حكم ولاية النساء الخلافة والقضاء
بعد مرور ما يزيد من ألف وأربعمائة عام على ظهور الإسلام ، لم يثبت فيها تولي امرأة القضاء في بلاد المسلمين على مدار العصور ، أثيرت منذ مدة مسألة ولاية النساء القضاء ، و دارالقول فيها بين المنع والجواز .
إن الأصل في الشرع المساواة في التكليف بالأحكام ، و كذا في الثواب الأخروي و العقاب بين الذكور والإناث إلا ما خصه الدليل قال عليه الصلاة والسلام : " إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ " رواه الترمذي.
إلا أن هناك بعض الأحكام اختص بها الرجال دون النساء : مثل وجوب الإنفاق على الأهل و غيره، و هناك أحكام اختصت بها النساء دون الرجال : مثل سقوط قضاء الصلاة عن الحائض و غيرها .
ولكن في الفقه الاسلامي أربعة آراء في موضوع ولاية المرأة :
1 ـ المنع المطلق وهو مذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة والزيدية والرأي السائد من مذهب المالكية ، والمذهب المشهور عند الإمامية.
2 ـ الجواز المطلق وهو مذهب ابن جرير الطبري وابن حزم الظاهري وبعض علماء المالكية.
3 ـ الجواز المقيد وهو مذهب الأحناف.
4 ـ أما الجواز المطلق حتى للخلافة وإمامة الصلاة وقيادة الجيش فهو مذهب الخوارج.
أولاً : مذهب الحنابلة : عدم جواز ولايتها على الإطلاق :
يقول ابن قدامة في المغني :
(وعند ابن جرير لا تشترط الذكورية لأن المرأة يجوز ان تكون مفتية فيجوز ان تكون قاضية .
وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه...
ولنا حديث (ما أفلح قوم ولوا امرهم امرأة) ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلا للحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها ولو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل وقد نبه الله سبحانه وتعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى : (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) .(1/1)
ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا أحد من خلفائه ولامن بعدهم امرأة القضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً) .
وعلى ذلك فان مذهب الحنابلة بإجماع آراء فقهائه لا يجيز اطلاقا ولاية امرأة القضاء
ثانياً : مذهب المالكية ( رأيان ):
1 ـ الرأي السائد في المذهب: المنع مطلقاً:
جاء في تبصرة الحكام : (قال القاضي عياض رحمه الله في التنبيهات وشروط القضاء التي لايتم القضاء الا بها ولا تنعقد الولاية ولايستدم عقدها الا معها.. عشرة : الاسلام والعقل والذكورية... ولايصح من المرأة لنقصها ولأن كلامها ربما كان فتنة وبعض النساء تكون صورتها فتنة) .
قول الله عز وجل: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (النساء/ 34).
قال القرطبي: قوله تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ" أي: يقومون بالنفقة عليهن، والذب عنهن، وأيضًا: فإنَّ فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو، وليس ذلك في النساء. أ هـ. "تفسير القرطبي" (5 / 168).
2 ـ الجواز مطلقاً:
بعض المالكية يرون جواز ولاية المرأة القضاء مطلقاً ويقول الحطاب في شرح قول خليل : (أهل القضاء عدل ذكر)
(قال في التوضيح: وروى ابن ابي مريم عن ابن القاسم جواز ولاية المرأة قال ابن عرفة: قال ابن زرقون أظنه فيما تجوز فيه شهادتها..
قال ابن سلام: لا حاجة الى هذا التأويل لاحتمال ان يكون ابن القاسم قال كقول الحسن والطبري بإجازة ولايتها للقضاء مطلقاً
(قلت): الأظهر قول ابن زرقون لأن ابن عبد السلام قال في الرد على من شذ من المتكلمين وقال الفسق لاينافي القضاء ما نصه: وهذا ضعيف جداً لأن العدالة شرط في قبول الشهادة، والقضاء أعظم حرمة منها(1/2)
(قلت): فجعل ما هو مناف للشهادة مناف للقضاء.. فكما ان النكاح والطلاق والعتق والحدود لاتقبل فيها شهادتها، فكذلك لا تصح قضاؤها) يفهم من هذا النص:-
يرى ابن القاسم جواز ولاية المرأة القضاء بإطلاق كرأي الحسن والطبري.
ويرى ابن زرقون جواز ولاية المرأة القضاء فيما تجوز فيه شهادتها كما هو الوضع في مذهب الحنابلة.
ثالثاً : مذهب الشافعية: المنع مطلقاً إلا للضرورة:
المنع مطلقاً: يقول الماوردي في الاحكام السلطانية في شروط ولاية القضاء: (فالشرط الاول منها ان يكون رجلاً وهذا الشرط يجمع صفتين البلوغ والذكورية.
وأما المرأة فلنقص النساء عن رتب الولايات وإن تعلق بقولهن أحكام.
) جواز تولية المرأة القضاء للضرورة : جاء في شرح المنهج لزكريا الانصاري ( :
وشرط القاضي كونه أهلاً للشهادات بأن يكون مسلماًَ حراً ذكراً.. (فإن فقد الشرط) المذكور بأن لم يوجد رجل متصف به فولى سلطان ذو شوكة مسلماً غير أهل) كفاسق ومقلد وامرأة (نفذ) قضاؤه (للضرورة) لئلا تتعطل مصالح الناس) فلا تتحقق حالة الضرورة إلا اذا لم يوجد بين الرجال من تتوافر فيه شروط تولية القضاء هذه الشروط كالمرأة.
رابعاً : مذهب الأحناف:الجواز المقيد، والجواز المطلق مع إثم المولي لها:
أ - جواز ولاية المرأة القضاء في غير الحدود والقصاص:
يقول الكاساني في البدائع :
(وأما الذكورة فليس من شرط جواز التقليد في الجملة لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص لأنه لا شهادة لها في ذلك وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة) .
وجاء في لسان الحكام : (وفي شرح الوقاية: وصح قضاء المرأة في غير حد وقود، اعتباراً بشهادتها.
قلت: الجهة الجامعة بينهما كون كل واحد منهما تنفيذ القول على الغير).(1/3)
ب - جواز ولاية المرأة القضاء في كل الحقوق مع إثم المولي لها: جاء في مجمع الأنهر (ويجوز قضاء المرأة) في جميع الحقوق لكونها من أهل الشهادة لكن يأثم المولى لها للحديث لم يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (وفي غير حد وقود)
خامساً : مذهب ابن جرير الطبري: يجوز قضاء المرأة في جميع الأحكام لأنه علل جواز ولايتها بجواز فتياها.
سادساً : ابن حزم الظاهري:
ذكر ابن حزم أن ولاية المرأة جائزة في الحكم لا في الخلافة حيث يقول :
وجائز أن تلي المرأة الحكم ، فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه ولى الشفاء وهي امرأة قضاء السوق وأن قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لن يفلح قوم.. إنما جاء في الأمر العام وهو الخلافة وبرهان ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم ) : المرأة راعية على مال زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها.
وقال ابن حزم في معرض حديثه عن الخلافة:
ولا خلاف بين أحدٍ في أنها لا تجوز لامرأة. أ هـ. ( الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4 / 129).
سابعاً : المذهب الزيدي: الذكورة أول شروط القضاء.
ثامناً : مذهب الخوارج:
الغالب في هذا المذهب جواز ولاية المرأة للقضاء إضافة الى الولاية العامة وإمامة الصلاة أي أنها يمكن أن تكون قاضية وصاحبة ولاية عامة بما فيها إمامة الصلاة وقيادة الجيش.
تاسعاً : المذهب الشيعة الإمامية:
خلع المرأة من ولاية القضاء على الرأي المشهور، وإن كان ذلك محل تحفظ من بعض فقهاء المذهب، وقد ناقش محمد حسين فضل الله أدلة المنع بإسهاب في كتابه فقه القضاء الصادر سنة 2004 وملخص الرأي يقوم على الأسس التالية:(1/4)
1 ـ أن ماورد عن نقصان عقل المرأة رواية لم تثبت سنداً كما أنها مخالفة للقواعد والأصول التي تحكم الشريعة الإسلامية لأن الكتاب الكريم يرينا كمال عقلها نحو ما هو وارد في سورة النمل : (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) إذ بالرغم من أنها (تملكهم وأوتيت من كل شيء) سألتْهم الفتوى وبيان الرأي والمشاورة والإجابة عن هذا الموضوع الذي يدلل على كمال رأيها وتمام عقلها ووفور حلمها ورشدها ويستمر القصص القرآني في بيان هذه السمات للمرأة إذ على الرغم من إجابتهم مستهزئين برسالة الملك سليمان بقولهم : (قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد) فإنها حكمت عقلها مرة أخرى وبعثت الى سليمان بهدية لمعرفة حقيقة أمره ولم تجنح إلى الحرب والقوة .
وقول ابنة شعيب لأبيها ليستأجر موسى : ( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)
كما يقول الزمخشري في كشافه : هو كلام حكيم جامع لا يزاد عليه .
وهذه امرأة فرعون التي رأت في جوف تابوت موسى نوراً ورأت في وجهه نسمة مباركة وعندما هم آل فرعون في قتله قالت : (قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً) .
وهذه أم موسى التي أوحى الله إليها بإلقاء وليدها في اليم فامتثلت لهذا الأمر فوصفها القرآن : (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً) لذلك قالت العرب : لا أفرغ من فؤاد أم موسى وتلك المرأة التي نذرت ما في بطنها محرراً له سبحانه وابنها التي نفخ الله في فرجها فاضحت وابنها آية للناس .
والقول في الكتاب الكريم وآياته الخاصة بالمرأة يطول ، ولو كانت المرأة ناقصة العقل هو أساس التكاليف والمسؤوليات؛ فإنه كان من اللازم أن تكون تكاليف المرأة أخف من تكاليف الرجل لأن القاعدة إذا سلب الله ما وهب (العقل) عفا عما وجب (الفرائض كالصلاة والمسؤولية عن الجرائم مثلاً) .(1/5)
2 ـ أما عن نقصان الدين وهو قعود المرأة الحائض عن الصلاة وإفطارها في شهر رمضان واعتبار ذلك نقصاً في دينها لا يتلاءم وحكمة التشريع الإسلامي كونه نابعاً من عمق إيمان النساء بأحكامه سبحانه الذي أمرهن بترك الصلاة والإفطار ، وإلا كان قصر الصلاة في السفر موجباً لنقصان دين الرجل المسافر إذ أن رأي المذهب أن الاتمام في السفر هو الموجب لنقصان الدين باعتبار أن إباحة الإفطار بالسفر من رحمة الله بعباده ولا يمكن أن يكون المسلم عاقاً لهذه الرحمة لذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه أسمى جماعة صاموا بالسفر عصاة.
ـ كذلك يستدل مانعو المرأة من تولي القضاء بحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) .
فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ولى الشفاء وهي امرأة قضاء السوق.
وقال آخرون : إنما ذلك كان في الأمر العام وهو الخلافة ليس القضاء .
يقول الشيخ فضل الله : إن مورد هذا الحديث هو تولية الفرس ابنة كسرى عليهم بعد موت كسرى، كما أن عدم الفلاح لاينافي الجواز.
ذلك أن المقصود من الحديث المعنى العام وهو عدم صلاحية المرأة لتولي الامارة.
أما حديث البخاري فعن أبي بكرة قال: "لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل، بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". (البخاري، رقم 4163).
قال الشوكاني:
فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقوم توليتها، لأنه يجب عليهم اجتناب ما يوقعهم في عدم الفلاح. أ هـ ( بتصرف. نيل الأوطار -8/305).
وقال الماوردي- في معرض كلامه عن الوزارة -:(1/6)
ولا يجوز أن تقوم بذلك امرأة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أفلح قومٌ أسندوا أمرهم إلى امرأة"؛ ولأن فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء، ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهن محظور. أهـ. ( الأحكام السلطانية: 46).
قال المناوي:
"لن يفلح قوم ولوا" وفي رواية ملكوا "أمرهم امرأة" بالنصب على المفعولية، وفي رواية (ولي أمرهم امرأة) بالرفع على الفاعلية؛ وذلك لنقصها وعجز رأيها، ولأن الوالي مأمور بالبروز للقيام بأمر الرعية والمرأة عورة لا تصلح لذلك، فلا يصح أن تولى الإمامة ولا القضاء) . اهـ ( فيض القدير، للمناوي، الحديث رقم 7393 ).
وقال القاضي أبو بكر بن العربي:
(هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه... فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير؛ لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، وإن كانت متجالّة بَرْزَة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم وتكون مناظرة لهم، ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده).اهـ (أحكام القرآن للقرطبي، تفسير سورة النمل، آية رقم 23).
وفي الموسوعة الفقهية : 21 / 270 ) :
اتفق الفقهاء على أن من شروط الإمام الأعظم أن يكون ذكرًا، فلا تصح ولاية امرأة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)، ولكي يتمكن من مخالطة الرجال، ويتفرغ لتصريف شئون الحكم; ولأن هذا المنصب تناط به أعمال خطيرة, وأعباء جسيمة، تلائم الذكورة. اهـ
أقول :
إنه لا تصح ولاية المرأة لا العامة ولا الخاصة وذلك للأدلة التالية :
1 ـ قوله تعالى : { أو من ينشّأ في الحلية و هو في الخصام غير مبين } . يعني : المرأة ؛ قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وغيرهما.(1/7)
فهذا القول الإلهي الكريم نص في كون النساء غير مبيّنات في الخصام، و إذا كان هذا شأنهن في مجرد بيان الخصام؛ فكذلك شأنهن في الفصل في الخصام؛من باب الأولى.
و الفصل في الخصومات هو معنى " القضاء " .
2 ـ قول النبي صلى الله عليه و سلم: " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً " .
وذلك لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى. رواه الإمام البخاري والترمذي والحاكم وأحمد وغيرهم.
فهذا الحديث نص في عدم فلاح القوم الذين يولون أمرأة أمرهم .
- والقول بأن هذا كان فقط على سبيل الإخبار بما سيكون من هزيمة أهل فارس وقتذاك ، ولم يكن حكماً تشريعياً للأمة : ادعاء غير صحيح ؛ لأن ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )؛ على ما هو مقرر في علم الأصول .
- وكذا القول بأن ذلك الحديث هو في الإمامة العظمى أو الكبرى وحدها : فغير صحيح أيضاً؛ لأنه قيل في ملك الفرس المجوس وقتذاك، ولم تكن عندهم إمامة أصلاً، لا كبرى ولا صغرى.
والحديث عام في كل أنواع الولايات العامة ؛ لمجيئه بلفظ من ألفاظ العموم، و هو هنا : النكرة في سياق النفي والنهي ؛ على ما هو مقرر في علم الأصول أيضاً.
فكأنه قال : لن يفلح كل قوم ولوا أمرهم امرأة .
كما أن الحديث يفيد النهي عن ولاية المرأة القضاء ؛ بدلالة عدم الفلاح .
احتج المجيزون لتولية المرأة القضاء بأمرين :
الأول : تولية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – امرأة اسمها الشفاء الحسبة في السوق . و هذا لم يصح ، و أنكره بنوها كما سيأتي.
و الثاني : ما نسب إلى الإمام أبي حنيفة من أن المرأة تقضي فيما تشهد فيه.
وهذا النقل فيه اختلاف في ألفاظه؛ مما يوهن من ضبط نقله، ولا يصمد أمام الأدلة الشرعية المذكور ة آنفاً ؛ فضلاً عن أن يكون دليلاً شرعياً أصلاً.(1/8)
وهذا على افتراض صحة عزوه إلى أبي حنيفة، و كذا الحال فيما نسب إلى الإمام الطبري وغيره، وهو ما نفاه الإمامان أبو بكر بن العربي و أبو عبد الله القرطبي .
و بيان ذلك :
* قال القاضي ابن العربي في كتابه " أحكام القرآن " :
( المسألة الثالثة : روي في الصحيح { عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن كسرى لما مات ولى قومه بنته : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة } .
وهذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ، ولا خلاف فيه .
ونقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين : أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ؛ ولم يصح ذلك عنه؛ ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه ، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : { لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة } .
وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير .
وقد روي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح؛ فلا تلتفتوا إليه ؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث ) .اهـ [ أحكام القرآن لابن العربي ]
وكذا ذكره بتمامه القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " ؛ حكاية عن ابن العربي، وأقره ولم ينكره .
ومما يدل على عدم صحة ما نسب إلى أبي حنيفة : أن المرأة - عنده كما عند غيره - لا يجوز ان تنفرد و تستقل - مع أخرى - بالشهادة في الأموال ؛ بل لا بد من وجود رجل، و أن الشهادة دون الولاية باتفاق.
وما نسب إلى الطبري فغير صحيح أيضاً كما صرّحا به الإمامان ابن العربي و القرطبي ، وحسبك بهذين الإمامين الكبيرين في نفي صحة ما نسب إلى الإمامين الجليلين : أبي حنيفة و الطبري من أقوال في قضاء المرأة .
والاحتجاج بخبر ولاية صحابية حسبة السوق ليس حجة في جواز ولاية المرأة القضاء ؛ فضلاً عن عدم صحته أصلاً ؛ حيث أنكره أولادها .(1/9)
و هذا الخبر ذكره ابن عبد البر وابن حجر بصيغة التقليل ؛ فقالا في ترجمة الصحابية الشفاء : ( فربما ولاها شيئاً من أمر السوق ) يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
و هذا لفظ ترجمة ابن عبد البر لها في كتابه " الإستيعاب في معرفة الأصحاب " ؛ قال:
الشفاء أم سليمان بن أبي حثمة هي الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس ابن خلف بن صداد - وقيل ضرار - بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب ، القرشية العدوية ، من المبايعات . قال أحمد بن صالح المصري : اسمها ليلى وغلب عليها الشفاء. أمها فاطمة بنت أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم ، أسلمت الشفاء قبل الهجرة فهي من المهاجرات الأول ، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت من عقلاء النساء وفضلائهن ، وأقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً عند الحكاكين فنزلتها مع ابنها سليمان ، وكان عمر يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها، وربما ولاها شيئاً من أمر السوق ) . اهـ
فخبر ولايتها شيئاً من أمر السوق روي بصيغة التقليل، و لم يصرح فيه بالحسبة، و هو ما أنكره أولادها ؛ قال الحافظ ابن عساكر في " تاريخ دمشق " :
( وكانت الشفاء بنت عبد الله أم سليمان بن أبي حثمة من المبايعات ، ولها دار بالمدينة بالحكاكين، ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق ، وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه ) . وأولادها أعلم بها من غيرهم .
و إنما الذي استعمله عمر رضي الله عنه على السوق هو ابنها سليمان ؛ ففي " تاريخ دمشق " لابن عساكر قال : ( نا أبو بكر بن أبي خيثمة أنا مصعب بن عبد الله قال : سليمان بن أبي حثمة بن حذيفة من صالحي المسلمين ، استعمله عمر بن الخطاب على سوق المدينة ) . أهـ
ولعل اللبس وقع بينهما .(1/10)
يتبين من خلال ما ذكرناه أنه لا حجة للمجيزين ولاية النساء القضاء أو الولاية العامة فيما احتجوا به ؛ فالنهي ثابت بدلالة الأولى للنص القرآني في شأن النساء : { و هو في الخصام غير مبين } ، و بدلالة عموم الحديث الصحيح : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ، و لم يصح و لم يقم دليل على تخصيص القضاء من عموم هذا النهي عن تولية المرأة الولايات العامة ، و لم يثبت استعمال المرأة في القضاء و نحوه في عصر الصحابة ، كما لم يصح القول المنسوب لبعض الأئمة بتجويزه .
وعليه : فتولية المرأة أمر القضاء أو الولاية العامة مخالف لأدلة الشرع .
والله تعالى أعلم .(1/11)