذج. والنماذج هي نتاج عملية تجريد وانتقاء، تُبقي وتستبعد، تُضخَّم وتُهمَّش. وعملية التضخيم والاستبعاد لابد أن تتم في إطار رؤية معيَّنة (نموذج إدراكي) هي مصدر اليقين الخاص بالنموذج ومعياره الداخلي الذي يتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذره وأساسه العميق وتزوده ببعده الغائي النهائي، وهي جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد حدود النموذج وضوابط السلوك (حلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق وما هو نسبي) وتُوجِّه الفكر والسلوك (النشاط الذهني والاجتماعي) ، فهي باختصار ميتافيزيقا والنموذج مرجعيته أو بُعده المعرفي (الكلي والنهائي) أو مسلماته الكلية والنهائية التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية.
ويمكن لهذه المسلمات الكلية والنهائية أن تأخذ أشكالاً متنوعة كثيرة نصنفها نحن في نوعين أساسيين: أن تكون الركيزة الأساسية والنهائية (المركز) كامنة في النموذج أو الظاهرة نفسها، وهذه هي المرجعية الكامنة، أو أن تكون الركيزة النهائية مفارقة للنموذج أو الظاهرة متجاوزة لهما، وهذه هي المرجعية المتجاوزة (وهذا هو الفرق بين النموذج المادي والنموذج الحلولي الكموني من جهة والنموذج المادي الروحي والنموذج التوحيدي من جهة أخرى) . ويمكن للمُسلَّمة الكلية والنهائية أن تُعبِّر عن نفسها في شكل صورة مجازية نهائية أو مجموعة صور مجازية أو أساطير.
البعد المعرفى (الكلى والنهائى)(1/249)
كلمة «معرفي» في الخطاب الفلسفي العربي هي عادةً ترجمة لكلمة «إبستمولوجيا» ، وهي كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين «إبستيم» بمعنى «معرفة» أو «علم» و «لوجوس» بمعنى «دراسة» أو «نظرية» . والإبستمولوجيا هي علم دراسة ما نزعم أنه معرفة، إما عن العالم الخارجي (المادي) أو عن العالم الداخلي (الإنساني) ، وهو علم يدرس (بشكل نقدي) المبادئ والفرضيات والنتائج العلمية بهدف بيان أصلها وحدودها ومدى شموليتها وقيمتها الموضوعية ومناهجها وصحتها. والإبستمولوجيا، في اللغة الإنجليزية، هي بشكل عام نظرية المعرفة (التي تتناول العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف) . أما في اللغة الفرنسية، فهي تعني أساساً نظرية العلوم أو فلسفة العلوم وتاريخها. وقد سبب اختلاف المعنى بين المعجمين الإنجليزي والفرنسي اختلاطاً كبيراً في اللغة العربية، إذ يتخذ كل مؤلف على حدة من معجم غربي معيَّن دون غيره مرجعيته، فتظهر الكلمة في اللغة العربية بمدلولين مختلفين. وسوف نحاول أن نصل إلى تعريف يتجاوز إلى حدٍّ ما الاختلاط الدلالي.(1/250)
وفي تصوُّرنا، فإن الكلمة تعني «كلي ونهائي» . ومن هنا، فإننا عادةً ما نضع المستوى المعرفي في مقابل المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي بل الحضاري (وهذا المعنى، رغم جدته، مُتضمَّن في كثير من تعريفات كلمة «إبستمولوجيا» ) . والإبستمولوجيا، بالمعنى الضيق للكلمة، تتناول موضوعات مثل طبيعة المعرفة ومصادرها وإمكانية تحققها ومصداقيتها وكيفية التعبير عنها، ولكنها تعني أيضاً المسلمات الكامنة وراء المعرفة. وهذا المجال الأخير ينقلنا من المعنى الضيق إلى المعنى الواسع. فالإبستمولوجيا تعني أيضاً توضيح المقولات القَبْلية في الفكر الإنساني، ولذا يذهب البعض إلى أن الميتافيزيقا تنقسم إلى: أنطولوجيا وإبستمولوجيا، وأن كل رؤية للعالم تحوي داخلها ميتافيزيقا (أي أنطولوجيا وإبستمولوجيا) . كما يرى البعض أن الإبستمولوجيا تعني «رؤى العالم» . ولتوضيح مفهوم الإبستمولوجيا بالمعنى العريض للكلمة، سنضرب بعض الأمثلة بإشكاليات وقضايا وُصفت بأنها «معرفية» و «إبستمولوجية» :
1 ـ تورد بعض المعاجم المسألة التالية باعتبارها مسألة معرفية: ما الفرق بين هذه المفاهيم: العقيدة ـ الإيمان ـ الرأي ـ الخيال ـ التفكير ـ الفكرة ـ المعرفة ـ الحقيقة ـ الواقع ـ الخطأ ـ الإمكانية ـ اليقين؟
2 ـ تحاول الإبستمولوجيا (حسب أحد التعريفات) أن تُوضِّح الفرق بين الثنائيات المتعارضة التالية: المعرفة الذهنية مقابل المعرفة غير الذهنية ـ التبرير مقابل الوصف ـ القَبْلية مقابل البَعْدية ـ الضروري مقابل العرضي ـ التحليلي مقابل التركيبي ـ العارف مقابل المعروف ـ المدرك مقابل المدرَك ـ المعرفة المادية مقابل المعرفة الحدسية ـ الحقيقي مقابل الوهمي ـ الكلي مقابل الجزئي ـ اليقين مقابل الشك.
3 ـ من القضايا الأساسية التي وُصفت بأنها «معرفية» قضية التناقض الأساسي في الحضارة الغربية الحديثة بين النزعة العقلية والنزعة التجريبية.(1/251)
4 ـ من القضايا الأخرى الأساسية في الحضارة الغربية التي وُصفت بأنها «معرفية» فكرة الجوهر وفكرة الكل. وهما في رأي البعض فكرتان مرتبطتان تمام الارتباط. فالجوهر هو الدعامة الأساسية والثابتة لكل الظواهر، وهو الناحية الأولية والكلية في الشيء. وتعتمد الظواهر على الجوهر لوجودها ولا يعتمد هو على أي شيء آخر لوجوده. ومن ثم، فإن الجوهر هو الحقيقي، وما عداه فهو وهم. والجوهر هو الباطن والوهم هو الظاهر. ولا يمكن لشيء أن يُوجَد دون جوهر، وبدونه لا يمكن أن يكون على ما هو عليه. والإيمان بفكرة الجوهر يعني الإيمان بأن ثمة ثباتاً في الواقع. وأن هناك كليات ثابتة وراء الجزئيات المتغيرة.
5 ـ قضية الحقيقة هي الأخرى من القضايا التي تُوصَف بأنها «معرفية» : ما معيار الحقيقة؟ وقد كان الفكر الغربي حتى عصر النهضة يؤمن بنظرية التقابل بأن الحقيقي هو الشيء الذي له ما يناظره في الواقع. ثم بدأت هذه النظرية في الانحسار تدريجياً لتحل محلها نظرية التماسك، فالحقيقي هو الشيء المتماسك (بشكل عضوي) المتسق مع ذاته. وأخيراً هناك النظرية البرجماتية، وهي ترفض كلاًّ من نظريتي التقابل التماسك وترى أن الحقيقي هو ما ينجح، أي أن المنظور الوحيد هو دائماً منظور إجرائي. وهذه القضية، مثل السابقة، هي قضية ليست مقصورة على الحقل المعرفي وإنما تُناقَش أيضاً على مستوى علم الأخلاق وعلم الجمال وعلى المستوى الأنطولوجي، بل على مستوى تاريخ الأفكار وتاريخ الحضارة وفلسفة التاريخ.(1/252)
وتبيِّن الأمثلة السابقة أن كلمة «معرفي» قد يكون لها معنى ضيق مع أنها ذات معنى واسع وعريض، وليس هناك ما يُلزمنا بأن نأخذ بالتعريف الضيق دون التعريف العريض. وهنا، تنشأ مشكلة وهي أن التعريف العريض يتداخل مع الميتافيزيقا، فالأسئلة الكلية والنهائية هي ذاتها الأسئلة التي تطرحها الميتافيزيقا، ولذا كان من الأجدى أن نتحدث عن الميتافيزيقا (وهذا ما يفعله أنصار ما بعد الحداثة) . ولكن هذه الكلمة فقدت مكانتها تماماً في اللغة العربية وفي اللغات الأوربية، سواء بين المتخصصين أو بين العامة، وأصبحت مرتبطة في العقول بالخزعبلات والخرافات، ولذا سنحتفظ بكلمة «معرفية» ونُسقط مرجعيتها المعجمية الإنجليزية (نظرية المعرفة) أو الفرنسية (فلسفة العلوم) ونرجع بالكلمة إلى المعجم العربي حيث تُعرَّف المعرفة بأنها «إدراك الشيء على حقيقته» (عَرف الشيء: أدركه بعلمه) . وحيث إننا نرى أن إدراك الشيء على حقيقته يعني ضرورة التجريد للوصول إلى المعنى الكلي أو إلى النموذج الكامن، فإن عبارة مثل «المستوى المعرفي» تعني "المستوى الذي يتم فيه إدراك الحقيقة الكلية والنهائية الكامنة وراء ظاهرة أو نص ما، ويتم ذلك من خلال عملية تجريدية تزيح جانباً التفاصيل التي يراها الباحث غير مهمة وتُبقي السمات الأصلية الجوهرية للشيء التي تشكل في واقع الأمر إجابة النص أو الظاهرة على الأسئلة الكلية والنهائية".(1/253)
والأسئلة الكبرى أو الكلية أو النهائية هي أسئلة عما يُسمَّى في النقد الأدبي الغربي الموضوعات الكبرى (بالإنجليزية: ميجور ثيمس major themes) في حياة الإنسان، وهي أسئلة تدور حول الإنسان والإله والطبيعة. ولكن هذه المحاور الثلاثة مترابطة إلى درجة أنه يمكن من خلال التعمق في دراسة عنصر واحد الوصول إلى رؤية النموذج للعنصرين الآخرين. وفي هذه الموسوعة سنُركِّز على الإنسان: طبيعة وجوده وكيفية إدراكه للواقع وعلاقته بالطبيعة وما وراء الطبيعة والهدف من وجوده في الكون وخواص الطبيعة وسماتها الأساسية.
ويمكن تلخيص كل هذه الموضوعات الأساسية في ثلاثة محاور أساسية:
1 ـ علاقة الإنسان بالطبيعة/المادة، وأيهما يسبق الآخر: هل الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة أم هو جزء يتجزأ منها وله استقلاله النسبي عنها؟ هل الإنسان وجود طبيعي/مادي محض أم أنه يتميَّز بأبعاد أخرى لا تخضع لعالم الطبيعة/المادة؟ هل يتسم الكون بالثنائية أم تسود فيه الواحدية؟ هل الإنسان سابق للطبيعة/المادة متجاوز لها أم أنها سابقة عليه، متجاوزة له؟
2 ـ الهدف من الوجود: هل هناك هدف من وجود الإنسان في الكون؟ هل هناك غرض في الطبيعة أم أنها مجرد حركة دائمة متكررة، حركة متطورة نحو درجات أعلى من النمو والتقدم أم حركة خاضعة تماماً للصدفة؟ ما هو المبدأ الواحد في الكون، القوة المحركة له التي تمنحه هدفه وتماسكه وتضفي عليه المعنى؟ هل هو كامن فيه أم متجاوز له؟
3 ـ مشكلة المعيارية: هل هناك معيارية أساساً؟ ومن أين يستمد الإنسان معياريته: من عقله المادي أم من أسلافه أم من جسده أم من الطبيعة/المادة أم من قوى متجاوزة لحركة المادة؟(1/254)
وهذه أسئلة مجردة عميقة ولكن حياة الإنسان هي محاولة للإجابة عنها. وحتى محاولة التهرب منها ورفضها يُشكِّل إجابة. ولذا، فهي تتجلى في فكره الواعي وغير الواعي وفي أعماله ذات الدلالة العميقة وفي أفعاله التي تبدو تافهة وغير ذات دلالة على الإطلاق.
والمستوى السياسي في التحليل يتوجه لأسئلة سياسية، كما أن المستوى الاقتصادي يتوجه لأسئلة اقتصادية ويحاول أن يجيب عنها بطريقة سياسية واقتصادية "محايدة" لا تصل إلى الأسئلة الكلية النهائية. فمثلاً يمكن لأحد علماء السياسة أن يقول "الأزمة السياسية لهذا المجتمع هي في جوهرها أزمة اقتصادية ويمكن حلها عن طريق رفع مستوى المعيشة والتنمية السريعة"، فهو يرى أن الأزمة السياسية تضرب بجذورها في الوجود الاقتصادي للإنسان ويتأتى حلها عن طريق آليات اقتصادية. وقد يتصور هذا العالِم السياسي أنه لم يتوجه لأية أسئلة كلية أو نهائية مثل تكوين الإنسان والهدف من وجوده ومعياريته. ولكن التحليل المعرفي المتعمق يمكنه أن يكشف أن اجابته تفترض إجابة اقتصادية (مادية) عن هذه الأسئلة الكلية والنهائية، فالإنسان هو جسد ومادة وحسب، احتياجاته ودوافعه ومعياريته اقتصادية، ومن ثم فإنه حين لا يحقق ذاته اقتصادياً تنشأ الأزمة في المجتمع ويمكن حلها عن طريق إشباع الرغبات والدوافع الاقتصادية. وإن كانت هناك دوافع غير اقتصادية فلا شك في أنها ثانوية وهامشية، ولذا فإن حل أزمة المجتمع لا يتوجه لها، كما أن عملية رصد المجتمع تستبعدها. ومن ثم فإن هناك بُعداً معرفياً كلياً ونهائياً في أي خطاب تحليلي مهما بلغ من الحيادية والتجريدية والسطحية والمباشرة.(1/255)
ونحن نرى أن لكل كاتب تحيزاته الخفية الكامنة أو الواضحة الظاهرة، وأن السبيل الوحيد للوصول إلى نوع من الموضوعية هو أن يحاول كل كاتب أن يوضح هذه التحيزات، فالتحيز حتمي ولكنه ليس نهائياً. والتحيزات الحقيقية كامنة في المسلمات الكلية والنهائية للنموذج التفسيري الذي يستخدمه الكاتب. وقد حاولت قدر استطاعتي أن أوضح هذه التحيزات حتى يدركها القارئ ويختبرها ويقبلها أو يرفضها كلياً أو جزئياً. ونحن، كما هو واضح، في كثير من صفحات هذه الموسوعة نَصدُر عن نموذج توحيدي متجاوز يستند إلى ثنائية أساسية هي ثنائية الخالق والمخلوق، وهي ثنائية لا يمكن إلغاؤها (في تصوُّرنا) . وهي تتبدَّى في ثنائية أساسية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة. ونحن نرى أن إلغاء الثنائية يؤدي إلى القضاء على إمكانية التجاوز وإلى السقوط في الواحدية وظهور النماذج الاختزالية البسيطة. ومع هذا، فنحن لا نرى علاقة سببية بسيطة بين التوحيد والنماذج المركبة، وإنما نرى أن ثمة علاقة تفضيل اختياري بمعنى أن التوحيد يخلق تربة خصبة لظهور النماذج التفسيرية التركيبية.(1/256)
كما نرى أن من الممكن أن تُولَد ثنائية داخل النظم العلمانية فيما يعُرف بـ «الفلسفة الإنسانية الهيومانية» ، فهي فلسفة مادية ولكنها مع هذا ترى أن ثمة ثنائية أساسية هي ثنائية الإنسان والطبيعة تعصم هذه الفلسفات من السقوط في الواحدية المادية الفظة. ورغم أن هذه الثنائية تستند (في تصوُّرنا) إلى أساس واهٍ (الاختيار الوجودي للمفكر الإنساني وإيمانه العميق بالإنسان كمطلق) ، إلا أنه يُبقي داخل النظم الإنسانية مطلقاً ما، متجاوزاً للطبيعة، يمكن استناداً إليه تأسيس نظم معرفية وأخلاقية وكذا الإفلات من قبضة الصيرورة المادية وشبح ما بعد الحداثة. ومن ثم، توجد رقعة مشتركة بين النظم الإنسانية والنظم التوحيدية، فكلاهما يستند إلى ثنائية الإنسان والطبيعة، وكلاهما لا يذعن لحركة المادة والضرورة والصيرورة، وكلاهما يؤمن بالتجاوز. ورغم اختلاف الأساس الفلسفي، إلا أن الرقعة المشتركة، على مستوى المسلمات الكلية والنهائية، تشكل أساساً راسخاً لحوار مثمر قد يخرج بنا من المأزق الذي أوصلتنا إليه العقلانية المادية وقد يؤدي إلى التوصل إلى رؤية جديدة لحداثة جديدة أكثر إنسانية وأكثر مقدرة على الاستمرار وتحقيق قسط معقول من السعادة للبشر.
الصورة المجازية(1/257)
قد تكون لغة المجاز أحياناً مجرد زخرفة لفظية ومن قبيل المحسنات البديعية. ولكنها، في كثير من الأحيان، تكون جزءاً أساسياً من عملية التفسير والإدراك ونسيج الخطاب، ولا يمكن الوصول إلى المعنى دون إدراك علاقاتها الكامنة وتضميناتها الخفية. ونحن نذهب إلى أن معظم النصوص (المكتوبة والشفوية) ، وكل رؤية للكون، تحوي داخلها صورة مجازية أساسية. ونحن نطلق على مثل هذه الصورة اصطلاح «صورة أساسية إدراكية» لأنها صور استخدمها صاحب النموذج (بوعي أو بغير وعي) للتعبير عن نموذجه المعرفي، ولذا فإن النموذج المعرفي الكامن في النص يَتَجَّلى من خلالها بشكل متعيِّن مباشر وتظهر مرجعيته النهائية. وقد لا يمكن إدراك طبيعة النموذج وبنيته بدونها. وإن لم يصل الإنسان إلى فهم الصورة المجازية الإدراكية الأساسية، فإن كثيراً من التفاصيل ستبدو كما لو كانت تفاصيل غير مترابطة. والصورة المجازية الأساسية كامنة عادةً، لكن درجة كمونها تتفاوت من نسق فكري إلى آخر. وما يحدث هو أن عقل المُفسِّر يتوصل إلى الصورة المجازية الأساسية الكامنة ويستخدمها لتحويل الأجزاء المتبعثرة إلى كلٍّ متماسك. وكما أن النماذج بنية عقلية سكونية تترجم نفسها عبر الزمان إلى متتالية، فإن الصور المجازية الأساسية يمكن أن تتطور هي الأخرى بتطور المتتالية، ولذا يمكن دراسة تاريخ الأفكار والنماذج الإدراكية من خلال دراسة تتابع الصور المجازية وتتاليها وتحولاتها.(1/258)
وقد قمنا في هذه الموسوعة بتحليل الصور المجازية الأساسية في النصوص الصهيونية. كما درسنا الصهيونية باعتبارها تعبيراً عن الاتجاه القومي العضوي، وعلى أساس أن الصور المجازية العضوية مركزية في النموذج الصهيوني (شأنه في هذا شأن معظم النماذج الشمولية مثل النازية والفاشية) . وقد استخدمنا صورة النموذج الجيولوجي التراكمي لدراسة العقائد والجماعات اليهودية. وحلَّلنا الصور المجازية القبَّالية مثل الآدم قدمون وتهشم الأوعية (شفيرات هكليم) ، وبيَّنا علاقة صورة الجسد والجنس والرحم بالنظم الحلولية.
الوصف المكثف ولغة المجاز
«الوصف المكثَّف» ترجمة لعبارة «ثيك ديسكربشان thick description» وهي عبارة من كتابات الأنثروبولوجي كليفورد جيرتز. وآلية الوصف المكثف مأخوذة من عالم الأدب. فالقصيدة الشعرية، على سبيل المثال، هي نص ذو معنى مُركَّب كُتب بلغة ثرية يحتوي على العديد من التفاصيل المتعينة التي تتجاوز أحياناً المعنى الظاهر والمباشر.
والباحث الواعي يعرف أن آلاته التحليلية (ونماذجه التفسيرية) هي في واقع الأمر، ومهما بلغت من دقة، نماذج لا يمكنها الإحاطة بشكل كامل بالواقع الحي، ويعرف أن بعض أبعاد هذا الواقع تظل خارج حدود النموذج. ولذا، فهو يلجأ إلى الوصف المكثف، أي يصف الظاهرة أو بعض جوانبها بشكل أدبي متعيِّن لعل القارئ قد يصل إلى بعض الدلالات الخفية التي فشل النموذج التحليلي إلى توصيلها. والوصف المكثف بهذا المعنى يتجاوز النموذج دون أن يلغيه، ويتحداه دون أن يرفضه، ويُعدِّله دون أن يقوضه.
ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن استخدام لغة المجاز، فهي محاولة للوصول إلى بعض المعاني المُتضمَّنة والمركبة التي تعجز اللغة التحليلية المباشرة عن توصيلها. وقد لجأ كاتب الموسوعة إلى الوصف المكثف في كثير من مداخلها.
صياغة النموذج وتشغيله(1/259)
صياغة النموذج التفسيري التحليلي عملية مركبة وإبداعية تتضمن عمليات عقلية عديدة متنوعة ومتناقضة. فالنموذج لا يوجد من العدم أو من أعماق الذات وثناياها وحدها (كما قد يتراءى للبعض) ، وإنما هو ثمرة فترة طويلة من ملاحظة الواقع والاستجابة له ومعايشته والتفاعل معه ودراسته والتأمل فيه وتجريده وبعد التوصل إلى نموذج يتم اختباره وإثراؤه وإعادة اختباره (إلى ما لا نهاية) . إن النموذج كأداة تحليلية يربط بين الذاتي والموضوعي ولذا يمكن القول بأن عملية صياغة النموذج تجمع بين الملاحظة الإمبريقية واللحظة الحدسية، وبين التراكم المعرفي والقفزة المعرفية، وبين الملاحظة الصارمة والتخيل الرحب، وبين الحياد والتعاطف، والانفصال والاتصال. وهو يفتح مجال البحث العلمي من خلال الخيال الإنساني ومقدرته على التركيب وعلى اكتشاف العناصر والعلاقات الكامنة، ولكنه في الوقت نفسه يكبح جماح هذا الخيال بأن يجعل النتائج خاضعة للاختبار، وهي مسألة تقع خارج ذاتية من صاغ النموذج. وبدون كل هذه العمليات المركبة، يحل محل النموذج التحليلي المركب فرضية اختزالية شائعة (أي نموذج اختزالي شائع) ، وتصبح الملاحظة عملية اختزال للواقع ويصبح البحث عملية توثيق أفقية مملة، هي تأييد للأطروحات السائدة في حقل ما.(1/260)
- تبدأ عملية صياغة النموذج بإدراك أن المعطيات الحسية في ذاتها لا تقول شيئاً، وأن المعلومة ليست النهاية وإنما البداية، وأنها ليست حلاًّ للإشكالية وإنما هي الإشكالية ذاتها. فإن قُلت إن زيداً ضرب عمراً فهذا مجرد خبر يحتمل الصدق أو الكذب في ذاته كما يقول البلاغيون العرب. ولا يمكن إقرار مدى صدقه أو أهميته أو دلالته، كما لا يمكن فهمه في ذاته، فهو حدث مادي محض. كما لا يمكن التعميم منه، فهو يكاد يكون دالاً دون مدلول (كلاماً دون معنى) . أو ذا معنى خاص جداً أو معنى عام جداً، تماماً كما لو قُلت "فستان أحمر" و"قطة زرقاء" ولن يُضير كثيراً إن أضفت و"كلب أخضر".
- ينطبق نفس الشيء على أي نص (قصيدة ـ إعلان ـ خبر صحفي) ، فرسالته ليست أمراً بسيطاً يوجد في السطح وفي المعنى المباشر للكلمات، فهي ليست مجرد كلمات مرصوصة جنباً إلى جنب.
- يجب أن يُدرك الباحث أنه لا يأتي للنص أو للظاهرة بعقل يشبه الصفحة البيضاء، وإنما بعقل مُثقل بالإشكاليات والأنماط والتساؤلات، عقل له مسلماته الكلية والنهائية، وهذا ما سماه بروفسير ديفيد كارولDavid Carroll «ما قبل الفهم» (بالإنجليزية: بري أندرستاندنج pre-understanding) ، وهذا لا يعني بالضرورة السقوط في الذاتية، بل بالعكس فإدراك الباحث أنه يأتي للظاهرة وللنص مسلحاً (أو مثقلاً) ببعض الأفكار والتساؤلات والتحيزات والمسلمات، يجعله قادراً على الاحتفاظ بمسافة بينه وبينها وإخضاعها للتساؤل وتجاوزها إن ظهر عجزها التفسيري. كما أن إدراكه لوجود مقولات قَبْلية كامنة فيما قبل الفهم أو الفهم المسبق تمنعه من أن يسقط صريع المقولات العامة المهيمنة التي نقبلها باعتبارها حقائق كلية نهائية (مثل التقدم ـ الصراع ـ البقاء) ولا نُخضعها للتمحيص. ومعظم هذه المقولات في حالتنا مستوردة من العالم الغربي، ولذا وصف أحد الباحثين هذه الحالة بأنها «إمبريالية المقولات «.(1/261)
- صياغة النموذج في جوهرها هي عملية تفكيك للظاهرة (أو النص) وإعادة تركيب لها. وإن كان ينبغي ملاحظة أن النص عادةً ما يكون أكثر تماسُكاً ووحدة من الظاهرة التي تتسم بقدر من التناثر. ولذا، فإن صياغة النموذج لدراسة الظواهر تختلف عن صياغة النموذج لدراسة النصوص، ومع هذا، فثمة وحدة أساسية بين الأمرين.
- تبدأ عملية التفكيك بأن يُقسِّم الباحث الظاهرة أو النص إلى وحدات منفصلة بعضها عن البعض.
- يقوم الباحث بعد ذلك بتجريد هذه الوحدات، أي عزلها إلى حدٍّ ما عن زمانها ومكانها المباشر وعن ماديتها المباشرة (فهو بهذه الطريقة وحدها يمكن أن يربط الواحدة منها بالأخرى وبغيرها من التفاصيل (.
- يربط الباحث هذه الوحدات الصغيرة ويجعل منها مجموعات أكبر.
- يُجرِّد الباحث هذه المجموعات الأكبر ثم عليه بعد ذلك أن يربط بينها وأن يضع كل مجموعة من المجموعات المجردة المتشابهة داخل نمط مستقل، إلى أن يضع كل المجموعات (بكل ما تحوي من وحدات وتفاصيل) داخل أنماط مختلفة.
- يقوم الباحث بعد ذلك بتجريد هذه الأنماط نفسها، ويحاول من خلال عمليات عقلية استنباطية أن يُدخلها في أنماط من التشابه والاختلاف أكثر تجريداً. عندئذ، ستبدأ العبارات المحايدة والتفاصيل المتناثرة تكتسب معنى محدداً أو أبعاداً أكثر عمقاً. وتبدأ ملامح النموذج في الظهور.
- حتى هذه اللحظة يتحرك الباحث داخل حدود الظاهرة أو النص لا يفارقهما، فهو يقوم بعمليات تجريد من الداخل، ولكن لابد أن يترك تلك الحدود ويتحرك خارجها، إذ لابد أن يحاول المقارنة بين ما توصَّل إليه من أنماط (وتفاصيل وإشكاليات) وأنماط مماثلة خارج الظاهرة نفسها، فهذا من أفضل السبل للتوصل إلى أنماط ذات مقدرة تصنيفية وتفسيرية عالية.(1/262)
- لابد أن يُركِّب الدارس مجموعة من الأنماط الافتراضية ويجرب مقدرتها التفسيرية فيستبعد الأنماط ذات المقدرة التفسيرية الضعيفة ويُبقي الأنماط ذات المقدرة العالية إلى أن يكتشف الأنماط الأكثر تفسيرية فيُعدِّلها ويُكثِّفها.
- لابد أن يرصد الباحث الأنماط من خلال عدة متتاليات: متتالية مستقرة لها مقدرة تفسيرية عالية وتتعامل مع ما هو كائن، وأخرى احتمالية تتعامل مع ما هو كائن وما يمكن أن يكون، وثالثة مستحيلة بمعنى أن يكون جاهزاً لإدراك لحظات الانقطاع الكامل.
- يُلاحَظ، في عملية البحث عن أنماط، أن الدارس لابد أن يبدأ بملاحظة ما يمكن تسميته «التفاصيل القلقة» ، فهي غير مستقرة ولا تتبع نمطاً واضحاً، وبالتالي قد تقوده إلى أنماط جديدة.
- الصور المجازية منبع خصب للوصول إلى النماذج التحليلية أو الكامنة، فالصورة المجازية ترجمة مباشرة غير واعية أحياناً لطريقة تنظيم النص. ولذا، لابد وأن يحاول الباحث رصد التعبيرات المجازية وتحليلها لأنه سيصل من خلالها إلى الأنماط الكامنة في النص.
- من المهم بمكان أن يدرك الباحث أن عملية صياغة الإشكاليات الأساسية والتوصل للنمط الأساسي الكامن وتصنيفه وإعطائه مضموناً متعيناً لا يمكن أن تتم من خلال تحليل داخلي بنائي محض وحسب، ولا يمكن أن تتم إلا من خلال معرفة الباحث بالأنماط (والإشكاليات) التاريخية والثقافية المحيطة بالظاهرة أو النص والتي تشكل مرجعيتها. ولذا، لابد أن يقوم الباحث بتثقيف نفسه فيما يتصل بالموضوع موضع الدراسة حتى يصبح أفقه أكثر اتساعاً من أفق اللحظة المباشر والإدراك المباشر للظاهرة.
- أثناء عملية التجريد، يجب أن تظل عيون الباحث على التفاصيل حتى لا يتوه في الكل ويهمل الجزئيات، وحتى لا يطفو على سطح العموميات مهملاً المنحنى الخاص للظاهرة (لابد من التحليق والتحديق، على حد قول جمال حمدان) .(1/263)
- أثناء محاولة الوصول إلى الأنماط الكامنة، لابد أن تتضمن الأنماط والمتتاليات الافتراضية عناصر من الواقع كما هو في الحقيقة، وعناصر من الواقع كما يتخيله الآخر، ومن الرموز التي يدرك الواقع من خلالها، ومن المعاني التي يُسقطها عليه، كما لابد أن تتضمن الحدود الواقعية المادية والإمكانيات الكامنة والطموحات المثالية، فبدون تضمين هذه العناصر في النمط الافتراضي ستُستبعَد العناصر غير المادية ولن يتم رصدها.
- ستؤدي هذه العملية (بإذن الله) إلى الوصول إلى إدراك النمط الأساسي الكامن وراء كل هذه الأنماط المتشابهة أو المتنوعة والمتناقضة.
- بعد هذه العملية، لابد أن يحاول الباحث اكتشاف البُعد المعرفي الكامن وراء كل هذه الأنماط، فهو وحده الذي سيحدد جوهر الرؤية الكامنة للكون وراء الأنماط (رؤية الإنسان والطبيعة والإله) .
- عند هذه النقطة، يمكن للباحث أن يعيد ترتيب الأنماط وتركيبها حسب أهميتها، وأن يربط بعضها ببعض داخل منظومة متكاملة بطريقة تجعل العلاقات بينها تشاكل ما يُتصوَّر أنه العلاقات الجوهرية بين عناصر الواقع.(1/264)
ويمكننا الآن أن نضرب مثلاً بإحدى الظواهر ولتكن واقعة ضرب زيد لعمرو، حيث يمكن أن نرصد عدد المرات التي ضرب فيها زيد عمراً، ويمكن أن نسأل هل يضرب زيد عمراً أم أنه يضرب آخرين أيضاً؟ وما السمة الأساسية في هؤلاء الذين يضربهم زيد؟ ونبدأ في تجربة هذه العناصر ونسأل: هل من يضربهم زيد من الفقراء أم هم من الأغنياء؟ من السود أم من البيض؟ من الذكور أم من الإناث؟ وهل الضرب يتم كل يوم أم في فصول معيَّنة؟ ثم بعد قراءة كُتب التاريخ، نسأل: لم استولى جد زيد على أرض عمرو؟ هل هناك علاقة بين الضرب والاستيلاء على الأرض؟ وما مصلحة زيد من الناس في عملية البطش المستمرة هذه؟ هل يدرك كل من زيد وعمرو طبيعة علاقتهما؟ هل يقبلانها، أم أن عمراً يرفضها ويتمرد عليها؟ ما الرؤية الكامنة للكون في هذه العلاقة؟ هل يريد زيد أن يجعل من عمرو مادة استعمالية يوظفها لحسابه؟ وهل يرى عمرو نفسه باعتباره مادة أم يرى نفسه باعتباره بشراً كاملاً؟
ولنضرب مثلاً بنصين مكتوبين، وهما حديثان شريفان: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار، فلا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". أما الحديث الثاني فهو قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "بينما رجل يمشي، فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر" (أي في كل حي من الحيوان والطير ونحوهما) .(1/265)
وبإمكان الباحث أن يقوم بتقسيم الحديثين إلى وحدات مختلفة تشكل عناصرهما الأولية. ويمكن القول بأن العناصر الأولية في الحديث الأول هي: امرأة ـ قط ـ جوع ـ زيادة الجوع ـ موت ـ جهنم. أما العناصر الأولية في الحديث الثاني فهي: رجل ـ كلب ـ عطش ـ سُقيا ـ حياة ـ جنة.
عند هذه اللحظة، سيقف الحديثان كما لو كانا متناقضين، ففي الحديث الأول امرأة وفي الثاني رجل، وفي الأول هرة وفي الثاني كلب، وفي الأول جوع وفي الثاني عطش، وفي الأول بطش بالحيوان وزيادة الجوع، وفي الثاني رفق بالحيوان وري للعطش، وينتهي الحديث الأول بالموت وجهنم وينتهي الثاني بالحياة والجنة. وتحليل المضمون السطحي دائماً يقف عند هذا المستوى لا يتجاوزه وينهمك الباحث في إحصاء عدد الكلمات!
ولابد أن نزيد مستوى تجريدنا قليلاً بحيث تتجاوز عناصر كل حديث الفضاء الزماني والمكاني المباشر لكل منهما، حتى يمكن رؤيتهما في علاقة كل منهما بالآخر. وستأخذ عملية التجريد الشكل التالي: المرأة والرجل يجردان إلى إنسان ـ القطة والكلب: حيوان ـ الجوع والعطش: حالة طبيعية (حياة ـ موت) ـ البطش بالحيوان وزيادة الجوع والرفق بالحيوان وري العطش: فعل إنساني ـ موت القطة وحياة الكلب: نتيجة مادية ـ الجنة والنار: نتيجة روحية.
ثم نزيد من التجريد على النحو التالي: فاعل ـ مفعول ـ فعل ـ عاقبة. والإنسان هو الفاعل، والحيوان هو المفعول به، وثمة فعل يؤدي إلى نتيجة.(1/266)
ويمكن، عند هذه النقطة، أن نرتفع بالعملية التجريدية إلى المستوى المعرفي ورؤية الكون. ولابد من معرفة بعض المفاهيم الأساسية الحاكمة في الإسلام (الاستخلاف ـ الأمانة ـ وضع الإنسان في الكون) فهذا سيساعدنا على الوصول إلى البُعد المعرفي وإلى تحديد العلاقة بين الإنسان (الفاعل) والحيوان (المفعول به) . ومن كل هذا سنستنتج أن الحديثين يتحدثان عن علاقة الإنسان بالطبيعة وهي علاقة استخلاف واستئمان، فالإنسان يُوجَد في مركز الكون لأن الله كرمه وحباه عقلاً وحكمة. وقد أعطاه الله الطبيعة ولكنه ليس صاحبها فقد استخلفه الله فيها وحسب، وقد قَبل هو أن يحمل الأمانة، ولذا فلا يجوز أن يبددها وكأنه وحده في الكون: كائن لا متناه متأله. (لابد أن نشير هنا إلى الفلسفة البنيوية التي ترصد الواقع من خلال نماذج رياضية ولغوية عامة وتظل تُصعِّد مستوى التجريد لتصل إلى ثنائيات متعارضة عامة أو قيمة لغوية لا تقل عمومية. وهذا المستوى من التجريد وهذا المفهوم للنموذج يختلف تماماً عما نطرحه هنا) .(1/267)
- بعد تصاعدُ معدلات التجريد وظهور الأنماط الأساسية وربطها داخل منظومة متماسكة وبعد أن يتوصل الباحث إلى معالم النموذج التحليلي الذي يمكن من خلاله فهم الظاهرة أو معالم النموذج المعرفي الكامن في النص، ينبغي أن يدرك أن هذه ليست النهاية، بل هي بداية عملية جديدة إذ يتعيَّن عليه العودة إلى النص أو الظاهرة لاختبار المقدرة التفسيرية للنموذج (الذي صاغه أو اكتشفه) . فقد يكتشف الباحث بعض العناصر أو الجوانب التي لم يتوجه إليها النموذج، فيحاول أن يوسع نطاقه حتى يستوعب هذه العناصر ويفسرها. ثم يعود الباحث بعد ذلك ليختبر النموذج مرة أخرى، فعملية الصياغة عملية حلزونية، لا نهائية، مستمرة مادامت التطبيقات ممكنة على حالات مختلفة، ولا شك في أن النموذج يزداد ثراء بتعدد تطبيقاته. بل قد تتغيَّر هويته تماماً بعد أن يحاول تفسير بعض الحالات التي تشكل انقطاعاً جذرياً.
- يستطيع الباحث أن يزيد من ثراء النموذج (وتماسكه وترابطه) بأن يُجري بعض العمليات العقلية الاستنباطية ويتخيل مواقف مختلفة لم تتحقق في الواقع.
- إذا تمت عملية التفكيك والتركيب في إطار اختزالي، فإن ثمرة العملية ستكون نموذجاً اختزالياً. أما إذا تمت في إطار مركب، فإن الثمرة ستكون نموذجاً مركباً.
- إن تمت عملية التفكيك والتركيب في إطار نموذج مستقر مهيمن فهي عملية تطبيقية. ولكن بإمكان الباحث أن يقوم بعملية تفكيك وتركيب في إطار نماذج ومسلمات جديدة، وهو ما يؤدي إلى إعادة تفسير المعلومات تفسيراً جديداً ومن ثم يُعاد تصنيفها على أسس جديدة، وحينذاك يكون النموذج نموذجاً تأسيسياً.(1/268)
- من الضروري أن يدرك الباحث أن عملية التجريد (بما تنطوي عليه من تفكيك وتركيب) هي تاكتيك منهجي، فعناصر أية ظاهرة هي في نهاية الأمر غير منفصلة عن بعضها البعض ولا عن الظاهرة التي تنتمي إليها، فالظاهرة توجد ككل مُتعيِّن غير قابل للتجزيء. ولذا، لابد أن يذكِّر الباحث نفسه أن النموذج أشبه بالصورة المجازية التي لا تعكس الواقع وإنما تفسره، ولا تحيط بكل تفاصيله وإنما تحاول الوصول إلى جوهره.
- يمكن القول بأن عملية التفكيك والتركيب ونحت النماذج هي عملية «استنطاق» (أي «دفعه إلى النطق» ) . فما يحدث هو أن الباحث حين يتوصل للنموذج الكامن في نص ما ويحدد مفرداته ومفاهيمه الأساسية الكلية فإنه يصبح في مقدوره إضافة مفردات ومفاهيم أخرى غير منظورة ولكنها مُتضمَّنة في النص (ما بين السطور) ، وتُستخدَم هذه الكلمات والمفاهيم في ملء بعض الفراغات التي قد توجد في النص أو الظاهرة. وبهذه الطريقة، نحدد المعنى الدقيق لمفردات نص أو ظاهرة عن طريق ربط الجزئي بالكلي والظاهر بالكامن. والنموذج، بهذا، يوضح المسلمات (أو الكليات القَبْلية) الكامنة في الخطاب الإنساني، كما يوضح المعنى المقصود من المفردات.
- يتم تشغيل النموذج من خلال عمليتي تفكيك وتركيب تشبه تماماً عملية صياغة النموذج.
وغني عن القول أن الجهد الفكري الأساسي في هذه الموسوعة ينصب على محاولة صياغة مجموعة من النماذج التحليلية المركبة وتوضيح العلاقة بينها وربطها وتطبيقها على مجموعة من النصوص والظواهر اليهودية والصهيونية. وقد تمت عملية التفكيك والتركيب في إطار مسلمات جديدة، ومن هنا فهي موسوعة تأسيسية.
المقدرة التنبؤية للنموذج(1/269)
يمكن القول بأن النموذج كلما ازداد إحاطة بجوانب الظواهر وأبعادها المختلفة، أي كلما ازداد تركيبية، زادت مقدرته التفسيرية والتنبؤية. ونحن نرى أن استرداد العامل الإنساني (بدوافعه ورؤاه وذكرياته وأحزانه وأفراحه ومصالحه ومصلحته الحقيقية والمتخيلة) هي أهم عناصر التركيب، ومن ثم أهم العناصر في زيادة المقدرة التنبؤية للنموذج. وقد يكون من المفيد أن أضرب مثلاً بمحاولة سابقة قمت بها في محاولة رصد الواقع من خلال نموذج مركب وكيف أن زيادة التركيب تؤدي إلى زيادة المقدرة التفسيرية والتنبؤية. فقد نشرت في جريدة الرياض (المملكة العربية السعودية) مقالاً بعنوان "إلقاء الحجارة في الضفة الغربية" وذلك في 24 فبراير 1984. وتنبأت في هذا المقال بأن استخدام الحجارة سيكون أحد أشكال النضال الأساسية. والواقع أنني توصَّلت إلى هذه النتيجة من خلال عملية مركبة للغاية بدأت بإدراكي للمنحنى الخاص للوضع في الضفة الغربية. كنت أتحدث في القاهرة مع إحدى طالباتي الفلسطينيات من غزة، ولاحظت مدى ازدرائها للإسرائيليين وعدم خوفها منهم. وبدأت ألاحظ أن فلسطينيي الداخل غير منكسرين على عكسنا نحن عرب الخارج، فالفاعل الإنساني العربي هنا قوي متماسك. ثم قرأت إعلاناً عن إحدى المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، فلم أجد فيه إشارة واحدة لأرض الميعاد أو صهيون أو المُثُل "العليا" الصهيونية، أي أن الفاعل الإنساني الصهيوني محايد غير مكترث، متمركز حول ذاته.(1/270)
وبعد أن استرجعت كلاً من الفاعل الإنساني العربي والصهيوني، بدأت أرصدهما في تفاعلهما ومواجهاتهما اليومية، فأدركت أن الفاعل الصهيوني يدرك العالم من خلال حرصه الشديد على المعدلات الاستهلاكية مادية العالية التي يتمتع بها، ولذا فهو لا يملك إلا أن يسقط هذه الرؤية على العرب فيدركهم من خلال رؤيته هو للعالم. إنطلاقاً من هذا أشرت ـ في مقالي ـ إلى الوهم الإسرائيلي الذي يستند إلى الرؤية المادية بأن «المقاومة قد اجتُثَّت تماماً من جذورها» وأن هناك علامات وقرائن على ما سماه الجنرال بنيامين بن أليعازر (منظم الأنشطة في الضفة الغربية وحاكمها العسكري) " الاتجاه المتردد أو الحذر نحو البرجماتية " والذي يعني في نهاية الأمر «التكيف مع الأمر الواقع وتَقبُّله» (الجيروساليم بوست 14 نوفمبر 1983) . وقد رأى الجنرال إمكانية تقوية هذا الاتجاه عن طريق إنشاء عدد أكبر من البنوك والشركات الاستثمارية، أي عن طريق إشباع حاجات العرب الاقتصادية وإغراق هويتهم، الأمر الذي يؤدي إلى استغراقهم فكرياً في أمور الدنيا والمال بدلاً من قضايا الوطن والأرض والهوية!
ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن هذا الاتجاه التطبيعي البرجماتي، فقامت الولايات المتحدة (كما أذكر في المقال) بمد يد المساعدة إلى الجنرال الإسرائيل المذكور، فدُعي إلى الولايات المتحدة ليجتمع مع وزير الخارجية الأمريكية وكبار موظفي الوزارة ليبحث معهم كيفية تحسين مستوى معيشة العرب في الأرض المحتلة (أي مزيد من البنوك) وكيف يمكن أن تساهم الولايات المتحدة في تخفيف حدة بعض جوانب الاحتلال الإسرائيلي عن طريق المساعدات الفنية والتنموية.(1/271)
وبعد أن عرضت للرؤية الصهيونية المادية الاختزالية للعرب، حاولت أن أحدد الحالة العقلية والنفسية للصهاينة والأهداف المحددة التي يرمون إلى إنجازها، فوصفت الاستعمار الصهيوني بأنه استعمار استيطاني إحلالي لا يود استغلالنا أو استغلال مواردنا الطبيعية وحسب (كما كان الحال مع الاستعمار الإنجليزي في مصر) وإنما يرمي إلى ما يلي:
1 ـ استلاب الأرض.
2 ـ العيش فيها ناعماً براحة البال والهدوء.
3 ـ أن يسلبنا أسباب الحياة والاستمرار حتى نرحل من الأرض ليحل محلنا فيها.
والمستوطنون الصهاينة، في تصوُّرنا، هم أساساً مرتزقة، ولكن بينما كان القدامى منهم على استعداد لتَحمُّل شظف العيش وإرجاء الإشباع وانتظار المكافأة المادية المؤجلة، نجد أن المستوطنين الجدد، مع تَزايُد معدلات العلمنة، يُصرون على تحقيق مستويات معيشية وأمنية عالية عاجلة دون تأجيل. ولذا، فإن المنظمة الصهيونية تدفع لهم الرشاوي الباهظة على هيئة منازل مريحة وطرق مُعدَّة خصيصاً لهم ومدارس لأطفالهم وحراسة مشددة حتى ينعموا بالعيش في هواء «أرض الميعاد المكيَّف» . إن النموذج الإدراكي للصهاينة نموذج آلي اختزالي مادي، وبالتالي كانت رؤيتهم للعرب ولأنفسهم آلية اختزالية مادية.(1/272)
في مقابل ذلك، رصدت موقف العرب فلاحظت أنهم يرفضون الانصياع للنموذج الاختزالي المادي الذي يُطبَّق عليهم. وقد لاحَظ الجنرال بن أليعازر نفسه أن العرب يُلقون بالحجارة على الإسرائيليين، وصرَّح لجريدة معاريف (14 نوفمبر 1983) بأنه قرر وضع حد لظاهرة إلقاء الحجارة. ثم بعد يومين اثنين، اصطحب الجنرال الإسرائيلي البرجماتي أحد مؤسسي روابط القرى لافتتاح مبنى بلدية جديد في إحدى مدن الضفة. ولكن الجماهير الفلسطينية العنيدة لم تُبد أية برجماتية أو اعتدال أو تَقبُّل للقانون الطبيعي المادي، ولم تُقابل أبطال البنوك والاستثمارات بالزهور وإنما بالحجارة (الجيروساليم بوست 16 نوفمبر 1983. وقد أشرت في المقال إلى وقائع عديدة أخرى عن إلقاء الحجارة أدَّت إلى غضب المستوطنين الصهاينة وإلى مطالبتهم الجيش الإسرائيلي بالتدخل لوضع حد لهذه الظاهرة. بل إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني (كما ورد في الجيروساليم بوست 24 يناير 1984) اجتمع مع عضوي الكنيست من كتلة هتحيا وأخبرهما بأن إلقاء الحجارة من أسباب قلقه العميق ووعد بأن يدرس القضية شخصياً.
بعد أن رصدت ما تصوَّرته النموذج الإدراكي للفلسطينيين العرب وتَصوُّرهم لأنفسهم، حاولت أن أرصد إدراكهم لحالة الإسرائيليين النفسية والعقلية ولنموذجهم الإدراكي، فقلت بالحرف الواحد: "إن مواطني الضفة الغربية أدركوا أن كل ما يُنغِّص على المستوطنين (مكيفي الهواء) حياتهم هو في نهاية الأمر إحباط للمخطط الصهيوني"، ومن هنا أصبح إلقاء الحجارة سلاحاً أساسياً في الضفة الغربية. وتنبأت في المقال نفسه بأن هذا السلاح، رغم ضعفه وبدائيته، قد أصبح سلاحاً فعّالاً ستزداد أهميته.(1/273)
والواقع أنني وصلت إلى ما توصلَّت إليه من نتائج لا من خلال عملية رصد خارجية لأحداث لا معنى لها تتم على مساحة، وإنما من خلال مراقبتي لبشر لهم رؤية محدَّدة تحدِّد استجابتهم وتوقعاتهم وبالتالي سلوكهم. فالصهيوني الذي يحاول أن يرفع مستوى معيشة العرب، حتى ينسوا الوطن والهوية، هو نفسه الذي يودُّ أن يتمتع بحمام السباحة في المستوطنة والذي يصر على مستويات عالية من الراحة والمتعة. والعربي الذي يرفض الانصياع للرؤية البرجماتية التي تودُّ تطبيعه وتدجينه هو نفسه القادر على أن يدرك التآكل الداخلي للمستوطنين وتحولهم إلى شخصيات شرهة مستهلكة غير منتجة. من هنا الحجر الذي قد لا يَقتُل ولكنه يُعكر صفو المستوطنين ويُسقط معنى حياتهم. ومن هنا كانت الانتفاضة.
وتهدف هذه الموسوعة إلى تحسين المقدرة التنبؤية عند العرب عن طريق صياغة نماذج تفسيرية مركبة تتسم بقدر معقول من العمومية والخصوصية.
الباب الثانى: أنواع النماذج
أنواع النماذج: مقدمة
ليست كل النماذج نوعاً واحداً. ويمكننا تصنيف النماذج على عدة أسس:
1 ـ يمكن تصنيف النماذج على أساس مدى الكمون أو الظهور (الوعي أو عدم الوعي) :
- أهم أنواع النماذج الواعية هو ما نسميه «النموذج التحليلي» . ويتسم هذا النموذج بأن من يستخدمه واع به تمام الوعي إذ يقوم الباحث بصياغة النموذج بشكل واع لرصد وتحليل الظواهر. ومثل هذا النموذج عادةً ما يتسم بقدر عال من التكامل والاتساق المنطقي الداخلي. وعادةً ما يحاول الباحث صاحب النموذج أن يوضح للمتلقي مسلماته الكلية الكامنة. لكن وعي صاحب النموذج التحليلي بنموذجه لا يعني أنه قد نفض تحيزاته عن نفسه تماماً، فهو ولا شك يخضع لنفوذ النموذج الإدراكي الذي ورثه عن مجتمعه وبيئته. ويمكن أحياناً أن يكون النموذج التحليلي هو نفسه النموذج الإدراكي.(1/274)
- مقابل النموذج التحليلي الواعي (والمتتاليات المثالية المُفترَضة) ، نضع «النموذج الإدراكي الكامن» غير الواعي، أي النموذج الذي يُوجِّه سلوك الناس دون أن يعوا وجوده فهو يُشكِّل رؤيتهم للكون، ويُشبه قواعد اللغة الأم بالنسبة للمتحدث بها. فنحن حين نتحدث العربية لا نفكر في المبتدأ والخبر ولا في أي من القواعد التي نستخدمها إذ أننا استبطناها تماماً. والنماذج الإدراكية (غير الواعية) عادةً ما تكون غير متجانسة ولا تتسم بالنقاء أو الاتساق، بل كثيراً ما تحوي أفكاراً متناقضة مع المنطق الأساسي للنموذج (ولذا نُفضِّل تسمية هذه النماذج بـ «المنظومة» (.
2 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مدى يقينيتها واستقرارها واحتماليتها:
- والنماذج المستقرة هي تلك التي تم تجريبها واكتسبت قدراً معقولاً من اليقينية، فهي «نماذج تفسيرية مستقرة» .
- أما النماذج الاحتمالية، فهي لا تزال فرضية منفتحة تحاول أن ترصد ما هو كامن لترى هل سينتقل من عالم الإمكان إلى عالم التحقق أم لا، كما أنها محاولة لرصد ما هو مجهول لنرى هل هو موجود بالفعل أم هو مجرد وهم، فهي «نماذج تفسيرية احتمالية» .
3 ـ ويمكن تصنيف النموذج من واقع عملية التفكيك والتركيب ونوعيتها:
- فالتجريد يمكن أن يكون تفكيكاً بدون تركيب وثمرة هذه العملية هي «النموذج التفكيكي» .
- ويمكن أن يكون تفكيكاً ثم تركيباً على أسس جديدة. في هذه الحالة، يمكن القول بأن النموذج «نموذج تأسيسي» لأنه لم يكتف بتحليل الواقع أو النص من خلال المسلمات القائمة وإنما أعاد التفسير من خلال مسلمات ورؤية جديدة.
4 ـ يمكن تصنيف النماذج على أساس انفتاحها وانغلاقها:
- فإن كان النموذج يحتوي على عناصر معروفة مضبوطة بحيث تكون النتائج كامنة تماماً في المقدمات، فهو «نموذج مغلق» أو «نموذج تكامل عضوي» .(1/275)
- أما إذا كان النموذج يعترف بالمجهول ويحتوي على عناصر من المعروف والمستقر وعناصر احتمالية وعنده مقدرة على اكتشاف الجديد وغير المادي فهو «نموذج مفتوح» أو «نموذج فضفاض» أو «نموذج تكامل غير عضوي» .
5 ـ ويمكن تصنيف النماذج من منظور تركيبيتها واختزاليتها:
- فإن كان النموذج بسيطاً، ينطوي على عنصر واحد أو عنصرين، فإنه سيختزل الواقع بأسره إلى هذا العنصر أو هذين العنصرين، والنموذج هو «نموذج اختزالي» .
- أما إذا كان النموذج مركباً ينطوي على عدة عناصر ومنفتحاً على العناصر التي قد تجدُّ وعلى ما هو مادي وغير مادي فهو إذن «نموذج مركب» .
6 ـ ويمكن تصنيف النموذج على أساس درجة ارتباطه بالزمان والمكان أو تَجرُّده منها:
- فإن كان عنصر الزمان والمكان واضحاً فيه، فهو «نموذج تعاقبي» . ويرتبط بالنموذج التعاقبي مفهوم المتتالية النماذجية، وهي حلقات تَحقُّق النموذج في الزمان والمكان.
- أما إذا بهت عنصر الزمان واختفى فهو «نموذج تزامني» أو «نموذج بنيوي» يركز على البنية وحدها دون التعاقب التاريخي.
- ويمكن أن تستمر درجة التجريد إلى أن نصل إلى «النموذج الأوَّلي» (بالإنجليزية: آرك تايب archetype) ، وهو نموذج يتكرر عَبْر كل الأزمنة والأمكنة في اللاوعي الجمعي عند البشر، مثل اليهودي التائه أو فاوستوس أو السندباد البحري أو النبي الذي لا كرامة له في وطنه أو الشاطر حسن، وهو نموذج ساكن يتعامل مع الثوابت متحرراً تماماً من الأزمنة والأمكنة.
- ويمكن أن يصل التجريد درجة عالية تصل بنا إلى النماذج الرياضية أو اللغوية التي تحاول دراسة الواقع الإنساني من منظور العلاقات الرياضية أو القواعد اللغوية وهذه هي «النماذج البنيوية» .
7 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس الهدف الذي يرمي صاحب النموذج إلى تحقيقه:(1/276)
- فإذا كان صاحب النموذج يتعامل مع الواقع (وخصوصاً الطبيعي/المادي) باعتباره مجموعة علاقات بسيطة يمكن رصدها بدقة، كما هي، فهو «نموذج موضوعي» (وعادةً «مادي» ) .
- أما إذا كان صاحب النموذج يتعامل مع الواقع (وخصوصاً الإنساني) باعتباره مجموعة علاقات بين عناصر بعضها معروف وبعضها مجهول وأن هذه العلاقات مركبة إلى أقصى درجة، ومن ثم فشرحها شرحاً كاملاً وردها إلى قوانين عامة مجردة أمر مستحيل ومن ثم لا مناص من أن يقنع الإنسان بعملية التفسير، فهو «نموذج تفسيري» .
8 ـ يمكن تقسيم النماذج على أساس مفهوم العقل وعلاقته بالواقع وطبيعة الإدراك:
- فإن كان النموذج ينطوي على تَصوُّر للعقل باعتباره سلبياً متلقياً، فهو «نموذج متلقي» .
- وإذا كان النموذج ينطوي على مفهوم للعقل باعتباره مبدعاً في أية عملية إدراكية، فهو «نموذج اجتهادي» .
9 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس فكرة التراكم والتوليد:
- فإن كان النموذج موضوعياً، كان اكتساب المعرفة عملية تراكم (على صفحة العقل) وكان النموذج «نموذجاً تراكمياً» .
- وإن كان النموذج تفسيرياً، فإن اكتساب المعرفة لا يكون عملية تراكم وإنما هي أيضاً عملية إبداع وتوليد (من داخل العقل) ، وكان النموذج «نموذجاً توليدياً» .
10 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مدى واقعيتها ومثاليتها:(1/277)
- فإن أخذنا مفهوم «مثالي» بمعنى «مُتخيَّل» أو «غير متحقق بعد» أو «ما ينبغي أن يكون» ، فإننا نضع «النموذج المتحقق الفعلي» مقابل «النموذج المثالي» أي الذي لم يتحقق بعد، ويكون النموذج حينذاك منتمياً إلى عالم الآمال والتوقعات والبرامج الثورية. فالاشتراكية في الاتحاد السوفيتي كانت حلماً وصورة مُتخيَّلة إذ تصوَّر الناس أنهم لو فعلوا كذا وكذا لحققوا العدالة في المجتمع والسعادة للأفراد. ونحن نذهب إلى أن النموذج يتحقق من خلال متتالية متعددة الحلقات، وما حدث في المجتمع الاشتراكي أنه حينما تتابعت حلقاته ظهر أن النتيجة النهائية (المتتالية التي تحققت بالفعل) عكس ما كان مُتوقَّعاً (المتتالية المفترضة أو المثالية) ، وأن الأحلام لم تكن سوى كوابيس.
- ولكن كلمة «مثالي» تعني أيضاً أنه يدور في إطار المرجعية المتجاوزة للمادة. و «النموذج المثالي» بهذا المعنى هو النموذج الذي يحوي عناصر لا تنتمي للواقع المادي وتتجاوزه. ويمكن أن نضعه مقابل «النموذج الواقعي أو المادي» الذي يدور في إطار الطبيعة/المادة.
11 ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس الصورة المجازية الأساسية الكامنة فيها فنقسمها (على سبيل المثال) إلى «نماذج عضوية» وأخرى «آلية» أو «جيولوجية تراكمية» .
12ـ ويمكن تصنيف النماذج على أساس مضمونها المباشر:
- فيمكن أن يكون المضمون هو السياسة فنقول «نموذج سياسي» أو «نموذج اقتصادي» وهكذا.(1/278)
- من أهم أنواع النماذج «النموذج الحضاري» وهو النموذج الذي نتصور أنه النموذج الحاكم في حضارة ما. ودراسة هذا النوع من النماذج محفوف بالمخاطر لأن الأبعاد والاتجاهات الحضارية التي يتم التعميم بناءً عليها، عناصر غير محسوسة أو ملموسة، توجد كامنة في الواقع، داخل آلاف التفاصيل التي لا يمكن فصلها الواحدة عن الأخرى، وهي ليست تفاصيل عادية وإنما مرتبطة بالمعنى الرمزي الذي يُسقطه الفاعل الإنساني عليها. ولذا فالتعميم، بناءً على مثل هذه الأبعاد والاتجاهات، أكثر خلافية وأقل يقينية من التعميم بناءً على العناصر الاقتصادية والسياسية. ولذا فحينما نتحدث عن النموذج الحضاري الغربي الحديث، فنحن نفعل ذلك بكثير من الحيطة والحذر.
- نحن نذهب إلى أن نموذج التأرجح بين الواحدية الذاتية (التمركز حول الذات) والواحدية الموضوعية (التمركز حول الموضوع) وبين الصلابة والسيولة هو نموذج عام له مقدرة تفسيرية عالية.
- ومن أهم النماذج التي ظهرت مؤخراً نموذج الما بعد (كما في مصطلح «ما بعد الحداثة» (.(1/279)
ورغم أننا قمنا بفصل هذه النماذج بعضها عن بعض، فإن هذا ضرورة تحليلية وحسب، فكل النماذج رغم اختلاف مضامينها وبنيتها مترابطة. فالنموذج، مهما بلغ من سطحية ومباشرة، يحوي بُعداً معرفياً نهائياً. وأي نموذج تفسيري، تحليلي أو إدراكي، يتسم بصفات مختلفة حيث إن نموذجاً ما يمكن أن يكون نموذجاً تفسيرياً اجتهادياً توليدياً مركباًً ويكون الآخر نموذجاً موضوعياً متلقياً تراكمياً اختزالياً، وهكذا. وعادةً ما تتسم النماذج المادية الموضوعية بالتراكمية والاختزالية والانغلاق، فهي تطمح إلى أن تَردَّ الواقع بأسره إلى مستوى واحد تدركه الحواس، أما ما لا تُدركه الحواس فلا وجود له. كما أنها تحاول أن تفسر الواقع تفسيراً شاملاً يحيط بكل جوانبه وأن تصل إلى مستوى عال من اليقينية. هذا على عكس النماذج التي تصدر عن رؤية مادية وغير مادية في آن واحد، فهي نماذج تفسيرية اجتهادية تتسم بالتوليدية والتركيبية والانفتاح، تطمح للوصول إلى مستوى معقول من التفسيرية ولا تطمح إلى الوصول إلى تفسيرات جامعة مانعة، ولذا فهي تقنع بقدر معقول من اليقينية دون محاولة للوصول إلى اليقينية التامة.
وقد استخدمنا كلمة «نموذج» في هذه الموسوعة للإشارة لكل هذه المدلولات. وحاولنا توضيح المعنى المقصود إما صراحةً أو من خلال السياق.
النموذج التصنيفى(1/280)
«صَنَّف الأشياء» عبارة معناها: جعل الأشياء أصنافاً وميَّز بعضها عن بعض. ومن ذلك تصنيف الكتب وتصنيف العلوم. التصنيف، إذن، هو أن تجعل الأشياء أصنافاً وأضرباً على أساس يَسهُل معه تمييز بعضها عن بعض، أو أن تُرتَب المعاني بحسب العلاقات التي تربط بعضها بالبعض الآخر كعلاقة الجنس بالنوع أو الكل بالجزء. والنظام التصنيفي نظام هرمي بالضرورة يفترض وجود مركز وهامش، وقمة وقاع، ومهم وغير مهم. وهناك أسس تصنيفية عديدة، كل تصنيف له منطقه الخاص. فيمكن أن يتم التصنيف على أساس الانتماء الديني أو على أساس الانتماء العرْقي، كما يمكن التصنيف على أساس تاريخي أو على أساس بنيوي، المهم أن يتم التصنيف من خلال نموذج تفسيري يمكنه أن يبيِّن ما هو مهم ومركزي في ظاهرة ما. فالرصد الموضوعي الأفقي التراكمي يأتي بالمعلومات والمعطيات المختلفة ولكنه لا يمكنه ترتيبها أو تصنيفها إلا بشكل سطحي أو عشوائي، كأن يصنفها على أساس ألفبائي أو على أساس أي عنصر ثانوي يرد فيها. فيُقال إن قصة " ذات الرداء الأحمر " هي قصة عن الذئاب أو عن الغابة أو عن النبات أو عن اللون الأحمر وليس عن الانتقال من البراءة إلى الخبرة أو المواجهة بين الإنسان والطبيعة ... إلخ. كما أن الرصد الموضوعي قد يكون عاماً جداً فيُقال " تعاملت هذه الدراسة مع اليهود " دون تخصيص أو تحديد.(1/281)
وهذه الموسوعة تطرح نموذجاً تفسيرياً جديداً، ومن ثم فإن منطقها التصنيفي مختلف عن الدراسات الأخرى. على سبيل المثال، نحن نرى أن الصهيونية حركة ليست ذات جذور يهودية وإنما حركة ذات جذور غربية استعمارية تهدف إلى تخليص أوربا من اليهود عن طريق توطينهم في فلسطين، ومن ثم فنحن نرى أنها لا تُوضَع (أو تُصنَّف) كمقابل ظاهرة العداء لليهود وإنما هي امتداد لها. وقد طُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد صياغتها على أيدي بعض المفكرين غير اليهود على الجماهير اليهودية، وفي بعض الأحيان فُرضت على هذه الجماهير فرضاً. ومن هنا، يصبح عداء بلفور لليهود أمراً بالغ الأهمية، وتصبح شخصية مثل ألفريد نوسيج، الذي شارك في تأسيس الحركة الصهيونية مع هرتزل (لتخليص أوربا من اليهود) ثم امتد به العمر ليُقدِّم للجستابو مخططاً لإبادة يهود أوربا، ليس مجرد شخصية هامشية تشكل انحرافاً عن مسار الصهيونية وإنما يجب تصنيفه باعتباره شخصية نماذجية دالة، ومن هنا أهمية معاهدة الهعفراه بين النازيين والصهاينة. وقد طرحنا أيضاً نموذج الجماعة الوظيفية كنموذج تفسيري أساسي، وبناءً عليه أصبحت تجربة يهود بولندا في ظل الإقطاع الاستيطاني ونظام الأرندا في أوكرانيا وعلاقتهم بطبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) ذات أهمية محورية. فمن خلال نموذجنا التفسيري أصبحت هذه الوقائع التي تُهمَّش في كتب التاريخ الصهيونية ذات دلالة نماذجية عميقة، وتم تصنيفها على هذا الأساس.
التعاقب والتزامن (نموذج تاريخى وبنيوى أو يدور حول موضوعات)(1/282)
«تعاقَب الشيئان» عبارة معناها «خَلَف أحدهما الآخر» ، و «تعاقَب القوم في الشيء أو الأمر» معناها «تناوبوه» ، ومن ذلك كلمة «تعاقُب» . أما «التزامن» ، في علم الطبيعة، فهو ما يتفق مع غيره في الزمن. ومن ثم، يجيء «التعاقُب» في مقابل «التزامن» . والوجود الإنساني يكون داخل كل من التعاقُب والتزامن، فالأيام تجري الواحدة تلو الأخرى، ومراحل حياة الإنسان تتعاقب وكذا الفصول. والتجربة الأساسية في حياة الإنسان (التاريخ والزمن) هي أيضاً تجربة تعاقُب، فتدول الدول وتحل محلها أخرى.
ولكن، إلى جانب التعاقُب، توجد تجربة التزامن. فإذا كان الزمان متغيِّراً، فإن المكان يتسم بقدر أكبر من الثبات، بل إن الزمان المُتعاقب نفسه يأخذ شكل أنماط متكررة تتسم بنفس السمات ومن ثم بقدر من الثبات. وهكذا يعيش الإنسان في تَعاقُب وتَزامُن يتغير ويتطور دون أن يعني تغيُّره وتطوُّره تحوُّله الكامل.(1/283)
والتضاد بين التعاقب والتزامُن مقولة أساسية في الفلسفة البنائية التي تُعرِّف البنية بأنها مجموعة العلاقات بين العناصر المختلفة للظاهرة والتي تعطي لهذه الظاهرة هويتها وتضفي عليها خصوصيتها. ومن يؤمن بالتَعاقُب وحسب يرى أن العالم لا ثبات فيه وأن كل الأمور زمنية نسبية (وهذا هو جوهر التفكير التاريخاني [بالإنجليزية: هيستوريسيست historicist] ) ، أما من يؤمن بالتزامُن فهو يؤمن بالثبات والجمود وكأن الشيء الوحيد الحقيقي هو المُثُل الأفلاطونية وأن الواقع إن هو إلا انعكاس خافت لها، ومن ثم يكون البحث عن الثابت دون المتحول. والفكر الكموني الواحدي المادي يتأرجح بين التعاقُب والتزامُن (تماماً مثلما يتأرجح بين الذات والموضوع من جهة، واليقين الكامل والنسبية الكاملة من جهة أخرى) . وهو انعكاس للإشكالية الأساسية في النظم الكمونية بين النزعة نحو تأليه الكون وإنكاره. فالنزعة نحو تأليه الكون تأخذ شكل تَبنِّي نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التَعاقُب (نماذج تاريخية) ، أما النزعة نحو إنكاره فتتبني نماذج تفسيرية لا تعرف سوى التزامُن والثبات (نماذج بنيوية) . ويُلاحَظ الانتقال من النماذج التفسيرية التاريخية إلى النماذج التفسيرية البنيوية في الحضارة الغربية، فقد كانت النماذج التفسيرية التاريخية تسود فيها في عصر المادية البطولي والتحديث مع الإيمان بفكرة التقدم وبمقدرة الإنسان على أن يسيطر على الزمان والمكان من خلال مسار التاريخ. ومع أن النزعة الإمبريالية الغربية تنزع نحو إنكار تواريخ الآخرين (كما يفعل الصهاينة مع الفلسطينيين) ، إلا أنها نزعة تستند أيضاً إلى رؤية تاريخية محددة للذات باعتبارها ثمرة تطور تاريخي حتمي وضعها في قمة سلم التقدم والتطور وأسبغ عليها حقوقاً مطلقة لهذا السبب. ولكن، مع فقدان الإنسان الغربي ثقته في نفسه ومع تراجُع الإمبريالية، بدأ الإنسان الغربي يفقد ثقته في التاريخ كمجال لتَحقُّق ذاته التاريخية،(1/284)
وبدأ الانتقال إلى نماذج بنيوية (الانتقال من هيجل وماركس إلى كيركجارد ونيتشه وأخيراً دريدا) ، وبدأ الاهتمام بالأسطورة التي عرَّفها ليفي شتراوس بأنها آلات لخنق الزمان إلى أن نصل إلى أسطورة نهاية التاريخ.
والنموذج الذي نتبناه في هذه الموسوعة لا هو بالمتعاقب ولا هو بالمتزامن وإنما يحاول الجمع بينهما. فنحن نؤمن بوجود إنسانية مشتركة توجد داخل النظام الطبيعي، جانب منها خاضع لقوانين المادة والحركة والتعاقب (النزعة الجنينية) ، وهي في الوقت نفسه متميِّزة عن النظام الطبيعي المادي إذ يوجد فيها أيضاً القبس الإلهي (النزعة الربانية) . ولذا، فهي جزء من الطبيعة/المادة خاضعة لقوانين الحركة والتغير (التعاقب) التي لا تتم بشكل عشوائي وإنما حسب سنن وتأخذ شكل أنماط ثابتة (التعاقب) . وهذه الإنسانية تدور داخل أنماط إنسانية عامة مشتركة (التزامن) ولكنها لا تتحقق دائماً (كلها وبنفس الصورة) ، كما أنها تتحقق داخل الزمان (التعاقب) ويمكنها أن تحقق قدراً من الاستقلال والثبات (التزامن) ، (الثبات الكامل لله وحده وهو يوجد خارج النظام الطبيعي تماماً) .
وبهذا المعنى، فإننا نرى أن ثمة تداخلاً بين المتعاقب والمتزامن، ولذا فإن البنَى التاريخية بنَى متغيرة متعاقبة ولكنها تتبع نمطاً معيَّناً (ليس مطلقاً ثابتاً ومقرراً بصورة مسبقة) ، وهذا يعني أن ثمة مجالاً دائماً للحرية والفوضى، والانتصار والانكسار؛ أن ثمة إمكانية دائمة للمأساة والملهاة. ونحن في هذه الموسوعة نستخدم نماذج تحليلية تاريخية (مبنية على التعاقب) ونماذج تحليلية بنيوية (مبنية على التزامن) .
النموذج الآلى والنموذج العضوى(1/285)
نحن نذهب إلى أن ثمة نموذجين أساسيين في الحضارة الغربية، نموذج آلي ونموذج عضوي، وقد سُميا كذلك لأن كل واحد منهما يحوي صورة مجازية مختلفة: الصورة المجازية الآلية (العالم آلة) أو الصورة المجازية العضوية (العالم كائن حي) يُعبِّران عن الطبيعة/المادة. الصورة المجازية الأولى تُصوِّر العالم على هيئة آلة حركتها آلية والمبدأ الواحد فيها براني، ولذا فهي تتحرك مدفوعة من الخارج. أما الثانية فتُصوِّر العالم على هيئة كائن حي حركته حركة عضوية والمبدأ الواحد فيها جواني، ولذا فهي تتحرك مدفوعة من خلال نموها الداخلي وكلا النموذجين يستبعد الحيز الإنساني ويستوعبه. ويُلاحَظ أنه في عصر ما بعد الحداثة بدأت كل من الصور المجازية العضوية والآلية في الاختفاء أو التحرك نحو الهامش ليحل محلها صور تُعبِّر عن التفتت أو عن سطح مصقول بلا أعماق. ونحن نستخدم في هذه الموسوعة نموذج التكامل غير العضوي أو النموذج الفضفاض.
نموذج التركيب الجيولوجى التراكمى
«التركيب الجيولوجي التراكمي» عبارة نستخدمها لنشير إلى أحد النماذج التفسيرية الذي يحاول أن يصف عمق عدم التجانس الذي تتسم به العقيدة/العقائد اليهودية، والهوية/الهويات اليهودية، وإلى أن نقط الاختلاف بين هذه العقائد والهويات أهم من نقط التشابه بينها. ويمكن لنسق ما أن يتسم بعدم التجانس وعدم الترابط (كما هو الحال في نموذج التكامل غير العضوي) . ولكن التنوع يظل داخل إطار من الوحدة، فالنموذج لابد أن يكون له مركز وركيزة نهائية وحدود وسمات بنيوية تفصله عن غيره من الأنساق، وقد يتشابك النموذج مع غيره من النماذج ويتداخل. ولكن مهما بلغت درجة التنوع في النموذج ودرجة تشابكه مع النماذج الأخرى، فلابد أن يتصف بعدة سمات أساسية وجوهرية (ركيزة أساسية) تشكل هويته وتَصلُح أساساً لتفسيره وتصنيفه وعزله عن غيره من النماذج.(1/286)
ولكن التركيب الجيولوجي التراكمي يتسم بأنه يتكون من طبقات جامدة مستقلة تراكمت الواحدة فوق الأخرى ولم تُلغ أية طبقة جديدة ما قبلها. وقد تتشابه هذه الطبقات وقد تختلف وقد تتفق أو تتناقض، غير أن السمة الأساسية لها هي أنها تتجاور وتتزامن وتتواجد مع بعضها ولكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تُلغي الواحدة الأخرى. ويمكن تشبيه التركيب الجيولوجي التراكمي بالجبل الذي قد تكون داخله طبقة جيولوجية من الحجر الجيري وأخرى من الحجر الرملي وثالثة من الفوسفات ورابعة من الذهب، لكل طبقة طبيعتها المستقلة وبنيتها المادية وتاريخها الذي يزداد طولاً وقصراً حسب الطبقة، ولا ينتظم كل الطبقات سوى وحدة شكلية خارجية، أي وجودها كجزء من هذا الجبل. وبالطبع، يمكن الاستمرار في التشبيه لنقول إن بعض هذه الطبقات توجد في الجبل عن طريق الصدفة، وأنها ممتدة في باطن الأرض قبل الجبل مستمرة بعده في الوادي المجاور، وأن وجودها في الجبل حدث مصادفة.
وإذا كانت الصورتان المجازيتان الآلية والعضوية صورتين مجازيتين واحديتين تؤكدان أشكالاً مختلفة من الوحدة والتماسك، فإن استعارة التركيب الجيولوجي التراكمي تشير إلى عدم التماسك وعدم وجود وحدة من أي نوع، فكل طبقة جيولوجية هي بنية مستقلة. والنموذج الجيولوجي لا يتسم بالتعددية كما قد يبدو لأول وهلة، فالتعددية تفترض قدراً من الوحدة المبدئية، حيث لا تنوع دون قدر من الوحدة ولا بنية إن غابت المعايير المركزية والسمات الأساسية، والتركيب الجيولوجي يفتقر إلى مثل هذه الوحدة.(1/287)
وتوجد داخل العقيدة اليهودية طبقات مختلفة متصارعة أهمها الطبقة التوحيدية والطبقة الحلولية الكمونية. وتاريخ اليهودية هو تاريخ الصراع بين هاتين الطبقتين والذي انتهى بانتصار الحلولية الكمونية وهيمنتها. أما داخل الهويات اليهودية، كتركيب جيولوجي، فإن تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية هو أهم الطبقات أو مكونات الهويات اليهودية المختلفة. ومن المعروف أن أعضاء الجماعات الوظيفية يؤمنون برؤية حلولية كمونية للكون، ومن ثم تلتقي الطبقات الحلولية والوظيفية (وكلاهما يؤدي إلى العلمانية الشاملة) .
النموذج الموضوعى المادى (المتلقى)
«النموذج الموضوعي المادي (المتلقي) » هو النموذج الذي ينطلق من الرؤية الموضوعية المادية المتلقية (انظر: «مشكلة الموضوعية الذاتية» ) . ونحن نذهب إلى أن النماذج الموضوعية المادية لها فعاليتها في مجالها (عالم الظواهر الطبيعية) ولكنها تفقد فاعليتها وتصبح أداة اختزال حين تُطبَّق على الظواهر الإنسانية، فهي حينذاك تختزل الإنساني إلى الطبيعي. ولذا لابد من استخدام نماذج تفسيرية اجتهادية. والنماذج الموضوعية المادية يمكن أن تكون اجتهادية مبدعة ولكن يمكن أن تكون متلقية، وهذا ما يحدث عادةً حين تُستخدَم في رصد الإنساني.
ونحن نضع «النموذج التفسيري (الاجتهادي) » مقابل «النموذج الموضوعي المادي (المتلقي) » ، ومنطلقاتهما المعرفية مختلفة تماماً، بحيث يمكن تقسيم كل النماذج إلى موضوعية متلقية (تتسم بالتراكم والانغلاق والاختزال) وتفسيرية اجتهادية (تتسم بالتوليدية والانفتاح والتركيب (.
النموذج التفسيرى (الاجتهادى ((1/288)
يمكن القول بأن منطلقات النموذج التفسيري (الاجتهادي) هي عكس منطلقات النموذج الموضوعي المادي (المتلقي) . ولذا قد يصلح النموذج الموضوعي المادي في تفسير بعض جوانب الواقع الطبيعي، ولكنه يخفق تماماً حينما يحاول تطبيقه على ظاهرة الإنسان. إذ يقوم النموذج الموضوعي المادي باستبعاد الإنسان كعنصر فاعل مركب كما يقوم أحياناً بتبسيط الطبيعة نفسها ثم إعطائها الهيمنة على الإنسان، أما النموذج التفسيري فهو ينظر إلى الطبيعة باعتبارها كياناً مركباً تنبض بالحياة وتمور بالأسرار وتتسم باللاتحدد، ولكنها، مع هذا، تتبع سنناً ولها هدف وغاية. وكل شيء في الطبيعة له مكانته ووظيفته وقيمته في ذاته، فالعالم كل متكامل (ومن المنظور التوحيدي، كل شيء في الكون قد ناله نصيب من التكريم لأنه من خلق الله وبديع صنعه) . وهذا يعني أن الإنسان ليس موجوداً في الكون بمفرده، فالكائنات الأخرى لها مكانها، والإنسان لم يُمنَح هذه الأرض ليهزمها ويوظفها ويسخرها لنفعه وحده دون حدود، فلابد له من الحفاظ عليها (لأنه ـ حسب الرؤية التوحيدية ـ قد استخلفه فيها من هو أعظم منه، فكرَّمه ووضع حدوداً عليه) .
إن العالَم المبارك المدهش الذي نعيش فيه عالَم مركب ثري، مليء بالمسافات والثغرات والثنائيات الفضفاضة والأسرار (التي لا يُسبَر لها غور) . هذا العالَم يحوي داخله ما هو معروف ومحسوس وما هو مجهول وغير محسوس، وما هو حلم وما هو غيب (والغيب هنا هو غير المادي الذي لا يُقاس ولا يمكن إدخاله بقضه وقضيضه في شبكة السببية الصلبة) وهو ليس بسطح أملس يمكن رده إلى مبدأ واحد كامن فيه (كما يرى دعاة الكمونية الواحدية المادية من العقلانيين الموضوعيين الماديين) .(1/289)
ولكن أهم منطلقات النموذج التفسيري (الاجتهادي) هو إدراك أن ثمة حيزاً إنسانياً يتحرك فيه الإنسان ويمارس فيه إنسانيته، ومن ثم يصبح مختلفاً عن الكائنات الطبيعية، فهو كائن مركب وعنصر حر مسئول، يتجاوز حتميات النظام الطبيعي/المادي ولا يمكن أن يُردُّ في كليته إليه ولا يمكنه أن يمتزج بالظواهر الطبيعية ويذوب فيها، فهو جزء يتجزأ من الواقع المحيط به لا يُستوعَب قط فيما حوله. هذا يعني أن ثمة ثنائية أساسية تُترجم نفسها إلى انفصال بين الإنسان المركب والواقع الطبيعي المادي، فالإنسان لا يتصل مباشرةً (من خلال جهازه العصبي) بالطبيعة لأن عقله متناه لا يمكنه أن يعكس الواقع كله، ولكنه لهذا السبب مبدع حتى في أبسط عمليات الإدراك فهو يدرك الواقع من خلال رموزه وذكرياته ونماذجه، وهو إنسان مركب لا يمكن معرفة دوافعه فهي مركبة إذ تحركه دوافعه المادية الأرضية كما تحركه أفكاره وأحلامه وذكرياته، والمعنى الذي يتسع للأشياء والرموز التي يستخدمها للتعامل معه، كما تحركه منظومته القيمية والجمالية التي قد تهديه سواء السبيل وقد تضلله، ولذا فهو قادر على النبل الخساسة، وعلى الخير والشر.
كل هذا يعني ما يلي:
1 ـ لا يمكن دراسة الواقع الإنساني المركب من خلال النماذج السلوكية الواحدية البسيطة التي ترى الإنسان كائناً يتحرك في بيئة مادية يُرْصد بشكل آلي.
2 ـ لا يمكن دراسة الإنسان من خلال نموذج الرصد الموضوعي المادي الذي لا يكترث بالمعنى والرموز والدوافع والحرية.
3 ـ لا يمكن دراسة هذا الإنسان من خلال نموذج واحدي يدور في إطار السببية الواحدية والعمومية، إذ يتطلب الأمر دراسته من خلال عدة مستويات ودرجات مختلفة من السببية والتعميم والتخصص.(1/290)
4 ـ لا يمكن تَصوُّر إمكان الإحاطة بكل جوانب هذا الإنسان أو إمكان الوصول إلى درجات عالية من اليقين، إذ تظل هناك أجزاء مستقلة عن الكل، ومنحنيات خاصة مستقلة عن الاتجاه العام وزوايا لا تستطيع العقلانية المادية المستنيرة أن تصل إليها.
5 ـ والمعرفة ليست مجرد تراكم وإنما هي أيضاً محاولات اجتهادية مستمرة، فإلى جانب التراكم يوجد الاكتشاف المستمر. فالعملية المعرفية عملية لا نهاية لها، ولذا لا نهاية للتاريخ.
6 ـ الهدف الكلي والنهائي من وجود الإنسان في الأرض ليس التحكم في العالم وحوسلته وإنما هو التمتع بالأرض والاستفادة منها داخل حدود دون تبديدها.(1/291)
إن الإنسان كائن مركب يعيش في عالم براني مركب وعالم جواني مليء بالأسرار، ولذا فإن محاولة "شرح الإنسان" شرحاً كاملاً وتفسيره تفسيراً كاملاً وإدخاله شبكة السببية الصلبة والمطلقة هو ضرب من ضروب الخيلاء، ومحاولة التوصل إلى قوانين صارمة أو تفسيرات كلية نهائية وصيغ جبرية بسيطة تفسر كل شيء محاولة ساذجة بلهاء، كما أن محاولة الوصول إلى المعرفة الكاملة محاولة فاوستية شيطانية محكوم عليها بالفشل، ولهذا فنحن نطرح مفهوم الاجتهاد كإطار معرفي كلي ونهائي. والاجتهاد يعني أن يحاول الدارس المجتهد الوصول إلى قدر من المعرفة عن الظاهرة موضع الدراسة يجعلها معقولة إلى حدٍّ ما وربما إلى حدٍّ كبير، وليس بالضرورة معقولة ومفهومة تماماً، أي أنه من الممكن شرح بعض جوانب الظاهرة (لا الظاهرة كلها) ، ورد بعض جوانبها (لا الظاهرة بأسرها) إلى القوانين العامة، كما يمكن رصد جزء من الواقع لا الواقع كله. والاجتهاد يعني رفض الموقف الإمبريالي من الواقع الذي يود الإمساك به كله ويحاول أن يدفع به في شبكة السببية الصلبة والمطلقة والقانون العام. وهذا لا يعني بالضرورة سقوطاً في العدمية الكاملة أو النسبية المطلقة، فالاجتهاد يمكن أن يدور في إطار الإيمان بوجود مطلقات وثوابت ويمكن للباحث أن يتعامل مع الأمور الكلية والنهائية والمطلقة دون أن يكون خطابه نهائياً ومطلقاً. ويمكن أن يصل الباحث إلى قدر من اليقين ولكنه يقين ليس بكامل. وثمة تَواصُل ولكنه ليس باتصال والتحام عضويين، ومن ثم فإن المعرفة التي يتوصل إليها معرفة نسبية ولكنها ليست نسبية بشكل مطلق وإنما تظل نسبية بصورة نسبية (فالكمال لله وحده، وفوق كل ذي علم عليم، وهو وحده الذي يعلم ما في الصدور، مركز العالم، المفارق له، وغير الكامن في إنسان أو شيء) . وهذا ما يمكن أن نسميه «العقلانية أو الموضوعية الاجتهادية» (في مقابل «العقلانية المادية والموضوعية المتلقية المادية» ) . والنموذج(1/292)
التفسيري (الاجتهادي) هو الأداة التحليلية المُثلى التي يمكن من خلالها تجاوز إشكالية الذات والموضوع، فالنموذج أداة تحليلية يصوغها العقل من خلال عملية تجريد (استبقاء واستبعاد) لعناصر الواقع، فهو ثمرة لتفاعل الذات مع الموضوع، وهو صياغة ذهنية (ذاتية) لمجموعة من المعطيات والعلاقات المادية (الموضوعية) . وكما قال الإمام أبو حنيفة "خذ رأيي واطلب دليلي".
والنموذج التفسيري (الاجتهادي) يختلف عن نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي) ، فهو ليس أداة رصد سلبية موضوعية تتلقى المعلومات جاهزة صلبة نهائية من الواقع وتؤرشفها وتحاول إدخال كل الظواهر في إطار شبكة السببية الصلبة أو في إطار قوانين عامة تنطبق على كل الحالات في كل الأزمنة والأمكنة، وإنما هو عملية تركيب واكتشاف للمعطيات المتاحة وترتيبها ومحاولة اكتشاف أنماط متكررة ومحاولة الربط بينها مع إدراك كامل للفرق بين الإنسان والطبيعة/المادة والفرق بين المناهج التي يمكن استخدامها لدراسة الظاهرتين الإنسانية والطبيعية. كما أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) يحاول تفسير بعض جوانب الظاهرة ويقَنَع بها دون محاولة تفسير الظاهرة ككل، فهو يستطيع أن يتعايش مع المجهول. وفي إطار النموذج التفسيري (الاجتهادي) ، يصبح أساس اختيار الحقائق، لا الحقائق نفسها، هو ما يشكل مدى صدقها من زيفها. فالصدق والكذب ليسا كامنين في الحقائق الموضوعية نفسها وإنما في كيفية تناولها وفي القرار الخاص بما يُضَم وما يُستبعَد منها. ولذا، لا يصبح السؤال: ما الحقائق؟ ولكن: ما أهم الحقائق أو ما الحقائق الدالة؟ ويصبح ترتيب الحقائق هرمياً حسب أهميتها أكثر أهمية من مجرد تسجيلها أفقياً بشكل متجاور، ويصبح تعريف ما هو مركزي وهامشي أهم من مجرد مراكمة المعلومات. وتصبح العلاقات بين المعطيات أكثر أهمية من المعطيات نفسها. وعلى كلٍّ، هذا هو جوهر الإبداع: اكتشاف علاقات جديدة في الواقع وتحديد ما هو مركزي(1/293)
وهامشي وتفكيك الواقع وإعادة تركيبه في ضوء هذا الاكتشاف
وبعد أن يُصاغ النموذج التفسيري (الاجتهادي) ، لا يمكن أن نقول إن هذا نموذج خاطئ أو مصيب بطريقة أحادية فجة، وإنما نطلب إخضاعه لعملية اختبار (فهو مجرد اجتهاد) . وحينما يُخضَع للاختبار، فلابد أنه سيفسر بعض المعطيات في الواقع ولكنه سيعجز عن تفسير البعض الآخر. وفي هذه الحالة، لا يُوصَف النموذج بعدم الموضوعية، فالنموذج لا يُحكَم عليه بمقدار موضوعيته وذاتيته (فهو ابتداءً مزيج من الموضوعية والذاتية لأنه تركيب) وإنما يُحكَم عليه في إطار مقدرته التفسيرية والتنبؤية، وفي إطار تركيبيته. فالنموذج الذي يفسر أكبر قدر ممكن من التفاصيل والعلاقات ويربط بينها ويتنبأ بعدد كبير من الظواهر هو النموذج الأكثر تفسيرية (الذي يُقال له موضوعي) ، وهو نموذج المجتهد الذي أصاب (فله أجران) ، أما النموذج الذي يفسر عدداً أقل من التفاصيل والعلاقات والذي يتسم بأن مقدرته التنبؤية ضعيفة فهو النموذج الأقل تفسيرية (والذي يُقال له ذاتي) نموذج من اجتهد ولم يفلح تماماً (فله أجر واحد) . وبالتالي، لا يصبح المعيار هنا كم المعلومات الذي تمت مراكمته وإنما جدواها في التفسير: وبذا يحل النموذج التفسيري مشكلة استقطاب الذات والموضوع. فالنموذج الذي تبنته حركات التمركز حول الأنثى قادر على تفسير بعض جوانب وجود المرأة وبعض مشاكلها، ولكنه عاجز عن تفسير المرأة في كليتها كأم وزوجة وأخت. وهذه الجوانب الكلية المركبة تحتاج إلى نموذج أكثر تركيبية.(1/294)
وبعد اختبار النموذج، يمكن إعادة صياغته حتى يمكنه استيعاب المعطيات الجديدة التي فشل في تفسيرها، أي أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) ليس صيغة نهائية تنجح أو تفشل (ولذا فنحن ندعو إلى إعادة صياغة النماذج التفسيرية الغربية بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وبعد أزمة الرأسمالية) . ويُلاحَظ أن النموذج التفسيري (الاجتهادي) ليس نموذجاً استبعادياً، فالعناصر التي يظهر أنها أقل تفسيرية لا تُرفَض ولا تُستبعَد وإنما تفقد مركزيتها وتُنقل إلى الهامش، وهي قد تنتقل إلى المركز مرة أخرى فيما بعد، وقد توضَع في المركز داخل متتالية احتمالية يتم من خلالها رصد عناصر المستقبل الكامن في الحاضر.
والنموذج التفسيري (الاجتهادي) لا يدَّعي أن الراصد آلة فوتوغرافية تسجل موضوعياً ما حولها بدون اختيار وبدون قيم مسبقة وإنما هو يُسمِّي الأمور بأسمائها ويحدِّد للقارئ التحيزات والمكونات الذاتية الكامنة في المعرفة الموضوعية حتى يتحرز القارئ ولا يتصور أن ما يُقدِّم له هو الموضوع والواقع بل مجرد محاولة اجتهادية للوصول لهما (والله، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، أعلم) . إن الذات الراصدة تعلن عن حدودها وتعلن أنها ستتوصل إلى جانب وحسب من الموضوع، لا الموضوع كله، ومن خلال اعترافها هذا فإنها تُحقق قدراً أكبر من الموضوعية.(1/295)
وقد استخدمنا في هذه الموسوعة نماذج تفسيرية لا تدَّعي لنفسها الموضوعية الكاملة ولا المقدرة التفسيرية الشاملة الكاسحة، وهي ليست سوى محاولة اجتهادية لتفسير أكبر قدر من جوانب الظواهر اليهودية والصهيونية موضع الدراسة حسب ما هو متوافر من المعطيات والمعلومات حتى هذه اللحظة. وقد طرحنا ثلاثة نماذج تفسيرية مختلفة ومتداخلة: الحلولية الكمونية ـ العلمانية ـ الجماعة الوظيفية ونموذج التركيب الجيولوجي التراكمي. فإن تناولنا قضية مثل قضية الرأسماليين من أعضاء الجماعات اليهودية الذين تسميهم الأدبيات الشائعة «رأسماليون يهود» ، فنحن لا نرفض ما هو متوافر من معلومات وإنما نقبله (إن لم يكن مُختَلقاً) ثم نوسع سياق الظاهرة لتسمح بإضافة معلومات أخرى استبعدتها هذه الأدبيات وبذلك يمكننا اختبار نموذجنا التفسيري والبرهنة على مقدرته التفسيرية التي تفوق المقدرة التفسيرية للنماذج السائدة التي نراها أكثر ضيقاً واختزالاً، أي أقل تفسيرية.
أكثر تفسيرية وأقل تفسيرية
نحن نذهب إلى أن مصطلح «موضوعي» يفترض وجوداً موضوعياً مطلقاً مغلقاً مستقلاًّ يمكن للعقل (الذي يشبه الصفحة البيضاء) رصده بشكل موضوعي محايد تماماً، وهو عقل قادر على الإحاطة بكل شيء ولكنه في الوقت نفسه قادر على الإذعان، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، للواقع المادي الصلب، فهو يدور في إطار مرجعية موضوعية مادية تستبعد الإنسان بهويته وذاتيته وأشواقه وغائيته. أما مصطلح «ذاتي» فهو يفترض وجود ذات فريدة مطلقة مغلقة (متأيقنة) تدور في إطار مرجعية ذاتية خالصة تستبعد الواقع والزمان. وهذه حالة استقطاب مستحيلة، فالواقع المُعاش يختلف عن هذا تماماً.(1/296)
ونحن نطرح مصطلحي «أكثر تفسيرية» و «أقل تفسيرية» بدلاً من مصطلحي «موضوعي» و «ذاتي» لأنهما يستعيدان الواقع المعاش مرة أخرى، كما يستعيدان الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية، وهي طبيعة بشرية مستقلة عن المادة إلى حدٍّ ما فهي تتحرك داخل الحيز الإنساني، ولذا فهي تتمتع بقدر من الثبات وحرية الاختيار، ولكنها، في الوقت نفسه، ليست مستقلة تماماً عن العالم الموضوعي أو عن الحيز الطبيعي، فهي تتعامل معه وتدركه. والتفسير يقوم به إنسان مجتهد يجتهد وقد يصيب (فله أجران) أو يجتهد وقد يخطئ (فله أجر واحد) ، أي أنه يُدرك أن تفسيره ليس التفسير النهائي، وأنه لا يَجبُّ التفسيرات السابقة وإنما يحاول استيعابها. وداخل هذا الإطار يمكن تحقيق قدر عال من «الموضوعية» عن طريق إدراك الباحث أنه ليس خلواً من الأفكار كالصفحة البيضاء، ولذا فهو يستطيع الاحتفاظ بمسافة بينه وبين أفكاره بحيث يمكنه أن يخضعها للتساؤل والاختبار. كما يمكن أن يخلق الباحث مسافة بين المتلقي وأفكاره عن طريق تنبيهه إلى ذاتيته وأفكاره المسبقة. وعملية التفسير لا تتم في فراغ وإنما هي تفسير لواقع موضوعي يوجد خارج الإنسان، ولذا يمكن اختبار التفسير «الذاتي» بالعودة للواقع «الموضوعي» . وقد عرَّفنا ما هو «أكثر تفسيرية» بأنه النموذج القادر على تفسير أكبر عدد من المعطيات والربط بينها، كما أن اختيار النموذج هو اختيار مقدرته التنبؤية، فكلما زادت مقدرته أصبح أكثر تفسيرية. ولذا فالمناداة برفض مصطلحي «ذاتي» و «موضوعي» لا يعني رفض الرؤية العلمية (بالمعنى المركب الذي نطرحه) ولا رفض التجريب واختبار الأطروحات. فالتمييز بين ما هو «أقل تفسيرية» و «أكثر تفسيرية» لا يتم في فراغ وإنما يتم من خلال عمليات مركبة من التفكير العقلي والتجريب العملي والمعملي في الظروف التي تقتضي ذلك.
النموذج التوليدى والنموذج التراكمى(1/297)
يتبدَّى الصراع بين النموذج الموضوعي (المتلقي) المادي مع النموذج التفسيري (الاجتهادي) في النقاش الدائر حول الإدراك كعملية توليدية تراكمية، أو كعملية تراكمية وحسب. فالعقل (حسب الرؤية الموضوعية المادية) جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة خاضع لقوانينها لا يتجاوزها، فهو صفحة سلبية بيضاء تسجل الواقع بشكل شبه فوتوغرافي. وعملية الإدراك حسب الرؤية الموضوعية هي عملية تلق تتراكم من خلالها المعطيات الحسية على عقل الإنسان (ذرة على ذرة ـ معلومة على معلومة ـ حقيقة بجوار حقيقة) . وهي عملية ترابطية إذ تترابط هذه المعطيات بشكل تلقائي آلي. والإنسان، حسب هذه الرؤية، هو إنسان طبيعي/مادي، ولذا فإن ثمة تصوراً بأن ثمة قانوناً طبيعياً/مادياً عاماً واحداً يسري على كل الظواهر المادية والإنسانية، ومن هنا الإيمان بوحدة العلوم وبإمكانية تطبيق النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية والنماذج الكمية على الإنسان. وثمة تَصوُّر بأن كل الناس (والعلماء) يسألون الأسئلة نفسها ويصلون إلى الإجابات نفسها (إن توافرت الظروف الموضوعية) ، ومن ثم فإن عملية تراكم المعرفة عملية مستمرة تتبع خطاً مستقيماً واضحاً وتتم على مستوى الجنس البشري بأسره، ومن هنا ظهور النماذج واحدية الخط (بالإنجليزية: يوني لينيار unilinear) التي ترى أن ثمة نقطة واحدة تتقدم نحوها المعرفة ويتم الحكم على المعرفة من منظور مدى اقترابها من هذه النقطة أو ابتعادها عنها. والمفروض أن عملية التراكم هذه ستؤدي إلى التزايد التدريجي لرقعة المعلوم وإلى تَحكُّم الإنسان في الطبيعة وفي نفسه، وهذا ما سميناه «النموذج التراكمي» . وهذا المفهوم هو المفهوم الأساسي الكامن في فكر هوبز وماكيافيللي وإسبينوزا ولوك وفكر حركة الاستنارة وعلم النفس الترابطي والسلوكي والفلسفة الوضعية وغيرها من الفلسفات المعادية للإنسان والتي تحاول إزاحته عن مركز الكون.(1/298)
ولكن هناك من يرى أن العقل ليس صفحة بيضاء، وإنما هو أداة نشيطة مبدعة في أثناء أبسط عمليات الإدراك والتلقي، ولذا فهو قادر على تجاوز الطبيعة/المادة. وهذا النقد يضرب بجذوره في الرؤية المتمركزة حول الذات والإنسان التي تجعل عقل الإنسان هو موضع الكمون ومن ثم تؤكد فعاليته واستقلاليته عن الطبيعة/المادة (وبالتالي حريته ومقدرته على الاختيار) . وأصحاب هذه الرؤية يذهبون إلى أن الحقيقة ليست نتيجة تراكم معطيات حسية على صفحة العقل المادية وعمليات التجريب، فليست كل المعرفة مكتسبة، إذ أن ثمة جزءاً هاماً من المعرفة الإنسانية يُولَد من داخل عقل الإنسان نفسه (ومن هنا تسمية هذا النموذج «النموذج التوليدي» ) ، وهذا الجزء هو الذي يجعل المعرفة الإنسانية إنسانية ومركبة وجوانية ومستعصية للرصد السلوكي البراني من خلال نماذج العلوم الطبيعية والكمية. والأفكار المركبة ليست نتيجة ترابط آلية تتم بشكل تلقائي بين المعطيات المادية وإنما هو نتيجة لجهد إبداعي من جانب البشر. كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن القانون الطبيعي/المادي العام يسري على بعض جوانب من الإنسان ولكنه لا يسري عليه في كليته، ولا يمكن تطبيق النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية والنماذج الكمية على الإنسان. ولعدم وجود قانون عام، فالمعرفة لا يمكن أن تتبع خطاً مستقيماً واضحاً وإنما يعني أن كل إنسان يسأل أسئلة مختلفة نابعة من موقفه ولحظته، وهذا يعني أن الخاص لا يذوب تماماً في العام ولا يفقد أهميته أو قيمته، وأن المعرفة لا تؤدي بالضرورة إلى تزايد تحكُّم الإنسان في الطبيعة والإنسان.(1/299)
وقد تَجلَّى هذا النموذج من خلال كتابات كثير من الفلاسفة الغربيين لعل أولهم ديكارت (رغم تأرجحه بين النموذج المتمركز حول الطبيعة/المادة والنموذج المتمركز حول الإنسان) والذي أكد وجود أفكار كامنة في عقل الإنسان. وقد كان الفيلسوف الإيطالي جان باتيستا فيكو (1668 ـ 1744) من أهم المدافعين عن المقدرة التوليدية للعقل البشري. وتدور فلسفة كانط حول الأفكار المفطورة في عقل الإنسان (مقولات الزمان والمكان والحس الخلقي والحس الجمالي) . كما تَجلَّى النموذج في فكر حركة العداء للاستنارة (الفكر الرومانسي) وكل الفلسفات التي ترفض الرؤية التجريبية والفلسفة الوضعية التي تركز على محاولة اكتشاف بنَى العقل والوعي العميق مثل الفلسفة الفينومينولوجية والوجودية والبنيوية وعلم نفس الجشطالت وعلم النفس عند يونج وبياجيه وعلم اللغة عند تشومسكي. ويشترك كل هؤلاء في أنهم يؤمنون بوجود جوانب في الفكر الإنساني لا يمكن تفسيرها على أساس النموذج التراكمي (الموضوعي المادي) ، وهو ما يدل على أنها ليست نتاج التجربة أو تراكم المعطيات الحسية، وأنها تضرب بجذورها في المقدرات الكامنة في عقل الإنسان ومقدرته على إعادة صياغة ما يتلقاه من معطيات مادية من الواقع. وقد أعطى كل مفكر اسماً مختلفاً لهذه المقدرة: الوعي الجمعي بما يحويه من رموز عند يونج ـ النمو حسب بنية كامنة عند بياجيه ـ المقدرة اللغوية عند تشومسكي ـ البنية عند البنيويين. فتشومسكي، على سبيل المثال، وجد أن الطفل الإنساني لو تعلَّم اللغة عن طريق اكتسابها من العالم المادي لاحتاج لسنوات طويلة من حياته. كما لاحظ أن الطفل يستخدم بعض قواعد القياس ويقوم بعمليات تجريد لم يعلِّمها له أحد، ولا يمكنه اكتسابها بشكل تدريجي عن طريق التعلم، ولذا طرح رؤيته عن العقل التوليدي.(1/300)
ويُلاحَظ أن العنصر الذي يشير إليه دعاة النموذج التوليدي هو عادةً عنصر يتجاوز العالم المادي الحسي المباشر ولكنهم مع هذا يرون أنه ليس له وجود خارج العالم الطبيعي، فهو عنصر كامن في عقل الإنسان مفطور فيه (عقل الإنسان وليس دماغه) إذ لا يمكن العثور على خلايا مادية داخل هذا الدماغ يمكن أن نشير إليها بشكل تجريبي ونقول: "هذا هو العضو التشريحي الذي تُولَد منه اللغة والأبنية" (أي أن الغدة الصنوبرية التي كان ديكارت يحاول التوصل إليها ليس لها وجود) . ويمكن القول بأن مدرسة فرانكفورت التي تؤسس نظريتها النقدية على أساس وجود إمكانية إنسانية كامنة دائمة لا يمكن استيعابها في الوضع القائم هي التي تجعل الإنسان قادراً على التجاوز والنقد، هذه المدرسة تتبنى رؤية توليدية للعقل الإنساني. وغني عن القول أن من يتبنى رؤية مركبة (مادية وروحية) للإنسان، لابد أن يَتبنَّى النماذج التوليدية ويتخلى عن النماذج التراكمية.(1/301)
ونحن نستخدم في هذه الموسوعة نموذجاً توليدياً. فنحن نؤمن بوجود ما نسميه «الإنسانية المشتركة» (لا الإنسانية الواحدة أو الطبيعة البشرية الثابتة) ، وهي مقدرة كامنة في كل البشر تتحقق بدرجات متفاوتة تتحدَّد باختلاف البشر وظروفهم ومقدرتهم على التجاوز. ولكن مهما بلغت درجة تحقُّقها فإن هذه المقدرة الكامنة لا يمكن أن تُردَّ في كليتها إلى العالم المادي. ومن ثم، فنحن نفترض أن ثمة تماثلاً بين البشر وأن من الممكن أن تسلك مجموعة من الأشخاص نفس السلوك بطريقة متشابهة دون أن يكونوا قد أثروا أو تأثروا ببعضهم البعض (بشكل مادي مباشر) . فالذي يوجه سلوكهم ويولد أفكارهم هو هذه المقدرة الإنسانية المشتركة. ولكن، ورغم هذا التماثل، إلا أن الواحدية لا يمكن أن تسود، إذ أن كل إنسان وكل مجموعة بشرية تنتج حضارتها التي تحقق إنسانيتها الكامنة من خلال عناصر محدَّدة في الزمان والمكان تعطي هذه الحضارة خصوصية وتفرداً لا تعزلها عن بقية البشر وإنما تبيِّن انتماءهم الإنساني الذي لا يقبل إلا التنوع والتعدد. وإن طبقنا هذا على أعضاء الجماعات اليهودية فيمكننا القول بأن كل جماعة يهودية لها خصوصيتها وتفرُّدها (الذي تستمده من المجتمع الذي يعيش أعضاء الجماعة اليهودية بين ظهرانيه) ، ولكنهم مع هذا بشر، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، يشعرون بما نشعر به، ويحبون ويكرهون، وينتصرون وينكسرون، ويتفاعلون مع البيئة التي حولهم فيشكلونها ويتشكلون بها وتتنازعهم النزعات الجنينية والربانية، شأنهم في هذا شأن البشر كافة. وسلوكهم من ثم ليس نتيجة مجموعة أفكار يقرأونها هنا أو هناك وإنما هو نتيجة هذه المقدرة الكامنة فيهم (للخير والشر) . ولذا، إذا انخرط أعضاء الجماعات اليهودية في المحافل الماسونية بأعداد ملحوظة (على سبيل المثال) ، فهذا ليس بسبب اكتشافهم الأفكار الماسونية وإنما هو تعبير عن النزوع الجنيني الكامن في الإنسان نحو الحلولية، هذا النزوع قد(1/302)
تَشكَّل من خلال البيئة الفكرية والاجتماعية في أوربا في القرن الثامن عشر وتَصاعُد معدلات العلمنة التي عبَّرت عن نفسها في المراحل الأولى من خلال الفكر الماسوني.
ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الاهتمام القومي العلماني بالأرض، فقد يقول البعض إن هذا يعود إلى أسفار موسى الخمسة حيث يرتبط الإله بشعبه وبأرضه ارتباطاً عضوياً حلولياً، وإن الفكرة وجدت طريقها إلى العلمانية الحديثة من خلال العهد القديم وأعضاء الجماعات اليهودية، وكأن الفكرة كيان مادي ينتقل كالبضاعة من مكان إلى آخر مع أن الأرض هي إحدى المفردات الأساسية في الخطاب الحلولي الذي يشكل العهد القديم أحد تجلياته وحسب إذ أن فكرة الأرض المقدَّسة (ككيان يحتوي داخله على القداسة) تُوجَد في معظم الوثنيات القديمة وفي كثير من المعتقدات الشعبية. وقد يكون من الأفضل أن نرى أن الحلولية نموذج كامن في الخطاب الإنساني يُعبِّر عن رغبة الإنسان الدفينة في العودة إلى الأرض واختزال الواقع تماماً، وهو نموذج تتولَّد منه مفردات أساسية مختلفة ويُعبِّر عن نفسه من خلال تجليات مختلفة (القبَّالاه اليهودية ـ القبَّالاه المسيحية) ، وأن هذا النموذج تحوَّل تدريجياً من الصياغات الدينية داخل وحدة الوجود الروحية إلى الصياغات المادية داخل وحدة الوجود المادية، وأن تَحوُّله هذا هو نفسه ظهور العلمانية الحديثة.
ونحن، إن تخلينا عن النموذج التوليدي في التفسير، سنلاحظ أن هناك مجموعة من الأفكار المتشابهة يتداولها أعضاء الجماعات اليهودية، فنجد أنفسنا نتجه نحو التفسير التآمري إذ نرى أن اليهود أينما كانوا يقومون بدس نفس الأفكار ونشرها والترويج لها فنظن أنها مؤامرة عالمية كبرى دون أن ندرك أن الصينيين ـ على سبيل المثال ـ حينما يوضعون في نفس الوضع كثيراً ما يؤكدون نفس الأفكار ويسلكون نفس السلوك.(1/303)
نموذج التأرجح بين الواحدية الذاتية (التمركز حول الذات) والواحدية الموضوعية المادية (التمركز حول الموضوع) وبين الصلابة والسيولة
نموذج الثنائية الصلبة الناجم عن الصراع بين الواحدية الذاتية (التمركز حول الذات) والواحدية الموضوعية المادية (التمركز حول الموضوع) هو نموذج كامن في تلك النزعة الجنينية التي تشكل جانباً مهماً من إنسانيتنا المشتركة. ويتبدى هذا النموذج عبر تاريخنا البشري في منظومات فكرية وظواهر اجتماعية مثل: الحلولية الكمونية (الروحية والمادية) والعلمانية الشاملة والجماعات الوظيفية (أـ ترمز إلى الواحدية الذاتية [التمركز حول الذات] ، ب ـ ترمز إلى الواحدية الموضوعية المادية [التمركز حول الموضوع] . ويُلاحَظ أن كل الظواهر التي رصدناها تتبع نمط أـ ب إلا وحدة الوجود الروحية فهي مقلوب هذا النمط ب ـ أ) .
1 ـ وحدة الوجود الروحية:
ب) يود المتصوف الحلولي، الزاهد في الدنيا وعالم الجسد، أن يترك الدنيا تماماً ليعود إلى الإله ويتحد به ويفنى فيه، كي يتحقق جوهره الرباني تماماً.
أ) إن تم الاتحاد الكامل وفناء الإنسان في الإله، فإن الفاصل بين الإله والإنسان يُمحى، وبدلاً من فناء الإنسان في الإله يفنى الإله في الإنسان، وبدلاً من إخضاع الذات للإله تتغول الذات وتتوحش.
2 ـ وحدة الوجود المادية (العلمانية الشاملة) :(1/304)
أ) يبدأ الإنسان العلماني في عالم الطبيعة/المادة، عالم الحواس الخمسة، فيبحث عن الإشباع الفوري والمباشر لحواسه وغرائزه، وعن تحقيق الحد الأقصى من الحرية الفردية والمتعة الشخصية، فلا إرجاء ولا تأجيل لإشباع الغرائز والحاجات، إذ يجب أن تختفي كل الحدود وأن تُزال كل القيود والسدود. وهكذا يركز العقل العلماني على عالم الذات وعالم الحواس والمعطيات المادية، مستبعداً أي شيء يتجاوز ذلك، فالإله والقيم المطلقة أفكار مجردة تجاوز حدوده. ويتزايد التركيز على الشخصي والمباشر والمتعين حتى يصبح جسد الإنسان الحقيقة النهائية والمطلقة الوحيدة وتصبح الأعضاء التناسلية (في الخطاب ما بعد الحداثي) الصورة المجازية النهائية.
ب) مع اختفاء المسافة بين الإنسان والطبيعة/المادة يذوب الإنسان فيا ويفقد ما يميِّزه كإنسان ويجد نفسه خاضعاً للحتميات الطبيعية، الموضوعية المادية. والطبيعة/المادة مجموعة من القوانين المجردة التي لا تكترث بالإنسان ولا بخصوصيته، ومن ثم تختفي تدريجياً كل الأشكال الخاصة والمتعينة وتحل محلها القوانين الطبيعية المجردة، والمعادلات والأرقام.
يتميَّز التمركز حول الذات وحول الموضوع بالصلابة. ولكن في إطار العلمانية الشاملة لا يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ تنتقل المنظومة ككل من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة (التي سنرمز لها بـ جـ) .
جـ) يحل المبدأ الواحد في كل الأشياء فتتعدد المراكز ويصبح العالم لا مركز له، وبدلاً من الواحدية الموضوعية تظهر الواحدية الذرية السائلة، حيث تصبح كل ذرة مستقلة بذاتها، ومن ثم ننتقل إلى حالة السيولة.
3 ـ الجماعات الوظيفية:
أ) الجماعات الوظيفية جماعات تؤمن برؤية حلولية للكون فترى نفسها مركز الكمون فهي مرجعية ذاتها، مكتفية بذاتها، تنظر للآخر باعتباره شيئاً للانتفاع.
ب) في تمركزها حول ذاتها، يتمركز عضو الجماعة الوظيفية حول وظيفته ويفقد ذاته فيها.(1/305)
ويُلاحَظ أن مرحلة التمركز حول الذات (الواحدية الذاتية) لا تختلف في جوهرها عن التمركز حول الموضوع (الواحدية الموضوعية) ومن ثم تنشأ الثنائية الصلبة التي عادةً ما تُحسم لصالح الواحدية الموضوعية.
نموذج الما بعد
من أهم النماذج التي ظهرت نموذج «الما بعد» (ما بعد هي ترجمة لكلمة «بوست post» الإنجليزية وتنويعاتها الغربية المختلفة) . وهو نموذج يشير إلى ما بعد ظاهرة ما دون أن يحدد شكل هذا الما بعد ولا اتجاهه. فهناك على سبيل المثال حديث عن «ما بعد الأيديولوجيا» ، و «المجتمع ما بعد الصناعي» ، و «ما بعد الرأسمالي» ، و «ما بعد الميتافيزيقا» ، و «ما بعد الصهيونية» ، وبطبيعة الحال «ما بعد الحداثة» . ونموذج الما بعد يؤكد أن النموذج السائد (الرأسمالية ـ الحداثة.. إلخ) لم تَعُد له فعالية ولم يعد قادراً على تفسير الواقع الذي يشار إليه بأنه «رأسمالي» أو «حداثي» . ولكن رغم أن القديم قد أخذ يموت إلا أن الجديد لم تتضح معالمه تماماً. ونظراً لعجز الإنسان الغربي عن تسميته الظاهرة الجديدة فإنه يكتفي بالإشارة إليها من خلال كلمة «ما بعد» . وفي تصوُّرنا أن كلمة «ما بعد» تعني «نهاية» (وهي تظهر في اصطلاح «نهاية التاريخ» التي تعني «نهاية التاريخ الإنساني كما نعرفه» ) . ولكن لعل الإنسان الغربي قد وجد كلمة «نهاية» راديكالية وجذرية وتبلور الأمور أكثر مما ينبغي، ولذا اكتفى بكلمة «ما بعد» .
الباب الثالث: النموذج الاختزالي والنموذج المركب
النموذج الاختزالى
تشكل أطروحات نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي) التربة الخصبة (وليس السبب الوحيد) لظهور النماذج الاختزالية التي تتسم بما يلي: التماسك الشديد ـ البساطة ـ التجانس ـ الواحدية ـ السببية الصلبة ـ الطموح نحو شمولية التفسير ـ الطموح نحو درجة عالية من اليقينية ـ الطموح نحو الدقة المتناهية في المصطلحات.(1/306)
والنموذج الاختزالي (الذي يمكن أن يُشار إليه أيضاً بـ «النموذج البسيط» و «النموذج المُغلَق» و «النموذج الواحدي» و «النموذج المُصمَت» و «النموذج الموضوعي المادي (المتلقي) » ) يتجه نحو اختزال العالم إلى عدة عناصر (عادةً مادية) بسيطة. فالظواهر، حسب هذا النموذج، ليست نتيجة تفاعُل بين مركَّب من الظروف والمصالح والتطلعات والعناصر المعروفة، والمجهولة من جهة، وإرادة إنسانية حرة وعقل مبدع من جهة أخرى، وإنما هي نتاج سبب واحد بسيط عام أو سببين أو ثلاثة (قد يكون قانوناً طبيعياً واحداً، أو دافعاً مادياً واحداً، أو قوة مدبرة خارقة) ، تنطبع على عقل متلق لهذا القانون أو الدافع أو القوة. والعنصر المشترك هنا هو استبعاد الفاعل الإنساني ورده إلى ما هو دونه (الطبيعة/المادة أو هذا العنصر الواحد أو ذاك) فالنموذج الاختزالي لا يُفرِّق بين الطبيعة/المادة والإنسان. ومهما تنوَّعت الأسباب وتعدَّدت فإن التنوع والتعدد، من منظور النموذج الاختزالي، مسألة ظاهرية، إذ أن كل الأسباب عادةً ما تنحل كلها وتمتزج، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، لتصبح مبدأً واحداً ثابتاً لا يتغيَّر، تخضع له كل الظواهر بشكل مباشر يُلغي كل الخصوصيات والثنائيات وأشكال التنوع.
ولهذا السبب فإن النماذج الاختزالية نماذج مطلقة مغلقة ترى التاريخ كياناً يتحرك بطريقة واحدة ونحو نقطة واحدة. وأحداث التاريخ والواقع الإنساني ككل هي نتاج بطولة بطل أو بطلين، أو نتاج عقل واحد متآمر وضع مخطَّطاً جباراً وصاغ الواقع حسب هواه، أو نتاج نظرية ثورية فورية أو فكرة انقلابية جذرية أو عودة مشيحانية أو حتمية تاريخية أو بيئية أو وراثية أو العنصر الاقتصادي أو الدافع الجنسي.(1/307)
هذا المبدأ الواحد يمكن أن يكون روحياً (الإله ـ البطل ـ العقل الثوري ـ المؤامرة الكبرى) أو مادياً (قانون الحركة ـ العنصر الاقتصادي ـ العنصر الجنسي) أو روحياً اسماً، مادياً فعلاً (نَفَس العالم ـ روح الشعب) . وفي الحالة الأولى، يُفسَّر كل شيء تفسيراً روحياً أو مثالياً أو تآمرياً (فلا موجود إلا هو) . وهذا هو التفكير الديني المتطرف الذي يؤدي إلى الإرهاب والذي يعلن نهاية التاريخ المشيحانية والعودة إلى العصر الذهبي أو صهيون. أما في الحالة الثانية، فإن كل شيء يُفسَّر تفسيراً مادياً (ولا موجود إلا هي: الطبيعة/المادة، أو قانون الحركة) . وهذا هو التفكير العلماني الشامل المادي المتطرف الذي يؤدي إلى النسبية والعدمية وإلى أشكال مختلفة من الإرهاب الفكري والفعلي مثل الستالينية وإعلان الحل النهائي النازي أو نهاية التاريخ الليبرالية أو اليوتوبيا التكنولوجية (التي أوشكت على التحقق في الحضارة الغربية كما هو الزعم هذه الأيام) .
ويمكن أن نصف هذا التصور الواحدي للتاريخ بطريقة مغايرة فنقول إن المبدأ الواحد في النماذج المغلقة لا يتجاوز العالم ولا يظل منزَّهاً عنه، وإنما يتجسَّد فيه. وحينما يتجسَّد فيه، ينغلق النسق وتُلغَى الثنائيات الفضفاضة والخصوصيات. ويدور هذا النموذج في إطار السببية الصلبة المطلقة المغلقة حيث تُوجَد وحدات بسيطة تتفاعل بشكل بسيط لتؤدي إلى نتائج بسيطة يمكن رصدها ببساطة وبحيث تؤدي (أ) حتماً إلى (ب) دائماً في كل زمان ومكان. وكل شيء لابد أن يدخل شبكة السببية الصلبة حتى نستطيع أن نصل إلى التفسير الكامل الشامل. وكل هذا يعني سيادة الواحدية السببية وسيادة الحتمية. وحينما يتعامل هذا النموذج مع العام والخاص والكل والجزء فإنه يذيب الجزء والخاص في الكل والعام تماماً بحيث لا يتعامل إلا مع الكل والعام.(1/308)
ومهما كان أساس التفسير أو طبيعة التوجه السياسي أو الفلسفي للنموذج الاختزالي، فإن الرؤية المعرفية الكامنة واحدة؛ وهي رؤية تذهب عادةً إلى أن عقل الإنسان كيان سلبي متلق يُسجِّل كل ما ينطبع عليه من معطيات مادية بشكل آلي، أو أن الواقع بسيط مكوَّن من عنصر واحد أو اثنين، ومن ثم فالعلاقة بين العقل والواقع بسيطة يمكن رصدها ببساطة، فالعقل إما أن يتحكم في الواقع تماماً أو يذعن له تماماً. هذا يعني في واقع الأمر أن السمة الأساسية للنماذج الاختزالية هي استبعادها التركيبية تماماً واستبعادها الفاعل (المدرك) الإنساني.(1/309)
هذا هو وصف النموذج الاختزالي في عصر العقلانية المادية الشمولية. وقد حدثت ثورة عارمة ضد هذه الرؤية الاستنارية وضد هذا النسق المغلق الواحدي الصلب وظهر الفكر المعادي للاستنارة الذي يصل إلى قمته عند نيتشه. ولكن الثورة تمت في نفس الإطار المعرفي (الكلي والنهائي) المادي. ولذا رُفض الإطار التفسيري الاختزالي الشامل وحل محله إطار يرفض فكرة التفسير نفسها ولكنه لا يقل عنه اختزالية، فبدلاً من فكرة الكل المادي ظهرت فكرة الغياب المادي للكل، وبدلاً من المطلقات الشاملة ظهرت النسبيات المطلقة، وبدلاً من التحدُّد الكامل ظهر اللاتحدُّد الكامل، وبدلاً من السببية الصلبة ظهرت اللاسببية والصدفة، وبدلاً من التماسك المُصمَت ظهرت الذرية والتشتت، وبدلاً من اليقين الكامل ظهر الشك الكامل، وبدلاً من التركيز على العام وإنكار الخاص تم التركيز على الخاص وإنكار العام، وبدلاً من التجانس المتطرف ظهر اللاتجانس المفرط، وبدلاً من البساطة السطحية ظهر التأيقن المنغلق على ذاته، وبدلاً من الرغبة في التحكم الإمبريالي ظهرت السيولة الكاملة، أي بدلاً من العقلانية المادية (والاستنارة المنيرة) ظهرت اللاعقلانية المادية (والاستنارة المظلمة) . وظهور التفكيكية (التقويضية) هو تعبير عن هذا الوضع، فكل شيء نسبي لا يمكن الوصول إليه، فهو غير محدَّد ومُرجأ. فكأن اللوجوس، بدل أن يتجسَّد في كل شيء (على طريقة الحلولية الكمونية الواحدية) ، انسحب منه تماماً وغاب واختفى (مات الإله، على حد قول نيتشه) . ولكن ما يجمع الاثنين هو الصورة المجازية الأساسية للتجسد: فإما حلولية عضوية كاملة نتيجة التجسد الكامل أو تشظ آلي كامل نتيجة لغياب التجسد. ولذا، فإذا كانت العقلانية المادية أنتجت نماذج واحدية مادية، فإن اللاعقلانية المادية تعادي فكرة النماذج، أو تكتفي بإنتاج نماذج لاعقلانية مادية، نماذج مايكرو صغيرة لا تتعدى فعاليتها نطاق ظاهرة أو اثنين. وهكذا يتم
التأرجح بين الواحدية التفسيرية والواحدية اللاتفسيرية.(1/310)
والنماذج الاختزالية ذات جاذبية خاصة للأسباب التالية:
1 ـ عملية نحت النماذج المركبة (بما تتضمنه من عملية التجريد والتفكيك والتركيب) عملية صعبة للغاية تتطلب جهداً إبداعياً واجتهاداً خاصاً، ولذا فإن ما يحدث في كثير من الأحيان أن يقوم الناس أثناء عملية التفسير بعملية تجريد تفكيكية اختزالية أبعد ما تكون عن التركيب وتتسم بالتبسيط والوضوح والتحرك في إطار السببية البسيطة (الروحية أو المادية) واليقينية المطلقة أو شبه المطلقة. فيستبعدون بعض العناصر ذات القيمة الأساسية في عملية الفهم والتفسير والتغيُّر التي لم يُدرك صاحب النموذج الاختزالي أهميتها، بحيث يصبح التعامل مع الواقع مسألة سهلة وتصبح النتائج التي يتوصل لها الباحث يقينية (تقترب من اليقينية التي يتوصل لها الباحث في الظواهر الطبيعية) الأمر الذي يُولِّد لدى الإنسان وهم التحكم الكامل في واقعه والتفاؤل الشديد البسيط. والعقل الإنساني، منذ أن وُجد الإنسان، دائم البحث عن صيغة بسيطة يمكنه عن طريقها تفسير كل شيء والتحكم في كل شيء وحل كل مشاكله: خاتم سليمان أو مصباح علاء الدين أو جملة سحرية أو معادلة رياضية أو قانون علمي واحد يفك به كل الشفرات ويحل به كل الألغاز ويفتح به كل الكنوز، فثمة رغبة طفولية جنينية كامنة في النفس البشرية تدفع الإنسان إلى محاولة الوصول إلى عالم فردوسي لا صراع فيه ولا تَدافُع ولا اختيارات أخلاقية، عالم كل الأمور فيه واضحة لا لبس فيها ولا إبهام، ومن ثم يمكن التحكم فيه تماماً.(1/311)
2 ـ أدَّى شيوع وهم الموضوعية الكاملة المتلقية والواقع الخام إلى شيوع النماذج الاختزالية، فنحن كثيراً ما نتصور أن الحقائق هي الحقيقة وأن الواقع الخام هو مُستَقَرها، ولذا فنحن نحاول أن نكون موضوعيين تماماً في رصد الحقائق فلا نُعْمل عقولنا. ومعظم الحقائق التي يأتي بها الاختزاليون حقائق موضوعية ووقائع ثابتة حدثت تحت سمع الناس وبصرهم، فهم لا يختلقون الحقائق (في أغلب الأحيان) وإنما يجتزئونها، ولكن كثيراً ما تكون الحقائق التي يذكرونها تافهة هامشية جزئية لا علاقة لها بالحقيقة الكلية (ولذا فهي تُسمَّى بالإنجليزية: ترو لايز true lies أكاذيب حقيقية، أي كلمة حق جزئي يُراد بها باطل كلي) .
3 ـ النموذج الاختزالي هو النموذج السائد في الصحافة والإعلام على وجه العموم، بسبب أن المشتغل بالإعلام عادةً ليس عنده فسحة من الوقت للنظر العميق في الوقائع التي يكتب عنها (فرئيس التحرير يود أن يجد الخبر فوراً على مكتبه) ولذا ارتبط الإعلام تماماً بالآن وهنا وبما يسمونه الأحداث الساخنة، التي يضطر الإعلامي لعزلها عن أي سياق أو خلفية تاريخية أو اجتماعية وأية دوافع إنسانية مُركَّبة وأية إشكاليات سابقة. وإن حدث وأدرك الإعلامي بعض الأبعاد المركبة للحادثة التي يكتب عنها فهناك مشكلة أن السيد رئيس التحرير الافتراضي يريدها في حيز صغير جداً (200 كلمة ـ 3 دقائق) . وقد أدَّى كل هذا إلى سيادة النماذج الاختزالية على الإعلام والإعلاميين، وبسبب سيطرة الإعلام على عقول الناس بدأت النماذج الاختزالية تهيمن على السواد الأعظم من البشر.
4 ـ وقد عمَّق هذا الاتجاه ظهور الصورة كمصدر أساسي للمعرفة، فالصورة منغلقة على نفسها توصِّل رسالتها بشكل مباشر إلى وجدان الإنسان العادي، الأمر الذي لا يتيح له أية فرصة للتأمل أو التفكر.(1/312)
5 ـ لا شك في أن إيقاع الحياة الحديثة ذاته الآخذ في التسارع لا يسمح بأي تأمل أو تفكُّر، ولذا فمن الأفضل للإنسان أن يدور في إطار الصيغ اللفظية الجاهزة (الكلشيهات) والصور النمطية.
والأسباب السابقة تجعل البشر وبخاصة في العصر الحديث، يميلون إلى تبنِّي النماذج الإدراكية والتحليلية الاختزالية. غير أن هناك عناصر تكمُن في واقع أعضاء الجماعات اليهودية ساعدت على انتشار النماذج الإدراكية الاختزالية التبسيطية بين دارسي الظواهر اليهودية.(1/313)
1 ـ لعل من أهم هذه الأسباب أن ظاهرة الجماعات اليهودية ظاهرة شديدة التركيب وعدم التجانس. فهم ينتمون لعدة مجتمعات في مراحل تاريخية مختلفة وغالبيتهم تعيش في الوقت الحاضر في الولايات المتحدة. ولكن هناك كتلة بشرية يهودية في الشرق الأوسط تدَّعي أنها أقامت دولة يهودية. وهم يوجدون في كل الطبقات القائمة، فمنهم كبار الرأسماليين في الولايات المتحدة ومنهم الحرفيون البدائيون في إثيوبيا. لكن العقل البشري (ربما تأثُّراً بالرؤية التوراتية والإنجيلية لليهود) نظر إليهم باعتبارهم شعباً واحداً (مقدَّساً أو شاهداً أو شهيداً أو مختاراً أو وضيعاً أو منبوذاً) ثم هيمنت مقولة وحدة اليهود هذه وتم رصد أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم ظاهرة واحدة ينتظمها إطار واحد، وتمت عملية التراكم المعرفي في هذا الإطار الذي يفترض وجود مثل هذه الوحدة الوهمية. وقد استنام معظم الباحثين لهذه الأطروحة السهلة، ولم يَعُد أحد يختبرها مع أنها قابلة للاختبار بالعودة إلى الواقع المتنوع الثري وغير المتجانس للجماعات اليهودية في التاريخ. ولو فعلنا ذلك لاكتشفنا أن اليهود ليسوا يهوداً والسلام، بل هم جماعات يهودية لا ينتظمها تاريخ يهودي واحد وإنما تواريخ إنسانية متعددة، ولاكتشفنا أيضاً أن عناصر عدم التجانس بين هذه الجماعات أكثر أهمية من الناحية التفسيرية من العناصر المشتركة بينها، وأن الجماعات اليهودية «جماعات» أكثر أهمية من كونها «يهودية» . ولكن التوصل إلى هذا المستوى من التعميم يتطلب جهداً بحثياً وإبداعياً شاقاً، عادةً ما يستغرق وقتاً طويلاً، إذ يجب أن يقوم الباحث بمقارنة يهود الصين مثلاً بيهود إثيوبيا بيهود الولايات المتحدة ويهود العالم الإسلامي، في الماضي والحاضر، وعلى المستويات الدينية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية والسكانية ... إلخ، وذلك حتى يكون بوسعه أن يحدِّد العناصر المشتركة بينهم، والثوابت والمتغيرات، وعلاقة الواحد
بالآخر، وهكذا.(1/314)
2 ـ يمكن القول بأن الشعائر اليهودية المركبة التي لا يستطيع الكثيرون من غير اليهود فهمها تُعَدُّ من أهم العناصر التي ساهمت في إشاعة النماذج الاختزالية في دراسة الظواهر اليهودية. فحينما لا يفهم الإنسان شيئاً فإنه كثيراً ما يلجأ إلى تفسيرات اختزالية (تآمرية أو صهيونية) تريحه من عناء التفكير.
3 ـ ساهمت النزعة الانعزالية في الدين اليهودي، والتصورات الدينية اليهودية الخاصة بالشعب المختار والمركزية الكونية والتاريخية التي يضفيها اليهود على أنفسهم في تعميق شكوك غير اليهود فيهم. ومع هذا، يجب التنبه إلى أن ثمة نزعة توحيدية قوية في العقيدة اليهودية رغم هيمنة النزعة الحلولية الواحدية (ابتداءً من القرن السادس عشر على وجه الخصوص) .
4 ـ يُلاحَظ أن اليهود يلعبون دوراً مركزياً في الدراما التاريخية المسيحية (نزول المسيح ـ صلبه على يد اليهود ـ هداية اليهود تمهيداً للعصر المشيحاني ... إلخ) . وقد ارتبطت فكرة الخروج في الوجدان الغربي باليهود، فهم دائماً في حالة خروج (ودخول) من فلسطين (أرض كنعان) إلى مصر، ثم من مصر إلي فلسطين، ثم من فلسطين إلى بابل، ومن بابل إلى فلسطين، ومن فلسطين إلى أرض الشتات، وهكذا. وساهم كل هذا في تحويل اليهود إلى مقولة غير زمانية وفي اختزالهم إلى بُعد واحد.
ومع أن اليهود لم يلعبوا دوراً متميِّزاً مماثلاً في الإسلام، فقد كانوا أهل كتاب وذوته، إلا أنه من خلال تفسير حرفي يطابق بشكل هندسي بين ما جاء في القرآن ووقائع التاريخ المتناثرة، تم الربط بين ما جاء في القرآن والسنة عن اليهود وبين يهود العالم في العصر الحديث. ومن ثم، تَحوَّل اليهود إلى مقولة ثابتة غير زمانية، وتم اختزالهم مرة أخرى إلى بُعد واحد رغم المفاهيم الإسلامية الحاكمة الخاصة بالفطرة والتدافع وقبول الآخر.(1/315)
5 ـ مما لا شك فيه أن وجود اليهود داخل عديد من المجتمعات الغربية، كجماعات وظيفية متفرقة تنتظمها شبكة من العلاقات التجارية الوثيقة، والتي تَحقَّق من خلالها قدر كبير من النجاح التجاري والمالي، عمَّق الرؤية الاختزالية التآمرية في النظر لليهود. وقد بلغت هذه الشبكة قمة تماسُكها وقوتها في القرن السابع عشر حين كانت تصل بين يهود الأرندا في شرق أوربا (في بولندا وأوكرانيا) ، ويهود البلاط في وسطها وغربها، ويهود السفارد في البحر الأبيض والدولة العثمانية وشبه جزيرة أيبريا والعالم الجديد. وخلق هذا الوجود إحساساً عميقاً لدى كثير من الدارسين بأن ثمة تنسيقاً تآمرياً بين اليهود في كل أنحاء العالم (وقد انحلت هذه الشبكة تماماً بقيام النظام المصرفي الحديث وظهور الدول القومية العلمانية الحديثة) .
6 ـ أدَّى تعثُّر التحديث في الإمبراطورية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر وتَزايُد عدد اليهود نتيجة انفجار سكاني صغير (ولمُركَّب آخر من الأسباب) إلى خلق مشكلة عدم تأقلُم لدى الكثيرين من أعضاء الجماعات اليهودية إزاء النظام الاقتصادي الجديد، الأمر الذي اضطر أعداداً كبيرة منهم للهجرة، وقد وُصف هذا بأنه دليل على رغبة اليهود الأزلية في الخروج من أوطانهم ودليل على تطلُّعهم الدائم لصهيون.
7 ـ ومع ضعف المجتمعات الغربية وبنائها القيمي، بسبب انتشار قيم النفعية واللذة، ومع تَركُّز أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من الحركات الفوضوية وفي قطاع اللذة (الكباريهات ـ السينما ـ السياحة) ، تَعمَّق الإحساس بأن ثمة مؤامرة يهودية لا تهدف إلى السيطرة على العالم وحسب، بل تهدف أيضاً إلى إفساده (مع العلم بأن الجماعات اليهودية في أوربا كانت من أكثر القطاعات البشرية محافظة من الناحيتين الأخلاقية والسياسية حتى منتصف القرن التاسع عشر، ولم تكن ظاهرة الأطفال غير الشرعيين معروفة بينهم) .(1/316)
وطريقة صياغة النموذج الاختزالي لا تختلف عن طريقة صياغة أية نماذج تحليلية أخرى، فهي عملية تفكيك وتركيب:
1 ـ يحدِّد صاحب النموذج الاختزالي الواحدي (الروحي أو المادي) أطروحته الأولية (الفرض العلمي) ، وهي عادةً أطروحة بالغة البساطة، وفائقة العمومية بسبب استبعادها لتركيبية الواقع وتركيبية الفاعل الإنساني (اليهود إن هم إلا عناصر بورجوازية ـ اليهود إن هم إلا شياطين ... إلخ) .
2 ـ تُمنَح الأطروحة البسيطة مركزية تفسيرية.
3 ـ تتم مراكمة المعلومات في ضوء هذه الأطروحة البسيطة، ومهما بلغت سذاجة وبساطة الأطروحات والفروض الأولية، فهناك دائماً في الواقع بعض المعطيات والحقائق التي يمكنها أن تضفي قدراً من المصداقية على هذه الأطروحات والافتراضات، وهي عادةً حقائق صلبة وصادقة تماماً من الناحية الإخبارية المباشرة، أي أنها موجودة بالفعل في الواقع.
4 ـ ولكن ما يحدث لهذه الحقائق الصلبة هو ما يلي:
أ) تُنزَع الوقائع والتفاصيل من سياقها التاريخي والإنساني، بحيث تصبح لا تاريخ لها ولا أصول اجتماعية ولا أبعاد إنسانية.
ب) تُعزَل الوقائع والتفاصيل عن كل أو معظم الحقائق الأخرى، وعن أية نماذج أو أنماط تاريخية أو اجتماعية أو إنسانية أخرى، أي أن المنظور المقارن يُسقَط تماماً.
جـ) بعد إتمام هاتين العمليتين يمكن فرض أي اتجاه على هذه الحقائق فتتحوَّل إلى مؤشر إمبريقي دقيق ودليل مادي قاطع على صدق الأطروحة أو الفرضية الأولية، فهناك عدد لا بأس به من البورجوازيين من أعضاء الجماعات اليهودية، ولا شك في أن هناك من اليهود من يسلك سلوكاً شيطانياً (شأنهم في هذا شأن بعض البشر) .(1/317)
وبعد أن تتم صياغة النموذج البسيط وتوثيقه، لابد أن يتسم من يتلقَّى "الأطروحة الموثقة" بمقدرة فائقة على تَقبُّل الحقائق المادية الصلبة دون مساءلة وعلى استبعاد الفاعل الإنساني، فهو مُتلقٍّ موضوعي محايد، إن رأى أرقاماً آمن بها على التو، وإن سمع عن واقعة حدثت فعلاً عليه أن يصدقها بكل ما أوتي من عنف وموضوعية دون تفكيك أو تركيب، ودون استدعاء حقائق وأنماط أخرى، ودون إدراك السياق الاجتماعي والتاريخي الإنساني للتفاصيل والوقائع التي تُعرَض عليه، ودون تساؤل عن مدى أهميتها ومركزيتها.
وتتسم النماذج الاختزالية، روحية كانت أم مادية، بالواحدية، وتُعبِّر هذه الواحدية عن نفسها إما في مستوى متدن جداً من الخصوصية في حالة النماذج الروحية أو مستوى عال جداً من التعميم في حالة النماذج المادية (كما يمكن أن يتأرجح النموذج الاختزالي بشدة بين المستويين) ، فالنماذج الاختزالية التآمرية ترى اليهود ظاهرة واحدة متماسكة (شعب واحد ـ طبقة واحدة ـ تشكيل حضاري واحد) ، وهو شكل من أشكال التعميم المفرط. وتبدأ هذه الدراسات في الحديث عن تاريخ واحد مع أن مثل هذا التاريخ غير موجود. والأبحاث التي تقبل مثل هذه المقولات تجد نفسها تدور داخل حدود ضيقة متحيزة تؤكد بعض العناصر الهامشية وتهمِّش (أو تُسقط تماماً) بعض العناصر الأساسية، ثم يجد الباحث نفسه يراكم الحقائق داخل هذه الحدود ويبحث عن أنماط مستمرة حيث لا أنماط ولا استمرار، فتفرض عليه المقدمات المتحيزة الكامنة نتائج مضلِّلة. ثم يجد نفسه في نهاية المطاف يكتشف خصوصية يهودية تعزل الظواهر اليهودية عن الظواهر الإنسانية الأخرى، أي أن النموذج الاختزالي التآمري انتقل من التعميم المفرط إلى التخصيص المفرط.(1/318)
وقد يكون من المفيد أن نضرب بعض الأمثلة على ذلك: حين يفترض الباحث ذو النزعة الاختزالية (التآمرية) أن اليهود (وليس، على سبيل المثال، أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر في روسيا) يتحركون داخل التاريخ اليهودي (وليس داخل التاريخ الروسي بشكل مُحدَّد) ، فإنه يبحث عن أسباب ظهور الصهيونية داخل هذا النطاق اليهودي الضيق، وذلك بدلاً من أن ينظر إلى الديناميات الحضارية والإنسانية الأشمل والأكثر فعالية مثل تَعثُّر التحديث في روسيا القيصرية وظهور التشكيل الاستعماري الغربي وتآكُل المنظومات الأخلاقية للمجتمع القيصري ككل. بدلاً من ذلك يشير صاحب النزعة التآمرية إلى إحدى خصائص اليهود الفريدة: اتجاههم نحو التعالي على غير اليهود، الأمر الذي يستفز الشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها.
وحينما تُكتَشف عصابة مخدرات ودعارة في كاليفورنيا يديرها مهاجرون سوفييت أو يُعلَن عن وجود مافيا من اليهود السوفييت والإسرائيليين، فإن هذه الواقعة تتحوَّل في ذهن التآمريين من أعداء اليهود إلى مؤشر على انحلال الشخصية اليهودية. وفي الوقت نفسه وافق بعض الصهاينة على هذا ولكنهم يحوِّلون هذا الانحلال إلى مؤشر صلب وأكيد يدل على أن اليهود إن عاشوا خارج أرض الميعاد فإنهم يصابون بالانحلال الخلقي والتفسخ الاجتماعي بسبب اغترابهم ولا صلاح لهم إلا بالعودة لوطنهم القومي. ولا يرد في سياق هذا التحليل أي شيء عن معدلات الجريمة في كاليفورنيا، ولا نسبة اشتراك الجماعات المهاجرة الأخرى فيها، ولا نسبة اشتراك المهاجرين السوفييت، ولا نسبة اشتراك اليهود الأمريكيين (الذين استقروا في الولايات المتحدة منذ أمد طويل) .(1/319)
وحينما يظهر مجرم يهودي، فهذا تعبير عن الإجرام المتأصل في الطبيعة اليهودية (بالنسبة للمعادين لليهودية) ولا تتم الإشارة إلى عتاة المجرمين الآخرين من غير اليهود. وإن حصل يهودي على جائزة نوبل، فإن الصهاينة يشيرون إلى أن اليهود عباقرة بطبيعتهم، وإلى أن اليهود يشكلون 3% من الشعب الأمريكي بينما بلغ عدد اليهود من الحاصلين على جائزة نوبل 30% (مثلاً) وذلك دون الإشارة إلى أن العلماء اليهود الذين يكسبون جائزة نوبل يُوجَدون دائماً داخل التشكيل الحضاري الغربي ولم يظهر عباقرة بين يهود الهند أو إثيوبيا (وهو ما يدل على أن العنصر الثابت ليس يهودية العبقري وإنما وجوده في الحضارة الغربية بما تتيحه من إمكانيات وإعلام) . وما يحدث هنا أن نقطة البدء هي حقيقة صلبة جزئية يتم تعميمها على اليهود ككل (وهذا هو جوهر التفكير العنصري) .(1/320)
أما النموذج الاختزالي العلمي فاختزاليته تتضح عادةً في رفضه أية خصوصية. فاليهود ظاهرة عامة ليس لها ما يُميِّزها. والصهيونية إن هي إلا نتاج تفاعل عوامل اقتصادية سياسية (عادةً واضحة ومحددة) داخل المجتمعات الأوربية في نهاية القرن التاسع عشر. وهي لا علاقة لها بالدين اليهودي أو ميراث الجماعات اليهودية أو بوضعها المتميِّز داخل الحضارة الغربية. ومن ثم فإن الأشكال الحضارية المختلفة هي عبارة عن قشور (بناء فوقي) ، والدين إن هو إلا الأفيون يستخدمه المستغلون لخداع الجماهير. ويتم إسقاط عشرات العناصر التاريخية والإنسانية والسقوط في التعميمات الكاسحة المخلة مثل القول بأن "الصهيونية هي جزء عضوي لا يتجزأ من الإمبريالية الغربية" أو أن "الصهيونية تعبير عن مصالح البورجوازية اليهودية". ومن هنا طُرح في وقت من الأوقات شعار "وحدة الطبقة العاملة العربية واليهودية ضد البورجوازيات العربية واليهودية والاستعمار العالمي المتحالف مع الصهيونية" ... إلخ، وهي شعارات وأقوال تنم عن عدم إدراك أصحابها لخصوصية العمال من أعضاء الجماعات اليهودية وخصوصية وضع هذه الجماعات في الحضارة الغربية وخصوصية الحضارة العربية. وتتضح هذه السذاجة الاختزالية حينما انطلق أحد كبار علماء السياسة العرب من إيمانه بأن النظام السياسي الإسرائيلي يشبه أي نظام "ديموقراطي آخر" ولذا قرَّر أن هذا النظام ينتمي إلى نظام الحزبين على النمط البريطاني، وفي ذهنه بالطبع حزبا العمال والمحافظين مقابل المعراخ والليكود. والمقارنة صادقة تماماً لكنها سطحية جداً، فالحزب داخل النظام الاستيطاني الصهيوني يضطلع بوظائف تختلف تماماً عن وظائف الحزب في النظام الرأسمالي الديموقراطي الغربي، كما أن بنية الحزب وطريقة تمويله في إنجلترا مختلفتان عن مثيلتيهما في إسرائيل إذ لا يُوجَد نظير للمنظمة الصهيونية العالمية في النظام السياسي البريطاني. وعلى هذا النحو، يتم تناول النظام(1/321)
السياسي أو البنية الاقتصادية أو البناء الطبقي في إسرائيل وكأنها لا تختلف عن نظائرها في المجتمعات الأخرى. وهذا بطبيعة الحال مناف تماماً للواقع، فالظواهر الصهيونية الإسرائيلية لها أبعادها الخاصة وقوانين حركتها المتميِّزة. ومما يجدر ذكره في هذا المضمار أن بعض الصهاينة يحاولون قدر استطاعتهم أن يطرحوا تصوُّراً للصهيونية باعتبارها تشكيلاً قومياً مثل أي تشكيل قومي آخر وتصوُّراً لإسرائيل باعتبارها دولة صغيرة مثل أية دولة صغيرة.
وما يحدث هنا أن نقطة الانطلاق هي قانون عام أو بدهية واضحة يتقبلها الباحث باعتبارها مسلَّمة لا تخضع للبحث ويظل الباحث حبيساً فيها ثم يُعمم منها على الواقع، متجاهلاً كل السمات الخاصة التي قد تُشكِّل جوهر الظاهرة.
ومن الممكن أن يلتقي النموذجان الاختزاليان، التآمري والعلمي. فإذا كان الباحث التآمري الاختزالي يتخذ اضطهاد اليهود دليلاً على شيطانيتهم المتأصلة، فبإمكان أصحاب النموذج الاختزالي العلمي أن يأخذوا الظاهرة نفسها باعتبارها تعبيراً عن بؤس اليهود وضرورة تعويضهم عما لحق بهم من أضرار وأذى، وما لا يدركه الفريقان أنهما لم يتحركا خارج حدود الظاهرة اليهودية ليدرساها في إطارها الإنساني الأوسع.(1/322)
وأطروحة اللوبي الصهيوني القوي، التي تُدرَس بعلمية وموضوعية شديدتين، هي نتاج هذه العقلية الاختزالية التي تبدأ من أطروحة بدهية: الولايات المتحدة دولة ذات مصالح ـ من بين هذه المصالح البترول والنفوذ في الشرق الأوسط ـ يمكن أن تخدم الولايات المتحدة مصالحها عن طريق التعاون مع العرب، ولكنها مع هذا تعاديهم. وهنا، فإن العقلية الاختزالية تركن إلى تفسير مثل هذا السلوك اللا عقلاني من قبَل دولة يُفترض فيها أنها عقلانية بالعودة لعنصر خارجي هو اللوبي الصهيوني الذي يحرِّك كل شيء، وتصبح هذه المقولة المنطقية الإطار الذي تُراكَم داخله المعلومات ولا يختبرها أحد. ولا يسأل أحد: هل يوجد لوبي شيلي قوي في الولايات المتحدة يجعلها تطيح بالرئيس ألليندي وتؤيد حكم بينوشيه العسكري؟ هل يوجد لوبي صربي قوي يضغط على الولايات المتحدة (وهيئة الأمم) بحيث يَضطرهم لتَرْك الصرب يذبحون البوسنيين ويكتفي العالم الحر بإصدار البيانات الصارمة؟ أليس من المحتمل أن تكون الولايات المتحدة قد حدَّدت "صالحها" بطريقة تختلف عن تصوُّرنا العقلاني، وأنها ترى الأمور بطريقة مختلفة ومع هذا تتصوَّر أنها طريقة عقلانية تماماً؟(1/323)
ومن أطرف الأمثلة على سذاجة النموذج الاختزالي (التآمري والعلمي) وبساطته وطريقة عمله ما ورد في إحدى الدراسات التي قام كاتبها بحشد عدد هائل من الحقائق الصلبة المتناثرة. كان بين هذه الحقائق الصلبة: وجود صديقة يهودية لليدي بيرد (زوجة الرئيس الأمريكي جونسون) في البيت الأبيض أثناء حرب 1967 وقد قُدِّمت هذه الحقيقة الصلبة باعتبارها دليلاً مادياً علمياً وقاطعاً على قوة النفوذ الصهيوني واليهودي وكيف يحرك اليهود الولايات المتحدة، وكيف يضغطون عليها حتى تسمح لقاعدتها العسكرية في الشرق الأوسط بالهجوم على مصر عام1967 (لضرب القومية العربية) ، وكأن مثل هذه الأمور الإستراتيجية الكبرى لم يتم إقرارها إلا لوجود الصديقة اليهودية داخل البيت الأبيض.
ولعل ما حدث أثناء هجرة اليهود السوفييت وذلك الحديث الهستيري عن "جريمة العصر" يبيِّن مدى قصور وكسل وسطحية النموذج الاختزالي العلمي الموضوعي والتآمري، فما حدث هو أن بعض المحللين السياسيين الاختزاليين الواحديين (من الموضوعيين الماديين والروحيين التآمريين) قرأوا في جريدة "عالمية" (أي غربية) أن هناك ملايين اليهود السوفييت سيهاجرون إلى إسرائيل فصَدَّق الجميع الخبر على الفور استناداً إلى فرضيات وأطروحات عامة بسيطة، استقرت في العقول تماماً إلى أن أصبحت "بدهيات" أو قوانين علمية عامة. ومن المعروف بشكل عام لدى الموضوعيين الماديين والتآمريين الذين يتقبلون الفرضيات البدهية السائدة ما يلي:
1 ـ إن فُتحت أبواب الهجرة ليهود الاتحاد السوفيتي، فإنهم سيهاجرون إلى إسرائيل لأن اليهود (كما هو معروف) لا يرتبطون بأوطانهم أو أماكن إقامتهم فهم مرتبطون بأرض الميعاد يتوجهون إليها حينما تسنح لهم الفرصة.
2 ـ من المعروف كذلك أن إسرائيل دولة استيطانية تحتاج للمستوطنين.(1/324)
3 ـ هؤلاء المهاجرون (باعتبارهم جزءاً عضوياً من هذه الكتلة اليهودية الواحدية) سيتحولون إلى رواد صهاينة يحملون السيف بيد والبندقية بالأخرى فور وصولهم إلى فلسطين المحتلة.
إن أضفنا الأطروحة البدهية الأولى للفرضية البدهية الثانية والثالثة فإننا سنصل إلى النتيجة الواضحة الحتمية، وهي أن هجرة الملايين من اليهود السوفييت وشيكة، وأن كارثة العصر على وشك الوقوع. ثم تَسابَق المحللون الاختزاليون إلى اقتباس الإحصاءات الموضوعية الصلبة (وهي في واقع الأمر تصريحات كبار المسئولين في الاتحاد السوفيتي أو في إسرائيل) التي تؤكد أن ملايين اليهود سيهاجرون من الاتحاد السوفيتي إلى فلسطين. وظهرت جريدة عربية كبرى تحمل عنواناً رئيساً في صفحتها الأولى تؤكد هذا المعنى استناداً إلى تصريح وكيل وزارة الخارجية في الاتحاد السوفيتي. وبدأت عملية التوثيق الاختزالية الهستيرية. فتم عزل حقيقة هجرة اليهود السوفييت عن الحقائق والظواهر الأخرى وتم البحث الدائب عن شواهد مادية لتوثيقها دون كد أو عناء ودون بحث عن أنماط عامة متكررة.(1/325)
ووسط هذا الصخب شبه المعرفي لم يُكلِّف أحد نفسه مشقة النظر في أبعاد الواقع الأخرى المُركَّبة التي تتجاوز الاستنتاجات العقلية والمنطقية النظرية أو عناء التساؤل بشأن الأطروحات والفرضيات التي استندوا إليها. ولم يُشر أحد إلى أن يهود الاتحاد السوفيتي تعرضوا للدعاية الإلحادية لمدة سبعين عاماً وفقدوا علاقتهم بأية عقيدة أو مُثُل، فهم لا يحنون إلى أي أرض إلا أرض السمن والعسل، تلك التي تحقِّق لهم دخلاً عالياً يفوق ما يحققونه في أماكن إقامتهم (إذ يَصعُب أن نطلق عليها أوطانهم) . ولم يُبيِّن أحد أن هؤلاء المهاجرين السوفييت هم في واقع الأمر مرتزقة يأكلون الأخضر واليابس ولا علاقة لهم بأية مثاليات صهيونية أو غير صهيونية ولذا تُقدِّم لهم الدولة الصهيونية الرشاوى السخية، وهم قد يضطرون إلى الذهاب إلى إسرائيل (بسبب إغلاق أبواب الولايات المتحدة) فيصبحون عنصر تدمير فيها، وربما لا يجد كثير من المؤهلين منهم عملاً مناسباً وهو ما قد يضطرهم إلى العمل في السوق السوداء والحرَف الطفيلية. وحينما يحمل هؤلاء المرتزقة السلاح فإنهم لن يحملوه إلا بأجر، وهم سيجلسون على حقائبهم حتى تتاح لهم فرصة الهروب إلى أرض الميعاد الأمريكية. ولم يُكلِّف أحد نفسه عناء النظر في استجابة العناصر الدينية والشرقية لدى هؤلاء المهاجرين اللادينيين الأوربيين. بل لم يُكلِّف أحد نفسه مشقة النظر في آخر إحصاءات يهود الاتحاد السوفيتي التي تقول إن عددهم قبل ازدياد عمليات الهجرة لا يمكن أن يزيد على مليون وربع (أي أن الموضوعية الاختزالية المتلقية في هذه الحالة أسقطت أبسط قواعد الموضوعية، فقد بلغت بها مقدرتها على التلقي أن تُصدِّق كل ما يُقال لها دون اختبار!) . ولم يثر أحد قضية أن الهدف من التصريحات الصهيونية المليونية وهذا التضخيم للأعداد الوافدة يخدم مصالح معينة، وهو تعبير عن الرغبة في زيادة حجم الدعم الأمريكي وتدفُّق الأموال اليهودية. كما أن(1/326)
من المحتمل أن هذه التصريحات مجرد تعبير عن أمنيات وأحلام أصحابها. وقد أثبتت الأحداث أن عدد المهاجرين لم يقترب من نصف مليون، وأن نسبة النزوح بينهم كانت عالية، وأنهم أدّوا إلى تصدعات داخل النظام السياسي الإسرائيلي أو على الأقل لم يُدخلوا العافية عليه كما كان مُتوقَّعاً. ولم يستوطن هؤلاء المستوطنون في الضفة الغربية، فقد آثروا المدن القريبة من الساحل، حيث تتوافر لهم أسباب الراحة واللذة.
لم يجتهد أحد وتقبَّل الاختزاليون العلميون والتآمريون البدهيات وسقطوا صرعى لها، وقاموا بالتوثيق العلمي الذي لم يُعمِّق الرؤية وإنما حجبها تماماً.
ويمكن تلخيص نقط قصور النماذج الاختزالية في دراسة الجماعات اليهودية فيما يلي:
1 ـ النماذج الاختزالية ـ كما أسلفنا ـ نماذج مغلقة، رؤيتها للتاريخ واحدية مُصمَتة وواضحة، فتطوُّر «التاريخ اليهودي» معروف مسبقاً ويتبع نمطاً محدَّداً: عبودية في مصر ـ خروج منها ـ تَغلغُل في كنعان ـ نفي إلى بابل ـ سقوط الهيكل ـ عودة إلى فلسطين في نهاية الأيام. فالعودة النهائية إلى صهيون أمر حتمي ومُتوقَّع في الرؤية المشيحانية، إذ سيأتي الماشيَّح ويقود شعبه إلى صهيون ويُنهي الآلام ويؤسس الفردوس الأرضي فيها ويصل بالتاريخ اليهودي إلى نهايته الفردوسية. والصهيونية هي الوريثة العلمانية لهذه الرؤية الدينية وتتبنَّى النمط نفسه، فبعد السقوط الشتات وآلام المنفى ثم العودة إلى صهيون والجنة. والإبادة النازية هي قمة المآسي تعقُبها العودة والدولة الصهيونية ونهاية التاريخ الفردوسية المُتوقَّعة حين يعود كل اليهود ليهنأوا في أرض أجدادهم وليؤسسوا دولة يهودية تكون منارة لكل الأمم.(1/327)
2 ـ تسقط النماذج الاختزالية في نوع من السببية الاختزالية البسيطة السهلة، فتصبح كل النتائج لها سبب واحد وهذا ما يجعلها عاجزة عن تقديم تفسير معقول لتنوُّع الواقع. وعلى هذا، تكون المقدرة التفسيرية للنماذج الاختزالية (العلمية والتآمرية) ضعيفة للغاية.
أ) ولنبدأ بالنماذج التآمرية التي ترى أن خصوصية اليهود تكمن في شرهم الأزلي وطبيعتهم الشيطانية التي لا تتغيَّر. ولكن إذا كان اليهود أشراراً متآمرين بطبيعتهم، وإذا كان اليهود والشر صنوين، فكيف نُفسِّر ظهور بعض اليهود الخيرين المعادين للصهيونية (أمثال الحاخام إلمر برجر وأعضاء الناطوري كارتا) المؤمنين بالإله الواحد والمعادين للصهيونية أكثر من عداء معظم العرب لها؟ وكيف نُفسِّر نجاح الجماعة اليهودية في الأندلس (إسبانيا الإسلامية) في الانتماء الكامل للحضارة العربية الإسلامية والتفاعل معها والإسهام فيها؟ بل تذهب كثير من المراجع إلى أنهم قاموا بمساعدة الفاتحين الإسلاميين لشبه جزيرة أيبريا، تماماً كما فعل اليهود السامريون أثناء الفتح الإسلامي لبيت المقدس. كما يُقال إن يهود العالم العربي ساعدوا العرب أثناء حروب الفرنجة بتسريب الأخبار لهم عن الاستعدادات العسكرية في أوربا وعن الحملات التي كانت تجردها أوربا (وكانت هذه هي أحد الأسباب التي حدت بالوجدان الغربي في العصور الوسطى إلى الربط بين اليهودي والمسلم) . وإذا كان انتشار الشر في العالم مرده تأثير اليهود السيء على الشعوب (وهو ما يعني استبعاد احتمال وجود الشر في النفس البشرية، وتلك حقيقة تؤيدها كل الأديان السماوية ولا ينكرها سوى غلاة الحتميين الماديين) فكيف نُفسِّر ظهور الشر في بلاد لا يوجد فيها يهود، فتايلاند عاصمة الإباحية والبغاء في العالم لا يوجد فيها يهود، كما لا يوجد يهود بين الصرب الذي بعثوا أمجاد هتلر وإن كان الضحايا هذه المرة مسلمين؟(1/328)
ب) تسقط النماذج الاختزالية العلمية المادية في التعميم المُخل فلا ترى المنحنى الخاص للظاهرة وهو ما يضعف مقدرتها التفسيرية، فهي لا يمكنها أن تُفسِّر لنا سبب ظهور الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر وعدم ظهورها، مثلاً، في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي بعد حروب الفرنجة (التي يُقال لها «صليبية» ) ، وهي الحروب التي ارتُكبت المذابح أثناءها ضد تجمعات الجماعات اليهودية في غرب ووسط أوربا واجتثتها من جذورها في بعض الأحيان؟ كما أن النموذج الاختزالي يفشل في أن يفسِّر لنا سبب ظهور الصهيونية في شرق أوربا وليس في غربها، أو حتى في الولايات المتحدة، مع أن عدد يهود الولايات المتحدة مع بداية القرن كان آخذاً في التزايد حتى بلغ عدة ملايين قبيل الحرب العالمية الأولى؟ ولماذا ظلت فاشلة في إحراز أية انتصارات على مستوى الاستيطان في فلسطين أو على مستوى التحرك الدبلوماسي في العالم حتى عام 1917 (عام صدور وعد بلفور) ؟(1/329)
جـ) وتفشل النظريات الاختزالية (العلمية المادية) في تفسير لماذا اتخذت مشاكل اليهود الاجتماعية الاقتصادية شكل بنية تاريخية مُحدَّدة تُعرَف باسم «المسألة اليهودية» ، وهي بنية قد تشترك في بعض قسماتها وملامحها العامة مع البنَى المماثلة ولكنها تختلف عنها في الملامح الخاصة وفي الحلول المطروحة؟ وتفشل النظريات العلمية في تفسير سبب توطين الإمبرياليين في فلسطين يهوداً وعدم توطينهم أوربيين مسيحيين كما فعلوا في الجزائر أو روديسيا؟ أليست كلها مصالح إمبريالية تخدم المخطط الإمبريالي؟ أوليس المستوطنون هم مجرد «الفائض البشري» الذي كان على أوربا الرأسمالية أن تُصدِّره إلى الشرق (وحينما نتحدث عن «فائض بشري» يجب ألا نفرِّق بين يهودي ومسيحي) ؟ كما أن هذه النظريات لا يمكنها أن تفسر تَعيُّن البرنامج الصهيوني وخصوصيته، فالاستعمار الصهيوني ليس استعماراً بالمعنى العام بل هو استعمار استيطاني، كما أنه استعمار استيطاني يختلف عن الأنماط الاستيطانية التقليدية في أنه لا يهدف إلى الاستيطان وحسب بل يهدف إلى الإحلال أيضاً.
3 ـ تُبسِّط النماذج الاختزالية دوافع الآخر. فاليهود ـ حسب الرؤية الاختزالية (العلمية أو التآمرية) ـ دائمو التطلع لصهيون يهاجرون إليها إن سنحت الفرصة. ولكن هذه الأطروحة البسيطة لا تفسِّر أن عدد اليهود خارج فلسطين كانوا أكثر من عددهم داخلها قبل سقوط الهيكل، ولا تفسِّر لمَ لم يهاجر الملايين من اليهود إلى فلسطين بعد أن وقعت في يد الصهاينة وبعد أن فتحت أبوابها للهجرة الاستيطانية، بل وبعد تقديم الرشاوي المالية والعينية لمن يوافق منهم على الاستيطان؟ ولماذا كان من الضروري أن تُوصَد أبواب الولايات المتحدة أمام المهاجرين اليهود السوفييت حتى يضطروا للهجرة إلى إسرائيل؟(1/330)
4 ـ من خصائص النماذج الاختزالية (العلمية أو التآمرية) أنها قابلة للتوظيف ببساطة في أي اتجاه. فعملية الاختزال، كما بيَّنا، هي عملية فصل الحقائق والوقائع عن سياقها الاجتماعي والتاريخي، ومن ثم يمكن فرض أي معنى عليها واستخلاص أية نتائج منها. ومن ثم يمكن استخدامها للتبشير بالحرب أو السلام، وباستمرار الصراع أو ضرورة وقفه، ويمكن المناداة بضرورة الحرب المستمرة ضد الإمبريالية الغربية متمثلة في قاعدتها إسرائيل، ويمكن أيضاً الحديث عن ضرورة التحالف مع الطبقة العاملة اليهودية.(1/331)
5 ـ تُوظَّف النماذج الاختزالية في بث الهزيمة والرعب في قلب العرب، كما حدث في حكاية جريمة العصر، وكما يحدث في بعض الدراسات العربية التي تجعل همها توثيق قوة العدو دون أن تشير إلى جوانب أخرى، وكما حدث في النظريات التآمرية التي ترى أن اليهود قادرون على كل شيء فهم قوة عجائبية وظاهرة خرافية من المستحيل ضربها وإلحاق الهزيمة بها. ولذا، فإن الصهاينة يروجون النموذج الاختزالي العلمي التآمري إذ أن من صالحهم تضخيم دور اليهود عبر التاريخ والمبالغة في قدرات الدولة الصهيونية في كل المجالات، فهذا يُكسبهم شرعية غير عادية في عالم يؤمن بالنجاح والحلول العملية. ولعل كثيراً من الكتب التي تُنشَر تحت شعار «اعرف عدوك» تهدف إلى بث الرعب في نفوسنا عن طريق توفير بعض المعلومات الصلبة التي تؤكد أن العدو لا يُقهَر (وحجب غيرها من المعلومات) . وعندي إحساس عميق بأن المخابرات الإسرائيلية قد ساهمت في نشرها تماماً كما تساهم في نشر البروتوكولات. ويجب أن نتذكر أن كثيراً من الدول الكبرى تبني أسلحة ولا تستخدمها لمجرد أن تبث الرعب في قلب أعدائها. بل إنها أحياناً تلوح بمقدرتها على إنتاج سلاح ما دون أن تفعل لتدعم موقفها التفاوضي. واصطلاح «توازن الرعب» يعني أن توليد الرعب في قلب العدو هو أحد الأهداف الأساسية في الحروب وهي مسألة يُحسَب حسابها. والاختزالية العلمية المادية والتآمرية تنجز هذا بالنسبة للصهاينة دون جهد من جانبهم. وبعد قليل سيكون بوسع المتلقي الموضوعي أن يستخلص بنفسه النتائج، ويرى أن الواقعية تدعو لقبول العدو وأن الرؤية العلمية تؤيد الاستسلام والإذعان له، فهو عدو لا يُقهَر، ومن هو هذا الأحمق (المثالي وغير العلمي) الذي يريد أن يضرب برأسه في الحجر الصلب؟(1/332)
6 ـ لا تفيد النماذج الاختزالية كثيراً في عملية الممارسة إذ أن الممارسة تتطلب نموذجاً تحليلياً أكثر تفصيلاً ودقة وتركيبية يزوِّد الدارس بخريطة يعرف من خلالها كل نتوءات الواقع، وما هو مركزي منها وما هو هامشي، وما الوضع القائم وما الإمكانات الكامنة، ومن العدو ومن الصديق، خريطة يفهم بواسطتها العناصر والانقسامات المختلفة في معسكر العدو ومدى كفاءته ودوافعه ومواطن ضعفه وآلاف التفاصيل الأخرى التي تظل بمنأى عن النموذج الاختزالي.
7 ـ يُبرئ النموذج الاختزالي التآمري الإمبريالية الغربية والدول الغربية من الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها ضد الشعب العربي، فهذه الدول (حسب النموذج التآمري) إن هي إلا ضحية التآمر اليهودي الأزلي وهي ليست مسئولة عن غرس الجيب الاستيطاني الصهيوني في المنطقة وتمويله ودعمه وفرضه بقوة السلاح علينا، فالمشروع الصهيوني (حسب النموذج الاختزالي الصهيوني) هو أمر قام به اليهود تعبيراً عن إرادتهم الحرة القومية المستقلة وبجهودهم الذاتية. وعادةً ما تنسب النماذج الاختزالية مقدرات فائقة لليهود ومخططاتهم. وبمعنى آخر، فإن هذه النماذج تقوم بالتهويل من الجزء (الصهيونية) والتهوين من شأن الكل (الإمبريالية) .
8 ـ تؤدي النماذج الاختزالية إلى السقوط في رؤية اليهود من منظور عنصري، فجوهر العنصرية هو عملية الاختزال هذه، التي تحوِّل الكل الإنساني المركب إلى عنصر واحد، وهذا ما فعله الصهاينة والمعادون لليهود في إدراكهم اليهود واليهودية.
9 ـ تبنِّي النماذج الاختزالية هو تعبير عن كسل عقلي، ولكن هذا التبني يزيد في الوقت نفسه هذا الكسل إذ يصيب العقل بالشلل حتى نصبح موضوعيين نتلقى تماماً كل ما يأتينا من حقائق صلبة دون تساؤل أو إبداع.(1/333)
10 ـ أشرنا من قبل إلى أن النموذج الاختزالي يُولِّد تفاؤلاً لا أساس له، ويمكن أن نشير هنا إلى أنه، يمكن أن يولِّد أيضاً في نفس صاحبه اليأس والقنوط إذ أنه قد يُصعِّد التوقعات التي لا تتحقق وقد يُخفي الإمكانات التي يمكن أن تتحقق في المستقبل.
لكل هذا يصبح من الضروري (من الناحية المعرفية والأخلاقية بل والعملية) تبنِّي نماذج أكثر تركيباً من النماذج الاختزالية المادية العلمية أو الغيبية التآمرية.
ونحن نضع «النموذج الاختزالي» مقابل «النموذج المركب» ، ونذهب إلى أن الصراع بين النماذج الموضوعية المادية (المتلقية) والنماذج التفسيرية (الاجتهادية) يتبدَّى في نهاية الأمر في الصراع بين النموذج الاختزالي والنموذج المركب. فالبُعد المعرفي (الكلي والنهائي) للنموذج الاختزالي هو الموضوعية المادية، أما البُعد المعرفي للنموذج المركب فهو التفسيرية الاجتهادية.
النموذج المركب
«النموذج المركب» (ويمكن أن نطلق عليه أيضاً «النموذج المنفتح» أو «النموذج التعددي» أو «النموذج الفضفاض» أو «نموذج التكامل غير العضوي» ) . وهو النموذج الذي يحوي عناصر متداخلة مركبة (أهمها الفاعل الإنساني ودوافعه) بحيث يعطي الإنسان صورة مركبة عن الواقع ولا يختزل أياً من عناصره أو مستوياته المتعددة أو تناقضاته أو العوامل المادية والروحية، المحدودة واللامحدودة والمعلومة والمجهولة، التي تعتمل فيه. وهو النموذج الذي لا يمكنه أن يطرح نهاية للأشياء بسبب تركيبيته، فهو نموذج تفسيري اجتهادي منفتح وليس نموذجاً موضوعياً متلقياً مادياً.(1/334)
والنموذج المركب يدور في إطار المرجعية المتجاوزة. وهو يتسم بالتماسك والوحدة ولكن تماسكه ليس عضوياً أو صلباً، وثمة وحدة في الوجود ولكنها وحدة غير عضوية وغير مصمتة لأن مصدر الوحدة ومركز الكون غير المنظور ليس كامناً أو حالاًّ في العالم (فهو الإله الواحد المفارق المنزَّه في النظم التوحيدية وهو الإنسان المتميِّز عن الطبيعة في النظم الهيومانية الإنسانية) . والمركز مفارق للعالم لا يتجسد فيه رغم تجليه وتبديه من خلاله، ولذا فإن النموذج المركب لا يسقط في الكمونية الواحدية ويظل محتفظاً دائماً بمسافة بين الخالق والمخلوق وبين الإنسان والطبيعة لا يمكن اختزالها ولا إلغاؤها إذ لا يمكن توحيد قطبي الثنائية. ولكن هذه الثنائية الأولية ليست ثنائيةصلبة (ثنائية غير تكاملية) وإنما ثنائية فضفاضة، فثمة تفاعل بين عنصري الثنائية، فالإله خلق العالم ونفخ فيه من روحه ولم يهجره بل دخل في علاقة معه فهو يرعاه. وقد منح الله الإنسان بعض الصفات الربانية التي تميزه عن الطبيعة ثم استخلفه في الأرض. وهو لم يضعه في الأرض ليكون في علاقة صراع مع الطبيعة أو ليوظفها وإنما استخلفه فيها واستأمنه عليها ليستخدمها ويعمرها، وهو يكتسب مركزيته من عملية الاستخلاف هذه. ولذا، فإن العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والإله ليست علاقة وحدة وإنما علاقة تكامل.(1/335)
والإنسان الذي يحوي داخله القبس الإلهي (في المنظومة التوحيدية) أو المتميِّز عن الطبيعة (في المنظومة الإنسانية) قد يشارك في بعض سمات النظام الطبيعي وقد تسري القوانين الطبيعية وقوانين الأشياء على بعض جوانب وجوده (فهو يولد ويأكل ويمشي ويضاجع النساء ويمرض ويموت) ولكنه لا يُردّ في كليته إليها. وقد نعرف هذا الجانب أو ذاك من وجوده، ولكن تظل هناك جوانب (ربانية) مجهولة لا يمكن معرفتها أو إخضاعها للقانون المادي العام الواحد. ولذا، يظل هناك قانونان: واحد للإنسان والآخر للأشياء. وتنبع بعض جوانب فكر الإنسان من واقعه (المادي الطبيعي أو الإنساني) ، ولكنه لا يمكن أن يُردَّ في كليته إليه لأن بعض هذا الفكر نابع من ذاته (الربانية الإنسانية غير الطبيعية) المتجاوزة لذاته المادية والطبيعية، أي أن الإنسان جزء يتجزأ من الطبيعة متجاوز لها. ولكل هذا، يشكل الإنسان ثغرة في النظام الطبيعي/المادي، فهو كائن قادر على تجاوز الجوانب الطبيعية/المادية في ذاته وقادر على تجاوز الطبيعة/ المادة ذاتها. وهي مسافة لا يمكن أن تُسد تماماً (مثل المسافة التي تفصل الخالق عن المخلوق) ، فالجانب الرباني في الإنسان لصيق تماماً بإنسانيته.
ووجود الإنسان كثغرة في النظام الطبيعي هو الذي يؤدي إلى ظهور كل الثنائيات الفضفاضة الأخرى (كل/جزء ـ عام/خاص ـ ذات/موضوع ـ سبب/نتيجة ـ محدود/لا محدود ـ معروف/مجهول ـ ذكر/أنثى ـ سماء/أرض) . وكلها ثنائيات لا يمكن القضاء عليها، فهي صدى للثنائية الكبرى الكلية والنهائية (خالق/ مخلوق) . ولذا، فإن وجود مسافات داخل النموذج المركب هي من صميم بنيته، ومن ثم فهو غير قابل للانغلاق ولا يمكن إخضاعه للقوانين الواحدية. وكما يتفاعل الإله مع الإنسان تتفاعل وتتكامل الثنائيات كافة لذا فالنماذج المركبة تتسم بالتكامل غير العضوى.(1/336)
والنماذج المادية تتأرجح بين التماسك العضوي الكامل (الصلابة) والتجانس المطلق (الذي يُفقد الأجزاء شخصيتها واستقلالها وهويتها) والاستمرارية الكاملة من جهة ومن جهة أخرى عدم التماسك (السيولة) وعدم التجانس (الذي يجعل لها هوية لا يمكن القضاء عليها) والانقطاع الكامل. أما نموذج التكامل غير العضوي، فهو يفترض أن العالم كل متماسك، مُكوَّن من كليات متماسكة، مُكوَّنة بدورها من أجزاء غير مترابطة بشكل صلب وغير متجانسة بشكل كامل، ومع هذا فهي أجزاء متماسكة لكلٍّ شخصيتها ولكنها لا تُفهَم إلا بالعودة إلى الكليات. ولكن الكليات ليست صلبة، ومركزها ومصدر تماسكها يوجد خارجها، ولذا فهي تظل كليات فضفافة تحوي داخلها ثغرات. وهذا يعني أن الأجزاء هامة في أهمية الكل، وأنها لا تُردُّ إلى الكل، فنموذج التكامل غير العضوي يحاول إدراك الخاص دون السقوط في التأيقن، ويدرك العام دون الذوبان في القانون العام إذ أن لكل ظاهرة منحناها الخاص رغم أنها تنضوي تحت نمط عام.
وعدم الالتحام العضوي يسمح بقبول الشخصية المستقلة لكل جزء رغم انتمائه للكل، فالجزء ليس جزءاً عضوياً لا يتجزأ وإنما هو جزء يتجزأ، أي أن انفصال الأجزاء عن الكل ليس انفصالاً كاملاً وإنما هو درجة من الاستقلال النسبي للأجزاء عن الكل وللأجزاء (الواحد عن الآخر) . ومع هذا، ثمة افتراض لأسبقية نهائية للكل على الأجزاء (وإلا انتفت فكرة الحقيقة الكلية وفكرة النموذج نفسها) . ولذا، لا يذوب الجزء في الكل ولا الكل في الجزء، ولا يذوب العام في الخاص ولا الخاص في العام، والاستمرار والانقطاع لا يُجُبُّ أيٌّ منهما الآخر. ولذا، فبإمكان النموذج أن يتناول الظواهر والعلاقات بكل أشكالها ومستوياتها ويحترم منحناها الخاص ويتناول الكل والجزء والخاص والعام والاستمرارية والانقطاع دون أن يَرُدَّ الواحد إلى الآخر، بل يحاول الوصول إلى النقطة المفصلية حيث يتصل الواحد بالآخر.(1/337)
والنموذج المركب ينكر وجود قوانين تاريخية عامة وحتمية ويرى أن مقدرتها التفسيرية ضعيفة، ويطرح بدلاً من ذلك فكرة الأنماط التاريخية المتشابهة، وليست بالضرورة المتكررة والمتجانسة تماماً، فالتاريخ لا يتطور بنفس المستوى ولا بنفس المعدل ولا بنفس الطريقة من مجتمع لآخر. بل إنه، داخل المجتمع الواحد يوجد من العناصر الخاصة ما يجعل التأني والدراسة المدققة ضروريين لتَفهُّم مسارات التاريخ المختلفة.
والنماذج المركبة لا تدور في إطار الواحدية السببية التي تدور إما في إطار عنصر روحي واحد أو عنصر مادي واحد والتي تستوعب كل شيء في شبكة السببية الصلبة. وبدلاً من ذلك، يظهر مبدأ التعددية السببية، ويحل مبدأ تعددية المؤثرات محل مبدأ أحادية المؤثرات في فهم الطبيعة والإنسان وتفسيرهما والتنظير لهما. ومن ثم يجري النظر إلى الظاهرة في أبعادها المتكاملة دون الاقتصار على بُعد واحد مادي أو روحي، ثم يتم بعد ذلك تحديد أكثر الأبعاد فعالية وتأثيراً دون التقيد بأية مسلمات مسبقة تقول إن أحد الأبعاد (العنصر الاقتصادي أو العنصر الجنسي أو العنصر الروحي على سبيل المثال) أكثر فعالية وتأثيراً من الأبعاد الأخرى. فكل ظاهرة لها منحناها الخاص ولا توجد حتميات سببية مطلقة ولا يوجد شيء في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلا وجه الله، ضمان حرية الإنسان ووعيه بحريته. ولذا، لابد أن تُدرَس كل ظاهرة حسب المقاييس المناسبة لها، ويُنحَت نموذج خاص لدراستها، فلا تُطبَّق قوانين الأشياء على الإنسان ولا تُطبَّق قوانين الإنسان على الأشياء. هذا لا يعني بطبيعة الحال إسقاط النماذج التفسيرية المادية الخالصة أو الروحية الخالصة، فالأولى لها دورها في تفسير الوجود الطبيعي وتفسير بعض جوانب الوجود الإنساني، تماماً كما أن الثانية لها دورها في تفسير جوانب أخرى لهذا الوجود الإنساني.(1/338)
والنموذج المركب يُنكر الواحدية السببية ولكنه لا يسقط في العبثية، حيث لا سببية على الإطلاق، وإنما يدور في إطار السببية المركبة التعددية حيث لا تؤدي (أ) حتماً وبشكل آلي إلى (ب) (ولكنها في معظم الأحوال تؤدي إليها) ، فهي بسبب عدم تحكمنا في كل الواقع وبسبب عدم معرفتنا بكل عناصره قد تؤدي إلى (ج) (ولكنها بإذن الله تؤدي إلى ب) .
وتحل النماذج المركبة قضية القيمة، فهي تستطيع التعامل مع المثالي والواقعي، ومع الروحي والمادي، فهي ليست نماذج واحدية بسيطة مادية لا تجيد التعامل إلا مع العالم الواقعي المادي، وليست نماذج روحية بسيطة لا تجيد إلا التعامل مع عالم الروح.
وتأخذ عملية التفسير (أو الاجتهاد) داخل هذا النموذج شكلاً حلزونياً، فالمُفسِّر المجتهد لن يواجه الواقع بقانون عام أو افتراض عام يُفسِّر به الواقع بأسره، وهو لن يقوم بمراكمة المعلومات عن الواقع بلا تمييز، بل سيصوغ نموذجاً تفسيرياً تصورياً من خلال قراءة التاريح ومعرفة الدوافع الإنسانية وقوانين البنية الموضوعية والمتتاليات التفسيرية السابقة، ثم يُختبَر هذا النموذج بالعودة إلى التفاصيل التاريخية والاجتماعية. ولكن عملية الاختبار هذه ستقوم بتعديل النموذج، ومن ثم فإن عملية التفسير عملية حلزونية لا متناهية.(1/339)
ومثل هذا النموذج لا يطمح إلى الوصول إلى اليقين الكامل والتفسير النهائي والحلول الشاملة والتحكم الإمبريالي الكامل في الطبيعة، وبالتالي فهو لا يسقط في أسفل درجات العبثية والإذعان التام للطبيعة/المادة (تَمركُز حول الذات يؤدي إلى انتصار الموضوع) كما أنه لا يحلق في أقصى درجات الروحية والتجاوز التام لعالم الطبيعة/المادة، وإنما هو نموذج يطرح إمكانية أن المعرفة ممكنة وأن الحقيقة يمكن الوصول إليها، ولكنها معرفة إنسانية وحقيقة غير مطلقة (لأن المعرفة المطلقة تقع خارج نسق التاريخ الإنساني ـ وعند الإله وحده وهو مفارق للمادة وإن كان يُسبِغ عليها المعنى والاتجاه) ، فهو نموذج يَقنَع بتناول ما يمكن أن يُعرَف وحسب دون أن يصاب باليأس بسبب المجهول وما لا يمكنه معرفته، فالمسافات سمة بنيوية فيه. إن النموذج المركب أقرب إلى الصورة المجازية منه إلى القانون، وهي صورة مجازية لا تتشيأ ولا تُشيئ لأن مركز الكون لا يتجسد فتظل هناك مسافة بين الدال والمدلول.(1/340)
ومن هذه النقطة يمكن أن نطرح فكرة النظرية الكبرى الحاكمة (بالإنجليزية: جراند ثيري grand theory) . ونحن نذهب إلى أن التخلي عن محاولة الوصول إلى نظرية حاكمة كبرى (رؤية للكون وللأمور المعرفية الكلية والنهائية) أمر غير ممكن. فالواقع قد ينقسم إلى مجموعة من القصص الصغرى (على حد قول أنصار ما بعد الحداثة) ولكن هناك داخل كل قصة ـ مهما بلغت من صغر ـ قصة كبرى، وهذا ما نعبِّر عنه بقولنا "إن ثمة نموذجاً ما كامناً وراء كل الظواهر". وهذا أيضاً ما يُقال له «حتمية الميتافيزيقا» . وإن لم يطور الإنسان نظرية كبرى، فإنه سيقع فريسة النظرية الكبرى للآخر وضحية لما يُسمَّى «إمبريالية المقولات» ، أي أن يستورد الإنسان المقولات التفسيرية الكبرى من الآخر، ويقصر جهده البحثي والمعرفي على مراكمة المعلومات من خلال المقولات الجاهزة التي استوردها. وداخل إطار النموذج الفضفاض وفكرة الاجتهاد، سنحاول الوصول إلى نظرية شاملة كاملة، ولكننا نعرف أننا لن نصل إلى اليقين المطلق أو التفسير النهائي، فنظريتنا لن تكون نظرية شاملة كاملة (جراند ثيري) وإنما «ريلاتيفلي جراند ثيري relatively grand theory» ، أي "نظرية كبرى وشاملة إلى حدٍّ ما" أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانياً. ومثل هذه المحاولة لا يمكن أن تتم في إطار كموني مادي واحدي يرى أن كل القوانين كامنة في المادة؛ إطار يُلغي ثنائية الإنسان والطبيعة ويتأرجح بين الموضوعية الكاملة والذاتية الكاملة.
وكما تُصاغ النماذج عادةً، يمكن أيضاً صياغة النماذج المركبة من خلال عملية تفكيك وتركيب:
1 ـ تُفصَل الوقائع والتفاصيل التي تستخدمها النماذج الاختزالية (العلمية أو التآمرية) عن هذه النماذج أو أي نماذج مسبقة بقدر الإمكان.(1/341)
2 ـ تُوضَع الوقائع والتفاصيل في سياق إنساني (تاريخي واجتماعي) عريض، أي تتم استعادة البُعد التاريخي والمنظور المقارن (وهو الأمر الذي تحرص على استبعاده الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود والكتابات العلمية الاختزالية) .
3 ـ تُربَط الأجزاء والتفاصيل والحقائق بالكليات التاريخية والاجتماعية داخل أنماط.
4 ـ تُضَم وقائع ومعلومات كان قد تم استبعادها من منظور النماذج الاختزالية القائمة، ويتم توسيع وتعميق الأنماط.
وبذلك يمكن إظهار عجز النموذج الاختزالي عن تفسير كثير من المتغيرات وعناصر الواقع، كما يمكن البرهنة على مقدرة النموذج المركب على إنجاز ما عجز عنه النموذج الاختزالي، إذ تكتسب الوقائع معنى جديداً ويصبح بالإمكان تفسيرها بطريقة أكثر تركيباً وإنسانية.
واستخدام النماذج المركبة له نتائجه العملية والمعرفية والأخلاقية الكثيرة. وقد بيَّنا مواطن القصور الناجمة عن استخدام النماذج الاختزالية في دراسة الجماعات اليهودية، ويمكننا أن نبيِّن في هذا المدخل النتائج الإيجابية (العلمية والمعرفية والأخلاقية) لاستخدام النماذج المركبة في نفس المجال.
1 ـ النماذج المركبة لا تختزل العدو في صهيونيته أو ماسونيته بل تراه في تركيبيته الإنسانية والعميقة وبمقدرته على الانتصار والانكسار وفي سياقاته المتعددة، ولذا فهي تُسقط عن اليهودي عجائبيته وإعجازه وتفرده (الذي يصر عليه الصهاينة والمعادون لليهود) وتستعيد له إنسانيته وتركيبيته ومن ثم تُعرِّفه في قوته وفي ضعفه الحقيقيين.(1/342)
2 ـ أسلفنا القول أن النموذج المركب سيساعدنا على التخلص من الربط بين اليهودي وكل الظواهر السلبية في المجتمع، الأمر الذي سيوسع من أفقنا ويجعلنا أكثر قدرة على دراسة هذه السلبيات والبحث عن سببها الحقيقي بدلاً من البحث الاختزالي عن اليهود. وكثير من الوظائف التي ارتبطت في أذهاننا باليهود، وباليهود وحدهم (وبسبب الأدبيات العنصرية الغربية) ، يقوم بها غير اليهود في أماكن وفترات مختلفة. كما أن ربط اليهود بالشر يُولِّد في أنفسنا الهلع، ويجعلنا غير قادرين على التمييز بين العناصر المعادية وتلك التي يمكننا التحالف معها.
3 ـ سيساعدنا النموذج المركب على أن ندرك أعضاء الجماعات اليهودية في سياقاتهم المتعددة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية) ، فهم ليسوا يهوداً والسلام، أي يهوداً بشكل عام، وإنما جماعات يهودية مختلفة؛ لكل منها وضعها ودوافعها وأبعادها، وهو ما يُحسِّن قدرتنا على تفسير كثير من الظواهر اليهودية ومن مقدرتنا التنبؤية ويفيد كثيراً في الممارسة.
4 ـ سيساعدنا النموذج المركب على إدراك الطبيعة العميقة والبنيوية للعلاقة بين الدولة الصهيونية والحضارة الغربية والتشكيل الاستعماري الغربي، ومدى عمق الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني ومدى اتساعه.(1/343)
5 ـ إذا استخدمنا النماذج التفسيرية المركبة، فإننا نكون قد طبَّقنا واحداً من أهم تعاليم الإسلام وهو ضرورة الحفاظ على حقوق الأقليات التي تعيش بيننا (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) إذ ليس من حق أحد إسقاط الحقوق التي أعطاها الله إياهم استناداً إلى رؤية حرفية واختزالية حتمية تهدر حقوقهم حتى قبل أن يُولَدوا وتعتبرهم أشراراً بالوراثة، أي من خلال طبيعتهم المادية لا اختيارهم الأخلاقي. ونظرية الحقوق الدينية مختلفة في هذا المضمار عن نظرية الحقوق المدنية التي ترى أن هذه الحقوق ليست مطلقة، فالأمة مصدر السلطات وهي التي تمنح وتمنع. وفي حالة الدولة النازية، قررت الدولة الألمانية (باعتبارها تجسيداً لإرادة الشعب) أن تدمر كل من يقف في طريق التقدم والتنمية (مثل مُشوَّهي الحرب والعجائز) وكثيراً من أعضاء الأقليات (مثل الغجر واليهود) .
6 ـ إذا أدركنا، من خلال النموذج المركب، المغزى الإنساني الكامن في واقعة عنصرية، فإن الحزن من أجل الضحية سيكون حزناً إنسانياً لا يمكن توظيفه في خدمة عقيدة عنصرية استيطانية كما يحدث في الوقت الحاضر. فإذا سقط اليهودي ضحية العنف والعنصرية في مجتمعه الغربي، فإن هذا لا يعني أن اليهودي هو الضحية الأزلية للعنف وإنما ضحية مجتمعه الغربي العنصري، والحل الإنساني الوحيد لهذه المشكلة ليس هو تصدير المشكلة لنا وإنما أن ينضم اليهودي للجماعات التي تدافع عن حقوق الإنسان (من أعضاء الأقليات الأخرى وأعضاء الأغلبية) وأن يناضل من أجل حقوقه داخل مجتمعه. وتصبح القضية هي كيفية الدفاع عن الحقوق السياسية والمدنية والدينية لليهود (وغيرهم من الأقليات) داخل وطنهم، مثل الولايات المتحدة واتحاد دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) لا أن نطالب بتهجيرهم (أو خروجهم) كما يفعل العنصريون من الصهاينة والمتآمرون من بلهاء صهيون.(1/344)
ويجب أن نتذكر أن اليهودي الذي يفر من بغض أعداء اليهود وحربهم ضده هو نفسه اليهودي الذي يصبح مستوطناً صهيونياً يغتصب الأرض العربية ويتحوَّل، بعد قليل، إلى الجندي الصهيوني الذي نراه على شاشات التليفزيون يقتل الأطفال العرب أو يكسر عظامهم. وقد أدرك الصهاينة ذلك تماماً، ولذا فتاريخهم هو تاريخ التحالف مع أعداء اليهود، بل إن الصهيونية وُصفت بأنها تعيش على الكوارث اليهودية. ومن المعروف لدى الدارسين أن الحركة الصهيونية نظمت هجمات، أحياناً مسلحة، على الأفراد والجماعات اليهودية، لترغمهم على الخروج من بلادهم، ليتحوَّلوا إلى مادة استيطانية وقتالية في المستوطَن الصهيوني. وإشاعات الهجمات على اليهود السوفييت وظاهرة نبش قبور اليهود في أوربا هي، في أغلب الظن، من تدبير الحركة الصهيونية. وقد جاء في أحد تواريخ الصهيونية أنه إذا كان تيودور هرتزل هو ماركس الصهيونية، أي مُنظِّرها، فهتلر هو لينين الصهيونية، أي من وضعها موضع التنفيذ، وذلك عن طريق تصعيد اضطهاد اليهود في أوربا، فهاجرت الآلاف إلى فلسطين، الأمر الذي كانت الحركة الصهيونية قد فشلت تماماً في تحقيقه حتى ذلك التاريخ.
ونحن إذا أدركنا كل هذا، يصبح من الواجب علينا أن نبتعد عن الدهاليز الضيقة المظلمة، وأن نتوقف عن البحث الطفولي الساذج عن اليهودي ذي الأنف المُقوَّس والظهر المحدودب (الذي لا يُوجَد إلا في كتب الكاريكاتير وفي النماذج الاختزالية) ظناً منا أننا لو عثرنا عليه وقضينا عليه فإننا سنريح ونستريح. فالصراع مع العدو مركب وطويل، والدولة الصهيونية ليست مؤامرة عالمية بدأت مع بداية الزمان، وإنما هي قاعدة عسكرية واقتصادية وثقافية وسكانية للاستعمار الغربي، والصراع معها إنما هو جزء من المواجهة العامة مع الحضارة الغربية الغازية.
نموذج التكامل الفضفاض غير العضوى (نموذج الانتفاضة)(1/345)
«نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي» هو نموذج يسمح بوجود ثغرات بين الأسباب والنتائج، وبين الكل والجزء، وبين الجزء والآخر. فأجزاؤه ليست متلاحمة مع بعضها البعض. وهو نموذج يعرف الثنائيات الفضفاضة والانقطاع ويدور في إطار السببية الفضفاضة، ولذا لا يسقط في الواحدية أو التلاحم العضوي. ورغم استقلال الأجزاء عن الكل وعن بعضها البعض إلا أنها ليست مفتتة ذرياً فهي في علاقة تكاملية بحيث يمكنها أن تنسق فيما بينها وأن تتفاعل. ولذا فهو نموذج يعرف الاتساق والاستمرار والتكامل، ومع هذا يبقى لكل جزء من أجزائه استقلاله وكينونته وشخصيته وهويته. فالأجزاء مترابطة دون أن تكون متلاحمة عضوياً، والكل ينتظم الأجزاء دون أن يبتلعها، ودون أن تذوب هي فيه، ودون أن تُردَّ في كليتها إليه، والسبب له علاقة بالنتيجة ولكنها ليست علاقة مباشرة صلبة.
ونحن نضع نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي مقابل كلٍّ من نموذج التلاحم العضوي ونموذج التفتت الآلي والذري. وتتسم عناصر نموذج التلاحم العضوي بأنها جميعاً متماسكة متلاحمة بحيث لا يستطيع عنصر أن يستقل عن الكل ولا يتمتع بمساحة يتحرك فيها بشيء من الاستقلال (وهذا هو النموذج السائد في الأوساط الثورية في العالم العربي، بل في العالم الحديث بأسره، وهو النموذج المهيمن على الدول المركزية القومية وعلى منظومة الحداثة الغربية) . أما نموذج التفتت الآلي أو الذري فتتسم عناصره بأنها مستقلة تماماً بعضها عن البعض، فيعمل كل عنصر بمفرده (وهذا بطبيعة الحال لا يصلح أن يكون نموذجاً ثورياً، ولا حتى نموذجاً لإدارة دفة الحكم. ومع هذا يسيطر على فكر كثير من الأفراد وطريقة إدراكهم مع تفشِّي البرجماتية والوضعية وما بعد الحداثة) .(1/346)
والتراث الإسلامي العربي تراث قد تَرد فيه النماذج العضوية والآلية (وهي لابد أن ترد داخل أي تشكيل حضاري) ، إلا أنها لا تتمتع بأية مركزية فيه إذ يشغل المركز نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. فلننظر (على سبيل المثال) إلى الحديث الشريف: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" (متفق عليه) . فرغم أن الصورة المجازية الأساسية هنا هي الجسد، إلا أن بنيتها غير عضوية نظراً لاستخدام أداة التشبيه التي تحتفظ بمسافة (أو ثغرة) بين طرفي التشبيه وتقلِّل عضوية المجاز وتمنع تأيقنه. فالمؤمنون في تعاطفهم ليسوا «جسداً» وإنما هم «مثل الجسد» وحسب. فأداة التشبيه تخفف حدة الترابط وتُدخل قدراً من الترابط الفضفاض غير الصلب. ولعل الحديث الشريف الآخر عن نفس الموضوع تظهر فيه فكرة الترابط غير العضوي الفضفاض بشكل واضح: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" [متفق عليه] ثم شبَّك الرسول صلى الله عليه وسلم أصابعه. فالصورة المجازية هنا في مضمونها غير عضوية وتُعبِّر عن تكامل وترابط، ولكنه ترابط البناء غير العضوي الذي تتخلله الثغرات (تماماً مثل أصابع اليد المتشابكة) .(1/347)
ويمكن أن نضرب عشرات الأمثلة الأخرى من القرآن والسنة (والتراث الديني وغير الديني) على فكرة الترابط الفضفاض غير العضوي. فمثلاً مفهوم النفس المطمئنة هو مفهوم فضفاض تماماً، فهي ليست النفس الذرية الآلية ذات البُعد الواحد المغتربة التي تحتفظ بحدودها وانغلاقها، ولا هي النفس الرومانسية ذات البُعد الواحد التي تلتحم عضوياً بالآخر، وإنما هي نفس مركبة الأبعاد تكتسب المقدرة على الإبداع والبقاء (الطمأنينة) من خلال التوكل على الله دون الاتحاد به، ومن خلال التعاون مع الآخرين دون الالتحام الكامل بهم أو الانفصال الكامل عنهم؛ فهي تظل في حالة اتصال وانفصال، تَواصُل واستقلال. وأعتقد أن النموذج الأكبر (نموذج النماذج إن صح التعبير) هو المفهوم الإسلامي لله وعلاقة الإنسان به؛ فالله ليس كمثله شيء ولكنه قريب يجيب دعوة الداعي (دون أن يحل فيه) ، وهو مفارق تماماً للكون (للطبيعة والتاريخ) متسام عليهما ولكنه لا يتركهما دون عدل أو رحمة، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد (دون أن يجري في عروقنا) وبإمكان الإنسان أن يقترب منه ولكنه لا يمكنه أن يتحد به. ولذا يظل أشرف المخلوقات في أكثر اللحظات قرباً منه عز وجل "قاب قوسين أو أدنى". فثمة مسافة تفصل بين الإله والإنسان والطبيعة، تماماً مثل تلك التي تفصل بين الإنسان والطبيعة. وهذه المسافة حيز إنساني يتحرك الإنسان فيه بقدر كبير من الحرية، فهي ضمان استقلال الإنسان عن الإرادة الإلهية بحيث يصبح الإنسان حراً مسئولاً من الناحية الأخلاقية، ويصبح له من ثم هوية مركبة محددة، ويصبح التاريخ الإنساني مجال حريته واختباره (ومن هنا مركزية مفهوم «خاتم المرسلين» باعتباره إعلانا من الله عز وجل بأن التاريخ، بعد اكتمال الوحي، هو رقعة الحرية) . ولكن المسافة ليست هوة تعني أن الإله قد هجر الإنسان وتركه في عالم الفوضى والصدفة، فالله قد أرسل له وحياً في نص مقدَّس مكتوب، وهو قد كرَّم الإنسان(1/348)
واستخلفه، ولذا فإن الإنسان يحمل رسالة الإله في الأرض ويحمل الشرارة الإلهية داخله.
هذه هي بعض السمات الأساسية لنموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. ويمكننا أن نتناول موضوع الانتفاضة ولنبدأ بالأسباب التي أدت إلى اندلاعها.
إن القمع الصهيوني للمواطنين العرب قد تفاوت في حدته من عام لآخر، فحالة القهر حالة بنيوية تسم العلاقة بين المستعمرين والمستعمَرين. كما أن عملية تشويه المجتمع الفلسطيني وتحطيم بنيته التحتية، وربطه بالاقتصاد الإسرائيلي كانت تتسارع، حتى أن الباحث الإسرائيلي ميرون بنفنتسي كان قد أصدر دراسة بيَّن فيها أنه قد تم، على مستوى من المستويات، دمج الضفة الغربية في الاقتصاد الإسرائيلي، وأنه لا يمكن العودة عن هذا الأمر. وكان الاحتلال الصهيوني يحاول رفع المستوى الاقتصادي لسكان فلسطين المحتلة عام 1967 عن طريق تحويل قطاعات منهم إلى عمالة رخيصة تعمل داخل إسرائيل وتخدم الاقتصاد الإسرائيلي وتستفيد منه، حتى يصبح من صالحها الإبقاء على الوضع القائم.(1/349)
ولكن إلى جانب القهر كانت توجد عملية إغواء، فقد بلغ عدد العرب الذين يعملون وراء الخط الأخضر (وهو الخط الافتراضي الذي يفصل فلسطين المحتلة عام 1948 تلك التي احتلت عام 1967) 120 ألفاً، وقد ارتفع دخل الفلسطينيين العرب بالفعل من 300 دولار عام 1968 إلى 1400 دولار في الضفة وألف دولار في القطاع. ولا يعود ارتفاع مستوى الدخل إلى العمل وراء الخط الأخضر وحسب، وإنما بسبب تحويلات العاملين في البلاد العربية إلى ذويهم. ويُلاحَظ أن ارتفاع الدخل قد تم إنجازه لا من خلال الارتباط بالأرض والعمل فيها، وإنما من خلال النزوح عنها (العمل في إسرائيل أو في البلاد العربية) أي أن ارتفاع الدخل كان يشكل من الناحية البنيوية حركة طاردة من الأرض تهدف إلى دفع السكان لترك وطنهم والهجرة منه والتخلي عن الكفاح المسلح. وكانت الولايات المتحدة تفكر في إقامة بعض المشروعات الاقتصادية في الضفة الغربية تهدف إلى تعميق روح التكيف والمرونة بين العرب وإقبالهم على التمتع بالحياة الدنيا دون التفكير في أية قيم أخلاقية أو قومية ودون التعلق بأية مطلقات أو ثوابت.(1/350)
لكن لا القهر قادر على أن يؤدي إلى اندلاع الانتفاضة ولا الإغواء قادر على إطفائها. فهذه جميعاً عناصر مساعدة، إذ لابد أن تكون هناك عناصر إيجابية تحرك الفاعل الإنساني العربي، وفي تصوُّرنا أن العنصر الحاسم في هذا المجال هو تماسُك هوية الفلسطينيين وتجذُّرهم في تراثهم الحضاري والديني، فقد كان هذا هو المدد الذي لا ينفد، والذي جعل الفلسطينيين يدركون إمكاناتهم وعوامل الحياة والانطلاق داخلهم، وفي الوقت نفسه يدركون مدى تَخثُّر العدو وعوامل التآكل والموت داخله. لقد أدركوا الأزمة العقائدية التي كان يخوضها التجمُّع الصهيوني نتيجة تصاعد معدلات العلمنة فيه وتوجهه نحو قيم المنفعة واللذة. ولابد أنهم لاحظوا أن المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية غير قادرين على حمل السلاح، ولذا فهم يتحركون دائماً في حماية قوات "الدفاع" الإسرائيلية. ولابد أن أهل الضفة الغربية رأوا المنازل الفارهة التي تُشيَّد لهؤلاء "الرواد" الصهاينة الذين يتمسكون بجهاز التكييف وحمام السباحة أكثر من تَمسُّكهم بأرض الميعاد (أطلق على هذا النوع من الاستيطان "الاستيطان مكيف الهواء"، أما زئيف شيف المعلق العسكري الإسرائيلي فيسميه "الاستيطان دي لوكس") .(1/351)
ولا يوجد أية ضرورة لإطلاق الرصاص على مثل هذا المستوطن المرفه، فالحجارة كفيلة بأن تُعكر صفو حياته الدنيوية وفردوسه الأرضي الحديث الصغير. وبينما كان العدو يَتخثَّر لم تتوقف العمليات الفدائية، التي قد تتفاوت في حدتها، ومدى نجاحها وفشلها إلا أنها نجحت في الإبقاء على روح الجهاد لدى الشعب الفلسطيني، وعلى تماسكه وتمسُّكه بعقيدته، وهذا التماسك هو وحده الذي هيأ الأجيال الفلسطينية الجديدة لإدراك ما حدث داخل المجتمع الصهيوني فازدادت امتلاءً وإبداعاً. وجاءت هزيمة القوات الإسرائيلية في لبنان فحركت إمكانية إلحاق الهزيمة بالعدو من مجال الحلم إلى مجال الواقع. ثم كانت عملية قبية التي قام بها مواطن عربي من تونس فكانت بمنزلة الشرارة.
في هذا الإطار بدأ النموذج الانتفاضي، نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، يظهر بتدريجياً، وبدأ المناضلون في الضفة والقطاع يتبنونه إلى أن أصبح النموذج الأساسي والمهيمن، وأصبحت الانتفاضةحالة ممثِّلة لهذا النموذج. ولتوضيح وجهة نظرنا سنقوم بمقارنة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بنموذج التلاحم العضوي من منظور إمكانية التشغيل والتطبيق.
1 ـ يمكن القول بأن نموذج التلاحم العضوي ثمرة حقيقية لمنظومة الحداثة الغربية المبنية على القطيعة المعرفية والفعلية مع الماضي، والبدء من الواقع المادي المباشر ومحاولة السيطرة على عناصره. والتغيير يعني رفض الماضي والبدء من نقطة الصفر الافتراضية. أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فهو نموذج يحاول أن ينسلخ عن الحداثة الغربية ليستلهم التراث ويولِّد منه حداثة جديدة ونظماً في الإدارة وتحريك الكتلة البشرية بأسرها.(1/352)
وهذا أمر متوقع تماماً فالنموذج الانتفاضي نموذج استرجاعي: أن تصبح إسرائيل فلسطين مرة أخرى وأن تُزال آثار العدوان الاستعماري الغربي الصهوني الذي نجح في مواجهتنا بآلاته الحديثة وقصم ظهرنا فلابد إذن من استدراجه إلى أرضنا حيث يمكننا أن نحاوره حسب قواعدنا ونستلهم تراثنا. ولذا فالانتفاضة كانت شكلاً من أشكال «العودة عن الحداثة» demodernization، وبعث أشكال تقليدية من التكامل الاجتماعي والإنتاج (الأسرة كوحدة أساسية ـ الزراعة التقليدية ـ المخبز الريفي ـ العودة لشجرة الزيتون كمصدر للحياة وللرموز) ليزداد التكامل الفضفاض والتراحم في المجتمع. ويُلاحَظ أن القرى التي لم تحقق مستوى عالياً من التحديث هي أكثر القرى صلابة في النضال إذ أن بنيتها التحتية التقليدية تضمن لها مقدرة أعلى على الاستمرار بسبب عدم تبعيتها.(1/353)
وكلمة «انتفاضة» تبلور النموذج الانتفاضي بشكل يبعث على الدهشة، فهو دال يكاد ينطبق انطباقاً كاملاً على مدلوله ويعبِّر عنه بكل خصوصيته ونتوءاته ومنحنياته، وهو مصطلح يعود للمعجمين اللفظي والحضاري العربي الإسلامي. والكلمة مشتقة من فعل «نفض» مثل «نفض الثوب» يعني «حرَّكه ليزول عنه الغبار أو نحوه» . والكلمة على المستوى الدلالي المباشر تشير إلى حركة خلاّقة تولِّد الجديد من القديم (النظافة) ، وهي توحي في الوقت نفسه بعدم تجذُّر هذا الذي سيزول ـ الغبار الذي علا الثوب ـ أو الاستعمار الصهيوني الذي حط على أرض فلسطين. ويُقال أيضاً «نفض المكان» أي «نظر جميع ما فيه حتى يعرفه» (وهذه حيلة معروفة لدى شباب الانتفاضة) . ويقولون أيضاً «نفض الطريق» أي «طهره من اللصوص» . و «النفضة» هي «جماعة يُبعثون في الأرض متجسسين لينظروا هل فيها عدو أو خوف» . وتحمل الكلمة أيضاً معاني الخصوبة فيُقال «نفض الكرم» أي «تفتحت عناقيده» . ويُقال «نفضت المرأة» أي «كثُر أولادها» . والمرأة النفوض هي «المرأة كثيرة الأولاد» (مثل المرأة الفلسطينية) ، وهناك تعبيرات مثل «نفض عنه الكسل» و «نفض عنه الهم» وكذلك «انتفض واقفاً» . والكلمة، بدلالتها وإيحاءاتها تفترض وجود قوة ما كامنة، كانت ساكنة ثم تحركت، وأن مصادر الحركة ليست من خارج النسق، وإنما من داخله. وهذا البُعد يجعل كلمة «انتفاضة» (لا ثورة) مصطلحاً أكثر دقة في وصف ما يحدث، فالثورة تفيد الانقطاع (الثورة الفرنسية والثورة البلشفية) أما الانتفاضة فتفيد أن الكامن قد أصبح ظاهراً، وأنه وصل ما انقطع ولم يقطع ما اتصل.(1/354)
ونحن نذهب إلى أن الحجر في حالة الانتفاضة ليس مجرد سلاح استخدمه المنتفضون بكفاءة عالية وإنما هو بلورة كاملة لنموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. فاستخدام الحجر كفاءة توصَّل لها الإنسان منذ أن بدأ التاريخ البشري. والحجر موجود بكثرة داخل معجمنا الحضاري، فهو أحد المفردات الأساسية في التراث العربي الإسلامي. فالحصان، على سبيل المثال، يُشبَّه في معلقة امرئ القيس بأنه "جلمود صخر حطه السيل من عل". ونحن نعرف كذلك آية الطير الأبابيل التي رمت الغزاة «بحجارة من سجيل» ، وعقوبة الزنى هي "الرجم". ويستعيذ المسلمون بالله من الشيطان" الرجيم"، ويقضون حياتهم يحلمون بإقامة شعائر الحج، ومن أهمها "رجم" إبليس وتحية "الحجر" الأسود (وربما تقبيله) . وتقف الكعبة نفسها "حجراً" ضخماً، مكعب الشكل يشير إلى ما لا نهاية، إلى الإمكانيات والوعود والجنة. ويزخر شعر المقاومة الفلسطينية قبل الانتفاضة وبعدها بإشارات لا تُعَد ولا تحصى للأرض والجبال والحجارة.
وثمة سمات مشتركة أخرى بين نموذج الانتفاضة، نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، والنماذج الإدراكية السائدة في المجتمعات التقليدية. فعلى سبيل المثال لجأت الانتفاضة، التي تحاول أن تحرك الكتلة البشرية بأسرها، إلى البحث عن رقعة الإجماع الشعبي بين الفلسطينيين (الثوابت الإنسانية) مثل التمسك بالأرض والدفاع عن حق تقرير المصير، ولم تشغل بالها بالأطروحات الثورية النقية الدقيقة. وهذا التوجه للثوابت قد لا يكون رشيداً من منظور علمي مادي ولكنه رشيد تماماً من الناحية الإنسانية والتعبوية. والانتفاضة في هذا لا تختلف كثيراً عن المجتمعات التقليدية التي تتسم بقدر عال من التماسك بسبب الإيمان بالثوابت ومن محاولةإدارة الأمور من خلال الإجماع لا الصراع (والإدارة من خلال الإجماع لا من خلال تصعيد المنافسة أسلوب في الإدارة تبنوه في اليابان بنجاح كبير، وبدأوا يكتشفون أهميته وجدواه في الغرب) .(1/355)
ويمكن أن نرى النزعة الانتفاضية نحو الاستفادة من خبرات المجتمع التقليدي من موقفها مما يُسمَّى «الموضة» . والموضة ـ كما نعلم نحن عرب الخارج ـ اختراع غربي شيطاني، الهدف منه أن نغيِّر ملابسنا وأذواقنا (وهويتنا) مرتين كل عام، وأن نبدد طاقتنا الجسدية والروحية والمالية دائماً، ولكن في زمان الانتفاضة، وفي مكانها، تتغيَّر الأمور وتصبح الموضة ليس السعي للحصول على آخر ما اقترحه القرد الأعظم في باريس، وإنما أن تلبس ثياباً من صنع المصانع الفلسطينية، وبالتالي تضرب العدو وتساند الصناعة المحلية، فيزداد المنتفضون عزة واعتداداً بالنفس. كما أن اتباع الموضة الانتفاضية يعني أن الجميع سيرتدي الزي نفسه تقريباً فيصعب على العدو أن يميز بين الفلسطينيين، ومن ثم تصبح عملية المطاردة شبه مستحيلة (وهذا يشبه من بعض الوجوه الثورة الجزائرية حين أصبح كل الذكور يسمون محمداً وكل الإناث فاطمة، بحيث يغرق العدو في البحر الإنساني) . بل إن كل متجر ملابس أصبح مكاناً لتغيير الزي، ولذا إذا دلف أحد المنتفضين إلى مثل هذا المتجر فإن صاحبه يتصرف بتلقائية متعمدة، ويساعد المطارد على تغيير ملابسه، ليخرج وينضم للبحر الإنساني، والعدو الأبله يقف ممسكاً برشاشه الرهيب لا يعرف ماذا يفعل.
2 ـ نموذج التلاحم العضوي (وهو نموذج أساسي في الحضارة الغربية) يدور في إطار القانون العام المجرد العالمي. وقد توصلت النظرية الثورية الماركسية في عالمنا العربي إلى أنه لابد من ظهور وعي بروليتاري متبلور. لكن حيث إن الوعي البروليتاري ناجم عن ظروف موضوعية (تركُّز العمال في المدن ـ تفاقم الصراع مع البورجوازية ... إلخ) فلابد من الانتظار لحين ظهور هذه الظروف الموضوعية. وهكذا دخلنا دائرة مفرغة، وتضخَّم الحديث عن الثورة وطرق إشعالها، وظل الواقع من حولنا مجدباً عقيماً يشهد بتعاستنا الفكرية وبؤسنا العملي والنظري!(1/356)
وحينما وظف ثوار فيتنام (الفلاحون) الغابات والجبل في حربهم ضد الغزو الأمريكي الشرس، قال بعض الظرفاء إن على الثوار العرب أن يزرعوا بعض الغابات والجبال حتى يمكنهم أن يبدأو الكفاح الثوريّ، أي أننا فقدنا أنفسنا تماماً في القوانين والنماذج المجردة. ونموذج التكامل الفضفاض غير العضوي لا يفقد نفسه في القانون العام فهو يشبه المجتمعات التقليدية ذات الهوية الواضحة التي لا تفقد ذاتها في حضارة عالمية وهمية وتتعامل مع المتعين بكفاءة، ولذا نظر المنتفضون من حولهم وأدركوا أبعاد واقعهم واهتدوا إلى الحجر: سلاح غير مستورد متوافر في كل مكان لا يمكن نزعه أو مصادرته ويستطيع كل إنسان استخدامه فهو تعبير عن الإجماع الشعبي.
3 ـ نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي مبني على التدوير وإعادة استخدام المواد (بالإنجليزية: ري سايلكلينج recycling) ، وهو في هذا يشبه المجتمعات التقليدية، على عكس الحضارة الحديثة المبنية على فكرة التخلص من الفوارغ disposable (وهذا يعود إلى ولاء الحضارة الحديثة لفكرة السرعة وتنظيم الحركة واستهلاك الطاقة) . ويتميَّز الحجر بإمكانية استخدامة عدة مرات وربما إلى ما لا نهاية.(1/357)
وهناك أمثلة عديدة على عمليات التدوير الأخرى، فعلى سبيل المثال، حينما كان بعض الشباب العادي يدخل السجن يتم تحويلهم إلى كوادر انتفاضية واعية وهو ما حوَّل السجون إلى أكاديميات لتخريج الثوار. ويقوم المنتفضون بتنظيم إضرابات داخل السجن تزيد التراحم. وحينما يخرج المسجون فإنه يعود بطلاً في الحي، نموذجاً انتفاضياً جديداً، ينظر له الأطفال والشباب والكهول. وهكذا يتحوَّل غيابه السابق في السجن إلى حضور ثري ينير العقول والقلوب (يُقال إن معظم العناصر القيادية من خريجي هذه الأكاديميات) . والمساجين لا يختلفون هنا عن الشهداء، إذ حينما يسقط أحد المنتفضين شهيداً فهو يتحول إلى رصيد مضاف، ويؤخذ الجثمان لتقام الصلاة عليه، ويتحوَّل استشهاده بذلك إلى وسيلة من وسائل زيادة التماسك. فالشهيد هنا ليس طاقة مبددة وإنما طاقة جديدة تظل تسري في جسد الجماعة. كما أن الكفاح بالحجر يعني أن بوسع المنتفض أن يستخدم الحجر ويفر في الطرق الضيقة فيضمن لنفسه الاستمرار والبقاء في دورة الكفاح اليومي.(1/358)
4 ـ نموذج التلاحم العضوي (شأنه شأن نموذج الحداثة المادية الغربية) مبني على النمو المستمر والمتصاعد وتعظيم مراكمة الطاقة واستهلاكها وتبديدها بل أحياناً تبديد المادة نفسها حتى يصل النموذج إلى الذروة، وهي نقطة الاشتعال (نهاية التاريخ) . فهذا النموذج يذهب إلى أن تراكم الظروف الموضوعية وتصاعد التناقضات واحتدامها، سيولد حتماً وعياً ثورياً، وهذا سيؤدي بدوره إلى اندلاع الثورة. وعملية التراكم والنمو التي تتم، هي عملية عالمية تحدث في كل المجتمعات حسب النمط نفسه. فنمط التراكم والتناقض واحد، ومن هنا الاهتمام المفرط بالظروف الموضوعية العامة لا بالظروف الفريدة المحلية. والنماذج التراكمية ترى أن التصعيد الثوري لابد أن يأخذ شكل تصعيد رأسي لا أفقي، بمعنى حتمية أن يكون هناك تزايد دائم في احتدام التناقضات، وفي تصاعُد درجة الحرارة حتى تصل إلى درجة الاحتراق. ولذا أصبح الفكر الثوري مشغولاً بـ «تهيئة الظروف الموضوعية لنشوب الثورة» التي لم ينجح أحد في تهيئتها حتى الوقت الحاضر.
أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فيحتاج إلى قَدْر من الطاقة ولكنه لا يتجه نحو تعظيم مراكمتها واستهلاكها، وإنما يركز على استخدامها مع الحفاظ عليها وعلى مصادرها (كما هو الحال في المجتمعات التقليدية) . وهو نموذج يفضل التوازن على الصراع. ولذا فهو يجمع بين الطاقة الإنسانية (التقاط الحجر وإلقاؤه) والطاقة الطبيعية (الحجر نفسه) .(1/359)
ولأن النموذج الانتفاضي لا يتجه نحو النمو المستمر فهو لا يحاول أن يصل إلى الذروة، ولذا فهو يتوهج أحياناً ويخبو أحياناً أخرى. ولكنه لا ينطفئ أبداً ولا يشتعل أبداً. ويتضح هذا فيما نسميه التصعيد الأفقي، أي ابتداع أشكال جديدة من النضال هي استمرار للأشكال القائمة وربما تحسين لها ولكنها ليست تصعيداً كمياً لها. والتصعيد الأفقي يأخذ شكل زيادة الخبرة عند الجماعة البشرية الفلسطينية المنتفضة التي تعادل تزايد بطش العدو ومقدرته على محاربة الانتفاضة دون أن يشكل ذلك تزايداً في الحرارة ودون الإخلال بالإستراتيجية العامة للانتفاضة ـ أن تستمر في رفض العدو بشكل نشيط وفي إرسال الرسائل له: إننا كنا وما زلنا وسنكون.(1/360)
وقد درَّب أهل الضفة والقطاع أنفسهم تماماً حتى أصبح بوسعهم أن ينجزوا في ساعتين أو ثلاث ما لا يستطيع غيرهم إنجازه إلا في يومين أو ثلاثة، وهذا يتطلب تدريب كل أفراد الجماعة على الحركة المنسقة وعلى توزيع الأدوار والوظائف توزيعاً دقيقاً. وقد أدى هذا إلى زيادة مقدرة الفلسطينيين على القيام بهذا العدد الهائل من الإضرابات والاحتجاجات دون أن يحترقوا. وقيادة الانتفاضة بقبولها فكرة السماح بفتح المحلات وغيرها من الخدمات لعدة ساعات تبيَّن أنها مدركة تماماً لضرورة تحريك كل أجزاء الجماعة الإنسانية وبشكل مستمر، ومن ثم لابد أن تلبي حاجاتهم الإنسانية كبشر، لابد أن يأكلوا ويشربوا ويفرحوا ويحزنوا. ولكنهم كبشر أيضاً يحققون إنسانيتهم من خلال انتفاضتهم فلا يسقطون في رتابة الزمان اليومية، ولا في آليته المبتذلة، إذ أنهم بعد عودتهم من عند البقال يضعون ما اشتروا من بضائع في زاوية الدار ثم يعانقون النجوم ويرشقون عدوهم بالحجارة. لقد ابتدع الفلسطينيون زماناً فلسطينياً للمكان الفلسطيني ـ هذا إذن هو الإنسان في زمن الانتفاضة، هذا هو الإنسان الذي أفلت من قبضة الزمن الرديء، وقد أنجز ذلك لا بتحطيم الزمان ونفسه (كبروميثيوس أو العنقاء ـ كما يقول شعراء الحداثة) ، وإنما بتقبُّله كمعطى والعمل من خلاله، وبزيادة الخبرة اليومية، ومن خلال التكاتف والتعاطف والتراحم. وماذا يستطيع العدو مهما بلغت كفاءته أن يفعل في مجابهة هذا؟
ومن الأمثلة الأخرى على التصعيد الأفقي أن المنتفضين لاحظوا أن جنود العدو كانوا يتعرفون على راشقي الحجارة عن طريق التراب العالق بأيديهم. فقام المنتفضون بتجنيد الأطفال الصغار ليحملوا فوطة مبللة يغسل راشق الحجارة بها يده بعد فراغه من فعله البطولي.(1/361)
واستخدام الوزنة الحديدية بدلاً من الحجر، هو مثل ثالث على التصعيد الأفقي. والوزنة بالنسبة للحجر كالمدفعية الثقيلة بالنسبة للبندقية، فاستخدامها شكل من أشكال التصعيد ولا شك، ولكن مع هذا تظل الوزنة تنويعاً على الحجر. ويبدو أن إخفاء الوزنة أمر أسهل بكثير من إخفاء كمية من الحجارة، كما أنها لا تترك أثراً في يد صاحبها بعد أن يلقيها. إن زيادة الإبداع هنا لا يخل بالبنية العامة ولا يُشكِّل زيادة في الحرارة، كما أنه يفترض إمكانية تجنيد كل عناصر الجماعة. ولنتخيل شعور الطفل الذي يحمل الفوطة المبللة ومدى إحساسه بالكرامة حينما يعود إلى منزله ليحكي لأمه ولأبيه ما فعل فتزداد درجة التماسك والتراحم في الجماعة الفلسطينية.
ثمة مؤشرات أخرى على زيادة كفاءة الجماعة الفلسطينية في الانتفاضة، فعلى سبيل المثال عندما بدأت الانتفاضة كان بعض راشقي الحجارة يلجأون إلى مدارس البنات للهرب من المطاردين الإسرائيليين، فكانت البنات يصرخن بسبب فجائية الموقف، ولكن الجميع تعلَّم كيف يعزف لحن الانتفاضة المستمر. ولذا فحينما كان أحد المنتفضين يدخل مدرسة بنات فإن الجميع كن يتحركن بتلقائية متعمدة ويختفي المنتفض. وقد يظهر المنتفض فجأة أمام مكتب إحدى الموظفات وبالتلقائية المتعمدة نفسها تعطيه شهادة حسن سلوك لأخته التي حضر من أجلها، وليغوص العدو في هذا البحر الإنساني، إذ لا توجد آلة واحدة قادرة على مساعدته في اجتيازه.
5 ـ يتطلب نموذج التلاحم العضوي حداً أقصى من التنظيم والترشيد الكامل في إطار القانون العام والتطبيق الصارم له. فيتم التنسيق الكامل بين الأجزاء المختلفة. ولذا لابد أن تكون كل العناصر متجانسة، ولابد أن تذعن للقانون العام والسلطة المركزية وتتسم بالخضوع للأطروحات الثورية العلمية الدقيقة.(1/362)
أما في حالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن الترشيد الكامل لا يكون ضرورياً، بل قد يكون على العكس ضاراً، إذ أن الترشيد يعني تطبيق قانون واحد على الجميع، أو مجموعة من القواعد المختلفة ينتظمها قانون واحد، وهذا يتعارض مع تنوُّع الأجزاء وتفاوت السرعات. ونموذج التكامل غير العضوي قد لا يعمل بنفس المستوى من الكفاءة ولا على نفس القدر من السرعة التي يعمل بها نموذج التكامل العضوي، ولكنه قادر على أن يعمل بسرعات متفاوتة في الوقت نفسه بسبب عدم وجود تنسيق صارم بين الأجزاء المختلفة (إذ يحتفظ كلٌّ بشخصيته إلى حدٍّ ما) . وهو بسبب مساميته وليونته يتمتع بإمكانية الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف أو إلى اليمين أو إلى اليسار. بل يمكن أن تتحرك بعض أجزائه إلى الأمام وتتحرك بعض أجزائه الأخرى إلى الخلف، حسب الظروف. ويمكن أن تتحرك بعض أجزائه بينما تتوقف الأجزاء الأخرى، ولذا فمقدرته على تعبئة الجماهير، رغم عدم تجانسها، عالية.
وهذا ما فعلته الانتفاضة من خلال تجنيدها الكتلة البشرية (من كل الأعمار والطبقات والانتماءات الإثنية والدينية) في الأراضي المحتلة وتحريكها جميعاً في وقت واحد، في فترات مختلفة، وحسب مقدرة كل قطاع داخل هذه الكتلة على الحركة. ولم تكن الحركة دائمة متجانسة، وإنما كانت متقطعة غير متجانسة.
وقد تركت الانتفاضة بسبب عدم التزامها بقانون مجرد واحد مجالاً واسعاً للإبداع الشخصي وحوَّلت الارتجال إلى شكل مهم من أشكال النضال الإبداعي الذي يمكن استيعابه داخل التخطيط المركزي الفضفاض. والنضال بالحجر لا يتطلب درجة عالية من الترشيد ومن ثم لا توجد ضرورة لدورات توعية أو حلقات تدريب ولا درجات عالية من التثوير والتسييس.(1/363)
6 ـ نموذج التلاحم العضوي بسبب تماسكه العضوي وصلابته وافتقاده إلى المسامية والفضفاضية قادر على الحركة في ظروف مثالية وحسب، وفي اتجاه واحد وحسب ـ دائماً إلى الأمام. ولكنه بسبب هذا نجده غير قادر على التوقف، وفي الوقت نفسه مهدَّد بالتوقف الكامل إن لم تتوافر له الظروف المثالية، أي ظروف التحكم الكامل والتجانس الكامل والترشيد الكامل.
قد لا يتسم نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بمقدرته على الحركة السريعة والدائبة والمستمرة ولكنه يعوِّض هذا بمقدرته على التحكم في الإيقاع العام وفي توظيفه بما يتفق مع المنحنى الخاص لواقعه. وقد أدرك المنتفضون طبيعة واقعهم، وهو أنهم يعيشون تحت وطأة نظام عسكري شرس ذي ادعاءات ديموقراطية تتمتع بتأييد الحكومات والصحافة الغربية. ولذا كان المنتفضون يقومون بمضايقة العدو وإلحاق الألم والأذى به. ولكن الحجر ليس قاتلاً، وقد فوَّت هذا على عدوهم فرصة استخدام آلته العسكرية إلا بحذر شديد (وبخاصة في وجود وسائل الإعلام) . ولذا يمكن القول بأن النموذج الانتفاضي يقف بين النموذج الفيتنامي (القتال المسلح) والنموذج الغاندي (العصيان المدني السلمي) ، ومع هذا بوسع النموذج الانتفاضي أن يتحرك في نطاقهما إن لزم الأمر.
كما يتسم نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بمقدرته الفائقة على التحرك والاستمرار تحت معظم الظروف، وعلى الاستمرار بعد الانقطاع، وهذا ما حققته الانتفاضة، فهي أطول حركة عصيان مدني نشيط في التاريخ. لقد استمرت الانتفاضة وأنهكت العدو تماماً، حتى أن التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي توصَّل إلى اقتناع مفاده أنه لن يمكن القضاء على الانتفاضة إلا عن طريق الالتفاف حولها، ومن هنا مدريد ثم أوسلو.(1/364)
وقد صرَّح اللواء حسن البدري مؤرخ الجيش المصري، وأحد أهم مفكريه الإستراتيجيين، أن الجيش النظامي الذي يستمر في قمع العصيان المدني لمدة أكثر من عام يفقد مقدرته على القتال وينعدم فيه «الضبط والربط» وأن هذا ما حدث في فلسطين المحتلة. كما أضاف قائلاً إن حركة العصيان المدني التي تستمر لمدة أكثر من ست سنوات يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأنها تكون قد شيدت كل المؤسسات البديلة لإدارة المجتمع، أي أن الانتفاضة بهذا المعنى كانت انتصاراً لفكرة المجتمع الأهلي مقابل الدولة المركزية. واندلاع الانتفاضة الثانية دليل آخر على مقدرة النموذج الانتفاضي على الاستمرار بعد التوقف وعلى التأجج بعد الراحة.(1/365)
7 ـ يتسم نموذج التكامل العضوي بالثنائية الصلبة، فالمركز قوي أما الأطراف فضعيفة، ولذا فالتنظيم يتسم بالهرمية الصلبة؛ نخبة طليعية مسلحة بالنظرية الثورية تتمتع بوعي ثوري عال، وجماهير تابعة ينظمها الحزب الثوري (طليعة الطبقة العاملة!) ويقودها إلى أرض الميعاد. ولذا لا يمكن تخيُّل الثورة بدون النظرية الثورية أو الحزب الثوري: ثمة حاجة إلى مركز قوي وفعال، لا يستطيع النموذج التحرك بدونه. ولكن، إن أصاب المركز خلل، تبعثرت الأطراف تماماً وانتقل من الثنائية الصلبة إلى السيولة الشاملة وتحوَّل الهرم المدبب إلى شيء مسطح لا مركز له ولا قوام. أما في حالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن المركز لا يكون بالضرورة أقوى من الأطراف، ولذا يكون التنظيم شبه هرمي، قمته ليست مدببة ولا حادة، والقيادة لا تمسك كل الأمور بيدها ولا تسبق الجماهير وإنما تسير في وسطها جنباً إلى جنب، كما هو الحال في المجتمعات التقليدية التي لا تعطي أهمية مطلقة للنخبة أو الدولة إذ تتم الإدارة من خلال عدد هائل من المؤسسات الأهلية والوسيطة (الأسرة، ـ علاقات القرابة ـ الأوقاف ... إلخ) ، ومن خلال النصح والإرشاد وقدر من الإجماع. وإن حدث شيء للمركز فلن يؤثر كثيراً في الأطراف إذ لا يختلف المركز عن الأطراف كثيراً. والأطراف، شأنها شأن كل الأجزاء، لها شخصيتها المستقلة، أما وتيرة حركتها فينظمها المركز ولكنها مستقلة عنه ولها تموجاتها المختلفة ومنحنياتها الخاصة.(1/366)
هذا التماسك بين أفراد الجماعة يمكِّنها من الاستمرار في الأداء دون توجيه يومي من القيادة ودون رقابة حزبية صارمة (دون انضباط حزبي كما يُقال في الخطاب الثوري) وهذه هي طريقة التنظيم في الانتفاضة، فالنضال بالحجر لا يتطلب عملية تنظيم مركزية أو قيادة قوية، فرغم وجود القيادة المركزية إلا أن الأطراف ظلت قوية. فحينما يتم القبض على أحد القادة فإن الجماعة تبذل قصارى جهدها لإثبات أنه ليس القائد الفعلي وذلك عن طريق الاستمرار في النضال وتصعيده. ومن هنا يصبح القبض على القائد عنصراً يزيد التلاحم والتماسك والتراحم بدلاً من أن يكون عنصر تآكُل وتراجُع. بل إنه في كثير من الأحيان، ونتيجة تحسُّن الأداء، كان العدو يستنتج أنه لم يتم إلقاء القبض على القائد الحقيقي ويعود للبحث عنه.
ومن المفارقات، أن تماسك الجماعة وفعالية كل أفرادها جعلها أكثر قدرة على اختيار العناصر القيادية الأكثر كفاءة، لأنه إذا كان الجميع يعرف الجميع وإذا كان الطفل والشاب والعجوز يتكاتفون، فمن خلال الممارسة اليومية تسهُل معرفة العناصر الأكثر حركية وانتفاضاً فتصعد لمرتبة القيادة. فالتماسك هنا لم يجعل القيادة مهمة، ولكنه ضمن في الوقت نفسه وصول العناصر البشرية الأكثر إبداعاً وانتفاضاً إلى مركز القيادة!(1/367)
وقد اهتم المنتفضون، انطلاقاً من نزعتهم التراثية، أيما اهتمام بالأغاني الشعبية والتراث الشعبي في نضالهم واحتجاجهم، ولكن إبداعهم التراثي وصل إلى ذروته وعبَّر النموذج الانتفاضي، نموذج التكامل الفضفاض، عن نفسه خير تعبير فيما سميته «حيلة البطيخة» . فمن المعروف أن قوات الاحتلال الصهيوني كانت تُحرِّم على الفلسطينيين أن يرفعوا العلم الفلسطيني وتُجرِّم هذا الفعل. ولذا بدلاً من المواجهة المباشرة كان الفلسطينيون، عند مرور القوات الصهيونية، يقومون بقطع بطيخة إلى نصفين ثم يرفعون أحد النصفين، وكل لبيب بالإشارة يفهم. فألوان البطيخة المقطوعة حمراء وقشرتها خضراء وبيضاء وبذورها سوداء، وهي ألوان العلم الفلسطيني. ولعل عملية قطع البطيخة نفسها تذكر الجندي الصهيوني بأشياء أخرى يخافها. إن قطع البطيخة المتعينة أكثر عمقاً في مدلوله من مجرد رفع العلم المجرد. وهو سلاح مبتكر تماماً يوجد عند الفكهاني في أي وقت، وليس بإمكان العدو مصادرته وإن فعل يصبح أضحوكة أمام العالم. وهو سلاح اقتصادي تماماً يمكن تدويره (بالإنجليزية: ريسياكلنج recycling) ! يستطيع المجاهد أن يأكله بعد أن يناضل به. ويستطيع الجميع استخدام سلاح البطيخة من سن السابعة إلى سن السابعة والسبعين. وهو أيضاً سلاح يستفز العدو دون أن يعطيه فرصة للبطش. وهو في نهاية الأمر تعبير عن الهوية: حلبة الصراع الحقيقية. والبطيخ سلاح شعبي مائة في المائة، ولا أعتقد أن من يأكل الهامبورجر كثيراً ويسمع الديسكو طويلاً قادر على أن يستخدم البطيخة كعلم فلسطين، والأغنية كنظرية ثورية، والحجر كسلاح.(1/368)
هذا هو «نحو» الانتفاضة، وهذه هي «قواعدها» ، وما أشكال الإبداع الانتفاضية الأخرى إلا تنويعات أو جُمَل تم توليدها على هذا النحو. فسلاح إشعال النار في الغابات يتسم (تماماً كالحجر) بأن لا يحتاج لسلاح مستورد، ولا لمستوى تنظيمي عال ويحقق درجة عالية من إمكانية البقاء. ويمكن تحسين هذا السلاح من داخل النسق التقليدي إذ يقوم المنتفضون بسرقة حمام من مزارع الإسرائيليين ثم يزودونه بفيلينة تشعل الحرائق ويطلقونه ليعود ـ كما تملي عليه غريزته ـ إلى منطقة سكناه، وفي الطريق يشعل الحرائق! ولعل حادثة الحافلة التي بثت الرعب في نفوس المستوطنين شكل آخر من النضال الانتفاضي الذي يعبر عن نموذج التكامل الفضفاض، إذ قام أحد المنتفضين وبيديه العاريتين بدفع سائق الحافلة فسقط الجميع في الوادي وتناثرت أشلاء العدو، فهي فعل تم بمبادرة شخصية وجهد إبداعي فردي، ولذا لم تتمكن الاستخبارات من ضربه، وهو مع هذا جزء ينسجم تماماً مع الكل (الانتفاضة) ويخدم أهدافه!
وقد تركت الانتفاضة أعمق الأثر في أطراف الصراع، أما بالنسبة للفلسطينيين والعرب فقد نزعت الانتفاضة عنصر الخوف من القلوب وأثبتت أن بالإمكان إلحاق الهزيمة بالعدو الذي كان يظن أنه لا يُقهَر، هذا لو نفضنا عن أنفسنا التبعية الإدراكية وتعاملنا مع واقعنا من خلال النماذج الخاصة بنا، بل إن بوسعنا ـ لو شئنا ـ أن نولِّد من الانتفاضة ـ باعتبارها نموذجاً معرفياً ـ نماذج تنموية جديدة مختلفة عن النماذج (العضوية التراكمية) السائدة، فالانتفاضة اكتشفت شيئاً ما داخل الإنسان العربي وحرَّكته، وهو الأمر الذي لم تنجزه أية حركة فكرية أو سياسية أخرى من قبل.
أما على الصعيد الدولي فقد أسقطت الانتفاضة قناع إسرائيل الديموقراطي وأصبح من العسير الحديث عن التراث اليهودي ـ المسيحي والتقاليد الليبرالية وما شابه من ديباجات طريفة أحرزت شيوعاً في العالم الغربي بين البسطاء ورجال الصحافة والإعلام.(1/369)
أما بالنسبة للصهاينة فعُمْق أثر الانتفاضة في التجمع الصهيوني يفوق الوصف. فالانتفاضة عمَّقت جوانب أزمة المجتمع الصهيوني سواء في المجالين الاقتصادي أو السياسي. وتعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية يترجم نفسه إلى مزيد من الاعتماد على الولايات المتحدة وتآكل السيادة الاقتصادية والسياسية، ومن ثم ازدادت طفيلية التجمُّع الصهيوني وازداد التفسخ الاجتماعي فيه.
ولكن الأهم من هذا، أن الانتفاضة زعزعت دور إسرائيل كوسيط، فالدولة الصهيونية كانت تطرح نفسها على أنها استثمار ليس ذا عائد اقتصادي كبير ولكنه ذو عائد إستراتيجي مرتفع (فهي حاملة طائرات أمريكية زهيدة التكاليف) ، ولكن الانتفاضة بيَّنت بما لا يقبل الشك أن الدولة الصهيونية مكلفة من النواحي الإعلامية والاقتصادية والسياسية، وأنها قد يمكنها القيام بعمليات إجهاضية سريعة (دور الفتوة) أو أن تضرب في العمق العربي، ولكنها غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي فهي إن كانت غير قادرة على الاحتفاظ بالأمن والسلام الأمريكي ضد الشباب من حملة الحجارة، فكيف يمكنها أن تحافظ على السلام الأمريكي من باكستان إلى المغرب، كما كانت تزعم. ومع استمرار الانتفاضة وعجز المؤسسة الصهيونية عن إطفاء نورها ونيرانها، ومع تزايد تماسك المجاهدين الفلسطينيين اكتشف الصهاينة أن دورهم التقليدي كشرطي للمنطقة لم يعد ممكناً، وأن محاولة ضرب الانتفاضة من خارجها لن تفلح، ومن هنا بدأت إسرائيل تطرح نفسها على أنها عدو الأصولية الإسلامية ليمكنها دخول تحالف مع الحكومات العربية ضد الروح الجهادية، ومن هنا توقيع اتفاقيات السلام والإلحاح على ضرورة رفع المقاطعة العربية حتى تلعب إسرائيل دوراً اقتصادياً يحل محل دورها العسكري القديم أو يكمله، بهذه الطريقة تحل الدولة الصهيونية أزمتها تجاه الدول الغربية الراعية لها وتكون قد توصَّلت إلى طريقة لضرب الانتفاضة من الداخل.(1/370)
ولكن أهم آثار الانتفاضة بغض النظر عن نتائجها العملية والمباشرة أنها أصابت الحلم الصهيوني في مقتل، فالمستوطن الصهيوني الذي كان يستند وجوده وإحساسه بالأمن الداخلي إلى وهم الإيمان بأن العرب ـ في نهاية المطاف ـ سيخضعون ويقبلون الأمر الواقع، قد رأى المقهورين، وهم يهبون ـ فجأة من وجهة نظره ـ ويلقون الأحجار عليه في انتفاضة اشترك فيها الجميع حرفياً. ولذا بدلاً من الأحلام الوردية المتمركزة حول البيت الفاخر الذي توجد على أطرافه العمالة العربية الرخيصة، توجد كوابيس مظلمة يقف في وسطها طفل ممسك بحجر، ومن ثم بدأ المُستوطن الصهيوني يتساءل ـ ولأول مرة ـ لا عن الخلل الذي يمكن إصلاحه، وإنما عن شرعية وجوده نفسها، وبهذا تكون الانتفاضة قد استعادت للصراع العربي الإسرائيلي أبعاده الحقيقية، ورغم كل المحاولات الحالية الرامية لتحويل قضية الصراع العربي الإسرائيلي إلى قضية إجرائية متصلة بالممرات وفرق المطافئ وبضعة كيلو مترات، فإن اندلاع الانتفاضة يؤكد أن القضية أكثر شمولاً وعمقاً، وأن جهادنا ليس من أجل هذا الشيء أو ذلك، وإنما من أجل هوية هذه المنطقة ومن أجل قيمها ومستقبلها.
إن الانتفاضة ليست حركة عصيان مدني لتحرير فلسطين أو الشعب العربي وإنما هي نموذج متكامل ورؤية للكون يمكن استخدامها في إدارة المجتمع العربي بطريقة تفجِّر الإمكانات الثورية والإبداعية لدى الجماهير. وهذا ما فشلت فيه كل من الحركات الثورية العربية وأعضاء النخب الحاكمة. فإنجاز الانتفاضة إنجاز لنا جميعاً نحن أبناء الشعب العربي والشعوب الإسلامية، وهو طريقة للجهاد ذات فعالية عالية. ولعل عودة الانتفاضة ونشاطها بعد سكوتها، يعني أن نموذج الجهاد لا يموت، فهي قد تهدأ قليلاً لتراقب ما يحدث، لتعود حية شامخة، كالنجم الساطع في سمائنا التي لا يتلألأ فيها كثير من النجوم.
المؤشر بين النماذج الاختزالية والمركبة(1/371)
كلمة «المؤشِّر» من فعل «أشَّر» ، وهو من الألفاظ العربية المحدثة، وتقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة «إنديكيتور indicator» . والمؤشِّر هو عادةً جسم متحرك (إبرة أو عقرب) يتحرك على سطح به مقياس. وتدل حركة المؤشِّر على التحولات التي تطرأ على شيء آخر، فالإبرة التي تُوجَد في عداد السرعة في السيارة تدل على السرعة، أما الإبرة التي تُوجَد في جهاز قياس الضغط، فتدل على الضغط، وتدل عقارب الساعة على الزمن. ويُلاحَظ أنه تُوجَد هنا علاقة بين شيئين: جسم مادي يشاهده المرء بشكل مباشر، وشيء آخر غير منظور يجرى قياسه مثل السرعة والزمن وضغط الدم في الإنسان أو الضغط الجوي.
وتُستخدَم كلمة «مؤشِّر» في العلوم الإنسانية لنفس الهدف. فالمؤشِّر عنصر ما في الواقع تمكن ملاحظته بسهولة، والتحولات التي تطرأ عليه تدل على التحولات التي تطرأ على مفهوم مجرد. وبسبب هذه العلاقة يمكن جمع المعلومات والبيانات عن المفاهيم المجردة (الطبقة ـ المكانة ـ الأسرة) من خلال المؤشِّر بحيث يتعمق إدراكنا لكل هذه المناهج وبنيتها، كما يمكن رصد التحولات التي تطرأ عليها.(1/372)
ويتراءى للبعض أن علاقة المؤشِّر بالواقع مباشرة تماماً تشبه علاقة العقل بالواقع أو علاقته بالمعلومات، وذلك في الرؤى الموضوعية المتلقية المادية (صفحة بيضاء تنطبع عليها معطيات الواقع الحسية دون تَدخُّل الرؤى والرموز والذكريات والإرادة والمقدرة والمصالح على خداع الذات وتجاوزها) ، كما تشبه علاقة المثير بالاستجابة في النماذج السلوكية إذ لا توجد مسافة تفصل بين الواحد والآخر. ولكن المؤشِّر لا يتحرك في فراغ أو على صفحة بيضاء، فهو مرتبط دائماً بالنموذج الإدراكي أو التفسيري الذي يحكم رؤية من يستخدم المؤشِّر، وقد يكون المؤشِّر تعبيراً عن نموذج مركب (ولنسمه «المؤشِّر المركب» ) ، ولذا فإن علاقته بالواقع ستكون مركبة لأنه يشير إلى الواقع في مستوياته المختلفة الظاهره والباطنة والبرانية والجوانية وأبعاده المتنوعة دون اختصار أو اختزال. وهو سيدور في إطار رؤية تفسيرية اجتهادية تدرك تماماً أن معرفة بعض جوانب الواقع ممكنة، أما معرفة كل جوانب الواقع فأمر إمبريالي مستحيل. وقد يدور المؤشِّر في إطار نموذج اختزالي (ولنسمه «المؤشِّر الاختزالي» ) فتصبح مهمته اختزال الواقع. فالمؤشِّر الاختزالي ـ شأنه شأن النماذج الاختزالية ـ يتعامل مع الواقع (متضمناً الإنسان) باعتباره ظاهرة بسيطة واضحة، خاضعة للسببية الصلبة المباشرة الكاملة؛ الظاهر هو الباطن، والسطح لا يختلف عن الأعماق، والظاهر يكشف ما في الباطن بسهولة ويُسر، والسطح يشف عما تحته بدون عناء. والدوافع الإنسانية بسيطة واضحة يمكن رصدها، ولذا فإن الإنسان يسلك حسب نمط متكرر مسبق، ولذا يَسهُل التنبؤ بما سيفعل كما يتصور السلوكيون (وهم حالة متطرفة من أصحاب المؤشِّرات الاختزالية الكمية [المادية] ) . ويظن صاحب المؤشِّر الاختزالي أن مؤشِّره أو مؤشِّراته يقينية نهائية صلبة وما عليه إلا أن يتسلح بها وينظر للواقع بشكل موضوعي محايد (متجاهلاً السياقات المركبة المتداخلة(1/373)
والأبعاد التاريخية والتركيبات النفسية والرموز متعددة الأوجه) . وهو عادةً ما يحوِّل الكيف إلى كمّ، بل إنه يدرك الكيف باعتباره كماً (فعلم اجتماع عشة الدجاج لا يختلف بالنسبة له عن علم اجتماع المنزل الإنساني) ثم يعبئ جداوله التي لا تنتهي بالبيانات وهو فطن دائماً إلى أنه أحاط بكل جوانب الواقع وشرحه تماماً بشكل موضوعي باهر.
وصاحب المؤشِّرات الاختزالية جاهز دائماً بآلياته الرصدية وجداوله البحثية واستبياناته، ولكنه جاهز بالدرجة الأولى بأطروحته الاختزالية التي تُفسِّر كل شيء ويُردُّ إليها كل شيء. فالأمور إن هي إلا: عناصر اقتصادية ـ صراع من أجل البقاء ـ دوافع جنسية ـ شهوة للسلطة ـ مؤامرة بلشفية ـ مؤامرة يهودية ـ مؤامرة إسلامية متطرفة. ويتم الرصد في إطار هذه الأطروحة وتُستخدَم المؤشِّرات للتوثيق الذي لا ينتهي. وبذلك يصبح المؤشِّر ليس طريقة لاكتشاف الواقع وإنما لتسطيحه وتبسيطه وتسويته.(1/374)
ينظر صاحب المؤشِّرات الاختزالية حوله جاهزاً بأطروحاته البسيطة، ويتحول كل ما حوله إلى مؤشِّرات تثبت ما يؤمن به دون أي قلق أو اجتهاد أو إشكاليات. وبدلاً من اكتشاف الواقع وإعادة اكتشافه، يقوم هو بعملية رصد موضوعي متلقٍ وتوثيق سطحي. فإن اشترك يهودي أمريكي في مظاهرة من أجل إسرائيل، فإن الأمور منتهية والدلالة واضحة، فالظاهر والباطن واحد، والمثير والاستجابة متصلان. فاشتراك هذا اليهودي في مثل هذه المظاهرة دليل صلب لا يُدحَض على أنه صهيوني متعاطف مع إسرائيل. وإن ضُبطت مجموعة من المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية، فإن المسألة أيضاً منتهية، فهذا مؤشِّر صلب على أن اليهود أشرار ينشرون الفساد في الأرض. وإن قررت الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القدس، فإن المسألة واضحة وسهلة وتنهض دليلاً على سطوة اللوبي الصهيوني. وإن صرح أحدهم أن أبواب الهجرة من الاتحاد السوفيتي ستُفتَح أمام اليهود فهذه ولا شك جريمة العصر إذ من المتوقع أن تهاجر الملايين، لأن الأطروحة السائدة أن اليهود يهاجرون إلى إسرائيل كلما سنحت لهم الفرصة!.(1/375)
وما يغيب في هذه الاستجابات هو الإحساس بتركيبية الواقع وأن الظاهر ليس هو الباطن. ومن ثم، فإن الأطروحات البسيطة لا تكفي، والمؤشِّرات الواضحة البسيطة لابد أن تثير في أنفسنا الشك. فالإنسان ظاهرة مركبة إلى أقصى حد، ظاهرة تحوي داخلها عناصر لا يمكن بأية حال ردها إلى النظام الطبيعي (الوعي ـ الحس الخلقي ـ الحس الجمالي ـ المقدرة على مراقبة الذات وتغييرها ـ المقدرة على فعل الخير وعلى فعل الشر بشكل واع ونتيجة اختيار حر ـ المقدرة على استخدام الرموز في العمليات الإدراكية) . وهذه العناصر تتجلى في أشكال ملموسة مختلفة، ولكن إدخالها في شبكة السببية الصلبة والتوصل إلى مؤشِّرات مادية عليها أمر عسير في معظم الأحيان ومستحيل في بعضها، ولعل هذا هو سبب صعوبة التنبؤ بسلوك الإنسان. ولكن يظل من الضروري، مع هذا، استخدام المؤشِّرات والتعميم منها، فبدونها لا يمكن رصد الواقع ولا يمكن رؤية الأنماط الكامنة وراء سيل المعطيات والمعلومات ولا يمكن أن يقوم علم. ولكن لابد أن تحاول المؤشِّرات أن تفلت من قبضة النماذج الاختزالية التي تُجمِّد الواقع وتُسطِّحه، وأن ندرك عدة قضايا أساسية عند استخدام المؤشِّرات.(1/376)
1 ـ لعل من الواجب أن ندرك قصور المنطلقات المعرفية للنماذج الموضوعية المتلقية المادية التي تظن أن الإنسان إن هو إلا ظاهرة طبيعية، ويجب تَبنِّي منطلقات الرؤية التفسيرية الاجتهادية التي تنطلق من ثنائية الإنسان والطبيعة والتي تؤكد أن الإنسان ليس إنساناً طبيعياً وإنما إنسان غير طبيعي، رباني، إنساني. هذا الاختلاف بين الإنسان والطبيعة (المادة) يُعبِّر عن نفسه في الاختلاف بين المؤشِّر في العلوم الطبيعية والمؤشِّر في العلوم الإنسانية. ولنأخذ على سبيل المثال مستوى التعميم الذي يمكن أن يطمح إليه الباحث. إن أي علم لابد أن يستند إلى قدر من التعميم، وإلا لما أصبح علماً. ولكن التعميم في العلوم الطبيعية يصل إلى مستويات أعلى بكثير من المستويات التي تصل إليها العلوم الإنسانية، إذ أن عنصري الزمان والمكان بالنسبة للعلوم الطبيعية ليسا في أهميتهما بالنسبة للعلوم الإنسانية. ولذا، فإننا نجد أن التعميم في العلوم الإنسانية يكون بمثابة إطار عام يتم من خلاله تصنيف مجموعة من الظواهر، وتظل كل ظاهرة محتفظة بخصوصيتها واستقلاليتها عن الإطار الكلي. ومن هنا، فإننا نجد أن التعميم في العلوم الإنسانية يظل لصيقاً إلى حدٍّ ما بالمادة المستخدمة في الوصول إلى التعميم. ولذا، فإنه يُقبَل في العلوم الإنسانية بقدر من التناقض بين النظرية والظواهر المختلفة لا يُسمَح به في العلوم الطبيعية. كما يُلاحَظ أن التعميمات في العلوم الإنسانية كثيراً ما يتم تعديلها من خلال عملية التطبيق، ذلك لأن العلاقة بين المؤشِّر (العام) والظاهرة (الخاص) في العلوم الإنسانية علاقة حلزونية تبادلية. فنحن يمكن أن نصل إلى تعميم مفاده أن الجماعات الوظيفية اليهودية، بعد ظهور الدولة القومية، تتحول عادةً إلى طبقات متوسطة. ويمكن تعريف الطبقة المتوسطة من خلال الدخل والمكانة وأسلوب الحياة، ويمكن استخدام هذا كمؤشِّر عام. ولكن، عند التطبيق، لابد أن نَلزَم(1/377)
الحذر، فأعضاء الجماعات اليهودية من أعضاء الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة ليس لهم أية خصوصية، وإن كان ثمة خصوصية فليس لها أهمية تفسيرية كبيرة. أما في جنوب أفريقيا، في إطار المجتمع الاستيطاني، فإنها تصبح طبقة متوسطة استيطانية، الأمر الذي يمنحها خصوصية لها قيمة محورية في عملية التفسير، فعلاقة الطبقة المتوسطة في جنوب أفريقيا بالطبقة العاملة السوداء تختلف تماماً عن علاقة الطبقة الوسطى في بلد مثل فرنسا مع الطبقة العاملة فيها. أما في أمريكا اللاتينية، فإن قولنا إن أعضاء الجماعات اليهودية انخرطوا في صفوف الطبقة المتوسطة هو من قبيل التجاوز. فهم طبقة متوسطة من ناحية الدخل والمقاييس الخارجية والمهنية، ولكنهم مع هذا احتفظوا ببعض ملامح الجماعة الوظيفية المالية. ومن بين هذه الملامح العلاقة مع النخبة الحاكمة، إذ أن أعضاء الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية كانوا غير مُمثَّلين (حتى عهد قريب) في النخبة الحاكمة بسبب التكوين الحضاري الخاص للمجتمعات اللاتينية. فرغم أنها مجتمعات استيطانية، إلا أنها لم تصل إلى درجة عالية من العلمنة والانفتاح كما حدث على سبيل المثال في الولايات المتحدة.
2 ـ يجب أن ندرك أن مضمون المؤشِّر في العلوم الإنسانية ليس مباشراً، فظاهر الإنسان يختلف عن باطنه، إذ لابد أن يَكد الباحث لتحديد المعنى الحقيقي للمؤشِّر، ولذا يمكن أن تكون بعض المؤشِّرات متشابهة بشكل سطحي، ولكننا بعد شيء من التعمق فيها سنكتشف أنها تشير إلى مدلولات مختلفة بل متناقضة. والعكس صحيح، إذ يمكن لمؤشِّرات أن تبدو متناقضة ولكن بعد شيء من التعمق يتضح أنها تشير إلى مدلول واحد.(1/378)
ولنضرب بعض الأمثلة على ما نقول: إن هجرة اليهود من بلادهم إلى إسرائيل هو مؤشِّر على أن ثمة عناصر طرد في بلادهم الأصلية وعناصر جذب في إسرائيل وتدل على فشلهم في الاندماج في مجتمعاتهم. وبناءً على هذا التعميم المعقول، بل البديهي، يمكن القول بأن هجرة يهود جورجيا هي تعبير عن نفس الاتجاه. ولكننا لو تعمقنا قليلاً لوجدنا أن هجرة يهود جورجيا تعبير عن اندماجهم في مجتمعهم، فجماهير جورجيا السوفيتية (قبل سقوط الاتحاد السوفيتي) كانت تناصب الدولة السوفيتية العداء، وأعضاء الجماعات اليهودية كانوا جزءاً لا يتجزأ من هذه الجماهير ومن مجتمعهم الجورجي. وبالتالي، فإن الخروج من جورجيا والذهاب إلى إسرائيل (عدو الاتحاد السوفيتي اللدود) ليس خروجاً يهودياً بل هو خروج جورجي وتعبير عن حركيات المجتمع الجورجي وعن رفض الهيمنة السوفيتية. وإذا نظرنا إلى يهود بني إسرائيل في الهند فسنجد أنهم يعيشون في عزلة (وهذا يؤخذ كمؤشِّر على عدم اندماجهم) . ولكننا سنكتشف أن المجتمع الهندي مبني على نظام الطائفة المغلقة، وأن من ينتمي إلى هذا المجتمع عليه أن يُنظِّم نفسه على هيئة طائفة مغلقة، وهذا ما فعلته الجماعات اليهودية في الهند، فعزلتها هي تعبير عن اندماجها.(1/379)
3 ـ يجب أن ندرك أن مضمون المؤشِّر في العلوم الإنسانية مرتبط إلى حدٍّ كبير بالمعنى الداخلي الذي ينسبه الفاعل إليه ومرتبط بالدلالة الرمزية للمُعطَى المادي (وهو أمر غير متوافر وغير وارد في العلوم الطبيعية) . ولنأخذ هجرة اليهود السوفييت من الاتحاد السوفيتي كمثل. إذا لم نعرف دوافع المهاجرين للهجرة وظروف هجرتهم، فلن نتمكن من فهم اتجاه حركتهم. فإذا افترضنا ـ كما يفعل الصهاينة ـ أن الدافع للهجرة هو العودة إلى أرض الميعاد، فإن اتجاه اليهود السوفييت إلى الولايات المتحدة يبدو كما لو كان غباءً منهم. ولكننا إذا عرفنا أن دوافعهم هي الحراك الاجتماعي، لأصبحت الهجرة إلى الولايات المتحدة أمراً منطقياً جداً. ويؤدي تنوع المعنى الداخلي إلى تنوع الدلالات لنفس المؤشِّر المادي، ولذا فإن ثمة مؤشِّراً مادياً واحداً قد يشير إلى أكثر من مدلول أو إلى المدلول وعكسه. وقد درس الزعيم الصهيوني بن جوريون دوافع يهود الولايات المتحدة وتركيبتهم الأيديولوجية والنفسية، وخلص من هذا إلى أن صهيونية كثير من يهود أمريكا التي تتبدَّى في دفع التبرعات لإسرائيل والتظاهر من أجلها ليست تعبيراً عن رغبتهم في العودة إلى أرض الميعاد أو تمسُّكهم بهويتهم وإنما هي محاولة لتغطية اندماجهم في المجتمع الأمريكي وإرضاءً لضمائرهم اليهودية المتعبة. فكأن المؤشِّر هنا (ادعاء الصهيونية) يشير إلى عكس مضمونه الصهيوني التقليدي (تماسك الهوية اليهودية) . ولذا، رغم أن كثيراً من يهود أمريكا متعصبون ويعلنون صهيونيتهم بشراسة غير عادية، إلا أن المُلاحَظ أنهم لا يذهبون إلى انتخابات المؤتمر الصهيوني ويكتفون بدفع اشتراكات العضوية. ويُلاحَظ أن صهيونية يهود أمريكا تعني أنهم يهود/أمريكيون (على غرار إيطاليون/أمريكيون) أي أن إسرائيل مسقط رأسهم. ولكن مسقط الرأس هو المكان الذي يهاجر منه الإنسان لا إليه. ومرة أخرى نلاحظ أن المضمون الحقيقي لصهيونية يهود أمريكا ليس(1/380)
صهيونياً.
وهناك، كذلك، متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة الذي افترض بعضهم أنه مؤشِّر على النفوذ الصهيوني. ولكن، بعد دراسة الأمر، ظهر أن يهود أمريكا قد أسسوا هذا المتحف دفاعاً عن هويتهم اليهودية الأمريكية وتأكيداً على أن أمريكا (وليس إسرائيل) هي وطنهم، وأنها ليست المنفى الذي يتحدث عنه الصهاينة. ولذا، لم يسعد صهاينة إسرائيل كثيراً بهذا المتحف إذ جعل مركز يهود أمريكا في أمريكا نفسها.
ولنأخذ ظاهرة حب اليهود وكرههم. فإذا عرفنا مثلاً أن حب بلفور لليهود كان يُعبِّر عن رغبته في التخلص منهم، فإننا سنكتشف أن حب بلفور لهم لا يختلف كثيراً عن كره هتلر لهم. إن المعنى الداخلي للمؤشِّر مرتبط تماماً برؤية الفاعل إلى الكون، فكأن المضمون المحدَّد والمتعيِّن للمؤشِّر يتحدَّد إلى حدٍّ كبير في إطار رؤية الفاعل. وثمة نقطة هامة أخرى مرتبطة تماماً بقضية المعنى الداخلي وهي أن رؤية الفاعل، ظاهرة كانت أم كامنة، مختلفة عن أمنياته وعن أقواله. فقد تتطابق الأمنيات والأقوال مع الرؤية إلى الكون، وقد تتناقض جزئياً أو كلياً معها. والمتتالية المحتملة والمشروع والبرنامج كثيراً ما تختلف عن المتتالية المتحققة وعن النتائج الفعلية، ويجب ألا يخلط الباحث الواحد بالآخر، فيأخذ البرنامج السياسي باعتباره مؤشِّراً صلباً على ما سيحدث.(1/381)
4 ـ يرتبط بالعنصر السابق قضية استطلاعات الرأي التي يُنظر إليها باعتبار أنها مؤشِّرات صلبة على الاتجاهات السياسية في مجتمع ما. فتُوجَّه أسئلة واضحة يمكن الإجابة عنها بنعم أو لا، ثم تُصب المعلومات في جداول ويُقسَّم أصحاب الإجابات إلى صقور وحمائم مثلاً. والتقسيمات الثنائية تكون عادةً مغرية ولكن اختزالية، إذ لا يُعقل أن يكون الواقع بمثل هذه البساطة. فإن سُئِّل إسرائيلي هل أنت مع السلام؟ ستكون إجابته ولا شك "نعم أنا مع السلام"، إذ من النادر أن يوجد إنسان قادر على أن يقول أنا ضد السلام ومع سفك الدماء. فالسؤال الساذج يؤدي إلى إجابة ساذجة. ولكن الثنائيات المتعارضة لا يمكنها أن تصل إلى تركيبية الواقع وتموجاته. وثمة أسئلة يمكن الإجابة عنها بـ «نعم» على مستوى و «لا» على مستوى آخر، و «نعم ولا» في آن واحد على مستوى ثالث. وهناك أيضاً الدوافع المركبة (بعضها خفي وبعضها على مستوى اللاوعي) . فقد بيَّنت إحدى إحصاءات الرأي في الاتحاد السوفيتي أن 17% من يهود الاتحاد السوفيتي يتحدثون اليديشية. ولكنهم، بعد مراجعة الأرقام، وجدوا أن جزءاً كبيراً منهم قد صرح بأن اليديشية لغته كجزء من تأكيد هويته وكجزء من الاحتجاج على الدولة السوفيتية، وأن هؤلاء في واقع الأمر لا يتحدثون اليديشية، والأهم من هذا أنهم لا يرسلون أولادهم لتعلُّم اليديشية، وبالتالي فاستطلاع رأي هؤلاء لا يجدي كثيراً إذ أن ولاءهم العقائدي وأحلامهم المثالية هي التي تحدد إجابتهم وليس واقعهم الفعلي. وفي أحد استطلاعات الرأي في إسرائيل، قالت أغلبية المشتركين إنهم من مؤيدي مؤتمر السلام، فقام أحد الصحفيين باستطلاع رأي آخر ليتأكد أن المشاركين يعنون ما يقولون ليكتشف أن 80% لا يعرفون مؤتمر السلام هذا ولا أهدافه. وكمحاولة للتوصل إلى إطار أكثر تركيباً، اقترحت في إحدى دراساتي، بدلاً من الصقور والحمائم، أن يكون هناك صقور وحمائم ودجاج (يفر) ونعام (يتجاهل(1/382)
الواقع) ، واقترحت المزيد من " الطيور الإدراكية".
5 ـ يجب أن ندرك أن المؤشِّر في العلوم الإنسانية يشير إلى عالم الإنسان المركب الذي يوجد فيه ما هو جوهري وما هو هامشي، وأن المؤشِّر على الجوانب الجوهرية للظاهرة أكثر أهمية من المؤشِّر على الجوانب الهامشية. فيمكن أن يورد الإنسان مؤشِّرات صلبة ولكن ليست لها مقدرة تفسيرية عالية أو مركزية. ولذا، إن بيَّن أحد أن كل نساء ولاية إلينوي ممن تجاوزن سن الأربعين يؤيدن الدولة الصهيونية، فلابد أن يكون ذلك الأمر مهماً ولكنه أقل أهمية عن معرفة أن مستشاري الأمن القومي في الولايات المتحدة (من يهود وغير يهود) مؤيدون لإسرائيل.
6 ـ كما ينبغي، بقدر الإمكان، الاحتفاظ بالبُعد المعرفي النهائي للمؤشِّر إذ سيساعدنا هذا على التمييز بين المهم والأقل أهمية، وبين الهامشي والجوهري والنماذجي، وبين الجزء والكل، وبين الأمنية والحقيقة، وبين المضمون المتعيِّن للمؤشِّر وأي مضمون عشوائي. فالمؤشِّر بدون بُعد معرفي (وفي إطار محايد) قد يصلح لأن يكون مؤشِّراً على أي شيء.
ويجب أن ندرك أن المؤشِّر، مهما بلغ من شفافية أو سطحية أو وضوح، له بُعده المعرفي. وحين يأخذ دارس ما اشتراك أمريكي يهودي في مظاهرة تأييد لإسرائيل دليلاً واضحاً على صهيونية هذا اليهودي، فلابد أنه يؤمن، في واقع الأمر بشكل ما، أن كل يهوديٍّ صهيونيٌّ بشكل فعلي أو محتمل، أي أنه يؤمن ببساطة الدوافع الإنسانية وأحاديتها وجمود الطبيعة البشرية. أو كما يقولون بالإنجليزية " وانس أي جو ألويز أي جو Once a Jew, always a Jew من وُلد يهودياً يظل كذلك مدى حياته ". وكلمة «يهودي» هنا تشير إلى مجموعة من الصفات التي يُفترَض فيها أنها يهودية. وهذه رؤية سطحية يائسة.(1/383)
7 ـ وفي تحليل المضمون تؤخذ الكلمات والجمل كمؤشِّرات على أفكار أو مواقف من استخدمها أو نطق بها. ويمكن أن تدور الكلمات والجمل في إطار النماذج الاختزالية فيتم تصنيفها بشكل سطحي مباشر، وكأنها انعكاس بسيط لواقع المتحدث، وكأن الكلمات أدوات شفافة تُوصِّل ما يريد الإنسان التعبير عنه بشكل مباشر. وتبدأ عملية الإحصاء والرسوم البيانية التي لا تلامس إلا السطح. ولتجاوز هذا لابد أن يُدرك الباحث أن علاقة الدال بالمدلول ليست بسيطة أو سهلة أو مباشرة وإنما بالغة التركيب. فالمدلول يتغيَّر حسب تغيُّر السياق. ولذا نجد أن الدال الواحد مثل «قومية» له مدلول داخل التشكيل الحضاري العربي مختلف عن مدلوله داخل التشكيل الحضاري الياباني. كما أن اللغة المجازية لها أبعاد مختلفة عن اللغة المباشرة. وعلاقة الكلمات بعضها ببعض قد تكون أكثر أهمية من معنى الكلمة في نفسها وما بين السطور قد يُحدِّد معنى الكلمات التي فوقها.(1/384)
8 ـ وقد يكون من المفيد أن نتوقف هنا لنشير إلى ظاهرة لاحظناها في العالم العربي وهي أن كثيراً من الباحثين ممن هُزموا من الداخل بدأوا يوظفون المؤشِّرات في دعم الهزيمة. وهذه ظاهرة بدأت مع العصر الحديث في العالم العربي. فبعد وصول القوات الغازية الغربية في أوائل القرن التاسع عشر، اهتزت ثقة الإنسان العربي في نفسه، وخصوصاً أنه لم يكن يعرف شيئاً عن الحضارة الغازية (فكرها ـ آلياتها ـ قوانينها ـ نقاط تصورها) ، لم يكن يعرف مثلاً أي شيء عن تاريخ النهب الإمبريالي والتراكم الإمبريالي، فتصور واهماً أن الإنسان الغربي قد توصَّل إلى ما توصَّل إليه من نظام ورخاء من خلال إعمال عقله وبذل جهده وعمله لا من خلال استخدام عضلاته وتكنولوجيا الفتك المتقدمة وعمليات النهب المنظمة. وحينما ذهب الطهطاوي إلى باريس لم ير سوى الحرية والثقافة، ولم ير الجوانب المظلمة لهذه الحضارة رغم أنه ذهب إلى هناك عام 1830، وهو نفس العام الذي كانت فيه المدافع الفرنسية تَدُك الجزائر الآمنة. وقد يكون من المهم مقارنة استجابة الطهطاوي باستجابة ذلك الشيخ الجزائري الذي قيل له إن عساكر الفرنسيين قد جاءوا لينشروا الحضارة والمحبة في ربوع الجزائر، فأجاب إجابة مقتضبة جداً: لم أحضروا كل هذه المدافع وكل هذه البارود إذن؟ وهذا هو السؤال الذي لم يسأله الطهطاوي ولم يسأله كثير من الباحثين ممن وقعوا تحت وطأة الهزيمة واستبطنوها تماماً. وبدلاً من اكتشاف الواقع الغربي بجوانبه المنيرة والمظلمة، جعلوا شغلهم الشاغل النقل عن الغرب كجزء من محاولة اللحاق به. وبالتدريج، وتحت شعار الموضوعية والواقعية، بدأوا يتجردون من مثالياتهم وتراثهم وإبداعهم وأصبح همهم تَقبُّل الوضع القائم وموازين القوى وأصبح الآخر هو المثل الأعلى. وقد أنتج هذا مجموعة من المؤشِّرات الموضوعية هي في الواقع تعبير عن الهزيمة.(1/385)
وقد حدث شيء مماثل بالنسبة لإسرائيل، فنحن في رصدنا لها لا نركز إلا على مواطن قوتها وتَقدُّمها وتَفوُّقها، وهذه هي الموضوعية والواقعية، أما إذا اكتشفنا نقط ضعف العدو وقصوره وتآكله، فإن هذا يُصنَّف باعتباره خداعاً للذات. إن الذات المهزومة تخضع تماماً للآخر ولا يمكنها أن تتصور أن من الممكن أن تتفاعل داخله عوامل الحياة والانتصار والموت والانكسار. وتدريجياً، يدمن الإنسان الهزيمة إدماناً كاملاً حتى تصبح رؤية للكون لا يستطيع المرء أن يحتفظ بتوازنه بدونها. ومع أطروحة الهزيمة الاختزالية، تحوَّل كثير من الباحثين إلى جند مجندة تخدم العدو بنزاهة موضوعية دون أن تدري، فهي ترصد مواطن قوته، وتُصدِّق كل ما يقوله وتتصرف في إطاره بأمانة مضحكة دون تمحيص، وكيف يتأتى لهم غير ذلك وهم المهزومون من الداخل؟(1/386)
ويمكن تجاوز النموذج الاختزالي، كما يمكن تحسين أداء المؤشِّر كأداة لمعرفة الواقع بدلاً من أن تُحوِّله إلى أداة تُخفيه تماماً عن عيوننا، وذلك عن طريق إدراك تركيبية الواقع. ويترجم هذا الموقف نفسه إلى تنويع السياقات التي يتم إدراك المؤشِّر في إطارها بحيث يتحول المؤشِّر الصلب من مجرد آلة صلبة لتسطيح الواقع إلى أداة مرنة تكتشف نتوءه ومنحناه الخاص. وهذا لا يتأتى للباحث إلا إذا قام بعملية تثقيف ذاتية فيما يتصل بالسياقات المختلفة المحتملة للمؤشِّر، فإدراكه لهذه السياقات سيُمكِّنه من وضع المؤشِّر داخل نمط عام، كما أنه سيدرك معناه الداخلي والإشكاليات المختلفة المرتبطة به. ولنضرب مثلاً باللوبي الصهيوني الذي تُجمع معظم الكتابات العربية أنه القوة الحقيقية وراء تحركات الولايات المتحدة والعالم الغربي ضدنا. وقد كُتبت كثير من الدراسات انطلاقاً من هذه الأطروحة البسيطة وقامت بتوثيقها بعناية بالغة دون اختبارها أو وضعها هي نفسها موضع الاختبار. وبإمكان الباحث أن يفعل ما يلي حتى يمكنه وضع هذه الأطروحة الصلبة البسيطة موضع التساؤل:
1 ـ دراسة جماعات الضغط الأخرى (الشواذ جنسياً ـ المدافعين عن حق المواطن الأمريكي في امتلاك السلاح) لنقارن قوتها بقوة اللوبي الصهيوني، ولنرى هل قوة اللوبي الصهيوني أمر فريد، أم أنها إحدى سمات الديموقراطية الأمريكية (ديموقراطية جماعات الضغط) ؟
2 ـ يمكن دراسة الموقف الأمريكي (والغربي بشكل عام) من الصهيونية وإسرائيل قبل ظهور اللوبي الصهيوني وبعد ظهوره ومقارنتها.
3 ـ دراسة تزايد الدعم الأمريكي للصهيونية وإسرائيل وعلاقته باللوبي الصهيوني. وهل هناك علاقة طردية بين هذا التزايد وتزايد قوة اللوبي الصهيوني والحركة الصهيونية أم أن الدعم يتزايد بغض النظر عن قوة أو ضعف اللوبي؟(1/387)
4 ـ دراسة الدعم الأمريكي لبلد مثل تركيا أو شيلي ليس لهما لوبي وهل الدعم الأمريكي لإسرائيل مختلف عن دعمها لهاتين البلدين؟
5 ـ دراسة الدعم البريطاني لإسرائيل وهل يوجد لوبي صهيوني قوي في إنجلترا أم أن الدعم البريطاني مرتبط بالمصالح الإستراتيجية لبريطانيا؟
6 ـ هل صدرت قرارات أمريكية لدعم إسرائيل بدون ضغط من اللوبي الصهيوني أم أن القرارات لا تصدر إلا من خلال الضغط الذي يمارسه؟
7 ـ دراسة طريقة صنع القرار في الولايات المتحدة ومدى تأثرها بجماعات الضغط في الأمور الإستراتيجية الجوهرية.
8 ـ دراسة التوجه الإستراتيجي العام للسياسة الأمريكية وهل تم تحديد هذا التوجه من خلال الضغط الصهيوني أم أن هذه سياسة عليا لم يساهم الصهاينة في صياغتها؟
9 ـ دراسة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل (عدوان 1956 وحادثة بولارد) وهل نجح اللوبي الصهيوني في تغيير السياسة؟
10 ـ مقارنة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولحظات التوتر بين السلطات البريطانية في فلسطين والمستوطنين الصهاينة (ولحظات التوتر بين فرنسا والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر) .
11 ـ دراسة تاريخية للعناصر التي أدَّت إلى صدور وعد بلفور (أهم إنجاز صهيوني على الإطلاق) وهل لعب اللوبي الصهيوني أي دور في ذلك وماذا كان حجم الدور؟
12 ـ إجراء عمليات عقلية تصورية عن مسار السياسة الأمريكية لو غاب اللوبي الصهيوني وغابت إسرائيل. هل سياسة الولايات المتحدة تجاه القومية العربية (على سبيل المثال) كانت ستتغيَّر لو أن يهود العالم وإسرائيل اختفوا من على وجه الأرض أم أن ملامحها الأساسية ستظل كما هي؟
الجزء الثالث: الحلول الكمونية الوحدانية
الباب الأول: الحلولية ووحدة الوجود والكمونية
الحلولية ووحدة الوجود والكمونية: التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل(1/388)
هناك عدد من المصطلحات تُستخدَم للإشارة إلى مفهوم الحلول، وهي تُستخدَم أحياناً كمترادفات وأحياناً أخرى كمصطلحات تُشير إلى مفاهيم متقاربة. ويُلاحَظ أن المعاجم الفلسفية واللغوية المختلفة لا تتفق على معنى محدَّد أو دقيق لهذه المصطلحات، ولذا فإن حقلها الدلالي يتداخل بشكل كبير. ومن أهم المصطلحات ما يلي:
1 ـ «الحلولية» : وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية «إنفيوشن infusion» .
2 ـ «وحدة الوجود» : وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية كلمة «بانثيزم pantheism» .
3 ـ «الكمون» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إمنانس immanence» .
4 ـ «الباطن والباطنية» : ولها ترجمات عديدة باللغة الإنجليزية مثل: «إسوتريك esotiric» ، كما تترجم إلى «أَكَّلت occult» بمعنى «الخفي» ، وإلى «إنترنزيك intrinsic» بمعنى «جزء لا يتجزأ» ، و «إيمنينت immanent» أي «كامن» .
5 ـ «المحايثة» : وهي ترجمة أخرى لكلمة «إمنانس immanence» الإنجليزية.
6 ـ «الاتحاد» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة «يونيان union» .
7 ـ «الفناء» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنيهيليشن annihilation» .
8 ـ «الفيضية» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إمانتيزم emanatism» .
9 ـ «التجسد» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إنكارنيشن incarnation» .
10 ـ «النفسانية الشاملة» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة: «بان سايكيزم pansychism» .
11 ـ «المبدأ الحيوي» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنيميزم animism» .
12 ـ «إسقاط الصفات الإنسانية على كل الكائنات» : وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنثروبومورفيزم anthropomorphism» .
13 ـ «الماكروكوزم (الكون الأكبر) والميكروكوزم (الكون الأصغر، أي الإنسان) » : وتقابلها في الإنجليزية عبارة «ماكروكوزم آند ميكروكوزم macrocosm and microcosm» .(1/389)
وما يهمنا في المداخل المختلفة عن بعض هذه المصطلحات ليس تحديد معنى أو تعريف كل مصطلح على حدة، وإنما تحديد الحقل الدلالي العريض والإشارة إلى العناصر المشتركة والمتداخلة بين المصطلحات.
ويُلاحَظ أن الحقل الدلالي لكل هذه المصطلحات يفترض أن التنوع والثنائيات (خالق/مخلوق ـ مطلق/نسبي ـ كلي/جزئي ـ جوهري/عرضي ـ روحي/مادي ـ ظاهر/باطن ـ داخل/خارج) هي أمور تنتمي إلى عالم الظاهر وما يحدث أن طرفي الثنائية يتصلان ثم يمتزجان، ويفنى أحدهما في الآخر ويذوب، حتى يكونا كلاًّ واحداً عضوياً لدرجة يستحيل معها التمييز بينهما فيختفي الحيز الإنساني ثم الحيز الطبيعي (الناجمان عن انفصال الخالق عن المخلوق) ويظهر في العالم جوهر واحد فيصبح عالماً واحدياً (أي أن الحلولية هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان، مقابل النزعة الربانية نحو قبول الحدود والتركيب والثنائية والمقدرة على التجاوز) .(1/390)
والمصطلحان الأول والثاني (الحلولية ووحدة الوجود) هما الأكثر شيوعاً، وسنقوم باستخدامهما للإشارة للحقل الدلالي الذي تصفه كل هذه المصطلحات، وذلك لعدة أسباب من بينها سهولة الاشتقاق من كلمة «حل» ، ومن ذلك أيضاً أن كلمة «حلول» تفيد درجات مختلفة من الحلول تشكل «وحدة الوجود» آخر درجاتها وأكثرها غلواً وتطرفاً. وذلك على عكس مصطلح «وحدة الوجود» ، فهو يشير إلى حالة نهائية مثالية غير قابلة للتدرج. وعلى هذا، فإن مصطلح «الحلولية» كلمة تشير إلى كلٍّ من عملية الحلول التدريجي التي تتم من خلال مراحل متدرجة وإلى ثمرة هذه العملية، أما مصطلح «وحدة الوجود» فيشير إلى مرحلة نهائية واحدة سكونية (تأتي بعد مراحل سابقة) ، أي إلى الثمرة وحسب، الأمر الذي يعني قصور القيمة الدلالية لهذا المصطلح وضعف قيمته التفسيرية والتصنيفية. ولزيادة القيمة التفسيرية والدلالية للمصطلح قد نضيف كلمة «واحدية» لنفرق بين الحلولية وبين درجات وحدة الوجود الأخرى، فالحلولية الواحدية هي وحدة الوجود، كما سنضيف كلمة «روحية» و «مادية» للتفرقة بين شكلي وحدة الوجود الأساسيين.
وقد وجدنا أيضاً أن من الضروري إضافة كلمة «كموني» لكلمة «حلولي» بل واستخدامها أحياناً بمفردها لنصف النظم الحلولية. فنقول «نظام حلولي كموني» أو «المرجعية الكمونية» أو «اتجاه رحمي كموني» أو «الكمونية» . فكلمتا «حلولية» و «وحدة الوجود» تستدعيان عالماً جميلاً وربما لا عقلانياً من التصوف والزهد والدروشة، وهو ما يُقلِل من قيمتهما التحليلية والتفسيرية ويطمس الأبعاد الكلية والنهائية التي نريد أن نشير إليها: أن العالم مكون من جوهر واحد ويتسم بالواحدية الصارمة.
الحلولية(1/391)
«حل المكان وبه» ، بمعنى «نزل به» ، و «حلّ البيت» ، بمعنى «سكنه» فهو «حالّ» . والحلول قد يكون بجزء وقد يكون بكل، ولكنه في أكثر درجاته تطرفاً وفي منتهاه هو " اتحاد الجسمين اتحاداً تاماً يذوب به كل منهما في الآخر بحيث تكون الإشارة الى أحدهما إشارة إلى الآخر ". ويعني مصطلح «الحلولية» أن الإله والعالم ممتزجان وأن الإله والقوة الداخلية الفاعلة في العالم (الدافعة للمادة الكامنة فيها) هما شيء واحد، وأن هناك جوهراً واحداً في الكون، ولذا تتسم المذاهب الحلولية بالواحدية الصارمة وإنكار الثنائيات الفضفاضة التكاملية، والسقوط في الثنائيات الصلبة أو الاثنينية وإنكار الحيز الإنساني. وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية «إنفيوشن infusion» . أما معجم اللغة العربية المعاصرة لهانز فير (عربي ـ إنجليزي) ، فقد أدرج كلمة «إنكارنيشن incarnation» أي «التجسد» مقابلاً للكلمة.
وحدة الوجود
«وحدة الوجود» تقابلها في الإنجليزية كلمة «بانثيزم pantheism» ، وهي مشتقة من الأصل اليوناني «بان» بمعنى «كل» و «ثيوس» بمعنى «إله» . وكان جون تولاند الإنجليزي (وهو من رواد الفكر الصهيوني ـ غير اليهودي ـ والغنوصي) أول من نحت المصطلح عام 1705، ثم انتشر منه إلى اللغات الأوربية الأخرى. والمصطلح يعني أن كل الموجودات هي الإله وأن الإله هو كل الموجودات، وأن الإله هو العالم وأن العالم هو الإله، والإله والعالم حقيقة واحدة، ولهذا يقول أصحاب وحدة الوجود أنه ليس في العالم وجودان أو جوهران بل هناك جوهر واحد، وهو جوهر متجاوز للإنسان.
الكمون(1/392)
«الكمون» تقابلها في الإنجليزية كلمة «إمنانس immanence» والصفة «إمنانت immanent» بمعنى «حالٍّ في» ، من الفعل اللاتيني «إيمانيري immanere» بمعنى «يبقى في» . وفي اللغة العربية، «كمن» بمعنى «توارى» و «كمن له» أي «استخفى في مكمن لا يفطن له» ، و «اكتمن» بمعنى «اختفى» . و «الكمون» هو «صفة ما هو كامن» ، و «الكامن» هو ما ينطوي عليه الشيء بصفة دائمة وإن كانت غير واضحة، وهو وصف ينطبق على جوهر الأشياء (ولذا، يذكر معجم أكسفورد [إنجليزي ـ عربي] لدونياش كلمة «جوهر» كإحدى ترجمات الكلمة) .
وحينما يُقال إن " الله كامن في الكون " فهذا يعني أن الإله والكون كيان (جوهر) واحد، وحينما يُقال إن "قوانين الكون كامنة فيه" فهذا يعني أن من يريد أن يفهم هذا الكون عليه أن يدرس القوانين الكامنة فيه لا يتجاوزها. ومبدأ الكمون هو القول بأن " الكل داخل الكل " والقول بأن عناصر الوجود تتضمن بعضها بعضاً ولا تؤلف إلا حقيقة واحدة، وهو عكس التجاوز والتعالي (انظر: «التجاوز والتعالي» ) . ولذا، يُعَدُّ تطبيق مبدأ الكمون على هذه الصورة مقدمة من مقدمات مذهب وحدة الوجود أو نتيجة من نتائجه. ففي مذهب وحدة الوجود، تكون ماهية الإله كامنة/باطنة في العالم، أي أن الإله والعالم واحد. وقد قال إسبينوزا في تعريفه للإله باللاتينية «ديوس إست أومنيوم ريروم كاوزا إمانينز، نان فيرو ترانسينس deus est omnium rerum causa immanens, non vero transiens» ، «الإله هو السبب الكامن لكل الأشياء، لا العلة المؤثرة عليها من الخارج» . وارتباط اسم إسبينوزا بهذا المصطلح له دلالته، فإسبينوزا هو الذي نادى بتعادل وترادف الإله والطبيعة، أي كمون الإله في الطبيعة، أي أن الإله والطبيعة (وكل الأشياء) جوهر واحد.(1/393)
والكمون الكامل بهذا المعنى هو الإنكار الكامل للحيز الإنساني والسقوط التام في قبضة الصيرورة وإنكار أي وجود للكل المتجاوز. وقد وصف جان بياجيه المثل الأعلى البنيوي بأنه " السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا تحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية ". وما تقوله هذه العبارة هو ما يقوله إسبينوزا مع تغيير في المصطلح، فاللغة واحدة، أما الكلام فمتغير (كما يقول البنيويون) . وقد ترجم عبد المنعم الحفني في موسوعته الفلسفية كلمة «إمنانتزم immanentism» بكلمة «مذهب الحلول» . وتَحدَّث في هذا المدخل عن حلولية طاليس (العالم حافل بالآلهة ـ الإله منبث في العالم) ، وأنكسماندر (اللامتناهي) ، وهرقليطس (المبدأ الواحد وأصل كل المخلوقات) ، وأكسانوفان (العالم هو الإله) ، والرواقيين (المبدأ الأول ـ الإله ينفذ في كل العالم) ، وإسبينوزا (الإله والوجود واحد) ، والحلاج (الناسوت صورة اللاهوت) ، وبعض نظريات التصوف الإسلامي الحلولي (نظرية النور المحمدي التي تزعم أن الرسول اجتمعت فيه روحان: روح إلهية قديمة لا تجرى عليها أحكام الفناء والتغير [اللاهوت] ، وروح بشرية حادثة تجرى عليها أحكام الكون والفساد [الناسوت] ) . كما يستخدم كانط «إيمنينت immanent» في مقابل «متجاوز» ، وهي تعني في واقع الأمر «الشيء في ذاته» . ويستخدم بعض الفلاسفة الماديين كلمة «كامن» بمعنى «مثالي» ، أي «منفصل عن عالم المادة» ، ففلسفة كانط في مصطلحهم فلسفة كمونية «إيمنينت immanent» أي «مثالية» . فعبارة «إيمنينت هستوري immanent history» (التي يمكن ترجمتها بعبارة «تاريخ كموني» أو حتى «تاريخ باطني» ) تُستخدَم للإشارة إلى رؤية تاريخ العالم باعتباره عملية تتم من تلقاء نفسها، مدفوعة بقوانين كامنة في التاريخ نفسه، دون الخضوع لأية مؤثرات خارجية مادية مثل الصراع الطبقي أو الوعي الاجتماعي. وتشير عبارة «فلسفة الكمون» ( «إيمانينس(1/394)
فيلوسوفي immanence philosophy» ) إلى مدرسة فلسفية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وُصفت بأنها فلسفة ذاتية مثالية وجَّهت النقد لمفهوم كانط «الشيء في ذاته» واعتقدت في عدم وجود أي شيء سوى موضوع الفكر، فالوجود كامن في الوعي، والذات مرتبطة تماماً بالموضوع. ودعاة هذا المذهب الفلسفي يرفضون القول بأن الفكر انعكاس للعالم في الوعي، فالإدراك هو دخول الأشياء في الوعي. وقد حاولوا التملص من التمركز الكامل حول الذات بافتراض وجود " وعي بشكل عام " أو " وعي نوعي " (بالإنجليزية: جنيريك generic) يُوجَد مستقلاً عن الدماغ الفردي. وقد ورثت المدرسة الفينومنولوجية كثيراً من هذه الأطروحات وطورتها، وقد ُوصفت هي الأخرى بأنها مدرسة «إيمنينت immanent» بمعنى «مثالية» .
والخطاب التحليلي (الفلسفي وغير الفلسفي) الشائع في معظم أنحاء العالم خطاب هيجلي، أي حلولي كموني، وقد شاعت كلمة «إمنانس immanence» في الفلسفة الغربية الحديثة بمعنى «كامن» أو «باطن في الشيء» . فيقول هايدجر "لقد استبعدنا كل ما هو ليس بكامن في الوعي الإنساني"، وعُرِّفت الشكلانية (بالإنجليزية: فورماليزم formalism) بأنها "قراءة كمونية كاملة غير متأثرة بأي شيء خارجها"، وعرَّف أحد مؤرخي الفلسفة الرؤية العلمانية بأنها فلسفة الكمون الكامل، أي فلسفة الجوهر الواحد والواحدية الصارمة والحلولية الكمونية الواحدية.
ومن منظور هذه الموسوعة، من المهم الإشارة إلى أن التجلي الأنثوي للإله في المنظومة القبَّالية هي الشخيناه وهي من فعل «شخن» بمعنى «سكن» و «حل» و «استقر» (وهو قريب من معنى «كمن» ومترادف مع فعل «إيمانيري immanere» اللاتيني) . والشخيناه، ليست التجلي الأنثوي للإله وحسب وإنما هي أيضاً شعب إسرائيل، فكأن ثمة وحدة كاملة بين الإله والشعب اليهودي (فهو حلول وكمون كامل) .(1/395)
وفي المنظومات الغنوصية، وهي منظومات حلولية كمونية كاملة، يُعد أصحاب الغنوص جزءاً من الإله. ولذا، فحينما يُرسل الإله بالمخلص لتخليصهم، فهو في واقع الأمر يُخلِّص نفسه، فهو المخلِّص المخلَّص (باللاتينية: سلفادور سلفانديس salvador salvandis) ، ومن ثم فصاحب الغنوص هو العبد والمعبود والمعبد الكامن فيه كل شيء.
ونحن نذهب إلى أن العلمنة هي عملية «تكمين» أي جعل المركز كامناً في العالم فيصبح الكون مكتفياً بذاته (مرجعية ذاته) ، وهذه هي المرجعية الكامنة. وقد عُرّفت الوضعية بأنها تعني أن يكون معيار الحكم على الشيء هو ذات الشيء، لا من مصدر خارجه أو مستقل عنه، أي أن معياره كامن (حال) فيه. والمرجعية الكامنة لابد أن تكون واحدية وتنكر التجاوز. ولنضرب مثلاً: تؤمن اليهودية الحاخامية بأن الماشيَّح سيأتي في آخر الأيام عندما يشاء الإله ليعود بشعبه إلى صهيون، فالعودة منوطة بإرادة الإله ولذا كان اليهود لا يزورون فلسطين إلا للحج أو للتعبير عن «حب صهيون» ، أما الاستيطان فيها فكان محرماً، أي أن العودة كانت تدور في نطاق مرجعية متجاوزة (لإرادة اليهود) . فجاءت الحركة الصهيونية وقامت بعملية تكمين، إذ قررت أن مسألة العودة مسألة تتوقف على مشيئة البشر (الطليعة الصهيونية محل الكمون) الذين يمكنهم أن يقرروا متى يمكن تحقيق هذا المشروع في داخل الزمان (فلا تجاوز لإرادة البشر والزمان) . وستتم عملية العودة (بعد دراسة الملابسات المحلية وتوازن القوى الدولية) بهدف الاستيطان في فلسطين، وهي منطقة جغرافية تقع بين آسيا وأفريقيا مجاورة لمصر وتطل على قناة السويس، وهي منطقة مهمة لا لأن الإله باركها أو اختارها وإنما لأن بإمكان المستوطنين الصهاينة القيام على خدمة المصالح الغربية فيها. والفلسفة المثالية الألمانية (رغم مثاليتها وحديثها عن التجاوز والتعالي) هي في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير فلسفة حلولية كمونية، فالتجاوز والتعالي(1/396)
فيها يظل يدور في إطار المرجعية الكامنة.
وثمة اتجاه عام في الغرب لاستخدام كلمة «بانثيزم pantheism» للإشارة إلى وحدة الوجود الروحية (التقليدية والوثنية) ، واستخدام كلمة «إمنانس immanence» (وترد أحياناً في شكل «إمننتزم immanentism» ) للإشارة إلى وحدة الوجود المادية، أي الرؤية العلمانية المادية الحديثة التي ترى أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، ومن ثم يمكن تأسيس النظم المعرفية والأخلاقية على أساس المعرفة العقلية والحسية وحسب دون الاهتمام بأي شيء خارج النظام الطبيعي.
الفيضية(1/397)
«الفيضية» تقابلها في الإنجليزية كلمة «إمانتيزم emanatism» ، وهي من الكلمة الإنجليزية «إمانيشن emanation» ، ولذا تأتي الكلمة على النحو التالي: «إمانيشانزم emanationism» ، وهي شكل من أشكال القول بوحدة الوجود. ويُعتبر هرقليطس الفيلسوف المادي اليوناني أول من عبَّر عن نظرية الفيض بقوله: "كل الأشياء تفيض". وقد قال الأفلاطونيون المحدثون إن علاقة المُثُل (الأفلاطونية) بعالم الموجودات الحسية ليست علاقة خلق وإنما علاقة فيض، إذ يفيض الإله عن ذاته فيظهر العالم أو ينبثق عنه العالم، فالفيض يحدث كما تسيل المياه أو كما يصدر النور عن الشمس. ومهما كانت الصورة المُستخدَمة، فإن الفيضان أو الانبثاق لا يَنتُج عنهما تَغيُّر في المصدر، وعملية الفيضان والانبثاق تفترض وجود طرف أعلى وطرف أسفل وقمة وحضيض (ثنائية صلبة) ولكنهما ليسا منفصلين، فالإله هو النفس الكلية التي فاضت عنها نفوس الكواكب ونفوس البشر وسائر الموجودات الحسية، وبذلك تتحقق الصلة العضوية الحلولية الكمونية بين العالم الأعلى والعالم الأسفل. ولكن الصلة رغم عضويتها تتم من خلال حلقات، فالشعاع يتضاءل (وسخاء الفيض يتناقص) كلما ابتعد عن الأصل، ولذا نجد أن كل مرتبة أدنى من التي سبقتها وأعلى من التي تليها في الحقيقة والكمال والخيرية، حتى يخبو الشعاع أو يكاد وحتى ينضب الفيض أو يكاد. وبهذا يتحول الوجود إلى عدم ويصدر العدم عن الوجود، ويتلاشى النور في الظلام ويصدر الظلام عن النور، ويتبدد الخير في الشر ويصدر الشر عن الخير، وتتأكد الصلة الواحدية وتُسد الثغرات وتُملأ الفجوات. وبهذا، يمكن القول بأن نظرية الفيض محاولة لتأكيد الوحدة والواحدية الصارمة دون التخلي عن محاولة تفسير التنوع. وقد ذهب بعض الفلاسفة العرب إلى القول بالفيض، فقد وجدوا فيه رؤية تُضمر رفضاً للعقيدة الإسلامية التي تفصل بين الإله والعالم وتحصر الصلة بينهما في خلق الله لمخلوقاته وفي الوحي(1/398)
المُنزَل على الرسل والأنبياء وأخيراً على الرسول عليه الصلاة والسلام (خاتم المرسلين) ، أي أن الرؤية الفيضية بتأكيدها الصلة العضوية والمباشرة بين الخالق والمخلوق تُنكر فكرة الخلق من العدم وتفتح الباب على مصراعيه لتقاليد النبوة المنفتحة التي لا تنتهي، وتناسخ الأرواح. وما يهمنا هو أن نظرية الفيض تفترض وجود جوهر واحد في الكون، كما تفترض أنه يتسم بالواحدية.
وكثير من الأيديولوجيات العلمانية هي أيديولوجيات فيضية، وإذا كانت النظريات الفيضية التقليدية (الروحية) ترى أن الحركة من أعلى إلى أسفل، فإن النظرية الداروينية وكل النظريات المادية الحديثة ترى الحركة من أسفل إلى أعلى. ونظرية هيجل نظرية فيضية، فكل شيء ليس سوى حالة وسط من الوجود والعدم، فالفيض هو وحدة الوجود والعدم والعملية التاريخية هي عملية الفيض التدريجية، فالفكرة المطلقة تتحقق تدريجياً من خلال المادة والتاريخ، والنفس الكلية قد انبثق عنها النور الذي يتخلل ثنايا الوجود إلى أن يصل إلى نهاية التاريخ فيصبح العالم كله نوراً وتصبح الذات موضوعاً.
التجسد
«التَجسُّد» تقابلها في الإنجليزية كلمة «إنكارنيشن incarnation» . وتستخدم الكلمة للإشارة إلى الإله حين يتجسد في العالم، أي حين يظهر على هيئة شيء محسوس يمكن إدراكه بالحواس الخمس وبالذات على صورة شخص، ويصبح اللاهوت ناسوتاً، فكأن الإله قد حل في أحد مخلوقاته فحدث اتحاد بينهما ولم يَعُد هناك فارق بين خالق ومخلوق فهما جوهر واحد. وتُستخدَم الكلمة في اللاهوت المسيحي للإشارة إلى تجسد الإله (الأب) في صورة المسيح (الابن) ، ولكنها تُستخدَم في الكتابات الفلسفية والمعرفية بشكل مجازي.
التأيقن(1/399)
«الأيقونة» باليونانية «آيكون» بمعنى «صورة» أو «تمثيل» ، ومنها «التأيقن» بالنحت. وفي السياق المسيحي، تشير كلمة «أيقونة» إلى «لوحة» أو «رسم بارز» (بالفرنسية: با رليف bas-relief) أو "لوحة فسيفسائية للمسيح أو العذراء (وأحياناً أحد القديسين) . وكانت الأيقونات تُعتبَر أداة مساعدة أو وسيطاً للعابدين حتى يمكن للشخص المقدَّس" المصوَّر في الأيقونة والمتجسِّد فيها، أن يستمع لدعواتهم.
وهناك حركة تُسمَّى «أيكونوكلازم iconoclasm» ، أي «تحطيم الأيقونات» أو «تحطيم الأوثان» ، ظهرت حول القسطنطينية في القرنين الثامن والتاسع (تحت تأثير الإسلام) ، رأت أن الأيقونات تشكل سقوطاً في الوثنية باعتبار أن كثيراً من المصلين أصبحوا يظنون أن الأيقونة هي نفسها الشخص المقدَّس المرسوم عليها. وقد نجحت الحركة بشكل مؤقت إذ ظهر أباطرة معادون للأيقونات. وحتى بعد قمع الحركة، كان الفنانون البيزنطيون يحاولون الابتعاد عن التصوير الواقعي والميل نحو التجريد، وذلك حتى يبتعدوا عن التجسيم والتوثين.
وفي الفلسفة الحديثة يرى بيرس أن هناك علامات ثلاثاً: الشاهد «إندكس index» (وهو الإشارة العادية مثل إشارات المرور، على سبيل المثال، فثمة مسافة تفصل بين الشاهد والمشار إليه) ، والرمز (وهو إشارة تُختار لتقوم مقام شيء محدد فالعَلم هو رمز الوطن، فالثغرة بين الشاهد والمشار إليه تضيق) ، وأخيراً الأيقونة (وهي علامة تدل على موضوعها من حيث أنها ترسمه أو تحاكيه وبالتالي يُشترَط فيها أن تشاركه بعض الخصائص) .
وفي هذه الموسوعة، نستخدم عبارة «لغة أيقونية» بمعنى أنها لغة تحاول أن تُلغي المسافة بين الدال والمدلول إلى أن يصبح الدال مدلولاً، ملتفاً حول نفسه لا يشير إلى شيء خارج ذاته (تَمركُز كامل حول الذات) ، وحالة التأيقن الكاملة هي حالة الالتفات الكامل حول الذات.
ولنضرب بعض الأمثلة على اللغة الواحدية المتأيقنة أو تلك التي تحاول أن تصل إلى الواحدية:(1/400)
1 ـ الصور والرسوم والنماذج والأشكال البيانية.
2 ـ اللغة التصويرية الصينية (الإيديوجراف) والكتابة الهيروغليفية حين تكون الكلمة هي نفسها الصورة المرئية للشيء، فيشار إلى " الشمس " بالشكل *، أو تكون الكتابة قائمة على رسوم ترمز إلى أشياء أو حالات (خلاف الكتابة الأبجدية المُكوَّنة من اجتماع حروف تستحيل أصواتاً وتستحيل الأخيرة مدلولات) .
3 ـ الكلمات التي يُحاكي صوتها معناها مثل «أزيز الطائرات» ، و «نهيق الحمير» و «وشوشة» و «غرغرة» و «سقسقة» و «فرقعة» و «طرقعة» .
4 ـ صيحات الألم مثل «آه» فهي كلمة تعبِّر عن الألم ولكنها ملتصقة به تماماً (وكذلك صيحات اللذة الجنسية) .
5 ـ يُقال إن لفظة «أم» (وهي لفظة تتكرر في كل اللغات) تشبه، حينما ينطقها الطفل، الصوت الذي يحدثه أثناء عملية الرضاعة. ويُلاحَظ أن الدال «أم» هنا قد التصق تماماً بالمدلول نفسه (حركة فم الطفل أثناء الرضاعة) ، فهي، إذن، لفظة جنينية بمعنى الكلمة.
6 ـ الأيقونة حينما يظن العابد أنها تصبح موضع الحلول الإلهي بالفعل لا مجرد رمز له، والتمثال حينما يظن العابد أن الإله حل فيه فأصبح التمثال هو الإله، أي تَصنَّم.
7 ـ اللغة العلمية الدقيقة، وخصوصاً في حالتها الجبرية، إذ تصبح اللغة مجموعة من الدوال المكتفية بذاتها.
8 ـ اللغة الخاصة جداً التي لا يفهمها إلا صاحبها.
9 ـ التعويذات السحرية التي لا تعني شيئاً في حد ذاتها ولكنها من المفترض أن تؤدي إلى إحداث أثر ما.
10 ـ اسم الإله الأعظم حينما تُنسَب له مقدرات سحرية.(1/401)
11 ـ كان الناقد المسرحي أنطوان أرتو (مُنظِّر ما يُسمَّى «مسرح القسوة» ) يطمح إلى مسرح أيقوني ليس مبنياً على الكلمات وإنما على حركة الجسد مباشرةً وعلى مشاركة المتفرجين، دون وجود نص يُقيِّدهم. وكان مثله الأعلى هو المسرح في الحضارات البسيطة حين تكون التجربة المسرحية هي نفسها تجربة دينية شعائرية لا تحتاج إلى نص أو مُخرج ولا يوجد ممثلون أو جمهور ولا يفصل فاصل بين الواحد والآخر.
12 ـ حاول أرتو نفسه أن يكتب ما سماه «الشعر اللفظي» وهو شعر مبني على تجاور أصوات لا دلالة لها، إلا أن تركيباتها النبرية تصنع حالات شعرية، أو هكذا كان الظن.
وعكس التأيقن واللغة الأيقونية هو الحرفية واللغة الحرفية. وهي تتحقق حينما لا يكون للدال أي قيمة في حد ذاته، لأنه يضاهي المدلول تماماً. ورغم اختلاف الأيقونية عن الحرفية، فإنهما يتشابهان تماماً في الواحدية الكمونية، فالأيقونة دال دون مدلول، والحرفية مدلول دون دال (أو دال لا قيمة له) . ففي الحالة الأولى يكون المعنى كامناً في الدال وحسب، وفي الثانية يصبح المعنى كامناً في المدلول وحسب. واللغة المحايدة شكل من أشكال اللغة الحرفية، فاللغة المحايدة تحاول أن تكون شفافة تماماً بحيث تعكس الواقع كما هو.
والنظم الحلولية الكمونية تُعبِّر عن نفسها من خلال الأيقونية إذا كان مركز الكمون هو عقل الإنسان، وهي في هذه الحالة تستخدم صوراً مجازية عضوية، فالكائن العضوي المكتفي بذاته، الذي لا يشير إلى ما هو خارجه، هو قمة المرجعية الكامنة. كما تعبِّر الحلولية الكمونية عن نفسها من خلال الحرفية (إذا كان مركز الكمون هو الطبيعة والتاريخ) . أما النظم التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة فتُعبِّر عن نفسها من خلال اللغة المجازية التي تؤكد المسافة بين الدال والمدلول وعلاقة الاتصال والانفصال بينهما.(1/402)
وفي هذه الموسوعة نضع التأيقن الكامل مقابل العمومية الكاملة التي تصل إلى حالة السيولة. ففي حالة التأيقن يصبح الجزء مستقلاً تماماً عن أية مرجعية ويصبح هو الكل، مرجعية ذاته، ومركز الكمون. وتذهب بعض المدارس الفكرية (اللاعقلانية المادية) إلى أن كل ظاهرة كيان فريد لا يمكن أن تنتظمها أية أنماط، ومن ثم لا يمكن دراستها أو حتى فهمها، فالظاهرة هي تجسد اللوجوس ومركز الكمون. والشعب العضوي (فولك) هو تعبير عن حالة التأيقن هذه حين يحوي هذا الشعب معياريته داخله ولا يستطيع أحد أن يحكم عليه حسب معيارية خارجة عنه. والإنسان الطبيعي والتنويعات المختلفة عليه (الإنسان الدارويني والإنسان النيتشوي) يحمل معياريته داخله، فهو البدء والنهاية، هو الإنسان المتأله، بل هو الإله نفسه. على العكس من هذا تقف حالة العمومية الكاملة حيث يندمج الجزء في الكل تماماً فلا يكون له وجود خارجه ولا تكون له أية حدود مستقلة. وتذهب بعض المدارس (العقلانية المادية) إلى أن الظواهر كافة خاضعة لقانون واحد عام يمكن الوصول إليه ودراسته، ومن ثم يمكن التنبؤ بحركة الجزء في إطار معرفتنا بالكل. وثنائية التأيقن والعمومية هي صدى لثنائية صلبة أخرى: التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع.
المبدأ الحيوى (أنيميزم) : الأساس العميق للحلولية الكمونية(1/403)
«المبدأ الحيوي» بالإنجليزية «أنيميزم animism» ويُقال له أحياناً بالعربية «مذهب حيوية المادة» أو «الحيوية» . وهو مذهب يرد الحياة والحركة إلى قوة باطنة في المادة هي «النفس» (باللاتينية: أنيما anima) . ويشير المصطلح إلى المذهب الذي يرى أن الكون يشتمل على عدد كبير من الأرواح الكامنة في الأشياء والظواهر الطبيعية (من بينها أرواح الموتى وبخاصة الأسلاف، وقوى كونية مختلفة) ومن ثم نشأ الإيمان بضرورة معاملة هذه الظواهر (مثل الأشجار والجبال والأحجار) كما لو كانت شخصيات حية لها مقدرة في التأثير على الإنسان ومسار حياته والتَدخُّل في مجرى الحوادث. ولذا كان الإنسان يعاملها معاملته لبني الإنسان من استرضاء (من خلال القرابين) وأحياناً المراوغة. وتُعَدُّ عبادة الأرواح والأسلاف تنويعات على المبدأ الحيوي.
ونحن نرى أن كل الفلسفات والديانات الوثنية هي أيضاً تنويعات على هذا المبدأ، فالعبادة الرومانية هي عبادة تؤمن بمجمع الآلهة وبعدد هائل من آلهة كامنة في القوى الطبيعية والأماكن وهكذا. ولذا كان للمنزل إلهه وللمدفأة إلهتها، ولكل أسرة إلهها. وكان الإنسان يقدم القرابين لإله المكان لا إله العالمين. ولذا حينما كان ينتقل من بلدته إلى بلدة أخرى كان ينسى آلهته ويحاول التقرب لإله المكان الذي ارتحل إليه. وكلما ازدادت الوثنية رقياً قل عدد الآلهة، إلى أن نصل إلى فكرة الإله القومي الواحد الذي يحل في الأمة والشعب، ولكنه ليس إله العالمين وهو مقصور عليهما. ويمكن أن يصل المبدأ الحيوي إلى درجة من العالمية ويؤمن الإنسان بالنفس الكلية للعالم (باللاتينية: أنيما موندي anima mundi) وهو إله حال في الكون، فهو إله للعالمين ولكنه ليس مفارقاً للمادة أو التاريخ (وحدة وجود عالمية) .(1/404)
وكل العقائد الحلولية الكمونية هي في جوهرها تنويعات على المبدأ الحيوي مع تزايد وتناقص في درجات التجريد. والأنيميزم البدائية هي أدناها في الدرجة، والحلولية الكمونية هي أكثرها تجرُّداً. ويمكن القول بأن الهيجلية هي قمة التجريد في المبدأ الحيوي (أعلى درجات وحدة الوجود المادية العالمية) . وفكرة الإله/الصيرورة المحورية في المنظومة الهيجلية مرتبطة تمام الارتباط بالمبدأ الحيوي. والعلمانية هي الأخرى شكل من أشكال المبدأ الحيوي بعد أن استقرت الأنيما تماماً في المادة، بحيث أصبحت المادة مكتفية بذاتها، تحوي داخلها كل ما يكفي لتفسيرها. وبدلاً من أن يُقدِّم الإنسان القرابين للآلهة العديدة ويراوغها، أصبح يذعن لقوانين الحركة ولا يحاول التخلص من قبضتها (ويظهر التأرجح بين التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع، وبين تأليه الكون وإنكار الإنسان، وتأليه الإنسان وإنكار الكون) . وتحوَّلت عبادة الأسلاف إلى الإيمان بالأرض والوطن والشعب، ولعل هذا يُفسِّر المفردات والصور المجازية الأساسية المشتركة بين المنظومات الحلولية الكمونية البدائية والمنظومات الحلولية الكمونية المتقدمة.
الماكروكوزم (الكون الأكبر) والميكروكوزم (الكون الأصغر، أى الإنسان (
«الماكروكوزم (الكون الأكبر) والميكروكوزم (الكون الأصغر، أي الإنسان) » ترجمة للعبارة الإنجليزية «ماكروكوزم آند ميكروكوزم macrocosm and microcosm» . وكلمة «كوزموس cosmos» تعني «كون» ولكنها تعني في الأصل «نظام» مقابل «كيوس chaos» أي «فوضى» ، أما «ماكرو macro» و «ميكروmicro» فتعنيان «أكبر» و «أصغر» على التوالي. ومفهوم الماكروكوزم والميكروكوزم يؤكد أن ثمة تقابلاً كاملاً (أو شبه كامل) بين الكون والإنسان، سواء في الخصائص النفسية أو الروحية أو حتى في الخصائص الجسدية والتشريحية.(1/405)
وهذا المفهوم أو النموذج المعرفي (أو الصورة المجازية الإدراكية) هو امتداد للمبدأ الحيوي (أنيميزم) والنفسانية الشاملة والاتجاه نحو إسقاط الخصائص الإنسانية على الكون (بالإنجليزية: أنثروبوموفيزم anthropomorphism) ، بحيث يكون في العالم جوهر واحد (إنساني أو شبه إنساني) لا تتجاوزه كل الموجودات (ومنها الإله إن وجد (.
والمصدر الأساسي للفكرة هو حوارات أفلاطون (فيليبوس Philebus) التي طورها أفلوطين فيما بعد. ويرد هذا المفهوم (أو النموذج) في كتابات أرسطو والرواقيين (الذين سموا العالم «الحيوان الأكبر» [باليونانية: ميجا زون mega zoon] ) . ويَرد المفهوم كذلك في كتابات فيلو السكندري، وهي فكرة أساسية أيضاً في النصوص الهرمسية وفي القبَّالاه اليهودية والقبَّاله المسيحية من بعدها. وفي إطار هذه المفهوم تَطوَّر علم التنجيم (ويتضح في "الخرائط" التنجيمية حيث يُمثَّل الكون بأبراجه على هيئة جسد إنسان) . وقد بُعث مفهوم الماكروكوزم والميكروكوزم في عصر النهضة، مع تصاعد معدلات الحلولية الكمونية وترجمة الكتابات الهرمسية و"اكتشاف" القبَّالاه اليهودية واستخدامها في تفسير الكتاب المقدَّس. وتستند فلسفة جيوردانو برونو إلى مفهوم الماكروكوزم والميكروكوزم، وهي أساس اهتمامه بالسحر وبفن الذاكرة، فالإنسان من خلال معرفته بذاته يمكنه أن يعرف كل أسرار الكون. وبعد تراجع الكتابات الهرمسية استمر النموذج في كتابات لايبنتس في فكرة الموناد.(1/406)
وحتى بعد ظهور الرؤية العلمية الحديثة برؤيتها الآلية استمر نموذج الماكروكوزم والميكروكوزم في أشكال مختلفة مثل إيمان الفلاسفة بتماثل عقل الإنسان والطبيعة وتماثل قوانين العقل وقوانين الطبيعة. كما تظهر الفكرة مرة أخرى في فلسفة شوبنهاور وإيمانه بالعالم كإرادة وفي النظرية الداروينية. والنظريات العضوية ككل هي تنويع على المبدأ الحيوي وتجل لمفهوم الماكروكوزم والميكروكوزم. واصطلاحات «علمية» مثل «المادة ذاتية التنظيم» هي امتداد خافت لهذا المفهوم.
اللوجوس
«لوجوس» كلمة يونانية تعني «قول» أو «كلام» أو «فكر» أو «عقل» أو «معنى» أو «دراسة» أو «علم» (وهذا المعنى الأخير هو المقطع «أولوجي ology» الذي يظهر في كلمات مثل «جيولوجي» أو «سيكولوجي» ... إلخ بمعنى «علم الأرض» أو «علم النفس» ... إلخ. وقد تطوَّر معنى الكلمة ليصبح «الأساس» و «المطلق» و «الحضور» (في مصطلح ما بعد الحداثة) . وسنلاحظ أن ثمة نمطاً أساسياً هو التأرجح بين اللوجوس كفكرة مجرد متجاوزة واللوجوس كتجسد وحلول وكمون.
1 ـ في العبادة اليونانية:
يبدو أن الكلمة تعود إلى العبادة اليونانية القديمة، فكلمة «لوجوس» فيها تشير إلى كلمة الإله أو الآلهة إذ هي تبليغ يأتي للنبي بالوحي الإلهي والحكمة والإرشاد، والنبي هو إنسان يوحى إليه بالكلمة المقدَّسة (لوجوس) ويوصلها للناس. لكن فكرة التبليغ بدأت في التراجع وبدأ التجسد في التزايد فأصبح كلام النبي نفسه لوجوس (وهذا الصراع، بين التبليغ والتجسد، هو صراع بين التوحيد والتجاوز من جهة، والحلولية الواحدية ووحدة الوجود من جهة أخرى) .
2 ـ في الفلسفة اليونانية القديمة:(1/407)
استخدم بعض الفلاسفة اليوانيين (هرقليطس مثلاً) هذه الكلمة، فأصبح اللوجوس المبدأ الذي يسير الكون من خلاله، وهو الذي يفسر الثبات وراء التغير والنظام وراء الفوضى. فالأشياء رغم تنوعها تحدث حسب اللوجوس. ويبدو أن هرقليطس كان يرى أن اللوجوس له وجود أو تجلٍّ مادي مثل النار، فكأن اللوجوس لم يعد كلمة أو مبدأ وإنما تجسُّد في الكون على هيئة عنصر. ويعتبر اللوجوس فكرة أساسية عند الرواقيين بنزعتهم الحلولية التي تقرن بين الإله والطبيعة. وهم، مثل هرقليطس، يرون أن اللوجوس قوة مادية في العالم (النار الأزلية) تسري في كل الكائنات باعتبارها مصدر الحياة أو العلة السببية والمشتركة، الخالقة والحافظة والمقومة لجميع الأشياء، والتي تُنظم الكون وتحقق التوازن بين العناصر كافة، فهي العناية الإلهية أو القصد الإلهي وهي أيضاً روح الإنسان. واللوجوس أزلية كما أنها روح الكون.
3 ـ اللوجوس أورثوس واللوجوس سبرماتيكوس:
من الاستخدامات الأخرى لكلمة «لوجوس» ، اصطلاح «لوجوس أورثوس» أي «العقل السليم» ، أو «الحجة السليمة» (وكلمة «أورثو» هي تلك الموجودة في كلمة «أورثوذكس» أي «العقيدة السليمة» ) . وقد استخدم السفسطائيون اصطلاح «لوجوس أورثوس» للإشارة إلى المبادئ والقواعد المنطقية التي ينبغي اتباعها للوصول إلى الاستنتاجات السليمة التي يمكن استخدامها لتقديم وجهة نظر ما بطريقة سليمة. وقد استخدم الرواقيون (من اليونانيين والرومان) العبارة اللاتينية «ريكتا راتيو recta ratio» للإشارة إلى النظام أو القانون السليم أو الضرورة التي يجب أن تمتثل لها أفعال الإنسان والعنصر العاقل الكامن في كل الأشياء. فكأن اللوجوس هنا هو الراتيو (التي اشتُّقت منها كلمة «راشيوناليزم rationalism» أي «العقلانية» ) .(1/408)
وقد استخدمت الكلمة أيضاً في الفلسفة الرواقية في عبارة «لوجوس سبرماتيكوس logos spermaticus» بمعنى «الكلمة التي تعطي الحياة» ، وهي عبارة تعني أن الكلمة بمنزلة البذرة أو المنيّ أو سائل الحياة الذي يُنثَر في العالم بأسره فيسبب الولادة والنمو والتغيُّر في كل الأشياء (وهنا تظهر واحدة من أهم مفردات الحلولية) . وإذا كان العالم من منظور اللوجوس أورثوس يشبه الآلة التي تُدار من الخارج، فهو هنا يشبه الكائن الحي. وتحوي اللوجوس سبرماتيكوس سائل الحياة الذي يحوي بدوره عدداً غير متناه من الحيوانات المنوية تقوم كل واحدة منها بخلق أو توليد كيانات، لكلٍّ منها هدف مستقل، ومع هذا فهي جميعاً متناغمة متساوية.
4 ـ فيلون:
استخدم فيلون مفهوم اللوجوس باعتباره القانون قبل أن يُخلق ويُرسل إلى الأرض، والمثال والنموذج الذي خلق الإله العالم وفقاً له (كما يقول أفلاطون) ، وهو أيضاً العقل الكوني قبل خلقه، والوسيط الذي خلق الإله العالم به (كما يصنع الفنان بالآلة) والذي نعرف الإله به وهو الشفيع لنا عنده. وهو كذلك ملاك الإله المذكور في التوراة الذي ظهر للآباء وأعلن لهم أوامره. ولكن اللوجوس مع تصاعُد معدلات الحلول يصبح كامناً في جميع المخلوقات، ولذا فهو العقل والعاقل والمعقول (وهو العبد والمعبود والمعبد) .(1/409)
ويمكن القول بأن اللوجوس هو الركيزة والمرجعية النهائية التي قد تكون إما كامنة في الطبيعة أو متجاوزة لها، أو كامنة فيها متجاوزة لها في آن واحد. وإن جاز لنا استخدام اللوجوس كمقولة تحليلية، ذات دلالة عامة في مجال مقارنة الأديان فيمكننا القول بأن اللوجوس هو النقطة التي يلتقي فيها الإله (المطلق) مع الإنسان (النسبي) داخل التاريخ والزمان ليتواصل معه وأن هذه هي الإشكالية الأساسية التي تواجهها كل الأديان ويحلها كل دين بطريقة مختلفة، نابعة من رؤيته. وقد أخذ اللقاء بين الإنسان (النسبي) والإله (اللوجوس والمطلق) في حالة اليهودية شكل حلول الإله في الماشيَّح وفي التوراة ثم في التلمود وأخيراً في الشعب اليهودي الذي يصبح بذلك مركز خلاص البشرية جمعاء. ثم تعمَّق المفهوم مع انتقال اليهودية إلى تربة مسيحية (فقد عاش معظم أعضاء الجماعات اليهودية ابتداءً من القرن الرابع عشر في أوربا) . فازداد مفهوم اللوجوس مركزية وشيوعاً، ونجد أن التراث الحاخامي يجعل المشناه هي اللوجوس. أما التراث القبَّالي فيخلع هذه الصفة على الشعب اليهودي الذي لم يعد مجرد تجسد للإله بل أصبح جزءاً لا يتجزأ منه (والشخيناه هي الشعب اليهودي وهي أيضاً اللوجوس) . ويرى القبَّاليون أن اسم الإله الأعظم (اللوجوس) هو أكبر تَركُز للحضور الإلهي ("في البدء كانت الكلمة"، أي أن الكلمة هي الأصل) . ومن يفك شفرة هذا الاسم، ستتدفق فيه القداسة والحضور الإلهي ويمكنه الإتيان بالمعجزات والسيطرة على العالم، مثل التساديك الذي يُسمَّى «بعل شيم طوف» ، وهي عبارة عبرية يمكن ترجمتها بعبارة «صاحب اللوجوس» . ويرتبط السحر بين أعضاء الجماعات اليهودية بهذا المفهوم.(1/410)
وفي اللاهوت المسيحي، أصبحت كلمة «لوجوس» تعني «المسيح وابن الإله قبل أن ينزل إلى الأرض» ، وهو الأقنوم الثاني، وهو ليس منفصلاً عن الأب وإن كان متميِّزاً عنه. واللوجوس مخلوق من المادة الإلهية نفسها قبل بدء الخليقة. وهو موجود في عقل الإله ثم خرج إلى الكون. فالمسيح هو تجسد الإله (المطلق) في الزمان (النسبي) ينزل ويُصلَب ويقوم. وبعد قيامه، يعود المسيح إلى الأب، وتصبح الكنيسة (جسد المسيح) اللوجوس المتجسد، فهي معصومة والبابا (رئيسها) معصوم.
ويرى البعض أن اللوجوس في الإسلام هو القرآن (نقطة لقاء المطلق بالنسبي) على اعتبار أن القرآن هو كلمة الإله المطلقة وعلى اعتبار أنه كان قائماً بذات الإله باعتباره صفة من صفاته تعالى، ثم تشخَّص تلاوة وسماعاً وكتابة في الوجود الكوني. ويؤكد المسلمون أن هذه ليست حالة تجسد وإنما مجرد تبليغ وتذكير (لفظي) ، فالعلاقة القائمة في حالة التجسد هي علاقة توالد (وهو ما عبَّر عنه القرآن بقوله: "وقالت النصارى المسيح ابن الله"، وجاء على لسان بني إسرائيل "نحن أبناء الله") . أما العلاقة بين كلام الله القائم بذاته والقرآن المتلو أو المكتوب في المصاحف فهي علاقة الدال والمدلول اللذين لا يلتحمان أبداً إذ تظل هناك مسافة بينهما، هي صدى للمسافة بين الخالق وكل مخلوقاته (الإنسان والطبيعة) . والرسول (صلى الله عليه وسلم) ليس تجسداً، فهو ليس إلا حاملاً للرسالة المكتوبة ولا يكتسب أية عصمة وإن كان يكتسب مكانة خاصة لا تماثلها مكانة.(1/411)
وتستند كل المنظومات المعرفية العلمانية إلى ركيزة نهائية (لوجوس) كامنة في المادة تكون بمنزلة العنصر الأساسي الذي يمكن من خلاله تفسير الكون. وهي ما يمكن تسميته «المطلق العلماني» وكلها تنويعات على المطلق العلماني النهائي: الطبيعة/المادة. والدولة في النسق الصهيوني هي اللوجوس الجديد (والعجل الذهبي) الذي يحل محل الإله في النسق الحلولي التقليدي. وتتهم فلسفة ما بعد الحداثة كل الفلسفات الغربية بأنها "متمركزة حول اللوجوس"، أي ملوثة بالميتافيزيقا، ويحاول أنصار ما بعد الحداثة تأسيس نسق فلسفي بدون لوجوس ومن ثم بدون مركز وبدون ميتافيزيقا بل بدون حقيقة.
القداسة بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية
«القداسة» لغةً هي الطهر والبركة. ويتغيَّر المعنى بتغيُّر مجال تطبيقه:
1 ـ حينما تشير الكلمة إلى الإله، فإنها تعني الكمال الإلهي والتنزه عن الموجودات، ولذا يُقال: «تَقدَّس الإله» بمعنى «تنزَّه» ، و «قدَّس فلان الإله» بمعنى «عظَّمه وكبَّره ونزَّهه عما لا يليق بالألوهية» . وجاء في التنزيل "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". ولذا، فالقداسة تعني الانفصال عن عالم الطبيعة والمادة، وهو معنى أساسي للكلمة داخل المنظومة التوحيدية.
2 ـ حينما تطبق الكلمة على البشر، يكون معناها الطهارة وحلول النعمة أو البركة. كما يمكن أن يكون معناها الطهر الذي يصل إليه الإنسان باتباع تعاليم الإله وبفعل الخير وتحاشي الشر. والمعنى الكامن هنا أن الإنسان يتطهر من أدران المادة مثلما يتنزه عن الطبيعة. وعلى هذا يُقال: «قدس الإله فلاناً» بمعنى «طهَّره وبارك عليه» ، و «قدَّس الإله تقديساً» بمعنى «طهَّر نفسه له» .
من الواضح، إذن، أن تعريفات القداسة التي وردت في معاجم اللغة العربية تدور أساساً في إطار المنظومة التوحيدية. وقد وردت السمات التالية في معاجم علم الاجتماع باعتبارها السمات الأساسية للمقدَّس:(1/412)
1 ـ غير خاضع للتقييم النقدي الذي يقتصر على ما هو زمني.
2 ـ المقدَّس يكون دائماً موضع احترام ممزوج بالخشية.
3 ـ لا يمكن انتهاكه أو الخروج عليه.
4 ـ عادةً ما تستلزم الموجودات المقدَّسة أن يقوم الإنسان حيالها بطقوس (دينية) وخصوصاً عند التجائه إليها أو معاملته لها أو اقترابه منها أو اتصاله معها مادياً أو معنوياً بأية صورة من الصور.
5 ـ يُستخدَم مصطلح «المقدَّس» مقابل «المدنَّس» (الحرام مقابل المباح) ، وهي ثنائية تعرفها جميع المجتمعات الإنسانية تقريباً.
6 ـ والشيء المقدَّس ليس مقدَّساً في ذاته وإنما نظراً لارتباطه بمصدر القداسة وإشارتها له، ولذا فإن ما قد يكون مقدَّساً في مجتمع قد يكون مدنَّساً في مجتمع آخر.
7 ـ والأشياء المقدَّسة يمكن أن تكون الآلهة والأرواح والملائكة، كما يمكن أن تكون الكائنات الخارقة للطبيعة أو حتى ينبوع ماء أو شجرة أو حجر أو قطعة نسيج أو فصيلة حيوانية، بل قد تكون الألفاظ والعبارات والصيغ الكلامية والأنغام الترتيلية أشياء مقدَّسة. ويمكن أيضاً أن تكون مفاهيم مجردة مثل: الأمة ـ القبيلة ـ أرض الوطن.
8 ـ جميع المجتمعات الإنسانية تستند إلى عقائد تعرف ما هو مقدَّس (مطلق) وغير خاضع للتقييم (من وجهة نظرها) وما هو مدنَّس ومباح (ونسبي) .
والشيء المقدَّس تتحدد قداسته بسبب صلته بمصدر القداسة وتتحدد درجة قداسته بمدى قُربه أو بُعده عن هذا المصدر.(1/413)
لكل ما تقدَّم، لابد أن نشير إلى مفهومين مختلفين للقداسة، أحدهما داخل إطار المرجعية المتجاوزة (المنظومة التوحيدية) والآخر داخل إطار المرجعية الكامنة (المنظومة الحلولية) . فالمصدر الأوحد للقداسة في الإطار التوحيدي هو الإله العلي القدير، والقداسة التي تفيض منه ليست أمراً مادياً متجسداً يفيض على الأشياء فيتخلل ثناياها، وإنما هو أمر غير منظور وغير مفهوم، تماماً مثل سمات الإله. فحينما نقول «عمت بركة الإله» فإننا نعني: «فاضت رحمته» . وإذا كان الإله مصدر القداسة الأوحد، فإن جوهر قداسته يعني انفصاله عن الموجودات وتنزُّهه عنها. ولذا، حينما توجد أشياء مقدَّسة في المنظومات التوحيدية، فإنها تكون مقدَّسة بمعنى مجازي غير حرفي أو أيقوني، وتظل قداستها مرتبطة تماماً بكونها تشير إلى الإله العلي ولا تجسده. ويلخص عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) علاقته بالحجر الأسود (وعلاقة المسلم بالمقدَّسات) حينما قبَّل الحجر الأسود قائلاً: "إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبِّلك ما قبَّلتك". فالحجر لا يعي، ولذا فإن عمر (رضي الله عنه) لم يقبِّله لأنه مقدَّس في حد ذاته أو بسبب خاصية كامنة فيه، ولكنه قبَّله لأنه رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفعل ذلك ففعل مثله، أي أنه قبَّله من قبيل الطاعة والاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم (.(1/414)
ولذا، فإن الشيء المقدَّس في إطار المرجعية المتجاوزة (المنظومة التوحيدية) هو دال يشير إلى المدلول المتجاوز، مع الاحتفاظ بمسافة بين الدال والمدلول، وهي مسافة لا يمكن تجاوزها بأية حال. ولكن الإنسان قد تفيض فيه القداسة بشكل جزئي وتنقص المسافة بينه وبين الخالق إن هو حوَّل المسافة التي تفصل بينه وبين الخالق إلى مجال للتفاعل معه. ويمكن إنجاز هذا إن حاول الإنسان الوصول إلى الصفاء والكمال الأخلاقيين باتباع تعاليم الإله التي أرسل بها في رسالته، ومن خلال الاستقامة والخلاص من الأدران والشوائب اللاخلقية والنزعات والميول البهيمية الغريزية (التي تدفعه نحو عالم الطبيعة/المادة، والواحدية المادية الكونية، بعيداً عن الإله (.
وفي هذا الإطار، يمكن فهم التصوف التوحيدي، فعن طريق المجاهدات النفسية والتجارب الصوفية والزهدية، وما إليها من الممارسات، تتطهر النفس البشرية من أدرانها وترقى في معارج قدسية بالمعنى المجازي، فهو تقرُّب من الخالق لا يسد المسافات وإنما يحوِّلها إلى مجال للتفاعل، ومن ثم لا يمكن أن يلتصق المتصوف بالإله أو يفنى فيه أو يتوحد معه، فالإنسان هنا ليس دالاً بلا مدلول وليس دالاً يبحث عن مدلول، وإنما هو دال محدد له مدلول إنساني محدد لا يستطيع الإنسان اختزاله أو التخلي عنه أو تجاوزه وإنما يمكنه تحقيق إمكاناته الربانية الكامنة فيه عن طريق التواصل مع الإله والتقرب منه دون إلغاء المسافة (الحيز الإنساني) التي تفصل بين الخالق والمخلوق. والشعائر علامة على الطريق الذي لا نهاية له، وليست صيغة سحرية على المؤمن تملُّك ناصيتها. وإذا حاول الإنسان أن يؤدي الشعائر، بحذر شديد ودقة بالغة، فهذا من قبيل الطاعة والرغبة في الانتماء للجماعة والتقرب من الله، تماماً كما فعل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حينما قبَّل الحجر الأسود.(1/415)
وعادةً ما يحاط الشيء المقدَّس بمجموعة من المحرمات الطقسية بحيث لا يقترب الموجود العادي من النظام المقدَّس إلا إذا قام بطقوس تمهيدية وتطهرية تؤهله للاتصال به. وداخل الإطار التوحيدي، يُعَد هذا تعبيراً عن الخشوع للمدلول المتجاوز والمصدر الأوحد للقداسة، وعن احترام الإنسان للخالق وإدراكه لقداسته، بمعنى تجاوزه وتنزُّهه، وعن إدراكه لوجود الحدود الفاصلة بين الخالق والمخلوق. ولذا، فإن على الإنسان أن يقوم بشعائر الطهارة هذه (لا يمسه إلا المطهرون) . ومع هذا، لا يصبح الشيء المقدَّس مصدر القداسة أو مكمنها أو تجسيداً لها؛ إذ يظل جزءاً من النظام الدلالي التوحيدي ويظل مصدر القداسة الأوحد هو الإله.(1/416)
ومصدر القداسة في إطار المرجعية الكامنة (المنظومة الحلولية الواحدية) هو الإله أيضاً ولكنه إله حال في مخلوقاته كامن فيها، لا يتواصل مع مخلوقاته إلا من خلال تجسُّد، وتنتقل القداسة من خلال حلول الإله في مخلوقاته؛ الفرد أو الجماعة أو الكون بأسره. ولذا، تأخذ القداسة شكل مادة سائلة أو شحنة كهربية متنقلة أو موجات ضوئية تتنقل من الإله إلى الموجودات (التراب أو الطعام أو الشراب أو النبات أو الإنسان) . والموجودات التي تنتقل إليها القداسة تصبح قداستها كامنة فيها. ومن ثم، فإن الحجر الأسود يصبح (هو نفسه) بالنسبة لأصحاب الاتجاهات الحلولية مقدَّساً (تماماً مثل قبور الأولياء ومثل الأرض في المنظومة القومية العلمانية) . ولذا، فإن ملامسته تعني انتقال القداسة منه إلى من يلامسه، أي أن العملية هنا هي عملية التصاق مادية وملامسة جسدية وليست عملية طاعة وتهذيب للنفس وتجاوز لعالم المادة. فالشيء المقدَّس في النظام الحلولي الكموني هو دال يلتصق بالمدلول الأوحد (الإله) . والإنسان أيضاً دال يزداد في الاقتراب من مصدر القداسة حتى يلتصق بالإله تماماً ويتوحد به. ويتم هذا من خلال إشراق مباشر، أو من خلال اتباع صيغ طقوسية تُنفَّذ بشكل صارم، أو من خلال تعاويذ ولعنات وبركات معينة تُقرأ بدقة بالغة وكأنها معادلة رياضية، إن وضعنا الأرقام في موضعها وصلنا للنتيجة الصحيحة. ويمكن أن تنتقل القداسة من خلال الوراثة (لا من خلال القيام بأفعال خيِّرة) ، فهي مسألة تكاد تكون بيولوجية عضوية، بل تصبح كذلك حرفياً في كثير من الأحيان (الشعب المختار موضع الحلول) ، ومن ثم لا علاقة لها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفعل الخير وتحاشي الشر.(1/417)
والإنسان في المنظومة الحلولية الواحدية ليس دالاً يشير إلى مدلوله الإنساني، وإنما هو دال بلا مدلول يحاول أن يتجسد من خلال مدلول متجاوز عن طريق الالتصاق بمصدر القداسة وعن طريق التوحد به. وإذا كانت الشعائر في المنظومة التوحيدية تعبيراً عن طاعة الإله، فهي في المنظومة الحلولية وسيلة التوحد معه والالتصاق به، وهي في آخر الأمر تعبير عن رغبة الإنسان في أن تكون إرادته من إرادة الخالق حتى يمكنه التحكم في الكون - ومن هنا ارتباط القداسة في المنظومة الحلولية الواحدية بالسحر. وترتبط القداسة في هذه الحالة بالقوة التأثيرية الشاذة التي تتجاوز المقدرات الإنسانية العادية، ويحاول الإنسان أن يظفر بأكبر قسط من المنفعة من خلال قوته السحرية، وخصوصاً في الأمور التي يرى نفسه عاجزاً عن بلوغها بجهده الخاص: الانتصار في الحرب - التنبؤ والاستخارة - القوة الشافية - الخصوبة الإنجابية - الخصوبة الإنتاجية ... إلخ.
وكما أسلفنا، يحاط الشيء المقدَّس بمجموعة من المحرمات الطقسية. ولذا، لابد من القيام بطقوس تطهرية. ولأن القداسة تأخذ شكل مادة في المنظومة الحلولية الواحدية، فإن الشيء المقدَّس الذي يحوي القداسة داخله لابد أن يُعزَل تماماً عن العالم غير المقدَّس حوله (وإلا، فإن شحنة القداسة الموجبة قد تضيع وتحيَّد بسبب شحنة الدناسة السالبة) . ويبالغ الشعب المقدَّس في شعائر الطهارة وفي عزل نفسه عن الآخر لنفس السبب. فالشيء المقدَّس والشعب المقدَّس يصبحان بذلك تجسداً لمصدر القداسة وتجلياً له وليس إشارة إليه. ولعل الفرق بين القرآن الذي يقرؤه المؤمن والحجاب الذي يصنعه الكاهن هو فرق بين الخشوع لله والإيمان بقدرته من جهة والرغبة في الالتصاق به والتحكم فيه من جهة أخرى.(1/418)
وقد ترتبط القداسة بصفات وسمات ليست مقدَّسة بالمعنى المحدود للكلمة ولكنها تحتوي على بعض السمات التي يتسم بها المقدَّس. ولذا، فإن الشيء أو الشخص الذي يتسم بهذه الصفات قد يُعدُّ مقدَّساً. ولهذا، يكتسب الطبيب شيئاً من القداسة بسبب أن مهمته لها بعض الخصائص التي لا توجد إلا في الأشياء المقدَّسة (في تصوُّر بعض الناس) ، فالطبيب يأخذ أعشاباً ويخلطها فتتحول الأعشاب من مجرد مادة طبيعية إلى دواء (سحري) قادر على الشفاء، والحداد يأخذ الحديد (هذه المادة الصلبة) ويضعها على النار (هذه المادة المهيبة غير الصلبة) فيلين الحديد. وفي كلتا الحالتين، فإن عملية التحويل غير مفهومة لدى الإنسان في بعض المجتمعات. وحتى بعد فهمها، تظل عملية التحويل عملية مذهلة ذات أبعاد رمزية تتجاوز العملية المادية المباشرة (وعلى سبيل المثال، فإننا نعلم سر قوس قزح، إلا أننا لا نملك إلا الإحساس بمهابته حينما يظهر) . بل إن الصانع نفسه، الذي كان يقوم بالعملية، يشعر بمهابتها، ولذا يقوم بتلاوة تعويذات معيَّنة ويقوم ببعض الشعائر وكأنه يقترب من شيء مقدَّس. وقد أخبرني أحد المهندسين المعماريين أن البنائين الذين يستخدمون الحجر لا يبدأون عملهم إلا عند الفجر بعد أداء الصلاة، وذلك حتى تحل البركة.(1/419)
وفي المجتمعات التقليدية، ظهرت أحاسيس الخوف من التاجر والمرابي لهذا السبب، فهما يحركان البضائع ورأس المال فيحدث التحول (الربح الوافر) دون إضافة أي شيء. ومن ثم، ارتبطت هذه المهن بالقداسة (بالمعنى الحلولي الواحدي) ثم بالسحر (ومن هنا إحساس أعضاء الجماعة الوظيفية بقداستهم وبمقدراتهم السحرية وبأهميتهم في المجتمعات التي وُظِّفوا فيها) . والبغاء المقدَّس في المجتمعات الوثنية البدائية مثل جيد على القداسة الحلولية المادية. فالبغي المقدَّسة، من خلال ممارسة الجنس مع العابدين، كانت توصِّلهم للآلهة، ويصبح مهبل البغي المكان الذي يلتقي فيه المقدَّس بالمدنَّس فيكتسب الإنسان القداسة.
ويختلف نطاق الحلول والكمون ومن ثم نطاق القداسة، فيمكن أن يزداد تركز القداسة بتزايد درجة الحلول وكمون المركز. وقد تتركز القداسة في أحد عناصر الكمون دون غيره وتظهر الثنائية الصلبة. ويمكن أن يتركز المركز في الإنسان وهذا بدوره يأخذ شكلين: حلول في فرد، وحلول في جماعة. وفي حالة الحلولية الفردية، فإن الولي أو الزعيم يصبح هو وحده موضع القداسة أو الوسيط الأوحد بين مصدر القداسة في الكون والعالم المادي، وهو صاحب العرفان (والغنوص) ، كلامه من كلام الإله، وسلوكه إلهي، فهو تجسُّد كامل للإله في الأرض. وفي نطاق وحدة الوجود الروحية، نجد أن الماشيَّح هو موضع الحلول، أما في نطاق وحدة الوجود المادية فهو الزعيم المُلهم(1/420)
صاحب العرفان، كلامه من كلام الإله وسلوكه إلهي، فهو تجسُّد للإله في الأرض. ويتسع نطاق الحلول، ويتركز الحلول الإلهي في شعب فيصبح هو المركز وموضع القداسة، فهو الأنا المقدَّسة (الإمبريالية التي تحُوسل بقية البشر والطبيعة) ويصبح هذا الشعب تجسُّد الإله في الأرض، ولذا فهو شعب مقدَّس وأرضه مقدَّسة وتاريخه مقدَّس (أما بقية العالم فتنسحب منه القداسة تماماً) . وفي إطار وحدة الوجود الروحية، تأخذ الحلوليات الوثنية هذا الشكل، واليهودية قبل عصر الأنبياء تتبع نفس النمط. أما في إطار وحدة الوجود المادية، فالقوميات العلمانية (التي تقدس الشعب) هي تعبير عن هذا النمط. ويمكن أن تتركز القداسة في الطبيعة/المادة فتصبح هي المركز المقدَّس الذي على الإنسان أن يذعن له ويظهر هذا في وحدة الوجود الروحية على هيئة العبادة الحلولية للطبيعة وتأليهها وتقديس الأرض، ولا يختلف الأمر كثيراً في وحدة الوجود المادية فالقوميات العلمانية التي تقدس الأرض وحدود الدولة والدولة نفسها هي تعبير عن هذا الشكل من أشكال الحلول. كما أن الحركات البيئية الجديدة التي تقدس "أمنا الطبيعة" هي تعبير عن نفس النمط.
ثم يتسع نطاق القداسة ليشمل الكون بأسره فيحل الإله في الكون (الطبيعة، الإنسان) ويكمن فيه، أي في كل الظواهر الطبيعية والإنسانية وبنفس الدرجة، أي أن كل المخلوقات (الإنسانية والطبيعية) تصبح ممتلئة بالقداسة وبنفس الدرجة ويتجسد المركز من خلالها وبنفس الدرجة. ولذا، يصبح كل شيء مقدَّساً ويتساوى في الدرجة مع الأشياء الأخرى (بمعنى التسوية لا المساواة) . وبذا، تصبح كل الأمور متساوية أفقية لا تراتب فيها ولا هرمية، يتساوى المطلق والنسبي، والمقدَّس والمدنَّس، والروحي والمادي، والمركزي والهامشي، والإنساني والطبيعي، أي أن كل الأمور تصبح نسبية مباحة لا قداسة لها، وهذه هي حالة السيولة الشاملة وحالة ما بعد الحداثة والحلولية بدون إله.(1/421)
ونحن نرى أن البحث عن المقدَّس شيء أساسي بالنسبة للإنسان، إذ يبدو أن الإنسان لا يمكنه أن يواجه عالماً من الصيرورة الكاملة، والحياد الكامل، لا مركز له ولا معنى ولا أسرار فيه، ولذا فهو دائم البحث عن مركز ومعنى، يحاول دائماً أن يستعيد القداسة لعالمه. وهذا يعود إلى أن الإنسان ليس مجرد إنسان طبيعي، مجموعة من العناصر البيولوجية، وإنما يوجد داخله ما يميِّزه عن الطبيعة/المادة. والعلمانية في تصوُّرنا هي محاولة نزع القداسة عن العالم. وما بعد الحداثة تحاول أن تلغي كل الثنائيات ومنها ثنائية المقدَّس والمدنَّس، حتى يصبح العالم عالماً من الصيرورة الكاملة لا هو مقدَّس ولا مدنَّس، ولا هو ثابت ولا متغير، ولا هو أزلي ولا زمني.
الباب الثانى: الحلولية الكمونية الواحدية والعلمانية الشاملة
الحلولية الكمونية: تعريف
تدور معظم رؤى العالم حول ثلاثة عناصر هي في الواقع عنصران اثنان: الإله من جهة والإنسان والطبيعة (أي العالم) من جهة أخرى. ومذهب الحلول أو الكمون (أو الحلولية الكمونية الواحدية أو وحدة الوجود) هو المذهب القائل بأن الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) مُكوَّن من جوهر واحد، ومن ثم فهو عالم متماسك بشكل عضوي مصمت لا تتخلله أية ثغرات ولا يعرف الانقطاع ويتسم بالواحدية الصارمة، ويمكن رد كل الظواهر فيه، مهما بلغ تَنوُّعها وانعدام تجانسها، إلى مبدأ واحد كامن في العالم هو مصدر وحدة الكون وتماسكه ومصدر حياته وحيويته وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه، ويمكن تفسير كل شيء من خلاله.
ووحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية قد يختلفان في بعض الأوجه الفرعية إلا أنهما يتفقان في الأساسيات والبنية. فكلاهما يرى أن العالم يتكون من جوهر واحد.(1/422)
1 ـ وهذا الجوهر الواحد أو المبدأ الواحد يُسمَّى «الإله» أو «الجوهر الإلهي» في منظومات وحدة الوجود الروحية (الحلولية الكمونية الروحية) ، ويجري التعبير عن هذا بالقول: "حل الإله في العالم، أي في الطبيعة والإنسان". ويمكن تسمية الجوهر الواحد تسميات شبه روحية شبه مادية، كأن يُقال إن المبدأ الواحد هو «روح الشعب» أو «روح التاريخ» أو «العقل المطلق» وما شابه ذلك من مصطلحات هيجلية روحية اسماً مادية فعلاً. وتذهب وحدة الوجود الروحية إلى أن الإله هو الأصل، والعالم إن هو إلا وهم. وإن كان ثمة عالم فهو جزء من الإله وليس له وجود مستقل (إنكار الكونية) .
2 ـ أما في منظومات وحدة الوجود المادية (الحلولية الكمونية المادية) ، فهذا المبدأ (أو الجوهر) الواحد يُسمَّى «قانون الحركة» أو «قوانين الطبيعة» أو «الطبيعة/المادة» أو «قوانين الأشياء» أو «القانون الطبيعي» أو «قوانين الضرورة الطبيعية» أو «القوانين العلمية» . هذا القانون قانون شامل يمكن تفسير كل الظواهر، ومن بينها الظاهرة الإنسانية، من خلاله. وفي هذه الحالة، يجري التعبير عن وحدة الوجود بالقول "تسري قوانين الحركة المادية على كل الأشياء في الكون"، ويُقال: "استناداً إلى القوانين العلمية، نحن نذهب إلى كذا وكذا". وإذا كان ثمة إله فليس له جوهر مستقل وإنما هو كامن في العالم؛ باطن فيه، محايث له، وليس له وجود مستقل عنه، ولذا فإن العالم مكتف بذاته، يحوي داخله ما يكفي لتفسيره ولا وجود للإله خارجه (تأليه الكون) .(1/423)
ولا تصل المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية دائماً إلى مرحلة وحدة الوجود دفعة واحدة، فثمة درجات من تَركُز الحلول والكمون في الكون. ويمكن أن تحدث درجة من الحلول أو الكمون لا تؤدي بالضرورة إلى وحدة الوجود، كما يمكن أن يتم الحلول (أو الكمون) جزئياً في الإنسان لا في الطبيعة، ولكن النموذج الحلولي يصل إلى تحقُّقه الكامل ولحظته النماذجية بالتجسد الكامل للإله في العالم وكمونه فيه، وفقدان الإله تجاوزه وتنزُّهه في مرحلة وحدة الوجود الروحية، ثم بفقدانه اسمه في مرحلة وحدة الوجود المادية، حيث يصبح الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) شيئاً واحداً، ويصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من العالم، ليست له إرادة مستقلة أو وعي مستقل، غير قادر على تجاوز محيطه.
لا يوجد، إذن، أي فارق بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية إلا في التسمية. وكما يقول نوفاليس ليس هناك فرق بين أن تقول "أنا جزء لا يتجزأ من العالم" وأن تقول "العالم جزء لا يتجزأ مني"، ونفس القول ينطبق على وحدة الوجود، فلا يوجد فرق بين أن تقول "إن العالم إن هو إلا جزء لا يتجزأ من الإله" وأن تقول "إن الإله إن هو إلا جزء لا يتجزأ من العالم"، ولا فرق بين أن يقول المرء "لا موجود إلا هو" (أي الإله، بالمعنى الحرفي) أو "لا موجود إلا هي" (أي الطبيعة/المادة) .(1/424)
أشرنا إلى أن ثمة تَماثُلاً بل تَرادُفاً بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، ولذا فإن أية منظومة حلولية كمونية يمكن أن تصبح روحية ثم مادية في فترتين متتاليتين، أو تصبح روحية اسماً مادية فعلاً في الوقت نفسه، كما هو الحال في المنظومة الهيجيلية حيث يتم التعبير عن الظواهر الروحية بمصطلحات مادية ويتم التعبير عن الظواهر المادية بمصطلحات روحية، أي أنها واحدية روحية/مادية أو مثالية/مادية في آن واحد. وهذا هو المعنى الحقيقي لاتحاد المقدَّس والزمني وعبارات هيجل الأخرى. وعلى المستوى التاريخي يُلاحَظ أن عمليات العلمنة عادةً ما تسبقها مرحلة يسود فيها الفكر الحلولي الكموني الروحي، ثم يصبح فكراً حلولياً كمونياً مادياً، أي علمانياً، في نهاية الأمر.
ولعل أهم أشكال الحلولية الواحدية هي الغنوصية التي نذهب إلى أنها خطاب فلسفي (معرفي أخلاقي) واحدي كموني استمر عبر مئات السنين وتَبدَّى من خلال عدة فلسفات وأنساق معرفية ودينية من أهمها: القبَّالاة اللوريانية، وأفكار غلاة المتصوفة والباطنية، وفلسفة إسبينوزا وهيجل ونيتشه، وأخيراً العلمانية الشاملة المادية الحديثة التي هي فلسفة غنوصية وشكل من أشكال الحلول. وهكذا، فإن الغنوصية كانت وحدة وجود (واحدية) روحية وأصبحت عبر مسار التاريخ وحدة وجود واحدية مادية، إلى أن انتهى بها الأمر إلى السيطرة على العالم بأسره بعد تدويل المنظومة العلمانية من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي. ويمكن القول بأن وحدة الوجود الروحية كانت الشكل الأكثر شيوعاً حتى القرن الثامن عشر، وأن الشكل الآخر (وحدة الوجود المادية، أي العلمانية الشاملة) هو الشكل الغالب الآن.
الحلولية الكمونية بين الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة(1/425)
توجد أشكال مختلفة من الحلولية الكمونية حسب مدى اتساع نطاقها وكيفية تسميتها للمبدأ الواحد ونقطة الحلول والكمون وتأرجُحها بين إنكار الكون وتأليهه ونوعية الاستجابة لوحدة الوجود. ومع هذا يمكن الحديث عن شكلين أساسيين هما: الحلولية الكمونية الصلبة والحلولية الكمونية السائلة الشاملة. وفي إطار الحلولية الكمونية الثنائية الصلبة، يمكن أن يتركز الحلول أو الكمون في الإنسان (الواحدية الذاتية ـ تأليه الإنسان وإنكار الطبيعة) ، فيمكن أن يكون فرد بعينه (البطل الذي لا يُقهَر) الذي يصبح بذلك مركز الكون. ويمكن أن يكون الجنس البشري بأسره (الواحدية الإنسانية) . ويمكن أن يتركز الحلول أو الكمون في جماعة بعينها (الشعب المقدَّس المختار) تصبح مركز الكون، فتتم التفرقة وبشكل حاد بين من يقع داخل دائرة القداسة وموضع الحلول والكمون ومن يقع خارجها (الواحدية الإمبريالية والعرْقية) . ويمكن أن يتركز الحلول والكمون في الطبيعة فيمكن أن يكون موضع الحلول الأرض المقدَّسة أو جبلاً بعينه أو شجرة أو الطبيعة بأسرها (الواحدية الموضوعية المادية ـ تأليه الطبيعة وإنكار الإنسان) . وهناك بطبيعة الحال تناقض عميق بين تأليه الإنسان وتأليه الطبيعة، ففي الحالة الأولى يشغل الإنسان مركز الكون أما في الحالة الثانية فهو كائن ليست له أية أهمية خاصة. فالحلولية الكمونية بهذا المعنى تؤدي إلى تأرجح حاد بين إنسانية متطرفة تنكر الكون وطبيعية متطرفة معادية للإنسان وتنكر وجوده. وهذه هي مرحلة الثنائية الصلبة التي تتسم بالهرمية الصارمة.(1/426)
ولكن الثنائية الصلبة عادةً ما تُمحى لصالح الموضوع والكون فيهيمن الموضوع وتظهر الواحدية الموضوعية المادية التي تنكر الثنائية والتجاوز. ثم يتسع نطاق دائرة الحلول والكمون ليشمل الكون بأسره وتصبح كل الأشياء موضع الحلول ومن ثم تتعدد المراكز ويصبح العالم لا مركز له. وهذه هي الحلولية الكمونية الشاملة السائلة، إذ يتجلَّى المركز من خلال كل الكائنات فيذوب فيها ويختفي وتفقد كل الكائنات حدودها وحيزها، إذ تختفي المساحات بينها ومن ثم هويتها وتَعيُّنها وقيمتها وتذوب في القوة الواحدة التي تسري في الكون وتتخلل ثناياه (القوة الدافعة للمادة، الكامنة فيها) وتعود الأشياء إلى حالة جنينية رحميّة محيطية (تشبه الفطيرة) تُسقط أية ثنائية أو تعددية ولا تعرف تمييزاً بين ما هو أعلى (في قمة الهرم) وما هو أدنى (في قاعدته) ، وما هو هامشي وما هو مركزي، وما هو خير وما هو شر؛ نظام دائري مصمت لا تتخلله ثغرات أو مسافات، تشبه نهايته بدايته، وتشبه قمته قاعدته، وتشبه أسبابه نتائجه، وتشبه هوامشه مركزه، ومن ثم تنشأ إشكاليات في النظام المعرفي والأخلاقي، إذ تفقد الأشياء حدودها وهويتها ويَصعُب التمييز بينهما، كما تَصعُب التفرقة بين الخير والشر، وتختفي الإرادة والمقدرة على التجاوز وتسود الواحدية والحتمية.
التوحيد والحلولية الكمونية الواحدية(1/427)
نرى أن ثمة تضاداً بين التوحيد والحلولية الكمونية، فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد، قادر فاعل عادل، قائم بذاته، واجب الوجود، مُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ والإنسان، بائن عن خلقه، مغاير للحوادث، فهو مركز الكون المفارق له الذي يمنحه التماسك. وهو لأنه مفارق للكون يخلق حيزاً إنسانياً وحيزاً طبيعياً الأمر الذي يمنح الإنسان الاستقلال عن سائر الموجودات والمقدرة على الاختيار وعلى تجاوز عالمه المادي وذاته الطبيعية المادية. أما الحلولية الكمونية، كما أسلفنا، فهي الإيمان بإله حال كامن في الطبيعة والإنسان والتاريخ، أي أن مركز الكون كامن فيه، وهو بحلوله هذا يلغي أي حيز، إنسانياً كان أم طبيعياً، ومن ثم فإن التوحيد هو عكس الحلولية الكمونية. كما أن تصاعد معدلات الحلولية الكمونية يعني تزايد محاولة تفسير الكون في إطار القوانين الكامنة فيه دون الإهابة بأية قوانين خارجة عنه متجاوزة له، ويُحسَم الصراع لصالح التمركز حول الموضوع وتأليه الكون.
مفردات الحلولية الكمونية الواحدية(1/428)
تحل المنظومة الحلولية الكمونية مشكلة التواصل بين الخالق والمخلوق (وعلاقة الكل بالجزء) عن طريق التجسد والكمون، إذ أن الإله (حسب هذه المنظومة) كي يتواصل مع المخلوق، يفقد تجاوزه ويتجسد ويكمن (ويحل) في أحد مخلوقاته أو في بعضها أو فيها كلها، فيتحد بالكون، وبذا يستطيع الإنسان إدراكه بشكل مباشر، إما من خلال حواسه الخمس أو من خلال عملية عرفان إشراقية تتم من خلال الصلة المباشرة بين الإنسان ومصدر العرفان، ولذا فإن الكل يصبح هو الجزء ويصبح الجزء هو الكل ويصبح مركز الكون كامناً فيه. ويقف هذا على طرف النقيض من المنظومة التوحيدية حيث يتواصل الخالق مع المخلوق من خلال العقل والوحي، ويظل مركز الكون هو الإله العلي المتجاوز للكون. ومن هنا، يمكن القول بأن المنظومة الحلولية الكمونية منظومة مغلقة دائرية، ملتفة حول نفسها، نصفها بأنها منظومة عضوية. ودائرية المنظومة الحلولية الكمونية وانغلاقها والتفافها حول نفسها تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان، أي رغبته في الانسحاب من عالم الهوية والخصوصية والتركيب والحدود والإرادة الحرة إلى الكل الكوني الطبيعي المادي والذوبان فيه باعتباره القوة الدافعة للمادة، الكامنة فيها، والذي يقضي على كل الثنائيات بحيث يتوحد الخالق والمخلوق وتلتصق الذات بالموضوع والإنسان بالطبيعة، وبحيث يُختزَل كل شيء إلى مستوى بسيط أملس، أي أن الإنسان يعود إلى الرحم الدافئ الرخو (حالة كمونية محيطية سائلة) حيث لا حدود ولا وعي ولا هوية ولا اختيارات، أو يعود إلى اللحظات الأولى بعد الولادة، حين كان الطفل الإنساني يظن أنه جزء من أمه لا ينفصل عنها، وحين كان يمسك بثديها ويظن أنه قد تواصل مع العالم بأسره وتَحكَّم فيه!(1/429)
والنزعة الكمونية الجنينية تعبِّر عن نفسها من خلال مفردات الحلولية الكمونية الواحدية الإدراكية الأساسية وأهمها الجسد (وبخاصة الجنس والرحم وثدي الأم والأرض) . فالجسد أكثر الأشياء مباشرةً لدى الإنسان؛ إدراكه عملية سهلة لا تتطلب إعمال الفكر، والعلاقة بين أجزائه واضحة، والمسافة بين المدرك والمدرَك في حالة الجسد غير موجودة، والعلاقة بين السبب والنتيجة والدافع والمؤثر واضحة تمام الوضوح للإنسان. وعلاوة على هذا، فإن الجسد أول شيء يشعر به الإنسان، فالطفل يدرك في البداية جسده ثم جسد أمه، ويعرف تضاريس جسده ثم تضاريس جسد أمه الذي يتركز في الثدي مصدر حياته واستمراره ولذته.
ويبدو أن الإنسان، في بداية بزوغ وعيه، أدرك عمليات أخرى مرتبطة بجسده، رسَّخت عنده إدراك العالم من خلال الجسد المادي:
1 ـ عملية الولادة وخروج الطفل من الرحم، إذ رأى الإنسان الجسد وهو يتولد من جسد آخر، فظن أن الجسد مصدر الحياة.
2 ـ في اللحظات والأيام والشهور الأولى من حياته، يستمد الإنسان حياته من خلال التواصل الجسدي المباشر بثدي أمه ويتصور أنه جزء منها.
3 ـ في تواصله مع الآخر (الأنثى) ، كان أول أشكال الاتصال (وأسهلها وأكثرها بساطة) الجماع الجنسي: دخول الذكر في فرج الأنثى، بكل ما يحمله ذلك من تواصل جسدي مباشر. كما أن الجنس كان يمنحه لحظات فردوسية يفقد فيها إحساسه بالحدود والهوية والإرادة ويمارس إحساساً بالخلود ويلتحم بالكون.(1/430)
4 ـ وحينما ربط الإنسان بين العملية الجنسية والولادة (الحياة) وبين الرضاعة (استمرار الحياة) ، اكتملت عنده مفردات الحلولية الكمونية الواحدية التي تؤكد الجسد باعتباره مصدراً للمعرفة والعلم والتكامل والتماسك. فالجسد هو الذي يحل محل فكرة الكل، ولذا فإن من الأفكار الأساسية في المنظومات الحلولية الكمونية فكرة تفاعل الماكروكوزم والميكروكوزم، أي تقابل العالم الكبير (الكون) بالعالم الصغير (جسد الإنسان) وتعادلهما (فالأول صورة مكبرة من الآخر) . كما تؤكد مفردات الحلولية الجنس باعتباره مصدراً للحياة وطريقة للتواصل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والقوى الكونية (مانحة الحياة) . ولذا، فإنه ربط بين كل هذا وبين مفهوم الأرض، هذا الشيء الموضوعي الموجود خارجه. ولكنه، مع هذا، يحيطه من كل جانب (مثل الرحم) ويمنحه الحياة (مثل الثدي) .(1/431)
إن كل المفردات التي أشرنا إليها كامنة في تجارب الإنسان المباشرة الأولية للإنسان. كما أن استخدام الإنسان للجسد (والجنس والرحم وثدي الأم والأرض) كصورة مجازية إدراكية (تفيد معنى محو المسافة بين الذات وما هو أكبر منها وذوبانها فيه) هو أمر متوقع، بمعنى أن الإنسان في بدايته الجنينية وفي طفولته الأولى كان جزءاً من الطبيعة. ومن هنا، فإن جوانبه الطبيعية/المادية تظل معه عبر حياته مهما بلغ من ربانية وتَجاوُز. ولهذا، فإن إدراك الإنسان للعالم من خلال المقولات المادية الجسدية اللصيقة بتجاربه المادية المباشرة الأولى، دون تجريد أو تجاوز ودون اجتهاد أو إجهاد، أمر طبيعي. فمن منا لا يدرك جسده ولا يعرفه؟ ومن منا لا يعرف الجوع والعطش والفرح والحزن الجسدي؟ ومن منا لا يعرف الأرض والجنس والرحم والرضاعة واللحظات الفردوسية الأولى؟ لكن أن نستخدم المقولات الأولية في تفسير الجوانب المادية البسيطة من حياتنا الإنسانية المركبة شيء، وأن نستخدمها في تفسير كل جوانب حياتنا الإنسانية شيء آخر. والمحاولة التفسيرية الحلولية الكمونية (بمفرداتها الجنينية الجسدية) تتسم ببدائيتها وسذاجتها وبالارتباط المتطرف بين النموذج والظاهرة إذ لا تكاد توجد أية مسافة بين النموذج والظاهرة وبين السبب والنتيجة وبين الدال والمدلول. وهي محاولة تستخدم المادة البسيطة لفهم ما ليس بمادة، فكل مفردات الحلولية الكمونية هي أشياء مادية لها صفات المادة، فهي مقولات إدراكية مادية، وهي تمثل محاولة المتناهي (المادي) القفز على التناهي وصولاً إلى حالة اللامتناهي، ولكنه يصر على العثور على اللامتناهي في المحسوس والمتناهي، أي أنها تفترض كمون مركز العالم في المادة. ومن ثم، فهي محاولة تفسيرية مستحيلة تؤدي إلى اختزال الإنسان المركب (الرباني) القادر على التجاوز الذي يعيش في الثنائيات ويحوي داخله درجة من التركيب لا يمكن ردها إلى النظام الطبيعي (أي القبس(1/432)
الإلهي) بحيث يصير إنساناً طبيعياً مادياً ذا بُعد واحد لا يمكنه تجاوز ذاته أو تجاوز الطبيعة أو المرجعية الكمونية فيسقط في حمأة المادة ويعود إلى السيولة الرحمية والطبيعة/المادة.
وقد عبَّرت الحلولية الكمونية عن نفسها بشكل مباشر وواضح في الرؤى الوثنية للكون وقصة الخلق، فهذه الرؤى عادةً ما تستبعد فكرة خلق العالم من عدم (والتي تفترض وجود مسافة بين الخالق والمخلوق) ، كما تستبعد فكرة الخلق المحدد في زمان ومكان بمشيئة إلهية ولغرض إلهي، وتستبدل بها نظريات تذهب إلى أن العالم نتيجة التقاء جنسي بين الآلهة (التي تمثل عناصر الطبيعة المادية) فتتزوج آلهة الأرض من آلهة السماء أو آلهة الشمس من عنصر في الأرض، أي أن الخلق ليس نتيجة عملية تتم خارج المادة والطبيعة أو لغرض إلهي أخلاقي. وتكتسب الآلهة خصائص البشر (إذ لا توجد مسافة بينها وبينهم) فتحابي شعبها وتغار عليه، وقد تدخل معه علاقة جنسية أو شبه جنسية أو علاقة حب جنسي يعقبها زواج مقدَّس، أو تقيم علاقة تعاقدية خاصة جداً تُميِّز هذا الشعب عن بقية الشعوب وتمنحه مركزية في الكون (بل يُلاحَظ أن عبادة القضيب أو الرحم أو إلهة الخصب التي ترمز للرحم تنتشر في الحلوليات الكمونية الأكثر بدائية، فالقضيب يصبح هنا الدال والمدلول وأيقونة الحلولية الكبرى. كما أن الاحتفالات والشعائر الدينية الحلولية تأخذ عادةً طابعاً جنسياً، وفي عبادات المايا كان الطقس الأساسي هو أن يقوم الملك باستقطار بعض نقط الدم من قضيبه، وأثناء هذه العملية كان يرى الآلهة ويعرف إرادتها) . هذا على عكس العبادات التوحيدية حيث يحتل الجنس مكانته كنشاط إنساني ضمن نشاطات إنسانية أخرى، مختلطاً بها وليس منفصلاً أو مستقلاً عنها، ومن ثم يكتسب الجنس مضموناً اجتماعياً مركباً، وبالتالي فهو لا يحتل أية مركزية ولا يصبح صورة مجازية إدراكية كبرى. وإذا كانت المنظومات الحلولية الكمونية ترى أن الإنسان يحقق ذاته من(1/433)
خلال إلغاء حدود كل شيء، فإن كثيراً من الحركات المشيحانية والباطنية تُلغي حدود الملكية الخاصة والجنس. ومن ثم، تظهر شيوعية الأرض والنساء (الرحم الطبيعي والرحم الإنساني) ، الأمر الذي يُلغي أي تمايز أو هرمية وأية هويات إنسانية محددة. أما المنظومات التوحيدية فتؤكد فكرة الحدود، ومن ثم تؤكد فكرة العدل في توزيع الملكية وإدارتها دون إلغائها، وتؤكد فكرة الزواج والأسرة كمؤسسات مبنية على الاستقرار والطمأنينة والحب.(1/434)
وحتى حينما ابتعد الإنسان البدائي الطبيعي عن الجسد (والجنس والثدي والرحم) ، فإن هذا لم تَنتُج عنه أية مقدرة على التجاوز أو التجريد إذ أصبحت الأرض (بدلاً من الجسد) موضع تقديس الإنسان. فالمكان مباشر ومادي (على عكس الزمان، فهو غير مباشر وغير ملموس) . ولذا، نجد أن العقل البدائي يتسم بإدراك عميق للمكان، أي الأرض، وإغفال شبه تام للزمان، وهي سمة يتصف بها أيضاً إدراك الطفل الذي يبدأ بالإحاطة بمفهوم المكان متدرجاً تدرجاً بالغ البطء إلى أن ينضج ويحيط بفكرة الزمان والتاريخ. ومن هنا، نجد أن العقل البدائي (الحسي المادي الوثني العاجز عن التجريد) قد ربط بين مفردات الحلولية الكمونية الجسد (الجنس ـ ثدي الأم ـ الرحم) من جهة وبين الأرض من جهة أخرى. فالأرض، مثل الجسد، هي أقرب الأسباب للنتائج وأكثرها التصاقاً بها، ولا توجد مسافة بينها وبين الإنسان. وهي كيان مادي يستطيع الإنسان أن يدركه بحواسه الخمس دون إعمال عقل أو جهد. وقد رأي هذا الإنسان البدائي المادي الوثني الديدان وهي تخرج من باطن الأرض والنباتات وهي تشقها وتُخرج براعم ثم زهوراً. والأرض، بهذا، في نظره المصدر المباشر للرزق، فمنها تأتي المحاصيل بل مواد البناء. وهو يرى الأرض وهي تُخْصب ثم تُقحل ثم تُخْصب عبر الفصول؛ مصدر حياتها وحيويتها من داخلها. والإنسان، أخيراً، يعود للأرض فيُدفَن فيها، فالأرض إذن هي البداية ومصدر الرزق والمأوى والنهاية أي أنها موضع الكمون، ولذا فإن الأرض هي الرحم النهائي والجسد الأعظم مصدر الحياة والخلق وهي الإله، فهي المصدر وإليها المآل.(1/435)
وعادةً ما تدور العبادات الوثنية الحلولية حول تقديس الأرض المقدَّسة والدورة الكونية للطبيعة، وعادةً ما تُقرَن الأرض بفرج المرأة مصدر الحياة والخلق (ومن هنا تركيز الغنوصية على الجنس والمرأة) . وتظهر فكرة الإله الحي أو المصلوب أو المذبوح الذي يُبعَث من جديد كل عام، وهي عملية ذبح وبعث تُفسِّر دورات الطبيعة، فكأن الإله جزء من الطبيعة/المادة ودورتها لا يتجاوزها، يحيا بحياتها ويموت بموتها، يُخْصب حينما تُخْصب الطبيعة ويُجدب تماماً بجدبها. والصورة المجازية: الجسد/الأرض/الجنس/الثدي/الرحم، تحاول أن تفرض قدراً من الوحدة على تعددية العالم وتنوُّعه وكثرته وأن تبين العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ولكن هذه الوحدة هي وحدة لا تتجاوز العالم المادي (حتى ولا جسد الإنسان) إذ أن مبدأ الوحدة كامن فيه لا يتجاوزه ولا يعلو عليه.
والفلسفات المادية (التي تُعبِّر عن وحدة الوجود المادية) ، وضمن ذلك العلمانية الشاملة (الحلولية الكمونية المادية) ، تستخدم مفردات الحلولية الكمونية، وخصوصاً فيما يتعلق بتقديس الجنس والأرض. ولعل فكر ما بعد الحداثة، باستخدامه الأعضاء التناسلية كصورة مجازية إدراكية أساسية، يُشكِّل عودة للحلوليات الوثنية وعبادة القضيب والرحم.
صيغ مختلفة للتعبير عن العلمانية الشاملة (وحدة الوجود المادية والحلولية الكمونية المادية)
تلخص التعبيرات القرآنية: "إن هي إلا حياتنا الدنيا" (الأنعام 292 ـ المؤمنون 37) ، و"ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت وتحيا" (الجاثية 24) الموقف الحلولي الكموني الواحدي المادي أو العلمانية الشاملة ببساطة وبلاغة. فالمرجعية الوحيدة هي الدنيا وعالم الحواس الخمسة والعقل المادي الذي يتواصل مع العالم المادي من خلال الحواس الخمس.(1/436)
ولكن الخطاب العلماني لا يعبِّر عن العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية بهذه البساطة. ولعل الصيغة الهيجلية في الحديث عن اتحاد المقدَّس بالزمني والفكرة بالطبيعة والإله بالتاريخ ... إلخ من أكثر الصيغ تركيباً وأكثرها شيوعاً للتعبير عن الحلولية الكمونية والواحدية المادية/الروحية. وهناك صياغات أخرى أقل تركيباً من الصيغة الهيجلية وأكثر بساطة وأصبحت جزءاً من خطابنا التحليلي دون أن ندرك النموذج (الواحدي المادي) الكامن وراءها. وقد قمنا بتحليل مصطلحات مثل: «وحدة (أي واحدية) العلوم» و «الإنسان الطبيعي» و «نهاية التاريخ» في مداخل أخرى لنبين أنها تعبِّر عن نموذج العلمانية الشاملة، ويمكن أن نورد فيما يلي بعض المصطلحات الأخرى الشائعة ذات البُعد الواحدي المادي:
- يتحدث البعض عن أن "ما يحكم العالم هو قوانين الحركة أو قوانين التغير أو قوانين الضرورة الطبيعية"، ومثل هذا القول يصدر عن الإيمان بوجود جوهر واحد يتبعه كل شيء وتذعن له كل الظواهر وأن القوانين كامنة في المادة غير مفارقة لها.
- إن قلنا "لا يستطيع الإنسان تَجاوُز حدود المادة" أو "حدود الطبيعة" أو "حدود جسده"، فنحن نتحدث في إطار حلولي كموني واحدي مادي، ينكر وجود أية آفاق مفارقة للمعطيات المادية، وهي وحدها تحوي كل ما يلزم لفهم العالم.
- إن قلنا "لابد من القضاء على الثنائيات" فنحن نقول "لابد من سيادة الواحدية المادية والقانون الواحد الكامن في الأشياء، فنحن لا نعرف قانونين؛ واحد للأشياء وواحد للإنسان"، أي أننا نرى أن ثمة جوهراً واحداً وقانوناً واحداً كامناً.(1/437)
- إن استخدم أحد مثل هذه العبارة: "إن النموذج الذي استخدمه هو نموذج اقتصادي محض" فقد َعبَّر بشكل مصقول عن الحلولية الكمونية المادية والواحدية المادية، فهو يقول في واقع الأمر إن النموذج الذي يستخدمه قد استبعد من الظاهرة التي يدرسها كل العناصر الإنسانية غير الاقتصادية، وأبقى على عنصر واحد هو العنصر الاقتصادي (المادي) وفسَّر الإنسان في إطاره ونظر إليه باعتباره ظاهرة بسيطة، إنساناً ذا بُعد واحد يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية، فهو شيء بين الأشياء يمكن دراسته في إطار دوافعه الاقتصادية، ومن ثم يمكن رصده من خلال نماذج اقتصادية رياضية محضة، دون الإهابة بأي شيء متجاوز للمادة (الاقتصادية) المحضة. وقل نفس الشيء عمن يستخدم نموذجاً فرويدياً محضاً (يؤكد الواحدية المادية الجنسية بدلاً من الواحدية المادية الاقتصادية) .
- وقد تزداد الأمور صقلاً، فيضطر الحلول الكموني المادي إلى أن يتحدث عن قدر من التجاوز لسطح المادة وعن استقلالية الوعي الإنساني وعن البناء الفوقي المستقل عن البناء التحتي وهكذا. ولكن الحلولية الكمونية الواحدية تفرض نفسها لتؤكد أن مُستقَر الحقيقة هو القانون الكامن في المادة فيضطرون إلى القول بأن الوعي الإنساني، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، يمكن رده إلى حركة المادة، وأن البناء الفوقي ليس ظاهرة مستقلة (بالإنجليزية: فينومينون phenomenon) وإنما هو ظاهر تابعة وحسب (بالإنجليزية: إبي فينومينون epiphenomenon) ، ولذا فإن البناء التحتي (المادي) هو ما يحدد حركة وشكل وبنية البناء الفوقي ويتحكم فيه.(1/438)
- في هذا الإطار أيضاً يمكن فهم عبارة مثل "إن الإنسان يصوغ ذاته أثناء صراعه مع الطبيعة/المادة"، فوعيه ـ حسب هذه الصياغة ـ يتشكل ويزداد تركيباً (هكذا، بشكل آلي مادي يُقال له «جدلي» من داخل عملية الصراع مع الطبيعة نفسها وبسبب تكرارها) ، فتتراكم المعرفة وربما ذرات الوعي الإنساني، وبدلاً من الحديث عن لحظة الخلق الفارقة يتحدثون عن "الطفرة" وعن "تحوُّل الكم إلى كيف" وهكذا، وهي عبارات أقل ما توصف به أنها غامضة جداً، مجرد أسماء ذات رنين علمي لعملية غير مفهومة. ولكن ما يهم فيها من منظور هذا المدخل أنها تؤكد كمونية القوى التي تُحدث التغيير وتنكر وجود أية قوى خارجية مفارقة. فالإنسان يصوغ نفسه بنفسه من خلال صراعه مع مادة أولية (الجوهر المادي الواحد) وفي إطارها، تماماً كما يخلق الإله العالم من مادة قديمة في النظريات الحلولية الكمونية الواحدية الروحية.
- وحينما يظهر نظام وتناسق في الكون قد يفصح عن وجود مُنظِّم خارجي مفارق وعن غائية، فإنهم يحاولون استيعابه في الحلولية الكمونية الواحدية المادية، بحيث يصبح النظام كامناً في المادة فيتحدثون عن "المادة ذاتية التنظيم" أو "المادة رفيعة التنظيم".
- النظرية الداروينية نظرية حلولية كمونية واحدية مادية، لا تقبل سوى قوانين التطور الكامنة في المادة لتفسير الظواهر كافة.
- وقول الداروينيين (والنيتشويين والماركسيين) "بأن الصراع بين الأنواع أو الأجناس أو الطبقات هو المحرك الوحيد أو الأساسي للسلوك الإنساني" هو القول بأن ثمة مبدأ واحداً كامناً في البشر وفي الطبيعة/المادة يحركهم ويتحكم فيه في حتمية كاملة.(1/439)
- المبدأ الواحد يمكن أن يتجلى من خلال التاريخ فيُقال "إن مسار التاريخ أثبت كذا ... " أو "هذا هو حكم التاريخ" أو "لابد أن تواكب حركة التاريخ والتقدم وإلا اكتُسحت تماماً وأُلقي بك في مزبلة التاريخ" فهذه كلها صياغات ترى أن التاريخ هو موضع الكمون، وهو التعبير عن الجوهر الواحد الذي ينتظم كل الكائنات ويحركها.
- النظرية العنصرية والنظريات التفسيرية العرْقية نظريات حلولية كمونية مادية، فهي تجد أن ثمة عنصراً مادياً واحداً، العرْق، هو الذي يمكن من خلاله تفسير تَطوُّر التاريخ. والصفات العرْقية صفات مادية كامنة في الإنسان.
- الحديث عن "زمانية كل شيء" و"زمانية النص" و"تاريخانية الظواهر الإنسانية كافة" هو القول بأن كل شيء يوجد داخل الزمان لا يتجاوزه، فالزمان هو مُستقَر كل شيء، كل المعرفة كامنة فيه، ولا يوجد شيء خارجه، فهو المبدأ المادي الواحد الذي يتخلل كل الأشياء ويدفعها.
- نحن نرى أن هيمنة الصورة المجازية العضوية على التفكير الغربي مظهر من مظاهر الحلولية الكمونية الواحدية المادية، فالصورة المجازية العضوية صورة مجازية تَجسُّدية حلولية تدور حول المبدأ الواحد الكامن لا المتجاوز، فالكائن العضوي تُوجَد في داخله قوة نموه وفنائه ولا يُدفَع من الخارج. واستخدام الجسد والجنس كصور مجازية أساسية هو محاولة لاستخدام صور مجازية إدراكية تنقل العالم في ماديته وشيئيته الكاملة، دون أي شيء متجاوز له، فالجسد، مثل العالم المادي، هو موضع الحلول والكمون.(1/440)
- وتتضح الحلولية الكمونية في مفهوم الشعب العضوي (فولك) . فالشعب العضوي هو شعب تربطه علاقة عضوية بأرضه وثقافته، يكونون كلاًّ متلاحماً فلا يوجد للشعب وجود خارج أرضه ولا يمكن أن يؤسس ثقافته بدون وجوده عليها. وثقافة هذا الشعب تعبير عضوي عن روح هذا الشعب النابعة من خصوصيته والتصاقه بأرضه. وهكذا، فكل شيء كامن داخل الشعب في كيان عضوي مصمت لا يستطيع الأجنبي أن يخترقه أو حتى يفهمه. ولذا، تدور معظم الأيديولوجيات العنصرية (الصهيونية ـ النازية ـ القوميات المتطرفة) حول صورة مجازية عضوية، وهي أيديولوجيات حلولية كمونية مادية.
- وقول البنيويين إن العالم لا يُوجَد خارج مجموعة من البنى، وأن قوانين البنية كامنة فيها، محايثة لها، هو القول بأن ثمة مبدأ واحداً ذا مقدرة تفسيرية كبرى هو مبدأ مادي واحدي في نهاية الأمر، فالبنية تتسم بالوحدة الصارمة (رغم كل ما تحويه من ثنائيات متعارضة) . وهي توجد في في هذ العالم لا تتجاوزه.
- وقول أنصار ما بعد الحداثة، والسوفسطائيين من قَبْلهم، بالصيرورة الكاملة، هو القول بأن المبدأ المادي الواحد يأخذ شكل صيرورة مطلقة تسقط في قبضتها الأشياء كافة، ولا تملك الإفلات منها. وهذا يعني في واقع الأمر تَحوُّل الإله/الصيرورة (إله هيجل، مقابل الإله/الطبيعة، إله إسبينوزا) إلى صيرورة وحسب ويفقد ألوهيته، أي أنها تعميق للكمونية وإنكار لأي تَجاوُز حتى لو كان لفظياً.(1/441)
- تظهر الحلولية الكمونية الواحدية المادية في إصرار أنصار ما بعد الحداثة على إنكار أصل الإنسان الرباني، فيتحدث دريدا عن "وعي إنساني كامل بدون أساس إلهي، بل بدون أساس إنساني"، لأن الأساس الإنساني يعني قدراً من الانفصال عن الطبيعة/ المادة بحيث لا يوجد سوى جوهر مادي واحد. ومن هنا حديث رورتي عن عالم لا يَعبُد فيه الإنسان شيئاً، لا إلهاً ولا ذاته، عالم تُنزَع فيه القداسة عن كل شيء لأنه لا يوجد سوى جوهر مادي، فلا مجال للحيز الإنساني المستقل.
- وقول أنصار ما بعد الحداثة (الذي قد يبدو وكأنه لا معنى له) "لا يوجد شيء خارج النص" يمكن فهمه في إطار الصيرورة الكاملة. فالمبدأ المادي الواحد هنا هو الصيرورة الكاملة بدون إله، لعب اللغة وتراقص الدوال، والمعنى لا يُوجَد خارجهما، ومن ثم فالنص هو نفسه صيرورة بدون إله أو مركز، ومن يريد أن يعرف معناه فليدخل في دوامته، وهو إن دخل فلن يخرج، إذ لا يُوجَد شيء خارج النص، فالمعنى كامن فيه، وهو، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، بلا معنى ثابت أو نهائي.
وفي محاولتنا تطوير خطاب تحليلي يصل إلى هذه الواحدية الصارمة وإلى فكرة الجوهر المادي الواحد ويعبِّر عنها، نستخدم بعض العبارات والمصطلحات التي تُعبِّر بأشكال مختلفة عن فكرة الكمون والحلول والواحدية المادية. وهذه المصطلحات والعبارات ليست من نحتنا أو صياغتنا تماماً، فهي جزء من الخطاب التحليلي الفلسفي العام في الغرب الذي يتسم كما أسلفنا بالهيجلية، وما نفعله نحن هو أننا نُبيِّن أبعادها الكلية والنهائية وعلاقتها بالتفكير الحلولي الكموني المادي، وفيما يلي بعض هذه العبارات:
- يمكن أن يُشار إلى المبدأ الواحد، سواء كان متجاوزاً للطبيعة أو كامناً فيها، بأنه «المطلق» ، فيقال تعبيراً عن الحلولية: "حَلَّ المطلق في النسبي وأصبح كامناً فيه وامتزجا تماماً وأصبحا كلاًّ واحداً".(1/442)
- ويمكن أن يُشار إلى المبدأ الواحد بأنه «المقدَّس» ، فيُقال تعبيراً عن الحلولية: "امتزج المقدَّس بالزمني أو الدنيوي"، كما يمكن أن نقول: "لقد أصبح كل شيء مفعماً بالقداسة فتَسَاوَى المقدَّس والزمني وأصبحا كلاًّ عضوياً واحداً، وتساوت الأشياء وتمت تسويتها".
- ويمكن أن يُشار إلى المبدأ الواحد بأنه «الكل» ، فيُقال تعبيراً عن الحلولية الكمونية الواحدية: "استوعب الكل الأجزاء بحيث أصبح هناك كلٌّ واحد وحسب" كما يُقال "الكل لا يوجد إلا في الأجزاء".
- كما يمكن أن يُشار إلى المبدأ الواحد بالمركز، فيُقال: "حل المركز في العالم وأصبح كامناً فيه بحيث أصبح هناك كل عضوي". على عكس النماذج التوحيدية حيث يظل المطلق منفصلاً عن النسبي، والمقدس منفصلاً عن الزمني، والكل عن الجزء، ويظل المركز مفارقاً للعالم فتظل هناك ثنائية فضفاضة، وتظل هناك مسافة بين الخالق والمخلوق هي في جوهرها الحيز الإنساني الذي يؤدي إلى ظهور كل متكامل فضفاض بشكل غير عضوي لا كل متلاحم بشكل عضوي، يتساوى داخله الإنسان بالأشياء وتهيمن الواحدية المادية.
شحوب الإله(1/443)
«شحوب الإله» مصطلح قمنا بصياغته (على غرار مصطلح نيتشه «موت الإله» ) لنصف إحدى مراحل الحلولية الكمونية ومستوى من مستويات العلمنة والانتقال من المرجعية المتجاوزة إلى المرجعية الكامنة. وهي مرحلة يحل فيها الإله في الإنسان أو في الطبيعة أو في كليهما معاً ويوشك أن يتوحد بهما دون أن يفعل. ولكنه مع هذا يفقد كثيراً من تجاوزه وربما لا يبقى منه سوى الاسم بحلوله في الكون. كما يمكن أن يحدث العكس، وهو أن يخلق الإله العالم ثم ينسحب منه ويتركه وشأنه، ويحتفظ الإله باسمه ولكنه يفقد فاعليته نتيجة ابتعاده عن الكون وانفصاله عنه. وسواء حل الإله في العالم أو انسحب منه، فإنه يتم تهميشه، ومن ثم فإن الغرض والغاية في العالم يختفيان تقريباً. وبعض المنظومات العلمانية الجزئية (الربوبية على سبيل المثال) تقف عند مرحلة شحوب الإله دون أن تَعبُر الخط إلى مرحلة موت الإله. فالربوبية والماسونية والموحدانية كلها تعبِّر عن فكرة شحوب الإله.
ظلال الإله
أشار نيتشه إلى ما سماه «ظلال الإله» وهي بعض الأفكارالكلية والمطلقة التي استمر وجودها حتى بعد ظهور الرؤية العلمية المادية وانتشارها. ومن أهم تبديات ظلال الإله فكرة الكل والحقيقة والثنائيات الأخلاقية والسببية والغائية وفكرة الإنسان نفسه كذات مستقلة عن الطبيعة/المادة. ورغم أنها مجرد ظلال إلا أنها تصبح بمنزلة مركز للعالم وتمنحه قدراً من الصلابة. وطالب نيتشه بضرورة تطهير العالم تماماً من ظلال الإله هذه حتى يصبح العالم عالماً سائلاً لا مركز له. وعالم ما بعد الحداثة هو العالم الذي تم تطهيره تماماً من كل ظلال الإله، فأصبح عالماً بلا مركز، مادة محضة سائلة. واختفت الذات الإنسانية وكل أوهام الإنسانية الهيومانية الغربية، كما اختفى الموضوع الثابت ذو الحدود الواضحة.
موت الإله(1/444)
«موت الإله» مصطلح يعني أن القوة الخالقة للعالم المتجاوزة له قد اختفت وفَقَد الإله اسمه، وهو ما يعني الاختفاء الكامل للمرجعية المتجاوزة وظهور المرجعية الكامنة. عندئذ يُسمَّى المبدأ الواحد، مصدر وحدة العالم وتماسكه، «الطبيعة/المادة» أو التنويعات المختلفة عليه. وحين يتم ذلك تتحوَّل وحدة الوجود الروحية إلى وحدة وجود مادية. ونحن نُعبِّر عن هذا بقولنا إن الإله يحل في المادة ويتوحد بها ولا يصبح له وجود، فلحظة الوحدة الكاملة للوجود والواحدية المادية (اللحظة النماذجية العلمانية) هي أيضاًَ لحظة فقدان الإله لتجاوزه واسمه، أي موته. ويصبح مركز الكون كامناً فيه، ويصبح الكون (الإنسان والطبيعة) مكوَّناً من مادة واحدة ويختفي الغرض والغاية تماماً ويموت الإنسان، أي يختفي كمقولة مستقلة عن النظام الطبيعي/المادي. وعبارة «موت الإله» عند نيتشه (صاحب العبارة) تعني غياب فكرة الكل التي تشكل أساس الأنطولوجيا الغربية.
ولو أردنا التعبير عن هذه الفكرة بالمصطلح الإسلامي لقلنا «نسيان الإله» بدلاً من «موت الإله» ، وذلك انطلاقاً من الآية "نسوا الله فأنساهم أنفسهم" (الحشر/19) . وهي تعني وجود الإنسان ككيان مستقل عن الطبيعة يحقق قدراً من التجاوز لها بسبب علاقته بالإله المتجاوز. فإن نسى الإنسان الله وظن أنه غير موجود، نسي نفسه وجوهره الإنساني المتجاوز ومركزيته في الطبيعة وما يُميِّزه كإنسان ونسي أنه إنسان إنسان، إنسان غير طبيعي مُستخلَف من إله عليٍّ قدير مجاوز للطبيعة والمادة.(1/445)
الجزء الرابع: العلمانية الشاملة
الباب الأول: إشكالية تعريف العلمانية
العلمانية: إشكالية التعريف
من أهم المصطلحات في الخطاب التحليلي الاجتماعي والسياسي والفلسفي الحديث في الشرق والغرب مصطلح «العلمانية» . ويظن كثير من الناس أن مصطلحاً مهماً بهذه الدرجة لابد أن يكون واضحاً تمام الوضوح، محدد المعاني والمعالم والأبعاد. وهذا أمر بعيد كل البُعد عن الواقع. وسنحاول في مداخل هذا الباب أن نبيِّن بعض الأسباب والإشكاليات التي أدَّت إلى هذا الوضع، وسنتناول كل إشكالية في مدخل مستقل.
1 ـ إشكالية العلمانيتين: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
2 ـ شيوع تعريف العلمانية باعتبارها «فصل الدين عن الدولة» ، وهو ما سطَّح القضية تماماً، وقلَّص نطاقها.
3 ـ تصوُّر أن العلمانية «مجموعة أفكار وممارسات واضحة» الأمر الذي أدَّى إلى إهمال عمليات العلمنة الكامنة والبنيوية.
4 ـ تصوُّر العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة لا متتالية نماذجية آخذة في التحقق.
ثم سنتناول، في باب مستقل، إشكالية اختلاط مصطلح «علمانية» في الشرق والغرب والمفاهيم الكامنة وراءه.
إشكالية العلمانيتين: علمانية جزئية وعلمانية شاملة
لعل من أهم الأسباب التي أدَّت إلى اختلال مصطلح «علمانية» ما نسميه «إشكالية العلمانيتين» . وجوهر هذه الإشكالية أن مصطلح «علمانية» (سواء في الخطاب التحليلي الغربي أم العربي) يشير في واقع الأمر إلى أكثر من مدلول. ويمكننا تَخيُّل مُتصل من المدلولات في أقصى أطرافه ما نسميه «العلمانية الجزئية» ، وفي الطرف الآخر ما نسميه «العلمانية الشاملة» وتتمازج المدلولات فيما بينها وتختلط وتتشابك وتتشابه وتتصارع.(1/446)
1 ـ العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع (برجماتية ـ إجرائية) لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والنهائية (المعرفية) ومن ثم لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يُعبَّر عنه بعبارة «فصل الدين عن الدولة» . ومثل هذه الرؤية الجزئية تَلزَم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة. كما أنها لا تنكر وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دينية أو وجود ماورائيات وميتافيزيقا. ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية. كما أنها رؤية محددة للإنسان، إلا أنها تراه إنساناً طبيعياً مادياً في بعض جوانب من حياته (رقعة الحياة العامة) وحسب، وتَلزَم الصمت فيما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته. ويمكن تسمية العلمانية الجزئية «العلمانية الأخلاقية» أو «العلمانية الإنسانية» .
2 ـ العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للواقع ذات بُعد معرفي (كليّ ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة. فإما أن تُنكر وجودها تماماً في أسوأ حال، أو تهمِّشها في أحسنه، وترى العالم باعتباره مادياً زمانياً كل ما فيه في حالة حركة ومن ثم فهو نسبي. ويتفرع عن هذه الرؤية منظومات معرفية (الحواس والواقع المادي مصدر المعرفة) وأخلاقية (المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق) وتاريخية (التاريخ يتبع مساراً واحداً وإن اتبع مسارات مختلفة فإنه سيؤدي في نهاية الأمر إلى نفس النقطة النهائية) ورؤية للإنسان (الإنسان ليس سوى مادة، فهو إنسان طبيعي/مادي) والطبيعة (الطبيعة هي الأخرى مادة في حالة حركة دائمة) . كل هذا يعني أن كل الأمور في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير تاريخانية زمنية نسبية. ويمكن تسمية العلمانية الشاملة «العلمانية الطبيعية/المادية» أو «العلمانية العدمية» .(1/447)
والتعريف الأول هو التعريف الشائع بين معظم الناس والدارسين وهو الذي على أساسه يتصورون أنهم يديرون حياتهم. ولا يتبنَّى التعريف الثاني سوى بعض الفلاسفة والمتخصصين. ومع هذا، يختلط التعريفان دائماً ويتشابكان، فتظهر تعريفات متنوعة مختلفة في درجات شمولها وجزئيتها، ويُشار لها جميعاً بكلمة «علمانية» دون تحديد أو تمييز. وهذا هو جوهر إشكالية العلمانيتين.
إشكالية تعريف العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة
» فصل الدين عن الدولة» ترجمة للعبارة الإنجليزية «سيباريشن أوف تشيرش آند ستيت separation of church and state» ، وهي أكثر تعريفات العلمانية شيوعاً في العالم، سواء في الغرب أو في الشرق. وهي عبارة تعني حرفياً «فصل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة) » . والعبارة تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي وربما الاقتصادي أيضاً (رقعة الحياة العامة) وتَستبعد شتى النشاطات الإنسانية الأخرى، أي أنها تشير إلى العلمانية الجزئية وحسب.(1/448)
ونحن نذهب إلى أن ثمة فصلاً حتمياً نسبياً للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، إلا في بعض المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية حيث نجد أن رئيس القبيلة هو النبي والساحر والكاهن (وأحياناً سليل الآلهة) وأن طقوس الحياة اليومية طقوس دينية كما هو الحال في العبادة اليسرائيلية قبل ظهور العبادة القربانية المركزية. أما في المجتمعات الأكثر تركيباً، فإن التمايز يبدأ في البروز. وحتى في الإمبراطوريات الوثنية التي يحكمها ملك متأله، فإن ثمة تمايزاً بين الملك المتأله وكبير الكهنة وقائد الجيوش! فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد بالمؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي حضاري مركب، تماماً مثلما يستحيل أن تتوحد مؤسسة الشرطة الخاصة بالأمن الداخلي بمؤسسة الجيش الموكل إليها الأمن الخارجي، ولا أن تتوحد المؤسسة التعليمية بالمؤسسة الدينية. وفي العصور الوسطى المسيحية، كانت هناك سلطة دينية (الكنيسة) وأخرى زمنية (النظام الإقطاعي) . بل داخل الكنيسة نفسها، كان هناك من ينشغل بأمور الدين وحسب ومن ينشغل بأمور الدنيا.(1/449)
وحينما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فهو في واقع الأمر يقرر مثل هذا التمايز المؤسسي (فالقطاع الزراعي، حيث يمكن أن يؤبر المرء أو لا يؤبر حسب مقدار معرفته العلمية الدنيوية وحسب ما يمليه عليه عقله وتقديره للملابسات، متحرر في بعض جوانبه من المطلقات الأخلاقية والدينية) . بل إن الجهاد نفسه ينطوي على مثل هذه الجوانب. قال ابن إسحق: "فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبادره إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به". قال ابن إسحق: "فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل.. أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يارسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر ماءه من القُلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون". فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "لقد أشرت بالرأي".
وثمة تمييز هنا بين الوحي (الذي لا يمكن الحوار بشأنه) وبين الحرب والخديعة (أي آليات إدارة المعركة العسكرية التي تخضع لإدراك ملابسات اللحظة) ، أي أن ثمة تمايزاً بين المؤسسة الدينية والمؤسسة العسكرية (ومما له أعمق الدلالة أن المسلمين كسبوا هذه المعركة) . ومع تَزايُد تركيبية الدولة الإسلامية (مع الفتوحات والمواجهات) ، تزايد التمايز بين المؤسسات وتَزايَد الفصل بينها. وغني عن القول أن الكهنوت (من منظور النموذج الإسلامي) لا يمكنه أن يلعب دوراً أساسياً، فعملية التفسير هي عملية اجتهادية وباب الاجتهاد مفتوح أمام الجميع ولا عصمة لبشر.(1/450)
ومن ثم، فإن فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة عملية ليست مقصورة على المجتمعات العلمانية بأية حال وإنما هي عملية موجودة في معظم المجتمعات المركبة بشكل من الأشكال. ولذا، يتحدث بعض أصحاب هذا التعريف عن غياب التَعارُض في واقع الأمر بين العلمانية والتدين وأن بإمكانهما التعايش معاً. وهو أمر ممكن بالفعل إذا كان المعنى هو مجرد تمايز المجال السياسي عن المجال الديني وإبعاد رجال الدين والكهنوت عن مؤسسات صنع القرار السياسي. وأعتقد أن كثيراً ممن يتصورون أنهم أعداء للعلمانية سيقبلون هذا الفصل أو التمايز، إذا ما تأكدوا أن القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع (وضمن ذلك مؤسسات صنع القرار) هي القيمة المطلقة (أخلاقية ـ إنسانية ـ دينية) وليس صالح الدولة أو المصالح الاقتصادية أو أية معايير نسبية أخرى، أي أن من الممكن أن يقبلوا بعلمنة المجال السياسي طالما كانت المرجعية النهائية مرجعية متجاوزة للدنيا وللرؤية النفعية المادية التي تجعل الطبيعة/المادة المرجعية الوحيدة.
ولكن هذه العلمانية الجزئية (المرتبطة بالمراحل الأولى لتطور العلمانية الغربية) تراجعت وهُمِّشت إذ تصاعدت معدلات العلمنة بحيث تجاوزت مجالات الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا وأصبحت العلمنة ظاهرة اجتماعية كاسحة، وتحولاً بنيوياً عميقاً يتجاوز عملية فصل الدين عن الدولة وعملية التنظيم الاجتماعي (الرأسمالي والاشتراكي) ويتجاوز أية تعريفات معجمية وأية تصورات فكرية قاصرة محدودة، فلم تَعُد هناك رقعة للحياة العامة مستقلة عن الحياة الخاصة. فالدولة العلمانية والمؤسسات التربوية والترفيهية والإعلامية وصلت إلى وجدان الإنسان وتغلغلت في أحلامه ووجهت سلوكه وعلاقته بأعضاء أسرته النووية، ولم يعد من الممكن الحديث عن فصل هذا عن ذاك. بل إننا يمكننا أن نتحدث لا عن «فصل الدين عن الدولة» وإنما عن «هيمنة الدولة على الدين» .(1/451)
ومن ثم أصبحت المقدرة التفسيرية والتصنيفية لنموذج العلمانية الجزئية ضعيفة إلى أبعد حد وأصبح مصطلح علمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة دالاً يقصر عن الإحاطة بمدلوله أي ظاهرة العلمانية في شمولها وتركيبيتها. ومع هذا تم الاحتفاظ به واستمر شيوعه حتى بعد ظهور بعض التعريفات الأخرى الأكثر شمولاً. ولذا اكتسب مصطلح (العلمانية) خاصية جيولوجية تراكمية فحين يظهر تعريف جديد يُضاف إلى التعريفات السابقة ويستمر إلى جوارها دون أن يحاول أحد صياغة كل التعريفات في نموذج واحد شامل ومركب له مقدرة تفسيرية عالية. وقد أدَّى هذا إلى أن الحوار بشأن العلمانية أصبح مُشوَشاً بل مستحيلاً إذ يستخدم المتحاورون نفس المصطلح (علمانية) ولكن كل واحد منهم يُسقط عليه معنى مختلفاً ويراه في إطار مرجعية مختلفة.
إشكالية تعريف العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات ومخططات واضحة محددة
يتصوَّر البعض أن عمليات العلمنة عمليات اجتماعية وسياسية وفكرية، وأنها تتم من خلال مخطط ثقافي مسبق ومن خلال آليات وممارسات واضحة (مثل نقل الأفكار وإشاعة الإباحية والذهاب إلى الشواطئ العرايا) يمكن تحديدها ببساطة ويمكن تبنيها أو رفضها بشكل واع.،مثل هؤلاء عادةً ما يتصورون أن التدين هو الآخر مجموعة من الممارسات البسيطة الواضحة (مثل الذهاب إلى المسجد والصوم) . وبالتالي فإن إشاعة العلمنة يعني (من هذا المنظور) إصدار تشريعات سياسية معينة والحض على أفكار بعينها، وهكذا. وللتحقق من معدلات العلمنة (والتدين) في مجتمع ما، فإن الباحث الذي يؤمن بمثل هذه الرؤية يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ويبحث عن المؤشرات المحسوسة الظاهرة، فإن وجدها صنَّف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً وإن لم يجدها فهو مجتمع إيماني.(1/452)
ومن نفس المنظور الاختزالي تُناقَش العلمانية في إطار نقل الأفكار والتأثير والتأثر، فيُنظر إلى العلمانية على أنها مجموعة من الأفكار الغربية صاغها بعض المفكرين الغربيين، وقام بعض الناس بتطبيقها، ثم قلدهم البعض الآخر، ثم اتسع نطاق التقليد والممارسات تدريجياً وانتشرت العلمانية.
وفي العالم العربي يسود تصوُّر مفاده أن بعض المفكرين العرب (وخصوصاً مسيحيي الشام) قام "بنقل" الأفكار العلمانية الغربية وأنهم "تسببوا" بذلك في نشر العلمانية في بلادنا. بل يذهب البعض إلى أن عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتم من خلال مخطط محكم (أو ربما مؤامرة عالمية يُقال لها أحياناً «صليبية» أو «يهودية» أو «غربية» ) . ويذهب دعاة هذه الرؤية إلى أن الأفكار العلمانية ظهرت في أوربا المسيحية بسبب طبيعة المسيحية باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها ولولا فساد الكنيسة لما ظهرت العلمانية. فالعلمانية من ثم ظاهرة مسيحية مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالغرب المسيحي، لا علاقة للإسلام والمسلمين بها. ولذا تصبح مهمة من يود الحرب ضد العلمانية هي البحث عن الأفكار العلمانية والممارسات العلمانية (الواضحة) وعن القنوات التي يتم من خلالها نقل الأفكار والانغماس في الممارسات العلمانية. ومهمة من يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، يساعده في هذا البوليس السري والمخابرات العامة.
ولا يمكن أن نقلل أهمية الأفكار والممارسات العلمانية الواضحة، فهي تساعد ولا شك على تَقبُّل الناس للمُثُل العلمانية، وخصوصاً إذا أشرف على عملية نقل الأفكار وفرض الممارسات مؤسسة ضخمة مثل الدولة المركزية. ولكن مع هذا يظل تَصوُّر العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات واضحة تصوراً ساذجاً، ويشكل اختزالاً وتبسيطاً لظاهرة العلمانية وتاريخها، وللظواهر الاجتماعية على وجه العموم.(1/453)
وهذه الرؤية تتجاهل بعض الحقائق البديهية والبسيطة:
1 ـ النماذج الطبيعية/المادية موجودة بشكل كامن في أي مجتمع بشري، ومكوِّن ضروري وأساسي في الوجود الإنساني. وعلى المستوى الفكري، يمكن القول بأن الأفكار العلمانية كامنة في أي مجتمع على وجه الأرض (ومنها المجتمعات الإسلامية بطبيعة الحال) ، فإغراء التفسيرات المادية والنزعة الجنينية التي تُعبِّر عن نفسها في الرغبة في التحكم الكامل وفي التخلي عن الحدود وعن المسئولية الخُلقية جزء من النزعة العامة الموجودة في النفس البشرية. وهي نزعة تُعبِّر عن نفسها في النزوع نحو الحلولية الكمونية الواحدية. وهذا يعني أن الاتجاه نحو العلمنة والواحدية المادية إمكانية كامنة في إنسانيتنا المشتركة، ومن ثم في المجتمعات الإسلامية، التي تُوجَد فيها نزعات حلولية كمونية واحدية متطرفة، وفي أي مجتمع إنساني.
2 ـ أية جماعة إنسانية، مهما بلغ تدينها وتَمسُّكها بأهداب دينها (وضمن ذلك الأمة الإسلامية) لابد أن تتعامل في كثير من الأحيان مع الزمان والمكان والطبيعة والجسد من خلال إجراءات زمنية صارمة دون أي تجاوز. فعملية بناء بيت عبادة يتطلب اختيار عمال يتسمون بالكفاءة في أدائهم المهني، ونحن لا ننظر كثيراً في أدائهم الأخلاقي أو في معتقداتهم الدينية إلا بمقدار تأثير هذا في أدائهم المهني، أي أن عملية اختيار العمال تخضع لمعايير زمنية. ومع هذا، يظل الهدف النهائي من عملية بناء بيت العبادة إقامة الشعائر وليس الربح المادي، فالبناء وسيلة وليس غاية. وعناصر العلمنة موجودة في أي مجتمع، في الهامش وفي حالة كمون، ويمكن أن تنتقل من الهامش إلى المركز ومن الكمون إلى التحقق، إن ظهرت اللحظة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية المواتية وساد الجو الفكري المناسب.(1/454)
3 ـ والسلوك الإنساني يبلغ الغاية في التركيب وما يحدده ليس العوامل الواضحة والبرامج المحددة وحسب. فدور العناصر الكامنة غير الواضحة غير الواعية في تشكيل السلوك الإنساني قوي، بل إنها في معظم الأحيان تكون أقوى كثيراً من العناصر الواضحة التي يستطيع الإنسان أن يمارس إرادته ضدها، فيتحاشاها أو يحاصرها أو يحيدها.
ومن ثم فدراسة ظاهرة العلمانية باعتبارها مجموعة من الأفكار المحددة والممارسات الواضحة، تتجاهل الكثير من جوانبها وبالتالي تفشل في رصدها. ومصطلح «علمانية» الذي لا يشير إلا إلى هذه الجوانب هو دال قاصر عن الإحاطة بمدلوله. فالعلمانية ثمرة عمليات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر واضح والآخر بنيوي كامن، وتشمل كل جوانب الحياة، العامة والخاصة، والظاهرة والباطنة، وقد تتم هذه العمليات من خلال الدولة المركزية، بمؤسساتها الرسمية، أو من خلال قطاع اللذة من خلال مؤسساته الخاصة، أو من خلال عشرات المؤسسات الأخرى (ومنها المؤسسات الدينية) ، أو من خلال أهم المنتجات الحضارية أو أتفهها.
إشكالية تصور العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة لا متتالية نماذجية آخذة فى التحقق
يظن كثير من الناس أن العلمانية فكرة ثابتة أو مخطط محدد، بينما هي في الواقع متتالية نماذجية تتحقق تدريجياً في الزمان، ومن خلال عمليات علمنة متصاعدة آخذة في الاتساع. ومن ثم نجد أن معدلات العلمنة في المراحل الأولى لمتتالية العلمنة تختلف عن نظيرتها في المراحل الأخيرة. كما أن المجالات التي تتم علمنتها في المراحل الأولى محدودة ولا تتجاوز بعض جوانب رقعة الحياة العامة. ولكن نطاق العلمنة يبدأ في الاتساع وتزداد حدته فتغطي مزيداً من المجالات إلى أن تغطي معظم المجالات أو تمتد لتغطيها جميعاً، ولا فرق في هذا بين رقعة الحياة العامة ورقعة الحياة الخاصة.(1/455)
ولكن مصطلح «علمانية» قد عُرِّف في المراحل الأولى في متتالية العلمنة قبل أن تكتمل حلقاتها وقبل أن تتحقق بعض إمكاناتها وقبل أن تتبلور نتائجها على أرض الواقع والتاريخ. ولذا نجد هناك حديثاً عن فصل الدين عن الدولة، وعدم التدخل في حياة الإنسان الخاصة واحترام الدين والقيم (وهذه جميعاً من سمات العلمانية الجزئية) . وما حدث على أرض الواقع قد تجاوز ذلك تماماً، الأمر الذي جعل الدال «علمانية» قاصراً عن الإحاطة بمدلوله.
ففي المراحل الأولى من تَطوُّر العلمانية يُلاحَظ أن الدولة القومية لم تكن قد طوَّرت بعد مؤسساتها الأمنية والتربوية (الإرشادية والتعليمية) ، فكانت هي نفسها دولة جزئية لا تتسم بالشمولية. ولم تكن وسائل الإعلام قد بلغت بعد ما بلغته من قوة وسطوة، ولم يكن قطاع اللذة قد بلغ بعد ما بلغه من مقدرة على الإغواء. وهذا يعني أن كثيراً من قطاعات حياة الإنسان كانت بمنأى عن عمليات العلمنة، التي كانت في غالب الأمر محصورة في عالمي الاقتصاد والسياسة. وإذا كانت علمنة ظاهرة ما هو استيعابها في إطار المرجعية المادية الكامنة وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية، فإن علمنة الاقتصاد تعني أن يصبح النشاط الاقتصادي مرجعية ذاته، أي أن يصبح نشاطاً اقتصادياً محضاً (ويخضع كل شيء لآليات السوق غير الإنسانية) ويصبح النشاط السياسي سياسياً (فتظهر الدولة المطلقة التي تود أن تُخضع كل شيء لغاياتها) .(1/456)
ورغم عمليات العلمنة هذه، ورغم حدتها، فقد ظل الإنسان بمنأى عنها. فلم تكن إعادة صياغته قد تمت بحيث يصبح المواطن الرشيد المُدجَّن الذي يدين بالولاء للدولة وحسب، أو الإنسان الاقتصادي الجسماني، الذي يتحرك حسب ما يصله من تعليمات رشيدة من الدولة أو وسائل الإعلام، ويُغيِّر قيمه حسب ما يصله من تعليمات. ولأن عملية إعادة صياغته تمت إلى حدٍّ ما بشكل براني، فإنه كان حراً تماماً من الداخل يعيش داخل تراثه الثقافي وعقائده الدينية المتوارثة. لقد ظل الإنسان قائماً في مركز الكون يُشكل نقطة مطلقة، غير مُستوعَبة في النظام الطبيعي المادي، يمثل ثغرة معرفية فيه ونقطة مرجعية متجاوزة تصلح أساساً لتحديد الغاية والمعيارية. وقد شكَّلت هذه النقطة أساساً فلسفياً قوياً لظهور فلسفات إنسانية تحوي مطلقات، كما أنها كنقطة متجاوزة للنظام الطبيعي يمكن أن تُشير إلى الماورائيات (الإنسان غير الطبيعي والإنسان الرباني) ، وإلى الرؤية الإيمانية (في هذه الحالة المسيحية) . وقد أدَّى هذا إلى انقسام الحياة إلى قسمين: حياة عامة خاضعة للمرجعيات المادية، وأخرى خاصة متحررة منها.
لكل هذا، لم تقض المسيحية نحبها على الفور مع ظهور الفكر العلماني، بل استمرت بمطلقاتها الدينية والأخلاقية والإنسانية في ضمائر الناس ووجدانهم وعقولهم، بل في بعض المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة. وقد لعبت النزعة الإنسانية الهيومانية دوراً مماثلاً، فقد استوردت بعض مطلقات العقيدة المسيحية وعلمنتها بشكل سطحي وجعلتها مطلقات إنسانية واحتفظت بها داخل منظومتها الطبيعية المادية (دون أن تكون لها أية علاقة فلسفية حقيقية بهذه المنظومة) . وسواء أكانت منظومة إيمانية أم إنسانية، فقد احتفظت بمرجعية متجاوزة تخلق ثنائية. واستناداً إلى هذا، تم تطوير منظومات معرفية وأخلاقية تستند إلى مطلقات إنسانية.(1/457)
بهذه الطريقة، زوَّدت المسيحية والنزعة الهيومانية (والاشتراكية الإنسانية) الإنسان الغربي بالإطار الميتافيزيقي والقيمي والكلي وبضمير وهدف وغاية وأساس لرؤيته للكون ليست مادية تماماً يمكنه من خلالها إدارة حياته الشخصية بل بعض جوانب حياته الاجتماعية، دون السقوط في النسبية والعدمية الكاملة التي تجعل هذا الاستمرار مستحيلاً أو مكلفاً لأقصى درجة. وبهذه الطريقة، تَمكَّن المجتمع العلماني من تحاشي مواجهة ما يُسمَّى «المشكلة الهوبزية» ، أي مشكلة محاولة تأسيس مجتمع يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، كل فرد فيه يحاول أن يحقق مصلحته الشخصية المادية (منفعته ولذته) ولا يلتزم بأية مرجعية أخلاقية أو إنسانية متجاوزة، بحيث يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان وتصبح كل العلاقات تعاقدية.(1/458)
إن ما حدث هو أن بعض مجالات الحياة العامة وحسب تمت علمنتها، وظلت الحياة الخاصة حتى عهد قريب جداً محكومة بالقيم المسيحية أو بالقيم العلمانية التي تستند في واقع الأمر إلى مطلقات إنسانية أخلاقية، أو مطلقات مسيحية متخفية. فكأن الإنسان الغربي كان يعيش حياته العامة في مجتمع علماني داخل إطار المرجعية المادية الكامنة (علمانية شاملة) ، ولكنه كان يحلم ويحب ويكره ويتزوج ويموت داخل إطار المرجعية المتجاوزة المسيحية أو شبه المسيحية الإنسانية (علمانية جزئية) . ولذا، كان من الممكن أن نجد أستاذاً للفلسفة يُدرِّس فلسفة إباحية عدمية في الجامعة (حياته العامة) ولكنه لا يسمح لابنته أن تعيش مع شخص دون زواج، بل يذهب إلى الكنيسة كل أحد. وكان من الممكن أن نجد رأسمالياً يؤمن بشكل كامل بقيم السوق النفعية ولكنه يدافع بشراسة عن مؤسسة الأسرة، فتمت عملية الضبط الاجتماعي الخارجية من خلال المرجعية المادية الكامنة، وتمت عملية الضبط الاجتماعي الداخلية من خلال المنظومة المسيحية أو المنظومة الهيومانية. ولعل هذا هو أساس الزعم العلماني الخاص باستقلال الحياة العامة التي تحكم قيم الدولة العلمانية عن الحياة الخاصة التي تتركها الدولة العلمانية للفرد يمارس فيها حريته الدينية وهويته الإثنية. فالفرد في الغرب كان بالفعل حراً في حياته الخاصة لا لأن الدولة (وكذلك قطاع اللذة) قد أحجمت عن التدخل فيها (و"استعمارها" على حد قول هابرماس) وإنما لأن المسيحية والمطلقات الهيومانية استمرت في وجدانه. ولم يكن بوسع الدولة العلمانية أو وسائل الإعلام وقطاع اللذة التغلغل في هذا المجال، ومن ثم تمت إعاقة المتتالية العلمانية عن التحقق لتظل بالأساس علمانية جزئية.(1/459)
ولكن الأمور تغيَّرت إذ تتابعت حلقات المتتالية بخطى أخذت تتزايد في السرعة (إلى أن اكتملت في منتصف الستينيات) . فقد ازدادت الدولة العلمانية قوة وتغولت وأصبحت الدولة التنين التي تنبأ بها هوبز وأحكمت بمؤسساتها الأمنية قبضتها على الفرد من الخارج. كما أحكمت مؤسساتها التربوية قبضتها عليه من الداخل، تساعدها في ذلك وسائل الإعلام وقطاع اللذة اللذان تمدَّدا وتغولا بطريقة تفوق تغوُّل الدولة وتنينيتها. واتسع نطاق العلمنة وتخطى عالم السياسة والاقتصاد ووصل إلى عالم الفلسفة (فلسفة الاستنارة والعقلانية المادية) ، ثم عالم الوجدان. وأخيراً إلى عالم السلوك اليومي، أي أن الإنسان تم ترشيده وتدجينه تماماً من الداخل والخارج، ولم يَعُد هناك أي أثر للمرجعية المتجاوزة، ولم يعد هناك أي أساس لأية معيارية، إذ أصبح لكل مجال من مجالات الحياة معياريته (غير الإنسانية) المستقلة. فتآكلت بقايا القيم المسيحية والقيم الإنسانية الهيومانية ومات الإله (على حد قول نيتشه) وظهرت الفلسفات المعادية للإنسان، مثل البنيوية وما بعد الحداثة، التي تُنكر على الإنسان المقدرة على التجاوز.
وقد حدث الشيء نفسه للمنظومة الاشتراكية. فبدلاً من التأرجح بين المرجعية المتجاوزة (الإنسان والقيم الإنسانية المطلقة) والمرجعية الكامنة (وسائل الإنتاج ـ حركة المادة ـ إشباع الحاجات والملذات المادية) ، تَغوَّلت الدولة السوفيتية وتَغوَّل الحزب ووسائل الإعلام وقطاع اللذة وزاد التركيز على الاشتراكية العلمية في صفوف النخب الحاكمة الاشتراكية، وأصبح اللحاق بالغرب الذي يدور في إطار الطبيعة/المادة (وليس تحقيق إمكانات الإنسان المتجاوزة) هو المثل الأعلى. فتم ترشيد الإنسان وتدجينه، وبدأ يختفي تدريجياً أي إحساس بمطلقات متجاوزة (ظلال الإله) إلى أن اختفى الإنسان ومات الإله وسادت النسبية والنفعية.(1/460)
ثم تتالت الحلقات وبعد أن تمت السيطرة على الإنسان تماماً وأصبح مذعناً لقانون الطبيعة والأشياء وسقط تماماً في دوامة الصيرورة والنسبية، اتسع نطاق الصيرورة ليبتلع الطبيعة/المادة نفسها، كمصدر للمعيارية ومركز للعالم، ودخل العالم عصر ما بعد الحداثة والسيولة الشاملة واللامعيارية.
والفرق بين ما نسميه «العلمانية الجزئية» وما نسميه «العلمانية الشاملة» هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنفس النموذج؛ حلقات في نفس المتتالية. ففي المراحل الأولى للمتتالية تتسم العلمانية بالجزئية حينما يكون مجالها مقصوراً على المجالين الاقتصادي والسياسي، حين يكون هناك بقايا مطلقات مسيحية وإنسانية، وحين تتسم الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة بالضعف والعجز عن اقتحام (أو استعمار) كل مجالات الحياة، وحين يكون هناك معيارية إنسانية أو طبيعية/مادية. ولكن، في المراحل الأخيرة، ومع تزايد قوة الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة وتَمكُّنه من الوصول إلى الفرد وإحكام القبضة عليه من الداخل والخارج، ومع اتساع مجال عمليات العلمنة وضمور المطلقات واختفائها وتهميش الإنسان وسيادة النسبية الأخلاقية ثم النسبية المعرفية، تظهر العلمانية الشاملة.(1/461)
وما طرحناه هو متتالية نماذجية، أي متتالية مجردة. وتاريخ العلمنة في العالم الغربي يختلف عن تاريخ العلمنة في العالم الثالث. بل يختلف تاريخ العلمنة من بلد إلى بلد وداخل كل تشكيل حضاري. فتاريخ العلمنة في إنجلترا يختلف عن تاريخ العلمنة في الولايات المتحدة وروسيا القيصرية وألمانيا النازية، تماماً كما يختلف تاريخ العلمنة في اليابان عنه في الهند أو في تركيا. كما أن هناك دائماً حركات مقاومة واحتجاج. فرغم أننا دخلنا مرحلة السيولة الشاملة إلا أن هناك جيوباً إنسانية (هيومانية) ومسيحية لا تزال تحاول تأكيد أسبقية الإنسان على الطبيعة، وهناك عقلانيون ماديون يحاولون تأكيد الطبيعة/المادة باعتبارها مصدراً للمعيارية.
ولكن، مع هذا، يظل لهذه المتتالية مقدرة تفسيرية عالية إذ يمكن من خلالها أن ندرك الفرق بين المجتمع الإنجليزي في منتصف القرن الثامن عشر والمجتمع الإنجليزي في أواخر القرن العشرين، فكلاهما مجتمع علماني ولكن شتان بينهما، فالأول تسوده العلمانية الجزئية، حيث الفرد فيه لم يخضع بعد للمرجعية المادية الكامنة، وأما الثاني فهو مجتمع تسود فيه العلمانية الشاملة وتسيطر عليه الواحدية المادية تماماً ثم السيولة الشاملة. وهذا هو أيضاً الفرق بين المجتمع المصري في أوائل الخمسينيات والمجتمع المصري في أواخر التسعينيات. وهو الفرق بين الخطاب العلماني في المراحل الأولى للعلمنة والخطاب العلماني في المراحل الأخيرة. وهو الفرق بين الدولة السوفيتية والدولة الأمريكية بعد إعلان الثورة (الأمريكية والبلشفية) مباشرةً والدولتان السوفيتية والأمريكية في الثمانينيات.(1/462)
ولا يمكن القول بأن كل فرد يمر في حياته من خلال المتتالية العلمانية والانتقال من الجزئي إلى الكلي والشامل (فهذه عملية اجتماعية تاريخية) . ومع هذا لا يتبنى الفرد النموذج السائد في مجتمعه بقضه وقضيضه، فمعظم البشر يعيشون حياتهم المتعينة مستخدمين أكثر من نموذج وأكثر من مرجعية، بعضها قد يكون متناقضاً تماماً مع البعض الآخر. فيمكن أن يعلمن الإنسان حياته الاقتصادية والسياسية بشكل كامل ويُخضعها للمرجعيات والمعايير والمنظومات العلمانية الشاملة، وفي الوقت نفسه يرفض (بشكل واع أو غير واع) ، علمنة سلوكه أو حياته الشخصية بنفس الدرجة (أو لا يَجسُر على ذلك) ويرفض إخضاعها لنفس المرجعية والمعايير والمنظومات التي طَبَّقها على حياته العامة، أي أنه في حياته السياسية والاقتصادية يخضع للعلمانية الشاملة والواحدية المادية ويصبح شيئاً بين الأشياء، وفي حياته الخاصة يدور في إطار مرجعية متجاوزة ولذا فإنه يظل بشراً حر الإرادة ذا حس خُلقي قوي يعي ثنائيات المطلق والنسبي، أي يدور في إطار العلمانية الجزئية.
ومع هذا، تجب الإشارة إلى بعض الأفراد ممن يتبنون نماذج علمانية شاملة ويستخدمون ديباجات جزئية عن وعي وبدهاء مقصود، لأن الناس ينفرون بفطرتهم الإنسانية من العلمانية الشاملة بسبب وحشيتها وعدميتها.
الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم «علمانية»
إشكالية اختلاط الحقل الدلالى لمصطلح "علمانية"والمفاهيم الكامنة وراءه
من أهم الإشكاليات التي تواجه دراسي الظواهر العلمانية أن مصطلح «علمانية» (سواء في المعجم الغربي أو العربي) مختلط الدلالة، فكل معجم يأتي بعده تعريفات متضاربة. فإذا انتقلنا إلى تعريف المفهوم الكامن فإن الأمر يزداد اختلاطاً. وفي المداخل المتبقية في هذا الباب سنتناول التعريف المعجمي لكلمة «علمانية» في العالم الغربي والعربي ثم تعريف المفهوم.
التعريف المعجمى لمصطلح "علمانية" فى العالم الغربى(1/463)
كلمة «علمانية» هي ترجمة لكلمة «سكيولاريزم secularism» الإنجليزية التي لها نظائرها في اللغات الأوربية. والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «سَيكولوم saeculum» وتعني «العصر» أو «الجيل» أو «القرن» . أما في لاتينية العصور الوسطى (التي تهمنا في سياق هذا المدخل) ، فإن الكلمة تعني «العالم» أو «الدنيا» (في مقابل الكنيسة) . ويوجد لفظ لاتيني آخر للإشارة إلى العالم، وهو «موندوس mundus» . ولفظة «سيكولوم» مرادفة للكلمة اليونانية «آيون aeon» والتي تعني «العصر» ، أما «موندوس» فهي مرادفة للفظ اليوناني «كوزموس comos» والذي يعني «الكون» (في مقابل «كيوس chaos» بمعنى «فوضى» ) . ومن هنا، فإن كلمة «سَيكولوم» تؤكد البُعد الزماني أما «موندوس» فتؤكد البُعد المكاني.
وقد استُخدم المصطلح سكيولار secular» » ، لأول مرة، مع نهاية حرب الثلاثين عاماً (عام 1648عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور الدولة القومية (أي الدولة العلمانية) الحديثة، وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بدايةً لمولد الظاهرة العلمانية في الغرب. وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة ولا يتسم بأي نوع من أنواع الشمول، إذ تمت الإشارة إلى «علمنة» ممتلكات الكنيسة وحسب بمعنى «نقلها إلى سلطات سياسية غير دينية» ، أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة. وفي فرنسا، في القرن الثامن عشر، أصبحت الكلمة تعني (من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية) «المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة» . أما من وجهة نظر مجموعة المفكرين الفرنسيين المدافعين عن مُثُل الاستنارة والعقلانية المادية والمعروفين باسم «الفلاسفة» (فيلوسوف Philosophes) (ويشار إليهم أيضاً باسم الموسوعيين) ، فإن الكلمة كانت تعني «المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة» .(1/464)
ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع، وبدأت الكلمة تتجه نحو مزيد من التركيب دون أن تصل إلى الشمول الكامل على يد جون هوليوك John Holyooke (1817 ـ 1906) أول من نحت المصطلح بمعناه الحديث وحوَّله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي. ولم يكن جون هوليوك، لسوء الحظ، يتسم بكثير من العمق الفلسفي أو التحليلي، ولذا ساهم تعريفه في تعميق مشكلة العلمانيتين واختلاط الحقل الدلالي. وقد حاول أن يأتي بتعريف تَصوَّر أنه محايد تماماً (ليست له علاقة بمصطلحات مثل «ملحد» أو «لاأدري» ) . فعرَّف العلمانية بأنها "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".
والحديث عن "إصلاح حال الإنسان" يفترض وجود نموذج متكامل ورؤية شاملة ومنظومة معرفية قيمية. فهل العلمانية إذن هي هذه الرؤية الشاملة؟ إن كان الأمر كذلك، فإن هوليوك لم يعطنا ملامح هذا النموذج وهذه المنظومة، فهو لا يتصدى البتة لقضية القيمة (هل هي قيم مادية؟) أو قضية المعرفة (هل مصدرها الحواس وحسب؟) . وهو يتحدث عن الإنسان دون تعريف للسمات الأساسية لما يشكل جوهر الإنسان الذي ستتم العملية الإصلاحية عليه وباسمه (هل هو إنسان طبيعي؟) . وهناك الحديث عن الإصلاح "من خلال الطرق المادية" فهل يعطينا هذا مفتاحاً لطبيعة النموذج الذي سيتم تبنيه؟ أليست هذه هي العلمانية الشاملة؟ وهذا الموقف ألا يعني الرفض الكامل للإيمان، وليس عدم التصدي له وحسب، كما يدَّعي؟ فالمصطلح يحتوي على قضايا خفية كثيرة وعلى ميتافيزيقا خفية وعلى منظومة قيمية انسلخت عن الإيمان الديني وتبنت الطرق المادية، فكأنه تبنى النموذج الشامل للعلمانية دون أن يدرك هو نفسه ذلك، وتصور أنه سيترك الإيمان الديني وشأنه.(1/465)
وقد تم تبسيط تعريف هوليوك للعلمانية فأصبح المصطلح يعني «فصل الدين عن الدولة» ، أي فصل العقائد الدينية عن رقعة الحياة العامة، وهو تعريف أكثر جزئية من تعريف هوليوك وأشد شمولاً من تعريف الكلمة عند توقيع صلح وستفاليا. ومرجعية هوليوك التاريخية هي أوربا في القرن التاسع عشر وتعريفه للعلمانية ينبع من هذه المرجعية. ومن المعروف أن التاريخ لم يتوقف قط في العالم الغربي، فحدثت تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية أدت إلى تحولات هائلة في رقعة الحياة العامة والخاصة وكافة العلاقات الإنسانية. وأخذت هذه التحولات في التصاعُد في بداية القرن العشرين وتصاعدت حدتها في منتصف القرن. فالمؤسسة الحاكمة في الغرب لم تَعُد الدولة الصغيرة الضعيفة التي تنافسها العديد من المؤسسات الأهلية الأخرى، بل أصبحت دولة ذات أذرع طويلة وتتبعها مؤسسات أمنية عديدة. وظهر قطاع الإعلام واللذة في المجتمع، وهما قطاعان ضخمان رهيبان يصلان إلى الرجال والنساء والأطفال في كل مكان وزمان. وكل هذه المؤسسات الحكومية وغير الحكومية تتدخل في أخص خصوصيات حياة الإنسان وضمن ذلك حياته الجنسية وعلاقة الآباء بأطفالهم وتصوغ صورة الإنسان لنفسه. في هذا الإطار الجديد، بأي معنى من المعاني يمكن الحديث عن العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، أي دولة نتحدث عنها؟ وما دور قطاع اللذة؟ هل لا يزال الحديث عن علمانية جزئية، أم عن شيء مغاير تماماً أكثر جذرية وشمولاً يمكن أن نطلق عليه «العلمانية الشاملة» ؟(1/466)
ويتضح الاختلاط بين العلمانيتين الجزئية والشاملة في التعريفات التي ترد في المعاجم اللغوية الغربية الحديثة. وقد حاول قاموس أكسفورد أن يحصر الحقل الدلالي المتسع لكلمة «علمانية» ، فأورد استخدامات عديدة للكلمة لا تعنينا كثيراً، مثل «ينتمي إلى عصر أو مدة زمنية طويلة» أو «يُحتفَل به مرة كل عصر أو قرن، وفي كل فترة طويلة» ، فيقال: «الألعاب والمسرحيات والعروض العلمانية» بمعنى «الألعاب والعروض التي كانت تُقام في روما القديمة مرة كل عصر (أو كل مائة وعشرين عاماً) وتستمر لمدة ثلاثة أيام وليال» ، ويُقال «قصيدة علمانية» بمعنى «قصيدة تُتلى في هذه الأعياد» . وفي اللغة العلمية، يُشار إلى «التغيرات العلمانية» باعتبارها التغيرات التي تحدث على فترة زمنية خلال عصور طويلة.
وتُستخدَم كلمة «علماني» أيضاً للإشارة إلى "أعضاء الكهنوت الذين يعيشون في الدنيا لا في عزلة الأديرة". أو للإشارة إلى «العوام» (وهو استخدام نادر) . وهذه الاستخدامات كلها ـ كما أسلفنا ـ لا علاقة لها بكلمة «علمانية» بالمعنى الاصطلاحي الحديث للكلمة، وإن كانت كلها تتضمن فكرة الزمن والدنيا.
أما بقية الاستخدامات، فهي تشير إلى عملية التأرجح بين الجزئية والشمولية، دون أن يُسمِّيها المعجم كذلك. ويورد قاموس أكسفورد التعريفات التالية لمصطلح «علمانية» :
1 ـ ينتمي للحياة الدنيا وأمورها (ويتميَّز في ذلك عن حياة الكنيسة والدين) . مدني وعادي وزمني [ويُلاحَظ ترادف كلمات مثل «مدني» و «زمني» و «علماني» ] . والواضح أن الكلمة تحمل هنا مدلولاً سلبياً وحسب، فهي تعني «غير كهنوتي» و «غير ديني» و «غير مقدَّس» .(1/467)
2 ـ وكانت الكلمة تُطبَّق على الأدب والتاريخ والفن، وخصوصاً الموسيقى، ومن ثم على الكُتَّاب والفنانين. وكانت تعني أيضاً «غير معني بخدمة الدين» و «غير مُكرَّس له» و «غير مقدَّس» و «مدنَّس» بمعنى «مباح» . وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى المباني، و «المباني العلمانية» هي «المباني غير المُكرَّسة للأغراض الدينية» .
3 ـ أما في مجال التعليم، فإن الكلمة تشير إلى الموضوعات غير الدينية (وأصبحت الكلمة مؤخراً تعني استبعاد تدريس المواد الدينية في المعاهد التي يُنفَق عليها من المال العام) . ومن هنا، فإن تعبير «مدرسة علمانية» يكون بمعنى «مدرسة تعطي تعليماً غير ديني» .
4 ـ ينتمي إلى هذا العالم الآني والمرئي تمييزاً له عن العالم الأزلي والروحي، الآتي وغير المرئي.
5 ـ يهتم بهذا العالم وحسب؛ غير روحي (استخدام نادر) .
6 ـ يختص بمذهب العلمانية ويتقبله.
ويُلاحَظ أن 1 ـ 3 تعريفات جزئية للعلمانية. أما 4 ـ 6 فهي تعريفات تميل نحو الشمول.
ولكن حين انتقل المعجم من كلمة «سكيولار» إلى كلمة «سكيولاريزم secularism» ، أي «العلمانية» فقد عرًَّفها تعريفاً شاملاً، باعتبارها «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لابد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة [الدنيا] واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى [الآخرة] » . والعلماني (سكيولاريست secularist) هو المؤمن بذلك. والعلمنة (سكيولارايزيشن secularization) هي تحويل المؤسسات الكنسية والدينية وممتلكات الكنيسة إلى ملكية علمانية وإلى خدمة الأمور الزمنية، وتعني كذلك صبغ الفنون والدراسات بصبغة علمانية غير مقدَّسة، ووضع الأخلاق على أسس غير أخلاقية (أي على أسس مادية علمية) وحصر التعليم في موضوعات علمانية.(1/468)
أما في اللغة الفرنسية، فهناك كلمة «لاييك laique» . وقد انتقلت الكلمة إلى الإنجليزية في كلمة «ليك laic» بمعنى «خاصة بجمهور المؤمنين» (تمييزاً لهم عن الكهنوت) ، ومنها كلمة «لييتي laity» وهم الكافة (باستثناء رجال الدين) ، وكلمة «لييسيزم laicism» بمعنى النظام العلماني، أي النظام السياسي المتميِّز بإقصاء النفوذ الكهنوتي عن الدولة (التعريف الجزئي) . واشتق كذلك فعل «لييسايز laicize» بمعنى أن ينزع الصبغة الكهنوتية أو يُعلمن (وخصوصاً المدارس) . و «لييسايزيشن laicization» معناها نَقْل كثير من وظائف رجال الدين والكهنوت، كالتعليم والقضاء والخدمات الاجتماعية، إلى خبراء يتم تدريبهم تدريباً زمنياً لا علاقة له بالعقائد الدينية التي تستند إلى الإيمان بما وراء الطبيعة، بحيث تصبح مهمة رجال الدين مقصورة على الأعمال الدينية (تعريف شامل) . والفعل الإنجليزي المشتق عن الفرنسية يحمل بصمات أصوله الفرنسية والتجربة الفرنسية في العلمنة (المرتبطة بالثورة الفرنسية) التي أخذت شكلاًّ حاداً وقاطعاًَ. فمؤسسة الكنيسة كانت قوية في المجتمع الفرنسي القديم، وكانت امتيازات النبلاء واضحة محدَّدة، كما كان هناك تداخل شبه كامل بين طبقة النبلاء ورجال الدين (وخصوصاً ذوي المراتب الرفيعة) ، ولذا كان رد فعل الثوار عنيفاً ومنهجياً يأخذ شكل رفض النظام القديم (متمثلاً في الحكومة الملكية المطلقة) ونظام الطبقات السائد ومؤسسة الكنيسة وكل الرموز السياسية والدينية القائمة. ووصل الرفض إلى حد ذبح النبلاء وكثير من أعضاء طبقة الكهنوت، وإلى حد تحويل بعض الكنائس إلى معابد تُعبَد فيها ربة العقل. كما أنهم وضعوا سياسة منهجية صريحة تهدف إلى تصفية أي مضمون ديني في التعليم أو القانون.(1/469)
وهناك كلمة أخرى وردت في معاجم اللغة الإنجليزية وهي «دي كريستيانايز dechristianize» أي «ينزع الصبغة المسيحية عن المجتمع» وهو مصطلح محدَّد الدلالة لا يصلح إلا للمجتمعات التي تسود فيها المسيحية.
ويُستخدَم مصطلح «علماني» أحياناً بمعنى «ملحد» . ففي كتابات بيتر جاي Peter Gay، أحد أهم مؤرخي حركة الاستنارة في الغرب، نجد هذا الترادف. وقد كتب كتاباً بعنوان يهودي بلا إله: فرويد والإلحاد وتأسيس التحليل النفسي A Godless Jew: Freud, Atheism, and the Making of Psychoanalysis حيث نجد هذا الترادف واضحاً. فالتحليل النفسي يوصف بأنه "علم علماني، لا علاقة له بالدين بل معاد له يهدف إلى تحطيمه" وهكذا.
ويستخدم رورتي كلمة «علماني» بمعنى "محصور بنطاق الزمان والمكان" ثم يبيِّن التضمينات الفلسفية للمصطلح، بأنه نزع القداسة عن كل شيء.
التعريف المعجمى لمصطلح "علمانية" فى العالم العربى والعالم الثالث
منذ ما يُسمَّى «عصر النهضة» في تاريخ الفكر العربي ومعظم تعريفاتنا للظواهر الإنسانية تستند إلى تعريفات الغرب وتجاربه. فنحن نستورد كثيراً من مصطلحاتنا من الغرب، وهو ما يُبيِّن إيماننا بمركزية الغرب وعالميته. وقد استوردنا مصطلح «علمانية» فيما استوردنا، فكان من أكثر المصطلحات غموضاً وإبهاماً، رغم شيوعه في الآونة الأخيرة. ويعود إبهامه للأسباب التالية:
1 ـ مصطلح «علمانية» منقول من المعجم الأجنبي، ومن التشكيل الحضاري الغربي، تتحدَّد دلالته الحقيقية بالإشارة إلى هذا المعجم وهذا التشكيل الحضاري ويكتسب مضمونه الحقيقي منهما.(1/470)
2 ـ رغم محاولتنا الجاهدة الدائبة في اللحاق بركب الغرب ومواكبته، فإن المصطلحات التي نستوردها (مثل: «الاستنارة» ـ «التقدم» ـ «التحديث» ـ «العقل» ) تشير إلى معنى الكلمات كما وردت في المعجم الغربي (اللغوي والحضاري) حتى منتصف أو أواخر القرن التاسع عشر ولم يتسع مجالها الدلالي كما حدث في الغرب. ولذا، فإن مصطلحاتنا بريئة تماماً من كل المشاكل التي ظهرت بعد تحقق المتتالية الترشيدية والتحديثية والعلمانية الغربية، فهي بسيطة أحادية البُعد تشع تفاؤلاً لا أساس له في الواقع. واصطلاح «علمانية» لا يشكل أي اسثناء لهذه القاعدة، فنحن نتحدث عنها على طريقة فولتير ولوك وكوندورسيه وغيرهم من الفلاسفة التبسيطيين الاختزاليين.
3 ـ تُوجَد داخل هذا التشكيل الحضاري عدة تشكيلات فرعية: فهناك التشكيل الفرنسي (الكاثوليكي) والتشكيل الحضاري الإنجليزي وهناك التشكيل الألماني (البروتستانتي) والتشكيل الروسي (الأرثوذكسي) ، وقد عرَّف كل تشكيل هذا المصطلح بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما من خلال تجربته الخاصة.
4 ـ خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة، وتزايدت فيها معدلات العلمنة واختلفت المواقف من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف.
رغم كل هذا استوردنا مصطلح «علمانية» ولصقناه في معجمنا بإبهامه ولا تحدده وتأرجحه بين الجزئية والشمول. ومع انتقال المصطلح إلى العالم العربي الإسلامي، ازداد المجال الدلالي المضطرب للكلمة اضطراباً واختلالاً للأسباب التالية:
أ) حينما ينتقل مصطلح مثل «علمانية» من معجم حضاري إلى معجم حضاري آخر وتتم «ترجمة» المصطلح، فإنه يظل يحمل آثاراً قوية من سياقه الحضاري السابق الذي يظل مرجعية صامتة له.(1/471)
ب) تجربة العرب والمسلمين مع متتالية العلمنة مختلفة، فعمليات العلمنة لم تنبع في واقعهم التاريخي والاجتماعي (رغم وجود عناصر علمنة مختلفة فيه) وإنما أتى بها الاستعمار الغربي.
وقد اختُزلت مناقشة المصطلح إلى طريقة ترجمته، ولم تَعُد القضية هي وصف الظاهرة العلمانية وتحليلها وتسميتها حسبما نراها نحن (من خلال تجربتنا وسعادتنا أو شقائنا بها) بل انصب الجهد الفكري والبحثي على مناقشة أحسن الترجمات لكلمة «علمانية» وأقربها إلى المعجم الغربي وأكثرها دقة. وهكذا سقطنا في الموضوعية المتلقية.
وتُوجَد في المعجم العربي ترجمات مختلفة لكلمة «سكيولار» و «لائيك» :
1 ـ «العلْمانية» (بكسر العين) نسبة إلى «العلْم» .
2 ـ «العَلْمانية» (بفتح العين) نسبة إلى «العَلْم» بمعنى «العالم» .
3 ـ «الدنيوية» أي الإيمان بأنها هي الحياة الدنيا ولا يوجد سواها.
4 ـ «الزمنية» بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأي ماورائيات.
5 ـ وتُستخدَم أحياناً كلمة «لائيك» نفسها دون تغيير.
والتأرجح بين الجزئية والشمول يُوجَد بشكل أكثر حدة في العالم الثالث، فهناك حديث عن «علمانية وسطية» (وإن كان هناك أيضاً في الغرب حديث عن «علمانية مسيحية» ، أي عن المسيحية التي تؤدي إلى العلمانية) .
وقد لوحظ، في العالم الثالث، أن ثمة تداخلاً بين مصطلح «علمنة» ومصطلحين آخرين:
ـ «مودرناينز modernize» أي «يُحدِّث» . والمصطلح يعني إعادة صياغة المجتمع بحيث يتم استبعاد المعايير التقليدية وإخضاع كل شيء للمعايير العقلية العلمية المادية التي تتفق مع معايير الحداثة (برؤيتها للإنسان والكون) ، وهذا هو أيضاً الترشيد.(1/472)
ـ «ويسترنايز westernize» أي «يُغرِّب» ، بمعنى «يفرض أنماط وأساليب الحياة الغربية» . وحيث إن المعايير السائدة في الحضارة الغربية الحديثة هي المعايير العلمانية، وحيث إن المجتمعات الغربية الحديثة هي المجتمعات الأولى التي طبقت هذه المعايير وتصاعدت فيها معدلات العلمنة حتى سادت المعايير العلمانية بشكل كبير حتى تكاد تقترب هذه المجتمعات من الحالة النماذجية التي يقال لها «مجتمع علماني» ، لكل هذا، ثمة تداخل كبير يقترب من حد الترادف بين هذا المصطلح وسابقه. وفي العالم الثالث، تؤدي العلمنة في معظم الأحيان إلى التغريب.
ولا تَسلَم هذه المصطلحات هي الأخرى من عملية التأرجح المشار إليها. وهناك بطبيعة الحال من يرون أن ثمة ترادفاً كاملاً بين الرؤية المادية من ناحية والرؤية العلمانية من ناحية أخرى، ومن ثم فكلمة «علماني» في تصورهم مرادفة لكلمة «ملحد» أو «معاد للدين والأخلاق» أو حتى «إباحي» .
تعريف مفهوم "العلمانية" فى العالم الغربى
من أهم المعاجم المتخصصة التي حاولت أن تتوجه لمشلكة مفهوم «العلمانية والعلمنة» معجم علم الاجتماع المعاصرDictionary of Modern Sociology لمؤلفه توماس فورد هولت Thomas Ford Hoult الذي أورد ثلاث مواد لها صلة بمصطلح «العلمانية» : «علماني Secular» و «علمنة Secularization» و «مجتمع علماني Secular Society» . وقد بيَّن المعجم أن كلمة «علماني» لها عدة معاني:
1 ـ الدنيوي؛ غير الروحي؛ وغير الديني؛ ومن هنا يقف العلماني على طرف النقيض من المقدَّس.
2 ـ ينتمي إلى ما هو عقلاني أو نفعي بشكل خالص أو أساسي.
3 ـ تُستخدَم كلمة «علماني» أحياناً بمعنى «مُدنَّس» أو «غير مُقدَّس» . ولكن الكلمة الأخيرة تعني «المعادي للدين» (بالإنجليزية: أنتي ريليجيوس anti-religious) بينما كلمة «علماني» تعني في واقع الأمر «لا علاقة له بالدين» (بالإنجليزية: نان ريليجيوس non-religious) .(1/473)
4 ـ تُستخدَم الكلمة أحياناً للإشارة إلى تَراجُع وانحسار الإيمان بالعقائد الدينية التقليدية في مرحلة معيَّنة. ثم أورد المعجم ما قاله ج. م. ينجر Yinger في الموضوع: "من الأكثر حكمة في تقديري أن نستخدم كلمة «علمانية» لنشير إلى الاعتقاد والممارسات التي لا علاقة لها بالجوانب غير النهائية (بالإنجليزية: نان ألتمييت non- ultimate) للحياة الإنسانية. ومن ثم فالعلمانية ليست معادية للدين، ولا هي بديل عن الدين، إنها هي مجرد قطاع واحد من قطاعات الحياة".
ثم انتقل المعجم إلى مدخل «العلمنة» فبيَّن أن ثمة ستة استخدامات أساسية في العلوم الاجتماعية (نقلها المعجم عن مقال للاري شاينر Larry Shiner بعنوان "مفهوم العلمنة في البحوث التجريبية") :
1 ـ انحسار الدين وتَراجُعه ("الرموز والعقائد والمؤسسات [الدينية المهيمنة] تفقد مكانتها ونفوذها" (.
2 ـ التركيز على الحياة المادية في الوقت الراهن بدلاً من [التطلع إلى] مستقبل روحي ("إن ذروة عملية العلمنة هي مجتمع مُستوعَب تماماً في مهام الحاضر العملية") .
3 ـ الفصل بين المجتمع والدين ("إن ذروة هذا النوع من العلمنة هو ظهور عقيدة [دينية] ذات طابع داخلي [جواني] محض، لا تؤثر لا في المؤسسات ولا في الأفعال الجماعية") .
4 ـ اضطلاع منظمات غير دينية بالوظائف الدينية ("المعرفة وأنماط السلوك والترتيبات المؤسسية التي كان يُنظَر لها [في مرحلة سابقة] باعتبارها تستند إلى القوة الإلهية، يُعاد النظر فيها لتصبح ظواهر من إبداع الإنسان وحسب، فتقع تبعتها على الإنسان وحده" (.
5 ـ اختفاء فكرة المقدَّس ("يفقد العالم تدريجياً طبيعته المقدَّسة عندما يصبح الإنسان والطبيعة خاضعين للتفسيرات السببية العقلانية وللتوظيف" (.(1/474)
6 ـ إحلال المجتمع العلماني محل المجتمع المقدَّس ("أي العمليات التي يتحول المجتمع من خلالها من مرحلة يُنظَر فيها لسائر الظواهر ذات المعنى باعتبارها مقدَّسة، إلى مجتمع ينظر لجميع الظواهر تقريباً من منظور نفعي، ومن ثم يمكن نبذها حين ينتهي نفعها" (.
) وتعريف «المجتمع العلماني» هو امتداد لكل الاستخدامات السابقة وخصوصاً الأخيرة، فالمجتمع العلماني هو المجتمع الذي يقوم أعضاؤه بإصدار أحكامهم على جميع العمليات ذات المعنى والمعايير والعقائد وعوامل الترابط انطلاقاً من قيم نفعية رشيدة (.
وبعد كل هذه التعريفات وصل محرر المعجم إلى حالة من اليأس بسبب اختلاط الدلالات، فاقتبس من مقال شاينر العبارة التالية: "إن النتيجة المناسبة التي يمكن التوصل لها [بعد دراسة] الإيحاءات المختلفة والظواهر المتعددة التي يشير لها مصطلح «علمنة» هو أن نُسقطه كليةً وأن نستخدم بدلاً منه مصطلحات مثل «ترانسبوسيشن transposition» أي «إحلال» أو «ديفرانشيشن differentiation» أي «تَمايُز» لأنها عمليات أكثر وصفية وحياداً".
وهناك عشرات من المحاولات الأخرى لتعريف مفهوم العلمانية في المعجم الحضاري الغربي. فالبعض عرَّفها بأنها «نزع القداسة عن كل شيء» ، والبعض ربطها بعمليات الترشيد المادية، وربطها فريق آخر بالتفكيك، وهكذا.
تعريف مفهوم "العلمانية" عند بعض المفكرين العلمانيين فى العالم العربى
تتأرجح التعريفات العربية لمفهوم العلمانية بين العلمانية الجزئية) (الإنسانية ـ الأخلاقية) والعلمانية الشاملة (المادية ـ العدمية) :(1/475)
1 ـ يرى محمد عابد الجابري مفهوم العلمانية جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي الذي يعني "فصل الكنيسة عن الدولة". ويعتبر أن مفهوم العلمانية غريب عن الإسلام لأنه يرى أن "الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة"، وعلى هذا فالعلمانية ليست قضية الفكر العربي. ولذا أكد الجابري ضرورة استبعاد مصطلح «العلمانية» من قاموس الفكر العربي لأنه لا يُعبِّر عن "الحاجات العربية الموضوعية" ويرى تعويضه بشعاري الديموقراطية والعقلانية، لأنهما يُعبِّران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي. والديموقراطية لديه تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات. والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج. ويؤكد الجابري أن هذه المفاهيم تتصالح مع الإسلام، "فلا الديموقراطية ولا العقلانية تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام"!(1/476)
2 ـ ويذهب الدكتور وحيد عبد المجيد إلى أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية أو نظاماً فكرياً، وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويُميِّز الدكتور وحيد عبد المجيد بين «اللادينية» و «العلمانية» ، فهو يرى أن الصراع بين الملوك والسلطة البابوية وظهور العلم التجريبي المنفصل عن الدين وسيادة مفهوم سلطان العقل هو الذي أدَّى إلى ظهور العلمانية اللادينية. ولكن بعد الثورة الفرنسية نحت العلمانية الغربية منحى وسطياً يختلف بوضوح عن الاتجاه اللاديني ويدافع عن التسامح الديني. ولا تقوم العلمانية بهذا المعنى المعاصر على الفصل بين الدين والدولة كما هو شائع لدينا، وإنما على الفصل بين الكنيسة (أو الدين عموماً) ونظام الحكم. كما لا تقيد دور الدين في المجتمع، لأنه مجتمع حر أساسه المؤسسات الخاصة، وتتمتع فيه الكنائس والمؤسسات الدينية بإمكانات واسعة. ولذلك ظلت المسيحية نشيطة في كل الدول العلمانية، وتمارس أنشطتها الداخلية والخارجية بلا قيود ولا يتعارض ذلك مع حرية العقل، التي من نتاج رسوخ الديموقراطية قبل كل شيء.(1/477)
- والتعريفات السابقة للعلمانية لم تعطها صفة العالمية والشمول، كما قلَّصت من نطاقها لتشير إلى المجال السياسي، وربما الاقتصادي، ولم تمتد بأية حال لتشمل المجالات الأخرى للحياة (الحياة الخاصة ـ القيم الأخلاقية ـ القيم الدينية) ومن ثم فهي تعريفات لعلمانية جزئية لا تشمل كل جوانب الواقع ولا كل تاريخ البشر، وتسمح بوجود حيز غير علماني (مطلق ـ كلي ـ نهائي ـ غائي ـ غير مادي) يسمح بانفصال الإنسان عن الطبيعة وبإمكانية تجاوزه لها، ويترك مجالاً واسعاً للمطلقات الإنسانية الأخلاقية والدينية، ولفكرة الجوهر والكليات، بل لقدر من الميتافيزيقا. ولذا فهذه العلمانية تتسم بقدر من الثنائية (غير المادي مقابل المادي ـ الإنساني مقابل الطبيعي ـ المطلق مقابل النسبي ـ الأخلاقي مقابل غير الأخلاقي ـ الكلي مقابل الجزئي ـ الثابت مقابل المتغير) كما تتسم بقدر من التعددية الحقيقية ولا تتبنَّى النماذج الواحدية الساذجة. بل يمكن القول بأن المرجعية النهائية للعلمانية الجزئية هي عادةً مرجعية غير مادية، لأن الرؤية المادية الحقة لا تقبل التجزئة ولا الثنائية ولا التجريد ولا تجاوز سطح الحركة الدائمة.(1/478)
3 ـ ولهذا السبب نجد مفكراً علمانياً بارزاً مثل الدكتور فؤاد زكريا يصف العلمانية بأنها "الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة" ويلتزم الصمت بشأن مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد ـ الأدب ـ الجنس ... إلخ) . ولكن الدكتور فؤاد زكريا في كتيبه المهم المعنون في النموذج الأمريكي يصف المجتمع الأمريكي بأنه "مجتمع مادي"، بل من "أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر" التي تُعرِّف الإنسان باعتباره كائناً "لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، ومن الأرباح، ومن المستوى المادي المرتفع". يرفض الدكتور فؤاد زكريا هذه المادية العدمية التي تودي بالإنسان ويضع مقابلها "القيم الإنسانية والمعنوية"، ثم يطرح رؤية للإنسان مختلفة عن الرؤية المادية التي تهيمن على المجتمع الأمريكي. فما يحرك الإنسان ـ حسب هذه الرؤية الإنسانية ـ "ليست الماديات وحدها ... لأن في الإنسان قوى تعلو على السعي المباشر إلى الكسب والاقتناء"، أي تعلو على المادية. ويبدو أن هذه هي المرجعية الثنائية التي تجعل من الإنسان إنساناً.
4 ـ ويذهب محمود أمين العالم إلى أن العلمانية ليست مجرد فصل الدين عن الدولة وإنما هي "رؤية وسلوك ومنهج". وهذه الرؤية "تحمل الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان وتعبِّر عن طموحه [الثنائي] الروحي والمادي للسيطرة على جميع المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته وازدهاره". كل هذا يعني أن علمانية د. العالم لا تسقط في النسبية والعدمية ولا ترفض فكرة الكل والجوهر والروح والمطلق. في هذا الإطار لا غرو أن الأستاذ العالم يرى أن العلمانية لا تُعارض الدين "بل لعل العلمانية تكون منطلقاً صالحاً للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم ومستجدات الحياة والواقع".(1/479)
- وقد يُقال إن كلمة "روح" هنا (كما هو الحال في كتابات الدكتورفؤاد زكريا وكثير من العلمانيين العرب) تنبع من المعجم الهيجلي حيث لا تمييز (في نهاية الأمر) بين الروح والمادة. ولكننا لسنا في نهاية الأمر والتاريخ بعد، ولذا تظل الروح (رغم كل أبعادها المادية والتاريخية) منفصلة عن المادة وحركتها، وتظل الثنائية قائمة (حتى لو كان البرنامج الفلسفي لهؤلاء الكُتَّاب يزعم أنه تَجاوزها) .
5 ـ وتقف التعريفات السابقة للعلمانية، التي تسمح بقدر من الثنائية وباستقلال الظاهرة الإنسانية، على طرف النقيض من التعريفات المادية المصمتة الشاملة الواحدية. فالدكتور مراد وهبة يجعل من العلمانية ظاهرة واحدية نسبية، فهي "تحديد" للوجود الإنساني بالزمان والتاريخ" (أي بالنسبي "دون مُجاوَزة لهذا العالم") ! ولذا يَخْلُص الدكتور مراد وهبة إلى أن العلمانية هي التفكير في "النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"، وهي نسبية مطلقة لأنها تحدد الوجود الإنساني والطبيعي، أي كل شيء. كل هذا يعني في واقع الأمر أن ثنائية الإنساني والطبيعي (والمادي والمعنوي) قد تم محوها تماماً، ويتحول الإنسان إلى كائن طبيعي (حيوان طبيعي/اجتماعي) يستنبط معلوماته من التجربة الحسية وأخلاقه من حركة الطبيعة/المادة. وكل ما هو إنساني يُرد في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى أصول مادية وتاريخية. وهذا يدخل بنا في عالم العلمانية الشاملة والواحدية المادية والنماذج أحادية الخط التي لا تعرف مطلقات ولا ثوابت ولا ثنائيات ولا منحنيات ولا خصوصيات ولا كليات. ويُلاحَظ من ثم تَراجُع الإنسان في هذا العالم المصمت واندماجه الكامل في الطبيعي وخضوعه وإذعانه له. ويرى الدكتور وهبة أن العلمانية "هي المسار الإنساني في حضارتنا"، أي حضارة كل البشر في كل زمان ومكان، أي أن العلمانية والعولمة شيء واحد. وقد قام الدكتور وهبة بالدفاع عن التطبيع مع إسرائيل وتأييد تحالف كوبنهاجن بقوله(1/480)
إن ما دفعه إلى هذا إيمانه بفلسفة التنوير القائلة بأنه "لا سلطان على العقل إلا للعقل وحده" (وهذا هو أحد تعريفاته للعلمانية أيضاً!) . (ومع هذا، رغم صلابة الدكتور وهبة وواحديته إلا أنه يتأرجح أحياناً ويتحدث عن الإنسان باعتباره مطلقاً، ومن ثم نجد رواسب ميتافيزيقية عنده لم ينجح في التخلص منها تأخذ شكل الإيمان بالطبيعة البشرية (.
6 ـ ويتغنى الكاتب السوري (المقيم في باريس) هاشم صالح بطريقة صوفية عن أوربا، فهو يتحدث عن "أوربا علمانية، متحررة، عقلانية، لا أثر للأصولية الدينية فيها"، كما يتحدث عما يسميه "معجزة الحداثة" عن "حظ أوربا أو سر تفوقها على بقية سكان العالم، ونجاحها الذي يخطف الأبصار". بعد هذه الغنائية الصوفية في وصف المعجزة العلمانية بنورها المتدفق يبيِّن لنا الأستاذ صالح مفتاح الجنة. لقد قامت أكبر ثورة علمية وروحية في تاريخ البشرية في أوربا، وأتت بما يسميه "الصورة العلمية" وهي "صورة الكون الفيزيائي الموحَّد الخاضع للقوانين (والمرجعية) الصارمة للفيزياء الرياضية، وراحت هذه الفيزياء الرياضية تُفسِّر الظواهر كافة سواء في مجال العلوم الطبيعية أم في مجال العلوم الإنسانية"، أي أن سمة الجنة هي أن الإنساني يخضع للقوانين الصارمة للفيزياء الرياضية، أي يختفي تماماً، فهذا هو المسار الطبيعي في حضارتنا.
- وكثير من التعريفات العربية لمفهوم العلمانية لا تأخذ بالتعريف الجزئي الذي يسمح بقدر من الثنائية ويقبل بوجود حيز غير علماني بجوار الحيز العلماني وحيز إنساني بجوار الحيز الطبيعي/المادي، إلا أنها لا تأخذ أيضاً بالتعريف الشامل الواحدي الصارم الذي يلتزم بالحيز العلماني (النسبي ـ المادي ـ الطبيعي.. إلخ) وإنما تتأرجح بينهما (ويُلاحَظ في كتابات بعض من ذكرناهم باعتبارهم ممثلين للعلمانية الجزئية أن تعريفات للعلمانية ترد باعتبارها ظاهرة عالمية شاملة كاسحة لا تترك أي حيز لأي رؤية أخرى) .(1/481)
7 ـ ويرى الدكتور حسن حنفي أن العلمانية ظاهرة تنتمي للحضارة الغربية، تعني "الفصل بين الكنيسة والدولة"، أي أنه يأخذ بالتعريف الجزئي دون تَحفُّظ (ولنا أن نلاحظ أن معظم من يأخذون بالتعريف الجزئي لا يرون العلمانية باعتبارها ظاهرة عالمية وإنما يرونها نتاج المجتمعات الغربية المسيحية وخصوصيتها) . انطلاقاً من هذا التعريف يرى الدكتور حسن حنفي أن العلمانيين في بلادنا "كلهم من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام" ممن "تربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير" ولذا كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ودعوا إلى النمط الغربي في التقدم ثم تبعهم في ذلك بعض المسلمين. وقد أدَّى ذلك بالحركات الإسلامية إلى رفض العلمانية "عن حق" وربطها "بالتغريب"، بما يتضمن ذلك من استعمار وتبشير ورفع شعار الحاكمية. فالخطأ الأول، نقل العلمانية الغربية، أحدث، في تصوره، رد فعل خاطئ وهو الحاكمية.
ويذهب الدكتور حسن حنفي إلى أن هذا الوضع قد خلق تصوراً خاطئاً بأن ثمة تعارضاً بين العلمانية والإسلام! وهنا سنكتشف أن الدكتور حنفي بدأ يترك نطاق الحضارة الغربية والعلمانية الغربية، كما بدأت العلمانية عنده تتحول إلى ظاهرة عالمية، بل حتمية، ولذا نجده يتحدث عن ذلك الجوهر العلماني للإسلام. ولا تختلف هذه العلمانية الإسلامية الجديدة كثيراً عن العلمانية الغربية إلا في أنها نابعة من الداخل وليست من الخارج. والإسلام ـ حسب تصور الدكتور حسن حنفي ـ دين علماني (بالمعنى العالمي لا الغربي) ، للأسباب التالية:
أ) النموذج الإسلامي "قائم على العلمانية" بمعنى "غياب الكهنوت".(1/482)
ب) "الأحكام الشرعية الخمسة [الواجب ـ المندوب ـ المحرَّم ـ المكروه ـ المباح] تُعبِّر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي ... وتصف أفعال الإنسان الطبيعية، كما يبغي العلمانيون، خارج دائرة الحلال والحرام الصوريين المفروضين من الخارج". ثمة تَطابُّق مذهل هنا بين الداخل والخارج، بين الشريعة والطبيعة، بين الإسلامي والعلماني، بين ما هو كامن في الإنسان وما هو متجاوز له، يُذكِّر المرء بمحاولة الفلسفة المثالية الألمانية بأن تحل كل مشاكلها بافتراض تَماثُل بين قوانين العقل وقوانين التاريخ وقوانين الطبيعة (وعلى كلٍ يرى الدكتور حسن حنفي أن ثمة تَماثُلاً بين المقدَّس والزمني) .
جـ) الفكر الإنساني العلماني الذي حوَّل بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان "وُجد بشكل متخفٍّ في تراثنا القديم، مغترباً في الله في علم أصول الدين، وعقلاً خالصاً في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه". ولنلاحظ هنا الحلول والكمون الكامل في الإنسان الذي يغترب عن جوهره في الإله المتجاوز، وكل هذا يشي بأن الدكتور حسن حنفي يقف ضد كل ما هو متجاوز للإنسان، ويحوِّل الإنسان إلى مطلق، كما فعل الأستاذ العالم والدكتور فؤاد زكريا وغيرهما من العلمانيين العرب، أي تأكيد المرجعية الإنسانية المطلقة المتجاوزة للمادة (وأثر فيورباخ على أطروحات الدكتور حسن حنفي أمر واضح) . (ولكن شبح الطبيعة/المادة رابض دائماً في كل الفلسفات ذات التوجه الهيجلي، فالإنسان في كتابات الدكتور حسن حنفي هو الإنسان الطبيعي/المادي الذي لا مرجعية له سوى المرجعية المادية، ولا عقل له سوى هذا العقل الدنيوي المادي (.(1/483)
بعد أن تتحول العلمانية إلى ظاهرة عالمية يتسع نطاقها لتصبح علمانية شاملة تترك السياسي لتغطي كل مجالات الحياة. فالعلمانية في تَصوُّر د. حنفي لم تعد مجرد فصل الدين عن الدولة وإنما أصبحت رؤية كاملة للكون (تحويل بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان) و"جزءاً من الحياة اليومية". ولذا نجد أن الغرب بتبنيه العلمانية قد تبنى رؤية للكون تم بمقتضاها نفي الدين تماماً من الدساتير، بحيث لم يَعُد الدين ينظم العلاقة بين الأفراد ولا النظم التربوية، ولم يعد يُسمَح بالدعوة الدينية في أجهزة الإعلام. كل هذا يعني في واقع الأمر أن الرؤية العلمانية تغطي كل هذه المجالات وتُزوِّد الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، يمكن للقارئ أن يستخلص ملامحها من كتابات الدكتور حسن حنفي (ولعل وصفه للعناصر العلمانية في الإسلام هو أيضاً وصف لهذه الرؤية للكون (.(1/484)
8 ـ ويُلاحَظ نفس النمط من التأرجح في كتابات الدكتور عاطف العراقي. فهو يبدأ بتقرير أن ما يُشاع عن العلمانية من اتهامات باطل: فالقول بوجود ترابط بين العلمانية والدعوة ضد الدين جاء عن سوء فهم للعلمانية، فالفصل بين الدين والدولة، والقول بأن الدين لله والوطن للجميع، لا يمكن أن يمثل اتجاهات غير دينية. ثم يسوق الدكتور العراقي تعريفاً فضفاضاً جداً للعلمانية "يتمثل معنى العلمانية أو يدور حول التمييز بين العلم من جهة والدين من جهة أخرى"، أي أنه يقبل الثنائية ووجود حيز علماني وآخر غير علماني. ومادام الأمر تمييزاً فهذا يعني أن لكل مجاله وأن هناك مجالاً للدين في المجتمع. وبالفعل يضيف الدكتور العراقي أن العلمانية "لا تدعو إلى إلغاء الدين وإنما تدعو إلى عدم الاعتراف بالسلطة الدينية" وحسب وإلى "نقد القول بإمكانية وجود حكومة دينية" وإلى «فصل الدين عن الدولة» . وضرورة "التمييز بين الدين من جهة ورجال الدين من جهة أخرى" لا يعني دمغاً أو رفضاً للدين. كل هذا يعني أن الدكتور العراقي يدور في إطار العلمانية الجزئية بلا أي إبهام. ولذا فهو يرى عدم وجود أي مجال للتعارض بين التقدم العلمي والقيم الأخلاقية المطلقة أو "مع السمو الأخلاقي الروحي"، بل يمكن أن يكون "التقدم العلمي وسيلة لنشر الأخلاق".(1/485)
ولكن الدكتور العراقي يتحرك خارج هذا النطاق، ويبدأ الحديث عن مبدأ التنوير. وفلسفة التنوير فلسفة عقلانية مادية شاملة لا تسمح بوجود مطلقات إنسانية أو أخلاقية أو دينية. ثم تدريجياً يتحوَّل هذا العقل إلى المطلق والمرجعية النهائية "فالعقل والعقل وحده هو الركيزة الكبرى" و"إذا أردنا أيديولوجية لفكرنا العربي فلابد أن يكون شعارها تقديس العقل". وفي لغة صوفية جذابة يقول د. العراقي: إن العقل "يمثل النور والضياء واليقين". ونحن نعرف من كتابات الدكتور العراقي الأخرى أن هذا العقل الذي يتم تقديسه هو العقل المادي، وهو عقل عالمي مجرد يقوم على الإيمان بالثقافة الخالدة "الثقافة الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان". وكما هو الحال دائماً، حينما نصل إلى هذه الدرجة من العولمة والكوكبة نكتشف أننا في رحاب العالم الغربي، باعتبار أن الحضارة الغربية الحديثة هي أعظم تجلٍ لهذا العقل. "فعلى أساسه أقامت أوربا حضارتها". ولذا "لا تنوير بدون نشر مبادئ الحضارة الغربية". وهكذا ينتهي الأمر بنا إلى تعريف العلمانية بأنها التحديث على النمط الغربي ونشر مبادئ الحضارة الغربية، وهي علمانية شاملة، تتغلغل في مجالات الحياة كافة، ولا تعرف أية مطلقات من أي نوع، وتمحو أي حيز أو خصوصية تحاول أن تستقل عنها.
ـ ويُعدُّ الدكتور عزيز العظمة من أهم الدارسين العرب لظاهرة العلمانية وتتبدَّى كل الاتجاهات (الجزئية ـ الشاملة ـ المتأرجحة) في كتاباته. فهو يصل بالخطاب العلماني العربي إلى كثير من نتائجه المنطقية. إلا أن الدكتور العظمة يعود ويضيف بعض المطلقات الأخلاقية ثم يعود مرة أخرى للنسبية المطلقة، وهكذا.(1/486)
يبدأ الدكتور العظمة في عالم التعريفات الجزئية حين يقول: "تعني العلمانية الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن التحكم الرسمي به وبحياته العامة ومعاملاته ومبادلاته وفقاً لمبادئ دين الأكثرية وعقائده وشرائعه.. إلخ، كما تعني المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية، كما تعني صياغة حرية الضمير والمعتقد للجميع". ويُعرِّف الدكتور العظمة ما يسميه «وجه العلمانية السياسي» بأنه عزل الدين عن السياسة، ويُلخص ما يسميه «وجهها المؤسسي» بأنه اعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة خاصة كالأندية والمحافل (أو "كنوادي الشطرنج" إن أردنا استخدام الصورة المجازية التي استخدمها ماكسيم رودنسون، وهي أكثر دقة ودلالة) .
لكن تلخيص د. العظمة لرؤيته على هذا النحو هو تلخيص مبتسر، يتجاهل كثيراً من التضمينات الفلسفية لخطابه. ولذا نجده بعد لحظات التعثر الأولى يطرح هذه التعريفات الجزئية المستأنسة جانباً ويتبنى تعريفاً شاملاً يُمثِّل موقفه الفلسفي، فيُعرِّف ما يسميه «وجه العلمانية المعرفي» بأنه "نفي الأسباب الخارقة عن الظواهر الطبيعية والتاريخية"، وهو ما يعني الاكتفاء بالأسباب المحسوسة المادية وقوانين الحركة. كل هذا يعني الإيمان بـ "دنيوية هذا الواقع، وحركيته وتحولاته"، أي ماديته الكاملة (مرجعيته المادية الواحدية) ، ولذا فهو لا يتوجه للقضايا الفلسفية التي تقع خارج نطاق هذه الحدود المادية الواضحة، فيُنكر من ثم وجود الماهيات والمطلقات والكليات والغائيات (باعتبارها أشكالاً من الميتافيزيقا، "ظلال الإله" حسب تعبير نيتشه) .(1/487)
ثم يُعانق العظمة حالة السيولة بحماس بالغ. ويُعرِّف العلمانية بأنها تؤكد "أولوية اللانهائية"، أي اعتبار حركة المجتمع حركة مستمرة لا نهايات ولا غائيات لها، "حركة منفتحة أبداً على التحول". ولذا فهو لا يرفض الرؤى الميتافيزيقية وحسب، وإنما يرفض أيضاً "الرؤى الماهوية"، أي أنه يقفز قفزة واسعة إلى عالم ما بعد الحداثة، ومن ثم فلابد أن يرفض تعريفات محمود أمين العالم وفؤاد زكريا وحسن حنفي (وربما عاطف العراقي) التي لا تزال تدور في إطار بعض المفاهيم الإنسانية العتيقة البالية مثل المطلق والجوهر والكل، ومثل هذه الأمور التي تتسم بالثبات والصلابة، والتي لا تزال تمنح الإنسان مركزية ليس لها ما يبررها، من منظور الحركة المادية المتدفقة.
وتظهر نفس المادية والحركية والسيولة حينما يتحدث العظمة عما يسميه «وجه العلمانية الأخلاقي» ، فجوهر المنظومة الأخلاقية العلمانية هو ربطها الأخلاق لا بالثوابت وإنما "بالتاريخ والزمن" (المعطى الزمني المادي المباشر ـ الأمر الواقع ـ الظروف الموضوعية) . ولكنه يحاول بعد ذلك تدارك الأمر فيتحدث عن "ربط الأخلاق والوازع بالضمير بدلاً من الإلزام والترهيب بعقاب الآخرة". لكن لابد لنا أن نفهم هذا كحديث عن آليات وحسب، فالتغير والحركية هما سنة الوجود العلماني، ومصدر الأخلاق (كما أكد لنا الدكتور العظمة من قبل) هو التاريخ وحركية المجتمع التي لا غائية لها، ولذا من حقنا أن نتساءل لماذا يشكل الضمير استثناء داخل "دنيوية هذا الواقع، وحركيته وتحولاته"؟(1/488)
ويتسع نطاق العلمانية ويصل إلى درجة كاسحة حين يؤكد لنا العظمة أن العلمانية تتبدَّى في تاريخ الإنسانية بأسره فهي ذات "وجهة تاريخية، على نحو مقرر، لا انفكاك عنه أو على جميع الصعد". وهذه لغة هيجلية، لغة نهاية التاريخ التي لا تُبقي ولا تذر، تُذكِّر الدارس بفلسفات القرن التاسع عشر التي كانت تحاول تفسير كل الظواهر بردها إلى عنصر واضح حاسم، وتُدخِله كله منظومة عضوية واحدة لا تتخللها أية ثغرات أو أي شكل من أشكال عدم الانقطاع. وبالفعل نكتشف أن العلمانية في كتابات الدكتور عظمة هي "العالمية" (أو "الزمانية العالمية" في رواية أخرى) وأن مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانية وهو أمر "تمليه القيم العالمية". وإن تساءلت عن مضمون هذه القيم، جاءتك الإجابة أن "الكونية الفكرية مؤسسة على مركب علماني من النفعية والعلموية والتطورية". (هل التطورية هذه محاولة لبقة من جانبه لتحاشي وجه الداروينية القبيح؟) . مهما كان الأمر فإن الفلسفات الثلاث التي ذكرها فلسفات ذات مرجعية زمنية مادية لا تُهمِّش الدين وحسب وإنما تُهمِّش القيم الأخلاقية والغائيات الإنسانية وفكرة الكل وأي شكل من أشكال الثبات وأي شكل من أشكال الخصوصية، فهي "كونية" و"عالمية" و"حتمية".
ومشكلة المشاكل بالنسبة لنا (نحن المتمسكين بالقيمة وبالخصوصية والغائيات الإنسانية) أننا لا نعرف الحتميات التاريخية اليقينية التي بيَّنها الدكتور العظمة. فإذا كانت مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانية بمعناها الشامل (كنفعية وعلموية وتطورية) ، فمسيرة التاريخ الثقافي العربي محكومة بهذا المسار. ولذا بدلاً من أن نسبح مع التيار وبدلاً من أن نلقي بأنفسنا (في سعادة غامرة، محايدة وموضوعية) في السيل الدفاق للعالمية والكونية (ونزع الخصوصية) وبدلاً من أن نتصالح مع الحتمية التاريخية لهذه السيولة، تجدنا نشعر بعُقَد النقص تجاهها.(1/489)
ولكن المشكلة ـ في تصوُّرنا ـ أننا إن قررنا أن نسبح مع هذا التيار العالمي الحتمي سنكتشف أنه في واقع الأمر غربي (تماماً كما بيَّن لنا الدكتور العراقي) . فثمة تَرادُف بين العالمية والغرب، فالواحد هو الآخر. وهو أمر مفهوم تماماً في إطار النموذج الأحادي الاتجاه (يوني لينيار unilinear) (والنماذج المادية لابد أن تكون أحادية صلبة أو ذرية [بالإنجليزية: أتومتستيك atomistic لا مركز لها) . فثمة نقطة واحدة، عالمية نهائية سننتهي فيها جميعاً. وهناك من خضع للحتمية وحث الخطى (مثل أهل الغرب) فوصل إلى أرض الموعد والمنتهى، ولكن هناك من يمارس عُقَد النقص ويقاوم. ولذا ينصحنا الدكتور العظمة، بدلاً من أن نضيع الوقت ونكد ونتعب، أن نُوجِّه أنظارنا حيث نجد تطبيقاً متبلوراً للقوانين العالمية العامة الحتمية، فتبني المُثُل الغربية هو تبني المُثُل العالمية، والمُثُل العالمية (كما بيَّن لنا هاشم صالح) تعني سيادة القوانين المادية الطبيعية العالمية التي لا تعرف المكان أو الزمان أو الغائيات الإنسانية أو الخصوصيات القومية (فهي "زمانية عالمية") تحوِّل الإنسان إلى كيان طبيعي/مادي لا يختلف كثيراً عن الكائنات الطبيعية/المادية الأخرى، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين. ومن ثم يمكن تطبيق النماذج الكمية أحادية الخط العالمية. وهكذا ننتهي بإنكار، لا الميتافيزيقا وحسب، وإنما الإنسان المتجاوز للطبيعة ولمفهوم الكل والماهية.
وثمة مشكلات أساسية في التعريفات السابقة، الجزئي منها والشامل، نورد بعضها فيما يلي:
أ) تعاملت معظم التعريفات مع التعريفات المعجمية العامة للكلمة وأصولها اللغوية واشتقاقاتها ومعناها، ولم تتعامل مع مدلول الكلمة في معاجم علم الاجتماع أو علم الفلسفة، كما لم يتصد أحد تقريباً لتطوُّر الحقل الدلالي للكلمة.
ب) أهملت معظم التعريفات قضية المرجعية النهائية للكلمة (والمفهوم) ، وميتافيزيقا العلمانية الكامنة.(1/490)
جـ) تعرضت كثير من التعريفات للعلمانية باعتبارها أساساً ظاهرة غربية وحسب.
د) تناولت معظم التعريفات إشكالية الأصول، أي كيف نشأت العلمانية في الغرب، ولكنها أهملت دراسة المجتمعات العلمانية المختلفة في الغرب (باعتبارها الترجمة الفعلية للنموذج العلماني) .
هـ) تجاهلت معظم التعريفات الظواهر المصاحبة لظهور العلمانية مثل الإمبريالية والاستهلاكية والحروب العالمية والحركات الشمولية ولم تحاول اكتشاف ما إذا كان ثمة علاقة بين تصاعد معدلات العلمنة في المجتمع وتزايد مركزية هذه الظواهر وهيمنتها.
و) لم تحاول أي من التعريفات دراسة النظريات الاقتصادية والسياسية المختلفة، خاصةً المعادي منها للإنسان (النظريات التنموية ـ نظريات الدولة ـ نظرية المواطن) وعلاقتها بالعلمانية.
ز) لم يُناقش أي من التعريفات بعض المسلمات النظرية الأساسية التي تُعَدُّ ترجمة مباشرة للرؤية العلمانية مثل الماكيافيلية والهوبزية والداروينية والفرويدية ونظرية بنتام في المنفعة.
ح) لم يُناقش أي من التعريفات المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في العلوم الإنسانية الغربية لوصف بعض جوانب المجتمعات العلمانية الحديثة مثل الاغتراب والتشيؤ والتسلع والأنومي (اللامعيارية) .
ط) لم يتناول أي من التعريفات الحركات الفنية والأدبية الحديثة وعلاقتها بتصاعد معدلات العلمنة.
ي) ولكن من أكثر الأشياء غرابة أن أياً من التعريفات لم تحاول أن تربط بين العلمانية وتاريخ الفلسفة في الغرب، ولم يحاول أي من الدارسين أن يُبيِّن علاقة البنيوية (التي تميت الإنسان على حد قول جارودي) ، وما بعد البنيوية (التي تحاول أن تذيبه) ، بالعلمانية. الجميع قد يشير إلى كانط وربما إلى هيجل، ولكن الجميع يبتعد عن نيتشه ودريدا ومن ثم لم يتناول أي منهم قضية العدمية والفوضوية.(1/491)
ك) لم تتناول أي من التعريفات الحياة اليومية في المجتمعات العلمانية في الوقت الحاضر، وماذا حدث للإنسان بعد أربعة قرون من ازدهار العلمانية وترعرها في المجتمعات الغربية (ظهور ثقافة شعبية منحطة ـ انتشار العنف ـ انتشار المخدرات ـ أمركة العالم) .
ل) لم يتعرض أحد للتراث الغربي الثري في نقد العلمانية وما بعد الحداثة، فهم يلزمون الصمت تجاهه، أو يدرسونه ويعرضون له في دراسات تبيِّن مدى "موضوعية" الغرب و"مدى مقدرته على تصحيح أخطائه" دون أن يستوعبوا هذا النقد في تعريفهم للعلمانية.
وما حدث هو أن دارسي العلمانية فصلوا المصطلح (والظاهرة) عن غيره من المصطلحات بحيث تحولت العلمانية من كونها رؤية للكون (بالألمانية: فلتنشوونج Weltanschauung) إلى ظاهرة مستقلة من ضمن ظواهر عديدة، لها تاريخ مستقل. بل الأسوأ من هذا أن تاريخ العلمانية أصبح جزءاً من تاريخ الأفكار فتجمد المصطلح وانفصل عن مضامينه التاريخية والحضارية، وأصبحت العلمانية، في كثير من الدراسات، برنامجاً إصلاحياً أو برنامجاً تآمرياً وتم تجاهل عمليات العلمنة البنيوية الكامنة المسئولة الأساسية عن تحوُّل المجتمع. ثم تدهور الأمر بين أعداء العلمانية ودعاتها إذ يقول أتباع الفريق الأول: "إن العلمانية كفر وإلحاد وغزو ثقافي" ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو شراً مستطيراً. أما أتباع الفريق الثاني فيقولون: "إن العلمانية هي أن يكون الإنسان إنساناً وأن يُحكِّم ضميره ويحب الخير كنهاية في ذاته ويُدافع عنه وعن حرية الفكر والإبداع والتسامح والمحبة"، ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو جميلاً ورائعاً ونبيلاً. وانطلق دعاة العلمانية يلهجون بالثناء عليها ويتحدثون عن أن لا سلطان للعقل إلا للعقل ويشيرون إلى أوربا مهد النور والعقل والعلمانية ... إلخ.(1/492)
ولا شك في أن مثل هذه التعريفات المريحة لها قيمة نفسية عالية بالنسبة لمستخدميها، فهي ولا شك تُدخل على قلوبهم الراحة ولكن ليست لها أية قيمة تفسيرية، فهي ليست بتعريفات تحاول وصف الواقع وتفسيره وإنما هي أحكام أخلاقية تعكس لنا رؤية أصحابها وموقفهم النفسي والأخلاقي من ظاهرة لم يقوموا بتعريف حدودها.
وربما كان الأجدى أن ينظروا إلى تاريخ أوربا الاستعماري من نهب وسرق وتدمير (لبلادنا ولبلاد غيرنا) ولعلهم لو فعلوا لعرفوا أن العقل لم يحكم حضارة العقل كثيراً، ولو نظروا لتاريخ أوربا المعاصر، ورأوا هتلر وستالين ومسرح العبث وسياسات النظام العالمي الجديد والعنصرية القديمة والنازية القديمة والجديدة ومادونا وأفلام العنف لأدركوا أن المقدمات العقلية للعلمانية لم تؤد دائماً إلى ازدهار العقل والمرشد.
ولكن بدلاً من مناقشة العلمانية في هذا الإطار المُركَّب أصبحت القضية: متى نشأت العلمانية وأين؟ هل العلمانية نسبة إلى العالَم أم إلى العلم؟ وهذا أمر مثير للدهشة باعتبار أن دعاة العلمانية هم في غالب الأمر دعاة لتَبنِّي مُثُل الحضارة الغربية ومن بينها الرؤية النقدية. ولعلهم لو قاموا بتعريف العلمانية مسترشدين بدراسة متعمقة للحضارة الغربية، مبينين حلوها من مرها، ولو قدَّموا لنا حساب المكسب والخسارة في التجربة العلمانية في الغرب لتم الحوار بشأن العلمانية بطريقة أكثر تركيبية ورحابة وأقل حدة.
ما بعد العلمانية(1/493)
» ما بعد العلمانية» (بالإنجليزية: بوست سيكولايزم post-secularism) مصطلح سكه البروفسير جون كين على وزن «ما بعد الحداثة» و «ما بعد الأيديولوجيا» وغيره من المصطلحات التي تتحدث عن «ما بعد» . وكلمة «ما بعد» هنا تعني في واقع الأمر «نهاية» ، و «ما بعد الحداثة» تعني «نهاية الحداثة» ، و «ما بعد الأيديولوجيا» تعني «نهاية الأيديولوجيا» (ويظهر هذا في مصطلح «نهاية التاريخ» ) . ولكن أصحاب هذه المصطلحات آثروا أن يستخدموا الكاسحة «بوست (ما بعد) » ليشيروا إلى أن النموذج المهيمن قد فقد فعاليته، ولكن النموذج الجديد البديل لم يحل محله بعد، و «ما بعد العلمانية» تعني أن نموذج العلمانية قد دخل مرحلة الأزمة، ولكن لم يحل محله نموذج آخر. وبالفعل يتحدث البروفسير كين عن أن العلمانية لم تف بوعودها لا في العالم الأول (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية) ولا في العالم الثالث (حيث تحالفت العلمانية مع الفاشية والقوى العسكرية) .
العلمانية الفاشية
«العلمانية الفاشية» (بالإنجليزية: فاشست سيكولايزم Fascist secularism) مصطلح شاع في الآونة الأخيرة في بعض الصحف الغربية للإشارة إلى العلمانية في تركيا. فالمؤسسة العسكرية هناك هي التي تقوم بالدفاع عن «العلمانية» التي تعني في المعجم العلماني التركي «محاربة الدين» . وكي تنجز المؤسسة العسكرية هذا الهدف تلجأ للأساليب الفاشية المعروفة ومنها التهديد بقلب نظام الحكم. وقد ضغطت المؤسسة العسكرية في الآونة الأخيرة، ونجحت بالفعل، في إقصاء حكومة أربكان عن الحكم رغم أن حزب الرفاه قد حصل على عدد من أصوات الناخبين يفوق ما حصل عليه أي حزب آخر، أي أن القوى العلمانية في تركيا معادية للديموقراطية، ومن هنا تسميتها «العلمانية الفاشية» .(1/494)
الباب الثالث: نموذج تفسيري مركب وشامل للعلمانية
فشل علم الاجتماع الغربى فى تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية
علم الاجتماع الغربي والعلوم الإنسانية الغربية ككل هي جزء من المجتمع الغربي، أفقها محدد بأفق مجتمعها في معظم الأحيان، ولذا نجد أن علم الاجتماع الغربي يتأرجح بين العلمانية الشاملة والجزئية فيُنظر إلى العلمانية باعتبارها «فصل الدين عن الدولة» أو باعتبارها «مجموعة أفكار وممارسات ومخططات واضحة محددة» أو باعتبارها «فكرة ثابتة لا مثالية نماذجية آخذة في التحقق» . كما أن علم الاجتماع الغربي قد ورث أيضاً الاختلاط في الحقل الدلالي لكلمة «علمانية» .
كل هذه العناصر ساهمت ولا شك في أن يفشل علم الاجتماع الغربي في أن يطوِّر نموذجاً شاملاً ومركباً للعلمانية. ولكن أهم العناصر التي ساهمت في ذلك الإخفاق أن مرجعية علم الاجتماع الغربي والعلوم الغربية الإنسانية ومنطلقاتها هي العلمانية الشاملة. فعلى سبيل المثال ترى هذه العلوم أنه يجب فصل الواقع (الحياة الدنيا) عن كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية حتى تصبح العلوم محايدة، خالية من القيمة (بالإنجليزية: فاليو فري value ياتجهت العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية نحو النماذج الكمية والنماذج المادية لتركز الاهتمام على تلك الظواهر التي توجد داخل هذا النطاق وحسب. ومن هذا المنظور تم تقويض مفهوم الإنسانية المشتركة إلى أن اختفى مع سيادة الواحدية المادية الموضوعية. ثم انتهى بأن ثبتت هذه العلوم ميتافيزيقا العلمانية الشاملة من إيمان بحتمية التقدم وبأن العقل المادي لا نهائي قادر على تسجيل كل شيء ... إلخ. لكل هذا أصبح علم الاجتماع الغربي نفسه جزءاً من المنظومة العلمانية الكلية الشاملة لا توجد مسافة تفصل بين الواحد والآخر. فبدأ يدرك الواقع كأجزاء متناثرة، وخصوصاً أن مصطلح «علمانية» كان قد عُرِّف وتكلّس قبل ظهور كثير من الظواهر العلمانية الأساسية.(1/495)
ومما زاد الموضوع تفاقماً أن الإنسان الغربي حينما بدأ مشروعه التحديثي كان ممتلئاً بالتفاؤل بشأنه، وكان يتوقع أن يحقق له هذا المشروع السعادة الكاملة أو على الأقل قسطاً كبيراً من السعادة. ولذا، حينما كانت تظهر جوانب سلبية، كان يصنفها على أنها "ظواهر هامشية" أو "نتائج جانبية" أو "ثمن معقول" للتقدم. ورغم تزايد الجوانب السلبية، إلا أنه استمر في التركيز على المتتالية المثالية السعيدة فتحكمت في إدراكه وأحكامه ومن ثم استمر في تهميش الجوانب السلبية وتهميش المصطلحات التي تشير إليها وظلت هذه المصطلحات، بمدلولها السلبي، خارج نطاق عملية تعريف ـ أو إعادة تعريف ـ العلمانية.
ويمكن أن نضيف أيضاً أن علم الاجتماع الغربي قد تحددت مقولاته الإدراكية والتحليلية قبل أن تتم عملية التلاقي بين الرأسمالية والاشتراكية وقبل أن تظهر الوحدة الكامنة وراء كثير من الظواهر. ولذا كان علم الاجتماع الغربي يتصور أن الثنائيات التي ظهرت داخل المنظومة العلمانية الغربية ثنائيات حقيقية ذات مقدرة تفسيرية عالية. فكان يرصد الواقع من خلال نموذج الإنسانية مقابل الطبيعية، ونموذج الرأسمالية مقابل الاشتراكية، وهكذا دون إدراك الوحدة النهائية الكامنة فيما بين هذه الثنائيات، ودون إدراك أنها ثنائيات واهية في طريقها إلى الزوال بفعل عوامل التعرية التاريخية وآليات التلاقي.(1/496)
لكل هذا نجد أن علم الاجتماع الغربي يرصد الواقع العلماني (في الشرق والغرب) لا باعتباره كلاً متكاملاً وإنما باعتباره مجموعة من ظواهر مختلفة مستقلة لها تواريخ مستقلة. فكلما اتضحت معالم ظاهرة ما فإنه كان يحصر سماتها ويُطلق عليها اسماً، الظاهرة تلو الأخرى، دون أن يربط بعضها ببعض داخل نموذج تفسيري واحد. ولذا ظهرت نماذج تفسيرية متعددة، ونجد أن هناك حديثاً عن «الترشيد» مستقلاً عن حديث «الاستنارة» وعن حديث «التفكيك» وعن حديث «العلمانية» ، ولم يتم رصد علاقة مفهوم الإنسان الطبيعي وتعاظم نفوذ الدولة القومية بضمور الحس الخُلقي ثم بضمور الحس السياسي والإباحية وتزايد الحياد والتجريد والتنميط. وأصبح تاريخ العلمانية مستقلاً تماماً عن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة وعن تاريخ الاستعمار الغربي وحركات مثل النازية والصهيونية. وقد ظهر عدد لا حصر له من المصطلحات يُشير بعضها إلى الثمرات الإيجابية لعملية التحديث أو الترشيد أو العلمنة، من بينها: التقدم ـ الحراك ـ زيادة الإنتاج ـ هزيمة الطبيعة ـ معرفة قوانين الواقع والتحكم فيه. كما ظهرت أيضاً مجموعة من المصطلحات المحايدة (على الأقل من وجهة نظر أصحابها) من بينها: التلاقي ـ المجتمع التكنولوجي ـ المجتمع ما بعد الصناعي ـ زمانية كل الظواهر ونسبيتها.(1/497)
في الوقت نفسه، ظهرت مصطلحات عديدة تشير إلى بعض نتائجها السلبية غير المقصودة أو إلى ظواهر سلبية مرتبطة بها أو ناجمة عنها، من بينها: أزمة الحضارة الحديثة ـ أزمة الإنسان في العصر الحديث ـ ثمن التقدم ـ النتائج السلبية لعملية التحديث ـ التلوث البيئي ـ هيمنة النماذج المادية والكمية والآلية ـ الاغتراب ـ أزمة المعنى ـ ضمور الحس الخلقي ـ هيمنة القيم النفعية ـ غياب المركز ـ تفشِّي النسبية المعرفية والأخلاقية ـ اللامعيارية (الأنومي) ـ تفتُّت المجتمع ـ سيادة العلاقات التعاقدية بدلاً من العلاقات التراحمية ـ إشكالية الجماينشافت مقابل الجيسيلشافت ـ سيطرة الدولة على الفرد من خلال أجهزتها العديدة ـ هيمنة المؤسسات والبيروقراطيات ـ تآكل الأسرة ـ بداية اختفاء ظاهرة الإنسان ـ ظهور فلسفات معادية للإنسان ـ العدمية الفلسفية ـ الإحساس بالعبث ـ التدويل ـ تراجُع الفردية والخصوصية ـ أمركة العالم ـ التنميط ـ سيطرة أجهزة الإعلام على البشر ـ ما بعد الأيديولوجيا ـ ظهور الحتميات والجبريات المختلفة (البيولوجية والبيئية والوراثية والتاريخية) ـ العالم الحديث كقفص حديدي ـ التسلع (أي تحوُّل الإنسان إلى سلعة) ـ التشيؤ (أي تحوُّل الإنسان إلى شيء) ـ موت الإله ـ موت الإنسان (ويُلاحَظ أن معظم المصطلحات السلبية هي نتاج ما نسميه «العلمانية الشاملة» ) .
ورغم دقة هذه المصطلحات، كلٌّ في حد ذاته، إلا أنها ظلت متباعدة. وقد صُنِّفت أحياناً إلى مجموعات أكبر، ولكن ظل هناك غياب ملحوظ للنموذج التفسيري الكلي الذي يُبيِّن الوحدة الكامنة وراء التعدد.(1/498)
ورغم أن نطاق عمليات العلمنة قد اتسع، ورغم أن الكثيرين اتضح لهم أنها تشكل في مجموعها منظومة متكاملة يمكن رؤيتها في مقدمتها وحلقات تطورها ونتائجها الإيجابية المقصودة والسلبية غير المقصودة، ورغم أن المتتالية المتحققة التي انتهت بالإمبريالية ونهب العالم والإبادة النازية والتلوث البيئي والإباحية وتآكل الأسرة وانتشار المخدرات والجريمة والإيدز والتي ظهرت بدلاً من المتتالية المثالية المُفْتَرَضة السعيدة، ورغم ثمن العلمانية الشاملة الفادح، حيث لم يعد هناك مجال للحديث عن استقلالية الحياة الخاصة، ورغم تَساقُط الثنائيات المختلفة وهو ما أدَّى إلى تهميش الفلسفة الإنسانية الهيومانية وسقوط النموذج الاشتراكي، ورغم تآكل بقايا المسيحية وتَغوُّل الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة، رغم كل هذا، فإن الإنسان الغربي لم ير الوحدة الكامنة ولم يتوصل إلى نموذج تفسيري شامل مركب متكامل لظاهرة العلمانية، واكتفى بمراجعة كثير من المصطلحات التي سكها لوصف واقعه التحديثي في ضوء ما تَكشَّف له من خلال عملية التحقق التاريخي. ولذا، فهو لم يعد يتحدث عن «الاستنارة» وحسب، وإنما أصبح يتحدث أيضاً عن «الاستنارة المظلمة» . ولم يعد يتحدث عن «العقل الخلاق» وحسب، وإنما يتحدث أيضاً عن «تآكل العقل النقدي» وعن «العقل التفكيكي» و «العقل الأداتي» الذي لا يكترث بالإنسان ولا بالمضمون الخلقي لعملية الترشيد. وهو لا يتحدث عن «مركزية الإنسان» و «الإنسانية الهيومانية» وحسب، وإنما يتحدث أيضاً عن «الإنسان ذي البُعد الواحد» و «الإنسان الشيء» وعن «استبعاد الإنسان من المركز» وعن «العداء للإنسانية (أنتي هيومانيزم anti-humanism) » . كما أنه لا يتحدث عن «التقدم» وحسب وإنما يتحدث أيضاً عن «نهاية التاريخ» و «عبثية الواقع» و «ثمن التقدم» .(1/499)
ورغم أن الإنسان الغربي أعاد صياغة المصطلحات وربط بعضها بالبعض الآخر (فالترشيد الذي كان مرتبطاً بالانعتاق ظهرت علاقته بالتنميط وبالاغتراب) ، فقد ظلت في معظمها محتفظة باستقلاليتها لا تنتظمها منظومة واحدة. ولعل ماكس فيبر هو عالم الاجتماع الغربي الذي اقترب من عملية الربط بين كل المصطلحات والظواهر بطريقة تكاد تكون شاملة من خلال مفهوم الترشيد.
لقد أخفقت العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية في رصد ظاهرة العلمانية وفي تطوير نموذج شامل ومركب لها أو رؤيتها من منظور إنساني عالمي مقارن. وإن كان من الممكن تفسير إخفاق العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية في التوصل إلى نموذج شامل ومركب ومتكامل للعلمانية، فإن تفسير إخفاقنا نحن غير ممكن، فنحن نرى ظاهرة العلمانية ونرى الإنسان الذي يتفاعل معها من الخارج (حتى الآن على الأقل) . ولهذا، فلابد أن نرى الأمور بشكل أكثر تركيباً وشمولاً وكلية، ولابد أن يكون بوسعنا رؤية علاقة كامنة شاملة بين العناصر والجوانب المختلفة التي قد تبدو مستقلة. وليس هناك ما يدعو لأن نقبل تصنيفات الإنسان الغربي ومصطلحاته لوصف واقعه. فالواجب العلمي يفرض علينا أن نبحث عن مثل هذه العلاقة الشاملة الكامنة. ولعل الوقت قد حان الآن لإعادة النظر في كل مصطلحات العلوم الاجتماعية (ذات الأصل الغربي) لصياغة نماذج ومصطلحات جديدة تتفق مع تجربتنا الوجودية المتعينة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وبعد علمنة السلوك في العالم الغربي وضمور رقعة الحياة الخاصة وتهميش المسيحية تماماً وظهور أدبيات غربية مراجعة تساعدنا في عملية التعريف وإعادة التعريف.
نحو نموذج تفسيرى مركب وشامل للعلمانية(1/500)
بعد أن رصدنا فشل علم الاجتماع الغربي في تطوير نموذج شامل ومركب للعلمانية، وبعد أن بيَّنا أن مصطلح «علماني» شائع لأقصى درجة، وخلافي لأقصى درجة، فإننا سنحاول أن نقوم بتطوير نموذج تحليلي جديد وسنؤسس عليه تعريفاً لما نسميه «العلمانية الشاملة» . وقد لجأنا لعدة إستراتيجيات:
1 ـ التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك أو المتداخل.
2 ـ تطوير مصطلحات تحليلية جديدة لبلورة النموذج الكامن.
3 ـ دراسة النمط الأساسي الكامن وراء عمليات العلمنة وتوضيح علاقة العلمانية بالتفكيك وما بعد الحداثة.
4 ـ توضيح علاقة العلمانية بالإمبريالية.
ثم طرحنا بعد ذلك تعريفنا للعلمانية الشاملة.
العلمانية: التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل
مصطلح «العلمانية» ـ كما تَقدَّم ـ مُبهَم ومُختلَط، ولو كان الأمر بيدنا لاستغنينا تماماً عنه ولاستخدمنا بعض المصطلحات الأخرى (وخصوصاً مصطلح «نزع القداسة» أو «الواحدية الكونية المادية» ) نظراً لأنها مصطلحات أكثر شمولاً وأكثر عمقاً ودقة من لفظ «العلمانية» ، كما أنها مصطلحات جديدة غير محملة بأعباء أو أخلاقيات أيديولوجية وعقائدية حادة كما هو الحال مع لفظ «علمانية» .
ولكن هناك إشكالية تواجهنا جميعاً، وهي أن هذا المصطلح قد أحرز شيوعاً غير عادي بين دعاة العلمانية وأعدائها، وبين أعضاء النخبة والجماهير على حدٍّ سواء. ولذا، لا مناص من استخدامه، فالبدء من نقطة الصفر مسألة مستحيلة في مثل هذه الأمور. وما سنلجأ إليه هو إعادة تعريف مصطلح «علمانية» بحيث يصبح مجاله الدلالي أكثر اتساعاً وشمولاً. كما أننا سنستخدم مصطلح «علمنة» على نطاق واسع (لتأكيد البُعد الزمني للمصطلح) .(2/1)
ونحن نحاول أن نقدم نموذجاً مركباً للعلمنة والعلمانية، وذلك لا باعتبار العلمنة مجموعة من الأفكار والممارسات الواضحة، ولا باعتبارها رؤية تغطي بعض مجالات الحياة دون الأخرى وحسب، ولا باعتبارها فكرة ثابتة لا متتالية نماذجية، وإنما باعتبارها رؤية شاملة لإعادة صياغة الواقع في إطار المرجعية المادية الكامنة النهائية وهيمنة الواحدية المادية الموضوعية. ونحن نعتقد أن هذا النموذج له قيمة تفسيرية وتصنيفية عالية وأنه سيكون بمنزلة النظرية التفسيرية والتصنيفية العامة التي تحاول أن تكتشف قدراً معقولاً من الوحدة بين الظواهر التي صُنِّفت باعتبارها ظواهر مستقلة. وهو نموذج تنضوي تحته كلٌّ من الرأسمالية والاشتراكية باعتبارهما نموذجين ماديين في تنظيم المجتمعات البشرية، ومن ثم فهما مجرد تنويعين على نموذج أعمق وأشمل، أي العلمانية (والعقلانية المادية والواحدية المادية) . بل إننا نستخدم نموذج العلمنة لنفسر العديد من الظواهر في العصر الحديث لا في الغرب وحسب وإنما على مستوى العالم بأسره، ونشير إلى ما نسميه «الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية» باعتبار أن هذه الرؤية لم تُطبَّق على الداخل الغربي من خلال الدولة العلمانية المركزية (المطلقة) وحسب وإنما طُبِّقت أيضاً على الخارج الأوربي من خلال جيوش أوربا والغزو الثقافي. ومن ثم، فنحن نرى إمكانية كتابة تاريخ موحَّد لكلٍ من العلمانية والإمبريالية والديموقراطية والفلسفة الغربية الحديثة والتحديث والحداثة وما بعد الحداثة، وذلك إن تبنينا تعريفاً مركباً للنموذج المعرفي العلماني. ونحن نستخدم كلمة «علمنة» أو «علمانية» أو «رؤية معرفية علمانية» من قبيل الاختصار، إذ أن ما نعنيه هو رؤية معرفية علمانية إمبريالية ترمي إلى غزو العالم (الغربي والشرقي) وحوسلة الإنسان في الشرق والغرب. وعلى هذا، فإن هذه الرؤية هي نظرية لا تُفسِّر فقط تاريخ أوربا في العصر الحديث وإنما تطمح إلى(2/2)
تفسير تاريخ العالم، وضمن ذلك تاريخ أوربا كجزء من تاريخ العالم في العصر الحديث. بل إننا، عن طريق ربطنا بين العلمانية والفكر الحلولي الكموني باعتباره تعبيراً عن نمط إنساني كامن متكرر (النزعة الجنينية) ، نرى أن النموذج الذي نطرحه له قيمة تفسيرية لكثير من جوانب التاريخ الإنساني.
وفي الأبواب الأخيرة من هذا الجزء سنحاول أن نصل إلى نموذج تفسيري للعلمانية أكثر تركيبية وشمولاً وتكاملاً من النموذج التفسيري السائد والكامن في التعريفات المعجمية المتداولة (الجزئية والشاملة) ، لذا طرحنا هذه التعريفات جانباً بسبب سطحيتها وضيقها واختلاطها، وحبذنا بدلاً من ذلك ما نسميه «التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك أو المتداخل» ودراسة بعض الأنماط المتكررة في الظواهر الاجتماعية. وتتم عملية التعريف هنا من خلال حصر كثير من المصطلحات التي استخدمتها العلوم الإنسانية الغربية لوصف بعض ظواهر المجتمع الغربي الحديث. ثم قمنا بتجريد ما نتصور أنه النموذج الكامن وراء هذه المصطلحات، وذلك من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها إلى أن وصلنا إلى بعض الأنماط المتكررة، ثم قمنا بسك بعض المصطلحات التي ترى أنها ذات مقدرة تفسيرية عالية وتساعد في عملية التفكيك والتركيب. وتكوَّن لنا في نهاية الأمر نموذجاً نتصور أنه أكثر تركيباً وشمولاً وتكاملاً من النموذج السائد، فهو يبيِّن الوحدة الكامنة وراء المصطلحات المتناثرة. وفي نهاية الأمر وضعنا تعريفنا للعلمانية الشاملة استناداً إلى كل هذه العمليات الفكرية.
وقد قسّمنا المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك والمتشابك إلى الأقسام التالية:(2/3)
1 ـ مصطلحات الواحدية الي تؤكد الوحدة بين الطبيعي والمادي من جهة، والإنساني والروحي من جهة أخرى (وحدة [أي واحدية] العلوم ـ التلاقي ـ اتحاد المقدَّس بالزمني) . ثم مصطلحات تؤكد استيعاب الإنسان في منظومة الطبيعة/المادة والواحدية المادية وإعادة صياغته على هديها (التطبيع ـ التحييد ـ هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية ـ المجتمع التكنولوجي أو التكنوقراطي ـ المجتمع ما بعد الصناعي ـ العقل الأداتي ـ العقل النقدي ـ كل الأمور نسبية ـ في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر والمطاف إن هو إلا) . ثم مصطلحات تصف ثمار عملية الاستيعاب هذه (الترشيد في إطار العلمانية الشاملة: العقلانية التكنولوجية أو المادية ـ الحَوْسَلة ـ التعاقدية ـ الجماينشافت والجيسيلشافت ـ الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدي ـ الإنسان ذو البُعد الواحد ـ القفص الحديدي ـ التَسلُّع ـ التوثُّن ـ التشيُّؤ ـ التنميط) .
2 ـ مصطلحات تشير إلى تفكيك الإنسان واختفائه (التفكيك والتقويض ـ نزع القداسة عن العالم: الإنسان والطبيعة ـ نزع السر عن الظواهر ـ كشف حقيقة الأسطورة ـ تحرير العالم من سحره وجلاله ـ تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية ـ إزاحة الإنسان عن المركز ـ إسقاط السمات الشخصية ـ الداروينية الاجتماعية ـ الاغتراب ـ اللامعيارية: اللاعقلانية المادية) .
وهذه المصطلحات تتضمن الموضوعات السابقة بدرجات متفاوتة، فكلها تدور في إطار نموذج واحد، فهي تفترض وحدة الطبيعي والإنساني واستيعاب الإنساني في الطبيعي وهيمنة الواحدية المادية، وهو ما يؤدي إلى تفكيكه. ولكن أحد الموضوعات قد يَغلب على الموضوعات الأخرى، ولهذا فقد أصبح هذا هو أساس تصنيفنا.
3 ـ مصطلحات قمنا بسكها لبلورة النموذج الكامن (العلمنة البنيوية الكامنة ـ المطلق العلماني الشامل ـ اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية) .(2/4)
والمصطلحات السابقة، كلها (باستثناء المصطلحات الثلاثة الأخيرة) استخدمها علماء اجتماع أو مفكرون غربيون لوصف بعض الظواهر في المجتمعات الغربية الصناعية الحديثة، سواء في العالم الرأسمالي أو في العالم الذي كان اشتراكياً. كما نستخدم بعض هذه المصطلحات لوصف بعض الظواهر التي تنشأ في المجتمعات الحديثة في العالم الثالث.
ويمكن أن نُقسِّم هذه المصطلحات إلى مصطلحات نقدية وأخرى وصفية:
1 ـ المصطلحات الوصفية: وهي تلك المصطلحات التي تكتفي بتقديم وصف لبعض جوانب المجتمعات العلمانية وظواهرها مثل «التلاقي» و «التعاقدية» . وهذه المصطلحات يمكن أن تُستخدَم بشكل وصفي محايد خالص دون أي تقييم للظاهرة موضع الوصف. كما يمكن أن تُستخدَم أيضاً بشكل إيجابي، بمعنى أن من يستخدم هذه المصطلحات يرى أن انتشار ظواهر مثل تزايد العلاقات التعاقدية هو أمر إيجابي وفي صالح المجتمع ومن الضروري الإسراع بها. ولكن المصطلحات الوصفية يمكن أن تُستخدَم أيضاً بشكل سلبي (نقدي) ، فيرى من يستخدم المصطلح أن مثل هذه الظواهر ستُقوِّض نسيج المجتمع وتقضي على الإنسان.
2 ـ المصطلحات النقدية: هي المصطلحات مثل «التَشيُّؤ» و «التَسلُّع» التي لا تكتفي بالوصف وإنما تضيف بُعداً تقييمياً يُظهر سلبيات الظاهرة التي يُشار إليها وبُعداً إصلاحياً تبشيرياً. ومن النادر أن نجد من يستخدم مثل هذه المصطلحات بشكل إيجابي، فمن غير المتوقع أن نجد أحداً يدعو صراحةً إلى تَسلُّع الإنسان وتَشيُّئه وتعميق إحساسه بالاغتراب.
ومع هذا، يوجد داخل هذه المصطلحات النقدية عنصر وصفي لظواهر المجتمعات العلمانية. وما فعلناه هو أننا قمنا بتفكيك المصطلحات النقدية إلى ثلاثة عناصر: الأول الرؤية النقدية، والثالث البرنامج الإصلاحي، أما الثاني فهو العنصر الوصفي، أي أننا سنجد عنصراً وصفياً مشتركاً بين جميع المصطلحات (وصفية كانت أم نقدية) .(2/5)
1 ـ الأساس النقدي: تنطلق المصطلحات النقدية من وصف لحالة إنسانية جوهرية (في تصورنا مثالية) تتسم بالتكامل والتركيب والكلية والحرية والمقدرة على الاختيار والتجاوز، وهي حالة مستقلة عن الطبيعة/المادة، مُتميِّزة عنها، متجاوزة لقوانينها (تتحرك في حيزها الإنساني) ، أي أن المصطلحات النقدية تستعيد مفهوم الإنسانية المشتركة وتجعلها المرجعية النهائية وتفترض أسبقية الإنسان على الطبيعة/المادة (فهي استمرار للنموذج الإنساني الهيوماني المتمركز حول الإنسان) ، ومن ثم فهي تستعيد قدراً من الثنائية الفضفاضة. ونفس القول ينطبق على المصطلحات المأساوية والعبثية (مثل «الإنسان ذو البُعد الواحد» و «القفص الحديدي» ) ، فمصدر مأساويتها وعبثيتها هو الحلم بمثل هذه الحالة المثالية والفشل في الوصول إليها.
2 ـ الجانب الوصفي: ثمة انتقال من هذه الحالة الإنسانية الجوهرية المتجاوزة الافتراضية إلى حالة واقعية ومتحققة في المجتمعات العلمانية الحديثة تقوم المصطلحات النقدية بوصفها.
3 ـ البرنامج الإصلاحي: تتحدث المصطلحات النقدية أيضاً عن حالة الانعتاق (حالة مثالية في المستقبل) ، وهي الحالة التي يمكن أن تتحقق فيها الإمكانيات الكامنة في ذات الإنسان (داخل الزمان والمكان) ويتجاوز فيها الإنسان حالة التفتت والتجزؤ (الواقعية المتحققة) التي يعيش فيها في المجتمع الحديث. أما المصطلحات العبثية والمأساوية، فلا تطرح أية رؤية للمستقبل.(2/6)
ولو استبعدنا الأساس النقدي (رقم1) والبرنامج الإصلاحي الانعتاقي (رقم3) وركزنا على الجانب الوصفي (رقم2) من المصطلحات النقدية، لوجدنا أن هذا هو العنصر المشترك بين كل من المصطلحات النقدية والمصطلحات الوصفية. وهو العنصر الذي سنرسم من خلاله ملامح المجتمع العلماني (النماذجي الشامل) ونُجرِّد نموذجنا التفسيري منه. ويمكن تلخيص هذه الملامح ـ استناداً إلى المصطلحات الوصفية والجانب الوصفي في المصطلحات النقدية ـ في صياغة بسيطة جداً: الانتقال من الإنساني إلى الطبيعي/المادي، أي من التمركز حول الإنسان (الواحدية الذاتية) إلى التمركز حول الطبيعة (الواحدية الموضوعية المادية) ، أي الانتقال من تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة إلى تأليه الطبيعة وإذعان الإنسان.
ولكن يمكننا أن نزيد الأمور تفصيلاً بأن نحاول استخدام كل المصطلحات التي أدرجناها سالفاً باعتبارها مصطلحات تصف نفس العملية من زوايا مختلفة:
1 ـ ينتقل مركز الكون من الإنسان (المتجاوز، متعدد الأبعاد، الحر، المسئول أخلاقياً) ، إلى الطبيعة/المادة (المُبرمَجة، الحتمية، الخاضعة لقانون واحد صارم وأية تنويعات عليها مثل: الشيء ـ السلعة ـ السوق/المصنع ـ الدولة ـ العقلانية التكنولوجية ـ الكفاءة البيروقراطية ـ النماذج الكمية) .
2 ـ تُلغَى ثنائية الإنسان والطبيعة (الصلبة) ، وتسود الواحدية المادية إذ أن ثمة قوانين عامة (طبيعية/مادية) تسري على الإنسان سريانها على الطبيعة، أي أن الإنسان يتم تفكيكه ورده إلى عالم الطبيعة/المادة ويتم استيعابه تماماً فيه (أي يتم تطبيعه) ، فتختفي المنظومات القيمية والمعرفية الإنسانية المستقلة عن عالم الطبيعة/المادة والمقصورة على الإنسان.(2/7)
3 ـ يفقد الإنسان أي تميُّز، ويُزاح عن المركز، وتُنزَع عنه القداسة، ويُجرَد من خصائصه الإنسانية، وتُسقَط عنه السمات الشخصية، ويصبح وسيلة لا غاية، ويتم تحييده وترشيده والتوحيد بينه وبين بقية الكائنات الطبيعية/المادية.
4 ـ تخضع الأشياء كافة (ومنها الإنسان) لمنطق العلوم الطبيعية، والنماذج الكمية الرياضية (منطق الأشياء) ليصبح عقله ذاته عقلاً أداتياً قادراً على التفكيك وغير قادر على التركيب أو الوصول إلى جوهر الطبيعة الإنسانية، فيدخل الإنسان إلى القفص الحديدي، أي إلى عالم الحسابات الرشيدة، حيث تتم برمجة الأشياء كافة والتحكم فيها، فتسود العلاقات التعاقدية المحسوبة في المجتمع وتختفي العلاقات التكافلية التراحمية، أي يتم «تهويد» المجتمع، حسب تعبير ماركس، ويتم تشييئ وتسليع الإنسان.
5 ـ الإنسان لا يتسم، حسب تعبير ماركس، بالتركيب أو بالمقدرة على التجاوز؛ فهو كائن بسيط، ذو بُعد واحد، وظيفي، مُنمَّط، مُبرمَج، جزء لا يتجزأ من المادة، مغترب عن جوهره الإنساني.
6 ـ الطبيعة نفسها يتم تحريرها من سحرها وجلالها، ويُنزَع السر عن كل الظواهر، فكل الأمور (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) طبيعية/مادية، كل الأمور نسبية. ولذا يتحول العالم إلى ساحة صراع الإنسان فيها ذئب لأخيه الإنسان والبقاء فيها للأصلح، عالم يتسم باللامعيارية.
7 ـ العالم (الإنسان والطبيعة) عالم واحدي، متشابهة أجزاؤه، لا فارق فيه بين المقدَّس والزمني، لا غاية له ولا هدف ولا معنى، يمكن معرفته والتحكم فيه من خلال هذه المعرفة، هو مادة استعمالية يمكن توظيفها ونقلها (ترانسفير) وحوسلتها، والإمبريالي صاحب القوة هو وحده القادر على غزو العالم وتوظيفه لحسابه.
8 ـ تتلاقى المجتمعات جميعاً (في نهاية الأمر) لتخضع لنموذج الطبيعة/المادة، وتتزايد معرفة الإنسان بقوانين الطبيعة حتى تسود الواحدية المادية والعقلانية التكنولوجية وينتهي التاريخ.(2/8)
وتشير ملامح النموذج الذي جردناه من المصطلحات المختلفة إلى أن ثمة نمطاً متكرراً ونموذجاً كامناً تم رصده من قبَل كثير من المفكرين والأدباء الغربيين (من المدافعين عن التجربة الغربية في التحديث دون تحفُّظ، ومن المتحفظين عليها لأنهم أدركوا بعض جوانبها المظلمة التفكيكية) ، وإلى أن هذا النموذج هو نفسه (في واقع الأمر) العلمانية الشاملة رغم أن أحداً لم يُسمها كذلك. وما فعلناه نحن هو أننا طرحنا التعريفات المعجمية جانباً ودرسنا وصف هؤلاء المفكرين لمعالم النموذج المتحقق في المجتمعات العلمانية الغربية الحديثة، وكذلك المصطلحات التي استخدموها في عملية الوصف هذه. ثم قمنا بعملية تفكيك وإعادة تركيب لها لنبرز ونوضح أبعادها المعرفية (الكلية والنهائية) ، والنموذج الكامن وراءها، حتى نُبيِّن الوحدة الكامنة وراء التعدد، أي أن تعريفنا للعلمانية الشاملة، وللنموذج التحليلي التفسيري المركب الشامل الذي نقترحه، موجود بشكل كامن في الأدبيات الغربية، وفي كثير من الظواهر الصحية والمرضية في المجتمعات الغربية.(2/9)
الباب الرابع: مصطلحات الواحدية والاستيعاب فيها
وحدة (أى واحدية) العلوم
«وحدة (أي واحدية) العلوم» ترجمة للعبارة الإنجليزية «يونيتي أوف ساينس unity of science» والتي قد يكون من الأفضل ترجمتها بمصطلح «واحدية العلوم» . وهي مفهوم أساسي في المناهج البحثية الحديثة يفترض أن ثمة وحدة عامة شاملة تنتظم العلوم كافة (الطبيعية والرياضية والاجتماعية والإنسانية) باعتبار أن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة لا وجود له خارجها، وباعتبار أن ثمة قانوناً واحداً (طبيعياً/مادياً) يسري على جميع الظواهر الإنسانية والطبيعية، أي أن ثمة واحدية كونية مادية. ومن ثم، يرى دعاة وحدة العلوم أن من الممكن دراسة ظاهرة الإنسان مثلما تُدرَس أية ظاهرة أخرى في العالم الطبيعي، كما يمكن أن تُطبِّق على الإنسان نماذج العلوم الطبيعية. فالإنسان، بالنسبة لعالم الاقتصاد الذي يتبنى هذا المنهج، مجموعة من الحاجات (الاستهلاكية) التي تُشبَع، والقوى التي تتحوَّل إلى طاقة إنتاجية تُوظَّف، أي أنه وحدة إنتاجية استهلاكية يمكن تفسيرها في إطار المُدخَلات والمُخرَجات. والإنسان، بالنسبة لعلماء النفس الذين يتبعون نفس المنهج، مجموعة من الدوافع النفسية التي تتبدَّى في سلوك يمكن فهمه وتفسيره عن طريق نماذج تحليلية مادية ومعادلات رياضية تفترض، في نهاية الأمر، أنه (أي الإنسان) جهاز عصبي وغدد وخلايا. وقد تأسست علوم إنسانية تحاول كلها رصد الإنسان بعد استبعاد أية خصوصية أو غائية قد تؤدي إلى عدم الدقة والإبهام وتعوق إجراء التجارب العلمية العامة الصارمة. ويتم تعريف المفاهيم الحاكمة الأساسية (مثل: التَقدُّم ـ التنمية ـ السعادة) بنفس الطريقة وداخل نفس الإطار ومن نفس المنطلقات المادية العلمية.(2/10)
وقد تختلف العلوم الإنسانية في طريقتها ومناهجها قليلاً عن العلوم الطبيعية، وقد تتفاوت في دقتها فيما بينها، ولكنها جميعاً (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) علوم تقوم برصد الحقائق المحسوسة المادية. وهي من خلال رصد الحقائق المادية وتجميعها، تصوغ الفرضيات ثم تصوغ النظريات والقوانين العامة " العلمية " التي تشكل أعلى درجات المعرفة من منظور هذه العلوم. وتتحدد مدى دقة العلوم أو عدم دقتها بمدى قربها أو بعدها عن القوانين المادية الطبيعية العامة. ويمكن التَوصُّل لهذه القوانين، وكذلك معرفتها والإحاطة بها، من خلال الحواس والعقل ومن خلال المحاولة والخطأ. والأمل المعرفي الأكبر في إطار وحدة العلوم هو تزايد الدقة من خلال مزيد من التراكم المعلوماتي إلى أن نصل إلى معرفة كاملة بالظواهر الإنسانية تشبه معرفتنا بالظواهر الطبيعية، ومن ثم يمكننا التوصل إلى القوانين العامة العلمية ويتم التعبير عنها بلغة جبرية أو شبه جبرية ومعادلات رياضية محايدة تماماً، مُعقَّمة من التاريخ والعواطف والزمان والمطلقات والثنائيات.(2/11)
ولا يختلف الأمر كثيراً من الناحية الأخلاقية والاجتماعية فعلى هدي تلك المعرفة العلمية التي توصل إليها الإنسان من خلال العقل والحواس، وعلى أساس افتراض أن ثمة واحدية مادية في الكون لا تُفرِّق بين الإنسان والطبيعة،سيتوصل العقل إلى أحسن الطرق لتأسيس نظم اجتماعية وأخلاقية يمكنه عن طريقها إدارة أمور الإنسان والمجتمع والبنية المادية. فالعلم يمكنه التَوصُّل إلى كل من قواعد الصحة البدنية وقواعد الصحة النفسية بنفس الطريقة العلمية، أي من خلال الحواس والتجريب والعقل. والعلوم الإنسانية هي وحدها التي يمكنها أن تحدد ـ مهتدية بهدي العلوم الطبيعية، وانطلاقاً من منطلقات علمية زمنية لا علاقة لها بما وراء الطبيعة أو بأية مطلقات أو غائيات أو عواطف ـ ما ينفع الناس وما يحقق لهم السعادة وما يُدخل اللذة عليهم، وأن تُحدَّد أسباب البقاء وكيفية تحويل الناس إلى مواطنين نافعين ومنتجين. ومن يرفض فكرة وحدة (أي واحدية) العلوم (بالمعنى الصارم الذي نطرحه) يرفض في واقع الأمر الواحدية المادية، ويرى أن الظاهرة الإنسانية ليست ظاهرة طبيعية مادية محضة.
التلاقى(2/12)
«التلاقي» ترجمة للكلمة الإنجليزية «كونفرجنس convergence» . وهي نظرية ظهرت في الخمسينيات ولكنها تعود بجذورها إلى علماء اجتماع، مثل فيبر وزيميل، يرون أن المجتمعات الحديثة تتطور بطريقة واحدة، وحسب نموذج واحد كامن، وأن التحديث يؤدي إلى ظهور أنماط متشابهة رغم اختلاف نقطة الابتداء الأيديولوجية. وهذا يعود في تصوُّرهما وفي تصوُّر الآخرين إلى أن جوهر التحديث هو الترشيد، في إطار نموذج الطبيعة/المادة، وإلى أن المجتمعات الحديثة (رأسمالية كانت أم اشتراكية) تلجأ إلى عملية ترشيد لكلٍّ من البيئة الاجتماعية وحياة الإنسان من الداخل والخارج. وهذه العملية في جوهرها عملية اختزال لهما حتى يمكن تنظيم المجتمع من خلال التخطيط والتحكم الإداري المركزي في كل مصادره الطبيعية والإنسانية وتوظيفها على أكمل وجه، وهو ما يعني سيادة البيروقراطية والاتجاه نحو تنميط الحياة، أي أن هيمنة البيروقراطية (قفص فيبر الحديدي) هي سمة رئيسية وحتمية في المجتمع الحديث تتجاوز الخلافات الأيديولوجية الظاهرة، ومن هنا الحديث عن «المجتمع الصناعي» وحسب في كثير من الدراسات دون الإشارة إلى توجُّهه الأيديولوجي (الرأسمالي والاشتراكي) . ومن هنا أيضاً الحديث عن «نهاية الأيديولوجيا» و «ما بعد الأيديولوجيا» .
ويفترض مفهوم التلاقي عدم وجود فارق كبير بين كل من المجتمعين الاشتراكي والرأسمالي، كما يفترض أن من الأجدى رصد نقط الاتفاق بينهما. ومعظم المصطلحات التي نحتها أو روج لها كثير من دعاة الماركسية الإنسانية ومفكري مدرسة فرانكفورت مثل: الاغتراب ـ التَشيُّؤ ـ التَسلُّع ـ الإنسان ذو البُعد الواحد، تَصلُح جميعاً لوصف حال الإنسان في كل من المجتمع الصناعي الاشتراكي والمجتمع الصناعي الرأسمالي.
لكن مفهوم التلاقي هذا، رغم أهميته ومقدرته التفسيرية، لم يكتسب المركزية التي يستحقها، ومن ثم لم تتم صياغة نموذج تحليلي مركب شامل لظاهرة التحديث والعلمنة.(2/13)
اتحاد المقدس والزمنى
«اتحاد المقدَّس والزمني» ترجمة لعبارة «يونِتي أوف ذا سيكريد آند تيمبورال unity of the sacred and temporal» . وتَرد عبارات مثل «اتحاد المقدَّس والزمني والمطلق والنسبي والفكرة المطلقة والطبيعة» في كتابات هيجل الذي كان يرى أن التاريخ الإنساني في جوهره حركة متصاعدة نحو التجاوز التدريجي للخلافات بين المقدَّس والزمني بحيث تتحد الروح المطلقة تدريجياً مع المادة وتُعبِّر عن نفسها في الطبيعة والتاريخ وفي كل أشكال الحياة المادية والروحية. ونحن نرى أن هذه طريقة هيجلية مركبة للتعبير عن التراجع التدريجي لأية مرجعية متجاوزة وعن الظهور التدريجي للواحدية الكونية المادية وللمرجعية المادية الكامنة (التي تُعبِّر عن نفسها في الطبيعة والتاريخ) إلى أن تصل إلى مرحلة وحدة الوجود الكاملة، أي الكمون الكامل ووحدة الوجود المادية، أي العلمانية.
ومن هنا، فإن تاريخ الفلسفة الغربية والفكر العلماني والمجتمعات الغربية هو تاريخ هيمنة النماذج الواحدية الكونية المادية والحلولية الكمونية (سواء كانت مدفوعة من قَبل الروح المطلقة أو من قَبل قوانين الحركة) على الفكر والواقع الغربيين.
التطبيع(2/14)
«التطبيع» ترجمة للكلمة الإنجليزية «ناتشورالايز naturalize» بمعنى رد الظواهر إلى الطبيعة/المادة أو إلى القانون الطبيعي، باعتباره مرجعية نهائية كامنة وقانوناً عاماً يسري على كلٍّ من الطبيعة المادية والطبيعة الإنسانية لا يُفرِّق بين أحدهما والآخر. والتطبيع يفترض أن ثمة وحدة كاملة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وأن الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة، رغباته طبيعية (أي مادية) ومعرفته تتلخص في اكتشاف قوانين الحركة أو الطبيعة/المادة (وهي القوانين التي تؤكد وحدة الطبيعي/المادي بالإنساني وتساويهما) . إن ما يحكم الإنسان والطبيعة هو القانون الطبيعي، والإنسان إنسان طبيعي، ومن ثم ليست له مكانة أو منزلة خاصة في النظام الطبيعي إذ أن الطبيعة/المادة لا تعرف هدفاً أو غاية. والنزعة الطبيعية (بالإنجليزية: ناتشوراليزم naturalism) هي القول بأن الإنسان إن هو إلا كائن طبيعي تحركه غرائزه الطبيعية، وسائر مكوناته الحضارية والإنسانية التي تفصله عن عالم الحيوان والطبيعة ما هي إلا قشور سطحية لا علاقة لها بالجوهر الإنساني. ولذا نجد أن المدرسة الطبيعية في الأدب تركز على وصف الواقع الاجتماعي كما هو، وتُظهر أن هذا الواقع يشبه الواقع الحيواني الطبيعي في كثير من النواحي. وقد ارتبطت الطبيعية بالداروينية الاجتماعية، وهي كلها اتجاهات فكرية تعبِّر عن هيمنة نموذج الواحدية الموضوعية المادية.
التحييد(2/15)
«التحييد» من عبارة «تحييد العالم» وهي ترجمة للعبارة الإنجليزية «نيوترالايزيشن أوف ذي ورلد neutralization of the world» وتعني أن العالم يصبح مادة محضة لا تحوي غرضاً ولا غاية ولا هدفاً ولا معنى ولا مركزاً ولا علاقة لها بعالم القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية أو أية معيارية. وحينما ينظر الإنسان إلى هذا الكون بعد تحييده، فهو لا يرى سوى كائنات طبيعية/مادية متساوية ليس لوجودها أي معنى. والإنسان نفسه جزء من هذا العالم المادي المحايد الذي لا يكترث به ولا يمكنه أن يُسقط أحاسيس الإنسان ولا غائياته على هذا العالم. بل إن عليه ألا يمارس أية أحاسيس بالاشمئزاز والاغتراب تجاه عدم الاكتراث الكوني الذي يحيط به، أي أن على الإنسان أن يرى العالم ويرى ذاته في ضوء مرجعية مادية كامنة في الأشياء وفي ضوء المعايير الطبيعية المادية (غير الإنسانية) ، وعليه أن يتخلى عن أية مرجعية متجاوزة كانت أم كامنة، وبذلك فهو يكون قد حيَّد ذاته وحيَّد العالم تماماً وأخذ موقفاً موضوعياً منه.
هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية(2/16)
«هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية» ترجمة للكلمة الإنجليزية «بيروكراتايزيشن bureaucratization» و «كوانتيفيكيشن quantification» . وهي ظواهر متفشية في المجتمع الحديث رصدها علماء الاجتماع الغربيون. ويرى بعضهم أنها ظاهرة حتمية في المجتمعات الصناعية المتقدمة إذ أن مؤسسات هذه المجتمعات مؤسسات ضخمة متشابكة لدرجة كبيرة، وهو ما يعني أن إدارة المجتمع تتم من خلال نماذج بيروقراطية وكمية لا تكترث كثيراً بخصوصيات الأفراد وسماتهم المتعيِّنة (على عكس المؤسسات الوسيطة في المجتمعات التقليدية مثل القبيلة والأسرة) . ولذا، فإن هذه المؤسسات تتحرك وتحاول إعادة صياغة الإنسان الفرد حسب مواصفات عامة كمية تُسقط أبعاده الخصوصية والكيفية التي تعوق أداء البيروقراطيات الحديثة، الأمر الذي يعني تنميط الواقع والبشر. وتحويل المجتمع إلى آلة ضخمة تقرر لكل فرد وظيفته ومكانه، وتحدد (في معظم الأحيان) رغباته وأحلامه. وهذه النماذج البيروقراطية والكمية نماذج واحدية موضوعية مادية صارمة لا تغطي الحياة العامة وحسب وإنما تمتد لتشمل الحياة الخاصة أيضاً.
المجتمع التكنولوجى أو التكنوقراطى
«المجتمع التكنولوجي» أو «المجتمع التكنوقراطي» ترجمة للمصطلح الإنجليزي «تكنولوجيكال أور تكنوكراتيك سوسايتي technological or technocratic society» ، أو «تكنوكراسي technocracy» (حرفياً «حكم التكنوقراط» ) . وقد صاغ مصطلح «التكنوقراطية» المهندس الأمريكي وليام هنري عام 1919، وتعني حرفياً «حكم التكنوقراط» أو «حكم الخبراء الفنيين» . ويعود المفهوم إلى المفكر الاشتراكي الفرنسي سان سيمون الذي تنبأ بظهور مجتمع مثالي (طوباوي) يحكمه العلماء والمهندسون والخبراء، كلٌّ في حقل تخصصه، حيث يتحكمون في المجتمع من خلال سلطة مركزية ويُطبِّقون عليه آخر اكتشافات العلم وتطورات التكنولوجيا لحل مشاكله المادية والاجتماعية والإنسانية.(2/17)
ويرتبط مفهوم التكنوقراطية بمفهوم التلاقي ومفهوم المجتمع ما بعد الأيديولوجي حيث نجد الافتراض بأن المجتمعات الحديثة مجتمعات لا تُدار عن طريق الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية وإنما عن طريق التخطيط الواعي في عالم الاقتصاد والتفكير الإستراتيجي الواعي في أمور الدفاع والتوسع المستمر في البحث العلمي ومراكمة المعرفة بهدف ترشيد الواقع والتحكم فيه، وذلك بتجاوز الانتماءات الأيديولوجية المختلفة. ولذا، فإن القوة الحقيقية لا تُوجَد في يد ممثلي الشعب المنتخبين ولا في يد رجال السياسة ولا حتى في يد البيروقراطية وإنما في يد الخبراء والفنيين. والمصطلح يحمل معنى إيجابياً بالنسبة لمن يؤمن بقدرة العلم والنماذج الطبيعية/المادية على حل كل مشاكل الإنسان دون الرجوع إلى أطر فكرية وفلسفية كلية (الاتجاه الوضعي) .(2/18)
ولكن هناك من يرون عكس ذلك تماماً، فهم يرون أن حكم الخبراء التكنوقراط هو حكم أصحاب عقل أداتي لا يوجد عندهم أي التزام أخلاقي ولا أية معرفة بالكليات، وهؤلاء مستوعَبون تماماً في النماذج الواحدية، المادية والهندسية، التي لا تعرف الثنائيات أو التركيب، وفي الترشيد الإجرائي الذي لا يعرف القيم الإنسانية أو الأخلاقية. فالتكنوقراطي إنسان متخصص في ميدان فني أو علمي معين ويعجز عن إدراك أي شيء إلا من خلال تخصصه بحيث تكون نظرته إلى الأمور دائماً جزئية محدودة رغم ما تدعيه من دقة وانضباط. والخبير التكنوقراطي شخص عظيم الكفاءة والإنتاجية في ميدانه، ولكنه عاجز عن رؤية الصورة الكلية، ولا يخطر بباله أصلاً تغيير المجتمع، لأن التغيير الحقيقي يتطلب الرؤية الشاملة، في حين أن الإنسان التكنوقراطي شخص جامد محافظ. وهو، إلى جانب هذا، إنسان تهيمن عليه نماذج اختزالية (مادية) بسيطة، ولذا فإنه لا يمكنه أن يتعامل مع الإنسان كظاهرة مركبة متميِّزة في عالم الطبيعة/المادة، فهو قد تدرب تماماً على التعامل مع الأشياء ومع الواقع من خلال نماذج اختزالية، وعادةً ما ينتهي الأمر بهؤلاء التكنوقراط (أولئك الذين لا يدركون أية أبعاد كلية أو نهائية) إلى أن يتحولوا إلى أداة إما في أيدي الاحتكارات والمركب العسكري الصناعي في الدول الرأسمالية أو في أيدي النخبة الحاكمة وسكرتارية الحزب في الدول التي كانت اشتراكية. والمجتمع المثالي الذي يؤسسونه مجتمع شمولي رشيد محكوم تماماً (يوتوبيا تكنوقراطية) .
ويجب أن نربط بين التكنوقراطية واتجاهات أخرى في المجتمع الحديث مثل تزايد هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية وظهور علوم جديدة مثل الهندسة الوراثية والاستنساخ. فهذه اتجاهات نحو مزيد من التحكم في العالم ونحو مزيد من تطبيق اكتشافات العلم والتكنولوجيا على الإنسان.
المجتمع ما بعد الصناعى(2/19)
«ما بعد الصناعي» ترجمة لكلمة «بوست إندستريال post-industrial» ، ومنها عبارة «المجتمع ما بعد الصناعي» . وقد استخدم بعض المفكرين هذا المصطلح منذ بداية هذا القرن. ومن أهم هؤلاء النقابي الاشتراكي آرثر بنتي الذي ذهب إلى أن ماركس كان يبالغ أحياناً في التفاؤل بشأن منافع الآليات الجديدة رغم إشارته العابرة إلى بعض آثارها الضارة. ويرى بنتي أن الهدف المباشر للاشتراكية لابد أن يكون إخضاع الآلة لقواعد وأعراف (قيم) مُستخدم الآلة، وإلغاء تقسيم العمل المميِّز للمذهب الصناعي الذي أدَّى إلى تشتيت المهام التي كان يقوم بها الصانع وحده فيما مضى. ومن ثم، كان العمل في الماضي وسيلة لتكامل الشخصية، أما الآن فهو يؤدي إلى تفتيتها.
ويُلاحَظ أن ثمة تأكيداً في أقوال بنتي لأسبقية الإنسان على المادة، وللمرجعية الإنسانية النهائية، فهو يؤمن بإمكانية التغلب على حالة التفتت والاغتراب من خلال العودة إلى المجتمع الحرفي اللامركزي القائم على الورش الصغيرة حيث يسمو العمل بالنفس، وهذا في رأيه هو المجتمع ما بعد الصناعي.
ولكن مصطلح «ما بعد الصناعي» لا يُستخدَم في الوقت الحاضر بنفس المعنى السابق، إذ أصبح مرتبطاً بالجوانب السلبية في المجتمع. فقد وُصف المجتمع ما بعد الصناعي بأنه عالم تنتشر فيه المعلومات ويتقلص فيه الإحساس وتتحكم فيه وسائل الاتصال الإلكترونية في الإنسان. غير أن الاتصالات الكوكبية والعالم كقرية صغيرة (وكل تلك الأمور التي بشر بها مارشال ماكلوهين باعتبارها بداية عصر جديد سعيد) لن تؤدي بالضرورة إلى رفع قدرات الإنسان الإبداعية وسعادته بل قد تؤدي إلى سحقه وتشتُّته وتفتُّته. وقد وصف ألان تورين المجتمع ما بعد الصناعي بأنه مجتمع مُبرمَج، تهيمن عيه قوة تكنوقراطية.
العقل الأداتى(2/20)
«العقل الأداتي» ترجمة للمصطلح الإنجليزي «إنسترومنتال ريزون instrumental reason» ويُقال له أيضاً «العقل الذاتي» أو «التقني» أو «الشكلي» (وهو على علاقة بمصطلحات مثل «العقلانية التكنولوجية» أو «التكنوقراطية» ويقف على الطرف النقيض من «العقل النقدي» أو «الموضوعي «) .
والعقل الأداتي هو العقل الذي يلتزم، على المستوى الشكلي، بالإجراءات دون هدف أو غاية، أي أنه العقل الذي يوظف الوسائل في خدمة الغايات دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان. وهو، على المستوى الفعلي، العقل الذي يحدد غاياته وأولوياته وحركته انطلاقاً من نموذج عملي مادي بهدف السيطرة على الطبيعة والإنسان وحوسلتهما.
وفي محاولة تفسير هيمنة العقل الأداتي على المجتمعات الغربية الحديثة، يرى ممثلو مدرسة فرانكفورت أن أحد أهم أسباب ظهوره هو آليات التبادل المجردة في المجتمع الرأسمالي. فتبَادُل السلع يعني تساوي الأشياء المُتبادَلة، فما يُهِم في السلعة ليس قيمتها الاستعمالية المتعينة وإنما ثمنها المجرد. والأيديولوجيا النابعة من هذا التبادل المجرد هي أيديولوجيا واحدية مادية تمحو الفروق وتُوحِّد الواقع مساويةً بين الظواهر المختلفة بحيث يصبح الواقع كله مادة لا سمات لها. ولم تشكل المجتمعات التي كانت اشتراكية أي بديل، فهي الأخرى سيطر عليها العقل الأداتي متمثلاً في التكنوقراطيات الحاكمة.(2/21)
ولا يُفسِّر ممثلو مدرسة فرانكفورت أصول العقل الأداتي استناداً إلى عناصر مادية أو اقتصادية أو سياسية وإنما يرجعونه إلى عنصر ثقافي حضاري (على طريقة ماكس فيبر) . فالعقل الأداتي ـ حسبما يرى هوركهايمر وأدورنو ـ يعود أولاً إلى الأساطير اليونانية القديمة، وخصوصاً أسطورة أوديسيوس باعتبار أن الإلياذة والأوديسة هما اللبنة الأسطورية الأساسية للوجدان الغربي. وقد جاء في الأوديسا أن أوديسيوس طلب من بحارته أن يضعوا الشمع في آذانهم حتى لا يسمعوا غناء الحوريات، وهو غناء ينتهي بمن يسمعه إلى الاستسلام لهن ولإغوائهن. وطلب منهم أن يقيدوه إلى "صاري" السفينة وأن يزيدوا تقييده كلما ازداد الغناء. وتنتهي الأسطورة بانتحار الحوريات لأن أوديسيوس سمع غناءهن وعرف سرهن.
وتُفسَّر هذه الأسطورة على النحو التالي:
1 ـ علاقة الإنسان بالطبيعة في الأوديسة هي علاقة صراع وهيمنة وليست علاقة توازن. وأوديسيوس وبحارته هم رمز الإنسان الذي يود الهيمنة على الطبيعة.
2 ـ يتم إنجاز هذا الهدف عن طريق إهدار إنسانية الإنسان وتلقائيته، فالبحارة (رمز الطبقة العاملة) يفقدون الصلة تماماً مع الطبيعة، وأوديسيوس (رمز الطبقة الحاكمة) لا يستمع إلى الغناء إلا وهو مقيد إلى الصاري، أي أنه يحلم بالسعادة دون أن يعيشها ويحلم بالطبيعة دون أن يرتبط بها.
3 ـ لا يَنتُج عن هذا انفصال الإنسان عن الطبيعة وحسب وإنما يَنتُج عنه أيضاً انفصال المثال عن الواقع وانفصال الجزء الإنساني عن الكل الطبيعي، وبذا أصبح الإنسان يعيش بعقله في مواجهة البيئة يحاول استغلالها وحسب دون أن يتفاعل معها، أي أن الإنسان الكلي الحي يموت ليحل محله إنسان اقتصادي إمبريالي ميت، لأنه لا يحوي داخله الجوهر الإنساني المتكامل.
4 ـ تنتهي الأسطورة بانتحار الحوريات وموت الطبيعة لأنها فقدت سحرها وقدسيتها.(2/22)
ويرى مفكرو مدرسة فرانكفورت أن جذور العقل الأداتي تعود كذلك إلى المنطق الأرسطي الذي يكشف عن الميل لإخضاع جميع الموضوعات، سواء أكانت عقلية أم جسمية، اجتماعية إنسانية أم طبيعية مادية، لنفس القوانين العامة للتنظيم والحسابات والاستنتاج.
وأخيراً، يذكر هوركهايمر وأدورنو ذاتية ديكارت حين وضع الذات مقابل الموضوع وخلق هذه الثنائية الحادة والصلبة بينهما وكأن الذات يمكن أن تُوجَد مستقلة عن الموضوع، وكأن الموضوع يمكن أن يُوجَد في حد ذاته مستقلاً عن الذات. واستقلال الذات هنا يعني أنها ستُحوِّل الطبيعة إلى مجرد موضوع للتأمل (كما فعل أوديسيوس) يمكن توظيفه وحوسلته والسيطرة عليه. ويُميِّز أدورنو وهوركهايمر بين المحاكاة والإسقاط. فالمحاكاة هي إدراك مركب يحفظ التوازن بين الذات والموضوع كما يحفظ التوتر الخلاق بينهما. أما الإسقاط فهو شكل من أشكال البارانويا إذ يحول البيئة إلى مجرد امتداد للذات.(2/23)
وحركة الاستنارة هي قمة منطق السيطرة والهيمنة (يشيرون لها بأنها «الاستنارة المريضة» و «الاستنارة اللاإنسانية» و «المدنية» في مقابل «الحضارة» ) ، فهي حركة إسقاط لا محاكاة إذ تُلغي الطبيعة تماماً وتُعلن إمكانية السيطرة النهائية من خلال تجريدها من خصائصها الضرورية (قداستها ـ حرمتها ـ أسرارها ـ غيبها) ، وتفتيتها إلى ذرات منفصلة، وإدراكها من خلال مقولات واحدية مادية بسيطة، وإخضاعها للقياس والحساب والتحكم والسيطرة. ولكن المفارقة تكمن في أن الاستنارة بذلك أدركت الإنسان نفسه من خلال مقولات العلوم الطبيعية البسيطة (الموضوعية المادية المنفصلة تماماً عن الذات الإنسانية) . وينتهي الأمر حين يسوي التنوير كل شيء بكل شيء آخر، ويصبح العالم مادة استعمالية خاضعة لمؤسسات العقل الأداتي الإدارية والبيروقراطية وينفلت من أية غائيات إنسانية حتى يصبح قوة مستقلة تماماً لها أجزاؤها وأهدافها التي تتجاوز ما هو إنساني. وتصل هذه الاستنارة اللاإنسانية إلى قمتها في الفاشية التي هي شكل من أشكال البارانويا المتطرفة التي تُسقط الذات الإنسانية على الطبيعة وتُلغي الطبيعة تماماً، فالرأسمالية التقليدية تعتمد على وساطة السوق، ولذا فإن ثمة علاقة ما بين الذات والموضوع، أما الفاشية فتُسقط السوق وتحاول السيطرة الكاملة عليه بشكل مباشر من خلال ممارسة القوة غير المحدودة.
ويمكن القول بأن العقل الأداتي، بعد تبلوره، يتسم بالسمات التالية:
1 ـ ينظر العقل الأداتي إلى الواقع من منظور التماثل ولا يهتم بالخصوصية، ولذا فهو يبحث عن السمات المتماثلة في الأشياء ويهمل السمات التي تميز ظاهرة ما عن أخرى.
2 ـ العقل الأداتي قادر على إدراك الأجزاء، ولذا فهو يفتت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة، ويفككه دون أن يستطيع إعادة تركيبه إلا من خلال نماذج اختزالية بسيطة.(2/24)
3 ـ ينظر العقل الأداتي إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية/المادية الأخرى. وهذا الجزء ليس له ما يُميِّزه عن بقية العالم، ولذا فهو مُستوعَب في كليته في النظام الاجتماعي وفي تقسيم العمل السائد وفي الطبيعة/المادة.
4 ـ العقل الأداتي ينظر إلى الإنسان من منظور العلوم الطبيعية باعتباره شيئاً ثابتاً وكماً واضحاً ووضعاً قائماً لا يحوي أية إمكانيات.
5 ـ العقل الأداتي ينظر إلى الطبيعة والإنسان باعتبارهما مادة استعمالية يمكن توظيفهما وحوسلتهما لخدمة أي هدف.
6 ـ الهدف النهائي من الوجود هو الحفاظ على بقاء الذات وهيمنتها وتفوقها (ومن هنا تسميته بالعقل الذاتي أيضاً) .
7 ـ لتحقيق هذا الهدف، يلجأ العقل الأداتي إلى فرض المقولات الكمية على الواقع وإخضاع جميع الوقائع والظواهر (الطبيعة والإنسان) للقوانين الشكلية والقواعد القياسية والنماذج الرياضية، حتى يمكن التحكم في الواقع (ويصل هذا إلى ذروته في الفلسفة الوضعية) .
ينتج عن هذا ما يلي:
1 ـ أن العقل الأداتي يصبح عاجزاً تماماً عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والتاريخية في سياقها الشامل الذي يتخطى حدوده المباشرة، بل إنه يعجز تماماً عن إدراك غائيات نهائية أو كليات متجاوزة للمعطيات الجزئية الحسية والمعطيات المادية الآنية (ولذا، يمكن تسميته بالعقل الجزئي) وهو ما يعني أنه يصبح عاجزاً تماماً عن تحقيق أي تجاوز معرفي أو أخلاقي.
2 ـ لهذا السبب نفسه، يصبح العقل الأداتي غير قادر على تَجاوُز الحاضر للوصول إلى الماضي أو استشراف المستقبل، أي أن العقل الأداتي يسقط تماماً في اللازمنية واللاتاريخية.(2/25)
3 ـ مع غياب أية مقدرة على إدراك الكل المتجاوز وأية أسس تاريخية ورؤى مستقبلية، أي مع غياب أية أرضية معرفية ثابتة، يمكن أن تستند إليها معايير عامة، يسقط العقل الأداتي تماماً في النسبية المعرفية والأخلاقية والجمالية إذ تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم تظهر حالة من اللامعيارية الكاملة. ومع هذا، يمكن القول بأن النموذج الكامن والمهيمن على الإنسان يصبح، مع تساوي الأمور، هو: الطبيعة/المادة ـ السلعة ـ الشيء في ذاته ـ علاقات التبادل المجردة.
4 ـ لكل هذا، يصبح العقل الأداتي قادراً على شيء واحد: قبول الأمر الواقع والتكيف مع ما أمامه من وقائع قائمة وأحداث وجزئيات وظروف القهر والقمع والتنميط والتشيؤ والاغتراب، وهو ما يعني تثبيت دعائم السلطة وعلاقات القوة والسيادة القائمة في مجتمع معين وكبح أية نزعات إبداعية تلقائية تتجاوز ما هو مألوف.
5 ـ لكل هذا، تحوَّل العقل، رغم تحرُّره من الأساطير، إلى قوة عقلانية تحاول السيطرة على الطبيعة والإنسان وترشيد الحياة بشكل يؤدي إلى نفي الحرية تماماً (كما يتبدَّى في بنَى التسلط الرشيدة الحديثة) . ولذا نجد أن التقدم أدَّى إلى عكسه وأن التنوير أدَّى إلى الشمولية والمجتمعات الحديثة التي تسعى إلى الفردية همَّشت الفرد، وأنها في طريقها إلى شكل من أشكال البربرية تتقدم بخطى حثيثة "نحو الجحيم". وما جرى في معسكرات الإبادة النازية إن هو إلا جزء عضوي من هذه المسيرة الشيطانية.(2/26)
وقد رصد يورجين هابرماس (1929ـ) ، آخر ممثلي مدرسة فرانكفورت، ظاهرة العقل الأداتي وترويض الإنسان في المجتمعات الحديثة وسماها «استعمار عالم الحياة» (أي عالم الوجود المُتعيِّن المُعاش الذي تُوجَد فيه الذات وتتفاعل معه وتستمد وجودها منه) . فالترشيد الأداتي والحوسلة المتزايدة لمجالات متنامية في الحياة الاجتماعية، من قبَل الأنظمة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والإدارية، يؤدي إلى استعباد الإنسان وإلى تقليص عالم الحياة وهيمنة عالم الأداة واستبعاد كثير من جوانب حياته الثرية وإمكانياته الكامنة المتنوعة (أي أن العقل الأداتي يؤدي إلى هيمنة الواحدية الموضوعية المادية، إن أردنا استخدام مصطلحنا) .
العقل النقدى
«العقل النقدي» ترجمة للمصطلح الإنجليزي «كريتيكال ريزون critical reason» و «العقل النقدي» هو المفهوم الأساسي في كتابات مفكري مدرسة فرانكفورت (النظرية النقدية) ويُقال له أيضاً «العقل الكلي» أو «العقل الموضوعي» (مقابل «العقل الأداتي» أو «العقل الجزئي» و «العقل الذاتي» ) . وكلمة «نقدي» هنا مبهمة إلى حدٍّ ما، وتعود إلى مفهوم كانط في النقد. فكانط كان يرى عمله باعتباره جزءاً من المشروع التنويري الغربي الذي رفض جميع الحجج التقليدية القائمة وأخضع كل شيء للنقد. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد وإنما أخذ خطوة للأمام وأخضع العقل للعملية النقدية نفسها، أي أن كانط أخضع أداة الاستنارة الكبرى للنقد وبيَّن حدودها الضيقة، متجاوزاً بذلك عقلانية عصر الاستنارة، أي أن هناك عقلانيتين: عقلانية مباشرة سطحية، وعقلانية أكثر عمقاً، وهذا هو الذي ترجم نفسه إلى عقلانية العقل الأداتي وعقلانية العقل النقدي.
ويتسم العقل النقدي بما يلي:(2/27)
1 ـ ينظر العقل النقدي إلى الإنسان لا باعتباره جزءاً من كل أكبر منه يعيش داخل أشكال اجتماعية ثابتة معطاة، مُستوعَباً تماماً فيها وفي تقسيم العمل القائم، وإنما باعتباره كياناً مستقلاً مبدعاً لكل ما حوله من الأشكال التاريخية والاجتماعية.
2 ـ العقل النقدي يدرك العالم (الطبيعة والإنسان) لا كما تدركه العلوم الطبيعية، باعتباره مُعطَى ثابتاً ووضعاً قائماً وسطحاً صلباً، وإنما يدركه باعتباره وضعاً قائماً وإمكانية كامنة.
3 ـ العقل النقدي لا يقنع بإدراك الجزئيات المباشرة، فهو قادر على إدراك الحقيقة الكلية والغاية من الوجود الإنساني.
4 ـ العقل النقدي قادر على التعرف على الإنسان ودوافعه وإمكانياته والغرض من وجوده.
5 ـ العقل النقدي، لكل ما سبق، قادر على تَجاوُز الذات الضيقة والإجراءات والتفاصيل المباشرة والحاضر والأمر الواقع (ولذا يمكن تسمية «العقل النقدي» بـ «العقل المتجاوز» ) . فهو لا يذعن لما هو قائم ويتقبله وإنما يمكنه القيام بجهد نقدي تجاه الأفكار والممارسات والعلاقات السائدة والبحث في جذور الأشياء وأصولها وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح (وهذا هو الجانب التفكيكي في العقل النقدي) .
6 ـ الحقيقة الكلية التي يدركها العقل النقدي والإمكانيات الكامنة ليست أموراً مجردة متجاوزة للإنسان (الفكرة الهيجلية المطلقة) وإنما هي كامنة في الإنسان ذاته، والعقل النقدي قادر على رؤيتها في كمونها هذا (أي أن الإنسان يحل محل الفكرة المطلقة) .
7 ـ لكل هذا، فالحقيقة لا تُوجَد في الواقع بذاته وإنما تقع بين الواقع الملموس (كما يحدده المجتمع من جهة) والخبرة الذاتية من جهة أخرى. ولذا فالوضع الأمثل هو وضع التوازن بين الذات والموضوع وهذا ما يقدر على إنجازه العقل النقدي وما يفشل فيه تماماً العقل الأداتي.(2/28)
8 ـ التاريخ هو عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية، أي أن التاريخ هو الذي يُردُّ إلى الإنسان (خالق التاريخ) وليس الإنسان هو الذي يُردُّ إلى التاريخ. ولذا، فإن المجتمع في كل لحظة هو تجل فريد للإنسان؛ وتحقق الإمكانية الإنسانية في التاريخ هو الهدف من الوجود الإنساني.
9 ـ يمكن إنجاز عملية انعتاق الإنسان من خلال التنظيم الرشيد للمجتمع (المبني على إدراك الإمكانية الإنسانية) من خلال الترابط الحر بين أفراد، عند كل منهم نفس الإمكانية لتنمية نفسه بنفس الدرجة وبذا يمتنع الاستغلال.
10 ـ بإمكان العقل النقدي أن يساهم في هذه العملية من خلال الجهد التفكيكي الذي أشرنا إليه. ويمكنه أيضاً القيام بجهد تركيبي إبداعي، فهو قادر على التمييز بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي، وعلى صياغة نموذج ضدي لا انطلاقاً مما هو مُعطَى وإنما مما هو مُتصوَّر وممكن في آن واحد ويمكن على أساسه تغيير الواقع، أي أن العقل النقدي يطرح أمام الإنسان إمكانية تَجاوُز ما هو قائم دائماً انطلاقاً من إدراكه لما هو ممكن داخله، أي أنه يفتح باب الخلاص والتجاوز أمام الإنسان وهو عكس التكيف والإذعان للأمر الواقع (على طريقة العقل الأداتي) .(2/29)
ورغم أن مفكري مدرسة فرانكفورت لم يصرحوا بهذا، فيمكن القول بأن الحقيقة الكلية التي يتحدثون عنها هي حقيقة ثابتة، وأن الغاية الإنسانية التي يتحدثون عنها هي غاية نهائية، فكأنهم يعارضون ما هو ثابت ونهائي وكامن ويضعونه مقابل ما هو متغيِّر وآلي وظاهر. ورغم حديثهم الدائم عن المادية والتاريخية، فهم أكثر تركيباً من ذلك. فالكل الاجتماعي الذي يتحدثون عنه والإمكانية الإنسانية الكامنة التي يتعرفون عليها والكل الإنساني الذي لا يمكن فهمه إلا من منظور الغائية الإنسانية الكامنة فيه، هذه كلها ليست مفاهيم علمية مادية وإنما هي مفاهيم فلسفية متجاوزة لعالم الطبيعة/المادة. لكل هذا، يُطلَق على مدرسة فرانكفورت اصطلاح «إنسانية (هيومانية) ميتافيزيقية» ، أي أن مقولة الإنسان تصبح مقولة متجاوزة لقوانين الطبيعة/المادة. وانطلاقاً من هذا، فإن مفكري مدرسة فرانكفورت يذهبون إلى أن آلية الخلاص ليست الطبقة العاملة وإنما المثقفون القادرون على التعرف على الإمكانيات الكامنة في الإنسان وعلى رؤية الماضي والحاضر والمستقبل، ثم يضيفون إلى المثقفين "أكثر العناصر تطوراً في الطبقة العاملة" (أي أكثر العناصر اقتراباً من المثقفين؟) .(2/30)
ويظهر التحليل الفلسفي مقابل التحليل العلمي المادي في رؤيتهم لليبرالية وعلاقتها بالفاشية. فالليبرالية، ابنة عصر الاستنارة، تدور حول المصلحة الآنية والعقل الذاتي (الأداتي) ويتم التناسق في المجتمع من خلال اليد الخفية التي لا يتحكم فيها أحد، والتي تتجلى بشكل متبلور في السوق وآليات العرض والطلب والبيع والشراء، أي أن ثمة غياباً كاملاً لأي إدراك للإمكانيات الإنسانية الكامنة وللغائية الإنسانية. ولذا، فإن العلوم الطبيعية والحسابات الكمية الصارمة تسيطر دون اعتبار لما هو إنساني. وحينما يدخل المجتمع الليبرالي مرحلة الأزمة، تحل الدولة محل اليد الخفية وتستمر في إدارة المجتمع بنفس الطريقة دون أي اعتبار لأية غائية إنسانية، ويسيطر العقل الأداتي تماماً. فآليات السوق ليست السبب في تَحوُّل الليبرالية إلى فاشية، ولكن السبب الحقيقي هو هيمنة العلوم الطبيعية والمنطق الكمي. وبهذا المعنى، فإن الفاشية كامنة في الليبرالية وكلاهما كامن في فكر حركة الاستنارة.
كل الأمور نسبية(2/31)
«كل الأمور نسبية» ترجمة للعبارة الإنجليزية «أول ثنجز آر ريلاتيف all things are relative» وهي عبارة أساسية في الخطاب العلماني سواء في الشرق أو في الغرب، لا يدرك كثيرون تضميناتها المعرفية والأخلاقية. وهي تعني عدم وجود مطلقات ثابتة أو متجاوزة للعالم الطبيعي المادي (فهي الحياة الدنيا ليس إلا) ومن ثم لا يمكن الوصول إلى أي يقين معرفي، فالحقيقة نسبية. ومع غياب الحقيقة لا يمكن أن يكون هناك حق ولا يمكن التوصل إلى أية قيم أخلاقية فكل القيم الأخلاقية نسبية، وهذا يعني في واقع الأمر غياب المعيارية واختفاء أية إنسانية مشتركة ومن ثم سقوط مفهوم الإنسانية نفسه، إذ كيف يمكن أن يكون هناك مفهوم للإنسان دون أية معيارية معرفية أو أخلاقية؟ وكل هذا يعني نزع القداسة عن الأشياء كافة وتَساوي الإنسان بكل الكائنات وألا تكون له أية مكانة خاصة في الكون، أي أن يصبح الإنسان شيئاً ضمن الأشياء، تسري عليه القوانين الطبيعية/المادية، وتهيمن عليه الواحدية المادية.
فى التحليل الأخير، وفى نهاية الأمر والمطاف، إن هو إلا(2/32)
«في التحليل الأخير، وفي نهاية الأمر والمطاف، إن هو إلا» ترجمة للعبارة الإنجليزية «إن ذي لاست أناليسيس، إت إز ناثنج بات in the last analysis, it is nothing but» وهي عبارة تَرد في الخطاب العلماني الاشتراكي أو الرأسمالي، وإن كانت أكثر شيوعاً في الخطاب الاشتراكي. وهي تعني أن الظواهر مهما بلغت (ومنها الظواهر الإنسانية) من تركيب وتشابك فيمكن أن تُرَدَّ (في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر والمطاف) إلى ما هو دونها. وتستمر عملية الرد حتى نصل إلى المبدأ الواحد: الطبيعة/المادة الذي يحوي داخله مصدر التماسك والحركة للنسق، فيُرَدُّ البناء الفوقي بكل ما فيه من أفكار وطموحات إنسانية وحلم بالتجاوز إلى البناء التحتي المادي أو أيٍّ من المطلقات العلمانية المادية الطبيعية (الخصائص البيولوجية ـ الصفات الوراثية ـ البيئة الاجتماعية ـ شهوة التملك ـ إرادة القوة) . قد يختلف مضامين البنية الفوقية وتتنوع ولكن البنية التحتية المادية الواحدية تظل هي الأصل، ومن ثم يمكن القول بأن الإنسان وكل منتجاته الحضارية «إن هو إلا مادة» ، وهذه هي نفسها عملية التفكيك.
ورغم أن الخطاب الليبرالي أكثر صقلاً على مستوى القول، إلا أنه على مستوى البنية الفعلية يدور في نفس الإطار، فالمفهوم النفعي للأخلاق ونماذج التنمية التي تصدر عن رؤية اقتصادية محضة وتأكيد الملكية الشخصية وتصوُّر أن آليات السوق (اليد الخفية) هي التي تأتي بالتناسق للمجتمع من تلقاء نفسها هي جميعاً مفاهيم تدل على أن كل ما هو إنساني يُرَدُّ في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى المادة، فكل ما هو إنساني إن هو إلا مادي.
الترشيد فى إطار العلمانية الشاملة (العقلانية التكنولوجية أو المادية (
من المفاهيم الأساسية التي استُخدمت لدراسة المجتمعات الحديثة مفهوم الترشيد. وكلمة «يُرشِّد» لها عدة معان:(2/33)
1 ـ يُسوِّغ أو يُبرِّر، بمعنى: يُفسِّر المرء سلوكه بأسباب معقولة أو مقبولة ولكنها غير صحيحة.
2 ـ ومن المعاني الأخرى المتواترة لكلمة «يُرشِّد» : يُوظِّف الوسائل بأكثر الطرق كفاءة لخدمة أهداف معينة.
وهذان المعنيان للكلمة ينصرفان إلى الوسائل وحسب. ولكن هناك معنيين آخرين يؤكدان أن الترشيد ليس مسألة خاصة بالوسائل وحسب، بل تخص الموضوع أيضاً:
3 ـ يستعيض عن التفسير الغيبي لشيء ما بتفسير طبيعي (مطابق للمبادئ العقلية ولقوانين الطبيعة/المادة (.
4 ـ يجعل الشيء مطابقاً للمبادئ العقلية والمادية.
وقد ميَّز ماكس فيبر بين نوعين من الترشيد:
1 ـ «فيرت راتيونيل wertrationell» ، وتُترجَم إلى عبارة «رشيد في علاقته بالقيم» (أو «الترشيد المضموني» ) ، وهو يعادل (تقريباً) «الترشيد التقليدي» الذي يعني ألا يتعامل المرء مع الواقع بشكل ارتجالي وجزئي وإنما يتعامل معه بشكل منهجي متكامل، ومتسق مع مجموعة من القيم الأخلاقية المطلقة والتصورات المرجعية المسبقة التي يؤمن بها. وعملية بناء الهرم الأكبر والفتح الإسلامي من العمليات التي لا يمكن إنجازها إلا من خلال هذا النوع من الترشيد.(2/34)
2 ـ «زفيك راتيونيل zweckrationnel» ، وتُترجَم إلى عبارة «رشيد في علاقته بالأهداف» (أو «الترشيد الشكلي أو الإجرائي» أو «الترشيد الأداتي» ) ، وهو الترشيد (المادي) الحديث المتحرر من القيم، والموجَّه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التي تروق له أو حسبما تمليه رغباته أو مصلحته. والترشيد الشكلي يتعلق بالكفاءة التكنولوجية وتوفير أفضل الوسائل والتقنيات لتحقيق الأهداف (أية أهداف) بأقل تكلفة ممكنة وفي أقصر وقت ممكن، وكلما كانت الوسائل أكثر فعالية كان الفعل أكثر رشداً من الناحية الشكلية أو الإجرائية. فالترشيد التقليدي (المضموني) يتم في إطار المطلق الديني أو الأخلاقي أو الإنساني والمرجعية المتجاوزة، أما الترشيد الحديث (الشكلي) فهو متحرر من القيمة (الدينية والأخلاقية والإنسانية) ويدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، فلا علاقة له بأي مطلق. وهو منفصل عن الأهداف والمشاعر والغائيات الإنسانية (خيِّرة كانت أم شريرة (.
ولكن هذا ادعاء أيديولوجي ليس له ما يسانده، فثمة منظومة أيديولوجية (معرفية وأخلاقية) كاملة تتم في إطارها أية عملية من عمليات الترشيد. وفي حالة الترشيد الذي يدَّعي التجرد من القيمة فإنه عادةً ما يفترض الطبيعة/المادة مرجعية نهائية له.
ويمكن القول بأن الترشيد المادي يتم في خطوتين:
1 ـ سحب الأشياء من عالم الإنسان ووضعها في عالم مستقل يُسمَّى عالم الأشياء المادية: الاقتصادية ـ السياسية ـ السلع (ترشيد البنية المادية والاجتماعية (.
2 ـ ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد إذ يتم سحب الإنسان ذاته من عالم الإنسان ووضعه هو الآخر في عالم الأشياء. ثم يسود منطق الأشياء على كل من الأشياء والإنسان، ويسري قانون طبيعي مادي واحد على الإنسان والطبيعة (ترشيد الإنسان) . (وهذا هو التَشيُّؤ الذي تشير إليه بعض الأدبيات الغربية التي تتناول ظاهرة التحديث، ولكن هذا هو أيضاً من أشكال العلمانية الشاملة (.(2/35)
ويمكن أن نتناول هذه العملية بشيء من التفصيل ولنبدأ بترشيد المجتمع الإنساني في الإطار المادي. يمكن القول بأن الترشيد المجرد من القيمة هو في واقع الأمر إعادة صياغة للمجتمع ككل عن طريق تفكيكه واستبعاد سائر العناصر المركبة التي تستعصي على القياس (العناصر الإنسانية أو الربانية) التي يتركب منها، وإعادة تركيبه على هدي المعايير العقلية والعلمية الواحدية المادية، ومن ثم يتوافق هذا الواقع الاجتماعي مع القوانين العلمية الواحدية الصارمة ويخضع للاختبارت والإجراءات الكمية وللقياس، فهو يمحو سائر الثنائيات الفضفاضة (التي تفترض وجود أكثر من جوهر وأكثر من قانون) ويستبعد كل الخصوصيات والمنحنيات الخاصة للظاهرة (التي تتحدى القانون العام) ويرفض كل المطلقات (التي تشكل تجاوزاً للقانون المادي الواحد العام وخرقاً له وتشكل عدم استمرار في الكون) وينكر كل المعايير الأخلاقية الثابتة (فهي خارجة عن الظاهرة المادية موضع الدراسة) ويتعامل مع المحدود ومع ما يُقاس (فاللامحدود وغير المقيس لا يمكن تطبيق النماذج الكمية عليه) .(2/36)
ثم يتم الشيء نفسه على مستوى الإنسان الفرد، باطنه وظاهره، فالعقل الإنساني هو الذي يقوم بعملية التفكيك والتركيب إلا أنه عقل مادي مرجعيته هي الطبيعة/المادة. ولذا قد تبدأ عملية الترشيد في إطار الطبيعة/المادة بتأكيد العقل، ولكن مع تَزايُد هيمنة المرجعية الموضوعية المادية واختفاء المرجعية الإنسانية تماماً، يختفي العقل وتظهر مرجعيات مادية عديدة متساوية متصارعة. فكل مجال من مجالات النشاط الإنساني يصبح مرجعية ذاته، له قيمه المستقلة الذاتية ومنطقه الداخلي المتميِّز، ويصعب على المرء تمييز أي مبدأ واحد أو مجموعة من المبادئ ذات المقدرة التوحيدية التي بوسعها تزويد الإنسان برؤية متكاملة. وبالتالي، تَبعُد دوائر النشاط الإنساني بعضها عن بعض، حيث يصبح لكل منها مركزها ومعياريتها ومرجعيتها، فيختفي المركز ويظهر عالم بلا مركز ولا معايير ولا مرجعية. وهنا تستقل قواعد الترشيد عن الإنسان، وتصبح مرجعية ذاتها وتتحول الوسائل إلى غايات، ويتم الترشيد في إطار مجموعة من القيم النسبية المتغيرة لا يُوجَد فيها مطلق، أو تُوجَد فيها مطلقات غير إنسانية (تنويع على الطبيعة/المادة) وبذلك تتحول عملية الترشيد وتفقد أية مرجعية ويصبح الترشيد هو أن يركز الإنسان تماماً على الإجراءات (كيف يُنجز هذا؟) وأن يُسقط الأهداف (لماذا يُنجز هذا؟ (.
وتنتقل عملية الترشيد المادية من المجتمع وظاهر الإنسان الفرد إلى باطنه، أي تُطبَّق عليه هو الآخر الواحدية المادية فتستبعد أية خصوصية أو تركيبية أو عناصر إنسانية (غير طبيعية/مادية) متميِّزة عن حركة الطبيعة/المادة ولذا تؤدي عملية الترشيد إلى أن يُحيِّد الإنسان نفسه ويُسكت أية تساؤلات أخلاقية تتصل بالخير والشر، وما هو مشروع أو غير مشروع. ونظراً لانشغال الإنسان بالإجراءات فهو لا يُعمل ضميره بل حتى عقله (أي أن عملية الترشيد تؤدي إلى فقدان الإنسان لرشده! (.(2/37)
إن الترشيد الإجرائي يفترض عالماً مادياً تماماً الإنسان فيه مادة سلبية تكاد تكون ميتة، مفعولاً به وليس فاعلاً، (ولذا فنحن نسمي هذا النوع من الترشيد «تدجيناً» ) ، ونظراً لأن الترشيد ليس له أية غائيات إنسانية فإن الإنسان يدرك بالتدريج أنه أصبح مجرد وسيلة بعد أن كان غاية، وأن عقله عقل أداتي إجرائي، عالم تكون فيه قوانين اللعبة (أو أخلاقيات الصيرورة) أكثر أهمية من نوع اللعبة أو الهدف منها (وهذا النوع من الترشيد هو الذي سيُهيمن على عصر ما بعد الحداثة واختفاء المركز (.(2/38)
في هذا الإطار أصبحت الطبيعة غير الواعية هي المرجعية والمركز، فانفصلت النزعة التجريبية (التي مركزها المادة) عن النزعة العقلية الإنسانية (التي مركزها الإنسان) إلى أن تحررت تماماً منها، وحقق العلم الغربي انتصاراته الضخمة بسبب حياده وموضوعيته الرهيبة، وانفصاله عن القيم، وهو ما يعني في واقع الأمر تَجاهُل الإنسان وغائياته وقيمه ومثالياته ومطلقاته وتبني مُثُل النفعية الداروينية. ولعل مصطلح «العقلانية التكنولوجية أو المادية» يصف إلى حد ما ما نحاول الإفصاح عنه. وقد طرح العلم نفسه باعتباره القادر على الإتيان بالحلول العلمية الأكيدة لكل المشاكل المادية وغير المادية (وهي غير مادية بشكل ظاهر وحسب، فكل شيء في نهاية الأمر مادي) . وادعى العلم أنه مصدر القيمة وأنه القادر على تزويد الإنسان بالرؤية السليمة للأشياء، وأنه سيحقق للإنسان السعادة والخلاص والتحكم الكامل في الطبيعة وتسخيرها لصالحه بل هزيمتها تماماً. ولكن كل هذا لن يتحقق إلا إذا قَبل الإنسان العلم هادياً ومرشداً ودليلاً، وسلم له أمره وتبنى منهجه ومعاييره وقيمه وغائياته وطبَّقه على واقعه بشكل منهجي متكامل وتخلَّى عن أية غائيات إنسانية أو تساؤلات أو محاولات للتجاوز، ومن هنا تم تهميش العقل البشري. وبدلاً من أن يحاول الإنسان تَجاوز ذاته الطبيعية والطبيعة المادية، أصبحت مهمته أن يتبعها، وأن يعيد صياغة الواقع الإنساني حسب قوانين الطبيعة/المادة التي يتلقاها جاهزة من العلم والعلماء. وتم تحييد الإنسان وتدريبه على قبول المبادئ العامة المجردة المتجاوزة للإنسان دون تساؤل، ومن ذلك المبادئ العلمية وغيرها من المجردات، بحيث يخضع العقل تماماً لمنطق الأشياء ويرى أن لكل شيء منطقه ومرجعيته الذاتية التي تتفق مع المرجعية المادية العامة، التي تَجبُّ سائر المرجعيات، ومنها المرجعية الإنسانية نفسها. ولا يمكن للإنسان أن يحقق لنفسه قدراً من الحرية إلا من خلال(2/39)
الخضوع لهذه المرجعية الموضوعية المادية (وهذا ما افترضه إسبينوزا من البداية من خلال عالمه الهندسي المحايد وافترضه من بعده داروين والماركسيون والوضعيون المنطقيون (.
ويرى ماكس فيبر أن ثمة عناصر فريدة داخل الحضارة الغربية (غائبة في الحضارات الأخرى) جعلتها تتجه نحو مزيد من الترشيد، وأن هذا الاتجاه هو السمة الأساسية لهذه الحضارة، وما يُميِّزها عن غيرها من الحضارات. ويُعرِّف فيبر عملية الترشيد المادي المستمرة بأنها عملية تنميط وفرض النماذج الكمية والبيروقراطية على الواقع (المادي والإنساني) حتى يمكن توظيفه، وهي عملية ستزداد وتائرها إلى أن يصل الترشيد إلى قمته الشاملة الإمبريالية فتتم السيطرة على كل جوانب الحياة ويتحكم الإنسان في الواقع وفي نفسه، ويتحول المجتمع إلى آلة بشرية ضخمة (ولذا يُعرِّف فيبر الترشيد بأنه تَحوُّل المجتمع بأسره إلى حالة المصنع، وهذه هي لحظة نهاية التاريخ والفردوس الأرضي) . وهذه الآلة تجبر الأفراد على أن يشغلوا أماكن محدَّدة لهم ومقررة مسبقاً، ويقوموا بأدوار مرسومة. وهذه البيئة الآلية ستزيد ولا شك الفعالية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع زيادة كبيرة، ولكنها تهدد الحرية الفردية وتُحوِّل المجتمع إلى «قفص حديدي» ، وخصوصاً أن الفرد في المجتمع الحديث هو فرد مفتقد للمعنى، ومن ثم فهو شخصية هشة من الداخل لا تشعر بالأمن ولا بالمقدرة على التجاوز، فهي لا تقف على أرضية صلبة من المعنى. (وقد وردت عبارة «القفص الحديدي» بأشكال أخرى في كتابات جورج لوكاتش وجورج زيميل. كما أن صورة العالم كقفص حديدي صورة متواترة في الأدب الحداثي ((2/40)
ويرى مفكرو مدرسة فرانكفورت أن تَصاعُد معدلات الترشيد في المجتمع أدى إلى اختفاء الفرد والقيم الثقافية والروحية والعقل النقدي القادر على التجاوز حتى أصبح الإنسان كائناً ذا بُعد واحد (هربرت ماركوز) يرتبط وجوده بالاستهلاك والسلع (فهو إنسان مُتسلِّع مُتشيِّئ) . عقله أداتي، ينشغل بالوصف والرصد وإدراك الآليات، عاجز تماماً عن إدراك الأغراض النهائية. أما هوركهايمر وأدورنو، فقد ذهبا في كتابهما ديالكتيك الاستنارة إلى أن الترشيد المتزايد للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث قد أدى إلى تناقص استقلال الفرد وإلى تنميط الحياة. وأدى، في نهاية الأمر إلى الشمولية والعنصرية وإلى الواقع المتمثل في أن الرأسمالية ترجمت مُثُل الاستنارة إلى واقع معسكرات الاعتقال، المنضبط والتي تمت فيها الهيمنة الكاملة على الإنسان.
ويرى أدورنو أن الترشيد كان من المفروض أن يؤدي إلى الحرية والعدالة والسعادة ولكنه أدَّى إلى نتيجتين متناقضتين (انعتاق الإنسان من أسر الضرورة المادية، وتَسلُّعه وتَشيُّئه في الوقت نفسه) . بل إن العقل نفسه (أداة الترشيد) تحوَّل إلى قوة غير عقلانية وغير رشيدة تسيطر على كلٍّ من الطبيعة والإنسان، أي أن ترشيد الحياة الاجتماعية أدَّى إلى نفي الحرية تماماً، كما يتبدَّى ذلك في قوى التسلط الرشيدة الحديثة.(2/41)
ويرى هابرماس أن الحضارة الحديثة تتسم بالتركيز الشديد على التكنولوجيا (كأداة للتحكم) بدلاً من التركيز على الهرمنيوطيقا أو التفسير، وتوسيع نطاق التفاهم والتواصل بين الناس. لكل هذا، تم تهميش الاتجاهات التأملية والنقدية والجمالية في النفس البشرية. ولهذا يرى هابرماس أن هذا التركيز الأحادي (الذي هو في جوهره سيادة العقل الأداتي والواحدية الموضوعية المادية) يعني أن الإنسان لا يستخدم كل إمكانياته الإنسانية (النقدية والجمالية ... إلخ) في تنظيم المجتمع، ويركز على الترشيد على هدي متطلبات النظم الإدارية الاقتصادية والسياسية التي يُفترض فيها أنها ستزيد تحكمه في الواقع. ويؤدي كل هذا بالطبع إلى ضمور حياة الإنسان ويصبح الترشيد هو «استعمار عالم الحياة» ، على حد قول هابرماس.
ومؤخراً أشار المؤلف المسرحي (رئيس جمهورية التشيك) فاكيلاف هافل إلى ما سماه «إسكاتولوجيا اللاشخصي» ، وهو اتجاه نحو ظهور القوى اللاشخصية والحكم من خلال آليات ضخمة مثل المشروعات الضخمة والحكومات التي لا وجه لها والتي تفلت من التحكم الإنساني وتشكل تهديداً كبيراً لعالمنا الحديث. ويبيِّن هافل أنه لا يوجد فارق جوهري بين شركات كبيرة مثل شل وآي. بي. إم. والشركات الاشتراكية الكبرى، فكلها آلات ضخمة يتزايد غياب البُعد الإنساني منها. ولذلك، تصبح مسألة طابع الملكية هنا (أي ما إذا كانت فردية أم اجتماعية، رأسمالية أم اشتراكية) إشكالية غير ذات موضوع.(2/42)
وحينما سُئل هافل عن الأسباب التي أدَّت إلى هذا الوضع أجاب قائلاً: "هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري. فلم يعد الناس يحترمون ما يُدعَى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئاً أعلى مرتبة منهم، شيئاً مفعماً بالأسرار. وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي، إذ أنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز. هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس، وأفقاً لهم، ولكنها فُقدت الآن. وتكمن المفارقة، في أننا بفقداننا إياها نفقد سيطرتنا على المدنية، التي أصبحت تسير بدون تحكُّم من جانبنا. فحينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني".
الحوسلة(2/43)
نستخدم في هذه الموسوعة اللفظة المنحوتة «حوسل» اختصاراً لعبارة «تحويل الشيء إلى وسيلة» (بالإنجليزية: إنسترومنتاليزيشن instrumentalization) . والنحت هو اشتقاق كلمة من كلمتين أو أكثر على أن يكون هناك تناسب في اللفظ والمعنى بين المنحوت له والمنحوت منه. وقد أجازت المجامع اللغوية في الوطن العربي النحت عندما تُلجئ الضرورة إليه، وقد وجدنا أن من الضروري نحت كلمة «حوسلة» لدواعي الإيجاز اللغوي، ذلك لأن عبارة «تحويل كذا إلى وسيلة» عبارة طويلة ولا يمكن توليد مصطلحات منها. و «حوسل» فعل متعدٍ بمعنى «حوَّل الشيء أو الإنسان إلى وسيلة» ، ومنها «الحوسلة» ، على غرار «بَسْمَلَ» و «بسملة» من «بسم الله الرحمن الرحيم» ، و «حَوقَل» و «حَوقَلة» من «لاحول ولا قوة إلا بالله» و «حَمَدل» و «الحمدلة» من «الحمد لله» . وفي كتب الفقه الإسلامي أنه يجب ترديد كلمات الأذان كما هي «إلا في الحيعلتين فيُحوقل» ، و «الحيلعتان» هما العبارتان «حي على الصلاة» و «حي على الفلاح» . ومن الأمثلة الأخرى التي شاعت، اصطلاح «البرمائي» من «البر والماء» . وكذلك نقول «تَحوّسَل الشيء» أي «تَحوَّل إلى وسيلة» ، وهو مطاوع «حَوسَل» ، ومنها «التَحوسُل» .(2/44)
والحوسلة مرتبطة تماماً بالواحدية المادية، والترشيد (الإجرائي) وبالعقل الأداتي والعقلانية المادية والرؤية العلمانية المادية. فالواحدية المادية تَرُدُّ العالم بأسره إلى مبدأ واحد هو الطبيعة/المادة وتراه في إطار المرجعية المادية الكامنة، والترشيد هو إعادة صياغة الواقع في هدي القانون الطبيعي/المادي ثم إدارته انطلاقاً من هذا المبدأ الواحد. والرؤية العلمانية المادية هي أيضاً رؤية تَرُدُّ العالم إلى مبدأ واحد، وترى الإنسان والطبيعة باعتبارهما مجرد مادة استعمالية يمكن توظيفها في أي هدف أو غرض يحدده الإنسان (صاحب القوة) وهذه هي الحوسلة. والحوسلة تصف العلاقة بين المجتمع المضيف والجماعة الوظيفية وبين المواطن والدولة العلمانية المطلقة.
التعاقدية
نسبة إلى «عقد» ، والتعاقدية هي ترجمة لكلمة «كونتراكتواليزيشن contractualization» أي أن تتحول العلاقات بين البشر من علاقات إنسانية تراحمية لا تخضع تماماً لحسابات الربح والخسارة، ولذا تتسم بالإبهام، إلى علاقات تعاقدية مضبوطة، أو خاضعة للتفاوض. وهذا ناجم عن أن العالم بأسره يصبح أشبه بالسوق والمصنع منضبطاً مثلهما تماماً، وخال مثلهما من الخصوصيات والمطلقات. وهيمنة العلاقات التعاقدية الباردة في المجتمع هي عملية «تهويد» للمجتمع.
الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدى(2/45)
«الجماعة العضوية التراحمية أو التكافلية» و «المجتمع التعاقدي» مصطلحان من وضع عالم الاجتماع الألماني فردناند تونيس (1855 ـ 1936) . وقد وضع كتاباً بعنوان جماينشافت أوند جيسيلشافت Gemeineschaft und Gessellschaft وتُرجمت الكلمة الأولى (جماينشافت) إلى الإنجليزية بكلمة «كوميونتي community» ، أي «جماعة» ، أما الكلمة الثانية (جيسيلشافت) فُترجمت بكلمة «سوسايتس society» أي «مجتمع» وأحياناً «أسوسيشن association» أي «رابطة» . ونحن نترجم الكلمة الأولى إلى العربية بعبارة «الجماعة التراحمية العضوية» أو «الجماعة التكافلية» (ويمكن أن نضيف «المترابطة التقليدية» لزيادة الإيضاح) . أما الكلمة الثانية فنترجمها بعبارة «المجتمع التعاقدي» (ويمكن أن نضيف عبارة «الذري الحديث» لزيادة الإيضاح أيضاً) .
وكلٌّ من الجماعة العضوية والمجتمع التعاقدي نماذج مثالية ذات قيمة تحليلية لدراسة البناء الاجتماعي، وهي نماذج لا تتحقق بصورة كاملة في الواقع.
وفي مجال مقارنة الجماعة العضوية (أ) بالمجتمع التعاقدي (ب) ، يمكننا أن نشير إلى بعض المفاهيم المحورية لكلٍّ منهما، وإن كانت السمة الأساسية للمجتمع التراحمي هي أن الإنساني يسبق الطبيعي، ففي المجتمع التعاقدي فإن الطبيعي يسبق الإنساني.
1ـأ) الكل الاجتماعي موجود قبل الفرد (أسبقية الكل على الجزء) .
ب) الفرد موجود قبل الكل الاجتماعي (أسبقية الجزء على الكل (.
2ـأ) الكل الاجتماعي عبارة عن تركيب بسيط وُجد بشكل تلقائي عضوي تاريخي وتتسم عناصره بالتجانس.
ب) الكل الاجتماعي عبارة عن تركيب صناعي مُعقَّد لم يُوجَد بشكل تلقائي وإنما بشكل تعاقدي واع يتكون من وحدات كثيرة وعناصر ليست بالضرورة متجانسة.
3ـأ) يُولَد الفرد فيجد الروابط الاجتماعية العضوية قائمة مستقرة فلا يملك إلا أن يقبلها، فهي ليست ثمرة إرادته وليست نتيجة تعاقد بينه وبين بقية أعضاء المجتمع. فالمجتمع مُعطَى تاريخي عضوي.(2/46)
ب) الروابط الاجتماعية نتيجة دخول الأفراد في علاقات إرادية تعاقدية (عقد اجتماعي يقررون بموجبه تأسيس المجتمع) ومن ثم يمكنهم رفض العقد في أية لحظة ويمكنهم إخضاع أي شيء للنقاش والتفاوض. فالمجتمع هو إذن عملية تعاقدية آلية.
4ـأ) تقوم مؤسسات الجماعة التراحمية العضوية (التي قامت بشكل تلقائي عضوي) بتشكيل الأفراد وتنشئتهم وترويضهم وفقاً لرؤية تفترض أسبقية الكل العضوي على الجزء.
ب) يتم بناء المؤسسات والمنظمات المختلفة بشكل إرادي واع، وهي مؤسسات تحكمها الرؤية التعاقدية وتقوم بتنشئة الأطفال وترويض الأفراد في ضوء هذه الرؤية.
5ـأ) العلاقات الاجتماعية علاقات مباشرة أولية بين أفراد دون وساطات، وهي علاقات تراحم دافئة تسودها روح التضامن والمشاركة والتعاون التلقائي، وهي تستند إلى الإيمان بمنظومة دينية مشتركة وأعراف اجتماعية.
ب) العلاقات الاجتماعية علاقات غير مباشرة (ثانوية) تتم من خلال وسائط معينة، وهي علاقات تستند إلى علاقات تعاقد قائمة على الحذر والمنفعة الخاصة وإخضاع السلوك لقوة القانون.
6ـأ) من أهم الأمثلة على الجماعة التراحمية التكافلية العضوية ما يلي: الأسرة الممتدة ـ العشائر ـ البطون ـ القرى ـ المجتمعات الصغيرة ـ الطرق الصوفية. ويمكن أن نضيف إليها الجماعات الوظيفية حينما تنظر إلى نفسها من الداخل.
ب) أهم مثال على المجتمع التعاقدي هو المجتمعات الحديثة، وخصوصاً في المدن الكبرى، ويمكن أن نضيف إليها الجماعات الوظيفية حينما يَنظُر إليها المجتمع وحينما تَنظُر إلى نفسها من الخارج.
وقد طوَّر تونيز هذا المفهوم فقدَّم إطاراً تصنيفياً وتفسيرياً جيداً لشكلين من أشكال الاجتماع الإنساني، ويعود اهتمامه بهما إلى أنهما يصفان عناصر مهمة في كلٍّ من المجتمع التقليدي (الجماعة العضوية) والمجتمع الحديث (المجتمع التعاقدي (.(2/47)
والتمييز بين الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدي هو تمييز له جانبان؛ أحدهما معرفي وأخلاقي ينصرف إلى رؤية الإنسان وطريقة إدراك الكون، والآخر سياسي واقتصادي واجتماعي ينصرف إلى طريقة تنظيم المجتمع. والجانبان هما تعبير عن نفس الفكرة الواحدة في مجالين مختلفين. ومن الواضح أن من استخدموا هاتين الفكرتين، كأداة تحليلية، كانوا يفضلون الجماعة المترابطة التي ينتمي إليها المواطن الذي يصبح جزءاً من كل يفقد ذاته فيه بحيث تختفي مصلحته الشخصية الأنانية الضيقة وتحل محلها مصلحة الدولة أو الجماعة، ولا يصبح له وجود خارجها. ونظراً للارتباط العضوي للإنسان بجماعته، وتَطابُق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، فإن الجماعة تعبِّر عن جوهر الإنسان بدلاً من أن تشكل اغتراباً عنه. والقانون البشري لا يشكل في هذه الحالة حدوداً على الإنسان أو قيداً، ولا يتعارض مع إدراكه لنفسه، وإنما يعبِّر عن جوهره ويحقق إمكاناته الكامنة، ومن هنا فإن الرابطة بين الإنسان والجماعة رابطة عضوية ورابطة داخلية (جوانية) لا تتناقض فيها الذات والموضوع.(2/48)
كل هذا يقف ضد المجتمع التعاقدي (الحديث) الذي يتألف من أشخاص أنانيين فرديين (إنسان طبيعي) ، لكلٍّ مصلحته الشخصية المحدَّدة التي قد تتفق مع مصلحة المجتمع أو تختلف عنها. وكل فرد يحاول أن يحقق مصلحته ومنفعته هو دون الالتفات إلى الآخرين أو إلى الكل الاجتماعي، ومن ثم فإن المجتمع مبني على التنافس بوصفه قيمة مطلقة. والمجتمع هنا لا يُعبِّر عن جوهر الإنسان وإنما يجابهه باعتباره شيئاً غريباً عنه. ويصبح القانون لنفس السبب قيداً على الإنسان لا وسيلة لتحقيق جوهره. والرابطة بين البشر رابطة تعاقدية خارجية برانية موضوعية. ولذا، فإن انتماء الإنسان إلى مثل هذا المجتمع هو انتماء ذرة منغلقة على نفسها؛ تُجاور الذرات الأخرى ولا تلتحم بها، ومن ثم ينشأ تناقض حاد بين الذات والموضوع. وهذا التمييز بين شكلين من أشكال التنظيم الاجتماعي ورؤية الكون يُعبِّر عن نفسه في التمييز بين فكرين، فكر عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) وفكر معاداة الاستنارة (القرن التاسع عشر) . وكلاهما يُعدُّ أساساً للفكر الغربي الحديث رغم تناقضهما.
ويمكن أن نرى أصداءً لنفس التمييز في كتابات كثير من علماء الاجتماع الغربيين:
1 ـ يميِّز ماكس فيبر الرأسمالية التقليدية (العضوية) عن الرأسمالية الرشيدة) التعاقدية) .
2 ـ يميِّز أليكس دي توكفيل بين المجتمعات الديموقراطية والمجتمعات التقليدية والمجتمعات العسكرية.
3 ـ يميِّز هربرت سبنسر بين المجتمعات المبنية على التضامن الآلي (البسيط) وتلك المبنية على التضامن العضوي (المركب) .
4 ـ يميِّز سير هنري مين بين المجتمعات التي تقوم على أساس المكانة والمجتمعات التي تقوم على أساس التعاقد.(2/49)
وهذه جميعاً محاولات لرصد هذا التقابل بين نوعين من المجتمعات شعر بوجودهما الإنسان الغربي وشعر بأنه ابتداءً من عصر النهضة بدأ الانتقال من الجماعة التراحمية أو التكافلية العضوية إلى المجتمع التعاقدي وأن عملية الانتقال تسارعت في القرن الثامن عشر وزادت حدتها وقسوتها مع الثورتين الصناعية والفرنسية في بدايات القرن التاسع عشر. وعملية الانتقال هذه هي عملية الانتقال من المجتمع الديني (والمرجعية المتجاوزة) إلى المجتمع العلماني (والمرجعية المادية الكامنة) ، أي أنها وصف لتزايد معدلات العلمنة!
وما يجدر ذكره أن هذا التمييز الذي تغلغل في الفكر الاشتراكي الغربي، يكمن وراء الهجوم على اليهود واليهودية باعتبار أن اليهودي جزء من الاقتصاد التجاري (الموضوعي التعاقدي) مقابل الاقتصاد الزراعي (العضوي المبني على الارتباط الداخلي) . ولا يمكن أن نفهم تحليل ماركس للمسألة اليهودية دون أن نأخذ هذا البُعد في الاعتبار.
الإنسان ذو البعد الواحد(2/50)
«الإنسان ذو البُعد الواحد» ترجمة للعبارة الإنجليزية «وان ديمنشينال مان one-dimensional man» وهي عبارة تَرد في كتابات هربرت ماركوز أحد مفكري مدرسة فرانكفورت، وتعني «الإنسان البسيط غير المركب» . والإنسان ذو البُعد الواحد هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بُعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية والواحدية المادية؛ وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي والمادي وتعظيم الإنتاجية المادية وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك. وتهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تُطبِّق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج كمية ورياضية وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه وتُرشِّده وتُنمِّطه وتُشيِّئه وتُوظِّفه لتحقيق الأهداف التي حددتها. ويذهب ماركوز إلى أن المجتمعات الاستهلاكية تتسم بالهيمنة الكاملة للمؤسسات الرأسمالية على السلطة وسيطرتها على عملية الإنتاج والتوزيع، بل صياغة رغبات الناس وتطلعاتهم وأحلامهم (أي أنها تتحرك في كل من رقعة الحياة العامة والخاصة) ، فهي تنجح في خلق طبيعة ثانية مُشوَّهة لدى الإنسان إذ يتركز اهتمامه على وظيفته التي يضطلع بها (فهو إنسان وظيفي) وتتركز أحلامه على السلع ويرى ذاته باعتباره مُنتجاً ومُستهلكاً وحسب، دون أدنى إحساس بأية غائية كبرى أو هدف أعظم، ويرى أن تَحقُّق ذاته إنما يكمن في حصوله على السلع. ويتم إشباع كل رغبات هذا الإنسان داخل مجال السلع هذا حتى يصبح الإنسان أحادي البُعد تماماً (مُتسلِّعاً مُتشيِّئاً) مرتبطاً تماماً بسوق السلع حدوده لا تتجاوز عالم السوق والسلع.(2/51)
ويُلاحظ ماركوز أن الديباجات الفردية التي تستخدمها الإعلانات هي قناع ماكر يخبئ عملية فرض الأنماط الاستهلاكية الجمعية التي توحي للمستهلك بأن يقلد الآخرين وأن يتبع الموضات وآخر الصيحات، فكأن الفردية هنا هي قناع لعملية ترشيد كاملة لباطن الإنسان تُدخل في روعه أن هذا الحلم هو حلمه وحده، وأن هذه السلعة سبيله الوحيد لتحقيق ذاته، مع أنه في واقع الأمر وسيلة تجعل تطلعاته وأحلامه مثل تطلعات وأحلام الآخرين، وبذا يمكن للآلة الاستهلاكية الاستمرار في الدوران. إن المستهلك أحادي البُعد هو شيء أنيق الملبس يستهلك كل السلع المطلوب منه أن يستخدمها، داخل إطار مجتمع يتم إدارته من الداخل والخارج بطريقة هندسية رشيدة غير ديموقراطية. ومع هذا (وهنا تكمن قوة المجتمعات الاستهلاكية) ، يظن الإنسان أنه يمارس حريته وفرديته، فمجال الاختيار في عالم السلع واسع لأقصى حد. ولكن هذا يخبئ الحقيقة الأساسية وهو أن مجال الاختيار في الأمور المهمة (المصيرية والإنسانية والأخلاقية) قد تقلص تماماً واختفى، وأن هذا الإنسان فقد مقدرته على التجاوز وعلى نقد المجتمع وأصبحت عنده مقدرة عالية على التكيف وقبول الأمر الواقع والإذعان له. ويسمي ماركوز هذه المجتمعات «مجتمعات ديموقراطية لا تتمتع بالحرية» ، أي مجتمعات شمولية نجحت في أن تجعل الجماهير تستبطن الرؤية السائدة في المجتمع وتسلك حسبها دون قمع بوليسي براني، بحيث يرى الإنسان أن الهدف من الحياة هو تَزايُد التحكم في الطبيعة وتَراكُم السلع وبذا يسود ضرب من " غياب الحرية في إطار ديموقراطي سلس معقول " (بالإنجليزية: سموث ريزنابل ديموكراتيك أنْ فريدم smooth reasonable democratic unfreedom) .(2/52)
ويرسم هوركهايمر صورة للإنسان الحديث لا تختلف عن تلك التي رسمها ماركوز. فهو يرى أن الإنسان الحديث تم تحريره من المعايير المطلقة للمجتمع التقليدي، ولكن الثمرة لم تكن إيجابية إذ ظهر إنسان تم تنقيته من كل المبادئ باستثناء مبدأ السعادة وإمتاع الذات، وتم تفريغه من كل المقاصد والقيم إلا مقصد البقاء وحفظ النفس، وأصبح إنساناً مفرغاً من كل محتوى ومعيار باستثناء تلك المتعلقة بحساب الوسائل، وأصبح عاجزاً تماماً عن تقييم الخيارات المطروحة أو إدراك حقيقة التشوهات الحاصلة بغية تصويب الأخطاء وتصحيح الحلول. بذلك لم تَعُد لديه أية قدرة على تجاوز ذاته الضيقة أو الظروف المحيطة به ولم تَعُد لديه المقدرة على النظر إليها بشكل نقدي، وأصبحت المقدرة الأساسية عنده هي القدرة على التكيف مع القوى الاجتماعية المهيمنة وأداء الوظيفة الموكلة له، ولم يعد لديه من حريات سوى حرية اختيار بديل من البدائل المتوافرة التي يقع اختياره عليها بعد الانغماس في حسابات رشيدة تدور داخل الإطار المُعطَى، ولذا فهي حسابات رشيدة إجرائية لا علاقة لها بالمضمون ولا بالأهداف النهائية.
والإنسان ذو البُعد الواحد هو ذاته الإنسان الطبيعي (الإنسان الاقتصادي والجسماني) ، وهو إنسان بسيط يعيش داخل نطاق الطبيعة لا يملك لها تجاوزاً، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين، إنسان فقد تماماً العقل النقدي المُتجاوِز، وهو أيضاً الإنسان الوظيفي الذي يُعرَّف في ضوء وظيفته التي تُوكَل إليه، وهو الإنسان الذي تم ترشيده وتدجينه في إطار العقلانية المادية التكنولوجية. ورغم أن ماركوز يخصص أحياناً ويتحدث عن الإنسان ذي البُعد الواحد باعتباره ظاهرة رأسمالية، إلا أنه، في معظم الأحيان، يراه باعتباره ظاهرة خاصة بالمجتمع الحديث ككل.
القفص الحديدى(2/53)
«القفص الحديدي» ترجمة للعبارة الإنجليزية «أيرن كيج iron cage» التي استخدمها ماكس فيبر لوصف وضع الإنسان في المجتمع الحديث بعد أن يتم ترشيد المجتمع والإنسان. وترد العبارة بأشكال أخرى في كتابات جورج لوكاتش وجورج زيميل. وهي ذات علاقة وثيقة بكثير من المصطلحات النقدية، مثل «التَشيُّؤ» و «التَسلُّع» ، التي تعني في جملتها «أن يصبح الإنسان سجين العالم والأشياء أو السلع خاضعاً لقوانينها» .
ويرى فيبر أن عملية الترشيد المادي المستمرة ستؤدي إلى فرض قوانين واحدية مادية على المجتمع ومن ثم سيتحول المجتمع إلى آلة بشرية ضخمة (يشبه السوق والمصنع) تُجبر الأفراد على أن يشغلوا أماكن محددة لهم ومقررة مسبقاً، ويقوموا بأدوار مرسومة. وهذه البيئة الآلية ستزيد ولا شك الفعالية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع زيادة كبيرة، ولكنها تهدد الحرية الفردية، وتُحوِّل المجتمع إلى قفص حديدي، وخصوصاً أن الفرد في المجتمع الحديث هو فرد مفتقد للمعنى، ومن ثم فهو شخصية هشة من الداخل لا تشعر بالأمن ولا بالمقدرة على التجاوز، فهي لا تقف على أرضية صلبة من المعنى.
التسلع
» التَسلُّع» ترجمة للكلمة الإنجليزية «كوموديفيكيشن commodification» . و «التَسلُّع» مصطلح يشير إلى أن السلعة وعملية تَبادُل السلع هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان للكون ولذاته ولعلاقاته مع الآخر والمجتمع. وإذا كانت السلعة هي مركز السوق والمحور الذي يدور حوله، فإن التَسلُّع يعني تَحوُّل العالم إلى حالة السوق، أي سيادة منطق الأشياء.(2/54)
ولأن السلعة شيء، فإن التَسلُّع قد يعني أيضاً التَشيُّؤ. فالتَشيُّؤ معناه أن يتحول الإنسان إلى شيء، تتمركز أحلامه حول الأشياء ولا يتجاوز هو السطح المادي وعالم الأشياء، وتصبح العلاقات بين البشر مثل العلاقات بين الأشياء. أما التَوثُّن، فإنه يعني أن تصبح السلعة والشيء مركز الكون والوثن الأعظم الذي يعبده الإنسان. والتَسلُّع والتَشيُّؤ والتَوثُّن تعني، كلها، أن الإنسان يُحيِّد إنسانيته المُتعيِّنة فيسقط إما في عالم الأشياء (والسلع) المادية والذات الطبيعية المادية ويفقد إنسانيته المركبة (الربانية) ، أو يذوب في مطلقات لا إنسانية مجردة (المطلق العلماني: الطبيعة/المادة، والتنويعات عليه: الدولة ـ السوق ـ الإنتاج ـ الاستهلاك) ويفقد أيضاً إنسانيته.
والتَسلُّع والتَشيُّؤ والتَوثُّن تعني نزع القداسة عن الإنسان والطبيعة وإخضاعهما للواحدية المادية وتَحوُّل العالم إلى مادة واحدة استعمالية بعد الهيمنة الإمبريالية الكاملة عليه. وهذه هي عملية الترشيد والتحديث، حين يُجرَد الإنسان ذاته ويقبل المجردات اللاإنسانية ويذعن لها.
التوثن(2/55)
» التَوثُّن» ترجمة للكلمة الإنجليزية «فيتيشيزم fetishism» . و «الوثن» هو الشيء المادي، سواء أكان طبيعياً أم مادياً، الذي يتصور الإنسان أنه يُجسِّد روحاً وأنه ذو أثر سحري وقوة غامضة من شأنها أن تؤثر في مقدرات الناس بالنفع والضرر. ولذا، فهو يصبح محور ممارسات دينية. والتَوثُّن (حسب الأدبيات الماركسية الإنسانية) هو أن يُنظَر للسلعة (الشيء) لا باعتبارها نتاج جهد اجتماعي إنساني وإنما باعتبارها شيئاً مستقلاً عن الإنسان. وتتحكم السلع (الأشياء) في المُنتج (الإنسان) بدلاً من تحكُّم المنتج في السلع. وفي المجتمعات الاستهلاكية، تصبح السلع ذات قيمة محورية في حياة الإنسان تتجاوز قيمتها الاقتصادية وغرضها الاستعمالي، فكأن السلعة أصبحت لها قيمة كامنة فيها، لها حياتها الخاصة ومسارها الخاص، متجاوزة الإنسان واحتياجاته، وهذا مثل جيد على المرجعية المادية الكامنة (في السلعة) والتي تَجُبُّ المرجعيات المتجاوزة كافة وضمنها المرجعية الإنسانية. لكل هذا، تصبح السلعة مثل الوثن، مركز الكون الكامن في المادة، الذي يعبده الإنسان والهدف الأوحد من الوجود، فينحرف الإنسان عن جوهره الإنساني (في النظم الإنسانية) وعن ذاته الربانية المركبة التي لا يمكن أن تُردَّ إلى عالم الطبيعة/المادة والأشياء (في النظم التوحيدية) .(2/56)
وقد أشار أحد المفكرين إلى ما سماه «تَوثُّن الذات» كسمة أساسية في اليهودية، بمعنى أن الشعب اليهودي (بالمعنى الديني) يعبد ذاته من دون الإله ويتمركز حولها، مع أن هذه الذات وثن مادي أصم. وتَوثُّن الذات سمة أساسية في كثير من الحركات القومية العضوية والحركات الإثنية الجديدة، حيث تصبح الذات القومية أو الإثنية أو العرْقية هي المطلق (اللوجوس) مركز الكون. ويمكن القول بأن المطلقات العلمانية المختلفة (وليس السلع وحسب) تكتسب خاصية التَوثُّن هذه وتتجاوز الإنسان ولا يتجاوزها هو وتصبح هي المرجعية النهائية. ولعل الدولة المركزية هي أهم هذه الأوثان المطلقة (مرجعية ذاتها) . والترشيد (في إطار المرجعية الكامنة) يؤدي إلى التَوثُّن، فترشيد المواطن يجعله يقبل المجردات الإنسانية باعتبارها مطلقات نهائية لا تشير إلا إلى ذاتها.
التشيؤ
» التَشيُّؤ» ترجمة للكلمة الإنجليزية «رييفيكيشن reification» ، ويعني تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء (علاقات آلية غير شخصية) ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل (أي حوسلة البشر باعتبارهم أشياء) . وحينما يتشيأ الإنسان، فإنه سينظر إلى مجتمعه وتاريخه (نتاج جهده وعمله وإبداعه) باعتبارهما قوى غريبة عنه، تشبه قوى الطبيعة (المادية) تُفرَض على الإنسان فرضاً من الخارج، وتصبح العلاقات الإنسانية أشياء تتجاوز التحكم الإنساني فيصبح الإنسان مفعولاً به لا فاعلاً، يحدث ما يحدث له دون أية فاعلية من جانبه، فهو لا يملك من أمره شيئاً. وقمة التَشيُّؤ هي تطبيق مبادئ الترشيد الأداتي والحسابات الدقيقة على مجالات الحياة كافة.(2/57)
ويمكن القول ببساطة شديدة بأن التَشيُّؤ هو أن يَتحوَّل الإنسان إلى شيء تتمركز أحلامه حول الأشياء فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء. والإنسان المُتشيِّئ إنسان ذو بُعد واحد قادر على التعامل مع الأشياء بكفاءة غير عادية من خلال نماذج اختزالية بسيطة، ولكنه يفشل في التعامل مع البشر بسبب تركيبيتهم. والإنسان المُتشيِّئ إنسان قادر على الإذعان للمجردات المطلقة وأن يتوحد بها ويتصرف على هديها. وهذا وصف جيد للإنسان الطبيعي الرشيد، الذي يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة والمطلقات العلمانية الأخرى التي تُعدُّ تنويعاً على الطبيعة/المادة.
التنميط(2/58)
» التنميط» ترجمة لكلمة «ستاندارديزيشن standardization» وهي من كلمة «ستاندارد standard» ومعناها «معيار» أو «مقياس» ، وفعل «ستانداردايز standardize» ومعناه «يُوحِّد» (المناهج أو المقاييس) ، ويُطلَق الاصطلاح على ظاهرة في الحضارة الغربية، وهي أن كثيراً من المنتجات الحضارية تصبح متشابهة ونمطية بسبب الإنتاج الصناعي السلعي الآلي الضخم (على عكس المنتجات الحضارية في المجتمع التقليدي حيث نجد أن لكل شيء مصنوع شخصية مستقلة تستمدها من شخصية منتجها الذي صنعها بيديه) . والتنميط في المنتجات الحضارية يؤدي إلى التنميط في أسلوب الحياة العامة والخاصة فيقضي الإنسان حياته في سلسلة محكومة من روتين يومي مُنظَّم بمواعيد دقيقة ومتتالية معروفة مسبقاً (نوم ـ انتقال ـ عملي آلي ـ وقت فراغ) ثم يتم تنميط حياة الإنسان نفسها. فتقاليع الأزياء، على سبيل المثال، تجعل الناس كافة يغيرون طراز ملابسهم من عام إلى عام بحسب ما يصدر لهم من أوامر من باريس (أو غيرها من عواصم تصميم الأزياء) . ويسارع الناس للإذعان وكأنهم يذعنون لأحد قوانين الطبيعة/المادة، فإن قال مصممو الأزياء إن "الموضة هذا العام هو الطويل" قام الجميع بتطويل ملابسهم، وإن قالوا "قصير" سارع الجميع بالتقصير، وهكذا. ويذهب علماء الاجتماع إلى أن عمليات التنميط ليست مقصورة على عالم الأشياء البراني وإنما امتدت لتشمل عالم الإنسان الجواني، بحيث تم تنميط أحلام الإنسان ورغباته وتطلعاته ورؤيته لنفسه وأنماط سلوكه، وتمت المساواة بين البشر والتسوية بينهم من الداخل والخارج. وقد أمكن تنميط الواقع الاجتماعي والإنساني لعدة أسباب:
1 ـ طبيعة الإنتاج الصناعي لا تسمح بالتنويع.
2 ـ إيقاع الحياة السريع الآلي في العصر الحديث.(2/59)
3 ـ أدَّى تآكل المؤسسات الوسيطة إلى تفَاقُم هذه الظاهرة. فالأسرة، على سبيل المثال، تحمي الفرد قليلاً من تغلغل عوامل التنميط في حياته الخاصة وإلى وجدانه، وهي تزود الفرد بتربة اجتماعية مفعمة بالحميمية، إيقاعها يتفق مع إيقاعه أو يمكن ضبطه ليتفق مع الإيقاع المناسب له، فيتكشف أبعاده الداخلية بدلاً من أن يُفرَض عليه أن يتبع إيقاعاً برانياً حاداً ويدخل قالباً محدداً.
4 ـ يُلاحَظ أن الإنسان في العصر الحديث إنسان حركي نسبي، فهو لا يرتبط بمطلقات أو ثوابت تسيطر عليه عقلية الترانسفير، وهو على استعداد لتغيير قيمه بعد إشعار قصير، فيقع فريسة صناعات اللذة والإعلانات التي قامت بعملية هندسة اجتماعية شاملة فأعادت صياغته بما تراه يخدم صالحها.
5 ـ قامت شركات التسويق والإعلام بدور حاسم في عملية التنميط إذ ألقت في روع الناس أن أنماط السلوك النمطية هي الأنماط الطبيعية.
6 ـ ولعل أهم أسباب التنميط هو ظهور الدولة العلمانية المركزية التي لا تتعامل إلا مع وحدات إدارية ضخمة والتي تحاول قدر طاقتها ترشيد الواقع الاجتماعي والإنساني حتى يمكنها التحكم فيه والتخطيط له وتوجيهه وتوظيفه لصالحها، أي حوسلته. وعملية الترشيد هذه هي في جوهرها عملية تنميط، إذ بدونها سيصبح الواقع الإنساني والاجتماعي متنوعاً مركباً غير متجانس لا يمكن إخضاعه لعمليات الحوسلة.(2/60)
ولعل انتشار العنف والانتحار وشرب الكحول وإدمان المخدرات في البلاد المتقدمة هو تعبير عن احتجاج الإنسان على هذا التنميط الذي يقضي على عالمه الجواني تماماً وعلى حريته ويدفع به في عالم واحدي مادي بسيط. ولعل انتشار الإباحية ذاته هو تعبير عن نفس الاحتجاج، فآليات الإشباع الجنسي متاحة بشكل مذهل في المجتمعات الغربية ومع هذا تتزايد الأفلام والكتب والمجلات الإباحية. فالإنسان الذي تُقمَع حريته تماماً يهرب من عالم التنميط إلى عالم فردوسي خال تماماً من أي حدود، عالم لا يماثل عالمه المتجانس المحكوم المضبوط، عالم من الفوضى الكاملة يحميه من عالم التنميط والضبط الكامل والواحدية المادية.
وترتبط بالتنميط مصطلحات أخرى مثل «الكوكلة» و «الأمركة» (أن يكون النمط أمريكياً) و «التسلع» (أن يكون النمط هو السلعة) و «التَشيُّؤ» (أن يكون النمط هو الشيء) .(2/61)
الباب الخامس: مصطلحات تشير إلى تفكيك الإنسان وتقويضه
التفكيك والتقويض
«التفكيك» بالمعنى العام هو فصل العناصر الأساسية في بناء ما بعضها عن بعض بهدف اكتشاف العلاقة بين هذه العناصر والثغرات الموجودة في البناء واكتشاف نقط الضعف والقوة. ويمكن أن يتم التفكيك داخل إطار فلسفي إنساني بهدف زيادة إدراكنا للواقع. وفي هذه الحالة، فإن التفكيك أداة تحليلية لا تحمل أي مضمون أيديولوجي. ولكن يمكن أن يتم التفكيك في إطار نموذج الطبيعة/المادة والواحدية المادية بحيث يُرَدُّ كل شيء إلى ما هو دونه حتى نصل إلى الأساس المادي. ولكن عملية التفكيك يمكن أن تستمر فيتضح أن ما يُسمَّى «الأساس المادي» ليس أساساً على الإطلاق، فالمادة في حالة حركة وتَغيُّر ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك حقيقة. والفلسفة التفكيكية (ما بعد الحداثة) فلسفة تهاجم فكرة الأساس نفسها (ولذا يُطلَق عليها بالإنجليزية أنتي فونديشناليزم anti-foundationlism) أي رفض المرجعية، وهي تحاول إثبات أن النظم الفلسفية كافة تحتوي على تناقضات أساسية لا يمكن تجاوزها، ومن ثم لا تصبح هذه النظم بذاتها طريقة لتنظيم الواقع وإنما علامة على عدم وجود حقيقة بل مجرد مجموعة من الحقائق المتناثرة فقط، وتصبح كل الحقائق نسبية، ولا يكون ثمة قيم من أي نوع. ومثل هذا التفكيك ليس مجرد آلية في التحليل أو منهجاً في الدراسة وإنما رؤية فلسفية متكاملة وهي فلسفة يؤدي التفكيك فيها إلى تقويض ظاهرة الإنسان وأي أساس للحقيقة. ورائد هذه الفلسفة هو جاك دريدا (تلميذ هايدجر) الذي استخدم في أولى دراساته الفلسفية اصطلاح «تخريب» أو «تقويض» (بالإنجليزية: ديستراكشن destruction) ، ثم استخدم مصطلح «تفكيك» (بالإنجليزية: دي كونستراكشن deconstruction) ربما ليخبئ الطبيعة العدمية لمشروعه الفلسفي.
وفي هذه الموسوعة، نستخدم كلمة «تفكيك» بطريقتين:(2/62)
1 ـ التفكيك باعتباره أداة منهجية تُستخدَم في اكتشاف البنية الكامنة لأي نظام فكري أو فلسفي. وعادةً ما يتلازم مع عملية التفكيك عملية تركيب أو إعادة تركيب، أي عملية تأسيس، لأن الهدف هو تعميق الفهم وليس التقويض. والتفكيك هنا ليس إعلاناً الفشل في التوصل للحقيقة وإنما هو فتح لباب الاجتهاد وإدراك لواقع أن ما هو قائم تمكن إعادة تركيبه حتى يمكن تفسيره بشكل أحسن، كما يمكن تغييره إلى الأفضل.
2 ـ «التفكيك» باعتباره تقويضاً (سعد البازعي ـ ميجان الرويلي) ، وهو هنا ليس مجرد آلية وإنما رؤية للكون.
والاستخدام الثاني هو الأكثر شيوعاً في هذه الموسوعة. ونحن نذهب إلى أن عملية الانتقال من العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة هي في جوهرها عملية تفكيك للإنسان، إذ يُرد الإنسان، الذي يتحرك داخل حيزه الإنساني والحيز الطبيعي، إلى المادة وقوانينها، فيُلغي الحيز الإنساني ولا يبقى سوى الحيز الطبيعي/المادي، وبدلاً من أن يكون الإنسان كائناً مركباً متكاملاً، الإنسان الإنسان، فإنه يصبح الإنسان الطبيعي أو الإنسان الوظيفي الذي يمكن تفسيره من خلال النماذج الموضوعية الرياضية والذي تحركه غرائزه الوحشية المظلمة القابعة فيه (وهذه هي الاستنارة المظلمة) . وقد تحدَّث هوبز عن الإنسان باعتباره "ذئباً" لأخيه الإنسان، وتحدَّث داروين عن علاقة القرد بالإنسان، وأجرى بافلوف تجاربه على "الكلاب" وافترض أن النتائج التي توصل لها تنطبق على الإنسان، وهذه هي عملية التقويض التي يقوم بها الفكر العلماني الشامل. ويُلاحَظ أنه يوجد في معجم الحضارة الغربية الحديثة عدد كبير من الأفعال تبدأ بمقطع «ديde» أو «ديسdis» وكلها أفعال ذات طابع تفكيكي تقويضي، تُعبِّر عن جوهر المشروع التحديثي التفكيكي الغربي.(2/63)
ومع هذا يمكن القول بأن المشروع التحديثي الغربي ليس تفكيكياً وحسب وإنما هو أيضاً مشروع تأسيسي، فهو يعيد تركيب الكون على أساس نموذج الطبيعة/المادة والمطلقات العلمانية المختلفة التي تَرُد الإنسان إلى هذا العنصر المادي أو ذاك. فالمنظومة الداروينية، على سبيل المثال، تعيد تركيب المجتمع على أساس أنه غابة مظلمة ظالمة يتصارع فيها الإنسان مع الحيوان والإنسان مع الإنسان، فهي حرب يخوضها الجميع ضد الجميع.
نزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة (
» نَزْع القداسة عن العالم» ترجمة للكلمة الإنجليزية «دي سانكتيفاي desanctify» أو «دي ساكرالايز desacralize» التي تعني نزع القداسة عن الظواهر كافة (الإنسان والطبيعة) بحيث تصبح لا حرمة لها ويُنظَر لها نظرة طبيعية/مادية صرفة لا علاقة لها بما وراء الطبيعة. أي أن نزع القداسة عن العالم هو نتيجة حتمية للإيمان بفعالية القانون الطبيعي في مجالات الحياة كافة (الطبيعية والإنسانية، العامة والخاصة) . وإذا ما تم ذلك، فإن العالم (الإنسان والطبيعة) يمكن أن يصبح مادة استعمالية يمكن توظيفها والتحكم فيها وترشيدها وتسويتها وحوسلتها، وهو أمر يستحيل إنجازه إن كانت هناك قداسة في المادة وإن كانت هناك حرمات تضع حدوداً على سلوك الإنسان وعلى حريته. ونزع القداسة يعني فرض الواحدية المادية على الكون بحيث يسري قانون واحد على كل الأشياء. ونزع القداسة يؤدي إلى ظهور نزعة إمبريالية لدى الإنسان، فهو ينظر إلى العالم باعتباره مادة نافعة له يمكنه توظيفها لحسابه ويصبح الهدف من المعرفة هو زيادة التحكم. وحيث لا توجد قداسة أو حرمات أو مرجعيات أخلاقية، فلا حدود لعملية الغزو.
نزع السر عن الظواهر(2/64)
» نزع السر عن الظواهر» ترجمة للكلمة الإنجليزية «دي ميستفاي demystify» ، وهي من كلمة «ميستري mystery» التي تعني «السر» بالمعنى الديني (ويُقال «ميستري ريليجنز mystery religions» أي «ديانات الأسرار» ) . ويمكن القول بأن أقرب كلمة لها في معجمنا الثقافي هي كلمة «غيب» . وتُستخدَم كلمة «سر» لتشير إلى أن الإنسان، والظواهر كافة، تحوي داخلها من الأسرار والغيب ما لا يمكن الوصول إليه، وأن على الإنسان أن يدرك هذا ويدرك أن عقله لن يحيط بكل شيء. ولأن العالم يحوي أسراراً، فهو عالم متنوع كل ظاهرة فيه تحوي قدراً من التفرد. أما كلمة «مستفاي mystify» ، فهي كلمة ذات طابع قدحي، إذ تشير إلى عملية تعمية واعية مقصودة. ويرى كثير من دعاة الاستنارة (في الإطار المادي) أن أهم مهام العقل هي نزع الأسرار عن كل الظواهر (ومنها الإنسان) وتفكيكها وردها إلى قوانين الحركة المادية العامة (ورؤيتها في إطار الواحدية الكونية المادية) ، وبذا تصبح الظواهر كافة متشابهة واضحة قابلة للدراسة. وتُعبِّر كلمات مجنون نيتشه عن ألم الإنسان الحديث الناجم عن نجاحه في نزع السر، فهو يسأل كيف تَأتَّى للإنسان أن يمحو الأفق ويجفف البحار بحيث أصبح العالم من حولنا مادة خراب لا أسرار فيها ولا قداسة؟
كشف حقيقة الأسطورة(2/65)
«كشف حقيقة الأسطورة» ترجمة للكلمة الإنجليزية «دي بنك debunk» ، وهي تُستخدَم عادةً للإشارة إلى أية عملية تهدف إلى تحطيم أية مثاليات أو أي نُبل أو أية أحلام نبيلة بالتجاوز قد يشعر بها الإنسان، وذلك حتى يكتشف بصورة لا تقبل الشك حقيقة دوافعه المادية/الطبيعية. وهذه عملية قد تتم في الواقع، ولكن المصطلح يشير عادةً إلى الأعمال الأدبية. ففي أعمال برنارد شو ـ على سبيل المثال ـ كثيراً ما تتصور إحدى الشخصيات أنها مدفوعة بحب مثالي حقيقي لشخصية أخرى، ولكنها تكتشف بعد قليل أنها مدفوعة في واقع الأمر بحب القوة والسيطرة والشهوة الجنسية وحسب، أي أن الشخصية تكتشف أن الإنسان إن هو إلا مجموعة من الدوافع الطبيعية/المادية. وكثيراً ما يشار إلى هذا بأنه «واقعية» ، وتَقبُّله هو تَكيُّف مع الأمر الواقع الذي لا أسرار فيه والذي يضرب بجذوره في عالم الطبيعة/المادة. وهذا يُفسِّر تزايد استخدام «الأيروني irony» في الآداب الغربية الحديثة، فهو صيغة أسلوبية تهكمية تهدف إلى تنبيه الإنسان إلى وجود فرق شاسع بين أحلامه النبيلة التي تُحلِّق في السماء وواقعه الخسيس الذي لا أسرار فيه، الساقط في حمأة المادة، الخاضع لقوانينها.
تحرير العالم من سحره وجلاله
«تحرير العالم من سحره وجلاله» ترجمة للعبارة الإنجليزية «ديس إنتشامنت أوف ذي ورلد disenchantment of the world» التي تَرد في كتابات ماكس فيبر. ويشير هذا المصطلح إلى عملية استبدال المجتمع الغربي للتصورات الدينية الغيبية والوسائل السحرية بتصورات علمية، بحيث يدرك الإنسان أن العالم يتحرك وفقاً لقوانين عقلانية مادية قابلة للاكتشاف لا وفق قوى غامضة غير محسوبة مستعصية على الفهم.(2/66)
وفعل «ديس إنتشانت disenchant» باللغة الإنجليزية فعل مبهم، فهو يعني «إزالة الغشاوة» ، وهو معنى إيجابي بمعنى أن يرى الإنسان الأمور على ما هي عليه. ولكنها تعني أيضاً «خيبة الأمل والظن» ، وهو معنى سلبي بمعنى أن الإنسان حينما يعرف حقيقة شخص ما، فإن الصورة المثالية المضيئة تسقط لتحل محلها صورة واقعية مظلمة. وإبهام المصطلح مناسب جداً، فهو يصف المشروع التحديثي الغربي الذي بدأ بأوهام الاستنارة المضيئة في أن يعتمد الإنسان على عقله (المادي) وحسب، فيزيل كل الغشاوات التي تراكمت عليه عبر عصور الظلام السابقة ويرفض أية غيبيات أو مثاليات أو مطلقات ليصل إلى الجوهر (المادي الحقيقي) للأشياء ويُدرك هيمنة الواحدية المادية. وكان المفروض أن هذا سيؤدي إلى سعادة الإنسان وسيطرته على نفسه وعلى العالم. ولكن الإنسان عندما فعل ذلك، قام بتفكيك العالم ورده إلى عناصره المادية ففقد العالم (الإنسان والطبيعة) سحره وجلاله وجميع عناصر القداسة والسر فيه وأصبح مادة محضة، وأصبح كل شيء فيه محسوباً. ويمكن السيطرة عليه وحوسلته. ولذا، فإن المصطلح يُترجَم أحياناً بعبارة «خيبة العالم» و «تَشيُّؤ العالم» .
تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية
«تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية» ترجمة للكلمة الإنجليزية «دي هيومانايزيشن dehumanization» وهي تعني إنكار وقمع تلك الصفات والأفكار والنشاطات التي تُميِّز الإنسان عن غيره من الكائنات ومنع تحقيق الإمكانيات الإنسانية للإنسان (مقابل خصائصه الطبيعية المادية التي يشترك فيها مع غيره من الكائنات) . ومن ثم، يمكن القول بأن العبارة مترادفة مع كلمة «اغتراب» .(2/67)
وتُستخدَم العبارة للإشارة إلى تلك الاتجاهات في الحضارة الحديثة التي تُجرِّد الإنسان من إنسانيته وتَحوِّله إلى شيء ضمن الأشياء، أي تستوعبه وتُسلِّعه وتُنكر عليه حرية الاختيار والمقدرة على التجاوز وتحقيق كليته الإنسانية المركبة المتجاوزة للحتميات الطبيعية المادية وللأنماط الطبيعية المتكررة.
ورغم أن الكلمة تتواتر في العلوم الاجتماعية الغربية لوصف جانب مهم من حياة الإنسان في العصر الحديث، فإنها تظهر بشكل واضح في الأدب والنقد الأدبي. فقد رصد الأدب الحداثي بعناية فائقة الكيفية التي يتحول بها الإنسان إلى ما هو دون الإنسان في "الأرض الخراب" التي تكِّون العصر الحديث.
أما في النقد الأدبي، فالموضوع أكثر تواتراً. وقد لاحظ لوكاتش ما سماه بسقوط الذات المتكاملة وسقوط الشخصية في الأدب، وهو ما يعبِّر عن تزايد معدلات تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية. فالشخصيات الأدبية في القرن التاسع عشر شخصيات لها سمات فريدة متكاملة تتطور فرديتها من خلال التفاعل الاجتماعي، أما شخصيات الأدب الحداثي فهي تعيش في عزلة كاملة بين عناصر مجردة متصارعة لا يستطيع الإنسان التحكم فيها أو تواجه ألغازاً لا حل لها أو عالماً عبثياً لا معنى له. ويُلاحظ لوكاتش أن الشخصية في الفن التعبيري والتكعيبي يتم تفكيكها ثم يعاد تركيبها على أسس هندسية ولكنها تختفي تماماً في الفنون التجريدية.(2/68)
وهذا أيضاً هو الموضوع الأساسي في مقال خوزيه أورتيجا يي جاسيت (1883 ـ 1955) "تجريد الفن من الخصائص الإنسانية". فهو يرى أن الفن الغربي (حتى القرن التاسع عشر) كان يتعامل مع الواقع المعاش، ولذا كان ممتلئاً بمضمونه الإنساني، وكانت الأفكار الفنية تشير إلى أشياء في عالم الطبيعة. أما في القرن العشرين، فقد جُرِّد الفن من خاصيته الإنسانية وأصبح فناً غير إنساني، لا لأنه لا يحتوي على أية سمات إنسانية وإنما لأنه متجرد بشكل واع من أية خاصية إنسانية. وتظهر لا إنسانية هذا الفن في تحاشيه الأشكال الحية (بل اشمئزازه منها، وهو ما يُعبِّر عن اشمئزاز كامل من الحضارة الإنسانية بأسرها) . وفي محاولة تحاشي أي مضمون إنساني أو حي، أصبح الفن يشبه اللعبة التي لا تخضع إلا لقوانينها هي. وهذا الفن لا يتعامل مع موضوعات الإنسان الكبرى وإنما هو فن صغير يرفض المحاكاة ويلجأ للرموز المغلقة ولكشف عناصر المفارقة. وهذا الفن لا رسالة له بل يؤكد أنه ليست له أية نتائج ذات طابع متجاوز. والسمة الأساسية هنا هي تراجع ما هو إنساني ومتعيِّن وحي وظهور ما هو نمطي شيئي مجرد، غير إنساني، واحديّ ماديّ.
إزاحة الإنسان عن المركز
«إزاحة الإنسان عن المركز» ترجمة للعبارة الإنجليزية «دي سنترينج مان decentering man» وهي عبارة تتواتر في الخطاب ما بعد الحداثي والتي تعني أن الإنسان قد وضع نفسه في مركز الكون وفرض نفسه كمرجعية نهائية عليه، دون وجه حق، ولذا تجب إزاحته عن المركز تماماً، بحيث يصبح مركز الكون إما الطبيعة/المادة وأية تنويعات عليها (في مرحلة الواحدية الموضوعية المادية الصلبة) ، أو يصبح الكون بلا مركز (في مرحلة السيولة الشاملة (.
إسقاط السمات الشخصية(2/69)
«إسقاط السمات الشخصية» ترجمة للكلمة الإنجليزية «دي بيرسونالايزيشن depersonalization» (وهي تشير إلى سمة في الحضارة الحديثة، وهي حضارة جماهيرية تتسم بالاتجاه نحو التنميط الذي ينتقل من عالم الأشياء إلى عالم الإنسان) . والإنسان في المجتمع الحديث إنسان عملي مرن يحاول أن يتكيف مع واقعه، ولكن عملية التكيف هذه تعني في واقع الأمر تنميطه وفقدانه ما يُميِّزه كفرد متفرِّد حتى يصبح جزءاً من الحركة الجماهيرية، كتلة غير متميزة المعالم ليس له أية أبعاد جوانية، فهو سطح كامل لا شخصية له ولكنه قادر على أن يلعب أدواراً مختلفة بكفاءة عالية. على أن ما يساعد على إسقاط السمات الشخصية هو هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية في المجتمعات الحديثة.
الداروينية الاجتماعية
«الداروينية» ترجمة لكلمة «داروينيزم Darwinism» الإنجليزية، ويُقال لها أيضاً «الداروينية الاجتماعية» . وهي كلمة منسوبة إلى اسم تشارلز داروين (1731 ـ 1820) . وهي فلسفة علمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أية مرجعية غير مادية، وتستبعد الخالق من المنظومة المعرفية والأخلاقية وتَرُد العالم بأسره إلى مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون. والآلية الكبرى للحركة في الداروينية هي الصراع والتَقدُّم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني. وقد حققت الداروينية الاجتماعية ذيوعاً في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعض يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتسع ليقتسم العالم بأسره. ويمكن القول بأن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها.(2/70)
ويرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسها التي تسري على الظواهر الإنسانية، التاريخية والاجتماعية. وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين: حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة. وقد ذهب داروين إلى أن الكون بأسره سلسلة متواصلة في حالة حركة من أسفل إلى أعلى وأن الإنسان إن هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرقاها ولكنه ليس آخرها. ويرى داروين أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحية يعتمد على الصراع من أجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح. إن عالم داروين عالم مستمر مغلق لا ثغرات فيه ولا فراغات ولا مسافات، فكل حلقة تؤدي إلى التي تليها، تماماً كما هو الحال مع عالم إسبينوزا ونيوتن حيث تحرِّك كل عجلة العجلة التي بجوارها (وبالفعل، وصف أحدهم داروين بأنه نيوتن العلوم البيولوجية) . وهكذا تؤدي اليرقة إلى القرد، والقرد إلى الإنسان بطريقة آلية (تماماً كما تتحرك الأجسام تحت تأثير قانون الجاذبية وكما تتحول الأفكار الجزئية إلى أفكار كلية بطريقة آلية في منظومة لوك) .(2/71)
وهذا هو تَصوُّر داروين أو فرضيته. ولكنه كان في واقع الأمر عاجزاً تماماً من الناحية العلمية عن إثبات كثير من فرضياته. ولذا فهناك حديث عن الحلقة المفقودة، وهي تعني وجود مسافة بين القرد والإنسان، ولذا فقد تحدثوا عن الطفرة بمعنى سَد الثغرة في الزمان بدون سبب واضح، وتم فرض الاستمرارية والواحدية دون وجود شواهد مادية علمية. ومع هذا، ذهب دعاة الداروينية الاجتماعية إلى أن فرضية داروين نظرية وحقيقة علمية، ثم نقلوا هذه الفرضية من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان، وقرروا أن العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، ولا عن العلاقات بين المجتمعات والدول. وعلى هذا، تم استخدام النموذج الدارويني لا لتفسير الطبيعة/المادة وحسب وإنما لتفسير حياة الإنسان الفرد في المجتمعات، وفي تفسير العلاقات بين الدول والمجتمعات على المستوى الدولي.
وقد وُظِّفت الداروينية الاجتماعية في تبرير التفاوت بين الطبقات داخل المجتمع الواحد وفي الدفاع عن حق الدولة العلمانية المطلقة وفي تبرير المشروع الإمبريالي الغربي على صعيد العالم بأسره. فالفقراء في المجتمعات الغربية وشعوب آسيا وأفريقيا (والضعفاء على وجه العموم) هم الذين أثبتوا أن مقدرتهم على البقاء ليست مرتفعة، ولذا فهم يستحقون الفناء أو على الأقل الخضوع للأثرياء ولشعوب أوربا الأقوى والأصلح.
ويمكن تلخيص الأطروحات الأساسية في الداروينية الاجتماعية على النحو التالي:
1 ـ كل الأنواع العضوية ظهرت من خلال عملية طويلة من التطور، وهي عملية حتمية شاملة تشمل كل الكائنات (وضمن ذلك الإنسان) وكل المجتمعات في المراحل التاريخية كافة.
2 ـ العالم كله في حالة تَطوُّر دائم، وهذا التطور يتبع نمطاً واضحاً متكرراً رغم أن التطور قد يكون بطيئاً وغير ملحوظ أحياناً، وقد يأخذ شكل طفرة فجائية واضحة أحياناً أخرى.(2/72)
3 ـ تتم عملية التطور من خلال صراع دائم بين الكائنات والأنواع. فالصراع دموي حتمي، وهو صراع جماعي لا فردي.
4 ـ السبب الذي يؤدي إلى تَغيُّر الأنواع هو الاختيار الطبيعي الذي يؤثر في جماعات الكائنات العضوية ويترك عليها آثاراً مختلفة.
5 ـ الكائن أو النوع الذي ينتصر على الكائنات والأنواع الأخرى، ويحقق البقاء المادي لنفسه، يثبت بالتالي أنه أرقى من الأنواع الأخرى إذ حقق البقاء على حسابها، فبقي هو بينما كان مصيرها الفناء.
6 ـ تحقِّق الكائنات البقاء إما من خلال التكيف (البرجماتي) مع الواقع فتتلون بألوانه وتخضع لقوانينه، أو تحققه من خلال القوة وتأكيد الإرادة (النيتشوية) على الواقع، والبقاء من نصيب الأصلح القادر على التكيف والأقوى القادر على فرض إرادته. ومن أشكال التكيف، الانتقال من التجانس (البسيط) إلى اللاتجانس (المركب) .
7 ـ مهما كانت آلية البقاء، لا علاقة لها بأية قيم مطلقة متجاوزة، مثل الأمانة أو الأخلاق أو الجمال، فالبقاء هو القيمة المحورية في المنظومة الداروينية التي تتجاوز الخير والشر والحزن والفرح.
8 ـ النوع الذي ينتصر يورث الخصائص التي أدت إلى انتصاره (سر بقائه) إلى بقية أعضاء النوع، بمعنى أن التفوق يصبح عنصراً وراثياً.
9 ـ هذا يعني استحالة وجود مساواة مبدئية بين الأنواع أو بين أعضاء الجنس البشري.
10 ـ مع تزايد معدلات التطور، تصبح هناك كائنات أكثر رقياً من الكائنات الأخرى بحكم بنيتها البيولوجية، ومن ثم يصبح للتفاوت الثقافي أساس بيولوجي حتمي.
ولعله لا توجد فلسفة أثرت في عصرنا الحديث أكثر من الفلسفة الداروينية، كما لا توجد فلسفة بلورت الرؤية العلمانية للكون أكثر من الفلسفة الداروينية:(2/73)
1 ـ فقد رسخت الفلسفة الداروينية أفكار الواحدية المادية التي تذهب إلى أن العالم إن هو إلا مادة واحدة صدر عنها كل شيء، مادة خالية من الغرض والهدف والغاية ولا توجد داخلها مطلقات متجاوزة من أي نوع. فالعالم طبيعة، والطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال. ولا توجد أية ثغرات في الكون إذ أن المنطق المادي حتمي شامل يشمل كل شيء. ولا توجد ثنائيات في الكون إذ يُرَد كل شيء إلى المادة ويُفسَّر كل شيء بالتطور المادي. ومع هذا، توجد الثنائيات الاجتماعية الصلبة: الأقوياء/الضعفاء ـ الأثرياء/الفقراء ـ السادة/العبيد ـ القادرون على البقاء/ضحايا الصراع.(2/74)
2 ـ الإنسان إن هو إلا جزء من هذه الطبيعة وهذه المادة، وقد صدر هو أيضاً عنهما من خلال عملية التطور، إذ لا يوجد سوى قانون طبيعي واحد يسري على الإنسان والأشياء، فالوجود الإنساني نفسه يتحقق من خلال الآليات التي يتحقق من خلالها وجود كل الكائنات الأخرى، أي الصراع والقوة والتكيف. وهو وجود مؤقت، تماماً مثل مكانته في قمة سلم التطور، إذ أنه حتماً سيفقد مكانته هذه من خلال سلسلة التطور التي دفعته إلى القمة. بل يمكن القول بأن الأميبا من منظور تطوري صارم أكثر تميزاً من الإنسان لأنها حققت البقاء لنفسها مدة أطول من الإنسان. والإنسان، شأنه شأن الأميبا، لا يتمتع بأية حرية ولا يحمل أية أعباء أخلاقية، فالقوانين الأخلاقية هي مجرد تَطوُّر لأشكال من السلوك الحيواني الأقل تطوراً والحرص الغريزي على البقاء البيولوجي. وهذا يعني أن القانون الأخلاقي، وكل القوانين، هي قوانين مؤقتة نسبية، ترتبط بحلقة التطور التي أفرزتها، ولذا يتم الاحتفاظ بالقوانين طالما أنها تخدم المرحلة. ومن ثم فإن الأخلاق المطلقة تقف ضد التقدم العقلاني المادي، وخصوصاً إذا كانت أخلاقاً دينية تدعو إلى حماية الأضعف والأقل مقدرة إلى الإشفاق عليه والعناية به. وهذا يعني أن كل الأمور نسبية تماماً ولا توجد أية مطلقات، ولذا يمكن القول بأن النظرية الداروينية هي الأساس العلمي للفكر النسبي. وإذا كان التطور يتم أحياناً عن طريق الصدفة، وتحدده الحوادث العارضة، فيمكن القول بأن النظرية الداروينية هي أيضاً أساس الفكر العبثي.(2/75)
3 ـ إذا كان الأمر كذلك، فإن أفضل طريقة لتفسير سلوك الإنسان ووجوده لا يمكن أن تتم إلا من خلال النماذج الطبيعية المادية، ومن هنا حتمية وحدة العلوم. وإذا كان للظاهرة تاريخ، فهو تاريخ مادي يمكن دراسته من خلال دراسة بنية الظاهرة المادية. وقد قام داروين نفسه بتفسير الظواهر البيولوجية من خلال دراسة تاريخها البيولوجي. وكما قال أحد الباحثين فإن هذا يعني في واقع الأمر عدم وجود أي فارق أساسي بين مجموعة من الشبان الذين يختطفون فتاة ويغتصبونها ثم يقتلونها وقطيع من الذئاب تهاجم ظبياً وتلتهمه. فكلاهما تدفعه غريزة طبيعية مادية قوية. ولعل الفارق الثانوي الوحيد أن الشبان قد هاجموا عضواً من نفس نوعهم، وهو الأمر الذي يعوق عملية البقاء (وهذا هو المنطق الوحيد المقبول في إطار دارويني عقلاني مادي) .(2/76)
4 ـ ورغم الواحدية المادية التي تَصدُر عنها الداروينية، ورغم رفضها لأن تكون أية نقطة متجاوزة للمادة مصدراً للحركة، ورغم أنها تفترض عدم وجود مخطط إلهي وراء الكون، فإنها مع هذا كله تفترض وجود غائية طبيعية كالتطور باعتباره حركة من نقطة أدنى إلى نقطة أعلى ومن التجانس البسيط إلى اللاتجانس المركب، حركة حتمية تماماً مثل التقدم الحتمي الذي تفترضه معظم الأيديولوجيات العلمانية. والغائية التي يطرحها داروين غائية غير متجاوزة تأخذ شكل إيمان بأن هناك غاية كامنة في الطبيعة نفسها. لكن هذه الغائية قد تكون زيادة في التركيب والتطور من البسيط إلى المركب، وقد تكون شيئاً يُسمَّى «إرادة الحياة» أو «القوة» ، وقد يكون شكلاً من أشكال الوعي ظهر بالصدفة من خلال عملية كيماوية زادت المادة تركيباً. والمهم أن التطور، مهما بلغ بالكائنات من ارتفاع ورقي، فليس ثمة تجاوز إذ أن كل شيء (وضمن ذلك الإنسان) أصله مادي ويُرَد إلى المادة. وينطبق الشيء نفسه على نظرية الأخلاق، فالبقاء هو القيمة الوحيدة، والصراع هو الآلية، والأنانية وحب الذات هما مصدر الحركة، ولذا فإن العالم هو ساحة قتال بين الذئاب من البشر (والإنسان ذئب يفترس أخاه الإنسان) وبين الأمم التي لابد أن تصرع بعضها بعضاً لغاية البقاء، فهي حرب الجميع ضد الجميع. ولا توجد قيمة مطلقة لأي شيء، إذ أن ما يحدد القيمة هو القدرة على الصراع والبقاء. ويمكن القول بأن النظرية الداروينية هي خليط من الصورة المجازية العضوية والصورة المجازية الآلية، فالكون في حالة تَطوُّر عضوي مستمر، يتبع نمطاً ثابتاً لا يتغيَّر، ومن ثم لا يختلف التطور العضوي عن الحركة الآلية في النمطية أو الرتابة.(2/77)
وقد تبدَّت هذه المنظومة الداروينية بشكل واضح في الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، من إنكار قيمة أي شيء أو أية مرجعية متجاوزة إلى تأكيد ضرورة التنافس والصراع والإصرار على حرية السوق وآلياته وعدم تدخُّل الدولة بحيث يهلك الضعفاء ولا يبقى سوى الأقوياء. والإمبريالية هي تدويل للرؤية الداروينية حيث أصبح العالم كله سوقاً، مسرحاً لنشاط الإنسان الأبيض المتفوق الذي أباح لنفسه قتل الآخر ضماناً لبقائه وتأكيداً لقوته. وقد ساهمت الداروينية أيضاً في تزويد النظريات العرْقية الغربية والتجارب الخاصة بتحسين الأجناس والنسل والقتل الرحيم على أساس علمي.(2/78)
كما هيمنت النظرية التطورية (ذات الأصل الدارويني) على العلوم الاجتماعية. فالإيمان بالتقدم والحتمية التاريخية جميعها أشكال من التطورية. وهناك كثير من النظريات التاريخية والاجتماعية تُعَد تطبيقات لمبدأ التطور من التجانس البسيط إلى اللاتجانس المركب. فقد درس هربرت سبنسر التاريخ باعتباره تطوراً من المجتمع العسكري إلى المجتمع الصناعي، ورآه دوركهايم تطوراً من التضامن الميكانيكي إلى التضامن العضوي، ورآه ماركس تطوراً من الشيوعية البدائية إلى الشيوعية المركبة (عبر حلقات محددة: المجتمع العبودي فالإقطاعي فالرأسمالي فالاشتراكي) . بينما بيَّن أوجست كونت أن التطور هو تَطوُّر من مجتمع يستند إلى السحر إلى مجتمع يستند إلى الدين وصولاً إلى المجتمع الحديث الذي يستند إلى العلم. والفكر العرْقي الغربي هو فكر تطوري إذ يرى أن الإنسان الأبيض هو آخر حلقات التطور وأعلاها، ولذا فله حقوق معينة. وقد تبلور الفكر التطوري العرْقي في الأيديولوجيا النازية التي تبنت تماماً فكرة وحدة العلوم وَطبَّقت القوانين الطبيعية بصرامة على الكافة، وحاولت الاستفادة من قوانين التطور من خلال قواعد الصحة النازية (إبادة المعوقين والمتخلفين عقلياً وأعضاء الأجناس الأخرى) ومن خلال محاولات تحسين النسل عن طريق التخطيط وعقد زيجات أو تنظيم علاقات إخصاب تؤدي إلى إنجاب أطفال آريين أصحاء.
والفكر الصهيوني، مثله مثل الفكر النازي، ترجمة للرؤية الداروينية، فالصهاينة قاموا بغزو فلسطين باسم حقوقهم اليهودية المطلقة التي تَجُبُ حقوق الآخرين، كما أنهم جاءوا إلى فلسطين ممثلين للحضارة الأوربية يحملون عبء الرجل الأبيض. وهم، نظراً لقوتهم العسكرية، يملكون مقدرة أعلى على البقاء. أي أنهم جاءوا من الغرب مسلحين بمدفعية أيديولوجية وعسكرية داروينية علمانية ثقيلة، وقاموا بتسوية الأمور من خلال الموقع(2/79)
الدارويني النيتشوي فذبحوا الفلسطينيين وهدموا قراهم واستولوا على أراضيهم، وهي أمور شرعية تماماً من منظور دارويني علماني، بل واجبة. ولعل تَأثُّر معظم المفكرين الصهاينة بنيتشه أمر له دلالته في هذا المقام.
الاغتراب
«الاغتراب» (ويشار إليه أيضاً بـ «الاستلاب» ) ترجمة للكلمة الإنجليزية «إلينيشن alienation» التي تعني ببساطة «حالة انفصال» أو «غربة» أو «استلاب» والإحساس بأن الإنسان ليس في بيته وموطنه أو مكانه (ومن هنا نقول "الغريب أو المسافر يشعر بالغربة") . وهي من الفعل اللاتيني «إليناري alienare» بمعنى «ينزع» و «يأخذ عنوة» (من كلمة «إلينوس alienus» اللاتينية، أي «ينتمي إلى شخص آخر أو مكان آخر» من كلمة «أليوس alius» التي تعني «الآخر» ) . وقد تبلور معنى الكلمة ليشير إلى تلك الحقوق التي يتمتع بها المواطن ولا يملك أحد نزعها (كما في العبارة الإنجليزية: «إناليانبل رايتس inalienable rights» أي «الحقوق الثابتة» . وتعني الكلمة في الطب «الاضطراب العقلي الذي يجعل الإنسان غريباً عن ذاته ومجتمعه ونظراته» . أما في الفلسفة فإن الكلمة تشير إلى «غربة الإنسان عن جوهره وتنزُّله عن المقام الذي ينبغي أن يكون فيه» ، كما تشير إلى «عدم التوافق بين الماهية والوجود» ، فالاغتراب نقص وتشويه وانزياح عن الوضع الصحيح.(2/80)
ومع عصر النهضة وظهور المرجعية المادية الكامنة تمت علمنة معنى الاغتراب، فاغتراب الإنسان هو اغترابه عن ذاته وجوهره الإنساني وعن إمكانياته الإنسانية وعن الآخرين (المجتمع) . فالاغتراب في فلسفة هوبز مسألة خاصة بعلاقة الفرد بالمجتمع. فحالة الطبيعة هي حالة تربص ذئبية كاملة ولا يستطيع الإنسان أن يحقق أمنه وبقاءه (الحالة الإنسانية) إلا من خلال الدولة/التنين، فكأن الإنسان يمكنه أن يتجاوز الاغتراب من خلال الدولة العلمانية. أما روسو فقد رأى أن الاغتراب هو انقطاع الإنسان عن طبيعته الأصلية التي يمكن أن تكون إما أصوله البدائية أو طبيعته الجوهرية الثابتة، والتغلب على الاغتراب هو العودة إلى هذا الجوهر (الثابت أو البدائي) . ولعل طرح هيجل للموضوع هو أهم الأطروحات الحلولية الكمونية العلمانية. فالاغتراب عنده هو انفصال الجزء عن الكل، ويحدث هذا عندما يقوم العقل المطلق (الفكرة المطلقة ـ الإله) بخلق الطبيعة والإنسان، فهو بذلك قد طرح جزءاً منه خارجه وأصبح هذا الجزء غريباً عنه (وهذا ما يُسمَّى باغتراب الوعي عن عالم الطبيعة والأشياء الطبيعية، وانقسام الذات عن الموضوع) والخلاص هو عملية إنهاء الغربة وحالة النفي. وهي حالة لا يستطيع الإله أن يقوم بها إذ لابد للإنسان أن يقوم بها فيعيد للإله (العقل المطلق) سيطرته على الطبيعة من خلال فهمه لها وسيطرته عليها وتوحده بها (التوصل للغنوص) بحيث تصبح الذات موضوعاً والعقل واحداً مع الطبيعة، أي أن العقل المطلق يستعيد الطبيعة من خلال فهم العقل المتناهي (الإنسان) لها والسيطرة عليها. وليس التاريخ سوى محاولة الإنسان الدائبة أن يتعرف على الطبيعة ومن ثم تنمية وعيه بالمطلق.(2/81)
وقد رفض فيورباخ وحدة الوجود الروحية وطرح بدلاً منها وحدة وجود مادية، فأنكر أن يكون الإنسان إلهاً مغترباً عن ذاته، فالعكس هو الصحيح، فالإنسان خلق الإله وأسقط عليه جوهره الإنساني ثم خرّ له ساجداً وكأن الإله هو الذي خلقه. ولذا، لكي يتجاوز الإنسان غربته، عليه أن يُسقط فكرة الإله ويكتشف جوهره الإنساني.
وافق ماركس على موقف فيورباخ وأضاف أن الغربة الدينية ليست إلا أحد أشكال غربة الإنسان عن ذاته، فالإنسان هو الذي يصنع طبيعته ويصوغها (فهو ليس له طبيعة أصلية أو جوهرية) . ولكنه بدلاً من أن يركز على مظهره الإنساني فإنه يخلق الإله من نفسه (كما يقول فيورباخ) والأكثر من هذا أنه يخلق من نفسه كذلك قوانين ومبادئ ومؤسسات اجتماعية وفلسفات وسلعاً مادية ورؤوس أموال وينفصل عنها فيشعر بالاغتراب وكأنها لم تكن له وكأنه ليس خالقها، ثم يبث فيها من روحه حتى تدب فيها الحياة فتتوثن هي ويتشيأ هو فتستحيل مخلوقات مستقلة يقوم هو بعبادتها. فالإنسان المغترب عن ذاته ليس في الحقيقة إنساناً، فهو لم يعرف نفسه ولم يع تاريخه أو إمكانياته. أما الإنسان غير المغترب، فهو الإنسان الحقيقي الذي يتجاوز حالة الانفصال هذه ويتحكم في الطبيعة وفي كل ما تنتجه يداه، ويحقق لنفسه الحرية ويتحكم في مصيره.
وأسباب الاغتراب عند ماركس ذات طبيعة اقتصادية مادية كامنة في علاقات الإنتاج والهيمنة الطبقية:
1 ـ يغترب الإنسان عن عمله في المجتمع الرأسمالي لأنه يبيعه.
2 ـ يغترب الإنسان عن طبيعة عمله نفسها، فبدلاً من أن يكون العمل مصدراً لتحقيق ذاته وتجسيداً لقواه الإبداعية، فإنه في المجتمع البورجوازي يصبح شكلاً من أشكال السخرة.
3 ـ يغترب الإنسان عن الآخرين لأن جوهر العلاقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي هو التنافس.(2/82)
4 ـ يغترب الإنسان عن الطبيعة الإنسانية الجوهرية ويغترب أيضاً عن فكرة الكل وما يميِّز الإنسان عن الحيوان هو أن الحيوان يتكيف مع بيئته، أما الإنسان فإنه يسيطر عليها بوعي. وتحت حكم الرأسمالية، يفقد العامل عنصر السيطرة ويصبح في مرتبة الحيوان (أي أن المرجعية الإنسانية المتجاوزة تتهاوى لتحل محلها المرجعية الكامنة في الحيوان) .
ويمكن إلغاء حالة الاغتراب من خلال الثورة وتغيير علاقات الإنتاج فيصبح العامل حراً ليعبِّر عن إمكانياته الإبداعية التي يجسدها ثمرة عمله، ولن تصبح حياة الإنسان شظايا مفتتة بل سيصبح كلاً متكاملاً.
وثمة مشكلة أساسية في مفهوم ماركس للاغتراب وبخاصة جوهر الإنسان، وتتلخص فيما يلي: هل جوهر الإنسان محايث للإنسان من حيث هو إنسان، أي جوهر مطلق (متجاوز) لا يخضع في تحديده إلى التاريخ أو إلى الشروط الاجتماعية، أم أن الجوهر الإنساني هو محصلة للعلاقات الاجتماعية ومن ثم يؤدي تغيير هذه العلاقات إلى تغييره، وعليه لا يكون الجوهر الإنساني محايثاً للإنسان بل خاضعاً للتحديدات الاجتماعية، ومن ثم يجب عدم الحديث عن جوهر إنساني وينتهي أساس التجاوز الإنساني؟ يبدو أن ماركس، في أواخر حياته وبعد فترة تأرجح طويلة، حسم القضية لصالح إنكار الجوهر تماماً إذ قال: " لا تنطلق طريقتي في التحليل من الإنسان بل من الفترة الاجتماعية المعطاة اقتصادياً". وهذا ما فعله ستالين وألتوسير حينما أكدا العنصر الاقتصادي المادي.(2/83)
ولم يقنع علم الاجتماع الغربي بالتفسير الاقتصادي للاغتراب وطرح السؤال عما إذا كان الاغتراب حالة إنسانية دائمة أم حالة مؤقتة؟ أي أن السؤال هو: هل يمكن تجاوز الاغتراب تماماً أم لا؟ وإذا كان جوهر المنظومة العلمانية هي التقدم وتراكم المعرفة والسلع وتزايد التحكم في الذات والطبيعة، فهل يؤدي التقدم إلى تناقص الاغتراب أم تزايده؟ يرى فرويد، على سبيل المثال، أن الاغتراب هو اغتراب عن اللبيدو (ودوافع الإنسان الجنسية) ، ومن ثم فإن الاغتراب مرتبط تماماً بالحضارة ومتطلباتها وأن إنهاء الاغتراب أمر مستحيل حتى لو تم إلغاء المجتمع الطبقي. ويرى الوجوديون أن الاغتراب حالة نهائية، فكل إنسان يحيا ويموت وحيداً، غريباً عن نفسه وعن الآخرين.
وثمة ارتباط (وأحياناً ترادف) بين التشيؤ والتوثن والاغتراب يظهر في بعض جوانب المجال الدلالي للاغتراب:
1 ـ فالاغتراب هو فقدان الإنسان العلاقة مع مشاعره الإنسانية الدفينة العميقة واحتياجاته الإنسانية.
2 ـ الاغتراب يعني إحساس الإنسان بتزايد هيمنة الإجراءات البيروقراطية اللا شخصية على حياته (بل إن ثمة ترابطاً بين الاغتراب والترشيد في الإطار المادي) .
3 ـ الاغتراب يعني إحساس الفرد بالعجز وشعوره بأنه غير قادر على التأثير في المواقف الاجتماعية المحيطة به.
4 ـ الاغتراب هو الإحساس بالعزلة وانفصال الفرد عن تيار الثقافة السائد.
5 ـ الاغتراب هو الإحساس بغياب المعنى واللا معيارية.
ولعل إبهام مصطلح «الاغتراب» يعود إلى تأرجح مضمونه بين «المرجعية المتجاوزة» و «المرجعية المادية الكامنة» ، وإلى أن الحقل الدلالي متشعب يصف جوانب متعددة للظاهرة التي نشير إليها بمصطلح «العلمانية الشاملة» .
اللامعيارية (اللاعقلانية المادية ((2/84)
» اللامعيارية» (التي يُشار إليها أيضاً بـ «التفسخ» ) هي ترجمة للكلمة الفرنسية أو الإنجليزية «أنومي anomie» التي تُستخدَم بالهجاء الفرنسي في كلتا اللغتين، وهي من كلمة يونانية تعني «بلا قانون» أو «ناموس» . والكلمة تعني فقدان المعايير وغياب أي اتفاق جوهري أو إجماع بشأنها في المجتمع الحديث (الذي تتآكل فيه القيم والتقاليد) . وكان دوركهايم أول من َطوَّر المصطلح فبيَّن أن حالة اللامعيارية تنشأ في حالة انتقال المجتمع من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي قبل اكتمال مؤسسات المجتمع العضوي. ويذهب دوركهايم إلى أن السعادة البشرية والنظام الاجتماعي يعتمدان على درجة من التنظيم الاجتماعي من قبَل المجتمع وعلى الإجماع، وبدونهما تسقط الطبيعة البشرية فريسة "لمرض التطلع اللامتناهي" ويفشل المجتمع في تحقيق الطمأنينة لأعضائه. ومما يزيد الأمر سوءاً أن المؤسسات الوسيطة التي تُوجَد في المجتمعات التقليدية تختفي تماماً في العصر الحديث، الأمر الذي يترك الفرد وحيداً في مواجهة حالة اللامعيارية هذه. وأحد أشكال تزايد معدلات اللامعيارية هو تزايد معدلات الانتحار.(2/85)
ويُستخدَم الاصطلاح أحياناً كمرادف لمصطلح «الاغتراب» حيث يصبح الفرد بلا جذور فيفقد الاتجاه، ويسبب له هذا اختلالاً نفسياً. وقد عدَّل روبرت مرتون معنى كلمة «أنومي» قليلاً. فبدلاً من الحديث عن غياب المعيارية، تحدَّث عن الصراع بين المعايير، أي أن حالة الأنومي تظهر حينما يواجه المرء أهدافاً غير متسقة في حياته، أو حينما يُطرَح عليه حلم مستحيل (هدف نهائي دون توفير الوسائل التي تُمكِّنه من تحقيق الهدف) ، أو حينما تتناقض الأهداف الاجتماعية مع المقاييس السلوكية التي تساعد على تحقيقها. ففي الولايات المتحدة ـ على سبيل المثال ـ يؤكد الحلم الأمريكي أن تحقيق الثروة هو الهدف من الحياة، وهو ما عُبِّر عنه بمقولة "من الأسمال إلى الثروة"، ولكن الوسائل المتاحة لتحقيق هذا محدودة جداً والفرد الأمريكي لا يتمكن من تحقيق حلمه من خلال القنوات الشرعية مهما قمع ذاته وبذل من تضحيات (على عكس ما تزعمه الأسطورة) . ولذا، تبدأ حالة الأنومي في الظهور ويلجأ الفرد لوسائل غير مشروعة مثل الانحراف والجريمة وتعاطي المخدرات، إما لتحقيق الهدف المستحيل أو لتحقيق التوازن الذي فقده الإنسان نتيجة الحلم المستحيل.(2/86)
ويمكن أن نضيف إلى كل هذا اكتشاف الفرد تفاهة الحلم أو المثل الأعلى الذي يسعى إلى تحقيقه. ففي المجتمعات الاستهلاكية، كثيراً ما يقوم الفرد بعملية قمع هائلة لإنسانيته وتلقائيته ويحقق النجاح المنشود ويصل إلى الفردوس الأرضي ويحقق الثراء ويمتلك كل ما يفترض فيه أنه سيحقق السعادة له (منزلاً كبيراً ـ منزلاً صيفياً ـ قارباً ـ سيارتين ـ زوجة ـ طفلين ـ كلب.. إلخ) . ولكنه يكتشف أن ثمة فراغاً في حياته، وأنه لا يمارس أي إشباع روحي رغم النجاح المادي الكامل (فالنجاح لم يحقق جوهره الإنساني المتكامل المركب المتجاوز) . وهنا يصاب المرء بحالة الأنومي، فيتمرد على وضعه بأن يقرر أن يجرب الفشل بدلاً من النجاح، والفقر بدلاً من الثراء، والحياة البوهيمية بدلاً من الانضباط الشديد الذي أدى إلى نجاحه.
ويمكن أن نطور المصطلح ليكتسب بُعداً معرفياً ونقول إن اللامعيارية إمكانية كامنة في النماذج المادية التي تطمح لأن يولِّد الإنسان المعيارية إما من عقله أو من الطبيعة/المادة. ومن خلال التطور يكتشف الإنسان أن عقله بدون مرجعية يدور حول ذاته ويُقدس القوة وأن الطبيعة/المادة هي حركة بلا غاية أو هدف ومن ثم لا تَصلُح مصدراً للمعيارية. ومن ثم يتم الانتقال من العقلانية المادية إلى اللاعقلانية المادية ومن التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة، واللامعيارية هي جوهر ما بعد الحداثة.(2/87)
الباب السادس: مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن
العلمنة البنيوية الكامنة
«العلمنة البنيوية الكامنة» مصطلح قمنا بسكه لوصف أهم أشكال العلمنة وأكثرها ظهوراً وشيوعاً. وقد يكون من المفيد أن نبدأ بأن نُذكِّر أنفسنا بحقيقة بديهية وهي أن كل الأشياء المحيطة بنا، المهم منها والتافه، تُجسِّد نموذجاً حضارياً متكاملاً يحوي داخله إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية. فإن كانت هذه الأشياء تُجسِّد الرؤية العلمانية الشاملة، فإنها ستقوم بإعادة صياغة وجدان وأحلام ورغبات الناس (حياتهم الخاصة) وتعلمنهم بشكل شامل، دون أن يشعروا بذلك، من خلال عمليات في غاية التركيب والكمون.(2/88)
وفي دراستنا للعلمانية عادةً ما نركز على التعريفات والمصطلحات المعجمية وعلى المخططات الثقافية والممارسات الواضحة وننسى أن العلمنة تتم من خلال منتجات حضارية يومية وأفكار شائعة وتحولات اجتماعية تبدو كلها بريئة أو لا علاقة لها بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها، في واقع الأمر، تخلق جواً خصباً مواتياً لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، وتصوغ سلوك من يتبناها وتوجِّهه وجهة علمانية ولذا فهي «علمنة بنيوية وكامنة» . وقد وصفناها بأنها «بنيوية» لأن سمات المنتج الحضاري أو الأفكار أو التحولات التي تقوم بعملية العلمنة هي جزء عضوي من بنية هذا المنتج وهذه الأفكار وهذه التحولات لا تضاف إليه، ولا يمكن استخدام هذا المنتج أو تبنِّي هذه الأفكار أو خوض هذه التحولات دون أن يجد الإنسان نفسه متوجهاً توجُّهاً علمانياً شاملاً. والصفات البنيوية عادة ما تكون كامنة، غير ظاهرة أو واضحة، وهي من الكمون والتخفي لدرجة أن معظم من يتداولون المنتجات الحضارية ويستبطنون الأفكار البريئة ويعيشون في ظلال التحولات الانقلابية التي تؤدي إلى توليد الرؤية العلمانية غير مدركين لأثرها. بل إن كثيرين ممن يساهمون في صنع هذه المنتجات وصياغة هذه الأفكار وإحداث هذه الانقلابات قد يفعلون ذلك وهم غير مدركين لتضميناتها الفلسفية ودورها القوي في صياغة الإدراك والسلوك. ولذا يمكن أن يكون هناك مجتمع يتبنى بشكل واضح ظاهر أيديولوجية دينية، أو رؤية علمانية جزئية، ولكن عمليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة من القوة بحيث إنها توجِّه المجتمع وجهة مغايرة تماماً لا يشعر بها أعضاء المجتمع أنفسهم.
ولنحاول أن نضرب بعض الأمثلة:
1 ـ التحولات الاجتماعية:(2/89)
من المعروف أن الاتحاد السوفيتي كان دولة تؤمن بعقيدة علمانية شاملة محددة واضحة ذات طابع إلحادي مادي هجومي. ويرى البعض أن هذه الدعاية الإلحادية في الاتحاد السوفيتي هي التي تسببت في هيمنة العلمانية الشاملة. ولكن الدراسة المتعمقة تُبيِّن أن عمليات العلمنة تمت أساساً في واقع الأمر من خلال عمليات التصنيع والتمدن «إربانيزيشن urbanization» ، أي «انتشار نمط الحياة في المدن» ، مثل تركيز البشر في رقعة محدودة، وظهور أشكال جديدة من التضامن غير الأشكال القبلية أو القروية أو الأسرية، وتَسارُع إيقاع الحياة، وانتشار المصنع (والسوق) كوحدات أساسية ومركزية، وهكذا فقد خلقت هذه التطورات البنيوية استعداداً ذهنياً ونفسياً لدى المواطن السوفيتي للتعامل مع الواقع بشكل هندسي كمي، وخلقت التربة الخصبة التي ينمو فيها الإيمان بأن الواقع إن هو إلا مادة نسبية تُوظَّف لتعظيم اللذة وزيادة المنفعة المادية، وبأن القيم الأخلاقية نسبية، وبأن البقاء للأصلح، أي أن بنية المجتمع نفسها تُولِّد رؤية معرفية أخلاقية علمانية بغض النظر عن نطاق الدعاية الإلحادية الصريحة. وقد تمت علمنة المجتمع السوفيتي من خلال هذه العمليات التي تبدو بريئة تماماً.(2/90)
ويمكننا الآن أن نقارن بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. فلو كانت الدعاية الإلحادية وإشاعة الأفكار العلمانية الواضحة هي سبب علمنة الاتحاد السوفيتي لكانت معدلات العلمنة في الاتحاد السوفيتي تفوق المعدلات السائدة في الولايات المتحدة كثيراً. فالولايات المتحدة تسمح بحرية العقيدة وبالتبشير وبالدعاية الدينية، وعدد الكنائس في الولايات المتحدة كبير جداً. وحتى عهد قريب كان من المستحيل على أحد أعضاء النخبة الحاكمة أن يُجاهر بإلحاده ويحتفظ بمنصبه. ولا يزال هذا الوضع قائماً في كثير من الولايات، ولا يزال كثير من الساسة يحرصون على حضور الصلوات يوم الأحد، بل إن الدولار الأمريكي متوج بعبارة "نحن نثق بالإله". رغم كل هذا سنكتشف أن الولايات المتحدة هي أكثر البلاد علمنة بلا منازع. وهذا يعود إلى مركب من الأسباب من أهمها التغيرات البنيوية الضخمة (التي ليس لها نظير في أي مجتمع) التي أدَّت إلى تزايد التصنيع والتمدن وتَسارُع إيقاع الحياة بمعدلات تفوق المعدلات السائدة في الاتحاد السوفيتي.
ويمكن القول بأن ظهور الدولة المركزية من أهم أشكال العلمنة البنيوية الكامنة. فالدولة المركزية، نظراً لطبيعتها وبنيتها، لا يمكنها أن تتعامل مع الجماعات الصغيرة أو الوحدات الاجتماعية التي تتمتع بقدر من الخصوصية، فالتعامل مع الوحدات الكبيرة أمر أيسر بكثير بالنسبة لها، ولذا فهي تميل نحو التنميط والترشيد في إطار النماذج الكمية والمادية. وهذا إما أن يؤدي إلى علمنة المجتمع أو إلى خلق تربة خصبة لتقبل العلمانية. وكثيرون ممن تبنوا نمط الدولة المركزية القومية لم يكونوا مدركين لهذه الخاصية البنيوية اللصيقة بها.
2 ـ الأفكار التي تبدو محايدة بريئة:(2/91)
كثير من الأفكار التي تبدو محايدة بريئة تماماً، لا علاقة لها بأية أيديولوجية، تضمر في واقع الأمر الرؤية العلمانية الشاملة. ففكرة الإنسان الطبيعي والقول بوحدة (أي واحدية) العلوم وتبني النماذج الموضوعية المادية في تفسير ظاهرة الإنسان وفكرة نهاية التاريخ والمنظومات الحلولية وخطاب التمركز حول الأنثى (انظر: «الإنسان الطبيعي (المادي) » ـ «وحدة العلوم» ـ «هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية» ـ «نهاية التاريخ» ) هي في تصوُّري الأساس الصلب للرؤية العلمانية الشاملة، ومع هذا فإن كثيرين ممن قاموا بالترويج لهذه الأفكار ولغيرها لم يدركوا النماذج الكامنة وراءها.
3 ـ المنتجات الحضارية اليومية:
تُعَد المنتجات الحضارية المألوفة البريئة من أهم آليات العلمنة الشاملة البنيوية الكامنة. ولنضرب مثلاً بالتِّيشيرت T-Shirt الذي يرتديه أي طفل أو رجل وقد كتب عليه مثلاً «اشرب كوكا كولا» . إن الرداء الذي كان يُوظَّف في الماضي لستر عورة الإنسان ولوقايته من الحر والبرد، وربما للتعبير عن الهوية، قد وُظِّف في حالة التِّيشيرت بحيث أصبح الإنسان مساحة لا خصوصية لها غير متجاوزة لعالم الحواس والطبيعة/المادة، ثم تُوظف هذه المساحة في خدمة شركة الكوكاكولا (على سبيل المثال) وهي عملية توظيف تُفقد المرء هويته وتحيّده بحيث يصبح منتجاً بائعاً (الصدر كمساحة) ومستهلكاً للكوكاكولا (هذا مع العلم بأن الكوكاكولا ليست محرمة) ، أي أن التِّيشيرت أصبح آلية كامنة من آليات العلمنة، ومع هذا لا يمكن القول بأن الكثيرين يدركون ذلك.(2/92)
وقُل الشيء نفسه عن المنزل، فهو ليس بأمر محايد أو برئ، كما قد يتراءى للمرء لأول وهلة، فهو عادةً ما يُجسِّد رؤية للكون تؤثر في سلوك من يعيش فيه، شاء أم أبى. لذا حينما يصبح المنزل عملياً وظيفياً، يهدف إلى تحقيق الكفاءة في الحركة والأداء ولا يكترث بالخصوصية والأسرار، فإنه مثل التيشيرت يصبح هو الآخر خلواً من الشخصية والعمق. وأثاث هذا المنزل عادةً وظيفي، يلفظ أية خصوصية باسم الوظيفية والبساطة، ولكن البساطة هنا تعني في الواقع غياب الخصوصية. ولنتخيل الآن إنساناً يلبس التيشيرت ويسكن في منزل وظيفي بُني ربما على طريقة البريفاب (الكتل الصماء سابقة الإعداد) ويأكل طعاماً وظيفياً (هامبورجر ـ تيك أواي تم طبخه بطريقة نمطية) وينام على سرير وظيفي، أفلن يتحول هذا الإنسان إلى إنسان وظيفي متكيف لا تُوجَد في حياته خصوصية أو أسرار، إنسان قادر على تنفيذ كل ما يصدر إليه من أوامر دون أن يثير أية تساؤلات أخلاقية أو فلسفية؟ قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة وجدواها.(2/93)
والعلمنة الشاملة البنيوية الكامنة هذه، من خلال أبسط الأشياء، لا تتم على مستوى البيئة الاجتماعية والمادية البرانية وإنما تتغلغل لتصل إلى باطن الإنسان، إلى مستوى عالم الأحلام والرغبات، وهنا سيأتي دور الصور المحايدة البريئة. فصديقنا الوظيفي، إن أراد أن يزجي أوقات فراغه، فإنه سيشاهد فيلماً أمريكياً يقوم بعلمنة وجدانه ورغباته، فالموقف الأساسي في معظم هذه الأفلام هو بطل لا يدين بأية مرجعيات أخلاقية، يقع في حب فتاة جميلة هي البطلة (ولعل كلمة «حب» هنا كلمة متخلفة قليلاً، فهو في الواقع "يشتهيها" وحسب وعلى استعداد لأن "يتعايش" معها) . وتظهر بعض الصعوبات التي يتجاوزها البطل الدارويني، ويفوز بما يشتهي وينغمس في الإشباع الفوري. ولا يختلف هذا عن الكارتون المسمَّى «توم وجيري» ، الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقياً، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل. ولنلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تُفرِّق بين الظاهر والباطن. كما أن الصراع بين الاثنين لاينتهى، يبدأ ببداية الفيلم ولا ينتهى بنهايته، فالعالم، حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التى تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيرى. (أثبتت إحدى الدراسات أن أفلام توم وجيري هي أكبر آلية نقل فكرة حسم المشاكل عن طريق العنف للأطفال.(2/94)
وأعتقد أن من أهم آليات العلمنة البنيوية الكامنة في العالم هي هوليود، وخصوصاً أفلامها غير الفاضحة، مثل أفلام رعاة البقر المسماة «الويسترن western» وأفلام الحرب، فالرؤية العلمانية الشاملة كامنة فيها، بشكل يصعب على الإنسان اكتشافه. وأفلام الويسترن بالذات تنقل لنا رؤية علمانية إمبريالية عنصرية بشعة متحيزة ضدنا. فبطل الفيلم هو الرائد (بالإنجليزية: بايونير pioneer) ،الرجل الأبيض الذي يذهب إلى البرية (أرض بلا شعب) ليفتحها ويستقر فيها ولا يحمل سوى مسدسه. وكلنا يعرف المنظر الشهير، حين يقف اثنان من رعاة البقر في لحظة المواجهة التي يفوز فيها من يصل إلى مسدسه "أسرع" من الآخر. إن هذا المنظر الذى انطبع فى مخيلتنا منذ نعومة أظافرنا، يعلمنا كل أسس الداروينية الاجتماعية: أن الصراع من أجل البقاء هو سنة الحياة وأنه لا يكتب البقاء إلا للأصلح، أى الأقوى أو الأسرع أو الأكثر دهاء ومكرا، وهى مجموعة من الصفات التى لا علاقة لها بأية منظومة قيمية، دينية كانت أم أخلاقية أم إنسانية. وحينما يظهر الهنود الأشرار، هؤلاء «الإرهابيون» أصحاب الأرض الأصليين الذين لا يتركونه وشأنه كى يرعى أبقاره ويبنى مزرعته، أى مستوطنته، على أرضهم وأرض أجدادهم، يحصدهم الكاوبوي برصاصه حصداً "دفاعاً" عن الفتاة البيضاء البريئة وعن حقوقه المطلقه. نستمتع بكل هذا دون أن ندرك أن الكاوبوي هو في واقع الأمر الرائد الصهيوني (الحالوتس) ، وأنه الإنسان الأبيض الإمبريالي الذي نهب ديارنا وثرواتنا وأذلنا، وأن الهنود هم نحن، العرب والفلسطينيون، وأن البرية، هي، فى واقع الأمر، العالم الثالث بأسره، أرض بلا شعب، أو شعب ينظر له الإنسان الغربي من خلال رؤيته العلمانية الإمبريالية الشاملة باعتباره مادة استعمالية يمكنه أن يحوسلها لصالحه. وهكذا نستوعب الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، بلا وعى ولا إدراك من جانبنا، فقد جاءت لنا مغلفة تغليفا أنيقا،(2/95)
جزءًا عضويًا كامنًا فى بنيه فيلم لذيل مسل.
وما قولكم في هذه النجمة السينمائية المغمورة (أو الساطعة) التي تحدثنا عن ذكريات طفولتها وفلسفتها في الحياة وعدد المرات التي تزوجت فيها وخبراتها المتنوعة مع أزواجها، ثم تتناقل الصحف هذه الأخبار وكأنها الحكمة كل الحكمة! أليس هذا أيضاً علمنة للوجدان والأحلام إذ تحوَّلت النجمة إلى مصدر للقيمة وأصبح أسلوب حياتها هو القدوة التي تُحتذى، وأصبحت أقوالها المرجعية النهائية؟ والمسكينة لا علاقة لها بأية مرجعية، ولا أية قيمة ولا أية مطلقية، إذ أن رؤيتها للعالم محصورة بحدود جسدها الذي قد يكون رائعاً، ولكنه ولا شك محدود ونسبي. كما أن خبراتها مع أزواجها (رغم أنها قد تكون مثيرة) لا تصلح أساساً لرؤية معرفية أخلاقية (إلا إذا كانت رؤية علمانية عدمية ترى أن كل الأمور نسبية) . ومع هذا، تُصر الصحف على أن «فلانة» المغنية لا تختلف في أحكامها وحكمتها عن أحكام وحكمة أحكم الحكماء وأعمق الفلاسفة. وإذا أخذنا الحكمة من أفواه نجمات السينما والراقصات وملكات الجاذبية الجنسية، فستكون حكمة لها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يُوصف بالروحانية أو الأخلاقية أو ما شابه من أوصاف تقليدية عتيقة! وقد يكون وصف أقوال هذه النجمة بأنها منافية للأخلاق أو للذوق العام وصفاً دقيقاً، ولكنه مع هذا لا يُبيِّن الدور الذي تلعبه النجمة وأفكارها في إعادة صياغة رؤية الإنسان لنفسه وتَصوُّره لذاته وللكون.(2/96)
وما يهمنا في كل هذا أن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة تماماً تؤثر في وجداننا وتُعيد صيانة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ أن أولئك الذين يشاهد أطفالهم توم وجيري، ويرتدون التِّيشيرت، ويشاهدون الأفلام الأمريكية (إباحية كانت أم غير إباحية) ، ويسمعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كماً هائلاً من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة يجدون أنفسهم يسلكون سلوكاً ذا توجُّه علماني شامل ويستبطنون عن غير وعي مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة.
ونظراً لعدم إدراك البعض لأشكال العلمنة البنيوية الكامنة هذه، فإنه لا يرصدها. ولذا، يُخفق هذا البعض في تحديد مستويات العلمنة الحقيقية. وعلى هذا، فقد يُصنَّف بلد باعتباره إسلامياً (مثلاً) لأن دستور هذا البلد هو الشريعة الإسلامية مع أن معدلات العلمنة فيه قد تكون أعلى من بلد دستوره ليس بالضرورة إسلامياً ولكن معظم سكانه لا يزالون بمنأى عن آليات العلمنة البنيوية الكامنة التي أشرنا إليها.
وتجدر ملاحظة أن العلمنة البنيوية الكامنة قد تؤدي إلى توليد متتاليات جديدة للعلمنة تختلف عن المتتالية الغربية (التي تبدأ بعلمنة القطاع الاقتصادي والسياسي وتنتهي بعلمنة الوجدان والسلوك) فعادةً ما تتم علمنة الوجدان أولاً (ثورة التوقعات المتزايدة) وعلمنة بعض جوانب السلوك (زي معيَّن ـ أشكال جديدة من المتعة) ربما بدرجة عالية قريبة من العالم الغربي، ومع هذا يظل القطاع الاقتصادي والقطاع السياسي يدوران في أطر أكثر تقليدية وأقل علمنة وحداثة. ويُلاحَظ هذا في تركيب الأسرة في العالم الثالث حيث نجد أن كل جيل من أجيال هذه الأسرة، بل أحياناً كل عضو، قد تمت علمنته بمعدلات مختلفة.(2/97)
المطلق العلمانى الشامل
كل نسق معرفي يدور حول مطلق بمعنى «ركيزة نهائية» أو «أساس نهائي» . ويمكن تعريف المطلق بأنه المركز الذي يتجاوز كل الأجزاء ولا يتجاوزه شيء، وبأنه ما يؤدي وجوده إلى تماسك أجزاء النسق، فهو مصدر الوحدة والتناسق، وهو الركيزة النهائية للنسق أو الصورة المجازية والمبدأ الواحد والمرجعية النهائية والميتافيزيقا المسبقة. والمطلق في المنظومات الكمونية هو مركز الكون الكامن فيه. وأي نسق فلسفي لابد أن يكون له مركز يشكل مطلقه ويقبله أتباع هذا النسق دون تساؤل بشأنه ودون نقاش.
والأنساق الفكرية العلمانية (وهي أنساق كمونية) قد تنكر أية نقطة مرجعية متجاوزة لهذه الدنيا، إلا أنها تستند إلى ركيزة أساسية ومرجعية نهائية كامنة في المادة (الطبيعة أو الإنسان أو التاريخ) ، ولذا فهي مرجعية نهائية مادية، مركز مطلق أو مركز يشكل مصدر التماسك في الكون والمجتمع ويزوده بالهدف والغاية ويشكل أساس وحدته ويتجاوز كل الأجزاء (من الناحية التفسيرية) وإن كان لا يتجاوزها أنطولوجياً بسبب كمونه فيها. هذا المطلق في أقصى درجات تعميمه هو المبدأ الواحد. وقد يأخذ أشكالاً كثيرة، ولكنه في التحليل النهائي هو الطبيعة، التي نشير إليها عادةً بـ «الطبيعة/المادة» .(2/98)
وهذا المطلق العلماني الأساسي الكامن هو وحده المطلق النهائي، هو وحده الثابت وما عداه متغيِّر، مجرد تنويعات عليه. فيقول المرء: "قانون الطبيعة أو قانون الحركة هو كذا" أو يقول: "إننا توصلنا إلى كذا وهو ما يتفق مع القوانين الطبيعية/المادية" ـ ومن هنا الحديث عن «الإنسان الطبيعي» ، أي «الإنسان الطبيعي المادي» الذي يعيش حسب قوانين الطبيعة/المادة ويستمد منها وحدها المعرفة والقيم الأخلاقية والجمالية. وقد عبَّر هذا المطلق النهائي (هذه المرجعية النهائية المادية الكامنة) عن نفسه في بداية الأمر بشكل واضح مباشر، فكان هوبز يشير إلى الدولة/التنين، وإلى الأخلاقيات الذئبية للإنسان باعتبارها تعبيراً عن الطبيعة/المادة، كما تحدث لوك عن عقل الإنسان والصفحة البيضاء التي لا تختلف عن الطبيعة/المادة في أي شيء، وقام كثير من فلاسفة الاستنارة بمحاولة رؤية الإنسان باعتباره آلة وحسب، وقد بسَّط بنتام المنظومة الأخلاقية وجعلها تدور حول المنفعة واللذة بشكل آلي. ويمكن أن نضم إلى هؤلاء دعاة النظرية العرْقية الغربية التي زودت الإمبريالية الغربية بإطار نظري لإبادة الملايين، إذ ترى هذه النظرية أن ما يميِّز البشر ومرجعيتهم النهائية (المادية الكامنة) هو انتماؤهم العرْقي (الطبيعي/المادي) ومن ثم يمكن تفسير تفاوتهم بالعودة إلى القوانين البيولوجية (الطبيعية/المادية) .(2/99)
ويُسمِّي الماركسيون هؤلاء الفلاسفة بالماديين الآليين أو الماديين السُذج أو السوقيين، وهم بالفعل أصحاب رؤية مادية واحدية للإنسان، يتحدثون عن الدوافع الإنسانية وعن الطبيعة البشرية بشكل تافه ساذج أحادي البُعد. وقد أدَّى ذلك إلى رد فعل في الفكر الغربي وظهرت محاولة لاستعادة مفهوم أكثر تركيبية للإنسان ولعقله ولعلاقته بالطبيعة والمجتمع، فظهرت مطلقات ومرجعيات نهائية مادية كامنة أكثر تركيبية وإن لم تكن أقل كمونية مثل: اليد الخفية عند آدم سميث ـ المنفعة عند بنتام ـ وسائل الإنتاج عند ماركس ـ الجنس عند فرويد ـ إرادة القوة عند نيتشه ـ قانون البقاء عند داروين ـ الطفرة الحيوية عند برجسون ـ الروح المطلقة عند هيجل التي تتوحد بالطبيعة في نهاية التاريخ ـ روح التاريخ ـ روح الحضارة ـ روح العصر ـ عبقرية المكان ـ التقدم اللانهائي ـ عبء الرجل الأبيض باعتباره عبئاً حضارياً ... إلخ. ولكن، رغم التركيبية الظاهرة لهذه المفاهيم، فإنها مجرد تنويع مركب على نفس مفهوم الطبيعة/المادة، فالمنفعة والجنس والطبقة لابد أن تُفسَّر، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، تفسيراً مادياً.
والمطلق العلماني النهائي والمرجعية النهائية المادية كما أسلفنا هو الطبيعة/المادة، ولكن ثمة تطابقاً شبه كامل بين الصورة الكامنة وراء الطبيعة/المادة باعتبارها مفهوماً فلسفياً وصورة السوق/المصنع:
1 ـ السوق/المصنع شامل لا انقطاع فيه ولا فراغات، فهو يمتد ليشمل الوطن بأسره وها هو قد امتد ليشمل العالم.
2 ـ السوق/المصنع شيء منتظم متسق مع نفسه، خاضع لقوانين ثابتة منتظمة مطردة واضحة بسيطة رياضية حتمية وآلية.
3 ـ السوق/المصنع لا يكترث بالفرد ولا بالإنسان، ولا بالخصوصيات ولا بالغائيات أو القيم الإنسانية، فهو يتجاوز الإنسان ولا يتجاوزه الإنسان.(2/100)
4 ـ السوق/المصنع يتحرك بشكل تلقائي آلي حسب قوانين العرض والطلب الآلية الرياضية الصارمة الكامنة في السوق ذاته.
5 ـ السوق/المصنع يحوي داخله قوانينه وكل ما نحتاجه لفهمه، وهو واجب الوجود في النظم الرأسمالية والنظم الاشتراكية على حد سواء.
ولا ندري هل تبنَّى المفكرون العلمانيون الشاملون آليات السوق/المصنع كمقولات لإدراك الطبيعة كنظام واحدي آلي شامل وكمرجعية نهائية مادية، أم تمت دراسة الطبيعة/المادة واستُخدمت مقولاتها لتأسيس السوق/المصنع وتنظيمه على هديها. وعلى كلٍّ، فإن هذا أمر ثانوي إذ يظل هناك هذا التطابق المدهش بين الطبيعة/المادة والسوق/المصنع، والإنسان الاقتصادي هو الإنسان الطبيعي حينما يذهب إلى السوق والمصنع فيذعن لقوانينه التي لا تختلف عن قوانين الطبيعة/المادة.
ولا يختلف وصف دعاة الداروينية الاجتماعية للسوق عن وصفهم للطبيعة/المادة، فالواحد يكاد يكون هو الآخر، والصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح هي قيم نهائية مادية تهيمن على السوق هيمنتها على الطبيعة/المادة. وعملية التطور هي عملية مندفعة من داخل المادة تماماً مثل آليات السوق. وحينما تتم عملية الترشيد والحوسلة (التي تفرض الواحدية على المجتمع) ، فهي تتم في إطار مفهوم الطبيعة/المادة والسوق/المصنع.
والسلعة من المطلقات العلمانية والمرجعيات النهائية المادية الأخرى، وكذلك رأس المال (مراكمة المال باعتبارها المعيار المادي النهائي الذي لا يمكن تجاوزه) . وفي المنظومة القومية العضوية، يصبح الشعب العضوي هو هذا المطلق. أما في المنظومة الإمبريالية فالمطلق هو الحضارة الغربية وعبء الرجل الأبيض (أو شيء من هذا القبيل) . ويمكن القول بأن مفهوم التقدم (المادي) هو واحد من أهم المطلقات العلمانية. والمطلق العلماني كامن ولكنه ليس ساكناً، ولذا فهو يتغيَّر ويتلون حسب المرحلة التاريخية.(2/101)
ومنذ منتصف الستينيات أُضيف عنصر ثالث وهو مؤسسات اللذة بحيث أصبحت دورة الإنسان ثلاثية: الإنتاج في المصنع، الاستهلاك في السوق، اللذة في الملهى الليلي (أو أي معادل موضوعي) ولكن هذه الإضافة لم تغيِّر من البنية الأساسية الواحدية الشاملة.
وقد تبدَّى المطلق العلماني على المستويين التاريخي والسياسي في شكل مؤسسة الدولة المطلقة التي أصبحت أهم آلية من آليات العلمنة داخل أوربا في المراحل الأولى، ثم قامت جيوشها الإمبريالية بإشاعة النموذج العلماني في بقية العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر.
ويرى بشير نافع أن الدولة هي أكثر المؤسسات التي صنعتها يد الإنسان قرباً من حالة الطبيعة (من الناحية البنيوية الفلسفية بطبيعة الحال) ، فالدولة تتبع قانوناً شاملاً ومستمراً يشمل الوطن بأسره. وهو قانون ثابت مطرد حتمي آلي، كامن في الدولة. وهي لا تكترث بالفرد أو بالإنسان، فهو مجرد وسيلة لتحقيق غاياتها ومصلحتها. والدولة "واجبة الوجود" في النظم الحديثة، وبهذا المعنى تُعدُّ الدولة التحقق الكامل والأمثل للمطلق العلماني (ومع هذا نلاحظ أن السوق والمصنع واللذة تنازعانها المطلقية والمرجعية النهائية) .
ونحن نذهب إلى أن الإنسان الحديث تم تدجينه وتحويله إلى سبمان متكيف مع المجردات المطلقة اللاإنسانية (مصلحة الدولة ـ قانون الحركة ... إلخ) من خلال شعارات مثل "العودة للطبيعة". فمثل هذا الشعار هو في واقع الأمر دعوة للإنسان لأن يعود لحركة المادة ويقبلها ويذعن لها، متجاوزاً بذلك وجوده المتعيِّن وحسه الخُلقي وخصوصيته وفرديته وفطرته الإنسانية، أي أن عملية تنميط الإنسان وبرمجته وتَشيُّئه تتم من خلال تدريب وجدانه على قبول الطبيعة/المادة، هذا الكيان غير الإنساني المتجاوز للإنسان، باعتبارها المرجعية النهائية.(2/102)
وقد بدأت المتتالية العلمانية بأن جعلت الإنسان هو المطلق العلماني ومركز الكون والمرجعية النهائية المادية (التمركز حول الذات) . ومع تَصاعُد معدلات الترشيد والحوسلة، بدأ الإنسان يتراجع كنقطة مرجعية، وظهرت مطلقات مادية علمانية غير إنسانية، مثل الدولة المطلقة (التمركز حول الموضوع) . تشكل هي نفسها المرجعية النهائية المادية. وكان كل هذا يعني أن الكون يظل في حالة تماسك وذا بنية واضحة يمكن للعقل تفسيرها، ولذا تظل هناك ميتافيزيقا ومرجعية نهائية ويظل هناك ثنائية صلبة وازدواجية. وتتصاعد معدلات العلمنة، وينتشر المركز في كل عناصر النموذج ويتجسد من خلالها جميعاً بلا تمييز ولا تفريق، فيتم التساوي فيما بينها وتسويتها. وفي هذه الحالة، يختفي المركز ويتلاشى وتختفي المرجعيات النهائية المادية إلى أن يصبح المطلق هو الإجراءات. فيظهر ما يُسمَّى «أخلاقيات الصيرورة» ، أي أن يتم الاتفاق بين الجميع على أن المركز والمرجعية النهائية وما لا يقبل النقاش هو الإجراءات وحسب، قوانين اللعبة، أما نوعية اللعبة والهدف منها فهي أمور يمكن مناقشتها والتفاوض بشأنها، وهذه هي مرحلة الواحدية السائلة.(2/103)
والحضارة العلمانية الغربية، بهذا المعنى، حضارة فريدة تماماً. فلأول مرة في تاريخ الإنسان يُلغَى الهدف والغاية ويتحرر المطلق منهما (فيصبح لوجوس بلا تيلوس وميتافيزيقا بدون أخلاقيات) . وهذا هو الإدراك الأساسي الكامن وراء عالم ما بعد الحداثة، فهو عالم صُفِّي وطُهِّر تماماً من المطلقات والمرجعية النهائية، فلا مركز ولا هامش، وإنما عالم أفقي متساو مسطح لا يوجد فيه وضع خاص أو مُتميِّز لأي شيء وضمن ذلك الإنسان، ولذا فهو عالم خالٍ من المعنى، لا يمكن للدال أن يرتبط فيه بالمدلول لأنه عالم لا يحتوي على أي مطلق يربط بين التفاصيل كلها؛ عالم نسبي تماماً ولكنه مع هذا يخلع المطلقية على النسبية. فالمرجعية النهائية هي إنكار المرجعية، والمطلق الثابت الوحيد هو النسبي المتغيِّر، وهذا ما يُعبِّر عنه الفكر المادي بالقول "لا ثبات إلا لقوانين التغير". ومع هذا تظل هناك الداروينية وفكرة البقاء للأقوى باعتبارها المرجعية الوحيدة الثابتة في عالم الواحدية السائلة وما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.
اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية(2/104)
أشرنا من قبل إلى اللحظة النماذجية كمفهوم تحليلي. ونحن نشير إلى اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية باعتبارها «لحظة الصفر العلمانية» ، أي لحظة هيمنة نموذج الواحدية المادية هيمنة كاملة لأن أسطورة الأصل العلمانية الشاملة تذهب إلى أن العالم ظهر بالصدفة المحضة من مادة أولية سائلة غير مُشكَّلة ومن خلال تفاعل كيمائي بسيط أنتج خلية واحدة لزجة تطورت بالصدفة حسب قانون صارم، ثم نمت وتطورت إلى أن أصبحت الإنسان الطبيعي (المادي ذا العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء الشمعية والذي لا يتمتع بأي انفصال عن الطبيعة. فهو بغير هوية محددة ولا يمكنه تَجاوُز ذاته الطبيعية أو الطبيعة/المادة، وهو يعيش خاضعاً تماماً لقوانين الضرورة والصيرورة لا يملك فكاكاً منها، أي أن كل لحظات وجوده هي سيولة دائمة، فهي لحظة جنينية كاملة.
ولكن نقطة الصفر لا تنصرف إلى الأصل وحسب، وإنما تنصرف إلى النهاية، فنهاية النموذج العلماني تفترض أن الإنسان سيكون متحكماً تماماً في واقعه متمركزاً تماماً حول ذاته، فهو كالإله يتجاوز الخير والشر والبكاء والضحك، ومن ثم يصل إلى نقطة نهاية التاريخ وقمة التقدم والفردوس الأرضي. ولكن هذه اللحظة، رغم صلابتها، هي أيضاً لحظة جنينية يفقد فيها الإنسان مركزيته وحدوده وهويته واستقلاله عن الطبيعة ويصبح جزءاً لا يتجزأ من الكل: الدولة ـ المجتمع ـ الطبيعة ـ الطبقة العاملة. وتسود الواحدية المادية، فيصبح الكون واحدياً مادياً تماماً، متساوية أجزاؤه. ولحظة البداية، شأنها شأن لحظة النهاية، هي أيضاً لحظة ترانسفير حيث يمكن لأي شيء أن يحل محل أي شيء آخر، ويصبح قابلاً للاستعمال والتنقل والنقل والترحيل. وهي لحظة تَشُّيؤ وتَسلُّع وتَوثُّن، إذ تسري على الإنسان نفس القوانين التي تسري على الأشياء وتصبح الطبيعة/المادة هي مرجعيته النهائية المادية فيصبح كائناً طبيعياً وشيئاً يشبه الآلة.(2/105)
واللحظة النماذجية يمكن أن تكون لحظة فكرية، أي أن تتحقق في نسق فلسفي يصل صاحبه إلى ما يتصوره جوهر الأمور والواحدية المادية التي تسود العالم، فلا تغشى عيونه غشاوة، ويمكن أن تكون لحظة فعلية، أي أن تتحقق في الواقع نفسه، حين يحاول شخص أو نظام اجتماعي أن يحقق النموذج بحذافيره ويفرضه فرضاً على الواقع (كما حدث في ألمانيا النازية وروسيا الستالينية) .
ولعل من أهم الفلاسفة العلمانيين الشاملين، من منظور اللحظة النماذجية الفكرية، الفيلسوف توماس هوبز الذي تشكل كتاباته لحظة تَعيُّن للنموذج العلماني الشامل ولواحديته المادية الصارمة ولمرجعيته المادية الصراعية الوحشية ولإنكاره حرية الإنسان وإرادته ومقدرته على التجاوز. وقد تبعه إسبينوزا بخطابه الهندسي المادي الصارم حيث تختفي أية غائية أو تَجاوُز ويغيب الإنسان تماماً في المجردات اللاإنسانية. وقد أثار هذا الوضوح والتبلور في النماذج قلق كثير من الفلاسفة العلمانيين، فقاموا بمحاولات يائسة لإضافة محسنات فلسفية وثنائيات ظاهرية واهية. ولعل الجدل الهيجلي هو أهم محاولة في هذا المضمار، إذ يصر على جدلية الواقع وعلى التجاوز المستمر للمعطيات الحسية للواقع، ولكنه مع هذا ينحدر إلى نقطة الصفر العلمانية مرة أخرى مع التحام الذات بالموضوع، ومع نهاية التاريخ حين يتحقق العقل الكلي والمطلق في التاريخ والطبيعة، وهي النقطة التي ينتهي فيها التجاوز.(2/106)
وفي الفلسفات الماركسية، تطل نقطة الصفر العلمانية في عبارة " في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر". فأمام التنوع اللامتناهي للعالم، أدرك أصحاب النموذج العلماني الشامل أن هناك عالماً من الأفكار والأحلام والاختيار الحر والقيم وكان عليهم رده إلى الطبيعة/المادة حتى تسود الواحدية. ولذا سمِّي عالم الأفكار والقيم بـ «البناء الفوقي» ، ووُصف بأنه ليس له وجود حقيقي، فهو مجرد ظاهرة تابعة (بالإنجليزية: إبي فينومنون epiphenomenon) ، وتعبير باهت عن البناء التحتي ليس إلا، ويصبح الجهد المعرفي هو فك شفرة البناء الفوقي من خلال البناء التحتي. ويمكن تفسير سلوك الإنسان بهذه الطريقة، من خلال فهم حركة المادة، فهي المرجعية النهائية، فيُفسَّر سلوك الإنسان من خلال العناصر الاقتصادية أو من خلال الجنس أو من خلال ما يُسمَّى «إرادة القوة» ، فكل شيء "في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إن هو إلا مادة" يُردُّ إلى المطلق العلماني النهائي (الطبيعة/المادة) فيُردُّ الباطن (الروحي الفوقي) إلى الظاهر (المادي التحتي) وتُردُّ الهوية (الخاصة) إلى القانون العام، ويحل ما هو غير إنساني محل ما هو إنساني (ترانسفير) . ويتضح لنا أن العقل (في التحليل الأخير) ليس إلا مادة تتراكم عليها الأحاسيس، وأن الإنسان (في نهاية المطاف) ليس سوى جزء من الطبيعة، وأن عقله (في نهاية الأمر) ليس غير صفحة مادية بيضاء تتراكم عليها الأحاسيس المادية التي تسجلها الأعصاب، فتصبح كل الأمور متساوية نسبية خاضعة للقياس، ويتم كشف كل شيء (أي تفكيكه) . ومن ثم، يتحقق النموذج تماماً في اللحظة النماذجية وتطل الميتافيزيقا العلمانية الشاملة بوجهها العدمي القبيح حيث يُقوَّض الإنسان تماماً ويُردُّ إلى ما هو دون الإنسان. وما كان كامناً في النموذج يصبح واضحاً. ويظهر أن الفكر العلماني الشامل ليس فكراً تفكيكياً بطبيعته وحسب وإنما هو فكر تقويضي كذلك (وفكر إبادي) .(2/107)
ونقطة الصفر العلمانية يمكن أن تأخذ شكلاً شاملاً، وهو ما يتضح في الخطاب ما بعد الحداثي، وتُستخدَم كلمة «أبوريا aporia» للإشارة إلى نقطة الصفر العلمانية، وهي كلمة يونانية تعني «الهوة التي ليس لها قرار» ، حيث يصبح العالم هوة من الثقوب السوداء تبتلع كل شيء، فتسقط المطلقات العلمانية وغير العلمانية كافة، وتسقط المطلقات الدينية والمادية على حد سواء، حتى نصل إلى عالم سائل لا نسق فيه ولا مرجعيات ولا تَجاوُز.
ويمكن القول بأن ما بعد الحداثة هي تحقُّق للعوامل التفكيكية داخل المنظومة التحديثية وأنها تحقُّق للنسبية الكامنة في النموذج التحديثي بحيث تصبح نسبية كاملة وصيرورة تامة وسيولة شاملة. وإذا كانت المنظومة التحديثية قد أدَّت إلى تفكيك الإنسان وإحساسه باللامعيارية (الأنومي) ، وإذا كانت الحداثة هي احتجاج الإنسان على ما يحدث له، فإن ما بعد الحداثة هي تطبيع كامل لهذه اللامعيارية وتعبير عن تقبُّل الإنسان لحالة التشيُّؤ الناجمة عن التحديث.
وحتى نزيد المقدرة التحليلية لمفهوم نقطة الصفر العلمانية سنشير إلى ثلاث لحظات علمانية شاملة نماذجية مختلفة أقل عمومية من لحظة الصفر العلمانية هي ما يلي:
أ) اللحظة السنغافورية ويظهر فيها الإنسان الاقتصادي.
ب) اللحظة التايلاندية ويظهر فيها الإنسان الجسماني.
جـ) اللحظة النازية (والصهيونية) ويظهر فيها الإنسان الطبيعي/المادي أو الإنسان كمادة محضة.
والإنسان في هذه الحالات جميعاً، إنسان طبيعي وظيفي، يُعرَّف في إطار وظائفه البيولوجية والاجتماعية.(2/108)
أ) اللحظة السنغافورية: نسبة إلى سنغافورة، وهي بلد صغير في آسيا يتسم بأنه بلا تاريخ ولا ذاكرة تاريخية ولا تقاليد حضارية أو منظومات قيمية راسخة، ولذا يمكن ببساطة تجاهلها كلها أو تهميشها حتى يتحول الإنسان إلى وحدة اقتصادية ذات بُعد مادي واحد قادرة على الإنتاج والاستهلاك والبيع والشراء، وتصبح البلد كلها مجموعة من المحلات والسوبر ماركتات والفنادق والمصانع، وينظر الناس إلى أنفسهم لا كبشر وإنما كوحدات إنتاجية استهلاكية. وقد أصبحت سنغافورة حلم كثير من أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث التي تفهم التنمية في إطار اقتصادي محض. والرؤية السنغافورية هي الرؤية المهيمنة على المنظمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي التي تعطي القروض في هذا الإطار الاقتصادي السنغافوري المحض. وقد اقترح أحد كبار الخبراء في البنك الدولي ذات مرة أن تتخلص الدول الغربية من نفاياتها النووية والعوادم الكيميائية وغيرها من العوادم بإلقائها في البلاد الأفريقية نظير إعطائها بعض المعونات الاقتصادية، وهذه رؤية سنغافورية كاملة ترى البلاد لا باعتبارها فنادق وأسواقاً ومصانع وإنما باعتبارها مقلب نفايات.(2/109)
والسنغافورية لحظة أمسكت بتلابيب مجتمع بأسره، ولكن اللحظة السنغافورية الواحدية يمكن أن تظهر على هيئة أفراد. ففي الاتحاد السوفيتي ظهرت فكرة أبطال الإنتاج، وهم بشر (مثل ستهانوف) كانوا يكرسون حياتهم كلها لعملية الإنتاج بشكل يفوق حدود طاقة البشر (وقد انتهت حياة ستهانوف بأن أصيب بالعديد من الأمراض، كما ظهر أن كثيراً من بطولاته كانت مجرد أكاذيب إعلانية) . كما أن كثيراً من نظريات الإدارة في الولايات المتحدة ذات طابع سنغافوري واحدي كامل، فهي نظريات تدعو إلى إخضاع جميع حركات العامل وسكناته للدراسة حتى يمكن توظيفها تماماً في خدمة الإنتاج لكي يصبح الجميع أبطال إنتاج. وتقوم الإعلانات التليفزيونية بتحويل الجميع أيضاً إلى أبطال استهلاك. والدعوة إلى السوق الشرق أوسطية في عالمنا العربي الإسلامي هي دعوة لتحويل الإنسان العربي الإسلامي إلى إنسان سنغافوري بحيث تتحول كل بلادنا إلى بوتيكات وسوبرماركتات.
ب) اللحظة التايلاندية: نسبة إلى تايلاند، وهي بلد آسيوي أصبح قطاع البغاء فيه من أهم مصادر الدخل القومي وتكوَّن فيه لوبي قوي من ملوك البغاء والمخدرات حتى أصبح من المستحيل الآن تَخيُّل تايلاند بدون هذا القطاع البالغ الأهمية. واللحظة التايلاندية تعبير عن الإنسان الجسماني حيث يتحول الإنسان تماماً إلى أداة للمتعة (في عصر ما بعد الحداثة والاستهلاكية العالمية) . وإذا كانت الدعوة إلى تحويل كل البلاد إلى تايلاند مسألة صعبة، إذ يفزع الناس من نزع القداسة تماماً عنهم، إلا أن الحديث عن السياحة وتطوير القطاع السياحي يخبئ عادةً نزعة تايلاندية عميقة يتحاشى الجميع مواجهتها.(2/110)
جـ) اللحظة النازية (والصهيونية) : وهي أهم اللحظات النماذجية وأكثرها مادية، لأنها تعبير مباشر عن الإنسان الطبيعي/المادي، الإنسان كمادة محضة وكقوة إمبريالية مادية كاسحة. فالمجتمع النازي كان يعتبر الإنسان كائناً طبيعياً مرجعيته النهائية هي الطبيعة/المادة ومرجعيته الأخلاقية المادية هي إرادة القوة، ولهذا نظر إلى البشر جميعاً باعتبارهم مادة استعمالية يمكن توظيفها ويقوم الأقوى والأصلح (من الناحية الطبيعية/المادية) بهذه العملية لصالحه. ومن هنا، تم تقسيم البشر، من منظور مادي رشيد، إلى أشخاص نافعين وأشخاص غير نافعين، وتَقرَّر إبادة بعض غير النافعين منهم ممن لا يمكن إصلاحهم وتحويلهم إلى عناصر منتجة، وذلك بعد دراسة علمية تمت من منظور مادي علمي رشيد.
ويمكن القول بأن معسكر الاعتقال هو مجتمع واحدي مادي نماذجي تم التحكم في كل شيء داخله، وضمن ذلك البشر، وطُبِّقت عليهم نماذج رياضية صارمة ذات طابع هوبزي وإسبينوزي تم تطهيرها تماماً من ظلال الإله، فلا رحمة فيها ولا تراحم، ولا مجال فيها لأية غائيات أو مرجعيات إنسانية لأن المرجعية الوحيدة هي المنفعة المادية وإرادة القوة. ولذا أُعطي كل إنسان رقماً حتى يمكن إدارة المعسكر بكفاءة شديدة، وتحوَّل الإنسان إلى مادة استعمالية تُولَّد منها الطاقة (عمالة رخيصة) أو سلع (تحويل العظام إلى سماد، والشحوم الإنسانية إلى صابون، والشعر البشري إلى فُرَش ... إلخ) . وعلى هذا النحو، تم تعظيم الفائدة وتقليل العادم.(2/111)
وبالمثل، لا تُعتبَر اللحظة الصهيونية انحرافاً عن الفكر العلماني الشامل الإمبريالي، بل تمثل تبلوراً حاداً له. فانطلاقاً من الطبيعة/المادة باعتبارها المرجعية النهائية المادية ومن إرادة القوة وأخلاق الغاب (باعتبارها المرجعية الأخلاقية المادية) نظرت الصهيونية إلى فلسطين باعتبارها أرضاً بلا شعب (أي أنها استبعدت العنصر الإنساني منها) وحوَّلت كل شيء إلى مادة: فأصبحت فلسطين أرضاً تُستغَل، وأصبح الفلسطينيون أنفسهم مادة بشرية تُنقل وتُباد وتُستغَل، وأصبح اليهود أيضاً مادة بشرية يتم تخليص أوربا منها عن طريق نقلها. ولحظة تَبلور النموذج العلماني هي عادةً ـ كما أسلفنا ـ لحظة ترانسفير، حيث يصبح كل شيء قابلاً للاستعمال والنقل.(2/112)
واللحظات النماذجية الثلاث (السنغافورية والتايلاندية والنازية) ليست منفصلة تماماً، فهي جميعاً لا تعترف إلا بالطبيعة/المادة والواحدية المادية وتحول الإنسان إلى مادة نافعة وتنزع عنه القداسة وتعريه من إنسانيته (بالإنجليزية: دي نيود de nude) ، وهو ما نسميه «الإباحية المعرفية» حيث لا حرمات ولا مطلقات، وحيث يُترَك الإنسان عارياً تماماً أمام مؤسسة قوية تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة والنفعية الداروينية التي تقوم بحوسلته وتوظيفه. فإذا كان العالم مادة، وإذا كانت كل الأمور متساوية، والإنسان مادة لا قداسة لها ليس إلا، ولا توجد سوى مرجعيات أخلاقية مادية، فإن النشاط الجنسي ـ عل سبيل المثال ـ مجرد نشاط مادي، شأنه شأن النشاط الاقتصادي، ومن ثم يمكن النظر للطاقة الجنسية للإنسان باعتبارها طاقة طبيعية/مادية يمكن توظيفها داخل إطار السوق والمصنع، أي أن تصبح الطاقة الجنسية مادة إنتاجية استهلاكية. ومن ثم، يمكن أن تظهر تجارة/صناعة البغاء، وتصبح البغيّ من أدوات الإنتاج، وهي في الماخور (في تايلاند أو في أي مكان) لا تختلف كثيراً عن أبطال الإنتاج في المصانع السوفيتية أو الأمريكية ولا عن اليهودي أو السلافي أو المعوقين في معسكرات الاعتقال، إذ يتحول الجميع إلى مادة استعمالية وطاقة محض. فالإنسان في اللحظة السنغافورية يتحول إلى طاقة إنتاجية وإلى قدرة شرائية تصب في عملية الإنتاج والاستهلاك القومي. بينما يتحول، في اللحظة التايلاندية إلى طاقة جنسية تقدم خدماتها للمستهلكين من السياح، فتحسِّن الدخل القومي وتعدِّل ميزان المدفوعات لحساب الوطن. وفي اللحظة النازية والصهيونية، يتحوَّل الإنسان غير النافع (اليهودي كمادة بشرية فائضة) إلى مادة استعمالية تزداد إنتاجيتها في معسكرات الاعتقال والسخرة أو في الدولة الصهيونية أو يتم التخلص منها في معسكرات الإبادة حسب مقتضيات الأمور (الأمر الذي يفيد الاقتصاد الوطني(2/113)
كثيراً) .
ونحن نعرف تماماً، من خلال معرفتنا بالترشيد الإجرائي أو الأداتي، وأخلاق الصيرورة، أن طبيعة العمل والهدف منه ليست لهما أية أهمية، فالمهم هو كيفية إدارته (الأداء والإجراءات) وكيفية توظيف الطاقة البشرية بأقل التكاليف لتحقيق أعلى عائد. ويبدو أن المجتمع الأمريكي الرشيد يشارك في هذه الرؤية، أو على الأقل قطاعات مهمة فيه، فحينما قُبض على السيدة سيدني بيدل باروز Sydney Biddle Barows (وهي سيدة من أسرة باروز الأرستقراطية العريقة، التي أتى مؤسسها على سفينة الماي فلاور، أول سفينة نقلت المهاجرين الإنجليز إلى الولايات المتحدة) ، وحينما وُجِّهت إليها تهمة إدارة حلقة دعارة في نيويورك، انطلقت من رؤية واحدية مادية صارمة ترفض أي تجاوز أو ثنائيات أو غيبيات وبيَّنت بما لا يقبل الشك أن الدعارة عمل استثماري، بيزنس business (وهذا لا يختلف عن خط دفاع أيخمان عن نفسه، وهو أنه موظف حكومي ينفذ ما يَصدُر له من أوامر) . وبعد فترة قصيرة من التردد، نفض الناس عنهم أية مرجعيات ميتافيزيقية متخلفة وتقبلوا الروية الواحدية المادية واستطاعوا أن ينظروا إلى سيدة الماي فلاور بشكل موضوعي، وتحولت قصتها من قصة صاحبة ماخور، إلى قصة صاحبة عمل ناجح. وهو ما دفعها إلى نشر سيرتها الذاتية تحت عنوان قصة حياة الماي فلاور مدام، أو حياة سيدني بيدل باروز السرية. وأصبح هذا الكتاب من أهم الكتب المُتداوَلة وحققت المؤلفة أرباحاً خيالية منه (كما هو الحال دائماً مع مثل هذه الكتب في عصر الفضائح والترشيد الإجرائي) . وبعد ذلك بعامين، صدر كتاب لنفس السيدة، وكان أكثر إجرائية، فقد كان يُسمَّى آداب الماي فلاور: قواعد السلوك للراشدين المثقفين Mayflower Manners: Etiquette for Consenting Adults. وعبارة " كونسنتج أدلتس " التي ترد في العنوان هي عبارة قانونية تشير إلى أي شخصين بالغين يمارسان الجنس معاً برضائهما، ولذا فعملهما شأن خاص بهما. وفي(2/114)
هذا الكتاب قامت المدام الواحدية المادية الصارمة بتعليم النساء كيفية التصرف بلباقة في الفراش، باعتبار أنها راكمت الكثير من المعرفة في مجال تَخصُّصها. وبعد ذلك بعام واحد، قامت نفس السيدة الرائدة في مجالها الموضوعية في أدائها بتدريس مقرر في إحدى المدارس الحرة عن هذا الموضوع. ولا ندري هل ستنتقل إلى المعاهد العليا وأكاديميات البحوث المتخصصة أم لا؟ وهل ستؤسس تخصصاً أكاديمياً جديداً؟ وعلى كلٍّ تقوم إحدى مؤسسات الرفاه الخيرية (المجانية) في أستراليا، وهي إحدى المؤسسات المدنية الطوعية غير الحكومية داخل المجتمع، بترتيب دورات تدريبية للبغايا حتى يمكنهن تحسين أدائهن في ساعات العمل الشاقة والمضنية. وحينما سُئل أحد مسئولي الدورة عن الحكمة من وراء ذلك، أجاب بحياد شديد رشيد بأن التخصص هو إحدى سمات العصر وأن كثيراً من عاملات الجنس لا يعرفن قواعد الصحة التي يجب مراعاتها ومناهج الأداء المختلفة وحقوقهن وواجباتهن (وهذا هو قمة الترشيد الأداتي) .(2/115)
ويُلاحَظ علمنة المصطلحات المستخدمة في وصف عملية تَحوُّل الإنسان المتكامل المركب إلى إنسان طبيعي وظيفي ـ اقتصادي سنغافوري ـ جسماني تايلاندي ـ إمبريالي نازي أو صهيوني. وهذا أمر مُتوَّقع تماماً متسق مع نفسه، فاللحظة العلمانية الشاملة النماذجية هي لحظة تَشيُّؤ كامل وواحدية مادية، ولذا فإن ما يَصلُح لوصف الأشياء، يَصلُح لوصف الإنسان، واللغة المحايدة تجعلنا ننسى إنسانية الإنسان. فلم يكن النازيون يتحدثون مطلقاً عن "الإبادة" وإنما عن "الحل النهائي"، ولم تكن "أفران الغاز" سوى "أدشاش" تُستخدَم من أجل الصحة العامة. ولا يتحدث الصهاينة عن فلسطين وإنما عن الأرض التي جاءوا "لزراعتها" (لا لاغتصابها) . ولا يتحدث أحد أثناء اللحظة السنغافورية عن توظيف الإنسان وتَسلُّعه وإنما عن "تحسين مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج، وتوفير الرفاهية والرخاء لأكبر عدد ممكن"، دون أية إشارة للأبعاد الكلية والنهائية. وتحييد المصطلحات في حالة اللحظة التايلاندية يستحق قدراً من التوقف، فإذا كان تحييد المصطلح في حالة اللحظة النازية مأساوياً، فهو هنا ولا شك كوميدي. إذ يتحول البغاء إلى أهم القطاعات الاقتصادية (كما هو الحال في بعض الدول الآسيوية) . ومن ثم، تصبح البغيّ (التي يُقال لها في اللغة التقليدية «بروستيتيوت prostitute» ) في بداية الأمر مجرد عاملة جنس (بالإنجليزية: سكس وركر Sex worker) ، عضو في البروليتاريا الكادحة تقوم بنشاط اقتصادي منتج، ثم تتحول بالتدريج إلى بطلة قومية. وبعد قليل، قد يصبح من واجب الجميع أن يؤدوا واجبهم القومي بتجريد كامل وحياد شديد. (والعياذ بالله) .
ولكن ليس بإمكان أحد أن يتحلى بمثل هذه الشجاعة وهذا الحياد (إلا فيما ندر) فالبشر ـ والحمد لله ـ لا يمكنهم نزع القداسة عن ذواتهم تماماً وببساطة.(2/116)
الباب السابع: الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة وما بعد الحداثة
الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة: نمط حلولى مادى عام
العلمانية الشاملة (وحدة الوجود المادية) هي منظومة حلولية كمونية تتبع نفس نمط النماذج الحلولية الكمونية الواحدية المادية. وتصاعد معدلات العلمنة والتحديث هي في جوهرها تصاعد معدلات الحلولية الكمونية، ومن ثم نجد أن متتالية الحلولية الأساسية (واحدية ذاتية ـ واحدية موضوعية ـ ثنائية صلبة تمحى لتهيمن الواحدية الموضوعية المادية ـ الانتقال من الصلابة للسيولة) تتبدى حلقاتها داخل الفكر والمجتمع العلماني. وتبدأ المتتالية بإعلان أن العالم (الإنسان والطبيعة) يحوي داخله ما يكفي لتفسيره وأن هناك كلاً ثابتاً متجاوزاً ذا غرض وغاية، ولكنه رغم أن هذا الكل يتسم بالتجاوز إلا أنه يوجد داخل عالمنا المادي (الحياة الدنيا) في الزمان والمكان. هذا يعني أنه يوجد نقطتا انطلاق للمنظومة التحديثية: الذات والموضوع، أو الإنسان والطبيعة.
1 ـ الواحدية الذاتية: وتنقسم إلى عدة مراحل:
أ) الواحدية الإنسانية (الهيومانية) :(2/117)
نقطة الانطلاق الأولى لمشروع التحديث والعلمنة الغربي هي الإيمان بضرورة أن يواجه الإنسان الكون دون وسائط، حراً تماماً من قيود الحضارة والتاريخ والأخلاق، يرفض أية غيبيات أو ثوابت أو مطلقات متجاوزة لعالمه المادي ولحدود عقله. فالإله إما غير موجود، وإن وُجد فهو لا يتدخل في شئون هذه الدنيا، ويتركها للإنسان يسيرها حسب ما يراه. وهو إنسان متمركز تماماً حول ذاته التي لا حدود لها ولا قيود عليها، يرفض كل القيم القَبْلية والتعميمات والتجريد، يعيش حسب قوانينه الخاصة الفريدة النابعة من ذاته. فهو مرجعية ذاته ومقياس كل شيء لا يمكن محاسبته بأية معايير خاصة. والعقل بوسعه من خلال التعامل مع الواقع الطبيعي والتاريخي، ودون أية حاجة إلى وحي إلهي، أن يصل إلى تفسير كلي شامل لهذا العالم وأن يولِّد المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية اللازمة لأن يسيِّر حياته. وهذا يعود إلى وجود تماثل كامل بين قوانين العقل وقوانين الطبيعة. وعقل الإنسان الرشيد يولِّد لغة رشيدة، يمكنه من خلالها التواصل والحوار ومراكمة المعرفة، ويمكنه أن يدرس التاريخ (ثمرة احتكاك الإنسان بالطبيعة) فيزداد الإنسان وعياً وإدراكاً لما حوله ويزداد تقدُّمه.(2/118)
كل هذا يعني وجود حقيقة كلية (قصة عظمى) وأن الإنسان هو الذي يدركها ويعيها، فهو إذن الكل الثابت المتجاوز. لكل هذا يعلن الإنسان أنه سيِّد الكون والمخلوقات بلا منازع، ومركز العالم بلا منافس، يتجاوز كل شيء ولا يتجاوزه شيء، لديه نزعة بروميثية فاوستية لأن يبتلع الكون بأسره ويهزمه ويُسخِّره، فهو إنسان إمبريالي كامل، الطبيعة بالنسبة له مجرد مادة استعمالية يهزمها ويُسخِّرها ويحوسلها. انطلاقاً من هذا الافتراض، يحاول هذا الإنسان أن يؤكد جوهره الإنساني (المستقل عن الطبيعة، السابق عليها) ، وأن يتجاوز الطبيعة/المادة، بل طبيعته المادية نفسها، بقوة إرادته، وأن يفرض ذاته الإنسانية عليها، باسم إنسانيتنا المشتركة، أي باسم الإنسانية جمعاء (تأليه الإنسان وإنكار الطبيعة والإله) . وقد وُلد من رحم هذه الرؤية المشروع التحديثي في مراحله البطولية الأولى، والفكر الإنساني الهيوماني وفكر حركة الاستنارة.
ب) الواحدية الإمبريالية والعرْقية:
يتحدث الإنسان الذي يؤكد جوهره الإنساني باسم كل البشر. ولكن في غياب أية مرجعية متجاوزة لذاته الفردية، ينغلق الإنسان على هذه الذات، فيصبح تدريجياً إنساناً فرداً لا يفكر إلا في مصلحته ولذته، ولا يشير إلى الذات الإنسانية وإنما إلى الذات الفردية. حينئذ تصبح الذات الفردية، لا "الإنسانية جمعاء"، هي موضع الحلول، فيؤله الإنسان الفرد نفسه في مواجهة الطبيعة وفي مواجهة الآخرين ويصبح إنساناً إمبريالياً. وحينما يستمد هذا الإنسان الإمبريالي معياريته من ذاته الإمبريالية التي تستبعد الآخرين يصبح إنساناً عنصرياً يحاول أن يستعبد الآخرين ويوظفهم، بل يوظف الطبيعة نفسها لحسابه. وهنا تظهر الثنائية الصلبة، ثنائية الأنا والآخر (تأليه الإنسان الغربي وإنكار الآخرين (.
2 ـ الواحدية الموضوعية المادية:(2/119)
نقطة الانطلاق الثانية لمشروع التحديث والعلمنة الغربية هي الطبيعة/المادة، التي تصبح هي الأخرى مرجعية ذاتها، وموضع الحلول والكمون، ومركز الكون (اللوجوس) ، قوانينها تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء، وهي قوانين لا هدف لها ولا غاية، ولا تمنح الإنسان أية أهمية خاصة، وهو ما يعني أسبقية الطبيعة/المادة على كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، كما يعني أن الكل الثابت المتجاوز هو في واقع الأمر الطبيعة/المادة (تأليه الطبيعة وإنكار الإله والإنسان) . ومن رحم هذه الرؤية ظهرت الاستنارة المظلمة، التي ترى أن المشروع التحديثي (في إطار العلمانية الشاملة) هو في جوهره مشروع تفكيكي لا يؤدي إلى تأكيد مركزية الإنسان وإنما إلى رده إلى ما هو دونه (الطبيعة/المادة) ، وإلغائه تماماً كمقولة مستقلة مركزية في النظام الطبيعي. فإذا كان الإنسان الحديث إنساناً عقلانياً مادياً حقاً كما يزعم، فعليه أن يتبنَّى رؤية علمية مادية موضوعية تجاه ذاته الإنسانية. ولكن المعرفة العلمية المادية معرفة موضوعية تنبع من نموذج الطبيعة/المادة، ولذا فهي ترفض الغائيات الإنسانية والخلقية. والحقيقة العلمية المادية منفصلة تماماً عن القيمة، والعقل (المادي) الذي يقوم بعملية مراكمة المعلومات وتطبيقها أداة تفكيكية لا تحترم الخصوصيات والأسرار ولا تهتم إلا بالتشابه والتجانس والنفع. وهذه المعرفة العلمية المادية (رغم تَجاوُّزها للإنسان وعدم اكتراثها به) ستُطبَّق على الإنسان لترشيده وترشيد حياته ثم لتفكيك العالم وتفكيك الذات الإنسانية.
وتنشأ في إطار هذه المنظومة التحديثية العلمانية الشاملة، ذات نقطتي البدء، ثنائية صلبة وحالة استقطاب شديد بين نموذجين: النموذج المتمركز حول الذات الإنسانية (المتألهة المطلقة المغلقة) التي تصبح مرجعية ذاتها ومرجعية الكون، والنموذج المتمركز حول الطبيعة/المادة (المتألهة المطلقة المغلقة) التي تصبح بدورها مرجعية ذاتها ومرجعية الكون.(2/120)
ولإلقاء مزيد من الضوء على عملية الصراع بين النموذجين في مرحلة الثنائية الصلبة (التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع) ، سنورد بعض معالم كل نموذج وتجلياته، وسنرمز للتمركز حول الذات بالحرف (أ) والتمركز حول الموضوع بالحرف (ب) :
1ـ أ) التمركز حول الذات ووهم انتصار الذات على الموضوع والواحدية الذاتية، الإنسانية الهيومانية والإمبريالية (تأله الإنسان وإنكار الكون) .
ب) ذوبان الذات في الطبيعة تدريجياً واختفاؤها وانتصار الموضوع وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية (تأليه الكون وتكيف الإنسان مع الطبيعة وإذعانه لها، وإنكار الإنسان) .
2ـ أ) مركز الكون كامن في الإنسان، والإنسان مرجعية ذاته.
ب) مركز الكون كامن في الطبيعة، والطبيعة مرجعية كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، ولذا يفقد الإنسان مركزيته.
3ـ أ) الإنسان مقياس كل شيء، والإرادة هي إرادة القوة.
ب) القوانين الواحدية المادية تسري على الإنسان سريانها على الطبيعة.
4ـ أ) الطبيعة مادة يُسخِّرها الإنسان لاستعماله (فهي مجرد وسيلة بالنسبة للإنسان) .
ب) الإنسان جزء من الطبيعة، ولذا فهو يُسخَّر في خدمة الموضوع، ويتحوَّل الإنسان (الغاية) إلى مجرد موضوع.
5ـ أ) الذاتية الكاملة والاهتمام فقط بالعالم الجواني وبخبايا ذات الإنسان وأبعاده المركبة والمظلمة.
ب) الموضوعية المصمتة والاهتمام فقط بالعالم البراني وبسطح الأشياء وبالسلوك.
6ـ أ) الخصوصية المفرطة ورفض كل التجريدات والتعميمات والإصرار على الشواهد المادية المحسوسة.
ب) العمومية المفرطة وتقبُّل المجردات والكليات اللاإنسانية والإذعان لها.
كما يأخذ الصراع بين النموذجين الأشكال التالية:
7ـ أ) الصدفة وعدم التحكم واختفاء المعيارية.
ب) الضبط الكامل للواقع والتحكم فيه والمعيارية الصارمة.
8ـ أ) الإبهام وعدم التحدد وعدم الفهم والشك الكامل.
ب) الوضوح الكامل والتحدد الموضوعي، والفهم الكامل لعالم الأشياء، واليقينية الكاملة.(2/121)
9ـ أ) التعددية المفرطة وزيادة المعطيات الحسية.
ب) التنميط وظهور حضارة قطع الغيار.
ولكن رغم الصراع بين الطرفين يظل هناك مركز واحد، إما الإنسان أو الطبيعة/المادة، هو مصدر الوحدة والتماسك، هو الكل الثابت المتجاوز (الإنساني والطبيعي/المادي) الذي يتسم بجميع سمات الكل في النظم الميتافيزيقية.
الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة فى الحضارة الغربية (عصر التحديث والحداثة)
نمط الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة هو النمط السائد في الحضارة الغربية الحديثة منذ عصر النهضة حتى منتصف الخمسينيات تقريباً (حين تبدأ المرحلة السائلة الشاملة) . ويتبدى النمط في المفاهيم الفكرية السائدة والتطور التاريخي والواقع الاجتماعي والحضاري اليومي. ولنا أن نلاحظ أن الطبيعة/المادة تتحول إلى المطلق العلماني والتنويعات المختلفة عليه (الحتمية التاريخية ـ حركة التاريخ ـ إرادة الشعب ـ الفولك ـ إرادة القوة ـ عبء الرجل الأبيض ـ الدولة المطلقة ـ السوق/المصنع ـ قوانين العرض والطلب) . أما الإنسان فبدلاً من أن يصبح الإنسان الطبيعي/المادي فإنه يصبح الإنسان الاقتصادي أو الإنسان الجسماني أو الإنسان الاشتراكي أو الإنسان القومي. ورغم تغيُّر الأسماء فالمسميات واحدة والنمط واحد: فالإنسان (القومي أو الاشتراكي) يحاول أن يؤكد ذاته بشكل مطلق وينتهي به الأمر أن يُستوعَب في إحدى المطلقلات العلمانية بشكل كامل. وفي هذا المدخل سنحاول أن ندرس تبديات النمط على هذه المستويات الفكرية والتاريخية والاجتماعية وسنرمز للتمركز حول الذات الإنسانية بالحرف (أ) والتمركز حول الموضوع المادي بالحرف (ب (.
1 ـ النزعة الإنسانية والنزعة الطبيعية المعادية للإنسان:(2/122)
أ) بدأ تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة بالفلسفة الإنسانية الهيومانية التي تتمركز حول الإنسان وتضعه بشكل كامل فوق الطبيعة، باعتبار أن له عقلاً قادراً على توليد معياريته وقيمه وغائيته من داخله يعيش في حالة حرية كاملة وإرادة واعية. فالإنسان، أو الإنسانية جمعاء، هي موضع الحلول ومركز الكون. ثم تحوَّلت هذه الهيومانية تدريجياً إلى فلسفة إنسانية غربية متكبرة متعجرفة تحوسل الطبيعة وتحلم بالتحكم الكامل في الكون. ثم أصبح الإنسان الغربي هو وحده هذا المركز (فالإنسانية جمعاء، مفهوم ميتافيزيقي، ماهيةً وجوهراً، متجاوز لعالم الطبيعة/المادة، والزمان والمكان) . ومن ثم، بدلاً من توظيف الطبيعة وتسخيرها للإنسانية جمعاء بدأ الإنسان الغربي في حوسلة بقية البشر والطبيعة باسم حقوقه المطلقة وباسم تفوقه الحضاري. فتحولت الهيومانية إلى إمبريالية كاملة لا تعترف إلا بالقوة والتفوق العرْقي باعتبارها المعايير الوحيدة. وهكذا تدهورت الهيومانية الغربية إلى إمبريالية وعرْقية وعداء صريح للآخر وللإنسان ككل.
ب) كانت الفلسفة الغربية منذ البداية تحوي نموذجاً متمركزاً حول الطبيعة/المادة والإنسان الطبيعي (ماكيافللي ـ هوبز ـ المادية الميكانيكية ـ العدمية ـ التجريبية) ولكنه كان هامشياً. وبالتدريج، تراجع النموذج المتمركز حول الإنسان وتزايد التمركز حول الموضوع وانتهى الأمر بظهور نزعة واحدية مادية معادية للإنسان تطالبه بأن ينفض عن نفسه وهم الكون المتمركز حول الإنسان والوهم الهيوماني القائل بحرية الإنسان وبمقدرته على توليد معياريته وغائياته من داخل ذاته، وتُبيِّن له أن الطريق الوحيد أمامه هو أن يُذعن للقوانين المادية الحتمية المنفصلة عن القيم والغائيات الإنسانية (وهو ما يعني النفي الكامل للحرية) وأن يستمد منها معياريته. ثم سادت النماذج الكمية التكنوقراطية.
2 ـ المفهوم الكالفني للإله:(2/123)
أ) الإله يُعبِّر عن نفسه في شواهد مادية محسوسة تزيد يقين المؤمن بخلاصه واصطفائه، وهو إله يذوب في الأفراد ويتجسد من خلالهم (انتصار الذات (.
ب) الإله لا يُسبَر له غور، فهو يختار من يشاء ومتى يشاء دون سبب واضح، ولا يكترث بالأفراد، فهو إله متمركز حول ذاته غير الإنسانية (انتصار الموضوع على الذات (.
3 ـ الإنسان البروتستانتي:
أ) هو فرد مختار يغزو العالم باسم الإله (فهو تَجسُّد للإله) ، واثق من نفسه ومن مقدرته على الغزو (تمركز حول الذات (.
ب) ولكنه فرد يعيش في حالة عدم أمن وفي خوف كامل مما حوله، فهو غير متأكد من رضاء الإله عنه ومن الخلاص، وهو دائم البحث عن شواهد في العالم المادي تقوم دليلاً على هذا الرضا وهذا الاختيار. والثروة من أهم علامات الاختيار، ولذا فهو يلهث دائماً وراءها لا يكف عن مراكمتها (تمركز حول الموضوع (.
4 ـ ثنائية العقل الإمبريالي النيتشوي والعقل الأداتي البرجماتي (النفعية الداروينية (:
أ) يستطيع العقل المادي أن ينظر إلى نفسه باعتباره تجسيداً لقوانين الطبيعة/المادة، وللمعيارية المشتقة منها والتي تتجاوز القيم والغائيات الأخلاقية والإنسانية. ولذا يتخلى هذا العقل تماماً عن مفهوم الإنسانية العامة أو المشتركة أو الإنسانية جمعاء باعتباره مفهوماً غائياً أخلاقياً ميتافيزيقياً يمثل شكلاً من أشكال الثبات داخل حركة المادة وصيرورتها، وشكلاً من أشكال التجاوز لقوانين الطبيعة/المادة. ويعلن هذا العقل أنه فوق الجميع وأنه مرجعية ذاته، ويصبح من حق العقل الإمبريالي المطلق أن يفعل ما يشاء للدفاع عن مصالحه وتحقيقها، ومن ذلك توظيف الآخرين وحوسلتهم. هذا العقل الإمبريالي هو عقل السوبرمن من أعضاء النخبة، ممن هم فوق الإنسان. ولكن العقل الإمبريالي الذي يُوظِّف يفترض وجود المادة التي تُوظَّف، ومن هنا يظهر العقل الثاني.(2/124)
ب) العقل المادي يمكنه أن ينظر إلى نفسه باعتبار أن وظيفته الأساسية هي التكيف مع المعيارية الطبيعية/المادية والإذعان لقوانين الطبيعة/المادة، وحينئذ يصبح العقل المادي عقلاً أداتياً، أي عقل السبمن من أعضاء الجماهير، ممن هم دون الإنسان الذين يؤدون ما يوكل لهم من أعمال ويُوظَّفون في خدمة السوبرمن دون تساؤل عن المضمون الأخلاقي والإنساني للأوامر التي أتتهم من عل. وهؤلاء السبمن لهم أسماء برجماتية مختلفة: الإنسان البرجماتي ـ الإنسان الوظيفي ـ الإنسان الاقتصادي ـ الإنسان ذو البُعد الواحد ـ الإنسان المُرشَّد أو المُدجَّن ـ الإنسان المُتشيِّئ، وهو إنسان يمكن توظيفه وحوسلته بسهولة ويسر، فهكذا يدرك ذاته وهكذا يرى نفسه.
5 ـ السوبرمان super-man) بالألمانية: أوبرمنش Ubermensch) (ما فوق الإنسان) والسبمان sub-man) بالألمانية: أونترمنش Untermensch) (ما دون الإنسان (:
أ) يُلاحَظ ظهور شخصيات بطولية خارقة ذات إرادة مستقلة مثل الزعامات الكاريزمية العلمانية التاريخية (المخلِّص العلماني: هتلر ـ روبسبيير ـ ستالين ـ فورد ـ روكفلر) . وتظهر شخصيات مماثلة في الأدب والسينما (فاوستوس ـ ماكبث ـ بروميثيوس ـ باتمان ـ سوبرمان ـ طرزان) . وقد ظهر في عصر النهضة دون كيشوت الذي يتمركز تماماً حول ذاته ولا يرى إلا طواحين الهواء غير الموجودة وعالم الفروسية والمثاليات الذي انقضى.(2/125)
ب) يُلاحَظ ظهور شخصيات نمطية ليس لها ملامح مستقلة تتبع ما يصدر لها من أوامر ولا تتمتع بأية مقدرة على التجاوز، وأيخمان هو مثل تاريخي جيد لذلك. وكذلك الإنسان العادي في الأدب الواقعي، والشخصيات التي تحاصرها ظروفها الاجتماعية أو الوراثية، ومادونا إنسان طبيعي تماماً لا تعاني من أي تركيب. كما ظهرت شخصيات دون الإنسان (دراكيولا ـ فرانكنشتاين ـ كنج كونج ... إلخ) . وكما ظهر دون كيشوت في عصر النهضة، ظهر معه سانخوبانزا الذي لا يرى إلا حماره، والطريق عند قدميه، ومصلحته المادية.
6 ـ حلم اليوتوبيا التكنولوجية (ونهاية التاريخ (:
أ) يحلم الإنسان بعالم منظم تماماً خاضع للقوانين التي سيكتشفها الإنسان ويتحكم فيها من خلال التكنولوجيا المتقدمة والتطور العلمي المذهل، فيصبح سيد الكون، ويُنهي الصراعات الطبقية والانحرافات الذاتية عن مسار التاريخ، وينتهي التاريخ كما نعرفه ويبدأ تأريخ جديد منظم عقلاني مفهوم تتحد فيه الذات بالموضوع والتاريخ بالطبيعة والفكرة المطلقة بالمادة (على حد قول هيجل (.
ب) يتحقق الحلم فيجد الإنسان نفسه يعيش في عالم تحكمه قواعد وإجراءات بيروقراطية صارمة. وحين تتحد الذات بالموضوع وتُمحَى كل الفوارق بينهما تصبح الذات موضوعاً وتدعم القوانين الموضوعية، أي أن القواعد والإجراءات البيروقراطية الصارمة، تتجاوز الإنسان وتتحكم فيها ولا يتحكم فيها وتسيطر عليه ولا يسيطر عليها، فاليوتوبيا التكنولوجية البيروقراطية آلة ضخمة تسيطر على الجميع ولا يسيِّرها أحد.
7 ـ الاشتراكية الإنسانية والاشتراكية العلمية:
أ) بدأ الفكر الاشتراكي بالحديث عن ضرورة الدفاع عن الإنسان الذي يتزايد اغترابه عن جوهره الإنساني في المجتمع الرأسمالي الذي يطحن الإنسان الفرد ويُحيِّده ويُشيِّئه ويُنمِّطه ويؤدي إلى اختفائه من خلال آليات السوق والعرض والطلب، ومن خلال وسائل الإعلام وهيمنة الدولة على الفرد.(2/126)
ب) وفي الوقت نفسه تُوجَد داخل الفكر الاشتراكي منذ البداية اتجاهات علمية مادية (مرجعية كامنة) تتصارع مع المرجعية الإنسانية المتجاوزة. فبدأ تهميش النزعة الإنسانية تدريجياً وتعاظمت النزعة العلمية المادية وانتهى الفكر الاشتراكي بالحديث عن أسبقية الطبقة على الشعب وأسبقية الحزب على الجميع وضرورة التخطيط العلمي الشامل الصارم وإعادة صياغة الواقع على هدي قوانينه المادية الجدلية التي لا تكترث كثيراً بالإنسان الفرد. وتصل هذه النزعة العلمية إلى قمتها في ممارسات ستالين وفكر ألتوسير.
8 ـ حركة التمركز حول الأنثى:
أ) تبدأ الحركة بتمركز الأنثى الكامل حول ذاتها فترفض عالم الرجال تماماً وتطالب بتعديل التاريخ البشري واللغة الإنسانية، وتؤكد أن الأنثى هي الأصل وهكذا.
ب) ينحل هذا التمركز ويذوب وتظهر الدعوة إلى الجنس الواحدي unisex، ولذا بدلاً من المرأة المتمركزة حول نفسها تتمركز حول شيء مجرد لا وجود له.
9 ـ النسبية الأخلاقية والمعرفية:
أ) النسبية الأخلاقية والمعرفية تعني أن الإنسان يحكم على الأمور بالطريقة التي ترضيه هو وبما تمليه عليه مصالحه وتحقق أقصى حرية لنفسه ويدرك العالم من خلال مقولاته الإدراكية الخاصة (تمركز حول الذات) .
ب) ولكن هذا يعني أن الآخرين لهم نفس الحريات ويتحركون هم أيضاً خارج أية حدود، ويعني سقوط أية مرجعيات أخلاقية متجاوزة، وهو ما يعني سيادة إرادة القوة وانتشار حالة من الفوضى تنفي الحرية تماماً (التمركز حول الموضوع) . كما أن الإنسان الذي يعلم أنه يدرك العالم من خلال مقولاته الإدراكية الذاتية يدرك أنه ليس له فعالية خارج ذاته، ومن ثم يفقد الثقة في نفسه ويهتز ويفقد قدرته على اتخاذ القرار.
10 ـ القومية الإثنية العضوية:
أ) القومية العضوية هي قومية تمنح أصحابها حقوقاً مقدَّسة مطلقة لا يمكن أن يتساءل أحد بشأنها، وهي فريدة في خصائصها لا يمكن أن يضاهيها أحد (تمركز حول الذات) .(2/127)
ب) أعضاء القومية العضوية يصبحون جزءاً عضوياً لا يتجزأ من الذات القومية التي تُعبِّر عنهم ولا يملكون من أمرهم شيئاً. وأعضاء القوميات الأخرى يصبحون بلا حقوق (تمركز حول الموضوع) .
ونموذج التمركز حول الذات وحول الموضوع لا يتبدى في الأفكار والرؤى الأساسية الغربية الحديثة وحسب بل يتبدى أيضاً على مستوى الواقع التاريخي والاجتماعي.
11 ـ الإنسان في السوق الرأسمالية بين الحرية الكاملة والحتمية الشاملة:
أ) الإنسان داخل إطار اقتصادي، فرد حر تماماً يذهب إلى السوق ليبيع ويشتري في حرية كاملة، ولا يمكن لأحد أن يتدخل في حريته (من الناحية النماذجية المثالية) ، ولا حتى الدولة أو المجتمع. وهو، كرأسمالي، حر تماماً في استثمار أمواله أو عدم استثمارها، والعامل حر تماماً في بيع عمله أو عدم بيعه.
ب) الإنسان يختفي تماماً ويتشيأ ويُحيَّد إذ تسيطر على السوق اليد الخفية (الحديدية) وآليات العرض والطلب، كما يسيطر على المصنع خط التجميع وإيقاع آلي غير إنساني. والرأسمالي نفسه خاضع تماماً لحتميات السوق لا يمكنه أن يمارس إرادته الحرة. وكذا العامل، فهو أيضاً حر من الناحية النظرية، في أن يبيع عمله أو يمتنع عن ذلك، ولكنه فعلياً لا يملك إلا أن يبيعه حسب قوانين العرض والطلب.
12 ـ الإنسان في الدولة الاشتراكية بين الحرية الكاملة والحتمية الشاملة:
أ) الإنسان في الدولة الاشتراكية هو إنسان يود أن يلغي الطبقات ويحقق المساواة الكاملة ثم يلغي الدولة نفسها ليعيش حراً تماماً من كل قيود وظلم واستغلال.
ب) ما حدث هو أن الدولة في النظم الاشتراكية تغولت ودعمت وجود الطبقات وفرضت على الإنسان قدراً من القيود لم ير مثله الإنسان من قبل أو بعد.
13 ـ ثنائية الحياة الخاصة والحياة العامة:(2/128)
أ) بدأت الحياة الحديثة في الغرب بإعلان ظهور الإنسان الفرد الذي لا يذعن في حياته الخاصة لأية قوانين، ولا ينضوي داخل إطار أية مؤسسات ويُحقق في رقعة الحياة الخاصة خصوصيته وتَفرُّده وإبداعه. وعلى المستوى الاجتماعي، أُعلن أن الإنسان قادر على ممارسة إبداعه وإعمال عقله وهو ما يمكِّنه من الوصول إلى منظومات معرفية يمكنه من خلالها ترشيد بيئته ومجتمعه وذاته وتعظيم لذته ومنفعته والتحكم في كل شيء.
ب) أخذت عمليات الترشيد في التوسع التدريجي حتى اقتحمت حياة الإنسان الخاصة واستعمرتها (على حد قول هابرماس) ، وتم إخضاعها للقوانين الرشيدة العامة وكذلك تنميطها، فظهر الإنسان ذو البُعد الواحد المتشيئ الذي لا يعرف أية خصوصية؛ إنسان بلا باطن، خاضع تماماً لعمليات الحوسلة والتغير. ومن ثم، أدَّت عمليات الترشيد إلى هيمنة الشمولية وتَغوُّل الدولة والمؤسسات البيروقراطية اللاشخصية على الإنسان، وتنميط حياته اليومية، وإعلان نهاية التاريخ والإنسان.
14 ـ التقاليد (الموضة (:
أ) تُعبِّر مسايرة التقاليد (الموضة) عن رغبة الإنسان العلماني (الطبيعي) في التجديد المستمر والتنوع والتعبير عن ذاته وإرادته. وهذا تعبير عن التمركز حول الذات.
ب) ولكن هذه التقاليع (الموضة) ليست ثمرة الإبداع الشخصي للإنسان، بل تقوم بها مؤسسات ليست ملتزمة سوى بقيمة واحدة هي الربح، ولذا فهي تخلق جواً إعلامياً يجعل من المستحيل على المرأة أن ترفض التقاليع (الموضة) . ويتم تغيير التقاليع (الموضة) سنوياً بهدف تعظيم الربح دون أية اعتبارات أخلاقية أو دينية أو إنسانية. ولكن على الجميع أن يعمل ويكد ليحقق الدخل المطلوب لمواكبة التقاليع (الموضة) . بل يمكن أن يكون اتّباع التقاليع (الموضة) تعبيراً عن محاكاة ببغائية لأزياء ممثلة مشهورة أو لاعب كرة، ولذا نجد أن التمركز حول الذات قد أدَّى إلى فقدانها وإلى التمركز حول الموضوع.
15 ـ الجنس العرضي:(2/129)
أ) من يمارس الجنس العرضي إنسان (طبيعي/مادي) لا يكترث بالقيم الاجتماعية أو الأخلاقية أو الإنسانية ولا حتى بالآخر الذي يصبح موضع شهوته العابرة (تمركز حول الذات) .
ب) ولكن الإنسان، بممارسته الجنس العرضي، يُسقط كل القيم الجوانية التي تُعبِّر عن خصوصيته وتركيبيته وتفرُّده (أي إنسانيته) ويتحرك في عالم السطح وحسب ويتشيأ ويُشيِّئ الآخر (تمركز حول الموضوع) .
وما يهمنا في هذه الثنائية أنها، سواء في تمركزها حول الذات أو في تمركزها حول الموضوع، لا علاقة لها بالإنسان الإنسان، أي الإنسان ككائن اجتماعي حر متعيِّن. فالإنسان المتمركز حول ذاته، شأنه شأن الإنسان المتمركز حول الموضوع، ليس إنساناً مركباً متجاوزاً.
والنمط الذي بيَّناه (استبعاد الذات الإنسانية المركبة، متعددة الأبعاد، المتجاوزة للطبيعة/المادة من خلال التمركز حول الذات الطبيعية، ذلك التمركز الذي يؤدي إلى ذوبانها في الموضوع وخضوعها للمرجعية المادية النهائية فيسري عليها ما يسري على الأشياء من قوانين فتتمركز حول الموضوع) هو النمط الكامن وراء معظم عمليات العلمنة في مرحلة الثنائية الصلبة، ويفسر كثيراً من أشكالها.
تقويض الذات الإنسانية وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية(2/130)
لا تدوم حالة الثنائية الصلبة (الواحدية الذاتية مقابل الواحدية الموضوعية) إذ يتم محوها لصالح الواحدية الموضوعية إذ يكتشف الإنسان العلماني الحديث أنه اكتسب مركزية في الكون من خلال تبنِّيه نموذج الحلولية الكمونية، إلا أن هذه الرؤية نفسها تؤكد أن كل شيء كامن في هذا العالم في حركة المادة وقوانينها. ولذا فالمبدأ المادي الواحد المحرك للكون يساوي بين الإنسان وكل الكائنات الأخرى ويسوي بينهم، فلا فارق بين الإنسان والشجرة، أو بينه وبين الحشرة. وانطلاقاً من نفس الحلولية يكتشف الإنسان أنه ليس له أصل إلهي متجاوز لهذا العالم. فأصله طبيعي/مادي لا يفصله فاصل عن الطبيعة/المادة، فمهما حقق من تجاوز لها فإنه (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) ، شأنه شأن كل الكائنات الأخرى، يعيش داخل الطبيعة/المادة، داخل الزمان والمكان، وحتى رغباته النابعة من صميم ذاته، هي رغبات طبيعية/مادية حتمية، لا يستطع أن يتحكم فيها. فما يتحكم فيه هو خصائصه الوراثية ودوافعه البيولوجية وظروفه الموضوعية، أي أن الإنسان حينما يتمركز حول ذاته إنما يتمركز حول ذات طبيعية/مادية.
وفي محاولته تحقيق هذه الذات يتزايد اقترابه وذوبانه في الطبيعة/المادة التي لا تكترث به ولا تمنحه أية مكانة خاصة، وعليه أن يذعن لها ويتكيف معها، أي أن تحقيق الذات يعني تفكيك الذات. ومن ثم تهيمن الواحدية المادية ويخضع الإنسان تماماً للمعايير والمنظومات الطبيعية/المادية، الكمية الهندسية، التي لا تكترث بفرديته أو خصوصيته أو غاياته.(2/131)
وقد قام مفكرو الاستنارة المظلمة بتوجيه الضربات المتتالية لمقولة الإنسان فأكد هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وأن الواقع إن هو إلا حلبة صراع يخوضه الجميع ضد الجميع. وتبعه كثير من الفلاسفة الماديين مثل إسبينوزا والفلاسفة الماديين في فرنسا الذين يفككون الذات الإنسانية تماماً. وانضم لهم بنتام الذي ذهب إلى أن سلوكنا الأخلاقي يمكن تفسيره مادياً في إطار المنفعة واللذة ثم داروين الذي ذهب إلى أن عالم الإنسان عالم حركة وصراع وأن الإنسان لا أصل إلهي له، فهو سليل القرود، ثم ماركس الذي اكتشف أن المجتمع حلبة صراع خاضع لحتميات مادية اقتصادية، وفرويد الذي أكد لنا أن ما يحركنا هو أساساً لا وعينا وأن لا وعينا تحكمه قوى مظلمة مثل الجنس، وذهب أيضاً إلى أننا لا ندرك الحقيقة فما ندركه هو ما يتراءى لنا أنه الحقيقة. ويونج الذي قال إن لا وعينا هو لا وعي جمعي، ثم جاء البنيويون الذين أعلنوا أن البنية تتحدث من خلال الإنسان وأن الإنسان لا يتحدث من خلال البنية، وانتهى الأمر بأن أعلن فوكوه موت الإنسان. وهكذا تم ضرب الإنسان وتفكيكه أنطولوجيا (فالإنسان إن هو إلا مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية لا يختلف في سلوكه عن سلوك أي حيوان أعجم) وإبستمولوجيا (فإدراك الإنسان للواقع ليس عقلانياً وإنما تحكمه مصالحه الاقتصادية وأهواؤه النفسية) .(2/132)
وإذا كان هذا هو منطق منظومة الحداثة الحلولية العلمانية الشاملة، فإن تطور الواقع وتشكُّله ساهم هو الآخر في تقويض الذات الإنسانية. إذ نجد أن مجالات الواقع أخذت تنفصل تدريجياً عن الإنسان من خلال تصاعد معدلات الحلولية والعلمنة. وقد لاحظنا أنه داخل منظومة الحلولية المادية أصبحت الطبيعة/المادة مرجعية ذاتها، غير مكترثة بالإنسان لا تمنحه أية مركزية، ويمكننا أن نلاحظ أن الشيء نفسه ينطبق على مجالات حياة الإنسان المختلفة، إذ يصبح كل مجال مرجعية ذاته فيفلت من قبضة الإنسان ولا يكترث به ولا يمكنه التحكم فيه.(2/133)
وقد بدأت المتتالية بانفصال المجال الاقتصادي عن المنظومات القيمية والغائيات الدينية ثم الإنسانية، إذ تحرَّر المجال الاقتصادي من هذه المنظومات والغائيات ومن أية معيارية مستمدة منها، بحيث أصبح الاقتصاد هو نفسه موضع الحلول والكمون يحوي داخله معياريته وغائيته وكل ما يكفي لتفسيره. ويتم الحكم على عالم الاقتصاد، في هذه الحالة، بمعيار مدى تحقيقه للأهداف الاقتصادية (متجاوزاً الجانب الديني والأخلاقي والإنساني تماماً) ، ويُشير عالَم الاقتصاد إلى ذاته ويحكم على الإنسان ذاته حين يتحرك داخل عالم الاقتصاد بمعايير اقتصادية. وبذلك يتحوَّل الإنسان من كونه غاية ومرجعية تتحرك داخل حيزها الإنساني ليصبح مجرد آلة أو وسيلة حين يتحرك داخل الحيز الاقتصادي. ثم تنفصل مجالات الحياة العامة الواحدة تلو الأخرى فينفصل المجال السياسي عن المنظومات القيمية والغائيات الإنسانية، لتصبح الدولة نهاية في حد ذاتها، أي أنها تصبح موضع الحلول، ويُحكَم على المجال السياسي بمعايير سياسية، كما يُحكَم على الإنسان ذاته بمعايير سياسية حين يتحرك داخل الحيز السياسي. ثم تنفصل الفلسفة ويصبح العقل المنفصل عن القيم والغائيات المسبقة هو موضع الحلول ومعيارية ذاته. وتتالى المجالات وتتساقط إلى أن يصبح العلم مركز الكمون وموضع الحلول المستقل عن القيم والغائيات الإنسانية، ويُحكَم على مدى نجاح العلم أو فشله بمقدار ما يحققه من أهداف علمية محضة، مثل مراكمة المعلومات وإجراء التجارب "الناجحة" (بمقاييس علمية، بطبيعة الحال) ، ويصبح العلم مرجعية ذاته وتنفصل الحقائق تماماً عن القيمة. وتتغلغل عمليات العلمنة الشاملة وتتصاعد معدلات الحلول وتنتقل من الحياة العامة إلى الحياة الخاصة، فتتم علمنة الوجدان والأحلام (الثورة الرومانسية ـ الأدب مرجعية ذاته ـ الذات مرجعية ذاتها) وتتم علمنة الرغبات (البحث عن اللذة والإشباع الفوري) وأخيراً علمنة الجسد والجنس،(2/134)
فيتحرر الجنس من سائر المعايير والغائيات ليصبح موضع الحلول ومعيارية ذاته، ويُحكَم على مقدار نجاحه أو فشله بمقدار ما يحققه من أهداف جنسية محضة مثل اللذة، خارج أي نطاق اجتماعي أو أخلاقي. وهكذا تتفتت الحياة الإنسانية وتتحول جوانبها المختلفة إلى مجالات غير متجانسة غير مترابطة ويختفي الحيز الإنساني ويصبح العالم بالفعل مادة نسبية محايدة خاضعة لحركة المادة وحسب وتسيطر الواحدية الموضوعية المادية التي تستبعد الحيز الإنساني إذ يصبح العالم الموضوعي هو اللوجوس.
وهكذا يختفي الإنسان الإنسان، الإنسان المركب الفرد الحر الواعي المسئول أخلاقياً، القادر على تجاوز ذاته الطبيعية/المادية وعلى تجاوز الطبيعة/المادة (والمطلقات العلمانية) وعلى اتخاذ قرارات تعبِّر عن ذاته الإنسانية المركبة ويختفي الإنسان كمقولة مستقلة عن الطبيعة/المادة (والمطلقات العلمانية المادية المختلفة) وتختفي فكرة الإنسانية المشتركة المنفصلة عن الطبيعة/المادة ويتم استيعاب الإنساني في الطبيعي ويظهر ما يُسمَّى «الإنسان الطبيعي/المادي» (أو الإنسان الاقتصادي أو الإنسان الجسماني) وهو إنسان ليس فيه من الإنسان سوى الاسم، إنسان جوهره طبيعي/مادي، إنسان ذو بُعد واحد، باطنه مثل ظاهره، يمكن تشييئه وتسليعه وحوسلته بسهولة ويسر.(2/135)
إن التحديث (في إطار العلمانية الشاملة) يَصدُر عن تأكيد زمنية ومكانية ومادية كل شيء، وإخضاع كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، لعمليات الترشيد العقلاني المادي في إطار معايير عقلانية صارمة. وعملية التحديث متتالية تحققت تدريجياً. وتَحقُّقها التدريجي هذا يعني التصاعد التدريجي والمستمر للواحدية المادية إلى أن تسيطر تماماً. ولذا، فإن ثمة تراجعاً مستمراً عن الفلسفة الإنسانية (الهيومانية) وعن ثنائية الإنسان والطبيعة وعن الإيمان بالثبات والتجاوز، وهو في واقع الأمر تَصاعُد مطرد للواحدية المادية ومحو لكل الثنائيات والخصوصيات والهويات والثبات وتفكيك لمقولة الإنسان كمقولة لها حدودها المستقلة المتماسكة ليسقط الإنسان تماماً في قبضة الصيرورة وزمانية ومكانية منظومة الحداثة العلمانية الشاملة. ولعل ما يُسمَّى التلاقي (بين النظم الرأسمالية والاشتراكية) ، وهيمنة النماذج البيروقراطية والكمية، وإزاحة الإنسان عن المركز، والتَسلُّع، والتحييد، والتَشيُّؤ، والاغتراب، ونزع القداسة عن العالم، وإنكار الجوهر الإنساني، والهجوم على الإنسانية المشتركة، والنظام العالمي الجديد ... إلخ هو تعبير عن نفس الظاهرة وليس مجرد انحرافات عن مسار التحديث وعن جوهره.(2/136)
وقد عبَّر رورتي عن هذا بأن وصف التحديث بأنه مشروع نزع الألوهية عن العالم (بالإنجليزية: دي ديفينايزيشن بروجكت dedivinization project) وهو يعني ألا يُؤلِّه الإنسان شيئاً وألا يَعبُد شيئاً ولا حتى ذاته، وألا يجد في الكون أي شيء مقدَّس أو رباني أو حتى نصف رباني. ومن ثم، لا تُوجَد مقدَّسات أو محرَّمات من أي نوع، فلا حاجة لتجاوز المُعطَى المادي (الزماني المكاني) . فالإنسان يوجد في عالمه المادي لا يتجاوزه، فالعالم مكتف بذاته، موضع الحلول والكمون وهو مُستقَر كل القوانين التي يحتاج لمعرفتها. ثم يبيِّن لنا رورتي النتائج المنطقية لهذا الموقف بقوله "إن الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة القداسة أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر الحقيقة". فهي ستهاجم فكرة "تكريس الذات للحق (الحقيقة) " أو "تحقيق الحاجات العميقة للذات"، كما ستبيِّن أن مصدر المعنى ليس كلاًّ متجاوزاً وإنما هو الإنسان، والإنسان كائن حادث زمني متناه، أي أنه ليس مصدراً جيداً للحقيقة.
ويبيِّن لنا رورتي بعض النتائج المنطقية الأخرى للتحديث في الإطار المادي والعلماني الصلب، فالتحديث هو إيمان عقلاني مادي بالتقدم وإيمان بالمستقبل الذي سيتحقق فيه التقدم، الذي أصبح المعيار الواحد والوحيد. ولكن التقدم نفسه هو مجرد حركة وحركة مستمرة لا متناهية، ولأنها حركة في عالم المادة فلا يمكن أن تكون لها أية غائية، وهو ما يعني سقوط الثبات.(2/137)
وانطلاقاً من أرضيتنا الحديثة العقلانية المادية، فإن العقل سيقوم بعملية نقدية صارمة لمسلماتنا العقلية وموروثاتنا الثقافية ولن نقبل من التاريخ إلا ما يتفق مع نماذجنا العقلية والمادية، والرؤية التحديثية المادية تُعرِّف «الزمان» و «المكان» و «الآن وهنا» كمقولات مجردة، كصيرورة لا معنى لها، كعلامة على ماديتنا، ولكنها لا تقبل التاريخ أو الذات ولا تعرفهما لأنهما يحتويان مخزوناً لقيم تُغاير ما في واقعنا المادي وما في نماذجنا العقلانية المادية وتتحداها.
وعلى هذا، فإن التحديث (بالنسبة لرورتي وآخرين) هو نسيان نشط للتاريخ والذات، أي أنه تجريد للإنسان من ذاكرته التاريخية بعد أن جُرد من مكانته الأنطولوجية. وهكذا، تم ضرب الذات الإنسانية وتفكيكها تماماً، ولم يبق من الإنسان شيء، لا مقدرته على الإدراك المبدع للواقع ولا الذاكرة التاريخية. ولا غرو أن المشروع التحديثي قد َحوَّل الإنسان من غاية إلى وسيلة. وهناك كثير من آليات التحديث، مثل الدولة المركزية أو السوق القومية أو الترشيد، تستقل عن الأهداف الإنسانية منها (إشباع حاجات الإنسان وتحقيق الكفاية والأمن له ... إلخ) لتصبح غايات وتهيمن على الإنسان ويصبح عليه أن يُذعن لها.
ورغم تصفية الإنسان وتقويضه، فإن الطبيعة (مع هذا) تظل مركز الكون تزوده بمعيارية ويصبح الإنسان مذعناً لها، يصبح هناك كون طبيعي صلب وقوانين طبيعية صلبة. أي أن مرحلة الصلابة مرحلة متمركزة حول اللوجوس الكل الثابت المتجاوز، الإنساني (في البداية) أو الطبيعي/المادي (في النهاية) ، فهو عالم لوجو سنتريك logo-centric.
السيولة الشاملة (عصر ما بعد الحداثة)(2/138)
امتدت المرحلة الثنائية والواحدية والواحدية الصلبة منذ عصر النهضة في الغرب حتى منتصف الخمسينيات. ورغم أن رؤية السيولة الكاملة كانت كامنة في الرؤية الغربية للعالم إلا أنها ظلت هامشية وبدأت تتحرك نحو المركز في نهاية القرن التاسع عشر واستقرت فيه في العقود الأخيرة من القرن العشرين (في عصر ما بعد الحداثة) .
ومع نهاية القرن التاسع عشر بدأت تظهر عناصر جديدة جعلت من المستحيل الاستمرار في حالة الصلابة القديمة:
1 ـ بدأ الإنسان الغربي يدرك استحالة تنفيذ مشروعه التحديثي وأن ما تحقَّق منه قد بدأ يؤدي إلى اختفاء الإنسان. ورغم إدراك الإنسان الغربي لهذا الوضع فإنه كان لا يعرف بديلاً له، كما أنه لا يزال يحمل ذكرى عصر المادية البطولي، ولذا استمر فيه واستمر في الإبداع وفي التمرد على وضعه. وقد سمينا هذا عصر الحداثة المأساوي/الملهاوي/العبثي.
2 ـ لاحظنا تفكيك مقولة الذات الإنسانية المستقلة. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذه النقطة، بل تستمر عملية التفكيك وتصل إلى مستويات أكثر عمقاً وجذرية، إذ يتم ضرب فكرة الواقع الموضوعي نفسه أيضاً. فالواقع (الطبيعة/المادة) ، من المنظور التحديثي، في حالة حركة دائمة وتَغيُّر دائم، والتغيُّر هو الصفة الثابتة الواحدة لعالمنا، سجن الزمان والمكان. ومن ثم سقطت الطبيعة نفسها في قبضة الصيرورة.
وقد "أثبت" داروين أن الطبيعة في حالة صراع دائم يحكمها منطق القوة. و"أثبت" علم النفس أن إدراكنا لها ليس موضوعياً، ومن ثم فهي ليست مصدر موضوعية للمعرفة. ثم جاءت ثورة العلوم الطبيعية (نظرية عدم التحدد ـ النظرية النسبية.. إلخ) التي أكدت استحالة رصد الواقع الموضوعي واستحالة تجاوزه.(2/139)
لكل هذا، تبدأ الطبيعة/المادة نفسها في الاختفاء كمعيارية ومرجعية وككل ثابت متجاوز، ويصبح كل شيء مرجعية ذاته، وهذا ما يؤدي إلى تشظي الكون وتحوُّله إلى ذرات (بالإنجليزية: أتومايزيشن atomization، أو أتوميستيك فراجمنتيشن atomistic fragmentation) ويظهر عالم لا مركز له، أو متعدد المراكز، يتسم بعدم وجود حقيقة أو بتعدد الحقائق، وبعدم وجود مطلق أو بتعدد المطلقات، عالم ما بعد الحداثة والقصص الصغرى والنظام العالي الجديد، عالم ليس فيه ذات متماسكة ولا موضوع متكامل. ويصبح العالم مفككاً لا مركز له (بالإنجليزية: نان لوجو سنتريك non logo-centric) ، وتصبح الصيرورة مركز الحلول والكمون، ويصبح النسبي هو المطلق الوحيد، ويصبح التغيُّر هو نقطة الثبات الوحيدة.(2/140)
ويتحول العالم إلى كيان شامل واحد تتساوى تماماً فيه الأطراف بالمركز، عالم لا يوجد فيه قمة أو قاع، أو يمين أو يسار (أو ذكر أو أنثى) ، وإنما يأخذ شكلاً مسطحاً تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على نفس السطح وتُصفى فيه كل الثنائيات الصلبة والفضفاضة، وتنفصل الدوال عن المدلولات فتتراقص بلا جذور ولا مرجعية ولا أسس، وتصبح كلمة «إنسان» دالاً بلا مدلول، أو دالاً متعدد المدلولات، وهي مرحلة السيولة الشاملة (أو الواحدية السائلة) ، وبدلاً من الصراع بين الذات والموضوع، تذوب الذات في الموضوع والموضوع في الذات (خير/شر ـ حقيقة/زيف ـ مطلق/نسبي ـ عدل/ظلم ـ إنساني/طبيعي ـ خالق/مخلوق) . وهذا هو الانتقال من الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية الصلبة إلى الواحدية السائلة التي لا تعرف حدوداً ولا قيود. وهو أيضاً الانتقال من عالم التحديث والحداثة (والإمبريالية) إلى عصر ما بعد الحداثة (والنظام العالمي الجديد) . ولذا كان السؤال الذي طُرح في مرحلة الثنائية الصلبة (والتحديث والحداثة) هو: أيهما مركز الكون: الإنسان أم الطبيعة؟ أما في هذه المرحلة مرحلة السيولة الشاملة فتطرح تساؤلات أكثر جوهرية تتصل بالكل الثابت المتجاوز: هل يمكن الإيمان بوجود كلٍّ ثابت متجاوز له معنى داخل الإطار المادي؟ وكيف يكون هناك كلٌّ، والعالم المادي مكون من جزئيات وتفاصيل وظواهر متناثرة؟ وكيف يكون هناك ثبات داخل الإطار المادي، والمادة المتحركة؟ وهل يمكن تحقيق التجاوز، والمادة لا تعرف التجاوز؟ هل يمكن أن يكون هناك معنى للكون، والمادة حركة بلا قصد أو معنى؟ هل يمكن الاحتفاظ بثنائية الإنسان/الطبيعة في عالم واحدي مادي، والمادة لا تعرف إلا قانوناً واحداً؟ هل يستطيع شيء أن يفلت من قبضة الصيرورة في إطار فلسفة مادية؟ هذه هي الأسئلة الأنطولوجية المعرفية التي طرحها الإنسان الغربي على نفسه.(2/141)
وبعد تفكيك الذات والموضوع كانت الإجابة أنه لا يوجد أي أساس لظهور الكل المادي المتجاوز (الإنساني أو الطبيعي) أو لأي شكل من أشكال الثبات، فالإنسان غير قادر على السيطرة على الطبيعة وإنما عليه الإذعان لها وهو غير قادر على إدراكها تماماً، والطبيعة نفسها متحركة فلا يمكن رصدها ولا الإمساك بها، ومن ثم لا توجد ثوابت أو كليات أو مطلقات معرفية أو أخلاقية.
وفيلسوف عصر السيولة هو نيتشه، الذي ظهر من الناحية الزمنية في أواخر القرن التاسع عشر (مع بدايات ظهور الحداثة) إلا أنه في واقع الأمر فيلسوف نهاية الحداثة، أي ما بعد الحداثة. فقد أدرك بثاقب نظره أن الحقيقة الكلية المادية التي بشَّر بها دعاة الاستنارة (المضيئة) والتحديث والعقلانية المادية مرتبطة حتماً بالتجاوز والميتافيزيقا لا يمكنها أن تنفصل عنهما. وهذا يعني في واقع الأمر أن من داخل نظام يدَّعى المادية يُولَد مرة أخرى الرباني والمقدَّس والمدلول المتجاوز ( «ظلال الإله» حسب تعبير نيتشه) . ولكن هذا أمر غير معقول داخل إطار مادي، ففي داخل هذا الإطار لا مناص من قبول أطروحات الاستنارة المظلمة التي لا تعرف ظلال الإله، فهذا هو مصير الإنسان الموجود في الزمان والمكان وبعد موت الإله، ولا داعي للتمحك في ظلاله. والأمل التحديثي في عصر المادية البطولي هو هذا التمحك، وهو أمل جبان غير قادر على قبول وضع الإنسان في عالم الصيرورة المادية، وهذه المنظومات المعرفية والأخلاقية العقلانية هي مؤامرة الضعفاء على الأقوياء من أبناء الطبيعة. لكل هذا رحب نيتشه بالعدمية زائراً دائماً في وسطنا في عصرنا الحديث المادي، وأعلن فلسفة القوة الشجاعة التي لا تعرف الضحك والبكاء ولا تكترث بالضعفاء حيث لا ذات ولا موضوع، ولا داخل ولا خارج، ولا ظاهر ولا باطن، ولا دال ولا مدلول، ولا مُقدَّس ولا مُدنًَّس، ولا حلال ولا حرام، ولا حقائق ولا حق ولا حقيقة، وإنما صراع بين قوى مظلمة ظالمة(2/142)
يُحسَم بطريقة مادية طبيعية. وفي إطار فلسفة القوة، لا تُوجَد لغة تواصلية إذ أن إرادة القوة هي التي تربط السبب بالنتيجة والدال بالمدلول وتصبح هي مبدأ التماسك أو السيولة في العالم ومصدر المعنى أو اللامعنى. وهذه هي فلسفة الواحدية المادية الكمونية والعلمانية الشاملة التي تؤكد تناهي الإنسان داخل الزمان والمكان وتؤدي إلى اختفاء المرجعية الإنسانية بل المرجعية الموضوعية نفسها (أي كل المرجعيات وأية مركزية وأي كل مادي متجاوز) ، فالمادة حركة والحركة لا تعرف التمييز بين مركز وهامش وبين معنى ولا معنى وبين القيمة والعدم. وكان نيتشه يدرك تماماً أن دعوته لإزالة ظلال الإله هذه، والتخلص من الكل المادي المتجاوز (إنسانياً كان أم طبيعياً/مادياً) ومن كل من الذات والموضوع، وتشكل أساس الأنطولوجيا الغربية، لم تكن من بنات أفكاره وإنما كانت كامنة في الجذور الفلسفية للمشروع التحديثي العقلاني المادي.
وقد قامت محاولات كثيرة للإجابة على تحديه. فظهرت فلسفات مثل البرجماتية وفلسفات الحياة (برجسون) ، ثم ظهرت أخيراً الفلسفة الفينومينولوجية كنوع من محاولة الوصول إلى تعريف للحقيقة يتجاوز ثنائية الذات والموضوع، والتجاوز والكمون، والثبات والحركة، والغائية والعدمية عن طريق فكرة الوعي والقصد حيث لا توجد الذات إلا من خلال الموضوع ولا يوجد الموضوع إلا من خلال الذات، بمعنى أننا قد يمكننا أن نصل إلى الحقيقة الكلية دون حاجة إلى تَجاوُز أو ثبات أو غائيات أو ثنائيات، وبذا يمكن تقويض أساس الأنطولوجيا الغربية (ثنائية الذات والموضوع، ووجود الكل والجزء، ووجود حقيقة موضوعية وذات متماسكة ومعنى وهدف) دون السقوط في العدمية أو الميتافيزيقا، أي أننا يمكننا أن نصل إلى الحقيقة الكلية والمعنى الكلي بدون ميتافيزيقا.(2/143)
وكانت هذه هي آخر المحاولات شبه العقلانية المادية، إذ ظهرت ما بعد الحداثة وهي فلسفة لاعقلانية مادية لا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة ولا التمرد العبثي؛ فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل، والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركة (مثل المادة الأولى) ، وأن ليس ثمة ذات إنسانية متماسكة ثابتة ولا موضوع طبيعي/مادي ثابت متماسك (فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية) وحتى إن وُجدت الذات ووُجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا تُوجَد لغة للتواصل أو التفاعل. كل هذا يعني اختفاء فكرة الكل تماماً، والأجدر للإنسان أن يتكيف بطريقة برجماتية مع حالة السيولة، فهي فلسفة خضوع وتَكيُّف وتطبيع لحالة اللامعيارية (ولذا يُطلَق عليها أحياناً «البرجماتية الجديدة» ) . هذا هو عصر ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الإنسانية وما بعد الميتافيزيقا وما بعد الحقيقة وما بعد التاريخ ـ عصر تكتسح فيه الكوزموبوليتانية جميع الحضارات وتدمر خصوصياتها، كما تدمر المطلقات والثوابت كافة.
ما بعد الحداثة(2/144)
مصطلح «ما بعد الحداثة» مصطلح نفي سلبي، وهو ترجمة لمصطلح «بوست مودرنيزم» ( «post-modernism» أو «post-modernism» . وقد تُستخدَم كلمة «بوست مودرنيتي post modernity» للدلالة على الشيء نفسه. وأحياناً يُطلَق على مصطلح «ما بعد الحداثة» تعبير «ما بعد البنيوية» (بالإنجليزية: بوست ستراكتشراليزم post-structuralism) باعتبار أن فلسفات ما بعد الحداثة قد ظهرت بعد ظهور وسقوط (الفلسفة) البنيوية. ويكاد مصطلح «ما بعد الحداثة» يترادف مع مصطلح «التفكيكية» . وللتمييز بينهما، يمكن القول بأن «ما بعد الحداثة» هي الرؤية الفلسفية العامة، أما «التفكيكية» فهي بالمعنى العام أحد ملامح وأهداف هذه الفلسفة. فهي تقوم بتفكيك الإنسان، كما أنها منهج لقراءة النصوص يستند إلى هذه الفلسفة. ويجب ملاحظة أن اصطلاح «ما بعد الحداثة» يكتسب أبعاداً مختلفة بانتقاله من مجال إلى مجال آخر، فمعنى «ما بعد الحداثة» في عالم الهندسة المعمارية يختلف، من بعض الوجوه، عن معناه في مجال النقد الأدبي أو العلوم الاجتماعية.(2/145)
وقد بيَّنا أن المشروع التحديثي العقلاني المادي كان يحوي عناصر تفكيكية معادية للإنسان داخله وأن المتتالية التحديثية بدأت تتحقق تدريجياً فمرت من عصر التحديث إلى عصر الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهي النقطة التي تصل عندها المتتالية التفكيكية إلى نهايتها. ويمكن تشبيه ما بعد الحداثة بالفلسفة السوفسطائية (بروتاجوراس [480 ـ 410 ق. م] وجورجياس [؟ ـ 375 ق. م] وغيرهما) ، وهي فلسفة مادية عدمية تماماً نادت في بداية الأمر، بأن الإنسان مقياس كل شيء، شأنها في هذا شأن المنظومة التحديثية في عصرها البطولي، ولكنها تدريجياً بدأت تزيح الإنسان عن المركز، وتحل محله الطبيعة/المادة، ثم انتهى الأمر بالسوفسطائيين أن أنكروا أية حقيقة كلية نهائية متجاوزة لحواسنا، فلا يوجد ما يُسمَّى «روح العالم» أو «العقل الكلي» خلف الظواهر المتغيرة التي ندركها من خلال حواسنا. ومن ثم أصبح كل إنسان حبيس حواسه (قصته الصغرى) والحواس تختلف باختلاف الأشخاص. ولذا أصبحت المعرفة المستقلة عن الحواس مستحيلة. ولذا يمكن إنكار الوجود ذاته: لا شيء موجود، وإن وُجد شيء فلا يمكن أن يُعرَف، وإذا أمكن أن يُعرف فلا يمكن إيصاله للغير. وإذا لم يكن هناك معرفة مشتركة فلا تُوجَد بالتالي قوانين أخلاقية خارجية يخضع لها الناس جميعاً. ولا يوجد قانون عام مُؤسَّس على العدالة إذ ليست هناك عدالة عامة بالمعنى الذي يفهمه الناس، فالقوانين من اختراع الأقوياء ليخضعوا بها الضعفاء، ولذا يحق للإنسان القوي أن يَخرُج على القانون إن استطاع ذلك. والدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو الأنانية، وإذا أصبح الإنسان خيِّراً فهذا ليس بسبب خير أو شر مفطور فيه وإنما بسبب عملية التنشئة الاجتماعية والفكرية. والمجتمع في حالة صراع دائم يسود فيها منطق البقاء للأصلح، أي أن السوفسطائيين نجحوا في دفع كل المقدمات المادية إلى نتائجها المنطقية العدمية. ويمكن القول بأن الانتقال من الحداثة(2/146)
إلى ما بعد الحداثة هو انتقال من مرحلة مادية صلبة ورثت كثيراً من مقولات الأفلاطونية والمسيحية بعد علمنتها إلى مرحلة مادية سائلة تشبه مقولاتها مقولات الفلسفة السوفسطائية.
ويمكن تلخيص المقولات الأساسية لرؤية دعاة ما بعد الحداثة فيما يلي:
1 ـ الأنطولوجيا:
يرى دعاة ما بعد الحداثة (دريدا مثلاً) أن الأنطولوجيا الغربية بدأت مع أفلاطون وظلت أفلاطونية حتى النخاع. وجوهر المنظومة الأفلاطونية هو الإيمان بوجود عالم المُثُل (عالم الحق المطلق والمُثُل الثابتة، وهو عالم كلي متجاوز لعالمنا له هدف وغاية) من جهة، ومن جهة أخرى عالم المادة والتغير الذي يحجب عالم المُثُل، أي أن ثمة ثنائية أساسية في المنظومة الأفلاطونية تُعبِّر عن نفسها في ثنائية الدال (المحسوس) والمدلول (المتجاوز) وانفصال الواحد عن الآخر. ورغم أن عالم المادة يحجب عالم المُثُل فإن المنظومة الأفلاطونية تذهب إلى أن بإمكاننا التوصل إلى معرفة إنسانية من خلال الحواس والعقل ويمكننا توصيلها من خلال اللغة. ولكن كل ما نصل إليه من معنى هو ظلال لهذا العالم الكلي الثابت المتجاوز (يُطلق عليه أنصار ما بعد الحداثة «الحضور» أو «المدلول المتجاوز» ، وهو معادل «الإله» في الديانات التوحيدية) ، أي أن المعنى الذي نصل إليه يستند إلى ميتافيزيقا التجاوز، فثمة علاقة وثيقة حتمية بين ما يُسمَّى «الحقيقة» وبين ما يُسمَّى «الميتافيزيقا» . ويُلاحَظ أن الحواس والعقل واللغة، كلها، مجرد آليات للوصول إلى الهدف النهائي، أي المعنى الكلي الثابت المتجاوز ذي الغرض، وهو الحقيقة، ولذا فهذه الآليات تُعتبَر ثانوية بالنسبة للأصل وتأتي بعده في الدرجة والمنزلة.(2/147)
والمشروع التحديثي الغربي (في إطار العلمانية الشاملة) يقف على الطرف النقيض من هذه الرؤية الأفلاطونية الثنائية، فهو مشروع يهدف إلى إلغاء الثنائيات كافة وإلى فرض الواحدية المادية على العالم بحيث لا تُوجَد كليات من أي نوع، مادية أو روحية، ولا يوجد مبدأ واحد نهائي يمنح العالم التماسك والوحدة. والمشروع ما بعد الحداثي بهذا المعنى هو التحق النهاذي لمشروع الحداثة في محاولته القضاء على خرافة الميتافيزيقا وعلى أوهام الفلسفة الإنسانية الهيومانية بشكل كامل عن طريق القضاء على خرافة الحقيقة الكلية، فمثل هذه الحقيقة الكلية تستدعي عالماً متماسكاً متجاوزاً لعالمنا المادي المتبعثر. وإذا كان المشروع التحديثي يستند إلى ثنائية الذات المتماسكة التي تتفاعل مع موضوع متماسك داخل إطار الكل الثابت الذي يشير حتماً إلى الأصل المتجاوز (المدلول المتجاوز) ، أي إلى الإله أو على الأقل إلى ظلاله، فإن "مشروع" ما بعد الحداثة (إن كان من الممكن تسميته كذلك) يحاول أن يزيل هذه الظلال فيعكس الآية وينكر الأصل المتجاوز أو أي أصل من أي نوع. فالكل المادي المتجاوز الذي له معنى لا يبقى منه سوى ماديته، والحقيقة كامنة في الحقائق، والكل كامن في الأجزاء المادية التي لا يربطها رابط، وكل حقيقة وجزء منغلق على ذاته، لكلٍّ مركزه، والعالم في حالة حركة دائمة وتَغيُّر دائم ولكنه ليس بالضرورة تطوراً ذا معنى وقصد. وهذا هو جوهر ميتافيزيقا ما بعد الحداثة، فهي تفترض أن العالم مادة في حالة حركة دائمة: لا أصل لها ولا قصد. وتتسم كل مفاهيم ما بعد الحداثة (انظر: «الاخترجلاف» ـ «الهوة» ـ «الدال والمدلول» ) بهذه السمات الجوهرية، ورغم أنهم يصفونها بأنها حالة لا حضور ولا غياب، فإن جوهرها سلبي له صفات محددة، فميتافيزيقا ما بعد الحداثة ميتافيزيقا سلب تستند إلى حضور جوهر سلبي (انظر: «الهوة» ) .(2/148)
وكل هذا يعني غياب أي مركز أو مرجعية أو معيارية ومن ثم أية ثنائية. ولذا، فإن أنصار ما بعد الحداثة يعتبرون مجرد استخدام كلمات مثل «يقين» أو «دوافع» أو «حق» أو «ذات» سقوطاً في الميتافيزيقا، وذلك باعتبار أن مثل هذه الكلمات تتضمن إشارة إلى حقائق.
وبطبيعة الحال، لا تعترف ما بعد الحداثة بثنائية الذات والموضوع (التي ظهرت بحدة مع ظهور العقلانية المادية) ، وهي تحل إشكالية الثنائية الصلبة عن طريق السيولة الشاملة. فالذات لا تعرف مراكز مادية أو روحية، ولذا فهي لا يمكن أن تحدد هويتها ولا أن تتمتع بأي تماسك، وخصوصاً أنها تم تفكيكها وردها إلى المادة وإخضاعها للحركة التي من حولها. والموضوع ذاته ينطبق عليه نفس الوضع، فهو في حالة حركة، وكل شيء فيه عرضي إذ لا يوجد شيء ضروري. وهذا يعني، في واقع الأمر، أن الذات مساوية للموضوع ومنفصلة عنه تماماً، أي أن كل الأمور متساوية تماماً ومنفصلة تماماً ومختلفة تماماً. ولكن إذا كانت الذات جزءاً من واقعها المتحرك المتغير فهي حرة تماماً، إرادة كاملة ولكنها إرادة لا علاقة لها بالموضوع. وعلى كلٍ، فمن المستحيل للذات أن تصل إلى الموضوع، فالموضوع مساو لها ومنفصل عنها، ولذا فإن الحرية التي تمارسها الذات هي حرية لا تتجاوز حدودها وليست في نطاق موضوع آخر، ولا تدخل أبداً عالم التحقق الموضوعي، فهي محصورة بحدودها. وغياب المرجعية هذا يعني أن الحالة الإنسانية متعددة بشكل متطرف ونهائي، وأن البشر مُقسَّمون إلى وحدات متعددة لا يربطها رابط (إنسانية مشتركة) . وكل هذا يعني سقوط الأسس التي يستند إليها الذات والموضوع واتصالهما، فتسقط الثنائية وتسود الواحدية. ولذا، لا يمكن الحديث في واقع الأمر عن ذات أو عن موضوع أو عن أية معيارية من أي نوع، أو عن أية مرجعية، مادية كانت أم روحية، إنسانية كانت أم موضوعية، إذ تسود التعددية المفرطة التي هي في واقع الأمر تعبير عن غياب أي مركز أو أساس وعن(2/149)
طبيعة بشرية مشتركة. إن ظلال الإله قد اختفت تماماً، وأدركت الذات أن الاستنارة المظلمة قد خيمت على العالم فتكيفت مع حالة اللامعيارية باعتبارها حالة كلية نهائية. وإذا كان الحقيقي هو العقلاني (المادي) في عصر التحديث وهو المادي المتغير في عصر الحداثة، ففي عصر ما بعد الحداثة لا يوجد أي أساس للتمييز بين الحقيقي والزائف، وبالتالي فلا حقيقي ولا زائف.
وفي عصر التحديث، كان من الممكن ترتيب الواقع ترتيباً هرمياً من خلال المعيارية التي يستمدها الإنسان من ذاته ومن الطبيعة، أما في عصر ما بعد الحداثة فلا يوجد أي نظام أفقي أو رأسي. فلا تظهر معيارية وإنما تظهر القوة (النيتشوية) والتكيف (البرجماتي) ، وتظهر الذاتية المطلقة المنغلقة على ذاتها، وتظهر التسوية الكاملة بين الكائنات، أي تَساوي كل الكائنات من جميع الوجوه (النساء ـ اليهود ـ الغجر ـ القرود ـ الشواذ جنسياً) ، فهو عالم غير هرمي إما أن يتحكم فيه الإنسان تماماً أو يخضع له تماماً.
ولذا، فإن عالم ما بعد الحداثة ليس نظاماً حركياً منفتحاً له مركز وغاية وتراتبه الهرمي مثل عالم التحديث، ولا هو بعالم مغلق يحاول الانفتاح مثل عالم الحداثة وأن يفرض ترتيباً هرمياً له معنى، وإنما هو نظام لا مركز له مُكوَّن من أنظمة صغيرة مغلقة، يدور كل منها حول مركزه وحول نفسه ويأخذ شكل صور متجاورة لكلٍّ معناها المستقل لا يربطها رابط ولا تُوجَد أية صلة بينها ولا توجد علاقة سببية واضحة، فكل إنسان يدرك الصورة القريبة منه. هذا يعني أن ليس ثمة طبيعة مادية موضوعية ولا طبيعة بشرية (ذاتية) ولا تُوجَد مبادئ متجاوزة، فهو عالم ذري متشظ ولكن ذراته سائلة متلاصقة، ولذا فهو عالم هلامي سائل دون أن تكون فيه ثغرات أو مسام وإن كان فيه هوة.(2/150)
وعالم ما بعد الحداثة هو عصر البعديات (وسقوط كل القَبْليات بسقوط الكل المتجاوز) ، فهو عصر ما بعد التاريخ وما بعد الإنسانية وما بعد السببية وما بعد المحاكاة وما بعد الميتافيزيقا وما بعد التفسير وما بعد التجاوز. ولعلنا لو أحللنا البادئة «أنتي anti» بمعنى «ضد» أو ربما عبارة «إند أوف end of» بمعنى «نهاية» ، محل بادئة «بوست post» بمعنى «ما بعد» لاتضح المعنى ولأدركنا أن «ما بعد الحداثة» تعني في واقع الأمر «نهاية التاريخ» و «نهاية الإنسانية» و «نهاية السببية» و «نهاية المحاكاة» و «نهاية الميتافيزيقا» و «نهاية التفسير» (ويُعدُّ كتاب سوزان سونتاج ضد التفسير الصادر عام 1965 أول مانيفستو لما بعد الحداثة) . وما بعد الحداثة، بهذا المعنى، تعني العداء للحداثة وفشل الحداثة ونهاية الحداثة وإفلاس الحداثة. فإذا كان جوهر المشروع الحضاري الغربي هو التحديث، فهل ما بعد الحداثة تعني نهاية الحداثة ونهاية الغرب؟ وهل يفسر هذا أن أيديولوجيا ما بعد الحداثة، التي تقف ضد العقل والمنطق والإنسان والمعنى وضد رؤية الأشياء في علاقتها الجدلية مع الإنسان وضد الكل وحدوده، تقف ضد كل ما هو عظيم وله قيمة في الحضارة الغربية الحديثة؟ وعلى هذا فإن السؤال يطرح نفسه وبحدة على هذا النحو: لم ظهرت هذه الفلسفة ولم اكتسحت الجميع في طريقها؟
وقد كانت تناقضات المشروع التحديثي تأخذ طابعاً معرفياً (إبستمولوجي) : هل يمكن معرفة الواقع؟ هذا ما اتضح بشكل واضح في الحداثة، ولكنها في عصر ما بعد الحداثة ذات طابع أنطولوجي راديكالي: هل توجد حقيقة أساساً؟ هل يوجد عالم موضوعي؟ ما هو مكان الإنسان في الكون؟ ما هي الذات وما هو الموضوع؟
2 ـ المعرفة:(2/151)
ينقسم العالم إلى وحدات طبيعية وإنسانية، متساوية ومستقلة ومختلفة ومنفصلة ومنغلقة، بسبب عدم وجود مركز ومرجعية كلية مشتركة، وتصبح كل وحدة ذات سيادة مطلقة ومرجعية ذاتها. وهذا يعني غياب أية مرجعية نهائية إنسانية أو موضوعية، ولذا فالعالم يتسم بالتعددية والتفتت والانقطاع والفوضى والمساواة والتساوي وحكم الصدفة وغياب السببية وظهور الاحتمالية والنسبية الكاملة والتَغيُّر الكامل والمستمر، ومن ثم يصبح من العسير الوصول إلى العالم، وإن وصل العقل إليه فلا يمكنه الإمساك به. ولذا تصبح المعرفة الكلية الإنسانية الشاملة مستحيلة فليس لها أساس إنساني أو طبيعي أو إلهي، ولا يمكن التمييز بين الحقيقي والزائف. ويرفض كل أنصار ما بعد الحداثة فكرة الحقيقة الكلية، فهي مخلفات عصر الاستنارة الذي افترض وجود نظام وقواعد ومنطق. والسؤال عن الحقيقة سؤال ميتافيزيقي، فالسؤال عن الحقيقة (أو ما الحق؟) لا يختلف تماماً عن: ما الإله؟ ولا يوجد شيء في واقع الأمر يُسمَّى «الحقيقة في ذاتها» (على حد قول دريدا) وإنما يوجد دائماً فائض من الحقيقة. "وحتى لو كان الأمر يخصني، عني، فإن الحقيقة دائماً تعددية. إن ما يوجد هو حقائق منفصلة وليس حقيقة كلية وهي شبكة من الألعاب اللغوية". وينكر فوكوه (الذي يؤمن بميتافيزيقا الصراع) وجود الحقيقة، فالحق ـ في تصوُّره ـ هو نتيجة القوة، يفرضه أصحاب المصلحة في فرضه، ولذا لا يمكن فصل الحقيقة عن القوة. بل إن ادعاء الحقيقة شكل من أشكال الإرهاب والشمولية. وبدلاً من الحقيقة الكلية والنظريات العظمى، يطالب أنصار ما بعد الحداثة بالقصص الصغرى، والمعارف البرجماتية غير المترابطة التي تدور داخل حدود سياقها. والوصول إلى الحقيقة يتم من خلال المحادثة والتفاوض البرجماتي (أي الاتصال بين قصتي الصغرى وقصتك الصغرى) لا الحوار في إطار قصة عظمى لها شرعية عند كل أو معظم البشر. داخل هذا الإطار، تصبح العلوم الإنسانية(2/152)
بغير جدوى ولا تؤدي إلى تحضُّر الإنسان ولا إلى مساعدته في تحقيق إنسانيته (وما جوهر هذه الإنسانية أصلاً؟ وما هو الجوهر أساساً؟) . لكل ما تقدَّم، لا يمكن القول بأن العقل يستطيع محاكاة الواقع، فهو ليس مرآة له، ويستحيل من ثم إصدار الأحكام والتفسير والتخطيط والتحكم ومراكمة المعلومات والاستفادة منها، بل يعني هذا استحالة الإبداع الحقيقي.
وهنا يظهر نوعان من ما بعد الحداثة يحلان محل المشروع الاستناري القديم، حين كان هدف الفلسفة هو محاولة التوصل إلى الحقيقة الكبرى الكامنة في حركة الطبيعة وقوانينها وتجريدها والوصول إلى نماذج مادية تفسيرية تتسم بالشمول الكامل. يرى أنصار ما بعد الحداثة أن المعرفة قابعة في القصص الصغرى المرتبطة بظروفها والمحددة بزمنيتها، الأمر الذي يترك عنصراً فعالاً واحداً وقيمة حاكمة كبرى ومقولة تحليلية كبرى هي إما اللغة أو القوة:
أ) ما بعد الحداثة النصوصية أو اللغوية: وهي ترى أن اللغة ليست أداة لمعرفة الحقيقة وإنما هي أداة إنتاجها، فثمة أسبقية للغة على الواقع، ولذا فإن النموذج المهيمن هنا هو النموذج اللغوي. وترى ما بعد الحداثة النصية أن اللغة مكونة من صور مجازية لا تكشف الواقع وإنما تحجبه، فهي تشبه الزجاج المُعشَّق الذي تحاول أن ترى ما وراءه فتنشغل بألوانه وتنسى المدلول. واللغة مكونة من لعب الدوال المنفصلة عن المدلولات. ولذا، كما يقول دريدا، يستحيل معرفة الواقع خارج نطاق الخطاب المستخدم ويستحيل التعبير عنه. والنص، أدبياً كان أم فلسفياً، مُعبَّأ بالصور المجازية التي تحجب الرؤية. ومن ثم، فإن النصوص الفلسفية، بل العلمية، إن هي إلا نصوص بلاغية مجازية مكتفية بذاتها ولا تشير إلى أي شيء خارجها (فلا يُوجَد شيء خارج النص) . والنص شيء منفتح تماماً مرتبط بالنصوص الأخرى، ولكنه منعزل تماماً عن أي واقع موضوعي خارجه.(2/153)
ب) ما بعد الحداثة الصراعية: النموذج هنا ليس اللغة وإنما إرادة القوة والحرب والمعارك، فالخطاب لا يُوجَد في ذاته على الإطلاق وإنما يُردُّ بأسره إلى الواقع. وإذا كانت ما بعد الحداثة اللغوية تقول "لا يُوجَد شيء خارج النص" فإن ما بعد الحداثة الصراعية تقول "لا يُوجَد شيء خارج القوة ولا يُوجَد أحد خارج نطاق القوة، فالمعرفة لا تُفهَم إلا في إطار علاقات القوة وتوزيعها، ومن يتحكم فيها يتحكم في كل شيء". والقوة في هذا السياق تحل محل اللغة (ومحل العلوم الطبيعية) فهي لا تهيمن على الواقع وحسب وإنما تعيد إنتاجه، وهي لا تكبح جماح الناس وإنما تعيد صياغتهم. واللغة نفسها ليست أداة للتواصل ولا حتى أداة للقمع بل هي القمع نفسه. والقوة ليست مركزاً ثابتاً وإنما هي مجموعة من العلاقات تتخلل النظام الاجتماعي بأسره بأشكال مختلفة. ولذا، لا يمكن إعطاء أسبقية أو أولوية سببية للعنصر الاقتصادي. والانعتاق لا يكمن في العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للدخل وإنما يكمن في التعبير عن الرغبة (التي تحاول النظم الاجتماعية أن تقمعها) ، ولكن الرغبة نفسها أصبحن نهباً للتغلغل وسيطرت عليها صناعة اللذة والأحلام. ولذا، يصبح الشذوذ الجنسي أكثر أشكال الرغبة انعتاقاً، بل تصبح الرغبات السادية/المازوكية الشاذة قمة الانعتاق (وقد صرح فوكوه، وكان شاذاً جنسياً يمارس السادية/المازوكية، ويتردد دائماً على عاصمة الشذوذ الجنسي في العالم [سان فرانسيسكو] ، بأن لحظة الانعتاق الوحيدة التي كان يشعر بها، هي لحظة ممارسته الجنس الشاذ على الطريقة السادية المازوكية، فهو بذلك يزيل آثار الميتافيزيقا تماماً وظلال الإله، إذ لا يبقى في العالم سوى جسده وجهازه العصبي وخلاياه وصيرورته الكاملة) .(2/154)
إن اللغة أو القوة هما الحقيقة (اللوجوس) وهما بديل مقولة المادة في الفلسفات المادية في عالم لا قوانين له ولا يتبع مُخطَطاً ولا يحركه شيء سوى دينامية كامنة فيه نابعة منه وغير مفهومة.
ولكن كيف تأتَّى لفلاسفة ما بعد الحداثة أن يدركوا غياب المرجعية والمعيارية وهيمنة القوة وسيطرة الصيرورة دون الاستناد إلى مرجعية ما ومعيارية ما ومعرفة بعالم عادل فيه كليات ثابتة؟ وكيف يكتبون وهم يعرفون أنهم لن يصلوا إلى شيء؟ لم لا يحجمون عن الكتابة والتفكير وكتابة المجلدات الفلسفية المعقدة؟ أليس من الأجدى لهم أن يبقوا في عالم الصيرورة الأكيدة الحسية ويحتسوا أفخر الخمور ويضاجعوا أجمل النساء والغلمان كما فعل الرومان في أواخر أيام الإمبراطورية، وكما يفعل الوثنيون العدميون عندما يشعرون بالعدمية تُطبق عليهم؟ ففي الخمر والنساء صيرورة ويقين الغياب والعدم. لا يُوجَد رد على هذا داخل النظام ما بعد الحداثي وإن كان دريدا قد حاول مرة الإجابة بقوله بأنه يعترف بأنه يقف داخل النظام الميتافيزيقي ويدرك هذا، أما الآخرون فيقفون في نظمهم الميتافيزيقية ولا يدركون هذه الحقيقة. وهذا هراء إذ تظل المشكلة قائمة: لم الكتابة المضنية إذن، وسهر الليالي، بدلاً من الصيرورة السهلة والانزلاق المستمر؟ من أجل مَنْ كل هذا العناء وكل هذه المعاناة؟
3 ـ الترشيد:(2/155)
لا يمكن، بطبيعة الحال، الحديث عن الترشيد في إطار ما بعد الحداثة، فهي ثورة ضد الترشيد وضد البحث عن الانعتاق من خلال المعرفة العلمية ومن خلال التكنولوجيا والنظريات العظمى. وتَصدُر ما بعد الحداثة عن الإيمان بأن ثمة قوى لغوية (ما بعد الحداثة اللغوية) أو تاريخية (ما بعد الحداثة الصراعية) غير واعية ولا يمكن التحكم فيها. وقد اكتشف الإنسان أن المشروع التحديثي والعقلانية المادية قد أنتجا روبسيير وستالين اللذين يقتلان بالطرق التقليدية باسم روح العالم والتاريخ، أما المشروع الحداثي واللاعقلانية المادية فقد أنتجا هتلر الذي يقتل بمنتهى الرشد من خلال أفران الغاز باسم الجايست، وأخيراً يظهر ريجان وبوش وكلينتون الذين يقتلون الجسد بالقنابل الذكية ويقتلون الروح من خلال التغليف الجيد والسلع باسم الإجراءات والحركة المستمرة.(2/156)
ويُلاحَظ تزايد هيمنة المؤسسات البيروقراطية الحكومية وغير الحكومية، كما يُلاحَظ تصاعد معدلات التنميط والترشيد الذي يتزايد بشكل مخيف حتى تُصبح له حركيته المستقلة ويتزايد التجريد ويخضع كل شيء للتفاوض والتبادل بحيث يمكن تحويل أي شيء إلى شيء آخر. كما تتزايد السلع والمعلومات والمعارف. ولكن السلع لا تأتي بالسعادة بل تهيمن على الإنسان، فاستهلاكها يصبح الغاية النهائية من وجوده، فهو متمركز حولها وهو ما يؤدي إلى تَسلُّعه وإلى استقلالها المتزايد عن إرادته. والمعلومات لا تأتي للإنسان بالحكمة ولا تنير الواقع ولا تكشف المعنى بل تحجبه، فالأخبار تصبح قصصاً والوهم يصبح واقعاً ويتم "إخراج" كل شيء كما تُخرَج الأفلام، حتى الانتخابات أصبحت تشبه الأفلام، وحتي حياتنا الخاصة بدأنا في "إخراجها"، ويتداخل الأصل والصورة. ومع هذا، تستمر ثورة المعلومات والسلع بلا توقف. كل هذا يُولِّد إحساساً لدى الإنسان بأنه قد تحكَّم في كل شيء، والدليل على هذا وفرة المعلومات والسلع و"إخراجه" لكل شيء. ولكنه يحس أيضاً بعدم التحكم في المعلومات والسلع، فالعالم يُدار من الخارج تماماً، وهناك من يقرر ما يُنشَر وما لا يُنشَر ويقرر معنى المعلومات، ويتزايد الإحساس بأن العلم والتكنولوجيا لا يمكن التحكم فيهما، بل هي التي تتحكم في الإنسان. والتقدم العلمي أتى بالخيرات المادية ولكنه أدَّى إلى ثقوب الأوزون وتراكم أسلحة الدمار التي تكفي لتدمير العالم عدة مرات.(2/157)
وتظهر الهندسة الوراثية والاستنساخ والهندسة الاجتماعية والبيولوجيا الاجتماعية والمفاهيم السلوكية والحتمية التي تتضاءل معها مقدرات الإنسان. وبدلاً من التطور، يظهر مفهوم التطوير ويتم حوسلة الإنسان تماماً. ومع ظهور الكمبيوتر، تتغير رؤية الإنسان تماماً للكون ويصبح العالم وحدات رياضية تُدرَك هندسياً. وهكذا يدرك الإنسان أنه يعيش في حرية كاملة بلا قواعد ولا قصص مع أنه في واقع الأمر يعيش في قفص حديدي. وهو عالم لا قانون له، عالم الحرية الكاملة، ولكن الحرية الكاملة هي نفسها الصدفة الكاملة. وبدلاً من التمرد على ما يحدث، يتقبل الإنسان نتائج الترشيد من الداخل والخارج ويقبل أن يُكتسَح بكل سرور وأن يتشيأ ويذعن للتحكم التكنوقراطي. وبدلاً من حلم التحكم، تظهر الرغبة في اللعب.
4 ـ المعنى (والوحدة والتماسك) والتجاوز:
وجود المعنى هو وجود عنصر أفلت من قبضة الصيرورة، ولكن ما بعد الحداثة هو عالم صيرورة كاملة، كل الأمور فيه متغيِّرة، ولذا لا يمكن أن يوجد فيه هدف أو غاية. وقد حلت ما بعد الحداثة مشكلة غياب الهدف والغاية والمعنى بقبول التبعثر باعتباره أمراً نهائياً طبيعياً وتعبيراً عن التعددية والنسبية والانفتاح، وقبلت التَغيُّر الكامل والدائم. ولا تتحقق الوحدة أو التماسك فبدلاً من المركز تظهر عدة مراكز، وبدلاً من اليد الخفية الواحدة تظهر أيد خفية عديدة. كما تظهر الذات الحرة تماماً، ولكنها حرة داخل سياقها الخاص وعالمها الخاص وحدودها الضيقة، فهي حرية كاملة داخل حدود كاملة خاصة. أما العالم الخارجي، فهو عالم تحكمه الحتميات الصارمة والصدفة الكاملة، عالم لا مركز له ولا يُوجَد فيه نظام أفقي أو رأسي.(2/158)
لكل هذا، فإن الإرادة المطلقة داخل السياق الفردي الخاص تصبح إرادة عاجزة داخل السياق الإنساني العام. ولهذا، يظهر اللعب بديلاً عن التحكم، والانزلاق والرقص بديلاً عن التخطيط، تماماً كما تحل القصة الصغرى محل الوعي الإنساني الشامل. في هذا الإطار، لا يمكن التمرد أو الثورة أو التجاوز. وفي واقع الأمر، يتصور البعض أن ما بعد الحداثة، بإصرارها على أن كل شيء خاضع للصيرورة وأن الواقع تعددي، هي أيديولوجيا ثورية تعددية. لكن ما لا يدركه هؤلاء هو أن ما بعد الحداثة دعوة للتسوية لا للمساواة، وأن تعدديتها إنكار للمعيارية ولأية نظم من أي نوع، وأنها قد تأخذ شكلاً بروميثياً في رفض فكرة الإله المتجاوز ولفكرة القداسة مع أن مضمونها معاد للإنسان بإنكارها له ولمركزيته ولفكر الطبيعة البشرية، ورجعيٌّ مغرق في الرجعية بسبب إنكارها أية معيارية يمكن أن يتم التغيير باسمها. فهي أيديولوجيا القبول البرجماتي للوضع القائم والإذعان والخنوع له والتكيف معه، أي اللعب مع الواقع بدلاً من تغييره، وبدلاً من الحديث عن معنى اللعب، يصبح الحديث عن لعب المعنى. والحل البرجماتي يتضمن إعادة تسمية الظواهر السلبية. وإذا هزمت السلع الإنسان، فإن الحل هو أن يذعن لها الإنسان ويعتبرها أعمالاً فنية ومصدر لذة حقيقية، بل تصبح الوفرة السلعية هدفاً نهائياً للمجتمع والإنسان. وإذا كان التحديث يفكك الإنسان، والحداثة ترصد موت الإنسان، فإن ما بعد الحداثة تتكيف مع موت الإنسان وتقبله باعتباره أمراً طبيعياً متوقعاً.
5 ـ المنظومة الأخلاقية:(2/159)
لأن الواقع لا اتجاه له، ولأن الكون لا ثبات فيه، ولأن الحقائق منفصلة عن القيمة، ولأن كل الأمور متساوية، بسبب كل هذا، لا يمكن قيام أية معيارية، ولا يمكن تأسيس نظم أخلاقية عامة، وإنما يمكن تأسيس اتفاقات محدودة الشرعية لا تتحدد في ضوء منظومة أخلاقية كلية وإنما في ضوء الوظيفة والنتيجة. كل ما يمكن التوصل إليه هو أخلاقيات برجماتية تأخذ شكل فلسفة القوة والهيمنة (للأقوياء) وفلسفة الإذعان والتكيف (للضعفاء) ، إذ لا تُوجَد معايير متجاوزة للإنسان ولا تُوجَد وسيلة لتعريف الظلم والعدل.
والحديث عن قمع الإنسان لبعض رغباته وإرجاء تحقيق البعض الآخر مستحيل، فمثل هذا لا يمكن أن يتم إلا باسم كل متجاوز وفي إطار قصة عظمى. ومن هنا تصبح الرغبة والتعبير عنها معياراً أخلاقياً أساسياً. فما يُعبِّر عن الرغبة هو خير، وهذا ما يعني الانفتاح الكامل والسيولة، أما الإرجاء فهو مرتبط بالقوة والقمع وتصبح المنظومة الأخلاقية منظومة جمالية، إذ لا يوجد واقع ولا حقيقة وإنما تُوجَد أشكال من التناسق يصل إليها الإنسان بنفسه. والتجربة الإنسانية خطاب خيالي وحقيقة إمبريقية في آن واحد (على حد قول بول دي مان) ، ومن المستحيل أن نقرر أيهما الواقع. وهذا التردد يجعل من الممكن غفران أي ذنب، مهما بلغ فحشه.
6 ـ التاريخ والتقدم:(2/160)
يختفي المركز والأطروحات الكلية والسببية، ومن ثم يستحيل الوصول إلى معرفة كلية، وتختفي الذات ويتراجع الموضوع. وذاكرة الإنسان، مستودع تجربته وتجارب السابقين والملكة التي يقوم من خلالها بمراكمة المعنى والإنجازات، تهتز هي الأخرى. فالحقائق تتغير، والإعلام يعطيه حقائق/قصصاً متعددة مفرطة في تعدديتها، والقواعد تتغير، فيختفي الإحساس بالتاريخ والاستمرار كما تختفي النماذج الخطية التطورية ويختفي أي نموذج تفسيري. ويظهر ما سماه أحدهم «ذاكرة الكلمات المتقاطعة» ، أي معلومات متناثرة لا يربطها رابط. وينشأ الإحساس بأننا في الحاضر الأزلي، تَغيُّر مستمر بلا ماض ولا مستقبل. ويتحول التاريخ من تاريخ إلى مجرد زمان، لحظات جامدة، زمن مُسطَّح لا عمق له ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى. ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل تتساوى تماماً مثل تَساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنها في الوقت نفسه متزامنة دون استمرار، فثمة انقطاع كامل. وإن بقي تاريخ، فهو يصبح كالأنتيكة، أشياء مبعثرة، وقائع منفصلة غير قابلة للتفسير تُشبه الصور المتجاورة التي تفصلها مساحات شاسعة، ولذا فإن الستينيات ليست حلقة في سلسلة تؤدي إلى التسعينيات وإنما هي حقبة تاريخية تنتمي إلى تاريخ قديم. وهذا يعني اختفاء القصة العظمى الإنسانية الشاملة لتظهر القصص الصغرى التي لا يتجاوز مغزاها حدودها والتي تؤكد التعددية والنسبية واختفاء مفهوم الإنسانية الشامل. كل هذا يعني اختفاء فكرة التقدم، وإن كان يواكبه إحساس بأن وتيرة التقدم قد تسارعت بشكل يفوق تَحكُّم الإنسان.(2/161)
ونحن نذهب إلى أن ما بعد الحداثة هي أيديولوجية النظام العالمي الجديد، فبعد حرب فيتنام وتَصاعُد معدلات الاستهلاكية في العالم الغربي (وغير ذلك من الأسباب) اكتشف العالم الغربي والنظام العالمي القديم أن المواجهة المباشرة مع العالم الثالث وقوى المقاومة والجهاد أصبحت شبه مستحيلة، ولذا لابد من اللجوء للإغواء بدلاً من المواجهة فجدة النظام العالمي تكمن في الآليات وليس في الأهداف. ومن الصعب إغواء الشعوب المتماسكة ذات الرؤية القومية أو الدينية الواضحة، ولذا لابد من تسييل العالم والهجوم على الحدود المتعينة، حدود الذات (الوعي القومي ـ الذاكرة القومية ـ الرؤى القومية) وحدود الموضوع (السوق القومية ـ الدولة القومية ـ والمصالح القومية المشتركة) . والنسبية الكاملة والقصص الصغرى وتَناثُر المعنى والنص المفتوح وما شابه ذلك من مصطلحات ومفاهيم هي خير آلية لتحقيق هذا.
التفكيكية(2/162)
«التفكيكية» ترجمة شائعة مباشرة ومعجمية لعبارة «دي كونستراكشن deconstruction» ، ولكنها لا تنقل مضمون الكلمة الأجنبية التي قد يكون من الأفضل ترجمتها بكلمة «التقويضية» (سعد البازعي وميجان الرديلي) أو «الانزلاقية» . ولكن كلمة «تفكيكية» هي الأكثر شيوعاً ومن هنا استخدامنا لها. وقد تحدَّث كارل مانهايم عن «ديستراكشن destruction» ، وهو هدم كل الأيديولوجيات التي تُخادع ذاتها بالضرورة وتتصور أنها تفلت من التاريخانية النسبية ومن قبضة الصيرورة. كما استخدم هايدجر نفس الكلمة بنفس المعنى تقريباً، ففي كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا، تَحدَّث عن الحاجة إلى إعادة النظر في تاريخ الأنطولوجيا الغربية بطريقة تهدف إلى كشف موضوع دراستها وتطوُّرها وهو ما يتطلب فك تقاليد الأنطولوجيا الجامدة المتكلسة من خلال عملية «هدم» . وقد استخدم دريدا كلمة «هدم» أو «تقويض» (ديستراكشن) في بداية الأمر ولكنه عدل عنه واستخدم بدلاً منها كلمة «تفكيك» . ومع هذا، تظهر النزعة التقويضية بشكل صريح في حديثه عن إجهاد اللغة الذي سيؤدي إلى موت الكلام وحضارة الكتاب. وقد عرَّف هو نفسه التفكيكية بأنها "تهاجم الصرح الداخلي، سواء الشكلي أو المعنوي، للوحدات الأساسية للتفكير الفلسفي، بل تهاجم ظروف الممارسة الخارجية، أي الأشكال التاريخية للنسق التربوي لهذا الصرح والبنيات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية لتلك المؤسسة التربوية". وحيث إنه لا يذكر بديلاً لهذه المؤسسات كافة، فإن ما يهدف إليه هو تقويض وهدم حتى لو سماه «التفكيك» .(2/163)
وكلمة «تفكيك» تأتي في بعض الأدبيات مرادفة لمصطلح «ما بعد الحداثة» ، ولكننا نذهب إلى أن التفكيكية إحدى أوجه ما بعد الحداثة، ففكر ما بعد الحداثة فكر تقويضيّ معاد للعقلانية وللكليات، سواء أكانت دينية أم مادية، فهو فكر يحاول أن يهرب تماماً من الميتافيزيقا ومن الحقيقة والمركزية والثبات ويحاول أن يظل غارقاً في الصيرورة. وتَصدُر ما بعد الحداثة عن الإيمان بأن أي نظام فلسفي أو ديني يستند إلى نقطة بدء ثابتة متجاوزة (أساس) ، وفي حالة التصور الديني فإن نقطة البدء هي الإله الخالق المفارق للمادة. ولكن الأمر لا يختلف كثيراً في حالة النظم المادية (الصلبة) ، فنقطة البدء هي مفهوم الكل المادي الثابت المتجاوز (الذي نشير إليه بأنه الطبيعة/المادة) . هناك، إذن، لوجوس أساسي (الإله أو المادة) والعالم كله متمركز حول اللوجوس، ولا يمكن أن يُوجَد نظام دون مركز/لوجوس. وعادةً ما يَنتُج عن نقطة البدء ثنائية هي ثنائية الخالق والمخلوق (في النظم الدينية) أو ثنائية الكل والمركز والثبات مقابل الجزء والهامش والصيرورة. ويرى أنصار ما بعد الحداثة أن الثنائيات المتعارضة تظل في تعارضها ولعبها وحركتها إلى ما لا نهاية حيث تُوجَد نقطة أصل وأساس ثابتة. وهي تترجم نفسها إلى تراتب هرمي. وداخل كل ثنائية، يحكم أحد أطراف الثنائية الطرف الآخر.
وترى ما بعد الحداثة أن هذا الإيمان بالأصل الثابت المتجاوز (الإله أو الكل المادي المتجاوز) الذي يعلو على لعب الدوال وصيرورة المادة يتناقض تماماً مع الواقع المادي الذي يعيش فيه الإنسان وصيرورته الدائمة، فالمادية الحقة ضد الثبات وتؤمن بأن العالم بلا أصل.(2/164)
كما يرى أنصار ما بعد الحداثة أن اللغة ليست أداة جيدة للتواصل، فثمة انفصال بين الدال والمدلول يؤدي إلى لعب الدوال المستقل عن إرادة المتكلم. فالإنسان لا يتحكم في اللغة بل إن اللغة هي التي تتحكم فيه. فاللغة تشبه المرأة اللعوب التي توهم المتحدث/الذكر، الذي يريد أن يُطوِّعها بأنها تطيع أمره، ولكنها في واقع الأمر تفعل عكس ما يريد تماماً.
لكل هذا يرى أنصار ما بعد الحداثة أن ثمة تناقضاًَ لا يمكن حسمه داخل كل نص يدعي لنفسه الثبات، هو التناقض بين ظاهره الثابت المتجاوز للصيرورة، وباطنه الواقع في قبضة الصيرورة وأن كل نص يحتوي على أفكار متسقة بشكل ظاهري، متعارضة بشكل فعلي. ولكن علاقة النص بالواقع لا تختلف عن علاقة الدال بالمدلول، أي أنها علاقة واهية جداً لأن النص في واقع الأمر يستند إلى ذاته ويُشير إلى ذاته ولا يُشير إلى أي شيء خارجه. وقد جعل أنصار ما بعد الحداثة همهم تفكيك كثير من الأفكار الأصولية (الدينية والمادية) وتوضيح استحالتها وتناقض الأساس الكامن داخلها، بحيث يظهر أن اللوجوس الذي يستند إليه نص أو ظاهرة إنما هو مجرد عنصر واحد من بين عناصر شتى، وأن الثنائيات الكامنة داخل نص ما ثنائيات متعارضة بشكل لا يمكن حسمه من خلال العودة إلى نقطة الأصل الثابتة، ومن ثم تسود حالة من الانزلاقية واللعب ويتهدم أي تراتب هرمي أو أي تنسيق للواقع.
في هذا الإطار يمكن القول بأن الرؤية الفلسفية هي «ما بعد الحداثة» ، أما «التفكيكية» فهي منهجها في تفكيك النصوص وإظهار التناقض الأساسي الكامن فيها، وقد قيل إن الجراماتولوجي هو «علم الكتابة» ، وذلك باعتبار أن الكتابة كتابة أصلية أو أولية، أما التفكيكية فهي الشكل الذي تأخذه حينما تتوجه إلى نصوص بعينها.(2/165)
والتفكيكية تحاول تفكيك/تقويض النص بأن تبحث داخله عما لم يقله بشكل صريح واضح (وهو ما يُشار إليه بعبارة «المسكوت عنه» ) وهي تعارض منطق النص الواضح المُعلَن وادعاءاته الظاهرة، بالمنطق الكامن في النص، كما أنها تبحث عن النقطة التي يتجاوز فيها النص القوانين والمعايير التي وضعها لنفسه، فهي عملية تعرية للنص وكشف أو هتك لكل أسراره وتقطيع لأوصاله وصولاً إلى أساسه الذي يستند إليه، فيتضح تناقض هذا الأساس وضعفه ونسبيته وصيرورته فتسقط عنه قداسته وزعمه بأنه كلٌ ثابتٌ متجاوزٌ.
ويصل النص إلى طريق مسدود إذ تظهر الهوة الموجودة داخله (العنصر الذي يهرب من قبضة كل النظم المعرفية) . عندئذ، يظهر عدم تماسك النص وانعدام اتساقه الداخلي فيتعثر المعنى الظاهر ويتناثر، بعد أن كان متماسكاً وله مركزه الواضح، وتنزلق الدلالة من عالم تَرابُط الدال والمدلول إلى عالم من اللا تحدد ولا يرتبط فيه الدال بالمدلول.
وتتم عملية التفكيك على مرحلتين: يقوم الناقد بالتعمق في النص حتى يصل إلى الافتراضات الكامنة في النص ومنظوماته القيمية والهرمية وافتراضاته الأصولية وأساسه الميتافيزيقي الكامن (التمركز حول اللوجوس) . أما المرحلة الثانية، فهي حين يبدأ الناقد في اكتشاف عنصر ممالئ في النص (تفصيلات هامشية ـ مصطلحات غير هامة متكررة ـ إشارات عابرة) ، فيأخذها الناقد التفكيكي، ويظل يُعمِّق فيها ويُحِّملها بالمعاني حتى يبيِّن احتواء الكل الثابت المتجاوز على تفاصيل تُقوِّض من كليته وثباته وتجاوزه، وحتى يبيِّن مدى اشتراك الثنائيات في السمات رغم اختلافها، فهما ليسا متعارضين بما فيه الكفاية حتى يتداخل القطبان.(2/166)
إن النقد التفكيكي لا يفكِّك النص ويعيد تركيبه ليبيِّن المعنى الكامن في النص (كما هو الحال مع النقد التقليدي) وإنما يحاول أن يكشف التوترات والتناقضات داخل النص وتعددية المعنى والانفتاح الكامل، بحيث يفقد النص حدوده الثابتة ويصبح جزءاً من الصيرورة ولعب الدوال، ومن ثم تختفي الثنائيات والأصول الثابتة والحقيقة والميتافيزيقا.
وقد أشار كثير من الدارسين إلى أن النقد التفكيكي يتسم بما يلي:
1 ـ النقد التفكيكي نقد ممل لأنه يقول الشيء نفسه عن النصوص كافة ونتيجته معروفة مسبقاً.
2 ـ لم يأت التفكيك بأي عنصر جديد، فكل العناصر موجودة في النقد التقليدي ولكنها مبالغ فيها ويتم تناولها بشكل لا تسمح به حدود النص.
3 ـ النقد التفكيكي نقد واحدي، فكل العناصر سيتم تفكيكها، وإن بقي عنصر سيأتي ناقد آخر ليكمل عملية التفكيك إلى أن ينتهي التفكيك بواحدية سائلة محضة.
4 ـ النقد التفكيكي نقد ثوري فيما يتعلق بتحليل خطاب الآخر، ولكنه رجعي في كل شيء آخر، فهو لا يمكن أن يطرح بدائل.
قبضة الصيرورة
«الصيرورة» من فعل «صار» وهي انتقال الشيء من حالة إلى أخرى وهي مرادفة للحركة والتغير. والصيرورة نقيض الثبات والسكون. أما «قبضة الصيرورة» فهي صورة من نحتنا ومن خلالها نبيِّن أن الإشكالية الأساسية في الفلسفة الغربية منذ عصر النهضة مع هيمنة الفلسفات العلمانية الشاملة (المادية) هي محاولة البحث عن مركز ثابت في عالم مادي كل ما فيه في حالة تَغيُّر وحركة، عالم لا ثبات فيه إلا للحركة ولا مطلق فيه إلا النسبي، وهي محاولة فاشلة فكل شيء يسقط، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، في قبضة الصيرورة، وهو ما يؤدي إلى غياب المركز وسقوط المرجعية وسيادة النسبية والعدمية.(2/167)
وفلسفة ما بعد الحداثة هي الفلسفة التي تحاول أن تدفع بكل شيء إلى قبضة الصيرورة، ويتم ذلك من خلال نزع القداسة عن كل الظواهر وردها إلى عناصر مادية، خاضعة لقانون الحركة. وعلى المستوى اللغوي يتم فصل الدال عن المدلول وتبدأ لعبة الدوال وتسقط اللغة نفسها في قبضة الصيرورة.
انفصال الدال عن المدلول
«الدال» هو الجانب المحسوس (بالإنجليزية: سنسبل sensible) من الكلمة، فهو الصورة الصوتية أو مساويها المرئي. أما «المدلول» فهو الجانب المعقول (المُدرَك بالعقل) من المعنى (بالإنجليزية: إنتليجيبل intelligible) . وكان بوسعنا أن نقول ببساطة إن «الدال» هو «الاسم» و «المدلول» هو «المسمى» ، وأن «الدال» هو «الكلمة التي تشير إلى شيء» و «المدلول» هو «الشيء الذي يُشار إليه» . ولكن حيث إن كلمة «دال» لا تشير إلى الكلمات وحسب وإنما تشير إلى النظم الإشارية (علامات المرور ـ الرموز ... إلخ) ، فإننا نُؤثر استخدامها لأنها أكثر شمولاً. والدال مرتبط دائماً بالمدلول، ولكنه منفصل عنه، فالدال جزء من النظام الإشاري اللاشخصي أما المدلول فهو جزء من نظام المعنى.
ومن القضايا الأساسية التي تُثار في فلسفة اللغة في الغرب قضية علاقة الدال بالمدلول، وهي قضية معرفية، تشير إلى علاقة العقل بالواقع (والإنسان بالطبيعة/المادة) ، فإن كانت علاقة الدال بالمدلول مباشرة وبسيطة فهذا يعني أن علاقة العقل بالواقع مباشرة وبسيطة، وأن عقل الإنسان سلبي يعكس الواقع دون تحوير أو تعديل أو إبداع، فالنموذج هنا تراكمي. والعكس صحيح. فإن كانت علاقة الدال بالمدلول غير مباشرة ومركبة، فهذا يعني أن علاقة العقل بالواقع (الحسي/المادي أي الطبيعة/المادة) علاقة مركبة وتعني استقلال العقل عن الواقع (الطبيعة/المادة (.
ويمكن أن تأخذ علاقة الدال بالمدلول شكلين أساسيين:(2/168)
1 ـ انفصال الدال عن المدلول واتصالهما، وهو ما يعني أن ثمة مسافة بين الواحد والآخر ولكنها ليست هوة (أبوريا) إذ تُوجَد نقطة مرجعية نهائية يتصل من خلالها الدال بالمدلول، وهي المدلول المتجاوز، وهو ليس جزءاً من اللغة فوجوده يسبق وجودها. وهذا يفترض استقلال الفكر عن اللغة واستقلال اللغة عن الواقع، ولكنه يعني أيضاً أن اللغة أداة صالحة للتواصل، فهي تشير إلى الواقع (وهذا يعني أن العقل قادر على معرفة الواقع والتعامل معه) رغم وجود مسافة بينهما.
وثنائية الدال والمدلول تشير إلى ثنائيات أخرى مثل: لغة/فكر ـ شكل/مضمون ـ خارج النص/داخل النص ـ وسيلة/غاية ـ منطوق/مكتوب. وهذه الثنائيات متكاملة في النظم العقلانية. وثمة أولوية وأسبقية للطرف الثاني على الطرف الأول، فالمدلول يسبق الدال، تماماً كما أن المضمون والفكر هما الغاية وكما أن الشكل واللغة هما الوسيلة.
ويحاول دعاة ما بعد الحداثة أن يُبيِّنوا انفصال الدال عن المدلول لتقويض هذه الثنائية التكاملية الأولية، الضرورية لتطوير نظم فلسفية وأخلاقية. فهذه الثنائية، في تصوُّرهم، هي صدى للحضور وللوجوس. وكما يقول دريدا "إن الوجه المعقول للإشارة (المدلول) يتجه دائماً نحو وجه الإله (المدلول المُتجاوز) "، فإن ربطنا الدال (وجه الإشارة المحسوس) بالمدلول، فإن اللغة تصبح بذلك متمركزة حول اللوجوس (متوجهة نحو أصل الإنسان الرباني) ، ولذا تأخذ الإستراتيجية ما بعد الحداثية شكل محاولة إلغاء المسافة بين الدال والمدلول وهذا يأخذ شكلين:
2 ـ الالتحام أو الانفصال الكامل للدال عن المدلول:(2/169)
أ) التحام الدال بالمدلول، وهذا يعني أن الدال يصبح مدلولاً كما هو الحال في حالة الأيقونات واللغة الجبرية والتفسيرات الحرفية واللغة المحايدة والصيحات الجنسية واللغة الذاتية المغرقة في الذاتية (وهذا يعني أن العقل لا يَدخُل في علاقة مع الواقع، فهو جزء لا يتجزأ من الواقع عليه أن يذعن له أو أن يهيمن تماماً على الواقع ويمكنه تجاهله (.
ب) الانفصال الكامل للدال عن المدلول، وفي هذه الحالة تصبح اللغة نظاماً دلالياً مستقلاً تماماً عن الواقع، أو على علاقة به واهية للغاية. ومن أهم أسباب انفصال الدال عن المدلول تَغيُّر المدلولات بشكل سريع وتَداخُل الحدود حتى تصل إلى تعددية مفرطة في عالم المدلولات تجعل الدال لا قيمة له (وهذا يعني أن العقل لا يمكنه أن يتعامل مع الواقع، فالواقع لا يمكن الوصول إليه، ولذا فعلى العقل ألا يكترث بالواقع وأن يذعن للعب الدوال ويتكيف معه ويذعن له (.
إن الفصل الكامل للدال عن المدلول أو التحامهما هو تحطيم للغة وتحطيم للثنائية التكاملية وإطلاق للصيرورة بحيث لا يتوجه المدلول نحو المركز المتجاوز ويسقط كل شيء في قبضة لعب الدوال والصيرورة، وبذا تطمس حدود الكلمات ويهتز معناها وينسى الإنسان أصله الإلهي.
التحديث والحداثة وما بعد الحداثة والمنظومات الحلولية الكمونية المادية(2/170)
يذهب معظم الدارسين إلى أن المشروع التحديثي (العقلاني المادي) هو مشروع غربي بالدرجة الأولى، ومن ثم يرون أن من يريد التحديث عليه استيراد النماذج الغربية. كما أن هناك من يذهب إلى القول بأن المشروع التحديثي العقلاني المادي إذا كان غربياً، فنحن إذن "بروحانياتنا وإسلامنا" محصنون (والحمد لله) ضده. والنموذج التفسيري الكامن في كلتا الرؤيتين هو نموذج تراكمي وليس توليدياً، يرى أن المعرفة كلها مكتسبة من الخارج (وأن المعرفة الحديثة مكتسبة من الغرب) وينكر أن بعض جوانب المعرفة الأساسية (حديثة أم قديمة) تُولَد من داخل عقل الإنسان نفسه.
ونحن نفضل استخدام نموذج توليدي في تحليل الظواهر الإنسانية لأنه أكثر تفسيرية وتركيبية، دون أن نرفض بطبيعة الحال النماذج التحليلية التراكمية. فمن غير الممكن إنكار أن النموذج التحديثي العقلاني المادي له جذور غربية واضحة، وأنه وصل إلى أول تَحقُّق تاريخي له في الحضارة الغربية من خلال ظروف (سياسية واقتصادية وحضارية) وبخاصة أنه انتقل من العالم الغربي إلى بقية العالم بل اكتسحه اكتساحاً (لأسباب خاصة بالحضارة الغربية من بينها نجاحه المادي في المجتمع الغربي الذي يستند إلى نجاحه في تجربته الإمبريالية) ولكن تفسير جاذبية النموذج التحديثي على أساس تراكمي لا يكفي لتفسير ظاهرة الاكتساح هذه. ونحن نرى أن أحد أهم أسباب نجاحه على المستوى العالمي هو أن جذوره كامنة في النفس البشرية ذاتها.(2/171)
وقد تحدثنا عن أن الإنسان يتنازعه اتجاهان: النزعة الجنينية والنزعة الربانية. أما النزعة الجنينية فهي الرغبة في الهروب من عبء الهوية والتركيبية والتعددية والخصوصية والمسئولية والإنسانية المشتركة والقيم الإنسانية والأخلاقية العالمية والحدود (بمعنى العقوبة وبمعنى التعريف وبمعنى الحدود النفسية) والزمان والمكان والمقدرة على التجاوز حتى يعود الإنسان إلى عالم الطفولة الأولى والإنسان الطبيعي، بل إلى ما قبل الطفولة الأولى داخل رحم الأم؛ عالم سائل بسيط لا تُوجَد فيه أية حاجة للتجاوز، إذ لا أبعاد له ولا تُوجَد فيه كليات أو مطلقات أو ثوابت؛ عالم يهبط الإنسان فيه ويستقر في قاعه، لا يُوجَد فيه حيز إنساني أو زمان أو ثغرات أو جدل أو حدود أو صراع أو فارق زمني بين المثير والاستجابة؛ عالم بلا ذاكرة لا قيمة فيه ولا قداسة ولا دَنَس ولا عدل ولا ظلم ولا حق ولا حقيقة؛ عالم من الصيرورة الدائمة التي تشكل الثبات الوحيد؛ عالم من الأيقونات المكتفية بذاتها والتي لا تشير إلى إله، فهي تَجسُّد بلا لوجوس؛ عالم خال من الثنائيات قبل أن يُمنَح آدم المقدرة على تسمية الأشياء، حين كان إنساناً طبيعياً ذا بُعد واحد، جزءاً من الطبيعة يُعرَّف في ضوء وظائفه البيولوجية، قطعة من الطين (مادة أولية) لم ينفخ الإله بعد فيها من روحه، ولذا فهو لم يكن يعي بعد أصله الإلهي والمسافة بين الخالق والمخلوقات وبين الدال والمدلول والمحرمات والمباحات والحقيقة والزيف والحق والباطل والعدل والظلم، عالم يشبه ذلك العالم الذي يحلم به دريدا: عالم براءة الصيرورة ـ عالم الإشارات بلا حقيقة وبلا أصل. وكما يقول رورتي، فإنه "عالم مادي تماماً، خال من القداسة، لا يَعبُد الإنسان فيه شيئاً ولا حتى نفسه "، أي أنه عالم خال من الكليات الميتافيزيقية والمادية، ومن النزعات الدينية والإنسانية (يمكن العودة لوصف لاكان للمتخيل ولوصف بياجيه لمراحل تَطوُّر الطفل(2/172)
لإدراك معالم المرحلة الجنينية) .
وقد عبَّرت هذه النزعة الجنينية والرغبة في السيولة عن نفسها دائماً من خلال المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية سواء أكانت روحية (وحدة الوجود الروحية) أم مادية (وحدة الوجود المادية) في إنكارها الشرس للكليات المفارقة لعالم الصيرورة وفي دمجها بين الإله والطبيعة والإنسان بحيث يصبح العالم جوهراً واحداً لا اختلاف فيه ولا تمايز. ومن بين المنظومات الروحية، يمكن أن نذكر الغنوصية والقبَّالاه اليهودية وغلاة المتصوفة وكثير من الهرطقات الدينية والحركات الشعبوية الشيوعية، ذات الطابع المشيحاني الآدمي (أي نسبة إلى آدم) . ومن بين المنظومات المادية، يمكن أن نشير إلى كل الفلسفات المادية خاصةً الفلسفات المادية العدمية مثل السفسطائيين الذين لا يجدون في العالم سوى حركة. ولا تتمرد كل هذه الفلسفات الواحدية على فكرة الإله المفارق وحسب وإنما ترفض كل الكليات والتجاوز والحدود، وضمن ذلك الحدود التي تحدد الإنسان كإنسان وتفصله عن الكائنات الطبيعية، ولذا فهي تذيب الإنسان كمقولة مستقلة وككائن متجاوز للطبيعة/المادة. وقد كانت الجماعات الوظيفية تحمل دائماً فكراً حلولياً كمونياً واحدياً، روحياً مادياً في آن واحد (روحياً بالنسبة للجماعة الوظيفية، مادياً بالنسبة للأغلبية) ، والإنسان الوظيفي إنسان ذو بُعد واحد، إنسان اقتصادي غير قادر على التجاوز، يُفهَم في ضوء وظيفته المادية وحسب.(2/173)
وقد عادت النزعة الحلولية الكمونية الواحدية وأكدت نفسها وبحدة في عصر النهضة في الغرب، فالمشروع التحديثي الغربي العلماني الشامل هو مشروع يدور في إطار المرجعية الواحدية المادية الكامنة في إطار الإنسان الطبيعي الذي يعيش في الطبيعة وعلى الطبيعة، إنسان ذو بُعد واحد. ولكن المشروع التحديثي كان يدور في مراحله الأولى في إطار كل مادي متجاوز، ولذلك فقد أنتج فلسفات عقلانية مادية تؤله الكون ـ تارة تُغلِّب الذات على الموضوع وتعلن أسبقية الإنسان على الطبيعة (تأليه الإنسان) ، وتارة أخرى تُغلِّب الموضوع على الذات وتُعلي شأن الطبيعة على حساب الإنسان (تأليه الطبيعة) ـ إلا أنها في تأرجحها هذا ظلت فلسفة عقلانية، تدور حول مركز وتتسم بالصلابة تشبه ما يسميه فيبر «الديانة العالمية» ، وهي ديانة يرى أنها تستند إلى رؤية كوزومولوجية عالمية شاملة، تتفرع عنها نظم معرفية وأخلاقية شاملة، وتجيب على كل أو معظم الأسئلة الكلية والنهائية التي تواجه الإنسان بطريقة معقولة تتسم بالاتساق، ولذا فهي تُدخل على قلوب المؤمنين بها الطمأنينة والأمن وقدراً عالياً من التفاؤل. وتفي بالاحتياجات النفسية للإنسان في فهم العالم وفي التوازن مع ذاته ومع عالمه، وتحل له مشكلة المعنى. ويمكن القول بأن المنظومة التحديثية المادية في مرحلة التحديث والصلابة حاولت أن تجيب على الأسئلة الكلية والنهائية والتقليدية وأن تزود الإنسان بمنظومات معرفية وقيمية، ونجحت في هذا بأن أخذت المنظومات المعرفية والأخلاقية المسيحية والإجابات المسيحية على الأسئلة النهائية وقامت بعلمنتها بأشكال مختلفة، فحلّ محل الإله مطلقات علمانية مختلفة مثل «العقل الكلي» أو «روح التطور» أو «المجتمع» أو «الطبقة العاملة» . وحلّ محل «تَجسُّد الإله في العالم» مسميات أخرى مثل «تَحقُّق العقل الكلي في التاريخ» أو «حتمية التقدم» أو «مسار التاريخ» . وحلّ محل «الآخرة والبعث ويوم الحساب»(2/174)
مفاهيم مثل «حكم التاريخ» و «نهاية التاريخ» و «اليوتوبيا التكنوقراطية» و «الفردوس الأرضي» . وتغيرت المطلقات العلمانية وتغيرت تجسداتها ولكن ظل هناك دائماً مطلق ما (المدلول المتجاوز في المصطلح ما بعد الحداثي) يمكن من خلاله إدراك الكليات والمطلقات والثوابت، ويمكن استناداً إليه ترتيب الواقع ترتيباً هرمياً وتحديد ما هو حلال وما هو حرام وما هو كلي وما هو جزئي وهكذا، ويمكن من خلاله ترويض الإنسان الطبيعي ووضعه داخل حدود حضارية، بحيث يمكنه تَجاوُز ذاته الطبيعية المادية.(2/175)
ولكن معدلات الترشيد المادي والعلمنة المادية والحلولية الكمونية المادية أخذت في التزايد، فزادت معدلات النسبية إلى أن سيطرت تماماً وسقط الكل المادي المتجاوز (إنسانياً كان أم طبيعياً/مادياً) ووقع كل شيء في قبضة الصيرورة. وبدأت الحضارة الغربية تُنتج فلسفات معادية للعقل تنكر الكون والكليات والمطلقات والحدود وتنكر وجود الذات والموضوع وتنكر وجود أي مركز، وتعلن استحالة قيام نظم معرفية وأخلاقية عالمية. هذه الفلسفات المادية اللاعقلانية هي نفسها فلسفات جنينية لا تقف ضد الديانات العالمية التقليدية وحسب وإنما ضد العقلانية المادية الصلبة نفسها، ولا تقف ضد الميتافيزيقا الإيمانية وحسب وإنما ضد الميتافيزيقا المادية أيضاً، أي ضد أية ميتافيزيقا. والحضارة المعاصرة هي نتاج هذه النسبية الكاملة وهذه السيولة الفلسفية الشاملة، نتاج هذا النزوع الجنيني نحو إنكار الحدود والهوية والكليات. وهذه السيولة نمط سائد في سائر الأنساق الحلولية الكمونية المادية في كل الحضارات. وعادةً ما تُظهر هذه المنظومات قدراً من التماسك في العصر البطولي ولكنها تنحل دائماً إلى مادة محضة غير متشكلة لا مركز لها ولا قوام، ولا تسمح بقيام أية كليات. وقد نبهنا إلى ذلك السوفسطائيون في بداية تاريخ الفلسفة الغربية، وكما نبهنا نيتشه في نهاية القرن الماضي، كما يبين لنا أنصار ما بعد الحداثة هذه الأيام.(2/176)
ومما لا شك فيه أن الحضارة الغربية قد وصلت إلى معدلات عالية من السيولة إلا أننا لا يمكن أن نراها متجذرة في هذه الحضارة وحسب، ولا يمكن أن نراها مقصورة عليها، ولا يمكن أن نَعتبر الحضارة الغربية مصدرها الوحيد، بل هي تعبير عن نزوع بشري عميق وعن نمط يسم كل المنظومات الحلولية المادية الواحدية. فالحضارة الغربية الحديثة هي تعبير عن نمط متكرر ونزوع إنساني كوني، وهو النزوع الجنيني، ويجب أن ندركها في إطارها هذا ولا نراها مقصورة على الزمان والمكان الغربيين.
ورغم جدة الأطروحة التي نقدمها والتي تدور في إطار نموذج توليدي، فإن ماكس فيبر كان يتحسس طريقه نحوها. ومما له دلالته أنه كان يكتب في نهاية القرن التاسع عشر مع بداية تَحوُّل الحضارة الغربية من المرحلة البطولية المادية ومرحلة التحديث ومع بداية دخولها مرحلة السيولة والبرجماتية. وقد لاحظ فيبر وجود عناصر مشتركة بين الحضارة الغربية الحديثة والحضارات الوثنية البدائية ذات النزعة الجنينية الواضحة التي ترى الإنسان باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة. والمنظومات الوثنية البدانية لم تظهَر فيها منظومات أخلاقية، إذ تظل مثل هذه المنظومات ملتصقة تماماً بعالم المادة والجسد وتدور في إطار النسبية المعرفية والأخلاقية، أي أن فيبر يربط بين الحضارة الغربية الحديثة وبين نموذج أكثر عالمية وشمولاً وإنسانية، وهو النموذج الوثني البدائي (الجنيني) ، أي أنه لا يراها حضارة ذات جذور غربية ولكن حضارة ذات جذور إنسانية كونية. ولنحاول أن نعرض لأطروحة فيبر مع تطويرها بعض الشيء (مثل ربطنا الديانات الوثنية بالنزعة الجنينية) لتصبح أكثر اتساعاً وشمولاً وخصوبة. ولكن تطويرنا وتعديلنا للأطروحة لا يُخل على الإطلاق بأساسياتها.(2/177)
يرى فيبر أن ثمة تشابهاً عميقاً بين الإنسان البدائي والإنسان الحديث، ويمكن أن نُعدِّل كلمة «بدائي» لتصبح «الوثني» الذي يؤمن بديانة حلولية كمونية وثنية (وبالفعل، نلاحظ أن فيبر يتحدث أحياناً عن «الإنسان البدائي» وأحياناً أخرى عن «اليوناني القديم» ، واليوناني القديم أبعد ما يكون عن البدائية. ولذا فلنستبدل كلمة «وثني» بكلمة «بدائي» لنحاول فهم أطروحة فيبر) . كما يجب أن ندرك أن كلمة «إنسان حديث» تعني في واقع الأمر الإنسان الذي يدور في إطار الواحدية المادية (أي العلمانية الشاملة) .(2/178)
يرى فيبر أن أهم نقط التشابه بين الإنسان الوثني القديم والإنسان الحديث هو أن كليهما يفتقر إلى إطار مرجعي معرفي وأخلاقي متكامل متماسك يكتسب تكامله وتماسكه من خلال عقيدة دينية أو ميتافيزيقية، أي أن كليهما لا يؤمن بـ «ديانة عالمية» . فكل من الإنسان الوثني والإنسان الحديث يعيش في عالم يفتقر إلى المركز ويتسم بتعدد العقائد والنظم المعرفية والأخلاقية (أي لا تُوجَد «قصة عظمى» وإنما هي «قصص صغرى» ، إن أردنا استخدام المصطلح ما بعد الحداثي) . ولذا، فإن الإنسان الوثني البدائي يعيش في عالم مخيف يتهدده من كل جانب، فهو لا يؤمن بعالم آخر ويعيش في هذه الدنيا محاطاً بآلهة وشياطين متصارعة لصيقة بعالمه المادي المباشر غير مفارقة له إلا بمسافة صغيرة. وعقيدته الدينية (قصته الصغرى) لا تجيب على أي أسئلة كلية، فهي لا تُقدِّم رؤية كونية شاملة (قصة عظمى) . ولذا، فهي قادرة على أن تُهدئ من روعه قليلاً وبشكل مؤقت شريطة أن يذهب إلى الساحر ليُزوِّده بالتعويذة اللازمة لهذه المناسبة، وبعد أن يُقدِّم القرابين لإلهه الخاص أو لإله الجماعة أو لإله المكان (دون الآلهة الأخرى) في مذبح معيَّن، وبعد أن يقوم بالشعائر المطلوبة بكل دقة، دون وجود منطق كلي واضح وراء كل هذا. وعلاقة الوثني بالآلهة وبالساحر علاقة مادية تعاقدية مباشرة، محددة بنظام المناسبة المباشرة: اتقاء شر إله المكان، أو طلب مساعدة في مهمة معينة، دون وجود منظومة كونية عالمية شاملة.(2/179)
ويبيِّن فيبر أن العلم الحديث همَّش الشرعية الدينية إن لم يكن قد ألغاها تماماً. ولكن العلم لا يجيب على الأسئلة الكلية والنهائية (فهو يتعامل مع الجزئيات التي تشبه آلهة المكان والجماعة ولا يتناول الكليات) . وإجابات العلم على القلق الميتافيزيقي هو مثل تقديم القرابين لآلهة محلية للحصول على طمأنينة مؤقتة، تأخذ في بعض الأحيان شكل مسكنات أو طبيب نفسي. كما أن العلم بسبب افتقاده الرؤية الكلية يسمح بظهور عقائد مختلفة متصارعة، ليس لأيٍّ منها مركزية، تشبه آلهة وشياطين الإنسان الوثني البدائي القديم. (ألا يُفسِّر هذا ظهور العبادات الجديدة البدائية وانتشار التنجيم والسحر وعبادة الشيطان في العالم الغربي المتقدم حيث يسود العلم والتكنولوجيا؟) .(2/180)
بل إن مشكلة المعنى بالنسبة للإنسان الحديث تزداد حدة، إذ عليه أن يتعامل مع أكثر من عالمين (هذا العالم والعالم الآخر) . فالوجود الإنساني في المجتمع الحديث قد تم تقسيمه إلى عوالم ومجالات مختلفة منفصلة يسميها فيبر «نظم الحياة» (بالإنجليزية: لايف أوردرز life orders) ، فهناك النظم أو المجالات العامة مثل المجال الاقتصادي والمجال السياسي، وهناك المجالات الخاصة مثل المجال الجماعي والمجال الجنسي والمجال الفكري. ولكل نظام إجابته الخاصة على الأسئلة الكلية دون وجود إطار كلي ينتظمها جميعاً، ومثل هذا التشظي لا يمكنه أن يزود الإنسان بإجابة على الأسئلة النهائية، ولذا يظل عالم المعنى فارغاً ويظل كذلك عالم الأخلاق فارغاً، فمع غياب المعنى ونسبية المعرفية تسيطر النسبية الأخلاقية والنفعية المادية التي لا تختلف كثيراً عن أخلاقيات الوثني البدائي النسبية النفعية. ونحن نضيف إلى هذا أن كثيراً من المجالات التي يشير إليها فيبر قد أسقطت تماماً الأسئلة الكلية والنهائية ولم تثرها أساساً، أي أنها حلت مشكلة المعنى عن طريق إلغائها واكتفت بالترشيد الإجرائي وأخلاقيات الصيرورة، أي الالتزام بقواعد اللعب وبالإجراءات دون أي بحث عن معنى كلي أو نهائي.(2/181)
وتؤدي هذه النسبية المعرفية والأخلاقية في حالة الإنسان الوثني البدائي والإنسان الحديث إلى غياب إطار متكامل للوفاء باحتياجاتهما النفسية، ولذا، يعود كل منهما إلى مصادره الشخصية. وإذا كان البدائي يعود للقبيلة والآلهة المحلية ويفقد ذاته فيهما، فإن الإنسان الحديث قد فقد إيمانه بالكل المادي ولم يبق أمامه سوى المؤسسات الرشيدة التي تُرشِّد حياته وتُنمِّطها وتضع له سيناريوهات عديدة بديلة، ولكنها جميعاً تنويعات رياضية فارغة من المعنى. وحينما يتمرد الإنسان على حياته، تظهر الحركات الشمولية والقوميات العضوية التي تزود حياته بالمعنى بأن تُحوِّله إلى إنسان ذي بُعد واحد لا يسأل أية أسئلة نهائية أو كلية ولا يشعر بأي قلق ميتافيزيقي ولا يلتزم بأية منظومات أخلاقية متجاوزة لذاته القومية الضيقة وتذيب الذات المركبة المتعينة في كل أكبر ملون هو الشعب القومي العضوي وأرض الوطن والأجداد المختارة (التي تشبه آلهة المكان المحلية) ، أو الدولة والفوهرر في النازية، والوطن والدوتشي في الفاشية، وديكتاتورية البروليتاريا والزعيم الفرد في الشيوعية، والشعب اليهودي المختار وأرض الميعاد في الصهيونية. ولعل ظهور العبادات الجديدة والنزعات البيئية المتطرفة وعبادة جايا، أي الأرض، هو تعبير عن هذه الرغبة الوثنية البدائية/ الحديثة/الجنينية في العودة إلى كل أكبر تُفقَد فيه الذات وتهبط في القاع وتستقر فيه.
ولعل ظهور الجسد والجنس (والصور المجازية الأساسية في النظم الحلولية الكمونية) كصور مجازية أساسية تعبير آخر عن النزعة الجنينية (الوثنية الحديثة) ومحاولة حل مشكلة المعنى بإلغائها، فحينما يصبح الجسد والجنس هما المعنى، فقد عدنا مرة أخرى لإله المكان وإله اللحظة وإلى القرابين المباشرة النفعية دون منطق واضح ودون معنى كلي.(2/182)
تَجاوَز فيبر حدود المكان والزمان ولاحظ التشابه العميق بين رؤية الكون التي تسود في الحضارة الغربية الحديثة والحضارات الوثنية البدائية (في كثير من الأمكنة) ، ولاحظ السيولة الفلسفية التي تسم هذه الرؤى وعجزها عن النهوض إلى عالم الكليات بكل ما يحمل من مسئولية. ولعل أطروحة فيبر لم تنل ما تستحقه من تقدير ودراسة لأنه ذكرها بشكل عرضي في كتاباته. ولكن الأهم من هذا هو سقوط فيبر في التعميم المخل. فقد أدرك بثاقب نظره أننا على عتبات السيولة والنسبية وما بعد الحداثة. ولكنه، بدلاً من أن يرى السيولة باعتبارها إمكانية كانت كامنة وبدأت في التحقق في المرحلة المقبلة، عمَّم بناءً على إدراكه وأسقط هذا التعميم بشكل مطلق على الحضارة الغربية الحديثة بأسرها. ومن الواضح أن التعميم لا يَصدُق إلا على المراحل الأخيرة من الحضارة الغربية الحديثة حيث يسقط كل شيء في قبضة الصيرورة.(2/183)
ولعله، بإخفاقه هذا، لم ينجح في تفسير عظمة هذه الحضارة الحديثة في مراحلها الأولى (في عصرها البطولي) وطموحها نحو النظرية العامة وتفسير الكون بأسره، بل الهيمنة الإمبريالية العالمية عليه، كما لم ينجح في تفسير كيف أن ما تُصدِّره لنا الآن هذه الحضارة الغربية الحديثة يقف على طرف النقيض من كل ما تعلمناه منها من قبل. فهي حضارة لم تَعُد تبحث عن الحقيقة الكلية والقصة العظمى، وإنما أصبحت قانعة راضية بالنسبية. وهي حضارة كانت تُنتج أشكالاً فنية متماسكة ذات معنى فانغمست في التجريب وأدمنت البدايات الجديدة بشكل دائم وغاصت في التشظي الفلسفي والفني. وبعد أن كانت تؤمن بالمحاكاة والمقدرة على التواصل، أصبحت تنكر هذا الآن، وأخيراً فإن هذه الحضارة العقلانية المادية أصبحت حضارة لاعقلانية مادية. ونموذجنا التفسيري قادر على الإحاطة بهذا التناقض، فقد كانت رغم أن السيولة الفلسفية كامنة في المشروع التحديثي في ماديته وتفكيكيته، إلا أنها كانت في حالة كمون وحسب، ولم تبدأ في التحقق إلا مع نهايات القرن التاسع عشر ثم اكتسحت أوربا مع منتصف القرن العشرين، وها هي ذي تكتسح العالم بأسره على هيئة فكر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.(2/184)
ولكن منتجات الحضارة الغربية الحديثة في مرحلة السيولة (المتجذرة في النزعة الجنينية عند الإنسان) ليست معادية للحضارة الشرقية أو الإسلامية وحسب، وإنما هي معادية لكل الحضارات وضمنها الحضارة الغربية نفسها (تماماً كما أنها ليست معادية للميتافيزيقا الدينية وحسب ولكنها معادية لكل أنواع الميتافيزيقا وضمن ذلك الميتافيزيقا المادية) . ولذا فإن منتجات هذه الحضارة لا تُقوِّض خصوصيتنا وهويتنا وتماسكنا وحدنا وحسب، وإنما تُقوِّض خصوصية وهوية وتَماسُك المجتمعات الغربية نفسها. فالهامبورجر طعام طبيعي مادي أقرب إلى قطعة الغيار لا علاقة له بالأطعمة الغربية (من مطبخ فرنسي إلى مطبخ إيطالي إلى مطبخ إسباني أو حتى مطبخ أمريكي سواء أكان جنوبياً أم شمالياً إلى مطبخ الكريول في لويزيانا) ، وهو يحل محلها جميعاً بالتدريج، وهو طعام وظيفي محض لا طعم له ولا لون ولا رائحة، بروتين حيواني، يمكن أن تحل محله حبوب البروتين حينما يتم اختراعها في عصر اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية. وقل الشيء نفسه عن موسيقى الديسكو، فليست لها علاقة كبيرة بموتسارت أو بيتهوفن أو باخ أو تليمان أو موسيقى الباروك، ومع هذا فهي تُقوِّضها كلها وتحل محلها. والشيء نفسه ينطبق على الطرز المعمارية، فما يُسمَّى «الطراز الدولي» هو طراز وظيفي وعبارة عن حوائط تشكل حيزاً محايداً يمكن لأي إنسان وظيفي أن يمارس فيه وظائفه البيولوجية الأساسية، دون خصوصية أو هوية أو آلام أو أحلام خاصة.(2/185)
إن النزعة الواحدية المادية بدأت تكتسح الجميع، لتسقط كل الحدود بحيث يتحول العالم إلى كيان ذي بُعد واحد يتحرك فيه البشر في إطار حتميات مادية، تعفيهم من مسئولية الاختيار، وحيث الأمل هو أن تقوم الهندسة الوراثية الداروينية بتحسين النسل وأخلاقيات الإنسان من خلال تغيير الجينات والتحكم فيها ومن خلال عمليات الاستنساخ النظيفة المعقمة، وحيث يوجد عالم من شاشات التليفزيون والكومبيوتر تعفي الإنسان من مسئولية الحركة بين الآخرين، فيجلس في منزله ليبيع ويشتري ويعمل ويتسلى ويستمنى دون أن يرى بشراً، تماماً مثل الجنين في رحم أمه أو الطفل في علاقته بثديها. والقضية الآن هي: كيف يمكن أن نستمر في هذا العالم الحديث دون أن نسقط في العالم الجنيني ودون أن ننسى نزعات التجاوز الربانية داخلنا؟ وكيف يمكن أن نؤسس حضارة إنسانية حديثة لا تؤدي بالضرورة إلى تقويض الإنسان؟
الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية
الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية
ثمة رأي يذهب إلى أن التشكيل الإمبريالي الغربي يشكل انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة وعن رؤيتها للكون، وأن تَبنِّي الحضارة الغربية للحل الإمبريالي (أي تصدير مشاكلها للخارج والهيمنة على شعوب الأرض وعلى مصادرها الطبيعية) هو حالة من غياب الاتساق مع الذات في حضارة ليبرالية إنسانية مستنيرة ارتضت الديموقراطية فلسفة للحكم، وارتضت التنافس الحر نسقاً اقتصادياً، كما تبنت العقلانية والإنسانية فلسفة للكون.
وقد دأبت العلوم الإنسانية الغربية على تَناوُل بعض الظواهر باعتبارها ظواهر مستقلة مع أنها، في واقع الأمر، مترابطة بل تكاد تكون واحدة. فيتم مثلاً الفصل بين الاشتراكية والرأسمالية مع أن كلتيهما مبنية على فكرة ترشيد الاقتصاد وتصفيته من أية مضامين أخلاقية، إنسانية كانت أم دينية، فكل منهما اقتصاد يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة (الطبيعة/المادة) وحول السوق/المصنع.(2/186)
وقد تم الفصل بين الظواهر المترابطة لأسباب عديدة (أشرنا إليها في الباب المعنون «إشكالية تعريف العلمانية» وفي الباب المعنون «نحو نموذج تفسيري شامل ومركب للعلمانية» ) ويمكن أن نضيف لها هنا أن الخطاب التحليلي الغربي قد استبعد إلى حدٍّ كبير البُعد المعرفي فلم يركز على الأسئلة والمرجعية النهائية وركز على البُعد الاقتصادي وحسب. ولذا، فقد تم تصنيف البشر إلى مستغلين ومستغَلين، وتم تصنيف النظم الاقتصادية على أساس علاقات الإنتاج (أي أن المرجعية الحاكمة والنهائية هي القيمة الاقتصادية) ، وأصبحت القضية هي: من الذي يحصل على نصيب أكبر من فائض القيمة، الأثرياء أم الفقراء؟ الشمال أم الجنوب؟ واستناداً إلى هذا المعيار الاقتصادي اليتيم، تمت التفرقة بين الرأسمالية والاشتراكية وتم الربط بين الإمبريالية والرأسمالية من حيث إن النظم الاشتراكية تقوم بتوزيع ثمرة العملية الإنتاجية بالعدل وتعيد استثمار ما تراكم من فوائض من خلال جهاز الدولة لصالح الجميع (وهي مقولات ثَبت كذبها فيما بعد) ولا تقوم بنهب الشعوب الأخرى (نظرياً على الأقل) . فالإطار التحليلي ونقطة الانطلاق هي العنصر الاقتصادي وحسب، فهو المصدر وإليه المآل.(2/187)
ولكن العنصر الاقتصادي يستند إلى مرجعية مادية كامنة إذ يتم النظر للإنسان باعتباره مجرد عنصر مادي خاضع للحركيات الاقتصادية، أي أن الإطار التحليلي الاقتصادي ليس اقتصادياً وحسب، وإنما هو بالضرورة مادي أيضاً وواحدي وكمي، ولذا فهو إما يتجاهل الأسئلة النهائية تماماً أو يعطي إجابات مادية عليها. ولعلنا لو غيَّرنا المقولات التحليلية نفسها لاختلف الأمر كثيراً فعندئذ سنسأل الأسئلة المعرفية الكلية النهائية عن الإنسان: هل هو كائن مستقل عن الطبيعة، يتكون من مادة وشيء آخر (أي يدور في إطار مرجعية مادية ومرجعية متجاوزة) أم أنه مجرد مادة وحسب (يدور في إطار مرجعية كامنة مادية وحسب) ؟ هل الإنسان كائن مركب قادر على تَجاوُز واقعه الطبيعي وتَجاوز ذاته الطبيعية، أم أنه كائن طبيعي مادي بسيط، أحادي البُعد، يُذعن تماماً للطبيعة/المادة ويتكيف معها؟ هل النظام الاقتصادي الذي ندرسه يحقق الإنسانية المركبة للإنسان أم يمحوها؟ إن فعلنا ذلك، فإن طريقة تصنيفنا للواقع ستختلف كثيراً إذ سنكتشف أن الاختلاف على المستوى الاقتصادي في طريقة توزيع الثروة في المجتمع الاشتراكي عنه في المجتمع الرأسمالي، لا تؤدي على المستوى المعرفي النهائي إلى اختلافات جوهرية، فكثير من الظواهر التي تهز كيان الإنسان كإنسان (تزايد ترشيد المجتمع وتنميطه ـ تزايد تطبيق المعايير الكمية ـ تَزايُد تَحكُّم البيروقراطيات ـ تزايد هيمنة الأجهزة الإعلامية ـ أزمة المعنى ـ أزمة القيمة ـ الاغتراب ـ التَسلُّع ـ أزمة الأسرة) تُوجَد في كلٍّ من المجتمعات الرأسمالية والاشتراكية رغم اختلاف طريقة توزيع الثروة. وليس من قبيل الصدفة أن نجد أن الأدب الحداثي في الدول الاشتراكية والرأسمالية يتناول نفس المشاكل والقضايا والموضوعات، الأمر الذي يشير إلى أن الاختلاف بين الرأسمالية والاشتراكية قد لا يكون جوهرياً من منظور الأثر المُتعيِّن لهذه النظم على الإنسان كإنسان. ولذا،(2/188)
قد يكون من الأجدى التركيز على البُعد النهائي الإنساني وعلى المرجعية النهائية للمجتمع.
ونحن نذهب إلى أن العلمانية (وحدة الوجود المادية والمرجعية المادية الكامنة) هي الإطار المعرفي النهائي للحضارة الغربية الحديثة. ولكننا نذهب أيضاً إلى أن الرؤية العلمانية هي في واقع الأمر رؤية حلولية كمونية مادية لا تفصل الدين عن الدولة وحسب وإنما تعزل القيم المطلقة (المعرفية والأخلاقية والإنسانية والدينية) عن الدنيا، بحيث يصبح مركز الكون كامناً فيه ويُردُّ الواقع بأسره (الإنسان والطبيعة) إلى مستوى واحد، ويصبح كله مجرد مادة محضة نافعة نسبية لا قداسة لها تُوظَّف وتُسخَّر. والهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية والهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي، ومن خلال تَراكُم المعرفة وسد كل الثغرات وقمع الآخر إلى أن يخضع كل شيء (الإنسان والطبيعة) لحكم العقل وقانون الأرقام (وهو قانون يستمد مشروعيته من المعارف العلمية المادية) ، بحيث تَحوَّل الواقع بأسره (طبيعة وبشراً) إلى جزء متكامل عضوي تنتظمه شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات المادية، فيخضع الواقع للواحدية المادية ويصبح أشبه ما يكون بالسوق والمصنع. وقد تم ترشيد كل شيء على هدي المعايير العلمية الواحدية المادية والنماذج التي تستند إلى مفهوم الطبيعة/المادة بحيث أصبح كل شيء فيه محسوباً ومضبوطاً بعد استبعاد كل الاعتبارات غير المادية، مثل الغيبيات والمطلقات والخصوصيات، ذلك لأن ما بداخله غيب أو أسرار، وكل ما هو فردي فريد لا يمكن قياسه أو التحكم فيه أو غزوه أو توظيفه أو حوسلته. وقد تم تهميش الإله أو إلغاؤه باسم الإنسان وصالح الجنس البشري. وبعد إلغاء أية مرجعية متجاوزة، تظهر المرجعية الكامنة فيصبح مركز الكون كامناً فيه، ويصبح الإنسان مركز الكون (دون أي استخلاف من الإله) وتظهر الحركة الإنسانية (الهيومانية) .(2/189)
ولكن في إطار المرجعية الكامنة يُختَزل الإنسان ويُردُّ في كليته إلى الطبيعة/المادة، ويصبح إنساناً طبيعياً (مادياً) غير قادر على تجاوز ذاته الطبيعية المادية ولا يتجاوز الطبيعة/المادة بحيث يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية من قوانين وحتميات، وهذا ما يعني أن الإنسان يفقد إنسانيته المركبة وتُنزَع عنه القداسة تماماً. والإنسان الطبيعي إنسان لا حدود ولا قيود عليه، يقف وراء الخير والشر، متمركز حول منفعته ولذته، لا راد لقضائه أو لرغبته في البقاء. وهو لا يلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية أو أبعاد نهائية، فهو يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم بسواه بل لا يمكنه تجاوزه. لكل هذا أصبح الإنسان كائناً غير قادر إلا على التمركز حول مصلحته ومنفعته ولذته المادية وبقائه المادي، فمفهوم «الإنسانية جمعاء» مفهوم أخلاقي مطلق ميتافيزيقي متجاوز لقوانين المادة، وليس هناك ما يُلزم الإنسان الطبيعي (مرجعية ذاته المتمركز حولها) بأن يؤمن بمثل هذه المطلقات وهذه المُثُل العليا غير المادية، فماذا في قوانين الطبيعة وقوانين الحركة وقوانين الضرورة يُلزمه بأن يتجاوز مصلحته الخاصة الضيقة وألا يُحوِّل الآخر إلى مادة تُوظَّف لصالحه؟
لكل هذا فإنه بدلاً من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون، وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة وأسبقية الأول على الثاني تظهر ثنائية الإنسان الأبيض من جهة، مقابل الطبيعة/المادة وبقية البشر الآخرين من جهة. ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة، وهكذا تحوَّلت الإنسانية الهيومانية الغربية إلى إمبريالية.(2/190)
وهكذا، فقد حوَّلت هذه الرؤية الإنسان الغربي إلى مُستغل يلتهم الكون، وحولت الطبيعة وبقية الشعوب إلى مجرد مادة استعمالية تُوظَّف وتُسخَّر. وقد قام الإنسان الغربي بالفعل بذلك وحقق لنفسه مستويات معيشية مادية ورخاء مادياً لم ير مثله البشر من قبل (وربما لا يرون من بعد) . وعادةً ما يقف التحليل الاقتصادي عند هذه النقطة وينظر للعالم من منظور معدلات الاستغلال الاقتصادي ويُقسَّم البشر إلى مستغلين ومستغَلين بالمعنى الاقتصادي وحسب. ولكن التحليل المعرفي يستمر متجاوزاً هذا المستوى. وكما أسلفنا، تم تعريف هذا الإنسان الغربي نفسه في إطار مادي واحدي، والرؤية المادية لا تفرق بين أحد ولا تعطي لأحد مكانة أو منزلة خاصة، فالإنسان الغربي هو أيضاً مادة استعمالية، وهو أيضاً لابد أن يدخل الدائرة والآلة الشيطانية الواحدية المادية التي تحوِّله إلى مادة إنتاجية استهلاكية، ولذا تم استغلاله بطريقة شرسة قد لا تكون اقتصادية ولكنها شاملة، وإذا كانت معدلات استهلاك الإنسان الغربي أعلى من المعدلات التي يتمتع بها الإنسان الشرقي فإن هذا لا يشكل فارقاً جوهرياً، فالجميع خاضع لعملية الترشيد والحوسلة والتنميط التي تمحو ما هو إنساني، فقد تم ترشيده هو الآخر من الداخل والخارج في بنيته الاجتماعية والإنسانية حتى تم التحكم فيه تماماً وأصبح مُحاصَراً تماماً بأجهزة إعلام تدمر البنية الاجتماعية، وبصناعات تدمر البيئة الطبيعية، وبصناعات عسكرية تُنفَق عليها الملايين من الدولارات وتهدِّد بتدمير العالم، وبمشروعات فضاء لا يعرف أحد جدواها، وبإيقاع حياة آلي سريع رتيب يقضي على كل ما هو نبيل في حياة الإنسان، وبمؤسسات عامة تضبط حياته وحياة أسرته (أو ما تبقَّى من الأسرة) وبصناعات اللذة التي تصوغ أحلامه وتُصعِّد توقعاته وتقتحم حياته الخاصة تماماً. فهو مُستوعَب تماماً في آليات الحياة الحديثة إذ يزداد ترشيده وإعادة صياغته وغزوه وتسخيره يوماً(2/191)
بعد يوم بهدف زيادة هيمنة الواحدية المادية عليه، تلك الهيمنة التي تعني زيادة التحكم في ساعات عمله ولهوه، وفي احتياجاته وأحلامه، وفي علاقته بنفسه وأسرته، وفي البيئة الطبيعية التي يعيش في كنفها حتى يصبح إنساناً رشيداً، منتجاً ومستهلكاً، جزءاً لا يتجزأ من عالم الأشياء والسلع والطبيعة/المادة (التمركز حول الموضوع) . ولو استخدمنا هذا المعيار لوجدنا أن الإنسان في العالم الغربي قد طُحن هو الآخر تماماً وتم تسليعه، إذ أن النظام الذي يكفل له الحياة المادية الهانئة من ناحية اقتصادية هو أيضاً النظام الآلي الذي يتحكم فيه وفي حياته والذي أخرج الأشياء من عالم الإنسان إلى عالم الأشياء، ثم أخرج الإنسان نفسه من عالم الإنسان ووضعه في عالم الأشياء. بل على مستوى من المستويات، يمكن القول بأن الإنسان الغربي الذي تم ضبط حياته وترشيدها تماماً (من خلال آليات الدولة الحديثة المتقدمة) هو في حالة أسوأ من الإنسان الشرقي الذي لا يزال يتمتع بقسط من الحرية والخصوصية بسبب طبيعة المجتمعات التقليدية أو الانتقالية الفضفاضة. ولعل الإنسان النازي الذي تَحوَّل تماماً إلى آلة مَثل جيد على ذلك، ولعل الإنسان الأمريكي الذي لا يملك من أمره شيئاً، والذي تُرتَّب له حياته من الداخل والخارج، هو أيضاً مَثل آخر على ما نقول.
وقد ظهرت هذه الرؤية الإمبريالية قبل أن تصبح الإمبريالية حقيقة تاريخية. ونشأت لدى الإنسان الغربي الرغبة في ضبط حياته وترشيد مجتمعه وذاته والتهام العالم قبل ميلاد رجل أوربا النهم. كانت جيوش أوربا الغازية تسير في عقل الإنسان الغربي وأحلامه قبل أن تطأ أقدام جنودها الثقيلة غابات أفريقيا الخضراء وجبال آسيا الشامخة وقبل أن يُباد الملايين من الأطفال والنساء والرجال من الشعوب الأصلية التي كانت تشغل الحيز الحيوي الذي كان يود أن يستولي عليه هذا الرجل النهم.(2/192)
وبسبب هذا الترادف أو التَوحُّد أو الترابط أو التلازم بين الرؤية المعرفية العلمانية والرؤية المعرفية الإمبريالية، فإننا نشير إليهما باعتبارهما «الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية» . ولعل الاختلاف بين العلمانية والإمبريالية هو اختلاف في مجال التطبيق وليس في الرؤية نفسها، فالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية تُعبِّر عن نفسها من خلال عمليتين تاريخيتين متزامنتين متعاقبتين متشابهتين، وهما عمليتان متكاملتان لا يمكن أن نراهما كسبب ونتيجة (إلا لفترة مبدئية وجيزة) فالأسباب نتائج والنتائج أسباب. هاتان الظاهرتان هما الدولة (القومية) المطلقة والتشكيل الاستعماري الإمبريالي الغربي. فقد تبدت الرؤية المعرفية الإمبريالية على هيئة الدولة المطلقة في الداخل الأوربي وعلى هيئة التشكيل الاستعماري الغربي في الخارج العالمي. ورغم اختلاف المجال والآليات، ظلت الأهداف النهائية واحدة: ترشيد البشر وتسخيرهم وفرض الواحدية المادية على العالم وتحويله إلى مادة متجانسة متحوسلة.
ويمكن أن نرسم الصورة على النحو التالي:
هدف الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية:
فرض الواحدية المادية وحوسلة الطبيعة والإنسان في كلٍّ من الداخل الأوربي وفي الخارج العالمي
آلية التنفيذ ومجالها:
مؤسسات الدولة المطلقة في الداخل الأوربي وجيوش الدولة المطلقة في الخارج العالمي
فثمة اتفاق في الرؤية وفي الأهداف النهائية، واختلاف في آليات التنفيذ ومجاله، أي أن الظاهرتين هما ظاهرة واحدة على المستوى المعرفي:(2/193)
1 ـ على مستوى العلمنة في الداخل (من خلال الدولة القومية المطلقة) : قامت الحكومات العلمانية المطلقة في الغرب بترشيد البنية المادية والاجتماعية للمجتمعات الغربية من أجل تعظيم توظيف الموارد البشرية والمادية. فتم ترشيد البنية الطبيعية (المادية) والعنصر الإنساني، وهي عملية تتضمن ترشيد السوق الداخلي واستخدام الموارد الطبيعية التي تقع داخل حدودها، كما تتضمن تحويل الإنسان إلى طاقة مادية تُوظَّف وإزالة كل الجيوب الوسيطة (الترشيد من الخارج) . وقد استبطن الإنسان الغربي هذه الرؤية (الترشيد من الداخل) فارتفعت كفاءته في الأداء، أي أن الداخل الغربي تم غزوه وحوسلته تماماً.(2/194)
2 ـ على مستوى العلمنة في الخارج (من خلال الإمبريالية العالمية) : بعد ترشيد الإنسان الغربي من الداخل والخارج، ومع تَزايُد الترشيد في عمليات النهب والقرصنة في الخارج وتَزايُد التراكم الإمبريالي واتساع نطاق السوق حتى تَجاوَز حدود الدولة القومية المطلقة، بدأت مرحلة إمبريالية الخارج، فقامت الحكومات القومية العلمانية (المطلقة) بتكثيف طاقتها المادية والبشرية وتسخيرها في تجييش الجيوش، ثم قامت بإرسالها إلى كل أرجاء العالم لإخضاعه والهيمنة عليه وترشيده (من الخارج) وتوظيف موارده البشرية والمادية لصالح الحكومات والشعوب الغربية (وفيما بعد، لصالح قطاعات من النخب السياسية والثقافية في العالم الثالث، باعتبار أنها شريكة للإمبريالية والعلمانية) ، وذلك حتى تمت لها السيطرة على العالم بأسره وإحكام قبضتها عليه. وقد تصاعدت معدلات الهيمنة على أسواق العالم وشعوبه وأُخضع العالم بأسره لقوانين الواحدية المادية، أي تم ترشيده في إطار المرجعية المادية الواحدية حتى يتم تنميط المؤسسات والبشر ويُستوعَب الجميع في سوق عالمية وشبكة اتصالات ضخمة. وقد بدأت بالفعل قطاعات كبيرة من الناس في العالم بأسره (وخصوصاً بعض أعضاء النخب السياسية والاقتصادية والثقافية) يستبطنون الرؤية العلمانية الإمبريالية (الترشيد من الداخل) وتزايد استبطانهم لها على مر الأيام. وكما حاولت الدولة القومية القضاء على الجيوب الإثنية والدينية في الداخل، وعلى كل المطلقات الإنسانية والأخلاقية (غير المادية) وعلى كل الخصوصيات، تحاول الإمبريالية القيام بهذا الدور على مستوى العالم.(2/195)
وهذه العملية ليست عملية تعاقبية بمعنى أن تؤدي (أ) إلى (ب) ، أو أن (أ) تحدث ثم تحدث بعدها (ب) ، فالأمر أكثر تركيباً من ذلك. فعمليات الهيمنة في الخارج زادت من نجاح الدولة المطلقة أمام مواطنيها (وهم مستفيدون من عملية التراكم الرأسمالي الإمبريالي) ، فزادت الدولة من هيمنتها على هم، أي أن نجاح الهيمنة في الخارج مرتبط بتَزايُد الهيمنة في الداخل، لأن تَزايُد هيمنتها في الداخل يعني أيضاً تَزايُد مقدرتها على تجنيد جماهيرها للزج بها في الحروب الاستعمارية وتمويل هذه الحروب.(2/196)
ولعله من المفيد، من منظور هذه الموسوعة، أن نشير إلى الاستعمار الاستيطاني باعتباره جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستعماري الغربي مع أن له خصوصيته المستقلة. لقد بدأ الإنسان الغربي ينزح عن قارته الأوربية في عصر نهضته وفي بداية مشروعه التحديثي العلماني، فاستعمر الأمريكتين حيث أسَّس مجتمعات استيطانية ضمت فيما بعد جنوب أفريقيا، فأستراليا ونيوزيلندا والجيب الاستيطاني في الجزائر، وأخيراً فلسطين. وقد قامت هذه المجتمعات الاستيطانية على أساس المنفعة واللذة بالدرجة الأولى، فالعناصر البشرية التي كوَّنت هذه المجتمعات كانت أكثر العناصر نشاطاً وحركية في المجتمعات التقليدية، وأشدها طموحاً وقلقاً وبحثاً عن الحراك الاجتماعي وعن المنفعة واللذة، وأقلها تَجذُّراً ورضاً وقناعة، وأكثرها استعداداً لأن تنبذ تاريخها وهويتها. وليس للمجتمعات الاستيطانية تراث حضاري أو قومي مستقل وممتد، كما أنها لا تتمتع بأية خصوصية أو شخصية تاريخية. والمؤسسات الدينية في مثل هذه المجتمعات هزيلة لأنها دون تاريخ أو جذور، ولأنها مُستورَدة على يد المستوطنين وبالتالي خاضعة لهم ولنزواتهم ولرؤيتهم للواقع. ولهذا، ظهر في هذه المجتمعات الاستيطانية إنسان بلا تاريخ ولا قيم ولا تراث ولا هوية، فهو يقترب إلى حدٍّ كبير من الإنسان الطبيعي/المادي ذي البُعد الواحد الذي يدور تماماً في إطار المرجعية المادية. ولذا، فقد كان من الممكن إدارة هذه المجتمعات على أسس اقتصادية رشيدة إلى أقصى حد، لا تعوقها عوائق تاريخية دينية أو تراثية أو أي شكل من أشكال المطلقات. ومن هنا، فقد جاءت هذه المجتمعات مجتمعات علمانية نماذجية.(2/197)
ويتبدَّى هذا بكل جلاء في الاستعمار الاستيطاني البروتستانتي (الأنجلو ساكسوني) حيث تمت إبادة السكان الأصليين إذ كان من المحال تحويلهم إلى مادة استعمالية عامة بسبب تراثهم الحضاري، واستُجلب العبيد إلى المزارع في الجنوب الأمريكي وإلى جزر الهند الشرقية، وحُطِّمت شخصيتهم الحضارية وعُزلوا عن كل المؤسسات الدينية وضمن ذلك المسيحية (في بادئ الأمر) حيث كانوا يُعامَلون بشكل محايد ويُنظَر إليهم من منظور الوظيفة وحسب دون أي اعتبار للجوانب الروحية أو الأخلاقية، أما الاستعمار الاستيطاني الكاثوليكي فلم يكن بهذا الرشاد. فقد بذلت الكنيسة جهداً غير عادي في مقاومة المستوطنين، ناظرة إلى السكان الأصليين باعتبارهم مادةً إنسانية ذات روح وقداسة وبالتالي لابد من هدايتهم. ولهذا نجد أن معدلات العلمنة في المجتمعات الاستيطانية ذات الأصول البروتستانتية، مثل أمريكا الشمالية، أعلى بمراحل كثيرة منها في المجتمعات الاستيطانية ذات الأصول الكاثوليكية مثل أمريكا اللاتينية. وأكثر المجتمعات علمنة على وجه الأرض هو المجتمع الأمريكي الذي أباد السكان الأصليين تماماً ومحا آثارهم الحضارية ورفض تقاليد الحضارة الأوربية الثقافية والدينية وشيَّد مؤسسات رشيدة تماماً، والأمركة هي العلمنة الشاملة الحقيقية.(2/198)
ونحن نقترح استرجاع الإمبريالية كمقولة تحليلية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، ومن ثم لا يمكن استبعادها من دراسة أية ظاهرة في الحضارة الغربية الحديثة. ولنأخذ الديموقراطية على سبيل المثال. يُلاحَظ أن الدول الغربية الديموقراطية، وفي طليعتها إنجلترا وفرنسا، هي بلاد لها مشروعها الاستعماري الضخم حيث التهمت معظم أنحاء العالم وقمعت السكان الأصليين وسلبتهم حريتهم وحطمت مؤسساتهم الاجتماعية والثقافية. وقُل نفس الشيء عن هولندا وبلجيكا، وبدرجة أقل عن إيطاليا. وبعد أن استعمر الإنسان الغربي الولايات المتحدة وأقام فيها نظاماً سياسياً مستقراً، قام بعملية إبادة للسكان الأصليين، ثم دخلت الولايات المتحدة في تجربتها الاستعمارية فاحتلت بورتوريكو وهاواي والفلبين، ووضعت أمريكا اللاتينية تحت مظلتها بمقتضى مبدأ مونرو. وقد ترسخت الديموقراطيات الغربية عن طريق الإمبريالية إذ نجحت في تسريع التراكم الرأسمالي (الإمبريالي) من خلال نهب المستعمرات، الأمر الذي ساهم في تأسيس بنيتها التحتية المادية الضخمة المستقرة وتحقيق الرفاه الاجتماعي للمواطنين عن طريق تجريد بقية شعوب العالم من مصادرها الطبيعية والبشرية. وقد نجحت الحكومات الغربية في تصدير مشاكلها الاجتماعية حيث قامت بإرسال المجرمين والعناصر غير المستقرة اجتماعياً والفائض السكاني إلى الشرق، بل قامت بالتخلص من الجماعات والأقليات غير المرغوب فيها (مثل اليهود) عن طريق نقلهم إما إلى الشرق (في فلسطين) أو إلى الغرب (في أفران الغاز) ، كما حلت مشكلة سوء توزيع الثروة من خلال نهب المستعمرات. ويكفي أن نعرف أن ما نهبته إنجلترا من الهند يزيد كثيراً عما أنتجته خلال الثورة الصناعية عامة، أي أن نجاح المجتمع الإنجليزي ومشروعه التحديثي لا يمكن رؤيته بمعزل عن التراكم الاستعماري، فالسلام الاجتماعي الداخلي الذي حققه المجتمع الإنجليزي قد تحقق من(2/199)
خلال تصدير مشاكل إنجلترا إلى خارجها ومن خلال تحقيق التراكم الرأسمالي (الإمبريالي) بما نهبه من الآخرين.
وهنا يمكن أن نثير قضية المجتمع المدني، فمن المُلاحَظ أن البلاد التي ظهر فيها المجتمع المدني هي أساساً البلاد صاحبة المشروع الاستعماري. ولم تنجح ألمانيا في تأسيس مجتمع مدني ربما بسبب إجهاض تجربتها الاستعمارية على يد الدول الاستعمارية الأخرى. ويلاحَظ أن معظم بلاد شرق أوربا واتحاد دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) دول لا يوجد فيها مجتمع مدني ولا مشروع استعماري (أو لم يظهر إلا متأخراً فلم تتم عملية النهب في روسيا القيصرية بشكل منهجي كفء، وهو ما جعل المشروع الاستعماري مكلفاً بالنسبة لهم. ثم قامت الثورة الاشتراكية وأخذ الاستعمار الروسي شكلاً مختلفاً تماماً) .(2/200)
ولننظر إلى ظاهرتين تبدوان كما لو كانتا بعيدتين كل البعد وهما قيام الاستعمار الاستيطاني في أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر بإبادة السكان الأصليين وقيام الدولة النازية بإبادة يهود أوربا في القرن العشرين. لو طبقنا نفس المنظور المعرفي الذي يُبيِّن أن الرؤية العلمانية الإمبريالية هي الرؤية الكامنة وراء معظم الظواهر الغربية، فإننا سنرى الوحدة الكامنة وراء تلك الظاهرتين. وكما أسلفنا، فإن جوهر الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هو تحويل البشر والعالم إلى مادة نافعة. وانطلاقاً من هذه الرؤية، قام التشكيل الاستعماري الاستيطاني في الغرب بنقل ملايين البشر باعتبارهم مادة محضة تُوظَّف وتُسخَّر وتُنقَل وتُغزَى. فتم نقل الملايين من البشر من أوربا إلى أمريكا لتوطينهم هناك، لزيادة نفعهم وتعظيم إنتاجيتهم، ولتسهيل عملية توظيفهم ولحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لأوربا. ولنفس السبب، تم استجلاب مادة بشرية يمكن تحويلها إلى طاقة عضلية رخيصة. وماذا لو حدث أن ظهرت عوائق تقف في طريق عملية زيادة المنفعة وتعظيم الإنتاج؟ ماذا لو كانت العوائق مادة بشرية أخرى؟ الإجابة سهلة ومباشرة: مثل هذه المادة البشرية ستكون غير نافعة ولذا لابد من إزالتها. وهذا ما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة، حيث كان الإنسان الأبيض يبيد الهنود في أمريكا ويقوم في نفس الوقت باصطياد السود في أفريقيا ونقلهم إلى الأرض التي أبيد سكانها. ولا يمكن فهم هذا إلا في إطار التوظيف وتعظيم الإنتاج والتعريفات البيولوجية العِرقية الصارمة. فالسود يمكن استخدامهم بسبب عدم تماسكهم الحضاري وبسبب قوتهم العضلية ولأنهم بلا حقوق، أما الهنود فكانوا يُشكِّلون كتلة حضارية متماسكة ذات حقوق تاريخية (كما أن نظام المناعة الخاص بهم كان ضعيفاً جداً أمام الميكروبات التي حملها الإنسان الأبيض، ومن ثم كان من العسير استيعابهم في النظام الجديد) .(2/201)
والإبادة النازية لبعض القطاعات البشرية في أوربا ليست سوى تطبيق متبلور لتلك الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، ولكن في الغرب نفسه بدلاً من آسيا أو أفريقيا أو الأمريكتين.
ولا تزال الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هي المسيطرة على الإنسان الغربي ذاته حتى في علاقته مع نفسه ومع أعضاء المجتمع الغربي، ذلك لأن كل شيء يخضع للواحدية المادية. فهو حينما يبني بيتاً، يُخضعه تماماً لعملية الترشيد الواحدية حيث يبنيه بهدف الاتجار فيه وتحقيق الربح ثم يتركه بعد بضع سنين وكأن المنزل والسلعة لا فرق بينهما. وهو حين يدخل علاقة مع أنثى، لا يبحث عادةً عن الطمأنينة وإنما يحاول تعظيم اللذة، وتتحول العلاقة العاطفية إلى علاقة غزو (وهو ما عبرنا عنه بأن الحضارة الغربية حضارة يتراجع فيها الخطاب الجواني للمحبين، خطاب التآلف والتراحم، ليحل محله الخطاب الإمبريالي البراني، خطاب الغزو والتناحر) . وهو إنسان بسيط ذو بُعد واحد دائم التنقل والترحال لتحقيق الربح وتحسين المعيشة، فهو مادة استعمالية جيدة مرنة مطاطة، شيء بين الأشياء. وحينما يصل هذا الإنسان الغربي إلى سن يصبح فيه غير منتج، فإنه يقبل أن يُنقَل طواعية إلى بيت المسنين غير المنتجين لينتظر (كمادة بشرية مرنة) الموت في بيوت مكيفة الهواء بعيداً عن المجتمع المُنتج وبعيداً عن الحياة. بل إن ما يُسمَّى «حضارة الفوارغ» (ديسبوزابل disposable) هي حضارة إمبريالية توظيفية تستهلك كل شيء وتوظف كل شيء وتبدد كل شيء (الطاقة ـ المواد الخام ـ الأغاني ـ جسد الأنثى ـ طبقة الأوزون) . كما أن الاتجاه التدريجي نحو فرض النموذج الآلي على سائر أشكال الحياة في الغرب، وهو مصدر شكوى كل المفكرين الغربيين، إن هو إلا تعبير عن إبستمولوجيا الغزو والتحكم والترشيد العلماني الإمبريالي وتَزايُد رقعتها في مجالات الحياة.(2/202)
ولا تزال حضارة الترشيد العلمانية الإمبريالية هذه تُخضع الإنسان الغربي ذاته لأسوأ أنواع الإمبريالية التي يمكن أن نسميها «الإمبريالية النفسية» ، وهي أن تَحوِّل الذات البشرية نفسها إلى سوق تتسع حدوده بشكل دائم وتحل محل الأسواق الخارجية البرانية التي تم غزوها جميعاً (وهكذا يتحول الجواني إلى براني دائماً) ، ويتم ذلك عن طريق ثورة التطلعات والتوقعات التي لا تنتهي، وعن طريق صناعة الأحلام: من إعلانات (يلعب الجنس دوراً أساسياً فيها) إلى روايات (تصوغ للإنسان أحلامه وتطلعاته) إلى أفلام (تحدد رؤاه وقواعد سلوكه) وهي نشاطات يسيطر عليها ما نسميه «قطاع صناعات اللذة» في المجتمعات الحديثة التي تنظر للإنسان باعتباره مجموعة من الدوافع والحاجات الجسدية المحضة التي يمكن سدها. ومن ثم، فإن بوسع هذه الصناعات أن تَعد الإنسان دائماً بالفردوس الأرضي الذي سيريحه تماماً من عبء التاريخ وسيعود به إلى الحالة الجنينية. بل إن بناء المدن الغربية يُجسِّد هذه الرؤية الإمبريالية الرشيدة من طرقات تهدف إلى تعظيم السرعة لحركة يومية تُبَدد فيها الطاقة الإنسانية والطبيعية ويُلوَث فيها الجو ويدور فيها كل شيء حول السوق والسلع. ورغم أن عِلم الاجتماع الغربي لم يكتشف العلاقة بين العلمانية كنظرية والإمبريالية كتطبيق يأخذ شكلين مختلفين (ترشيد في الداخل الأوربي وغزو في الخارج العالمي) ، فإن ثمة محاولات متعثرة للتعبير عن ذلك. فماركس على سبيل المثال يتحدث عن أن الشعب الذي يستعبد شعباً آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حراً، ويتحدث فيبر عن أن عملية الترشيد ستؤدي إلى القفص الحديدي ويتحدث زيميل عن السجن الحديدي، أما هابرماس فقد ذكر أن ما يحدث في المجتمع الغربي الحديث هو «استعمار عالم الحياة» . والحديث عن غياب العقل النقدي وفشل الاستنارة، أو أن الاستنارة أدَّت إلى الإبادة، هو محاولة للتعبير عن وجود هذه العلاقة بين العلمانية والإمبريالية دون(2/203)
الإفصاح عنها.
ومع هذا، يمكن القول بأن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هي رؤية مرتبطة بعصر التحديث والحداثة والثنائية الصلبة والمرجعية الكامنة حيث جعل الإنسان الغربي من نفسه الأنا المقدَّسة ومركز الكمون والكون الذي يحق له إبادة الآخرين واستغلال العالم. ومع الستينيات، ومع فقدان الإنسان الغربي مقدراته العسكرية وظهور مراكز أخرى في العالم واختفاء المركزية الغربية، بدأت الرؤية العلمانية الإمبريالية تأخذ شكلاً جديداً في عصر ما بعد الحداثة والسيولة الشاملة وهي إنكار المركز تماماً وإعلان انتهاء التاريخ وانتهاء الإنسان واختفاء أية مرجعية، ومن ثم ظهر فكر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.
النظام العالمى الجديد
«النظام العالمي الجديد» مصطلح استخدمه الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب وجهه إلى الأمة الأمريكية بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج (بعد أسبوع واحد من نشوب الأزمة في أغسطس1990) . وفي معرض حديثه عن هذا القرار، تحدث عن فكرة «عصر جديد» ، و «حقبة للحرية» ، و «زمن للسلام لكل الشعوب» . وبعد ذلك بأقل من شهر (في 11 سبتمبر 1990) ، أشار إلى إقامة «نظام عالمي جديد» يكون "متحرراً من الإرهاب، فعالاً في البحث عن العدل، وأكثر أمناً في طلب السلام؛ عصر تستطيع فيه كل أمم العالم، غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، أن تنعم بالرخاء وتعيش في تناغم".(2/204)
وكلمة «نظام» هى ترجمة لكلمة «أوردر order» الإنجليزية المشتقة من الكلمة اللاتينية «أوردو ordo» بمعنى «خط مستقيم ونظام» . والكلمة مبهمة للغاية، فهي تعني مثلاً «الترتيب المنظم والمتواتر» ، و «هرم السلطة والقوة الذي يتم بمقتضاه تطبيق وفرض أحكام بعينها» ، و «الالتزام بالقانون» ، و «الدرجة أو الطبقة أو المرتبة» ، و «الطلب» ، و «ضرب أو نوع أو طراز» . ولكن الكلمة أيضاً مرادفة لكلمة «مثود method» و «سيستيم system» (كما في عبارة «ذي أوردر أوف نيتشر the order of nature» أو «ذي أوردر أوف ثنجز the order of things» بمعنى «نظام الطبيعة» (أو «سنن الطبيعة» في المصطلح الإسلامي) ، فالكلمة تشير من ثم إلى مجموعة من القوانين والمفاهيم (والسنن) التي تتسم بقدر معقول من الثبات عبر مرحلة زمنية طويلة نسبياً، يتحرك الواقع بمقتضاها ولا يمكن فهمها بدونه، فهي مصدر هوية النظام (جوهره) وتعبير عنها في آن واحد. ولذا، فإن جوهر النظام العالمي هو مجموعة القوانين والقيم الكامنة التي تفسر حركة هذا النظام وسلوك القائمين عليه وأولوياتهم واختياراتهم وتوقعاتهم.(2/205)
يقول دعاة النظام العالمي الجديد إن ما يدعو إليه النظام هو شكل من أشكال تبسيط العلاقات وتجاوز العُقد التاريخية والنفسية والنظر للعالم باعتباره وحدة متجانسة واحدة. والنظام العالمي الجديد، حسب رؤيتهم، هو نظام رشيد يضم العالم بأسره، فلم يَعُد هناك انفصال أو انقطاع بين المصلحة الوطنية والمصالح الدولية وبين الداخل والخارج. وهو يحاول أن يضمن الاستقرار والعدل للجميع (بما فى ذلك المجتمعات الصغيرة) ، ويضمن حقوق الإنسان للأفراد، وهو سينجز ذلك من خلال مؤسسات دولية (رشيدة) مثل هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية والبنك الدولي وقوات الطوارئ الدولية. وبإمكان كل الدول أن تستفيد من الخبرة الدولية في إدارة شئون الداخل وتكييفه مع النظام العالمي الجديد. وسيتم كل هذا فى إطار ما يُقال له «الشرعية الدولية» التي تستند إلى هذه الرؤية، وإلى المقدرة على تحويلها إلى إجراءات، تماماً كما حدث فى حرب الخليج حينما تم صد العدوان العراقى على الكويت. والنظام العالمي الجديد لا يخلو من التناقضات، ولكنها تناقضات (حسب رأيهم) يمكن حسمها دون حاجة إلى الصراعات العسكرية إذ أن ثمة إجراءات رشيدة يمكن من خلالها حل كل التناقضات. وهو نظام يدعو إلى تطبيق المُثُل الديموقراطية حيث يخضع كل شيء لما يُسمَّى «أخلاقيات الإجراءات» ، أي الاتفاق على قوانين اللعبة وإجراءاتها دون الانشغال بالماهية أو بالأهداف. وعلى كل يرى دعاة النظام العالمي الجديد أن اللواء قد انعقد أخيراً لأخلاقيات الديموقراطية الليبرالية، بتأكيدها على دور المؤسسات وحقوق الإنسان وسيادة القانون داخل الدول وفي النظام العالمي ككل.(2/206)
والعالم من منظور دعاة النظام العالمي الجديد في حالة حركة دائمة (وكما قال أحد دعاة النظام "الإنسان لا ينزل النهر نفسه مرتين"، وقد نسب هذا القول لأفلاطون المسكين صاحب الفكر المثالي لا لهيراقليطس صاحب الفكر المادي) ثم استطرد قائلاً: "المرحلة الحالية في النظام العالمي لا تتشكل من منظور أيديولوجي مسبق لأنها تمثل تطوراً لم يتوقعه علماء السياسة الدولية، حتى أن القواعد الثابتة في التسابق الدولي ـ مثل الاستحواذ على عنصر التفوق أو المحافظة على ميزان القوى ـ قد تغيَّر مضمونها ومحتواها". و"المسرح الدولي يتغيَّر في أولويات اهتمامه وفي القيم التي يطرحها وفي أسلوب التعامل الدولي وفي دور القواعد السياسية ووسائل الاتصال في اتخاذ القرارات". و"بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تزامن ذلك مع انتخابها لإدارة جديدة وقيادة جديدة تعبِّر عن الوعي الذي تبلور جماهيرياً و [تحاول] بلورة ردود على التساؤلات الجديدة التي طرحت واقعياً وفعلياً في مشاكل مستجدة على المسرح العالمي"، أي أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تغيَّرت وتغيَّرت رؤيتها. وهكذا تغيَّر النظام الإمبريالي القديم، المبني على توازن القوى والرعب الذي يصدر عن المنظومة الداروينية، أصبح دون مقدمات نظاماً عادلاً يدعو إلى الديموقراطية (رغم أنه كان يدك القرى في فيتنام منذ عدة سنوات، ولا يزال ينظر للجرافات الإسرائيلية بإعجاب شديد) .
ثم يتوجه كاتبنا إلى العرب معلقاً على هذا العالم المتحرك الخالي من المثاليات بقوله: "وعلى العرب أن يعلموا أنهم لا يعيشون أبداً في العصر نفسه، ولا يخضعون دوماً للثوابت نفسها. ولا يمكن أن يظلوا دون خلق الله جميعاً ينكرون ما يجري ويدور في عالمنا، متجاهلين التاريخ والجغرافيا وما يحدث فيهما من تغيير"، وهكذا أصبح النظام العالمي الجديد من سنن الحياة أو جزءاً من النظام الطبيعي.(2/207)
ويرى دعاة هذا النظام أن بوسعه أن يحقق قدراً معقولاً من النجاح بسبب وسائل الإعلام الغربية (العالمية على حد قولهم) التى حوَّلت العالم (كما يظنون) إلى قرية صغيرة. فتدفُّق المعلومات يجعل المعلومات متاحة للجميع، الأمر الذي يحقق قدراً كبيراً من الانفتاح فى العالم وقدراً كبيراًمن ديموقراطية القرار. وقد أدَّى انهيار المنظومة الاشتراكية والتلاقي (كونفيرجنس convergence) بين المجتمعات الغربية الصناعية، واختفاء الخلاف الأيديولوجي الأساسي فى العالم الغربي، إلى تقوية الإحساس بأن ثمة نظاماً عالمياً جديداً وإلى أنه لم تعد هناك خلافات أيديولوجية تستعصي على الحل.
ويرى المدافعون عن هذا النظام أن الخطر الذى يتهدد الأمن لا يأتي من الخارج وإنما من الداخل، من قوى تقف ضد الديموقراطية وضد تأسيس المجتمع على أسس اقتصادية وعلى أسس التكيف مع النظام العالمي. هذه القوى هى التى تجر الداخل القومي إلى صراع مع الخارج الدولي بدعوى الدفاع عن الكرامة أو الاستقلالية أو الشخصية القومية أو الرغبة فى التنمية المستقلة. وهى تكلف الداخل ثمناً فادحاً. ومن المنطقي أن يتصوَّر المبشرون بهذا النظام أن القيادة فيه لابد أن تكون للقوة الاقتصادية العظمى، أى للمجتمع الصناعى الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فإن الدول كلها يجب أن تنضوي تحت هذه القيادة. وثمة افتراض كامن بأن المجتمع الأمريكي (الذى يفترض أن الدافع الأساسي فى سلوك البشر هو الدافع الاقتصادي) لابد أن يصبح القدوة والمثل الأعلى.(2/208)
هذا الكلام البسيط الجميل لابد أن تكون وراءه رؤية معرفية كاملة، فهذه هي طبيعة الخطاب الإنساني. وهنا قد يتعلل دعاة النظام العالمي الجديد بأنهم «عصريون نسبيون» لا يميلون إلى إطلاق التعميمات، ولا يؤمنون بأىة قيم ثابة أو مطلقات، ولا يتوجهون إلى الأسئلة المعرفية الكلية ولا يعترفون بوجود كليات، فكيف يمكن أن تُحدَّد أبعاده المعرفية النهائية إذن؟. وقد يقولون: "إننا دخلنا عصر ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الحداثة وما بعد التاريخ بل ما بعد الإنسان؛ عصر الما بعديات السائلة التى تحل محل الماقبليات الجامدة المطلقة، فثمة سيولة فكرية في الفكر الحديث تتناقض بطبيعتها مع فكرة النسق الفكري المتكامل والقيم الكلية".
وهذا إلى حدٍّ كبير صحيح، فثمة سيولة لا يمكن إنكارها. ومع هذا، تظل عبارة «النظام العالمي الجديد» دالاً يشير إلى مدلول. إذ أننا، رغم سيولته، نراه من الخارج ونسمع صوته ونرصد حركته (التى تترك أثرها علينا وعلى عالمنا) ونرى أن ثمة منظومة معرفية قيمية متكاملة كامنة وراء هذا النظام الشامل السائل، شأنه فى هذا شأن أي نظام آخر، منظومة تتجاوز ادعاءاته وديباجاته واعتذارياته. بل قد تكون حالة السيولة هذه وادعاء أن الدال ليس له علاقة قوية بأية مدلولات أو كليات هي أيديولوجيا هذا النظام، أي من الممكن أن يكون إنكار كل القيم هو قيمته الكبرى والنهائية، وتأكيد النسبية المعرفية والأخلاقية هي قيمته المعرفية والأخلاقية الكبرى والنهائية، وتأكيد أن العالم في حركة دائمة هو قانونه الثابت.
وفي محاولة معرفة هوية هذا النظام لابد أن نقرر ابتداءً أن هذا النظام (شأنه شأن أي نظام إنساني) لم يولد من العدم اللاتاريخي وإنما داخل التشكيل الحضاري والسياسي الغربي، ويحمل معالم هذا التشكيل، وهو نظام يدور في إطار العلمانية الشاملة (والحلولية الكمونية المادية) في إطار مرحلتيها الصلبة والسائلة.(2/209)
وقد لاحظنا أن الواحدية الإنسانية، في غياب المرجعيات المتجاوزة، تنحدر لتصبح واحدية إمبريالية عنصرية إذ يصبح أحد الشعوب هو الأنا المقدَّسة (السوبرمان) التي ترى بقية البشر (السبمان) والطبيعة/المادة باعتبارهما مادة محضة يمكن هزيمتها وتوظيفها وحوسلتها. وقد أعلن الإنسان الغربي في عصر نهضته أنه هو الأنا المقدَّسة وأن العالم قد انقسم ببساطة إلى الأنا والآخر، والقوي والضعيف، الغازي والمغزو، المسلح والأعزل، الغرب وبقية العالم (بالإنجليزية: ذا وست آند ذا رست the west and the rest) .(2/210)
في هذا الإطار المعرفي وُلد ما يُسمَّى «النظام العالمي» ، فالعالم لم يعرف نظماً دولية أو عالمية إلا بعد الثورة الصناعية وظهور التشكيل الإمبريالي الغربي بشقيه الاستعماري الاستيطاني والاستعماري العسكري. فقبل ذلك التاريخ، كان من الممكن أن تنشأ إمبراطورية فى الصين وأخرى في الهند ثم تختفي دون أن تترك أثراً يذكر على سكان أوربا، على سبيل المثال، إلا بشكل غير مباشر وغير محسوس لمن يقع عليه التأثير. وكانت أجزاء من الكرة الأرضية، مثل الأمريكتين وأستراليا ونيوزلندا، غير معروفة للعالم القديم. ولذا، كانت تظهر في الأمريكتين إمبراطوريات على درجة كبيرة من التركيب ولكنها مع هذا لا علاقة لها ببقية العالم. وكان يمكن أن يحدث اشتباك بين حضارتين أو أكثر (حروب الغرب مع الشرق الإسلامي المعروفة بحروب الفرنجة ـ الاجتياح التتري للعالم الغربي ولشرق أوربا) ، ولكنه كان يظل اشتباكاً ثنائياً أو تلاقياً غير عالمي. أما فى عصر النهضة الغربية، فقد بدأ الإنسان الغربي يتسلل تدريجياً إلى أرجاء المعمورة ويستولي عليها، وبدأ يؤسس جيوباً استيطانية في بعض الأماكن. وقد استمرت هذه العملية إلى أن تحوَّل العالم بأسره إلى ساحة لنشاطه، خاضعة لهيمنته، تتبع قوانينه. ولذا، يمكن القول بقدرٍ كبير من اليقين أن النظام العالمي الجديد يضرب بجذوره فى التشكيل الإمبريالى الغربي، وأن معالمه بدأت تتحدَّد مع منتصف القرن التاسع عشر حينما بدأ هذا التشكيل يعى ذاته كحركة مسرحها العالم بأسره، وحينما أدرك ضرورة أن يقسم العالم وأن يتحوَّل إلى مادة استعمالية: مصدر للموارد الطبيعية ـ مصدر للطاقة العضلية الرخيصة ـ سوق تباع فيه السلع ـ حيز يمكن أن تُصدَّر له المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسكانية الخاصة بأوربا. هذا يعني أن النظام الإمبريالي نظام عالمي (بمعنى أن مسرحه العالم) ولكنه نظام مغلق تم إغلاقه حتى يتسنَّى لصاحب النظام ومؤسسه أن يعظِّم من(2/211)
استغلاله للعالم باعتباره مادة واحدة. وتظهر العالمية المنغلقة لهذا النظام فى المواجهة التي تمت مع محمد علي، أول من حاول تحديه حين حاول أن يدخل مصر والعالم العربي إلى العصر الحديث حسب شروطه، مع الاحتفاظ بمنظومة معرفية وقيمية مستقلة. بل حاول أن يبعث العافية فى أوصال رجل أوربا المريض أو الرجل العثماني المسلم الذى كانت أوربا تراقب مرضه باهتمام شديد حتى يمكنها تقطيع أوصاله واقتسامه ضمن ما اقتسمت فى العالم. وبالفعل، ضُرب محمد علي وبشراسة من قبل أعدائه وأصدقائه الغربيين وتم تقطيع أوصال الدولة العثمانية (وهى عملية لا تزال مستمرة فى البوسنة والهرسك وكوسوفو) ، وتم اقتسام العالم مع الحرب العالمية الأولى، وتحقق النظام المغلق وأصبح واقعاً عالمياً فى عصرنا الحديث.(2/212)
ومنذ أن قام هذا النظام العالمي باقتسام العالم، بدأ يصول ويجول، وبدلاً من أن ينشر الاستنارة والعدل، انغمس فى عمليات إبادة منهجية رشيدة لم يعرفها تاريخ البشر من قبل (إبادة سكان الأمريكتين) ، وفي عمليات ترانسفير (نقل السود من أفريقيا إلى الأمريكتين، ونقل العناصر البشرية غير المرغوب فيها مثل المجرمين واليهود والفائض البشري والثوريين والفاسدين اجتماعياً إلى جيوب استيطانية) . وقد خاض هذا النظام العالمي في الصين، حرب الأفيون الأولى ثم حرب الأفيون الثانية حتى يحقق أرباحاً اقتصادية ضخمة. وقام بنهب ثروات الشعوب بشكل منظَّم لم يعرف له التاريخ مثيلاً. ومع ظهور حركات التحرر الوطني فى المستعمرات، ابتداءً من الأربعينيات، قام النظام الإمبريالي العالمي بضربها بعنف شديد، ثم حاول فى الخمسينيات الالتفاف حولها بأن منح المستعمرات استقلالاً اسمياً وأسس نظماً سياسية عميلة مستعدة لأن تعطيه امتيازات يفوق عائدها ما كان يحصل عليه من الاستعمار العسكري المباشر. إن تاريخ النظام العالمي هو تاريخ النظام الصناعي العسكري الإمبريالي الغربي الذي حول العالم إلى مصدر للطاقة الطبيعية والبشرية الرخيصة وإلى سوق لبضائعه، ورغم تغير الأشكال (الاستعمار الاستيطاني الإحلالي ـ الاستعمار الاستيطاني المبني على التفرقة اللونية - الكولونيالية ـ الإمبريالية ـ الاستعمار الجديد) فإنه نظام عالمي واحد يحاول أن يفرض بالقوة حالة التفاوت بين الشعوب والأمم.(2/213)
قام هذا النظام الإمبريالي العالمي بغرس كل أنواع الاستعمار فى عالمنا العربي (الاستعمار العسكري فى مصر والسودان وليبيا والمغرب وتونس والصومال والعراق وجيبوتي وسوريا ولبنان وإريتريا ـ الاستعمار الاستيطاني فى الجزائر ـ الاستعمار الاستيطاني الإحلالي فى فلسطين) ، وقام بنهب هذه المنطقة إما مباشرة إبان فترة الاستعمار العسكري المباشر أو من خلال التحكم فى أسعار المواد الخام (وخصوصاً البترول) وعن طريق بيع أسلحة ببلايين الدولارات لنظم يضمن هو بقاءها فى الحكم ويعلم جيداً أنها غير قادرة على استخدام هذا السلاح، كما أثبتت الخبرة التاريخية (التي يريدنا أن ننساها) .(2/214)
وتتضح هوية هذا النظام العالمي الإمبريالي المغلق فى ظهور الفلسفات العنصرية والداروينية والنيتشوية التي تقسم العالم وبحدة إلى الأنا والآخر، وتجعل الذات القومية هي المعيار الوحيد للحكم، وتجعل الغرب هو المركز، وتجعل الإنسان الأبيض هو صاحب المشروع الحضاري الوحيد الجدير بالاحترام والبقاء، ومن هنا عبء الرجل الأبيض الشهير، فهو وحده القادر على اختيار الطريق الصحيح، أما الآخر فهو عاجز ضال. وفي هذا الإطار، ظهرت الفاشية والنازية ثم الصهيونية ـ وهي دعوة لحل مشاكل أوربا (المسألة اليهودية) عن طريق تصديرها للشرق. فحينما كان هرتزل يتحدث عن إنشاء دولة يهودية يضمنها "القانون الدولى العام" فإنه كان يعني "القانون الغربي الاستعماري" الذى يتحكم فى العالم ويقسمه حسب رؤيته ومشيئته. ثم صدر وعد بلفور في هذا الإطار، إذ أعطت بريطانيا الحق لنفسها في أن تمنح أرض فلسطين للفائض البشري اليهودي فى الغرب وأن تنقل من فلسطين سكانها الأصليين (تمت الإشارة إليهم باعتبارهم العناصر «غير اليهودية» ، أي «غير الغربية» ، ومن ثم فهم يقعون خارج نطاق الحقوق والمسئوليات) . ثم قام النظام العالمي من خلال عصبة الأمم بوضع فلسطين تحت الانتداب لضمان تنفيذ هذا المشروع الاستيطاني الإحلالي، ثم قام النظام العالمي مرة أخرى من خلال هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين ومنح الوجود الصهيوني شرعية مستمدة من شرعيته الدولية هذه. ثم استمر النظام العالمي، متمثلاً فى شقيه الرأسمالي والاشتراكي، بالاعتراف بالدولة الصهيونية ودعمها إما بشرياً (عن طريق نقل المادة البشرية من شرق أوربا) أو مالياً وعسكرياً (عن طريق الدعم المالي والعسكري من غرب أوربا والولايات المتحدة) وهو دعم ظل يتزايد فى حجمه ونوعه يوماً بعد يوم حتى وصل إلى التحالف الإستراتيجي المعلن بين إسرائيل والولايات المتحدة، مؤكداً بذلك أن الغرب صاحب النظام العالمي هو المهيمن على العالم، وأن العالم(2/215)
هو المسرح، وأن الجنس البشري هو المادة التى وظَّفها لصالحه.
هذه رؤية ثنائية حادة تنكر تاريخ الآخر وإنسانيته ولا تقبله إلا كمادة استعمالية. وقد تكررت ممارسات النظام الإمبريالي الدولي القديم بأشكال تتراوح بين درجات مختلفة من الحدة والتبلور في أنحاء آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ولكن النظام الإمبريالي، شأنه شأن أي نظام حلولي كموني مادي، ينتقل من الصلابة إلى السيولة. وفي هذا الإطار لا يمكن أن تظهر أنا مقدَّسة أو غير مقدَّسة، فكل شيء نسبي لا يعرف الثنائية أو التجاوز.
وقد تبدت المرحلة السائلة في تحولات النظام العالمي القديم إذ حدثت تطورات تاريخية عميقة لا تشكل لحظة إفاقة أخلاقية تاريخية (وكيف يمكن أن نتوقع هذا من حضارة مؤسسة على أساس القانون الطبيعي والفلسفة النيتشوية والداروينية؟) وإنما تشكل لحظة إدراك ذكية من جانب الغرب لموازين القوى.
ونحن نلخص أسباب ظهور النظام العالمي الجديد فيما يلي:
1 ـ أدرك الغرب عمق أزمته العسكرية والثقافية والاقتصادية، وأحس بالتفكك الداخلي وبعجزه عن فرض سياساته بالقوة.
2 ـ أدرك الغرب استحالة المواجهة العسكرية والثقافية والاقتصادية مع دول العالم الثالث التي أصبحت جماهيرها أكثر صحواً ونُخَبها أكثر حركية وصقلاً وفهماً لقواعد اللعبة الدولية.
3 ـ أدرك الغرب أنه على الرغم من هذه الصحوة، فإن ثمة عوامل تفكك بدأت تظهر في دول العالم الثالث، حيث ظهرت نخب محلية مستوعبة تماماً في المنظومة القيمية والمعرفية والاستهلاكية الغربية يمكنه أن يتعاون معها ويجندها، وهي نُخَب يمكن أن تحقق له من خلال السلام والاستسلام ما فشل في تحقيقه من خلال الغزو العسكري.(2/216)
لكل هذا قرَّر الغرب أن يلجأ للالتفاف بدلاً من المواجهة، وبذا يستطيع حل إشكالية عجزه عن المواجهة ويتخلى عن مركزيته الواضحة وهيمنته المعلنة ليحل محلها هيمنة بنيوية تغطيها ديباجات العدل والسلام والديموقراطية التي ينقلها البعض بببغائية مذهلة.
ويمكن أن نتعامل بشيء من التفصيل مع التغيرات العالمية التي تشكل إطاراً لظهور النظام العالمي الجديد:
1 ـ على المستوى العسكري:
أ) أدَّت مرحلة الحرب الباردة بين الدولتين العظميين إلى إرهاق متبادل لهما نتيجة الدخول في سباق للتسلح لا نهاية له، وخصوصاً أن تطوير تكنولوجيا السلاح أصبحت مسألة مكلفة للطرفين بشكل لا يطيقه أيٌّ منهما. وعلى الرغم من "انتصار" الولايات المتحدة، فإن النزيف قد أثَّر فيها. وقد أصبحت الحروب الحديثة أمراً مكلفاً للغاية يتطلب تمويلاً ضخماً يصعب على أي دولة (بما في ذلك الولايات المتحدة) أن تقوم به، وخصوصاً أن ثمة أزمة اقتصادية عالمية تجعل من الصعب على الشعوب الغربية القبول بتخصيص اعتمادات عسكرية كبيرة في وقت تقوم به كثير من الدول الغربية بتصفية مؤسسات الرفاه الاجتماعي.(2/217)
ب) تراجعت القدرات العسكرية للاستعمار الغربي بسبب تصاعد معدلات العلمنة والتوجه الحاد للإنسان الغربي نحو المنفعة الشخصية واللذة المباشرة التي لا يمكن إرضاؤها إلا بالإشباع الفوري، وقد أدَّى هذا إلى انخفاض الروح النضالية لدى الإنسان الغربي وإلى ارتفاع تكاليف الحملات العسكرية. وقد صرح المتحدثون باسم المؤسسة العسكرية الأمريكية بأن إمكانياتها قد أجهدت تماماً أثناء العمليتين المتزامنتين لإنزال الجنود الأمريكيين في كلٍّ من جرانادا ولبنان، رغم صغر حجم العمليتين، بسبب تضخم قطاع الخدمات في القوات المسلحة (تماماً كما يحدث في المجتمعات الاستهلاكية الحديثة) ، إذ يتطلب إنزال جندي أمريكي واحد خدمات عدة جنود يصل عددهم أحياناً إلى عشرة، وهو ما يعني أن إنزال عشرة آلاف جندي يشغل ما بين 50 و100 ألف جندي آخر (وقد كانت حرب الخليج خليطاً من المأساة والملهاة في هذا المضمار بسبب معدل الرفاهية العالي) .
جـ) تراجعت الهيمنة العسكرية الغربية بسبب ظهور دول لها قوة عسكرية ضاربة وقوة نووية غير خاضعة للهيمنة الغربية مثل كوريا الشمالية والصين (وربما باكستان) .
د) أدرك الغرب في الوقت نفسه عبث المواجهة العسكرية مع القوى المجاهدة غير الرسمية، وخصوصاً بعد تجربته المريرة في فيتنام (وتجربة الانتفاضة المستمرة وتجربة أفغانستان الناجحة) .
هـ) ظهور أسلحة دمار رخيصة مثل الصواريخ ذات الرؤوس الميكروبية (قنبلة الفقراء النووية على حد قول أحد المعلقين) . بل أثبتت حرب أفغانستان مقدرة الجماعات الفدائية على الحصول على أسلحة ذات مقدرة تدميرية عالية لا يحتاج استخدامها إلى متخصصين ولا دورات تدريبية.
2 ـ على المستوى الثقافي:(2/218)
أ) تراجعت المركزية الغربية على المستوى الثقافي بسبب ظهور كتلة العالم الثالث، وظهور حركات بعث قومي فيها بسبب تزايد الوعي بالذات الثقافية، وبسبب أزمة الغرب الذي لم يعد نموذجاً جذاباً ناجحاً كما كان في الستينيات. ومما ساعد على ذلك ظهور أقليات ثقافية إثنية داخل العالم الغربي ذاته لا تقبل الهيمنة الثقافية الغربية أو مركزيته الثقافية.
ب) وقد حدث هذا في وقت تمر فيه الحضارة الغربية بمرحلة أزمة عميقة، فلم يعد الغرب واثقاً تماماً من نفسه كما كان الأمر من قبل، وذلك مع تفشي النسبية الثقافية وظهور مراكز اقتصادية عسكرية وثقافية أخرى في العالم، ومع تفاقم الأزمة الاجتماعية في الداخل (الجريمة ـ تفكك الأسرة ـ الأيدز ـ المخدرات ـ الإباحية) . ولذا، لم يَعُد قادة العالم الغربي قادرين على الحديث عن تفوق الجنس الأبيض (كما كان عهدهم في الماضي القريب) .
جـ) مع هذا، لاحظ الغرب أن ثورة المعلومات والنظام الإعلامي الجديد، بأفلامه وكتبه ومرئياته ومراكز بحوثه، يتيحان مقدرة هائلة على الاختراق تساعد على نقل المنظومة القيمية الغربية إلى كل أرجاء العالم بعد أن كانت محصورة إلى حدٍّ كبير في الغرب.(2/219)
د) أدرك الغرب أنه ظهر في العالم الثالث نخب محلية تنتمي اسماً إلى شعوبها ولكنها تنتمي فعلاً من ناحية الرؤية والتطلعات والأحلام وأسلوب الحياة إلى العالم الغربي. ومن المُلاحَظ أن تصاعد الوعي القومي صاحبه أيضاً تصاعد في معدلات العلمنة والترشيد والأمركة في كل أنحاء العالم، وتم اختراق كثير من أعضاء النخب الثقافية، كما تم الاستيلاء على أبنائهم وبدأ الحلم الأمريكي يتسرب إلى قطاع لا بأس به من الجماهير. وهذا ما يشير إليه البعض بظاهرة الكوكلة (نسبة إلى الكوكاكولا) أو الكوكاكولانية بدلاً من الكولونيالية ـ والكوكاكولانية هي اختراق المنظومة القيمية الغربية لأحلام الناس وعقولهم من خلال برامج التليفزيون (على سبيل المثال) دون اللجوء إلى القوات العسكرية. وقد ساهمت ثورة المعلومات في هذه العملية.
3 ـ على المستوى الاقتصادي:
أ) تواجه الولايات المتحدة (قائدة العالم الغربي) مشاكل المديونية وعجز الميزان التجاري. فالدين الأمريكي يزيد على 3 تريليون دولار، وانخفضت حصة الناتج القومي الإجمالي الأمريكي من الناتج العالمي إلى الثلث. ويتنبأ بعض الاقتصاديين بأن الولايات المتحدة، التي أضعفها عقدان من الركود، ستصبح بحلول عام 2000 ثالث قوة اقتصادية بعد أوربا واليابان اللتين سوف تتفوقان على أمريكا من حيث الناتج القومي الإجمالي وحجم الاستثمارات في الخارج وحجم الصادرات.
ب) حدث هذا في وقت بدأت تظهر فيه مراكز اقتصادية غير غربية تطور نفسها خارج شبكة الهيمنة الغربية مثل اليابان والصين وماليزيا وغيرها.(2/220)
جـ) لاحظ الغرب أن كثيراً من دول العالم الثالث أصبحت واعية بمصالحها الاقتصادية وبآليات السوق المحلية وكيفية السيطرة عليها وبآليات إدارة الحكومة والاستثمار في الداخل والخارج، وأصبح لدى كثير من حكومات العالم الثالث خبرات محلية ومستوردة تجعل عملية النهب الاستعماري القديمة (التي بدأت باستبدال المرايات بالأراضي) صعبة بل مستحيلة.
د) أدَّى تطور الاقتصاد الغربي وتمدد السوق الغربية إلى ظهور ما يشبه الاقتصاد الدولي (وهو اقتصاد غربي ساحته كل الدول) وظهرت الشركات عابرة القارات التي تحمل رأس المال الغربي في كل مكان وأي مكان، بحيث يتبعها أعداد هائلة من الموظفين والمستفيدين، وهي تحمل معها أنماط الاستهلاك الغربية والسوق باعتبارها كياناً آلياً يتطلب تنميط الآخر.
هـ) لاحظ الإنسان الغربي أن ثمة قضايا جديدة لا يمكن مواجهتها إلا في إطار عالمي، وهو ما يتطلب التعامل مع حكومات العالم الثالث. فثمن التقدم لم يعد مجرد تلويث نهر أو إصابة مجموعة من الناس بداء الكبد (مثلاً) ، حيث بدأنا نسمع الآن عن ظواهر ذات طابع كوني مثل ثقوب الأوزون وسخونة الغلاف الجوي. وفي عصر الإمبريالية الغربية، كان الإنسان الغربي يُصدِّر للشرق فواتير التقدم وينساها، أما الآن فإن ثقوب الأوزون لا تعرف الفرق بين الشرق والغرب وتذكره بالدمار الذي يحيط بالجنس البشري.(2/221)
و) _ وإذا أخذنا انتشار المخدرات باعتباره إحدى النتائج السلبية للتقدم، فإن هذا يعني أنها هي الأخرى تساهم في عملية تدويل العالم. وفي القرن الماضي، كان الاستعمار الإنجليزي يدخل حرب الأفيون الأولى والثانية ليفرض على سكان الصين تناول الأفيون بقوة السلاح ويحقق الربح لنفسه. ومع هذا، كان المجتمع الإنجليزي يستمر في الحفاظ على أخلاقياته الفكتورية المحافظة. وحتى في الستينيات، كانت الشرطة الأمريكية لا تمانع كثيراً في وجود المخدرات في حي هارلم الأسود في نيويورك، وكان هذا يُعَد شكلاً من أشكال الضبط الاجتماعي. أما الآن، فإن كارتل إسكوبار في كولومبيا، وكذلك المثلث الذهبي، تمتد أياديهم لتصل إلى أولاد الطبقة المتوسطة البيضاء في نيويورك ولندن وضواحيهما! والمخدرات التي تزرع في منطقة الإشعاع النووي في تشرنوبيل (ولذا فهي تنمو بسرعة سرطانية) تجد طريقها إلى كل أرجاء المعمورة!
إن ما حدث ليس اختفاء العالم ذي القطبين والتلاقي الأيديولوجي بين القوى العظمى المتصارعة (روسيا ـ اليابان ـ العالم الغربي) وإنما هو أيضاً تراجع المركزية الغربية وظهور مراكز عديدة تتفاوت قوةً وضعفاً وإدراك الغرب لذلك، وإدراكه أيضاً لمواطن الضعف في القوى المقاومة له. كل هذا أدَّى إلى أن يتبنَّى الغرب إستراتيجية جديدة: الاستعمار العالمي الجديد الذي يلجأ للإغواء بدلاً من القمع. فالآلية الأساسية للقسر، أي سحق إرادة الشعوب، أصبحت مكلفة للغاية إن لم تكن مستحيلة تماماً.(2/222)
وآليات الإغواء عديدة من بينها إيهام الآخر، أي أعضاء النخب المحلية الحاكمة التي تم تغريبها، بأنه شريك مع الاستعمار الغربي في عمليات الاستثمار، بل شريك (صغير) في عمليات نهب الشعوب ويستفيد منها. ويواكب هذا عملية إفساد ورشوة لأعضاء هذه النخب. بل إن الشعب نفسه يتم إغواؤه إما عن طريق وسائل الإعلام "العالمية" وبيع أحلام الاستهلاك الوردية الفردوسية، أو عن طريق النخب المحلية. وتُصعَّد في الوقت نفسه عمليات فتح الحدود وتفكيك الدولة القومية (باعتبارها إطاراً لتجميع القوى الشعبية المختلفة ضد الإمبريالية أو ضد الهيمنة الغربية) وذلك عن طريق المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية وإثارة الأقليات وإثارة مشاكل الحدود ... إلخ، وتفكيك الأسرة باعتبارها الملجأ الأساسي والأخير للإنسان والحيز الذي يحقق المجتمع داخله استمرارية الهوية والمنظومة القيمية (وتتكفل جماعات التمركز حول الأنثى «فيمينزم Feminism» وجماعات الدفاع عن الإباحية باعتبارها شكلاً من أشكال "الإبداع"، بهذا الجانب من عملية التفكيك) .
ويذهب أحد الكُتَّاب العرب إلى تحديد ملامح العالم في إطار النظام العالمي الجديد على النحو التالي:
1 ـ سيعتمد هذا النظام في أساسه على قيام تكتلات إقليمية متنافسة ولكن غير متصارعة تحاول أن تفرض على العالم وضعاً يتفق ومصالحها.
2 ـ سيستمر التباين في مستويات الحياة بين الدول الغنية المسيطرة من جهة والدول الفقيرة المستغَلة من جهة أخرى. ويلاحَظ الآن أن نحو 20% من سكان هذا العالم يسيطرون وينعمون بنحو 80% من مصادر الثروة فيه.
3 ـ النمط الاقتصادي السائد يقوم في أساسه على السوق العالمية، وهو ما يجعل تراكم الثروات منسلخاً عن العمل والإنتاج مرتبطاً بالمضاربات المالية التي تتحكم فيها الشركات الكبرى بحماية دولية.(2/223)
4 ـ ستُصدِّر الصناعات الملوثة للبيئة للدول الفقيرة وتظل تحت السيطرة الغربية، مع اهتمام دول الغرب بإدارة الجانب الزراعي في بلادها.
5 ـ ستحاول أمريكا والغرب، ومن خلال المؤسسات الدولية، فرض وضع اقتصادي سياسي من خلال الهيمنة العسكرية وإنشاء الشرعية الدولية والتستر بها لغرض الهيمنة على الآخرين بالقوة وتبرير التدخل في الشئون الداخلية للأمم الأخرى.
تناولنا، حتى الآن، رؤية النظام العالمي للتاريخ وتاريخه وأسباب تحوُّله وآلياته الجديدة، وهي رؤية تضمر عدم اكتراث بالإنسان. ويمكننا الآن أن نركز على هذا الجانب، أي رؤية النظام العالمي الجديد للإنسان. فالنظام العالمي الجديد، كما أسلفنا، هو امتداد للنظام العالمي القديم، ومن ثم فهو تعبير جديد عن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تذهب إلى أن العالم مادة والإنسان أيضاً مادة لا يختلف عن بقية العالم، وهذه المادة مادة استعمالية بالدرجة الأولى، فالإنسان حيوان اقتصادي تماماً وما يحركه هو الدوافع الاقتصادية، وهي أيضاً المحرك الأكبر للمجتمعات البشرية. ولذا، فإن المصالح الاقتصادية (الحديثة، العلمانية الشاملة، التي لا تتجاوز عالم المادة ولا تصل أبداً إلى عالم التطلعات والأشواق والإنسان المركب التاريخي) هي المحرك الأول والأخير والمرجعية النهائية. والتحالفات السياسية في الوقت الحاضر لا تستند إلى الأيديولوجيا وإنما إلى المصالح الاقتصادية، والصراع لا يتم بشأن المبادئ وإنما يتم بشأن المصالح. وثمة تلاق بين الأمن القومي والمصلحة الاقتصادية، وبالتالي يمكن حصر الخلافات بين الدول وتحديدها والتعامل معها بشكل رشيد، فالمصالح (على عكس المبادئ) يمكن حسابها، ويمكن إخضاعها لعمليات رياضية دقيقة. ونفس الشيء يُقال عن الخلافات داخل المجتمع الواحد، فمن الممكن حسمها من خلال العملية الديموقراطية.(2/224)
وقد كانت المنظومة القيمية الغربية تسري على كل البشر، فالجميع مادة استعمالية. ومع هذا، فإن هناك ثنائية الأنا والآخر الصلبة. وفي داخل هذه المنظومة التي تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية، يمكن القول بأن الإنسان الغربي مادة مستعملة (بكسر الميم) أكثر منها مادة استعمالية، أما سكان آسيا وأفريقيا فهم العكس؛ مادة استعمالية أولاً وأخيراً. ولذا، عبَّرت هذه الرؤية عن نفسها في النظام الدولي القديم على هيئة خطاب عنصري يؤكد على التفاوت بين الأجناس كما يؤكد رسالة الرجل الأبيض. ولكن، نظراً للأسباب التي أدرجناها فيما سبق، بدأت منظومة التفاوت في التراجع وظهر بدلاً منها منظومة واحدية مادية سائلة تساوي بين الناس وتسوي بينهم، وأصبح كل البشر مادة متساوية (معرفياً على الأقل) وظهرت الاستهلاكية العالمية بديلاً عن الرأسمالية الرشيدة والاشتراكية العلمية.(2/225)
وانطلاقاً من ثنائية الأنا والآخر العنصرية الصلبة، كان النظام الإمبريالى القديم يحاول أن يوقف عمليات التحديث فى أى مكان فى العالم حتى يصبح العالم الغربي متقدماً، منتجاً ومستهلكاً، ويصبح العالم الثالث متخلفاً بدائىاً مصدِّراً للمواد الخام والعمالة الرخيصة ومستهلكاً ضعيفاً لبعض بضائع أوربا. أما النظام الإمبريالي الجديد في عصر السيولة (في عصر الاستهلاكية العالمية) ، فيرى أنه من الضروري ترشيد العالم بأسره وتحويله كله إلى حالة المصنع والسوبر ماركت، ولذا لابد أن تتقدَّم شعوب الأرض بالقدر الكافي لتصبح شبه منتجة شبه مستهلكة. فالبدوي فى صحراء نجد والهندي الأحمر فى براري أمريكا والقروي فى الصعيد يشكِّلون عائقاً يقف أمام النظام الإمبريالي الجديد (الاستهلاكية العالمية) ، فهم ليسوا فى حاجة إلى الهامبورجر أو السيارة أو الفيديو، ومن ثم لا يمكن تجويعهم أو حرمانهم أو الضغط عليهم، وبالتالي فهم يشكلون ثغرة فى نظام يشبه الآلة لا يتحمل ثغرات، ويجب أن تكون أجزاؤه جزءاً من الكل الآلي. فمثل هؤلاء الفقراء مستقلون قادرون على الحفاظ على أبنيتهم الثقافية وقيمهم المطلقة وعلى اتزانهم مع الذات ومع الطبيعة، وهذا أمر يهدد النظام العالمي. ولذا، لابد أن "يتقدم" الجميع، حتى يدخل الجميع النظام العالمي، ويتم هذا من خلال بيع الأحلام الوردية عن الرخاء الاقتصادي وتعظيم اللذة (أو الوعد باللذة) والتصعيد المستمر للرغبات الاستهلاكية والجنسية. وهو تصعيد يتم من خلال البث التليفزيوني ووسائل إعلام الداخل والخارج. ولكن يجب أن يتم التقدم، تحت مظلة البنك الدولي وصندوق النقد، داخل إطار النظام العالمي الجديد الذى تحكمه بنية التفاوت والمنظومة القيمية الاستهلاكية. ومن ثم يجب ألا يُسمَح بإدخال التنمية المستقلة، لأنها تحدث ثغرة فى النظام الدولي أيضاً، فقد توقف توسع الشركات متعددة الجنسيات، وقد تعوق التنمية تحت مظلة البنك الدولي.(2/226)
وأما التنمية فى إطار النظام العالمي الجديد، فإنها ستضمن أن تكون شعوب العالم الثالث نصف منتجة ونصف مستهلكة حتى يستمر اعتمادها المذل على الغرب. ولا شك في أن عمليات تصعيد التوقعات الاستهلاكية، وعملية التسخين (الاستهلاكية الجنسية) التي تتعرض لها شعوب العالم الثالث، ستجعل من المستحيل تحقيق أي تراكم رأسمالي وستبدد الطاقة الثورية أولاً بأول وتختفي الرغبة في السمو وفي الجهاد.
وقد وجدت الاستهلاكية العالمية التي ستحوِّل العالم إلى سوق كبيرة لا يسودها إلا قوانين العرض والطلب، وتعظيم المنفعة (المادية) واللذة (الحسية) ، والتي ستؤدي إلى سيادة حالة المصنع في العالم بأسره، أن من صالحها أن تفتح الحدود، وأن تختفي القيم والمرجعيات تماماً حتى يفقد الجميع أى خصوصية ويصبح بالإمكان تحويلهم إلى آلة إنتاجية استهلاكية وقطع غيار فى الوقت نفسه.
في هذا الإطار تُطرَح سنغافورة باعتبارها المثل الأعلى الذي يُحتذى في السيولة والتراخي، وسنغافورة بلد معقم من التاريخ والذاكرة، فهي شوارع أسفلتية عرضية وأبراج أسمنتية أفقية تشكل مجموعة هائلة من المصانع والمتاجر والملاهي. ولنتخيل بلداً مثل مصر يحاول أن يصبح مثل سنغافورة.(2/227)
وهكذا تغيَّر النظام الإمبريالي القديم، المبني على توازن القوى والرعب الذي يَصدُر عن المنظومة الداروينية، وأصبح دون مقدمات نظاماً عادلاً يدعو إلى الديموقراطية ولكنه يدعو لأشياء أخرى كذلك مثل السوق الشرق أوسطية التي تنكر تاريخ المنطقة تماماً، ويتحدث عن الشعوب العربية وعن المنطقة. كل هذا يجعلنا ندرك تماماً أن دعوة النظام العالمي الاستهلاكي الجديد للديموقراطية لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها، وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية المركزية الصغيرة حتى يتسنى له ترشيد البشر وإزالة أية عوائق إنسانية أو أخلاقية، وحتى تصبح كل الأمور متساوية ونسبية ويسود تساو معرفي كامل هو في واقع الأمر عملية تسوية، وتُمحَى كل الثنائيات، فالأجساد مادة والعقول آليات والعالم عقارات والأوطان فنادق، وأما ما ينفع الإنسان الطبيعي فهو الانخراط الرحمي (نسبة إلى الرحم) فى المنظومة الآلية بحيث يصبح الجميع سواسية مثل أسنان المشط الأمريكي البلاستيك فيتخففون من عبء الهوية والضمير والاختيارات الأخلاقية المركبة.(2/228)
لكن رغم كل هذا الحديث العذب عن الديموقراطية والمساواة والسيولة يكتسب الغرب صلابة خاصة من ثقته من أنه الممثل الحقيقي لحالة الطبيعة، وأن طريقه (الغربي ـ الحديث ـ العلماني ـ الطبيعي/المادي) هو الطريق الصحيح، بل الوحيد، أي أنه بعد أن يؤكد غياب المرجعيات بشكل علني ويقوم بتسييل العالم، يتحرك في إطار مرجعيته الخفية الصلبة التي تمنحه مركزية في العالم. ولذا، فهو يقوم بفتح حدود الآخرين وتدعيم حدوده هو ويقوم بفك مدافع الآخرين (كما فعل مع محمد علي) وينصب مدافعه هو، فالمدفع هو مركز العالم الذي لا مركز له، هو الصلابة في عالم السيولة، وهو الركيزة في عالم لا ركائز له؛ مدفع يحمله إنسان أوربا الطبيعي والاقتصادي (المادي) ، إنسان هوبز وداروين ونيتشه. هو مدفع ضخم صلب لا ريب فيه، ولكنه مع هذا يظل مختبئاً وراء آليات الإغواء وخطاب السيولة والنسبية والتعددية.
الترانسفير: رؤية معرفية(2/229)
«ترانسفير transfer» كلمة إنجليزية تعني حرفياً «النقل» ، وتُستخدَم عادةً للإشارة إلى طرد عنصر سكاني من محل إقامته وإعادة توطينه في مكان آخر. وهي تُستخدَم في الخطاب السياسي العربي للإشارة إلى محاولة الصهاينة طرد العرب ونَقْلهم (ترانسفير) من فلسطين، إلى أي مكان خارجها، ونقل (ترانسفير) اليهود إليها. ولكننا نذهب إلى أن الترانسفير يُعبِّر عن شيء جوهري وبنيوي في الحضارة الغربية الحديثة يتجاوز المستوى السياسي. إنها حضارة يهيمن عليها النموذج العلماني الشامل تدور في إطار المرجعية المادية (وإنكار التجاوز ونزع القداسة) ولذا، فإن ملامح هذه الحضارة كافة تتبدَّى في مفهوم الترانسفير، سواء من ناحية الرؤية أو من ناحية الممارسة. فهذه الحضارة ترى العالم مادة استعمالية لا قداسة لها يمكن تحريكها وتوظيفها، وذلك لعدم وجود قيمة مطلقة لأي شيء، فالطبيعة قد وُجدت ليهزمها الإنسان ويسخرها، والإنسان نفسه لابد أن يخضع للمرجعية المادية، ولذا فهو الآخر كيان مادي حركي لا يختلف عن الكيانات الأخرى، ويمكن نقله وتوظيفه وهزيمته وتسخيره باعتباره مادة استعمالية نافعة. ولذا، فإن الترانسفير نفسه ليس مجرد فعل سياسي أو رغبة أيديولوجية وإنما هو مؤشر على نموذج حركي مادي يصيب الإنسان في الصميم ويعيد تعريفه تعريفاً يودي به تماماً. ويمكن أن نعيد النظر في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة باعتبارها حضارة الترانسفير. أي أننا، هنا، سنقوم بعملية تفكيك وتركيب لكثير من ظواهر هذه الحضارة، ومن خلال هذه العملية نوضح إجابة النموذج العلماني على الأسئلة الكلية ونُوضِّح المرجعية النهائية المادية لهذه الحضارة:(2/230)
1 ـ بدأت هذه الحضارة بترانسفير أوَّلي هو حركة الاكتشافات حيث انتقل الإنسان الغربي من عالم العصور الوسطى في الغرب إلى أماكن أخرى في العالم، وفي هذا علمنة كاملة للمكان والحيز حيث يصبح المكان مجرد حيِّز يُستخدَم ويُوظَّف. كما واكب هذا ما نسميه بالثورة التجريدية، وهي ثورة جعلت الإنسان قادراً على التعامل مع الأشياء من منظور مجرد عام حيث يهتم الإنسان بالقيمة التبادلية للأشياء لا بالقيمة المُتعيِّنة لها. ومن أهم مظاهر الثورة التجريدية ظهور قطع الغيار التي يتحتم أن تكون متشابهة تماماً وقياسية حتى يمكن إحلال (ترانسفير) قطعة غيار محل الجزء التالف في أي زمان ومكان. ولعل من المهم أن نشير إلى أن حركة الاكتشافات (الترانسفير من مكان إلى آخر) ، والثورة التجريدية (الترانسفير من الخاص إلى العام) ، وقطع الغيار (الترانسفير من قطعة إلى أخرى) ، كلها مرتبطة بشكل أو آخر بالتطور العسكري لأوربا. فقطع الغيار، على سبيل المثال، تم تطويرها في أتون الحرب حيث كان من الضروري أن يقوم الجندي بتغيير التالف من بندقيته بسرعة حتى يمكنه استئناف القتال.
2 ـ بعد هذا الترانسفير الوجداني أو الفكري أو الإبستمولوجي (المعرفي) الأوَّلي، بدأت عملية الترانسفير الحقيقية. وقد تبدت عقلية الترانسفير في الحل الإمبريالي لمشاكل أوربا، أي تصدير هذه المشاكل من أوربا إلى الشرق ومن بينها المشاكل الاجتماعية. وكانت أولى هذه العمليات هي نقل الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى أمريكا، والمجرمين والفاشلين في تحقيق الحراك الاجتماعي في أوطانهم إلى أمريكا وأستراليا. وتبعتها عمليات ترانسفير أخرى:
ـ نَقْل سكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مادة استعمالية رخيصة.(2/231)
ـ نَقْل الهنود الحمر من مواطن سكناهم إلى مواقع أخرى أو إلى العالم الآخر (وعمليتا النَقْل مرتبطتان تماماً، إذ كان نَقْلهم إلى العالم الآخر يتم أحياناً عن طريق نَقْلهم من موقع إلى آخر) .
ـ نَقْل جيوش أوربا إلى كل أنحاء العالم، وذلك للهيمنة عليها وتحويلها إلى مادة بشرية وطبيعية تُوظَّف لصالح الغرب.
ـ نَقْل الفائض البشري من أوربا إلى جيوب استيطانية غربية في كل أنحاء العالم، لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية (فيما يُعَد أكبر حركة هجرة في التاريخ) .
ـ نَقْل كثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى (الصينيين إلى ماليزيا ـ الهنود إلى عدة أماكن ـ اليهود إلى الأرجنتين) كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ أن هذه الأقليات تشكل جيوباً استيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها.
ـ نَقْل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وأفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية، مثل الهنود (وخصوصاً السيخ) في الجيوش البريطانية. وفي الحرب العالمية الأولى، تم تهجير 132 ألفاً من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرةً للقتال (وهذه هي أول "هجرة" لسكان المغرب العربي، وقد استمرت بعد ذلك تلقائياً) .
ـ في هذا الإطار المعرفي الترانسفيري، تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي هي في جوهرها تصدير لإحدى مشاكل أوربا الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى الشرق، فيهود أوربا هم مجرد مادة (فائض بشري لا نفع له داخل أوربا يمكن توظيفه في خدمتها في فلسطين) ، والعرب أيضاً مادة (كتلة بشرية تقف ضد هذه المصالح الغربية) ، وفلسطين كذلك مادة فهي ليست وطناً وإنما هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة/ المادة يُطلَق عليه كلمة «الأرض» . فتم نقل العرب من فلسطين ونقل اليهود إليها، وتمت إعادة صياغة كل شيء بما يتلاءم مع مصالح الإنسان الغربي.(2/232)
3 ـ تَبدَّت عقلية الترانسفير في تصدير المشاكل الاقتصادية لأوربا، فكان يتم تصدير البضائع الفائضة والبضائع الكاسدة والبضائع الرديئة (مثلما تم تصدير المجرمين واليهود والساقطين سياسياً) إلى الشرق. وقد استمر النمط، فأخذ أشكالاً مختلفة لعل أهمها في الوقت الحاضر الشركات المتعددة الجنسيات التي تُشيِّد الصناعات التي تُسبِّب نسبة عالية من التلوث في العالم الثالث. كما أن الغرب يقوم بدفن العوادم الصناعية الملوثة في العالم الثالث (أي أنه يقوم بعملية ترانسفير لها) .
4 ـ من الأشكال المهمة للترانسفير ما تم في عصر الإصلاح الديني وهو ترانسفير معرفي/لغوي، إذ قام المصلحون الدينيون البروتستانت بنقل المفاهيم الدينية من المستوى المجازي الذي يفترض وجود مسافة أو ثغرة بين الدال والمدلول (فالدال كلمة محددة، أما المدلول فإنه يضم المعلوم والمجهول، والمحدود واللامحدود، والمقدَّس والمدنَّس) إلى المستوى الحرفي المادي. ومن ثم تحوَّلت " صهيون " إلى رقعة جغرافية اسمها فلسطين، وتحول التطلع الديني لها (حب صهيون) إلى حركة نحو استيطانها، وتحولت " أورشليم " السماوية (مدينة الإله) إلى القدس الأرضية (عاصمة فلسطين) التي يجب الاستيلاء عليها. وهذا الترانسفير اللفظي هو المقدمة للترانسفير الفعلي (الحركة الصهيونية ـ الأصولية البروتستانتية المتطرفة) .
5 ـ تَبلور الترانسفير، كنمط إدراكي، مع هيمنة عقيدة التقدم على الإنسان الغربي. فالتقدم هو حركة دائمة، انتقال من مكان إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وأصبح الهدف من الحياة هو التقدم/الترانسفير الدائم. ويُلاحَظ أن لفظ التقدم هو دال بلا مدلول تقريباً، إذ إن الإنسان الغربي لم يُعرِّف على وجه الدقة الهدف النهائي من التقدم وكل ما هناك أهداف مرحلية لا متناهية. وعلى هذا، فإن الترانسفير، مثل التقدم، كلمة تشير إلى حركة بلا مضمون.(2/233)
6 ـ يُلاحَظ أن فكرة الترانسفير قد تَجذَّرت تماماً في الوجدان الغربي الحديث بحيث لا يستطيع الإنسان الغربي رؤية الطبيعة البشرية نفسها إلا في إطار الترانسفير. ولعل قمة العقلية الترانسفيرية تظهر في تعريف البروفسور ماكس لرنر (وآخرين) للإنسان الحديث بأنه إنسان قادر على تغيير منظومته القيمية بعد إشعار قصير، أي أن الإنسان كائن حركي يمكنه أن ينجز الترانسفير من منظومة قيمية إلى أخرى بسرعة، ولا يمارس أي ولاء عميق لأي شيء، ولا يشعر بأي ألم أو وخز ضمير إن غيَّر ولاءاته وهويته وشخصيته وأهواءه (ومن المعروف أن المغنية مادونا، قمة ما بعد الحداثة، تقوم بتغيير شخصيتها مرة كل ثلاث سنوات) . وفي هذه الموسوعة، نعرِّف التحديث بأنه رفض كل العلاقات الكونية والثابتة (مثل علاقات القرابة) والقضاء عليها، ورفض المطلقات والثوابت كافة، وإخضاع كل العلاقات للتفاوض وكل القيم للتداول (الترانسفير) ، الأمر الذي يحقق للإنسان الحديث حركية عالية وكفاءة منقطعة النظير في أداء أية مهمة توكل إليه.
7 ـ بل يمكن القول بأن الترانسفير قد انتقل كذلك إلى المنظومة المعرفية فيما يُسمَّى «النسبية المعرفية» ، حيث يرفض الإنسان أي يقين معرفي ويرضى بالجزئيات، فينقل إيمانه من حقيقة إلى أخرى. وهنا، فإن ما يشكل المعرفة بالنسبة له ليس الحقيقة الكلية وإنما حقائق جزئية متغيرة متلاحقة.(2/234)
8 ـ ويُعبِّر الترانسفير عن نفسه في المنظومة الجمالية، إذ تظهر أزياء كل سنة بحيث لا تكون لها علاقة بأزياء الماضي، ولذا فإن الإنسان يتعيَّن علىه تغيير ملابسه باستمرار، وتظهر كل أسبوع أغنية جديدة يسمعها الإنسان الغربي (والآن الشرقي) ثم ينساها. ويظهر موديل سيارة جديدة كل عام، فيغير الإنسان (في المجتمعات التي يُقال لها متقدمة) سيارته مرة كل ثلاثة أعوام. ولعل انتشار الجراحات التجميلية هو تعبير عن نفس الظاهرة، حيث يُغيِّر الإنسان وجهه ويختار وجهاً جديداً (يُعرَض له أحياناً مسبقاً على شاشة الكمبيوتر) ويقوم بتعديله مع أحد الخبراء ثم يتم تنفيذه. ويمكن رؤية قطاع كامل من الطب (عدسات لاصقة ملونة ـ نهود صناعية ... إلخ) كتعبير عن الظاهرة نفسها. والإيمان الأعمى بالتجريب في الفن هو أيضاً نوع من أنواع الترانسفير، حيث لا يقنع الفنان بشكل فني واحد مستقر وإنما يجب أن يبحث عن شكل جديد.
9 ـ أصبح الشكل الحضاري الأساسي هو الترانسفير، فحضارة الفوارغ والنفايات (بالإنجليزية: ديسبوسابل disposable) والتآكل المُخطَط (بالإنجليزية: بلاند أوبسولسنس planned obsolescence) هي في جوهرها حضارة ترانسفير. يشرب الإنسان زجاجة عصير أو مياه غازية ويلقي الزجاجة الفارغة، ويأكل الساندويتش ويلقي بكمية هائلة من الأوراق التي تغلفه. ويشتري سيارة لتصبح بالية بعد سنتين أو ثلاث فيضطر لشراء سيارة جديدة، وهو يفعل ذلك حتى تزداد حركيته وتزداد مقدرته على الانتقال (الترانسفير) من مكان إلى آخر بكفاءة بالغة. وهي أيضاً حضارة التغليف (بالإنجليزية: باكيجنج packaging) ، حضارة الظاهر اللامع دون باطن، ولكنه ظاهر لامع يتم تلميعه بدرجات مختلفة.(2/235)
10ـ انتقل الترانسفير إلى رؤية الذات، فالإنسان الغربي داخل إطار المرجعية المادية قادر على رؤية ذاته باعتبارها مادة استعمالية لا قداسة لها يمكن توظيفها دون أي احتجاج من جانبه. فهو، مثلاً، يشتري المنزل (الذي يشكل نقطة الثبات في حياة كثير من البشر والمأوى الدائم لهم) ويراه استثماراً، وقد أصبح المنزل هو أهم استثمار بالنسبة للأمريكيين، والاستثمار الوحيد لغالبيتهم. وبدلاً من أن يعيش في منزله ويستقر فيه ويعيد صياغته بشكل يتفق مع احتياجاته وهويته فإنه يبيعه ليحقق ربحاً بعد فترة وجيزة (في الولايات المتحدة مثلاً يغير كل مواطن منزله مرة كل خمسة أعوام) . لهذا السبب أصبح معمار المنازل محايداً (أربعة جدران محايدة وسقف أكثر حياداً) ، وفقد أية خصوصية، وذلك حتى يمكن لصاحبه أن يتركه وينتقل منه (ترانسفير) ويبيعه لشخص آخر بسهولة ويسر ويحقق ربحاً عالياً (أليست هذه هي حضارة الفوارغ؟) .(2/236)
11 ـ ولا يعود تغيير المنزل إلى الرؤية الاستثمارية وحسب بل إلى أن الكثيرين يغيرون محل عملهم حتى يحققوا ما يطمحون إليه من حراك اجتماعي. وتُعَد الحركة الدائمة أحد مظاهر التحديث، ولعل الحركة اليومية للملايين من مكان إلى مكان، وحركة ملايين السياح من بلد لآخر، تعبير آخر عن هذا. وفي أحيان كثيرة، يكون مجرد المل والرغبة في التغيير هو مصدر الأوتو ترانسفير أو الترانسفير الذاتي. ويمكن القول بأن السائح شخصية علمانية نماذجية، فهو إنسان حركي لا يؤمن بالثوابت أو المطلقات، يجمع في شخصيته ثنائية الإنسان الاقتصادي (الذي يراكم المال) والإنسان الجسماني (الذي يندفع لإنفاقه بشراهة) . وهو حينما ينتقل إلى بلد (ترانسفير) ، فإن كل همه هو الاستهلاك وتحقيق المتعة لنفسه (اللذة) دون أية اعتبارات إنسانية. أما المجتمع الذي يستقبله، فلا ينظر إليه إلا باعتباره مصدر مال (المنفعة) ، أي أنه ينزع القداسة عن المجتمع المضيف ويقوم المجتمع المضيف بنزع القداسة عنه.
12 ـ يُطبَّق الترانسفير على الذات حينما يتحرك المسنون في المجتمعات الغربية في إطار المرجعية المادية ويقبلون أن يُنقَلوا إلى بيوت المسنين، أو إلى مدن تشكل جيتوات خاصة بهم، حين يبلغون السن القانونية ويستنفدون عمرهم الإنتاجي الافتراضي، يمكثون فيها حتى تحين ساعتهم. وهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر ويسعون إليه ويسعدون به مادامت المنازل التي سيُودَعون فيها مكيفة الهواء وتحتوي على وسائل الراحة المادية كافة.(2/237)
13 ـ وبحسب رأينا، فإن الترانسفير الذي يُطبَّق على العجائز في الغرب يَصدُر تقريباً عن المقولات الترانسفيرية نفسها التي تَصدُر عنها الإبادة النازية لليهود والعجزة والغجر والسلاف وغيرهم. فالنازية كانت تنظر للبشر في إطار المرجعية المادية وفي ضوء مدى «نفعهم» فمن كان نافعاً منتجاً أصبح من حقه البقاء وغير قابل للترحيل، أما غير النافعين فهؤلاء «أفواه تستهلك ولا تنتج» ومن ثم فلا فائدة ترجى من إطعامها (بالإنجليزية: يوسليس إيترز useless eaters) ، وكان يتم تدريب بعضهم ليصبح نافعاً مُنتجاً. أما هؤلاء الذين لا أمل في تحويلهم لمنتجين، فكانوا يُصنَّفون باعتبارهم يهوداً قابلين للترحيل (بالإنجليزية: ترانفسيرابل tranferable) ويمكن التخلص منهم (بالإنجليزية: ديسبوزابل disposable) . وقد سُوِّيت حالة هؤلاء عن طريق الترحيل إلى معسكرات السخرة والإبادة (حيث يتم القضاء عليهم عن طريق العمل المُجهد المتواصل أو عن طريق التسخين السريع في أفران الغاز) وهذا لا يختلف كثيراً عن ترحيل العجائز إلى بيوت المسنين عند انتهاء عمرهم الافتراضي الإنتاجي، حيث يُترَكون في أمان ليموتوا عن طريق التبريد البطيء المريح.
14 ـ ويمكن اعتبار الجنس العَرَضي (أي أن يعاشر الذكر الأنثى دون وجود علاقة عاطفية تتسم بقدر من الثبات بينهما) شكلاً من أشكال التنقل (الترانسفير) من أنثى إلى أخرى، وذلك لأن الأنثى مادة استعمالية لا قداسة لها تُوظَّف لتحقيق اللذة. ولكن يجب أن نسارع ونقول (حتى لا نُتَهم بالتقليل من شأن المرأة) أن الذكر الذي يدخل في مثل هذه العلاقة هو الآخر مادة استعمالية تُوظِّفها الأنثى لتحقيق اللذة لنفسها، فثمة مساواة كاملة تؤدي إلى التسوية الكاملة وإلى سيادة المرجعية المادية الصارمة على الجميع.(2/238)
15 ـ يتحدثون في الغرب الآن عن «التفضيل أو الميل الجنسي» (بالإنجليزية: سكشوال بريفيرنس sexual preference) بدلاً من الطبيعة الجنسية الثابتة للإنسان، بمعنى أن الإنسان يختار الممارسات أو الهوية الجنسية التي يميل لها. فإذا كان المرء ذكراً، فيمكنه أن يمارس الجنس مع ذكر مثله، فهو جنسمثلي أو شاذ جنسياً (بالإنجليزية: هوموسكشوال homosexual) مثل فوكوه الفيلسوف الفرنسي. وإذا كان المرء أنثى، فهي تمارسه مع أنثى مثلها، فهي مساحقة (بالإنجليزية: لزبيان lesbian) مثل كثير من زعيمات حركة التمركز حول الأنثى. وهناك من يفضل الآن ممارسة الجنس مع الحيوانات (بالإنجليزية: زوفيليا zoophilia) ، ويُقال إن فيلسوف النفعية جريمي بنتام كان يحب ملاعبة القرود بطريقة جنسية، كما أن هناك من يفضل ممارسة الجنس مع الأطفال (بالإنجليزية: بيدوفيليا pedophilia) كما يُقال عن مايكل جاكسون. ويمكن إضافة أذواق غير معروفة في البلاد المتخلفة، مثل «ترانسفستايت transvestite» وهو الميال إلى ارتداء أزياء الجنس الآخر والتشبه بسلوكه، و «أندروجيناس androgynous» وهو الخنثى الذي لا يمكن تصنيفه ذكراً أو أنثى (ويؤكد مايكل جاكسون هذا المظهر في هويته) . وهناك «ترانس سكشوال transsexual» وهو شكل طريف جداً بدأ يظهر مؤخراً في الغرب، فهو مثلاً رجل يصر على أن يكون امرأة، بل يحاول أن تُجرَى له عملية جراحية ليصبح من الجنس الآخر (والعكس بالعكس) . وكل من شاهد فيلم "صمت الحملان" رأى عيِّنة من ذلك، فالمجرم الذي اختطف الفتاة يحاول أن يخيط لنفسه بدلة من جلدها (وجلد غيرها من الإناث) حتى يصبح له ثديان مثل الإناث تماماً (ويُلاحَظ ظهور السابقة «ترانس» في بعض الكلمات) . ونضيف إلى هذه القائمة الترانسفيرية «أسكشوال asexual» وهو المحايد جنسياً تماماً. وهناك أخيراً (حتى لا ننسى الأصل) «هيتروسكشوال heterosexuel» وهم البشر التقليديون العاديون الذين يختارون أن يشتهوا(2/239)
أعضاء من الجنس الآخر (وإذا أردنا أن نتوخى الدقة تماماً، فإن علينا أن نُسقط كلمة «الأصل» لأن المساواة تحت رايات ما بعد الحداثة تصل إلى درجة إنكار الأصل والمركز تماماً) .
16 - وإذا كان الترانسفير قد انطبق على أمور لا يزال بعضنا يظنها جوهرية وطبيعية وفطرية مثل الجنس، فإنه ينطبق من باب أولى على التنظيم الاجتماعي. ويُلاحَظ أن الأسرة قد اختلفت أشكالها (تماماً مثل الميول الجنسية) ، ففي الماضي كان هناك الأسرة الممتدة التي تضم ثلاثة أجيال ثم انكمشت إلى الأسرة النووية التي تضم رجلاً وزوجته وطفليهما (ويستحسن أن يكون الطفلان ذكراً وأنثى حتى يتمكن المجتمع من إعادة إنتاج نفسه) . أما الآن، فقد أصبحوا (في الولايات المتحدة) يسمون الأسرة النووية «الأسرة الأساسية» (بالإنجليزية: كور فاميليcore family) ويشيرون إلى أنماط أخرى من الأسر. ويُلاحَظ أن هذه الأسرة الأساسية أصبحت أقلية إذ توجد أنواع أخرى، مثل: أب مع أطفاله ـ أم بمفردها مع أطفالها ـ أب وعشيقته مع أطفاله/أو أطفالها أو أطفالهما ـ أم وعشيقها مع أطفالها/أو أطفاله أو أطفالهما ـ أم وصديقتها مع أطفالها أو أطفالهما ـ أب وصديقه مع أطفاله أو أطفالهما. وقد قرأنا منذ عدة شهور عن أسرة من نوع الكور فاميلي الثابت الراسخ، إلا أن تعديلاً طفيفاً دخل عليه إذ انضم للأسرة عشيق الأب ووافقت الأم على ذلك (فمن الواضح أنها تتمتع بعقلية ترانسفيرية منفتحة) وأصبح تركيب الأسرة على النحو التالي: أم وأب وصديقه وأطفالهم (أي سقط المثنى وسقطت الثنائية والمركزية والمرجعية) .(2/240)
17 ـ ويصل الترانسفير إلى قمته ويتم تكريسه تماماً عندما يختفي مفهوم الطبيعة البشرية في العلوم الإنسانية الغربية (كيف يمكن أن يقوم مثل هذا المفهوم في مثل هذا المجتمع؟) ويصبح من الرجعية بمكان الاهتمام بأية مطلقات أو ثوابت إنسانية أو مرجعية. فالإنسان هو مجموعة من العلاقات المادية المتغيرة التي يمكن تعريفها إجرائياً وحسب.
18 ـ كما يصل الترانسفير إلى قمته، على مستوى الممارسة، فيما يُسمَّى بتنميط المجتمع (بالإنجليزية: ستاندردايزيشن standardization) ، وهو أن يتم تنميط السلع في المجتمع وإخضاعها للنموذج الميكانيكي. وبعد أن يتم تنميط الحياة المادية (البرانية) ، يبدأ تنميط الحياة النفسية (الجوانية) . ويظهر هذا فيما نسميه «صناعة اللذة» التي تقوم بتنميط أحلام الإنسان ورغباته وتطلعاته وشهواته من خلال الأفلام والإعلانات والمجلات الإباحية وغير الإباحية. وعملية التنميط تعبير منطقي عن عمليات الترشيد في إطار المرجعية المادية. ومع تنميط حياة الإنسان البرانية والجوانية، نكون قد وصلنا إلى الترانسفير الكامل للإنسان، ليصبح كزجاجة الكوكاكولا أو قطعة الغيار، فيمكن نقله من مكان إلى آخر، ويمكن التخلص منه دون أي إحساس بالمأساة أو الملهاة، وهذه هي اليوتوبيا التكنولوجية الكاملة أو الفردوس الأرضي أو نهاية التاريخ.(2/241)
19 ـ والنظام العالمي الجديد هو تعبير عن تَصوُّر العالم الغربي أن إبستمولوجيا الترانسفير والمرجعية المادية قد هيمنت تماماً على العالم بأسره، وأنها قد غزت البلاد والشعوب والعقول كافة (أو على الأقل عقول النخب الحاكمة) وأن الجميع على استعداد لأن يغير قيمه بعد إشعار قصير، وعلى استعداد لاستبعاد القيم الأخلاقية مثل الكرامة والتمسك بأرض الأجداد والدفاع عن المطلقات. فمثل هذه القيم تجعل نقل الأنماط الاستهلاكية، وانتقال رأس المال (في شكل الشركات متعددة الجنسيات) ، وتنفيذ توصيات البنك الدولي، أمراً صعباً. ويتوهم الغرب أننا قد وصلنا لهذه المرحلة التي تُستبعد فيها القيم الثابتة بسهولة ليتبنى المرء أية قيم أخرى. وقد جاء شمعون بيريس، حينما كان يشغل منصب وزير خارجية إسرائيل، إلى القاهرة وجلس مع بعض المثقفين المصريين وأخبرهم بأن المسألة كلها تجارة في تجارة، فالجميع يدورفي إطار المرجعية المادية. فالديموقراطية تجارة، والأوطان بوتيكات وفنادق، والإنسان وحدة اقتصادية يمكن نقلها (ترانسفير) . وكما قال أحد المثقفين المصريين "كل الدول تود أن تكون سنغافورة"، وهي بلد لا تشتهر بهويتها أو قيمها أو إسهاماتها الحضارية، وإنما بالسوبرماركتات والمقدرة المذهلة على البيع والشراء، أي أنه بلد يدور تماماً في إطار المرجعية المادية.(2/242)
20 ـ يمكن أن نتوجه لقضية علاقة الدال بالمدلول لندرك مدى تغلغل مفهوم الترانسفير في أكثر الأشياء ثباتاً، أي اللغة الإنسانية. فمنذ عصر النهضة في الغرب، كان ثمة إيمان عميق بأن كل شيء خاضع للتغير، ولا يوجد ثابت سوى قانون الحركة. ولابد من الإيمان المطلق والثابت بضرورة التغيير (فهذه هي حضارة التقدم) . ويُعبِّر هذا عن نفسه في فلسفة مثل الداروينية والنيتشوية حيث يصبح العالم كياناً متطوراً متغيراً ولا يوجد فيه ثبات إلا للقوة، فمن خلال القوة يستطيع الإنسان أن يفرض المعنى الذي يريده. وقد بيَّن هوبز أن الدولة هي المعرِّف الأكبر (بالإنجليزية: جريت ديفاينر great definer) ، فمن خلال سطوتها يمكنها أن تمنح الدلالة للكلمات، فكأن الدال لا علاقة له بالمدلول إلا من خلال القوة. وهناك الجانب الآخر من نفس القضية وهو البرجماتية (نيتشوية الضعفاء) ، وهي فلسفة تدعو للتكيف الدائم مع الأمر الواقع. كما أن هذه المرونة الترانسفيرية تعني تَقبُّل تعريف الأقوياء للكلمات، بل إعادة تسميتها حتى تكتسب شرعية جديدة، ومن ثم تصبح «فلسطين» «إسرائيل» وتصبح «الضفة الغربية» «يهودا والسامرة» . وينطبق نفس الشيء على كثير من الظواهر التي يتكيف معها المهزومون ممن لا حول لهم ولاقوة. فالأطفال غير الشرعيين كانوا يُسمَون بهذا الاسم. ولكنهم، من خلال التكيف، أصبحوا يسمون «أطفال أم غير متزوجة» (بالإنجليزية: أنويد مذر unwed mother) ، ثم أصبح يُطلَق عليهم «أبناء أسرة ربها إما أب أو أم» (بالإنجليزية: سنجل بيرنت فاميلي single parent family) ، ثم اكتسبوا أخيراً اسماً حتمياً لطيفا هو «أطفال طبيعيون» (بالإنجليزية: ناتشورال بيبيز natural babies) ، وهو أمر يعني أن الحادث تم قيده ضد مجهول أو أنه ثمرة الطبيعة/المادة. وأخيراً أصبحوا يسمون «لاف بيبيز love babies» وهي عبارة إنجليزية مبهمة. فكلمة «love» الإنجليزية تعني «حب» كما تعني «جنس» (كما في عبارة(2/243)
«تو ميك لاف to make love» الإنجليزية، والتي يترجمها بعض البلهاء بعبارة «يتعاطى الحب» مع أنها تعني في واقع الأمر أموراً لا علاقة لها بالحب أو الكره) ، ومن ثم فهم «أبناء الحب/الجنس» . ومهما كان المعنى المقصود، فإن العبارة الجديدة تُخفي الأصول وتجعل ظاهرة الأطفال غير الشرعيين ظاهرة طبيعية تماماً، أي أن الانتقال (الترانسفير) تم من الحرام والحلال إلى الحياد، تماماً مثلما أصبحت البغيّ «عاملة جنس» (بالإنجليزية: سكس وركر sex worker) . وأثناء هذه العملية، تنحل علاقة الدال بالمدلول تماماً.
21 ـ ومادمنا نتحدث عن الترانسفير المعرفي الإبستمولوجي، فيمكن أن نُعرِّف الترانسفير بأنه أولاً هيمنة المرجعية المادية (في عصر الثنائية الصلبة) ثم اختفاء المرجعية والمركز، أية مرجعية وأي مركز، بحيث لا يكون هناك هامش أو مركز، ولا قمة ولا قاع، ولا داخل ولا خارج، ولا فارق بين إنسان وحيوان، ولا علاقة ضرورية بين دال ومدلول (يتحدث أنصار ما بعد الحداثة عن رقص الدوال) . وهذا وصف دقيق لعالم ما بعد الحداثة حيث لا يمكن لكائن أن يشغل مكاناً متميِّزاً، وحيث كل الأمور متساوية وكل الظواهر نسبية، وحيث الأصل والصورة هما شيء واحد، وحيث يمكن أن يحل شيء محل شيء آخر وتحل كلمة محل كلمة أخرى. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن ما بعد الحداثة هي أيديولوجيا النظام العالمي الجديد حيث ينزلق الجميع من السوق إلى المصنع، ومن المصنع إلى السوق، تماماً كما بشَّر بذلك وزير خارجية إسرائيل.
نهاية التاريخ(2/244)
«نهاية التاريخ» (بالإنجليزية: إند أوف هستوري end of history) عبارة تعني أن التاريخ، بكل ما يحويه من تركيب وبساطة، وصيرورة وثبات، وشوق وإحباط، ونبل خساسة، سيصل إلى نهايته في لحظة ما، فيصبح سكونياً تماماً، خالياً من التدافع والصراعات والثنائيات والخصوصيات، إذ إن كل شيء سيُردُّ إلى مبدأ عام واحد يُفسِّر كل شيء (لا فرق في هذا بين الطبيعي والإنساني) . وسيُسيطر الإنسان سيطرة كاملة على بيئته وعلى نفسه، وسيجد حلولاً نهائية حاسمة لكل مشاكله وآلامه.
ونحن نرى أن هذا المصطلح ينتمي إلى عائلة كاملة من المصطلحات الأخرى التي تصف بعض جوانب منظومة الحداثة الغربية والتي تعني انتهاء شيء ما والقضاء عليه، وهذا الشيء في غالب الأمر هو الجوهر الإنساني، كما نعرفه، وكما ظهر مُتعيِّناً في التاريخ. وقد أشرنا لبعضها في المداخل السابقة، ولكن أهمها هو مصطلح «دي كونستراكت deconstruct» بمعنى «يفكك» أو «يقوِّض» . كما يمكن أن نضع مصطلح «نهاية التاريخ» مع المصطلحات التي تبدأ بالكاسحة «post» والتي تعني حرفياً «بعد» ولكنها تعني في واقع الأمر «نهاية أو تَحوُّل جوهري كامل» مثل: «بوست مودرن post-modern» بمعنى «ما بعد الحداثة» ، و «بوست إندستريال post-industrial» بمعنى «ما بعد الصناعي» ، و «بوست كابيتاليست post-capitalist» بمعنى «ما بعد الرأسمالي» وأخيراً «بوست هيستوريكال post-historical» بمعنى «ما بعد التاريخ» التي تعني في واقع الأمر «نهاية التاريخ» .(2/245)
ويُلاحَظ ـ ابتداءً ـ أن ثمة اختلافاً عميقاً بين مفهوم نهاية التاريخ (الحلولي الدنيوي) ومفهوم يوم القيامة (التوحيدي) . فيوم القيامة نقطة تقع خارج الزمان، في الآخرة، يتجه نحوها الزمان ويتم فيها الحساب. وهو ما يعني أن الزمان التاريخي لن يصبح في يوم من الأيام خالياً من الصراع والتدافع، أي أن ثمة ثنائية لا تُمحى ولا تُردُّ إلى غيرها وأن التاريخ رغم فوضاه له هدف وغاية. أما نهاية التاريخ، فتتحقَّق داخل الزمان الإنساني وعلى الأرض، حين يؤسِّس الإنسان الفردوس (صهيون ـ مملكة المسيح ـ المهدي المنتظر ـ اليوتوبيا التكنولوجية) داخل الزمان، فهو فردوس مادي أرضي. ولذا يمكن القول بأن نهاية التاريخ تعني في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني المركب، بكل ما فيه من تعاريف وتدافع، كي يبدأ تاريخ بسيط أحادي يتسم بالانتظام الشديد (تشبه بنيته بنية التاريخ الطبيعي) .(2/246)
والنظم الحلولية (الروحية والمادية) نظم مغلقة، تُفضي إلى نهاية التاريخ، ففي وحدة الوجود الروحية يحل الإله في الطبيعة وفي الإنسان فيستوعبهما في ذاته ويصبح كل شيء تعبيراً عن الإله وتجسيداً له (ولا موجود إلا هو) ، فينتهي التاريخ ويُلغى الزمان ويتحول إلى دورات متكررة؛ بداياته تشبه نهاياته، وتشبه كل دورة كونية الدورات الأخرى (فهو عود أبدي رتيب) . أما في إطار وحدة الوجود المادية، فإن الإله يحل في الإنسان والطبيعة ويُستوعَب فيهما، ويصبح لا وجود له إلا من خلالهما. ثم تُعاد تسميته ليصبح «قانون الحركة» أو «قانون الضرورة» أو «قوانين الطبيعة/المادة» ، التي يُردُّ لها كل شيء، ومن ذلك الظواهر الإنسانية، (ولا موجود إلا هي) . ومن يعرف هذه القوانين يصل إلى المعرفة التي تمكِّنه من التحكم في العالم وفي إنهاء التاريخ الإنساني والزمان وفي بدء التاريخ الطبيعي وتأسيس الفردوس الأرضي. فكأن وحدة الوجود الروحية تتحول، من خلال إعادة التسمية، إلى وحدة وجود مادية، معادية للإنسان ولاستقلاله عن عالم الطبيعة/المادة من حوله، ومعادية للتاريخ، مجال حرية الإنسان وساحة نجاحه وفشله.(2/247)
وتتضح وحدة الوجود الروحية في العقائد المشيحانية (المهدوية) الدينية، فالعقيدة المشيحانية ـ على سبيل المثال ـ تضع اليهود في مركز التاريخ، ويدور التاريخ البشري بأسره (تاريخ اليهود وتاريخ الأغيار) حولهم. ويتركز الغرض الإلهي في اليهود (شعب الله المختار) الذين سيُعانون كل الآلام إلى أن يأتي الماشيَّح ويقضي على أعدائهم ويضع حداً لآلامهم فيجمعهم من شتات الأرض ويعود بهم إلى صهيون ليؤسس مملكته هناك حيث يتحقق السلام الكامل والفردوس الأرضي. إلا أن التاريخ، كما يقول المفكر الصهيوني موسى هس، سيصبح مثل الطبيعة في العصر المشيحاني (سبت التاريخ أو نهايته) ، ويصبح الإنساني والتاريخي في بساطة الطبيعي. وبالفعل لن يشهد العصر المشيحاني الألفي إصلاح المجتمع الإنساني وحسب وإنما سيشهد أيضاً تَحوُّل قوانين الطبيعة ليتم التوافق الكامل بين الطبيعة والإنسان.(2/248)
وتضع النظم التي تدور حول وحدة الوجود المادية، هي الأخرى، نهاية للتاريخ، فمن البداية يُفسَّر التاريخي والاجتماعي والإنساني في إطار الطبيعي/المادي ويُردُّ كل شيء إلى الطبيعة/المادة. وإذا كان هناك مشيحانية (مهدوية) تدور في إطار وحدة الوجود الروحية فهناك أيضاً مشيحانية دنيوية، علمية أو علموية، تدور في إطار وحدة الوجود المادية. فهناك من يرى أن المعرفة العلمية هي المعرفة التي ستمكِّننا من السيطرة على قانون الضرورة وتأسيس صهيون العلمية، أي اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية. ويَصدُر هؤلاء من رؤية علمية (أو علموية) ضيقة تدور في إطار السببية الصلبة، ويتصورون أن العلم سيؤدي إلى معرفة يقينية شاملة كاملة. (ومن المفارقات أن كل هذه التصورات فقدت مصداقيتها في الأوساط العلمية التي أصبحت تدرك لاتَحدُّد العلوم الطبيعية واحتماليتها. ومع هذا، لا تزال مثل هذه التصورات سائدة في بعض الأوساط بين دارسي العلوم الإنسانية التي لا تزال تتبنَّى منظوراً علمياً سببياً صلباً عفى عليه الزمان)
إن إشكالية نهاية التاريخ إشكالية كامنة في الفكر الديني والفلسفي الغربي، ولكنها تحولت إلى موضوع أساسي في الحضارة الغربية منذ عصر النهضة. واتضحت بشكل متبلور مع ظهور فكرة اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، التي تنسلخ عن التاريخ الإنساني لأنها تُدار وفق العقل الذي يُدرك القانون أو العلم الطبيعي الذي لا علاقة له بالقوانين الاجتماعية والتاريخية والإنسانية (لأن قوانين العقل تماثل قوانين الطبيعة) ، فاليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية، من ثم، تعبير عن رغبة حقيقية وصادقة في وضع الحلول النهائية لكل المشاكل وتأسيس الفردوس الأرضي وإنهاء التاريخ.(2/249)
ويوتوبيا عصر النهضة في الغرب هي إرهاصات لهذا الفكر التكنوقراطي الحديث والرغبة في التحكم الكامل النابعة من الرؤية الواحدية المادية. ومن أهم هذه اليوتوبيات يوتوبيا سير توماس مور (1478 ـ 1535) الذي وصف نظاماً تسوده الملكية العامة وعلاقات المساواة والتسوية وتُلغَى فيه مؤسسة الأسرة. ومن اليوتوبيات الأخرى، يوتوبيا توما كمبانيلا (1568 ـ 1639) الذي صوَّر مجتمعاً طوباوياً اشتراكياً في كتابيه دولة المسيح ومدينة الشمس تسقط فيه الملكية الخاصة وتنتهي الأسرة وتقوم الحياة الجماعية وتنتهي الفردية تماماً، إذ يتم تخطيط كل شيء ومراقبة كل الأفراد والوفاء بحاجاتهم المادية والروحية، وهو ما يريح الإنسان من عبء المسئولية والاختيار ويحل المشكلات والتناقضات الاجتماعية والتاريخية كافة. ومدينة الشمس انعكاس لعالم الطبيعة، التي لا يحكمها سوى القوانين الطبيعية، وأعظم الرجال هو من يفهم هذه القوانين ويوظفها. ويحكم كل هذا الساحر/الكاهن (العالم والتكنوقراط) الذي يوجِّه حياة المدينة لتكون على وفاق تام مع الكون والطبيعة. ولذا، كان من الهموم الأساسية للمدينة تحديد اللحظة المناسبة (من الناحية الفلكية) التي يعاشر فيها الذكر الأنثى حتى تضمن أن يولد طفل صحيح (من الناحية البدنية) متوازن (من الناحية النفسية) ، أي أن مدينة الشمس يوتوبيا علمية كاملة، رحم اجتماعي جمعي، يتم فيه التحكم في ظاهر الإنسان وباطنه (ومن المثير أن كامبانيلا كان يؤمن بمقدراته المشيحانية، فكان يعتقد أن النتوءات السبعة على وجهه تمثل السماوات السبع، أي أن له علاقة بالقوى الكونية. كل هذا يجعله رائداً للشخصيات الكاريزمية النيتشوية الحديثة مثل روبسبيير وهتلر وستالين المرتبطين باليوتوبيا التكنولوجية والتكنوقراطية) . أما يوتوبيا سير فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626) أطلانطيس الجديدة، فهي يوتوبيا علمية نماذجية إذ يحكمها العلماء وأصحاب الخبرة (من بيت سليمان) حيث(2/250)
توجه الدولة كل شيء ولا يوجد مجال للتناقضات والاختلافات.
ورغم أن كل هذه اليوتوبيات متفائلة فإنها وثيقة الصلة بكتاب هوبز التنين، حيث قدَّم هو الآخر رؤية للدولة التي يمكنها أن تتحكم في كل شيء، وتُوجِّه كل شيء، وتضع حلولاً نهائية لسائر المشاكل، ولذا فهي تحل محل الضمير الشخصي. والفارق أن هوبز كان يرى أن إمكانية الإنسان للشر ضخمة، أما اليوتوبيون فلم تكن عندهم نظرية في الشر. وتتبدَّى الرغبة نفسها في إنهاء التاريخ في الفكر المادي الرياضي الآلي الذي يرفض تنوُّع التاريخ وجدليته ويُحل محله عالماً بسيطاً آلياً يتحرك كالآلة أو الساعة الدقيقة (صورة نيوتون المجازية) ، وتتحرك فيه الأجسام الإنسانية كالأحجار المندفعة (صورة إسبينوزا المجازية) ، ويصبح عقل الإنسان صفحة مادية بيضاء (صورة لوك المجازية) ، ويصبح الإنسان في نسق الآلة وبساطتها (صورة جوليان دي لامتري المجازية)(2/251)
ويظهر رفض التاريخ الإنساني بطريقة أكثر صقلاً في فكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من تأكيد أن التاريخ نشاط إنساني، فهو ثمرة جهد عقل الإنسان ومستودع حكمته. ولذا فهناك نزعة في فكر الاستنارة لتمجيد التاريخ وتقديسه. ولكن العكس صحيح أيضاً فقوانين العقل هي نفسها قوانين الطبيعة والمادة والحركة، والعقل المستنير لا يستمد معياريته من التاريخ أو الحضارة أو المجتمع وإنما من خلال الدراسة العلمية الصارمة لقوانين الطبيعة والمادة والحركة. ولذا بدلاً من الغائية التقليدية التي ترى أن التاريخ يسير بتوجيه إلهي، طُرحت فكرة جديدة تماماً على الفكر البشري وهي أن التاريخ يتحرك إما دون غائية، فهو حركة دون هدف (تماماً مثل الطبيعة/المادة) ، أو أن غائيته مثل معياريته مستمدة من الطبيعة/المادة. وغني عن القول أن الرؤية الأولى تنسف فكرة التاريخ تماماً. أما الرؤية الثانية فقد ترجمت نفسها إلى رؤية للتاريخ باعتباره عملية تَقدُّم دائمة، ولكنه تَقدُّم مرجعيته النهائية الطبيعة/المادة، وهدفه النهائي تَحقُّق قوانينها في التاريخ، ومن ثم يصبح التقدم تزايد تطبيق القوانين الطبيعية إلى أن تسود هذه القوانين تماماً (ويصبح المجتمع الإنساني في بساطة عالم الطبيعة ويحل التاريخ الطبيعي محل التاريخ الإنساني) .
وقد عبَّرت هذه الرؤية الاستنارية عن نفسها في كل من الهيجلية والفلسفات التي ثارت على الهيجلية. ولنبدأ بالفلسفات المعادية للهيجلية فرفضها للتاريخ أمر واضح، فهي فلسفات تنكر فكرة الجوهر والكل والمركز والسببية وأي شكل من أشكال اليقينية أو الثبات، بل تنكر الغائية نفسها، فيصبح العالم في حالة حركة دائمة خالية من المعنى والهدف والغاية، ومن ثم لا يمكن أن تقوم للتاريخ قائمة.(2/252)
وإذا كان عداء الفلسفات المعادية للهيجلية للتاريخ أمراً واضحاً، فالأمر مختلف بعض الشيء بالنسبة للهيجلية التي تتحدث كثيراً عن التاريخ وحتمياته وقوانينه ومراحله وأنماطه. ولكنها مع هذا، في تصوُّرنا، لا تقل في عدائها للتاريخ عن المدارس المعادية للهيجلية. فالفلسفة الهيجلية تفترض أن ثمة فكرة ليس لها وجود مادي أو نسبي، هي التي تحرك التاريخ والمجتمع والإنسان والطبيعة. ويُطلَق على هذه الفكرة عدة أسماء: الفكرة المطلقة ـ العقل المطلق ـ الروح بشكل عام (جايست) ـ الروح اللامتناهي. ولكن المطلق ليس سكونياً، فهو لن يُدرك نفسه إدراكاً كاملاً ولن يتحقق تحققاً كاملاً إلا في الطبيعة والزمان والتاريخ، وذلك عبر عملية جدلية تتداخل فيها المتناقضات وتتحدد من خلالها الأضداد، إلى أن يصبح الفكر طبيعة، وتصبح الطبيعة فكراً. وهذه الوحدة الكونية النهائية ممكنة لأن قوانين الفكر هي في واقع الأمر قوانين المادة، وقوانين المنطق (العقل) هي في واقع الأمر قوانين الطبيعة. كل هذا يعني أن الفلسفة الهيجلية، رغم كل حديثها عن التاريخ والجدل والتناقض، فلسفة واحدية تسد الثغرة التي تفصل بين الإنساني والطبيعي وتلغى ثنائية الفكر والمادة والحضارة والطبيعة، ومن ثم تمحو الإنسان كظاهرة متفردة مستقلة عن الطبيعة. ولهذا قيل عن حق إن الهيجلية فلسفة لا تعرف الثنائيات ولا تفصل بين المادي والمثالي، أو بين الطبيعي والإنساني، أو بين المقدَّس والزمني، إذ سيُردُّ كل شيء إلى عنصر واحد، مادي فعلاً روحي اسماً. والفكر الهيجلي لا ينظر إلى الواقع إلا من منظور نهاية التاريخ حين يتجسد العقل الكلي ويتحقق القانون العام في التاريخ، في لحظة ينتهي فيها الجدل والمعاناة الإنسانية، إذ يصل الإنسان إلى الحل النهائي لكل مشاكله، ويُحكم السيطرة على كل شيء. ولكن من المفارقات أن لحظة السيطرة الكاملة هذه هي أيضاً لحظة انتصار البسيط على المركب والطبيعي على(2/253)
الإنساني.
وقد استخدَمتُ مصطلح «نهاية التاريخ» لأول مرة عام 1965 حينما كنت أكتب رسالتي للدكتوراه عن الشاعر الأمريكي وولت ويتمان الذي وصفته بأنه شاعر حلولي صوفي مادي يعادل بين الروح والمادة ويقرن بينهما (على طريقة هيجل) . وهو يتغنى بالمادة والجنس والكهرباء والجاذبية الأرضية التي يرى أنها تشبه الجاذبية الجنسية. فالإنسان ما هو إلا جزء لا يتجزأ من الكون ووعيه لا يتجاوز الطبيعة، بل عليه أن يتكيف معها ويذعن لها. كما أن إيمان ويتمان المطلق بالطبيعة (وعداءه للإنسان المركب التاريخي) يترجم نفسه إلى عداء للتاريخ يتضح في محاولته الوصول إلى نهاية التاريخ وإلى اليوتوبيا التكنولوجية. كان ويتمان يرى أن أمريكا هي هذا الفردوس الأرضي الذي يبدأ فيه التاريخ الطبيعي وتسود فيه قوانين الطبيعة/المادة، قمة كل التطور التاريخي السابق، فهي دولة العلم والتكنولوجيا التي ستهدم التاريخ وتعلن نهايته (وذلك قبل أن يتحدث فوكوياما في نهاية الثمانينيات عن التلاقي الكامل أو عن انتصار الليبرالية التي تؤدي إلى نهاية التاريخ) . وكما يقول ويتمان "جوهر المثالية [الأمريكية] هو علموة to scientize الروح والشرائع اليونانية"، أي صبغها بالصبغة العلمية أو فرض قوانين علمية (تم استخلاصها من عالم الطبيعة) عليها حتى يدير الإنسان حياته من خلالها بطريقة علمية (وهذا هو أساس فكرة وحدة العلوم واليوتوبيا التكنولوجية) . ويظهر التاريخ كجثة هامدة في شعر ويتمان الذي تسود فيه رؤية واحدية يُردُّ فيها التاريخ بأسره إلى مبدأ واحد هو الطبيعة/المادة ـ "القانون الذي لا يتغيَّر"؛ "الحتمي مثل قوانين الشتاء والصيف، والنور والظلام! ".(2/254)
وشعر ويتمان مفعم بهذه "الرغبة في العودة"، الحرفية والمادية والدائمة، إلى الطبيعة. وكثير من قصائد ويتمان تبدأ بالابتعاد التدريجي عن الحضارة والاقتراب المتزايد من الطبيعة إلى أن يلتحم بها تماماً، ويصل إلى اللحظة النماذجية، لحظة ذوبان الذات الإنسانية في الطبيعة المادية، وهي عادة ما تكون لحظة قذف جنسية (مع محب من جنسه) يُعلن فيها تحرُّره من عبء التاريخ ومن التدافع ومن الحضارة والهوية، فهي لحظة نهاية التاريخ وتحقُّق الفردوس الأرضي.
ثم استخدَمتُ مصطلح «نهاية التاريخ» بشكل أكثر شمولاً في كتابي نهاية التاريخ (عام 1972) ، لوصف النماذج الحلولية الواحدية المادية الشاملة التي تترجم نفسها في عالم السياسة إلى نظم طوباوية شمولية فاشية. وبيَّنت أن مثل هذه النماذج تحوي داخلها دائماً " قابلية لإعلان نهاية التاريخ، فما هو مجهول ليس بغيب وإنما هو أمر غير معروف بشكل مؤقت. إذ من المتوقع أن يكتشف الإنسان بالتدريج قوانين الحركة خلال عشرات السنين من المحاولة والخطأ، وستنكمش رقعة المجهول تدريجياً وتتسع رقعة المعلوم، وسينحسر الجهل بالتدريج مع تزايد الترشيد والاستنارة إلى أن نصل في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر والتاريخ " إلى نقطة التوهج الأخيرة والرشد الكامل بحيث يصبح كل شيء واضحاً، وتوضع الحلول النهائية لجميع المشاكل ويتم التحكم في كل شيء، ويتم تفسير كل شيء في ضوء القانون العام فتُمحَى الثنائيات والمطلقات ويختفي الإنسان. ومن ثم، فإن نقطة التوهج هي في الواقع نقطة الاحتراق، وهي أيضاً نقطة نهاية التاريخ ونهاية الإنسان باعتباره كائناً مركباً متعدد الأبعاد لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة، وهي أيضاً النقطة التي سيظهر فيها إنسان جديد رشيد يعيش حسب قوانين الطبيعة المادية العلمية، ومن ثم فهو خاضع للتحكم العلمي.(2/255)
وقد تناولتُ الموضوع مرة أخرى في مقدمة كتاب الفردوس الأرضي (1979) ، حيث تحدثت عن الإنسان الطبيعي والإنسان التاريخي، وبيَّنت أن الإنسان الطبيعي إنسان لا حدود له، يرفض الحدود التاريخية، هو إنسان روسو الحر الفرح الآمن الذي يتحول إلى إنسان داروين المتجهم الذي تأكله الذئاب من الحيوانات الطبيعية أو من البشر الطبيعيين (وقد تحوَّل أخيراً إلى كلب بافلوف المسكين، القابع في المعمل، لا باطن له، لا يتحرك إلا بعد تلقِّي الإشارات البرانية) . وقد أشرت إلى أن الإنسان التاريخي يتسم بالثنائية "فالإنسان يعيش في التاريخ، يفصل بين المطلق والنسبي ويبحث عن المطلق خارج التاريخ، إذ أن التاريخ لا نهاية له، ولن نصل بتاتاً إلى لحظة السكون التي يتحقق فيها الفردوس الأرضي وينتفي فيها الجدل ويتداخل فيها المطلق والنسبي ويصبح التاريخ دائرياً مثل الطبيعة". وقد ربطت هذه النزعة الفردوسية اللاتاريخية بما سميته حينذاك «الغيبية العلمية» التي تدَّعي لنفسها احتكار الحقيقة المطلقة وتنسب لنفسها القدرة على تحقيق الفردوس "الآن وهنا" بإشباع كل رغبات البشر، ذلك إن استسلم الناس لها "وأسلموا لها القياد، متبعين آخر الأساليب العلمية التي لا يعرفها بطبيعة الحال إلا العلماء".
وهذه الرؤية الفردوسية العلمية رؤية "ميكانيكية بسيطة تفترض أن الإنسان كمٌ محض لا يختلف عن الكائنات الطبيعية الأخرى" يعكس بيئته بشكل مباشر وبسيط. وقد وجدت أن هذا التيار ليس مقصوراً على العالم الرأسمالي بل يوجد أيضاً في العالم الاشتراكي. حيث عبَّرت كل هذه المفاهيم "عن نفسها في فكرة «التقدم» السريع والدائم نحو الفردوس العلمي المنظم (اليوتوبيا التكنولوجية) الذي يعيش فيه الإنسان كالأطفال في تناسق تام مع الطبيعة وكأنه آدم قبل السقوط وقبل أن يكتسب معرفة الخير والشر".(2/256)
ويرى بعض المؤرخين أن العصر الحديث هو عن حق عصر نهاية التاريخ، فالحضارة الحديثة المرتبطة بآليات السوق، وبالعرض والطلب، هي حضارة مرتبطة بآليات بسيطة لا تعرف تركيبية الإنسان وتنكر مقدرته على التجاوز، فهو إنسان ذو بُعد واحد (يعيش في مجتمعات أحادية الخط) ، وعقله عقل أداتي (يغرق في التفاصيل والإجراءات، ولا يمكنه إدراك الأنماط التاريخية ولا تطوير وعيه التاريخي) . فالسوق (والمصنع) بآلياتهما البسيطة يتطلبان إنساناً طبيعياً مادياً بسيطاً، لا علاقة له بالإنسان الإنسان، الإنسان المركب. والمجتمعات الاستهلاكية التي لا تحكمها إلا آليات العرض والطلب والاستهلاك والإنتاج تزعم أنها قادرة على إشباع جميع رغبات الإنسان المادية والروحية من خلال مؤسساتها الإنتاجية والتسويقية والترفيهية.(2/257)
ويُلاحَظ في العصر الحديث تَزايُد هيمنة البيروقراطية والتكنوقراطية والتحكم في البشر من خلال الهندسة الوراثية والبيولوجيا الاجتماعية وعمليات الترشيد المتحررة من القيمة، وهذه علامة على شيوع فكرة نهاية التاريخ. وكما قال ألدوس هكسلي متهكماً، واصفاً إمكانيات تكنولوجيا اليوتوبيا والفردوس الأرضي: "في عام 5200 سيحكم الأرض عالم جديد شجاع، مبادئه المساواة والتماثل والاستقرار. وسيكون علم البيولوجيا العلم الأساسي في هذا العالم، سيُمكِّن الإنسان من الحصول (من الحاضنة) على كائنات بشرية متشابهة وفق معايير موحدة. وسيعمل آلاف من التوائم على الآلات نفسها، ويقومون بالأعمال نفسها ... ". ويُعلق علي عزت بيجوفيتش (المفكر المسلم رئيس جمهورية البوسنة) على ذلك بقوله: "في هذا العالم الرائع لن يوجد أناس خاطئون، قد يوجد بعض الأفراد المعاقين، ولكنهم لا يكونون مسئولين عن إعاقتهم، ولا يُعاقَبون عليها [ولذا] سيتم فكهم من الآلة ببساطة. في عالم كهذا، لن يكون هناك خير ولا شر ... ولن يكون هناك إلهام ولا مشكلات ولا شكوك ولا عصيان. هنا يتم القضاء على الدراما وعلى الإنسان وتاريخه، ويرتفع صرح اليوتوبيا".
بل إن نهاية التاريخ أصبحت لأول مرة في تاريخ البشرية إمكانية قائمة بالمعنى الحرفي، فالتلوث الكوني يتزايد إلى درجة تهدد الحياة على وجه الأرض، وقد تراكم لدى البشر كمٌ من الأسلحة يكفي لتدمير العالم أكثر من عشرين مرة. وهذه آلية تكنولوجية رائعة لإنهاء كل من التاريخ والجغرافيا بطريقة رشيدة بسيطة شاملة حديثة لا تسبب ألماً كبيراً ولا تستغرق سوى لحظات، وهي من ثم تحقق حلم الإنسان العلماني الشامل بالتأله الكامل والتحكم الشامل في كل شيء، وضمن ذلك يوم القيامة!(2/258)
ورغم مركزية فكرة نهاية التاريخ (والحلول النهائية والفردوس الأرضي واليوتوبيا التكنولوجية) في الفكر الغربي الحديث عامة فإن حدة الحمى الطوباوية المشيحانية التكنولوجية تختلف من عقيدة لأخرى. فهي خافتة مثلاً في الفكر الليبرالي، ولكنها ولا شك كامنة فيه، فهو فكر يدور حول فكرة التقدم والإيمان بأن ما هو مجهول لابد أن يصبح معروفاً (فلا مجال للمجهول أو للغيب) ، الأمر الذي يعني تَزايُد التحكم (الإمبريالي) في الواقع، إلى أن يصل الإنسان إلى قدر عال من المعرفة العلمية بقوانين الطبيعة، بحيث يمكن تحقيق ما يشبه السعادة الكاملة المخططة المُبرمَجة، أي الفردوس الأرضي.
وإذا كانت الحمى المشيحانية التكنولوجية خافتة في النموذج النفعي العقلاني الديموقراطي الليبرالي، فهي تزداد سخونة في الفكر الماركسي لدى حديثه عن المجتمع الشيوعي، حيث تزول كل الحدود ويتطابق الداخل والخارج ويتحقق الفردوس الأرضي. وتصل السخونة إلى درجة الغليان والانصهار في الستالينية حيث يتم إصلاح العالم بقرارات وزارية وعسكرية مادية جدلية علمية رصينة تطرح الحلول النهائية التي تكفل إزالة جميع العناصر المُقاومة للتقدم وسائر الانحرافات عن المسار الحتمي الواضح المؤدي إلى السعادة الكاملة وإلى تحقيق المجتمع الشيوعي العادل (وقد شبَّه أحدهم نهاية التاريخ بأنه بوليس سري يطرق باب المعارضين) . وفي ألمانيا النازية، كان الرايخ الثالث الترجمة المباشرة للعقيدة الألفية ذات الطابع المشيحاني (وكان المفترض فيه أن يستمر لمدة ألف عام) . ففي الرايخ الثالث كان سيتم القضاء على كل آلام الشعب الألماني ويتم تحقيق الرخاء الأزلي، الأمر الذي كان يتطلب إزالة بضعة ملايين من الأطفال المعوقين والعجزة والغجر والسلاف واليهود ممن لا نفع لهم، فنهاية التاريخ تتطلب بطبيعة الحال الحل النهائي.
النظام العالمى الجديد وما بعد الحداثة ونهاية التاريخ(2/259)
يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء معظم الأيديولوجيات العلمانية الشاملة (النازية ـ الماركسية ـ الليبرالية ـ الصهيونية) هو ما يُسمَّى «التطوُّر أحادي الخط» (بالإنجليزية: يوني لينيار unilinear) ، أي الإيمان بأن ثمة قانوناً علمياً وطبيعياً واحداً للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر والبشرية كافةً، وأن التقدم هو في الواقع عملية متصاعدة من الترشيد المادي، أي إعادة صياغة الواقع الإنساني في إطار الطبيعة/المادة فتُستبعد كل العناصر الكيفية والمركبة والغامضة والمحفوفة بالأسرار، بحيث يتحول الواقع إلى مادة استعمالية بسيطة ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد. ومن ثم يمكن توظيف كل من الواقع المادي والإنساني بكفاءة عالية. ثم تتصاعد عمليات الترشيد (والتنميط والتسوية) إلى أن يتحقق حلم اليوتوبيا التكنولوجية، حين تتم برمجة كل شيء، والتحكم في كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، ظاهره وباطنه (ومن ثم يمكن استنساخه ببساطة) . وعمليات الترشيد تأخذ شكل مراحل تمر بها كل المجتمعات البشرية (ومن هنا ولع الفكر الغربي بتقسيم التاريخ إلى مراحل محددة) .(2/260)
وتصاعُد عمليات الترشيد على مستوى العالم هو العولمة بحيث يصبح العالم كله مادة استعمالية ويصبح كل البشر كائنات وظيفية أحادية البعد يمكن التنبؤ بسلوكها. وتتصاعد معدلات الترشيد إلى أن تصل سائر المجتمعات البشرية إلى نقطة تتلاقى عندها ويسود التجانس الكامل بينها، وهذا ما يُسمَّى أيضاً «نظرية التلاقي» (بالإنجليزية: كونفيرجانس ثيري convergence theory) . والتلاقي هو تَوحُّد النماذج كلها بحيث تتبع نمطاً واحداً وقانوناً عاماً واحداً هو قانون التطور والتقدم بحيث يصبح العالم مُكوَّناً من وحدات متجانسة؛ ما يحدث في الواحدة يحدث في الأخرى. وقد أشار أحد المعلقين إلى أن ما يحدث الآن في العالم هو سقوط الماركسية وبدلاً من الماركسية، ماركسيزم Marxism، ظهرت عبادة السوق ماركتزم Marketism. وعبادة السوق هذه وهيمنتها على العالم بأسره، بشماله وجنوبه وشرقه وغربه، هي في واقع الأمر نقطة التلاقي التي تحدَّث عنها علم الاجتماع الغربي.
وقد تنبأ ماكس فيبر بأن عمليات الترشيد ستؤدي إلى تحويل المجتمع إلى حالة المصنع وإلى إدخاله القفص الحديدي. ونحن نتفق معه تماماً في صورة القفص الحديدي، ولكننا نذهب إلى أن العالم سيحكمه إيقاع ثُلاثيّ: المصنع (حيث ينتج الإنسان) ـ والسوق (حيث يشتري ويبيع) ـ وأماكن الترفيه (حيث يفرغ ما فيه من طاقة وتوترات وعُقد وأبعاد) ، أي أنه إيقاع يستوعب كلاً من الإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني ويشبع جميع رغباتهم البسيطة الطبيعية أحادية البُعْد، التي لا علاقة لها بأي تركيب إنساني.(2/261)
وحينما يسيطر هذا الإيقاع الثلاثي على العالم بأسره يظهر النظام العالمي الجديد وأيديولوجيات نهاية التاريخ وما بعد الحداثة. وهي أيديولوجيات نابعة من الموقف المزدوج لعصر الاستنارة من التاريخ: موقف هيجلي يُقدِّس التاريخ ويؤكد أنه ذا غاية محددة وأنه يصل إلى نهايته حين تتحقق هذه الغاية، وقسم معاد لهيجل يرى أن التاريخ لا غاية له ولا هدف. والتياران، كما سنبين، في تقديسهما وفي عدائهما للتاريخ، ينكرانه.
1 ـ التاريخ يصل إلى نهايته عند تَحقُّق غايته: فوكوياما وهنتجتون:
أ) فوكوياما ونهاية التاريخ:
يرى فرانسيس فوكوياما أن كلاًّ من هيجل وماركس كانا يريان أن التاريخ سيصل إلى نهايته حينما تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع الذي يشبع الاحتياجات الأساسية والرئيسية للبشر، فهو عند هيجل الدولة الليبرالية وعند ماركس المجتمع الشيوعي. ولكن العالم بأسره قد وصل إلى ما يشبه الإجماع بشأن الديموقراطية الليبرالية كنظام صالح للحكم بعد أن ألحقت الهزيمة بالأيديولوجيات المنافسة. وهذا يعود إلى أن الديموقراطية الليبرالية خالية من تلك التناقضات الأساسية الداخلية التي شابت أشكال الحكم السابقة.(2/262)