دور المرأة في تنشئة الأجيال
د. نهى قاطرجي
بسم الله الرحمن الرحيم
دور المرأة في تنشئة الأجيال
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ،
... ينقسم دور المرأة في تنشئة الأجيال تبعاً لانقسام دورها في الحياة ، فهي تلك الأم المكلفة بتربية أبنائها والمسؤولة عن ذلك أمام ربها عز وجل ، وهي تلك المدرِّسة المكلفة بتربية النشء وتنمية دورهم في المجتمع بحيث يصبحوا فاعلين في المجتمع ، علماء ، متخصصين نافعين لأمتهم ، وهي أخيراً تلك الداعية الرفيقة التي تدعو إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، عاملة بذلك على نشر الدين تنفيذاً لأوامر الله سبحانه وتعالى ورغبة في الأجر والثواب الذي وعد به الله عز وجل بقوله : " ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال أنني من المؤمنين "، فصلت ،33.
... والحديث عن دور المرأة في هذه المراحل الثلاث لا ينفي دور الرجل الرئيس في ذلك ، إلا أن التركيز على دور المرأة إنما جاء بسبب بعض الاختلافات بينهما مما يحتم في بعض الأحيان تغيير الخطاب ، ومن هذه الاختلافات اختلاف طبيعة عملهما الذي يحتم تنوع المسؤوليات بتنوع المراحل ، فأمومة المرأة التي تحتم عليها تواجدها الدائم مع طفلها في فترة مبكرة تجعلها أقدر على مهمة تربية الطفل من الأب المنشغل بتأمين الرزق .
ومن هذه الاختلافات أيضاً اختلاف خطاب كل منهما ، إذ أن الرجل وأن كان من الممكن أن يتوجه بالدعوة إلى المرأة ، إلا أن هذه المهمة تبقى منوطة بالمرأة الداعية التي يكثر اختلاطها واتصالها بالنساء مما يجعلها أكثر قدرة على مخاطبتهن والتأثير بهن وتفهم معاناتهن .
... من هنا فإن الخطاب التربوي الذي اعتمدته في هذه المحاضرة هو خطاب لكل من المرأة والرجل معاً ، إلا في بعض النقاط الأنثوية الخاصة التي تفرض تغييراً في هذا الخطاب ليصبح أكثر تخصصياً في شئون المرأة .(1/1)
ومن هنا يمكن تقسيم أنواع التربية إلى ثلاثة أقسام : التربية الأسرية ، التربية المدرسية ، التربية الدعوية ...
أولاً : التربية الأسرية
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم دور الأهل في تربية أولادهم وتأديبهم، فقال عليه الصلاة والسلام : " أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم " ابن ماجة .
... وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم " علِّموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم " أخرجه عبد الرزاق .
... في هذين الحديثين يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية الآباء عن تأديب أبناءهم بالآداب الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتشمل هذه المسؤولية كل ما يتصل بإصلاح نفوس هؤلاء الأبناء "وتقويم إعوجاجهم ، وترفُّعهم عن الدنايا وحسن معاملتهم للآخرين "(1).
لهذا يجمع علماء التربية على أن التربية الناجحة هي تلك التي تسعى إلى تكوين شخصية سليمة فاعلة ومؤثرة تأثيراً كبيراً في سعادة المجتمع وتماسك بنيانه ، ومن هنا فإن هذه التربية يجب أن تقوم على الدعائم التالية :
أولاً : تقوية شخصية الطفل بحيث يجد في جو البيت ما ينمي مواهبه ويصقلها ويعدَّها للبناء والإفادة .
ثانياً : تنمية الجرأة الأدبية في نفس الطفل بحيث يعيش شجاعاً صريحاً جريئاً في آرائه ، في حدود النظام والخير والأدب الإنساني الكريم .
ثالثاً : تقوية روح التعاون والحب في نفسه نحو إخوانه في المجتمع ، حتى يكون من رواد التكافل الاجتماعي في كل ما يعود على الأمة بالقوة والكرامة والأمن والسلام "(2).
__________
(1) عبد الله علوان ، تربية الأولاد في الإسلام ، ص1 ، ص172.
(2) د. مصطفى السباعي ، أخلاقنا الاجتماعية ، ص 157.(1/2)
... وهذه المهمة المنوطة بالأبوين معاً تكون في مراحلها الأولى أكثر التصاقاً بالأم كونها تقضي مع طفلها وقتاً أطول مما يقضيه والده معه ، فهي التي تهتم برعاية شؤونه وتوجيهه ، خاصة أن الطفل يبدو في هذه المرحلة شديد التعلق بها الأمر الذي يسهل عليها مهمتها في زرع أصول العقيدة السليمة في نفسه وتعويده على محاسن الأخلاق ومحمودها وتحذيره من مفاسد هذه الأخلاق ومضارها .
ويؤكد على هذه الحقيقة ما أثبته العلم التربوي الحديث في أن تكوين شخصية الطفل تبدأ في مرحلة مبكرة جداً حتى قبل الولادة ، حين يكون الطفل ما زال جنيناً في بطن أمه ، حتى إذا أتمَّ الطفل الخمس سنوات يكون قد اكتملت شخصيته وتكونت أخلاقه ومبادئه .
... ولتكوين شخصية الطفل المسلم على الأهل بشكل عام والأم بشكل خاص التركيز على ثلاثة أنواع من التربية ، التربية الروحية ، التربية الخلقية والتربية النفسية .
1- التربية الروحية
... إن أول واجب من واجبات الأم تجاه ابنها يقوم على تعليمه شؤون دينه من عقيدة وعبادة وما إلى ذلك من أمور يفترض من الطفل أن يعرفها في مرحلة مبكرة حتى ينشأ وقد اعتاد عليها وألفها ، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر "
كما أن من واجب الأم أن تنمي لدى طفلها القيم والأخلاق الفطرية السليمة التي أوجدها الله سبحانه في نفسه من جهة والعمل على إكسابه الأخلاق الفاضلة التي حثَّ عليها الإسلام ودعا إلى زرعها في النفوس من جهة ثانية ، وهذه المهمة التربوية أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " كل مولد يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه " رواه الطبراني.
فمن هذا الحديث نستنتج أن مسؤولية الأهل التربوية ليست في زرع بذرة الإيمان في النفوس ، فهي في الأصل موجودة ، إنما مسؤوليتهم هي في تنمية هذه البذرة ورعايتها وعدم إهمالها في تلك الفترة المبكرة من العمر .(1/3)
ومن هنا يمكن أن نلخص دور الأهل في التربية الروحية بالتركيز على الأمور التالية :
أ زرع الإيمان
إن أهم مهمة تربوية للأم تتأتى في توثيق عرى الإيمان في نفس طفلها عبر إرشاده إلى دلائل وجود الله سبحانه تعالى ، والتدرج معه منذ الصغر في بيان البراهين التي تدل على وجود الله عز وجل ، وهذا التدرج يكون بالانتقال من الأدلة الجزئية إلى الأدلة الكلية ومن البسيط إلى المركب تدريجياً مع نمو الطفل وقدرته على الاستيعاب ، وهذا الأسلوب يتوافق مع أسلوب القرآن الذي يستخدم في كثير من الأحيان الأدلة البرهانية المبسطة التي تتوافق مع العقول كافة، قال تعالى : " هو الذي انزل من السماء ماء لكم فيه شراب ، وفيه شجر ... وينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات .." النحل ، 10.
وتكمن أهمية إمداد الطفل بالأدلة الثابتة بكونها تكوِّن عنده نضوجاً وإيماناً راسخاً يحميه مستقبلاً من بعض دعاة السوء الذين يحاولون التأثير على العقول وزعزعة الإيمان عن طريق استخدام الأدلة العلمية المعاصرة .
ب-زرع الخشوع والتقوى
إن نجاح الأهل في زرع الإيمان الصحيح في نفوس أطفالهم وبيان قدرة الله سبحانه وتعالى المنتشرة في الكون تكوّن خطوة أولى في بث روح الخشوع والتقوى في نفس الطفل ، أما الخطوة الثانية فتأتي عن طريق تعليم الصبي الخشوع في الصلاة وبيان أهميته وفضيلته التي قال عنها الله تعالى : " قد أفلح المؤمنون الذين هم عن صلاتهم خاشعون " المؤمنون 1-2 .
وتلعب التربية بالقدوة دوراً كبيراً في هذا المجال ، إذ أن الطفل الذي يحاكي ويتقلد الآخرين يستطيع أن يقلد أمه الخاشعة التقية التي تعطي لولدها المثل الحي عن كيفية مخافة الله وخشيته .
ج-زرع الخوف من لله ومراقبته(1/4)
إن غرس عقيدة مراقبة الله سبحانه وتعالى في نفوس الأبناء ، وتعويدهم على هذه المراقبة في كل الأحوال والأوقات من الأمور المهمة التي غفل عنها كثير من الآباء ، مع كون هذا الغرس في حال نجاحه يسهل على الأم مهمتها التربوية ، إذ أن إيمان الطفل بأن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو يراه في كل تصرفاته وهو سيحاسبه على كل ذنب يخالف به شرعه وعقيدته من الأمور التي تساعد الطفل على منع النفس من ارتكاب الذنب وتساعده على التوبة بعد ارتكاب الذنب ، وهذا الأمر أوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فغن لم تكن تراه فإنه يراك " .
... ومن المؤسف أن كثير من الأهل والمربين لا يهتمون ببث هذه الروح في نفسية أطفالهم ، فيرتكب الطفل أشياء محرمة في السر لاعتقاده أن أحداً لا يراه ، فيسرق الطفل ثم يكذب على أهله ويقول انه وجد المسروق في الشارع أو أن أحداً من أصدقائه أهداه إياه ، والأهل هنا ، الذين يتحملون المسؤولية الأولى في عدم غرس عقيدة مراقبة الله سبحانه وتعالى في نفوس أطفالهم ، لا يكلفون أنفسهم مهمة التدقيق والتحقيق في صحة الكلام الذي جاء به طفلهم ، بل إنهم قد يفخرون به ويعتبرونه صاحب حظ إذ وجد ما لم يجد غيره .
... ومن القصص التي تحكى عن مراقبة الله عز وجل تلك الحادثة التي حدثت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أصدر قانوناً بمنع غش اللبن بخلط الماء ، فحدث أن وصل هذا الخبر إلى مسامع امرأة وابنتها ، إلا ان المرأة لم تأبه لهذه الأوامر وأرادت أن تخلط اللبن طمعاً بزيادة الربح والبنت المؤمنة تمنعها وتذكرها بتحريم أمير المؤمنين لهذا الفعل ، ولما قالت الأم لأبنتها أن أمير المؤمنين ليس هنا ولن يرانا ، أجابت الابنة جواب ايمان وثقة بوجود الله عز وجل، فقالت : " إن كان أمير المؤمنين لا يرانا ، فرب أمير المؤمنين يرانا " .
2- التربية الخلقية والنفسية(1/5)
... يقصد بالتربية الخلقية " مجموعة المبادئ الخلقية والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الطفل ويكتسبها ويعتاد عليها منذ تمييزه وتعقله إلى أن يصبح مكلفاً، إلى أن يندرج شاباً ، إلى ان يخوض خضم الحياة "(1).
... أما التربية النفسية فهي تلك التي تهتم بتربية الولد منذ أن يعقل على الجرأة والصراحة والشجاعة والشعور بالكمال ، وحب الخير للآخرين والانضباط عند الغضب ، والتحلي بكل الفضائل النفسية والخلقية على الإطلاق "(2).
... وهذه التعاريف وإن كانت تركز على أن يحسن الطفل السلوك منذ تمييزه وتعقله ، إلا أن مهمة الأهل في غرس هذه المبادئ الخلقية تبدأ في مرحلة مبكرة جداً ، حتى يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ وقد اعتاد على الفعل الخلقي بشكل تلقائي 0
... ويرتبط هذا النوع من التربية بالتربية الإيمانية ارتباطا وثيقاً ، إذ أن الطفل الذي يتربى تربية إيمانية قائمة على خشية الله ومراقبته يصبح أقدر على كسب الخلق الحسن والابتعاد عن الخلق السيء لما يعلمه من حب الله للخير وبغضه للشر.
__________
(1) عبد الله علوان ، تربية الأولاد في الإسلاك ، ص1 ن ص167.
(2) عبد الله علوان ، تربية الأولاد في الإسلام ، ج1 ، ص299.(1/6)
... ومن طرائف ما يروى عن " تعويد السلف أولادهم على الصدق ومعاهدتهم عليه هذه القصة : يقول العالم الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله " بنيت أمري –في حين ما نشأت – على الصدق ، وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم ، فأعطتني أمي أربعين ديناراً أستعين بها على النفقة ، وعاهدتني على الصدق ، فلما وصلنا أرض همدان خرج علينا جماعة من اللصوص فأخذوا القافلة ، فمرّ واحد منهم وقال : ما معك ؟ قلت : أربعون ديناراً ؟ فظن أني أهزأ به فتركني ، فرآني رجل آخر ، فقال : ما معك ؟ فأخبرته بما معي ، فأخذني إلى كبيرهم ، فسألني فأخبرته ، فقال : ما حملك على الصدق ؟ فقلت : عاهدتني أمي على الصدق ، فأخاف أن أخون عهدها ! ، فأخذت الخشية رئيس اللصوص ، فصاح ومزق ثيابه ، وقال : أنت تخاف أن تخون عهد أمك ، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله ؟ !! ثم أمر برد ما أخذوه من القافلة ، وقال : أنا تائب على يديك ، فقال من معه : أنت كبيرنا في قطع الطريق ، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة ، فتابوا جميعاً ببركة الصدق "(1).
... من هذه القصة نستخلص دور الأهل في زرع الأخلاق في نفسية الطفل ، وهذا الأمر لا يفعله كثير من الآباء اليوم ، بل على العكس من ذلك فقد تشارك الأم في تدمير نفسية طفلها عبر سلوكه بسلوك يؤدي إلى تشجيعه على الانحراف ،
وقد قال أحد علماء التربية أن " تشكيل تصرفات أطفالنا ترجع بنسبة قد تصل إلى 85% إلى تصرفاتنا ، نحن الآباء والأمهات مع أطفالنا ، وبخاصة تصرفات الأم مع طفلها ، فهي وحدها العامل المؤثر والقيمة الملحوظة في نشأة تصرفات معينة دون غيرها "(2). ...
ومن هذه الأنواع من السلوك التي يسلكها الأهل مع أبنائهم وتنعكس عليهم ضراً وسوءاً ، ما يلي :
__________
(1) عبد الله علوان : تربية الأولاد في الإسلام ، ج1 ،ص 175.
(2) الأم الداعية ، دكتوراه ، ص75(1/7)
1- تحقير الأهل للولد أمام أقرانه أو اخوته أو حتى الغرباء، والتشهير به حين ينحرف عن الأخلاق الكريمة فإذا كذب مرة نادوه دائماً بالكذاب، وإذا لطم أخاه الصغير مرة واحدة نادوه بالشرير ، وهذا التصرف يشعر الولد بالنقص وبأنه لا قيمة له وأنه حقير ، وهذا من الأمور الذي يولد في قلب الطفل إحساس بالضغينة والكره للآخرين الذين هم أفضل منه ، أو يصبح منعزلاً وحيدا يهرب من مواجهة الناس ،... إن على الأهل أن يدركوا خطر تصرفاتهم على نفسية أولادهم وأن يعملوا على استخدام أسلوب الرفق واللين في تربية الأبناء ، فيبينوا للولد الحجة التي يقتنع بها عقله الصغير أنه بتصرفه يسيء إلى نفسه وإلى غيره.
2- ذهاب رقابة الأهل على تصرفات الأولاد داخل البيت وخارجه ، فيسمحون لهم بمشاهدة البرامج التلفازية الفاسدة ، ويسمحون لهم بمخالطة رفقاء السوء ، ويدفعون بهم إلى بعض المدارس الأجنبية التي لا تقيم للقيم الأخلاقية المعهودة في الشريعة والعادات وزناً ، ويأخذون بأيديهم إلى السينما ليشاهدوا الأفلام الغرامية أو البوليسية ، وهي تفسد أخلاق الكبار فكيف بالصغار ، ويضعون بين أيديهم المجلات الماجنة التي تتاجر بالغرائز وتشجع على الإجرام(1).
3- تفضيل ولد على آخر من أهم العوامل التي تعين على انحراف الولد وهذه المفاضلة قد تكون في العطاء أو في المحبة أو في المعاملة ، مما يؤدي إلى توليد إحساس الحسد والكراهية ويسبب الخوف والحياء والانطواء والبكاء ، وهذا الأمر حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال : " ساووا بين أولادكم في العطية " الطبراني .
4- تدليل الولد الدلال المفرط مما يولد عنده الإحساس بمركب النقص وتفقده الرجولة والشجاعة في المستقبل ، ويصبح ضعيف الثقة بنفسه ومتخلفا عن أقرانه .
__________
(1) د. مصطفى السباعي ، أخلاقنا الاجتماعية ، ص160.(1/8)
5- سؤ تصرف الأم في بعض الأحيان عندما تشجع ولدها على الانحرافات ولا تقومها مثل انفعال الخوف ، فتخوف الأم أطفالها بالبعبع والضبع والحرامي واليهودي والجني والعفريت " فينشأ الولد جباناً رعديداً يخاف مما لا يخاف منه ، ويخشى ما ينبغي أن يقدم عليه ، ، وأشد ما يغرس الخوف والجبن في نفس الطفل الجزع إذا وقع على الأرض فسال الدم من وجهه أو ركبته أو يده ، فتلطم الأم صدرها بيدها وتصرخ وتطلب النجدة فيزداد الطفل بذلك بكاء ، ويتعود الخوف من رؤية الدم أو الشعور بالألم ، وخير من هذا أن تبتسم الأم وتهدئ روع ولدها وتشعره بأن ما حصل له أمر بسيط وأنه معرض لمثل هذا فيما يستقبل من الأيام "(1).
6- فقدان الطفل لقدوته ، إذ أن التربية الفاضلة يجب أن تكون بالقدوة الحسنة والأم التي تربي أطفالها على الصدق وتكذب عليهم أو تأمرهم بالكذب في بعض المواقف خاصة عندما يسأل عنها زائر لا تريد رؤيته ، تفقد أبنائها ثقتهم بها وبأقوالها ، وتضعف عند الطفل جانب التأثر بنصائحها ومواعظها .
ومما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال : دعتني أمي يوماً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا ، فقالت ، ها تعال أعطك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أردت أن تعطيه ؟ قالت : أردت أن أعطيه تمراً ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ... إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة " رواه أبو داود .
__________
(1) د. مصطفى السباعي ، أخلاقنا الاجتماعية ن ص160(1/9)
فليعلم الأهل أنهم مسؤولون مسؤولية تامة عن تربية أبنائهم داخل البيت فانحراف الأبناء في الكبر إنما يعود إلى الصغر ، قال الدكتور مصطفى السباعي : " نحن المسؤولون عن انحراف أبنائنا وبناتنا إذا أصررنا على انتهاج الأساليب الحاضرة في بيوتنا مع أولادنا ! نحن المسؤولون عن كذبهم في المجتمع إذا شجعناهم على الكذب في طفولتهم أو قسونا عليهم في العقوبة عليه حتى جعلناهم لا يخجلون منه ، ونحن المسؤولون عن سرقاتهم إذا نحن ابتسمنا لسرقاتهم في طفولتهم ، أو عاقبناهم بالعقوبة البالغة التي لا يطيقونها فندفعهم إلى التمرد والشقاوة دفعا ...
ويروي الدكتور السباعي حادثة حصلت في إحدى المحاكم حيث حوكم سارق بعقوبة قطع يده " فلما جاء وقت التنفيذ قال لهم بأعلى صوته – قبل أن تقطعوا يدي اقطعوا لسان أمي – فقد سرقت أول مرة في حياتي بيضة من جيراننا ولم تطلب إلى إرجاعها إلى الجيران بل زغردت وقالت : الحمد لله لقد أصبح ابني رجلا .. فلولا لسان أمي الذي زغرد للجريمة لما كنت في المجتمع سارقا(1).
ثانياً : التربية المدرسية
المدرسة هي الأداة التي تتمم دور الأسرة في تربية الطفل ، ذلك أن الأسرة لا تستطيع الإشراف التام على الطفل في كل مراحل عمره ، كما أن الطفل يقضي في المدرسة وقتاً أكثر مما يقضيه في البيت ، والمدرسة تتيح للطفل تكوين شخصيته الاجتماعية عبر الاتصال بالأطفال والمربين .
ومن نقاط الاختلاف التي يمكن ان نلحظها بين التربية المدرسية والتربية الأسرية النقاط التالية :
أ- نوع السيطرة في كل من المدرسة والمنزل ، فسيطرة المدرسة أقل من سيطرة الوالدين ، لأن الطفل حين يغضب من المدرسة يلجأ لوالديه ، أما حين يغضب من والديه فلا ملجأ له سوى إرضائهما .
__________
(1) د. مصطفى السباعي ، أخلاقنا الاجتماعية ، ص162.(1/10)
ب- نوع المعاملة : المدرسة تعتمد التساوي في المعاملة بين التلاميذ وأقربهم للمدرسة أصلحهم ، أما البيت فإن عنصر الشفقة والعاطفة الأبوية تغفر للأبناء ذنوباً كثيرة ، حتى أن كثيراً منها لا تراه ، كما قال الشاعر: "وعين الرضا عن كل عيب كليلة " .
كما أن الأسرة تتدرج في شدتها مع سنوات الطفل الزمنية أما المدرسة فنظامها من اليوم الأول واحد "(1).
بناء على ما تقدم يمكن ان نستنتج أن العلاقة بين المدرسة والبيت هي علاقة تكامل تام ، إلا أنه على رغم هذا التكامل فإن على المدرسة أن تعلم أنها مهما بلغت أهمية دورها التربوي ، إلا أنها لا تستطيع إغفال أهمية البيت في حياة الولد، لذلك عليها أن تأخذ بهذا الأمر في عين الاعتبار أثناء تعاملها معه معتمدة في هذا التعاون على نقطتين :
أ- عدم اعتماد أسلوب الرفض أو التقريظ أو التشهير من أجل تقويم سلوك الولد ، فلا يفضح المدرس أسرار الأسر ولا يشهر بها أمام الولد ، ونستطيع أن نورد هنا مثالاً يظهر بعض شذوذ المدرسين في عدم احترام مشاعر الطفل تجاه أسرته ، فقد حدث أن " سأل المدرس أحد تلاميذه عن إحدى المسائل التعليمية فلم يجب وكان والد الطفل حمالاً على حمار ، فاستهزأ المدرس بالطفل ، وقال : أظنك كنت بايت اليوم ده مع الحمار ، فضحك التلاميذ كلهم ، ولكن التلميذ كان حاضر البديهة ، أثاره الغضب ، فقال للمدرس ، كنت بذاكر وأراد أبي النوم ، فقال لي : اذهب وذاكر أما عند أستاذك أو عند الحمار ففضلت الثاني "(2).
__________
(1) العلاقة بين البيت والمدرسة ، ص51.
(2) العلاقة بين البيت والمدرسة ، ص51.(1/11)
ب- التعاون بين الطرفين من أجل مصلحة الطفل بالدرجة الأولى. من هنا فعلى المربي المسؤول عن الطفل دراسة وضع الطفل الأسري ، والتعاون مع الأهل من أجل وضع الخطة السليمة للعلاج الصحيح ، ولا بأس في بعض الأحيان من أجل هذه الغاية أن يقوم بالزيارات إلى الأسرة يشرح لهم أوضاع الطفل ويتلقى انعكاسات المدرسة عليه ، وقد تأتي هذه الزيارات في بعض الحالات الخاصة كمرض الطفل وغيرها من المناسبات الاجتماعية الأخرى ، ويمكن في بعض الإحيان إذا استدعى الأمر المساعدة في معالجة مشاكل الأهل إذا كانت من النوع الذي يؤثر على سلوك الطفل .
... وهكذا بعد أن بينا علاقة المدرسة بالبيت نورد دور المدرس في تنشئة الطفل التنشئة الإسلامية الصحيحة ، والتي تقوم على زرع العقيدة السليمة في النفوس ، ووقايتها من التفلت والانحراف .
... إن مما يؤسف له أن يصل شبابنا وشاباتنا إلى سن التكليف ولم يعلموا أن الإسلام دين ودولة ، ومصحف وسيف ، وعبادة وسياسة .
وإن من المؤسف أيضاً " أن يتعلم أبناؤنا في المدارس كل شيء عن رجالات الغرب وفلاسفة الشرق وعن أفكارهم وآرائهم وتاريخ حياتهم ومآثر أعمالهم ... ولم يعرفوا شيئا عن حياة أبطالنا وعظماؤنا من التاريخ، وأخبار الفاتحين ، سوى النذر القليل "(1).
... إن هذا التقصير يتحمل مسؤوليته المربون من آباء ومعلمين الذين لم يعلموا أبناءهم العقيدة الصحيحة ولم يلقنوهم تاريخهم ولم يعلموهم كيفية الحوار والمناقشة من أجل الرد على الدسائس والافتراءات على هذا الدين .
__________
(1) تربية الأولاد في الإسلام ، ج1 ، ص295-(1/12)
ومن هنا فإن مهمة المعلم في هذا العصر مهمة صعبة إذ أنها لا تقتصر على إعطاء العلم المسطور في الكتب ، بل لعل العكس هو الصحيح أذ يمكن أن تكون من بين مهامه نقض ما جاء في هذه الكتب إن كان فيها تعارض للدين والعقيدة أو كان فيها أكاذيب وأضاليل مشوهة لتاريخ الإسلام المشرق ، ومن هنا فعلى المعلم المسلم كي ينجح في مهمته التعليمية أن يعمد إلى الأساليب التالية :
1-معرفة الغاية من التعليم
... بين الإسلام الغاية من تعليم الولد أمور عدة منها ما هو موجود حالياً في بعض المناهج التعليمية ومنها ما هو غائب ، ومن هذه الأمور ما يلي :
أ تلقين الولد العلوم التي تعينه على فهم الإسلام فهما صحيحاً متكاملاً ، وتساعده على غرس العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفسه ، وتزوده بالقيم والتعاليم الإسلامية التي تشكل عوناً له في حياته المستقبلية بعد تخرجه ، حيث يستخدم ما تعلمه في خدمة دينه وإخوانه ،
وهذا النوع من العلوم نكاد لا نجده إلا في بعض المدارس الإسلامية الخاصة ، أما المدارس الأخرى ، كالمدارس الإرسالية والمدارس الحكومية، فهي على عكس من ذلك ممكن أن تذكر العقائد الأخرى وتغفل الدين الإسلامي ، وممكن أن تصور الفترة التي حكم فيها حكم الخلفاء العثمانيون لبنان بأنها فترة ساد فيها الظلم والاستبداد والتقهقر .
ب إكساب الولد المعارف والمهارات المختلفة ، وتنمية اتجاهاته السلوكية البناءة التي تساعد على تطوير المجمتع اقتصادياً واجتماعيا وثقافياً وتهيئة الفرد ليكون عضواً نافعاً في بناء مجتمعه .
وهنا أيضاً لا بد من تدخل المعلم في تبيان خطورة بعض المبادئ العلمية الحديثة التي تتناقض مع الشرع الإسلامي ، كتبيان مساوئ النظام الرأسمالي الربوي ، والنظام الإشتراكي الذي يشجع على الكسل ويقضي على الأمل والطموح .
2- الابتعاد عن الازدواجية في التعليم(1/13)
... نشأت الازدواجية في التعليم نتيجة المناهج الخاطئة التي تحاول أن تكرس في أذهان " الناشئة أن العلم الطبيعي لا علاقة له بالدين ، وأن الدين وحدة أخرى مستقلة لا علاقة له بالعلم " .(1)
... ومن هنا فإن مهمة المدرس هي في إذهاب هذا المفهوم الخاطئ من الأذهان ومحاولة شرح للتلاميذ حقيقة الدين والدفاع عنه إذا صادف أن تسربت بعض المفاهيم غير الإسلامية عن طريق بعض النظريات العلمية ، أو في دراسة العلوم الأجنبية ، فمهمة المدرس في تلك الحالة هي السعي إلى أيجاد البراهين المقنعة على أن " المواد الدراسية وحدة واحدة ، وما يتعلمه الطلاب في مادة الأحياء هو ما نص الله عليه في القرآن الكريم بقوله : " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه " لقمان ، 11. وما يتعلمه بمادة الفيزياء هو ما نص عليه الله(2)بقوله: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " فصلت، 53.
... كما ان من المهمات الخاصة بكِ أيتها الأخت المدرسة أن توضحي بعض احكام الدين فيما يتعلق بالمرأة وحقوقها التي يحاول بعض أعداء الإسلام بثها في طيات الكتب ،مثل الادعاء بظلم الدين الإسلامي للمرأة ، ومحاباته للرجل على حسابها وذلك بحرمانها المساواة في الحقوق كالإرث وما إلى ذلك ، ومن هنا فإن مهمتك تكمن في تنقية عقول تلاميذك من هذه المغالطات الفكرية عبر توضيح الأهداف التدميرية لهذه الأفكار التي تطال الأسرة والتي تشكل المرأة عمودها الأساسي ، ومن هنا يمكنك عبر الحوار والمناقشة استخدام الأدلة والبراهين القطعية التي تجعل من هؤلاء الأطفال سداً منيعاً يقف في وجه كل ما يحاك للإسلام من الخارج .
3-حسن استخدام أساليب التعليم
__________
(1) التربية الوقائية ، ص65.
(2) التربية الوقائية في الإسلام ن ص616.(1/14)
... إن دور المدرس الأساسي في الصف هو إيصال المعلومات إلى الطلاب والتأكد من حسن استيعابهم لما قاله والعمل على تكوين الملكة الفكرية لديهم لتعينهم على التفاعل مع المجتمع فيما بعد .
لذا وتنفيذاً لهذه المهمة على المدرس أن يستخدم كل الأساليب التربوية المتاحة لديه من أجل الوصول إلى هدفه ، سواء كانت هذه الأساليب قديمة أم حديثة .
ومن أهم هذه الأساليب واولها اتباع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يورث محبة الله تعالى ، كما قال سبحانه : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " .
والأساليب التعليمية التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم متعددة ، نذكرمنها ما يلي:
أ التربية بالقدوة والخلق :
تلعب القدوة دوراً أساسياً في التأثير على النفوس ، لأن المدرس إذا كان يأمر طلابه بفعل ويأتي ضده يفقد قدرته على التأثير ويصبح بالتالي عنصراً هداماً للفضائل والأخلاق ، ولا يقتصر آثار فقدان القدوة على فقدان التأثير فقط ، بل ان من آثار غياب هذا العنصر الفعال شعور الناشئة شعوراً خطيراً بالازدواجية والتناقض ، فإنهم عندما يرون مدرسهم يقول كلاماً ويأتي ضده ، يصبحون أكثر تجرأً على ارتكاب المعاصي التي يرتكبها مدرسهم ، فهو ما دام يقع في ذلك وهو أكبر منهم سناً ، وأكثر منهم علماً ومعرفة ، فهم من باب أولى ، وقد يفسر بعض الطلاب التناقض بين الأقوال والأفعال في حياة مدرسهم ، بأن تلك التوجيهات التي يسمعونها منه ليست بذات أهمية ، وانه من الممكن تخطيها ولا غضاضة في ذلك "(1).
__________
(1) التربية الوقائية في الإسلام ، ص588.(1/15)
وإضافة إلى ذلك فإنه لا يكفي أن يكون المدرس قدوة لتلاميذه بل عليه أيضاً أن يتمتع بالخلق الرفيع ، إذ أن هناك من يميز بين القدوة والخلق " بحيث يكون المدرس القدوة في كثير من تصرفاته حريصاً على صلاة الجماعة في الصف الأول ، ولكنه قد يكون فظ القلب ، غليظ الطبع "(1)مما يسبب النفور بينه وبين طلابه ، يجعلهم عاجزين عن محبته وبالتالي فهم يرفضون كل ما يأتي به من علوم ولو كانت صحيحة .
لذلك فعلى المدرس ان يتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحبب إلى الخلق حيث استخدم عليه الصلاة والسلام الابتسامة والملاطفة والانبساط إلى الأِشخاص الذين يحادثهم ويعلمهم .
ب-التعليم بالبيان
عمد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى استخدام أسلوب البيان أثناء تعليم أصحابه ، فكان إذا سأله أحدهم عن عبادة من العبادات قام بأداء العبادة أمام السائل حتى ترسخ وتثبت في ذهنه ، ومن النماذج التي ذكرتها كتب السنة عن أسلوب رسول الله صلى الله عليه والسلام التعليمي ما رواه أبو داود بقوله : " أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ط يا رسول الله ! كيف الطهور " ، فدعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ، ثم مسح برأسه ، ثم أدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ، بالسباحتين باطن أذنيه ، وغسل رجليه ثلاثاً ، ثم قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا و نقص فقد أساء وظلم ، أو ظلم فأساء " .
ج-التعليم بالحوار والنقاش
... تكمن أهمية هذا النوع من التعليم بكونه يرتبط بقدرات المدرس العلمية ، إذ أن الدخول في الحوار والنقاش أمر لا يستطيعه إلا المدرس الناجح المتمكن من علمه وقدراته فلا يخاف مواجهة الطلاب وإحراجهم له ، بل على العكس من ذلك يكون لتمكنه العلمي دور في تكوين شخصية ومساعتهم عن طريق الحوار والنقاش إلى التوصل إلى الحقائق بأنفسهم .
__________
(1) التربية الوقائية في الإسلام ، ص595.(1/16)
وتلعب هذه النقطة دوراً هاماً في تنشئة الجيل المسلم القوي ، لأننا " لسنا في حاجة إلى أن نزود طلابنا بكم هائل من المعلومات بقدر ما نحن بحاجة إلى أن نعودهم كيف يفكرون ، وقاية لهذه الملكات الطرية من أن تتعطل "(1).
ثالثا : التربية الدعوية
... تشتد الحاجة إلى التربية الدعوية في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى بسبب ابتعاد الناس عن الإسلام الذي بات في أذهان البعض أسطورة من الأساطير التي تتلى ولا يعمل بها ، وبات القرآن الكريم أيضاً في كثير من المجتمعات يتلى للتبرك في المناسبات الاجتماعية الحزينة كالموت ، أما قوانينه وتشريعات الإسلامية فقد ألغي العمل في قسم كبير منها ، ويطالب بإلغاء القسم الآخر واستبداله بالقوانين الوضعية التي باتت تتحكم حياة البشر ومصيرهم .
... هذا من جهة أما من جهة أخرى فإن الحاجة إلى العمل الدعوي يبرز كحصن يحمي به المسلمون أنفسهم من أعداء الإسلام الذين يحاولون منذ بدء الدعوة الإسلامية إيجاد منفساً لهم يدخلون به إلى عقول بعض الناس الجاهلين ليشككونهم في عقيدتهم ويزعزعوا إيمانهم الفطري بالله سبحانه وتعالى ، فيقولون لهم : " أن هذا الدين لم يعد يصلح لهذا الزمن " ،أو يقولون :" هذا العصر لم يعد عصر دين بل هو عصر علم وتكنولوجيا التي باتت الإله الجديد الذي يسير العالم حسب زعمهم " .
ولا تظنن أخواتي المسلمات أن هذه الدعوة التي يدعوكن الإسلام لحملها من المهمات السهلة ، بل هي مهمة صعبة جداً ، خاصة في المجال الدعوة النسائية، وذلك بسبب استخدام أعداء الإسلام سلاح المرأة ليحاربوا به هذا الدين ، فهم يحاولون أن يستخدموا كل وسائل الترغيب والترهيب من أجل إبعاد المرأة عن دينها ، فيصفون هذا الدين بكونه ظالماً مجحفاً بحق المرأة ، فهو لم ينصفها بل حرمها من إنسانيتها عندما حرمها حقوقها وفرض عليها الحجاب الذي اعتبروه حاجباً عن النمو الفكري والعقلي .
__________
(1) التربية الوقائية في الإسلام ،ص593.(1/17)
ومما يجعل هذه المهمة أشد صعوبة هو أن الحرب ليست موجهة ضد أعداء الإسلام فقط بل هي في بعض الأحيان حرباً داخلية حيث أنكِ مضطرة -أختي الداعية -لمواجهة كثيرات من النساء المسلمات المؤمنات بالأفكار العلمانية التي تجد فيها حلاً يتوافق مع تطلعاتها الدنيوية من اشباع شهوة أو اتباع لذة .
ومن هنا فإن دورك -أختي الداعية- هو محاولة انقاذ أخواتك في الله من سلوك هذا الطريق ، فتعملي على تقوية إيمانهن الضعيف الذي يجعلهن لا يخافون الله عز وجل ولا يخافون عقابه من جهة ، ويجعلهن يرفضن تلقي العلم الكفيل بتعريفهن بغاية الحياة الدنيوية التي هي دار ممر وليس دار مقر من جهة اخرى ، لذلك تجدينهن منكبات على زخارف الدنيا وزينتها ينهلن منها ويعتبرنها مقياس التفضيل بين البشر دون أن يدركن أنها كلها إلى زوال ، ولا ينفع الإنسان إلا إيمانه وعمله الصالح .
ومما يصعب عليك مهمتك أيضاً تلك الفتن والابتلاءات المتتابعة التي تصاب بها بعض المؤمنات والتي تكاد تفقد هن الصبر والأمل بالفرج ، على رغم علمهن بقول الله تعالى : " إن مع العسر يسرا "
... ولهذه الأسباب قلت لك أختي الداعية أن مهمتك ليست سهلة ، إذ أن عليك أن تعملي على بث الإيمان في القلوب الضعيفة والمبتلية ، وعليك ان لا تفتري في أي لحظة من اللحظات عن حمل هم هذه الدعوة ، حتى ولو كنت تمرِّين في أحلك الظروف ، وتذكري منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين ما وهنوا في حمل الدعوة حتى أن سيدنا يوسف عليه السلام كان يدعو إلى الله عز وجل وهو في السجن ، وعلى رغم محنته بقي يدعو .
وإن مما يعينك في مهمتك أنك وغيرك جندية ملزمة بحمل هذه الدعوة ، فأينما كنت وفي أي موقع عملت طبيبة أوطالبة أو مدرسة ، فأنت مسؤولة عن بث هذه الدعوة وحمل رايتها .
من هنا فإن مما يعينك في مهمتك معرفتك بأمور ثلاثة : 1- الدعوة بالقدوة والخلق الحسن ، 2- التعرف على أوضاع المدعو ، 3- حسن استخدام أساليب الدعوة(1/18)
1- الدعوة بالقدوة والخلق الحسن :
يعتقد بعض الدعاة أنهم كي ينجحوا في مهمتهم الدعوية يكفي أن يتقنوا بعض العلوم الإسلامية من عقيدة وفقه وسيرة ، إلا أن الواقع أن هذه العلوم لوحدها لا تكفي ، بل لا بد من أن يكون حاملها متمتعاً بمواصفات أخرى تساعده في التأثير على الآخرين ، ومن هذه المواصفات اقتران العلم بالعمل .
إن مما على الداعية ان يدركه أنه إنسان مراقب في جميع تصرفاته وسكناته ، وأي تصرف يتصرفه مناقضاً لما يدعو إليه يجعله يسقط من عين المدعو فلا يصدقه بعد ذلك في أي شيء يدعو إليه .
ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن سقوط الداعية في نظر المدعو يمكن أن يشوه نظرته إلى الإسلام ، فيعتبر أن الإسلام دين قول وليس دين فعل ، وربما قال " لو كان ما يدعونا إليه خيراً وحقاً لكان هو أول المستجيبين له " ، فالناس دوماً يتوقعون رؤية صورة حيَّة للدعوة في سيرة الداعي ، وأن وجود أدنى اختلاف بين فعله وقوله يثير التساؤلات حوله ، بل احياناً حول دعوته كذلك ، فقد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن استغرب " سعد بن عبادة بكاء النبي صلى الله عليه وسلم على سبطه ، فقال له " يا رسول الله ما هذا " فقال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء "
ومما نجده في هذا الحديث أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استغرب بكاء النبي صلى الله عليه وسلم على الصبي ، وأثار ذلك تساؤلاً لديه لما ظنه متعارضاَ مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن البكاء ، فقال : يارسول الله ما هذا ؟ "(1).
__________
(1) السلوك وأثره في التصرفات ، ص41-42.(1/19)
إن القدوة الحسنة التي ورد الحديث عنها لعبت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والعصور الأولى دوراً هاماً في تبليغ الدين حتى أننا كثيرا ما سمعنا " عن بعض اليهود والنصارى أنهم دخلوا للإسلام لمجرد اقتناعهم بسمو أخلاق النبي وحسن معاملته وبلوغه في كل ذلك الدرجة العليا من درجات القدوة الحسنة "(1).
2- التعرف على أوضاع المدعو :
... يحتاج الداعية من أجل النجاح في مهمته إلى الصبر والتأني من أجل الوصول إلى غايته والوصول إى أجر الهداية الذي بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها" ، فهل يكون هذا الأجر إلا على قدر المشقة ، فقد ذكر التاريخ أن النبي نوح عليه السلام بقي 950 سنة يدعو إلى الله ولا يستجاب له ، والرسول صلى الله عليه وسلم بقي فترة 13 سنة يدعو وما أسلم معه إلا نذر يسير .
فمهمة الدعوة مهمة شاقة على الداعية أن يدرك أنه من أجل النجاح فيها عليه أن يعلم أموراً عدة منها :
أ-الإيمان لا يكفي فيه الفهم والتصديق فقط ، إذ لوكان هذا صحيح لكان ابليس مؤمنا فلقد كان يعرف بوجود الله وكذلك الأمر بالنسبة للمستشرقين الذين يدرسون كتاب الله وسنته نبيه ، فهو يعرفون من الدين أكثر مما يعرف المؤمن العادي ، إلا أن هذا العلم لم يوصلهم إلى الإيمان ، لأن الإيمان توفيق من الله تعالى " أقول هذا الكلام لأن كثير من الدعاة لله عز وجل يريد أن يحول الناس إلى الدين بمجرد جرة قلم "(2).
__________
(1) محمد خير يوسف ، الدعوة الإسلامية ، ص74-
(2) عبد الرحمن بن عبد الخالق ، الوصايل العشر للعاملين بالدعوة لإلى الله سبحانه وتعالى ، ص22.(1/20)
لا أيتها الأخوات إن بذرة الإيمان قد يصعب ظهورها في بعض الأحيان وهي تحتاج إلى المتابعة والملاحقة ، لهذا على الداعية أن تراعي حال المدعو وتدرس حالته وتستخدم معه أسلوب التدرج في بيان العقيدة ، فحال الكافرالذي يدعى إلى الإسلام أول مرة تختلف عن حال المؤمن العاصي الذي يدرك أحكام الدين ولكنه لا يطبقه ، ومن هنا فإن خطاب الكافر يبدأ بالتدرج ، فيبدأ معه ببيان العقيدة الإسلامية وبيان فساد عقيدته السابقة ، ثم يُعلم بعد ذلك الصلاة ، ويقال له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي ، ويسير به بعد ذلك سيرا إلى الأمام في بيان الشريعة بالتفصيل ، فيبتدئ بالعبادات ، ثم بالمحرمات الأسهل قبولاً ، فالأسهل قبولاً حتى يبين له الشريعة كاملة ، فيكون عندها مثلنا إذا لم يكن خيراً منا .
ب- فهم نفسية المدعو جيداً حتى يسهل التعامل معه والتأثير عليه ، وهذه المعرفة تتضمن معرفة طباعه وأخلاقه ، ومعرفة ميوله واهتماماته ، ومعرفة أفكاره ومفاهيمه وتصوراته وكشف علله ومشكلاته .
لقد كانت الصلة الشخصية خطوة اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ، فكان " يقيم اتصالات سرية في مرحلة الدعوة الأولى مع أفراد أسرته ومع أصدقائه ومعارفه والعامة والفقراء ، ويجتمع معهم ويعلمهم القرآن ، فكان التعارف والصادقة طريق السابقين إلى الإسلام "(1).
2-حسن استخدام أساليب الدعوة
تتعدد أساليب الدعوة التي يمكن أن تستخدمها الداعية في أثناء دعوتها ومنها:
أ-استخدام اسلوب الترغيب والترهيب في الدعوة ويقصد " بالترغيب كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه ، ويقصد بالترهيب ، كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الإستجابة" ،
__________
(1) الدعوة الإسلامية الوسائل والأساليب ، ص70.(1/21)
وعلى الداعية ان تكون حكيمة فلا تجعل " حديثها كله ترغيبا ولا تجعله كله ترهيبا ، بل يتناوب بين الإثنين حتى لا يطغى جانب على جانب فيفرط المستمع في التمني بالثواب دون عمل ، أو يقنط من الثواب وهو يعمل بقدر ما يستطيع "(1). ...
ب-تقديم الخدمات الإجتماعية ولزيارات التي تعتبر عوامل مهمة في التأثير على الناس لإحساسهم بأن هناك من يتحسس همومهم ومشاكلهم ، إضافة إلى ذلك يمكن للداعية أن تنفق بعض مالها في سبيل تقريب القلوب ، وهذا الأسلوب الدعوي مقرر في القرآن الكريم أيضاً ، فقد أباحه الله عز وجل في تأليف قلوب ضعيفي الإيمان وجذبهم إلى الدين ، إذا لم تكن هناك وسيلة سوى ذلك ، قال تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم " التوبة 60.
ومن النواحي المالية التي يمكن أن تفيد الدعوة أيضاً " بذل المكافآت المالية لحفظة القرآن الكريم والأحاديث والتزود بالثقافة الإسلامية ، وكذلك مراعاة حال الدعاة والعلماء ممن يجاهدون ولا يجدون ملجأ للعمل ، وذلك برعاية مصالحهم وتقدير ظروفهم "(2).
إن الإهتمام بشؤون المدعو من الأمور التي يستخدمه أعداء الإسلام فيحاولون الدخول إلى عقول أبناءنا ، يهتمون بشؤونهم ويمدونهم بالمال والمساعدات في مرحلة أولية قبل ان يقدموا فيما بعد على غرس عقيدتهم في نفوسهم ، كل هذا يحدث في مجتمعاتنا وفي بعض مدارسنا الإسلامية التي غفل فيها المسؤولين والأهل عن أبنائهم فاستغل الأعداء هذا الغفلة وخسرنا بذلك أطفالاً كانوا مسلمين ولكن تكاسلنا وبعدنا عن عقيدتنا أفقدنا إياهم .
ما أقوله هو أمر حقيقي حصل في إحدى مدارس بيروت المعروفة ، فلننتبه لما يحاك ضدنا وليعمل كل منا على تحمل مسؤولياته خوفاً من يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .
__________
(1) محمد خير يوسف ، الدعوة الإسلامية ، ث102.-98
(2) محمد خير يوسف ، الدعوة الإسلامية ، ص80.(1/22)
وأخيراً أختم محاضرتي بالحمد لله عز وجل على نعمة الإسلام والإيمان ، وأدعو الله عز وجل أن يوفقني وإياكم إلى حمل أمانة هذا الدين ، والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته .
د. نهى قاطرجي .
كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية
بيروت - لبنان(1/23)