الاختلاط بين الواقع والتشريع
دراسة فقهية: علمية تطبيقية في حكم الاختلاط وآثاره
مؤسسة نور الإسلام
www.islamlight.net
جمع وإعداد…:
إبراهيم بن عبدالله الأزرق
بتقريظ……:
فَضِيْلَةُ اْلشَيْخِ/ أ.د نَاصِرُ بنُ سُلَيْمَانُ الْعُمَر
محرم/1425
الفصل الأول: الاختلاط تحت أضوء الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
تقريظ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد أطلعني أخي الكريم الشيخ أبوعبدالرحمن إبراهيم الأزرق على بحثه الموسوم بـ (الاختلاط بين الواقع والتشريع) فألفيته بحثاً قيماً، عالج فيه قضية من أهم القضايا الشرعية الاجتماعية المتجددة، فإن موضوع المرأة أصبح الشغل الشاغل لأعداء الله والملة، يحاولون أن ينفذوا من خلاله إلى هدم مقوم من أهم مقومات بناء كيان الأمة. حيث إن المرأة المؤمنة تمثل ركيزة مهمة في بناء الأسرة المستقرة، فهي التي تُخرج الأجيال، وتُعد الأبطال لمواجهة أعداء الملة والإنسانية.
ولقد كانت أول فتنة بني إسرائيل في النساء، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ثم كان الهلاك والبوار، وأعداء الله من اليهود والنصارى وإخوانهم من منافقي هذه الأمة يريدون أن يسروا بنا حيث سار أولئك، حذو القذة بالقذة، ولذلك أثاروا الشُبه، وبثوا الأراجيف، واختلقوا الدعاوى، وقد أصغى إليهم فئام من الناس -رجالاً ونساء- فانخدعوا بحبائلهم، وتأثروا بأساليبهم، وصدقوا خصوماتهم.
ومن أبرز تلك المسائل ما يتعلق بقرار المرأة في بيتها، حيث سعوا بجد ونشاط، ودَأَبٍ لا يعرف الكلل، من أجل إخراج المرأة من حصنها المنيع، وقاعدتها الحصينة، طمعاً في أن يتحقق لهم بذلك مناهم، ويظفروا بمبتاغهم، و"إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".(1/1)
وإذا فارقت المرأة حصنها، فقد سعت من حيث تدري أو لاتدري إلى حتفها، إلاّ إذا كان ذلك لضرورة أو حاجة لاغنى لها أو لأمتها عنها، مع تحري اليقظة والستر والحذر، وسرعة الأوبة إلى البيت والمستقر، لأن ذلك هو الأصل، كما تقرر في كتاب الله الفصل: { وقرن في بيوتكن ولاتبرجن تبرج الجاهلية } .
ولقد أجاد أبوعبدالرحمن وأفاد، وعرض الموضوع بأسلوب علمي راق، يخاطب العقل والعاطفة، يورد الأدلة ويرد على الشبهة دون إطناب مُمِل أو إيجاز مُخل.
نفع الله بعلمه، وسدده وهداه، وبَلّغه في الخير مناه، وصلى الله وسلم على الحبيب المصطفى –محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
وكتب/ ناصر بن سليمان العمر
الشرقية – السبت 16/12/1424
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلاّ وأنتم مسلمون } ، { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما } .
وبعد، فإن نساء المسلمين في الصدر الأول، كُنّ درراً مصونة، ولآلئ مكنونة، غير ولجّات خرّاجات، وإن خرجن للحاجات، فهن العفيفات المتحفظات، وهكذا كانت نساء العرب أُنُفاً، وفي "المفضليات" قول الشنفرى:
لقد أعجبتني لاسَقُوط قِناعها …إذا مشت ولا بذات تَلَفُّتِ(1/2)
كَأَّنَ لها في الأرض نَسياً(1) تقُصُّه…على أَمِّها وإنْ تُكلِّمْكَ تَبْلِتِ
وهذا أبو قيس بن الأسلت –مختلف في صحبته- يمدح إحداهن فيقول:
تشتاقها جاراتها فَيَزُرْنهَا… وتَعتَلُّ عن إتيانهن فَتُعْذَرِ
وليس لها أن تستهين بجارةٍ… ولكنّها مِنهنّ تَحْيَا وتَخفُرِ
ثم جاء الإسلام وتمم مانقص، فسجل التاريخ لنساء الإسلام في العهد الأول، نزاهة ذادت مرؤة رجالها عنها طير الرِيَب، وعلى مِنْوال أولئك السابقين الأولين، كانت عصور التابعين والأئمة المرضيين. ولاتحسبنَّ التمدح بالقرار ونبذِ مخالطة الرجال، كان شيمة العلماء والصالحين فحسب، بل هي صبغة ذلك الجيل، يقول شاعر الغزل جميل –في أوائل القرن الهجري الثاني:
خُودٌ مِنْ الخَفِرَاتِ البِيْضِ لم يرها…بِسُدَّةِ البيتِ لا بَعلٌ ولاجَارُ
وعلى هذا الأسلوب جرى مدح العرب عدة قرون، فهذا الرضي أشعر القرشيين في أوائل القرن الهجري الخامس يشيد بامرأة فلا يجد أجدر من أن يقول:
دون القِبَابِ عَفافٌ مع خلائقِها…والصَونُ يَحفَظُ ما لا تَحفَظِ الخِيَمُ
وقد ظلت نساء المسلمين مصونة في مدن حصينة ضد غزو التغريب، عبر عقود بل قرون ازدهرت فيها حضارة الإسلام، بينما كان يقبع غيرهم في ما يُعرف اليوم برجعية العصور الوسطى، أو عصور الظلام.
__________
(1) النسي على ضربين: أحدهما ما تقادم عهده حتى نسي، والآخر ما أضله أهله، فيطلب ويطمع فيه، وهو المراد هنا، وتقصه: تتبعه، والأََمُ: القصد، وقوله: إن تحدثك تَبْلت: أي تقطع الحديث لاستحيائها. أفاده المبرد في الكامل، وانظر جمهرة اللغة (ب-ت-ل).(1/3)
ثم مع انحسار العفاف رويداً رويداً، بدأت تنحسر دولة الإسلام شيئاً فشيئاً، ومع ذلك ظلت بعض المدن تعرف بالصيانة والعفاف، يقول ابن العربي –رحمه الله- في النصف الأول من القرن السادس: "ولقد دخلت نيِّفا على ألف قرية من بريَّة, فما رأيت نساء أصون عيالاً, ولا أعفَّ نساءً من نساء نابلس التي رُمي فيها الخليل عليه السلام بالنَّار, فإنّي أقمت فيها أشهراً, فما رأيت امرأة في طريق نهاراً, إلاَّ يوم الجمعة, فإنهنَّ يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهنَّ, فإذا قُضيت الصلاة, وانقلبن إلى منازلهنَّ لم تقع عيني على واحدةٍ منهن إلى الجمعة الأُخرى. وسائر القُرى تُرى نساؤها متبرِّجاتٍ بزينةٍ وعُطْلَة(1)ٍ, متفرِّقاتٍ فِي كلِّ فتنةٍ وعُضْلَةٍ(2). وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من مُعتكَفِهِنَّ حتى استشهدن فيه"(3).
ثم استشرت الفتن، وجاءت الأهواء فساقت الناس نحو جحر الغرب المظلم، فبعد أن كان الاختلاط علقماً يشرق به الخاصة والعامة، بدأت عملية تسويغه، عن طريق المدارس الاستعمارية العالمية(4)، بدعوى أن علاج (الرجل المريض) يكمن فيها، وذلك مطلع القرن الرابع عشر، فما بلغ أبناء تلك المدارس الخمسين، وما انتصف القرن، إلاّ وقد مات (الرجل)، بعد أن هيأت تلك المناطق المشبوهة مناخاً جيداً لتفريخ أجيالٍ من المستغربين، الذين رأوا أن استعادة الأمة مجدها، وعودها إلى سابق عهدها، وخروجها من واقعها المظلم، لن يكون إلاّ بإحراق كل فضيلة، في سبيل (التنوير).
__________
(1) عُطْلة: جمع عاطلة أي من الحلي، والمعنى أنهن متبرجات بزينة، ومتبرجات قد كشفن محل الحلي أو الزينة.
(2) عُضْلَة: داهية، من العُضَل أي المنكر الداهية، وكأنه وصف بالشدة، فالعين والضاد واللام أصل واحد يدل على شدة والتواء.
(3) أحكام القرآن 1/386.
(4) انظر المدارس العالمية للشيخ بكر ص34.(1/4)
هذا ومع خفوت وهج مصابيح الدجى، عميت أنباء الشريعة على كثير، واستُبهمت واضحاتها، فاختلط حكم الاختلاط، والتبست أحكام اللباس، و(استعجم) العرب ما جاء في التشريع وبخاصة ما يخص المرأة.
فكانت الفرصة مواتيةًً لخروج دعايا ودعِيّات التحرير، اللآتي لم يرفعن بهدى الله رأساً، ولم يرين في وأد العفة بأساًً.
أولئك ما أتين بنصح (خِلَّةْ)…وما دِنَّ الإله ولايدِنّه
فنادوا بتغريب الفتاة، وعمدوا إلى إلغاء كل تشريع إسلامي يخص المرأة، بتدرج محسوب، وخطوات بطيئة، يستدرجون بها الغافلين والغافلات، "فقال قائلهم أول الأمر: مادام الرجل التركي لايقدر أن يمشي علناً مع المرأة التركية، وهي سافرة الوجه فلست أَعُد في تركيا دستوراً ولاحرية.
ثم بعد هنيئة قال الآخر: ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت، ولو كان من غير المسلمين، بل ما دامت لا تعقد (مقاولة) مع رجل تعيش وإياه كما تريد، مسلماً أو غير مسلم، فإنه لا تعد تركيا قد بلغت رقيا.
ويعقب شكيب أرسلان بقوله: فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور، ولاهي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصلة بعضها ببعض"(1).
"لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء، فما زالوا به يثقبون في جوانبه كُلَّ يومٍ ثقباً، والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تَقَبَّضَ وتَكَرَّش، ثم لم يكفهم ذلك منه حتى جاءوا يريدون أن يحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة"(2).
إن من أمعن النظر في حال المسلمين اليوم، وحالهم قبل عقود رأى كيف يسير ركب التغريب، وعلم أين يحُطُّ من يَمَمَ سَمْتَهُم، واقتفى أَثَرَهُم.
__________
(1) عن المرأة المسلمة بين الغزو والتقريب، للدكتور زيد بن محمد الرماني، ص44 بتصرف.
(2) كلمات من بعض قصص الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي، بتصرف يسير.(1/5)
وكما ترى فإن الطريق دون ما يريده قَذِعُ المنطق(1) بعيد، له مراحل شتى، ربما حل أول تلك المراحل طيبون، استبعدوا أن يحط بهم من يعزم قطعه، ولكن سرعان ما جاورهم آخرون، فتتابع الناس في طريق الفتنة.
ولهذا كان التحذير من تلك السبيل أحد المهمات، ولاسيما بعد أن بدأ الاختلاط يشيع في المجتمعات المحافظة، فضلاً عن غيرها، ولعله من المناسب أن يكون ذلك ببيان حكم الشرع في تخطي باب الحجاب بتلك الخطوات التي تخطوها المرأة، فتخرج بها عن حرز عفتها مختلطة بالرجال، مع تنبيه أخت الإسلام إلى حيث ساقت غيرَها تلك الخطواتُ.
وهذا البحث محاولة لتقرير الحكم الشرعي لاختلاط الرجال بالنساء، مع بيان شيء من الآثار السيئة والعواقب الوخيمة، التي لحقت من انساق وراء تلك الفتنة.
وقد جعلته قسمين؛ الأول: دراسة فقهية تبين مراعاة الشريعة، لأصل الفصل بين الرجال والنساء، وفيها تسليط الضوء على بعض التشريعات التي ربما اشتبهت على البعض، وبيان مراعاة صاحب الشريعة فيها المنع من الاختلاط، ثم تأكيد ذلك بذكر طرف من الأدلة على حرمة اختلاط الرجال بالنساء، مع بيان وجه دلالتها، ثم عقبت بذكر بعض كلام أهل العلم في المنع من الاختلاط، وأخيراً تناول البحث بعض الشبه التي ربما أثيرت حول الموضوع.
والقسم الثاني: دراسة ثقافية في أضرار الاختلاط ومفاسده، جمعت فيها شيئاً من أقوال الغربيين، وإحصائياتهم الرسمية من مصادرهم المعتمدة، مع ذكر حقائق وأرقام من أرض الواقع، تبين لذوي العقول السليمة، والفطر المستقيمة، الحكم العظيمة في منع اختلاط الرجال بالنساء في الشريعة.
وقد حرصت في هذه الدراسة على الإحالة إلى أصول النقول، من باب نسبة الفضل إلى أهله، ولأن المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، "نعوذ بالله من طفيلي تصدر بالوقاحة"(2).
__________
(1) قذع المنطق: فاحشه.
(2) استعاذة ابن عقيل يرحمه الله، انظر الآداب الشرعية 1/160.(1/6)
اللهم إلاّ ما طوى النسيان موضعه أوصاحبه، وبقي معناه في الذهن، فأنشئ له العبارات، وأطلقه عن أهل العلم أو بعضهم.
أما الشبهات فلم أحرص على عزوها لأمور أهمها أنها ليست مما يتكثر به، ولأن أكثرها عرض إما في صحيفة سيارة، أو مجلة مشهورة، أو وسيلة إعلامية مرئية أو مسموعة، كما أنك لاتدري أيُّ القائلين ابتدرها أو تولى كبرها.
وفي ختام هذه المقدمة لايسعني إلاّ أن أتقدم بجزيل الشكر وأوفره لمشايخي وإخوتي بمكتب فضيلة شيخنا ناصر بن سليمان العمر، وعلى رأسهم فضيلته، فهو الذي حث على بسط المقال لأصل أسطر جوابية، وهو الذي مد بالمصادر والمراجع المطبوعة والإلكترونية، كما استفدت من ملاحظات الإخوة بالمكتب العلمي لفضيلته ومن تدقيقاتهم وتوجيهاتهم فوائد مهمة فجزاهم الله خير الجزاء.
ومما يتعين كذلك شكر المشايخ الذين بذلوا من أوقاتهم الثمينة فراجعوا البحث ومهروه بتعليقاتهم القيمة، وتوجيهاتهم السديدة، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ فهد القاضي، فجزاه الله وجزى إخوته خيري الدنيا والآخرة.
ومع ذلك يظل الإنسان للوهم كالغرض للسهم، وإنما يلتمس العذر من في فضله كمل، لاجاهل يهمل في تحصيل الفضائل، ويشري نفسه لنقص الأفاضل.
هذا والله أسأل أن يوفق في هذه الدراسة للصواب، وأن يجنب من الزلل، وأن ينفع بها الجامع والقارئ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معنى الاختلاط:
أجرى الفقهاء لفظ الاختلاط على مسائل شتى، والموضوع هنا اختلاط الرجال والنساء، أما من حيث وضع اللغة فالاختلاط لفظ له استعمالات عديدة تدور على أصل واحد:
فمنه الاختلاط بمعنى التداخل، ومنه اختلاط الرجال بالنساء أي التداخل بينهم(1).
وكذلك يكون الاختلاط بضم الشيء إلى آخر، فيقال خلط الشيء بالشيء خلطاً إذا ضمه إليه(2).
__________
(1) الغني الدكتور عبدالغني أبو العزم.
(2) محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني، وانظر كذلك الموسوعة الفقهية 2/289.(1/7)
وقد يمكن التَّمييز بعْد ذلك كما في الحَيَوانات، أَو لا يمكن كما في بعْض المائِعَات(1).
ولهذا قالوا من معناه الامتزاج، فخلط الشيء بالشيء يَخْلِطُه خَلْطاً و خَلَّطَه فاخْتَلَطَ مَزَجَه(2)، واخْتَلَطَ يَخْتَلِطُ اخْتِلاطاً: امتزج(3).
والاختلاط يطلق في الأعيان والمعاني، ومن أمثلة العرب قولهم: اختلط الليل بالتراب، واختلط الحابل بالنابل، واختلط المرعيُّ بالهَمَل، واختلط الخاثر بالزباد. وتُضرَب في استبهام الأمر وارتباكهِ(4).
ومما سبق يلحظ أن مادة (خلط) في اللغة: أصل واحد، مضاد لـ (خلص): وهو أصل واحد مطرد، يفيد تنقية الشيء وتهذيبه(5).
وكأنهم يطلقونه باعتبار محل الأعيان إذا كان هناك تداخل أوتقارب أوتجاور، ولهذا قالوا للمجاور والصديق والشريك: خليط(6)، كما أنهم يطلقونه باعتبار العين الواحدة نفسها إن كانت هناك ممازجة أوملاصقة، وعليه فإن الاختلاط قد يقع بالتقارب، أو التجاور، أو الضم، أو التداخل، وقد تكون معه ممازجة أو ملاصقة وقد لاتكون.
فهو أعم من الممازجة، والالتصاق، والخلوة.
والمعنى الشرعي
لايختلف عن اللغوي ومنه قوله:
" { وآخَرُونَ اعتَرَفوُا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالحِاً وآخَرَ سَيَّئاً .. } [التوبة:102]، أي ضموا ومزجوا.
وقوله: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانِكُمْ.. } [البقرة: 220]، أي تداخلوهم.
وقوله: { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } [الأنعام:46]، أي انضم والتصق.
__________
(1) الوسيط – مجمع اللغة العربية بمصر، وانظر كذلك الموسوعة الفقهية 2/289.
(2) لسان العرب 7/291.
(3) المحيط لأديب اللجمي وشحادة الخوري.
(4) محيط المحيط.
(5) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس، 309.
(6) انظر مفردات ألفاظ القرآن، للراغب، الجزء الأول مادة (خلط).(1/8)
وقوله: { وإنَّ كَثَيِراً مِن الخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ص: 24]، أي الشركاء"(1) سموا كذلك لأن الشراكة تحصل بالخلط قبل العقد(2).
قال الراغب: "الخلط: هو الجمع بين أجزاء الشيئين فصاعدا، سواء كانا مائعين، أو جامدين، أو أحدهما مائعا والآخر جامدا، وهو أعم من المزج، ويقال اختلط الشيء، قال تعالى: { فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } [يونس:24]، ويقال للصديق والمجاور والشريك: خليط، والخليطان في الفقه من ذلك، قال تعالى: { وإنَّ كَثَيِراً مِن الخُلَطَاءِ لَيَبغِي بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ص:24]، ويقال الخليط للواحد والجمع، قال الشاعر:
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ...(3)
وقال: { خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَاً وَآخَرَ سَيِّئاً } [التوبة:102]، أي: يتعاطون هذا مرة وذاك مرة، ويقال: أخلط فلان في كلامه: إذا صار ذا تخليط، وأخلط الفرس في جريه كذلك، وهو كناية عن تقصيره فيه"(4).
وكذلك ما ورد في السنة يدور حول هذه المعاني، فأصل المادة واحد كما سبق، ومنه تفسيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: لاخلاط ولاوراط(5)، "بالحديث الآخر لايُجمع بين متفرق، ولايفرق بين مجتمع.. أما الجمع بين المتفرق فهو الخلاط.."(6).، وذكر عدة آثار لاتخرج أصول معانيها عما سبق.
المعنى الاصطلاحي:
أما المعنى الاصطلاحي، فلم أقف على من وضع له تعريفاً جامعاً مانعاً من المتقدمين، غير أن المعاصرين ذكروا له تعريفات، تدور في فلك واحد، محوره يرتكز على المعنى اللغوي.
__________
(1) مستفاد من معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية بتصرف يسير.
(2) الموسوعة الفقهية 19/223.
(3) شطر من مطلع قصيدة زهير بن أبي سلمى في توعد الحارث بن ورقاء، وتمامه: وزودوك اشتياقاً أيّةً سَلَكُوا.
(4) مفردات القرآن للراغب، مادة (خلط).
(5) شعب الإيمان 2/159، وغيره.
(6) مختصر من النهاية في غريب الحديث 2/62.(1/9)
قال العلامة ابن باز رحمه الله في تعريف الاختلاط: "هو اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات، في مكان واحد، بحكم العمل، أو البيع، أو الشراء، أو النزهة، أو السفر، أو نحو ذلك"(1).
وقال الشيخ عبدالله بن جار الله رحمه الله: "الاختلاط هو: الاجتماع بين الرجل والمرأة التي ليست بمحرم، أو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم، في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم، بالنظر أو الإشارة أو الكلام، فخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية على أي حال من الأحوال تعتبر اختلاطاً"(2).
وقال الشيخ محمد المقدم في تعريف الاختلاط المستهتر: "هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم، اجتماعاً يؤدي إلى الريبة، أو هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة، أو الكلام، أو البدن، من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد"(3).
ومما سبق فاختلاط الرجال والنساء هو امتزاجهم، أو انضمام بعضهم لبعض، أو تداخلهم، سواء كان ذلك بملاصقة أو بغير ملاصقة.
فدخول الأجنبي على النساء اختلاط بهن، ودخول الأجنبية على الرجال اختلاط بهم، ودخول بعضهم على بعضهم اختلاط، وأما دخول أحدهما على الآخر في رقعة ليس فيها سواهما ممن يعقل، أو كان فيها ولكن قام فاصل معتبر حال بينه وبينهم فتلك خلوة، وهي صورة خاصة من الاختلاط.
ولايكون الاختلاط مع وجود حائل معتبر –في جميع الصور السابقة- ولو كان فضاءاً.
ولعل تقدير اعتبار الحائل أمر عرفي، تعتبر فيه الحال، إذ ليس فيه نص مُقيِّد، أو معنى مُنضبِط.
__________
(1) عن مقال بعناون خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان العمل، انظر فتاوى ومقالات متنوعة 1/420.
(2) عن مجلة الأسرة، آفة التعليم الاختلاط، العدد رقم 70 بتاريخ محرم 1420 ص69.
(3) انظر عودة الحجاب، لمحمد أحمد إسماعيل المقدم، 3/52.(1/10)
ولهذا أثر أن عائشة رضي الله عنها كانت تطوف بالبيت حجرة غير مختلطة بالرجال، ونظائره، مما سيأتي في موضعه.
تنبيه: الأصل في لفظ الاختلاط الذي يطلق في هذا البحث هو ما قرر هنا من معنى اصطلاحي فليلحظ.
حكم الاختلاط بالأجانب وحكمته:
اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل(1). وهذه الضروريات إذا فقدت، لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة. وفي الأخرى فوت النجاة..
وفاحشة الزنا -كما ذكر أهل العلم- انتهت من القبح إلى الغاية، فهي من أعظم الفواحش، ومن أشدها خطراً على ضروريات الدين؛ ولهذا صار تحريم الزنا مجمعاً عليه من قبل العامة والخاصة(2)، فهو معلوم من الدين بالضرورة(3)، ونصوص تحريمه ظاهرة مشهورة.
قال الله عز وجل: { ولا تَقْرَبُوا الزِنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ، والنهي عن قربان الزنا أبلغ من النهي عن مجرد فعله(4)؛ قال العلامة ابن سعدي: لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه؛ فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه(5).
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي 1/31.
(2) انظر أحكام القرآن للجصاص 1/264، وكذلك المجموع شرح المهذب 3/15.
(3) انظر المستصفى لأبي حامد الغزالي ص146، وانظر المجموع شرح المهذب 3/15.
(4) تفسير الجلالين 369.
(5) تيسير الكريم الرحمن 457.(1/11)
وللأستاذ سيد قطب كلمة لطيفة يقول فيها: " ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية, كان التعبير: ولا تقربوا. . للنهي عن مجرد الاقتراب, سداً للذرائع, واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة. . لذلك حرمت النظرة الثانية -بعد الأولى غير المتعمدة- ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة. ولذلك كان التبرج -حتى بالتعطر في الطريق- حراماً, وكانت الحركات المثيرة، والضحكات المثيرة, والإشارت المثيرة, ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة.. فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود, ويوقع العقوبات. وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح. وربك أعلم بمن خلق, وهو اللطيف الخبير . ."(1).
وصدق رحمه الله، وقد عُلم من مدارك الشرع، أن الشارع الحكيم إذا نهى عن محرم، منع أسبابه وما يقود إليه، فالوسائل لها أحكام المقاصد، والشريعة جاءت بسد الذرائع، والنهي عن الشيء نهي عنه وعن الذرائع المؤدية إليه، وهذه الذرائع إما أن تفضي إلى المحرم غالباً، فتحرم مطلقاً، وكذلك تحرم إذا كانت محتملة قد تفضي أو لاتفضي، ولكن الطبع متقاض لإفضائها، وأما إن كانت تفضي أحياناً، فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل حرمت(2).
__________
(1) في ظلال القرآن، تفسير سورة الأنعام، قول الله تعالى: { ولاتقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } .
(2) بمعناه من الفتاوى الكبرى للإمام ابن تيمية، راجع الفتاوى الكبرى 6/173.(1/12)
ومن أعظم مقدمات فاحشة الزنا؛ اختلاط الرجال بالنساء، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا"(1)، وقال العلامة محمد ابن إبراهيم: "إن الله تعالى جبل الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط، نشأ عن ذلك آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيئ؛ لأن النفوس أمارة بالسوء، والهوى يعمي ويصم، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر"(2)، وقال العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره: الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع، ويهدم قيمه وأخلاقه"(3).
وما ذكره أهل العلم أقر به الغربيون، وشهد له الواقع، قالت الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك: .. وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وهاهنا البلاء العظيم على المرأة. إلى أن قالت: علِّموهن الابتعاد عن الرجال أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد(4).
أما الواقع فـ"في دراسة أجرتها النقابة القومية للمدرسين البريطانيين أكدت فيها أن التعليم المختلط أدى إلى انتشار ظاهرة التلميذات الحوامل سفاحاً (بالحرام) وأعمارهن أقل من ستة عشر عاماً، كما أثبتت الدراسة تزايد معدل الجرائم الجنسية (الزنا) والاعتداء على الفتيات بنسب كبيرة.
__________
(1) الطرق الحكمية 326.
(2) رسالة بعنوان حكم الاختلاط ص3، وانظر مجموع فتواه رحمه الله 10/35، ط2.
(3) خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان العمل، وهو من ضمن الفتاوى والمقالات المتنوعة للشيخ 1/419.
(4) نقلاً عن رسالة الشيخ عبدالعزيز بن باز انظر مجموع الفتاوى والمقالات 1/425، وقد نقله عن مصطفى السباعي في كتابه المرأة بين الفقه والقانون.(1/13)
وفي أمريكا بلغت نسبة التلميذات الحوامل سفاحاً (48%) من تلميذات إحدى المدارس الثانوية"(1)، وتقول راشيل بريتشرد(2): "التعليم المختلط يشجع على العلاقات بين الأولاد والبنات، وإذا أُحصي عدد المراهقات الحوامل من مدارس مختلطة ومن مدارس بدون اختلاط (خصوصاً المدارس الإسلامية) لوجدنا في الغالب أن النسبة في المدارس المختلطة تكون 57 % على الأقل مقارنة بالمدارس التي تطبق الفصل بين الجنسين بنسبة لعلها قرب من 5% (في حين ستجد أن النسبة في المدارس الإسلامية هي الصفر)، كما أنني أعتقد أن اختلاط الجنسين يؤدي إلى عدم تركيزهم من الناحية الدراسية؛ لأن اهتمامهم سيكون موجهاً للجنس الآخر".
هذا نموذج لما يقود إليه الاختلاط من معاص وخلل، ولايعني عدم ذكر غيرها ذكراً للعدم، بل الاختلاط مقتض لمعاص أخرى، كزنا العين والأذن واللسان وقس عليها، كما أنه سبيل إلى "هتك الأعراض، ومرض القلوب، وخطرات النفوس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغيرة"(3)،كما أنه باب لمفاسد أخلاقية، وأضرار تربوية، وقد يكون عائقاً عن وظائف المرأة وواجباتها الأساسية، ولعله تأتي الإشارة لشيء من مفاسد الاختلاط في الفصل الثاني من هذا البحث.
__________
(1) عن مقال بعنوان الاختلاط في التعليم: مفاسد أخلاقية، وأضرار تربوية، لفهد بن عبدالعزيز الشويرخ، نشر في مجلة الجندي المسلم العدد 105، لرمضان وشوال وذي القعدة من عام 1422، الموافق نوفمبر –ديسمبر 2001.
(2) امرأة إنجليزية الأصل من ويلز، أسلمت وتسمت عائشة أم سعدية، وقد كان هذا الكلام في مقابلة أجرتها معها مجلة البيان في عددها 150 صفحة 78 بتاريخ صفر/1421، وقد كانت ندوة بعنوان واقع المرأة في الغرب.
(3) حراسة الفضيلة 97-98.(1/14)
ولهذا دل الكتاب والسنة على تحريم الاختلاط(1)، وعدم جوازه إلاّ لحاجة بوجود محرم، أو من يقوم مقامه(2) في غير سفر، وفق ضوابط تُؤمن معها الفتنة، تختلف باختلاف الحال والمقام.
وقد وقع الخلاف في قيام غير المحرم مقام المحرم، وذلك عند دخول النساء على الرجال أو العكس، وقد أشار إلى الخلاف ابن حجر في الفتح وذهب إلى الجواز شريطة أن يقوم غير المحرم مقامه، لضعف التهمة حينها، ثم قال: "وقال القفال: لابد من المحرم، وكذا في النسوة الثقات لابد أن يكون مع إحداهن محرم. ويؤيده نص الشافعي أنه لايجوز للرجل أن يصلي بنساء مفردات، إلاّ أن تكون إحداهن محرماً له"(3).
ولعل من أدلة جوازه لحاجة مع وجود محرم على ما سبق حديث ابن عباس في الصحيح: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم". فقال رجل: "يا رسول الله! إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج". فقال: "اخرج معها"(4).
ففي الحديث حكمان تنبغي الإشارة لهما هنا، الأول: الإذن بالدخول على النساء إذا وجد المحرم.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما ثبت عند البخاري وغيره عن سهل قال لما عرس أبو أسيد الساعدي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلاّ امرأته أم أسيد، بلّت تمرات في تور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته له فسقته تتحفه بذلك(5).
__________
(1) المقصود الاختلاط بصوره التي سبقت الإشارة إليها في تعريفه.
(2) على خلاف فيه انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 2/5.
(3) الفتح 4/77 وأشار إلى قوله الشوكاني في النيل 4/344، وانظر كذلك سبل السلام 1/608.
(4) البخاري 2/658، 2/703 ومسلم 2/975 و 978.
(5) صحيح البخاري 5/1986، وقد بوب عليه: باب قيام المرأة على الرجال في العرس، وخدمتهم بالنفس.(1/15)
قال ابن حجر: "وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر"(1).
وقد اختلف أهل العلم في سد غير المحرم محله. ولعل الصواب ما سبق ذكره من صحة قيام غير المحرم محله لحاجة في غير سفر وفق ضوابط تؤمن معها الفتنة، ولعل بعض ما نُقل من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة في عهد النبوة تدل على هذا.
ومن ذلك عرض المرأة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه مع أصحابه(2)، ومنه سؤال الصحابيات للنبي صلى الله عليه وسلم عن أحكام الدين بواسطة(3) وبغيرها(4).
__________
(1) فتح الباري 9/251، ونحوه ذكر العيني في عمدة القاري 20/164-165، وقريب منه حديث أنس عند مسلم (3/1609)، في شأن الفارسي الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرق أعده، فلم يذهب حتى أذن لعائشة رضي الله عنها أن تأتي معه. غير أن فيه إجمال قد يحمل على انزوائها في بيت الفارسي مع أهله.
(2) والحديث متفق عليه، انظر البخاري 3/1125، ومسلم 3/1569.
(3) كما في حديث زينب امرأة ابن مسعود لما جاءت باب النبي صلى الله عليه وسلم هي وامرأة من الأنصار تسألانه عن الصدقة على الزوج، فكلما بلالاً ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولايخبره من هما، وهو عند مسلم 2/694، وغيره.
(4) كما في خبر المجادلة، وقد علق البخاري أصله في التوحيد، ورواه أهل السنن الأربعة غير الترمذي، ورواه أحمد وغيره، وهو حديث صحيح، انظر تغليق التعليق 5/339.(1/16)
أما الحكم الثاني في حديث ابن عباس: فهو لزوم المحرم للمرأة في سفرها، ولو لواجب(1)، ولعل الخلاف في قيام غير المحرم محله هنا ضعيف، فالأخبار جاءت متنوعة في منع المرأة من السفر بغير محرم ولم يثبت نص يفيد الترخيص اللهم إلاّ لضرورة، يقررها أهل الشأن.
والخلاصة: "الاختلاط بين الرجال والنساء، محرم ظاهر التحريم"(2)من حيث الأصل، وبعض صوره على ما تقرر في تعريفه، نقل بعض أهل العلم الإجماع على تحريمها، وهي الخلوة(3) ولو بمخطوبة اتفاقاً(4). بل قال بعض أهل العلم: "وتحرم الخلوة بغير محرم، ولو بحيوان يشتهي المرأة وتشتهيه كالقرد"(5).
وهناك صور أظهر في تحريم الاختلاط من غيرها، كـ"إذا كان فيه:
الخلوة بالأجنبية، والنظر بشهوة إليها.
تبذل المرأة وعدم احتشامها.
عبث ولهو وملامسة للأبدان، كالاختلاط في الأفراح والموالد والأعياد"(6).
فهذا اختلاط واضح التحريم، لمخالفته قواعد الشريعة، وقد تستثنى منه صور تحت إلجاء الضرورة، من نحو ما قد يضطر إليه الطبيب(7).
__________
(1) ذهب بعض المالكية إلى القول بجواز سفرها بغير محرم في كل سفر واجب ولعله بعيد، انظر الموسوعة الفقهية 22/300، وانظر من كتبهم الفواكه الدواني على رسالة القيرواني للنفراوي، وكذا قال بعض الشافعية، انظر الغرر البهية في شرح البهجة الوردية لزكريا الأنصاري 2/270.
(2) قاله مفتي المملكة العربية السعودية فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، في مقاله الذي أنكر فيه ماكان في منتدى جدة الاقتصادي، وقد نشر في عدد من الصحف السيارة كالوطن السعودية، والشرق الأوسط بتاريخ 21/4/2004م.
(3) انظر سبل السلام 1/608.
(4) الموسوعة الفقهية 19/269.
(5) الفتاوى الكبرى 5/449، وقد ذكره ابن عقيل، وابن الجوزي ونقله كذلك ابن مفلح، انظر الفروع 5/157-158، ونحوه في غير موضع من كتب الحنابلة المعتمدة.
(6) الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، 2/290.
(7) السابق بتصرف.(1/17)
وهناك صور الأصل فيها المنع، غير أنها تجوز للحاجة، وفق ضوابط وشروط مضت الإشارة إليها.
كما أن هناك صوراً تدخل في المعنى اللغوي والشرعي للاختلاط، ولكنها غير داخلة في المعنى الاصطلاحي على ما سبق بيانه، والأصل جوازها كاختلاط النساء بمحارمهن، وكذلك الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، ومن كان نحوهم، ما دام جانب الفتنة مأموناً، ومنه كذلك الاختلاط مع وجود محرم أو فاصل معتبر وإن كان فضاءً(1).
وقد ينتقل أصل الجواز لأحد الأحكام التكليفية الأربعة لمقتض خارجي، والله أعلم.
الأصل أمر النساء بالقرار في البيوت:
إن من متطلبات الحياة خروج الرجال وتكبدهم المشاق حِسيةً ومعنوية، وليس ذلك مطلوباً لذاته، ولكنه من أجل الكسب وتحصيل القوت والقيام بالنفقة، فليس الأمر بالسعي والكد تشريفاً للرجال بل هو تكليف بما يناسب خَلْقَ وأخلاق من يتجشم ذلك، وبالمقابل قرار المرأة في بيتها أليق بها، وأكثر صيانة لها، وأصلح لأولادها وأنفع لزوجها ومجتمعها، ولهذا قالوا: "الرجل يجني والمرأة تبني".
وصدق من قال:
إذا لم تكن في منزل المرء حُرّة…رأى خللاً فيما تدير الولائدُ
ولآخر:
إذا لم تكن في منزل المرء حرةٌ…تُدَبِّره ضاعت مصالح داره
إن"البيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة, ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة.
__________
(1) لاتكاد تجد الفقهاء يطلقون لفظ الاختلاط على نحو هذه الصور، غير أن الباحث قد يقف على أحرف معدودة لبعضهم فليتنبه، ومن ذلك ما أطلقه النووي في موضع واحد من المجموع 4/350، ومراده مقيد بالاختلاط اللغوي مع وجود الفاصل المعتبر، تدل على ذلك الصورة التي تحدث عنها بالإضافة إلى نصوصه الأخرى ومنها عده الاختلاط بين الرجال والنساء يوم عرفة من البدع القبيحة كما في المجموع نفسه 8/123.(1/18)
ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها, أوجب على الرجل النفقة, وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد, ومن الوقت, ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب, وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها.
فالأم المكدودة بالعمل للكسب, المرهقة بمقتضيات العمل, المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره, ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات; وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لاتوجد إلا أن تخلقها امرأة, وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة, وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال"(1).
__________
(1) في ظلال القرآن، آية الأحزاب: { وقرن في بيوتكن } .(1/19)
ولهذا كان قرار المرأة في بيتها هو الأصل، "فهو عزيمة شرعية في حقهن، وخروجهن من البيوت رخصة لا تكون إلا لضرورة أو حاجة"(1) ، "بضوابط الخروج الشرعية"(2)، قال الله: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } ، قال القرطبي –رحمه الله- "معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف على الخروج منها إلا لضرورة"(3)، حتى أن إمام التفسير مجاهد فسر التبرج هنا بما دل عليه صدر الآية فقال: "كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى"(4)، وقد نص غير واحد من أهل العلم على أن المرأة تلزم بيتها لاتخرج منه إلاّ لضرورة، قال ابن الحاج: "خروج المرأة لايكون إلاّ لضرورة شرعية"(5).
وقال الجصاص في الآية الآنفة: "وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت، منهيات عن الخروج"(6).
__________
(1) عن حراسة الفضيلة، للشيخ بكر أبوزيد –حفظه الله، ص89 ط3.
(2) السابق 97.
(3) تفسير القرطبي 14/178.
(4) انظر تفسير ابن كثير للآية 3/483، وهو عند عبدالرزاق كما أشار الحافظ في الفتح 8/520 وسند عبدالرزاق الذي ذكر صحيح، وهو كذلك في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/198.
(5) المدخل 2/12.
(6) أحكام القرآن للجصاص 3/529.(1/20)
قال ابن العربي المالكي رحمه الله: " قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ } يعني اسكُنَّ فيها ولا تتحرَّكن, ولا تبرحن منها، حتى إنه رُوي ولَم يصح(1) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما انْصرف من حجة الوداع قال لأزواجه هذه ثم ظهور الحصر; إشارةً إلى ما يلْزمُ المرأة من لزوم بيتها, والانكفاف عن الخروج منه, إلا لضرورة"(2)، ونحوه ذكر ابن كثير: "يعني الزمن ظهور الحصر ولاتخرجن من البيوت"(3).
قال الشيخ بكر أبوزيد: "ومن نظر في آيات القرآن الكريم، وجد أن البيوت مضافة إلى النساء في ثلاث آيات من كتاب الله تعالى، مع أن البيوت للأزواج أو لأوليائهن، وإنما حصلت هذه الإضافة -والله أعلم- مراعاة لاستمرار لزوم النساء للبيوت، فهي إضافة إسكان ولزوم للمسكن والتصاق به(4)، لا إضافة تمليك، قال الله تعالى : { وقرن في بيوتكن } ، وقال سبحانه : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَات ِاللهِ وَالحِكْمَةِ } ، وقال عز شأنه : { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } "(5).
__________
(1) لعله حديث صحيح كما ذكر غيره من الأئمة رحمة الله على جميعهم، وسوف يأتي تخريجه إن شاء الله عند ذكر المنع من الاختلاط في التشريع، في حج النساء واعتمارهن.
(2) أحكام القرآن 3/569.
(3) في تفسير قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة.. } الآيات، في معنى حديث أبي داود: هذه ثم ظهور الحصر، انظر التفسير 1/386.
(4) ونحوه ذكر الزمخشري في الكشاف عند الآية الثالثة: { لاتخرجوهن من بيوتهن } ، فعلل بكون النساء مختصات بالبيوت من حيث السكنى.
(5) حراسة الفضيلة ص89-90.(1/21)
ومع ذلك قد تقتضي الحاجة خروج النساء، وعندها فلا حرج في خروجهن إذا أمنت الفتنة وكان خروجها منضبطاً بضوابط الشريعة، فلا تخرج متطيبة ولا متزينة، أو متبرجة ولا سافرة، ولاتزاحم الرجال في وسط الطرقات، بل تلتزم حافتها، وإذا احتاجت إلى الكلام مع الأجانب فلا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فمتى انقضت الحاجة أو ارتفعت الضرورة عاد كل إلى أصله.
أما إذا لم تكن ثمة حاجة فقد قال الله عزوجل: { وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ } ، ومع هذا الأمر بالقرار وحذراً من مغبة الاختلاط منع من الدخول على النساء، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر المتفق عليه: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يارسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت"(1).
لا يأمننَّ على النساء أخٌ أخاً……ما في الرجالِ على النساء أمين
بل أُثر النهي حتى عن دخول غير أولى الإربة من الرجال على النساء، ففي الصحيحين من حديث أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعته يقول لعبد الله بن أبي أمية: يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلن هؤلاء عليكن"(2).
وكل ذلك لعظم فتنة النساء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة ابن زيد المتفق عليه: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"(3).
__________
(1) البخاري 5/2005، ومسلم 4/1711.
(2) صحيح البخاري 4/1572، ومسلم 4/1716.
(3) البخاري 5/1959، ومسلم 4/2097.(1/22)
قال الله تعالى: { زُيِّنَ للنّاسِ حُبُّ الشَهَواتِ مِنَ النِسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِن الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ وَالحَرْثِ } الآية، "فجعلهن من عين الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع، إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك"(1)، قال القرطبي: " بدأبهن لكثرة تشوف النفوس إليهن لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال"(2) وذكر حديث أسامة الآنف.
وقد قالوا:
إنَّ النِسَاء رَياحِينٌ خُلِقنَ لنا……وكُلُنَا يشتهي شمَّ الرياحينِ
وللآخر:
ونحن بنو الدنيا وهُنَّ بناتُها……وعيش بني الدنيا لقاء بناتها
فلكل امرأة خاطب، ولكل ساقطة لاقط، ولهذا حذر عقلاء الأمم منذ القدم مغبة مخالطة الرجال للنساء، "قال بعض الحكماء: إياك ومخالطة النساء، فإن لحظ المرأة سهم، ولفظها سم. ورأى بعض الحكماء صياداً يكلم امرأة فقال: ياصياد احذر أن تصاد. وقال سليمان بن داود عليهما السلام لابنه: امش وراء الأسد ولاتمش وراء المرأة.."(3).
__________
(1) تحفة الأحوذي 8/53، وانظر عمدة القاري 20/89.
(2) تفسير القرطبي 4/280.
(3) أدب الدنيا والدين للماوردي ص156.(1/23)
ومما سبق نخلص إلى أن "الأصل أمر النساء بلزوم البيوت، ونهيهن عن الخروج منها، وقد ذكر الكاساني عند الكلام عن أحكام النكاح الصحيح أن منها: ملك الاحتباس وهو صيرورتها (الزوجة) ممنوعة من الخروج والبروز لقوله تعالى: { أَسْكِنُوهُنَّ } , والأمر بالإسكان نهي عن الخروج, والبروز, والإخراج, إذ الأمر بالفعل نهي عن ضده, وقوله عز وجل: { وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ } وقوله عز وجل: { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ } ولأنها لو لم تكن ممنوعة عن الخروج والبروز لاختل السكن والنسب; لأن ذلك مما يريب الزوج ويحمله على نفي النسب. وقد مضى ذكر كلام بعض أهل العلم في تقرير أمر النساء بالقرار في معرض تناولهم لقول الله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ } وغيرها من الآيات، وسبقت الإشارة إلى بعض الأحاديث الدالة على هذا المعنى.
أما عند الحاجة كزيارة الآباء, والأمهات, وذوي المحارم, وشهود موت من ذكر, وحضور عرسه وقضاء حاجة لا غناء للمرأة عنها ولا تجد من يقوم بها يجوز لها الخروج، إلا أن الفقهاء قيدوا ذلك بقيود من أهمها:
1 - أن تكون المرأة غير مخشية الفتنة, أما التي يخشى الافتتان بها فلا تخرج أصلا.
2 - أن تكون الطريق مأمونة من توقع المفسدة وإلا حرم خروجها.
3 - أن يكون خروجها في زمن أمن الرجال ولا يفضي إلى اختلاطها بهم; لأن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر...
4 - أن يكون خروجها على تبذل وتستر تام، قال العيني: يجوز الخروج لما تحتاج إليه المرأة من أمورها الجائزة بشرط أن تكون بذة الهيئة, خشنة الملبس, تفلة الريح, مستورة الأعضاء غير متبرجة بزينة ولا رافعة صوتها.(1/24)
5 - أن يكون الخروج بإذن الزوج, فلا يجوز لها الخروج إلا بإذنه. قال ابن حجر الهيتمي: وإذا اضطرت امرأة للخروج لزيارة والد خرجت بإذن زوجها غير متبرجة. ونقل ابن حجر العسقلاني عن النووي عند التعليق على حديث : "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن"(1) أنه قال: استدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن، وللزوج منع زوجته من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد, سواء أرادت زيارة والديها أو عيادتهما أو حضور جنازة أحدهما. قال أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها... ولأن طاعة الزوج واجبة, والعيادة غير واجبة فلا يجوز ترك الواجب لما ليس بواجب. ولا ينبغي للزوج منع زوجته من عيادة والديها, وزيارتهما لأن في منعها من ذلك قطيعة لهما, وحملا لزوجته على مخالفته, وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف, وليس هذا من المعاشرة بالمعروف..."(2).
مراعاة المنع من الاختلاط في التشريع:
إذا عرضت للمرأة حاجة تسوغ خروجها فلا حرج عليها إن خرجت وفقاً لما سبق بيانه، غير أن تلك الحاجة لاتسوغ اختلاطها بالرجال إلاّ أن تكون ضرورة، وذلك لحرمة الاختلاط وإن من أقوى الأدلة على تحريم الاختلاط، رعاية الشارع للنساء، وصيانته لهن من الاختلاط في سائر أحكام التشريع.
ولهذا "اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس... وكان علمها عند الأمة كالضروري، مع أنه لم يثبت ذلك بدليل معين، ولا شهد به أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملأمتها للشريعة بمجموعة أدلة لا تنحصر في باب واحد"(3).
__________
(1) صحيح البخاري باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس 1/295 رقم (827)، وهو عند مسلم بألفاظ مقاربة 1/327 رقم (442).
(2) الموسوعة الفقهية 19/107-109 باختصار وتصرف.
(3) انظر الموافقات للشاطبي 1/31.(1/25)
فمن تأمل نصوص الشريعة وجد أنها راعت طبيعة المرأة فلم توجب عليها التكاليف التي يكون فيها بروز ومخالطة للرجال، ومن ذلك إيجاب الجمع والجماعات على الرجال دون النساء، ومنه فرض الجهاد على الرجال دون النساء، وكذلك فرض النفقة على الرجل دون المرأة.
لكن ربما دعت الشريعة النساء إلى شهود ما يحضره الرجال، خلافاً للأصل الذي قررته وهو قرارهن في البيوت، غير أن المتأمل يلحظ في هذا أحد أمرين:
الأول: إما أن تكون المناسبة مما يفوت وقته وتذهب مصلحته بتأخيره كنحو شهود الأعياد.
الثاني: يضيف إلى ما سبق أن يكون محل المأمور به واحداً، اقتضت الحكمة الإلهية أن لايتعدد، كالطواف والسعي والرمي وغيرها من أعمال الحج أو العمرة.
وفي كلا الأمرين مصلحة العبادة تشمل جميع المكلفين، والعنت يلحق الناس إذا وضع لها الشارع نمطاً يكفل عدم الاختلاط، ومع ذلك فإن نحو هذه العبادات وضع الشارع لها من الضوابط ما يكفل عدم امتزاج الرجال بالنساء.
وإذا نظرت إلى واقع النساء في العهد الأول، وجدتهن بعيدات عن خلطة الرجال، يخرجن للحاجات والضروريات، متقيدات بالشريعة غير مفتئتات، ملتزمات في عبادتهن بما يكفل لهن الصيانة من خلطة الغرباء.
وفي ما يلي بعض العبادات التي راعى فيها التشريع ذلك الأصل وقد تكون محل التباس عند البعض:
1- طلبهن العلم:(1/26)
طلب العلم واجب على كل مسلمة، كشأن الرجال فالكل محتاج إليه، ومع ذلك لم يكنَّ يُزاحمن الرجال لأجل تحصيله، ولكن طلبن أن يَجْعَل لهنّ النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً خاصاً لايكون للرجال فيه نصيب، وقد بوب البخاري في كتاب العلم من الصحيح، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم، وساق حديث أبي سعيد، قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً.. الحديث(1)، قال العيني: "أي عين لنا يوماً" وقال: "قوله غلبنا عليك الرجال معناه أن الرجال يلازمونك كل الأيام ويسمعون العلم وأمور الدين، ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم، فاجعل لنا يوماً من الأيام نسمع العلم ونتعلم أمور الدين"(2).
وقد نص الفقهاء على المنع من اختلاط رجال بنساء في المسجد، لما يترتب عليه من مفاسد(3)، ويشمل ذلك الاختلاط بغية طلب العلم.
ولو كان الاختلاط جائزاً لقال لهن احضرن مع الرجال مجالس العلم والذكر، فهو أولى من تبديد الطاقات والنبي صلى الله عليه وسلم أحرص على حفظ الأوقات.
2- مبايعتهن النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) صحيح البخاري 1/50، ورواه غيره.
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 2/134.
(3) انظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 2/258، وغذاء الأباب في شرح منظومة الآداب 2/314.(1/27)
من مراعاة التشريع للمنع في الاختلاط فيها، جعل محل خاص بهن، بعيد عن الرجال، أتاهن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولم تقل إحداهن لماذا لم تأخذ علينا البيعة مع الرجال! بل خرجن فاجتمعن مع بنات جنسهن لهذه الحاجة الدينية، ملتزمات بالضوابط الشرعية، فأخذ عليهن النبي صلى الله عليه وسلم البيعة وعلمهن وما مست يده يد امرأة قط(1)، وما يُروى في صفة ذلك من نحو مصافحة عمر –رضي الله عنه- لهن نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في إناء فيه ماء، أو جاء بحائل فهذا ونحوه لم يثبت بنقل صحيح، فلا يعارض به ما ثبت.
3- ندبهن لشهود أعياد المسلمين، وجواز حضورهن الجمع والجماعات:
__________
(1) ثبت ذلك من حديث عائشة المتفق عليه، البخاري 4/1856، ومسلم 3/1489.(1/28)
صلاة العيد مناسبة يفوت وقتها وتذهب مصلحتها بتأخيرها، ومن نظر إلى مقاصد العيد علم حكمة الشارع في عدم تكرار شعائره لأجل فصل الرجال والنساء فيه، فإن في ذلك عنتاً لايتناسب مع تيسير الشريعة، ومشقة لاتتناسب وتلك الأيام التي جعلها الشارع للتوسعة والترخص المنضبط وصلة الأرحام، ولذلك ناسب أن يحض الرجال والنساء على أداء صلاتها جميعاً مع وضع الضوابط التي تكفل عدم امتزاج الرجال بالنساء، قال ابن حجر في تعليقه على خطبة النبي صلى الله عليه وسلم النساء يوم العيد: " قوله: "ثم أتى النساء" يُشعِر بأنّ النساء كُنّ على حدة من الرجال غير مختلطات بهم، وقوله: "ومعه بلال" فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه، لأن بلالاً كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره"(1)، وقريب منه قول الخراشي في تعليل استحباب صلاة العيد في الفضاء حيث يقول: "ولبعدهن من الرجال لما فرغ من خطبته وصلاته، جاء إليهن فوعظهن وذكرهن، فلو كن قريباً لسمعن الخطبة.."(2)، ومع ذلك اختلف أهل العلم فقال ابن عبدالبر: "..قال مالك لا يمنع النساء الخروج إلى المساجد، فإذا جاء الاستسقاء والعيد فلا أرى بأسا أن تخرج كل امرأة مُتَجَّالَّة(3). هذه رواية ابن القاسم عنه.
__________
(1) الفتح 2/466.
(2) شرح مختصر خليل لمحمد بن عبدالله الخراشي، 2/103، وقد نص آخرون على أن صلاتها في المسجد بدعة –ولو كان المسجد النبوي- لأجل ما يحصل من ازدحام في المساجد –ولو كبرت- عند الدخول أو الخروج. ثم اختلفوا في حكم البدعة بناء على اختلافهم في تقسيمها بين محرم وكاره، ينظر في ذلك بعض حواشي الشرح الكبير، ومنها حاشية الدسوقي 1/399.
(3) تجالت: أي أسنَّت وكَبُرت، يقال : جَلَّتْ فهي جَلِيلة ، و تَجالَّتْ فهي مُتَجالَّة.(1/29)
وروى عنه أشهب قال: تخرج المرأة المتجالّة إلى المسجد، ولا تكثر التردد، وتخرج الشابة مرة بعد مرة. وكذلك في الجنائز يختلف في ذلك أمر العجوز والشابة في جنائز أهلها وأقاربها(1).
وقال الثوري ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزاً.
قال الثوري: قال عبد الله: المرأة عورة، وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان.
وقال الثوري: أكره اليوم للنساء الخروج إلى العيدين.
وقال ابن المبارك أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطمارها ولا تتزين(2)، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك"(3).
ثم قال أبو عمر: "أقوال الفقهاء في هذا الباب متقاربة المعنى وخيرها قول ابن المبارك لأنه غير مخالف لشيء منها ويشهد له قول عائشة: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن المسجد، ومع أحوال الناس اليوم ومع فضل صلاة المرأة في بيتها فتدبر ذلك"(4)، وفي زماننا هذا ما أحوجنا لأن نتدبر ذلك.
__________
(1) مسألة اتباع النساء للجنائز مسألة خلافية، والجمهور أطلقوا الكراهة كما ذكر النووي (المجموع 5/278 وانظر الفتح 3/378 في التعليق على حديث أم عطية)، ونص بعض أهل العلم على أنها كراهة تحريم (حاشية ابن عابدين 2/232)، ولاشك أن الأولى منع النساء منه لكون أقل الأحوال الكراهة، والمكروه يوعظ الناس بتركه، ويتأكد ذلك بل يتحقق في هذه الأعصار التي لايكاد اتباع النساء للجنائز يخلو من محرم كاختلاط أونياحة.
(2) نقله الترمذي بلفظ: أطمارها الخُلْقَان. انظر السنن 2/420.
(3) التمهيد 23/402.
(4) السابق 23/402.(1/30)
ثم إن جواز شهودهن الجمع والجماعات بالضوابط التي وضعها الشارع لصلاة المرأة في المسجد، دليل واضح يفيد مراعاة الشريعة لأصل الفصل بين الرجال والنساء، فقد جعل الشارع صلاة المرأة في قعر دارها خير لها حتى جاء عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها"(1) قال في العون: " لأن مبنى أمرها على التستر"(2)، قال ابن حجر: "ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة"(3)، وقد قال ابن عبدالبر بعد أن ذكر أحاديث مسندة في لزوم المرأة بيتها: "قد أوردنا من الآثار المسندة في هذا الباب ما فيه كفاية وغنى فمن تدبرها وفهمها وقف على فقه هذا الباب"(4).
__________
(1) سنن أبي داود 1/156، وسنده صحيح، وقد جاء أيضاً عند ابن خزيمة في صحيحه 3/94، وعند الحاكم في المستدرك 1/328، والبيهقي في الكبرى 3/131، وكذلك الطبراني في الكبير 9/295 وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 2/34)، وهؤلاء جميعاً من طريق قتادة عن مورق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود، وقد جود الحافظ ابن كثير إسناده (انظر التفسير 3/483)، وقد روي عن غير ابن مسعود رضي الله عنه وقد أورد ابن عبدالبر آثاراً بمعنى هذا من حديث عائشة وأم سلمة وأبي هريرة وأبي سعيد وقال بعدها: "قد أوردنا من الآثار المسندة في هذا الباب ما فيه كفاية وغنى فمن تدبرها وفهمها وقف على فقه هذا الباب" (التمهيد 23/401).
(2) العون 2/195.
(3) الفتح 2/349، وانظر شرح الزرقاني 2/8، وفيض القدير 1/71، ونيل الأوطار 3/161.
(4) التمهيد 23/401.(1/31)
وبعد ذلك إذا خرجت المرأة أمرها الشارع أن تخرج تفلة غير متطيبة ولا متزينة، فإن خالفت ذلك عصت الله بخروجها ولو إلى مسجد، كما في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً"(1).
ثم إذا جاءت المسجد تدخل من باب خاص لايدخل منه الرجال فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بنى المسجد جعل باباً للنساء، وقال: "لو تركنا هذا الباب للنساء" قال نافع فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات(2)، وروى نافع أن عمر –رضي الله عنه- كان ينهى أن يدخل من باب النساء(3). فإذا دخلت المرأة المسجد كان خير صفوفها أبعدها عن الرجال، وكان شرها أقربها منهم لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها"(4)، وقد علل الفقهاء ذلك لما فيه من البعد عن مخالطة الرجال(5)، فإذا خرجت من المسجد فعليها أن تستأخر وتلتزم حافة الطريق كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق " فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها كما جاء عند أبي داود بسند حسن(6)
__________
(1) صحيح مسلم 1/328، ورواه غيره.
(2) سنن أبي داود 1/126، 1/156، والأوسط للطبراني 1/304، وكذلك ذكره في التمهيد 23/397، وانظر المحلى 3/131، وغيرها، وهو حديث صحيح الإسناد.
(3) سنن أبي داود 1/126، وسنده صحيح.
(4) رواه مسلم 1/326، ورواه غيره.
(5) انظر نيل الأوطار 3/219.
(6) لعله حديث حسن، رواه أبوداود في السنن 4/369 وفيه أبو اليمان وهو كثير الرحال قال الحافظ مستور وقال ابن حزم في المحلى 2/177: "وليس بمشهور"، ولعله معروف وثقه ابن حبان وروى عنه غير واحد وابن حزم –رحمه الله- لايوافقه جل الأئمة في إطلاقه الجهالة، ولهذا تعقب ابن القيم في حاشيته (1/312) ابن حزم في حكمه على أبي اليمان فقال: " وما ذكره ضعيف" ثم قال على الحديث الذي جاء فيه "فالحديث غير ساقط" ، وحديثنا هذا جاء من طريق آخر عند الطبراني في الكبير 19/261 وكذلك ذكره ابن عبدالبر في التمهيد 23/399، والمزي في تهذيب الكمال 12/402وهو صالح للمتابعة وفيه أبواليمان النبال وهو معلى بن راشد قال الحافظ مقبول، ولعله ليس به بأس يحتج بحديثه، فقد وثقه ابن حبان وقال النسائي: ليس به بأس، وقد روى عنه جمع وروى عن جمع (انظر تهذيب الكمال 28/284)، غير أن فيه شداد بن أبي عمرو بن حماس وهذا مستور، وقد جاء له شاهد من حديث أبي هريرة عند البيهقي في الشعب 6/174 وفيه شريك بن عبدالله، فالأقرب أن الحديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع رقم (929) والله أعلم.(1/32)
. قال ابن الأثير: يحققن الطريق هو أن يركبن حقها، وهو وسطها(1)، ووجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على قطع كل سبب للاختلاط وإن كان غرض الخروج أداء الفرض فكيف يسوغ في غيره، وإذا منعهن من الاختلاط العابر في الطريق إلى المسجد والمؤقت في داخل المسجد لأنه يؤدي إلى الافتنان، فكيف يقال بجواز الاختلاط في غيره؟
4- حج النساء واعتمارهن:
مما فرضه الله على المرأة والرجل، الركن الخامس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ولما كانت أعمال الحج والعمرة يتحد محلها للرجال والنساء، ولامصلحة من تغيير وقته أو فصل محله فإن في ذلك عنتاً لايخفى على المتأمل، لهذا اقتصر التشريع على وضع ضوابط لمن قصد هذا الركن من النساء، تكفل صيانة أعراضهن، وتمنع من اختلاطهن بالرجال(2) قدر الإمكان، ومن ذلك أن الشارع لم يوجب على المرأة حجاً أو عمرة إلاّ إذا كان معها محرم، ومن أباح لها السفر من الفقهاء مع رفقة من النساء مأمونةٍ قال: "لتستأنس بهنَّ ولاتحتاج إلى مخالطة الرجال"(3)، بل كره مالك أن تركب البحر ولو للحج لأنه مظنة خلطة، وفرق فقهاء المالكية بين ما إذا كان في السفينة مكان تستغني به عن مخالطة الرجال فجوزوا هذا ومنعوا إذا لم يكن(4)، ثم جعل الشارع رخصاً لمن كانت معه نساء أوضعفة ليست لغيره، كالدفع من مزدلفة بليل فقد رويت فيه آثار ومن ذلك حديث عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت" يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت: لها يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا،
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 1/415.
(2) راجع ما جاء في تعريف الاختلاط وحكمه مع وجود محرم لحاجة.
(3) انظر المبسوط للسرخسي 4/111.
(4) التاج والإكليل لمختصر خليل 3/485، وكذلك مواهب الجليل 3/520.(1/33)
قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن(1). والأحاديث في هذا معروفة وقد رخص بها جمع من أهل العلم للنساء في الرمي قبل طلوع الشمس ولو كانت جمرة العقبة.
ومن مراعاة المرأة قول طائفة من الفقهاء بجواز تأخير الرمي إلى بعد الغروب، بل إن الفقهاء مراعاة لأصل المنع من الاختلاط في الشريعة استحبوا للمرأة ما لم يستحبوا للرجل من نحو طوافها بعيدة عن البيت(2)، ورخصوا لها في تأخير طواف القدوم إلى الليل خشية الزحام(3).
__________
(1) البخاري 2/603، ومسلم 2/940.
(2) انظر للحطاب المالكي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل 3/140 بل صرح المالكية بأن السنة لهن خلف الرجال كالصلاة انظر شرح مختصر خليل للخراشي 2/315، وللهيتمي الشافعي تحفة المحتاج في شرح المنهاج 4/92، وللزيلعي الحنفي انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2/16، وهو ما يفهم من كلام ابن قدامة والمرداوي من الحنابلة انظر المغني 3/185 والانصاف 4/8.
(3) انظر حاشية العدوي 1/527، ونص عليه الإمام الشافعي في الأم في حق الجميلة 2/232، وأضاف الشريفة في المجموع نقلاً عن الإمام والأصحاب 8/14، وكذلك في أسنى المطالب 1/476، وانظر المغني 3/157، وهو في كتب فقهاء الحنابلة كثير.(1/34)
وفي البخاري: "قال ابن جريج أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن. كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة(1) من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت.."(2)، ولهذا كره بعض الفقهاء الطواف مع وجود الاختلاط بين الرجال والنساء قال الحطاب في مواهب الجليل: " نقل في المسائل الملقوطة عن والده أنّه يكره الطواف مع الاختلاط بالنساء"(3).
__________
(1) ممتنعة عن مخالطتهم، ناحية بعيدة عنهم.
(2) صحيح البخاري 2/585 وغيره.
(3) انظر مثلاً مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب المالكي 3/110 وكذلك الفواكه الدواني 1/358 و367، وحاشيتا قيلوبي وعميرة في فقه الشافعية 2/134.(1/35)
ومن مراعاة بعض أمهات المؤمنين للأمر بلزوم البيوت ونبذهن الاختلاط، اكتفاؤهن بحجة الفريضة، وترك القيام للتطوع، وهذا مأثور عن زينب وسودة رضي الله عنهما، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "هذه ثم ظهور الحصر"(1)
__________
(1) لعله حديث صحيح فقد رواه جمع من طريق زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرجها من هذا الطريق الإمام أحمد في مسنده 5/218 والتي تليها، وكذلك أبويعلى 3/32، والبيهقي في الكبرى 4/327، 5/228 وأبو داود في سننه 2/140، وأرسلها عبدالرزاق عن زيد بن أسلم في مصنفه 5/8، وغيرهم وقد أعل بعض أهل العلم كالذهبي في الميزان (7/119) هذا الطريق بتفرد زيد بن أسلم بالرواية عن ابن أبي واقد، غير أن ابن حجر في الفتح صححها وقال: (4/74) " وإسناد حديث أبي واقد صحيح وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة.. وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل"، ولعل لإعلال الذهبي لتلك الطريق وجهه، وأياً ما كان فالحديث صح من طريق ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصالح وإن اختلط فإن رواية ابن أبي ذئب عنه قديمة كما قرر الحفاظ، قال ابن عدي: "لابأس إذ سمعوه منه قديماً" (الفروع لابن مفلح 1/530-531)، وقال الهيثمي في المجمع 3/214: "وفيه صالح مولى التوأمة ولكنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وابن أبي ذئب سمع منه قبل اختلاطه"، وهو كما قال وإليه أشار الحافظ في التقريب، وهو الذي عليه الأئمة كما أشار إليه ابن عبدالبر في التمهيد 23/361، ومن هذا الطريق خرجه الإمام أحمد 2/446، و 6/324 وهو في مسند الحارث 1/440، وعند الطيالسي 1/229، وأبي يعلى 13/80، 13/88، وغيرهم، وجاء من طريق ثالث لابأس به فقد جاء من عدة أوجه عن عثمان الأخنسي عن عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع عن أم سلمة كما عند أبي يعلى 12/312، والطبراني في الكبير 23/313، وغيرهما. فالحديث صحيح إن شاء الله، وقد وثق رواته المنذري في الترغيب والترهيب 2/138، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/214، وكذلك الألباني في صحيح أبي داود 1515، وقد تكلم أهل العلم في تأويله.(1/36)
.
ومن مراعاة أهل العلم للمنع من الاختلاط قول ابن جماعة في منسكه الكبير:"ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة..." إلى أن قال: "نسأل الله أن يلهم ولي الأمر إزالة المنكرات" ، قال الهيتمي بعد أن نقله: "فتأمله تجده صريحاً في وجوب المنع حتى من الطواف عند ارتكابهن دواعي الفتنة"(1).
ومن مراعاتهم للمنع من الاختلاط في النسك قولهم: لايستحب لها أن تزاحم الرجال لاستلام الحجر الأسود(2).
وقولهم: لاتقف المرأة على الصفا للدعاء إلاّ إذا خلا المكان عن مزاحمة الرجال، ويكون سنة في حقها إذا خلا المكان(3).
ولعله يأتي ذكر طرف من أقوالهم التي تفيد اعتبارهم المنع من الاختلاط في التعليل للأحكام.
ومما سبق نخلص إلى أن الشارع حف الحج والعمرة بمأحكام تكفل منع الخلطة المحرمة ومن ذلك اشتراط المحرم، ومع ذلك ندب المرأة إلى ترك مزاحمة الرجال، واستحب لها الفقهاء لأجل ذلك ما لم يستحبوه للرجال. وقد كانت أمهات المؤمنين ونساء الصالحين يراعين ذلك فيمتزن عن الرجال، غير أنه تبقى طائفة نسوةٍ في القديم والحديث يصدق فيهن قول الأول:
من اللائيْ لم يحججن يبغين حسبةً……ولكن ليقتلن البريءَ المغفلا
فعلى أخت الإسلام أن لاتغتر بهن، نسأل الله أن يصلح حال أخواتنا وأمهاتنا ونسائنا ونساء المسلمين.
5- خروجهن للجهاد:
إن خروج النساء في الصدر الأول للغزو تطوعاً بل واستشهاد بعضهن حق لامرية فيه، وقد بوب البخاري في صحيحه؛ باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء، وباب: غزو المرأة في البحر، وباب: حمل الرجل امرأته في غزو دون بعض نسائه، وباب: غزو النساء وقتالهن مع الرجال، وباب: مداواة النساء الجرحى في الغزو، وباب: رد النساء الجرحى والقتلى.
__________
(1) الفتاوى الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي 1/201-202.
(2) المغني 3/183.
(3) الفواكه الدواني 1/359.(1/37)
غير أن الشارع لم يوجب عليهن الجهاد بالاتفاق(1)، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا نجاهد؟" قال: "لا، لَكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور"(2)، ومن علله قول الصنعاني: "لأن النساء مأمورات بالستر والسكون، والجهاد ينافي ذلك، إذ فيه مخالطة الأقران، والمبارزة ورفع الأصوات"(3)، وقد نص أهل العلم على أن الذكورية شرط لوجوبه.
بيد أن خروج النساء في العصر الأول للجهاد كان منضبطاً بضوابط الشريعة، والتي منها مراعاة المنع من الاختلاط، وأسباب الفتنة، فمن أجازوا خروج النساء للغزو(4) اختلفوا في خروج الشابة إلى أرض العدو بينما رخصوا للعجوز، وقالوا بالكراهة لخروجها في سرية لايؤمن عليها، وعلق بعضهم الإباحة بكون العسكر كثيراً تؤمن عليه الغلبة(5)، وهذا هو الأقرب.
ومن الضوابط الشرعية لجواز خروج النساء للجهاد:
وجود المحرم لعموم أدلته، وعدم وجود ما يخصص موطن الجهاد، وقد نص أهل العلم على ذلك(6).
__________
(1) الموسوعة الفقهية 22/119.
(2) صحيح البخاري 2/552 رقم 1448 ورواه غيره، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة.
(3) سبل السلام 2/460.
(4) منع بعضهم انظر المدونة 1/499، وقد نقل عن ابن قاسم الجواز إذا م يُخف على العسكر لقلة العدو.
(5) انظر طرح التثريب 7/48، وقد نقله عن ابن عبدالبر.
(6) انظر شرح السير 4/1456.(1/38)
وهذا هو الذي ورد عن الصحابة فقد كانوا يخرجون للجهاد وربما صحبوا بعض المحارم من نحو زوجة وأم، ولا أظن أن منصفاً لبيباً يتصور خروج نساء ذلك الجيل للجهاد وبقاء أزواجهنّ أو أبنائهن أو أخوالهن أو أعمامهن أو سائر محارمهن في قعر البيوتات! ومن ظن ذلك فقد أساء الظِنّة بمن أثنى الله عليهم وأوجب حسن الظن بهم، { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين } ، بل كانوا يبادرون إلى الجهاد، وأخبار مبادرتهم مشهورة معروفة، وقد تخلف في أحد المغازي ثلاثة نفر فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، كما قال عز وجل: { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
ومن ضوابط الشرع التي يقتضي حسن الظن بهن التزامهن بها؛ الحجاب والتستر، فالأمر به عام ولم يأت ما يخرج محل الجهاد عن ذلك العموم، والأصل التزامهن بأمر الشارع.
ثم كيف يظن بمن خرجت لنفل إهمالها لواجبٍ يتنزل الأمر به، ومبلغه قائم تراه بأم عينها.
وظيفة النساء في الجهاد:(1/39)
قديماً قالت العرب: "لاتسد الثغور بالمحصنات"، وهذا حق فإن القتال وسد الثغور، لايناسب بنية المرأة وخِلقتها، ولاسيما في تلك العهود، ومن تأمل خروج النساء في الجهاد وجده لحاجة الخدمة والرجوع بالموتى، أولضرورة مداواة المرضى والجرحى، أما إذا لم تكن ثمة ضرورة فلا تباشر علاج أجنبي، قال الشوكاني: "قال ابن بطال: ويختص اتفاقهم ذلك بذوات المحارم، وإن دعت الضرورة فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل على ذلك اتفاقهم أن المرأة إذا ماتت ولم توجد إمرأة تغسلها، أن الرجل لايباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري، وفي قول الأكثر تيمم، وقال الأوزاعي: تدفن كما هي. قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وغسل الميت أن الغسل عبادة والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات" (1) وهذا الكلام ينسحب على غير الغزو وإن كان وقوعه في الغزو أكثر.
هذا هو الأصل في خروجهن للجهاد، وتلك هي وظيفتهن، يؤكد ذلك حديث الربيع بنت معوذ في البخاري وغيره: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة"، وفي لفظ "فنسقي القوم ونخدمهم"(2).
غير أنه وردت أخبار تفيد خروج النساء عن هذا الأصل في بعض حالات الاضطرار، فربما شاركن في القتال، ولعله تأت الإشارة إليه قريباً.
حكم شهودهن القتال والتحامهن بالرجال
__________
(1) انظر نيل الأوطار 7/282.
(2) صحيح البخاري 3/1056 باب مداواة النساء الجرحى والذي بعده.(1/40)
ليس للمرأة أن تشهد القتال وتلتحم بالرجال، قال ابن حجر في الفتح معلقاً على تبويب البخاري: غزو النساء وقتالهن مع الرجال، وقد أورد فيه حديث أنس رضي الله عنه في اشتغال بعضهن بالسقيا فقال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما(1) تنقزان القرب" وقال غيره: "تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم"(2) قال ابن حجر: "ولم أر في شيء من ذلك التصريح بأنهن قاتلن، ولأجل ذلك قال ابن المنير: بوب على قتالهن وليس هو في الحديث، فإما أن يريد أن إعانتهن للغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن ما ثبتن لسقي الجرحى ونحو ذلك إلاّ وهن بصدد أن يدافعن عن أنفسهن، وهو الغالب. انتهى"، ولغرابة أن يكون مراد البخاري بقوله وقتالهن مع الرجال، أي اشتراكهن فيه، التمس ابن حجر –رحمه الله- للتبويب وجهاً بعيداً فقال: "ويحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبين أنهن لايقاتلن وإن خرجن في الغزو، فالتقدير بقوله: "وقتالهن مع الرجال" أي هل هو سائغ؟"(3) ولعل في هذا بعدا كما قال العيني: "لم يكن غرض البخاري هذا الاحتمال البعيد أصلاً، ولا هذا التقدير الذي قدره، لأنه خلاف ما يقتضيه التركيب، فكيف يقول: هل هو سائغ؟ بل هو واجب عليها الدفع إذا دنا منها العدو"(4)، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير وقتالهن مع الرجال أي في حال الاضطرار إذا دنى منهن الرجال كما في الأثر، غير أن قول العيني بل هو واجب محل نظر، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى إباحة توليتهن الأدبار بالفرار حال الانهزام وسيأتي نص
__________
(1) أي الخلاخيل وتكون أسفل القدم فوق الكعب، وقد كان هذا قبل الحجاب، ويحتمل أن يكون النظر عن غير قصد، انظر فتح ابن حجر (6/78).
(2) متفق عليه، البخاري 3/1055 ومسلم 3/1443.
(3) الفتح 6/78.
(4) عمدة القاري 14/166.(1/41)
الشافعي فيه قريباً. وقد أورد البخاري الآثار في خدمتهن الجيش ورعايتهن الأسرى وإرجاعهن الموتى بعد أن ذكر خروجهن للغزو ومشاركتهن فيه، وكأنه يشرح كيف كان جهادهن، ولهذا قال الصنعاني: "وفي البخاري ما يدل على أن جهادهن إذا حضرن مواقف الجهاد سقي الماء ومداواة المرضى ومناولة السهام"(1)، وقد جاء عند أحمد وغيره في أثر ابن عباس عندما سئل عن شهود النساء للقتال، أنهن كن يداوين الجرحى ويقمن على المرضى ولايحضرن القتال(2)، وهذا هو المتوجه فلايتصور خروج النساء لمباشرة القتال مع تصور طبيعة القتال في ذلك الجيل، فإنه يحتاج إلى سواعد الرجال، وبنية المرأة ضعيفة ولهذا لم يوجب عليها القتال(3) كشأن سائر الضعفاء قال في السير: "لايعجبنا أن يقاتل النساء مع الرجال في الحرب، لأنه ليس للمرأة بنية صالحة للقتال، كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "هاه، ما كانت هذه تقاتل"، وربما يكون في قتالها كشف عورة المسلمين، فيفرح به المشركون، وربما يكون ذلك سبب لجرأة المشركين على المسلمين فيقولون: احتاجوا إلى الاستعانة بالنساء على قتالنا، فليتحرز عن هذا، ولهذا المعنى لايستحب لهن مباشرة القتال إلاّ أن يضطر المسلمون إلى ذلك، فإن دفع فتنة المشركين عند تحقق الضرورة بما يقدر عليه المسلمون جائز بل واجب"(4) ، ولهذا ورد أنه يرضخ لهن إن خرجن من الغنيمة ولايُسهم وما ورد في
__________
(1) سبل السلام 2/461.
(2) مسند الإمام أحمد 1/224، والسنة لمحمد بن نصر 1/48، وأصله ثابت من عدة طرق.
(3) انظر شرح السير الكبير 1/184، وبدائع الصنائع 7/98، والمغني 9/163، وحاشية القيلوبي وعميرة 4/217، وتحفة المحتاج 9/231، ومغني المحتاج 6/18، ونهاية المحتاج 8/55، والفتاوى الهندية 2/189، ودقائق أولى النهى 1/617، والتجريد لنفع العبيد 4/250، ومطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى 2/500.
(4) شرح السير للسرخسي 1/184، وانظر كذلك البحر الرائق لابن نجيم 5/83.(1/42)
إسهامه لبعضهن حمل على الرضخ(1) وذلك لعدم شهودهن القتال.
وقد تقرر أن الضرورة تبيح المحظور، فإن اضطرت النساء لمباشرة القتال إذا انهزم المسلمون أو عم النفير واختلطت الأمور، فلا حرج في مشاركتهن ودفاعهن عن أنفسهن، وعلى مثل هذا يحمل ما رُوي عن بعض الصحابيات كأم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها إن صح(2)، بل هو ظاهر ما نقل عنها -وعن غيرها رضي الله عنهن- فقد كانت مشاركتها بعد أن انهزم الناس فلم يبق حول النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ نُفير(3).
كما أن لهن أن يجاهدن بغير إذن إذا دهم المسلمين عدو في قعر الدور، ففي مثل هذه الأحوال ليس لهن إلاّ أن يدافعن عن دينهن وأعراضهن وأنفسهن وقد اختلف أهل العلم هل هذا واجب عليهن في تلك الحال أو لهن اللواذ بالفرار؟ قال الشافعي رحمه الله: "ولو شهد النساء القتال فولين رجوت أن لا يأثمن بالتولية، لأنهن لسن ممن عليه الجهاد كيف كانت حالهن"(4).
تنبيه:
__________
(1) نيل الأوطار 7/330، وبعض أهل العلم أن من قاتلت لتعين القتال عليها كمن فجأهم العدو فإنه يسهم لها بسهم.
(2) انظر السير 2/279، والطبقات الكبرى لابن سعد 8/413-415، وقد نقلاه عن محمد بن عمر المعروف بالواقدي، قال عنه الذهبي: "جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فاطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم" (السير 9/454)، وفسر عدم الاستغناء عنه بقوله بعدها (9/468) : "وقد تقرر أن الواقدي ضعيف يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ وتورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض فلاينبغي أن يذكر" ثم ذكر عدم الاعتبار بتوثيق من وثقه.
(3) انظر السير 2/279 وقد ذكره من طريق ابن سعد، وهو عنده في الطبقات 8/413-415، وقد أورده الواقدي في المغازي.
(4) الأم 4/179.(1/43)
رويت آثار عن بعض النساء وأخبار بعضها ليس فيها حجة وكثير منها لايثبت، وهو في كتب المغازي والسير كثير، وقد قال الإمام ابن تيمية: "قال الإمام أحمد ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازى، ويروى ليس لها أصل أي إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومن بعدهم كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم والواقدى ونحوهم"(1).
الخلاصة..
بناء على ما سبق فليس في جهاد النساء المأثور إباحة امتزاج الرجال بالنساء أو اجتماعهم متداخلين في ميدان واحد، بل لا يُتصور وجود النساء أو غيرهن من أجل المداواة والإسعاف وسط ميدان المعركة الذي يختلط فيه الحابل بالنابل وتتطاير فيه الرؤوس، وقد عُلم أنَّ لِمَنْ يشتغل بالإسعاف والمداوة أماكن خاصة منعزلة يخلى إليها الجرحى أو المرضى.
ومعلوم أن ما أباحتة الضرورة يقدر بقدره ومن ذلك مباشرة المرأة علاج الجريح المثخن والمريض المقعد وفقاً لشرطه، ومنه أيضاً التحامها بالرجال للذود عن عرضها وحماية نفسها.
هذا مع أن الحال في موطن الجهاد بعيدة عن الظِنَّةِ، فأنى لمن طُنَّت قدمه أو فُتَّ عضده أن يلتفت يمنة أو يسرة، وهل يُظن بمَنْ تُعايِن أمثال هؤلاء، و من يشارفون على الهَلَكَة كل حين، بل لاتدري إلى أيِّ شيء يصير أمرها إذا انجلى غبار المعركة، هل يُظن أنّ هذه كغيرها؟ فكيف إذا كُنَّ نساء الصحابة ورجالاتها؟ فكيف يقال بجواز الاختلاط بعد ذلك في الأسواق وغيرها من مواطن الرِيَبِ وأسباب الفتن. بل كيف يقال بجواز مشاركتهن في الجيش أو الشرطة مع معطيات واقع الناس اليوم.
__________
(1) الفتاوى 13/346.(1/44)
أيحق لمنصف قرأ الشريعة، وعلم مقاصدها، ونظر في دَأَبِها على حماية النساء بسياج يحول دونهن ودن الخلطة والابتذال، أيحق له أن يستدل بما وقع عرضاً أو اضطراراً على جواز الاختلاط في المنتديات والقاعات، ولنُسلِّم جدلاً –على سبيل قل إن كان للرحمن ولد- بأن الاختلاط حق مكفول في الحج والجهاد وبعض التشريعات فهل يقبل في موازين العقول قياس أماكن اللهو والفساد على مواطن الإيمان والجهاد؟ أيستوي مكتب ضيق أو محل لاتؤمن فيه ريبة، مع موطن يزداد فيه الإيمان، ويتنزل فيه الرضا على العباد من الرحمن؟
إنه قياس مع الفارق، ومثله قياس خروج بعض النساء مع ضوابط الأمس في الغزو، بدخول بعضهن الشرطة أوالجيش في واقع الناس اليوم.
قال الشيخ بكر أبوزيد: "وعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت : يا رسول الله ! تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث ؟ فأنزل الله : { وَلاتَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللهُ بِه بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ النساء : 32 ] . رواه أحمد، والحاكم وغيرهما بسند صحيح .
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى تعليقًا على هذا الحديث في [ عمدة التفسير : 3/ 157 ] : ( وهذا الحديث يرد على الكذابين المفترين -في عصرنا- الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، فيخرجون المرأة عن خدرها، وعن صونها وسترها الذي أمر الله به، فيدخلونها في نظام الجند، عارية الأذرع والأفخاذ، بارزة المقدمة والمؤخرة، متهتكة فاجرة، يرمون بذلك في الحقيقة إلى الترفيه الملعون عن الجنود الشبان المحرومين من النساء في الجندية، تشبهًا بفجور اليهود والإفرنج، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ) انتهى "(1).
بعض أدلة المنع من الاختلاط من الكتاب والسنة الثابتة:
__________
(1) حراسة الفضيلة ص92-93.(1/45)
ما سبق من تقرير مراعاة الشريعة لأصل الفصل بين الرجال والنساء في التشريع، دليل ظاهر يفيد تحريم الاختلاط، خاصة مع بيان تلك النماذج التي ربما اشتبهت على البعض، فظنها حجة له وهي على خلاف قصده، وسوف يأتي ذكر طرف من مراعاة أهل العلم لهذا الأصل في سائر الشريعة، ومع ذلك فإن أدلة الكتاب والسنة الصحيحة جاءت متعددة في المنع من الأسباب المؤدية إلى الاختلاط، وكذلك في المنع من أمور يقتضيها الاختلاط، ولاشك أن الوسائل لها أحكام المقاصد، وما لا يتم ترك النهي إلاّ به فهو منهي عنه، ولئن كان هذا اللفظ (الاختلاط) حادثاً، فإن حكم معناه يستنبط من نصوص عامة، و أخرى صريحة جاءت بقطع أسبابه، وثالثة جاءت بقطع مايقود إليه.
وفيما سبق ذكر شيء من ذلك، وفيما يلي طرف لنصوص عامة يدخل في معناها الاختلاط، وأخرى جاءت بمنع أسباب الاختلاط، وثالثة حَرّمت أموراً يقتضيها الاختلاط:
1- قوله تعالى: { وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ } .(1/46)
دلت هذه الآية على أن الأصل احتجاب النساء عن الرجال، فقد "أوجب الله أن يكون الخطاب بينهن من وراء حجاب يحجز بين المرأة والرجل وهذا ظاهر في تحريم الاختلاط"(1) ، قال القاضي عياض في فرض الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: "ولايجوز لهن إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات إلاّ ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز، قال الله تعالى: { وإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } ، وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن، كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر، ولما توفيت زينب رضي الله عنها، جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها"(2)، والآية وإن كانت موجهة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنها جاءت معللة بقول ربنا سبحانه: { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهُنَّ } "فبين أن العلة هي طهورية قلوب النوعين، والتباعد عن دواعي الريبة وقذر القلوب، ولاشك أن هذه العلة تشمل جميع نساء المؤمنين، لأنه يطلب في حقهن طهارة قلوبهن، وطهارة قلوب الرجال من الميل إلى ما لاينبغي منهن. فليس لقائل أن يقول: هذا الأدب الكريم السماوي، المقتضي المحافظة على الشرف والدين وأطهرية القلوب من الميل إلى الفجور، يجوز إلغاؤه وإهداره بالنسبة لغير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من نساء المؤمنين، لأن طهارة القلب ومجانبة أسباب الرذيلة، أمر مطلوب من الجميع بلا شك، مع أن النفوس أشد هيبة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرهن؛ لأنهن أمهات المؤمنين"(3)، ولأنهن من خيرة نساء العالمين، فمن دونهن -وكل النساء دونهن- من باب أولى، قال القرطبي: "ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة.."(4)
__________
(1) عن مقال المفتي حول منتدى جدة الاقتصادي نشر في الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/2004م، وغيرها.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 14/151.
(3) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 10/245.
(4) تفسير القرطبي 14/227.(1/47)
. ومن "المقرر عند العلماء المؤيد بالدليل هو استواء جميع الناس في أحكام التكليف، ولو كان اللفظ خاصاً ببعضهم، إلاّ ما جاء النص مصرحاً بالخصوص فيه، ولذلك فجميع الخطابات العامة يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وأحرى غيره. وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية إلا ما قام عليه دليل خاص، فقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما يتضمن ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال : "لن يدخل أحدكم عمله الجنة". قالوا: يا رسول الله ولا أنت. قال: "ولا أنا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" فكأنهم يقولون له: أأنت داخل معنا في هذا العموم؟ وهو يجيبكم بنعم. وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية.
فإن قيل: آية الحجاب تخص بمنطوقها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فالجواب: أنها لم تدل على أن غيرهن من النساء لا يشاركهن في حكمها. والأصل مساواة الجميع في الأحكام الشرعية إلا ما قام عليه دليل خاص.
ولذا تقرر في الأصول أن خطاب الواحد المعين من قبل الشرع من صيغ العموم؛ لاستواء الجميع في أحكام الشرع، وخلاف من خالف من العلماء في أن خطاب الواحد يقتضي العموم خلاف لفظي، لأن القائل بأن خطاب الواحد لا يقتضي العموم موافق على أن حكمه عام إلا أن عمومه عنده لم يقتضه خطاب الواحد بل عمومه مأخوذ من أدلة أخرى كالإجماع على اسواء الأمة في التكليف. وكحديث "ما قولي لامرأة إلا كقولي لمائة امرأة" فالجميع مطبقون على أن خطاب الواحد يشمل حكمه الجميع إلا لدليل خاص، واختلافهم إنما هو هل العموم بمقتضى اللفظ أو بدليل آخر"(1).
__________
(1) فتاوى العلامة محمد بن إبراهيم 10/245-247.(1/48)
فالآية عامة عموماً معنوياً يشمل جميع النساء(1)، سواء أكان طريق إثبات هذا العموم العقل(2) لورود العلة التي يدور عليها الحكم في آخر الآية، أو العرف اكتفاء بأول الشاهد من الآية، وهذا ما يعرف عند الأصوليين بفحوى الخطاب، ويسميه بعضهم لحن الخطاب(3) أو تنبيهه، ويعرف عند البعض بمفهوم الموافقة، وهو أن يكون المسكوت عنه موافقاً في الحكم للمنطوق به؛ أولى منه، أو مساو له، وقد يسميه الشافعي القياس الجلي(4)، وآخرون دلالة النص، وقد قالوا: الثابت بدلالة النص لايحتمل الخصوص(5)، وإذا كان المسكوت عنه أولى ربما سماه البعض قياس الأولى(6)، فسواء قيل بهذا أو هذا فإن الأصوليين اتفقوا على أن مثل هذا يدخل فيه عمومهن، وإن اختلفوا هل يسمى قياساً أو لا، ولعله تأتي الإشارة إليه عند ذكر الدليل الرابع.
2- الأمر بغض البصر والعفو عن الفجأة:
__________
(1) اتفق الأصوليون على أن العموم من عوارض الألفاظ، واختلفوا هل يكون من عوارض المعاني، والصواب أنه يكون كذلك انظر الفتاوى 2/162 ومابعدها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك 20/188، وأيضاً منهاج السنة 2/591، وقد نص بعض الأصليون على أنه إذا نص الشارع على العلة على وجه لايقبل تأويلها فلابد أن يعم الحكم (البحر المحيط للزركشي نقلاً عن أبي إسحاق 7/45).
(2) اللفظ قد يكون عاماً بالعرف أو بالعقل انظر شرح الكوكب المنير ص360.
(3) وبعضهم يجعل فروقاً دقيقة، انظر البحر المحيط 5/125.
(4) وهذا قد يسميه البعض قياس الأولى، انظر في التفريق التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/222، ولعل القياس الجلي أعم من قياس الأولى عند عامة الأصوليين.
(5) انظر كشف الأسرار، لعبدالعزيز بن أحمد البخاري 2/252.
(6) قال ابن تيمية (الفتاوى 21/207 والكبرى 1/337) : "وكذلك قياس الأولى وإن لم يدل عليه الخطاب، ولكن عرف أنه أولى بالحكم من المنطوق بهذا، فإنكاره من بدع الظاهرية، التي لم يسبقهم بها أحد من السلف".(1/49)
أمر الله الرجال بغض البصر، وأمر النساء بذلك فقال تعالى: { قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُوا مِنْ أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذَلِك أَزكَى لَهُم إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُلْ للّمُؤمِنَاتِ يَغضُضُنَ مِن أَبَصَارِهِنَّ } الآيتين. ولم يعف الشارع إلا عن نظر الفجأة، فقد صح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري"(1)، وروي عن علي –رضي الله- عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة"(2)، وبمعناه عدة أحاديث، بل لم يرخص الشارع في الجلوس بالطرقات للرجال إلاّ بشرط إعطاء الطريق حقه ومنه غض البصر، ففي
__________
(1) رواه مسلم 3/1699، وكذلك هو عند الترمذي وقال بعده: حسن صحيح (السنن 5/101)، ورواه غيرهم.
(2) رواه الحاكم في مستدركه من طريق شريك 2/212 وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه أحمد في المسند 5/351، 5/353، 3/357، وكذا رواه الترمذي في السنن 5/101 وقال حسن غريب لانعرفه إلاّ من حديث شريك، ورواه أيضاً أبوداود 2/246 والبيهقي في الكبرى 7/90، وفي الشعب 4/364، وكذلك هناد في الزهد 2/649، وكذلك الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/15، وكذلك الروياني في المسند 1/22، وذكر متابعة اسرائيل لشريك في أبي ربيعة، ورواه من طريق حماد بن سلمة ابن أبي شيبة في المصنف 4/7، وقال المقدسي في المختارة بعد أن ذكر طريق حماد بن سلمة اسناده حسن 2/108 ثم ذكر قول الطبراني في الأوسط 1/209 لايروى هذا الحديث عن علي إلاّ بهذا الإسناد تفرد به حماد بن سلمة مختصراً، وأخرجه البزار في مسنده من غير طريق حماد أو شريك وقال: لم نسمعه إلاّ من عباد عن محمد بن فضل، ورواه من طريقه الدارمي 2/386، ورواه الإمام أحمد 1/159، وكذلك في فضائل الصحابة 2/601، وقد حسن العلامة الألباني إسناده في غير موضوع.(1/50)
الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس بالطرقات"، فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. فقال: "إذ أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(1). وجه الدلالة من الآيتين والآثار بعدها: أن الله أمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وأمره يقتضي الوجوب، ثم بين تعالى أن هذا أزكى وأطهر(2)، فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال؟ والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير(3).
وإذا كان استراق النظر خيانة كما في قول الله تعالى: { يَعلَمُ خُائِنَةَ الأَعيُنِ وَمَا تُخفِي الصُدُورُ } فكيف تكون المخالطة؟
وإذا نهى الشارع عن النظر إلى النساء بسبب ما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط، فكذلك الاختلاط ينهى عنه لأنه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه، وواقع الناس اليوم يبين أن الاختلاط يفضي لزاماً لوقع البصر عما أمر الله بحفظه عنه، وإذا كان الذي يفضي إلى الوقوع في المحظور يلزم منه وقوع المحظور، ففعله حرام عند من قال بسد الذرائع وعند من لم يقل(4)، فهو بمثابة ما لا يتم الامتثال إلاّ به، وعلى أقل الأحوال هو بمثابة "الذرائع" التي تفضي إلى المحظور غالباً، وقد ذكر أهل العلم أن الحكم إذا علق بمظنة استوى وجودها وعدمه.
__________
(1) صحيح البخاري 5/2300، ومسلم 3/1675.
(2) انظر رسالة العلامة محمد بن إبراهيم في حكم الاختلاط ص4.
(3) خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله، للعلامة ابن باز رحمه الله، وهي في مجموع الفتاوى والمقالات 1/420. ط دار القاسم 1418.
(4) انظر البحر المحيط 8/90.(1/51)
وهذا الوجه ذكر نحواً منه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، فقال: "الثاني والسبعون من شعب الإيمان: الغيرة وترك المذاء" وذكر قول الحليمي في تعريف المذاء، فقال: "أن يجمع الرجال والنساء ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضاً، وقيل هو إرسال الرجال مع النساء من قولهم مذيت فرس إذا أرسلتها ترعى" ثم قال: "وقال الله عز وجل: { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } وقال: { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته من مخالطة الرجال.."(1).
عم يغض البصر!
وهنا لعله يرد سؤال عن ماذا يغض طالما أن الحجاب مفروض والقرار مأمور به، فعم يُغض البصر؟ وجوابه أن غض البصر يكون عن المحارم كلها، فقد تخرج امرأة لحاجة، وربما خرجت نساء مترخصات بغير حاجة، وربما كان المجتمع –كشأن سائر المجتمعات- خليطاً لايخلو من كتابيات ونحوهن، وغض البصر مطلوب عن كل سافرة، أو هيفاء مقبلة، أو عجزاء مدبرة، بل مطلوب حبس اللحظ عن لحظ غضيضة طرف غافلة، سواء كانت معذورة، أو مائلة مميلة، أو أمة أو كتابية. والشريعة الإسلامية بحمد الله واقعية تتعامل مع طبائع الناس على اختلاف أصنافهم، فتشرع الأحكام لكافة الأحوال، فهي صالحة لكل زمان ومكان وحال، ما فرط ربنا في الكتاب من شيء، وهذه الواقعية سمة ظاهرة في التشريع، ومن تأمل وجد أنه ما من محرم إلاّ وقد شُرعت أحكام تتعلق بمن يقارفه عامداً أو يقترفه لعذر أو جاهلاً.
3- حديث: "المرأة عورة..".
__________
(1) شعب الإيمان 7/411-412.(1/52)
روى ابن خزيمة في صحيحه وغيره حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان"(1)
__________
(1) صحيح بن خزيمة 3/93، ورواه أيضاً في التوحيد من حديث قتادة عن مورق وقد صحح رفعه الإمام الدارقطني كما في العلل له (5/314)، وقد رواه أيضاً ابن حبان في صحيحه من طريق ابن خزيمة 12/413، وكذلك الهيثمي في موارد الظمآن 1/103، ورواه الترمذي في السنن وقال: حسن غريب (3/476) إلاّ أن المنذري قال في الترغيب والترهيب 1/142: "رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب" وهذا تصحيح من الإمام الترمذي له، ولعله كذلك في بعض نسخ الجامع ومما يؤيده نقله من قبل غير المنذري كالزيلعي في نصب الراية 1/411 وكذلك ابن الهمام في فتح القدير 1/259 وكذلك ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/123 نقل تصحيحه عنه ويبعد وهم هؤلاء جميعاً، وقد عزاه المنذري في الترغيب والترهيب 1/141 للطبراني في الأوسط وقال رجاله رجال الصحيح، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/34 وقال في التي بعدها: رجاله موثوقون، وهو في الأوسط للطبراني 8/101، وفي الكبير 10/108، وقد صحح هذا الحديث الدارقطني والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وجوده ابن كثير (التفسير 3/483) والمنذري والهيثمي وغيرهم، والظاهر أنه صحيح وقد خالف هماماً سليمان بن المعتمر فرواه عن قتادة عن أبي الأحوص، ولهذا شك ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث خاصة عن مورق، ولعل الصواب صحة سماعه له منه، فالرواي عن قتادة همام، ولئن كان سليمان أجل وأوثق في الجملة فإن هماماً من أوثق الناس في قتادة خاصة، فهو رابع أربعة في قتادة لا يقدم عليه فيه إلاّ ابن أبي عروبة وهشام وشعبة (انظر الكامل 7/129، وتهذيب الكمال 30/306، والجرح والتعديل 9/108 وغيرها)، خاصة إذا حدث عن همام من روى عنه متأخراً لكونه من كتابه، وعمرو بن عاصم من طبقة من رووا عنه أخيراً كعفان بن مسلم وحبان وبهز، ووقد احتج البخاري برواية عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة في خمسة مواضع من صحيحه، ويعزز صحة رواية همام أيضاً متابعة سعيد بن بشير وسويد بن إبراهيم –ولعل الصواب فيهما أنهما صالحين للاعتضاد- لها فهو لم يتفرد بها عن قتادة والله أعلم، وقد صح الأثر عن ابن مسعود موقوفاً كذلك، فلعل بعض الرواة مرة رفعه ومرة أخرى وقفه، ومثله إخبار عن غيب لعله لايقال بالرأي والله أعلم.(1/53)
، قال المناوي: "يعني رفع البصر إليها ليغويها أو يغوي بها فيوقع أحدهما أو كلاهما في الفتنة، أو المراد شيطان الإنس سماه به على التشبيه، بمعنى أن أهل الفسق إذا رأوها بارزة طمحوا بأبصارهم نحوها، والاستشراف فعلهم لكن أسند إلى الشيطان لما أشرب في قلوبهم من الفجور ففعلوا ما فعلوا بإغوائه وتسويله وكونه الباعث عليه. ذكره القاضي. وقال الطيبي: هذا كله خارج عن المقصود والمعنى المتبادر أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس فإذا خرجت طمع وأطمع لأنها حبائله وأعظم فخوخه وأصل الاستشراف وضع الكف فوق الحاجب(1) ورفع الرأس للنظر"(2)، وهذا إخبار من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وسواء كان الاستشراف هنا حقيقياً من شياطين الجن –وهو الظاهر وماذكروه من تأويل لازم له- أو ما ذكر من تأويلات فإن المعنى المتفق عليه مرادٌ، وهو حضُّ النساء على عدم الخروج ولزوم البيوت، لكونه أصون لهن، فكيف يقال بجواز اختلاطهن بالرجال.
4- دلالة قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }
__________
(1) وكذا جعله من أصله المباركفوري 4/283 ولعله تبع المناوي، ولعله لايلزم أصل معناه بسط الكف فوق الحاجب فهذا يصنع عادة للبعيد، وقد ذكر أهل اللغة أن الشين والراء والفاء أصل يدل على علو وارتفاع، ويقال استشرفت الشيء، إذا رفعت بصرك تنظر إليه.
(2) فيض القدير 6/226.(1/54)
ومن الأدلة قوله تعالى: { وقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } ، فأمرهن بالقرار، ثم منعهن من الخروج غير متحجبات، ومع قرارهن في البيوت منع صلى الله عليه وسلم الرجال الأجانب من الدخول عليهن فقال: "إياكم والدخول على النساء" فلما قيل له: الحمو قال: "الحمو الموت"(1)، وهذا يدل على أن الأمر بالقرار ليس خاصاً بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق ذكر جملة من كلام أهل العلم في ذلك منهم القرطبي وابن كثير وابن العربي وابن الحاج والجصاص وقد قاله غيرهم(2)، ويصلح أن يقال هنا نحواً مما ذكر عند الاستدلال بقول الله تعالى: { وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب } .
أدلة أخرى على أن القرار ليس خاصاً بنساء النبي (صلى الله عليه وسلم):
حديث عقبة ابن عامر السابق وهو متفق على صحته، فلا معنى لأن يُمنع من دخول الرجال على النساء بل حتى بعض غير أولي الإربة منهم، ويباح خروجهن لهم!
الآية السابقة وإن جاءت في معرض خطابهن فهي تشمل غيرهن لما سبق من الأدلة الشرعية التي تحرم خلطة النساء بالرجال.
دلالة الاقتران بالصلاة، والزكاة، وطاعة الله التي لايشك المسلم من دخول سائر النساء فيها، فقد قال الله: { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري 5/2005، ومسلم 4/1711.
(2) انظر البحر الزخار للمرتضي 4/84.(1/55)
ومن الأدلة على أن المراد عام يدخل فيه عامة النساء، هو العلة التي ختمت بها الآية: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، وهذه علة مرادة لجميع النساء، وإنما لم يرد الله أن يطهر قلب من أراد به فتنة، كما في سورة المائدة: { وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، أما سائر المؤمنين فيريد الله تطهيرهم ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، وكذلك الرجس يريد الله أن يذهبه عن المسلمين، وعموم النساء يشملهن الأمر باجتنابه { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } ، فالعلة التي ختمت بها الآية دليل واضح على عمومها فلايقال بتخصيص شيء منها إلاّ بدليل آخر ظاهر، وقد ذكر الأصوليون أن العلة إذا نص عليها بوجه لايحتمل التأويل فلابد أن يعم الحكم(1) وقالوا: "النص على العلة نص على الحكم في محلها"(2) هذا مع أنهم لم يشترطوا لصحة العلة النص عليها وهي هنا منصوصة ظاهرة بل جاءت بأداة الحصر (إنما)، وقد ذهب بعض الأصوليون إلى أن العمل بالعلة هنا ليس من باب القياس بل هو استمساك بنص لفظ الشارع(3)
__________
(1) انظر البحر المحيط للزركشي 7/45.
(2) ينظر شرح الكوكب المنير 2/302، وكذلك كشف الأسرار 2/378، وأيضاً البحر الزخار 1/188، والتقرير والتحبير 2/198، وإعلام الموقعين 3/107، وغير ذلك وهو معروف عند الأصوليين بشتى مذاهبهم.
(3) ممن نتصر له ابن فورك انظر البحر المحيط 7/237، ونحوه قول الغزالي والآمدي وغيرهما انظر البحر الزخار 1/190.(1/56)
، قال ابن تيمية بعد أن نقل الاتفاق على قبول مثل هذه العلة: "وإن اختلفوا هل يسمى هذا قياساً أو لا يسمى، ومثاله في كلام الناس ما لو قال السيد لعبده: لا تدخل داري فلانا فإنه مبتدع، أو فإنه أسود، ونحو ذلك فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعاً أو من كان أسوداً"(1).
ومما يدل كذلك على أن الآية مراد بها عموم النساء ما ثبت عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } "(2) فهذا نص على دخول فاطمة رضي الله تعالى عنها وليست من أزواجه، وكذلك دليل على دخول أولادها ومنهن بناتها ولسن من أزواجه. ولهذا قال ابن كثير لما ساق قول عكرمة في الآية: "من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم" قال: "فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك..."(3) وساق أحاديث عدة في المعنى المراد، وما سبق عند مسلم فيه كفاية.
5- دلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا النساء".
كما في حديث أبي سعيد الخدري عن مسلم، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(4).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/284.
(2) مسلم 4/1883.
(3) تفسير ابن كثير 3/484، ومابعدها.
(4) صحيح مسلم 4/2098 برقم (2742).(1/57)
فـ"خصص بعدما عمم إيذانا بأن الفتنة بهن أعظم الفتن الدنيوية، فإنه سبحانه أخبر بأن الذي زين به الدنيا من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أما في طلابها ومؤثريها على الآخرة سبعة أشياء أعظمها النساء اللاتي هن أعظم زينتها وشهوتها وأعظمها فتنة"(1).
و"وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتقاء النساء، وهو أمر يقتضي الوجوب، فكيف يحصل الامتثال مع الاختلاط ؟! هذا لا يجوز"(2).
6- قصة سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة(3).
والشاهد فيها أنها "جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يارسول الله! إنا كنا ندعو سالما ابناً، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل علي..." الحديث فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على عدم الاختلاط معها بذلك التبني بعد نزول القرآن، وأمرها بإرضاعه خمس رضعات لتحرم عليه"(4).
فإذا كان لايجوز الاختلاط مع من يقوم مقام الابن مالم يكن محرماً، فكيف يسوغ الاختلاط بغيره.
7- "على رسلكما إنها صفية" الحديث(5).
وفيه أن صفية –رضي الله عنها- زارته في معتكفه، فأرادت أن تنقلب فقال لها: لا تعجلي حتى أنصرف معك. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، معها فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي. قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً.
__________
(1) فيض القدير 2/179.
(2) فتاوى ابن إبراهيم 10/41.
(3) القصة في صحيح البخاري 5/1957 رقم 4800، وانظر صحيح مسلم 2/1077.
(4) السابق 9/22-23.
(5) رواه البخاري في الصحيح 3/1159رقم (3107)، ومسلم 4/1712 برقم (2174).(1/58)
وقد أورده البيهقي في الشعب تحت فصل فيمن أبعد نفسه عن مواضع التهم(1)، وقال الإمام الشافعي –رحمه الله- : "أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها، لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً"(2)، وقال الماوردي: "فما كل ريبة ينفيها حسن الثقة. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبعد خلق الله من الريب وأصونهم من التهم، وقف مع زوجته صفية ذات ليلة على باب مسجد، يحادثها وكان معتكفاً، فمر به رجلان من الأنصار، فلما رأياه أسرعا. فقال لهما: على رسلكما إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله! أوفيك شك يارسول الله؟ فقال: مه، إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى لحمه ودمه، فخشيت أن يقذف في قلبيكما سوءاً".
ثم قال الماوردي: "فكيف من تخالجت فيه الشكوك، وتقابلت فيه الظنون، فهل يَعْرَى مَنْ في مواقف الرِّيَبِ مِنْ قادحٍ مُحَقَّق، ولائمٍ مُصدَّق"(3).
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قرر أن خلطة الرجل بالمرأة موطن ريبة، ومحل تهمة، مع أن هذه الخلطة كانت عند المسجد، وفي محل عام مطروق، وزمانها ليلة من ليال العشر الأواخر من رمضان(4)، مع امرأة مضروب عليها الحجاب الكامل بغير خلاف لكونها من أزواجه، صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك الأصول المقررة؛ كعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، ورسوخ إيمان صحابته، رضوان الله تعالى عليهم.
كل ذلك لم يبرر ترك بيان أن الاختلاط بالنساء موضع تهمة، ومحل شبهة.
__________
(1) 5/321.
(2) انظر تفسير ابن كثير سورة البقرة { ولاتباشروهن وأنتم عاكفون.. } الآية 1/225.
(3) أدب الدنيا والدين ص327.
(4) انظر عمدة القاري 5/321.(1/59)
هذا نزر يسير من الأدلة، ومن تأمل نصوص الوحيين، وأحكام الشريعة اتضح له بجلاء حرصها على أن تكون أخت الإسلام درة مصونة لايقع عليها للريبة ظل، ولؤلؤة مكنونة لاتمتد إليها يد لامس. وللعلامة محمد بن إبراهيم رسالة وجيزة بليغة ذكر فيها تسعة عشر دليلاً على حرمة الاختلاط فلتراجع(1)، بل حتى عقلاء الغربيين كتبوا في التحذير من الاختلاط وآثاره الضارة ولهم في ذلك مقولات معلومة منشورة، لعله يأتي ذكر طرف منها.
الضرورة إذا اقتضت اختلاطاً:
تقرر أن الاختلاط محرم "ولا يدخل في ذلك ما تدعو إليه الضرورة وتشتد الحاجة إليه ويكون في مواضع العبادة كما يقع في الحرم المكي والحرم المدني نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يزيد المهتدي منهم هدى، وأن يوفق ولاتهم لفعل الخيرات وترك المنكرات، والأخذ على أيدي السفهاء، إنه سميع قريب مجيب"(2).
فمن المقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، بَيْدَ أن الضرورة تقدر بقدرها، فيتقي المرءُ ربَّه ويتحرز عما نهاه عنه ما استطاع.
فإذا اقتضت الضرورة اختلاطاً، كما في الحج –على سبيل المثال- فإن الحج ركن من أركان الإسلام وهو فعل مأمور مقدم على ترك المحظور، فإن اشتد الزحام ولم يمكن تجنبه كالحال في هذه الأزمنة، فتؤدي المرأة فرضها، متقيدة بضوابط الشرع، حريصة على محرمها، ثم تتحرز ما استطاعت، والله غفور رحيم.
ومثل الحج سائر الضرورات التي تبيح المحظورات، فينبغي أن تقدر بقدرها، ولايتعدى قدر الاضطرار فيها، وهذا يقدره ويقرره أهل العلم والشأن فهم أعلم بضابط الضروريات وأجدر بعرض الوقائع على الأحاديث والآيات، فإن وجدت ضرورة لاتكون إلاّ مع الاختلاط فكشأن سائر المحظورات تباح بقدر الحاجة، وبعد انتهائها يعود كل حكم إلى أصله.
افتعال الضرورة!
__________
(1) أفردت في رسالة مستقلة وهي في مجموع فتاواه رحمه الله 10/35.
(2) السابق 10/43-44.(1/60)
الضرورة حالة ملجئة لفعل، والإلجاء لايعتبر باختيار الشخص وفعله بغير إكراه، فلايجوز بحال أن تفتعل نازلة أوتصنع بيئة لاختلاط الرجال بالنساء أو لاتراعي الفصل بينهم، ثم يُقال بجواز الاختلاط فيها للضرورة، فمثل ذلك افتئات على الشرع لايقر فاعلوه وإن عذر بعض من واقعه باضطراره، والذي ينبغي هو أن يقوم أساس البنيان وفق ضوابط الشريعة، فإذا وقع محظور لضرورة بعد التحرز ساغ الاعتذار بالضرورة، إن كان الضرر المترتب على تركه أعلى، على أن تقدر الضرورة بقدرها.
وإلاّ لكان المفتعل للضرورة المعتذر بها كمن قطع يدي مسلم ورجليه ثم أذهب سمعه وبصره وقال هذا تحل له الزكاة! إذ ليس له عائل.
أو كالذي صبر إنساناً عن الطعام والشراب فلما أشرف على الهلكة قدم له لحم خنزير أو ميتة وقال: كله اضطرار!
أما إذا اضطر مضطر لحاجة عند من لم يراع ضوابط الشرع فيما أنشأ فالمضطر معذور والمفرط موزور وإلى الله ترجع الأمور والله عليم بذات الصدور.
طرف من كلام أهل العلم في المنع من الاختلاط:
لقد راعى علماؤنا رحمهم الله أصل المنع من اختلاط الرجال بالنساء في كثير من الأحكام، وعللوا به، ولعله سبق ذكر طرف من ذلك، وليس الغرض هنا تقرير أعيان المسائل التي ربما عللوا بالاختلاط منعها، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، فربما خالف مخالف فيها، وإنما الغرض بيان ما اتفق عليه العلماء من المنع بالاختلاط وتعليلهم به الكثير من الأحكام، مع نصهم على المنع منه(1).
__________
(1) وهذا نظير ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم بعد أن سرد جملة من أقوال الفقهاء في مسائل يرون فيها مخالفة الكفار وأهل البدع؛ ثم قال رحمه الله: "وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، وإنما الغرض ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام". ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/401.(1/61)
ومن ذلك ما نقله ابن القيم رحمه الله: " ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق, والفرج, ومجامع الرجال. قال مالكٌ رحمه الله ورضي عنه: أرى للإمام أن يتقدم إلى الصُيَّاغ في قُعود النساء إليهم, وأرى ألا يَترُك المرأة الشابة تجلس إلى الصُّيَّاغ فأمَّا المرأة المتجالَّة(1) والخادم الدُّونُ, التي لا تتهم على القُعود, ولا يتُهم من تقعد عنده: فإني لا أرى بذلك بأساً. انتهى(2)، فالإمام مسئولٌ عن ذلك, والفتنة به عظيمة, قال صلى الله عليه وسلم : "ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء" ... ويجب عليه منع النساء من الخروج متزيِّناتٍ مُتجمِّلاتٍ, ومنعهنَّ من الثياب التي يكنَّ بها كاسياتٍ عاريَّاتٍ, كالثياب الواسعة والرِّقَاقِ, ومنعهنَّ من حديث الرجال, في الطرقات, ومنع الرجال من ذلك."(3)، ثم قال رحمه الله مشيراً إلى ما يناسب واقعهم: "وإن رأى وليُّ الأمر أن يُفسِد على المرأة -إذا تجمَّلت وتزيَّنت وخرجت- ثيابهَا بحبرٍ ونحوه, فقد رخَّصَ في ذلك بعض الفقهاء وأصاب, وهذا من أدنى عقوبتهنَّ الماليَّة. وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها, ولا سيَّما إذا خرجت متجمِّلةً, بل إقرار النساء على ذلك إعانةٌ لهنَّ على الإثم والمعصية, والله سائل وليَّ الأمرِ عن ذلِك. وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال, والاختلاط بهم في الطريق. فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك ..".
__________
(1) تجالت: أي أسنَّت وكَبُرت، يقال : جَلَّتْ فهي جَلِيلة ، و تَجالَّتْ فهي مُتَجالَّة.
(2) انظر المدخل لابن الحاج فإن فيه مزيد تفصيل 4/199.
(3) الطرق الحكمية ص240.(1/62)
إلى أن قال: "ولا ريب أنّ تمكين النساء من اختلاطهنَّ بالرجال: أصل كل بليَّةٍ وشرٍّ, وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامَّة, كما أنَّه من أسباب فساد أُمورِ العامة والخاصة, واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام, والطواعين المتصلة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى, وفشت فيهم الفاحشة: أرْسَلَ الله إليهم الطاعون, فمات في يوم واحدٍ سبعون ألفا, والقصة مشهورة في كتب التفاسير. فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا, بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال, والمشي بينهم متبرِّجاتٍ متجملات, ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية -قبل الدين- لكانوا أشد شيء منعا لذلك".
وقال الماوردي رحمه الله يعرف الدَيُّوث: "هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم"(1).
وقد منع علماؤنا بعلة الاختلاط شهود بعض الواجبات، قال النفراوي في من دُعي إلى وليمة عرس: " المتبادر من الأمر الوجوب.. قال خليلٌ: تجب إجابة من عيَّنَ وإن صائماً ..." قال: "ثم شرع في بيان ما يُسقِط الإجابة بقوله: "إن لم يكن هناك" أي في محل الوليمة "لهو مشهور" أي ظاهر بحيث يُخالطه المدعو وهو ممَّا يَحرُمُ حُضُوره وفسره بقوله: "ولا منكرٌ بيِّنٌ" أي مشهور ظاهر, كاختلاط الرجال بالنساء, أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير, أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه.."(2).
وقد نقل أئمة المالكية؛ كابن فرحون، وابن زيد البرناسي، وأحمد القرافي، أنه لايختلف في المذهب في عدم قبول شهادة من يحضرون الأعراس التي يمتزج فيها الرجال بالنساء، وما شابه ذلك، وقالوا: لأن بحضورهم في هذه المواضع تسقط عدالتهم(3).
__________
(1) أدب الدنيا والدين ص268.
(2) الفواكه الدواني 2/322.
(3) انظر أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي 4/156، وكذلك تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهج الأحكام لابن فرحون 1/361، والموسوعة الفقهية 2/290.(1/63)
وقال ابن العربي في أحكام القرآن معلقاً على قول الحسن: "كان النساء يسلمن على الرجال، ولايسلم الرجال على النساء"، قال:"وهذا صحيح فإنها خلطة وتعرض، إلاّ أن تكون امرأة متجالة؛ إذ الخلطة لاتكون بين الرجال والنساء، وهذا هو المقصود والمنتهى"(1).
وذكروا أن من آداب القضاء إفراد وقت أو يوم للنساء، قال المواق معلقاً على قول خليل: "وينبغي أن يفرد وقتاً أو يوماً للنساء"، قال: "أشهب: إن رأى أن يبدأ بالنساء فذلك له على اجتهاده، ولايقدم الرجال والنساء مختلطين، وإن رأى أن يجعل للنساء يوماً معلوماً أو يومين فعل"(2).
ثم نقل عن ابن الحكم قوله: "أحب إلي أن يفرد للنساء يوماً، ويفرق بين الرجال والنساء في المجالس"(3).
وعن المازري: "إن كان الحكم بين رجل وامرأة أبعد عن المرأة.."(4).
وذهب متأخروا الحنفية للقول بكراهة الصلاة في المسجد للمرأة شابة أو عجوزاً، وكذلك حضور مجالس الوعظ، قال في الكافي: "والفتوى اليوم على الكراهة في الصلاة كلها، لظهور الفساد، ومتى كره حضور المسجد كره حضور مجالس الوعظ، خصوصاً عند هؤلاء الجهال، الذين تحلوا بحلية العلماء"(5).
وقال الحموي معللاً حكمه على الزفاف: "وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها اختلاط النساء بالرجال"(6).
وعلل ابن عابدين رد شهادة من خرج للفرجة على قدوم أمير بقوله: "لما تشتمل عليه من منكرات، ومن اختلاط الرجال بالنساء"(7).
__________
(1) أحكام القرآن، 3/428.
(2) التاج والإكليل لمختصر خليل، للمواق: محمد بن يوسف العبدري، 8/119، وقد نبه على هذا في غير شرح لمختصر خليل، وانظر منح الجليل لعليش 8/306.
(3) السابق.
(4) السابق.
(5) البحر الرائق لأبي نجيم 1/380.
(6) غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر 2/114.
(7) رد المحتار على الدر المختار 6/355.(1/64)
ومن نكت الأحناف قول بعضهم في الآفة الستون من آفات اللسان: "الإذن والإجازة فيما هو معصية، كإذن الزوج لامرأته أن تخرج من بيته إلى غير مواضع مخصوصة" ثم عدها سبعاً وقال: "وفيما عدا ذلك من زيارة الأجانب وعيادتهم والوليمة لا يأذن لها ولو أذن وخرجت كانا عاصيين"(1).
ومن اطراد الشافعية على قواعدهم منعهم من اختلاط الرجال بالنساء أمواتاً، قال في معالم القربة: "ولايدفن في قبر واحد ميتان ما أمكن، وإن اجتمع موتى في وباء جعلنا الرجلين والثلاثة في قبر واحد، وقدمنا الأفضل إلى جدار اللحد، فيقدم الأب على الابن، والابن على الأم لمكان الذكورة، ولايجمع بين الرجال والنساء، فإن دعت الضرورة جعلنا بينهما حاجزاً من تراب"(2).
ونحوه قول الرملي: "ولايجوز الجمع بين الرجال والنساء إلاّ لضرورة متأكدة"(3).
وقد ذكر الفقهاء أنه يشرع للمرأة أن تبادر بالخروج من المسجد لتسلم من مزاحمة الرجال(4)، واستحبوا للرجال أن يمكثوا ريثما تصدر النساء ما لم يكن المأمومون رجالاً ليس فيهم نساء(5)، وقد مضى في الكلام على شهود النساء للأعياد والصلوات بعض ما ذكره أهل العلم في خروجها للصلاة، وكيف تخرج، ومن أين تدخل، وأين تقف(6)، ومتى تنصرف، وكل ذلك حذار الاختلاط بالرجال.
وكذلك راعوا المنع من الاختلاط في الطواف، وقد سبقت الإشارة إليه، عند ذكر مراعاة الشريعة المنع من الاختلاط في النسك.
__________
(1) بريقة محمودية للخادمي 4/10-11.
(2) معالم القربة في معالم الحسبة، لمحمد بن الإخوة القرشي، ص50.
(3) فتاوى الرملي 2/41، وانظر نهاية المحتاج شرح المنهاج 3/10.
(4) المنتقى شرح الموطأ للباجي 1/9.
(5) أشار إليه ابن حجر في الفتح 2/336.
(6) شرح النووي 4/159 وفيه تعليل استحباب تأخرها في الصفوف الخلفية للمنع من الاختلاط، وتبعه المباركفوري في التحفة 2/14، وكذلك في عون المعبود 2/264، وانظر الديباج 2/154، وفيض القدير 3/487، ونيل الأوطار 3/226.(1/65)
وقال الشيخ الجليل أبوبكر الطرطوشي –رحمه الله- وقد سئل حول الاجتماع لختم القرآن: "إن كان ذلك على وجه السلامة من اللغط، ولم يكن إلاّ الرجال، أو الرجال والنساء منفردين بعضهم عن بعض يسمعون الدعاء فهذا البدعة التي كره مالك رحمه الله.." إلى أن قال: "وكل من قال بأصل الذرائع يلزمه القول بهذا الفرع، ومن أبى أصل الذرائع من العلماء، يلزمه إنكاره لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء"(1).
وذكر ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثة: أن"الموالد التي تفعل عندهم في زمنه أكثرها مشتمل على شرور ، ولو لم يكن منها إلا رؤية النساء الرجال الأجانب لكفى ذلك في المنع"(2).
وقد علل بعضهم اشتراط الذكورية في القاضي أو الحاكم فقالوا: ليتمكن من مخالطة الرجال(3).
وقد تقدم ذكر شيء من كلامهم بهذا عند ذكر مراعاة عدم الاختلاط في الشرائع، كالحج والجهاد وغيرهما.
من كلام العلامة محمد بن إبراهيم:
للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله جواب مطول عن حكم الاختلاط أفرد في رسالة سبقت الإشارة إليها فليراجع، ولعله يُكتفى هنا بنقل مواضع أخرى من كلامه في فتاواه خارج تلك الرسالة، خاصة وأن شيئاً من الرسالة فاح عبقه بين طيات البحث. وانظر كذلك فتاواه بعدها(4).
ومن كلامه قوله رحمه الله عند تلخيصه ذكر مفاسد الموالد التي عدها ابن الحاج: "3- خروج النساء إلى المقابر وارتكاب أنواع المحرمات هناك من الاختلاط وغيره"(5).
__________
(1) المدخل لابن الحاج 2/297.
(2) عن فتاوى ابن إبراهيم 3/61.
(3) انظر حاشية قيلوبي وعميرة 4/174، وكذلك مغني المحتاج 5/418، وكذلك نهاية المحتاج 8/238.
(4) انظر الفتوى رقم (2641)، 10/44، و(2643)، 10/46، والتي تليها، والتي تليهما، وكذلك الفتوى رقم (2652)، 10/50، بل راجع فتواه 10/من35 وإلى55.
(5) الفتاوى 3/84.(1/66)
وقال رحمه الله: "وأما اختلاط النساء بالرجال وحصول المفاسد التي ذكرتها(1)، فهذا من أكبر المنكرات التي يتعين إنكارها على الجميع"(2).
وقال: "ومن أدلة ذلك أيضاً النصوص الدالة على منع اختلاط الرجال بالنساء، لأن المرأة الموظفة لا تختص بالنساء لا بد أن تخالط الرجال بمقتضى طبيعة وظيفتها. ومن تلك النصوص قوله تعالى: { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } فالأمر بكون سؤالهن من وراء حجاب دليل واضح على لزوم الحواجز وعدم الاختلاط"(3).
وقال حول ما تقدم به بعضهم ضد هيئة الأمر بالمعروف، متظلماً من سجنه، وتأديب المشتركين في حفلة زواج بضرب كل واحد منهم خمسة أسواط.
"بتأمل ما قرره قاضي الأفلاج بحق المذكورين، بناء على ما تحقق لديه من اجتماعهم مختلطين رجالاً ونساءً على ضرب الدفوف، وما ترتب عليه من وجود منكرات لا يجوز فعلها شرعاً، يعتبر إجراءً حسناً، وفي محله، ولا وجه لتشكي المذكورين، بل الذي ينبغي في ذلك على ولاة الأمر أن يكونوا عوناً لرجال الدين والحسبة في قمع أمثال هؤلاء والضرب على أيديهم بما يحفظ للدين كرامته وللشرع قداسته".
ثم ذكر –رحمه الله- "أن ضرب الدفوف إذا كان مقصوراً على النساء فقط سالماً من الأمور المحرمة فلا مانع منه، لشرعية إعلان النكاح"(4).
__________
(1) وهو ما يحصل من النساء هناك من خروجهن سافرات، واختلاطهن بالرجال في محافل الزواج، وعند القدوم من السفر، وعند حفل الولادة، ونحو ذلك إلى آخر ما ذكرته (هذا نص السؤال).
(2) فتواه 10/49.
(3) السابق 10/244.
(4) السابق 221-222.(1/67)
ومن أقواله أيضاً: "بهذه المناسبة أشرح أمراً هاماً ينبغي أن يكون العمل عليه في مستشفات المملكة، وذلك أن الرجال والنساء الذين يرتادون المستشفيات للعلاج ينبغي أن يكون لكل منهم قسم خاص في المستشفى، فقسم الرجال لا يقربه النساء بحال، ومثله قسم النساء، حتى تؤمن المفسدة، وتسير مستشفيات البلاد على وضع سليم من كل شبهة، موافق لبيئة البلاد ودينها وطبائع أهلها، وهذا الترتيب لا يكلف شيئاً ولا يوجب التزامات مالية أكثر مما كان، فإن الإدارة واحدة، والتكاليف واحدة، مع أن ذلك متعين شرعاً مهما كلف"(1).
وقال في شروط دراسة تمريض النساء: "ومنها أن يكون عمل المتخرجات في الأجنحة النسائية فقط، ولا يكلفن بالعمل في أجنحة الرجال، ومنها أن يكون التدريب العلمي في الأقسام النسائية في بُعد عن الاختلاط بالرجال"(2).
من كلام العلامة ابن باز:
قال رحمه الله: "والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه"(3).
وقال: "لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال مما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق، ولكن نظراً إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق، أكثر مما يستفيدون من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام علماء المسلمين، رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده، لعلهم يقتنعون بذلك, ويعلمون أن ما جاء به دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للنساء وحمايتهن من وسائل الإضرار بهن والانتهاك لأعراضهن"(4).
__________
(1) السابق 13/221.
(2) السابق 13/222.
(3) مجموع الفتاوى والمقالات 1/420.
(4) السابق 425، وقد نقل قطعة من كلام الغربيين لايناسب تكرارها فلتراجع.(1/68)
ثم قال: "ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفو الغرب في مضمار الاختلاط الذي هو نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال بنا المقال ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة"(1).
وقال معلقاً على من زعم بأن عزل الطالبات عن الطلاب مخالفة للشريعة، وأن المسلمين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدون الصلاة في جامع واحد: "ولاشك أن هذا الكلام فيه جناية عظيمة على الشريعة الإسلامية، لأن الشريعة لم تدع إلى الاختلاط حتى تكون المطالبة بمنعه مخالفة لها، بل هي تمنعه وتشدد في ذلك"(2).
ومما قاله رحمه الله: "فمن واجب النصح والتذكير أن أنبه على أمر لاينبغي السكوت عليه، بل يجب الحذر منه، والابتعاد عنه، وهو الاختلاط الحاصل من بعض الجهلة، في بعض الأماكن والقرى مع غير المحارم، ولايرون بذلك بأساً بحجة أن هذا عادة أجدادهم، وأن نياتهم طيبة.."(3).
وقال حول الاختلاط في المدارس الابتدائية: "إن الاختلاط وسيلة لشر كثير، وفساد كبير لايجوز فعله" ثم قال: "وبكل حال فاختلاط البنين والبنات في المراحل الابتدائية منكر لايجوز فعله"(4).
وقال رحمه الله: "من المعلوم أن نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال يؤدي إلى الاختلاط، وذلك أمر خطير جداً، له تبعاته الخطيرة، وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، وهو مصادم لنصوص الشريعة التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحو، مما تكون فيه بعيدة عن مخالطة الرجال"... إلى أن قال: "والأدلة الصريحة الصحيحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم النظر إليها، وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله، أدلة كثيرة محكمة قاضية بتحريم الاختلاط المؤدي إلى ما لاتحمد عقباه"(5).
__________
(1) السابق 427.
(2) السابق 4/248.
(3) السابق 5/236.
(4) السابق 5/234.
(5) السابق 6/355، وانظر كذلك 1/418.(1/69)
وسئل عن حفلات التوديع المختلطة، فقال: "الحفلات لاتكون بالاختلاط! بل الواجب أن تكون حفلات الرجال للرجال وحدهم، وحفلات النساء للنساء وحدهن، أما الاختلاط فهو منكر، ومن عمل أهل الجاهلية نعوذ بالله من ذلك"(1).
وللشيخ رحمه الله رسائل وفتاوى متعددة في المسألة غير ما أشير إليه(2).
وما سبق نزر يسير، وطرف من كثير، ولعل فيه كفاية، ولعله قد تبين من خلال العرض الآنف أن المنع من اختلاط الرجال بالنساء، ليس من مفردات الحنابلة! فهؤلاء علماء الإسلام بشتى مذاهبهم، وبمختلف أعصارهم وأمصارهم يقولون به. فليست الدعوة إلى ترك الاختلاط إذاً، دعوة إقليمية، ولامذهبية، بل هي إسلامية إسلامية.
بعض شبه من اختلط عليه الاختلاط:
إن الشبه التي يتمسك بها بعضهم لاتخرج عن كونها اختلاط مع التحرز لضرورة أو حاجة ملحة، أو ليس فيها مستمسك أصلاً، بل بعضها أدلة هي عند العقلاء حجة على موردها.
ولو أمعن القارئ الكريم النظر في الشبه التي يسوغ بها البعض أضرباً من الاختلاط، لوجد أن الإشكال يكمن في التمسك بأمور مجملة، حُملت على معنى فاسد، ساق إليه ارتباط الذهن بواقع الناس اليوم، والواجب حمل المجمل على وجه صحيح دل عليه الشرع، ما أمكن ذلك. وبخاصة إذا جاء المجمل من صاحب الشريعة، أو من الجيل الذي عرف بالتزامه للشريعة.
ومن هذا القبيل ما يُستدل به على جواز الاختلاط من نحو شهود المسلمات في العصر الأول للجمع والجماعات والأعياد، وكذلك حجهن واعتمارهن وجهادهن، ونحو ذلك مما سبق بيان وجهه الشرعي، بعيداً عن واقع الناس اليوم.
غير أن هناك نصوصاً أخرى أشكلت على البعض، ولعله يتم التعرض لبعضها فيما يلي:
الاستدلال بقصة يوسف عليه السلام:
__________
(1) السابق 9/429.
(2) راجع موقعه على الإنترنت، على الرابط التالي: http://www.binbaz.org.sa/ وابحث عن "الاختلاط".(1/70)
من شبه من أشكل عليه الاختلاط، ما يستدل به بعضهم، من دخول نبي الله يوسف على النسوة، قال الله: { فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن } الآية، ومن تأمل هذه الآية وما جاء قبلها وبعدها جزم بأنه لايصح الاستدلال بها على جواز الاختلاط، بل الآيات حجة عند النظر والتأمل لمن منع من الدخول على النساء ومخالطتهن:
فيوسف عليه السلام اشتراه عزيز مصر، وكان في بيته وكان خروجه بأمر ربة البيت فكان الخروج في حقه لضرورة أو حاجة، خاصة وأنه لايعلم لماذا دُعي، فغاية ما في القصة الاستدلال بفعل النسوة أو امرأة العزيز، وهذا استدلال بفعل من كان على الشرك، ومع ذلك فإن الآيات في سياق القصة وما تبعها من فتنة حصلت للنساء بل ولامرأة العزيز من قبل دليل على حرمة الاختلاط، فمن حلل الاختلاط بقصة يوسف لم يفقه ما استدل به عليه من سورة يوسف، ولو فقهه لحرم الاختلاط به، فانظر إلى الفتنة التي حصلت إثر الدخول على النساء ولئن عصم الله يوسف عليه السلام فأراه برهان ربه لكونه من المخلصين، فمن الذي يضمن هداية من تقحم الفتن وعرض نفسه لها؟ فـ"إياكم والدخول على النساء"، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم(1).
الاستدلال بنبأ موسى مع المرأتين:
ومن عجيب ما يتمسكون به كذلك نبأ موسى –عليه السلام- مع بنتي صاحب مدين، وليس فيه حجة على جواز الاختلاط بل هو دليل آخر على المنع، فموسى لما رأى أُمّة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما عن السقيا مع القوم، منعزلتان لاتسقيان مع الناس، لم يرضه موقفهما واستغربه ولهذا سألهما بعبارة مختصرة: ما خطبكما؟ فكان الجواب بأوجز عبارة وبقدر الحاجة: { لانسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير } .
__________
(1) سبق تخريجه، ينظر: الحاشية رقم 70 أو 157.(1/71)
والأسئلة التي ينبغي أن تطرح هنا لماذا هذا الاقتضاب؟ مع أنه عند أبيهما قص القصص! ولماذا لم تسقيا؟ ولماذا ذادتا غنمهما؟ وعن ماذا ذادتا الغنم؟ أليس عن الاختلاط بغنم القوم؟ ثم أليس الأولى لهما أن تعجلا؟ جواب ذلك في القول باستقرار المنع من الاختلاط عندهما ولهذا قالتا: { لا نسقي حتى يصدر الرعاء } ، وقد ذكر بعض المشايخ المعاصرين أربعة عشر وجهاً في القصة انتزع منها الدلالة على منع الاختلاط. وآخر ذكر تسعة عشر مظهراً من مظاهر العفة في القصة.
الاستدلال بأخبار سمراء والشفاء رضي الله عنهما:
ومما أشكل على بعضهم خبر مفاده تولية النبي صلى الله عليه وسلم سمراء بنت نهيك أمر السوق، وحديث سمراء بنت نهيك الذي أخرجه الطبراني في الكبير، صححه بعض أهل العلم(1)، وفيه أن يحيى بن أبي سليم قال: "رأيت سمراء بنت نهيك -وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم- عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر"(2)، وهو كما ترى ليس فيه ذكر لولاية بل ولاسوق!
__________
(1) قال العلامة الألباني في الرد المفحم: "أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( 24 / 311) بإسناد جيد، قال الهيثمي (9/264) ورجاله ثقات"، وقد ذكر سمراء بنت نهيك الإمام ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1863) وذكر نحو هذا الأثر، أما ابن حجر –رحمه الله- فقد ذكرها ثم قال في الإصابة (7/712) : "تأتي في القسم الثالث" فما أتت، وكأنه نسيها، وممن أشار إلى صحبتها صاحب تاريخ واسط 1/42، ولعل الأثر مختلف فيه لاختلافهم في ابن أبي سليم، ولكن ليس فيه أنها وليت السوق.
(2) المعجم الكبير 24/311.(1/72)
ثم إن الاحتمالات ترد على معناه وغاية ما فيه أنه –ابن أبي سليم- رأى سمراء تأمر وتنهى، ولم يقل أنها اتخذت ذلك عملاً أو وليته منصباً، فربما كانت خارجة لبعض حاجتها فرأت المنكرات فأنكرتها، وهذا دأب عباد الله الصالحين، ولعل مما يجعل هذا الاحتمال وجيهاً هو عدم نقل غيره له ولو كان مَنصِباً لكان معروفاً مشهوراً منقولاً عن غيره، ولاسيما لو كان منصباً في محل عام يرده ويصدر عنه الفئام، بل ندر من لاتكون له حاجة فيه.
وأهل العلم لايحرمون خروج المرأة للحاجة أو الضرورة وإن تكرر الخروج، فلو خرجت امرأة لحاجة والتزمت بضوابط الشرع في خروجها، فلا حرج عليها، فإذا رأت منكراً وكان بوسعها إنكاره فعليها أن تنكره، وهذا غاية ما في أثر بنت نهيك.(1/73)
ولايُعرف من أشار إلى توليتها السوق منصباً، وإنما ذُكر عن عمر –رضي الله عنه- أنه ولَّى أم سليمان بن أبي حثمة الشفاء بنت عبدالله العدوية القرشية شيئاً من أمر السوق، وقد كانت موصوفة بفضل وعقل وهي من المهاجرات الأوائل رضي الله عنهن جميعاً، ولعل خبر توليتها السوق ليس له سندٌ يُعوّل عليه، كما أن ظاهر كلام أهل العلم يفهم منه تولية ابنها ومساعدتها له في بعض الشأن، فقد ذكرها الحافظ المزي فقال: "وكان عمر بن الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر"(1) ونقله نحوه ابن حزم في المحلى(2) ولكن الزرقاني أشار إلى أن من وُلِّي هو ولدها سليمان بن أبي حثمة، قال: "وقال (أبو) عمر رحل مع أمه إلى المدينة وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم واستعمله عمر على السوق وجمع الناس عليه في قيام رمضان"(3)، وكلام الزرقاني هو الذي نص عليه ابن عبدالبر كما في الاستيعاب(4)، وقد نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة، وقال: " قلت هذا كله كلام مصعب الزبيري وذكره عنه الزبير بن بكار"(5).
فغاية ما في هذا إن ثبت – فمصعب الزبيري توفي في ستة وثلاثين ومائتين وبينه وبين عمر مفاوز- أن عمر رضي الله عنه ولاها شيئاً من أمر السوق مع ابنها، ولعل ذلك فيما يختص بما يحتاج الرجال دخول النساء فيه فكانت تساعده في ذلك والله أعلم، وهذا الصنيع له وجهه الذي لايخفى فإن شؤون النساء قد لايناسب مباشرة بعض حالات احتسابها رجال، وهذا ظاهر.
وأخيراً هناك من يذكر خبراً عن شخصية يسمونها خولة بنت الأزور ويذكرون قصة إنقاذ أخيها ضرار –وهو صحابي معروف- من الأسر، ولا أصل لهذه القصة فلا يوقف معها، بل إن في ثبوت شخصية خولة هذه نظر فضلاً عن القصة(6).
دعاوى غير معقولة:
__________
(1) انظر تهذيب الكمال (25/207).
(2) 9/429.
(3) انظر شرح الزرقاني 1/286.
(4) 2/649.
(5) 3/242
(6) راجع كتاب عبدالعزيز الرفاعي: خولة بنت الأزور.(1/74)
بعض من يعيه النقل الصحيح يلجأ إلى شبه أخرى بعضها ينقض بعضاً، والواقع أشد لها نقضاً، كقولهم الفصل يؤجج الشهوة، ويلجئ إلى طلب الجنس ولو من المثل، ثم نقضه بقولهم، القضية قضية قلوب! إذا سلم القلب فلا تهتم أين كان صاحبه، والمرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال في حصن حصين من شرفها وعفتها لا تمتد إليه المطامع.
وهكذا يدخل صاحب الهوى في مغالطات يهزأ منها قارئ التاريخ، ويكذبها الواقع بإحصائياته، بل بإقرار قدوات المغالطين من رجال الغرب ونسائه.
أما الدعوى الأولى فهي ضرب من الإرهاب الفكري المقيت، يُحصر فيه الناس بين خيارين؛ إما الاختلاط ولك أن تقول: الزنا، وإما الشذوذ، سبحان الله! ألا يرى هؤلاء إلاّ الجنس المحرم، مثلهم كمثل من يقول: إما أن يأكل الناس مما لم يذكر اسم الله عليه، أو يُؤكل لحم الخنزير. عجباً! وأين ذهب الحلال الطيب؟
ولك أن تعجب أيضاً من ذلك الشرف، وتلك العفة، التي يزعم امتلاكها من يبيح الاختلاط، ويتهم من ينادي بالفصل بسوء القصد! وأتساءل هل حقاً بلغت السذاجة بأناس مبلغاً يدفعهم لتصديق هذا الدّعي؟
لا أظن أن عاقلاً يتصور أن امرأة شريفة سوف تعيش في حصن من العفاف حصين أنى وجدت، ولو في قعر بيت بغاء!
إن الشرف ليس جوهراً قائماً منفصلاً، أو متبعضاً عن غيره، وكذلك العفة ليست كائناً يمشي على الأرض، ويمسك باليد، بل هي أعرض قائمة بالنفوس، فإذا جُبْتَ الطرقات والخلوات، فلن تصادف جسماً اسمه الشرف، وإذا شققت إنساناً وفتشت بين جنباته، فلن تجد قطعة اسمها العفة، ولكن ربما وجدت قلوباً حية بيضاء، وهذه لاتزال صافية، حتى يسقط فيها ما يكدرها.
إن الصفات والأعراض قابلة للتأثر إذا لم تصن، فالخفرات الخود، إذا خرجن فأكثرن التعرض لأشعة الشمس الحارقة، مالت نحو السواد أبشارهن وقلوبهن البيضاء!
وكم رأيتَ إنساناً يتقاطر الحياء من محياه، فعاد إليك بعد أن خالط أقواماً لم يتركوا في وجهه قطرة ماء.(1/75)
إن من المستهجن في العقول أن تقول لغواص يجوب أعماق البحار، انزع لباسك الضافي الأسود وإياك إياك أن تبتل بالماء! ومن قبيله ترك المباعدة بين الرجال والنساء وترقب السلامة مع أن "كل فحل يمذي وكل أنثى تقذي".
ألم ير من يناد بهتك الستر بين الرجال والنساء أثر ذلك في الغرب المتحضر؟ هل خفف ذلك من ثورة الشهوات؟ أم أتاح لها متنفساً فلوثت الأعراض؟
ثم هب أن امرأة درجت على مخالطة الرجال فسلم لها شرفها وحياؤها فلم يهزل، فمن الذي يكفل عدم خدشها من قبل ثعالب وذئاب البشر..
قالت بنو عامرٍ خلوا بني أسدٍ ……يابؤس للجهلِ ضَرَّاراً لأقوام
تعدو الذئابُ على من لاكلابَ له……تتقي صولة المُسْتَثْفِرِ الحَامِي(1)
يذكر أهل السير والأدب أن عمر بن أبي ربيعة بينما كان يطوف بالبيت إذ نظر إلى امرأة فوقعت في قلبه، فدنا منها فكلمها، فلم تلتفت إليه. فلما كان في الليلة الثانية جعل يطلبها حتى أصابها. فقالت له: إليك عني يا هذا، فإنك في حرم الله وفي أيامٍ عظيمة الحرمة. فألح عليها يكلمها، حتى خافت أن يشهرها. فلما كان في الليلة الأخرى رفعت الاختلاط المحظور فقالت لأخيها: أخرج معي يا أخي فأرني المناسك، فأقبلت وهو معها. فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها، فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها، فتمثلت المرأة بقول النابغة السالف.
وذكروا أن الخبر بلغ الخليفة المنصور فقال: وددت أنه لم تبق فتاة من قريش في خدرها إلا سمعت بهذا الخبر.
وفي الإحصاءات التي تبين ماهو ماثل في أرض الواقع ما يغني عن الأخبار(2)، نسأل الله الحفظ والسلامة.
__________
(1) الأبيات للنابغة الذبياني، والمستثفر الحامي: أراد به الكلب يدخل ذنبه بين فخذيه حتى يلزقه ببطنه، متأهباً للحماية.
(2) تأتي الإشارة إليها في الفصل الثاني بمشيئة الله تعالى.(1/76)
أما الزعم بأن الدعوة للعفاف ونبذ التبذل والاختلاط سبب لتأجج نار الشهوات فهو من أظهر الباطل، فهؤلاء أهل الإسلام ودعاته الملتزمون بأحكامه ومن ذلك الفصل بين الرجال والنساء، محافظون على العفة مهذبون لغرائزهم بالتزامهم أمر اللطيف الخبير بخلاف غيرهم.
فلم نسمع بجماعة إسلامية، دعت يوماً من الدهر إلى إباحة الشذوذ الجنسي، فضلاً عن أن تقر له قانوناً، بينما قاد الاختلاط والانفتاح أمماً إلى سَنّ تشريعات تبيح الشذوذ، وإلاّ فما بال نساء ألمانيا وبريطانيا وأمريكا ورجالاتها سنوا تشريعات تقر الشذوذ، وأقاموا منظمات تحفظ حقوق الشذاذ! أتراهم عانوا من كبت ضرب الحجاب بين الجنسين أو أمر النساء بالقرار؟ هل يعلم هؤلاء أن بالولايات المتحدة وحدها نحواً من خمسين مليون شاذ(1)!
__________
(1) منقول عن مقال لمروي مشالي، تأتي الإشارة إليه قريباً، وقد يُظن أن هذه النسبة مبالغ فيها، ولكن الدراسات تفيد أن نسبة 10% من مجموع السكان شذاذ [عن مركز أبحاث الحرم الجامعي للشذوذ بجامعة يوتا بولاية سالت لاك الأمريكية]، بالإضافة إلى 8% عندهم شذوذ "مزدوجي الجنس"، وهذه النسبة تعادل (18%) من مجموع السكان، ووفقاً لتعداد عام 2003م، فإن عدد هؤلاء يصل إلى ما يربو على الثنتين وخمسين مليونا. ومع ذلك فهؤلاء قلة إذا ما قورنوا بإحصاءات أخرى أشارت إلى عدد الذين مروا بتجارب مقيتة حيناً من الدهر. ولعل من الحكمة الإعراض عن الإحالة على بعض منظمات الشذاذ والتي ربما اعتنت بتكثير إحصائياتهم، وأكتفي بالإحالة على موقع مركز جامعة يوتا، وقد كان رابطه حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر: http://www.sa.utah.edu/lgbt. وكذلك راجع موقعة جامعة دايتن الكاثوليكية على الرابط: http://ministry.udayton.edu/diverse/bglad_group.htm. التقرير التمهيدي لبرامج التجمع الوطني لمكافحة الاغتصاب (العنف) National Coalition of Anti-Violence Programs.(1/77)
ثم من الذي يحمي شذاذ الآفاق، من الذين انتكست فطرهم في الدول العربية والمسلمة؟ هل رأيتم شعباً مسلماً خرج في مظاهرة لحماية حقوق الشواذ؟ اللهم لا؛ ولكن رأينا احتجاجات بمباني الأمم المتحدة في جنيف، وخارج المكتب الثقافي التابع للسفارة المصرية بواشنطن. وسمعنا بانتقدات جماعات حقوق الإنسان الدولية، لحادث قبض على بعض الشذاذ في أرض الكنانة أسفر عن إدانتهم ومحاكمتهم(1)!
حتى قال محرر الأهرام العربي: "بعد أن رفع الشواذ الأمريكيون شعار الحرية الشخصية الذي تبناه خمسة وثلاثون من أعضاء الكونجرس في رسالة مسمومة إلي الرئيس مبارك يلوحون فيها بورقة المعونة الأمريكية للضغط علي مصر بهدف إلغاء محاكمة المتهمين الـ 52 في قضية الشذوذ ومنح الحرية الكاملة لأي شاذ يمارس الجنس مع أشخاص بالغين من الجنس نفسه .
ولأن الحملة الأمريكية يقودها شاذ أمريكي يدعي "باري فرانك" عضو الكونجرس عن ولاية "ماستشوستس" ومعه "توم لانتس" المعروف بالمشاركة الدائمة والمنتظمة في أي حملة ضد مصر فقد جاء الرد سريعا وفي نفس الاتجاه من أوروبا .. وبالتحديد من أمام السفارة المصرية في جنيف حيث وقف عشرات الشواذ يتظاهرون منددين بانتهاك الحكومة المصرية لحقوق الشواذ وحرمانهم من ممارستهم لحريتهم !! والمفارقة أن المظاهرة جاءت ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للشواذ والسحاقيات الذي أقيم الأسبوع الماضي في العاصمة السويسرية .
__________
(1) وقد نشرت قناة الجزيرة الإخبارية الخبر بتاريخ 29/8/2001، محاكمة 52 بتهمة الشذوذ، وخصصت الأهرام العربي "حياة الناس" لهذا الحدث، في عددها 231، السبت 25/8/2001.(1/78)
ولم تسلم جمعيات حقوق الإنسان في مصر من الحرب الشرسة , إذ نالت مئات الهجمات العنيفة علي مواقعها عبر الإنترنت بالإضافة إلي تهديدها بوقف التمويل مالم تنتفض لنجدة ونصرة الشواذ في مصر وتهيئ لهم أجواء الفجور والفسوق !!"(1) .
"لقد أضاف الدستور البريطاني مادة جديدة تتيح للموظف المسئول، حرية الإعلان عن ميوله الجنسية , فكانت النتيجة أن أعلن أربعة وزراء عن ميولهم الشاذة، وسكت آخرون، فصادف أن وقف (توني بلير) -رئيس الوزراء البريطاني- في أحد المؤتمرات الصحفية بعد إعلان أحد الوزراء عن ميوله الجنسية الشاذة , فلم يجد سوى أن يقول: تلك ميول شخصية لا تؤثر علي كفاءته في العمل كوزير!
وعندما حاولت ملكة هولندا في السنوات الأخيرة الالتزام ببروتوكول القصر الملكي، فحرمت حوالي أربعة عشر سفيراً ودبلوماسياً هولندياً شاذاً -أعلنوا عن ميولهم في الملأ- من حضور حفلات ملكية، وجدت المتحدث الرسمي الأول لمجلس الدولة –الشاذ- يعرب عن اعتراضه علي هذا الحرمان، وامتنع عن حضور المؤتمرات، التي تعقد في القصر لأنه لا يستطيع أن يصطحب صديقه!
ولست أدري أين وصلت فرنسا في قانون (باكس) للتضامن الاجتماعي، وأهم البنود المطروحة في مشروع القانون مسألة السماح لأي زيجة بين الشواذ تمنحهم الحقوق المدنية المكفولة للأزواج الطبيعيين مثل حقوق الميراث، والاحتفاظ بالممتلكات بعد وفاة أحد الطرفين . وهناك مشروع مماثل جار بحثه في بلجيكا بعد ضغوط من بعض المنظمات الدولية الكبرى التي ترعي هؤلاء الشواذ"(2).
__________
(1) الأهرام العربي "حياة الناس"، في عددها 231، السبت 25/8/2001.
(2) الحوادث والأرقام السابقة مستقاة من مقال بعنوان: ثقافة الشذوذ أحدث منتج أمريكي، لمروي مشالي، نشر في حياة الناس من الأهرام العربي يوم السبت 6 جمادى الآخرة، 1422 الموافق 25 أغسطس 2001العدد رقم 231.(1/79)
وقبل أيام قلائل وقف أمام الملأ نائب الرئيس الأمريكي "ديك تشيني" ليدافع في مقابلة تلفزيونة أجرتها معه " إم إس إن بي سي" عن حقوق ابنته الشاذة في حماية حياتها الخاصة، معرباً عن حبه الشديد لها، وقد كان ناشطون شذاذ دعوا ابنته "ماري" للتنديد بمقترح الرئيس جورج بوش من أجل تعديل الدستور لحظر الزواج من نفس الجنس(1)!
وهكذا يستشري الشذوذ في تلك المجتمعات التي لاترعى للاختلاط حرمة، ويتقدم ليقتحم الكنائس والبيع، وقد أثارت الصحف الأمريكية قبل حوالي ستة أشهر، نبأ انتخاب "جين روبنسون" أول أسقف شاذ للكنيسة الأسقفية البروتستانتية، التي تضم حوالي 3.2 مليون نصراني، ينتمون إلى الكنيسة الانجليكانية، يباركهم جميعاً هذا القس الشاذ(2)!
"ولن تعجب كثيراً إذا علمت أن اليهود كان لهم السبق في دعم مثل هذه التوجهات الشاذة في خطوة غير مسبوقة عندما صوت الحاخامات المنتمون لأكبر تجمع يهودي في الولايات المتحدة لصالح الاعتراف بزواج الشواذ وذلك في المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين التابع لحركة الإصلاح اليهودية حيث صرح رئيس المؤتمر[تشارلز كرولوف]:'إن من حق الشواذ الاعتراف بزواجهم واحترامهم'،ومنذ عام 1995، والحركة توافق على تعيين حاخامات مثليين"(3).
__________
(1) نقلاً عن جريدة المحايد في عددها رقم 81 بتاريخ 18/1/1425، الموافق 9/3/2004م.
(2) انظر تقريراً عن هذا الحدث في "السي إن إن" يوم الأربعاء الموافق 6/أغسطس/2003، وقد كان حتى كتابة هذه الأسطر في موقعها على الرابط التالي: http://www.cnn.com/2003/US/08/06/bishop.
(3) عن تقرير لمفكرة الإسلام بعنوان: حرية التردي وتقنين الفاحشة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان على الرابط التالي: http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news13.asp?IDnews=134 .(1/80)
"فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوروبا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشاراً ذريعاً. بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح, وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه.
وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود, بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي.. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوروبا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى -كما في عالم البهائم! وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال; بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء. . ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ: "السلوك الجنسي عند الرجال" و "السلوك الجنسي عند النساء" في تقرير "كنزي" الأمريكي. . ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون, ووصايا مؤتمرات المبشرين !"(1).
إن من أعظم أسباب الشذوذ اضطراب الأسرة، وانشغالها عن رعاية بنيها، ولهذا كان من الطبيعي استشراء الشذوذ في الغرب الذي بات مصير الأسرة فيه مهدداً بالانقراض إثر الانحلال المتفشي. فعندما تهمل الأسرة أبناءها , تكون النتيجة المرتقبة انحرافهم بأشكال مختلفة، قد يمثل الشذوذ أحدها ، خاصة عندما ينشأ الأولاد في أسر استرجلت فيها النساء، أو في مجتمع سُلب ذكوره الرجولة.
__________
(1) في ظلال القرآن، تفسير سورة الأعراف، الدرس الرابع الآيات 80-84 لقطات من قصة لوط .(1/81)
ومع ذلك فإننا لاننكر أن يكون الشذوذ ظاهرة ربما عرضت لنفر منبوذ -لا يراعي للاختلاط حرمة- في مجتمع عربي، ولكن ما نستهجنه محاولات تبرير الدعوة إلى الاختلاط بدعاوى سمجة، بالإضافة إلى تحليل أسباب ظاهرة الشذوذ في المجتمعات العربية تحليلاً سطحياً ساذجاً، يضحك به على البسطاء، ثم اقتراح عقار آخر يضاعف الداء، بتحليله لتدابير الإسلام الوقائية، كمنعه من الاختلاط، وهدمه لتدابير الإسلام الإيجابية كحضه على الزواج، وترخيصه في الإماء، وأمره بالصيام.
"لقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق, والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين, والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح, وإطلاق للرغبات الحبيسة, ووقاية من الكبت, ومن العقد النفسية, وتخفيف من حدة الضغط الجنسي, وما وراءه من اندفاع غير مأمون... الخ.
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان, والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! -وبخاصة نظرية فرويد- ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية, رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية, ما يكذبها وينقضها من الأساس.(1/82)
نعم.. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي, والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله, أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان, وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب, شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد; وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق, وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة, واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود .
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي; لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض; وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته; وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة، فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة"(1).
وبالجملة فإن من يجادلون في اختلاط المرأة بالرجال يتمسكون بشبه ضعيفة ليست فيها حجة أو دلالة، ولو أنهم عرضوها على بعض ما كتبه أهل العلم في حكم الاختلاط لتبدد ظلام تلك الشبهات، فإن ما يذكرونه لا يقوى على دفع الأدلة المتظاهرة على تحريم الاختلاط والتي سبق ذكر بعضها.
الفصل الثاني: نظرة واقعية لثمار الاختلاط
فهرس المحتويات
مقدمة…4
معنى الاختلاط…9
المعنى الشرعي…10
المعنى الاصطلاحي…11
حكم الاختلاط بالأجانب وحكمته…13
الأصل أمر النساء بالقرار في البيوت…19
مراعاة المنع من الاختلاط في التشريع…25
1- طلبهن العلم…26
__________
(1) السابق، سورة النور: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. } الآيات.(1/83)
2- مبايعتهن النبي صلى الله عليه وسلم…27
3- ندبهن لشهود أعياد المسلمين، وجواز حضورهن الجمع والجماعات…27
4- حج النساء واعتمارهن…31
5- خروجهن للجهاد…34
وظيفة النساء في الجهاد…35
حكم شهودهن القتال والتحامهن بالرجال…36
تنبيه…38
الخلاصة..…39
بعض أدلة المنع من الاختلاط من الكتاب والسنة الثابتة…41
1- قوله تعالى: { وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ } .…41
2- الأمر بغض البصر والعفو عن الفجأة…44
عم يغض البصر!…46
3- حديث: "المرأة عورة..".…46
4- دلالة قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } …47
أدلة أخرى على أن القرار ليس خاصاً بنساء النبي (صلى الله عليه وسلم)…48
5- دلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "فاتقوا النساء".…50
6- قصة سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة.…50
7- "على رسلكما إنها صفية" الحديث.…50
الضرورة إذا اقتضت اختلاطاً…52
افتعال الضرورة!…52
طرف من كلام أهل العلم في المنع من الاختلاط…53
من كلام العلامة محمد بن إبراهيم…57
من كلام العلامة ابن باز…59
بعض شبه من اختلط عليه الاختلاط…61
الاستدلال بقصة يوسف عليه السلام…62
الاستدلال بنبأ موسى مع المرأتين…63
الاستدلال بأخبار سمراء والشفاء رضي الله عنهما…63
دعاوى غير معقولة…65
الفصل الثاني: نظرة واقعية لثمار الاختلاط…73
فهرس المحتويات…74(1/84)