ـ[أعلام وأقزام في ميزان الإسلام]ـ
جمع وترتيب: أبو التراب سيد بن حسين بن عبد الله العفاني
الناشر: دار ماجد عسيري للنشر والتوزيع، جدة - السعودية
الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي](/)
أعلام وأقزام
في ميزان الإسلام
جمع وترتيب
الدكتور سيد بن حسين العفّاني
الجزء الأول
الناشر
دار ماجد عسيري للنشر والتوزيع
السعودية - جدة - هاتف 6631403 فاكس 6657529 جوال 054346151(/)
مقدمة(المقدمة/1)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 69 - 71].
أما بعد:
فزماننا هذا زمان تنطق فيه الرويبضة (1)، ويعلو التحوتُ الوعول فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون
__________
(1) الرُّوُيْبضة: تصغير الرابضة: وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها، والتافه الخسيس الحقير.(المقدمة/3)
فيها الأمين، وينطق فيها الرُّويبضة " قيل: وما الرويبضة؟ قال: " السفية يتكلم في أمر العامة " (1). * وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " من أشراط الساعة .. أن يعلو التحوتُ الوعول " أكذلك يا عبد الله بن مسعود سمعته من حبِّي؟ قال: نعم ورب الكعبة. قلنا وما التُّحوت؟ قال: " فسول الرجال، وأَهل البيوت الغامضة، يُرفعون فوق صالحيهم، والوعول أهل البيوت الصالحة " (2).
حينئذ تتحول الحياة إلى مستنقع آسن، وترتكس الدجاجلة ومعهم الغوغاء في الحمأة الوبيئة، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم، ويعلو أهل الله بمرتعهم الذكي، ومرتقاهم العالي، ونورهم الوضيء، فعيشهم عيش الملوك، بل أحلى، ودينهم دين الملائكة.
أي شيطان لئيم قاد خطا الجموع الشاردة عن منهج الله إلى هذا الجحيم.
لقد فسدت الأرض بالبعد عن الإسلام، وأسنت الحياة، وتعفنت قيادات الفكر من العمالقة الدجاجلة، والقمم الشامخة الزائفة، وذاقت البشرية الويلات من قيادات الفكر المتعفنة و " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس "، وكانت النكبة القاصمة لما نُحِّي الإسلام عن الحياة، وتطاول عليه الرعاع والغوغاء ممن يسمونهم قادة الفكر وأعلام الأدب
__________
(1) إسناده جيد: رواه أحمد في "مسنده"، وقال الشيخ أحمد شاكر (15/ 37 - 38): إسناده حسن ومتنه صحيح، وقال ابن كثير في " النهاية في الفتن والملاحم ": هذا إسناد جيد، ولم يخرجوه من هذا الوجه.
(2) ذكره ابن حجر في " الفتح " (13/ 15) من رواية الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة، وقال الهيثمي: حديث أبي هريرة وحده في "الصحيح" بعضه، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن الحارث وهو ثقة.(المقدمة/4)
والصحافة وأهل الحداثة من التنويريين الإرهابيين التقدميين أعداء الإسلام الظلامي الذين تطاولوا على الله وسخروا من دينهم وأنكروا وتنكروا لكل معلوم من الدين بالضرورة، وارتفعت لهم راية وصوت، ونجحت عصابة المضللين الخادعين أعداء البشرية.
ارتقوا -كما يزعمون- في الإبداع المادي، وارتكسوا في المعنى الإنساني وذاق الغافلون على أيديهم القلق والحيرة والضياع، والشك.
عناد وجحود فكانت الشقوة النكدة، والخواء القاتل، والضياع الذي ما بعده ضياع.
جهل الدجاجلة من القمم الشوامخ وروّاد الفكر أن هذه البشرية -وهي من صنع الله- لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل الله في الإسلام مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}.
* وقال تعالى: {إِن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ولكن هؤلاء لا يريدون أن يردوا القفل إلى صانعه .. بل تطاولوا على هدي الإسلام وتطاولوا على الوحي المنزل من السماء، وتطاولوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سنته وشريعته، وتطاولوا على تاريخ الإسلام والصحابة، ووجهوا وجهتهم قبل الغرب.
يرمرم في فتات الغرب قوتًا ... ويشرب من كئوسهم الثمالة
يقبل راحة الإِفرنج دومًا ... ويلثم دونما خجلٍ نعاله
وأتى شعرهم وأدبهم بكل قبيح وبكل رذيلة وبكل دمار.
ومن الغرائب أن هذا رائج ... تغدو به صحف النفاق وترجعُ(المقدمة/5)
وله من العشاق ألف قبيلةٍ ... وله من الأبواق جيشٌ مقزِغُ
يجثو بأحضان الكبار مؤرَّباً ... وإذا مَشَوْا أومت إِليه الأصْبُعُ
إِن شرَّقوا فالشرق أقدس قِبْلةٍ ... أو غرّبوا فالغرب نعم الموضعُ
يجري مع التيار يعرف طبْعَه ... وعلى لحون العازفين يُوَقِّعُ
يمضي إِلى المأوى الحرام مُلَبِّيًا ... ويَؤُمُّ حانات المساء ويكرَعُ
هل يستوي الشعران: شعر مؤمن ... ومدجج بالكفر لا يتورَّعُ؟!
هل يستوي البحران هذا ماؤه ... عذب وذاك الآسن المُستنقع؟! (1)
ولله در العشماوي حين يقول فيهم:
كم شاعر جعل الإِلحاد منهجه ... تواثبوا نحوه بالشوق واعتنقوا
ساروا وفي دربهم وحلٌ فإِن وقفوا ... غاصوا وإن حرّكوا أقدامهم زلقوا
أبناء جلدتنا لكنهم هجروا ... وأهل ملتنا لكنهم مَرَقُوا (2)
لقد مسخوا عقل الأمة وضميرها وفكرها ويومها ومستقبلها وأضاعوا شباب الأمة ووقعوا في التيه الكبير .. لقد قالوا في الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يستحي منه كبار الشياطين وزعموا أن الأديان من نبت الأرض، وأن القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا فصل الإسلام ومنهجه عن الحياة فصلاً تامًا، فتصدت لهم الأقلام المتوضئة.
كتائب الأحرف البيضاء قادمة ... يزفُّها قلم يزهو به ورقُ
صهيله قلم يُصغي الزمان له ... ونقعه لحجاب الشمس يخترق
وسرجه كلمات لا يخالطها ... زيف ولا يرتمي في حضنها نزقُ
__________
(1) من ديوان "إنها الصحوة إنها الصحوة" لمحمود مفلح (ص 8) - دار الوفاء.
(2) من قصيدة "جولة مع جواد الشعر" من ديوان "شموخ في زمن الانكسار" للعشماوي (ص51) - مكتبة الأديب.(المقدمة/6)
مسافر والأماني البيض لاهثة ... وراءه وبحار الشوق تصطفِقُ
* وهذا لون من أشرف أنواع الجهاد قال الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} [التحريم: 9].
فلا يترك دجاجلة الفكر، والعناصر المفسدة الجائرة الظالمة تهاجم إله الكون والإسلام والشرع من داخل مجتمع المسلمين دون أن يتصدى لهم أهل الله -وحواريو الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين يذبون عن الوحي والسنة .. فهذا أخص أنواع الجهاد، فجهاد الكفار بالسيف والسنان، وجهاد الزنادقة والذين يطعنون في الإسلام يكون بالقلم واللسان، وهو جهاد الخاصة يردون الشبه في وجوه الكالحين الكارهين للإسلام الكريهين، المبغضين للإسلام البغيضين .. الفاسدين المفسدين قال تعالى عن القرآن: {وجاهدهم به جهادًا كبيرًا} فاللهم اكتب لنا بجمعنا هذا نصيبًا من هذ الجهاد وارزقنا فيه النية الصادقة.
إن هذا الجمع لسحق كل نابح ناعق يتطاول على الإسلام، ولسحق كل حية وأفعى تبث السم في الدسم، ولفضح كل دجال وكل مهرج من الحواة.
نعلم أن الرفعة كل الرفعة في اتباع هدي نبينًا - صلى الله عليه وسلم - وأن الذلة كل الذلة في المحادة لله ورسوله وإن قال عنهم الناس أنهُم القمم الشوامخ وعمالقة الأدب والفكر وأساتذة الأجيال وعرّابو الحداثة والقوِمية والشعوبية قال تعالى: {إِن الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسولَهُ كبُِتُوا كمَا كُبِتَ الَذِين مِن قَبلِهِم .. } الآية إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 5: 20].
فلكل محاد كبت وقهر وذل ومهانة جزاء التبجح والجحود - وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانًا من الظاهر الذي يخالف الوعد الصادق.(المقدمة/7)
إن المؤمن لا يخالجه شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون وأن الله ورسوله هم الغالبون. وأن هذا هو الكائن ولا بد أن يكون، ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون! .. هذا في الدنيا أما في الآخرة فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين ثم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" (1) اقرءوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}.
هؤلاء الذين تكبروا على الله ورسوله وشرعه مآلهم كما ورد عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يُسمّى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقَوْن من عصارة أهل النار، طينة الخبال" (2).
فيا أمثال الذر اخسئوا فلن تعدوا قدركم. يا من تزدحم أنفسكم باللدد والخصومة لله ورسوله وشرعه مهما أتقنتم الدجل والكذب والتمويه والدهان فإن الله سيفضح نياتكم وسيراها الناس في محيا وجوهكم .. إن الناس فترة من الزمان خدعها منكم زلاقة اللسان، ونعومة الدهان ثم كشف الله ما تخفي سرائركم، وما عاد الناس ينخدعون بظواهركم بعد أن ثاب الناس إلى ربهم وعادوا وتمسكوا بهدي نبيهم.
* قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) حسن: رواه أحمد في " مسنده "، والترمذي، وحسنه ابن حجر في "المطالب العالية"، والألباني في " صحيح الجامع " (7896)، و "تخريج المشكاة" (2/ 51).(المقدمة/8)
الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17] هذا هو وحي السماء إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان، هذا الزبد نافش راب منتفخ .. ولكنه بعد غثاء .. والماء من تحته سارب ساكن هادئ .. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة، .. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصُاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة فإن الخبث يطفو، وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنه بعدُ خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء ..
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيًا طافيًا ولكنه بعد زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحًا لا حقيقة له ولا تماسك فيه .. والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار، أو ضاع أو مات .. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس.
كذلك يضرب الله الأمثال، وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات ومصائر الأعمال والأقوال.
* قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19].
فالعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.
إنه ليس أشقى على وجه الأرض من هؤلاء الدجاجلة الذي حُرموا طمأنينة الأنس بالله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون؛ لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله(المقدمة/9)
خالق الكون.
ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة، يشق طريقة في الحياة فريدًا وحيدًا شاردًا في فلاة بعد أن بعد عن هدي السماء.
* قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
جاء الحق بقوته وصدقه وثباته، وزهق الباطل واندحر وذهب الدجاجلة من أساتذة الجيل الزائفين إلى مزابل التاريخ، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق.
إنها حقيقة لدنية {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة، فالباطل ينتفخ وينتفج وينفش؛ لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة، ومن ثم يحاول أن يموه على العين، وأن يبدو عظيمًا كبيرًا ضخماً راسخًا، ولكنه هش سريع العطب، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليًا ثم تخبو سريعاً وتستحيل إلى رماد؛ بينما الجمرة الذكية تدفئ وتنفع وتبقى، وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء.
* قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كانَ زَهُوقًا} .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنما يستمر حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار، فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده، وقد تقف ضده الأهواء والظروف والقوى، ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى، ويكفل له البقاء؛ لأنه من عند الله الذي جعل " الحق " من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول.
* قال تعالى: {إِن الباطِلَ كانَ زَهُوقًا} ومن ورائه شياطين الإنس والجن، فوعد الله أصدق وسلطان الله أقوى، وما من مؤمن ذاق طعم(المقدمة/10)
الإيمان، إلا وذاق معه حلاوة الوعد، وصدق العهد، ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق من الله حديثًا؟
وفي القرآن والإسلام شفاء ورحمة، شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة، فهو يصل القلب بالله، فيسكن ويطمئن، ويرضى فيستروح الرضا من الله والرضا عن الحياة؛ والقلق مرض، والحيرة نَصَب، والوسوسة داء، ومن ثم فهو رحمة للمؤمنين.
وفي الإسلام شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير ممن سنعرض نماذج منهم شطوا وبالغوا في شططهم وشطحهم، وهم في الدنيا مغلوبون من أهل هذا القرآن .. مغلوبون من أهل الله قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين" (1).
والمسلم ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمن، وعقيدة الإسلام هي وطنه وهي قومه، وهي أهله، ومن ثم يتجمع الطيبون الطاهرون القانتون العابدون عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج.
إن المسلم واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام {وإِن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
* ويبقى الميزان الدقيق للإيمان في النفوس قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
__________
(1) رواه مسلم وابن ماجه عن عمر.(المقدمة/11)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
فلله در من وقف تحت راية الحق والعقيدة .. لا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا وطن، ولا جنس، ولا عصبية ولا قومية .. وإنما الإسلام والإسلام فقط " إنه الإسلام أمي وأبي " حين تكون المحادة لله ولرسوله تنبتُّ كل الوشائج من أرض وجنس ووطن ولون وعشيرة ونسب وصهر إذا انبتت الوشيجة الأولى وشيجة الإسلام .. فالولاء لله ولرسوله .. وما نرضى بغير كتابة الإيمان من الرحمن فى قلوب اشتاقت إلى الأنهار والجنان وقد ذكرت في جمعي رموزًا وعمالقةً وقممًا زائفة منهم من تزندق وتطاول وأتى بالكفر البيّن، ومنهم من انحرف عن الجادة كثيرًا، ومنهم من خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا وهو بهذا الخلط يموه على عوام المسلمين فأغلظنا القول لمن تزندق ومرق غيرة على ديننا فهو أحب إلينا من ذواتنا من ذواتنا.
أدافع عن دين عظيم وهبته ... عطاء مُقِلٍّ مهجتي وفؤاديا
نحمله في شغاف قلوبنا وحبات أعيننا نشرف بحمله.
وقد بينت في جمعي هذا زيف الدجاجلة، وبسطنا القول في بيان باطلهم والرد عليهم مما جمعناه وأطلنا فيه النفس من الغيورين على دينهم كالأستاذ أنور الجندي الذي يحتوي جمعي هذا الكثير والكثير من ترجمته لأهل الباطل والرد عليهم وعزوت إليه كلامه، فإن من بركة العلم عزوه إلى قائله، رحمه الله وشكر الله له وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" (1).
__________
(1) صحيح: رواه أحمد، والترمذي، والضياء عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6417)، و"الأحاديث الصحيحة" (471).(المقدمة/12)
وهناك وقفة هامة لا بد من بيانها أنا لا نقطع لمعين من المسلمين بالنار إلا من حدده الشارع وأن هناك فرق كبير بين كفر النوع وكفر العين، وأنه ليس من قصد الحق كمن تعمّد قصد الباطل- فمن بين هذه التراجم من يصدق عليهم القول {هم العدو فاحذرهم} وهناك منهم من دافعوا عن الإسلام في بعض الميادين وتصدوا لشانئيه ولكنهم في ميدان آخر شطوا فكان لا بد من بيان خطئهم كمحمد عبده، والعقاد، ومحمد عمارة، ومحمد إقبال .. وعسى أن يمتد العمر بالمرء فيضعهم كلهم في هذا الفصل "إسلاميون ولكن" فالله وحده يعلم في أي ظرف يخرج هذا الكتاب.
ولقد أحلنا على المراجع قدر الطاقة وأقسم بالله أني ما أتيت بكلمة إلا من كلام الثقات وأحلت إلى المصادر مثل ترجمة عرابي فقد ذكرت مواقفه الموجودة في ثبت المصادر والمراجع كقول الشيخ محب الدين الخطيب والدكتور محمد محمد حسين والشيخ الجنبيهي وهو من كبار علماء الأزهر ..
اللهم وأنت العليم بالنيات .. أجعل هذا العمل وهذا الجمع كله خالصاً لوجهك الكريم فما كان لك يا مولاي سيبقى وما كان لغيرك يضمحل ويفنى.
اللهم وارزقني ثواب المجاهدين الذين يذبون عن شرعك ودينك وارزقني الغيرة على إسلامك وهدي نبيك - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم استرني بالعافية، واعصمني بهدي نبيك، اعصمني واحرسني بعينك التي لا تنام.
يا حي يا قيوم برحمتك استغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ..
اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات(المقدمة/13)
والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم صل على محمد وآله وارزقني أفضل الشهادة في سبيلك، وارزقني أعالى الجنان وجوار نبيك - صلى الله عليه وسلم - واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا ولا تجعل الحياة علي نكدا ..
اللَّهم اجعل كل أنفاسي وقفًا على الذب عن دينك، واحفظني بالإسلام واقفًا، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بي عدواً حاسدًا.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه.
اللهم إني أسالك لذة العيش بعد الموت وحسن النظر إلى وجهك الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
العفاني
***(المقدمة/14)
هم العدو فاحذرهم(1/5)
هم العدو فاحذرهم
* هم العدو فاحذرهم:
لا بد من إعادة النظر في تقويم الرجال من منظور الإسلام، والإسلام فقط، لا نريد أن ننقص من قدر أحد، ولكننا كما يقول الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله-: "لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى إن المخدوع بهم والمتعصِّب لهم والمروِّج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إمامًا من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصفُ أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يقبلون أن يوصف به زعماؤهم المعصومون" (1).
إن ضرب أسوار القداسة حول الكبار -كما يقولون- أخطأوا أم أصابوا إنما هو خيانة فكرية للأمة بأسرها وتزييف لهالات التقديس التي يُحاطون بها من حملة القماقم أو خبثاء الطوايا، وهذا ما يؤدي حتمًا إلى إعادة فتح الملفات فور زوال العمى عَن البصائر وبمجرد انحسار هالات المجد التي كان يعيشها الكبار من قبل.
إن الرجل يستطيع أن يُعَمي على من في الأرض ولكن لا يستطيع أن يعمي على مَلِك الملوك .. ومن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر بينه وبين المخلوقين وكشف للناس عواره، ومن خان أول منعم عليه
__________
(1) "الإسلام والحضارة الغربية" لمحمد محمد حسين (ص 54).(1/7)
وهو الله يخون أمته بأسرها، فلزام على الأقلام المتوضئة أن تبيّن دجل هذه القمم وعوارهم وغشهم لأمتهم، ونقول لكل من يحاول الرفع من شانهم {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة}.
* محمد علي باشا مؤسس العلمانية بمصر الحديثة:
" كتب الشيخ محمد عبده في المنار 1902/ 1322 هـ بمناسبة مرور مائة سنة على تأسيس ملك هذه الأسرة قال:
إن لمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة كان كل منها موضع خلاف نافعًا كان أو ضارًّا بالمسلمين في سياستهم العامة:
1 - تأسيس حكومة مدنية في مصر (أي علمانية) كانت مقدمة لاحتلال
الأجانب لها.
2 - قتاله للدولة العثمانية بما أظهر به للعالم كله ولدول أوربا خاصة ضعفها وعجزها وجرّأهم على التدخل في أمور سياستها.
3 - مقاتلة الوهابية والقضاء على ما نهضوا به من الإصلاح الديني في جزيرة العرب مهد الإسلام ومعقله.
* وكتب الشيخ محمد عبده في العدد التالي مقالة بإمضاء مؤرخ قال:
هذا يعني أن محمد عبده ومدرسته لا ينسون مساوئ محمد علي في نسخ الأحكام الشرعية وإعلانه -العلمانية- في مصر، وهو أول من تجرأ في العالم الإسلامي على استبدال القوانين الأوربية بالشريعة الإسلامية، ولا ينسون قتاله لخليفة المسلمين مما يعد حَرابة، ولا ينْسون قضاءه على دولة السعوديين العربية المسلمة المُصلحة السلفية، ولا ينْسون أن (توفيقًا) هو الذي تآمر على ثورة عرابي واستدعى الانجليز لاحتلال مصر واحتمى بجيشهم .. " (1).
__________
(1) " معالم تاريخ الأسلام المعاصر" لأنور الجندي (ص 184) - دار الاعتصام.(1/8)
قال الشيخ محمد عبده:
"ما الذي صنع محمد علي؟ .. لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش ويحزّ آخراً على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه، وهكذا. حتى إذا سحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسًا يستتر فيه ضمير (أنا). واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين. وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الدين. وزالت ملكة الشجاعة منهم. وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يُبق في البلاد رأسًا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه.
أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحطّ الكرام، وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي، ليصيّر البلاد المصرية جميعًا إقطاعًا واحدًا له ولأولاده، على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدّة ".
ثم يقول:
"إن محمد علي قد ملأ مصر بالأجانب والدخلاء، يستعين بهم على إقرار نفوذه، وأذلّ المصريين بإطلاق يد هؤلاء الدخلاء فيهم، يحكمون على هواهم، لا هدف لهم إلا مرضاة الأمير صاحب الإقطاع الكبير".
ثم ينفي عنه ما يُنسب إليه من إصلاح، بل ينسب إليه قتل كل روح(1/9)
للشهامة أو النخوة في مصر، مما ظهر أثره عند غزو الإنكليز لها، فيقول:
"حمل الأهالي على الزراعة، ولكن ليأخذ الغلات. ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر والموت الأحمر، وقوانين الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك.
يقولون إنه أنشأ المعامل والمصانع. ولكن هل حبب إلى المصريين العمل والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم؟ .. وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم الصنعة وينشرونها في البلاد؟ .. أين هم؟ .. ومن كانوا؟ .. وأين آثارهم؟ .. لا .. بل بغّض إلى المصريين العمل والصنعة بتسخيرهم وفي العمل والاستبداد بثمرته. فكانوا يتربصون يومًا لا يعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين عليه، لاعنين الساعة التي جاءت بهم إليه.
يقولون إنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به المالك ودوّخ به الملوك. وأنشأ أسطولاً ضخمًا تثقُل به ظهور البحار، وتفتخر به مصر على سائر الأمصار، فهل علّم المصريين حب التجنّد، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب، وحبّب إليهم الخدمة في الجندية، وعلّمهم الافتخار بها؟ .. لا .. بل علّمهم الهروب منها، وعلّم آباء الشبان وأمهاتهم أن ينوحوا عليهم معتقدين أنهم يساقون إلى الموت بعد أن كانوا ينتظمون في أحزاب الأمراء ويحاربون ولا يبالون بالموت أيام حكم المماليك .. هل شعر مصري بعظمة أسطوله أو بقوة جيشه؟ وهل خطر ببال آحد منهم أن يضيف ذلك إليه، بأن يقول: هذا جيشي وأسطولي، أو جيش بلدي وأسطوله؟ .. كلا .. لم يكن شيء من ذلك .. فقد كان المصري يعد ذلك الجيش وتلك القوة عونًا لظالمه، فهي قوة لخصمه.
ظهر هذا الأثر عندما جاء الإنكليز لإخماد ثورة عرابي. دخل الإنكليز(1/10)
مصر بأسهل ما يدخل به دامر على قوم (1). ثم استقروا ولم توجد في البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها. وهو ضد ما رأيناه عند دخول الفرنساويين في مصر. وبهذا رأينا الفرق بين الحياة الأولى والموت الأخير، وجَهله الأحداث فهم يسألون أنفسهم عنه ولا يهتدون إليه".
وعند ذلك يبلغ محمد عبده قمة العنف والهياج، وقد أوشك أن يختم مقاله فيقول:
"لا يستحي بعض الأحداث من أن يقولوا أن محمد علي جعل من جدران سلطانه بِنيَةً من الدين. أي كان دعامة للسلطان محمد علي؟ .. دين التحصيل؟ .. دين الكرباج؟ .. دين من لا دين له إلاّ ما يهواه ويريده؟ وإلا فليقل لنا أحد من الناس: أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة الدين الإسلامي الجليل" (2).
وانظر إلى المقال الذي هاجم فيه رشيد رضا (3) محمد علي لتعرف أي صنف من الرجال كان محمد علي .. وتعال معي إلى بسط في سيرته.
"يقول توينبي أن مصر بدأت تتجه نحو الاصطباغ بالصبغة الأوروبية منذ أيام محمد علي متفوقة على تركيا (4) كما يرى جب أنها سبقت تركيا في ذلك" (5).
__________
(1) الدامر هو الذي يدخل على القوم بلا استئذان.
(2) "تاريخ الأستاذ الإمام" لمحمد رشيد رضا (2/ 382 - 389)، و"الاتجاهات الوطنية في
الأدب المعاصر" (1/ 178 - 181).
(3) "تاريخ الأستاذ الإمام" (1/ 583).
(4) "مختصر دراسة التاريخ" لأرنولد توينبي (3/ 113).
(5) "وجهة الإسلام" لجب وزملائه (42 - 43).(1/11)
* محمد علي وتحطيمه لعقيدة الولاء والبراء فى قلوب المسلمين.
لقد تعمّد هذا الوالي الظالم تحطيم عقيدة الولاء والبراء وإزالتها من قلوب المسلمين ونفوسهم ولو بالقوة والنار، ليرضي أسياده الصليبيين وليخضع أمته وشعبه المسلم للمخططات الصليبية واليهودية.
"ويكفي ذلك ما أورده الجبرتي (1) المعاصر لهذه الشخصية، وما سجله عليها من سيئات، وما رصدها به من تحركات مشبوهة، وانتهاكات مكشوفة، مع أن الجبرتي يقف بتاريخه عند نهاية سنة 1236هـ أي بعد حوالي ستة عشر عامًا من ارتقاء محمد علي لعرش مصر. وهي في نظرنا فترة كافية استطاع خلالها أن يسبر غور شخصية محمد علي ويعرف مداخلها وتوجهاتها، ويلم بتطلعاتها وأهدافها" (2).
ومع ذلك فقد استمر محمد علي في سدة الحكم بعد ذلك حوالي تسعة وعشرين عامًا، لم يدركها الجبرتي (3)، وعمل في تلك المدة من الزمن ما لم
__________
(1) المؤرخ العظيم الذي دافع عن الدعوة السلفية وشيخها الإمام محمد بن عبد الوهاب وانتصر للفكر السلفي وحارب البدع والظلم.
(2) انتقد كثير من المؤرخين ذوي المنهج الاستشراقي الجبرتي في إسرافه كما يقولون في نقد محمد علي، وقالوا: إن الجبرتي لم يعش ليرى ثمرة ما قام به محمد علي من أعمال عظيمة. وهذا واضح مع تأثير الميكافيلية؛ إذ يبررون الوسيلة بالغاية، هذا على فرض أن غايته كانت نبيلة مع أن هذا خلاف الواقع.
انظر: "الجبرتي ومحمد علي" -بحث ضمن ندوة الجبرتي- القاهرة سنة 1976 م.
(3) لأنه قد توفي عام 1237هـ على المشهور من الروايات، بعد أن قُتل ولده فبكاه كثيرًا حتى ذهب بصره، ولم يطل عماه فقد عاجلته وفاته، مخنوقاً بشارع شبراً. ونظراً للآراء الجريئة التي أطلقها في تاريخه ضد محمد علي باشا، وعدم تملقه إياه، وممالأته له ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن محمد علي كان وراء تلك الجريمة البشعة، خصوصًا أنه كان خارجًا لتوه من قصره بشبرا، وكان الجبرتي يشغل منصب إفتاء الحنفية في عهد محمد علي. وقيل: أن محمد بك الدفتردار وهو صهر محمد علي كان يحقد عليه فدس له من =(1/12)
يكن يخطر على بال الجبرتي من الأعمال وأضعاف أضعاف ما انتقده عليه، وسجله في تاريخه.
ونحن بعد ذلك نومئ إيماءات سريعة لضيق المقام. فمن ذلك بيعه للغلال والحبوب إلى الإنجليز وغيرهم من الإفرنج حتى شحت الغلال وغلت الأسعار وخلت منها الأسواق، بل أمر بمداهمة البيوت والدور لكبس الأقوات المدخرة، بدون ثمن (1) لسوقها إلى الكفار الإنجليز الذين كانت تجوب أساطيلهم البحار لضرب المسلمين والتربص ببلادهم، والاستعداد للاستيلاء عليها. وأحدث مكوسًا جديدة، وفرض ضرائب باهظة، حتى لقد ارتفعت الأسعار بشكل عظيم، وزاد ثمن كثير من البضائع إلى أكثر من عشرة أضعاف ثمنها (2).
وحل الكرب والضيق بالمسلمين، وأوذوا في معاشاتهم وأرزاقهم إيذاء عظيمًا (3).
وإن كان من ذكرنا من بكوات مصر قد ركنوا إلى بعض النصارى، واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، فإن محمد علي كان قد اعتاد أن يكون
__________
= قتله، وتلك حجة أخرى تدين محمد علي لمكانة الدفتردار منه، ولا يبتعد أن يكونا متواطئين. انظر ترجمته في "الأعلام" (3/ 304).
(1) "عجائب الآثار" للجبرتي (3/ 342، 363).
(2) يذكر الجبرتي أن الثوب الذي قيمته مائتي نصف فضة أصبح بألفي فضة، وأن النعل الذي كان يباع بستين نصفًا صار يباع بأربعمائة نصف، والذراع الواحد من الجوخ كان يباع بمائة نصف فضة فبلغ ثمنه ألف نصف فضة. هذا سعر الدولة غير ربح البائع وطمع التاجر كما يقول الجبرتي. المصدر السابق (3/ 371).
(3) يقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به". أخرجه مسلم (3/ 1458) في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية برقم (1828)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 62، 93، 257، 258، 260).(1/13)
أغلب المحيطين به من النصارى واليهود (1)، الذين قد تغلغلوا في حكومته وبلاطه، خصوصًا نصارى الأرمن من أعداء الملة الذين هم خاصته وجلساؤه وأهل مشورته، وشركاؤه في اختلاس أموال الدولة ونهب خيراتها، والذين ليس لهم شغل إلا فيما يزيد مكانتهم وحظوتهم عند مخدومهم وموافقة أغراضه، وتحسين مخترعاته، وربما ذكّروه ونبهوه على أشياء تركها أو غفل عنها من المبتدعات، وما يتحصل منها من المال والمكاسب (2).
وقد أظهر الجبرتي -رحمه الله- ألمه وتأسفه لما وصل إليه حال الكفار، والمكانة التي تبوءوها في عهد محمد علي وأنهم صاروا أعيان الناس، ويتقلدون المناصب الرفيعة ويلبسون ثياب الأكابر، ويركبون البغال والخيول المسومة والراهوانات وأمامهم وخلفهم العبيد والخدم، وبأيديهم العصي يطردون الناس ويفرجون لهم الطرق (3)، ويتسرون بالجواري بيضًا وحبوشًا، ويسكنون المساكن العالية الجليله يشترونها بأغلى الأثمان.
ومنهم من له دار بالمدينة ودار مطلة على البحر للنزهة، ومنهم من عمر له دارًا، وصرف عليها ألوفًا من الأكياس، وكذلك أكابر الدولة لاستيلاء كل
__________
(1) قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين. التحالف الصليبي الماسوني الاستعماري وضرب الاتجاه الإسلامي (ص159). د. زكريا سليمان بيومي. عالم المعرفة. جدة. الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م.
(2) "عجائب الآثار" (3/ 548).
(3) هذا بدلاً من تضييقها عليهم كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه" أخرجه الترمذي برقم (2700) كتاب الاستئذان.
باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود برقم (5205) كتاب الأدب. باب في السلام على أهل الذمة. وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني. انظر "صحيح أبي داود" برقم (4337).(1/14)
من في خطه على جميع دورها، وأخذها من أربابها بأي وجه، وتوصلوا بتقليدهم مناصب البدع (1) إلى إذلال المسلمين؛ لأنهم يحتاجون إلى كتبة وخدم وأعوان والتحكم في أهل الحرفة بالضرب والشتم والحبس من غير إنكار، ويقف الشريف والعامي بين يدي الكافر ذليلاً (2).
ومن البديهي بعد أن قد أحاط محمد علي نفسه ببطانة من اليهود والنصارى، أن يعتمد عليهم كثيرًا، وأن يسند إليهم عددًا كبيرًا من المناصب الهامة في الدولة، ومع ذلك فلولا خوفه وخشيته من إثارة المسلمين وتألبهم عليه لاعتمد عليهم بالكلية ولأسند إليهم جميع المسئوليات والناصب دون مواراة.
وهذا ما عبر عنه محمد علي بنفسه حين هلك كاتب الخزينة في عهده وكان رجلاً نصرانيًّا يدعى عبود النصراني، وكان محمد علي يحبه ويثق فيه ويقول عنه: لولا الملامة لقلدته الدفتردارية (3).
والملامة التي كان يخشاها محمد علي هي جزء من بقايا هذه العقيدة الطيبة في نفوس المسلمين من بغض للكفار ومعاداتهم تجعل الباشا المفتون بهؤلاء الكفار يتوقف بعض الشيء في ولائه السافر لهم، وفي نقل خطوات مسيرته التغريبية بالأمة (4).
ومع ذلك فإن هؤلاء الكفار كانوا يشكلون مراكز الثقل في دولة محمد علي، وخصوصًا في المجالات المهمة كالشئون المالية والتعليمية والعسكرية،
__________
(1) يعني الضرائب والمكوس الحدثة.
(2) المصدر السابق (3/ 623).
(3) الصدر السابق (3/ 602). والدفتردار وظيفته إدارة الشئون المالية وضبط الخراج والدخل وبيده سجلات ملكية الأرض. وكانت وظيفتة تشبه وظيفة وزير المالية. "تاريخ الحركة القومية" (1/ 21).
(4) أما في زماننا هذا فقد خفت صوت هذه العقيدة إلا عند قلة من الناس.(1/15)
ولئن كان الدفتردار ليس واحدًا منهم (1). فإن جميع الوظائف المالية الأخرى تقريبًا قد احتكرها النصارى وغيرهم. فقد مر معنا أن كاتب الخزينة كان نصرانيًّا، وكذلك فإن جميع الكتبة والصيارفة كانوا من النصارى أيضًا.
أما وزارة الخارجية فطبيعي جدًا أن تكون من نصيب النصارى حيث العلاقات كانت قائمة على أشدها مع الدول الأوربية وقد أسند هذا المنصب الهام إلى وزير أرمني يدعى باغوص بك الأرمني (2).
أما إدارة الجمارك وهي من الوظائف المهمة فقد كان يرأسها رجل نصراني له أعوان وجند كما يقول الجبرتي يحجزون أمتعة الناس، ويقبضون على المسلمين، ويسجنونهم، ويضربونهم حتى يدفعوا ما عليهم، ومن العجب على حد قوله أن بضائع المسلمين يؤخذ عشرها وبضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم يؤخذ عليها من المائة اثنان ونصف (3).
وما دام أن رئيس الجمارك نصراني حقود فلا نعجب بعد ذلك من التفاوت المذهل في أخذ الرسوم على الواردات من البضائع بين المسلمين وغيرهم. حيث يؤخذ على المسلمين من الرسوم أربعة أضعاف ما يؤخذ على غيرهم من كفار العالم.
5. 2% إلى 10% تفاوت ظالم، وربما كان ذلك تأليفًا للوافدين من التجار كما فعل الباي!! وعلى أي حال فلا يعدو ذلك المثال عن كونه واحدًا من الأمثلة الصارخة على استهانة محمد علي بعقيدة الولاء والبراء وعدم
__________
(1) وكان اسمه محمد بك وهو صهر محمد علي وزوج ابنته وشريكه في الظلم والعذاب والجور.
(2) "رحلة كنغليك إلى الشرق" (ص 122). ترجمة محمود العابدي. التعاونية. عمان 1971 م.
(3) "عجائب الآثار" (3/ 371).(1/16)
تقديره لها.
وقد أصبحت مصر في عهد محمد علي وبالذات القاهرة محط نزول الكافرين من كل جنس، وذلك باستدعائه لكثير منهم، وفتحه المجال أمام استثماراتهم وتجاراتهم، مما جعل البلد تضيق بالسكان، وتغص بالقادمين من الكفار الذين ضايقوا المسلمين في معايشهم حتى إن الإنسان ليقاسي الشدة والهول إذا مر بالشارع من الازدحام الشديد، وبالإضافة إلى طوائف اليهود والنصارى فقد استدعى أعدادًا غفيرة من الدروز والمتاولة والنصيرية وغيرهم من الفرق الخارجة عن الإسلام (1)
وحق لمدينة مثل القاهرة التي لم يكن يتجاوز طولها في ذلك الوقت الخمسة كيلو مترات أن تكتظ بهؤلاء الكافرين الذين تسابقوا إليها من كل حدب وصوب.
وفي تلك الفترة التي نقوم بدراستها كانت تكثر الاضطرابات، وتشيع الفتن والمصادمات، خصوصًا بسبب ثورات العسكر المتلاحقة لقطع المرتبات وغير ذلك، وكان الشعب هو الضحية لتلك الثورات المحمومة.
وفي إحدى تلك الثورات العسكرية التي نهبت فيها الأسواق، وحطمت خلالها الحوانيت. أراد المسلمون في أثنائها أن يحصنوا بعض الحارات النافذة ويقوموا بإغلاقها حتى يقطعوا الطريق على جموع العساكر الهائجة ولكن كتخدا الباشا (2) منعهم من ذلك، في نفس الوقت الذي كان محمد علي يمد فيه النصارى بالبارود وآلات الحرب، بعد أن أتموا تحصين جهاتهم على أكمل وجه (3)، وهذه الواقعة تغني عن أي تعليق، وتدل على مدى العلاقة المريبة
__________
(1) "عجائب الآثار" (3/ 568). ِ
(2) الكتخدا بمعنى: نائب الوالي. انظر "الحركة القومية" (1/ 21).
(3) "عجائب الآثار" (3/ 487). ومما ينبه عليه أن هذه الثورة العسكرية العارمة كانت بسبب=(1/17)
في الخفاء بين محمد علي ونائبه من جانب وبين النصارى من جانب آخر.
وحين قام محمد علي بإجراء واسع النطاق لهدم الدور والمساكن التي بها شيء من الخلل، كانوا يأمرون صاحب البيت الذي تم الكشف عليه بهدمه ثم تعميره، وإن كان يعجز عن ذلك فإنه يؤمر بإخلائه، ويعاد بناؤه على طرف الميري (1) وتصير من حقوق الدولة فهدمت مئات الدور التي كان يملكها أو يسكنها المسلمون.
أما النصارى فلنستمع إلى كلمة الجبرتي في ذلك حيث قال: وأما نصارى الأرمن وما أدراك ما نصارى الأرمن الذين هم أخصاء الدولة الآن فإنهم أنشؤوا دورًا وقصورًا وبساتين بمصر القديمة .. فهم يهدمون أيضًا وينقلون لأبنيتهم ما شاءوا ولا حرج عليهم، وإنما الحرج والمنع والحجر والهدم على المسلمين من أهل البلدة فقط (2).
وعندما تولى الحسبة رجل يدعى مصطفى كاشف أراد أن يعيد الكفار إلى حالتهم التي كانوا عليها قبل مجيء محمد علي إلى سدة الحكم، فأمر مناديه بمصر القديمة أن ينادي على نصارى الأرمن والأروام والشوام بإخلاء البيوت التي عمروها وزخرفوها وسكنوا بها والمطلة على النيل، وأن يعودوا إلى زيهم الأول من لبس العمائم الزرق، وعدم ركوبهم الخيول والبغال
__________
= محاولة محمد علي إدخال ما يسمى بالنظام الجديد في الجيش الذي لا يعني سوى نقل النظام الأوربي الأفرنجي برمته إلى مصر. ومن الغريب في الأمر آن محمد علي قد قام بتعويض المنهوبين مع شدة ظلمه وذلك خشية اجتماع الأهالي مع العسكر ضده -كما يقول الجبرتي- في وقت هو في أشد الحاجة لكسب الناس لتنفيذ خطواته التغريبية، والأغرب من ذلك مواكبة هذا العمل التغريبي في مصر لعمل تغريبي آخر في تركيا كان يتولاه السلطان محمود الثاني مما يدل على أن المخطط واحد وإن اختلف المنفذون.
(1) الميري: الدولة وهي عامية محرفة عن كلمة الأميري.
(2) المصدر السابق (3/ 521).(1/18)
والراهوانات الفارهة واستخدامهم المسلمين.
ولكن محمد علي قطع الطريق على هذا الإصلاح، وأمر بكف هذا المحتسب بعد أن تم زجره وتأنيبه، وذلك بعد أن تقدم أعاظمهم إليه بالشكوى وهو يراعي جانبهم لأنهم صاروا أخصاء الدولة وجلساء الحضرة وندماء الصحبة كما يقول الجبرتي (1).
ويمتد حبل الموالاة والمودة للكافرين في عهد محمد علي إلى شيء آخر له خطورته البالغة، وهو فتحه البلاد على مصراعيها لأفواج النصارى الصليبيين للبحث والتنقيب، واكتشاف الآثار، ودراسة الأماكن دراسة دقيقة بل ومساعدته لهم وتذليله الصعاب في طريقهم (2).
وإذا تجاوزنا هدفهم الرئيسي لتلك العمليات والتنقيب، وهو وضع أيديهم على مراكز الثروة، ودراستهم للمواقع دراسة تخطيطية، مما أفادهم ولا شك في احتلال مصر فيما بعد عام 1882 م خصوصًا إذا علمنا أن كثيرًا من هؤلاء المنقبين كانوا من الإنجليز.
فإن هناك أهدافًا أخرى قد تفوق ما ذكرناه خطورة لم يفطن لها كثير من الباحثين وندع الكلام لأحد المستشرقين ليكشف لنا هذه الأهداف البعيدة.
يقول ذلك المستشرق في كتابه "الشرق الأدنى؛ مجتمعه وثقافته": "إننا في كل بلد إسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات .. " (3).
وعلى ضوء ما سبق من أهداف نستطيع أن نفسر اهتمامات هؤلاء
__________
(1) المصدر السابق (3/ 566).
(2) المصدر السابق (3/ 571، 617).
(3) انظر "واقعنا المعاصر" (ص 202).(1/19)
النصارى بشق البلاد طولاً وعرضًا، وإنفاقهم الأموال الطائلة في كشف الآثار وتعريتها بدءًا بالفرنسيين ثم بالإنجليز الذين ساروا على خط واحد في تنفيذ هذه الأهداف الخبيثة (1).
يقول الشيخ محمد قطب: " ولكن المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون معهم وهم يجوسون خلال الديار كان هو نبش الأرض الإسلامية لاستخراج حضارات ما قبل التاريخ لذبذبة ولاء المسلمين بين الإسلام وبين تلك الحضارات، تمهيدًا لاقتلاعهم نهائيًا من الولاء للإسلام " (2).
وبذلك يكون محمد علي باشا قد ساعد هؤلاء الصليبيين فى تنفيذ مخططاتهم والوصول إلى أهدافهم بفتح البلاد لهم شرقًا وغربًا يجوبونها بحرية تامة.
ويذكر الشيخ محمد قطب أن فرنسا قد احتضنت محمد علي احتضانًا كاملاً لينفذ لها كل مخططاتها حيث أنشات له جيشًا مدربًا على أحدث الأساليب ومجهزاً بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ وكان ذلك بإشراف سليمان الفرنساوي، وأنشات له أسطولاً بحريًا حديثاً وترسانة بحرية في دمياط،
__________
(1) والداهية أن يقوم كثير من الباحثين والأدباء بترجمة لرحلات الكثيرين من هؤلاء الأوربيين الصليبين الذين لم يتركوا بلدًا إِسلاميًا إلا وطئوه بغية ما ذكرناه من الأهداف السابقة، وينعتوها بأنها رحلات موضوعية ونزيهة هدفها خدمة الإنسانية ونشر العلم والمعرفة فحسب دون النظر إلى دين أو جنس، ولكن سرعان ما يدهشك ما تجده في طيات هذه الرحلات من حقد صليبي دفين على الاسلام وأهله وعبارات مليئة بالسم الزعاف.
وبعضهم كان يظهر صليبيته صراحة كما فعل الرحالة اليوت واربرتون في كتابه "الهلال والصليب" وكثير منهم يحاول عدم إظهار شيء من ذلك، ولكن تأبى عليهم صليبيتهم الحاقدة التي رضعوها مع لبن أمهاتهم محاولة إخفائه، وتفضح ما ادعوه من موضوعية وتجرد.
(2) المصدر السابق (ص 202) .. وانظر إلى ضعف الولاء البراء في قول حافظ إبراهيم:
أنا مصري بناني من بنى ... هرم الدهر الذي أعيا الفنا(1/20)
وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر، وكل ذلك كما يقول الشيخ ليس حبًا في شخص محمد علي أو حبًا في مصر، وإنما كان ذلك لتنفيذ المخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بعد أن اضطرت للرحيل، وكان ذلك المخطط الخبيث يرمي إلى عدة أمور منها: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام بتغريب العالم الإسلامي عن طريق تغريب مصر - بلد الأزهر (1).
وقد قام محمد علي بالدور خير قيام! فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا فى محاولة الاستقلال عن الدولة العثمانية فحسب، بل في محاربة الدولة نفسها! وقد كاد أن يقضي عليها لولا تدخل بريطانيا خوفا من استئثار فرنسا بصداقة السلطان وبالنفوذ في مصر، وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى؛ فقد أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في الظاهر، ومنعته من مهاجمة الدولة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الدولة، والاستئثار بحكم مصر حكمًا وراثيًا ينتقل في ذريته، مع التبعية الإسمية للسلطان!! هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد علي في معركة "نافارين" لأنه نسي نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هي اليونان، فقد كبّرته الصليبية وسلّحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون، وأما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبيين بسوء، فهنا يجب تأديبه، بل تحطيمه تحطيمًا كاملاً إذا لزم الأمر (3).
على أن الجرم العظيم الذي تولى كبره محمد علي باشا هو قيامه بضرب الاتجاه الإسلامي السلفي في الجزيرة العربية تظاهرًا بطاعة السلطان
__________
(1) المصدر السابق (ص 205).
(2) المصدر السابق (ص 207).(1/21)
العثماني الذي فقد السيطرة على بلاد الحرمين الشريفين، واتخذ من ذلك ستارًا لتنفيذ مخططات بريطانيا وفرنسا اللتين رأتا الوجود السعودي يشكل خطراً على مصالحهما، خصوصًا في الخليج العربي والبحر الأحمر (1).
وقد كان على رأس تلك الجيوش التي وجهها محمد علي ضباط فرنسيون وبعض النصارى (2).
وقد سرَّت فرنسا بذلك العمل الحربي المدمر، وكذلك بريطانيا وأبلغت فرنسا محمد علي عن طريق قنصلها في القاهرة أنها ممنونة مما رأته من اقتداره عن نشر أعلام التمدن في البلاد الشرقية (3)، ومن ذلك بالطبع ضرب الاتجاه السلفي في الجزيرة العربية.
أما تغريب العالم الإسلامي فقد عمل محمد علي على تحقيقه بفرض سياستين تغريبيتين، كانت الأولى تقضي بابتعاث الطلاب الشبان وإرسالهم إلى أوربا ليتعلموا هناك.
وكان هذا -كما يقول الشيخ محمد قطب- أخطر ما فعله في الحقيقة .. لأنه من هناك بدأ "الخط العلماني" يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية (4)، وقد كان من هؤلاء المبتعثين الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إمام إحدى البعثات وشيخها، والذي عاد حاصلاً معه بذور التغريب والعلمنة كالدعوة إلى تحرير المرأة، وأخذ يسهم في زعزعة عقيدة الولاء والبراء بإغراقه في مديح أوربا الكافرة والثناء عليها في كتب كثيرة لعل من أبرزها كتابه في مدح باريس (5) والذي قيل إنه أهداه إلى محمد
__________
(1) قراءة جديدة في "تاريخ العثمانيين" (ص 189).
(2) المصدر السابق (ص 187).
(3) "الخطط التوفيقية" (10/ 177) لعلي باشا مبارك. دار الكتب. الطبعة الثانية 1969 م.
(4) "واقعنا المعاصر" (ص 207).
(5) المصدر السابق (ص 209).(1/22)
علي فقبله باحترام. وقد بلغ عدد من أرسل من المصريين إلى سنة 1842 م مائة تلميذ (1).
وقد كاد أن يتم إرسال أطفال بين الثامنة والتاسعة إلى أووبا، واشترط نوبار باشا وهو سكرتير إبراهيم باشا ولي عهد محمد علي ونجله الأكبر أن يفصل بعضهم عن بعض في المعيشة أو يوضع كل اثنين في غرفة صغيرة (2).
ولكن هذا المخطط الخبيث أوقف تنفيذه بسبب هلاك إبراهيم باشا- حتى جاء الخديوي توفيق ونفذ ذلك المخطط وبدأ بإرسال نجليه الأميرين عباس حلمي ومحمد علي إلى سويسرا وكان عمر الأول اثنتي عشرة سنة والثاني عشر سنوات (3).
أما السياسة التغريبية الثانية التي سار عليها محمد علي فهي إنشاء نظام تعليمي جديد على نسق الأنظمة التعليمية في الغرب.
يقول الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: " ومهما يكن من شيء، فقد ظهر لمحمد علي أن التعليم في الأزهر لا يمكن أن يحقق أغراضه .. كما ظهر له أن التعليم الغربي أو التعليم الذي عرفته أوربا في عصره كان وحده الوسيلة لتحقيق أغراضه، وكان هذا كافيًا ليحمل محمد علي أن يحول وجهه عن الأزهر و"الكتاتيب" وينشئ بجانبها "نظامًا تعليميًا" قائمًا بنفسه، مقتبسًا من الغرب، وليس بينه وبين النظام التعليمي القديم إلا ما يكون بين نظامين
__________
(1) "البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية" لمحمد فريد بك - المطبعة الأميرية ببولاق 1308 هـ.
(2) "تاريخ التعليم في عصر محمد علي" (ص 432). أحمد عزت عبد الكريم. مكتبة النهضة الصرية، ط 1938م. وذلك حتى يسهل صهرهم تمامًا في المجتمعات الأوربية، وما عسانا كنا ننتظر من هذا السكرتير الصليبي.
(3) "تاريخ التعليم في عصر محمد علي" (ص 433). وقد تولى الأول حكم مصر بعد ذلك.(1/23)
يقومان جنبًا إلى جنب ويتجاذبان تعليم نابتة البلاد (1).
وإلا فلو كان محمد علي مسلمًا حقًّا ولم يكن منفذًا لأهداف الغرب ومخططاته لاتجه إلى إصلاح الأزهر والتعليم في عصره بردهما إلى الوضع الصحيح، ووضع كل إمكانياته التي استغلها في التغريب في سبيل ذلك الهدف الكبير.
ولكن محمد علي قد أصر على السير بالأمة في المضمار التغريبي المؤدي إلى الخياة الغربية وأساليبها وثقافتها، فقرر إنشاء نظام تعليمي كامل من المرحلة الابتدائية إلى المراحل العليا، وفتح المدارس على نمط المدارس الغربية.
وقد لجأ محمد علي إلى طريق الترجمة، حيث ترجمت كثير من الكتب في مختلف العلوم والقوانين العسكرية والبحرية، وقام بابتعاث الطلاب إلى هناك، واستقدام الأساتذة الأجانب إلى المدارس الجديدة التى أنشأها (2).
على أن هناك هدفًا خطيرًا كان يرمي إليه محمد علي باشا من وراء إنشاء هذا النظام التعليمي الجديد ألا وهو إلغاء دور الأزهر في المجتمع ومن ثَمَّ القضاء عليه بصورة غير مباشرة، وذلك حين يقوم بفتح العديد من المدارس ذات المميزات العالية التي تؤهل الدارسين فيها لتبوؤ المناصب الهامة، والأعمال الرفيعة في دولة الباشا.
يقول الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: "ولكن ابتعاد الأزهر عن مجال التوظيف أو عدم اتخاذه الأهبة لإعداد تلامذته بما يؤهلهم للحياة
__________
(1) المصدر السابق (ص 588).
(2) المصدر السابق (ص 30).(1/24)
وللمجتمع الذي يعيشون فيه لم يلبث أن باعد بينه وبين كثير من خاصة الناس وصرفهم عنه إلى حد كبير. فقد كانت المناصب التي يصيبها خريجو المدارس، والثراء والاحترام اللذان يحظون بهما في أنحاء البلاد من سواد الناس ومن إليهم .. كل أولئك كان يخلب ألبابهم ويستهويهم إلى المدارس التي تقدم لهم هذا كله" (1).
وهل يكون إلغاء دور الأزهر وتحجيم أنشطته إلا بصرفه عن مجالات التوظيف، أو على الأصح بصرف مجالات التوظيف عنه .. ؟ وقطع صلته بالحياة العامة .. ؟
وحين أنشأ محمد علي مدارسه الحديثة كان محتاجًا إلى معلمين للغة
العربية ولم يكن هناك بالطبع غير الأزهر.
لذا فقد اتجه محمد علي إليه وأخذ منه ما يكفي مدارسه ومكاتبه من المعلمين، فكانوا فريقًا هامًا من موظفي المدارس (2).
ولكن يا ترى كيف كانت معاملته لهؤلاء الأزهريين الذين أعوزته الحاجة إليهم وقاموا بدور كبير في تدريس اللغة العربية وفروعها. داخل المدارس التي أنشاها كما بشهد بذلك كل من كتب في التعليم في ذلك العصر .. ؟
يجيبنا على ذلك الدكتور أحمد عزت عبد الكريم فيقول: "وكانت الحكومة تعلم أنهم لم يكونوا يمنحون في الأزهر مرتبات كبيرة، ولهذا نراها تبخل عليهم بتلك المرتبات وترى أنهم إنما يقومون "بمقاصد خيرية" ثوابها عند ربهم!! فقد كان هناك مدرسون بل رؤساء مدرسين قضوا بمدارسهم اثنا عشر
__________
(1) المصدر السابق (ص 573).
(2) المصدر السابق (ص 575).(1/25)
عامًا لا يصيبون من الحكومة إلا مائتي قرش في الشهر، وهو قدر ضئيل يناله خريج مدرسة خصوصية حديث العهد بالوظائف، ثم هي تبخل عليهم بعد هذا ببضعة قروش تضيفها إلى مرتباتهم.
أما مكاتب المبتديان (1) فقد كان نظارها من علماء الأزهر .. وكان المشايخ من الأزهر وما إليه هم القائمون بالتدريس في مكاتب المبتديان .. وكان مرتب الواحد منهم أربعين قرشًا في الشهر أي بزيادة عشرة قروش على مرتب (الحلاق) أو الخياط .. وكان كاتب المكتب يصيب من المرتب أكثر مما يصيبه المعلم بعشرين قرشًا وكان يحمل الحكومة على هذا ما ذكرنا من أنها كانت تعلم أن أهل الأزهر لم يكونوا يصيبون فيه إلا أجرًا ضئيلاً أن كانوا قومًا زاهدين، لا يغرنهم متاع الحياة الدنيا" (2).
وما ذكر من تبرير ساقط لا يمكن أن يخفي أبدًا مقدار البغض والاحتقار الذي كان يكنه محمد علي للأزهر ورجاله.
وإن كان الإنجليز فيما بعد قد نهجوا نفس السياسة في احتقار الأزهريين وبخسهم مرتباتهم وحقوقهم، وفي إقصائهم عن مجالات التوظيف (3).
فليس ذلك بمستغرب منهم، ولكنا نستغرب أشد الاستغراب أن يقوم
__________
(1) يعني: الابتدائية. والمبتديان لفظة تركية معناها "المبتدئون" بزيادة الألف والنون على الطريقة التركية مثل مجلس المبعوثان أي المبعوثين.
(2) المصدر السابق (ص 575). لا شك أن الأجواء الموبوءة بالتصوف هي التي أوحت إلى محمد علي ورجال دولته إلى التعلل بمثل هذا الهراء الساقط للنيل من الأزهر ورجاله الذين كانت تعصف بهم رياح التصوف وأمواجه حين كان الفقر والحرمان: الإعراض عن الدنيا تمامًا منزلة يتسابق الناس إليها. ووجد هؤلاء التغريبيون المجال رحبًا للسخرية بهؤلاء الأزهريين الذين يعملون عندهم طلبًا للأجر في الأخرة، وراضين بما تلقيه الحكومة لهم من فتات.
(3) "واقعنا المعاصر" (ص 217).(1/26)
بمثل ذلك من يحسب على الإسلام والمسلمين، ويدعي الإسلام مثل محمد علي.
ولكن سرعان ما يزول هذا الاستغراب إذا عرفنا أن القائمين على التعليم في عهد محمد علي كان معظمهم من الغربيين النصارى، فمجلس شورى المدارس وهو الهيئة العليا للتخطيط والتنفيذ كان جميع أعضائه من الأجانب ما عدا ثلاثة.
على أن هناك أمرًا تجدر الإشارة إليه حول ما ذكر من ضآلة الأجور والمرتبات في الأزهر والتي كان من أهم أسبابها قيام محمد علي بالاستيلاء على الأوقاف التابعة للأزهر وضمها للدولة، وبالتالي إحكام السيطرة على المشايخ والقائمين على التعليم من رجال الأزهر (1).
وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الأولية للناشئة من أبناء المسلمين، لم تنج من غائلة محمد علي؛ فقد ذكر الجبرتي -رحمه الله- أن كثيرًا من المكاتب أغلقت بسبب تعطل أوقافها واستيلاء محمد علي عليها (2).
وذكر الشيخ محمد عبده أن ما أبقاه محمد علي من أوقاف الأزهر والأوقاف الأخرى لا يساوي جزءًا من الألف من إيرادها. وأنه أخذ من أوقاف الجامع الأزهر ما لو بقي إلى اليوم (في عهد الشيخ محمد عبده) لكانت غلته لا تقل عن نصف مليون جنيه في السنة، وقرر له بدل ذلك ما يساوي أربعة آلاف جنيه في السنة (3).
__________
(1) "قراءة جديدة في تاريخ العثمانين" (ص 179). للدكتور سليمان بيومي -عالم المعرفة-
جدة.
(2) "عجائب الآثار" (3/ 478)، و"تاريخ نظام التعليم في جمهورية مصر العربية" (ص 80) منير عطا الله سليمان وآخرون الطبعة الثالثة 1972 م مطبعة الأنجلو المصرية.
(3) "مذكرات الإمام محمد عبده" (ص 44) لطاهر الطناحي، دار الهلال.(1/27)
هذه السياسة التغريبية التي نهجها محمد علي والمفروضة قهرًا على المسلمين كانت تنفيذًا للمخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل كما سبق وذكرنا.
وهو أمر أكده المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي في قوله: "كان محمد علي ديكتاتورًا أمكنه تحويل الآراء النابليونية إلى حقائق فعالة في مصر" (2).
وهل يشك باحث عاقل بعد كل هذه الحقائق التي أوردناها أن محمد علي كان صنيعة من صنائع الغرب وعميلاً من عملائهم.
وسواء أكان وصوله إلى سدة الحكم نتيجة تخطيط صليبي أو على الأخص تخطيط فرنسي أو كان نتيجة لدهاء محمد علي ومكره ونفاقه أو كان للأمرين معًا (3)، فإن هذا كله لا يغير شيئًا، ولا ينفي أن محمد علي قد احتوته الدول الغربية، وأخذت تقوده في ركابها، خصوصًا وأن فيه من الصفات والخلال التي ينشدها المستعمرون دائمًا كجنون العظمة وغلظة القلب
__________
(1) ونسجل هنا ملاحظة ذكرها المؤرخون حول أهداف التعليم وغاياته في عصر محمد علي وأنها لا تعدو تخريج جيل يدين بالولاء التام لشخص محمد علي -أو الجناب العالي كما كانوا يسمونه- ويتقرب بخدمته - تاريخ التعليم في عصر محمد علي (ص 621) أما أن يكون الهدف هو إعداد جيل من الشباب المسلم يخدم دينه وأمته فذاك أمر لا يتفق مع سياسة محمد علي في ولائه للغرب وتبعيته له.
(2) "قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين" (ص 182).
(3) ويرجح عندي الأمران معًا، لان كان من يقرأ تاريخ الجبرتي يستبعد الأمر الأول ويجزم بالأمر الثاني، إلا أن الظروف تشير إلى وقوع الأمر الأول كما يقول الشيخ محمد قطب. ويؤيد هذا. د. زكريا سليمان بيومي الذى أشار مع غيره من الباحثين إلى دور الماسونية الفرنسية في تولية محمد علي. انظر "قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين" (ص 160 - 170)، و"واقعنا المعاصر" (ص 205) وما بعدها. وليس عجيبًا بعد هذا أن يتابع محمد علي أخبار حروب نابليون وفرنسا، وأن يوافيه القنصل الفرنسي في القاهرة بهذه الأخبار أولاً بأول وتنشر في ملصقات على الجدران في حارات الأجانب وغيرها.(1/28)
وفظاظة الطبع ورقة الديانة أو عدمها (1).
وقد عمل محمد علي طوال سنوات حكمه على القضاء على عقيدة الولاء والبراء، واستخدام سياسة العسف والإرهاب والتنكيل في أنحاء مملكته لينتزع هذه العقيدة من قلوب المسلمين، ويقضي عليها قضاءً مبرمًا (2).
قال الرحّالة الإنجليزي (كنغليك) الذي زار الشرق الإسلامي في الثلث الأخير من حكم محمد علي 1252 - 1253هـ (1833 - 1834م) غامزًا الباشا المفتون، وذاكرًا تبعيته للغرب وعدم استقلاله الكامل بإصدار القرار إلا بعد موافقة أسياده عليه.
يقول: "وبرغم وجود الجيوش المصرية الكثيرة فقد فهم كل فلاح (3) أن أربعة أو خمسة من الوجوه الشاحبة في فيينا أو بطرسبورج أو لندن (4) يمكن أن ينزلوا الباشا المصري من عليائه بمجرد ورقة يكتبون عليها حكمهم عليه. وكان علم الأهالي أن قوة محمد علي مستمدة من القائد الفرنسي وفنونه الحربية ومن المحركات والآلات الإنجليزية .. " (5).
وقد قام ابنه إبراهيم باشا (6) بإلغاء كافة القيود المفروضة على النصارى
__________
(1) يقول الشيخ محمد قطب: ليس من باب المصادفة أن الذين اختيروا للأدوار الكبرى في حرب الاسلام كانوا متصفين بجنون العظمة وقسوة القلب من أمثال محمد علي وكمال أتاتورك وجمال عبد الناصر .. ذلك أنهما صفتان لازمتان لمثل هذا الدور العظيم. "واقعنا المعاصر" هامش (ص 205).
(2) "الإنحرافات العَقَدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين" لعلي بن بخيت الزهراني (ص 163 - 181) - دار طيبة.
(3) يعني المسلم من أهل الشام لاشتغالهم بالزراعة.
(4) في هامش الصفحة يعني رجال السياسة.
(5) " رحلة كنغليك إلى المشرق " (ص 111).
(6) الابن الأكبر لمحمد علي وحاكم الشام من قل أبيه. وكان أكثر انفتاحًا على الغرب من أبيه كما يروي ذلك الغربيون أنفسهم .. انظر ترجمته في "الأعلام" للزركلي (1/ 70).(1/29)
اليهود في كل بلد سيطر عليه تحت دعوى المساواة والحرية، وذلك في أثناء حكمه للشام من قبل أبيه، وقام بإعطاء النصارى امتيازات؛ ومن ذلك فتح محلات علنية لبيع الخمور في دمشق والسماح بحمل الصلبان وشرب الخمر في الشارع (1).
وعندما ذهب إليه نفر من علماء الشام يشكون إليه انقلاب الأوضاع ويبسطون أمامه ألمهم من استعلاء الذميين وركوبهم الخيل كالمسلمين لم يكن من إبراهيم إلا أن سخر منهم سخرية مرة وردهم كاسفي البال؛ إذ نصحهم أن يركبوا الجمال من اليوم حتى يصيروا أعلى من النصارى كافة؟ (2).
وقد شمخ النصارى بأنوفهم، وأشرأبت أعناقهم خصوصًا رجال الدين منهم في عهد محمد علي وابنه إبراهيم باشا؛ ومن ذلك أن بطريرك الروم مكسيموس في حلب وقت احتلال إبراهم باشا لها كان يدور أحيانًا في شوارع حلب وهو راكب بأبهة زائدة وموكب حافل يتلقى المسلمون منه ذلك كارغام لهم وتعالي عليهم وقاصدًا إهانتهم (3).
أما اليهود فقد شملهم عطف الباشا، ونعموا بالحرية التي أطلقها لهم والامتيازات التي منحهم إياها.
وحادثة يهود صفد أوضح مثال على ذلك؛ يوم أن ثار المسلمون عليهم ونهبوا بعض أموالهم وممتلكاتهم، ولسنا الآن بصدد الحديث عن هذه الثورة وأسبابها، إنما الذي يعنينا هو ما حدث بعد هذه الثورة من إصرار القناصل
__________
(1) "قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين" (ص 192)، وما ذكر من أمور فيه إشارة إلى تأثير المحفل الماسوني عليه ودور هذا المحفل التابع لفرنسا في دعم أطماعه وأطماع أبيه.
(2) الشرق الإسلامي في العصر الحديث (ص 275). لحسين مؤنس. مطبعة حجازي. القاهرة. الطبعة الثانية 1938 م.
(3) "نهر الذهب في تاريخ حلب" (3/ 375) لكامل بن حسين البالي الحلبي الغزي. المطبعة المارونية.(1/30)
الأوربيين على دفع التعويض من خزينة الدولة العلوية، وقد بالغ كل من القناصل واليهود في تقدير حجم الخسائر والمنهوبات، أما قنصل بريطانيا في الإسكندرية فقد قدر من مكانه هناك أن خسائر اليهود قد بلغت سبعين ألف جنيه، وهو رقم يفوق ما وقع أضعافًا مضاعفة.
ولم يسع محمد علي تحت ضغط القناصل إلا أن يصدر أمرًا بتعويض اليهود ولكن ليس من خزينة الدولة التي يملكها، بل من أموال وممتلكات المسلمين الذين تحمل فقراؤهم والمعسرون منهم ثقل هذا التعويض.
ومع علم محمد علي بكذب ادعاءات اليهود والقناصل ومبالغتهم في تقدير الخسائر إلا أنه كما قال: "ما دام أصدقاؤنا القناصل أصروا وصمموا على ذلك فتخلصنا من هذه القائلة. فقد صدرت الأوامر خطية إلى سليمان باشا (الفرنساوي) ببيع أملاك وعقارات هؤلاء الفقراء لتقسم أثمانها على المدعين كذبًا - وتلك الأوامر مرسلة عن طيه لتسليمها إلى القناصل ليوصلوها بمعرفتهم إلى الباشا المومى إليه" (1).
ومع عظم الهالة التي أحيط بها محمد علي من قبل المستشرقين ومن اقتفى أثرهم من المؤرخين القوميين والعلمانيين حول ما قام به من إصلاحات في كثير من المجالات التعليمية والاقتصادية والعسكرية إلا أنه من الثابت من سيرة محمد علي أنه يكره المصريين ويحتقرهم ويزدريهم أيما ازدراء، كما قال أحدهم: إن محمد علي كان يحب مصر ولم يكن يحب المصريين.
وليس أدل من ذلك إلا قوله يخاطب الفرنسيين ويفاوضهم على مسألة
__________
(1) من مرسوم أصدره محمد علي باشا بتاريخ 29 رجب 1253هـ. رحلة كنغليك هامش (ص 122) ووقوف القناصل الأوربيين بجانب اليهود أمر ليس بالغريب (بعضهم أولياء بعض). وإحراج الأسياد وإذلالهم لعملائهم أمر ظاهر للعقلاء، وإن فهمه السذج والمغفلون على غير ذلك الوجه.(1/31)
احتلال الجزائر وهو: "ثقوا أن قراري .. لا ينبع من عاطفة دينية فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرر من هذه الاعتبارات التي يتقيد بها قومي .. وقد تقولون أن مواطني حمير وثيران وهذه حقيقة أعلمها" (1).
وقد كان محمد علي باشا متواطئًا مع الفرنسيين عند احتلالهم للجزائر، حتى لقد هم -بعد أن جاءته الأوامر بالطبع! - أن يقوم بنفسه باحتلال الجزائر خدمة للفرنسيين وعملاً لحسابهم الخاص إلا أن أسياده رفضوا تلك الفكرة التي تهيج المسلمين وتثيرهم بعد أن ينكشف أمر عميلهم؛ لذا بادروا إلى إلغائها، واكتفى محمد علي بتزويد الفرنسيين في الجزائر بالغلال (2).
ويذهب الدكتور سليمان الغنام إلى أن بريطانيا لما علمت بعزم محمد علي ثارت ثائرتها وهددته بنسف أسطوله إن هو فكر في ذلك (3).
ْوبعد فهذه وقفة متأنية مع واحد ممن حكموا المسلمين فترة طويلة وعملوا على القضاء على مظاهر هذه العقيدة بشكل مباشر تمثل في سياسة العسف والإرهاب. وبشكل غير مباشر اتخذ التغريب له مسارًا، وإن كان الشكل الثاني كانت له آثار بعيدة المدى، على عكس الأول الذي ما زاد هذه العقيدة في نفوس المسلمين إلا رسوخًا. واستحق بذلك جد الأسرة العلوية أن يكون رائد التغريب الأول في العالم الإسلامي، وعلى رأس من لجوا في موالاة الكافرين، وأمعنوا في اتباعهم، وسعوا في تقويض هذه العقيدة العظيمة بكل ما أوتوه من وسائل القوة التي كانوا يملكونها.
__________
(1) "قراءة جديدة في سياسة محمد علي باشا التوسعية" (ص 84) للدكتور سليمان الغنام دار تهامة، سنة 1980 م، ط الأولى، وذلك الإسفاف في التعبير يفوق أي تعليق.
(2) "الشرق الإسلامي" (ص 311).
(3) "قراءة جديدة في سياسة محمد علي باشا" (ص 84).(1/32)
* السيد عمر مكرم ومواجهته لمحمد علي وغدر محمد علي به:
بلغ محمد علي من العتو والظلم والصلف مبلغًا كبير الدرجة أنه أمر الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر بلزوم داره وعدم الخروج منها ولا حتى إلى صلاة الجمعة (1).
وقد تبوأ (محمد علي) عرش مصر وتمكن من حكمها بمساعدة العلماء الذين أوصلوه إلى سدة الحكم بشرط إقامة الشريعة والعدل، ولكن ما إن ثبت أقدامه في السلطة حتى غدر بهم وقلب لهم ظهر المجن، فكان أول عمل قام به أن نفى نقيب الأشراف الشريف (عمر مكرم) الرجل الأول في إيصاله إلى الحكم وأول من بايعه من الناس.
وسبب ذلك كثرة المظالم والمغارم التي أحدثها (محمد علي باشا)، حيث اجتمع الناس في الأزهر وأبطلت الدروس، واجتمع المشايخ والسيد عمر وكتبوا عرضحال إلى الباشا يذكرون فيه المحدثات من المظالم، وحبس شخص من أهل العلم بلا ذنب، وقد تعاهدوا وتعاقدوا على الاتحاد وترك المنافرة.
فأرسل إليهم الباشا رسولاً يسألهم عن طلبهم فعرفوه بما سطروه إجمالاً وبينوه له تفصيلاً، فقال: ينبغي ذهابكم إليه وتخاطبونه مشافهة بما تريدون، وهو لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم. فقالوا بلسان واحد: لا نذهب إليه أبدًا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه، كما "كنا في السابق فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور.
فحاول الرسول إقناعهم بالمجيء فأبوا أشد الإباء، وقالوا: لا نجتمع
__________
(1) "عجائب الآثار" (3/ 134).(1/33)
عليه أبدًا ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا ونقتصر على حالنا، ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا، فأخذ منهم العرضحال ووعدهم برد الجواب، وبعد عودته أطلق ذلك الشخص الذى كان محبوسًا، وتأخر الجواب.
ولكن العلماء لم يكونوا على قلب رجل واحد فإن فيهم الانتهازيين وطلاب المناصب، وهل أتي الناس قديمًا وحديثًا إلا من قبل هؤلاء الذين أضاعوا علمهم ورغبوا في الفاني عن الباقي؟! وهل تمكن الطغاة والمتجبرون إلا على أكتاف هؤلاء الطغمة المنسوبة إلى العلم ممن جعلوه وسيلة إلى قضاء مآربهم، وحظوظ نفوسهم؟!.
ثم اجتمع شيخان من مشايخ الأزهر هما: الشيخ المهدي والشيخ الدواخلي، مع محمد أفندي طبل ناظر المهمات في حكومة محمد علي، وقد كان الثلاثة على غير وفاق مع السيد عمر، وتناجوا مع بعضهم.
ثم ذهب الشيخان المذكوران إلى السيد عمر وأخبراه عن أن محمد أفندي ذكر لهم أن الباشا لم يحدث شيئًا من تلك المظالم، وقد كذب من نقل ذلك، وقال: إنه يقول: إني لا أخالف أوامر المشايخ، وعند اجتماعهم معه يحصل كل المراد.
ولكن السيد عمر قد سئم من ألاعيب محمد علي وخبرها جيدًا، فبين لهذين الشيخين أن ما قاله محمد أفندي كذب لا أصل له، وأراهم بعض الأوراق التي تشتمل على المطالبة بهذه المظالم الجديدة، وقال لهم: أما الذهاب إليه فلا أذهب إليه أبدًا وإن كنتم تنقضون الأيمان والعهد الذي وقع بيننا فالرأي لكم، ثم انفض المجلس.
"وأخذ الباشا يدبر في تفريق جمعهم وخذلان السيد عمر، لما في نفسه منه من عدم إنفاذ أغراضه ومعارضته له في غالب الأمور، ويخشى صولته ويعلم أن الرعية والعامة تحت أمره إن شاء جمعهم وإن شاء فرقهم،(1/34)
وهو الذي قام بنصره وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الأقليم".
ثم ذهب الشيخان المذكوران وديوان أفندي وعبد الله بكتاش الترجمان، وحضر الجميع عند السيد عمر، وطال بينهما الكلام، والسيد عمر مصمم على الامتناع.
"ثم قام المهدي والدواخلي وخرجا صحبة ديوان أفندي والترجمان وطلعوا إلى القلعة وتقابلوا مع الباشا، ودار بينهم الكلام، وقال في كلامه: أنا لا أرد شفاعتكم، ولا أقطع رجاءكم، والواجب عليكم إذا رأيتم مني انحرافًا أن تنصحوني وترشدوني.
ثم أخذ يلوم على السيد عمر في تخلفه وتعنته، ويثني على البواقي، ويقول عنلا: وفي كل وقت يعاندني ويبطل أحكامي ويخوفني بقيام الجمهور.
فقال الشيخ المهدي: هو ليس إلا بنا وإذا خلا عنا فلا يسوي بشيء، إن هو إلا صاحب حرفة أو جابي وقف؛ يجمع الإيراد ويصرفه على المستحقين (1)، فعند ذلك تبين قصد الباشا لهم ووافق ذلك ما في نفوسهم من الحقد للسيد عمر.
ثم عادوا إلى السيد عمر وأخبروه بأن الباشا يقبل الشفاعة، ولم يقع منه خلاف، وأخبروه بقول الباشا: "وأما ما تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر، فهذا لا يناسب منكم وكأنكم تخوفوني بهذا الاجتماع وتهيج الشرور وقيام الرعية، كما كنتم تفعلون في زمان المماليك فأنا لا أفزع من
__________
(1) مما يؤسف له أن السيد (عمر مكرم) لم يكن من جملة العلماء المتصدرين في الأزهر، كما يفهم ذلك من كلام الشيخ المهدي، ولكنه كان مخلصًا في خدمة الناس، وجادًا في رفع المظالم عنهم؛ لذا لا نعجب من التفافهم حوله، وخوف محمد علي باشا من تلك المكانة، ومسارعته إلى إسقاطها.(1/35)
ذلك وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم إلا السيف والانتقام (1).
ثم إن المشايخ وديوان أفندي وعبد الله بكتاش اجتمعوا في بيت السيد عمر مكرم وتكلموا في شان الطلوع إلى الباشا ومقابلته، فحلف السيد عمر إنه لا يطلع إليه ولا يجتمع به ولا يرى له وجهًا إلا إذا أبطل المظالم التي أحدثها، وبين موقفه قائلاً:
إن جميع الناس يتهموني معه، ويزعمون أنه لا يتجارأ على شيء يفعله إلا باتفاقي معه، وامتنع عن الطلوع، فاتفقوا على طلوع الشيخ عبد الله الشرقاوي والمهدي والدواخلي والفيومي وذلك على خلاف غرض السيد عمر، فلما طلعوا إلى الباشا وتكلموا معه وقد فهم كل منهم لغة الآخر الباطنية.
وحاول الباشا أن يراوغهم ويظهر أنه أبطل المظالم، ثم عادوا إلى السيد عمر وأخبروه بما وقع، فأخبرهم بكذب ذلك للمرة الثانية، وعاتب المشايخ لمسايرتهم له وعدم إنكارهم عليه، "ووجه عليهم اللوم في نقضهم العهد والأيمان، وانفض المجلس وتفرقت الآراء، وراج سوق النفاق وتحركت حفاظ الحقد والحسد وكثر سعيهم وتناجيهم بالليل والنهار، والباشا يراسل السيد عمر ويطلبه للحضور إليه والاجتماع به ويعده بإنجاز ما يشير عليه به.
وأرسل إليه كتخدا (النائب) ليترفق به، وذكر له أن الباشا يرتب له كيسًا في كل يوم، ويعطيه في هذا الحين ثلثمائة كيس خلال ذلك فلم يقبل، ولم يزل الباشا متعلق الخاطر بسببه، ويتجسس ويتفحص عن أحواله وعلى من يتردد عليه من كبار العسكر، وربما أغوى به بعض الكبار فراسلوه سرًّا وأظهروا له كراهتهم للباشا وأنه إن انتبذ لمفاقمته ساعدوه وقاموا بنصرته عليه
__________
(1) وهذا يكشف ويزيح القناع عن وجهه الحقيقي وعدم احترامه للعلماء حين يلوّح بسيف البطش والتهديد ليخرس الألسنة ويقضي على النفوس الحرة الأبية.(1/36)
فلم يخف على السيد عمر مكرم (1) ولم يزل مصممًا وممتنعًا عن الاجتماع به والامتثال إليه ويسخط عليه".
وفي ذلك الوقت أمر الباشا بكتابة عرضحال بسبب المطلوب لوزير الدولة وهي أربعة آلاف كيس، ويذكر أنها صرفت في مشاريع وأعمال؛ كسد ترعة الفرعونية ومحاربة الأمراء المصرية (المماليك) - حتى دخلوا في طاعة الدولة، وعمارة القلعة والقناة التي تنقل المياه إليها وحفر الخلجان والترع.
ثم أرسله إلى السيد عمر ليضع خطه وختمه عليه فامتنع وقال: "أما صرفه على سد الترعة فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافًا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذ من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعه الدفاتر".
فلما أخبر الباشا بذلك حنق واغتاظ في نفسه وطلبه للاجتماع به فامتنع، فلما أكثر عليه قال: إن كان ولا بد فأجتمع معه في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون، فلما أخبر بذلك ازداد حنقه وقال: "إنه بلغ به أن يزدريني ويرذلني ويأمرني بالنزول من محل حكمي إلى بيوت الناس".
ثم اجتمع الباشا مع المشايخ في اليوم الثاني في بيت ولده إبراهيم، وأرسل رسولاً من طرفه ورسولاً من طرف القاضي يطلبه للحضور ليتحاقق ويتشارع معه، فرجعا وأخبرا بأنه شرب دواء ولا يمكنه الحضور في هذا اليوم، فعند ذلك أحضر الباشا خلعة، وألبسها الشيخ السادات على نقابة الأشراف وأمر بكتابة فرمان بخروج السيد عمر ونفيه من مصر يوم تاريخه، فتشفع المشايخ في إمهاله ثلاثة أيام حتى يقضي أشغاله، فأجاب إلى ذلك؛ فتقبل السيد عمر أمر النفي بصدر رحب.
__________
(1) رحم الله السيد عمر مكرم فقد كان بصيراً بكل ذلك ولم تؤثر فيه نوازع الرغبة والرهبة.(1/37)
وفي يوم الأحد أول رجب عام 1224 هـ اجتمع المودعون للسيد عمر، ثم حضر محمد كتخدا، فعند وصوله قام السيد عمر وركب في الحال، وخرج صحبته وشيعه الكثير من المتعممين وغيرهم وهم يتباكون حوله حزنًا على فراقه، وكذلك اغتم الناس على سفره وخروجه من مصر لأنه كان ركنًا وملجأ ومقصدًا للناس ولتعصبه لنصرة الحق (1).
وفي صبح ذلك اليوم، حضر الشيخ المهدي عند الباشا وطلب وظائف السيد عمر فأنعم عليه الباشا بنظر أوقاف الإمام الشافعي، ونظر وقف سنان باشا ببولاق، وحاسب على المنكسر له من الغلال مدة أربع سنوات فأمر بدفعها له من خزينته نقدًا، وقدرها خمسة وعشرون كيسًا، وذلك في نظير اجتهاده في خيانة السيد عمر حتى أوقعوا به ما ذكر (2).
وفي مستهل شعبان نمق مشايخ الوقت عرضحال في حق السيد عمر، بأمر الباشا، ليرسله إلى الدولة وذكروا فيه سبب عزله ونفيه عن مصر، وعدوا له مثالب ومعايب وجنحًا وذنوبًا:
منها أنه أدخل في دفتر الأشراف أسماء أشخاص ممن أسلم من القبط واليهود.
ومنها أنه أخذ من الألفي (أحد زعماء المماليك الكبار) مبلغًا من المال ليملكه مصر في فتنة أحمد باشا خورشيد، وأنه كاتب الأمراء المصريين أيضًا في وقت الفتنة ليأخذوا مصر على حين غفلة من أهلها في يوم قطع الخليج (الاحتفال بوفاء النيل).
وأنه أراد إيقاع الفتن في العساكر لينقضن دولة الباشا ويولي خلافه
__________
(1) انظر تفاصيل هذه الواقعة الأليمة في "عجائب الآثار" (3/ 265 - 272).
(2) المصدر السابق (3/ 272).(1/38)
ويجمع عليه طوائف المغاربة والصعائدة وأخلاط العوام وغير ذلك، وذلك على حد من أعان ظالمًا سلط عليه.
وكتبوا عليه أسماء المشايخ وذهبوا به إليهم ليضعوا ختومهم عليه، فامتنع البعض من ذلك وقال: هذا كلام لا أصل له، ووقع بينهم محاججات ولام الأعاظم الممتنعين على الامتناع، وكان من الممتنعين الشيخ أحمد الطحطاوي مفتي الحنفية، وكان ذلك سببًا في عزله عن ذلك المنصب بعد أن اتفق الأشياخ والمتصدرون على عزله، فاعتكف في داره لا يخرج منها إلا قليلاً واعتزلهم ولم يخالطهم وهم يبالغون في ذمه والحط عليه لكونه لم يوافقهم في شهادة الزور، "والحامل لهم على ذلك كله الحظوظ النفسانية والحسد، مع أن السيد عمر كان ظلاً ظليلاً عليهم وعلى أهل البلدة ويدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم، ولم تقم بعد خروجه من مصر لهم راية، ولم يزالوا بعده في انحطاط وانخفاض" (1).
* أولاد محمد علي باشا وأحفاده ومنحهم الإرساليات التنصيرية العون والتأييد:
أما أولاد الباشا وأحفاده من بعده، فقد ظلوا يتعاهدون ما غرسه لهم والدهم وجدهم من غراس التغريب والعلمنة، ويسيرون في نفس الطريق التي مهدها أمامهم، ويتسابقون إلى كسب ولاء الغرب، وخطب وده (2).
__________
(1) المصدر السابق (3/ 274)، وانظر "الانحرافات العقدية" (1/ 611 - 618).
(2) يقول الشيخ محمد قطب: كان محمد علي وأبناؤه حتى الخديوي إسماعيل عند حسن ظن فرنسا بهم فأسسوا للنفوذ الفرنسي في مصر .. حتى جاء توفيق فتغير الربان الذي يمسك بالدفة ولكن لم يتغير الاتجاه. "واقعنا المعاصر" (ص215). ولعل من الانصاف أن نذكر أن ثالث الولاة من أسرة محمد علي بمصر وهو عباس باشا بن طوسون بن محمد علي الذي تولى الحكم بعد وفاة عمه إبراهيم باشا أواخر سنة 1264هـ كان كما يقول =(1/39)
(فسعيد باشا) قد توالت أعطياته وسخاؤه على منح الإرساليات التنصيرية فوق ما تحلم به من عون وتأييد.
فقد تفضل ذات مرة بإهداء إحدى الإرساليات قطعة أرض بالقاهرة في حي الخرنفش، وليته اكتفى بذلك، بل قام بمنحهم 30 ألف فرنك سنة 1859 م (1).
ومن العجيب أن الأقباط لم ينشئوا لهم مدارس "نظامية" حتى عهد (إسماعيل) (2) حين توالت عليهم هباته فأنشأوا مدرستهم الكبرى بجانب كنيستهم العامة وجعلوا التعليم فيها بالمجان، وأباحوا لبعض المسلمين الالتحاق بها (3).
أما اليهود فقد كان لهم مدرسة خاصة بابنائهم في عصر " محمد علي " أسسها أحد أثريائهم ويدعى (مسيو كريمو) وسميت المدرسة باسمه.
__________
= المؤرخون شديد الكره للأوربيين، حذرًا من دسائسهم. أنجد الدولة العثمانية بخمسة عشر ألف مقاتل في حربهم مع الروس المعروفة بحرب القرم. وقام بنفي السحرة والدجالين والمشعوذين إلى السودان. وأخذ عليه إغلاق كثير من المعاهد والمدارس لعله رأى في ذلك وضع حد للنفوذ الأوربي. مات مقتولاً سنة 1270هـ واختلف في سبب قتله، ولا يستبعد أن يكون الاوربيون وراء ذلك نتيجة لموقفه منهم. انظر "الأعلام" (3/ 261).
ومما قاله عباس باشا عن جده محمد علي: "لقد كان جدي يعتقد أنه حاكم مطلق، وقد كان كذلك بالنسبة لنا وبالنسبة لخادميه ولأطفالنا، غير أنه كان مستعبدًا للقناصل العمومين".
انظر: "الوهم والحقيقة في الفكر المصري الحديث" (ص 184). د أحمد علي المجذوب. "الزهراء للإعلام العربي". القاهرة، الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م.
(1) "تاريخ التعليم في عصر محمد علي" (ص 671).
(2) ولي مصر عام 1279هـ وعزل عام 1296 هـ وتوفي عام 1312 هـ وهو أول من أطلق عليه لقب "الخديوية" من رجال أسرته. انظر "الأعلام " (1/ 308).
(3) هؤلاء البعض حتمًا كانوا من أولاد الأثرياء والوجهاء.(1/40)
أما في عهد (إسماعيل باشا) فقد صار لليهود أربعة مكاتب بالقاهرة؛ اثنان منها للبنين ومثلهما للبنات، ولهم مدرسة نظامية بالقاهرة أيضًا، كما أنهم لم يهملوا إنشاء مكاتب لهم بالإسكندرية.
أما طوائف النصارى الأخرى فليسوا أقل مما ذكرنا؛ فإن الطائفة الأرمنية هي من أقل الطوائف في عهد محمد علي التي أنشات مدارس على النظام الأوربي، فقد أسست مدرسة (كالرسديان) ببولاق سنة 1828 م وهي تابعة لبطركخانتها الأرثوذكسية.
أما الطائفة اليونانية ففي سنة 1847 م أسست مدرسة (توستا) بشارع جامع مسجد العطارين بالأسكندرية، وكانت هذه المدرسة أول مدرسة أنشاها اليونانيون بمصر. ومنذ ذلك الوقت أخذوا في تأسيس مدارس لهم.
أما الإيطاليون فقد بدأوا في إنشاء مدارسهم في مصر حوالي سنة 1860م (1).
وبمثل هذه التسهيلات والدعم انتشرت الإرساليات في مصر بشكل كبير، وانبرى النصارى على تنوع جنسياتهم، واختلاف طوائفهم ومذاهبهم يتسابقون في إنشاء المدارس التنصيرية، وتشييد دور العبادة الكنسية دون حسيب أو رقيب، بل قد قدم لهم ما لم يدر بخلدهم من الدعم والتشجيع.
ومع أن هذه المدارس وتلك الإرساليات قد قامت بجهود ضخمة في تحقيق أهدافها التنصيرية، إلا أن نجاحها كان ضعيفًا أو أن النجاح لم يحالفها، وذلك بسبب ما قدمناه في بداية هذا الموضوع من أن الجماهير المسلمة كان يرتكز في قلوبها بغض الكافرين وعداوتهم.
ومع هذا الفشل الذريع الذي منيت به هذه المؤسسات الصليبية فقد
__________
(1) المصدر السابق (ص 668) وما بعدها.(1/41)
حاول القساوسة والمنصرون أن يلجأوا إلى وسائل أخرى ويغطوا على ما يرمون إليه من أهداف باتت مكشوفة، فقام أحدهم ويدعى (بارثلميو) بفتح مدرسة بالاكتتاب لتعليم الأطفال من جميع الأديان، فقبل (محمد علي) أن تقوم الحكومة المصرية بجميع نفقاتها على ألا يدخلها إلا الصريون فقط بشرط عدم التدخل في ديانتهم (1).
حقا إنه شرط غريب .. فكيف يعهد بمدرسة للأطفال إلى قسيس نصراني ثم يشترط عليه عدم التدخل في ديانتهم؟ وفي اعتقادنا أن هذا الشرط ليس أكثر من طعم في ذلك الشرك الذي اتفق على نصبه كل من محمد علي والمنصرين. وذلك للإيقاع بأبناء المسلمين ودفعهم بين براثن التنصير.
أما حين تولى مقاليد الحكم (الخديوي إسماعيل) الذي كان يسعى إلى جعل مصر قطعة من أوربا كما قال (2)، فقد تأسست عدة مدارس حرة بالمجان لكل الأديان في سنة 1869 م بسبب رعاية الخديوي ودعمه السخي حتى يحقق أمنيته المنشودة في جعل مصر قطعة من أوربا (3).
وفي نفس الوقت الذي كنا نرى خلاله هؤلاء الحكام يتسابقون إلى دعم المدارس الأجنبية وإزاحة العوائق من طريقها، نرى أنهم قد أهملوا تعليم المسلمين في بلادهم فلم يلتفتوا إليه إلا قليلاً.
(فسعيد باشا) في الوقت الذي أهمل فيه تعليم المصريين نجده يقدم إلى المدارس الأجنبية كل التسهيلات التي تساعدها على أداء رسالتها، فقدم إليها الأراضي التي تبني عليها مدارسها مجانًا، ومنحها المساعدات المالية الضخمة -كما سبق أن ذكرنا- والكتب الدراسية التي تطلبها، بل كانت الدولة تدفع
__________
(1) المصدر السابق (ص 672).
(2) "الإتجاهات الوطنية" (2/ 190)، و"واقعنا المعاصر" لمحمد قطب (ص 215).
(3) وعلى نفس الخط سار طه حسين فانظر ما قاله في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر".(1/42)
مرتبات المدرسين الذين تعينهم المدارس لتدريس اللغة العربية.
وفي رأي أحد المؤرخين الأجانب للتعليم في هذه الفترة أن ما منحه سعيد للفرير (1) والإيطاليين بالإسكندرية يفوق ما أنفقه على ميزانية التعليم طوال حكمه (2).
ومع الإمعان في السير داخل الطريق التغريبي، والإيغال في منعطفاته ومنحدراته من قبل حكام مصر أصبح عدد المدارس الأجنبية يفوق عدد المدارس الحكومية التي أنشأتها الحكومة في فترات من حكمها؛ ففي سنة 1875م كان عدد المدارس الأجنبية 93 مدرسة، بها 8916 تلميذًا وتلميذة، بينما كان عدد المدارس الحكومية 36 مدرسة، بها 4878 تلميذًا وتلميذة. وفي سنة 1887 م كان عدد المدارس الحكومية 40 مدرسة كان عدد الطلاب فيها 5500 طالب، بينما كان عدد المدارس الأجنبية 191 مدرسة، كان عدد الطلاب فيها 22764 طالب (3).
وفي هذه الأرقام والإحصائيات ما يغني عن التعليق، وبرهان ساطع على تولي هؤلاء الحكام للكفار، وفسح المجال لهم في بلاد المسلمين يعيثون فيها فسادًا، بل وتقديمم الدعم والعون والتشجيع إلى مؤسساتهم وقسسهم ومنصريهم.
أما الاهتمام بالتعليم في الأزهر فأقل ما يمكن أن يقال أنه كان عندهم ملقى في زوايا الإهمال والنسيان.
__________
(1) كلمة فرنسية معناها "الإخوة" وهم فريق من المصريين الفرنسيين فتحوا مدارس تنصيرية
في مصر.
(2) "التاريخ الثقافي للتعليم في مصر" (ص 563) د. حسن فقي. دار المعارف بمصر، (ص 2) 1971 م.
(3) المصدر السابق (ص 89).(1/43)
وكما رأينا (الباي أحمد) لا يحيد قيد أنملة عن آراء وزيره المؤتمن الفرنسي (جوزاب دافو) ويقوم بتنفيذ ما يقرره ويراه، حتى لو كان ذلك في أخطر أمور البلاد وأهمها كالنواحي الدفاعية والعسكرية لتسقط البلاد فريسة سهلة تحت الاحتلال الفرنسي.
فإن (الخديوي إسماعيل) كان لا يثق إلا بكل ما هو آت من الغرب، وبكل ما هو أوربي؛ ففي المجال العسكري مثلاً كان الضابط الأوربي الجديد مقدمًا على من هو أعلى منه رتبة وأكثر خبرة وتمرسًا من الضباط المصريين والمسلمين بالطبع.
هذه الثقة العمياء التي منحها (الخديوي إسماعيل) العسكريين النصارى، وهذا الولاء المعلن الذي أولاهم إياه كانت له عواقب وخيمة جدًّا، ودفعت البلاد الثمن باهظًا لتلك السياسة الخرقاء. ولعل أصدق مثال على ذلك هو هذه الحادثة المؤلمة التي يرويها لنا واحد ممن عاشوا وقائعها، وهو القائد المعروف (أحمد عرابي) (1) (المتوفى سنة 1329 هـ)؛ فحين قام (الخديوي إسماعيل) بتسيير حملة عسكرية إلى بلاد الحبشة عام 1292 هـ وعهد بقيادتها إلى (راتب باشا) سردار العساكر المصرية، وأمر هذا القائد أن يكون مقيدًا برأي أركان حربه الجنرال (لورنج) وهو أمريكي كما يقول أحمد عرابي: "لا يعرف الفنون العسكرية، وإنما كان رئيس فرقة في الحرب الأمريكية من ضمن الفرق غير النظامية أي (المتطوعين) وكان أكثر رجال أركان الحرب الذين معه من بني جنسه فكان هذا الترتيب سبب الفشل الذي حاق بالمصريين في تلك الحملة".
ثم يذكر أحمد عرابي كيفية سير هذه الحملة ووصولها إلى الحبشة ويبين
__________
(1) "الأعلام" للزركلي (1/ 168).(1/44)
سبب الفشل الذي منيت به، والمصير الأسود الذي واجهته فيقول: "وكان أحد القسس الفرنساويين المبشرين في بلاد الأحباش يتردد كل يوم على رئيس أركان الحرب الجنرال (الورنج) الأمريكي مستطلعًا أحوال الجيش المصري حتى علم مقداره، واتفق معه على الحركة الحربية التي تكون سببًا لهلاك الفرقة المصرية عند الصدمة الأولى، وكان يبلغ معلوماته كل يوم إلى الملك (ملك الحبشة) فحشد هذا الملك جيشه وكان عدده ينيف على الثلاثمائة ألف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال على حسب عادتهم في الدفاع عن كيان بلادهم" (1).
ثم كتب عرابي فصلاً بعنوان "في خيانة أركان الحرب، الأمريكيين الموظفين في الجيش المصري" فكان مما قاله حول هذه الخيانة: "واستعد جميع أركان الحرب الأوربيين والأمريكيين للحملة فألقوا جانبًا طرابيشهم الرسمية ولبسوا قبعاتهم ثم ربطوا في أعناقهم مناديل بيضاء إشارة إلى أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم الخطر عند اختلاط الجيشين على حسب الاتفاق مع القسيس السابق ذكره.
ثم ذكر ما حل بالجيش المسلم من هلاك عظيم، وسقوطه بين قتيل وأسير وجريح، عدا الغنائم التي غنمها الأحباش النصارى من هذا الجيش البائس (2).
* وصدق الله العظيم حين يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
__________
(1) "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية" (1/ 36) لأحمد عرابي الحسيني. مطبعة مصر. شركة مساهمة مصرية ط 1298 هـ 1881 - 1882 م.
(2) المصدر السابق (1/ 39).(1/45)
"وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال للمشرك ذي الجرأة والنجدة الذي أراد القتال معه في غزوة بدر: " فارجع فلن أستعين بمشرك " (1).
وهكذا كان الجيش المصري المسلم في هذه الحملة الخاسرة ضحية لتآمر الجنرالات الصليبيين الذين ركن إليهم (الخديوي إسماعيل) ووثق فيهم ثقة عمياء، وكبل قائد الجيش العام بأوامر أحدهم ممن ليس لديهم أية دراية بالأمور العسكرية.
بل إننا نكاد نجزم أن هذه الحملة وما تلاها من حملات إلى بلاد الحبشة في عهد (الخديوي إسماعيل) لم تكن من باب التوسع والفتوحات كما يعتبرها كثير من المؤرخين، وإنما كانت من باب إلقاء الجيش المصري إلى التهلكة والإبادة.
ولسنا نهدف بالطبع إلى استقصاء الحديث عنها، والدخول في أسبابها والظروف المحيطة بها، ولكن ذلك لا يمنعنا أن نشير إلى ما يؤيد ما ذهبنا إليه آنفا لعلاقة ذلك بموضوع الولاء والبراء فنقول أن حكم (الخديوي إسماعيل) في ذلك العصر قد بلغ من الضعف والعجز مبلغًا عظيمًا بسبب الديون الضخمة التي أرهق البلاد بها، مما تمخض عنه أن تستأثر الدول الدائنة وفي مقدمتها دولتا بريطانيا وفرنسا بالسلطة في عهده؛ حيث قامت كل منهما بتعيين وزير مراقب في الظاهر، ومهيمن على نصاب الأمور والسلطة في الحقيقة.
فكيف يمكن لدولة أثقلتها الديون، وأنهكها الإفلاس والعجز أن تسير الحملات الحربية الباهظة التكاليف في بلاد مجهولة وصعبة التضاريس من
__________
(1) رواه مسلم برقم (1817) كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر (3/ 1449).(1/46)
أجل التوسع فقط .. ؟ ولماذا لزم الوزيران الصمت حيال هذه الحملات التي ترهق ميزانية الدولة التي عينا لمراقبتها، واستخلاص الديون منها .. ؟
وإذا كان النفوذ الأوربي قد تغلغل في عهد (إسماعيل) تغلغلاً عظيمًا، وأصبحت حكومته وقصوره وسراياه تعج بالأوربيين والأمريكيين، فكيف تسمح أوربا الصليبية ومن ورائها الوزراء والقناصل والجنرالات الموجودون في حكومة الخديوي بأن يقوم هذا الحاكم بغزو الحبشة النصرانية وفتحها.
في الواقع أن هذا أمر لا يمكن حدوثه مطلقًا إلا إذا كانت هناك أهداف غير ظاهرة يراد تحقيقها وأكبر دليل على هذا أن جده محمد علي باشا لما عزم على غزو الحبشة سنة 1840 م حذره السفير الإنجليزي (سالت) وقال له: "تقع الحبشة (أثيوبا) تحت حمايتنا وهي البلد الوحيد في أفريقيا الذي اعتنق الدين المسيحي، وصمدت صمودًا طويلاً مظفرًا خلال أجيال أمام هجمات المسلمين، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع من أوربا عامة ومن إنكلترا خاصة أن تقف موقف اللامبالاة إذا ما تعرض هذا البلد للهجوم .. وهناك كثيرون من جمعية الكتاب المقدس في بريطانيا يهتمون بمستقبل هذا البلد" (1).
*دفاع الدكتور محمد عمارة عن محمد علي باشا والرد عليه:
قال الدكتور عنه: "ارتادت مصر للشرق والوطن العربي عصر التنوير واليقظة والنهضة في ظل الدولة المدنية الحديثة التي أسسها محمد علي باشا الكبير" " التراث " (189)، ويخصص الدكتور مبحثًا كاملاً في كتابه "العلمانية" للدفاع عن اتهامات " لويس عوض" التي ردد فيها علمانية محمد علي باشا وأثبت الدكتور إنه لم يكن علمانيًّا أبدا فهو لم يحدث أي تغيير في القضاء أو يلغي المدارس الدينية وأما بعثاته فهي لعلوم الدنيا دون غيرها من
__________
(1) " فن الحرب الإسلامي في العهد العثماني " لبسام العسلي (ص 287) دار الفكر.(1/47)
العلوم الإنسانية".
قال سليمان بن صالح الخرابيشي في كتابه "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" (664 - 671):
"قلت: عندما يحكم المسلم على إنسان ما فإنه يستعرض أعماله ويتأملها بمنظور إسلامي شرعي فيذكر حسناته إن كان له حسنات ويذكر سيئاته .. والدكتور إنما ذكر الأمور التي يعتقد إنها حسنات لمحمد علي باشا فهو عنده رائد الدولة المصرية الحديثة الذي انتشلها من (ظلمات) المماليك إلى (نور) التقدم والمدنية بفضل جهوده في التربية وإرسال البعثات وتنظيم الجيش وفتح المدارس المدنية .. إلخ. ولكنه لم يذكر حرفًا واحدًا عن دوافع محمد علي باشا لذلك وعن غدره بالمسلمين (أعني المماليك) وعن حقده على العلماء الذين وثقوا فيه، وكانوا السبب في تمليكه مصر (أعني عمر مكرم ومن معه) وعن الأمر الكبير الذي يميز حياة الكبير! وهو عداوته للتوحيد وأهله ومحاربته للموحدين ممن أهل الجزيرة تنفيذًا لأوامر أسياده من شيوخ (الخرافة) في تركيا والدول الغربية الكافرة وكل ذلك في سبيل كسب دنيوي وطموح شخصي بالغ فيه هذا الجندي (التركي)! كان الأولى بالمفكر الاسلامي أن ينبه القارئ إلى هذا الذنب العظيم الذي ارتكبه الباشا وأبناؤه في حق دعاه التوحيد .. وإما التمجيد والثناء على (مدنيته) و (تقدميته) فهذه تجعل المرء يرتاب كثيرًا في مدى صدق الدكتور في ادعائه السلفية التي تخلى عن أهلها في أدنى موقف. وإما حكم رجال الإسلام في محمد علي وحقيقة علمانيته التي نفاها الدكتور. فقد قال الشيخ محمد قطب:
"كان محمد علي شخصًا سيِّئ السمعة .. معروفًا بالقسوة وغلظ الكبد .. ترسله الدولة العثمانية لتأديب القرى التي تتأخر في دفع ما يفرض عليها من المال، فيعسكر هو وأفراد حملته التأديبية حول القرية ينهبون(1/48)
ويسلبون ويفزعون الآمنين، حتى يرى أهل القرية أن الأفضل لهم أن يدفعوا الأموال المطلوبة -وإن أبهظتهم- خير من الذل والفزع الذي يعانونه من محمد علي وأفراد حملته! وكان محبًا للعظمة إلى حد الجنون .. صفات كلها صالحة .. ! وليس بين يدي الآن ما يقطع بأن فرنسا هي التي تدخلت لدى السلطان لإرساله واليًا على مصر .. وإن كانت الظروف تشير إلى ذلك.
ولكنه جاء على أي حال .. واليًا من قبل الدولة العثمانية على مصر .. عام 1805 من الميلاد، أي بعد مغادرة الحملة الفرنسية بثلاثة أعوام، كانت مصر في أثنائها قد عادت إلى حكم المماليك مع الولاء للسلطان واحتضنته فرنسا احتضانًا كاملاً لينفذ لها كل مخططاتها! أنشأت له جيشًا مدربًا على أحدث الأساليب ومجهزًا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ بإشراف سليمان باشا الفرنساوي! وأنشات له أسطولاً بحريًا على أحدث طراز يومذاك وأنشأت له ترسانة بحرية في دمياط. وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر.
هل كان هذا كله حبًا في شخص محمد علي؟ أو حبًا في مصر؟! إنما كان لتنفيذ المخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل.
لقد قام محمد علي بدور خطير في نقل مصر من المرتكز الإسلامي إلى شيء آخر يؤدي بها في النهاية إلى الخروج من الحيز الإسلامي .. سواء كان واعيًا تمامًا. لهذا الدور، أو مستغلاً من قبل الصليبية لتنفيذه. والذي يغلب على حسِّنا -على ضوء التجربتين الأخيرتين، تجربة كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر- أنه كان واعيًا للدور وضالعًا فيه. ولكن يستوي أن يكون ضالعًا بوعي أو مستغلاً مستغفلاً .. فهو في الحالين يؤدي ذات الدور، ويؤدي الدور إلى ذات النتائج بصرف النظر عن النوايا الداخلية للمنفذين.(1/49)
ولكن يبقى شيء مؤكد في جميع الأحوال .. أن " المسلم " الحق لا يمكن بحال أن يقوم بمثل هذا الدور لا واعيًا ولا مسغفلاً؛ لأن إسلامه يمنعه أن يتلقى "التوجيه" من أعداء الإسلام. لكي نفهم حقيقة الدور الذي قام محمد علي في خدمة أعداء الإسلام، ينبغي أن نفهم ماذا كان يريد الأعداء.
لقد كانوا يريدون القضاء على الإسلام بصفة عامة، ولكنهم وضعوا في مخططهم أهدافًا مرحلية معينة تمكنهم -في تصورهم- من القضاء الأخير على الإسلام .. من هذه الأهداف: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام "بتغريب" العالم الإسلامي مع العناية الخاصة بتغريب مصر -بلد الأزهر- وتصدير التغريب منها إلى بقية العالم الإسلامي.
فأما القضاء على الدولة العثمانية فالأمر فيه واضح. وأما عملية التغريب -عن طريق الغزو الفكري- فمهمتها الأولى قتل روح الجهاد الإسلامية ضد الصليبيين للقضاء على المقاومة المستمرة التي يلقاها الغزو الصليبي المسلح، وذلك بإزالة الحاجز العقيدي الذي يذكر المسلم دائمًا بأنه مسلم وأعداؤه كفار يجب أن يجاهدهم ولا يسمح لهم باحتلال أرضه الإسلامية فإذا "تغرب" لم يعد هذا الحاجز قائمًا في نفسه، ولم يعد يثير عنده ما يثيره الإسلام في نفس المسلم. كما أن التغريب هو الذي يضمن تبعية العالم الإسلامي للغرب -بعد أن يخضع عسكريًّا له- لأنه حين يتغرب، يحس أن انتماءه لم يعد للإسلام وإنما للغرب، فلا يشعر برغبة في الانفصال عنه، وحتى إن رغب في يوم من الأيام أن "يستقل" ففي حدود التبعية العامة التي لا تخرجه من حوزة سادته، ومن النطاق الذي يضربه السادة حوله.
والآن وقد أدركنا تخطيط الأعداء فلننظر دور محمد علي بعد " احتوائه " من قبل فرنسا.
كانت الخطة الصليبية -التي اضطلعت فرنسا بتنفيذها في مصر- هي(1/50)
تكبير محمد علي وإغرائه بالاستقلال عن السلطان، فتنفصل بذلك قطعة من أرض المسلمين عن الدولة الإسلامية (وذلك يضعفها ولا شك) ثم يكون محمد علي نموذجًا مغريًا لغيره من الولاة، فيستقلون تباعًا عن الدولة رغبة في السلطان الذاتي، فتتفكك عرى الدولة وتنهار .. وفي ذات الوقت كانت الخطة في تغريب مصر -بعد استقلالها- لضمان تبعيتها الدائمة للغرب وانفصالها النهائي عن الإسلام.
وقام محمد علي بالدور المطلوب خير قيام! فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا في محاولة الاستقلال عن الخلافة فحسب، بل في محاربة الخليفة نفسه! وقد كاد يتغلب على جيش الخليفة بالفعل لولا تدخل بريطانيا .. تظاهرًا بالوقوف في صف الخليفة، وغيره في الحقيقة من أن تستأثر فرنسا "بصداقة" السلطان، وبالنفوذ في مصر! وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى .. فقد أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في ظاهر الأمر، ومنعته من مهاجمة الخليفة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الخليفة، والاستئثار بحكم مصر حكمًا وراثيًا ينتقل في ذريته، مع التبعية الاسمية للسلطان!! (هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد علي في معركة نافارين؛ لأنه نسي نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هي اليونان! فقد كبرته الصليبية وسلحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون. أما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبيين بسوء، فهنا يجب تأديبه بل تحطيمه تحطيمًا كاملاً إذا لزم الأمر!! ).
أما الجانب الآخر من المهمة وهو عملية التغريب، فقد نفذها محمد علي بسياسة الابتعاث التي اتبعها، بإرسال الطلاب الشبان إلى أوربا ليتعلموا هناك .. وكان هذا أخطر ما فعله في الحقيقة؛ لأنه من هناك بدأ الخط(1/51)
"العلماني" يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية.
وقد يقول قائل: إنه لم يكن أمامه من سبيل للنهوض بمصر إلا هذا السبيل! وهو قول مردود فلو كان في مكان محمد علي قائد مسلم واع، يريد أن ينهض بمصر الإسلامية -أي على أسس إسلامية وقاعدة إسلامية- فقد كان أمامه سبيل آخر، هو النهوض بالأزهر -معقل العلم لا لمصر وحدها بل للعالم الإسلامي كله- برده إلى الصورة الزاهية التي كانت عليها المعاهد الإسلامية في عصور النهضة، حيث كانت تعلم العلم الشرعي والعلوم الدنيوية، وكان يتخرج فيها الأطباء والمهندسون والرياضيون والفلكيون والفيزيائيون والكيميائيون المسلمون الذي علموا العلم لأوربا يومًا من الأيام!
فإذا كانت بلاده -أو بلاد العالم الإسلامي جمعاء- تفتقر إلى المتخصصين في هذه العلوم، الذين يحتاج إليهم الأزهر لينهض بمهمته، ففي وسعه يومئذ أن يرسل أفرادًا بأعيانهم، يختارون اختيارًا دقيقًا، على أساس دينهم وتقواهم، وحصافتهم ورزانتهم، بعد أن يكونوا قد تجاوزوا سن الفتنة، وأحصنوا بالزواج فلا ينزلقون في مزالق الفساد الخلقي .. فيتخصصون في مختلف العلوم ويعودون ليدرسوا للطلاب في بيئتهم الإسلامية، فيظل الشباب محافظًا على إسلامه، ويتزود من العلوم بما ينفض عنه تخلفه العلمي، ويعيد إليه الحاسة العلمية التي فقدها المسلمون خلال عصر التخلف الطويل .. وعندئذ " تنهض " مصر، بل ينهض العالم الإسلامي كله من طريق الأزهر الذي يؤمه الدارسون من جميع بلاد العالم الإسلامي .. ويكون هذا القائد المسلم قد أدى أجل خدمة للإسلام والمسلمين. فهل فكر محمد علي على هذا النحو، أو هل كان قمينا أن يتجه هذه الوجهة؟! لو كان هذا لما أختاروه! ولما جاءوا به ليؤدي دوره "العظيم" إنما كانت صياغته النفسية كلها(1/52)
و"التوجيه" الذي يتلقاه، كله إلى الجانب الأخر .. جانب التغريب. لذلك أرسل الشبان الصغار بأعداد متزايدة إلى أوربا، وهم في سن الفتنة، غير محصنين بشيء .. "لينهلوا" من العلم إن شاءوا، ومن الفساد إن شاءوا، أو من العلم والفساد معًا في غالب الأحيان .. ثم يعودوا، ليكونوا رأس الحربة المتجه إلى الغرب، الذي يجر بلاده كلها إلى هناك! ولا عبرة بأنه كان يرسل مع كل بعثة إمامًا يؤمهم في الصلاة ويعلمهم أمور دينهم! فقد كان للصلاة حتى ذلك الوقت قداستها في حس المسلمين، ولا يتصور وجود " مسلم " لا يؤديها! أو هي في أقل الاعتبارات "تقليد" له قداسته، لا يمكن أن يخرج عليه مسلم! لذلك لم يتكن يتصور أن تكون هناك مجموعة من المسلمين بغير إمام يؤمهم في الصلاة، ولا يمكن أن يقدم محمد علي على كسر ذلك التقليد المقدس في ذلك الحين" (1).
وقال الشيخ محمود شاكر: "رغم اندحار الحملة الفرنسية على الشرق فإن رسالة نابليون إلى كليبر بقيت هي الأساس في عملية الاستشراق والمستشرقين. يقول نابليون في رسالته: "اجتهد في جمع 500 أو600 شخص من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عددًا كافيًا من المماليك فاستعض عنه برهائن من العرب ومشايخ البلدان فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يحتجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية
__________
(1) "واقعنا المعاصر" (205 - 209). قلت: والشيخ محمد حفظه الله لم يذكر حرب محمد علي لأهل التوحيد وهي أعظم سيئاته -عندنا- كما أنه يؤمل خيرًا في الأزهر .. وقد سبق أن هذا الجامع العتيد من مخلفات الرافضة وانتقل منها إلى تخريج الأشاعرة الذين يجدون في نشر بدعتهم ويشغلون أهل السنة بالرد عليهم .. وأما إن كان الشيخ محمد لا يأبه بهذه (الجزئيات)! فنقول له: إن هذا إرث ينبغي التخلص منه.(1/53)
ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليهم غيرهم كنت قد طلبت مرارًا جوقة تمثيلية وسأهتم اهتمامًا، خاصًا بإرسالها لك لأنها ضرورية للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد". ومضت السنون والاستشراق في عمل دائب وتدبير متماد. وتولى أمر مصر رجل كانت تركيا بعثته مع 300 من الجند في أواخر الحملة الفرنسية هو محمد علي عام 1805 م - 1220 هـ وكان في الخامسة والثلاثين من عمره جاهلاً لم يتعلم قط شيئًا من العلوم وكان لا يقرأ ولا يكتب ولكنه استطاع خداع المشايخ والقادة الذين آثروا ولايته على ولاية المماليك الذين لم يستطيعوا التصدي والوقوف أمام حملة نابليون. لم يكن الاستشراق وبخاصة الفرنسي غافلاً عن هذا المغامر الجديد الذي صعد إلى حكم مصر فنرى أنه عندما قامت ولايته على الديار المصرية أحاطت به قناصل المسيحية الشمالية إحاطة كامله -والقناصل هم الاستشراق نفسه في صورته السياسية- فبدأوا يوغرون صدره على المشايخ والقادة الذين نصبوه واليًا على مصر ويخوفونه عاقبة سلطانهم على جماهير الأمة فاستجاب لطنينهم وغدر بالمشايخ والقادة الذين وقفوا بجانبه وكانت مذبحة القلعة وغيرها وبهذا ظفر الاستشراق بالمشايخ الكبار ومهد لعزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمة بل استطاع أن يؤلب الدولة التركية على ما يحدث من يقظة إسلامية في قلب الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب فاستجابت دار الخلافة بغفلتها إلى هذا التأليب وأرسلت جيوش محمد علي لقتال المسلمين في الجزيرة العربية ووجدها محمد علي فرصة لتحقيق آماله في التوسع وبسط نفوذه على بلاد أخرى وبهذا أدرك الاستشراق وأدركت المسيحية الشمالية مأربًا من أكبر مآربها في وأد اليقظة التي كانت تهددهم بها دار الإسلام في جزيرة العرب التي كانت تخشى المسيحية الشمالية أن تنضم هذه اليقظة إلى اليقظة الكائنة في دار الإسلام في مصر فيومئذ لا يعلم غير الله ما تكون العواقب، وتم كل ذلك(1/54)
على يد مسلمين جهلة يوجههم الاستشراق والمسيحية الشمالية من حيث لا يبصرون ولا يعلمون ماذا يراد بهم ولا إلى أي هوة من الهلكة يساقون.
ثم كانت بعثات محمد علي التي لم تكن نابعة من عقل هذا الجندي الجاهل بل كانت نابعة من عقول تخطط وتدبر لأهداف بعيدة المدى محققة بذلك ما جاء في رسالة نابليون لكليبر سالفة الذكر .. " (1).
وقال الشيخ سفر الحوالي: " .. حدثت نفرة شديدة بين علم الأزهر الذي كان يعتقد أنه يمثل الثقافة الإسلامية أصدق تمثيل وبين علم الغرب الذي بدا لأعين الأزهريين علمًا غريبًا خاصًا بالكفار. من هذا الخطأ التاريخي تقريبًا نشأت الازدواجية الخطرة في العالم الإسلامي: تعليم ديني ضيق محدود وتعليم لا ديني يشمل نشاطات الفكر كلها. وقد حاول محمد علي في أول الأمر أن يدخل العلوم الحديثة ضمن مناهج الأزهر إلا أنه خشي معارضة الأزهريين فقام على الفور بانشاء نظامه التعليمي الحديث هكذا أنقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني حديث" (2).
قلت: أي نظام علماني.
وقال الدكتور أحمد فرج: "كان محمد علي الذي اعتلى حكم مصر بعد خروج الفرنسيين كنابليون فكلاهما كانت تحركه أهداف علمانية" (3).
ويقول: "كان محمد علي امتدادًا لنابليون في مصر ومبادئ العلمانية التي أرساها نابليون وجيوشه الفرنسية مكن لها محمد علي بعد ذلك بعد أن قوض سلطة الأزهر وأضعف نفوذ علماء الدين وأتى بكل ما لا يتفق وفكرة الحاكم في التصور الإسلامي الذي يجسد صورة العدل بمعناها الشرعي.
__________
(1) "المجلة العربية" ذو الحجة 1412 هـ.
(2) "العلمانية" لسفر الحوالي (ص 590).
(3) "جذور العلمانية" للدكتور أحمد فرج (ص 27).(1/55)
لقد مهدت أوربا -خاصة فرنسا- كيف تحكم مصر بعد خروج الفرنسيين منها. وكانت خطة محمد علي في التحديث استمرارًا لخطة نابليون وأقام محمد علي دولته العلمانية التي لا تفرق بين مواطن وآخر إلا بمقدار ما يقدمه لها من خدمات دونما اعتبار لدين أو عرف أو لون، تمامًا كما فعلت فرنسا بعد نجاح ثورتها الكبرى وبنفس الأسلوب والمبادئ التي حملها نابليون وجيشه إلى كل بقعة وطئتها أقدامهم من العالم وكان محمد علي كنابليون يمضي كالسهم لا يوقف تقدمه شيء لضعف العلماء وقلة الأفاضل منهم وقلة حيلتهم" (1). قلت: ومن العجيب أن الدكتور أحمد فرج نقل مقالاً لمحمد عبده نشر في المنار يقول فيه: "إنه -أي محمد علي- أطلع نجم العلم في البلاد ولكنه لم يفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين والأدب أو وضع حكومة منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل وحتى الكتب التي ترجمت إلى فنون شتى ترجمت برغبة من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد وحرم المصريين من بلوغ الرتب في الجيش لذلك لم تلبث تلك القوة أن تهدمت واندثرت وظهر الأثر عندما جاء الإنجليز لإخماد ثورة عرابي .. ثم استقروا ولم توجد من البلاد نخوة في رأس تثبت لهم أن في البلاد من يحامي عن استقلالها. ولقد لا يستحي بعض الأحداث من أن يقول: إن محمد علي جعل من جدران سلطانه بنية من الدين .. فليقل لنا أحد من الناس أي عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامي إلا مسألة (الوهابية) وأهل الدين يعلمون أن الإغاره فيها كانت على الدين لا للدين" (2). قلت: فليت الدكتور كعادته قد تابع شيخه في هذه المسالة! (3).
__________
(1) "جذور العلمانية" (ص 31).
(2) المصدر السابق (ص 32).
(3) "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" لسليمان بن صالح الخرابيشي (ص 664 - 671) - دار الجواب.(1/56)
* رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873) يثنى على رقص الغرب وهو رائد الإصلاح! أو التغريب,وتلميذ جومار ألبار:
سبق الكلام عنه، ونزيد بقول (جب): "كانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوربي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشاها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوربا"، ويذكر أن منها "مدرسة الألسن " التي كان يشرف عليها العالم الفذّ رفاعة الطهطاوي وهو تلميذ جومار ألبار".
انظر إلى الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وهو يحدث أبناء أمته عن نوادي ومراقص باريس، وتعظيم المجتمع الفرنسي للمرأة!!! يقول:
"والغالب أن الجلوس للنساء، ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس ولم يكن ثم كرسي خال قام لها رجل وأجلسها. ولا تقوم لها امرأة لتجلسها، فالأنثى دائمًا في هذه المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه فإنه يجب عليه أن يحيى صاحبة البيت قبل صاحبه ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت" (1).
ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العياقة والشلبنة (!!! ) لا من الفسق، فلذلك كان دائمًا غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء؛ لأنه لتهيج الشهوات، أما في باريس فإنه نطّ مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدًا!!، وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية، وهكذا، وسواء كان يعرفها أو لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهن
__________
(1) "تخليص الأبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي (ص 168).(1/57)
لسآمة أنفسهم من التعلق بشيء واحد، كما قال الشاعر:
أيا من ليس يرضيها خليل ... ولا ألفا خليل كل عام
أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام
وقد يقع في الرقص رقصة مخصوصة بأن يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمسّ المرأة أيًّا كان من الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء ومدحهن عُدّ هذا من الأدب" (1).
هذا الكلام يُوحي لقارئه بدلالات نذكر منها اثنتين:
ا- إن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين، وهي فكرة انقدحت في ذهن الشيخ لكنه لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء، فها هو المجتمع يمارس ألوان الدياثة التي لا يرضاها الدين طبعًا ولكنها مع ذلك ليست خارجة عن قوانين الحياء، ولا يُشم منها رائحة العهر بل هي معدودة في باب الأدب!!!! وقد نمت هذه الفكرة وترعرعت حتى قيل صراحة: أن الحجاب وسيلة لستر الفواحش، وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة، ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق.
2 - إن هذا المجتمع الديوث يكرم المرأة ويحترمها، وفي المقابل نرى المجتمع الإسلامي يحافظ على العرض لكنه يحتقر المرأة -حسب الواقع آنذاك - وبذلك نصل إلى المفهوم الذي وُجِد في أوربا نفسه وهو أن حقوق المرأة مرتبطة بتحررها من الدين فما لم يُنبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق!
وهكذا وُجدت البذرة الأولى لما سُمِّي "بقضية المرأة"! (2).
__________
(1) المصدر السابق (ص 119).
(2) " العلمانية " لسفر الحوالي (ص 625 - 626).(1/58)
لقد انبهر رفاعة الطهطاوي وفُتن بفرنسا، والثورة الفرنسية ولا ينكر أحد طبيعتها اللادينية والأثر التلمودي فيها.
انظر إلى ما قاله الطهطاوي وكأنما هو يترجم مع الشرح عبارات روسو وفولتير. يقول:
"ومن زاول علم أصول الفقه، وفقه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم، قلّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات. فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يشبه ما يسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهو عبارة عن قواعد عقلية تحسينًا وتقبيحًا، يؤسسون عليها أحكام المدنية. وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية، وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والتولع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم في القوة والمنعة يسمونه محبة الوطن".
... "ولما كانت أعمال كل نوع من أنواع المخلوقات وكل عضو من أعضاء فرد ذلك النوع منقادة لنواميس طبعية عمومية خصته الحكمة الإلهية كان لا يمكن مخالفة هذه النواميس بدون اختلال للنظام العام والخاص، وهذه النواميس الطبيعية التي خصت بها العالم القدرة الإلهية عامة للإنسان وغيره .. فينبغي للإنسان أن لا يتجارى على هذه الأسباب ويتعدى حدودها، حيث إن المسببات الناتجة عنها منتظمة محققة .. فعلى الإنسان أن يطبق أعماله على هذه الأسباب التي تقدم ذكرها ويتمسك بها وإلاَّ عوقب عقابًا إِلهيًّا لمخالفة خالق هذه الأسباب .. وأغلب هذه النواميس الطبيعية لا يخرج عنها حكم الأحكام الشرعية، فهي فطرية خلقها الله سبحانه وتعالى مع الإنسان وجعلها ملازمة له في الوجود، فكأنها قالب له نسجت على منواله(1/59)
وطبعت على مثاله وكأنما هي سطرت في لوح فؤاده بإلهام إلهي بدون واسطة، جاءت بعدها شرائع الأنبياء بالواسطة وبالكتب التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فهي سابقة على تشريع الشرائع عند الأمم والملل، وعليها في أزمان الفترة تأسست قوانين الحكماء الأول وقدماء الدول وحصل منها الإرشاد إلى طرق المعاش في الأزمنة الخالية كما ظهر منها التوصل إلى نوع من انتظام الجمعيات التآنسية عند قدماء مصر والعراق وفارس واليونان، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالنوع البشري حيث هداهم لمعاشهم بظهور حكماء فيهم يقننون القوانين المدنية لا سيما الضرورية لحفظ المال والنفس والنسل .. " (1).
ويقول في مؤلف آخر مثنيًا على الدستور الفرنسي (الشرطة):
"فيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل .. ومعنى الشرطة في اللغة اللاتيني ورقة، ثم تسومح فيها فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فلنذكره لك وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعرف كيف قد حكم عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا، لذلك عمرت بلادهم وكثرت مصارفهم وتراكم بناهم وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيها من يشكو ظلمًا أبدًا والعدل أساس العمران" (2).
وانظر إلى أثر رفاعة في تلميذه محمد عثمان جلال (1829 - 1898) لترى موجة عاتية من موجات التغريب فقد كانت أبرز آثاره الأدبية ترجمات لبعض المؤلفات الفرنسية ذات الشهرة مثل بول وفرجيني، وخرافات لافونتين وبعض ملاهي موليير، والأمر الذي يجب التنويه به في عمله هذا
__________
(1) "المرشد الأمين" للطهطاوي (36 - 38).
(2) "تخليص الإبريز" (ص 140).(1/60)
ليس هو فكر الترجمة في ذاتها بل الروح التجديدية التي تكمن وراءها (! ) فقد ترجم لافونتين إلى شعر سهل لا تصنّع فيه ولا رهق، إلا أنه حين ترجم ملاهي موليير كتبها بلهجة العامة في مصر، ولم يكن الوقت قد حان بعد للإقدام على مثل هذا العمل الجريء (! ) غير أن ما تجلى في تلك الخطوة من انفكاك تام من أسر الماضي كان دليلاً على روح العصر، قال الخديوي إسماعيل: "أن مصر أصبحت قطعة من أوروبا"، ولذا كان لا بد للأدب المصري من أن يعبر عن استقلاله عن التقاليد الآسيوية والإفريقية" (1).
* عبد الرحمن الكواكبي أول من نادى بفكرة العلمانية حسب مفهومها الأوربي الصريح:
يقول عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902): "يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون. فهذه أمم أوستريا وأميركا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري .. ".
"دعونا ندبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الآخرة فقط (! ) دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء" (2).
__________
(1) "دراسات في حضارة الإسلام" لجب (ص 320 - 321).
(2) "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي (ص 112 - 113).(1/61)
* وكم ذا بمصر من المبكيات .. واإِسلاماه أكبر مؤتمر للتبشير (التنصير) يعقد بمنزل أحمد عرابي!!! فليُعدَّ عرابي للسؤال جوابًا بين يدي الله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}:
أُتسلم الأمة أزمة أمورها لمن لا يعرفون معنى الولاء والبراء وهل يُصدق مخبول أنه في بيت زعيم المصريين أحمد عرابي عُقد أول مؤتمر تنصيري لتغيير دين الأمة وهذا أمر متواتر يعلمه كل من قرأ التاريخ.
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينًا لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينًا للدموع تُعارُ
وما تزال بقلبي ألف مُبكية .. !!!!
تحت عنوان "مؤتمر القاهرة سنة 1906" نقل الأستاذ محب الدين الخطيب إلينا الآتي:
"كان القسيس "زويمر" رئيس إرسالية التبشير العربية في البحرين أول من ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانية للتفكير في مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين. وفي سنة 1906 أذاع اقتراحه وأبان الكيفية التي يكون بها، فوضعت هذه الفكرة على بساط البحث في (ميسور) من ولاية (أكرا) في الهند؛ لأن هذه الولاية ذات أهمية كبرى من حيث المسائل الإسلامية لوجود مدرسة (عليكر) هناك. ثم عرض الاقتراح على مؤتمر التبشير الذي ينعقد في مدينة (مدراس) الهندية كل عشر سنوات فأجاز عقده وأن اتخاذ الهند قاعدة لتأسيس النظامات الخاصة بتبشير المسلمين بالنصرانية أمر طبيعي وبديهي؛ لأن مسلمي الهند أخذوا على عاتقهم منذ القرن التاسع عشر تأييد السياسة الإنكليزية للتغلب على الهندوس.
ولما تقرر عقد المؤتمر شرع القسيس (زويمر) وزميل له يعدان المعدات لتأليف لجنة مؤقتة تضع برنامج مذكرات المؤتمر وتدعو المبشرين المنتشرين في(1/62)
كل البلاد للاشتراك به وفي يوم 4 من أبريل من سنة 1906 افتتح المؤتمر في القاهرة في منزل عرابي باشا في باب اللوق وبلغ عدد مندوبي إرساليات التبشير 62 بين رجال ونساء. وكان عدد منا ومندوبي إرساليات التبشير الأمريكية التي في الهند وسوريا والبلاد العثمانية وفارس ومصر واحدًا وعشرين ومندوبو إرساليات التبشير الإنكليزية خمسة واشتركت في المؤتمر الإرساليات الأسكتلندية والإنكليزية المنفردة والألمانية والهولندية والسويدية وإرسالية التبشير الدنمركية الموجودة في بلاد العرب.
انتخب القسيس (زويمر) رئيسًا للمؤتمر، وعين معه نائب رئيس وكتبة، وحددت أيام الجلسات.
وهذا برنامج المسائل التي تفاوضوا فيها:
ملخص إحصائي عن عدد المسلمين في العالم، الإسلام في أفريقية، الإسلام في السلطنة العثمانية، الإسلام في الهند، الإسلام في فارس، الإسلام في الملايو، الإسلام في الصين، النشرات التي ينبغي إذاعتها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام، التنصر، الارتداد، وسائل إسعاف المتنصرين المضطهدين، شئون نسائية إسلامية، موضوعات تتعلق بتربية المبشرين والعلاقات بينهم وكيفية التعليم في الإسلام.
وهذه الموضوعات جمعت على حدة في كتاب كبير اسمه "وسائل التبشير بالنصرانية بين المسلمين" ثم صنف القسيس زويمر كتابًا جمع فيه بعض تقارير عن التبشير وسماه "العالم الإسلامي اليوم".
* وسائل لتبشير المسلمين بالنصرانية:
جمع هذا الكتاب ونشره القسيس (فلِمينغ) الأمريكي وكتب عليه هذه الكلمة "نشرة خاصة" بمعنى أنه طبع ليتنقل في أيدي فئة خاصة من رجال(1/63)
التبشير لا ليطلع عليه كل الناس وقد ضمنه المباحث التي دارت في مؤتمر القاهرة واختتمه بنداءين استنهض بأحدهما همم رجال النصرانية ليجمعوا قواهم ويتضافروا بأعمال مشتركة وعمومية فيستولوا على أهم الأماكن الإسلامية. والنداء الثاني خاص بأعمال نسائية.
أما الفصل الأول من الكتاب فيبحث في الطريقة التي ينبغي انتهاجها في التبشير وعما إذا كان مفيدًا ضم إرساليات تبشير المسلمين إلى إرساليات تبشير الوثنيين، وفضل بقاءهما منفصلتين.
وفيه البحث أيضًا عما إذا كان الإله الذي يعبده المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا؟ وقد صرح (الدكتور لِبْسِيُوس) في مؤتمر القاهرة بأن إله الجميع واحد إلا أن القسيس زويمر خالفه في هذا الرأي فقال: إن المسلمين مهما يكونوا موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف المسيحيين؛ لأن إله المسلمين ليس إله قداسة ومحبة ..
وفي الفصل الثاني والثالث بحث في الصعوبات التي تحول دون تبشير المسلمين العوام وذكر الوسائل التي يمكن استجلابهم بها وتحبيب المبشرين إليهم، وأهم هذه الوسائل العزف بالوسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيرًا، وعرض مناظر الفانوس السحري عليهم وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم، وأن يتعلم المبشرون لهجاتهم العامية واصطلاحاتها نظريًا وعمليًا، وأن يدرسوا القرآن ليقفوا على ما يحتويه، وأن يخاطبوا العوام المسلمين على قدر عقولهم ومستوى علمهم، ويجب أن تلقى الخطب عليهم بأصوات رخيمة وبفصاحة، وأن يخطب المبشر وهو جالس ليكون تأثيره أشد على السامعين، وأن لا تتخلل خطاباته كلمات أجنبية عنهم، وأن يبذل عناينه في اختيار الموضوعات، وأن يكون واقفًا على آيات القرآن والإنجيل عارفًا بمحل المناقشة، وأن يستعين قبل كل شيء بالروح القدس والحكمة الإلهية، ومن الضروري أن(1/64)
يكون خبيرًا بالنفس الشرقية وأن يستعمل التشبيه والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية التي لا يعرفها الشرقيون.
وختم المؤلف هذين الفصلين بأن أكثر المسلمين الذين تنصروا إنما هم من العامة والأميين.
وفي الفصل الرابع يأتي ذكر الصعوبات التي تقف في سبيل تبشير المسلمين المتنورين وهذه الصعوبات هي التي جعلت المؤتمر يترك المذاكرة في بادئ الأمر بمسألة التنصير، فخاض في البحث عن الوسائل التي يكون لها تأثير -ولو قليلاً- على الناشئة الإسلامية لتدرك الأمور الاجتماعية والخُلقية والأدبية.
وهنا قال سكرتير المؤتمر: إن الخطة العدائية التي انتهجها الشبان المسلمون المتعلمون اضطرت المبشرين في القطر المصري إلى محاولة إعادة ثقة الشبان المسلمين بهم، فصار هؤلاء المبشرون يلقون محاضرات في موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين، رغبة في جلب قلوب المسلمين إليهم. وأنشاوا بعد ذلك في القاهرة مجلة أسببوعية اسمها (الشرق والغرب) افتتحوا فيها بابًا غير ديني يبحثون فيه بالشئون الاجتماعية والتاريخية، وأسسوا أبضا مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة والغرض من ذلك استجلاب الزبائن ومحادثتهم في أثناء البيع.
وقد مضى على ذلك ثلاث سنوات تسنى فيها للمبشرين أن يتوصلوا إلى النتائج الآتية:
الأولى: أنهم عرفوا أحوال البلاد وأفكار المسلمين وشعورهم وعواطفهم وميولهم.
الثانية: أنهم حصلوا على ثقة عدد من المسلمين بهم.
الثالثة: أن المبشرين تحققوا أنهم بتظاهرهم في وداد المسلمين وميلهم إلى(1/65)
ما تطمح إليه نفوسهم من الاستقلال السياسي والاجتماعي والنشأة القومية يمكنهم أن يدخلوا إلى قلوبهم.
وبناء على هذا ساعد المبشرون الشبان المسلمين فى تأسيس جمعية الغرض منها إيجاد صلة وتقرب بين الطبقة المتعلمة والطبقات المتعددة التي تتألف الأمة منها وإنماء روح الاتفاق هذه هي الطريقة التي استحسنها المبشرون بعد أن علموا أن الأمور التي يتذرعون بها وتكون صبغتها دينية لا ريب أن عاقبتها الفشل. ولكن المبشرين الذين هم على شيء من الجرأة يقولون إنهم سمعوا بعض المسلمين يشكون من الزواج في الإسلام وتعدد الزوجات وتربية المرأة وعدم وجود التسامح الديني.
وكل ما خاض فيه المؤتمر من هذه المباحث يختص بالمجهودات التي يبذلها المبشرون لتبشير الشبيبة الإسلامية التي تعلمت على الطريقة الأوربية وفي مدارس الحكومة وما يلقونه من الصعوبات والفشل في تنصيرها.
أما الذين تعلموا على الطريقة الشرقية في الأزهر وما يماثله فلم يتكلم أعضاء المؤتمر عنهم إلا بعض اقتراحات ونظريات: من ذلك أن أحد أعضاء المؤتمر أفاض في وصف ما للجامع الأزهر القديمم من النفوذ وإقبال الألوف عليه من الشبان المسلمين في كل أقطار العالم. وتساءل عن سر نفوذ هذا الجامع منذ ألف سنة إلى الآن ثم قال: إن السنيين من المسلمين رسخ في أذهانهم أن تعليم العربية في الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر منه في غيره والمتخرجون في الأزهر معروفون بسعة الاطلاع على علوم الدين، وباب التعليم مفتوح في الأزهر لكل مشايخ الدنيا خصوصًا وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانًا؛ لأن في استطاعته أن ينفق على 250 أستاذًا. ثم تساءل عما إذا كان الازهر يتهدد كنيسة المسيح بالخطر، وعرض اقتراحًا يريد به إنشاء مدرسة جامعة نصرانية تقوم الكنيسة بنفقاقها وتكون(1/66)
مشتركة بين كل الكنائس المسيحية في الدنيا على اختلاف مذاهبها لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإتقان تعليم اللغة العربية.
ثم قال إن في الإمكان مباشرة هذا العمل في دائرة صغيرة وهي أن تخص أولاً بتعليم المسلمين المتنصرين وتربيتهم تربية إسلامية ليتمكن هؤلاء من القيام بخدم جليلة في تنصير المسلمين الآخرين.
وختم كلامه قائلاً: ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي. لتنصير الممالك الإسلامية.
وفي الباب الخامس ذكر المولف ما دار في المؤتمر عن النشرات التي ينبغي للمبشرين إذاعتها لتنصير المسلمين. وقد ظهر للمؤتمر أن التوراة مترجمة إلى معظم اللغات الإسلامية وأكثر لهجاتها، أما أدبيات التبشير ومؤلفاته فمترجمة إلى اللغات الإسلامية المهمة فقط.
وقد اقترح أحد المندوبين أن تراجع المؤلفات التي قدم عليهم العهد لإصلاحها واستخدامها في تبشير المسلمين المتنورين الذين اقتبسوا علومهم في المعاهد العصرية مثل مدرسة أكسفورد وبرلين، إلى وجوب تخفيف اللهجة في المجادلات الدينية.
وقال مندوب آخر: إن الحاجة الشديدة إلى نشر كتب في الموضوعات الدينية الآتية: أسماء وألقاب المسيح التي في الأناجيل، طبيعة الخطيئة الأصلية، ضرورة الغفران، الجنة وكيفية الحصول عليها، الروح القدس وأعماله، عقيدة سر التجسد، الإنسان فرد اجتماعي وخالقه ليس كذلك، وأن الإله الاجتماعي يشمل الثالوث، الشيطان وكيفية الخلاص منه.
* إِرساليات التبشير الطبية:
خاض المؤتمر بعد ذلك في مسالة إرساليات التبشير الطبية، فقام المستر(1/67)
(هاربر) وأبان وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية لأن رجالها يحتكون دائمًا بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين. وهنا ذكر المستر هاربر حكاية طفلة مسلمة عني المبشرون بتمريضها في مستشفى مصر القديمة، ثم ألحقت بمدرسة البنات البروتستانية في باب اللوق، وكانت نهاية أمرها أن عرفت كيف تعتقد بالمسيح بالمعنى المعروف عند النصارى.
وذكر أيضًا عن رجل مسلم كان يحضر محاضرات المبشرين لإثارة الجلبة والضوضاء، واتفق أنه مرض فدخل مستشفى المبشرين وبعد أن لبث فيه مدة شفي وخرج منه فصار يحضر المحاضرات في هذه المرة، ولكن بخشوع زائد وبعد ذلك بقليل تعمد وأصبح نصرانيًّا على مذهب البروتستان.
ثم قام الدكتور أراهارس طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عامًا وهو في مهنته فلم يفشل إلا مرتين فقط وذلك عقب منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه.
وأورد إحصاء لزبائنه فقال: إن 68 في المائة منهم مسلمون ونصف هؤلاء من النساء وفي أول سنة مجيئه إلى حيث يبشر بلغ عدد زبائنه 175 وفي آخر سنة كان عددهم 2500 وختم كلامه قائلاً:
يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينسى ولا في لحظة واحدة أنه مبشرقبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك.
وقام بعده الدكتور تمباني وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق بين مهنتي التبشير والطب كما حدث معه هو. إلا أن ما بذله من المجهودات قد أعانه على النجاح حتى تمكن من تأسيس مستشفى التبشير من طريق الاكتتابات. وكان أول مكتتب لهذا المستشفى التبشيري رجلاً مسلمًا.
وخطب الأستاذ سمبسون بعد ذلك -في بيان فضل الإرساليات(1/68)
الطبية- ومما قاله: إن المرضى والذين ينازعهم الموت بوجه خاص لا بد لهم من مراجعة الطبيب وحسن أن يكون هذا الطبيب (المبشر) في جانب المريض عندما يكون في حالة الاحتضار التي لا بد أن يبلغها كل واحد من أفراد البشر.
ثم خطبت المس (أناوستون) فتكلمت عن إرسالية التبشير الطبية في مدينة طنطا قائلة: إن 30 في المائة من الذين يعالجون في مستشفى هذه الإرسالية هم من الفلاحين المسلمين وأكثرهم من النساء. أما طريقة التبشير في هذا المستشفى فهي أن يذكر الإنجيل للمرضى بأسلوب بسيط لا يدعو إلى التطرف في المناقشة إذ المستشفى يجمع بين جدرانه نساء ورجالاً.
* الأعمال النسائية في التبشير:
كان لهذا الموضوع اهتمام كبير من أعضاء المؤتمر؛ لأنه خاص بنصف مسلمي العالم فقالت المس (ولسون): إن النساء المبشرات يستعن في الهند بالمدارس وبالعيادات الطبية وزيارة قرى الفلاحين لينشرن النصرانية، بين طبقات الناس.
وخطبت المس (هلداي) في حث المبشرين على الرفق بالمرأة المسلمة.
وتناوبت السيدات المبشرات الخطابة في أخبار نجاحهن في المناطق التي انتدبن للتبشير فيها. فقالت إحداهن: إن المسلمات الفارسيات يظهرن ميلاً شديدًا للعلم بالرغم من جهلهن باتساع نطاقه وهن يعتقدن أن الذي يعرف جغرافية البلاد نابغة. ولقصة الابن المسرف التي في الإنجيل وللمزمار الحادي والخمسين تأثير شديد على النفس المسلمة.
وقالت مبشرة أخرى إن مدرسة البنات البروتستانية التي في الخرطوم فيها من 80 إلى 90 تلميذة مسلمة ولأهلهن الحرية في السماح لهن بقراءة(1/69)
العهد الجديد (الإنجيل وذيوله) أو في منعهن من ذلك إلا أن المدرسة في هذه السنة لم يرد عليها طلب استثناء واحدة من التلميذات من قراءة الإنجيل.
وانتقل المؤتمر بعد ذلك إلى موضوع تربية النساء اللاتي يتطوعن للتبشير.
* المتنصرون والمرتدون:
تساءل القس (جون فان ايس) عن الأركان التي يشترط توافرها في الشخص المتنصر أو النصراني الشرقي الذي يدخل في المذهب البروتستاني.
وبعد أن بحث في ذلك قال: إن المحبة التي يعرفها نصارى الشرق تشوبها نزعة الاعتقاد بالقضاء والقدر وعقيدة الشرقيين عمومًا ضرب من الخرافات وإن تكن مبادئ الإيمان موجودة لديهم جميعًا.
ثم تساءل عما إذا كان المسلم المتنصر أهل لنشر النصرانية وأجاب على ذلك بأن هذا الأمر هو محك إخلاصه؛ لأن نشر الدعوة أمر تقتضيه روح الإسلام وبهذا كان الإسلام دين دعوة وتبشير وكم بالحري لو انتفعنا بهذه المزية وأدخلناها في النصرانية.
وتناقش المؤتمر بعد ذلك بشأن المتنصرين المضطهدين ووسائل استخدام المخلصين منهم وإدخال الأطفال الذين اعتنقوا المذهب البروتستاني في المدارس العادية والصناعية.
* شروط التعمد:
بسط القسيس (جصب) القول في هذا البحث وسأل عن الشروط التي يجب أن تتوفر في المسلم المتنصر ليكون أهلاً للتعميد، ثم قال: إن المبشرين الكاثوليك يعمدون الناس ليجعلوهم مسيحيين أما نحن فنعمدهم لأنهم مسيحيون. وذكر بعد ذلك أيام التجربة والمعلومات الدينية التي يجب على(1/70)
المتنصر معرفتها وبحث فيما إذا كان يحق له أن يتلقى سر التناول.
واستطرد المؤتمر إلى مسألة تعدد الزوجات عند المسلمين، وعن موقف المرأة التي تعمد زوجها هل يفرق الإسلام بينها وبينه أم لا؟ وعما إذا كان يجوز للمتنصر أن يتزوج ثانية أم لا؟ فتقرر أن هذه المسائل عويصة وقد سبق الخوض فيها في مؤتمر (لمبث) سنة 1888 م.
وأن الظروف تقضي باعتبار المسلم المتنصر وهو ذو زوجات متعددة بأنه تحت تجربة إلا إذا كان تنصره في ساعة الاحتضار. أما هذه المسائل نفسها فقد تركت بدون حل.
كيف يتقرب المسلمون؟
خطب القسيس (هاريك) في هذا الموضوع فعرض على المؤتمر نتيجة أبحاثه التي أجراها في بلاد السلطنة العثمانية فمنها أنه عرف أن لا فائدة لطريقة المناظرة والجدل التي وضعها الدكتور (بفندر) المبشر ولم يكن من نتائجها غير وقوف الحكومة العثمانية في وجه المبشرين والذين ينتمون إليهم.
أما ترجمة الإنجيل وكتب التبشير إلى اللغة التركية بدون مناقشة ومجادلة فكانت أكثر فائدة وأعم نفعًا وقد تبين أنه بمجرد اشتراء المسلمين لهذه الكتب ومطالعتها لها صارت تتبدد أوهامهم القديمة. ثم قال: إن الجدل والمناظرة يبعدان المحبة التي لها وقع كبير على قلوب الأغيار وتأثير عظيم في نشر النصرانية فالمحبة والمجاملة هما آلة المبشر لأن طريق الاعتقاد غايته دائمًا هو قلب الإنسان. وقال بعد ذلك: يرى بعضهم أن الموازنة بين حياة وأخلاق الأمم النصرانية وحياة وأخلاق الأمم الإسلامية تنتج دائمًا رجحان النصرانية على الإسلام.
وأنا أيضًا أوافق على رأي هؤلاء ولكن من الوجهة المادية. وفي هذه الأيام نجد جمهورًا عظيمًا من متنوري المسلمين يرغب في المناظرة والجدل.(1/71)
والعثمانيون يشيرون بازدراء إلى ما حدث في بلاد الروس النصرانية في السنة الماضية خصوصًا في أوربا "يريد اضطهاد نصارى روسيا ليهودها"، ويقولون لنا هذه هي نصرانيتكم وأنتم الذين كنتم قبل زمن قليل تتهموننا بلا شفقة بأنا أرقنا قليلا من الدماء أثناء استغلالنا بقمع فتنة .. وعلق القسيس على ذلك بوجوب تحلي حياة المبشر بمبدأ المسيحية قبل أن يُعنى بالأمور النظرية كيما يظهر للمسلم أن النصرانية ليست عقيدة دينية ولا دستورا سياسيًّا بل هي الحياة كلها. وأنها تحب العدل والطهر وتمقت الظلم والباطل: نفتح للمسلم مدارسنا ونتلقاه في مستشفياتنا ونعرض عليه محاسن لغتنا ثم نقف أمامه منتظرين النتيجة بصبر وتعلق بأهداف الأمل إذ المسلم هو الذي امتاز بين الشعوب الشرقية بالاستقامة والشعور بالمحبة ومعرفة الجميل.
بهذه الطريقة فقط يمكن للمبشر أن يدخل إلى قلوب المسلمين ولو أن أحدًا أظهر لنا شغفًا وميلاً عظيمًا إلى طرد كل العثمانيين من أوربا ومن وجه الأرض كلها يجب أن نجيبه قائلين بل سنتحد إن شاء الله مع العثمانين وندعوهم بكل إخلاص للاشتراك معنا في اقتباس أنوار النصرانية.
* موضوعات تبشيرية:
خاض المؤتمر بعد إتمامه الموضوع السابق في موضوعات كثيرة منها كيفية عرض العقيدة النصرانية والمناظرة فيها والوسائل التي يجدر التذرع بها لنشر مبادئها والاحتكاك بالنفوس الإسلامية والوقوف أمام صبغة الإسلام والصفات التي ينبغي أن يتصف بها مبشر المسلمين بالنصرانية والإنجيل.
ثم قام القسيس (ثرونتن) وعرض على المؤتمر هذه النظريات الأولية:
ا- الشعب البسيط يلزمه إنجيل بسيط.
2 - الشرق سئم المجادلات الدينية.
3 - الشرق يحتاج إلى دين خلقي روحي.(1/72)
واستنتج من هذه النظريات الأولية القواعد الآتية:
1 - يجب أن لا نثير نزاعًا مع مسلم.
2 - يجب أن لا يحرض المسلم على الموافقة والتسليم بمبادئ النصرانية إلا عرضًا وبعد أن يشعر المبشر بأن الشروط الطبيعية والعقلية والروحية قد توفرت في ذلك المسلم.
3 - إذا حدث سوء تفاهم حول الدين المسيحي أن يزال في الحال ولو أفضى الأمر إلى المناقشة.
أما (لفروا) أسقف مدينة لاهور فيرى أن المبشر الذي يُعِدُّ نفسه لمجادلة المسلمين في أمور الدين يجب أن تتفوق فيه الصفات الخلقية والاستقامة التامة على المزايا العقلية، وأن يكون مقتنعًا بصحة البراهين التي يحتج بها وأن يكون صحيح المجاملة وأن يضع الأمل بالفوز على خصمه نصب عينية ويحاول حمل خصمه على الرضوخ للحقيقة. وهذا الأسقف يستنكر قسوة التعاليم القديمة ويرى أنها كانت ترمي إلى التغلب على العدو لا إلى اكتساب مودته. ثم قال: ويظهر لي أن كثيرًا من إخواننا المبشرين يريدون أن يبشروا الناس برشقهم بالحجارة لا بعرض الحقيقة عليهم. نعم إن هذه الطريقة قد تفيد ولكني أشك في موافقتها للتبشير وبما ينتج عنها من الحالات النفسية.
وختم كلامه قائلاً: يحب على المبشر أن يتذرع بالصبر والسكينة وأن يكون حاكمًا على عواطفه إلى الغاية القصوى. وأن لا يخالج نفسه أقل ريب في أنه هو الذي سيفوز.
وهذا كان آخر مناقشات المؤتمر. ثم قام القسيس زويمر رئيس المؤتمر وقال:
إن انعقاد هذا المؤتمر كان بالتقريب نتيجة لأعمال (شبان التبشير(1/73)
المتطوعين) أما البحث في أحوال العالم الإسلامي وتبشيره بالنصرانية فقد سبق الخوض فيه في مؤتمر كلفلند. وهذه الخريطة التي نراها أمامنا الآن موسوعة باسم "خريطة تنصير العالم الإسلامي في هذا العصر"، قد بعثت الأمل في قلوب ألوف من الطلبة في مؤتمر (ناشفيل) الذي انعقد في شهر فبراير (شباط) الماضي والتبشير متوقف على وجود زمرة من المبشرين المتطوعين الذين يقفون حياتهم ويضحونها في هذا السبيل، ثم ختم كلامه راجيًا أن يكون لندائه صدى في المدارس الجامعة في أوربا وأمريكا" (1).
"ومن الأمور العجيبة في ذلك العهد أن (أحمد عرابي) الذي اكتوى بخيانة الصليبيين أثناء الحملة على الحبشة، ورأى تآمرهم وغدرهم، يقع في شراكهم، وينخدع بهم، ولنستمع له عندما عين وكيلاً لنظارة الجهادية حيث يقول: "ولما استلمت منصبي الجديد كثر توارد المتظلمين عليَّ من أرجاء البلاد .. في تلك المدة حضر إلى منزلي الرجل المتفاني في حب الحق والعدل والحرية!!، محب الشرقيين عمومًا والمصريين خصوصًا!!! (المستر ولفرن سكاون بلانت)، وكان معه صاحبه العلامة (القس الصابرنجي) صاحب جرنال النحلة، وعرض علي قبول صداقته لي فقبلت منه ذلك، فمد يده إلي ومددت يدي إليه، وتصافحنا وتعاقدنا على الصداقة والإخلاص.
وكنت أظن أننا بواسطته وبفخامة مركزه في قومه، وشدة غيرته على الحرية نتمكن من تذليل الصعوبات التي يلقيها قناصل الإنجليز في طريق حريتنا ونجاح بلادنا بدعوى الإنسانية والعدل والإنصاف بين الأمم والشعوب، وهذا ما يدعيه الغربيون زورًا وتضليلاً دائمًا وهي كلمات محبوبة يدسون بها السم في الدسم ليتمكنوا من الاستيلاء على مشارق الأرض ومغاربها طمعًا
__________
(1) "الغارة على العالم الإسلامي" تأليف ا. ل شاتليه .. لخصها ونقلها إلى العربية محب الدين الخطيب ومساعد اليافي (ص 20 - 30) - المطبعة السلفية.(1/74)
وجشعًا. وكذلك حضر لزيارتنا كاتم أسرار ملكة الإنجليز محب الحرية (السير وليم جريجري) الرجل الإرلندي الذي كان قد تولى حكومة جزيرة سيلان مرتين إجابة لرغبة أهل تلك البلاد" (1).
فوا عجبًا متى كان الصليبيون والقساوسة متفانين في حب الحق والعدل والحرية، عاشقين للشرقيين عمومًا، وللمصريين خصوصًا. وغريب أمر هذا الرجل .. فهل كل من يهرع إلى مكتبه أو يزوره في بيته يكون محبًا للحرية والعدل حتى ولو كان أمينًا لأسرار ملكة بريطانيا!!.
والحقيقة التي يؤسف لها أن "القائد أحمد عرابي" الذي قاد الثورة الشعبية ضد الإنجليز و (الخديوي توفيق) عام 1882 م كان في الواقع بعيدًا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، جاهلاً لكثير من قضاياها المهمة التي على رأسها عقيدة الولاء والبراء والتي أجزم أنه لم يع معناها أبدًا.
بالإضافة إلى عدم وضوح المنهج وصفاء الرؤية، واعتقاده الساذج أنه يمكن أن يستغل علاقاته بهؤلاء الماكرين في إزالة الصعوبات التي كان يضعها الإنجليز في طريق حرية البلاد واستقلالها.
هذا الخلل الخطير في شخصية الزعيم (أحمد عرابي) كان من الأسباب الخطيرة في انهزام الجيش المصري، وانتصار الجيش البريطاني بكل سهولة.
فحين احتل الإنجليز الإسكندرية عزم عرابي على ردم مدخل القناة ليمنع الأسطول الإنجليزي من إنزال جنوده في الجبهة الشرقية، ولكن المستر ديلسبس أثناه عن عمله هذا، ووعده بمنع الأسطول من المرور في القنال
__________
(1) "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية" لأحمد عرابي الحسيني (1/ 270) - مطبعة مصر.(1/75)
اعتمادًا على حيادها (1).
ولكن هذه الوعود سرعان ما تلاشت، وخدع بها القائد (عرابي) وعبر الأسطول الإنجليزي قناة السويس ليطوق البلاد من الشرق والغرب، وتقع الكارثة، ويجثم الاحتلال الإنجليزي على صدر مصر قرابة السبعين عامًا.
حقًّا إنها مأساة متكررة، فكم رزئت الأمة بأعداد من الحكام والقواد الذين لم يكونوا جديرين ومؤهلين لقيادتها، ومع إخلاص بعضهم إلى أن جهلهم بالعقيدة الصحيحة كان سببًا في إخفاق إخلاصهم، ونكبة أممهم وشعوبهم، ومن هؤلاء القائد (أحمد عرابي) الذي تصدى لقيادة الثورة والجهاد، وخلفه جموع الأمة وعلماؤها، ولكنه كان غير خليق بالقيادة بسبب ما ذكرنا (2).
"وهذه الثورة العرابية لو قُدِّر لها أن تنجح فربما كانت سبقت مصطفى كمال أتاتورك بأشياء كثيرة فها هو محمود سامي البارودي أحد زعمائها يقول:
"كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة؛ لأنهم كانوا متأخرين عن زمنهم، ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت" (3).
__________
(1) لأن قناة السويس اتفقت الدول على جعلها محايدة، أو هكذا زعموا. وانظر انتقاد الشيخ محمد عبده لعرابي في تلك القضية في مذكرات الإمام محمد عبده (ص 160).
(2) الإنحرافات العقدية (1/ 199 - 201).
(3) انظر "العلمانية" لسفر الحوالي (ص 574)، "الاتجاهات الوطنية" (1/ 141 - 142)، و "البارودي" للسيدة نفوسة زكريا (ص 28) نقلاً عن بلنت في التاريخ السري للاحتلال البريطاني.(1/76)
* أحمد عرابي والماسون:
"أنشأ الأفغاني في الإسكندرية "جمعية مصر الفتاة"، ولم يكن فيها مصري حقيقي واحد، وإنما كان أغلب أعضائها من شباب اليهود .. ! كانت هذه الجمعية سرية وكان لها صحيفة تنطق باسمها هي صحيفة "مصر الفتاة" ذكر ذلك الشيخ محمد عبده في كتابه "أسباب الحوادث العرابية" (1).
ويظهر أنهم كانوا من الأتراك النازحين؛ لأنه كان معروفًا عن الأتراك المعادين لسياسة السلطان عبد الحميد أنهم يهربون إلى مصر، وإلا فما معنى قول الشيخ محمد عبده: "لم يكن فيها مصري واحد". وقد كان لهذه الجمعية دور خطير في إدارة ثورة عرابي، وهذا ما يجعلنا نشك في إخلاص أحمد عرابي في ثورته، خاصة وأنه ثبت أنه ماسوني. ورغم أن هذه الجمعية تأسست في الإسكندرية، إلا أنه أصبح لها فروع في مختلف المدن المصرية، وكانت هذه الجمعية أشبه ما تكون بجمعية تركيا الفتاة، التي حركت الثورة ضد السلطان عبد الحميد وانتهت بخلعه.
وهنا يعلق الدكتور محمد حسين على التشابه بين هاتين الجمعيتين فيقول: "هذا التشابه بين الاسمين وبين الأهداف الثورية لكل منهما، مع الاتفاق الزمني؛ لأن مؤسس تركيا الفتاة على ما هو معروف هو مدحت المعاصر للثورة العرابية، يوحي بوجود صلة ويؤيد وجود هذه الصلة أن عدداً كبيرا من أعضاء الحزبين التركي والمصري كانوا من الماسون، وأن الحزبين كليهما كانا متأثرين بمبادئ الثورة الفرنسية التي كان بعض زعمائها ومفكريها من الماسون أيضًا" (2). إذن لا بد أن تكون جذور هذين الحزبين واحدة، ولا
__________
(1) "الإسلام والحضارة الغربية" للدكتور محمد محمد حسين (65 - 78)، وانظر "تاريخ الأستاذ الأمام" لمحمد رشيد رضا.
(2) "الاتجاهات الوطنية" (1/ 69).(1/77)
يستبعد أن تكون الماسونية هي التي أوعزت إلى جمال الدين الأفغاني بتشكيل هذا الحزب أو الجمعية.
والذي يؤيد القول بأن هذه الجمعية كانت وراء ثورة عرابي وأن للماسونية الدور الأكبر في أمثال هذه الجمعيات السرية التي لا يعرف أعضاؤها ومحركوها ما جاء في البحوث التي نشرتها الجامعة الأمريكية في بيروت إذ تقول: " .. ويكفي أن نقول: أنه كان للماسونية دور كبير في هذه الجمعيات لم يكشف بعد، ولم توضح جوانبه الخفية .. ونحن نعلم أن الجمعيات الماسونية وعلى رأسها مكالييري اليوناني، قامت بدور كبير في حركة الانتفاض على حكم عبد الحميد في تركيا.
وأحب أن أشير أيضًا إلى تأثر بعض هذه الجمعيات بتنظيم جمعيات الكاربوناري كما كان الأمر في "جمعية مصر الفتاة" التي نظمها عدد من يهود الإسكندرية بالاشتراك مع بعض المثقفين المصريين على غرار جمعيات الكاربوناري، وفي الجمعيات السرية في العهد الحميدي" (1). من هذا تفهم أن جمعية مصر الفتاة هي صورة مصغرة عن جمعية تركيا الفتاة، وكلاهما يعملان سرًا بأوامر الماسونية اليهودية العالمية" (2).
* الثعلب والجاسوس البريطاني "بلنت" تنبّه له مصطفى كامل وصادقه أحمد عرابي!!
هناك صداقة مريبة جمعت بين بلنت وكل من الأفغاني ومحمد عبده وأحمد عرابي، وكان بلنت من أشد الناس تفانيًا في خدمة مصالح الإنجليز رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه
__________
(1) "الفكر العربي في مائة سنة" (73).
(2) "محمد عمارة" (ص 335 - 336).(1/78)
للحكومات البريطانية، بل كان أحيانا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عر بي ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية.
بلنت واضع كتاب "مستقبل الإسلام " الذي يدعو فيه إلى هدم الخلافة الإسلامية بنقلها من السلاطين العثمانيين إلى العرب الضعفاء، ويدعو إلى الاعتماد على الإنجليز في إقامة خلافة إسلامية قوية. بلنت كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه (1).
بلنت شجع عرابي على الثورة، وهو يعلم أنه ضعيف لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الاحتلال، وهو الذي زين لعرابي الحكم الجمهوري الذي قام من أجل تحقيقه، ووقف أمام الخديوي يطالب بالتخلي عن السلطة، ففي خطاب عرابي إلى صديقه بلنت يقول: "ثم خلع إسماعيل فزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن قد فعلنا بأنفسنا لكنا تخلصنا من أسرة محمد علي بأجمعها، ولم يكن فيها أحد جدير بالحكم سوى سعيد، وكنا عندئذ أعلنا الجمهورية" (2).
بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده في الهاوية، ومع ذلك لم يفطن عرابي لخطره بل بقي على صداقته له بعد ذلك، وتولى بلنت الدفاع عنه بعد أسره ومحاكمتة (3).
يقول الدكتور محمد محمد حسين واصفًا بلنت: "والمستر بلنت كان غريبًا جدًا في تصريحاته، كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر وفي سوريا وفي نجد، يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها
__________
(1) "الاتجاهات الوطنية" (1/ 153).
(2) المصدر السابق (1/ 159).
(3) المصدر السابق (2/ 319).(1/79)
باسم عرابي، ويقدم صورًا مضللة عن صفته الرسمية وقدرته السياسية" (1)، ولذا فقد لفت أنظار الكثيرين، ممن درس حياة جمال الدين الأفغاني، هذه الصداقة الحميمة لهذا الثعلب والجاسوس البريطاني، الذي تنبه له مصطفى كامل وغفل عنه جمال الدين.
وكان الدكتور محمد محمد حسين قد شعر بهذه الصلة المشبوهة بين جمال الدين وبلنت فراح يتساءل ويقول: "وفيم كانت صلة الأفغاني بهذا الرجل بلنت، ينزل ضيفًا عليه عندما زار انجلترا؟ ويكتب إلى محمد عبده من بورسعيد وهو في طريقه إليها يطلب إليه أن يكون رده بعنوان المستر بلنت .. " (2).
وكان جمال الدين يحكي أفكار بلنت في مسألة الخلافة، فقد دعا المستر بلنت المسلمين في كتابها مستقبل الإسلام" إلى نقل الخلافة من العثمانيين إلى العرب (3). وكذلك جمال الدين كان يدعو إلى وضع الشريف حسين خليفة المسلمين بدلاً من السلطان عبد الحميد الثاني (4). وهذا يؤكد صحة قول السلطان عبد الحميد بأنهما اتفقا في وزارة خارجية بريطانية على هدم الخلافة العثمانية. ثم إن بلنت هذا رجل ملحد لا يؤمن بدين ولا شريعة، فهل يصح لمسلم مؤمن بالله واليوم الآخر أن يصادق رجلاً ملحدًا، يقول الدكتور محمد محمد حسين: "بلنت كان من المتحررين الذين لا يؤمنون بالمسيحية، ولا يحسنون الظن بالكنيسة الكاثوليكية" (5).
__________
(1) "الاسلام والحضارة الغربية" (68 - 82).
(2) المصدر السابق (68 - 82).
(3) "الاتجاهات الوطنية" (25).
(4) "مذكرات السلطان عبد الحميد" (ص 67).
(5) "الاسلام والحضارة الغربية" (ص 95).(1/80)
والغريب أنه كان له اتصال وثيق بجميع من اشتغلوا بالمسألة المصرية من المصريين والأجانب منذ عهد عرابي إلى أن مات (1). فقد صادق محمد عبده وبقي يراسله وينشر أفكاره حتى بعد موت جمال الدين الأفغاني، فهو الذي توسط لدى المعتمد البريطاني كرومر، بعد احتلال مصر على أثر ثورة عرابي وطرد محمد عبده من مصر، على إعادة الشيخ محمد عبده إلى مصر (2). ولما عاد محمد عبده إلى مصر كان أول هدف له هو ترك السياسة ومجانبة الخصام مع الحكومة البريطانية.
وقد قال اللورد كرومر نفسه في كتابه "مصر الحديثة": "إن العفو صدر عن الشيخ محمد عبده بسبب الضغط البريطاني" (3).
وأعجب من هذا أن تجد بعض المؤرخين المغفلين يقول: بأن بلنت كان رجلاً أرستقراطيًّا وثريًا، وكان يحب العرب والشرق ويدافع عن قضاياهم ويعطف على ثوراتهم وقادتهم ومفكريهم، منهم جمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي ومحمد عبده وغيرهم، وكذا كانت صداقته لهم شريفة!! (4).
ويقول الشيخ محمد الجنبيهي وهو من علماء الأزهر المعروفين بالصلاح والتقوى في كتابه "بلايا بُوزا" يعارض فكر طه حسين ومحمد عبده: يقول الجنبيهي في صلة محمد عبده باللورد كرومر وبالمستر بلنت "لما شرعت القوة البريطانية في نفي الخونة العرابيين، ذلك النفي الصوري، كان
__________
(1) "الاتجاهات الوطنية". (2/ 319).
(2) "أعلام وأصحاب أقلام" لعمارة (ص 390).
(3) "زعماء الإصلاح" (310).
(4) "محمد عمارة" (ص 334 - 345).(1/81)
نفي ابن عبده الغرابلي في البلاد الشامية وحده ليفتن فيها من أراد الله فتنته.
فلما انقضت مدة النفي، ورجع إلى الديار المصرية، كانت ثقة اللورد كرومر به أكبر ثقة. فسكن في "منشية الصدر" بعيدًا عن عيون الرقباء وكانت الواسطة بينه وبين اللورد رجلاً إنكليزيًا اسمه "بلنت" .. " (1).
يقول الدكتور محمد محمد حسين في كتابه "الإسلام والحضارة العربية" (ص 94) بالهامش "يرى المؤلف (2) أن عرابي كان خائنًا، وأنه كان يمثل الجناح الحربي في مدرسة الأفغاني، بينما كان محمد عبده يمثل الجناح الفكري، ويستدل على ذلك بصلتهما المشتركة وصلة أستاذهما الأفغاني من قبل بالمستر بلنت، الذي كان يعمل على تمزيق الدولة الإسلامية. فالمستر بلنت -كما هو معروف- هو الذي تولى الدفاع عن عرابي في محاكمته، وهو الذي أصدر بيانًا باسم الثورة العرابية نشره في جريدة التيمز، يصف فيه الحزب الوطني الذي أعد للثورة بأنه "حزب سياسي لا ديني" "الاتجاهات الوطنية" (1/ 154).
* موقف محمد الهدي السنوسي شيخ السنوسيين من الحركة العرابية:
لم يقتنع المهدي السنوسي بجدوى الثورة، كأسلوب لتحقيق مطالب عرابي؛ لأنها تتيح للأجانب التدخل، وقد وضح هذا الرأي في رسالة بعث بها محمد الشريف أخو المهدي إلى الشيخ مصطفى المحجون شيخ زاوية الطيلمون بتاريخ شعبان 1306 هـ بمناسبة قيام إحدى قبائل برقة بالعصيان على الدولة العثمانية، إذ قال فيها: "ونرجو أن تكون الفتنة التي بالوطن قد طُفئت؛ لأنها مخيفة سيئة العاقبة، تشبه الفتنة العرابية التي من أجلها حلّ
__________
(1) "بلايا بوزا" للجنبيهي (ص 50).
(2) أي الشيخ الجنبيهي.(1/82)
بالوطن الشرقي وأهله ما حلّ؛ لأنهم يحركونها ويعجزون عنها فتكون العاقبة التسليم للأجانب، فلو أنهم سلكوا طريقًا غير هذا لكان أسهل وآمن عاقبة ولسوف تكشف الأيام الكثير عن خبايا الثورة العرابية" (1).
* جمال الدين الأسد آبادي المشهور بالأفغاني:
لقد قدّمنا صفحات كثيرة من الفكر المشبوه لهذا الرجل ورئاسته للمحفل الماسوني "كوكب الشرق" وعضوية محمد عبده فيه كما يؤكد ذلك الشيخ محمد رشيد رضا (2)، واعتناقه لفكر وحدة الوجود.
وقد تعرضنا وسنتعرض لفكره بإسهاب في المدرسة العقلية وكتابات الدكتور محمد محمد حسين ونزيد هنا بمحاولته وتلاميذه - وهي المحاولة الأولى في التاريخ الإسلامي للتقريب بين الإسلام والمذاهب البشرية الوضعية، فهو يقول عن الاشتراكية:
"وهكذا دعوى الاشتراكية .. وإن قل نصراؤها اليوم فلا بد أن تسود في العالم يوم يعم فيه العلم الصحيح ويعرف الإنسان أنه وأخاه من طين واحد أو نسمة واحدة وأن التفاضل إنما يكون بالأنفع من المسعى للمجموع".
ويقول: "أما الاشتراكية في الإسلام فهي ملتحمة مع الدين الإسلامي ملتصقة في خلق أهله، منذ كانوا أهل بداوة وجاهلية، وأول من عمل بالاشتراكية بعد التدين بالإسلام هم أكابر الخلفاء من الصحابة، وأعظم المحرضين على العمل بالاشتراكية كذلك من أكابر الصحابة أيضًا" (3). أما
__________
(1) "الثمار الزكية للحركة السنوسية في ليبيا" لعلي محمد محمد الصلابي (ص 233)،
و"المهدي السنوسي" (ص 59). مكتبة الصحابة - الإمارات.
(2) "تاريخ الأستاذ الإمام" (1/ 40، 46، 48، 819، 873).
(3) "الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية" لعلي الحوافظة (ص 102)، و "العلمانية" (ص 526).(1/83)
تلميذه الشيخ محمد عبده فيستحسن الأنظمة الجمهورية النيابية معتقدًا أنها هي الوسيلة الحديثة للشورى الإسلامية، يقول:
"والمبايعة لا تتوقف على صحتها على الشورى ولكن قد يحتاج فيها إلى الشورى لأجل جمع الكلمة على واحد ترضاه الأمة فإذا أمكن ذلك بغير تشاور بين أهل الحل والعقد كأن جعلوا ذلك بالانتخاب المعروف الآن في الحكومة الجمهورية وما هو في معناها حصل المقصود" (1).
أما قضية المرأة فقد اعتقد الأفغاني أن من أعظم علل الشرق أن المرأة فيه ليست متساوية مع الرجل في الحقوق والواجبات، وكان من تلاميذه الذين سرت فيهم هذه الفكرة محمده عبده، وقاسم أمين الذي كان مترجمًا لجمعية العروة الوثقى (2، 3)
وكانت أفكار محمد عبده منطلقًا للهجوم على موقف الشريعة من المرأة (4).
ولعل الله يمدّ في العمر لنكشف عن كل جوانب الفكر المشبوه لهذه المدرسة التي تضم الأفغاني ومحمد عبده، وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد، وسعد زغلول وغيرهم .. (5)
* الشيخ محمد عبده تلميذ الأفغاني:
سبق الحديث عنه وسيأتي أيضًا أثناء الحديث عن المدرسة العقلية. ولقد كان التلميذ الوفي للأفغاني، وكان أمل المخطط اليهودي الصليبي -كما
__________
(1) "تفسير المنار" (4/ 203).
(2) "قاسم أمين" لماهر حسن فهمي (ص 20، 34)، "سلسلة أعلام العرب" - مصر.
(3) "العلمانية" (ص 626 - 627). (4) المصدر السابق (ص 581).
(5) انظر ذلك بالتفصيل الكبير في فصل "المدرسة العقلية" من كتابي "زهر البساتين في مواقف العلماء والربانيين".(1/84)
أوضح كرومر وجب وغيرهما- أن تكون حركة الشيخ مماثلة تمامًا لحركة (سير أحمد خان) مؤسس جامعة (علي قره) بالهند التي تسمت (المعتزلة الجدد) وكانوا مفتونين بحضارة الغرب منبهرين بها إلى أقصى حد.
ولكن ظروف مصر غير ظروف الهند، كما أن الشيخ وإن كان اعتزاليًا متطرفًا (1) لم يستطع أن يصدم المشاعر الإسلامية بأكثر مما فعل حيث قامت ضد بعض تصرفاته ضجة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي (الفتوى الترنسفالية، فتوى إباحة صناديق التوفير .. ). وليس ثمة شك في أن "مصر الحديثة" التي يريدها كرومر هي دولة لا دينية لا صلة لها بالإسلام وحكومتها ستكون على الشرط الذي مر آنفًا، أما محمد عبده فلم تكن لديه كما يبدو صورة واضحة، وإنما كان يهدف إلى الاصلاح الذي ينشده في ظل الاحتلال الإنجليزي. ولهذا فإن التعاون بين كرومر والشيخ يعني تقديم تنازلات من الأخير للأول، أما العدو المشترك لهما فهم العلماء. "غير الأحرار" الذين كانوا -رغم ما فيهم- ينفرون من المحتل والعمل معه في أية صورة!
وابتدأ محمد عبده عمله الاصلاحي بمهاجمة الأزهر ونقد المحاكم ونقد الحياة الاجتماعية وكرومر من ورائه يقطف الثمار.
لقد كانت بريطانيا -كعادتها- عازمة على إلغاء الشريعة الإسلامية فور تمكنها في البلاد، غير أن كرومر رأى أن أفضل وسيلة لذلك هو تفريغ المحاكم الشرعية من محتواها بأن يتولاها علماء "ذوو طابع تحرري" تتم تربيتهم بإشرافه هو والشيخ في معهد خاص لقضاة الشرع، وقوّى عزمه على
__________
(1) لعل هذا هو أقرب ما يصح أن يوصف به الشيخ من الانتماءات المذهبية وإن كان في الواقع له اتجاه مستقل أحيانًا وتظهر اعتزاليته أو عقلانيته في تأويلاته المشهورة للملائكة والجن والطير الأبابيل وخلق آدم.(1/85)
ذلك، المعلومات التي يذكر أنه حصل عليها عن الكلية التي أنشاتها في سراجيفو حكومة النمسا والمجر (1) لتخريج قضاة الشرع المسلمين والتي يقول عنها أنها: "كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه"، ويتحدث عن ذلك في تقريره السنوي لحكومته عام 1905:
" .. وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق (محمد عبده) بقصد وضع خطة مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها، وقد أتمت اللجنة عملها في شهر يونيه السابق ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة .. وهذه النظم تزود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري لا تحصر الطالب في الدراسات الدينية الخاصة (2).
والعجيب حقًا أن محمد عبده لم يكن يرى حرجًا من اقتباس القوانين التشريعية الغربية، ما دام ذلك يحقق (الإصلاح في نظره) بل يقول العقاد - وهو من المعجبين به- إنه: "علم أن المراجع العربية لهذه القوَانين لا تعطيه الإحاطة الواجبة بتلك المبادئ في أصولها المأثورة عند فلاسفة التشريع الغربيين فشرع في تعلم اللغة الفرنسية" (3). كما أن إعجابه بالثقافة الغربية هو الذي جعله يبالغ في انتقاص الأزهر مطلقًا عليه لفظ "الإصطبل أو المارستان أو المخروب"، ويحاول إصلاحه وإصلاح التعليم كله على الطريقة الغربية ويقول:
"إن كان لي حظ من العلم الصحيح .. فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر وهو إلى
__________
(1) انظر كيف اتفق المخطط الصليبي هنا وهناك، والكفر ملة واحدة.
(2) "الفكر الإسلامي دراسة وتقويم" لغازي التوبة (ص 30).
(3) "محمد عبده" (ص 109) "سلسلة أعلام العرب".(1/86)
الأن لم يبلغ ما أريد له من النظافة" (1).
لا شك أن الأزهر كان بحاجة إلى الإصلاح، ولكن الإصلاح الذي يريده الإنجليز -ومعهم الشيخ- كان من نوع آخر، لا سيما وأن شبح سليمان الحلبي يهدد كرومر كل حين (2).
وكان من أعظم خطط الإنجليز للقضاء على الشريعة الإسلامية إنشاء "مجلس شورى القوانين" الذي كانوا يحكمون مصر من خلاله، والذي قدم الشيخ له خدمات جليلة مما دفع المستشار القضائي الإنجليزي إلى رثائه في تقريره عن المحاكم لعام 1905 قائلاً:
"ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليه الفائت وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة التي أصابت هذه النظارة بفقده .. ".
إلى أن يقول:
"وفوق ذلك فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية، إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ويبحث عن حل يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك (! ) وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرًا لسمو مداركه وسعة اطلاعه وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظفه في محكمة الأستئناف وسياحاته إلى مدن أوربا (! ) ومعاهد العلم .. " (3).
__________
(1) "الفكر الإسلامي الحديث" لغازي التوبة (ص 27).
(2) انظر " العلمانية " (ص 577).
(3) "الفكر الإسلامي الحديث" لغازي التوبة (ص 25).(1/87)
وقد يكون أخطر آثار محمد عبده التي تعد ركيزة من ركائز العلمانية في العالم الإسلامي إضعاف مفهوم "البراء والولاء، ودار الحرب ودار الإسلام" إذ كان الشيخ أعظم من اجترأ عليه من المنتسبين للعلماء، لا بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة فحسب، ولكن بدعوته الصريحة إلى موالاة الإنجليز وغيرهم -بحجة أن التعاون مع الكفار ليس محرمًا من كل وجه- ودعوته إلى التقريب بين الأديان.
حقيقة أن الراي العام الإسلامي قد ثار على بعض فتاوى الشيخ التي أباح بها موالاة الكفار، ولكن تأثيرها في الأمة لا شك فيه، لا سيما في تلك الفترة الحرجة التي تتميز بغبش الرؤية واختلاط المفهومات.
ويليها في الخطورة فتواه حول إباحة الربا بطريق صناديق التوفير معتمدًا -كما يرى العقاد- على مفهوم الآية من أنه لا يحرم من الربا إلا الأضعاف المضاعفة!
وأخيراً فإن الشيخ -بقصد أو بدون قصد- قد أوجد القاعدة التي ارتكز عليها من يسمون دعاة الاصلاح (1) للتعلق بأذيال الغرب وإقصاء الإسلام عن توجيه الحياة، إذ ظلوا ينقضون عرى الإسلام عروة عروة حتى أن المعركة الآن أصبحت تدور ضد قانون الأحوال الشمخصية وهو البقية الضئيلة من آثار الشريعة الإسلامية والميزة الأجتماعية التي تميز المسلم من غيره.
لم يكن محمد عبده علمانيًا ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي واتخذها جسرًا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في
__________
(1) من الإنصاف أن نذكر أن الشيخ ندم على طريقته في الإصلاح مفضلاً عليها تطبيق التربية الفردية، انظر كتاب العقاد "الإسلام في القرن العشرين" (ص 147).(1/88)
العالم الإسلامي وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، - واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية، وهو ما تم جميعه تحت ستار " الإصلاح " أيضًا (1). أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار الشيخ الإصلاحية مبررًا نفسيًا لتقبلها للتغير العلماني المتدرج في الدول العربية.
وقد صور محمد المويلحي في عمله الرائع " حديث عيسى بن هشام " شيئًا من ذلك على لسان أبطال الرواية، إذ يسال أحدهم متعجبًا كيف ساغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة؟ فيجيب الأخر بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة (2).
وانظر كيف حرص المغرضون على تضخيم فتوى محمد عبده ليبتروا هذا الجانب بكامله عن الشريعة، وممن استخدموا لذلك حفني ناصف الذي قال: "إن الربا بفائده ليس من أنواع الربا المحرم، وأن سبب تخلف مصر هو عدم فتح بنوك على الطريقة الغربية"، ثم تلاه من تلاه حتى استصدرت فتوى من أحد شيوخ الأزهر البارزين بإباحته، ولا يزال هذا هو رأي من يسمون أصحاب الاتجاه العصري (3، 4).
* قاسم أمين ودعوته المشبوهة إِلى تحرير الراة:
ابتعث قاسم أمين إلى فرنسا للدراسة، يقول عنه مؤرخ حياته:
__________
(1) انظر "حول آثار الفكر الاصلاحي" غازي التوبة: (54)، و"الاتجاهات الوطنية" (1/ 355)، و"أساليب الغزو الفكري" (201 - 205)، وقول جب عنه: "كان تلاميذه الحقيقيون من صفوف العلمانيين" دراسات في حضارة الإسلام (ص 330).
(2) (1/ 72 - 73).
(3) "حفني ناصف" لمحمود غنيم (ص 161) - "سلسلة أعلام العرب".
(4) "العلمانية" (ص575 - 580).(1/89)
"ويعود قاسم إلى قاعة المحاضرات بجامعة مونبلييه وهو أشد رغبة في تعرف المزيد عن الحياة في أوروبا، وهناك يجد زميلته، "سلافا" .. فلا يتردد في سؤالها أن تصحبه إلى المجتمعات الفرنسية وتقبل هي في سرور باد، وصحبته فتاته إلى كثير من الحفلات وتعرف إلى كثير من الأسر فوجد حياة اجتماعية تختلف عن الحياة في مصر، وجد السفور بدل الحجاب والاختلاط بدل العزلة والثقافة بدل الجهالة" (1).
وعاد قاسم إلى مصر يحمل إلى أمته فكرة خطرة عرضها على أصدقائه فتردد بعضهم وأيده أكثرهم وخاصة الزعماء مثل: سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد (2)، وكذلك علي شعراوي زوج هدى شعراوي - الملقبة بزعيمة الحركة النسائية وغيرهم ممن قال عنهم كرومر "أسميهم حبًا في الأختصار أتباع المرحوم المفتي السابق الشيخ محمد عبده! " (3).
وأظهر قاسم فكرته تلك في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" وعند صدور الأول شك كثيرون في كونه كاتبه لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة الأقوال الفقهية والأدلة الشرعية التي كان مثل قاسم قليل البضاعة منها، ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة أحد رجلين إما كرومر وإما محمد عبده (4) ويحل لطفي السيد الإشكال في كتابه قصة حياتي إذ يقول:
__________
(1) "قاسم أمين" لماهر حسن فهمي (ص 40) -"سلسلة أعلام العرب "- مصر.
(2) يقول مؤرخ حياة مصطفى كامل أنه كان له أم روحية تدعى جولييت آدم .. إلخ، انظر "مصطفى كامل حياته وكفاحه" لأحمد رشاد (ص 71)، وكان بين مصطفى كامل وقاسم أمين خلافات كثيرة.
(3) "أحمد لطفي السيد" لحسين فوزي النجار (ص 173)، "سلسلة أعلام العرب"- مصر.
(4) "قاسم أمين" (ص 158).(1/90)
"إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب "تحرير المرأة" في جنيف عام 1897 قبل أن ينشره على الناس (1).
وجاء مثل هذا في كتاب "قاسم أمين" أيضًا (2).
وعلى أية حال فقد ظهر كتابه "تحرير المرأة" الذي يمكن تلخيص أفكاره فيما يلي:
1 - إن المرأة مساوية للرجل في كل شيء و "إن تفوقه البدني سببه استعمال الأعضاء" (3) -ويتضح من هذا تعريضه بالقرآن الكريم وتأثره بالداروينية-.
2 - "إن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده "وهي عادة عرضت على المسلمين" من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين منها براء" لكن بالنسبة للأمم الأخرى فإن هذه العادة "تلاشت طوعًا لمقتضيات الاجتماع وجريًا على سنة التقدم والترقي" (4).
3 - إن الحجاب ليس عائقًا عن التقدم فحسب بل هو مدعاة للرذيلة وغطاء للفاحشة في حين أن الاختلاط يهذب النفس ويميت دوافع الشهوة!.
وقد حرص قاسم علي تبرئة نفسه من تهمة الدعوة إلى تقليد الغرب في مناداته بهذه الفكرة (5) مدعيًا أن الدافع الوحيد هو الحرص على الأمة والغيرة
__________
(1) "أحمد لطفي السيد" (133).
(2) ص: (158 - 159).
(3) "تحرير المرأة" (19) لقاسم أمين.
(4) "تحرير المرأة" (79، 68، 67).
(5) انظر "تحرير المرأة" (ص 83).(1/91)
على الدين والوطن، فهو يزعم أن أصل فكرته هو الرد على "داركور" المستشرق الذي هاجم الحجاب، ولست أدري ماذا ترك قاسم لداركور!
لكن كتابه الثاني "المرأة الجديدة" يكذب ادعاءاته تلك فهو يقول فيه: "هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يتعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها، وإذا أتى ذلك الحين -ونرجو ألاّ يكون بعيدًا- انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أن من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا على العلوم العصرية" (1).
وقد طبق ذلك في بيته فأحضر لابنتيه مربيتين -إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزية (2) وظل قاسم حريصًا على دعوته داعيًا إلى فكرته "إلى آخر نسمة من حياته القصيرة ففي ليلة وفاته بالسكتة القلبية في 23 إبريل 1908م كان يقدم طالبات رومانيات في نادي المدارس العليا" (3).
يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "جيل العمالقة" وكتابه "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" (3/ 660 - 664):
"كانت حركة تحرير المرأة التي قادها قاسم أمين مؤامرة استعمارية تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم حتى قال محمد فريد: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهورًا مريعًا في الآداب العامة وأحدثت انتشارًا مفزعًا لمبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض
__________
(1) "قاسم أمين" (ص 192 - 193).
(2) المصدر السابق (ص 77).
(3) "أحمد لطفي السيد" (ص 215).(1/92)
وهرب الشابات من دور أهلهن.
لقد تراجع قاسم أمين بعد قليل من دعوته إلى تحرير المرأة وجاءت (هدى شعراوي) فاحتضنتها دوائر الماسونية والتغريب واليهودية العالمية.
في محاولة لتقويم حركة قاسم أمين لتحرير المرأة بعد أن تسربت وثائق عدة تكشف عن خطة أشبه بالمؤامرة وراء هذه الدعوة، وتطرقت الأسئلة إلى أم المصريين (صفية زغلول) وإلى زعيمة النهضة النسائية في مصر (هدى شعراوي) التي دعت بعض الأقلام التي تجهل الحقيقة أو تخدع كتابها إلى إقامة تمثال لهما والحقيقة أنه لكي تعرض خلفيات هذه القضية يجب أن نذكر شيئًا مهمًا هو أن كتابًا ظهر في مصر عام 1894 (أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد لمحام مصري موال لكرومر وللنفوذ الأجنبي يدعى (مرقص فهمي) تحت عنوان "المرأة في الشرق" صور فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أربعة أغراض:
أولاً: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيًا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثًا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعًا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسًا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وكان هذا المخطط هو النواة للنفوذ الأجنبي الذي تدرس على ضوئه "حركة قاسم أمين" وهدى شعراوي، ذلك أنه لم تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب "تحرير المرأة" فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض سلامتها، فما هي هذه الخلفيات لهذا الحدث الخطير.
أولاً: كتب داود بركات رئيس تحرير الأهرام بجريدته الصادرة في
4 يناير 1928 مقالاً قال فيه أن قاسم أمين قرأ كتاب الدوق داركور(1/93)
"المصريون" ورد عليه بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته .. فلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلاً على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضًا.
ثم استطرد يقول: "وكانت الأميرة نازلي فاضل ولها صالون يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامحين إلى تولي السلطة في مصر تحت قيادة النفوذ البريطاني وبرعاية اللورد كرومر".
ويقول داود بركات متابعًا: وقد أُشير على جريدة المقطم -وهي لسان الإنجليز في مصر ذلك الوقت- أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء قاسم في هذا الاتجاه ودفاعه عن الحجاب، واستنكاره اختلاط الجنسين .. ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه.
وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في "الرواق العباسي" بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة متساويان عند الله.
وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897 م بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب "تحرير المرأة" وصفت بأنها تنم على أُسلوب الشيخ محمد عبده نفسه.
ثانيًا: كتب فارس نمر صاحب المقطم مقالاً في مجلة الحديث (الحلبية) عام 1939م وأشار إلى هذا الحادث فقال: "إنه ظهر كتاب للدوق داركور يطعن فيه على المصريين طعنًا مرًا، ويخص النساء بأكبر قسط منه.(1/94)
إذ رماهن بالجهل وضعف مكانتهن في المجتمع. فاهتاج الشباب وتطوع قاسم أمين للرد على كتابه".
ويستطرد فارس نمر يقول: وهنا أشير لحقيقة لا يكاد يعلمها إلا ندرة في مصر. هذه الحقيقة أن كتاب قاسم أمين الذي رد فيه على (دوق دار كير) لم يكن في صف النهضة النسائية التي كانت تمثلها الأميرة نازلي .. بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلاً على كمال المرأة، ويندد بالداعيات إلى السفور، واشتراك المرأة في الأعمال العامة .. ولما ظهر كتابه هذا ساءَ ما به إخوانه من أمثال محمد المويلحي، ومحمد بيرم، وسعد زغلول .. ورأوا فيه تعريضًا جارحًا بالأميرة نازلي، فتشاوروا فيما بينهم في الرد واتفقوا أخيرًا أن أتولى الكتابة عن هذا الموقف وعرض فصوله وانتقاد ما جاءَ به خاصًا بالمرأة، وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه .. ولكن ذلك النقد لم يرق في نظر قضاة محكمة الاستئناف، ورأوا فيه مساسًا بهيبتهم. لأن قاسم أفندي كان أحدهم ورأوا أن أفضل وسيلة يبذلونها لكي أكف عن الكتابة أن مؤلفه يرجو الأميرة نازلي فاضل لكي تطلب إليَّ ذلك .. وتطوع الشيخ محمد عبده للقيام بهذه المهمة، وذات مساء حضرت إلي صالون الأميرة كما حضر الشيخ محمد عبده ْ ومحمد بيرم والمويلحي .. وبعد قليل تحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة في هذا الشأن. فالتفتت إلى سموها وقالت لي: أنها لا تجد بأسًا في أن أكف عن الكتابة في الموضوع.
وكانت هي لم تقرأ الكتاب ولم تعرف أنه يشمل الطعن فيما تدعو إليه. فلما رأى ذلك محمد المويلحي قال لسموها: أنه يدهش من طلب الأميرة وخاصة لأن الكتاب تعرض لها.
فبدت الدهشة عليها وكانت إحدى نسخ الكتاب موجودة عندها. وعبثًا(1/95)
حاولت أن أقفل باب الحديث في هذا الشان وخاصة بعد أن لمحت عليها معالم الأضطراب والجد والعنف.
فلما اطلعت على ما جاءَ به ثارت ثورة شديدة ووجهت القول بعنف إلى الشيخ محمد عبده؛ لأنه توسط في هذا الموضوع .. مرت الأيام بعد ذلك واتفق محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو الأميرة.
فقبلت اعتذاره ثم أخذ يتردد على صالونها، وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه. وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذي كان الفضل فيه للأميرة نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب" انتهى كلام فارس نمر.
ثالثًا: أشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا المعنى وكشفت هذا السر الذي ظل خافيًا زمنًا طويلاً، ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بعشرين سنة غير أن الذي يلفت النظر أن قاسم أمين عدل عن رأيه هذا من بعده، وتبين له أنه أخطأ الطريق.
وقد تبين هذا حين صرح قاسم أمين في حديث له في صحيفة "الظاهر" التي كان يصدرها المحامي محمد أبو شادي حيث أعلن رجوعه، وأعلن أنه كان مخطئًا في (توقيت) الدعوة إلى تحرير المرأة .. هذا التصريح نشرته جريدة "الظاهر" في أكتوبر 1906 قال قاسم أمين: "لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب، وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم .. ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس .. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف عرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق(1/96)
الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحامًا في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعًا .. إنني أرى أن الوقت ليس مناسبًا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل".
ومعنى كلام قاسم أمين هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف عام أن قاسم أمين قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته (التي جاءَت استدراجًا ومرضاة لنفوذ وليست خالصة لوجه الله تعالى) أنها لم تكن قائمة على أُسسها الصحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق والإيمان بالله، وأنها لم تكن على طريق الحق .. أو ربما أن قاسم رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر ووفاة محمد عبده وانطفاء نفوذ نازلي فاضل (ربيبة كرومر) أن يتخفف من هذه التبعة. وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه .. فها هو يروي أن صديقًا عزيزًا زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك!! فدهش قاسم .. كيف يطلب مقابلة زوجته.
فقال له صديقه: ألست تدعو إلى ذلك. إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك. فأطرق قاسم أمين صامتًا ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة قاسم أمين كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح.
وقال محمد فريد وجدى: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهورًا مريعًا في الآداب العامة، وأحدثت انتشارًا مفزعًا لمبدأ العزوبة، وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن. ونعت الدكتورة بنت الشاطئ ما تكشف من حركة تحرير المرأة مما أسمته مهزلة أليمة موجعة.(1/97)
تقول بنت الشاطئ: "إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم .. وهم يوهمونا أننا نعمل أو يعملون معنا لحسابنا .. ذلك أن الرجال رتبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم .. ولكنهم كذبوا في هذا الزعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم".
ثم قالت بنت الشاطئ: "إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنًا للتطور ويكفي أن أُشير في إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذي شوه نهضتنا. وأعني به انحراف المرأة الجديدة عن الطريق الطبيعي وترفعها عن التفرغ لما نسميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن. أما الأبناء فتركوا للخدم. وقد نشأ هذا الانحراف الضال نتيجة لخطأ كبير في فهم روح النهضة.
وبلغ من سوء ما وصلت إليه أن نادت مناديات بحذف نون النسوة في اللغة كأنما الأُنوثة نقص ومذلة وعار. وأهدر الأعتراف بالأُمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا من يسأل كيف تعيش أمة برئة معطلة .. يقصد بالرئة المعطلة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد .. وزعموا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين عملها في البيت ووظيفتها في الخارج" انتهى كلام الدكتورة بنت الشاطئ (1).
وتكشف السيدة صافي ناز كاظم سموم قاسم أمين في كتابه المرأة الجديدة حيث يهاجم المدنية الإسلامية ويدعو إلى التغريب.
يقول: نحن لا نستغرب أن المدنية الإسلامية أخطات في فهم طبيعة
__________
(1) "جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام" (ص 135 - 140)، وانظر "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" المجلد الثالث "عالم الإسلام المعاصر" (ص 660 - 664) لأنور الجندي.(1/98)
المرأة وتقدير شأنها فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطأها في كثير من الأمور الأخرى.
ثم يقول: الذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعًا لمحاوبتها؛ لأنه ميل إلى التدني والتقهقر، وهذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له من دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها.
فإذا أتى هذا الحين ونرجو أن لن يكون بعيدًا - انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي، وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا على العلوم العصرية الحديثة.
ولا يمكن أن يوصف هذا الكلام إلا أنه (ردة) من مستشار وصف بالعقل والحكمة ولكنه انزلق مع المنزلقين إلى مطالع المناصب الكبرى والحظوة في صالون نازلي فاضل.
والمعروف أنه بعد أن دافع قاسم أمين عن حجاب المرأة المسلمة في كتابه (المصريون) حدثت مؤثرات من الأميرة نازلي على قاسم أمين مما أدى إلى حدوث متغيرات في فكر قاسم عرفت في كتابه تحرير المرأة، والمرأة الجديدة.
وكان كتاب تحرير المرأة نوعًا من الاعتذار للأميرة التي أغضبها كتابه الأول، وقيل: أن الشيخ محمد عبده ومحمد المويلحي وسعد زغلول اتفقوا على أن يقدم قاسم الاعتذار للأميرة نازلي (عندما هاجم المرأة غير المتحجبة في كتابه المصريون) ودفع قاسم أمين الثمن غاليًا يتجنى على الحقائق ويحاول أن يلوي عنقها حتى خرج كتابه "تحرير المرأة".
وجاء في كتابه "المرأة الجديدة" فخرج عن أفكاره الأصلية التي كانت تعلي من شأن المدنية الإسلامية.(1/99)
واتجه إلى حجاب المرأة المسلمة وأخذ يحاول أن يدلل على أن حجاب المرأة ليس من الإسلام وأن الدعوة إلى السفور ليس فيها خروج عن صحائح الاسلام.
ومما علمه الاستشراق إياه: القول بأن الشريعة ليس فيها نص يوجب
الحجاب، على الطريقة المعهودة، وإنما هي (عادة) عرضت للمسلمين من
مخالطة الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وألبسوها لباس الدين ونسي قوِل الله
تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (1).
* مصطفى كامل يعارض حركة "تحرير المرأة":
ولقد عارض الزعيم مصطفى كامل هذه الحركة المشبوهة "حركة تحرير المرأة" وربط بين هذا الاتجاه وبين الاستعمار على أنه وسيلة من وسائله في القضاء على مقومات الأمة، والبقية الباقية من أخلاقها ومعنوياتها .. وهكذا سارع الزعيم الشاب إلى مقاومة هذه الحركة الخائنة، وتحذير الأمة منها، فأشار إليها في أول اجتماع عام عقده عقب صدور هذا الكتاب، وذلك في 5 شعبان سنة 1317 الموافق 18 سبتمبر سنة 1899 حيث قال: "إني لست ممن يرون أن تربية البنات يجب أن تكون على المبادئ الأوروبية، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا على مستقبل الأمة، فنحن مصريون ويجب أن نبقى كذلك، ولكل أمة مدنية خاصة بها، فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليدًا أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله، فالحجاب في الشرق عصمة وأي عصمة، فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم السليم
__________
(1) المصدر السابق (ص 147 - 148).(1/100)
الصحيح، وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة ركيكة غير نافعة هو تعليم الدين".
وقد ظل مصطفى كامل حربًا عوانًا على هذه الحركة، حتى إذا ما أُنشئت جريدة اللواء سنة 1900 كانت صفحاتها ميدانًا عظيمًا لكل طاعن على قاسم أمين وأفكاره وعصابته الاستعمارية من الخونة والأذناب.
ومما يجدر بالذكر ما كتبه الزعيم مصطفى كامل -رحمه الله- هتكًا لستار هذه الحركة وكشفًا لصلتها الوثيقة بالاستعمار ذلك المقال الذي نشره في اللواء بتاريخ 9 فبراير سنة 1901 وقد جاء فيه ما نصّه:
"هذا .. وقد انتشر خبر الكتاب "تحرير المرأة" في جهات من الهند، واهتم الإنجليز بترجمته وبث قضاياه، "وإذاعة مسائله، اهتمامًا عظيمًا لما وراء العمل به من فائدة لهم .. وعلم به سلطان ملديفي، وبلغه في هذه الأيام خبر كتاب "المرأة الجديدة" الذي أخرجه أخيرًا قاسم أمين ليدعم به أمر كتابه الأول ويفتح به آفاقًا جديدة لتحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم، ولما سُئِل السلطان المذكور عن رأيه في هذه الاتجاهات قال:
"أما تعليم النساء المسلمات فقد أصبح من المسائل الحيوية للإسلام والمسلمين، ولكنه لو مال عن طريق الشريعة الغرّاء إلى خطة مدنية الغرب الغبراء، كان معولاً لهدم أركان الإسلام وفأسًا لفتح القبور لأبنائه ودسّهم فيها وهم أحياء، أما رفع الحجاب فلا أرضاه لنسائي وبلادي، وأما حق المرأة وحق طلاق زوجها فدعوة لا تصدر من معترف بقول الله في كتابه: {الرجال قوامون على النساء} فنسأل الله السلامة".
ولم يقتصر مصطفى كامل -رحمه الله- في محاربته لهذه الدعوة الاستعمارية علي بيان خطرها على الكيان الوطني والاجتماعي فحسب، ولكنه اهتم بتفنيدها من الناحية الدينية والفقهية، وأفسح لعلماء المسلمين(1/101)
المجال الأعظم في جريدة اللواء لإبداء رأي الإسلام فيها وفي أصحابها. ومن هذه البحوث التاريخية ذلك البحث الذي وضعه السيد عبد الله جمال الدين، ونشرته له اللواء في عددها رقم 456، 457 بتاريخ 25، 26 من ذي الحجة سنة 1318 هـ أي في أواخر 4 سنة 1900 ميلادية.
ولما توفي قاسم أوحى الإنجليز إلى شيعته بإقامة حفلة تأبين له، فأقاموا هذه الحفلة وأشاروا فيها بدعوته إلى السفور .. فقابل رجال الحزب الوطني هذه الحركة بإقامة احتفال كبير للدعوة إلى الحجاب ولإبراز أصابع الإنجليز في فتنة السفور" (1).
* سعد زغلول وما أدراك ما سعد؟!
تكلمنا عن سعد زغلول، وفضحنا مواقفة المشبوهة، وبيّنا علاقته بالإنجليز واللورد كرومر .. ولعب زعيم المصريين للقمار (2) واسلمي يا مصر!!
أما صلته بحركة "تحرير المرأة" المشبوهة فقد أكدها بصفة قاطعة سكرتير سعد فقد ذكر أن سعدًا هو الزعيم الحقيقي للحركة النسائية مستشهدًا بخطابه الذي ألقاه بمناسبة زيارة وفد مختلط من طلبة مدرسة الحقوق الفرنسية لمصر، ومنه:
"إنني من أنصار تحرير المرأة ومن المقتنعين به؛ لأنه بغير هذا التحرير لا نستطيع بلوغ غايتنا ويقيني بهذا ليس وليد اليوم بل هو قديم العهد فقد شاركت منذ أمد بعيد صديقي المرحوم قاسم بك أمين في أفكاره التي ضمنها كتابه الذي أهداه لي (يريد كتاب المرأة الجديدة) .. " (3).
__________
(1) "الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالإستعمار والصهيونية العالمية" لمحمد فهمي عبد الوهاب (ص 16 - 19).
(2) انظر "زهر البساتين في مواقف العلماء والربانيين".
(3) "سعد زغلول" لمحمد إبراهيم الجزيري (ص 203).(1/102)
ويضيف الكاتب أن زوجة سعد كانت مثقفة ثقافة فرنسية، وأنه كان يمنحها الحرية الكاملة (! ) ويبدو من مسيرة زوجة سعد أنها أول زوجة زعيم سياسي عربي -تقريبًا- تظهر معه سافرة في المحافل والصور، وتتسمى على الطريقة الغربية "صفية زغلول" كما أنها أول من اتخذت بدعة لقب "أم المصريين" (1).
ويذكر الكاتب أن "صفية زغلول" هي الزعيمة النسائية الحقيقية لكنها آثرت ألا تظهر ذلك وأسندت هي وزوجها الأمر إلى هدى شعراوي التي عينها سعد "رئيسة لجنة الوفد المركزية للسيدات" (2).
على أن سكرتير الزعيم يثبت -دون أن يدري- إدانة الزعيم والحركة النسائية وارتباطهما بالاستعمار، وذلك في معرض حديثه عن صديقة سعد "منيرة ثابت" الملقبة "الفتاة الثائرة" و"أول صحفية مصرية" فهو يقول:
"كانت الوزارة الزيورية تضطهد الصحافة الوفدية وتغلق جرائدها واحدة بعد أخرى ولا تسمح لوفدي بأية رخصة جديدة، وعلى حين فجأة غابت الآنسة منيرة ثابت أيامًا عن بيت الأمة ثم عادت تحمل رخصتين لصحيفتين جديدتين باسم "الأمل" و"لسبوار" أولاهما عربية سياسية أسبوعية والثانية فرنسية سياسية يومية، وقدمتهما للرئيس (سعد) لتكونا رهن تصرفه أما كيف حصلت على الرخصتين فلا أعرف عنه إلى اليوم شيئًا" (3). ثم تطور الأمر إلى تشكيل أحزاب نسائية أهمها الحزب النسائي (1945) وحزب بنت النيل (1949)، وقد نشرت الصحف المصرية نفسها فضائح عن هذه الأحزاب تثبت أنها كانت تتلقى الأموال من السفارات الغربية لا سيما الأميركية
__________
(1) المصدر السابق (ص 204).
(2) المصدر السابق (ص 208).
(3) المصدر السابق (ص 212).(1/103)
والإنجليزية (1).
ومن أجل ذلك كان سعد زغلول هو الرجل الذي أهداه قاسم أمين كتابه "المرأة الجديدة" وكان لسعد موقفه من المرأة في المظاهرات حيث انتزع النقاب من وجه (هدى شعراوي) علامة على الدخول في عصر السفور (2).
* هدى شعراوي زعيمة ما يسمى بحركة النهضة النسائية وصلتها بالاستعمار:
رائدة "حركة النهضة النسائية" وقد التف حولها "سيزا نبراوي" سكرتيرتها ومنيرة ثابت وباحثة البادية وعصبة ممن خلعن رداء الحياء وسخرن أنفسهن لخدمة الدوائر الصليبية.
اشتد الحماس لهذه الحركة -في فترة عصيبة حرجة- وهذا التوقيت المشبوه يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها! - ذلك أنه في سنة 1919 هبت مصر في وجه الاستعمار ووقف الشعب بشجاعة مع عدد من المخلصين حقيقة يطالب بحقه من الحرية والحياة، وفي تلك الظروف الصاخبة التي تتميز بالغليان والاضطراب وفي غمرة الثورة العارمة نشطت دعوتان مريبتان متآخيتان، إحداهما استغلت ظروف الثورة لسلخ الأمة عن انتمائها وهي الدعوة إلى اللادينية تحت ستار الشعار الذي رفعته الزعامات المصطنعة "الدين لله والوطن للجميع" والأخرى: دعت إلى نسف الفضائل الإسلامية من خلال دعوتها إلى "تحرير المرأة".
في ذلك الجو العاصف انبرت هدى ورفيقاتها للدفاع عن حقوق الوطن وطرد المحتلين ولكن بماذا؟ لقد خرجن في مظاهرة ومزقن الحجاب وأحرقنه
__________
(1) انظر "الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار" لمحمد عطية خميس (ص 89).
(2) انظر "جيل العمالقة" لأنور الجندي (ص 144).(1/104)
في ميدان عام (1)، وكان هذا أعظم إسهام منهن في الثورة، وإذ حدث أن الجنود البريطانيين -لحاجة في نفس يعقوب- طوقوا الشوارع ساعة المظاهرة واعتدوا على بعض المتظاهرات- فقد بدا ذلك في أعين الشعب محاولة من بريطانيا لمنع المرأة المصرية من التحرر، وبذلك اكتسبت الحركة صفة البطولة الوطنية!! (2).
وتظهر الحقيقة أجلى وأوضح إذ علمنا أنه في تلك الفترة نفسها كان أتاتورك يهدم الإسلام تحت زيف البطولة الوطنية أيضًا.
لقد اعتبرت هذه البطولة مبررًا كافيًا للانقضاض على الأخلاق بل لمهاجمة أحكام الإسلام علانية، إذ ردد دعاة الإباحية قولهم: أليس الجنس اللطيف الذي أدى دوره في الثورة الوطنية بإخلاص جديرًا بأن يتساوى في كل شيء مع الجنس الخشن؟ أتريدون أن تقدم المرأة للوطن كل شيء ولا يقدم الوطن لها شيئًا؟!.
ولكن الحق لم يلبث أن انشكف واذا بالحركة النسائية في حقيقتها حركة عميلة مريبة ترتبط خارجيًا بالدوائر الأستعمارية وداخليًا بالزعماء المصطنعين.
أما ارتباطها بالاستعمار -والجمعيات التبشيرية خاصة- فيؤيده خطاب هدى شعراوي الذي ألقته في مؤتمر الأتحاد النسائي الدولي بروما، وهذه مقدمته:
"إنه ليسرني حقيقًا أن أرى نفسي بينكن في هذه الجمعية المحترمة التي أمكن للمراة المصرية أن تجيء لتناقش في حقوقها لأول مرة في التاريخ، وأنه لما يدعوني إلى الأغتباط والفخر اختياري لإظهار تلك الرابطة بين بنات النيل
__________
(1) ولماذا يمزقن الحجاب، وهل بتمزيق الحجاب يطرد المحتل، وانظر إلى تسمية الميدان "بميدان التحرير"!! التحرر من أي شيء!! وكم ذا بمصر من المبكيات؟!.
(2) انظر كتاب "سعد رغلول" بقلم سكرتيره: محمد إبراهيم الجزيري (ص 203) فيما بعد.(1/105)
وأخواتهن فى أوربا" (1)
وتختتم خطابها قائلة:
"والآن قبل أن أعود أرجو أن تسمحن لي أيتها السيدات على طلبكن بإلحاح إبداء الرغبة في إشراك المرأة المصرية في واجب "الاتحاد" الجليل ولنا عظيم الرجاء في أن نصل بفضل نصائحكن الغالية التي نعتبرها السبيل الهادي والنسج على منوالكن الذي نجد فيه خير كفيل إلى تحقيق آمالنا ورغائبنا، ونضع تحت تصرفكن أنفسنا في خدمة مبادئكن ونشر آرائكن" (2).
* ملابسات زعامة هدى شعراوي ابنة محمد سلطان خائن بلاده وعميل الإِنجليز للحركة النسائية:
يقول الأستاذ أنور الجندي: "أما ما هي ملابسات زعامة هدى شعراوي للحركة النسوية، فالواقع أن هناك عدة ملابسات لا يفسرها إلا فهم تاريخ الحركة الوطنية في مصر لرجلين: أحدهما والدها محمد سلطان، والآخر زوجها على باشا شعراوي أما والدها محمد سلطان فيقول الدكتور عبدالعزيز رفاعي في كتابه "محمد سلطان أمام محكمة التاريخ ": إنه كان من أعلام الثورة العرابية، ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديوي والإنجليز .. حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير .. وقد أثبت ما أورده السيد محمد رشيد رضا في كتابه "الأستاذ الإمام محمد عبده" (1/ 258، 259) عن الدور الذي لعبه محمد سلطان في خدمة مخابرات الإنجليز في سبيل الوصول إلى معسكر العرابيين في التل الكبير. وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد
__________
(1) "المرأة وآراء الفلاسفة" لحسين فوزي (ص 142) - مصر 1344 هـ.
(2) المصدر السابق (ص 144)، وانظر "العلمانية" (ص 633 - 634).(1/106)
والإسماعيلية بجيش عرابي معلنًا الثقة في الجيش الغازي ومطمئنًا الأهالي على حياتهم وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاءَ المصريين، وأبان لهم أنهم لا يستهدفون غزو البلاد. بل يستهدفون تأديب العصاة وتابع سلطان باشا نشاطه فأخذ يفرق الناس عن عرابي. ويجمعهم لمعاونة الإنجليز فأرسل إلى شيخ بدو الهنادي المقيم في الصالحية. ويدعى سعود العماوي والآخر إلى محمد صالح الحوت ليتفق معهما على استمالة العربان ولم يكتف محمد سلطان بنشاطه في الجاسوسية وبث الدسائس في منطقة القناة وفي ميدان المعركة. بل مد نشاطه إلى داخل البلاد ليقضي على كل معاونة شعبية لحركة عرابي. ورافق (ولسلي) قائد القوات البريطانية للتفاوض مع مشايخ العربان، كما كانت الأموال التي أعدها الخديو لرشوة شيوخ البدو في عهدة سلطان (راجع بلنت: التاريخ السري ومذكرة سلطان إلى الخديو في الإسماعيلية بدار المحفوظات التاريخية دوسيه رقم 2). وكان سلطان هو الذي أبلغ الخديو هزيمة عرابي. ودخل سلطان القاهرة مزهوًا يتطلع لفجر جديد في حياته بعد أن سجل خيانته، وكتب تاريخها بنفسه. وقلده الخديو النيشان المجيدي الأول رفيع الشأن ووضعه على صدره بيده، وأعطاه عشرة آلاف جنيه تعويضًا للأضرار التي ألحقت به ثم عينه رئيسًا لمجلس شورى ولكن ضربة القدر لم تمهله ليتمتع بما اشترى من أطيان فداهمه مرض السرطان واشتد به المرض وتوفي في أوربا سنة 1884، وقد أنعم الإنجليز عليه بنيشان سان ميشيل وسان جورج الذي يخول صاحبه لقب "سير". هذه هي خلفية الحياة الاجتماعية لقائدة النهضة النسوية والتي تزوجت وهي في الرابعة عشرة من رجل غني موسر صديق لوالدها يبلغ الخمسين من العمر هو على شعراوي باشا أحد الثلاثة الكبار الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (سعد زغلول وعبد العزيز فهمي) بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالي للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ولم يلبث شعراوي باشا أن توفي وقد كان الثلاثة هم دعاة الولاء(1/107)
البريطاني والتعامل مع الإنجليز والشاجبين لمفاهيم الحزب الوطني في المفاوضة قبل الجلاء. ولقد وجدت السيدة هدى شعراوي الفرصة سانحة للتبرير خاصة وأن السيدة صفية زغلول -ابنة مصطفى فهمي الذي حكم مصر بالحديد والنار خلال أول مراحل الأستعمار البريطاني ثلاثة عشر عامًا وزوج سعد زغلول والمسماة بأسماء الأضداد (أم المصريين) - تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت أن تفتح مجالا جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة وخاصة وأنها نزعت نقابها في ثورة 1919. ولقد تلقفتها جماعات تحرير المرأة العالمية والمنبثة في أوربا وخاصة في باريس وبرلين وبروكسل والتابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية، ووجدت فيها طيرًا سمينًا فدعتها إلى حضور المؤتمرات النسوية العالمية التي كانت الصهيونية العالمية تديرها من وراء ستار، والتي كانت تستهدف إحداث الضجيج حول حقوق المرأة السياسية في البرلمان والحكم وخلخلة المجتمعات الإسلامية ودفعها إلى طريق الانهيار والمعروف أن هدى شعراوي لم تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي. بل على العكس من ذلك كانت سيدة سافرة برزة لها صالون ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التي كانت تلقيها في الاحتفالات وكانت تنفق على ذلك من أموال سلطان باشا التي دفعت ثمنها الثورة العرابية.
ودعت إلى تلك الأفكار التي تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية، والانطلاق حتى كان أحدهم يقول لواحدة سألته: "لو كنت بغير أولاد لقلت لك اتركيه ورزقك ورزق قلبك على الله".
والمعروف أن السيدة هدى شعراوي لم تكن تعبأ في دعوتها بالمفهوم الإسلامي للمرأة، أو تصدر عن فهم حقيقي لرسالة البيت والأُسرة، ولم تكن تتحرك في هذا الإطار. وإنما كانت تضع أمامها المرأة الغربية كمثل أعلى. ولذلك فقد شجعت أسباب الزينة والأزياء والمودات المستحدثة.(1/108)
وكانت أجنحتها من المثقفات ثقافة فرنسية، وذلك الولاء الماركسي والصهيوني، ولم يكن للمفهوم الإسلامي لديهن أي أهمية.
ويقول الأستاذ حسين يوسف: إنه لم يكن عجبًا أن يعمل الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعراوي للأهداف التي يحرص الاحتلال على الوصول إليها. وأن يردد في عام 1923 نفس المبادئ التي نادى بها مرقص فهمي من قبل، ومن بعده قاسم أمين. ولما كان دعاة تدمير مفاهيم المرأة المسلمة لا ينامون فإنهم يدعون اليوم إلى تجديد ذكرى هدى شعراوي بإقامة تمثال لها.
والهدف هو دعم هذه الأفكار المسمومة التي تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم" (1).
* لطفي السيد وأُكذوبة أستاذ الجيل:
هو أستاذ الجيل المُسْتَعَبد للغرب، المعلن عداوته للثقافة الإسلامية واللغة العربية .. هو أستاذ التغريبيين وسار معه في فلكه زميله ورفيق عمره عبدالعزيز فهمي، وزوج أخته إسماعيل مظهر ثم صديقه الحميم طه حسين ..
ولذا لم يكن غريبًا عليَّ أن أقرأ أن عبد الناصر فكر في إسناد رئاسة جمهورية مصر إليه بعد قيام الثورة!!
ولعل تسليط شيء من: الضوء على حياة لطفي السيد -أستاذ الجيل كما سموه ومحور هذه الدعوى- يعطينا لمحة عن دوافع الفكرة وأهدافها:
كان لطفي السيد من أخلص تلاميذ محمد عبده له وأتيحت له الفرصة أكثر من شيخه إذ عاش بعده ما يزيد على أربعين سنة أي أنه عمر أكثر من تسعين عامًا.
__________
(1) "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل - عالم الإسلام المعاصر" لأنور الجندي (3/ 664 - 666)، وانظر "جيل العمالقة" (ص 140) وما بعدها.(1/109)
وأهم مناصبه الثقافية توليه لإدارة الجامعة المصرية عند تأسيسها، ثم توليه لوزارة المعارف آخر عمره.
ْأما أعماله السياسية فقد كان أحد زعماء حزب الأمة باعتباره رئيس تحرير "الجريدة" صحيفة الحزب واشتهر بعداوته لفكرة الجامعة الإسلامية ورفعه شعار مصر للمصريين وشعار "سياسة المنافع لا سياسة العواطف" (1).
ولا يستطيع الكاتبون عن حياته أن يخفوا أنه فاوض "كِتْشْنَر" ثم "جراهام" على أن تنفصل مصر عن تركيا وتصبح دولة مستقلة يحكمها الخديوي تحت وصاية بريطانية (2). أما فكره فكان متأثرًا جدًّا بداروين ومل وروسو وأضرابهم من الغربيين (3) وكان مع كل ناعق من دعاة التفرنج والعصرية فقد "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ بها من كاتب أو صحفي آخر" (4).
وعندما أصدرت الحكومة قرارًا بنقل صديقه وشريك دعوته طه حسين من الجامعة -بسبب الضجة التي ثارت حوله- لم يسع لطفي السيد إلا أن يقدم استقالته من منصب وزير المعارف احتجاجًا على ذلك (5).
ومع زعمه أن الفصحى معقدة وقديمة نراه يمضي ربع قرن من حياته في ترجمة كتب أرسطو (6).
وقد ذكر مؤرخ حياته حسين فوزي النجار بعض الحوادث التي تدل -
__________
(1) انظر كتاب "أحمد لطفي السيد" لحسين فوزي النجار (ص 183)، وفيما يتعلق بشعار مصر للمصريين انظر ما كتبه برنارد لويس في "الغرب والشرق الأوسط" (ص 122).
(2) "أحمد لطفي السيد" (ص 187 - 190).
(3) "أحمد لطفي السيد" (ص 94 - 177).
(4) المصدر السابق (ص 214).
(5) المصدر السابق (ص 278).
(6) المصدر السابق (ص 89) - الحاشية.(1/110)
كما يرى- على أنه كان لا يؤمن بالغيبيات والقوى الخفية (1).
وقد عطل لطفي السيد لتأخر مصر وتقدم الغرب بأن مصر تستعمل لغتين لغة للثقافة وأُخرى للتخاطب، والحل الذي رآه وقدم له الاقتراحات الكثيرة هو النزول بالفصحى إلى مستوى العامية حتى يتم مع الزمن توحيد اللغتين في لغة واحدة -هي بالطبع- "العامية" (2).
أما زميله الأول عبد العزيز فهمي فقد كان أكثر جرأة منه حين دعا إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية وهي الدعوة التي ولدت -لحسن الحظ- ميتة! ..
وأما صديقه طه حسين فقد كانت دعوته للعامية صدى واضحًا لكتابات المستشرقين. وكذلك آراؤه في الشعر الجاهلي، ورحم الله الرافعي فقد فضح هذه الدعوى وعرّى كاتبها (3).
لقد كان كل دعاة العامية أناسًا مشبوهين وصلتهم بالدوائر الاستعمارية واضحة وذلك ما يؤكد أنها كانت جزءًا من المخطط اليهودي الصليبي للقضاء على الإسلام، بل إنه من المؤكد أن الدعوة العامية إنما ظهرت أصلاً من أفكار المستعمرين وفي أحضان المبشرين يتضح ذلك من أسماء دعاتها الأوائل أمثال (بوريان وماسبيرو) (4).
وجدير بالذكر أن الذي خلف عبد العزيز فهمي في المجمع اللغوي هو توفيق الحكيم الذي دعا إلى قاعدة "سكّن تسلم" (5)! وليس لمثل هذه
__________
(1) المصدر السابق (ص 92).
(2) انظر بعض مقترحاته للموضوع في (فقه اللغه) لعلي عبد الواحد وافي (ص 184).
(3) انظر كتابه "تحت راية القرآن".
(4) انظر "حصوننا مهددة من داخلها" (ص 251).
(5) انظر "زعماء وفنانون وأدباء" لكامل الشناوي (ص 181).(1/111)
الدعوى ثمرة حنظل إلا أن تفتح كليات اللغة العربية والأداب في البلاد العربية الباب لما أسموه "التراث أو الأدب الشعبي" وأن تحضر فيه رسائل جامعية عليا. على أن الفكرة لم تقتصر على مصر.
* اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية من الغرب:
الأمر على مناهج كرومر ودنلوب، فقد كان أذيال الفكر الغربي لا يقلون عنهما رغبة في صبغ مصر والعالم الإسلامي بالصبغة اللادينية الغربية.
وقد كان من أهداف أعداء الإسلام ما أوصى به مؤتمر القاهرة التبشيري المنعقد سنة 1906 من وجوب إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعة الفرنسية (1) لمناهضة الأزهر والذي قالوا: أنه "يتهدد كنيسة المسيح بالخطر"!.
وقد قام الأذيال بتنفيذ المهمة إذ أنه بعد انتهاء المؤتمر بسنتين تقريبًا أسس سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وزملاؤهم الجامعة المصرية، وكان النص الأول من شروط إنشائها هو: ألا تختص بجنس أو دين بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم فتكون واسطة للألفة بينهم" (2).
وهذا الشرط الجائر -في جامعة تقوم في بلد مسلم وعلى نفقات شعب مسلم- انعكست آثاره على مناهج التعليم في الجامعة، فلم يكن من بينها شيء من علوم الإسلام احترامًا لمشاعر القلة غير المسلمة، وهكذا كان التعليم الجامعي الحديث علمانيًّا من البداية، وكان نتاجه تلك الجموع المستَعبَدة للغرب فكرًا وسلوكًا، النافرة من دين آبائها وأجدادها.
ولم يكن الأمر مقصورًا على المناهج بل تعدّاها إلى أسلوب التربية وفلسفة السلوك فقد طبق لطفي السيد الاختلاط بين الذكور والإناث في
__________
(1) "الغارة على العالم الإسلامي" (ص 7).
(2) "أحمد لطفي السيد" (ص 262).(1/112)
الجامعة المصرية التي كانت مركزًا لأنصار دعوة قاسم أمين المريبة، واستطاع لطفي السيد أن يتحدى الرأي الإسلامي بقوة واقتدار، معلنًا ذلك للملأ بقوله بالنص: "ويتصل بخطأ الجماهير في فهم رسالة الجامعة وهي مسألة كانت قليلة الأنصار في الرأي العام. وفي هذا المقام يسرني أن أؤكد لكم أني لم أتعرض إلى جزئية من الجزئيات تجلعني أندم ولو وقتيًّا على ما شرعته الجامعة من هذه الخطة من غير أن تستفتي الرأي العام" (1).
كما أدخل التقاليد الغربية المنافية للإسلام في صلب النظام الجامعي،. إذ شيدت في إطاره معاهد التمثيل والنحت والموسيقى، كيف لا وقد قال قاسم أمين صديق لطفي السيد في كتابه "كلمات": "لعل أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير والموسيقى" (2).
والمؤسف ما أثبته العقاد من أن دراسة الفنون الجميلة من بنات أفكار محمد عبده" (3)!!!.
ً * أنور الجندي يُعَرّي أستاذ الجيل المزيَّف:
قال -رحمه الله- تحت عنوان: "لطفي السيد .. وأكذوبة أستاذ الجيل" (4):
خلفت لنا فترة التبعية للغرب مُسَلَّمات خطيرة وكلمات دخيلة وحاولت سُحُب كثيرة من سُحُب الغزو الفكري والتغريب أن ترسم صورة خادعة لبعض الشخصيات وكان أخطر ما أطلق في هذه الفترة كلمة عميد الأدب
__________
(1) "الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار" لمحمد فهمي (ص 29).
(2) "قاسم أمين" (ص39).
(3) انظر فصل "الفنون الجميلة من كتاب "محمد عبده" لعباس العقاد -سلسلة أعلام العرب- مصر.
(4) انظر "جيل العمالقة والقمم الشوامخ" لأنور الجندي (ص35 - 57).(1/113)
على الدكتور طه حسين وأستاذ الجيل علَى لطفي السيد فإلى أي مدى كان هذا اللقب صحيحًا بالنسبة لمنشئ حزب الأمة ومترجم أرسطو والخصم الأول للعروبة وللوحدة الإسلامية جميعًا.
وفي الحق إن اسم لطفي السيد لمع لمعانًا شديدًا وخُدع به كثيرون وكان لامتداد العمر وتغير الأوضاع واقتناص بعض الفرص التي جاءت بها الظروف عاملاً من عوامل القداسة التي منيت بها مثل هذه الشخصيات بالرغم من فساد جوهرها.
وليس علينا أن نصدر حكمًا جازمًا على شخصية ما، يسلم به الجميع ولكن علينا أن نلقي الأضواء الكاشفة على مثل هذه الشخصية من واقع التاريخ وبالوثائق الثابتة ثم ندع القارئ ليحكم هو: هل كان لطفي السيد حقيقة أستاذ الجيل وأي جيل:
أولاً: الدعوة إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان باعتبار أنهم وحدهم الذين سيتولون الحكم ومقاومة تعليم سواد الأمة ومعارضة الاتجاه إلى المجانية وذلك حتى يمكن المحافظة على وجود طبقة معينة تتولى حكم البلاد دون أن يتاح ذلك لباقي أفراد الشعب.
وقد رد عليه مصطفى كامل صاحب اللواء رئيس الحزب الوطني ولخص آراءه وكشف عن فسادها.
ثانياً: الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيدًا الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمبشرون (مولار - وبلكوكس) وكان أبرز ما دعا إليه إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة وتسكين أواخر الكلمات وإحياء الكلمات العامية والمتداولة وإدخالها في صلب اللغة الفصحى والنزول باللغة المكتوبة إلي ميدان التخاطب العامي وكانت وجهة دعوته: تمصير العربية بإحياء العامية (مقالاته في الجريدة خلال شهري أبريل ومايو 1913). وقد(1/114)
رد عليه عبد الرحمن البرقوقي ومصطفى صادق الرافعي بما يكشف زيف هذا الاتجاه.
ثالثًا: مقاومة التضامن العربي الإسلامي وقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911 وكتب في هذا المعنى تحت عنوان "سياسة المنافع، لا سياسة العواطف" مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضمن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم وقد أثارت هذه المقالات على لطفي السيد عاصفة بل وطعنًا جارحًا على حد تعبير تلميذه الدكتور محمد حسين هيكل في مذكراته.
رابعًا: أيد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية في التعاون مع الجاليات المسيطرة المحلية ودعا إلى أن تملك هذه الجاليات في الأراضي المصرية فيكون لها الحق في التملك والسيطرة على البنوك والتجارة وغيرها.
خامسًا: مجد اللورد كرومر: الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن مسيطرًا على سياسة البلاد وساحقًا لكرامتها ومغتصبًا لثروتها وحياتها وحيّاه يوم خروجه من البلاد تحية الأبطال وقال عنه:
"أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندًا له يضارعه في عظائم الأعمال: هو اللورد كرومر، وقال: لو بقي اللورد كرومر عامًا واحدًا في منصبه لعد عيده الذهبي في خدمة دولته، نشر هذا في الجريدة في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعًا وقال لهم أن الاحتلال البريطاني باقٍ إلى الأبد.
سادسًا: رسم لطفي السيد خلال عمله في الجريدة (1907 - 1914) منهجًا للحياة الأجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبي والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة(1/115)
ماكرة خادعة هي (مصر للمصريين) وقاوم بهذا الفكر ذلك الأتجاه الأصيل الذي كان يحمل لواء دعاة الوطنية الصادقة والفكر الإسلامي النير وكون مدرسة تحقق لها بعد الحرب العالمية الأولى السيطرة على مقدرات الأمور بعد أن أقصى رجال الوطنية الحقة.
سابعًا: تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) "السياسة. الكون والفساد. الأخلاق" وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة.
ومنهم (الأستاذ أحمد عابدين مدير دار الكتب السابق ولا يزال حيًّا يرزق).
ثامنًا: بالرغم من دعوة لطفي السيد العريضة إلى الدستور والحرية فإن الوزارات التي قبل الاشتراك فيها كانت كلها تتسم بطابع واحد فهي جميعًا وزارات انقلاب ضد الدستور والبرلمان والحريات العامة.
يقول الأستاذ فاروق عبد القادر: أن الباحث في لطفي السيد ليس بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض كيف للرجل الذي كتب مطالبًا بالدستور مدافعًا عن الحرية أن يشترك في وزارات عبثت بالدستور وصادرت الحرية، كيف يشترك في وزارات طابعها الإرهاب والسطو على الحريات.
تاسعًا: إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم) أصحاب المصالح الحقيقية، وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على إيجاد شرعية للاحتلال مع الدعوة إلى المهادنة مع الغاصب وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء.(1/116)
هذه مجموعة من الخطوط العامة نضعها بين يدي القارئ العربي المثقف دون أن نقدم حكمًا على لطفي السيد وندعه هو أن يصدر هذا الحكم. ولقد تعددت المصادر والأبحاث التي تكشف حقيقة هذا الرجل فليرجع إليها من يشاء وكلها تجمع على أن هذه الدعوة التي حملها لطفي السيد إنما هي خطة دقيقة محكمة من خطط الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، فإن اللورد كرومر أراد في إطار عمل مرسوم أن ينشئ في مصر جيلاً جديدًا يسير في ركب الاستعمار معجبًا به مقدرًا له ومحبًا، ولذلك عمل خلال عشرين سنة أو يزيد على صياغة هذا الجيل عن طريق المدرسة وعن طريق الثقافة، وكانت دعوته الملحة الحارة أن بريطانيا ستسلم مصر لأبنائها متى ظهر هذا الجيل الذي يعمل بالتعاون مع الاستعمار، ولفت نظر الشباب المتعلم وهم جميعًا من أبناء الطبقة التي أنشاها النفوذ الاستعماري وسودها وجعلها مركز القيادة السياسية إلى أنهم هم حكام مصر في المستقبل القريب .. وكان حريصًا على أن تتشكل هذه القوة أو هذا الحزب في نفس الوقت الذي كان الاحتلال يضرب القوى الوطنية وأصحاب الأصالة ليقضي عليهم ويفرغ البلاد منهم ويسلمها لهذا الجيل الذي كان من قيادته: لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي وقد تشكل حزب الأمة من مجموعة من أصحاب النفوذ وكبار الباشوات والملاك مثال محمود سليمان وحسين عبد الرازق وحمد الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبد الرحيم الدمرداش والطرزي وغيرهم وكان رأي هؤلاء أن السلطة الفعلية قد آلت كلها إلى كرومر الذي يمثل سلطة الاحتلال وأن مصالحهم الشخصية تقضي عليهم أن يكونوا على وفاق معهم فألفوا حزبهم بصفة رسمية في 21 سبتمبر 1907 برئاسة محمود سليمان باشا وتولى لطفي السيد قيادة فكرهم وصحيفتهم التي جمعوا لها في ذلك الوقت مبلغ 30 ألف جنيه: وقد ظهرت الجريدة في 9 مارس 1907 تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة وترى أن عدم الاعتراف بشريعته لا يعني عدم(1/117)
وجوده ولا يقلل من سلطته ونفوذه وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين ماضون في طريقهم مستقلون بتصريف الأمور، رضي المصريون بذلك أم كرهوا وأن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة لم تتوفر للمصريين وأن دعاة الحركة خياليون ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته وأنهم أصحاب خيال وتهريج.
وبذلك استطاع لطفي السيد أن يرسي مفاهيم الإقليمية المصرية الضيقة التي تكره العرب وتكره المسلمين وتعارض كل تقارب وكل صلة بل وتكره الاتصال بالفكر الإسلامي الذي هو أساس الثقافة والتعليم. وقد صور هذا المعنى مستشرق غربي هو ألبرت حوراني حين قال عن لطفي السيد ما يلي: كان يرى أن بريطانيا قوية وأن لها مصالح جوهرية في مصر وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها في مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية المصالح وإذن لا يمكن إخراجها بالقوة.
وقد أعلنت بريطانيا تجديد احتلالها وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد وأن مصلحة مصر تقتضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد وهكذا كان ينفث لطفي السيد سموم التثبيط والاسترخاء في وجه دعاة الوطنية ولا يقف عند هذا الحد بل يتهمهم بأنهم خياليون مغالون في الخيال ويتهم خطتهم بأنها ولاء لتركيا بينما لم يكن مصطفى كامل ومحمد فريد إلا دعاة إلى الحرية والاستقلال والجلاء دون أن يلينوا أي لين لتقبل وعود بريطانيا وكانوا في دعوتهم لا يستهدفون العودة إلى النفوذ التركي العثماني، وإنما كانوا يؤمنون بأن حركة الحرية يجب أن تتم داخل إطار أوسع من الإقليمية ويجب أن تكون في إطار الجامعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الأصلية التي كانت بريطانيا عن طريق حزب الأمة تهدف إلى تجريد المصريين منها ودفعهم إلى التبعية في التشريع والتعليم والاقتصاد لتكون مصر خاضعة تمام الخضوع(1/118)
للقانون الوضعي ولمفاهيم الغرب في التعليم والثقافة ولتنقطع الصلة تمامًا بين مصر وبين جيرانها عربًا ومسلمين وبين الفكر والثقافة في مصر وبين الفكر الإسلامي الأصيل المستمد من القرآن والسنة.
ولقد كان لطفي السيد في دعوته هذه ينتقص أهمية الأرضية الإسلامية للفكر والثقافة والتعليم ويغالي في التبعية للفكر الليبرالي الغربي الذي كان في هذه الفترة خصيصًا خصيما للدين والأخلاق.
يقول ألبرت حوراني: "إن الأنطباع القوي الذي تتركه قراءة مقالات لطفي السيد التي نشرها في الجريدة (وهي كل ثروته الفكرية) هو الأندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير رجل تتلمذ على (محمد عبده) لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة، وأنهم جزء من الأمة، لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره فلم يهتم بالدفاع عن الإسلام كالأفغاني، ولا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقي للمجتمع. وفي هذا يقول: لست ممن يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها، ولكني أقول: بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره، هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر.
وهكذا ترى أن مفهومه للأخلاق والدين مستمد من الفكر الغربي ويعلق حوراني فيقول: وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة. ويقول: لقد أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التي تؤدي إلى ازدهار المجتمع الإسلامي أو انحلاله.
بقدر ما تدور حول الشروط التي تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله، كذلك لم تكن المفاهيم التي أجاب بها على هذه الأسئلة هي مفاهيم للفكر(1/119)
الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوربي حول التقدم والمجتمع الأفضل.
ويقرر حوراني أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوربي:
أولاً: تفكير كونت، ورينان، وبلي، وسبنسر، ودوركايم الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه بحكم سنة التقدم نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وحلول التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العادات والأوضاع الراهنة.
ثانيًا: تفكير جوستاف لوبون الذي يقول بفكرة الطبع القومي، وأن كل شعب له بنية ذهنية ثابته بثبوت بنيته الجسدية.
ويقول الحوراني:
إن لطفي السيد يحدد فكرة الأمة على أساس الأرض، لا على أساس اللغة والدين، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية هي: أمة القاطنين أرض مصر، وكان شعوره بوجود مصر شديد بحيث أهمل الدين بالنسبة لعناصر الوحدة الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون في الأصل واللغة والدين.
ولا نستطيع أن نتجاوز عرض حياة لطفي السيد دون أن نذكر زيارته للجامعة العبرية في القدس 1924 واشتراكه في استقبال الوفد الصهيوني إلى مصر بزعامة الدكتور وايزمان حيث أقيم له حفل شاي بفندق الكونتيال 1926م" (1)
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 35 - 39).(1/120)
* حزب الأمة (الإنجليزي) ومفكره ومُنَظِّره لطفي السيد:
معلوم أن هذا الحزب من صنع كرومر، وتولى لطفي السيد قيادة فكره وصحيفته " الجريدة " وهو الذي احتضن الدعوة إلى تحرير المرأة، فكان لطفي السيد في مقدمة المروّجين لها على صفحات جريدة "الجريدة" وهي لسان الحزب المذكور. ومن المعروف أن أعضاء حزب الأمة الذين أطلق الإنجليز عليهم اسم "الرجال المعتدلون"؛ لأنهم حاربوا مصطفى كامل وناوؤه؛ لأنه جعل مبدأه في مقاومة الاستعمار يقوم على أساس الجلاء ووحدة وادي النيل، ووصفوه بالرجل العنيف .. وكفى حزب الأمة خزيًا وهوانًا وذلاً أن كان من زعمائه الهلباوي "جلاَّد دنشواي" وفتحي زغلول شقيق سعد زغلول وعضو المحكمة المخصوصة التي حكمت بما حكمت به في دنشواي والذي قال فيه أحمد شوقي:
إِذا ما جمعتم أمركم وهممتمُ ... بتقديم شيء للوكيل ثمين
خذوا حبل مشنوق بغير جريرةٍ ... وسروال مسجون وقيد سجينِ
ولا تقرءوا شعري عليه فحسبه ... من الشعر حكم خطّه بيمينِ
ولا تنشروه في شبرد (1) بل انشروا ... على ملأٍ في دنشواى حزين
* الحملة علي اللغة العربية، الفصحى والدعوة إِلى العامية:
كانت حملة لطفي السيد على اللغة العربية الفصحى هي أخطر الأعمال التي قام بها والتي دفعته بالتبعية؛ لأن يواصل الخطة التي بدأها الاستعمار البريطاني بقيادة ولكوكس وقد كانت محاولته ماكرة خبيثة بدأها في 1899
__________
(1) حيث أقيم حفل في شبرد لترقية أحمد فتحي زغلول وكيلاً لوزارة الحقانية بأمر من اللورد كرومر مكافأة له على حكمه في دنشواي على فلاحي دنشواي بالشنق والسجن والجلد.
وكان ممثل الاتهام إبراهيم الهلباوي.(1/121)
في مجلة الموسوعات حيث ادعى أن اللغة العربية أصبح تعلمها أبعد منالاً من تعلم اللغات الأجنبية، ودعا إلى تسكين حروف الهجاء وفك الإدغام، وإهمال الشكل، وسخر من هذه الضوابط كلها، ثم وسع نطاق الدعوة عام 1913 في جريدة الجريدة فكتب أكثر من سبع مقالات (إبريل- ومايو 1913) وهو في هذه الحملة كان خادعًا فهو لم يفاجئ القارئ بالحملة على اللغة العربية (وكذلك خصوم اللغة العربية يفعلون ذلك فلا يكشفون عن خصومتهم) بل يصدرون عن غيرة مفتعلة تدعوهم إلى ادعاء الحافظة عليها حين يوجهون سمومهم وهو لم يدع إلى ترك الكتابة بالفصحى إلى العامية بل تسلل إلى ذلك بطريقة فيها كثير من المكر والمداورة وكانت دعوته إلى إدخال الكلمات الأجنبية (الأتومبيل والبسكلت والجاكته والبنطلون وغيرها) إلى اللغة العربية، وقال: أنها دخلت اللغة فعلاً وأننا لا نستطيع أن نضع لها ولا لغيرها من المسميات الجديدة أسماء جديدة.
وقال: الأسماء الجديدة ما لها لو أخذناها (زي ماهية).
وقال: أن اللغة ملك للأمة وللكتاب الحرية في الزيادة عليها بأساليب جديدة وألفاظ جديدة، وأنه لا حرج على الكاتب أو المترجم أن يستعمل من الألفاظ ما شاء لما شاء من المعاني، ويقول: نريد أن لا نذر (اللغة العامية) أو لغة الشعب تموت بإبعاد عربيتها وفصيحها عن عالم الكتابة والعلم ونريد أن نرفع لغة العامة إلى الاستعمال الكتابي وننزل بالضروري من اللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب والتعامل، وقال: إن العامية وأسماها لغة، لها مشخصات ثابتة تحددها من جميع الجهات وتجعلها مميزة تميزًا تامًا ودعا إلى استعمال العامية في الكتابة.
وقال: إن كل الحروف تكون ساكنة ولا تتحرك إلا بحروف العلة".
هذه هي المؤامرة التي حمل لواءها لطفي السيد الذي اختير بعد ذلك(1/122)
رئيسًا لمجمع اللغة العربية وقد عاشت هذه الأفكار قائمة في حياته وفكره بل وعمل المجمع إلى تحقيقها بعد أن ضم إليه عدد من خصوم اللغة العربية أمثال طه حسين وعبد العزيز فهمي الذي دعا إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية ومن بعد ذلك عدد كبير من هؤلاء السطويين التغريبيين.
وقد وقف عبد الرحمن البرقوقي ومصطفى صادق الرافعي في مجلة البيان موقفًا حاسمًا جريئًا في الدفاع عن اللغة العربية وقد حملا لواء الاتهام للطفي السيد مؤمنين بأن القضاء على اللغة العربية هو قضاء على أقدس مقدسات الأمة الإسلامية.
وكتب مصطفى صادق الرافعي يرد عليه تحت عنوان: "الرأي العامي في اللغة العربية الفصحى:
زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في استوائها وجمالها كصفحة السماء فهل البلاغة العربية إلا تلك، وهل هذا أمر غير عربي بل وهل يعرفون -أصلحهم الله- أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يلفق لهما اعتصامًا واعتسافًا واستكراهًا إذ لا يفهم من كل ذلك شيئًا إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته.
ثم ما هو حكم العامي -وهو في كل أمة الطفل العلمي- بجانب أهل العلوم، أتراه يلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الطفل الصغير مع أبويه فلم لا تحمي العلوم وألفاظها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما تتراخى به شقة الفهم إذا تعاطاه ذهن العامي أو حاوله ويكون سداد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال.
وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في حد هذه الطفولة لم تر إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأقلام فهل يكبر عليهم أن(1/123)
يكبروا ويشيدوا وأن يساوقوا الفطرة في مجراها فيأخذوا الشيء بأسبابه ويأتوا الأمر من بابه، يصدرون رأيهم على جهل فإذا كشف لهم معناه وبصرتهم بمصايره ووقفت بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة أنكروا ما جئت به وحسبوك تمتري الكذب وأصروا واستكبروا استكبارًا لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون فالرأي هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما ينادى إليه.
اللغة مظهر من مظاهر التاريخ والتاريخ صفة الأمة فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدة أمة أخرى، فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهيروغليفية وأن في العربية سرًا خالدًا هو هذا الكتاب المبين (القرآن) الذي يجب أن يؤدى على وجهه العربي الصريح ويحكم منطقًا وإعرابًا بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها، ثم هذا المعنى الإسلامي (الدين) المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيم على الفطرة الإنسانية؛ والقرآن الكريم ليس كتابًا يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسب، إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عقده، وإن كانت وثيقة ولأتى عليه الزمان، أو بالحري لنفس من أمره شيء كثير عن الأمم ولاستبان منه مساغ للتحريف والتبديل من غال أو مبطل ولكانت عربيته الصريحه الخالصة عذرًا للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثبت لهم قدره على ذلك.
وليس يقول بهذا إلا ظنين قد انطوى صدره على غل واجتمع قلبه على داخلة مكروهة وإلا جاهل من طراز أولئك لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم، وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا بوجهه ولكن بتوجه معه ولا يقبل به ولكن يدبر به الرأي.(1/124)
إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة العربية فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكمًا حتى يتأذن الله بانقراض الخلق وطي هذا البسيط، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردهم إليها وأوجبها عليهم لما اطرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله ولما تماسكت أجزاء هذه الأمة ولا استقلت بها الوحدة الإسلامية، ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينها فلم يبق إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحقهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية -لا السياسية- فلا تتبين من آثارهم بعد ذلك إلا ما يثبت عن طريق الماء إذا انساب الجدول في المحيط، على أنك لو اعترضت على من يهجن العربية ويزري على سبكها لرأيته أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها ثم لرأيت له غرة في تاريخ قومها فهو أن عرف منه شيئًا فقد تجرد من ثمرة المعرفة كان يحفظ طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه الشيطان من المس، ثم ترى الآفة الكبرى أنه مستدرَج من حيث لا يعلم فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها ويجزي منفعة تاريخ علمه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه والناس أعداء ما يجهلون.
30 ربيع الثاني 1330 (البيان)
* سياسة الجريدة ورئيسها لطفي السيد:
قال الدكتور محمد محمد حسين: أن الجريدة كانت تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة، وترى أن الاعتراف بشرعيته لا تعني عدم وجوده ولا يقلل من سلطته أو نفوذه وقد دعا لطفي السيد إلى الولاء للثقافة الغربية والفكر الغربي وهاجم الحركة الوطنية وتأول تصرفات الاستعمار البريطاني وبرر وجوده في مصر وقدم مقاييس مختلفة عما كان يؤمن به التوجه الوطني والإسلامي في ذلك الوقت وأيد سعد زغلول في عدم تعليم العلوم باللغة(1/125)
العربية وتعليمها باللغات الأجنبية، ودعا إلى مقاومة تعليم سواد الأمة وعارض الاتجاه إلى المجانية ومجد مزايا السياسة البريطانية ومدح اللورد كرومر عدو الوطنية المصرية، وقال عنه: أنه رجل من أعاظم الرجال.
هذا هو النهج الذي سارت عليه الجريدة لسان حال حزب الأمة.
قال الشيخ عبد العزيز جاويش: أما الجريدة فإنها منذ اليوم الأول لها وهي موالية للاحتلال على نحو فيه ذكاء وبراعة فهي تدعي أنها تمثل وجهة نظر أصحاب المصالح الحقيقية وهم أصحاب البيوتات والقصور وممثلو الطبقة الارستقراطية المصرية التي كونها كرومر وقدمت ولاءها للإنجليز وتؤمن الجريدة بأن الاحتلال أمر واقع لا سبيل لمقاومته ومن المصلحة الانتفاع بما يمكن الحصول عليه، ولكن المواقف المتوالية كانت تكشف تبعية الجريدة يومًا
بعد يوم، ولم يكن طيبًا من الجريدة على لسان لطفي السيد فيلسوف الحرية أن تؤيد عودة قانون المطبوعات ومن رأي جاويش أنها فعلت ذلك لأنها تعلم أنه لن ينفذ عليها:
"وفي الوقت الذي يدعو فيه الحزب الوطني إلى مجلس الأمة المنتخب الممثل للأمة يذهب لطفي السيد إلى أن (مجلس الشورى) الذي صنعه الإنجليز يصح أن يطلق عليه مجلس الأمة، ويقول جاويش في استهلال إحدى معاركه مع مدير الجريدة:
"إذا سألنا مدير الجريدة عن المجلس الممثل للأمة، ذلك المجلس الذي نطالب به ونلح في طلبه؛ لأننا الآن محرومون من مجلس يمثل الأمة تمثيلاً بكافة طبقاتها، وإذا جارينا مدير الجريدة في اعتبار مجلس الشورى ممثلاً للأمة لاعتبر أن كل ما تقرره كأنه صادر عن مجموعها وهذا ما لا يقول به أعضاء الشورى أنفسهم فأين هذه. القواعد التي يقررها الآن مدير الجريدة من مبدأ سلطة الأمة الذي ينادي به في كل حين، هل يتفق هذا المبدأ الشريف السامي(1/126)
مع اعتباره مجلس الشورى بنظامه الحاضر ممثلاً للأمة أمام السلطة التنفيذية.
و (يلاحظ أن مجلس الشورى ليس مجلسًا منتخبًا على النحو البرلماني وليس رأيه ملزمًا للحكومة، وقد صنعه الإنجليز بعد أن ألغوا الدستور)، ثم يعرض جاويش لما ذكره لطفي السيد من وصف (مصطفى كامل) صاحب اللواء بأنه لا ينطق إلا بالكفر، وأن سياسة اللواء خرقاء وكتاباته عصبية ليست من العقل في شيء).
وقال جاويش: إذا كان ما تحتوي عليه خطبة الإسكندرية لمصطفى كامل كفرًا فالإيمان في مذهب "الجريدة" هو الرضا بالاحتلال وعدم المطالبة بالاستقلال وهل يمكن أن يقال. أن حزب الأمة متحد مع الحزب الوطني.
وأشار جاويش إلى موقف لطفي السيد من الذين هاجموا تكريم كرومر عند انتهاء مدة حكمه وحملة مصطفى كامل عليه إذ ذاك وقال جاويش:
"أنسيت حملته الصادقة على الجريدة عندما كانت تدعو القوم إلى إقامة احتفال باللورد كرومر وتنشر "في صحيفتك الجريدة هذه العبارة:
"ومما يذكر لجناب اللورد كرومر من علو الهمة والثبات على مبدأه أن كبار الأعيان طلبوا إليه أن يقدموا له هدية تذكارًا لشخصه يذكر به المصريون الذين أقام بينهم هذا الزمن الطويل، موفور القسط من الرفعة الذاتية والشمم وحسن اللقاء والحلم".
وردد جاويش في مجال تصوير الفرق بين مفاهيم الجريدة واللواء للوطنية قول مصطفى. كامل: "أن سياسة الجريدة تدلنا على أنها أشد الجرائد تعلقًا بالاحتلال وحسبنا قدحها فيمن استنكروا الاحتفال باللورد كرومر أعدى أعداء المصريين والطاعن على الإسلام والمسلمين (18/ 11/1907 اللواء) وأضاف جاويش: قوله ولا عجب من أن يكون مدير الجريدة هو الآلة الخاضعه لهذه السياسة.(1/127)
وأشار جاويش إلى الفارق الواضح بين اتجاه الجريدة وحزب الأمة وبين اتجاه الحزب الوطني في موقف خطير، عندما هوجمت طرابلس الغرب فنهضت مصر كلها لتدافع عنها وتقدم لها الأموال والرجال والأسلحة لمقاومة الاحتلال الإيطالي الباطش، الذي كان يدمر السواحل الليبية جارة مصر، هنالك تصدى لطفي السيد للأمر فسخر من المصريين لموقفهم من طرابلس وقال:
ما لنا نحن وهذا الأمر، إن ما يحدث هناك لا يهم مصر ولا دخل لنا فيه ودعا إلى سياسة المنافع لا العواطف، ودعا الحكومة إلى محاكمة من يحملون لواء الدعوة إلى مساعدة طرابلس.
وقال جاويش: "لقد خسر الذين فتنتهم وساوس صدورهم، وأعمتهم عن الحق سخافات مكتشفاتهم، يحاولون أن يصرفوا الأمة المصرية الإسلامية عن تخفيف ويلات إخوانهم الذين أغارت عليهم دولة الخيانة والغدر، إخوانهم في الإنسانية.
إن مساعدة المصريين للدولة العثمانية مساعدة حربية أمر لا يصح معه اتهامهم بالتعصب.
أي مدير الجريدة، أي عدو نفسه، هل نقمت منا أن ندعو المسلمين لنجدة المسلمين، وأن نستنفر الموحدين لإغاثة الموحدين، فماذا كنت تريد، أن الأمر لم يزد على أعمال الإعانة، أعمدنا إلى السيوف فسللناها والى البنادق فصوبناها وإلى الرماح فشددناها؟!.
أي عدو بلاده، رأيت مصر العزيزة مشرفة على موسمها المالي، ثم رأيت بنظارتك كيف تجلب إليها الأموال من كل جانب فعز عليك أن تحسد ذا نعمة، وشق على نفسك أن يستفيد غيرك من أصحاب المزارع، ثم تعلم (ومثلك من تعلمه الفلسفة).
مكانك مكانك أيها الجبان فما لك بميادين تميتك صورتها وتصعقك(1/128)
ذكراها إن لم تشأ فخير لك أن تحفر الأرض بأظافرك، وأن تتردى فيها ثم ارطم رأسك بالحجارة حتي يخرج من دماغك ذلك المخ الذي كان سبب شقائك وأصل بلائك".
وقد أخرجت مدرسة الجريدة جيلاً من الكتاب عرف فيما بعد بحزب الأحرار الدستوريين وانطوى تحت لوائه في هذه المفاهيم طه حسين ومحمد حسين هيكل ومحمود عزمي وعلي عبد الرازق، وقد تمددت هذه الأفكار في هؤلاء مقاومة للوحدة الإسلامية وللعروبة وقبول الاحتلال والتفاهم معه وقصر التعليم على أبناء البيوتات وحدهم والولاء للفكر الغربي والفلسفة اليونانية والديمقراطية الليبرالية الغربية.
* لطفي السيد وترجمة مؤلفات أرسطو:
رحم الله الشافعي إذ يقول: "إنما فسد العرب لما تركوا الفطرة واتبعوا
لسان أرسطوطاليس".
" لم يكن أرسطو معلمًا للمسلمين ".
يقول الأستاذ أنور الجندي:
كان الأستاذ أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل) هو أول من ترجم فلسفة أرسطو بترجمة كتاب "الأخلاق" إلى العربية عن الترجمة الفرنسية التي قام بها من اليونانية (بارتلي سلنهيار) كمنطلق لتيار جديد أراد به (التغريب) إدخال الفكر الفلسفي اليوناني إلى الأدب العربي الحديث من طريق شخصية لامعة مثل (أرسطوطاليس) وكانت تلك خطة خطيرة غاية الخطورة، ذلك أن العرب والمسلمون في العصر العباسي عندما ترجمت الفلسفة اليونانية رفضوا أرسطو وهاجموه، وكُشف زيفُ منهجه وأنشأوا المنهج العلمي التجريبي الذي تبناه روجر بيكون وكانَ أول خطوات الغرب نحو التجريد بعد التبعية لعصر التأمل الذي كان سمة الفكر الإغريقي، وهكذا نجد أن الغرب أخذ مَن(1/129)
المسلمين المنهج التجريبي في أول عصر النهضة، ثم جاء فأعطى المسلمين منهج أرسطو في أول عصر النهضة العربية على يد لطفي السيد في مقدمة ترجمة كتاب "الأخلاق".
والسؤال هو: هل حقًا كان لطفي السيد أستاذ الجيل صادقًا فيما قال وفيما دعا إليه العرب والمسلمين من اتخاذ أرسطو منطلقًا إلى النهضة الجديدة، وقد مضت كتاباته وكتابات طه حسين وغيره من بعده دعوة ملحة إلى هذا الطريق. أم أن الأمر كان فيه شبهة وخدعة؟!.
وهل كان حقًا (أرسطو) هو منطلق الحضارة الغربية في عصر النهضة وما بعدها، أم أن أول عمل قامت به النهضة هو نقض أرسطو وتزييفه، والحملة على منهجه واعتبار منهجه هو عامل التجميد الذي عاش فيه الغرب معتقلاً قرونًا حتى جاء نور الفجر مع منهج التجريب الإسلامي الذي أطلق الطاقات إلى عصر العلم الحديث، ندع هذا للباحثين، لقد كان علماء المسلمين انطلاقًا من القرآن هم الذين أنشأوا المنهج العلمي التجريبي الذي كان أول حجر في بناء الحضارة والعلم بشهادة:
دراير وبريفولت وجوستاف لوبون في القديم، وسارتون وهونكه وغيرهم في العصر الحديث ومن أهم الكتب في هذا الشأن كتاب هونكه "شمس الله تشرق على الغرب" وكتاب "أوربا ولدت في آسيا".
إذن فلم يكن لطفي السيد صادقًا في دعواه ولم يكن عميد الأدب العربي طه حسين أمينًا حين نقل إلينا هذا المعنى، ذلك أن المسلمين نقدوا أرسطو أولاً (في القرن الرابع الهجري)، ثم جاء الأوربيون فنقدوه ورفضوه فى القرن (الخامس عشر الميلادى)، واستعملوا أسلوب المسلمين في نقده، والتمسوا منهج المسلمين الذي دفعهم إلى ذروة الحضارة والعلم والتكنولوجيا الآن.(1/130)
إذن فلماذا هذا التعارض. يُسأل عن هذا الاستشراق والاستعمار، ذلك بأنهم على حد تعبير الدكتور محمود قاسم: نقلوا المسلمين إلى أرسطو ونقلوا أنفسهم إلى منهج المسلمين (جابر وابن الهيثم والبيروني).
ذلك أن أرسطو هو الذي سيضع المسلمين مرة أخرى داخل القوقعية المنطقية التأملية ويحرمهم من ثمرات منهج التجريب الذي أنشاه دعاة الغرب.
وهكذا نجد أن هذا المنطلق على يد لطفي السيد وطه حسين وجماعة من أتباعهم يتسع ويمتد حتى يقرر: أن العرب خضعوا لمنهج اليونان وأرسطو في القديم ولما كان الفكر الحديث هو ثمرة فكر اليونان فإن تبعية المسلمين والعرب له لا يعد شيئًا غريبًا ولا جديدًا؛ لأنهم كانوا تابعين لليونان من قبل فلا عجب أن يتبعوا ما جدده أحفاد اليونان، لم يكن أستاذ الجيل صادقًا إذن ولم يكن الدكتور طه حسين صادقًا في هذا، فإن المسلمين لم يقبلوا أرسطو ولم يعتنقوا فكر اليونان وإنما العكس هو الصحيح، ذلك أنهم قاوموه ونقدوه وأبانوا عن وجوه الخلاف العميق بينه وبين منطق القرآن وتصدى كثيرون منهم لهذا وفي مقدمتهم الشافعي وابن حنبل والغزالي وابن تيمية.
وقد أثبت الشيخ مصطفى عبد الرازق وأبو ريدة والنشار أن المنطق الأرسطوطاليسي هو منهج الحضارة والفكر اليوناني لم يقبل في المدارس العقلية الإسلامية، وأن المنهج التجريبي الإسلامي هو الذي عرفته أوربا بعد قرون من مطلع حضارتها الحديثة لمباينته للحضارة اليونانية، وأن اكتشاف وجود هذا المنهج لدى المسلمين يفسر روح الحضارة الإسلامية، فالحضارة الإسلامية حضارة عملية تجريبية تتجه إلى تحقيق الفعل الإنساني في ضوء نظرية حية ملموسة. كذلك، فقد كشفت الأبحاث المتعددة عن اضطراب خطير في المراجع التي اعتمد عليها الفارابي وباعتراف الدكتور محمد عبد الرحمن(1/131)
مرحبا: "أن الفكر الذي نقل إلى المسلمين من اليونان والإغريق لم يكن صحيح الأصول بل كانت صورة زائفة دخلت عليها مفاهيم السريانية والنساطرة المترجمين وعقائدهم، وكانت تهدف إلى خدمة مفاهيم دينية، ومن هنا كان فسادها في أن تعطي الفكر الإسلامي شيئًا، ومن ناحية أخرى فقد تبين أن المقاومة للفلسفة اليونانية ومذهب أرسطو بالذات قد بدأت منذ أن تمت الترجمة، وأن المعارضة بدأت منذ اليوم الأول، ذلك أن الفكر الإسلامي كان قد تم تشكيله قبل الترجمة على أساس قيمه القرآنية من التوحيد والأخلاق، ومن الربط بين الوحي والعقل، ولذلك فإنه كان من العسير أن تنصهر فيه الفلسفة اليونانية أو ينصهر فيها، خاصة وهي فلسفة مجتمع وثني قام على العبودية وإعلاء الشهوات وعبادة الجسد فضلاً عن أن محاذير الترجمة من فساد وانتحال وتحريف نصوص وإن كانت طائفة من الفلاسفة أطلق عليهم اسم المشائين قاموا بمحاولة شاقة وعسيرة لإدخال الفلسفة اليونانية في إطار الإسلام ولكن المحاولة فشلت تمامًا، وكانت وقفة الإمام الغزالي في وجه الفلسفة اليونانية وقفة صارمة ردت السهم إلى صدور أصحابه فقد كشف عن الفرق بين الفلسفة الرياضية والطبيعية وبين الفلسفة الإلهية ورفض الأخيرة؛ لأنها متعارضة مع التوحيد وأعلن أن الكلام في الطبيعيات برهاني، أما في الإلهيات فهو تخميني. وفي الفلسفة الإلهية عارض الغزالي القضايا الكبرى الثلاث التي تقرها الفلسفة اليونانية وتختلف مع مفهوم الإسلام:
1 - ما يقولون به من قدم العالم.
2 - وأن الله (جل وعلا) لا يحيط علمًا بالجزئيات.
3 - وإنكارهم البعث، وهاجم الفلاسفة الذين جحدوا الصانع أو زعموا أن العالم قديم كالدهرية والزنادقة، والذين قالوا: أن النفس تموت ولا تعود ومن أنكروا الأخرة.(1/132)
ويقول الدكتور النشار: أن المنطق الأرسطاليسي قد نقل إلى العالم الإسلامي وأثر فقط في المدرسة المشائية الإسلامية وبقيت المدارس الأخرى المنبثقة عن النظام الإسلامي بعيدة كل البعد عنه، تحاربه وتجاهده، وكانت قد وضعت منطقا مختلفًا تمام الأختلاف في روحه وجزئياته.
وقد وصل علماؤنا في مجال البحث من منهج أرسطو إلى حقيقة أساسية هي أن: منطق أرسطو يعبر تعبيرًا دقيقًا عن المجتمع اليوناني العبودي المنقسم إلى سادة يتأملون وعبيد يعملون، السادة هم الصورة والعبيد هم المادة، ولكن المجتمع الإسلامي يختلف عن المجتمع اليوناني اختلافًا كبيرًا تقوم دولته على الأخوة والمساواة وتنطلق من نقطة النظر في السموات والأرض والعمل والكسب والسعي والتجريب.
ومن هنا اختلف منهج المجتمع الإسلامي عن مجتمع اليونان من جملة جوانب أهمها:
التوحيد وإلغاء العبودية والممارسة في مجال العلم، وبذلك بدأ ذلك التعارض الواضح العميق بين مجتمع ومجتمع وفكر وفكر خرج الفكر الإسلامي من الطبقة الأرسطية التي ترى أن العلم لا يكون إلا بالكلي أما العلم الجزئي فليس علمًا، فتقدم الفكر الإسلامي فحطم هذه القاعدة.
وقد صور كثير من الباحثين أثر منهج أرسطو فوصفه الدكتور محمود قاسم بأنه كان منهجًا عقيمًا، وأنه ضلل كثيرًا من مفكري العرب، ثم وقف حائلاً دون ازدهار الحضارة العربية، ويرجع عقمه إلى أنه كان خلوًا من الخيال، وأنه كان أكثر اهتمامًا بالقضايا العامة المجردة منه لدراسة التفاصيل والجزئيات، يستدل على صدق دعوانا وتواضعها بتاريخ النهضة الأوربية، فإنها لم تتحرر من الجمود الذي فرضه عليها منهج اليونان إلا بعد أن عرفت مناهج العرب في العلم والفلسفة ولنا أن نستشهد برنيان نفسه، ذلك أنه(1/133)
يصف (روجر بيكون) بأنه الأمير الحقيقي للفكر الأوربي في القرن الثالث، ويجب أن تعلم كيف جاءته إمارة الفكر، إذ ليس في هذا المجال خلق من العدم ومن اليسير أن نكتشف سر أصالته إذا نحن بينا أنه أول من نادى بمهاجمة المنهج الأرسطاطاليسي في أوربا ودعا إلى اصطناع نهج العرب فهو يأخذ على معاصريه بأنهم يصبون لعناتهم على الرياضة من أنه من الممكن أن يبرهن بالرياضة على كل ما هو ضروري لفهم الطبيعة ولولا الرياضة لاستحال علينا أن نعرف أشياء هذا العالم معرفة صحيحة تعود علينا بالنفع في الأمور الإنسانية والأمور الدينية أيضًا، كذلك يأخذ عليهم الانصراف عن استخدام الملاحظات والتجارب مع أن الطبيعة لا تكشف أسرارها إلا بدراسة الأمور الجزئية حتى تصعد بنا إلى القوانين الكلية".
وهكذا انتصر المنهج الإسلامي على المنهج الأرسطي وحطمه في عقر داره بعد أن حطمه في مجال الفكر الإسلامي نفسه.
فإذا أردنا أن نتبين فكر أرسطو وجدناه يقول بالنظام العبودي اليوناني ويرى أن (نظام الرق) هو أصلح نظام للبشرية وأن العبد إذا تحرر من عبوديته فهو عبد والأمير إذا استعبد فهو أمير، ومفهومه لله تبارك وتعالى ناقص وضال وماديته في التفكير بكونه أساس المذهب المادي واضح لا شبهة فيه، ولذلك فقد كان لا بد أن يصحح الفكر الإسلامي موقفه من أرسطو وفلسفته وخير ما يذكر في ذلك ما كتبه الإمام الجليل ابن تيمية في كتابه "منطق القرآن في مواجهة منطق أرسطو".
يقول أحد الباحثين: أن لطفي السيد هو أول من ضرب وحدة الفكر العربي الإسلامي وقسمه إلى تيارين: قومي وديني وسارت الأحزاب المصرية المنبثقة من حزب الأمة (الوفد، الأحرار الدستوريين) على نفس الطريق الذي رسمه كرومر ونفذه لطفي السيد، والذي كان سعد زغلول أكثر إيمانًا به، وقد(1/134)
حمل لواءه سعد زغلول بعد ثورة 1919 واستطاع هذا الاتجاه أن يسيطر بعد الاستقلال وأن يمتلك نفوذ الحكم والسيطرة السياسية بينما وقف الاتجاه الإسلامي في حدود ضيقة وبرز من خلال الجمعيات الإسلامية والأزهر بعد أن انتشرت حركة التبشير في الجامعة الأمريكية وسقوط الخلافة، وظل مسيطرًا حتى أسلم نفسه لحركة يوليو التي عمقت خطر العلمانية تعميقًا كبيرًا، وفتحت الباب واسعًا أمام الماركسية اللينية.
* عبد العزيز فهمي الداعي إِلى استبدال العربية بالحروف اللاتينية:
صديق لطفي السيد ورفيق عمره، دعا إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، ولدت دعوته ميتة، وتصدى له العلامة أحمد شاكر كما مرّ بنا.
* إِسماعيل مظهر ساهم في نقل الدارونية إِلى الشرق الإسلامي:
دعا إسماعيل مظهر إلى الارتماء في أحضان الغرب وأخذ حضارته دون وعي وتمييز. وكان ضمن ثلاثة أسهموا بصفة بارزة في نقل الدارونية إلى الشرق بطريق الترجمة المباشرة وبالدراسة المستفيضة في الصحف هم: شبلي شميل وسلامة موسى وإسماعيل مظهر (1)، والأولان نصرانيان أشهرا إلحادهما وكفرهما بكل دين (2)، أما الأخير فمسلم الأصل إلا أنه كتب ما لا يتردد أحد في نسبة قائله إلى الكفر، وكان لكتبهم وأبحاثهم الأثر الكبير في جيلهم ومن تلاه.
وكتب إسماعيل مظهر في عدد مارس 1928 م من مجلته مقالاً،
__________
(1) ألف شبلي شميل: "فلسفة النشوء والارتقاء"، وسلامه موسى: نظرية التطور وأصل الانسان"، وإسماعيل مظهر: "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء".
(2) ولعلهما إنما يتظاهران بذلك لغرض خبيث فقد كان سلامة موسى عضوًا في جمعية الشبان المسيحين.(1/135)
جاء فيه:
" أما تفكير الإنسان الجدي فأصبح في تحديد علاقته لا بواجب الوجود ولكن بالكون، فبعد أن أسقط العلم الإنسان عن عرش الملائكة العلوي وأنزله إلى أفق الحيوان، أخذت الإنسان فكرة جديدة ليست بأقل إشكالاً من الفكرة التي ملكت زمامه من ناحية الأديان ".
" بعد أن أظهر النشوئيون أصل الإنسان الحيواني، وأثبتوه علميًا (! ) وبعد أن أثبت الجيلوجيون قدم الأرض والفلكيون قدم النظام الشمسي وأظهر هؤلاء بأبحاثهم سلسلة التدرج الطويل التي مضى عليها الكون لينتهي بظهور الحياة فوق الأرض أخذ العقل الإنساني سمته نحو التفكير كما هي عادته فيما يختص وراء هذه السلسلة الطويلة من قصد، وهل كانت متجهة بكل ما فيها من الصور لأن تنتهي بالإنسان على أنه القصد الأخير منها؟ "
"أما الثابت حتى اليوم فليس مما يرضي التفاؤل في مصير الإنسان، ولست أدري لماذا لا يشارك الإنسان الحيوانات في نهايتها المحزنة ما دام يشاركها في بداياتها الجميلة" (1)، وينتهي تأثره بداروين إلى قوله:
"اكتفت الأديان بالقول بأن الغاية من خلق الإنسان والجن هي أن يعبدوا الفه، فكرة حسنة ولكنها غير صحيحة (! ) إذ لو صح هذا إذن لاعتقد بجانبه بأن الله في حاجة لأن يعبده الإنس والجن (! ) ولظهر النظام الكوني في مجموعه بمظهر شيء ما خلق إلا ليعضد الحياة الإنسانية التي يجب أن تسخر لعبادة الله، وهذا في معتقدي أبعد الأشياء عن أن يكون الغاية من وجود الإنسان" (2).
__________
(1) المصدر السابق (ص 98).
(2) المصدر السابق (ص 100).(1/136)
والحق إن إسماعيل مظهر لم يكن إلا نموذجًا لكتاب كثيرين يتفاوتون في درجة التصريح بما يعتقدون لكنهم متساوون في المنطلق والغاية مثل منصور فهمي ولطفي السيد وأمين الخولي وطه حسين وأخيرًا صادق العظم (صاحب كتاب نقد الفكر الديني)، وآخرين ممن لا تأويل لما يكتبون إلا الخروج على الإسلام غير أن بعضهم تخفى تحت أقنعة البحث العلمي أو التمذهب الأدبي حتى لا يصدم مشاعر الجماهير فتنصرف عن إنتاجه" (1).
* إِسماعيل مظهر، نصير السفور، عدو الحجاب:
جمع إسماعيل مظهر شبهاته وآراء غيره ونسّقها في كتاب أسماه "المرأة في عصر الديمقراطية" جاء فيه:
"ومضى الكثيرون متعامين عن الحق الواضح الجلي قائلين بأن قضية المرأة قضية محلولة وأن الزمن القديم قد وضع لها القواعد وفصل الفصول وأتم الفروع، مؤتمين في ذلك بنظريات وأقوال أبلاها الزمن وناء عليها الدهر، فأصبحت مهلهلة فضفاضة بادية العورات، ولكنهم يحاولون ستر عوراتها بالثرثرة الفارغة كقولهم: "المرأة للبيت" وقولهم: "الرجل قوام على المرأة" وقولهم كما قيل من قبل: " المرأة ليس لها نفس" ... " (2).
وفيه: "لقد اتخذ الرجعيون الذين يرهبون التطور فرقًا من أوهام سلطت عليهم أو رغبة في بسط سلطانهم على النساء .. من بضعة نصوص أشير بها إلى حالات قامت في عصور غابرة سبيلاً إلى استعباد النساء استعبادًا أبديًا، لقد حُضّت المرأة في ذلك العصر أن تقر في بيتها، وأن لا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى" (3)، ثم أخذ يناقش كلا الدليلين:
__________
(1) "العلمانية" (ص 613 - 615).
(2) "المرأة في عصر الديمقراطية" لإسماعيل مظهر (ص 96).
(3) المصدر السابق (ص 118).(1/137)
"إن المعنى الذي يستخلصه أصحاب الرجعية من حض المرأة على أن تقر في البيت معنى غامض كل الغموض في هذا العصر. وبالرغم من ذلك الغموض الذي يكتنفه فإنهم لا يريدون أن يفسروه حتى تتحدد المعاني القائمة في نفوسهم منه.
أما إذا أرادوا أن تكون المرأة سجينة البيت فكيف يوفقون بين هذا المعنى وبين حاجات الحياة الضرورية؟ وإذا أرادوا أن يكون تفسيره أن تقر المرأة في البيت إذا لم يكن لها ما يشغلها خارجه، فذلك هو الواقع في حياتنا الحديثة" (1).
" .. ولكن المصيبة التي أصابنا بها أولئك المستغرقين (كذا) في النظر في الحياة بمنظار القبلية البدائية، أنهم يعتقدون أن كل تجمل تبدو به المرأة هو تبرج وأنه تبرج الجاهلية الأولى، ذلك في حين أن كلمة "التبرج" ليس لها حدود التمرينات الرياضية، وفي حين أنه لم يصلنا عنهم وصف شامل لتبرج الجاهلية الأولى!! ".
" .. فغالب الظن بل الأرجح تغليبًا أن المقصود به (أي التبرج) عادة ألفت في الأزمان الأولى كانت في نشأتها شعيرة من شعائر الوثنية، أي شعيرة دينية، فإن البغاء على ما يعرف الآن من تاريخه وتطوره قد نشأ في أوله نشأة دينية، فكان شعيرة من شعائر التقرب من الآلهة .. ".
ثم يقول:
"فلما جاء الإسلام .. عطف إلى ناحية المرأة فاعتبرها نصف إنسان وأضفى عليها من الكرامة والاحترام ذلك القدر الذي لا يزال حتى الآن موضع انبهار كل المتشرعين"، " .. غير أن خمسة عشر قرنًا من الزمان كافية
__________
(1) المصدر السابق (ص 120).(1/138)
في الواقع لأن تُهيِّئ العقلية الإنسانية إلى خطوات أخرى في التشريع للمرأة .. ".
"ومن هذه الناحية لا أرى ما يمنع مطلقًا من أن ترفع المرأة إلى منزلة المساواة بالرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية: في الميراث وفي قبول الشهادة وفي العمل وفي الاستقلال الفكري والاقتصادي، وبالجملة في جميع الأشياء التي تكمل بها إنسانيتها، ذلك بأنها إنسان" (1).
* ولي الدين يكن نصير السفور:
مرّ ذكره من قبل، قال ناصرًا للسفور:
"أزيلي الحجاب عن الحسن يومًا
وقولي مللتك يا حاجبه
فلا أنا منك ولا أنت مني .. فرح ذاهبًا هأنا ذاهبه" (2)
* إِسماعيل أحمد أدهم والدعوة إِلى الإِلحاد:
انتشر الإلحاد في العصر الحديث -أو على الأقل الشك واللا أدرية- وشكل ظاهرة بين المفكرين والمثقفين.
و"كان من ضمن القائمين بهذه الحركة (إسماعيل أحمد أدهم) الذى جاء إلى مصر (من تركيا بعد إعلان العلمانية) وحاول نشر الأفكار الإلحادية بين أهلها. وقد ألف رسالة صغيرة عنوانها: "لماذا أنا ملحد؟ " وطبعها في مطبعة التعاون بالإسكندرية ومما جاء فيها: "أسست جماعة نشر الإلحاد بتركيا، وكانت لنا مطبوعات صغيرة أذكر منها: ماهية الدين، قصة تطور الدين ونشأته، العقائد، قصة تطور فكرة الله، فكرة الخلود"، "وبعد هذا
__________
(1) المصدر السابق (ص 137 - 138).
(2) ولي الدين يكن: "مناهل الأدب العربي" (ص 45).(1/139)
فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأمريكية، وكان نتيجة ذلك تحويل اسم جماعتنا إلى "المجمع الشرقي لنشر الإلحاد"، وكان صديقي البحاثة إسماعيل مظهر في ذلك الوقت -1928 - يصدر مجلة العصور في مصر وكانت تمثل حركة معتدلة في نشر حرية الفكر والتفكير والدعوة للإلحاد" (1)
* الزنديق جميل صدقي الزهاوي الملحد، عدو الحجاب:
ملأ الملحد جميل صدقي الزهاوي الشاعر العراقي ديوانه بالأفكار الإلحادية التي لا تخرج في جملتها عن نظرية داروين أو نظرية هيكل الأثيرية التي هي في الواقع امتداد للداروينية، من ذلك قوله:
إِني أفكر في الطبيعة فاحصًا ... فيعد تفكيري من الإِلحاد
... ووجدت أن الكائنات سلالة ... لا فرق بين خفيها والبادي
أما الزمان فإِن في دورانه ... ما يربط الآزال بالآباد (2)
وقوله:
ما حياة قديمها غير باد ... لك إِلا تطور في جماد
إِنها تتبنى لها في نظام ... كل ما يقضي حاجتها من عتاد (3)
(كذا)
ومن رباعيته:
ما نحن إِلا أقرد ... من نسل قرد هالك
فخر لنا ارتقاؤنا ... في سلّم المدارك (4)
__________
(1) "ذيل الملل والنحل" للدكتور محمد سيد كيلاني (ص 91) مطبوع مع "الملل والنحل، والعلمانية" (ص 612).
(2) "ديوان الزهاوي" (ص 525، 599).
(3) المصدر السابق (ص 525، 599)، و "البيت مكسور في الأصل".
(4) "ديوان الزهاوي" (ص 525، 599).(1/140)
بل نجده يهجو المخالفين لنظرية داروين من معاصريه:
إن الذين عن الأقراد قد بعدوا ... لم يجحدوا أنهم منهن قد ولدوا
وناصر حركة "تحرير المرأة" المشبوهة، وكان نصيرًا للسفور فقال:
هزأوا بالبنات والأمهات ... وأهانوا الزوجات والأخوات
هكذا المسلمون في كل صقع ... حجبوا للجهالة المسلمات
سجنوهن في البيوت فشلُّوا ... نصف شعب يهم بالحركات
منعوهن أن يرين ضياء ... فتعودن عيشة الظلمات
... إِن هذا الحجاب في كل أرض ... ضرر للفتيان والفتيات (1)
* دريّة شفيق زعيمة حزب بنت النيل وصلتها بالغرب والدوائر الصليبية واليودية:
"لما كان عامل المنافسة بين العاملات المأجورات لترويج الحركة النسوية في مصر من دواعي السرعة لبلوغ المراد عند الاستعمار، فقد عمل على انشاء حزب نسائي جديد سنة 1945 أطلق عليه "الحزب النسائي" ولم يخرج هذا الحزب قليلاً أو كثيرًا في أهدافه عن أهداف الاتحاد النسائي، وإن كان المعلوم بالضرورة أن إنشاء هذا الحزب كان لمجرد التجديد في وسائل الإغراء والفساد.
وعلى هذا النمط قام الحزب النسائي الثالث باسم حزب بنت النيل الذي تتزعمه درية شفيق ..
وقصة إنشاء هذا الحزب ترتبط بقصة زعيمته، وتعطي صورة ناطقة
__________
(1) "ديوان الزهاوي" (ص 319).(1/141)
لحقيقة النوع المختار من النساء لإشعال نار الفتنة، للإتيان على كيان الأسرة المسلمة من القواعد.
ولعل كثيرًا من الناس يجهلون كيف نشأت هذه السيدة نشأة غامضة، فقد انتسبت للجامعة في مستهل عهدها بقبول الفتيات طالبات فيها إلى جانب الفتيان، حيث استطاع لطفي السيد أن يتحدى الرأي الإسلامي بقوة واقتدار، معلنا ذلك للملأ بقوله بالنص: "ويتصل بخطأ الجماهير في فهم رسالة الجامعة وهي مسألة كانت قليلة الأنصار في الرأي العام. وفي هذا المقام يسرني أن أؤكد لكم أني لم أتعرض إلى جزئية من الجزئيات تجعلني أندم ولو
وقتيًا على ما شرعته الجامعة من هذه الخطة من غير أن تستفتي العرف العام".
ومن خلال هذا التحدي الجامعي كانت السيدة وهي طالبة تبالغ في إبراز فتنتها وجمالها حتى لقد كان يتألم من مظهرها الأساتذة والطلاب، ومع ذلك فقد واصلت دراستها حتى تخرجت، ثم سافرت -وحدها بالطبع- إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه التي كان موضوعها مرتبا بما تعلقه على نفسها من المساهمة في سبيله في مستقبل أيامها .. لقد كان موضوعها يتعلق بموقف الإسلام من المرأة .. وبالطبع موقف الإسلام الذي تفهم حضرتها من سماحته ما لا يتعارض مع فسوق أو فجور .. ومن خلال رحلتها تزوجت بمصري معروف يرأس اليوم تحرير إحدى الجرائد الكبرى، وكان هو الآخر طالبًا هناك حينئذاك إلا أن الزواج لم يطل أكثر من شهر لأسباب غير معلومة. وعادت إلى مصر فاجتهدت في أن تدرس بالجامعة، ولكن الجامعة وقفت دون رغبتها؛ لأنه كان في الغالب فرق بين قبول أمثالها طالبة وبين قبولها كمدرسة للجيل .. أيًّا كان هذا الجيل ..
وهناك بدأ يزداد الغموض في حياتها .. فمن شقة متواضعة إلى شقة مترفة وأثاث ورياش إلى ظهور في المجتمعات والحفلات إلى رحلات متعددة(1/142)
بين مصر وأوربا، وفي خلال بضع سنوات تزوجت من أحد مدرسي الجامعة الشبان الذين ما لبثوا أن صاروا من أساتذة الجيل.
وفي سنة 1949 - أي بعد فترة وجيزة من هذا التصريح- فوجئ الشعب بإنشاء حزب نسائي جديد ترأسه المرأة الغامضة .. ولم يمض قليل حتى أصدر ذلك الحزب الناشئ ثلاث مجلات تطبع في حجم كبير وعلى ورق مصقول، اثنتان منها باللغة العربية والثالثة باللغة الفرنسية عدا المطابع المجهزة، والسيارات الفاخرة ..
وأخذ الناس يتساءلون عن موارد السيدة الغامضة، ومن أين لها هذا الخطر، ولكنها لم تمهلهم حتى أمطرتهم بوابل من القذائف الرائشة على الدين والأخلاق، لتشغلهم عن نفسها بالأخذ والرد والجذب والشد ..
* ترحيب الصحف البريطانية:
وفي خلال أشهر من تكوين الحزب سافرت حضرتها إلى إنجلترا فقوبلت بحفاوة عظمى قيل: أنه لم ينل مثلها كثير من رؤساء الدول وزعمائها، ورحبت بها الصحف البريطانية بدون استثناء ونشرت عنها الأحاديث العديدة التي تصورها بصورة الداعية الكبرى إلى تحرير المرأة المصرية من أغلال الإسلام وتقاليده .. أغلال الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات.
ونحن نكتفي بالإشارة إلى عينة من أحاديثها هناك وكان مع مراسل جريدة "ذى سكتشمان" الذي كتب يقول:
"إن الأهداف المباشرة لحزب بنت النيل هي كما أوضحتها الدكتورة درية شفيق: منح المرأة حق الأقتراع وحق دخول البرلمان، والمطمع الثاني الذي تهدف الدكتورة لتحقيقه هو إلغاء تعدد الزوجات وإدخال قوانين الطلاق الأوروبية في مصر" وتقول: "إن الطلاق في مصر بوضعه الحالي أمر يسير(1/143)
جدًا فالزوج المسلم له الحق في أن يطلق زوجته بمجرد قوله: أنت طالق أما فيما يتعلق بتعدد الزوجات، فإنه لا يزال شائعًا بين الطبقات الفقيرة".
* انكشاف المستور:
وبلغ التوتر مبلغه ونهض رجال الدين ودعاة الفضيلة والأخلاق على قلب رجل واحد يجابهون الاستعمار في شخص هذه السيدة أمام أعظم حصن من حصون الإسلام وهو الأسرة المسلمة، ووقف الاستعمار بأمواله ونفوذه .. وانكشف بعض المستور حين قدمت إحدى عضوات مجلس إدارة الحزب استقالة مسببة. ما لبثت أن قبلتها الرئيسة دون عرضها على مجلس الإدارة، وكم كانت الدهشة كبيرة، وإن لم تكن مفاجئة بطبيعة الحال، إذ
علم أنه قد حيل بين كثير من الصحف وبين نشر سبب الاستقالة حتى فوجئ الشعب بأن السبب هو أن السفارة الإنجليزية والسفارة الأمريكية تمدان الحزب بألفين من الجنيهات سنويًّا، عدا الورق المصقول وغيره فضلاً عن تقديم المشورة والتوجيه.
على أن هذه الاستقالة لم تكن وحيدة في ذاتها وفي أسبابها، بل لقد تبعتها وسبقتها استقالات أخرى وأنه كان مما يلفت النظر منها، استقالة السيدة درية جمعة من كبيرات نساء الحزب، وهي الاستقالة التي نشرتها جريدة الأهرام، وعلق عليها رئيس تحريرها في الصفحة الأولى في ذلك الوقت، حيث اعترفت السيدة المذكورة بفساد الأصول التي يقوم عليها مجتمع نسائي كهذا، واكتفت بالإشارة إلى خطورة هذا الفساد بقولها ما نصه: "وإني لا أدري الحكمة من اشتراك الرجال في حزب نسائي، لذلك أقدم استقالتي"، وكان تعليق رئيس التحرير وهو من أعلم الناس بالزعيمة المحترمة طبعًا، إذ زاد على ذكر الرجال فقرر عن أن الكثيرين منهم من الشباب ومن الشباب الأعزب بالذات.(1/144)
* وزيرة الشئون البريطانية تتفقد الهيئات النسائية في مصر:
ومن هنا أيضًا لم يُدهش الشعب المصري لزيارة وزيرة الشئون الاجتماعية البريطانية مسز "سمر سكيل" حيث تفقدت الأحزاب النسائية في مصر، وعقدت الكثير من الاجتماعات مع زعيماتها وفي مقدمتهن هذه السيدة الغامضة، وختمت زيارتها بحديث من محطة الإذاعة المصرية تقول فيه للمصريين ما نصه: "إنني أتحدث إليكم كامرأة وامرأة متزوجة وكمصلحة اجتماعية وكطبيبة فأقول لكم كامرأة: إن الرجال وحدهم لا يستطيعون الفوز في هذا الصراع الذي يشن من أجل خير الأسرة ورفاهيتها، ولن تكسبوا هذه الحركة إلا إذا اشتركت المصريات مع المصريين في الكفاح الوطني على قدم المساواة".
نعم إنه لعجيب حقًّا أن تتحرق الوزيرة البريطانية غيرة على نجاح مصر في كفاحها من أجل خير الأسرة ورفاهيتها، وتتحدث عن الكفاح الوطني الواجب لمصر من أجل الحرية والسيادة، في الوقت الذي كانت تنكر فيه الحكومة البريطانية مطالب مصر في الجلاء ووحدة وادي النيل!.
* توجيهات الاستعمار:
ومن ذلك التاريخ نحت رئيسة بنت النيل في ظل من الحماية الأجنبية منحى جديدًا في بابه، استغله أذناب المستعمر في الأحداث الوطنية التي حدثت قبل إلغاء معاهدة سنة 1936 وبعدها فكان الهدف هو إشغال الرأي العام بقضية المرأة في مصر، عن التفرغ لقضية الوطن!.
ففي إبريل سنة 1951، خرجت مظاهرة، من قاعة أيوارت بالجامعة الأمريكية ذات التاريخ الطويل في التبشير -قوامها بضع عشرات من الفتيات الكاسيات، تتقدمهن زعيمة الحزب المذكور. وبعض الشباب من أصدقاء(1/145)
حزبها وأنصاره .. إلى أين؟! إلى دار البرلمان، هاتفات بالحقوق السياسية المزعومة!!
ولقد اعترفت الزعيمة المحترمة بمقابلة الوزيرة البريطانية وتحريضها لها فنشرت حديثًا بجريدة البلاغ بعد ذلك بيومين تبين أثر المقابلة في عزمها على "ترك المقالات والمناقشات والمجادلات، والاتجاه إلى المظاهرات واقتحام أبواب البرلمان"، وذلك تمشيًا طبعًا مع مغزى الكفاح الوطني المزعوم الذي ترمي إليه الوزيرة البريطانية، والذي تشترك فيه المرأة مع الرجل على قدم المساواة .. !
وهكذا لم يكن عجيبًا أيضًا أن تبرق جمعية سان جيمس الإنجليزية إلى الزعيمة المذكورة بتهنئتها علي نجاحها في اتجاهها الجديد نحو المظاهرات وتعلن تأييدها لها حتى تنال المرأة المصرية على يديها الحقوق السياسية، تحت قبة البرلمان وفوق كراسي الوزارة.
* مؤتمر أثينا النسائي الدولي .. وسياسة التسلح الدفاعي:
وفي إبريل سنة 1951 عقد مؤتمر نسائي دولي في أثينا، لبت دعوته الزعيمة باسم المرأة المصرية -زورا وبهتانًا- ومع أن المؤتمر في ظاهره يدعو إلى حقوق المرأة المزعومة، فإن قراراته كشفت عن أنه مؤامرة استعمارية بعيدة المدى، فقد جاء في أحد هذه القرارات: "الموافقة على سياسة التسليح الدفاعي"، ومع أن مصر كانت وما زالت بطبيعة الحال ترفض أي ارتباط دولي في شئون الدفاع، فإن الزعيمة المصرية كانت في مقدمة المؤيدات للقرار تأييدًا حارًا، حتى أن مندوبتي إنجلترا واليونان ظلتا تصفقان للقرار تصفيقًا شديدًا طويلاً!.
ولعل أبلغ ما قوبلت به الزعيمة المحترمة على إثر عودتها من هذا المؤتمر، كان من بعض سيدات الأحزاب النسائية الأخرى "سيزا النبراوي" إذ كتبت في جريدة المصري الصادرة يوم 9 أبريل سنة 1951 تقول: "لعل(1/146)
المندوبة المصرية قد أدركت خطورة هذا القرار على مطالبنا الوطنية، فإن الاحتلال البريطاني يتذرع بهذه الحجة عينها "حجة التسلح الدفاعي" للبقاء في أرض الوطن ورفض الجلاء الذي نناضل من أجله، إن هذا القرار في الحق لا يقاوم الحرب، وإنما يؤيد الاحتلال، لذلك رأينا المندوبة البريطانية مصفقة له مرحبة به".
* مؤتمر ستوكهلم .. وتثبيت دعائم إِسرائيل:
على أنه قد أثبتت الحوادث فوق ذلك أن هذه الحركة النسائية المصرية لم يقف تواطؤها مع الاستعمار الغربي عند حد تثبيته في مصر والشرق فحسب، بل إننا لا نغالي إذا قلنا عنه أنه كان يسخر لتثبيت دولة إسرائيل المزعومة، لتظل شوكة قوية في ظهر الدول العربية والإسلامية وقد اتضح ذلك بجلاء حين اشتركت المندوبة المصرية في المؤتمر النسائي الدولي الذي أقيم في استوكهلم وجاء من ضمن قراراته الاستعمارية قرار يقضي بمطالبة وزير داخلية السويد -التي عاصمتها ستوكلهم طبعًا- بإنزال أشد العقوبات على مسيو "انيرابر" الصحفي السويدي المعروف، لمواصلته أعمال الدعاية ضد الصهيونيين في السويد".
وقد كتب مسيو انيرابر على أثر ذلك إلى الجامعة العربية والحكومة المصرية، يستنكر موقف مندوبات مصر في ذلك المؤتمر لموافقتهن على هذا القرار ..
* زعيمة هندية تعلن استغلال الاستعمار الغربي للحركات النسائية:
هذا وقد كان من أثر جلاء الغاية التي يسعى إليها الاتحاد النسائي الدولي بمؤتمراته الخطيرة في استغلال مندوبات الدول الواقعة تحت النفوذ الاستعماري الغربي لتثبيت دعائم الاحتلال في هذه البلدان .. أن هبت(1/147)
الزعيمة الهندية "كاميلا ديفي" في وجه هذا الاتجاد وهي عضو أصلي فيه، وأعلنت استقالتها منه. وأذاعتها في كثير من الصحف العالمية، ونشرتها لها جريدة المصري هي الأخري في 21 أبريل سنة 1951 حيث قالت هذه الزعيمة: إنها تعلن استقالتها من الاتحاد النسائي الدولي؛ لأنه واقع تحت سيطرة الدول الغربية الاستعمارية، ويعارض مجهودات السلام، وخاصة وقف الحرب في كوريا.
ولعل أبلغ دليل على أن زعيمة النيل .. المصرية كانت ترتبط بتعليمات أجنبية معادية، هو ما أيدته الوقائع من خلال الفترة التي ألغيت فيها المعاهدة المصرية الإنجليزية وقامت فيها الأمة قومة رجل واحد لحرب الإنجليز في القتال، وترويع أمنهم وقطع المئونة عنهم، وانسحاب العمال المصريين من معسكراتهم، حتى قيام حركة الجيش وما بعدها .. فقد حدث أن سقطت وزارة الوفد على إثر حريق القاهرة المعروف، وجاءت على إثرها وزارة علي ماهر حيث تنفست الزعيمة الصعداء وقويت شوكتها، خاصة بعد أن أعلن عدم اعتراضه لطريق الداعيات لحقوق المرأة لأنهن -علي حد تعبيره- نصف أمة الذي لا يجوز أن يشل .. ثم لم تلبث وزارة علي ماهر أن سقطت هي الأخرى وجاءت على إثرها وزارة الهلالي وحل البرلمان وفكرت الحكومة في تعديل قانون الانتخاب، وهناك ظهر نفوذ الاستعمار لصالح الزعيمة حينما رفعت الصوت من خلال هذه الأحداث الوطنية على خطرها منادية بحق المرأة في الانتخاب والترشيح وبضرورة إيجاد نص في القانون يجعل النساء سواسية مع الرجال إزاء هذا الحق المزعوم ..
* الزعيمة تستنجد ببريطانيا:
وإني أذكر أننا قابلنا المسئولين في وزارة نجيب الهلالي لنحول دون النص فطلب إلينا أن نعبئ الأمة للمقاومة وإلا نجحت الهيئات النسائية في(1/148)
بلوغ مرادها بكل قوة! فلما قامت قومة رجال الدين ودعاة الفضيلة والأخلاق بحملتهم الناجحة التي أحبطت كيد الاستعمار وأذنابه وأسندت ظهر الحكومة أمام الخطر، اضطرت الزعيمة إلى الاتصال بإنجلترا رأسًا، فلجأت على الفور إلى مندوب الإذاعة البريطانية في مصر مستر باتريك سميث ليرفع إلى بلاده شكوى عميلتها من الحكومة المصرية.
ولذلك لم يعجب هؤلاء الذين استمعوا إلى المذيع البريطاني المذكور حينما تكلم إلى بلاده حينذاك فقال في رسالة ما ملخصه: "جاءتني الدكتورة درية شفيق زعيمة حزب بنت النيل، وقد شكت إليَّ من أن الجهات المسئولة في مصر تعارض بشدة مطالبتها بحقوق المرأة السياسية وكفاحها لأجل تمثيل المرأة داخل البرلمان المصري، وطلبت مني أن أناشد الصحف البريطانية كي تؤازرها بكل ما تستطيعه، وأن تضغط على الدوائر المصرية حتى تكف عن معارضتها القائمة، ثم أوصى حضرته في رسالة بضرورة مؤازرة هذه الزعيمة في دعوتها إلى تحرير المرأة المصرية، عملاً بميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي تحتكم إليه الزعيمة والذي ينص على تطبيق مبدأ المساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية بين الرجال والنساء في الدول الأعضاء التي بينها مصر".
* الزعيمة في مؤتمري لندن ونابلي:
وفي مستهل العهد الجديد وفي وزارة علي ماهر الأخيرة على وجه التحديد ومن خلال تلك المرحلة الحاسمة التي كان يتقرر فيها مصير الحركة، وينساق كل مشبوه سياسي إلى مكان بعيد عن مسرح الثورة لكي تأمن شرورهم في الداخل والخارج على حد زعمها، فوجئ الشعب بسماح علي ماهر لهذه الزعيمة بالسفر إلى لندن لحضور المؤتمر النسائي الدولي هناك ثم انتقالها بعد ذلك على الفور لحضور انعقاده في نابلي بصحبة مندوبة إنجلترا لأنها عضو أصلي به على خلاف الدكتورة درية شفيق التي كانت مندوبة زائرة(1/149)
فقط تسعى للحصول على صفة العضوية الأصلية بواسطة المندوبة الإنجليزية المذكورة ..
وقد استقبلت الصحف البريطانية جميعها على عادتها قدوم الزعيمة استقبالاً حارًا علقت عليه بعض الصحف المصرية -في دهشة- بأنه استقبال لم يحدث له مثيل، وهناك أدلت الزعيمة بتصريحات خطيرة قالت في إحداها - ما نشرت جريدة الديلي اكسبريس: "إن نظام الحكم الحاضر -الذي كان يتزعمه محمد نجيب- يوفر الحياة الحرة لكل فرد من مواطنيه ولذلك فقد يكون الوقت قد حان لنا نحن النساء لكي نتمتع ببعض حقوقنا القانونية بعد زمن طويل".
وفي خلال الأسبوع الذي أقامته في إنجلترا كانت محل عناية خاصة دون غيرها من وفود الدول الأخرى، وقابلها المسئولون هناك مقابلات خاصة متصلة متكررة رسمت فيها من الاتجاهات ما كان له أثر كبير في تقوية أملها في بلوغ الأهداف التي يدفعها إليها أعداء الإسلام ..
* الزعيمة .. وإِسرائيل:
ومن ثَمَّ اتجهت إلى روما بصحبة المندوبة الإنجليزية سالفة الذكر ومندوبة إسرائيل أيضًا مدام "تبهيلا مانمون" حيث كان همها كما قلت: أن يقبلها المؤتمر عضوًا أصليًّا كي يكون لها قوة الأشتراك دي توجيه السياسة النسوية الاستعمارية لا في مصر وحدها، بل في مختلف الدول الأعضاء وليكون لها بحكم هذا الوضع مساهمة فعالة من حيث وضع إسرائيل كدولة يدخل تثبيت قواعدها في نطاق عمل المؤتمر .. كما سيتبين بعد.
فمع أن الدول العربية قد أصدرت تعليماتها إلى مندوبيها في المجتمعات والمحافل الدولية وإلى سفرائها ووزرائها المفوضين في مختلف الدول كي يقاطعوا مقاطعة تامة شاملة، كل الأوساط التي تجمع الدبلوماسيين(1/150)
الإسرائيليين، وكي يصدروا عن حزم وعزم في احتقارهم وعدم الأعتراف بوجودهم، حتى لقد أنشأت الجامعة العربية في جلسة اللجنة السياسية المنعقدة بالقاهرة في 18 مايو سنة 1951 مكاتب أقليمية في الدول العربية ينسق جهودها مكتب رئيسي في مقر الجامعة لمكافحة التعامل أو الأتصال بأي صورة بإسرائيل أو رعاياها، بل إن حركة الجيش قد عززت هذا المكتب، وأعطته أهمية كبرى لمضاعفة جهوده في الحيلولة دون أي اتصال من هذا القبيل، وقرر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 18 ديسمبر الماضي إنشاء مكتب أقليمي مدعم بجوار مكتب الجامعة العربية، وأهاب بكل مصري وكل مواطن كريم إن يبادر مشكورًا بموافاة المكتب بأية معلومات في هذا الصدد كي ينهض برسالته ويحقق المقاطعة المرجوة على أكمل وجه، وبالرغم من ذلك كله فقد كانت أول خطوة خطتها زعيمة بنت النيل في روما أن انتهزت فرصة حضورها المؤتمر كزائرة فاتصلت بوفد إسرائيل ورئيسته المذكورة، طوال الأيام التي مكثتها هناك، ونشرت الصحف الأوربية، وبعض المجلات النسوية المصرية الصور الكثيرة التي بدت فيها الدكتورة درية شفيق في أحاديث هامة وأوضاع شتى معِ هذه الإسرائيلية الخطيرة مما يدل دلالة قاطعة على أن الزعيمة كانت مُسَخَّرة في هذه المقابلات الجريئة وما صاحبها من التصريحات الخطيرة التي ما لبثت أن افتضحت مراميها واتجاهاتها لا على لسان الصحف الأوربية فحسب، بل الصحف الإسرائيلية في تل أبيب أيضًا .. !
ولقد أشارت المجلة المصرية سالفة الذكر إلى اتصالات درية شفيق وتصريحاتها ونقلت أنباءها ونصوصها .. وقد جاء فيها كما نشرته الصحف الإيطالية ما نصه:
"إن السيدة درية شفيق وجهت خطابًا خطيرًا لقائد القوات المسلحة -محمد نجيب- حيث قالت: إنها بوصفها ممثلة لجميع نساء مصر في سنة(1/151)
1952 تطالب بشرف الخدمة العسكرية، وأن القائد محمد نجيب لم يبتسم لهذا الطلب فحسب بل وعد بالاهتمام به .. ".
ولعل أخطر تلك التصريحات المجنونة، ذلك التصريح الذي نشرته مجلة الايبوكا الإيطالية حيث قالت:
"إن السيدة درية شفيق مشحونة بالظرف، وذات نظرات خطيرة وجاذبية باريسية، وأنها الصديقة المسموعة الكلمة لدى الجنرال محمد نجيب الذي وعد الحركة النسوية بالتأييد والتقدير".
وبطبيعة الحال إن هذا التصريح من هذه الجريدة الأجنبية لم يكن إلا للتوريط، ولكنها معذورة أمام تقرير درية شفيق بأنها تمثل نساء مصر على الإطلاق! ومع ذلك لقد فاتها أن مصر هي زعيمة العالم الإسلامي وموطن الأزهر، ومهبط طلبة العلم الديني، ولكنها الحروب الصليبية التي لن تضع أوروبا كافة أسلحتها بغية القضاء على الإسلام مستغلة أمثال هذه الأذناب من الخارجين والخارجات ..
* المندوبة الإِسرائيلية تهنئ نفسها بصحبة درية شفيق:
والأخطر من هذا كله ذلك التصريح الذي أصدرته ممثلة إسرائيل ونشرته الصحف الإيطالية والإسرائيلية تعقيبًا على تصريحات الدكتورة درية شفيق حيث أعلنت المندوبة الإسرائيلية المذكورة ارتياحها لاتصالها بالمندوبة المصرية بلندن ومصاحبتها لها إلى نابلي حيث قالت: " إنني أهنئ نفسي بهذا الاتصال الذي ربط بيني وبين السيدة درية شفيق، وإنني أعلن لعضوات المؤتمر السادس عشر في نابلي أني عقدت آمالي على الزعيمة المصرية لحل جميع المشاكل بين البلدين إسرائيل ومصر".(1/152)
* الباريسيات أنفسهن .. يتهكمن .. !!
ْعلى أنه كان مما يلفت النظر بهذه المناسبة أن الوفد النسائي الفرنسي في المؤتمر علق على حركات ومظاهر السيدة درية شفيق في أوروبا بقوله كما نشرته بعض الصحف الإيطالية حيث قال: "إذا كانت السيدة درية شفيق هي النموذج الصحيح لنساء مصر، فقد أدركنا الآن السر في أن نساء الشرق المسلمات .. " والباقي مفهوم ..
هذا وقد نشرت المجلة النسوية المصرية سالفة الذكر بجوار ذلك كله الصور المختلفة لدرية شفيق مع رئيسة وفد إسرائيل نقلاً عن الصحف الإيطالية، كما نشرت صورة زنكغرافية لمقال نشرته بعض الصحف الإسرائيلية الصادرة في تل أبيب باللغة العبرية، وكانت صورة درية شفيق وهي تحادث مندوبة إسرائيل تزين المقال المذكور، وقد جاء في هذا المقال بعد ترجمته: "إن تل أبيب تتوقع أن الحوادث المقبلة ستزيد مكانة درية شفيق شأنا ورفعة" (1).
* علي عبد الرازق يهدم مفهوم الإِسلام بوصفة دينًا ودولة في كتابه "الإِسلام وأصول الحكم" وهذا الكتاب كاتبه الحقيقي هو المستشرق اليهودي مرجليوث:
"كانت القوى الأجنبية قد تآمرت على إسقاط الخلافة الإسلامية في دورة طويلة تكاتفت فيها الصهيونية والغرب الاستعماري وجماعة الاتحاديين الذين أسقطوا السلطان عبد الحميد واستولوا على الحكم في الدولة العثمانية تمهيدًا لتسليم فلسطين إلى الصهيونية العالمية، وجاء دور مصطفى كمال أتاتورك بعد انتهاء الحرب العالمية التي دخلتها الدولة العثمانية وهزمت فيها،
__________
(1) "الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار" لمحمد فهمي - دار الأعتصام (ص 28 - 50).(1/153)
وكان لسقوط الخلافة رنة أسى وتطلع ضخم إلى هذا الحدث الذي أصبح من بعد عهدًا من عهود حركة اليقظة الإسلامية بإعادة الخلافة.
في هذا الجو المضطرب -الذي انحل فيه عقد الجامعة الإسلامية وبرزت دعوات الإقليمية والقومية وتمزيق العالم الإسلامي إلى قوى محلية- صدر كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" الذي كان بمثابة صيحة تغريبية جائرة تحاول أن تقضي على مفهوم الإسلام الجامع دينًا ودولة بإثارة شبهة ماكرة لئيمة خادعة هي القول بأن الإسلام دين عبادي وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في ذات الوقت حاكمًا أقام دولة.
وقد صدر الكتاب في مجال معارضة الخلافة الإسلامية لأسباب سياسية كانت بريطانيا والنفوذ الأجنبي تؤازرها وكانت تعمل دون عودة هذا النظام الإسلامي الجامع.
ولكن الخطر الحقيقي وراء كتاب الشيخ علي عبد الرازق كان هو: هدم مفهوم الإسلام بوصفه دينًا ودولة ونظام مجتمع ومنهج حكم جامع.
ولقد اهتزت دوائر الأزهر والعالم الإسلامي لهذا الكتيب المزور وأعلنت هيئة كبار العلماء فساد المنهج الذي قام عليه، وأن المؤلف قد أخطأ خطأ بالغًا حين "جعل الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا، مع إن الدين الإسلامي على ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عقائد وعبادات ومعاملات هي لإصلاح أمور الدنيا والآخرة، وإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله يشتملان على أحكام كثيرة في أمور الآخرة.
كما أشار حكم هيئة كبار علماء الأزهر إلى أن المؤلف:
أولاً: زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
ثانيًا: زعم أن نظام الحكم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان موضع غموض(1/154)
وإبهام أو نقص موجب للحيرة.
ثالثًا: زعم أن مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بلاغًا للشريعة مجردًا من الحكم والتنفيذ.
رابعًا: أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وعلى أنه لا بد للأمة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
خامسًا: أنكر أن القضاء وظيفة شرعية، وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعًا من الخلافة.
سادسًا: زعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده -رضي الله عنه- كانت لا دينية. وهذه جرأة لا دينية.
صدر كتاب الإسلام وأصول الحكم عام 1925 سابقًا لكتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وقد كشفت الأيام من بعد كيف أن هذا الكتاب من تأليف المستشرق اليهودي مرجليوث المقيم في لندن وأنه أهداه لعلي عبد الرازق عندما زارها دارسًا (1).
وقد ظل هذا السر محجوبًا إلى وقت قريب حين كشف عنه الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه "الإسلام والخلافة في العصر الحديث" الذي صدر عام 1972 تقريبًا وكان المظنون خلال أكثر من خمسين عامًا أنه من تأليف الشيخ عبد الرازق، وقد عد هو وكتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي من الأسس التغريبية التي اعتبرها الشيوعيون والعلمانيون مرجعًا لخطتهم وأهدافهم في هدم مفهوم الإسلام في السياسة والأدب، وقد قوبل الكتاب عند صدوره بمعارضة شديدة وألفت كتب كثيرة في الرد عليه وكتبت
__________
(1) درس علي عبد الرازق في إنجلترا عام 1912 لاكسفورد ثلاث سنوات واضطر إلى العودة تحت ظروف الحرب العالمية.(1/155)
فصول عديدة في الصحف ومن ذلك كتاب "الفاضل بن عاشور"، ومحمد بخيت ورشيد رضا وكثيرون.
* وجد المنحرفون ضالتهم:
ولقد كان كتاب "الإسلام وأصول الحكم " لعنة على الشيخ علي عبد الرازق فقد أصاب حياته بالظلام والغربة ولاحقته لعنته مدى حياته حتى أنه عندما أراد الماركسيون إقناعه بإعادة طبعه قال لهم: إن هذا الكتاب أثار عليه متاعب كبيرة، ومع ذلك فإن بعض الماركسيين أعاد طبعه وقدم له، رغبة منهم في تأكيد مفهوم فاسد لا يقره الإسلام، ويتخذ الكتاب الماركسيون -المعارضون لمفهوم الإسلام بوصفه دينًا ودولة- من هذا الكتاب خطة عمل توالي بث سمومها في الصحف والمؤلفات والمؤتمرات، ويولي كبر ذلك أمثال محمد عمارة ومحمد أحمد خلف الله وحسن حنفي وعبد الله العروي وسيكون هذا الكتاب لعنة عليهم كما كان لعنة على علي عبد الرازق، فمات الكتاب قبل أن يموت صاحبه، وانطوت صفحته وصاحبه حي".
ومع الأسف فقد كان صدور مثل هذا الكتاب مما تلقفه المستشرقون ليثيروا به دعوى عريضة بأن في الإسلام مذهبين: أحدهما: أن الإسلام دين ودولة والآخر يقول: أن الإسلام دين روحي ويضعون على عبد الرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول، والواقع أنه ليس في الإسلام غير رأي واحد، وهو الرأي الأول، وأن ما ذهب إليه علي عبد الرازق عام 1925 م لم يكن من الإسلام في شيء، ولم يكن علي عبد الرازق إمامًا مجتهدًا، وإنما قاضيا شرعيًا تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم "التجديد" حيث دعي إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وهدم مقوماته، وأهدى أصل هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجمًا إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص(1/156)
العربية التي يستطيع اقتباسها من كتب الأدب.
أما الكتاب نفسه فكان من تأليف قزم من أقزام الاستشراق وداعية من دعاة الصهيونية واليهودية العالمية هو المستشرق مرجليوث الذي شاءت الصدف أن يكون هو نفسه صاحب الأصل الذي نقل منه كتاب الأدب الجاهلي والذي أطلق عليه الأستاذ: محمود محمد شاكر "حاشية طه حسين على بحث مرجليوث"، ويمكن أن يطلق الآن اسم "حاشية علي عبد الرازق على بحث مرجليوث"، وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم " الإسلام والخلافة في العصر الحديث".
وهكذا تجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساسًا من رجال التغريب، ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها إيمانًا بأن الأسم العربي أكبر تأثيرًا وأبعد أثرًا في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب "الشعر الجاهلي" و"الإسلام وأصول الحكم" على أنهما دعامتان للنهضة "التغريبية في الفكر الحديث".
ومع أن حركة اليقظة الإسلامية واجهت كتاب علي عبد الرزاق المنحول وفندت فساد وجهته وأخطاءه فإن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه مع مقدمات إضافية يكتبها شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم، وهم يجدون في هذه الرحلة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث السموم مرة أخرى ولن يجديهم ذلك نفعًا فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما
تجمعوا له وقدموه في صفحات براقة مزخرفة وأساليب خادعة كاذبة.
إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ محمد بخيت الذي رد على الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم"، وهو واحد من الكتب التي صدرت في الرد عليه حيث قال:(1/157)
"لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له منه إلا وضع اسمه عليه فقط، فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار وألبسوه ثوب الخزي إلى يوم القيامة.
وقد علق علي عبد الرازق على هذا المعنى بأن هذا الكتاب كان شؤمًا عليه، وقد ألصق به كثيرًا من المتاعب والشبهات، والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من هيئة العلماء ظل منفيًا ومهجورًا وعاش بقية حياته منقطعًا عن الحياة العامة بالرغم من أن محاولات جرت لإسقاط الحكم وضمه إلى مجمع اللغة العربية وجعله وزيرًا، فقد كان الكتاب أشد شؤمًا على حياته من كل ما ألم به.
ومن هذا الخيط الرفيع الذي ألقاه الشيخ محمد بخيت بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة وهي أن كاتب الكتاب هو المستشرق مرجليوث اليهودي الأصل، وهو أول من شن الهجوم على الخلافة لأن بلاده "بريطانيا" كانت في حرب مع دولة الخلافة، وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها، والنصوص في الكتاب قاطعة بأنه كان موجهًا ضد الخلافة العثمانية فإنه يذكر بالاسم "السلطان محمد الخامس" الخليفة في ذلك الوقت الذي كان يسكن في "قصر يلدز" وهناك نص على "جماعة الأتحاد والترقي، وهي التي كانت تحكم تركيا: أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى.
ويقول الدكتور الريس: إن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين، وكان السلطان عبد الحميد قد رفض عروضهم، وكانوا هم (أي الاتحاديين) أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان المناضل.(1/158)
ورجح الدكتور الريس أن مرجليوث اليهودي الذي كان أستاذًا للغة العربية في جامعة أكسفورد ببريطانيا هو كاتب الكتاب؛ لأن أراء الكتاب هي آراؤه التي كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور الريس في كتابه. "النظريات السياسية في الإسلام" وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية، وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة والقدرة على التمويه، كما يتصف بالالتواء، وهذه الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ علي عبد الرازق، ومعروف أن الشيخ ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين فلا بد أنه كان متصلاً بالمستر مرجليوث، أو تتلمذ عليه، وكذلك توماس أرنولد الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة فقد ألف كتابًا عن الخلافة بشكل عام والعثمانية بوجه خاص، وقد نقدناه.
يقول الدكتور الريس في كتابه: "النظريات السياسية الإسلامية":
والقصة تتلخص في أنه إبان الحرب العالمية الأولى والحرب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا أعلن الخليفة الجهاد الديني ضد بريطانيا ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها، وكانت بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات، أو ثورتهم عليها، في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتابًا يهاجم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين.
وقد أستخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها، وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه، هذا إن لم يفترض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذي اتصل به حينما كان في إنجتلرا أو في بعض الجهات البريطانية التي(1/159)
كانت تعمل في الخفاء على هدم فكرة الخلافة، أو التي تحارب الإسلام، فأخذ الكتاب فترجمه إلى اللغة العربية أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف بعض الأشعار والآيات القرآنية التي يبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه من تأليفه ظنًا منه أنه يكسبه شهرة، ويظهره باحثًا علميًا، ومتفلسفًا ذا نظريات جديدة، غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة، ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده وكانت هذه البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب "السياسة" جريدة من أسموا أنفسهم "حزب الأحرار الدستوريين"، وهذا هو الذي فهمه الأستاذ الجليل أمين الرافعي فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ علي عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب لما عرفه عنه من الضعف في تحصيل العلوم والإلحاد في العقيدة، ثم قال: هذا الى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتيات على الدين وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين وصار خليقًا باسم "الأستاذ المحقق"، والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ أمين الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ على عبد الرازق، ولكن كلامه يكاد يكون إثباتًا لذلك وهناك قرائن أخرى أوردها الدكتور الريس:
أولاً: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة 1924 بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918 وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس وقيل في الهامش أنه كتب في عهده وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانيا: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون(1/160)
عنه، فيذكرهم بضمير الغائب ولا يقول: "عندنا" أو "العرب" أو نحو ذلك كما يقول المسلم ذلك.
ثالثًا: يكرر الشيخ عبد الرازق "عيسى وقيصر مرتين" ويكرر هذه الجملة التي يسميها الكلمة البالغة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" مع أن مسلمًا صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير، وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.
رابعًا: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام وشنوا الحرب على المسلمين فيدافع عنهم في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينكر خلافته، ويقول: أن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حربًا من أجل الدين، ولكن كانت نزاعًا في ملوكية ملك ولأنهم رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام؟
أليست هي وحدة المسلمين، ويقول: "حكومة أبي بكر"، أوليست هي حكومة الإسلام والمسلمين، ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل، كأنه رجل عادي أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم، فضلاً عن تهافت الشيخ في الكلام عن الصحابة وهم أفضل الناس وأحبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخير من دافعوا عن الإسلام وجاهدوا في سبيل الله عز وجل.
وخامسًا: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب، ليس مألوفًا في الكتب العربية، فهو أسلوب مناورات ومراوغة ويتصف بالالتواء واللف والدوران، فهو يوجه الطعنة أو يلقى الشبهة. ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها ثم ينتقل ليقذف شبهة أو طعنة أخرى(1/161)
على طريقة "اضرب واهرب" وحين يهاجم يصوغ عبارته في غموض وهذا يدل على أسلوب رجل سياسي متمرن في المحاورة والخدعة، وهو أشبه بالأسلوب الأفرنجي. وأسلوب الدعايات السياسية أو الدينية التبشيرية وليس هذا أبدًا أسلوب العربي الصريح، فضلاً عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين في الأزهر وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
سادسًا: لم يعرف عن الشيخ علي عبد الرازق -من قبل- أنه كان كاتبًا تمرس في الكتابة ومرن على التأليف فيكتب بهذا الأسلوب ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظماء رجاله، ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب "أي في السياسة والتاريخ" بل ما كتب من قبل كان "كتيبًا" في اللغة أو في علم البيان، وهذا كل إنتاجه في أربعة عشر عامًا بعد تخرجه من الأزهر، ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عامًا لم يكتب كتابًا آخر في نفس موضوعه أو مثله ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.
سابعًا: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذي رواه فضيلة المفتي الشيخ محمد بخيت، نقلاً عن كثيرين من أصحاب الشيخ علي عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين، وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين، ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن.
والظاهر أنها محشورة حشرًا مجموعات في كل مكان، وأبيات الشعر التي استشهد بها، كما كتب المقدمة التي زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ 1915 وذلك ليغطي المقارنة الظاهرة بين وضع الكتاب ووقت صدوره، فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة(1/162)
صفحة عشر سنوات.
وفي مثل هذه المسائل بالذات فإن هذه الحالة أسهل؛ لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول، أو كانت المسالة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية، والطرف الثاني له مأرب سياسي ولكن الدافع الذاتي أنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور، "وقد انتفعنا في هذا البحث بدراسة الدكتور الريس وبحث مجلة المجتمع الكويتية وكتاب المعارك الأدبية".
الحقيقة أن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" من الأعمال التغريبية والاستشراقية الخطيرة التي أريد بها هدم القاعدة الأساسية للإسلام وهي قاعدة أن الإسلام دين ودولة في محاولة تنصير الإسلام وجعله مشابهًا للنصرانية التي هي بمثابة دين قائم على الوصايا وليس له تشريع؛ لأن تشريعه في اليهودية، وهذه القضية هي مفتاح الغزو الفكري الذي واجه به النفوذ الاستعماري بلاد المسلمين من أجل هدم هذه القاعدة وحصر الإسلام في المساجد وفي الصلاة والصوم وفرض الأيدلوجيات الغربية في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتربية، ومن هذا فتح الطريق أمام القانون الوضعي وكسر الحدود التي وضعها الإسلام والقضاء على محرمات الإسلام: الربا والزنا والسرقة والاختلاس والميسر، وإباحتها وجعلها في نظر الناس مشروعة، ومن وراء ذلك إمبراطورية الربا التي ترمي إلى تحطيم الضوابط والحدود وذلك للسيطرة على الاقتصاد الإسلامي وهدم المجتمع الإسلامي وإذاعة روح التحلل والترف وتغليب مفهوم المجتمع الاستهلاكي القائم على الشهوات واللذات والإباحيات، وهدم قاعدة "أخلاقية المجتمع وهدم مفهوم المسئولية الفردية للإنسان والتزامه الأخلاقي في بناء المجتمع الرباني في الأرض.(1/163)
وهكذا نصل إلى أن هذا العمل كان من المؤامرات الخطيرة والتي ما تزال تتخذ سورًا يقذف منها الإسلام على أيدي خصومه والراغبين في هدم شرعته.
وبالجملة فإن كتاب الشيخ علي عبد الرازق أحدث شرخًا استغله خصوم الشريعة اعتمادًا على أن كاتبه رجل من الأزهر ومن علماء الإسلام وليس الأمر كذلك في الحقيقة وإنما هي المؤامرة الشعوبية الضخمة التي قام بها التبشير والاستشراق لاحتواء أمثال علي عبد الرازق وطه حسين وهي مؤامرة مآلها الهزيمة والفشل بإذن الله .. " (1) اهـ.
* أحمد أمين صاحب فجر الإسلام يشكك في أحاديث البخاري والكتب الصحيحة ويطعن في أبي هريرة وعدالة الصحابة، وفي "فجرالإسلام" و"ضحى الإسلام" طوام لا يجوز السكوت عليها:
يقول الدكتور مصطفى السباعي في بحث مطول نشره في مجلة الفتح (في 14 حلقة) إن كتابي "فجر الإسلام" و" ضحى الإسلام" للأستاذ أحمد أمين (عميد كلية الأداب بالجامعة المصرية) 1940م، من أشهر الكتب الحديثة المؤلفة في تاريخ العلم والثقافة في عصور الإسلام الأولى.
ومع أن المؤلف معروف لدى الأوساط العلمية بغزارة العلم ودقة البحث وحب التأليف، فقد وقعت له في هذين الكتابين أخطاء، لا أحب أن أصفها، حتى لا أتهم بالمبالغة، وحسبي أن أقول: إنها مما لا يجوز السكوت عليها بحال من الأحوال.
ولما رأيت أن السكوت عن تلك الأخطاء والتحريفات جناية في حق
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 95 - 105).(1/164)
الدين والعلم فقد أسرعت بكتابة هذا البحث، في نقد فصل واحد من كتاب "فجر الإسلام" وهو فصل (الحديث) .. وسيرى القارئ أن الأستاذ أحمد أمين:
أولاً: تأثر إلى درجة كبير ببحوث المستشرقين وكتاباتهم في علم الحديث.
ثانياً: تأثر بآراء رءوس المعتزلة وطوائف الشيعة ممن يتشيع لبعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيرهم.
ثالثا: استنتج من عنده بعض آراء ليس لها أساس علمي ولا مستند تاريخي صحيح.
رابعًا: لم يلتزم الأمانة ولا الدقة فيما نقله من النصوص والآثار.
خامسًا: لم يعتمد في تاريخ الحديث على كتب علوم الحديث، بل اعتمد على كتب الأصول، وخاصة كتاب "مسلم الثبوت" وشرحه، ومن هنا أورد كثيرًا من الأحاديث، منها ما لم يعثر له على أصل في كتب السنة، ومنها ما جاء بأسلوب مغاير لما في تلك الكتب.
وقد كان يستطيع الرجوع في معرفة هذه النصوص إلى مراجعها الحقيقية، لولا أنه يسعى إلى غرض معين فهو يتصيد الأدلة من هنا وهناك من غير تحقيق ولا تدقيق.
وللأستاذ أحمد أمين أسلوب خاص في بث آرائه التي يخالف بها الجمهور، متبعًا فيها بعض ذوي الأهواء من المسلمين أو ذوي الأغراض من المستشرقين، ومن خصائص هذا الأسلوب أنه يأتي بالفكرة فلا يلقيها إليك في كتابه دفعة واحدة ولا يظهرها لك على أنها رأي لمبتدع أو لمستشرق، ولكنه يوزع شيئًا منها هنا وشيئًا هناك متلطفًا في الأسلوب، متظاهرًا بالبحث(1/165)
والتحقيق، ولا ينسى أن يستند في خلال ذلك إلى نص محرف أو حديث ضعيف أو رأي هزيل أو ينسب إلى العلماء قولاً لم يقولوه، وإلى بعض المذاهب آراء لم يذهبوا إليها، فلا يكاد ينتهي من بحثه حتى يكون قد أحكم بث الفكرة في ثنايا كتابه من غير إزعاج للقارئ ولا استفزاز لشعوره.
وبهذا الأسلوب استطاع الأستاذ أن ينجو مما لحق بزملائه من سخط الجمهور وأن ينال ثقته بإخلاصه وتجرده للحق والعلم.
وكم كان الأستاذ أحمد أمين بارعًا في التشكيك في أحاديث السنة، مما يدل دلالة قوية على أنه يشك فيها جملة -كما يقول كثير من المستشرقين- وكما قال من قبل بعض رؤساء المعتزلة والفرق الضالة والمبتدعة.
ومما يؤكد هذه الدلالة أن أحد المنتسبين إلى الإسلام في مصر، ممن تلقوا علومهم في جامعات روسيا الشيوعية (يقصد: إسماعيل أدهم أحمد) قام منذ سنين بوضع رسالة عن تاريخ السنة، انتهى به البحث فيها إلى أن هذه الأحاديث التي بين أيدينا، مشكوك في صحتها على العموم، ومن مزاعمه أن ما ذهب إليه قد وافقه عليه: فلان وفلان، والأستاذ أحمد أمين بكتاب أرسله إليه.
وانتظرنا من الأستاذ أن يكذب هذا الأتهام الفظيع الذي نسبه إليه تلميذ الشيوعيين فلم يفعل، بل قرئ له في بعض المجلات الأسبوعية ما يفيد تألمه مما حصل لصاحبه، وعد ذلك محاربة لحرية الرأي، وحجر عثرة قي سبيل البحوث العلمية الخالية من كل تعصب وهوى.
قال أحمد أمين: ويظهر أن الوضع في الأحاديث حدث في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحديث: "من كذب علي عامدًا متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" يغلب على الظن أنه إنما قيل لحادثة زوِّر فيها على الرسول - صلى الله عليه وسلم -. اهـ.(1/166)
ويقول الأستاذ مصطفى السباعي: إن هذا الذي استظهره أحمد أمين لا سند له في التاريخ، ولا في سبب الحديث المذكور، أما التاريخ فقاطع بأنه لم يقع في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أحدًا من الناس زور عليه كلامًا، ورواه على أنه حديث من أحاديثه - صلى الله عليه وسلم -، ولو وقع مثل هذا لتوافر الصحابة على نقله لشناعته وفظاعته، كيف وقد كان حرصهم شديدًا على أن ينقلوا لنا كل ما يتصل به - صلى الله عليه وسلم -
أما الحديث المذكور فقد اتفقت الكتب والسنة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما قاله حين أمرهم بتبليغ حديثه إلى ما بعدهم. وظاهر من الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد علم أن الإسلام سينتشر، وسيدخل فيه أقوام من أجناس مختلفة فيه بصورة قاطعة حث على وجوب التحري في الحديث عنه، وتجنب الكذب عليه بما لم يقله.
وليس في هذه الروايات إشارة قط إلى أن هذ الحديث قيل لوقوع تزوير على الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال أحمد أمين: وحسبك دليلاً عن مقدار الوضع، أن أحاديث التفسير التي ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: لم يصح عنده منها شيء، قد جمع فيها آلاف الأحاديث، وأن البخاري وكتابه يشمل على سبعة آلاف حديث، منها نحو ثلاثة آلاف مكررة، قالوا: إنه اختارها وصحت عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره. اهـ.
ويقول الأستاذ مصطفى السباعي: إن كثرة الوضع في الحديث مما لا ينكره أحد، ولكنه عندما أراد أن يستدل على مقدار الوضع فاستشهد بشيئين: أحاديث التفسير وأحاديث البخاري - وظاهر عبارته في أحاديث التفسير أنه يشك فيها كلها، إذ ينقل عن الإمام أحمد أنه قال: "لم يصح منها شيء" مع أنهم قد جمعوا فيها آلاف الأحاديث.(1/167)
والإمام أحمد لا يخفى مكانته في السنة. فإذا قال في أحاديث التفسير "لم يصح منها شيء" كان ما روي فيها مشكوكًا بصحته إن لم يحكم عليه بالوضع، أليست هذه نتيجة منطقية لكلام الأستاذ.
* الصحيح صحيح دون شك:
أما أحاديث التفسير، فلا يخفى على من طالع كتب السنة أنها أثبتت شيئًا. كثيرًا منها بطرق صحيحة لا غبار عليها، وما من كتاب في السنة إلا وقد أفرد فيه مؤلفه بابًا خاصًا لما ورد في التفسير عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة -رضي الله عنه - أو التابعين.
وقد اشترط علماء التفسير على أن ما يفسر كتاب الله عز وجل أن يعتمد فيه على ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
وقد جعلوا التفسير بين منقول وغير منقول، وأوجبوا على المفسر أن يرجع إلى الأول ويعرفه لو لم يصح منه شيء، بل لو لم يصح منه شيء كثير، لما فعلوا ذلك.
أما ما نقله عن الإمام أحمد، فهو يشير بذلك إلى ما روي عنه من قوله: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي" والكلام في هذه العبارة من وجوه:
أولاً: أن في النفس من صحتها شيئًا، فإن الإمام أحمد نفسه قد ذكر في "مسنده" أحاديث كثيرة في التفسير، فكيف يعقل أن يخرج هذه الأحاديث، ويثبتها عن خيرة شيوخه في "مسنده" .. ثم يحكم بأنه لم يصح في التفسير شيء؟!
وأيضًا فمقتضى هذا العبارة: أن يكون كل ما روي عن أخبار العرب، ومغازي المسلمين مكذوبًا من أصله، وليس هناك من يقول بهذا.(1/168)
ثانيًا: أن نفي الصحة لا يستلزم الوضع، والضعف، وقد عرف عن الإمام أحمد خاصة نفي الصحة عن أحاديث وهي مقبولة، وقالوا في تأويل ذلك أن هذا اصطلاح خاص به.
ثالثا: إن الإمام أحمد لم يقل أنه لم يصح في أحاديث التفسير شيء، وإنما قال: "ثلاثة ليس لها أصل، ولا يخفى ما بين العبارتين من فرق، إذ يحتمل أن يكون مراده نفي أن يكون للتفسير كتاب مأثور.
ولا يلزم فيه نفي صحة شيء من أحاديث التفسير.
رابعًا: يحتمل أن يكون مراد الإمام أحمد ما صح من التفسير قليل بالنسبة لما لم يصح.
* والكلام في أحاديث البخاري:
وننتقل إلى أحاديث البخاري وقد زعم الأستاذ أحمد أمين أنهم قالوا: إن البخاري اختار أحاديث كتابه وصحت عنده من ستمائة ألف حديث، ولا أدري من قال هذا القول؟!
أما علماء الحديث ورجال المصطلح، فقد ذكروا أن البخاري لم يجمع في كتابه كل ما صح عنده، فإذا كان العلماء يقرون أن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده يكون ما نقله الأستاذ أحمد أمين عنهم نقلاً غير صحيح.
وحاول الأستاذ أحمد أمين التشكيك في عدل الصحابة فقال: الذي جرى عليه العمل من أكثر نقاد الحديث -وخاصة المتأخرين منهم- على أنهم عدلوا كل صحابي ولم يرموا أحدًا منهم بكذب ولا وضع وإنما جرحوا من بعدهم.
ويقول الأستاذ مصطفى السباعي: مما اتفق عليه التابعون ومن بعدهم، من جماهير المسلمين ونقاد الحديث قاطبة: "تعديل الصحابة"(1/169)
وتنزيههم عن الكذب والوضع، هذا هو الواقع والمعروف في هذه المسألة.
ولكن المؤلف لغرض في نفسه -سبق التنبيه إليه- يريد أن يشكك في هذه الحقيقة فزعم أولا أن (أكثر) النقاد عدلوا الصحابة، مع أن النقاد قاطبة عدلوهم لم يشذ في ذلك أحد.
وزعم ثانيًا: أن قليلاً منهم من أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم، مع أن هؤلاء الذين تكلموا في الصحابة ليسوا من نقاد الحديث، ولكنهم من ذوي الأهواء والفرق المعروفة عند المسلمين، بالتعصب لبعض الصحابة على البعض الآخر.
وزعم المؤلف ثالثًا: أن هذا التعديل كان من أكثر نقاد الحديث، وخاصة المتأخرين منهم، مع أنه لم يؤثر عن أحد من المتقدمين من أهل العلم -من التابعين فما بعدهم- أنه طعن في صحابي أو ترك الحديث عنه، أو وضعه في ميزان الجرح والتعديل.
وهناك ثلاثة مزاعم يأتي بعضها إثر بعض، ليس من ورائها إلا تهوين القول بعدالة الصحابة على الإطلاق، وتجرؤ ذوي الأهواء في حقهم، إذ روي عن أولئك الأصحاب ما يخالف أهواءهم، مع أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم حماة الدين ونقلة السنة أمناء الشريعة.
لم يكتف المؤلف بهذا، بل زاد على ذلك زعمًا آخر تأكيدًا لما رمى إليه، وتقريرًا له في نفس القارئ، حيث قال بعد ما تقدم:
"ويظهر أن الصحابة أنفسهم في زمنهم كان يضع بعضهم بعضًا موضع النقد وينزلوا بعضهم منزلة أسمى من بعض .. إلخ".
وحاصل كلامه في هذا الموضوع أن الصحابة -رضي الله عنه- كان يشكك بعضهم في صدق بعض ويضع بعضهم بعضًا موضع النقد. وما ذكره أحمد أمين من أن الصحابة كان بعضهم يضع بعضًا موضع النقد، مع أن كل ما كان يقع(1/170)
من الصحابة من رد بعضهم على بعض، إنما هو نقاش علمي محض مبني على اختلاف أنظارهم وتفاوت مراتبهم في الاستنباط أو الاجتهاد، أو على نسيان أحدهم حديثًا وتذكر الآخر له، وليس ذلك ناشئًا عن شك أو ريبة أو تكذيب واحد لآخر.
ويقول الأستاذ مصطفى السباعي: إن الأستاذ أحمد أمين كان لبقًا في توجيه المطاعن نحو (أبي هريرة) -رضي الله عنه- ومجاراة المستشرقين والنظام ومن شايعه من المعتزلة في التحامل على هذا الصحابي الجليل، لقد وزع طعونه في مواضع متفرقة من بحثه، كان حديثه عنه حديث محترس متلطف، يحاذر أن يجهر بما يعتقد في حقه من سوء.
ولكن أسلوب الأستاذ وتحريفه لبعض الحقائق في تاريخ أبي هريرة -رضي الله عنه-، وحرصه على التشكيك في صدقه وتصديق الصحابة له، كل ذلك قد نمّ على سريرة الأستاذ، وأزاح الستار عن خبيئة نفسه قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أسر سريرة ألبسه الله رداءها".
ومن الإنصاف أن نقول: إن الأستاذ أحمد أمين لم يكن أول من أساء الظن بهذا الصحابي الجليل، ولا أول من حرف تاريخه، بل هو مقلد لأساتذته من المستشرقين، المتعصبين الذين دأبوا على تشويه الحقائق.
وعندما ترجم أحمد أمين لأبي هريرة: "اقتصر على ذكر نسبه وأصله وتاريخ إسلامه وأشار إلى ما روي من دعابة أبي هريرة ومزاحه.
وكان من حق الأمانة العلمية عليه أن يذكر لنا مكانته بين الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، وثناءهم عليه وإقرارهم له جميعًا بالحفظ والضبط والصدق.
ولكن الأستاذ أحمد أمين لم يفعل شيئًا من هذا بل تعرض لأمور يسيء ظاهرها لأبي هريرة -رضي الله عنه- جد الإساءة فكانت محاولة مستورة للطعن فيه تمشيًا(1/171)
مع جولد زيهر وأضرابه من المستشرقين.
وقد اقتصر المؤلف على ذكر الشك في حفظ أبي هريرة -رضي الله عنه- من بعض الصحابة، دون أن يذكر لنا إقرار جمهورهم بحفظه وتثبيته، ودون أن يذكر لنا ثناء أهل العلم عليه من التابعين من بعدهم، واعترافهم له بأنه أحفظ صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرواهم للحديث، وهذا دليل واضح على أنه لم يقصد بمقالته إلا الطعن الخفي في صدقه والتشكيك القوي في أحاديثه ومروياته وقد اعتمد المؤلف على دائرة المعارف الإسلامية في هذا الاتجاه.
إذا تذكرت أن الأستاذ أحمد أمين تابع جولد زيهر (اليهودي) في تجريح أبي هريرة -رضي الله عنه- واتهامه، علمت السر في توخي الأستاذ لهذه المسألة هنا وتتبع خطرات جولد زيهر، ثم رأيت إلى أي حد يكون التلاعب بالحقائق في سبيل الأهواء.
ماذا يضر أبا هريرة أن ينحله الواضعون أحاديث كثيرة، ثم كيف يكون الكذب عليه داعيًا للشك في أحاديثه كلها، لو أن العلماء لم يميزوا الثابت عنه من المنتحل، لكان هناك عذر في التشكيك بأحاديثه كلها، أما وأن أئمة الأحاديث ميزوا الصحيح عن الموضوع وبينوا ما ثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مما لم يثبت، بطرق هي غاية في الدقة والتحري، فلا عذر لأحد أن يتشكك في أحاديثه جملة، إلا أن يكون صاحب هوى وغرض يتلمس لنشر هواه كل طريق ملتو معوج.
ولعل القارئ أدرك من كل ما كتبنا، أن الأستاذ أحمد أمين تابع المستشرقين المتعصبين في التحامل على ذلك الصحابي الجليل ومنزلته في الحديث.
* بماذا يفتخرون:
والأستاذ مغرم جدًّا بمحاكاة المستشرقين ونقل أقوالهم، ومن ذلك قول(1/172)
زكي مبارك عنه:
إن أحمد أمين لا يهمه أن يرد الحقوق لأربابها إلا في موطن واحد، هو الموطن الذي يقول فيه: أنه استأنس بأراء المستشرقين ليقال: أنه يطلع على أقوال المستشرقين.
والغرض الأول من نشر هذا البحث هو لفت أنظار الباحثين وخاصة علماء الأزهر الشريف إلى ما في كتاب "فجر الإسلام" و"ضحاه" من أخطاء يعتبر السكوت عليها بعد الإحاطة بها جناية في نظر الدين والعلم، وحتى لا ينصحوا تلاميذهم باتخاذ هذا الكتاب وغيره مرجعًا أساسيًا (1).
* ساطع الحصري فيلسوف القومية العربية الزائفة:
"عرب نعم، إسلام لا: أنا لا ييك (أي علماني أو لا ديني):
سقطت نظرية ساطع الحصري فيلسوف القومية العربية؛ لأنها قامت على أساس التفسير الغربي للتاريخ، ففصلت العروبة عن الإسلام وهو أول من جعل العنصرية والعرق والدم بديلاً لمفهوم الإسلام الذي يقوم على الإخاء الإنساني، وهو أول مسئول عن التعليم العالي التركي في الوزارة التي شكلها الاتحاديون بعد سقوط الخلافة مباشرة وأول من صرح بأنه قومية إسرائيل تقوم على الدين، وأن الإسلام دين تعبد وينكر أنه نظام حياة ومجتمع، والحقيقة أنه ما ذنب العروبة والإسلام إذا كان ساطع الحصري غربي الفكر والذوق أعجمي النطق يتجاهل أن لغتنا لغة فكر وعقيدة وأن ديننا يجمع بين المادة والروح وبين العقل والقلب وبين الدنيا والآخرة.
حدثني الدكتور مختار الوكيل مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف، وهو رجل صادق مؤتمن، أنه في خلال عمله زار الأستاذ ساطع الحصري في
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 87 - 94).(1/173)
سويسرا ورأى السيد عبد الفتاح حسن السفير المصري دعوته إلى طعام للغداء فلما قدم مع الدكتور الوكيل حياه السفير المصري فقال:
مرحبًا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام، وقد عجب الرجلان من ساطع الحصري الذي رد في عنف وحدة:
"عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لا ييك".
وكلمة"لا ييك" تعني أن صاحبها علماني أو لا ديني.
وقد أحرز ساطع الحصري شهرة وافرة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية باعتباره فيلسوف القومية العربية، حيث روج لنظرية خطيرة كانت بعيدة الأثر في حجب العروبة الأصيلة المرتبطة بالأسلام فكرًا وعقيدة، وبالعالم الإسلامي تكاملاً وإخاء .. لقد كان دعاة حركة اليقظة في البلاد العربية يرون أن الجامعة الإسلامية قائمة بين العرب والمسلمين (فرسًا وتركًا) بعد زوال الدولة العثمانية. ولكن ساطع الحصري كان من أوائل الدعاة إلى فصل العرب عن المسلمين بمفهوم القومية الغربي الوافد الذي طرحه في أفق الفكر السياسي العربي. وهذا يرجع إلى أن ساطع الحصري كان ثمرة من أنضج ثمار المدرسة الاتحادية التركية، وأكبر الدعاة الذين نقلوا مفهوم القومية الطورانية التركية إلى أفق العروبة التي كانت ترتبط بمفهوم الإسلام في العلاقة بين الشعوب التي جمعها التوحيد والقرآن ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - والفكر الإسلامي الأصيل.
لقد كان ساطع الحصري مديرًا للتعليم في الدولة الاتحادية التي حكمت تركيا بعد إسقاط السلطان عبد الحميد بمفهوم العلمانية والطورانية.
وقد تعلم في مدرسة الاتحاديين، وآمن بفلسفتهم، ونقل فكرهم ومضامينهم إلى العرب، وذلك في سبيل تمزيق الوحدة الإسلامية الجامعة عربًا وتركًا وفرسًا، وخلق أسلوب القوميات والإقليميات التي تقوم على(1/174)
الصراع والاستعلاء بالجنس والعنصر.
وهو أول من حمل لواء العنصرية والعرق والدم بديلاً لمفهوم الإسلام الذي يقوم على الإخاء الإنساني. وقد كان فلاسفة الفكر القومي التركي من الاتحاديين: تلاميذ الفلسفة الوضعية متشبعين بالنزعة الطورانية العدوانية. وقد استمد ساطع الحصري مفهومه للعروبة من مفهوم القومية الغربية، والنظرية التي طبقها الأتحاديون في تركيا. فقد ركز على اللغة والتاريخ وعزلهما عن الفكر الإسلامي الجامع ككل كما ركز طه حسين على الأدب وعزله عن وحدة الفكر الإسلامي.
ونظرية ساطح الحصري التي روجت لها بعض الأحزاب السياسية العربية قد أثبتت خلال أكثر من ثلاثين عامًا فشلها الذريع، وعجزها عن العطاء؛ لأنها فرغت مفهوم العروبة من قيمه وتاريخه وعناصره الأخلاقية الروحية وجعلته مفهومًا ماديًا خالصًا.
وقد اعترف ساطع الحصري بأن إسرائيل قومية تقوم على الدين ورفض اعتبار الإسلام مقومًا بوصفه دينًا (بمفهوم اللاهوت). ذلك أن مفهوم ساطع الحصري للإسلام ناقص، فهو يراه دينًا لاهوتيًا وليس دينًا ومنهج حياة ونظام مجتمع على النحو الذي يؤمن به دعاة العروبة الإسلامية.
لقد فهم الإسلام على أنه "دين عبادي" كما فهم الأوربيون المسيحية، ولم يفرق بين الدين بعامة والإسلام، ولم يفرق بين العصر والبيئة والجذور الثقافية التي يختلف فيها عن مفهوم القومية في أوربا.
ولقد كان مفهومه للعروبة ناقصًا. فلم يصل الى مفهوم العروبة المترابط مع الإسلام، هذا الترابط الجذري الذي لا سبيل للانفكاك عنه.
ويرى كثير من الباحثين أن ساطح الحصري لم يعايش المناخ العربي قبل أن يضع مجموعة آرائه، وأنه استهدى بمناخ البلقان والنظرية الألمانية في(1/175)
حركته القومية التي رفع فيها شعار اللغة في مواجهة الدولة العثمانية للتحرر منها، وأنه كان حاقدًا على الترك حقد المحافل الماسونية التي احتضنت الاتحاديين ووجهتهم وجهتها، ودفعتهم إلى الدعوة إلى الذئب الأغبر كرمز لها بديلاً للقرآن.
وقد كان أكبر أساتذته في مفهوم القوميات "ماكس مولر" و"نوردو" وهما فيلسوفان يهوديان قصدا من وراء نظرية اللغة إلى إحياء القومية اليهودية.
وقد اعتبر ساطع الحصري اللغة أساس القومية، وعارض نظرية الأرض التي دعا إليها أنطون سعادة دون أن يتنبه إلى أن الفكر لا اللغة هو مصدر الوحدة.
وقد أجرى ساطع الحصري الجدل حول عديد من النظريات الأوربية في القومية دون أن يواجه جوهر المفهوم العربي الإسلامي المصدر والجذور: هذه الجذور التي تجعل من العسير فصل اللغة عن الفكر واعتبارها مقومًا منفصلاً، أو الاعتماد على نظرية بقاء اللغة أو ضياع اللغة مع أن الأساس هو بقاء العقيدة والفكر الذي يحمي وجود الأمة الحقيقي.
والواقع أن ساطع الحصري كان غربي الفكر أساسًا بل وغربي الذوق أعجمي النطق، وأن تركيبه الثقافي والاجتماعي يحول بينه وبين نظرية عربية إسلامية أصيلة مستمدة من واقع الأمة الإسلامية وكيانها، وذاتيتها التي لا تنفصل فيها اللغة والتاريخ عن الفكر نفسه. وفي ذلك مغالطة أو جهل. ذلك أن اللغة العربية ليست لغة أمة فحسب ولكنها في نفس الوقت لغة فكر وعقيدة، فإذا كان العرب وهم مائة مليون يتحدثون بها فإنها لغة العقيدة والفكر لألف مليون من المسلمين يرتبطون بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وذلك التراث الضخم من الفقه والعلم والتاريخ. وأن اللغة لا تنفصل عن(1/176)
الفكر وأن تاريخ العرب لا ينفصل عن تاريخ الإسلام.
ومرجع ذلك إلى أن ساطع الحصري نشأ -كما ذكرنا- في بيئة الاتحاديين الأتراك الذين كانوا صنائع للفكر الغربي، والذين نشأوا في أحضان المنظمات الماسونية، وحملوا لواء الإيمان بالفصل بين الدين والمجتمع، وفهموا الإسلام فهمًا غريبًا على أنه دين لاهوتي.
وعلى هذا الفهم الخاطى القاصر قامت نظرية ساطع الحصري التي لمعت سنوات تحت تأثير الخداع والأهواء حتى أن بعض دعاة الماسونية في العالم العربي راح يفسر عن طريقها تاريخ الإسلام كله فيرى أنه تاريخ قومي عنصري عربي. ومن ثم وجهت غارات الحقد والخصومة إلى الأمة الإسلامية وهذه هي الثمرة الحقيقة التي تهدف إليها حركة الغزو الثقافي التغريبي من طرح هذه النظرية القومية، الأقليمية الضيقة العدوانية الوافدة. بديلاً عن المفهوم الأصيل "العروبة في إطار الإسلام" كما كان يفهمه شكيب أرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا ومصطفى السباعي ومحمد المبارك.
هذه النظرية المضطربة التي خدع بها ساطع الحصري الكثيرين، التي سايرها كثير من المثقفين قبل أن يعرفوا سمومها العميقة. فلما عرفوها هاجموها وكشفوا زيفها.
والنظرية مضطربة من أساسها. ولو كان ساطع الحصري حسن النية لصحح موقفه من فهم الدين فهمًا غربيًا لائكيًا وفهم الإسلام بمعناه الجامع بين العقيدة ونظام المجتمع. لقد اعتمد أساس نظرية مفهوم الدين اللاهوتي بمفهوم أوربا والغرب للدين، ولذلك عجزت النظرية عن أن تنجح في إطار الفكر الإسلامي، بل إن كل العناصر التي عالجها كانت عناصر البيئة الغربية في مواجهة الصدع بين الجامعة المسيحية الأوربية وبين القوميات الإقليمية(1/177)
والتي كانت وراءها اليهودية الصهيونية لتمزيق هذه الوحدة والسيطرة على كل قطر على حدة. وهو نفس ما أرادته بالنسبة للجامعة الإسلامية التركية التي وقفت أمام دخول الصهيونيين إلى فلسطين وموقفهم من السلطان عبد الحميد واضح معروف.
إن كل التحديات التي تعالجها نظرية القومية الوافدة لا توجد أساسًا في المناخ الإسلامي هذا فضلاً عن اختلاف مفهوم (العروبة) عن مفهوم القومية في الغرب فضلاً عن اختلاف مفهوم الإسلام عن مفهوم الدين بصفة عامة.
ومصدر خطأ ساطع الحصري أنه عجز عن فهم أبعاد الفكر الإسلامي وأعماقه، وعلاقة العرب بالإسلام، وعاش في مؤلفاته خادمًا لنظرية القومية الأوربية الوافدة التي قدمها النفوذ الأجنبي من بين ما قدم ليحطم الوحدة العربية الإسلامية الجامعة بعد أن عجز عن فرض الإقليميات القائمة على التاريخ القديم كالفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية.
وذلك أنه لما رأى هذه المحاولات تتهاوى ورأى أن العرب يتجهون إلى الوحدة أراد أن يفرغ هذه الوحدة من مضمونها العقائدي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب والدنيا والآخرة إلى مفهوم اقتصادي مادي صرف، وبذلك فشلت نظرية القومية الوافدة كما فشلت مناهج التعليم الغربي، والقانون الوضعي وأسلوب التنظيمات السياسية الليبرالية وغيرها.
ولقد وقف ساطع الحصري في وضوح موقف الخصومة والحقد والتعصب على الإسلام كلما عرض له، وقد تجاهله طويلاً في أبحاثه كأن العرب لم يعرفوه خلال تاريخهم الطويل. وكانت محاولاته للفصل بين اللغة العربية والفكر الإسلامي من ناحية. وبين تاريخ العرب وتاريخ الإسلام محاولة ساذجة. ثم كشف نفسه وأسقط مكانته كاملة حين اعترف بالقومية اليهودية القائمة على الدين، بينما عارض عنصر الدين في فهم القومية العربية(1/178)
وإن كانت كلمة (دين) لا تؤدي معنى الإسلام حين يكون البحث حول العروبة.
وقد ثبت أن ساطع الحصري قد خدم بدعوته وفكره مفاهيم الماسونية والنظرية القومية الوافدة التي كان النفوذ الغربي حريصًا على تلقينها للعالم العربي. وهي ليست إلا صورة من مفهوم الإقليمية اللبنانية والمعروف أن ساطع الحصري كان من أعمدة وزارة المعارف في تركيا منذ أوائل حكم الاتحاديين في تركيا العثمانية إلى أن انتهت الحرب الأولى. وإنه كان من أخطر الموجهين للبرامج التربوية والتعليمية في العراق. حيث عمد إلى فصلها عن الإسلام فصلاً تامًا. وكان دوره أشبه بدور الدكتور طه حسين في التعليم المصري.
لقد حاول ساطع الحصري أن يقيم (فكرا عروبيًا إقليميًا) منفصلاً عن الإسلام في روحه ومضامينه وشريعته. ولقد تجاهل أعمق أثر تركه الإسلام في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ وتجاهل أثر القرآن الكريم في اللغة العربية وفي العرب، ومدى ترابط ذلك إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة بالأمة الوسطى الحنيفية السمحاء التي جاء بها إبراهيم عليه السلام فربطت هذا العالم الوسط (عالم العرب والإسلام) بروابط تاريخية وثقافية عميقة دعمتها الأديان السماوية التي نزلت في أرض الرافدين، وختمتها رسالة الإسلام العالمية التي نزلت في الجزيرة العربية.
* عجز الحصري عن فهم الفارق بين الكتلة الإِسلامية والقومية الغربية وبين العروبة والإِسلام:
أشار وليام ل. كليفلاند في كتابه "ساطع الحصري من الفكرة العثمانية إلى العروبة" إلى ما لتربية الحصري (غير الإسلامية) من أثر في توجهه(1/179)
القومي فيما بعد مؤيدًا في ذلك فلسفة الحصري التي نسبت إلى التربية خطرًا عظيمًا في تكوين الآراء والأهواء والاتجاهات فالحصري تعلم في المدرسة الملكية في إستانبول ولم يستظهر القرآن مثلما كان يفعل معظم تلاميذ السلطة العثمانية في عصره.
ويركز كليفلاند على هذا الفعل في حياة الحصري ويرى أنه هو السبب في أن ظهر في كتاباته بصورة المعادي للإسلام لا لسبب واضح إلا أن النمط القومي الأوربي معاد للكثلكة لسبب تاريخي أوربي خاص.
فالدين في أوربا أخفق فعلاً في منع اتحاد أولئك الذين قدر لهم الارتباط بأسباب تتعدى الدين، كما يقول كليفلاند: لكن الإسلام استطاع أن يوحد شعوبًا لم تكن العوامل الأخرى قادرة على توحيدها.
ْلقد أشار كليفلاند إلى تأثير الحصري بموقفه المتناقض الحاد بين القومية والكثلكة في أوربا وهو ما ليس له مثيل في المجتمعات الإسلامية بل إن كليفلاند يرى أن موقف الإسلام من القوميات يختلف عن موقف المسيحية في الغرب.
ويرى أن الإسلام كان قادرًا على التوحيد الحضاري الذي يقوى على الزمن، حيث ينزع الباحثون إلى اتخاذ عروبة القرآن نموذجًا على عوامل التوحيد الحضاري وإن كان الإسلام أحدث نتاجات حضارية أخرى فأنشا تراثًا غنيًا استطاع أن يوحد مجتمعات لم تكن جميعها مسلمة بالضرورة فالفتوحات الإسلامية دفعت المسلمين إلى دراسة الجغرافيا والعلوم العسكرية وتدوين الوقائع والتاريخ وتنظيم الإدارة وتطوير النظم الضريبية والرياضيات والموسيقى والعمارة، وهذه جميعها شكلت حضارة إسلامية ذات سمة خاصة وهي سمت الإنسان المنتمي إليها أيًا كان دينه أو مذهبه (1).
__________
(1) قائل هذا الكلام رجل غربي لذلك تجد به كثيرًا من الأخطاء الشرعية.(1/180)
أما الإنتاج الحضاري في أوربا في عصر ظهور القوميات فسلك مسالك مختلفة أهم ما فيها اللغات العامية هي التي عبرت عن هذا الإنتاج الحضاري فكان لا بد من أن تثور القوميات الناشئة على السلطة الاسمية التي كانت تمثلها الكثلكة، في مؤسساتها وسلطانها، أما الإسلام فلم يكن له يومًا تلك المؤسسة الدنيوية المركزية الكهنوتية ولا احتكرت فيه التشريع جهة من الجهات وكانت له في المقابل لغة واحدة لجميع المسلمين. اهـ.
هذه هي الفوارق العميقة بين الإسلام والعروبة وبين المسيحية والغرب والقوميات التي عجز ساطع الحصري عن فهمهما حين حاول أن يطبق النموذج الغربي في العلاقة بين المسيحية والقوميات على الإسلام والعروبة.
ومن هنا كان فشله وسقوط نظريته وعجزها عن الاستجابة الحقيقية، على هذا النحو الذي كشف عنه وليام كليفلاند في كتابه عن ساطع الحصري.
ويقول كليفلاند: إن الإسلام لم ينقض العروبة بل أغناها وأمدها بكابحات حضارية جعلتها صفة وسمة خاصة بين الأمم، وأمكنها من أن ترث مهمة مقارعة الغرب التي حملها الفرس على عاتقهم عشرة قرون منذ ما قبل الإسكندر، وأصبحت هذه الحضارة الإسلامية عند العرب من سمات قوميتهم وملامحهم المميزة أيًّا كانت عقيدتهم الدينية.
وغاية ما يقول كليفلاند: أن التناقض الحاد بين القومية والكثلكة في أوربا لا نجد له مثيلاً في المجتمعات الإسلامية، وهذا هو سر موقف الحصري الجاف من الإسلام غير أن البعض يرى: أن ساطع الحصري انتقل من مفهوم الاتحاديين حول القومية الطورانية إلى العروبة أو نقل مفهوم الاتحاديين إلى العروبة أو حاول تقديم المفهوم العلماني الذي تجمع حول فكر الطورانية الذي قدمه أعداء الإسلام وأصحاب الولاء الغربي، حيث حاول تقديم هذا الفكر(1/181)
في قضية الإسلام والعروبة ومن هنا كانت تجاوزاته ومحاذيره" (1) اهـ.
* سلامة موسى الكاره للإِسلام .. الدجال .. كالشجرة التي تنبت مرّا، لا تحلو ولو زُرِعت في تراب من السكّر:
"محاولة إعادة سلامة إلى الحياة محاولة خاسرة وقد باءت بالفشل الذريع. سلامة موسى الرجل الذي لم يعرف له في تاريخه الطويل موقف يدعو فيه لتحرير مصر من الاستعمار البريطاني وقد سقطت جميع آرائه وكشفت حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
لقد كانت كل كتابات سلامه موسى وأفكاره في حقيقتها جماع خيوط المخطط الماسوني التلمودي بباطله وهدمه وأخطاره ولقد عرف أن سلامة موسى كان يلفظ الإسلام والمسيحية معًا وهو الذي أضاف إلى قائمة الرسل والأنبياء: فرويد وماركس ودارون ولينين.
كان السؤال الهام في الندوة عن الظاهرة الخطيرة التي حاولت بها بعض الجهات طرح كتب سلامة موسى في السوق مرة أخرى بأعداد كبيرة، ونشرت عديدًا من كتبه ما عدا كتابه "اليوم والغد" الذي قال بعض أصحاب الولاء: أنهم لن يعيدوا طبعه والسر أن هذا الكتاب يكشف حقيقة سلامة موسى، ودعوته المسمومة، والشعوبية والماركسية جميعًا.
والحق إن كتابات سلامة قد تجاوزها الزمن، ولم تعد تمثل أي عطاء ثقافي بعد أن سقطت كل هذه الدعاوي التي روجها الاستشراق والتغريب في الثلاثينات والأربعينات .. شأنه في هذا شأن طه حسين ومحمود عزمي وعلي عبد الرازق ومن تبعهم أمثال حسين فوزي وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهم.
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 151 - 156).(1/182)
والواقع أن النفوذ التغريبي لا يهمد ولا يتوقف عن غاياته وإن بدا أنه يغير جلده بين حين وآخر ليخدع أجيالاً جديدة بتلك السموم التي قدمها على أيدي عملائه ثم تكشف زيفها.
دعا سلامة موسى إلى استعمال العامية وهدم العربية وجدّد الدعوة لويس عوض في مصر ويوسف الخال وأنيس فريحة في الشام وكانت النتيجة هي الفشل المحقق.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية "وجدد الدعوة بعده كثيرون ولم يصلوا إلى شيء.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية، وجدد الدعوة إلى إبطال حكم من أحكام الدين وذلك بشأن ميراث المرأة، وقد لقنه الباحثون درسًا قاسيًا مريرًا.
دعا سلامة موسى إلى الماركسية وقد كشفت الأيام زيف دعوته وفساد وجهته.
والحقيقة أن سلامة موسى لم يكن إلا رجل يحمل التراب فيذروه في وجه الناس حقدًا وكراهية لهذه الأمة أن يتحقق لها امتلاك إرادتها وخدمة لكل التيارات الحاقدة عليها والكارهة لها. ولقد كان الكاتب في هذه الفترة يعترف بأنه ماركسي أو غربي أو داعيًا لفرنسا أو إنجلترا ولكن سلامة موسى كان يعمل لكل هذه الجهات عن طريق الماسونية والمخطط الصهيوني الذي كان يحتضن كل فكر هدام .. فكان ينثر من كتابته مقتطفات عن (دارون) ومذهبه، وعن (فرويد) ومذهبه، وعن إقليمية مشوبة بالفرعونية، وعن العامية مشوبة باللاتينية ويحتضن كل كتاب هذه السموم من (ولكوكس) إلى (ماركس) ويدعي! ويناقض دعوته بمدح الخديو إسماعيل، وموالاة الاستعمار البريطاني ولا ريب فقد تخرج سلامة موسى من مدرستين:
من مدرسة تربية أبناء العرب الذين يقعون في فخاخ القوى العظمى فقد(1/183)
ذهب سلامة إلى بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت الباكر وجند لهذه الغاية.
أما الأخرى فقد كان تابعًا لمدرسة شبلي شميل، وجورجي زيدان، وفرح أنطون، ويعقوب صروف. هذه المدرسة التي كونها التبشير في بيروت، ثم قذف بها إلى مصر والبلاد العربية فتولت مقاليد الصحافة والثقافة وحملت حقدها الوافر على الإسلام والخلافة الإسلامية، واللغة العربية، وتاريخ الاسلام وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
إن هناك وقائع خطيرة كاشفة لحقيقة سلامة موسى بعد أن فضحه أصحاب دار الهلال الذي كان يعمل عندهم، ويتصل من ورائهم ببعض الجهات ليشي بهم (إبريل 1931 - مجلة الدنيا الجديدة) وقد نشرت بالزنكغراف خطاباته التي يقول فيها لمسئول:
"فأنا اكتب لسعادتكم وإدارة الهلال تهيئ عددًا خاصًا من المصور لسعد زغلول تستكتب فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة؛ لأن الإكبار من ذكرى سعد وتخصيص عدد له هو في الحقيقة إكبار من شأن الوفد ودعوة إليه - إني مستعد للدعوة للمعاهدة فهل لي أن أنتظر معاونتكم".
كتب هذا إبان وزارة اليد الحديدية التي شكلها محمد محمود، وتاريخ الخطاب 22 أغسطس 1939 وهو لا يزال في "دار الهلال ما يزال يتقاضى مرتبه منها، ويدحلها كل يوم يبتسم في وجه أصحابها، ويظهر لهم الود والإخلاص وفي الوقت نفسه يدس لهم، ويتجسس عليهم، ويرسل التقارير إلى وزارة الداخلية.
ثم عاد يتمسح بالوفد (إبريل 1931) فكشفت دار الهلال هذه الوثيقة وقالت: "أنت تتمسح اليوم بأعتاب الوفد، وتتعلق بزعماء الوفد. إن لدى(1/184)
دار الهلال البرهان القاطع على تلونك وغدرك".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد .. فقد أرسل خطابًا (نشرت صحف دار الهلال) صورته الزنكغرافية موجهًا إلى الأستاذ حسين شفيق المصري في 3 نوفمبر 1930 هذا نصه:
عزيزي حسين:
بعد التحية: تعرف الخصومة بيني وبين السوريين (أي أصحاب دار الهلال) فأرجوك أن ترسل لي خطابًا على لسان سوري وقح يشتمني فيه بإمضاء إسكندر مكاروس أو غيره من الهكسوس. وأنا في انتظار الخطاب.
أخوك سلامة موسى
وقد علق الأستاذ حسين شفيق المصري على هذا يقول:
كان يريدني أن أزور خطابًا، وأن أفتري على أمة، وأن أنزل إلى الدرك الأسفل من النذالة بالكيد لقوم ليس بيني وبينهم غير الصداقة والمودة.
هذا اللعب من لعب الصبيان فعجيب أن يكون منه وهو ينادي بأنه فيلسوف من علماء النفس، أغفر له كل شيء إلا أن يظن بي ما ظن من الجهل والحمق. وهو يدعوني إلى كتابة ذلك الكتاب الذي أشتمه فيه بتوقيع رجل بريء لا ذنب له إلا أن في الدنيا رجالاً لا يحاسبون ضمائرهم، ولا يرون أبعد مما بين أنوفهم وجباههم".
بل ويذهب سلامة موسى إلى أبعد من ذلك فيقول:
"ومما يدل على أن حركتنا الوطنية بأيدي ناس غير قادرين على الاضطلاع بها أن الحركة التي قامت في العام الماضي وكانت غايتها اصطناع القبعة قاومها زعماؤنا وقتلوها في مهدها. فأثبتوا بذلك أنهم لا يزالون آسيويين في أفكارهم، لا يرغبون في حضارة أوربا إلا مكرهين. وقد أدرك مصطفى كمال الذي لم تنجب بعد نهضتنا رجلاً مثله ولا ربعه ولا يعرف(1/185)
مقدار ما للقبعة من القيمة والإعلان بالانسلاخ عن آسيا، والانضمام إلى أوربا، ولم يمنع استعمال السيف في هذا".
ويقول: هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرًا وجهرًا فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوربا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق .. ليس هناك حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من الحضارة الأوربية.
ويقول: وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب، وبعثرة لقواهم. وكيف يمكننا أن نعتمد على جامعة دينية بينما في العالم نظرية تقول: أن الإنسان لم يكن راقيًا فانحط كما تقول الأديان. بل هو كان منحطًا فارتقى تعني بها نظرية التطور بل كيف يمكن لإنسان مستنير قرأ تاريخ السحر والعقائد أن يطلب منه أن يخدم جامعة دينية. إن الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحه شنيعة".
ويقول: "لا عبرة بما يقال من أن الإسلام أمر بالشورى فإن خطب جميع الخلفاء تثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظرًا بابويًا بل البابا نفسه إذا قيس إليهم في بعض الأشياء يعد دستوريًا".
ويقول: "إن أكبر تجربة اجتماعية رآها العالم هي الشيوعية الروسية الحديثة وظهور الشيوعية هو بمثابة حاجز بين الماضي والمستقبل فهي تفصل الاثنين فصلاً واضحاً وهي على ما فيها من نقائض اليوم وعلى ما ينال الناس البعيدين عنها من الرعب، فإنها ستكون بذرة لجملة أنظمة اجتماعية في المستقبل".
وهكذا تحوي كتابات سلامة موسى كل السموم التي علموه أن يثيرها في أفق العرب والمسلمين يومًا بعد يوم، علموه أن الاشتراكية هى الهدام(1/186)
الأكبر للمسلمين وازدراء كل ما هو عربي، والدعاية الشيوعية، وكذلك الدعاية للإباحية.
يقول سلامة موسى: "ليس من مصلحة الإنسان أن يعيش في قفص من الواجبات الأخلاقية، يقال له هذا حسن فاتبعه وهذا سيئِّ فاجتنبه".
وعلموه الدعوة إلى التبعية للغرب وللاستعمار.
يقول سلامة موسى أيضًا: "أجل يجب أن نرتبط بأوربا، وأن يكون رباطنا بها قويًا نتزوج من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها من اكتشافات واختراعات وننظر للحياة نظرها، ونتطور معها تطورها الصناعي، ثم تطورها الأشتراكي والاجتماعي، ونجعل أدبنا يجري وفق أدبها بعيدًا عن منهج العرب، ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها".
هذا هو سلامة موسى الذي يريدون أن يحيوه مرة أخرى ويجددوا فكره، هذا الفكر الذي تجاوزه المسلمون والعرب اليوم وإَن كانوا قد خدعوا به هناك يوم كان دعاة التغريب تعوي كتاباتهم بالسموم!!
إن ما قدمه سلامة موسى عن الماركسية والفرويدية والدارونية هي كلمات مجمعة قد جاوزها البحث العلمي الآن، وكشف زيفها فقد ظهر الآن فساد ما دعا إليه دارون وتبين أن وراء إذاعة دعواتها ونشرها كانت التلمودية التي تريد أن تقول: أن الإنسان حيوان لتمهد لفرويد اليهودي نظريته في الجنس وكانت الماركسية والفرودية والداروينية من أدوات الفكر الصهيوني، الذي حاول أن يؤسس مدرسة في البلاد العربية والإسلامية. كما دعا إلى البهائية التي عرفها في لندن سنة 1910 عندما اتصل بجماعة الدهريين ولم يدع كتابًا من كتبهم لم يقرأه وكانت معظم مؤلفاتهم في نقض الأديان السماوية -على حد تعبيره- ولا بد أنه اتصل بمحافل الماسونية، وتعلم فيها فإن كل اتجاهه كان ماسونيًا تلموديًا ولم تعرف حقيقته إلا بعد أن ترجمت(1/187)
بروتوكلات صهيون إلى اللغة العربية عام 1948، وأن كل محاولاته وخططه كانت ثمرة هذه التبعية الماسونية التلمودية وقد أشار كثيرون إلى أنه لم يكن مسيحيًا صادقًا وإنما كان ولاؤه لفرويد وماركس.
وقالوا: الشجرة الفاسدة تثمر ثمرًا رديئًا، وكل شجرة لا تثمر ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار.
ولا ريب أن دعوة سلامة موسى إلى وحدة الأديان هي من مفهوم البهائية، وأن اهتمامه بالسلطان "أكبر" الهندي الذي أجرى هذه التجربة داخل في دعوته، كذلك دعوته إلى وحدة الوجود، ومذهب (سيبونزا) في وحدة المادة والقوة والروح والجسد هي من طريق خطه الواضح وكذلك فهو يرى أن حرق جثمان الميت أطهر وأنظف!!
وقد تمنى سلامه موسى أن يحرق جسمه بعد موته، وقد عمل على نشر آراء تولستوي وغاندي؛ لأنها تحاول مواجهه مفهوم الإسلام الجامع ومفهوم الجهاد وحتى ديانته المسيحية فإنها لم تسلم من هجومه وهو يعتقد أنها حجبت عن عقول الناس نور الثقافة اليونانية وحريتها، وأن هذا الحجب والحجر ظل ألفًا وخمسمائة سنة حتى بدأت بشائر النهضة الأوربية التي كان أساسها الخروج عن سلطان الكنيسة وإطباقها على النفس والعقل البشريين، والعودة إلى أسس الثقافة اليونانية وحريتها.
وقد بشر بدين جديد دعا إليه ودخل هذا الدين في عقيدته أنه (دين البشرية) كما يسميه، وهو ما دعا إليه (أوجست كونت)، ويرى أن دين البشرية بذرة من ديانة بوذا وهو دين لا يدعو إلى الإيمان بالله، أو الخلود في العالم الثاني، ولا ريب هذا الاتجاه الذي استكمله بأنبياء آخرين آمن بهم هم ماركمس وفرويد بوحي بماسونيته وولائه التلمودي الصريح، كذلك فإن دعوته إلى العالمية هي دعوة الصهيونية العالمية التي تريد هدم الأمم. المسلمة في(1/188)
مرحلة ضعفها واحتوائها للسيطرة عليها وتذيبها في أتون الأمية.
ولا ريب أن حملة سلامة موسى على اللغة العربية الفصحى، والشعر والأدب العربي هو دعوة مبطنة للحملة على الإسلام والقرآن وهي الدعوة التي حمل لواءها لويس عوض من بعد وتؤكد دعوته في مجموعها موالاة الدعوة الشعوبية التي ترمي من وراء القضاء على العرب وكيانهم إلى القضاء على الإسلام باعتبار أن تلك هي قاعدته الأساسية.
لقد كانت أصدق كلمة لباحث معاصر أنه لم يعرف لسلامه موسى مقال وطني واحد دعا فيه إلى تحرير مصر من الاستعمار البريطاني.
إن محاولة إعادة سلامة موسى إلى الوجود محاولة باطلة فقد سقطت آراؤه جميعًا وكشفت حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
* ما هو رأي مصطفى صادق الرافعي في سلامة موسى؟
يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي:
رأيي في سلامة موسى معروف. لم أغيره يومًا. فإن هذا الرجل كالشجرة التي تنبت مرًا. لا تحلو ولو زرعت في تراب من السكر، ما زال يتعرض لي منذ خمس عشرة سنة، كأنه يلقي عليَّ وحدي أنا تبعة حماية اللغة العربية وإظهار محاسنها وبيانها، فهو عدوها وعدو دينها وقرآنها ونبيها، كما هو عدو الفضيلة أين وجدت في إسلام أو نصرانية.
دعا هذا المخذول إلى استعمال العامية وهدم العربية، فأخزاه الله على يدي، وأريته أنه لا في عيرها ولا نفيرها. وأنه في الأدب ساقط لا قيمة له.
وفي اللغة دعي لا موضع له، وفي الرأي حقير لا شأن له فلما ضرب وجهه عن هذه الناحية وافتضح كيده دار على عقبيه واندس إلى غرضه الدنيء من ناحية أخرى، فقام يدعو إلى (الأدب المكشوف) فأخزاه الله مرة أخرى ولم(1/189)
يزد بعمله على أن انكشف هو، فلما خاب في الناحيتين، اتجه إلى الشارع الثالث فانتحل الغيرة على النساء والإشفاق عليهن، وقام يدعو المسلمين إلى إبطال حكم من أحكام دينهم وإسقاط نص من نصوص قرآنهم ظنًا منه أنهم إذا تجرأوا على واحدة هانت الثانية، وانفتح الباب المغلق الذي حاول هذا الأحمق فتحه طول عمره من نبذ القرآن وترك الإسلام وهجر العربية كأن إبليس لعنه الله قد كتب على نفسه (كمبيالة) تحت إذن وأمر (سلامة موسى) إذا محيت العربية أو غير المسلمون دينهم أو أبطلوا قرآنهم، فكانت البدعة الثالثة أن يدعو المسلمين جهرة إلى مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، فأخزاه الله.
ثم قام هذا المفتون يدعو إلى الفرعونية؛ ليقطع المسلمين عن تاريخهم، وظن أنه في هذه الناحية ينسيهم لغتهم وقرآنهم وآدابهم، ويشغلهم عنها بالمصرولوجيا، الوطنولوجيا، ثم أتم الله فضحه بما نشره أصحاب دار الهلال.
ويقول الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تحت عنوان:
سلامة موسى ليس بشيء إن لم يكن دجالاً!!
بضاعته بضاعة الحواة المشعوذين وله حركاتهم وإشاراتهم وأساليبهم.
يزعم نفسه أديبًا، وتعالى الأدب عن هذا الدجل، ويدعي العلم، وجل العلم أن يكون هذا دعاؤه، ويحاكي الملاحدة ليقول عنه المغفلون أنه واسع الذهن، وليتسنى له أن يغمز الإسلام ويبسط لسانه في العرب، والحقيقة أنه لا أديب ولا عالم، وإنما هو مشعوذ يقف في السوق، ويصفر ويصفق ويصخب، ويجمع الفارغين حوله بما يحدث من الصياح الفارغ والضجة الكاذبة.
لقد آن لمن تعنيهم كرامة الأدب أن يقتلعوا هذه الطفيليات، وأن يطهروا من حشراتها ونباتها رياضة، وأن يقصوا عن مجاله هؤلاء الواغلين الذين(1/190)
يتخدون أسمى ما في الدنيا وأجل ما في النفس طبولاً لهم، ويتذرعون بالتهجم على الدين -على دين واحد في الحقيقة- وعلى العلم والفلسفة والأدب لنيل ما يستحقون، ويفسدون عقول الناس، ويبلبلون خواطرهم بما يغالطونهم فيه ويخادعونهم".
* سلامة موسى: دارون ونظرية التطور:
حاولت قوى التغريب دفع أفكار سلامة موسى إلى أبعد مدى بعد أن هلك، ولكن لم يكن ذلك ليجد أي صدى، فقد تقادم العهد الذي كانت كتاباته تملأ نفوس الشباب ببريق خاطف، وتبين فساد النظريات الثلاث التي دافع عنها وسقوطها:
ا- نظرية اللادينية والعلمانية، وهذه قد تداعت في داخل المجتمعات التي دعت إليها وظهرت بها.
2 - نظرية داروين التي تكشفت الأخطاء عن فسادها وزيفها.
3 - نظرية التحليل النفسي لفروديد وقد اعتورها زيف كبير ونكشف عن أنها نظرية تلمودية تستهدف تدمير الإنسان وتحطيم وجوده.
يقول الأستاذ لمعي المطيعي: أن سلامة موسى وجه سهم قلمه مباشرة إلى عقيدة المصريين جميعًا، حيث ترجم في وقت باكر كتاب "نشوء فكرة الله" لجرانت إليه، فهم يؤمنون إيمانًا راسخًا بالخالق (خالق السموات والأرض) فلماذا يأتي هذا الكاتب ليعرض عليهم هذه الأفكار وما مدى اقتناعه هو نفسه بها سيما وإن كان قد تتلمذ على أفكار شبلي شميل وكتب عن الدارونية ونظرية التطور ودعا إلى العلمانية.
وقال: الانطباع الأول هو الانطباع الأخير.
لقد غفل الكاتب عن حقيقة جوهرية، وهي أن الأمة العربية تحرص(1/191)
على التطور والتقدم والتحديث من خلال المحافظة، على العقيدة وليس عن طريق التناقض معها أو مواجهتها إذ أن الشعوب العربية تؤمن بأن العقيدة لا تتناقض مع العلم بل إنها تدعو إليه.
ومن أعماله أنه طالب باستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية في الكتابة على زعم أن الكتابة بالحروف اللاتينية أيسر، فثار أهل العربية -على حق- ضد هذه الدعوة ووجدوا منها سندًا جديدًا على اتجاه الكاتب: (المعادي لعقائد الناس ولغتهم).
وقد تتلمذ سلامة موسى على أفكار لطفي السيد وفرح أنطون ويعقوب صروف".
ويقول نعمان عاشور الذي كان يحضر مجالسه الخاصة: إن آراءه واتجاهاته كانت تجنح في معظمها للتطرف الجارف والخروج عن المألوف، وكان يخفي نزعته الطائفية وراء ستار رقيق من العلمية، ولكنه اضطر أن يكشفها في مقالاته في جريدة مصر، وكان يكشفها لتلاميذه في اجتماعاته الخاصة مع دعواه الدائمة في كتاباته إلى نبذ التعصب وإبعاد الدين عن الخلافات السياسية والمذهبيات الاجتماعية والتطلعات الوطنية والقومية.
وقد دعا إلى الفرعونية، وكتابة العربية بالحروف اللاتينية، وكانت له نظرات محددة في معالجة الجنس فضلاً عن النظرة الاشتراكية.
وقد عمل سلامة موسى في جمعية الشبان المسيحية، ما وصفه نعمان عاشور بأنه "حدبة على الشباب" وندواته ومحاضراته ومناظراته التي كان يشترك فيها وملتقى كبير من الشباب المسلمين والمسيحيين الذين كانوا يؤمنون بما يعتقده.
ا- الاتجاه إلى المذاهب الاشتراكية.
2 - الإيمان بالغرب.(1/192)
3 - كراهية الإسلام.
وكان يوزع على الجالسين ورقة صغيرة يكتب كل منهم رده على ما سيوجه إليهم من أسئلة كشباب ليعطوها له في آخر الجلسة حيث يقوم بعمل حصر ميداني لمشاكل الشباب.
وقال: أنه صودر في حملة عام 1946 مع زكي عبد القادر وعصام الدين حفني ناصف.
وكان قد أقام في لندن أربع سنوات تأثر فيها بالحركة الاشتراكية الفابية وكان معجبًا ببرنارد شو وتتلمذ على يعقوب صروف وفرح أنطون، وكان له دوره في مجلة الهلال".
ولا ريب أن كتابة "نعمان عاشور" تكشف الكثير وتلقي الضوء على الخطة التي كانت تقوم عليها جمعية الشبان المسيحية في الثلاثينات بالاشتراك مع الجامعة الأمريكية من ناحية أخرى في التبشير واجتذاب الشباب، ومع الدور الذي كان يقوم به طه حسين في كلية الآداب، ومدرسة السياسة (محمود عزمي وعلي عبد الرازق) في حزب الأحرار الدستوريين.
وذلك مخطط مدروس كشفنا عنه في كثير من الدراسات وهو نمو طبيعي لمدرسة سعد زغلول ولطفي السيد في التعليم والصحافة والأحزاب الموالية لكرومر والاستعمار.
ولو أفصح الأستاذ نعمان عاشور لقال: أن سلامة موسى كان يجتمع بالشباب بعد اختباره والتعرف عليه في غرفة مغلقة في جمعية الشبان المسيحية وكان يتناول أخطر المسائل بالنسبة للإسلام والقرآن بعد التأكد من أن الحاضرين عليه يحتقرون الإسلام ويسخرون منه، وكان ذلك كله مددًا لمعهد شارع المناخ الذي كان يديره (هنري كوريل) اليهودي الميسور الذي أنشا في مصر خلايا الشيوعية وأحزابها والذي ينتسب إلى التلمذة عليه عدد كبير من(1/193)
الأسماء اللامعة الآن في مجال اليسار والشيوعية.
- وعندما تطالع مواد العدد الأول من المجلة الجديدة (ديسمبر 1929) التي أصدرها سلامة موسى بعد أن فصل من دار الهلال تجد أنه أراد أن يسجل برنامجه التغريبي كاملاً فأورد هذه الموضوعات:
- العلم وحده (محمود عزمي).
- المجددون يقولون بالتطور (سلامة موسى).
- دارون، الفرعونية، الإغريق.
- الصراحة في المسائل الجنسية.
- البهائية، الرجعية، الوطنية والعالمية.
- التجديد في تركيا.
- الشرق شرق والغرب غرب.
- المصريون أمة غير شرقية.
- دين البشرية.
- الأزمة الدينية في العالم.
- اللغة العربية.
- المادية.
- العقل وحده، غاندي.
- السفور في العالم الإسلامي.
- فولتير، هافلوك إليس، نيتشه.
- البشرية دين جديد.
- التعليم.
- السلفيون والمجددون.
- أرايت أيها القارئ المسلم هذه الموضوعات: هل غادرت قضية واحدة(1/194)
من قضايا التغريب، ما أحوجنا إلى بحث جامع في الرد على العدد الأول من المجلة الجديدة!
واليوم وبعض أبناء سلامة موسى يجددون تراث أبيهم تراهم يخافون طبع كتابه "اليوم والغد"؛ لأنه يكشف خطته ومؤامرته على العروبة والإسلام واللغة العربية (وهو كتاب قرأته وأنا في السابعة عشرة)، لكنهم يطبعون كتاب "الثورات" الذي هو خدمة أساسية للفكرة الماسونية التي تعمل على تحطيم الأنظمة الروحية والاجتماعية والأخلاقية في العالم الإسلامي، معليًا من شأن الثورة الفرنسية على أساس أنها قمة الثورات، وإعلان، الإعجاب بها مع عدم تعمق الفهم للدوافع والغايات التي أحاطت بها، وأنها هي ثورة الماسونية الحقيقية التي أخذت تعدلها منذ عصر فولتير، ورسو، وديدرو والتي غيرت وجه أوربا كله في سبيل تمكين اليهود للخروج من الجيتو وإحلال الانتماء الوطني بديلاً للانتماء الديني، والقضاء على التنظيمات المسيحية التي حاولت وقف خطرهم وسيطرتهم، وتحطيم وحدة الجامعة المسيحية في أوربا، بل إن البروتستانتيين كما يبين من بعد كانوا في خدمة أهداف الماسونية والصهيونية وأنهم حتى الآن هم المؤيدون لفكرة وجود اليهود في إسرائيل".
- وبعد فإن مفتاح شخصية سلامة موسى هو كراهيته للإسلام والعمل في كل معسكر معادٍ له، ويبدو أن سلامة موسى حين ذهب إلى لندن جندته الماسونية العالمية بذكاء خارق واستغلت نحلته على النحو الذي اسُتُغِلّ به شبلي شميل في مهاجمة الدين بصفة عامة والإسلام بصفة خاصة" (1) اهـ.
وذهب شبلي شميل وسلامة موسى إلى مزبلة التاريخ مع الدّجالين الذي تلعنهم السموات والأرضون والناس أجمعون.
__________
(1) انظر "جيل العمالقة" (ص 163 - 176).(1/195)
* توفيق الحكيم ينكر رؤية الله في الآخرة ويخوّل لنفسه أن يتكلم باسم الله:
"منذ أن بدأ توفيق الحكيم كتاباته الأولى كان واضحًا أنه مغرب وأن أمانته للفكر لغربي أكبر من أمانته للفكر الإسلامي العربي وعندما كتب أكبر أعماله: أهل الكهف وسليمان الحكيم، اعتمد على التوراة مصدرًا للقصة، وبذلك جار على مفهوم الإسلام الذي قدمه القرآن الكريم وهو في مختلف القضايا الكبرى المثارة أخذ جانب التغريب (رأيه في العرب، الفن للفن، لا يوجد اليوم شرق، القبعة) وهو الذي عاش في كنف النفوذ الاستبدادي مؤيداً ومساندًا حتى إذا تغير الوضع أعلن موقفًا جديدًا ثم هو الموالي لكل تيار: الاشتراكية، لوجودية، اللامعقول، الفرعونية، اليونانية، وفي القصة انتقل من الواقعية إلى الرمزية، إلى اللامعقول وفي آخر حديث له قال: إن كل أعمالي التي تبت العمر فيها لا قيمة لها، ضيعت حياتي في كتب كان يخيل إلي أن لها قيمة، ربما كانت لها قيمة في الثلاثينات والأربعينات ولكن بعد الخمسينات لا أظن.
ولم يكن توفيق الحكيم إلا ناقل فكر غربي من مختلف مدارس المسرح والقصة وكان للمسرح والقصة اليونانية والغربية بهرًا في مطالع المرحلة، ولكن ثقافة الأمة وذوقها قد تحول، وبدأت أشياء جديدة تأسر العواطف والمشاعر.
أما موقفه من العرب، هذا الموقف الكاره الذي يقوم على انتقاص الأمة التي أختيرت لحمل رسالة الإسلام، بعد أن تهاوت أمانة الرسالة لدى أمم أخرى، فهو موقف مبني من الأمم الحاقدة التي لها ولاء خلف الإغريق والوثنيات، يقول توفيق الحكيم: في مسرحية "شهر زاد" صدى الأفكار الكثيرة التي دوت في ذهني إثر اتصالي بالفلسفة الأوربية. كانت الفلسفة(1/196)
الأوربية في ذلك الوقت تقوم على أن الإنسان هو رب هذا الكون، وأن الله (جل وعلا عما يقولون علوًا كبيرًا) قد مات كما قال نيتشه وأن المتحكم في مصائر البشرية هو الإنسان وحده بحريته المطلقة، ولذلك كانت موجة الالحاد وإنكار الدين تغمر المحيط الثقافي الأوربي عندما ذهبت إلى باريس في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وقد صدم هذه العقلية الشرقية المتدينة التي أحملها فوجدت كل هذه الأفكار المتضادة متنفسًا لها في مسرحية شهر زاد".
- وتوفيق الحكيم الذي يعترف بأولياته ومصادره على هذا النحو هل استطاع أن يتحرر منها بأن يعود إلى أصالته أم أنه مضى منطلقًا في هذا الطريق الذي شقه ومن قبله العلمانيون التغريبيون أمثال طه حسين، ومحمود عزمي، الواقع أن توفيق الحكيم لم يغير طريقه وإنما مضى فيه إلى أبعد الحدود حين وصل إلى الحوار مع الله في السنوات الأخيرة والسخرية من ملائكة الله، ومن ملك الموت على وجه الخصوص في عديد من كتاباته وأحاديثه.
- أما وقائع حياته فهي تكشف عن تبعية واضحة للفكر الغربي فهو من أوائل الدعاة إلى القبعة الأوربية واتخاذ الحضارة الغربية منطلقًا للعرب والمسلمين، وهو الداعي إلى الإقليمية المصرية ذات الطابع الفرعوني الكاره للعرب والمسلمين، وهو صاحب التبعية للنسق الغربي في الأدب والولاء للصهيونية العالمية والتلمودية، وقد تساقطت دعاواه ومذاهبه ومنطلقاته على مدى الأيام حتى أعلن ذلك صراحة في السنوات الأخيرة، ولكن المرحلة الجديدة من أحوال مصر والبلاد العربية جددت فيه الأمل مرة أخرى إلى التشكيك وإثارة البلبلة واقتحام مجالات لا يحسنها، وعرفت عنه تقلباته المتوالية، فبعد أن نعم بالعصر الناصري، عاد فأعلن هجومه عليه، ثم فعل كذلك مع السادات.(1/197)
- قد وصف توفيق الحكيم في هذا المجال بالانتهازية، وقيل له: هل نسيت ما قلته مدحًا في عبد الناصر وعهده فلما ولى هاجمته هجومًا مريرًا في كتابه "عودة الوعي" وخلص إلى نتيجة مؤداها أن هذا العهد قد جر الخراب على مصر وعمم الإرهاب واعتذر لنفسه بأنه كان فاقد الوعي لا يدري ما كان يحدث ويجري.
- ويقول أحد المعلقين: ولعل التربية غير السوية انعكست على أفكاره وتصرفاته وأسلوب حياته لقد فشل في تربية ولده الوحيد كما أنه فشل في أن يكون أنموذجًا للأب الصالح الذي يعتز به الولد، هذا إلى جانب فشله كأب في أن يتمتع به مع أن الأبناء من متع الحياة الدنيا، وزينتها، لقد مات ولده مخمورًا، قتلته الخمر تحت سمع وبصر والده المفكر الذي تطاول إلى الحديث مع الله، وقد جاء ذلك في اعترافاته التي رواها لمحررة مجلة صباح الخير.
- يعدون توفيق الحكيم الأب الروحي لمدرسة الأهرام التي أنشأها هيكل: (حسين فوزي، وزكي نجيب محمود، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، وعبد الرحمن الشرقاوي) وهي مدرسة موالية للتغريب والمادية والفكر الإباحي المنحرف، كل على حسب وجهته والتي تمثل ظاهرة العلمانية التي تروج لها وتجعل من صحيفة الأهرام ميدانها والتي تحتمي فيها بنفوذ خطير، يجعل من شأن هؤلاء الكتاب طرح تصوراتهم دون أن تسمح بمناقشتهم أو الرد عليهم.
ولقد كانت أكبر خطاياه ذلك الحوار الذي أجراه وأدخل فيه كلامًا على لسان الله تبارك وتعالى مجترئًا على هذا الجانب، فاتحًا الطريق إلى وجهة خطيرة لم يسبق أن جرؤ كاتب مهما بلغت درجته في التغريب إلى الوصول إليها وعندما ذهب له العلماء يناقشونه قال في صلف غريب: إنه ما زال(1/198)
مصرًا على ما كتب غير مقتنع بأنه أخطأ وقال بالنص: إني لم أرتكب خطأ؛ لأن كلامي مع الله كان صريحًا، وليكن الأسلوب ما يكون ولكني لن أغير كلمة واحدة منه وقد جاء في مقالاته تجاوزات خطيرة:
أولاً: الاجتراء على مقام الله تعالى حيث لا يجوز لمسلم أن يتخيل حديثًا مع الله فهذا اجتراء على مقامه.
ثانيًا: التشكيك في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثالثًا: قوله: إن الأديان نسبية ودعوته إلى التسوية بين الأديان السماوية.
رابعًا: الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة.
خامسًا: ادعاؤه أن العلماء التجريبيين غير المسلمين يدخلون الجنة.
سادسًا: مهاجمته للغة العربية ودعواه أنه لا يُنتفع بها وأن عصرها قد انتهى.
- كشف توفيق الحكيم عن نفسه في كتاب "زهرة العمر" فقال:
إني أعيش في الظاهر كما يعيش الناس في هذه البلاد، أما في الباطن فما زالت لي آلهتي وعقائدي ومثلي العليا، كل آلامي مرجعها هذا التناقض في حياتي الظاهرة وحياتي الباطنة (1943).
والحقيقة أن مراجعات الحوار مع توفيق الحكيم التي أجراها العلماء عام 1983م، وبعد أربعين سنة تحتاج إلى هذا النص حتى يمكن تفسيرها وتوضيحها.
وإذا كان توفيق الحكيم يزعجه أن يواجه بأخطائه مما لم يحدث لطه حسين وغيره فإن عليه أن يعلم أن هذا ليس نفوذ علماء الإسلام بل هو طبيعة الصحوة الإسلامية فقد مضى العهد الذي كان التغريبيون يخوضون في الأمور ما ليس من حقهم ثم لا يجدون من يواجههم ويكسر منطلقهم الباطل،(1/199)
وقولته: "إن علماء الدين يريدون أن يكونوا لهم وحدهم حق تشكيل عقلية الأمة على أساس العلم الديني الذي درسوه في الكتب المعتمدة وطبقًا للنصوص التي قرأوها وأقروها وحدهم دون أن يقبلوا تطورًا في أصولها أو أي شيء من المعارف التي تصل إلى تفكيرهم بالحياة على النحو الذي يعيش عليه الجزويت".
- إن هذا النص يوحي بأن توفيق الحكيم لم يستطع خلال أكثر من أربعين سنة أن ينظر إلى اليقظة الإسلامية وما زال غارقًا في بحيرة الجزويت ومفاهيم المسيحية الغربية، ونحن نقول له: إن المواجهة التي يلقاها ليست مواجهة علماء الدين ولكنها هي تصحيح لمفهوم الإسلام الأصيل الذي هو وحده الذي يشكل عقلية الأمة، وليس هو العلم الديني بمفهوم اللاهوت الغربي، ولكن بمفهوم العلم الإسلامي الجامع المتكامل الذي يمثل حقيقة المنهج الصحيح للفكر والثقافة والذي يواجه كل فكر وثني تغريبي مادي علماني يحاول أن يدخل ساحة الفكر الإسلامي متسللاً على النحو الذي يقوم به توفيق الحكيم والتطور في الوسائل وليس منهج الإسلام الذي يجمع بين الثوابت والمتغيرات والقابل للمتغيرات والتحويلات وليس بمفهوم التطور الذي يطبقه توفيق الحكيم على الأيدلوجيات والأديان البشرية.
- من أخطائه في هذه الأحاديث: أنه ليس من حق أي إنسان أن يقول: أنه يفهم الدين كما يشاء، فقد تفهم الفلسفات والأيدلوجيات، أما الدين السماوي الإلهي فيجب أن يفهم كما فهمه محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن خيانة الأمانة أن يفسر أحد مهما بلغ من الثقافة العصرية أن يفسر الدين بعقله، وأن أمور الدنيا يمكن أن تفكر فيها بالعقل، ولكن الدين تفكر منه بعقلية عصر النبوة، وأن القول: بأن كل واحد ما دام قد تعلم وتنور وقرأ كتبًا وصحفًا فله أن يفهم الدين كما يشاء، هذا قول مردود، والدين لا يكون دينًا إلا من(1/200)
مدرسة النبوة، من النبع.
- أما مسألة التخيل في الحوار فإن ذلك مخالف للقرآن والسنة والشريعة وكذلك خطأه في القول بنسبية الأديان، وخاصة الدين الإسلامي، وبقوله: أنه لا يشترط لدخول الجنة شهادة: "أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله" أما دعوى الاجتهاد فإنه لا اجتهاد مع النص، بمعنى أنه إذا وجد الحكم فيها وإلا فإنه لا يصح إلا للعلماء المتخصصين في الدين أن يجتهدوا، وهو ما لا يصح له.
أما دعواه بأنه اعتمد على القرطبي، فإن الكتب فيها مسائل خلافية كذلك لا يؤخذ المعنى من هذه الكتب مبتورًا أو يؤخذ من غير سياقه أو يقرأ على غير وجهه، فإنه يأخذ ما يأخذ ويدع ما يدع، وإذا كان لكل إنسان أن يفكر كما يشاء فإن ما يقدم للناس يجب أن يكون بعيدًا عن ما يثير الشكوك والشبهات.
وعندما دُعي إلى أن يعتذر إلى الله وأن يخرج من مقام الندية لله أصر على ما كتب، وقال: أنه يعبر عن شعوره الداخلي، إذا كان ما قال يعزى إلى تصوفه فإن التصوف لا يمكن أن يكون خروجًا على الإسلام، أما حكمه على العلماء غير المسلمين بأنهم يدخلون الجنة فحكم باطل؛ لأنهم ما لم يقولوا: لا إله إلا الله؛ فلا يدخلوها.
- وقد كشف العلماء له أنه استخدم عبارات غامضة ومجازات بعيدة من شأنها أن تشكك الناس في أمر دينهم، وأن المناجاة لا بأس بها، ولكن التأليف والتخيل على لسان الله تبارك وتعالى فإنه يدخل تحت باب قوله تعالى: {اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون}؛ لأن التأليف والتخيل غير حق.
- وقال الشيخ الشعراوي: أنه نزع صفة كلام الله الأزلية، وأعطاها(1/201)
صفة البشرية الزائلة التي تنقض غدًا أو بعد غد، ولكنه قيد مراد الله تبارك وتعالى في إرادته هو فما يريده عقل توفيق الحكيم يقوله الله سبحانه وتعالى في مقالاته، ذلك لأنك عندما تنقل كلاما على لسان الله تبارك وتعالى فكأنك قيدت إرادة الخلق بإرادتك أنت أيها المخلوق.
- أما عن دفاع الأدباء عن توفيق الحكيم فهو عن غير حجة تلزم من يقرأها ولكن عن عاطفة، وعلى الذين يخافون على توفيق الحكيم الحي الآن أن يغاروا على توفيق الحكيم حين يلقى الله فيجنبوه أهوال هذا اليوم بالنصيحة وبالحكمة بدلاً من أن يزينوا له طريقًا لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
- وقال الشيخ الشعراوي: أما ادعاؤه بأن اللغة لا ينتفع بها وأن عمرها قد انتهى كيف يمكن أن ينقل العالم نتائج ما يحدث في معمله إلا باستخدام اللغة، وكيف يمكن أن يقرأ أي إنسان ويستوعب ما فات إلا باستخدام اللغة، وكيف يمكن أن ترث البشرية كلها حضارة عن حضارة عن حضارة، إلا باستخدام اللغة.
إن اللغة التي يسخر منها توفيق الحكيم هي الأساس لكل شيء وهي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، لتأخذ البشرية حضارتها جيلاً بعد جيل وترتقي وتتقدم ومن المستحيل على البشرية كلها أن يرث جيل الجيل الذي قبله في العالم إلا باللغة".
أما نسبية الأديان فيقول الشيخ الشعراوي: لا يمكن لأي إنسان أن يدعي أن الدين الخالص لله له حكم مع واحد وحكم مع آخر فالأحكام على كل خلق الله بلا تفرقة، فالأديان كلها من الله، وكيف تكون الأديان من الله سبحانه وتعالى ثم تنطبق عليها النسبية وهي شيء متغير، هل النسبية بالنسبة(1/202)
للمصدر أم أن الله سبحانه وتعالى هو وحده مصدر كل هذا، لا أعتقد أن هناك دينًا قد جاء من السماء يقول: لا إله إلا الله ودينًا آخر يقول غير ذلك فالدعوة إلى عبادة الله تبارك وتعالى لم تتغير من بدءِ البشرية وإلى نهايتها فلا يوجد حكمان يتناقضان بالنسبة للشيء الواحد حتى يمكن أن نقول: أنها نسبية، ونسبية الأديان التي يقول بها توفيق الحكيم معناها أن الله متغير والله سبحانه وتعالى ثابت لا يتغير والعقيدة لم تتغير منذ آدم حتى الآن ولا يوجد أي تناقض أو تقابل والعقيدة في كل الأديان سواء، وكل نبي جاء بدين يؤكد ما قبله ولا يلغي ما قبله بل يضيف إليه ويصحح ما حرفته البشرية إرضاء لأهوائهم".
- من يتابع المحاورات التي دارت بين توفيق الحكيم وعلماء الإسلام يحس بأنه مراوغ كبير، وفيه خبث شديد، وفيه سذاجة في الفهم إلا من كلمات ملقنة يرددها، وهو بالطبع قد رحب بنشر هذه الأحاديث عملاً بنصيحة المبشرين، أن يردد كلمات مسمومة في وسط الأحاديث من شأنها أن تثير الشبهات في نفوس الذين يقرأونها، وكل الخيوط التي تجمعها هذه الأحاديث توحي بسخرية شديدة بالوقائع فضلاً عن استشهاده بالأحاديث التي لم تثبت ومحاولة القول: بأن هذه الأحاديث نشرتها الأهرام من غير إذنه وقد تحدث كثيرون عن الربط بين نشر هذه الأحاديث وبين إسلام جارودي، وحضوره في مهرجان الأزهر والأمور في نظر توفيق الحكيم محددة بالحدود المادية الصرفة، وبالعصر الحالي وحده، فهو ليس بقادر على أن يستشرف الآفاق التاريخية أو المقبلة بالرغم من دعواه بأنه قصاص متخيل، وتوحي أحاديثه بأنه يعيش مرحلة اليأس المنكفئ على النفس، وقد ذهب كل ما قدمه، كحصاد الهشيم، دون أن يبقى منه شيء، وأن الفكر الإسلامي في الصحوة القائمة قد بدد كل نظرياته التي قدمها عن الفن للفن وحرية الكاتب(1/203)
والقصاص في أنه يقول كل شيء دون تقدير مفهوم الإسلام بتقديم الأخلاقي على الجمالي، وبأن للفن في عالم الإسلام وجهة تختلف، وكأنما يرى توفيق الحكيم إزاء الصحوة الإسلامية، وهو يجيش بالكمد والكراهية. ولا ريب أن قصوره على الفن في ثقافته يجعله عاجزًا عن استيعاب النظرة الشاملة الكلية للمفاهيم الإسلامية، ويجعل رأيه ساقطًا في مجال التوجيه والتجربة لأنه عاش حياة المسرح وهو أبو المسرح الحديث الفاسد على حد تعبير تلاميذه، ولقد كان المسرح في الأفق الإسلامي لقيطًا فاسدًا أحضره اليهودي يقعوب صنوع وغذته الصهيونية والماركسية التي اعتبرته بديلاً عن الكنيسة والمعبد، ومن ذلك دعواه إلى معارضة إدخال الدين في المدارس كمادة أساسية بحجة أن المسئولين عن التعليم لا يختارون في المقرر الديني إلا أصعب الآيات لغة ومضمونًا.
ولا ريب أن نظرة "الإيمان بالفن" تمثل التبعية الكبرى للفن الغربي الوثني الإغريقي الضال المتجدد في دوائر اللامعقول وغيرها وقصوره على الفن يجعله محدود الفكر ويجعل رأيه في مجال المجتمع والعقائد والشباب جزئيًا غير مُكمَّل.
أما وصف الصحف له بالعملاق والشموخ، وعمق الفكر والريادة فهذه كلها كلمات لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، فهو مغرب، غريب على الفكر الإسلامي، متداخل فيما لا يحسنه، عاجز عن الأصالة. ولو أن الصحيفة التي يكتب فيها فتحت الباب أمام الذين يراجعونه لانكشف زيفه ولسقطت تلك الهالات الكاذبة التي يسيغها عليه دعاة التغريب".
ولا يزال توفيق الحكيم يكرر علينا أن أوربا هي العقل وبلادنا هي النفس (ففي مصر الروح والنفس وفي اليونان المادة والعقل) وهو في هذا لا يمدحنا بقدر ما يهجونا فنحن في القسم الذي ليس فيه العقل، وهذه ظلامة(1/204)
كبرى أن توضع في جانب من لا يملكون العقل والحقيقة أننا نملك العقل والوحي معًا، وبذلك تتكامل نظرتنا بينما تبقى نظرة الغرب ناقصة؛ لأنها قائمة على المادة التي تتصل بالمحسوس في مفهوم العقلانية عندهم، وعجيب أن يظل توفيق الحكيم وهو في عقد الثمانين مبهورًا بالعقل الأوربي ممجدًا له، عاجزًا عن استيعاب عظمة الفكر الإسلامي وأن أعظم ما يتميز به العقل الأوربي وهو القدرة على التحليل وربط الأسباب بالنتائج، ومعرفة تتابع الأشياء هذه الرؤية إسلامية الأساس والمصدر، منقولة من عالم الإسلام إلى الغرب في الحقيقة.
- ومن ذلك قوله: "أن مصر لم تنجب بعد جيل الثلاثينات" يقصد نفسه وجماعة العلمانيين طه حسين وسلامة موسى ومحمود عزمي وهم الذين يوصفون بأنهم جيل التنوير اقتباسًا من جيل التنوير الغربي الذي لم يكن إلا من التلموديين أولياء المحافل الماسونية، وهذا تصوير صحيح، ولكن توفيق الحكيم لا يرى جيل اليقظة الإسلامية النامي يتصدى للتغريب والغزو الثقافي والذي صحح المفاهيم وأعاد الكرة إلى الأصالة والمنابع، وهو الجيل الذي صنع ما يسمى اليوم "الصحوة الإسلامية".
وحين يهاجم توفيق الحكيم (العقلية العربية) فإنما يخفي في نفسه العداء والخصومة للقرآن والإسلام؛ لأنه شيء لم يكوِّن العقلية العربية غيره، والقرآن هو الذي صاغ هذه العقلية التي هي في الحقيقة عقلية إسلامية أساسًا، أما ما يحاول أن يوجهه إلى هذه العقلية من اتهامات فهي ليست تتعلق بالمنهج الرباني وإنما يتعلق بالتطبيق البشري، ولقد حاول توفيق الحكيم الغض من شأن الإسلام بالحديث عن بعض عيوب التطبيق الإسلامي، وإثارة ْالشبهات حول بعض الخلفاء والمجتمعات وهذ كله باطل؛ لأن الإسلام المنهج هو وحده الأساس الصحيح أما الخطأ في التطبيق فهي مسئولية الأجيال والمجتمعات.(1/205)
- ولقد شهد توفيق الحكيم على نفسه في حديثه عن مسرحية شهر زاد أنه عندما بدأ تأليف قصصه كان واقعًا تحت تأثير الفكرة الغربية الملحدة.
يقول: "في مسرحية شهر زاد صدى الأفكار الكثيرة التي دوت في ذهني إثر اتصالي بالفلسفة الأوربية، كانت الفلسفة الأوربية في ذلك الوقت تقوم على أن الإنسان هو رب هذا الكون وأن الله (جل وعلا عما يقولون علوًا كبيرًا) قد مات كما يقول نيتشه وأن المتحكم في مصائر البشرية هو الإنسان وحده بحريته المطلقة، ولذلك كانت موجة الإلحاد وإنكار الدين تغمر المحيط الثقافي الأوربي عندما ذهبت إلى باريس في أعقاب الحرب العالمية الأولى وقد صدم هذا العقلية الشرقية المتدينة التي أحملها فوجدت كل هذه الأفكار المتضادة متنفسًا لها في مسرحية شهر زاد، فمسرحية شهر زاد هي رد فعل ما كانت عليه أوربا في ذلك الوقت مِن قلق نفسي ومن إنكار للدين وإيمان بالعلم الذي يصل إلى الدرجة التي يحل فيها محل الدين".
- ونحن نقول لتوفيق الحكيم: أما كان عليه أن يتطور مع الفكر الأوربي نفسه، الذي تحول كثيرًا الآن، وقد كان معه على نفس الخط كثيرون منهم جارودي وبوكاي اللذين تحولا سريعًا واكتشفا عظمة الإسلام، أما كان هو الأحق بذلك وهو المسلم العربي، أم أن هناك ما حال دون ذلك، ربما عناد نفسي، وصل به أخيراً إلى الحديث عن "إسلام العجائز" أم أن هناك إصرارًا على هذا الموقف الذي يحمل الخصومة والكراهية لأشرف دين .. لقد تبين لتوفيق الحكيم أخيرًا أنه لم يكن أكثر من ناقل لكل رماد الفكر الغربي، وركام الزيف فيه عن تلك الأعمال المسرحية التي وصفت بالخلود والتي عبر عنها هو تعبيرًا صحيحًا حين قال:
"إن كل أعمالي التي تعبت العمر فيها لا قيمة لها فقد ضيعت حياتي فيما كان يخيل إلي أنه له قيمة، وقد أحس بانصراف الناس عنها وغلبة(1/206)
الأصالة عليها، الأصالة التي كشفت زيف روائع الفكر الغربي التي طالما أشادوا بها فإذا هي ركام ورماد، وقد تبين إنما هي في حقيقتها أهواء النفوس المليئة بالشهوات والجنس والغرور في بحيرة راكدة آسنة غرق فيها توفيق الحكيم وما زال غاراقًا.
- وتستطيع أن تقول أن توفيق الحكيم المعدود من القمم الشوامخ قد سقط سقوطًا شنيعًا في المجالات الآتية:
أولاً: اعتماده على الأساطير في جميع قصصه واعتماده على الأحاديث الموضوعة في أغلب كتاباته.
ثانيًا: فكرته المشوشه عن الأديان وخاصة عن الإسلام.
ثالثًا: تأثره بالفكر الوثني والفرعوني فقد اعتمد فى قصة (أهل الكهف) على نظرة فرعونية وكان لفكرته المشوشة عن الإسلام أثر جعله يخلط بين مصر القديمة والأديان بصفة عامة، فالمسلم يؤمن بأن هناك انقطاعًا يفصل ما بينه وبين التصورات الوثنية والوضعية، كما أنه يؤمن بأن الإسلام هو دين ممتد من لدن آدم حتى محمد - صلى الله عليه وسلم - يضع التصور المتكامل لعلاقة الإنسان بربه ونفسه والآخرين ويرسم له منهاج الحياة ويحدد معالم المستقبل في الآخرة.
وعن أهل الكهف يقول: إنه كان تحت تأثير مصر القديمة "لقد قرأت كتاب الموتى والتوراة والأناجيل الأربعة والقرآن" بينما اسم المسرحية (أهل الكهف) توحي بأن معالجتها ستكون من خلال منظور إسلامي، ولكنها جاءت مشوشة الفكر والمنهج.
أما (عودة الروح) فهي أيضًا تحمل فكرة فرعونية قديمة (الكل في واحد) أي أن الوجدان الجمعي والشعبي ينمحي في زعيم واحد أو فرعون واحد.
كما يقول الدكتور حلمي القاعود.(1/207)
رابعًا: الترويج لنظرية الفكر الصوفي المنحرف (نظرية وحدة الوجود) وما في الجبة إلا الله، كما حاول أن يسقط إسقاطات علمانية وإلحادية روج لها الفكر الوافد منذ منتصف القرن الرابع عشر الهجري انطلاقًا من المفاهيم الكنسية التي لا تتطابق بحال مع فكرنا الإسلامي.
خامسًا: ناقش الله تبارك وتعالى في أمر الأديان السماوية ونسي أو تناسى أن الله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل، وعارض الله تبارك وتعالى في أمر العقل وأجاز تداول الكتب السماوية بعد التعديل والتصحيح وهذا جهل بحقيقة الرسالات السماوية من جهه ومحاولة للدس على نقص كلام الله من جهة ثانية.
سادسًا: رأى أن الإيمان الحقيقي إنما هو عند العلماء الطبيعيين فلا عبرة عنده بالعقيدة ولا التوحيد ولا العمل، وهذه قضايا خطيرة مؤداها الطعن في معظم التراث الإسلامي -إن لم يكن كله- القائم على أعمدة التوحيد والعمل فضلاً عن الترويج للفكر العلماني القائم على الاعتراف بالحقائق العلمية وحدها مجردة من كل اتصال بالأديان.
سابعًا: أساء الأدب إساءة بالغة عندما خرج على مقتضى العرف الإيماني والأدبي السائد بين المؤمنين وبين خالقهم.
ثامنًا: قصر الإيمان على المعرفة وألغى التلفظ بمنطوق الشهادة فهو عنده إيمان تعبدي لفظي لا معنى له، وهذا ولا شك مذهب طائفة من الفلاسفة والمتكلمين المنحرفين ونسي أن الإقرار باللسان شرط عند أهل الحق.
تاسعًا: خول لنفسه أن يتكلم باسم الله (قل على لساني ما تشاء على مسئوليتك) هذا منتهى العبث والاستهتار مما يشعرنا أن الرجل كان في حالة غير طبيعية أثناء كتابة هذه الشطحات إذ كيف يتجرأ أن يروي كلامًا مكذوبًا على الله.(1/208)
عاشرًا: أنكر رؤية الله يوم القيامة وهي ثابتة، وتجاوز حدود البشرية بوصفه كلامًا مخترعًا منسوبًا إلى الذات العلية هذا فضلاً عن افترائه وكذبه" (1).
* توفيق الحكيم من أكبر كتّاب التغريب:
استقطبت الصحافة العربية عددًا كبيرًا من كتاب التغريب الذين كانوا عدتها في سبيل تبرير مفاهيم الإقليمية والفرعونية والتنكر لمفاهيم الوحدة الإسلامية وترابط العروبة والإسلام، وكان في مقدمة هؤلاء توفيق الحكيم ولويس عوض وحسين فوزي.
وما يزال توفيق الحكيم منذ الثلاثينات يحمل لواء التفرقة بالتجهيل للعرب والإعلاء للمصرية طوال أكثر من خمسين عامًا. وهي تفرقة لا تقوم على أساس علمي، وإنما تعتمد شبهات المستشرقين وخصوم العرب والإسلام، فتوفيق الحكيم يدعي أن هناك شخصية مصرية مميزة عن الشخصية العربية الإسلامية، ويرى بين المصرية والعروبة خلافًا بل وتضادًا .. حتى يقول: "إن مصر والعرب طرفا نقيض"، وهي نفس الدعوة التي حملها طه حسين ومحمد عبد الله عنان وسلامة موسى. ويحملها اليوم لويس عوض وبطرس بطرس غالي وكثيرون من المتأثرين بالتاريخ القديم السابق للإسلام والذين يتجاهلون ما أثبته المؤرخون من "الانقطاع التاريخي" بين مصر الإسلامية العربية وبين ما قبل ذلك.
وكل الذين يفاخرون بميزات لمصر يجهلون أن مصدر هذه الميزة هي تلك الموجات العربية المتوالية التي أخرجتها الجزيرة العربية وأهمها الموجة الإسلامية
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 205 - 217).(1/209)
الإسلامية التي حملت معها مفهوم التوحيد الخالص، وهم يجهلون ذلك الترابط الوثيق الذي أوجده دين الحنيفية السمحاء: دين إبراهيم الذي عم وشمل كل هذه المناطق بدعوة الإسلام الأولى التي صدرت عنها من بعد رسالات الأنبياء موسى وعيسى ومحمد.
فلماذا هذا الأستعلاء العنصري بالمصرية المستمدة من الفرعونية، وقد أثبت المؤرخون أن الفراعنة عرب أصلاً، وأن جميع الموجات الفينيقية والآشورية والبابلية كلها موجات انبثقت من قلب الجزيرة العربية، وأن كل معطيات المصريين تتلخص في أمرين: العقيدة واللغة ومن ثمارهما القيم والخلق والمقومات، وكلها جاءت من الإسلام والقرآن، فليس هناك في الحقيقة طرف مصري مناقض للعرب، وإنما هي كلمات من المبالغة والتعصب والعنصرية تذاع وتستشري في فترات الضعف، وقد ذاعت إبان الاحتلال البريطاني وتجري اليوم على الألسنة إبان تحدي الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، والواقع أن الجامع الحقيقي هو الإسلام، وليس العروبة، وليست المصرية إلا دعوة مشابهة لدعوات الإقليمية التي تتحرك على أفق العالم الإسلامي هنا وهناك تحت تأثير موجة القوميات الضيقة الوافدة، ولا ريب أن العالم الإسلامي كله مقبل على الوحدة والالتقاء وأن هذه الدعوات لا تجد لها مجالاً حقيقيًا إلا عند ذوي الغايات القصيرة والأغراض الخاصة.
بل إن مصر إذا عزلت عن العروبة والإسلام فإنها لا تبقى شيئًا سوى تماثيل وأهرامات وأحجار الأقصر ووادي الملوك. وهذا يكذب عبارة توفيق الحكيم الذي يقول: "إن الاختلاط بالروح العربية كاد ينسي المصريين أن لهم روحًا خاصة تنبض ضعيفة تحت ثقل الروح الأخرى الغالبة"، وإني لأتساءل ْماذا كانت أو تكون الروح المصرية الخاصة بدون الروح العربية، أتكون روح فرعون والعبودية والظلم وعبادة الآلهة المتعددة والوثنية المغرقة في السحر:(1/210)
{أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار}.
- ويذهب توفيق الحكيم في هذا الطريق المظلم الموحش إلى أن يدعو مصر إلى أن تكون فندق العالم، أي أن تصبح دارًا مفتوحة لكل السائحين وطلاب الحاجات، وأن تفقد شخصيتها الحقيقية التي شاء الله أن يصنعها لها بالإسلام، وهي حماية المقدسات وحمل لواء الجهاد والمرابطة على هذا الثغر الخطير في العالم.
ولقد كانت أكبر أخطائه، تخبطه بين تأييد الاستبداد الناصري ومحاولة تخلصه منه بعد استقبال عصر جديد، فقد كتب يقول: أن السلطان في الفترة السابقة قتل الحريات وكمم الأفواه وأنه أخضع له الكتاب والمفكرين فجروا في طريقه وأيدوه، ولذلك فهو يطالب بمحاكمة هؤلاء الكتاب ويطالب أول الأمر بمحاكمة توفيق الحكيم نفسه الذي أيد السلطان في هذا الاتجاه. ويقول: أنه جرى في هذا الطريق حتى بعد وفاة عبد الناصر فطالب بإنشاء تمثال ضخم في ميدان عام تقديرًا لعظمة وبطولة ذلك السلطان، وقد جاءته مئات الخطابات المؤيدة لرأيه غير أن خطابًا واحدًا من بينها جاء فيه: صحيح أن السلطان يستحق تمثالاً كبيرًا يناسب شهرته ومكانته ولكن أين يقام هذا التمثال .. ثم اقترح أن يقام هذا التمثال في تل أبيب.
ولقد كان توفيق الحكيم على مدى حياته مضطرًا إلى الخطأ غير كاشف لأبعاد الأحداث فإن انغماسه في الأساطير والقصة الغربية وما وراءها من خيالات قد حال بينه وبين الرؤية الصحيحة لأحداث العصر والمجتمعات.
فهو عندنا دعا إلى الخلاص من الطربوش، دعا إلى اللجوء إلى القبعة، وعندما ضرب الفرنسيون دمشق بالمدافع ونشروا الرعب والعدوان لم يزده ذلك على أن قال:
" لتذهب دمشق ومئات مثل دمشق إلى الهاوية وتبقى فرنسا".(1/211)
وهو الذي قال مرة: إذا لم تكن لنا حضارة فلنأخذ الحضارة الغربية وننتهي.
كل هذا يعطي صورة البساطة والخيال وعدم العمق، في تناول الأمور، ويعطي مفهوم رجل المسرح والرواية والأساطير القديمة الذي يعجز عن متابعة الأحداث. وكل كتاب القصة على هذا النحو.
- يقول محمد المجذوب: كتبه أكبر شاهد على تنكره لمثل أمته حتى ما كان منها متصلاً بالسيرة النبوية ككتابه محمد - صلى الله عليه وسلم - أو مسرحية أهل الكهف، وبه مواطن دسائسه على الرسول.
وفي أهل الكهف: "تحوير شائن لمضمون القصة القرآنية التي قامت على إثبات حقائقها الكتب الدينية السابقة والحفريات الأثرية المعاصرة".
- ولقد كان عمل توفيق الحكيم في الحقيقة قائمًا على إحياء التراث اليوناني والوثني والأساطير (أوديب) وبثها في أفق الفكر الإسلامي، وإحياء مفاهيم الحضارة الفرعونية (إيزيس) وإحياء تراث اليهودية (الملك سليمان) وإحياء مدرسة اللامعقول وأدب اليهودية يونسكو وبكيت (يا طالع الشجرة) والماركسية الاشتراكية. وكان له إلى ذلك كله هدف مبيت دفين هو إفساد التراث الإسلامي وتغيير مضامينه بما كتب معارضًا لما جاء في القرآن سواء في أهل الكهف أو الملك سليمان، وهو يعيش تحت سيطرة مفاهيم الفلسفة المادية ومذهب مدرسة العلوم الأجتماعية والمفاهيم الماركسية التي تقول بالصراع بين العقل والعاطفة، وبين المثالية والمادية، وبين العاطفة والواقعية. ويرى أن هذا الصراع هو جوهر الفن. والحقيقة أن توفيق الحكيم قد غفل عن مصدر ثرِّ لفهم البشرية فهمًا صحيحًا وهو القرآن: ومفهوم التوحيد الخالص الجامع الذي يحول بين البشرية وبين التمزق أو الصراع أو انقسام وحدة النفس المؤمنة الربانية الاتجاه. وقد عمل على ترجمة كل الاتجاهات والمدارس والمذاهب(1/212)
الغربية بخيرها وشرها وما يحسن تقديمه للفكر الإسلامي وما لا يجوز تقديمه، فكانت كتاباته حصيلة مختلطة وركامًا مضطربًا، وقد أفسد أمانة القلم ومسئولية الكلمة حين عجز أن يقدم لأمته خير ما في هذا الفكر من مثل أو أن يدل الناس على حقيقة هذه التيارات وخلفياتها لتكون على بينة مما في هذه الكتابات من سموم وأهواء.
- بل لقد دافع توفيق الحكيم عن تدريس الكتب الإلحادية في الجامعة وقال: "لماذا كل هذا الفزع كلما وقع بصرنا في كتاب على عبارة تمس الإسلام" تحت مظلة حرية الفكر الباطلة، وهو يعلم أن هذا الشباب ليس له من حصيلة إسلامية كبيرة تحميه من الشكوك التي تثيرها هذه الكتب.
- ويحمل توفيق الحكيم مجموعة من المفاهيم الفلسفية المضطربة تجعله غير قادر على الوصول إلى مفهوم الأصالة الإسلامية. فهو يقيم مفاهيم في النفس والمجتمع على الأساطير التي لا تمثل واقع الحياة في شيء كقصة أوديب الذي تزوج أمه. وهو يعتنق مفهوم هيجل في القول بأن التناقض قانون الحياة.
- كما أنه يروج لمفهوم حرية الفنان المطلقة الذي لا يتقيد بقيم الأخلاق أو الدين، كما أنه يقيد نفسه بمفهوم الصراع اليوناني بين الإنسان والقدر وبين إرادة الإنسان وإرادة الله، ويرى رأيهم في أن القوة الخارجية تتحدى الإنسان وتبطش به. ويرى أن الإنسان سجين في إطار معين من الزمان والمكان وأن إرادته ترتطم أحيانًا بكل هذه العوامل، وهو بذلك يجهل مفهوم الإسلام في إرادة الإنسان المحدودة، داخل إرادة الله تبارك وتعالى، والتي هي مناط المسئولية والجزاء الأخروي. وهو في كل آرائه متأثر بالفلسفة المادية والفلسفة الوجودية ومدرسة العلوم الاجتماعية والماركسية على شذرات وشظايا من هنا وهناك متجمعة ومضطربة لا تصل به إلا إلى مفهوم غامض مضطرب.(1/213)
- ولعل أخطر مواقف توفيق الحكيم هو هجومه ضد عروبة مصر ونفيه لانتمائها الإسلامي ووجهها العربي. وقد اتهم بأن فكرة حمار الحكيم مأخوذة من فكرة الأديب الأسباني (خمينز)، وقد كانت لتوفيق الحكيم صلاته بالصهيونية العالمية. وفي عام 1943 ترجم له أبا إيبان يوميات نائب في الأرياف إلى اللغة الإنجليزية وفي عام 1947 انتقل توفيق الحكيم إلى تل أبيب والتقى هناك بالفنانين المسئولين عن المسرح ودار الحوار حول مسرحية (سليمان الحكيم) التي استوحى وقائعها من التوراة وعرضوا عليه ترجمة المسرحية إلى العبرية.
ويدعو توفيق الحكيم إلى التعاون الثقافي بين الفكر العربي واليهودي، وإنشاء جمعية عربية إسرائيلية مقرها العاصمة الفرنسية للعمل من أجل السلام. وهكذا تعطي كتابات توفيق الحكيم صورة التخبط والاضطراب وضعف الرؤية العامة، ولو اقتصر توفيق الحكيم على أن يكون من رجال المسرح ومترجمي التراث اليوناني والغربي لكان ذلك خيرًا له، ولكنه حاول أن يكون عن طريق الصحافة من رجال الفكر والرأي فكانت أمانته للتغريب والغزو الثقافي والشعوبية واضحة جلية" (1).
* وختامًا نقول أن توفيق تنكر لأمته حين "وصف إسرائيل بأنها دولة متحضرة" (2)
* الدكتور زكي نجيب محمود يسخر من الشريعة وينكر الغيب ويهاجم الحجاب ويدعو إِلى وحدة الوجود:
"قد بدا في السنوات الأخيرة أن الأضواء كلها قد ركزت تمامًا على
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 237 - 241).
(2) "جيل العمالقة" (ص 187).(1/214)
الدكتور زكي نجيب محمود كقائد لهذه الكتيبة التغريبية وقد مهد الدكتور لذلك بأن أعلن أنه أعاد النظر في التراث الإسلامي (وأسماه العربي) في محاولة لخداع البسطاء ولتغطية ماضٍ طويل في الفكر المادي كانت قمته كتابه المعروف (خرافة الميتافيزيقا) أي بمعنى صريح إنكار مفهوم الغيب الذي جاء به الإسلام والادعاء بأنه خرافة. وإنكار كل ما سوى المحسوس والمعقول متابعة في ذلك للمذهب الفلسفي الذي اعتنقه طوال حياته مقلدًا في ذلك فيلسوفًا أوروبيًا ماديًا ملحدًا ينكر الأديان المنزلة ويفاخر بأنه يمثل مدرسته (أوجست كونت). وفي طريق كسب الأنصار والتقرب إلى الشباب الواعي المثقف يتحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الإيمان بالله وعن الإيمان باليوم الآخر، وعن أعلام التراث: الغزالي وغيره، ذلك كله محاولة لإلقاء حاجز بين الماضي والحاضر وإحراز الثقة التي تمكنه من بث لمفاهيمه وآرائه.
ونحن لا نتهم أحدًا في عقيدته ولا نتعقب للعورات ولا نلتقط ما تتكشف عنه السرائر من وراء الوعي ولكننا نقرر بداءة بأن المنهج الذي يدعو إليه زكي نجيب محمود معارض لمفهوم الإسلام الصحيح من جوانب عديدة وخاصة بالنسبة لتلك القضية الكبرى التي يثيرها في كل كتاباته وهي مسألة العقل والعقلانية، فالإسلام لا يعطي العقل هذا السلطان المطلق كله، ولا يقر مثل هذا المعنى. وإنما يرسم للعقل طريقًا كريمًا في ضوء الوحي. والعقل في الإسلام مناط التكليف ولكنه ليس حكمًا على كل شيء؛ ذلك لأن العقل أداة تصلح إذا صلح تكوينها وتفسد إذا فسد تكوينها. وهي إن امتدت بالوحي أضاءت وأشرقت عليها أنوار الفهم. أما إذا اهتدت بالفكر البشري فإنها تكون بمثابة أداة تبرير لكل أهواء النفس.
فالعقلانية بالمعنى الذي يدعو إليه زكي نجيب محمود نظرية مادية صرفة ومرفوضة تمامًا. وإذا كان هو وجماعة المستشرقين والتغريبيين يعتزون من(1/215)
التراث بالجانب الخاص بالمعتزلة فإن هذا الأعتزاز لا يمثل إلا انحرافًا في مفاهيم الفكر الإسلامي. فالمعتزلة خرجوا عن مفهوم الإسلام الجامع المتكامل بين العقل والقلب والروح والمادة، والدنيا الآخرة. وأعلوا مفهوم العقل.
فانحرفوا وتحطموا وحكمت عليهم الأمة كلها بأنهم خرجوا عن مفهوم الإسلام الصحيح حين دعوا إلى خلق القرآن واستعدوا الخلفاء على المسلمين والعلماء. وقد هزمهم الله شر هزيمة على يد الإمام أحمد بن حنبل، وأعاد للإسلام مفهومه الأصيل الجامع.
والموقف نفسه يقفه الإسلام بالنسبة للدعوة إلى التصوف كمنطلق وحيد لفهم الحياة والأمور من خلال الحدس والروحانيات وحدها ولقد كان هوى زكي نجيب محمود في دراساته في التراث مع ذلك المفهوم العقلاني الذي انحرف عن مفهوم الإسلام الجامع، والذي استمد مادته من الفلسفات اليونانية الوثنية المادية، والإلحادية الإباحية التي غامت سحابتها على الفكر الإسلامي ثم انقشعت تحت تأثير أضواء المفهوم القرآني الأصيل.
- كذلك فإن مفهوم الدكتور زكي نجيب محمود للألوهية مفهوم ناقص وقاصر لا يمثل مفهوم الإسلام (على النحو الذي أورده في مقاله في الهلال).
لقد مرت البشرية بمراحل كثيرة في فهم الألوهية ناقصة ومنحرفة وجاء الإسلام بالمفهوم الجامع الحق فلم يعد هناك مجال لإعادة ترديد هذه المفاهيم بعد مرور أربعة عشر قرنًا على نزول دعوة التوحيد الخالص.
إن الذي يقبله شباب الإسلام اليوم من الباحثين هو مفهوم الله الحق لا مفهوم الآلهة كما فهمه الوثنيون أو المعددون، أو المشركون الذين كانوا يؤمنون بالله خالقًا ولا يؤمنون به مصرفًا للأمور كلها .. وقد جاء الإسلام ليكشف هذه الحقيقة وحدها، ويدعو إليها: (إسلام الوجه لله).
أما مفهوم الإيمان بالله على النحو الذي كتب عنه الدكتور زكي نجيب(1/216)
محمود فهو مفهوم عرفه المشركون، ولم يقبله منهم الإسلام. ولعل من أكبر الخطأ عرض مفهوم أرسطو وأفلاطون في الألوهية ومحاولة تفسيره بمفهوم الإسلام مع أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك، بل إن القرآن الكريم دحض كثيرًا من مفاهيم أرسطو وأفلاطون والفلسفات اليونانية والوثنية والغنوصية لنقصها وقصورها. وخاصة ما ادعاه هؤلاء من أن الله تبارك وتعالى يدير ظهره للكون ولا يعلم الجزئيات، وأن المادة خالدة، إلى غير ذلك من تلك التفاهات، بل إن مفاهيم أرسطو وأفلاطون للألوهية تدخل تحت ما أسموه (علم الأصنام) فكيف يقدم هذا المفهوم للشباب المسلم اليوم على أنه مفهوم الألوهية الحقة؟! ولقد كشف علماء المسلمين منذ وقت بعيد فساد مفاهيم الفكر البشري ونقصه. وكيف أنها منحرفة. وكيف أن الله تبارك وتعالى يعلم الأمور كلها {وما تسقط من ورقة إِلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس}.
وأن هذا الكون ليس مخلدًا، ولا باقيًا، وأن له نهاية كما كانت له بداية، وأن الله تبارك وتعالى يمسك هذا الكون لحظة، ويديره ساعة بعد ساعة، وأن كل ما يقوله الفلاسفة هراء.
المسملون يعلمون أن الكتب المنزلة حرفت وغيرت مفهوم الألوهية الحقة (الله رب العالمين) فنسبه البعض إلى أنفسهم وقالوا: إنه رب الجنود وربهم وحدهم. وقال الآخرون بأن لله ولدًا وكذبوا {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه}.
وليس مفهوم الألوهية صحيحًا، ولا كاملاً إلا في الإسلام وحده فهو مفهوم إسلام الوجه لله {إِياك نعبد وِإياك نستعين}.
ولقد حاول الفكر البشري أن يزيف مفهوم الألوهية الحقة. وأخطأت الماسونية حين قالت: "المهندس الأعظم"، وهناك انحرافات الباطنية والماديين(1/217)
والوجوديين ودعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد على النحو الذي عرف عن كثيرين. وهناك مفهوم الإسلام بوصفه دينًا لاهوتيًا. والحقيقة أن المطلوب ليس إثبات وجود الله تبارك وتعالى ولكن المطلوب معرفة حقيقة هذا الوجود بعيدًا عن هذه المفاهيم المنحرفة ويستتبع الإيمان بالله تبارك وتعالى، الإيمان بشريعته.
- ولكن الدكتور زكي نجيب محمود لا يلبث أن ينتقص من شأن هذه الشريعة ويصفها بأنها قاصرة ومجافية للعصر ويطالب بتخطيها في سبيل تحقيق المعاصرة، وهو يقبل بالحضارة الغربية كما كان يقبل بها سلفه طه حسين (حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب) فما عرف عنه أنه دعا المسلمين إلى أخذ العلوم مثلاً دون أسلوب العيش، ولكنه يدعو إلى شيء غريب هو أن المسلمين ليس لهم فلسفة حياة وهو ادعاء باطل وظالم.
فيكف يمكن أن يقال لأصحاب القرآن الذي وضع منهجًا للحياة والمجتمع غاية في الأحكام جربته الشعوب والأمم ألف عام فأقام لها حياة الرحمة والعدل والإخاء البشري. كيف يمكن أن يقال لهذه الأمة إنها لا تمتلك منهج حياة؟!!.
وكيف يقبل وهو العقلاني الحصيف هذا المنهج الذي يعيشه الغرب سواء الغرب الليبرالي أم الماركسي في ذلك الخضم العفن الفاسد المتآكل من الشهوات والإباحيات والانحراف والتحلل والغرابة بشهادة كُتَّاب "الغرب والشرق على السواء".
وكيف يغضي وهو الأمين على الكلمة عن أزمة الحضارة وأزمة الأنسان الغربي. وقد قرأ عشرات من الكتابات آخرها ما كتبه (سلجوستين) ودمغ به حضارة الغرب التي يكبرها زكي نجيب محمود وحسين فوزي وتوفيق الحكيم. ويفخرون بها ويغوصون بأقلامهم في تلك الحمم من الدماء والعفن(1/218)
والفساد. وهم يقولون لا إله إلا الله على الأقل وراثة، ويرون كيف يقدم الإسلام ذلك المنهج النقي الطاهر الأخلاقي الكريم الذي يرفع من قدر الإنسان. وكيف يحق لأمة تحمل لواء القرآن (ألف مليون مسلم) أن تتخلى عن رسالتها في تبليغ كلمة الله الحق إلى العالمين وتنصهر في بوتقة الأمية والحضارة المنهارة التي تمر بآخر مراحلها.
وهل من الأمانة أن يدعو هؤلاء أمتهم إلى هذا وهم روادها والرائد لا يكذب أهله ولا يغشها. إن مسئولية القلم وريادة الفكر وهي أضخم المسئوليات عند الله تبارك وتعالى يوم الحساب. وقد كان أولى بهم جميعًا أن يصدقوا أمتهم النصح ويدعونها إلى أن تقيم حضارة الإسلام مجددة في إطار (لا إله إلا الله) والأخلاق والرحمة والإخاء الإنساني وأن يلتمسوا أسلوب العيش الإسلامي ليقدموا للبشرية نموذجًا جديدًا نقيًا تتطلع إليه النفوس والأرواح اليوم بعد أن عم الفساد البلاد الغربية كلها من جديد. ولن يكون غير الإسلام. وسوف يدمغهم التاريخ بأنهم كانوا روادًا غير مؤتمنين على الأمانة، وسوف تكتب أسماؤهم في سجل الذين عجزوا عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينصحوا لأمتهم وهم الذين عاشوا حياة الغرب، وعرفوا فساد مناهجه وأساليب حياته، وعرفوا أن هذه الأمة الإسلامية الكريمة على الله أعز من أن تسحق في أتون الشهوات وأن تدمر بأيدي أبنائها ودعاتها الذين تلمع أسماؤهم وتخدع الناس شهرتهم.
- إن الدكتور زكي نجيب محمود قد أخطأ الطريق حين فهم التراث الإسلامي ذلك الفهم الذي جعله يكرم أمثال (ابن الراوندي) و (مزدك)، و (ماني)، و (الحلاج) و (الباطنية)، و (الشعوبية) و (إخوان الصفا) وتلاميذهم.
كذلك فهو مؤمن بمجموعة من المسلمات الخاطئة من عصارة مفاهيم الفكر البشري الوثني المادي فضلاً عن أن إيمانه بالعلم والعقل وحدهما وهو(1/219)
في مفهوم الإسلام قصور شديد عن المفهوم الجامع.
- وإني لأسال الدكتور زكي نجيب محمود: هل يؤمن بالوحي؟ هذا هو مقطع المفاصلة بيننا وبينه. وإذا كان يؤمن به فلماذا لم يعلن فساد منهج كتابه "خرافة الميتافيزيقا"، ولماذا لا يؤمن بهذا الوحي الذي جاء به القرآن شريعة ومنهج حياة؟
وإذا كان الدكتور زكي نجب محمود قد تراجع عن "خرافة الميتافيزيقا" وغيرها من آرائه. أليس من الشجاعة أن يعلن ذلك صراحة حتى يستطيع أن يكسب إلى صفه بعض الناس.
إن محاولة افتعال مكانة طه حسين اليوم هو أمر مضيع. فقد انتهى ذلك العهد وصحا الناس وخطت حركة اليقظة الإسلامية خطوات واسعة فكشفت عن فساد تلك النظريات والأطروحات الزائفة التي قدمها الآباء العتاة الذين كانوا يستقبلون أبناءنا في الجامعات الأوربية وهم من اليهود أمثال مرجليوث ودوركايم وغيره.
ْأما قول الدكتور زكي نجيب محمود أن الثقافة الإسلامية في العصر العباسي قد اغترفت ثقافات الدنيا بغير حساب فهو قول باطل. لقد وقفت الثقافة الإسلامية موقف التحليل والغربلة لكل ما ترجم، وأخذت منه ما وجدته صالحًا ومطابقًا لمفهوم التوحيد الخالص. أما ما عدا ذلك فقد رفضته وشنت عليه حربًا عنيفة، وأخرجت دعاته من طريق الفكر الإسلامي فأطلقت عليهم اسم (المشاءون المسلمون) إعلانًا لتبعيتهم للمشائين اليونانين، ولم تقبل منهم ما جاءوا به.
وأعلن المسلمون أن منهج اليونان أو منهج الغنوصية الشرقي كلاهما باطل وأن للإسلام منهج خاص مستقل كما نفعل نحن اليوم إزاء ما يقدمه التغريبيون من فكر الشرق والغرب مما هو ليس مقبولاً في الإسلام بحال.(1/220)
كذلك فإن نظرية زكي نجيب محمود بالتوفيق بين المترجم الوافد الغربي وبين المجدد من التراث الإسلامي (وهو ما يسميه بالعربي استنكارًا) هذه نظرية ليست مستحدثة بل هي نظرية طه حسين وهيكل والزيات وغيرهم .. وهي نظرية اتضح بطلانها. أما ما تعارفت عليه اليقظة الإسلامية فهو أن يقوم أساس إسلامي أصيل من مفهوم الإسلام الجامع (بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع) وفي ضوئه يحاكم التراث كله والوافد كله، ولا يقبل إلا ما يزيد المنهج قوة ودعمًا مع الاحتفاظ بأسلوب العيش الإسلامي (عقيدة وشريعة وأخلاقًا) ودعوى زكي نجيب بالمواءمة مرفوضة. فالمسلمون على استعداد للتضحية بالتقدم المادي في سبيل الاحتفاظ بالقيم الأساسية التي هي في حقيقتها ليست معوقة للتقدم المادي، ولكنها حائلة دون فساد الحضارة الغربية وزيفها وانحلالها الذي يود هؤلاء القوم إغراق هذه الأمة فيه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
يتابع الدكتور زكي نجيب محمود دعوته إلى "التغريب" في مقالات أسبوعية محمومة على نفس مفهوم الدكتور طه حسين (أن نأخذ الحضارة حلوها ومرها) ولكنه لأن الوعي الإسلامي أصبح قويًا يتنازل عن فكرته التي ظل يدافع عنها ويدعي أنه قرأ التراث وأنه يقبل -فضلاً منه ومنة- أن نأخذ التراث ونأخذ حضارة الغرب، أما الأخذ من الغرب فهو بدون تحفظ، إما التراث فيمكن أن نأخذ منه ما يتفق مع العصر، إن كلمة التراث التي يستعملها عملة زائفة ومغشوشة، لأنه يجعلها بديلاً للإسلام (القرآن والسنة).
فهو يضمها جميعا تحت كلمة (التراث) مع أن التراث هو العمل البشري الذي قام به المسلمون في تفسير وشرح القرآن والسنة تحت اسم الفقه وتحقيق السنة وتفسير القرآن وغيره من العلوم.
- إن الدكتور زكي نجيب محمود لم يطور نفسه كما ينبغي ليصبح(1/221)
مقبولاً لدى الشباب المسلم اليوم؛ لأنه ما زال يكتب بأسلوبه الجاف الذي أنشاته دراسته للفلسفة (الوضعية المنطقية) فلا يستطيع أن يخرج منها ويقف الجفاف عثرة أمام دعوته، يقول: (المصدر الذي استقيت منه معظم ثقافتي هو الثقافة الأوربية بصفة عامة والإنجليزية بصفة خاصة)، وقد لبثت مع الأسف الشديد طويلاً وأنا لا أعرف من التراث العربي إلا شذرات، حتى تنبهت له منذ سنوات.
- نعم، لقد كان لا بد أن يتحدث عن التراث (ليخدع) أناسًا مثل الذين خدعهم طه حسين حين كتب (هامش السيرة) إن القيادات التغريبية تريد أن تجعل الأمور أكثر يسرًا، ولكن زكي نجيب محمود لم يطور نفسه كما ينبغي مع تطور اليقظة الإسلامية من ناحية ومع تطور الفكر الإنساني نفسه وظهور عوامل كثيرة تجعل الغرب يعيد النظر فى فكره، إن زكي نجيب محمود لا ينظر إلى الظواهر الخطيرة التي تبدو في كتابات فيلسوف العصر جارودي والطبيب بوكاي .. ويصر على قديمه ويعد الأساليب خدعة مع بقاء المضمون الذي يملأ نفسه في عناد.
إنه يتحدث عن العلم وهو يعني الفلسفة، إن ما يدعو إليه ويسميه العلم ليس هو العلم، فالعلم هو ما يجري في المعامل، أما الفلسفة فهي محاولات الخداع بفرض الفلسفة المادية في ميادين العلوم الإنسانية والأخلاق والاجتماع والنفس.
وإصراره على "تقديس العقل" يوجد له نفورًا شديدًا في بيئة الإسلام، ذلك لأن الإسلام لا يقدس العقل، ولكنه يؤمن بأن العقل مناط التكليف ولكن له حدوده وهو يهتدي بالشرع ولا يستطيع أن ينفرد بتوجيه؛ لأنه إذا وكل إليه الأمر أخطأ وانحرف؛ لأنه في الحقيقة ابن بيئته التي شكلته وليس له قدرة استقلالية في الحكم على الأمور، وهو مدخل كبير للهوى(1/222)
والزيف والانحراف.
إن زكي نجيب محمود يخطئ حين يدعو المسلمين إلى أخذ التكنولوجيا والعلوم الحديثة مفروضة مع فكرها، والمسلمون لا يأخذون إلا أدوات الحضارة ولهم أسلوب عيش خاص بهم، وكذلك فعل الغربيون حين أخذوا أدوات الحضارة من مسلمي الأندلس.
كذلك يخطئ حين يظن أن المسلمين أخذوا ثقافة اليونان وبنوا عليها فكرهم (وقولي: أن الثقافة الإسلامية أخذت بغير حساب كل ما عرفته الدنيا من ثقافات وأجرتها في شرايينها) قول باطل فهي حين أخذت غربلت ونقدت وكشفت وجه الخطأ وكل ما أخذته إنما أخذته كمادة خام لها حرية تشكيلها في إطار مفهومها الإسلامي الذي يختلف عن إرجانون اليومان الذي يقوم على العبودية والرق بينما يقوم مفهوم الإسلام على التوحيد والعدل والإخاء البشري.
وكما تخطئ مفاهيمه للعقل تخطئ مفاهيمه للتقدم (الذي هو عند المسلمين جامع بين المعنوي والمادي ولا يضحى بالمعنوي من أجل المادي) ومفهومه للأصالة والمعاصرة ناقص من حيث يقول: لا بد من مصدرين هما التراث وحصاد الفكر الأوربي، وتلك معادلة فوق أنها ساذجة لم يعد يقبلها الآن أحد فهي باطلة، فما هو التراث (هل هو تراث الباطنية والمعتزلة والشعوبية الذي أغرم به زكي نجيب محمود فعاش مثلاً فترة يدرس مسيلمة الكذاب كما قال في الجزائر وهل تكفي عبارة (حصاد الفكر الأوربيَ) لقبوله بكل ما فيه من سموم وفساد وانحلال، إنه لا يتحدث عن أي تحفظ عندما يتحدث عن حضارة العصر فهو يقبلها كاملة، ونقول للدكتور زكي: إن هذه المعادلة لم تعد مطروحة اليوم، وكان يقول بها البسطاء من المفكرين المسلمين قبل خمسين سنة عندما لم يكونوا قد اكتشفوا المؤامرة التي تبحث عن(1/223)
العبارات الساذجة، كذلك لم يعد هناك هذا التقسيم الذي يتحدث عنه جماعة يسدون الأبواب في وجه الثقافة الأوربية وجماعة يدعون إلى امتصاص الثقافة الأوربية، بل إن هناك إجماع على شيء واحد: هو عرض التراث الوافد جميعًا على قاعدة "بناء الأساس الإسلامية" القائمة على الإسلام بمنهج حياة ونظام مجتمع وماذا يقصد زكي نجيب محمود حين يقول: "الرأي نأخذه من غيرنا، فنحن أتباع لا أصحاب آراء مستقلة" من هم غيرنا، هل هو القرآن والسنة، أم هم العرب الذين نزل عليهم، الحقيقة أننا نؤمن منهج رباني له أسسه وقوانينه وحدوده وضوابطه ولا يكون هناك حين نأخذ من الإسلام الرأي أي انتقاص لوجودنا وكياننا؛ لأننا لا نؤمن بأن لا كيان لنا بدونه وهي عبارة يلوكها التغريبيون ليخدعوا بها بعض البسطاء الذين يتحمسون للتبعية، أي تبعية: هل التبعية للإسلام خير أم للغرب الملحد المادي الوثني الذي يستخدم هذه الأقلام وتلك الصحف المفتوحة أمام ثرثرتهم التي أصبحت غثة وتافهة - ومن أخطائه: قوله: أن المسلمين استخدموا منطق أرسطو في فهم الإسلام وهذا الخطأ جرى تصحيحه منذ وقت بعيد، وقد أعلن علماء المسلمين أن للقرآن منطقًا (وليقرأ إن شاء ابن تيمية في منطق القرآن لا منطق أرسطو) وهو يغض من شأن إبداع المسلمين وأصالتهم في تقديم منهج التجريب ومنهج المعرفة ذي الجناحين من أجل أن يربط ولاء كاذبًا مع المدرسة اليونانية بولاء متجدد يراد به مع المدرسة الغربية.
وأخطر تمويهاته هي أنه يتكلم عن العلم وهو يقصد الفلسفة كما فعل طه حسين من قبل، إن كل ما يتكلم عنه زكي نجيب محمود لا يدخل في باب العلم، إن العلم لم ينحرف عن الإيمان بالله ولا يطالبنا بالتبعية ودعوته (الوضعية المنطقية) تدور في حلقتها الموصدة عليه حياته كلها وقد تجاوزتها الفلسفات والأحداث في الغرب ولكنه ما زال مصرًا عليها وهي عنده (إنكار الغيب) على نحو ما كتب في (خرافة الميتافيزيقا) ويقوم علي الواقع التجريبي(1/224)
المحسوس وإنكار ما سواه، والإيمان بالجبر الذاتي والاحتكام الصارم إلى العقل (صنيع الظن وما تهوى الأنفس).
والوضعية المنطقية منهج مؤداه أن يستخدم العقل وحده وهو مذهب يريد أن يفسر الكون ويفسر الإنسان مع إنكاره ما وراء الطبيعة، وإذا شاء أن يتحدث عن الله تبارك وتعالى كانت عباراته هي عبارات أصحاب وحدة الوجود والحلول.
- وهو يتناقض مع نفسه في رأيه في التراث فيقول: إن العودة إلى الشريعة الإسلامية رجعية، فالعلمانيون الذين لا يؤمنون بالغيب مجددون، والمؤمنون الذين يصلون الماضي بالحاضر رجعيون، فالعودة إلى المنابع رجعية والتقدمية هي الانسلاخ من القيم الخلقية وهذه مفاهيم معكوسة.
- وفي جملة الأمر نجد العناصر التالية في فكر زكي نجيب محمود:
أولاً: التبعية للفكر الغربي ومحاولة احتواء المسلمين في إطاره لقبول فكر الغرب لا المدنية والصناعة.
ثانيًا: إحياء التراث الذي كتبته الباطنية والشعوبية.
ثالثاً: اعتماد (الوضعية المنطقية) التي هي فلسفة الرأسمالية التي تبرر سيطرتهم على الشعوب.
رابعًا: تقديس العقل مما يعارض مفهوم الإسلام الجامع بين العقل والقلب، والروح والمادة.
إن قضية سلطان العقل قضية مضللة وقد رفضها الإسلام من المعتزلة قديمًا.
خامسًا: الجمع بين التراث والمعاصرة، تراث ينتقى، وفكر غربي يؤخذ كله.(1/225)
سادسًا: السخرية من الشريعة الإسلامية واعتبار عقوبة قطع اليد أمرًا وحشيًا يهدد كرامة الآدميين مع عدم فهم الحقيقة من وراء ذلك وهي: الحيلولة دون وقوع جريمة السرقة.
سابعًا: مهاجمة حجاب المرأة المسلمة.
ثامنًا: الإصرار على فكرة إنكار الغيب (خرافة الميتافيزيقا).
تاسعًا: تعلقه بأهداب طه حسين وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي وجميع الملاحدة واعتبار نفسه إمتدادًا لهم.
عاشرًا: مفهومه الديني هو مفهوم وحدة الوجود الذي يؤمن به ميخائيل نعيمة. والذي يختلف عن مفهوم الإسلام الحق.
لم يكن الدكتور زكي نجيب محمود معروفًا في الأوساط الفكرية إلا بأنه أستاذ فلسفه في الجامعة، يعتنق مذهب "الوضعية المنطقية"، وهي النظرية المادية التي حمل لواءها في الفكر الغربي أوجست كونت وكان معروفًا أن كل واحد من أساتذة الفلسفة يعتنق مذهبًا ما، فكان عبد الرحمن بدوى يعتنق مذهب الوجودية، وفؤاد زكريا يعتنق مذهب المادية التاريخية، وهكذا ولكنا لم نلبث بعد وفاة الدكتور طه حسين إلا قليلاً حتى طلع علينا الدكتور زكي بمقولة جديدة: أنه كان غافلاً عن التراث (ويسميه العربي وليس الإسلامي)، ولكنه تنبه إليه أخيرًا فدهش لأنه قضى العمر الطويل دون أن يعرف عنه شيئًا فلما أخذ في مطالعته دهش له. ومن ثم بدأت صلته بالفكر الإسلامي، وهناك أطلق نظريته الأنتقائية التي يرى فيها أن دعاة الباطنية والحلول والاتحاد وغيرهم هم أصحاب الفكر الحر وكان من رأيه أن علينا أن نأخذ من التراث ما نراه مناسبًا لعصرنا وندع ما لا نراه مناسبًا، وكان كل مفاهيمه يصدر عن النظرية المادية الغربية التي نشأ عليها وتربى في أحضانها والتي أصدر من خلالها كتابه "خرافة الميتافيزيقا" أي خرافة الغيب، وهو كتاب لم يرجع عنه(1/226)
ولم يعلن فيما بعد أنه قد غير رأيه فيه.
ولم تكن نظريته متقبلة في دوائر الفكر الإسلامي؛ لأنه لم يكن يؤمن أساسًا بأن الإسلام منهج حياة أو نظام مجتمع وكان موقفه من الألوهية والنبوة والوحي غامضًا ولم يكن مفهوم أهل السنة والجماعة.
- وكانت بعض الجهات قد أعلنت أن الدكتور زكي نجيب محمود قد اختير ليخلف الدكتور طه حسين في قيادة حركة التغريب والغزو الثقافي، ولكن كان على الدكتور أن يجعل كتاباته متقبلة في نظر القرّاء، وعند ذلك أعلن بعض التنازلات، فأخذ يتكلم عن الدين وعن عظماء الإسلام وعن بعض المواقف التاريخية على نحو يخدع به البسطاء الذين يسارعون إلى القول بأن الكاتب الفلاني يذب عن الإسلام وهي نفس الخطة التي اختارها التغريب للدكتور طه حسين بعد مواقفه الواضحة، ضد القرآن والإسلام حين أعلن عن كتابه "على هامش السيرة".
- ولكن الدكتور زكي نجيب محمود يختلف اختلافًا واضحًا عن الدكتور طه حسين فهو لا يملك ذلك الأسلوب الموسيقي الرنان الذي يجذب القراء؛ لأنه ليس أديبًا، وليست له حصيلة من القرآن والسنة أو قراءات التراث تؤهله ليكون في مصاف الدعاة القادرين على اجتذاب الناس بأسلوبهم البليغ، فضلاً عن ذلك فإن الدكتور زكي نجيب محمود يحمل طابعًا من الحدة والعنف والعناد، لا يليق بالدعاة إلى حدّ ما، فإن طبيعة الدعاة حتى إلى الغزو الفكري والتغريب أن تكون لهم مرونة في الحديث وخفة في الخطو، وأن لا يصدموا مشاعر الأمة، وخاصة عندما يجابه الواحد منهم بالرد الكاسح الغاضب لمخالفته للأعراف الإسلامية أو تجاوزه لما يراه الناس حقًّا، وقد ظل الدكتور زكي نجيب يتخبط، وقد فتحت له أكبر الصحف صدرها، ومنعت نشر أي رأي مخالف أو معارض أو مناقش له، وهذا ما لم يكن من(1/227)
طبيعة هذه الصحيفة في تاريخها كله، لقد أفردت له أكبر الصحف الصفحات واسعة، يصول فيها ويجول، بأسلوب جاف فلسفي، وحوار مغرب تضيق به الصدور، وينصرف عنه الناس بعد سطور قليلة، فكيف يمكن أن يكون الدكتور زكي نجيب محمود عميدًا للتغريب أو خليفة للدكتور طه حسين، ثم هو حين اصطدم به الناس في (قضية الحجاب) كشف عن قصوره التام عن أداء دوره المرسوم، وانكشف عجزه عن مسايرة الناس أو اقناعهم وسرعان ما تعرى ذلك (القناع) الذي يلبسه فإذا هو كاتب عنيف جاف لا يصبر على القول المرفوض والدنيا كلها من حوله تشيح عنه، وما هكذا عهدنا الدعاة، وإننا لنؤكد أن الدكتور زكي نجيب محمود قد سقط في الامتحان وأنه عجز عن أن يحمل لواء زعامة التغريب وعمادة الغزو الثقافي خلفًا للراحل طه حسين، وأنه إذا كان يظن من نفسه أنه زعيم فكر فما هو كذلك، وما كان ذلك يومًا، وما هكذا تساق الأبل يا سعد، وكيف برجل يهاجم تيارًا قويًا كاسحًا، سليمًا صادقًا، مرتبطًا بالفطرة، متصلاً بالإيمان، كيف يمكن أن يصور هذا التيار على أنه تخلف وهل بلغت المغالطة إلى هذا الحد، وهل يمكن أن ينتصر دعاة التغريب في معركة حاسمة كهذا في مواجهة قيم الأمة ودينها وأخلاقها، ما هكذا يمكن أن تقاد حركة التغريب، وما هكذا يمكن كسب الأنصار بإغاظة الناس وإبراز مكنونات النفس الخفية الممتلئة كراهية للإسلام، والحقد على أهله، والرغبه في تدمير قيمه، وما كان صاحبكم كذلك بل كان يستطيع أن يخفي أحقاده، حين يتحدث وكأنه من المؤمنين أم أن حركة التغريب قد غيرت من أساليبها فانتقلت من إقناع الناس إلى إغاظتهم، ومن كسبهم، إلى سبهم، نحن نعلم أن حركة اليقظة الإسلامية الآن تسير في طريق مختلف وأن أساليب التآمر على عقيده الأمة لم تعد تخدع أحدًا، ويخيل إليَّ أن دعاة التغريب يلقون بآخر سهامهم في يأس غريب، وفي إحساس بالفشل ولكن أما كان يمكن أن يكونوا أكثر تجملاً،(1/228)
على كل حال، لقد كشفوا أنفسهم وخلعوا الثوب الخادع الذي كانوا يتسربلون به حتى يظن الناس أنهم من المصلحين ومن الناصحين المخلصين لهذه الأمة وبان تمامًا وبما لا يدع مجالاً للشك أنهم ظالمون لأنفسهم غاشون لأمتهم وأنهم يسيرون ضد تيار التاريخ واليقظة والصحوة، وتلك نهايتهم مهما أفسحت لهم الصحف صفحاتها ومهما كان لأسمائهم شهرة ولمعان خادع لم يعد يخدع أحدًا" (1) اهـ.
* الدكتور طه حسين عَرّاب رائد حركة التغريب ومحو الهوية الإسلامية:
- إنه طه حسين القائل.
- "لأمر ما اقتنع الناس أن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم، ولأمرٍ ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب".
- "أظهر تناقض كبير بين نصوص الكتب الدينية وبين ما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين فالدين حيث يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لم يستطع العلم أن يثبتهما، العالم الحقيقي ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة وكما ينظر إلى اللباس من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة، وتتبع الجماعة في تطورها وتتأثر بما تتأثر به الجماعة. إن الدين في ناحية والعلم في ناحية، وليس إلى التقائهما من سبيل ومن زعم غير هذا فهو خادع أو مخدوع.
- "إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين وستبقى كذلك، بل يجب أن تبقى وتقوى، والمصري فرعوني قبل أن يكون عربيًّا، ولا يطلب من مصر أن تتخلى عن فرعونيتها وإلاّ كان معنى ذلك: اهدمي يا مصر أبا الهول
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 188 - 201).(1/229)
والأهرام، وانسى نفسك واتبعينا، لا تطلبوا من مصر أكثر مما تستطيع أن تعطي، مصر لن تدخل في وحدة عربية سواء كانت العاصمة القاهرة أم دمشق أم بغداد، وأؤكد قول أحد الطلبة القائل: لو وقف الدين الإسلامي حاجزًا بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه.
- "خضع المصريون لضروب من البغي والعدوان جاءتهم من الفرس والرومان والعرب أيضًا".
- "ما لي أدرس الأدب لأقصر حياتي على مدح أهل السنة وذم المعتزلة. من الذي يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشرًا للإسلام أو هادمًا للإلحاد".
- "إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمنًا وكافرًا في وقت واحد، مؤمنًا بضميره وكافرًا بعقله، فإن الضمير يسكن إلى الشيء ويطمئن إليه فيؤمن به، أما العقل فينقد ويبدل ويفكر أو يعيد النظر من جديد فيهدم ويبني، ويبني ويهدم" (1).
- ويقول في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938 "إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يُحب منها وما يكره، وما يُحمد منها وما يُعاب، ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع".
عاملك الله بما تستحق يا طه من داعٍ إلى العلمانية في وقت باكر، وداع إلى القضاء على الشريعة الإسلامية بالقانون الوضعي، ومن داع إلى القضاء
__________
(1) "طه حسين .. حياته وفكره في ميزان الإسلام" لأنور الجندي (ص 14 - 15) دار الاعتصام.(1/230)
على الوحدة الإسلامية بالدعوة إلى الإقليمية والقومية الغربية.
- طه حسين في أعماله الكبرى كلها خاضع للاستشراق متأثر به تابع له مُعْلٍ من قدره متحدث عن فضله على الأدب العربي والفكر الإسلامي.
- في كتابه " الشعر الجاهلي" سرق نظريته من اليهودي مرجليوث من بحثه الذي نُشر في المجلة الآسيوية عام 1924 م وصدر بعدها الشعر الجاهلي عام 1926، ومن كتاب "مقالة في الإسلام" لجرجيس صال (المبشر الإنجليزي عربه عن الإنجليزية هاشم العربي وطبع عام 1891 بمصر.
أما رأيه عن المتنبي فقد أخذه من بلاشير.
ومذهبه في النقد أخذ نظريته من تين، وبوردنير.
وبحثه عن ابن خلدون أخذه عن دور كايم.
واتجاهه في حديث الأربعاء أخذه عن سانت بيف.
وعمله في هامش السيرة أخذه من كتاب على هامش الكتب القديمة.
- طه حسين الذي ترجم وأذاع شعر بودلير العنيف في إباحيته، المسف في أسلوبه، وترجم وأذاع القصة الفرنسية المكشوفة، وقد حفلت كتاباته في جريدة السياسة 1922/ 1923 ومن بعدها في مجلة الجديد وغيرها بهذه الترجمات التي كانت مثار تعليق المازني كما سيأتي.
- تأثر طه حسين في كتاباته الأدبية والتاريخية والإسلامية بـ:
فولتير صاحب الفكر الحر وعدو الديانات.
- وفي ميدان الأدب والنقد الأدبي يتابع "تين" في نظريته المادية التي لا ترى في الإنسان إلا الجسم" والمادة فقط وأن الإنسان قبل كل شيء حيوان متوحش .. وبهذا الفكر فتح طه حسين أبواب الإثم وسموم الفكر وإباحيات المذاهب أمام الشباب.(1/231)
- وتابع طه حسين مثله الأعلى رينان في الأنتصار لحرية الرأي حتى لم يفرق بين حرية الرأي وبين الشك.
- وأعجب طه حسين بأوجست كونت الذي وصف بأنه صاحب دين جديد وهو صاحب الفلسفة الوضعية وتأثر به تأثرًا كبيرًا طه حسين وهو المذهب الذي عمقه من بعد دوركايم وصولاً بالفكر الغربي إلى المادية المطلقة.
- وكذا تابع وتأثر بديكارت وسانت بيف ومذهبهما في الشك الفلسفي. وكذا ببول فاليري وغيرهم.
* طه حسين وكازانوفا والقرآن:
- قال طه حسين عن كازانوفا (1): "هذا الرجل الذي دعته الجامعة ليس رجلاً عاديًا وإنما هو أستاذ حقًّا، ولقد أريد أن يعلم الناس أني سمعت هذا الأستاذ يفسر القرآن الكريم تفسيرًا لغويًّا خالصًا فتمنيت لو أتيح لنا لمنهجه أن يتجاوز باب الرواق العباسي ولو خلسة ليستطيع علماء الأزهر الشريف أن يدرسوا على طريقة جديدة نصوص القرآن الكريم من الوجهة الخالصة على
نحو مفيد حقًّا.
- ولكي نعرف وجهة نظر"كازانوفا" في القرآن والإسلام نعرض لما قاله في "محمد وانتهاء العالم"، وفي هذا الكتاب يتعرض بالتشكيك إلى سلامة نصوص القرآن الكريم، ويزعم أن آيتين ذاتي شأن لا أصل لهما ألبتة، بل وضعهما أبو بكر ثم أضيفتا إلى القرآن.
- ثم يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن العقل ونضوج الفكر اللذين دلّ عليهما إذ ظهرت الأيات الأولى الموحاة " ثم يشير إلى ما أسماه "جلالة كلامه
__________
(1) "طه حسين حياته وفكره" (ص 60 - 61).(1/232)
الذي لا يُقاس بغيره ولم يخطر لبال عربي قبله "، ومعنى هذا أنه ينسب القرآن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وينكر الوحي والنبوة.
- يقول عمر فاخوري في كازانوفا في " آراء غريبة في مسائل شرقية":
إن هذه اللهجة من كازانوفا أخطر خطرًا على الإسلام من شتائم المستشرق اليسوعي "لامنس" التافهة، ومحاولة كازانوفا تنصب على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين خليفة له لأنه لم يفكر أنه سيموت واعتقد أن انتهاء العالم قريب، وأنه سيكون في حياته، ولذلك فهو يعد أن آية {وما محمد إِلا رسول قد خلت من قبله الرسل} وآية {إِنك ميت وِإنهم ميتون} قد أضافهما أبو بكر من بعد.
- يقول كازانوفا: "إني أؤكد أن مذهب محمد الحقيقي إن لم يكن قد زُيف فهو على الأقل ستر بأكثر العنايات وأن الأساليب البسيطة التي سأشرحها فيما بعد هي التي حملت أبا بكر أولاً ثم عثمان من بعده على أن يمدا أيديهما إلى النص المقدس بالتغيير، وهذا التغيير قد حدث بعبارة بلغت حدًا جعل الحصول على القرآن الأصلي يشبه أن يكون مستحيلاً". هذه هي عقيدة كازانوفا في القرآن وفي الإسلام التي أشاد بها طه حسين وأعجب بها.
وقال: إنه لم يفهم القرآن إلا بعد أن سمع دروس كازانوفا التي دعته إلى أن يردد هذه الآراء في محاضراته ثم يدعو كازانوفا نفسه ليلقي هذه الأبحاث على طلاب كلية الآداب.
لقد أشار المنجوري إلى رأي طه حسين في القرآن مما ألقاه على طلابه وسجل ذلك في مقالات بمجلة الحديث الحلبية، وفي جريدة كوكب الشرق وما قرأه الدكتور عبد الحميد سعيد من كراسة أحد الطلاب في مجلس النواب أثناء عرض قضية طه حسين، ولم ينفك طه حسين عن التشكيك في القرآن أبدًا، بل ظل يثير الشبهات حوله بصورة وأخرى وخاصة في بحثه عن ضمير الغائب الذي ألقاه في مؤتمر المستشرقين في عام 1928" اهـ.(1/233)
- يقول طه حسين في كتاب "الشعر الجاهلي" مشككًا في القرآن: "ونحن لا نستطيع أن نظفر بشيء واحد يؤيد ما أشرنا إليه هو: أن الكتاب شيء غير القرآن، كان موجودًا قبل إنزال القرآن، والقرآن صورة عربية منه، وقد أخذ صورًا من قبل كالتوراة والإنجيل".
- ويقول: "وإذن فالقرآن دين محلي لا إنساني عالمي، قيمته وخطره في هذه المحلية وحدها. قاله صاحبه متأثرًا بحياته التي عاشها وعاش فيها.
ولذلك يعد تعبيرًا صادقًا عن هذه الحياة. أما أنه يمثل غير الحياة العربية أو يرسم هدفًا عامًا للإنسان، فليس ذلك بحق. إنه دين بشري وليس وحيًا إلهيًّا، والقرآن مؤلف، ومؤلفه نبيه محمد، ويمثل تأليفه بأنه يمثل حياة العرب المحدودة في شبه الجزيرة في اتجاهات حياتها المختلفة السياسية والاقتصادية والدينية.
* دليل دامغ ونص خطير لعرّاب التشكيك في القرآن الكريم:
قدم الدكتور عبد الحميد سعيد كرّاسة لأحد طلبة طه حسين أثبت فيها ما كان يلقيه عليهم - يقول في محاضرة في كلية الآداب بقصر الزعفران (1927 - 1928) بعد ضجة الشعر الجاهلي:
"وصلنا في المحاضرة الماضية إلى موضوع اختلاف الأساليب في القرآن، وقررنا أنه ليس على نسق واحد، واليوم نوضح هذه الفكرة:
لا شك أن الباحث الناقد والمفكر الحر الذي لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر، حيث يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا يربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثير بيئات متباينة، فمثلاً نرى القسم المكي فيه يمتاز بكل ميزات الأوساط المنحطة، كما نشاهد أن القسم اليثربي(1/234)
تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة، فأنتم إذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي ينفرد بالعنف والقسوة والحدة والغضب، والسباب والوعيد والتهديد، ويمتاز كذلك بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني وقصر الآيات، والخلو التام من التشريع والقوانين، كما يكثر فيه القسم بالشمس والقمر والنجوم والفجر والضحى والعصر والليل والنهار والتين والزيتون، إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلية الساذجة التي تشبه بيئة مكة تأخرًا وانحطاطًا.
"أما القسم المدني فهو هادئ لين وديع مسالم، يقابل السوء بالحسنى، ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة، والبرهان الساكن الرزين، كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية، كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق والبيوع وسائر المعاملات، ولا شك أن هذا أثر من آثار التوراة والبيئة اليهودية، التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة، يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر في أسلوب القرآن".
"ليس القرآن إلا كتابًا ككل الكتب الخاضعة للنقد، فيجب أن يجري عليه ما يجري عليها، والعلم يحتم عليكم أن تصرفوا النظر نهائيًّا عن قداسته التي تتصورونها، وأن تعتبروه كتابًا عاديًا فتقولوا فيه كلمتكم، ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شيء من هذا الكتاب ويبين ما يأخذه عليه".
"هناك موضوع آخر أريد أن أنبهكم إليه وهو مسألة هذه الحروف الغريبة غير المفهومة، التي تبتدئ بها بعض السور أمثال: ألم، ألر، طس، كهيعص، حم عسق .. إلخ، فهذه كلمات ربما قُصد منها التعمية أو التهويل وإظهار القرآن في مظهر عميق مخيف، أو هي رموز وُضِعت لتميز بين المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب" (1).
__________
(1) منقول بالنص عن محضر الجلسة الرابع والعشرين لمجلس النواب المصري 28 مارس سنة
1932 (ص346) وما بعدها.(1/235)
- فطه حسين هنا يقول ببشرية القرآن، وهذا القول كفر أكبر مخرج من الملة بعد قيام الحجة على قائله من قِبَل علماء الأمة.
* موقف طه حسين من الدين الإِسلامي والحكومة الإِسلامية:
إن مقال طه حسين "بين العلم والدين" الذي نشره في مجلة الحديث عام 1927 هو بمثابة تقرير كتبه الدكتور إلى أساتذته عتاة التغريب ليكشف لهم عن الخطر الذي يواجهه تحت مادة دين الدولة الرسمي الإسلام، وفيه يكشف مفهومه للإسلام بأنه لا يزيد عن أن يكون صلاة وصيامًا واحتفالاً بالمولد النبوي والأعياد الرسمية وإطلاق المدافع في رمضان وقيام المحمل إلخ ..
أما بالنسبة للنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإنه يدعو مصر إلى اعتناق النظرية الغربية يرى أنه لا سبيل غير ذلك.
- يقول طه حسين في عدائه للحكومة الإسلامية والتشريع الإسلامي:
"لقد اعتزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم ونسير سيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع، والتزمنا هذا كله أمام أوربا، وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزامًا صريحًا قاطعًا أمام العالم المتحضر بأننا سنسير سيرة الأوربيِين في الحكم والإدارة والتشريع فلو هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً".
- ويقول في كتاب "الفتنة الكبرى": "لقد كانت الخلافة الإسلامية تجربة جريئة توشك أن تكون مغامرة ولكنها لم تنته إلى غايتها ولم يكن من الممكن أن تنتهي إلى غايتها؛ لأنها أُجريت في غير العصر الذي كان يمكن أن تُجرى فيه سبق بها هذا العصر".
ويقول في "الفتنة الكبرى": "ليس من شك أن عليًّا قد أخفق في بسط(1/236)
خلافته على أقطار الأرض الإسلامية، ثم هو لم يخفق وحده، وإنما أخفق معه نظام الخلافة كله وظهر أن الدولة الجديدة التي كان يُرجى أن تكون نموذجًا للون جديد من ألوان الحكم والسياسة والنظام لم تستطع آخر الأمر إلا أن تسلك طريق الدول من قبلها، فيقوم الحكم فيها على مثل ما كان يقوم من قبل من الأثرة والاستعلاء ونظام الطبقات التي تستذل فيه الكثرة الضخمة، لا من شعب واحد بل من شعوب كثيرة لقلة قليلة من الناس" (1).
وهذا الكلام تَجَنٍ من طه حسين على الخلافة التي لم تخفق، وإنما ظلت طيلة ثلاثة عشر قرنًا حتى الحرب العالمية الأولى مصدر عزة المسلمين وقوتهم.
- ومفهوم طه حسين للدين هو أنه ظاهرة اجتماعية وأنه خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وأشد من ذلك خطرًا قوله: "بأن الإسلام لم يغير حياة العرب، وأنه بقي على هامش حياة المسلمين، وأنه لم يستطع أن يفرض حياة المسلمين بين أصحاب الحضارات الأخرى".
- أما رأيه في الشريعة فهو رأي متعصبي المستشرقين أمثال جولدزيهر، وشاخت وغيرهم فهو يقول: "ولكننا لا نشك في أن الفقه الإسلامي قد تأثر بالفقه الروماني قليلاً أو كثيرًا سواء علم بذلك الفقهاء أم لم يعلموا" وهذا الكلام لطه حسين مغالطة واضحة.
- ويقول عن الشيخ الظواهري في "السياسة" (28/ 6/1932):
"ما دامت هذه الأيام السود قد جعلت رأي الشيخ الظواهري فوق الدين والعلم، وفوق الحرية والدستور والقانون فمن الحق على هذا (البابا) أن لا يحكم في رعاياه البائسين حكم قراقوش، وأن لا يقضي في أمر حتى يفهم
__________
(1) "الفتنة الكبرى" لطه حسين (2/ 155).(1/237)
ويتبصر. وأنا أعلم أن عمامة الشيخ تضيق بفهم هذه الكتب العلمية الخالصة التي يطبعها في مصر جماعة من المصريين والأجانب الشرقيين والغربيين".
وواضح أن هدف طه حسين هو فتح الطريق أمام الأجانب الغربيين وحدهم في نشر ما يشاءون من آراء سواء أكانت معارضة للإسلام أو مهاجمة له. وأيضًا في اتهامه لقراقوش بالاستبداد تزييف واضح للتاريخ.
الخطوة الثانية:
- وكانت مقالات طه حسين عن ما أسماه الخطوة الثانية: هي أخطر محاولاته لهدم الأزهر.
فقد أُعلن إلغاء المحاكم الشرعية فإذا الدكتور طه حسين يتقدم بطلب إلغاء الأزهر تحت اسم الخطوة الثانية في مقال بجريدة الجمهورية 21/ 10/1955 دعا فيها إلى توحيد التعليم على الأساس المدني، ثم أردفه بمقال آخر في 2/ 11/1955، ثم بمقال في 16/ 11/1955 ثم مقال رابع بتاريخ 27/ 11/1955. وقد ردّ عليه الكثير من العلماء والدعاة مثل الشيخ محب الدين الخطيب، والدكتور محمد أبو شهبة.
- قال الدكتور محمد محمد أبو شهبة في مجلة الأزهر عن طه حسين:
"أيريد أن نتخلى عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الموحى إليه بهما
من ربهما ونشتغل بفلسفة اليونان وسقطاتهم وثقافة الفرنسيين الذين يحبهم
ويحبونه حتى ننفي عن أنفسنا أننا محافظون، أم يريد أن تقطع صلتنا بالسلف
الصالح من هذه الأمة الإسلامية وما خلّفوا لنا من كنوز وذخائر ونصل حبالنا
بأبناء السين والتايمز حتى يرضى عنا ويضعنا في قائمة المجددين، ألا فليعلم
الدكتور ومن على شاكلته أنه لن يكون شيء من ذلك، ودون ما يريد خرط
القتاد وصعود السماء {فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن
كيده ما يغيظ}.(1/238)
- وكتب السيد محب الدين الخطيب رئيس تحرير مجلة الأزهر في مقدمة العدد الخاص (ديسمبر عام 1955):
ْ"إن الضجة التي أثارها مؤلف "مستقبل الثقافة في مصر" لم يثرها ليقضي على مناهج الأزهر من ناحية العلوم. بل هو يريد من مصر ومن الأزهر ومن كل من ينتسب إلى العلم من الناطقين بالضاد أن يؤمنوا بثقافة الغرب ما آمن هو بها ..
وبعد: فإن مصر لو فقدت عقلها وسارت وراء مؤلف "مستقبل الثقافة في مصر" لخسرت جميع أبنائها المثقفين كما خسرت ويا للأسف المسيو كلود طه حسين ناظم ديوان أجراس الكنائس الذي يتغنى فيه لابنته بموسيقى الكنائس، وأظن أن مؤلف كتاب "مستقبل الثقافة" يتمنى لجميع أبناء مصر أن يكون كل واحد منهم (كلود طه حسين).
- أما القائمون بالولاية على مصر فإن أبناء مصر أكرم عليهم من ذلك وأعز، وهم يعلمون أن حياة مصر بالإسلام وقوتها بالتعاون مع العرب. إن هذه البذور التي زُرِعت في تربتنا الجامعية منذ نحو ثلاثين سنة بمشهد من صاحب "الخطوة الثانية" كما يشهد له بذلك كتابه "في الشعر الجاهلي"، وأعمدة الصحف ومحاضر مجالس النواب وبعض قرارات النيابة إلى أن أنبتت تلك البذور رجالاً صار منهم الآن مدرسون وأساتذة كالذي "كان يمزح مع طلابه على حساب إيمانهم فيقول لهم: إنه سيعطي درجات إضافية في الامتحان للذين يفطرون في رمضان"، وكالذي يعتبر الآن حجة للفسلفة الوجودية في مصر، ويقول في رسالة له صدرت في القاهرة عام 1953:
"إما أن تقول بالأخلاق فتفقد ذاتك، وإما أن تقول باللا أخلاق فتخاطر بوجودك. وإننا معاشر الوجوديين لا نريد أن ننساق وراء أحلام البراءة والبكارة والطهارة" .. هذا هو خطر الوجودية .. إن صاحب "الخطوة الثانية"(1/239)
يعمى عن رؤية هذا الخطر على مصر؛ لأن هواه يصرفه عن اعتبار أن الخطوة الثانية يجب أن تتجه نحو تطهير الجامعة من هذا التيار العدواني للقانون والأخلاق والواجب والطهارة والبراءة وحماية الجامعيين من هذا الوباء الجارف الذي يدعو إلى الإثم ويهدد مستقبل مصر وكيانها، فرأيناه يسكت عن ذلك؛ لأنه كان من شهود زرعه وغرسه ويرفع عقيرته مناديًا بالقضاء على ما يختلف به في مفاهيم تعليمه عن مناهج من يسميهم الناس في مدارسهم، وليس بين مناهج الأزهر والمناهج الأخرى فرق إلا بتعليم القرآن وتفسيره والحديث ومصطلحه والسيرة النبوية والفقه الإسلامي، فالقرآن وهذه العلوم المفسرة له والمستظلة بهدايته هي الخطر كل الخطر على مصر ويجب أن تكون الخطوة الثانية متجهة نحو تحطيمها وإبادتها بتوحيد التعليم في طور الصبا والشباب".
* دعوته إِلى أدب المجون والجنس والإِباحة:
في جرأة عجيبة على تاريخ الأمة قال طه حسين كلمته المسمومة: "إن القرن الثاني للهجرة كان عصر شك ومجون وزندقة وفجور، وأنه يتخذ كنموذج لهذا العصر: أبا نواس، ووالبة ومسلم بن الوليد وأمثالهم من شعراء اللهو، ويعتمد على كتاب "الأغاني" في كثير من الأحكام التي أصدرها من غير تحرج ولا احتياط على هذا العصر.
بل إنه ذهب إلى أبعد من هذا حيث دعا شاب كلية الآداب إلى اعتبار كتاب "الأغاني" مرجعًا في دراسة العصر ومصدرًا لرسم صورة المجتمع الإسلامي، وهذا زيف بالغ الخطر، وجرأة على الحق.
وقد رد عليه الدكتور غلاّب والأستاذ محمد عرفة، وأشار الدكتور عبد الحميد سعيد إلى خطورة "حديث الأربعاء" في حديثه في مجلس النواب المصري عام 1933.
وما توقف طه حسين في دعوته إلى الزندقة والإباحة الجنس، ولقد(1/240)
ذهب إلى أبعد من ذلك فكتب حياة أبي نواس في أواخر حياته ليصلها بما كتبه عنه في أوائل الشباب (سنة 1926) وبينهما أربعة عقود، وإحياء أبي نواس إحياء للدعوة إلى الخمر وإلى الجنس وإلى الإباحة تذكر بعصبة المجان: بشار ومطيع وحماد عجرد والخليع.
- وكتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في كتابه "قبض الريح" (ص63) وما بعدها ما يلي:
"ولقد لفتني من الدكتور طه حسين في كتابه "حديث الأربعاء" وهو مما وضع قصص تمثيلية - وهي ملخصة، أن له ولعًا بتعقّب الزناة والفسّاق والفجرة والزنادقة".
ودعوته إلى تحرير الأدب من الأرتباط بالأخلاق والدين دعوة إلى التحرر من ثوابت هذا الدين، يقول عن شعر المجون: "خسرت الأخلاق من هذا التطور وربح الأدب "- وهو الذي ترجم شعر بودلير الماجن، والقصص الفرنسي الداعر.
* طه حسين وحضارة البحر التوسط:
دعا الدكتور طه حسين إلى الإقليمية المصرية مع إعلائه الدعوة إلى الفرعونية وإنكار رابطتها العربية والإسلامية، والادعاء بأن لها رابطة بالغرب ودول البحر المتوسط وأن العقل العربي هو عقل يوناني استمد ثقافته من الفلسفة اليونانية في القديم، وهو عقل غربي في الحديث استمد ثقافته من أوربا.
وقد كان هدف طه حسين من هذه الدعوى عزل مصر عن العرب والعالم الإسلامي وإدخالها في الحلف اللاتيني الذي أنشأته إيطاليا وفرنسا وأسبانيا بوصفها دول البحر الأبيض المتوسط، وكانت فرنسا هي التي تقود هذه الدعوة، والنظرية تقوم على أساس أن مصر قطعة من أوربا، كما أعلن(1/241)
ذلك الخديو إسماعيل وأنها جزء من حوض البحر المتوسط.
- يقول طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة": "إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على أخلاقها فإنما بتبادلها مع شعوب البحر المتوسط. فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري نقره فيها فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم، وإن كلمة إسماعيل لم تكن فنًا من فنون التمدح أو لونًا من ألوان المفاخرة، وإنما كانت مصر دائمًا جزءًا من أوربا في كل ما يتصل بالحياة الثقافية العقلية".
- وهذه دعوى عريضة باطلة، وقد وجه طه حسين بعشرات الردود التي تكسف شمسه وتزيف رأيه، ولكنه كان يمضي في هذا الطريق على نحو من الصلف والكبرياء الكاذب الذي لا يبلغه.
ولقد أخطأ خطأً بالغًا حين كتب في جريدة "كوكب الشرق" عام 1933 هذه العبارة: "وإن المصريين قد خضعوا لضروب من البغي وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين وجاءتهم الآن من الإنجليز، وهم قد صبروا لهذا كله وانتصروا على هذا كله فردوا من ردوا من المعتدين وأفنوا في أنفسهم من أفنوا من هؤلاء المعتدين".
- وقام شباب متحمس لعروبته في دمشق في ساحة الشهداء بحرق بعض كتب طه حسين. وانهالت الردود على طه حسين من عبد الرحمن عزام، ومحمد علي علوبة، وأحمد حسن الزيات، وعبد القادر حمزة، وعلي الجندي (العربي - إبريل عام 1980).
وأعلنت مجلة "المكشوف" المارونية البيروتية عام 1938 عن كتاب لم يصدر للدكتور طه حسين هو "مستقبل حضارة البحر التوسط في الشرق والغرب". وجاء في هذه المجلة قول طه حسين: "أؤكد قول أحد الطلبة(1/242)
القائل: "لو وقف الدين الإسلامي حاجزًا بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه". إن المصري مصري قبل كل شيء فهو لم يتنازل عن مصريته مهما تقلّبت الظروف".
إن طه حسين يكشف بذلك انغماسه حتى الأذنين في وثنية عميقة يتنقل بها من اليونان إلى الرومان إلى الفراعنة، وفي نفس ذلك الحقد المتصل على الإسلام فضلاً عن أن هناك فارقًا واسعًا وعميقًا بين دراسة الآثار وبين الدعوة إلى الفرعونية.
وما استطاعت كتابات طه حسين هذه أن تزيح سمومه الفرعونية التي بثها على طول حياته، تلك التي شكلت مدرسة الإقليمية المصرية البغيضة وقوامها: حسين مؤنس، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزي ولويس عوض، وهم الخلفاء الطبيعيون للثقافة الوثنية التي أنشاها طه حسين وهيكل، ومحمود عزمي، وسلامة موسى، هؤلاء جميعًا كانوا يعتقدون بأن انتماء مصر يجب أن يكون انتماء غربيًا أوربيًا في التعليم والثقافة وفي الحكم والسياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي التشريع.
- ولكن أخطر ما دعا إليه الدكتور طه حسين هو إنكار فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الحديثة، ورد عليه شيخ العروبة أحمد زكي ردًا مفحمًا بيَّن هراءه ودجله.
* طه حسين وتزييف التراث وإِحياء التراث الزائف الذي صنعته الباطنية كـ "رسائل إِخوان الصفا":
كان أكبر أهداف طه حسين تزييف التراث، وكان موقفه من التراث الإسلامي واضحًا وهو موقف الاستهانة والامتهان له باطلاق اسم القديم عليه، ومحاولة إعادة كتابته بمفهوم التفسير المادي للتاريخ ومنهج الجبرية(1/243)
التاريخية وإزالة طابع الإيمان والبطولة والتضحية. وتركيزه على القول بأنه لم يجد في الأدب العربي القديم ما يستحق أن يُبعث وينشر إلا أخبار المجونيين الذين ابتلي بهم الأدب العربي كأبي نواس ووالبة والخليع ومن إليهم.
وعمل على إحياء التراث الزائف الذي صنعته الشعوبية والباطنية، فقد حرص على إعادة إحياء بعض الكتب القديمة واعتبرها مراجع لدراسة المجتمع الإسلامي، وقد ركّز على كتاب "الأغاني" تركيزًا شديدًا مع أن هذا الكتاب بإجماع المؤرخين لا يصلح للغرض الذي قصد إليه.
- وقصد إلى إحياء بعض الكتب القديمة ذات الأثر الخطير في طرح مفاهيم الباطنية والمجوسية وذلك باهتمامه بكتاب "رسائل إخوان الصفا".
وطمع في إحياء كتب المعتزلة والفلاسفة والتصوف الفلسفي وهو تيار بدأه المستشرقون وسار فيه أستاذه "ماسنيون" الذي أحيا الفكر الباطني للحلاج.
- يقول طه حسين: "إنه استكشف كتابًا عظيم الخطر في تاريخ الفلسفة الإسلامية هو كتاب "المغني" للقاضي عبد الجبار، وهو كتاب يصور مذاهب المعتزلة في علم الكلام" وهو بنشره هذا الكتاب في فكر المعتزلة يضلل الناس عن مفهوم التوحيد الخالص ويردهم إلى الشبهات.
- وهكذا نجده في المجمع اللغوي ولجنة الثقافة بالجامعة العربية يهدف إلى نشر مثل هذه الكتب ويسميها "الخطيرة القيمة"، وهو في لجنة الثقافة يهتم بكتاب "أنساب الأشراف" للبلاذري وهو كتاب مضطرب طبعه اليهود في إسرائيل؛ لأنه يبرئ عبد الله بن سبأ.
كتاب "رسائل إِخوان الصفا":
كشف كثير من الباحثين أخطاء طه حسين في كلامه عن "رسائل إخوان الصفا"، ومنهم الأستاذ محمود الملاح، والأستاذ عبد الآمر غلوس على(1/244)
النحو التالي:
- قال طه حسين عن إخوان الصفا أنهم مفكرون مستقلون يحاولون أن يصبغوا ما انتهى إليه المسلمون من آثار الأمم بصبغة إسلامية، وكان من زعمائهم جماعة كالفارابي وابن سينا.
وقد أجاب الأستاذ الملاح عن ذلك الأفتراء بقوله: "إن هذه النحلة الهدامة تحاول صبغ الملة الإسلامية صبغة الأساليب الوثنية المتضمنة للشرك والرجوع بالمسلمين إلى الوراء بعد أن ذاقوا نعمة التوحيد الخالص".
- كذلك قال طه حسين: إن رسائل إخوان الصفا أشبه شيء بدائرة معارف فلسفية جمعت كل ما لم يكن بد من تحصيله للرجل المثقف في هذا العصر، وأن هذه الرسائل ليست إلا مدخلاً إلى رسالة جامعة هي خلاصة العلم وغاية الغايات. هل يبعد أن يكون رجل كالغزالي قد تأثر إلى حد قريب أو بعيد بفلسفة هذه الجماعة ولا سيما حينما نلاحظ أنه نشأ فيلسوفًا وانتهى صوفيًّا؟!
وقول طه حسين كله كذب فلقد كان الغزالي معروفًا بمحاربة الباطنية فرسائل إخوان الصفا جب ملئ بالأفاعي والعقارب، وهذه الرسائل بخسة الغاية والهدف.
* طه حسين والسيرة النبوية: "على هامش السير" أو "على هامش الشعر الجاهلي" وبعث الأساطير "المثيولوجية" الإِسلامية:
جمع طه حسين كل السموم والشبهات التي أثارها الاستشراق في مختلف كتبه وفي دائرة المعارف الإسلامية وأدخلها في دراسته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان والصحابة -رضي الله عنه- حتى يمكن القول بأن "على هامش السيرة" يمكن أن يُسمى "على هامش الشعر الجاهلي"، ولقد وضع الكتاب على نمط كتاب غربي كتبه "الفريد أورشيم" الأستاذ بجامعة أكسفورد(1/245)
تحت عنوان "على هامش سيرة المسيح" ذكر ذلك الأستاذ عبد الله كنون في كتابه "التعاشيب". وأشار الدكتور محمد برادة إلى أن طه حسين كتبه تقليدًا لكتاب "على هامش الكتب القديمة" لجيل لومتير.
- يقول طه حسين في كتاب "الإسلام والغرب" الصادر عام 1946 في باريس "ويتحتم أن نعترف بأن كتابين فرنسيين كانا بمثابة الشرارتين اللتين أشعلتا موقدين مختلفين، أحد الكتابين لجيل لومتير وعنوانه "على هامش الكتب القديمة"، والثاني "حياة محمد" لإميل درمنجم". قال هذا الكلام في أول مؤتمر للحوار بين المسيحية والإسلام ويعد كتابه خطوة في هذا السبيل من حيث دمج الأديان كلها في كتاب واحد، وفي اختراع أخطر بدعة من إحياء الأساطير في الأدب العربي.
- وقد ردّ عليه الأستاذ غازي التوبة في كتابه عن الفكر الإسلامي المعاصر، والأستاذ محمد النايف في مقالاته المستفيضة عن السيرة التي نشرها في مجلة المجتمع الكويتية سنوات (1394 و1395 هـ) والدكتور محمد حسين هيكل، وقال الدكتور محمد حسين هيكل: "في رأيي أن لا تتخذ حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - مادة الأدب الأسطوري، وإنما يُتخذ من التاريخ وأقاصيصه مادة لهذا الأدب ..
والنبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته وعصره تتصل بحياة ملايين المسلمين جميعًا بل هي فلذة من هذه الحياة، ومن أعز فلذاتها عليها وأكبرها أثرًا، واعلم أن هذه الإسرائيليات قد أُريد بها إقامة (ميثولوجية إسلإمية) لإفساد العقول والقلوب من سواد الشعب، ولتشكيك المستنيرين ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت هذه غاية الأساطير التي وضعت عن الأديان الأخرى، من أجل ذلك ارتفعت صيحة المصلحين الدينيين في جميع العصور لتطهير العقائد من هذه الأوهام".(1/246)
ولا ريب أن كلام الدكتور محمد حسين هيكل هذا هو اتهام صريح للدكتور طه حسين في اتجاهه وتحميل له لمسئولية من أخطر المسئوليات، وهي إعادة إضافة الأساطير التي حرر المفكرون المسلمون سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها طوال العصور، وإعادتها مرة أخرى لخلق جو معين يؤدي إلى إفساد العقول في سواد الشعب، وتشكيك المستنيرين ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أخطر مزاعمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحب زينب بنت جحش وهي زوجة لزيد وهذا بهتان عظيم (1).
ولقد وصف الأستاذ مصطفى صادق الرافعي كتاب "على هامش السيرة" بأنه تهكم صريح (2).
- ويقول الأستاذ غازي التوبة: "إن طه حسين ينصب نفسه إمامًا للأساطير اليونانية ويضع السيرة في مصاف الإلياذة ويطلب من المؤلفين والكتاب أن يفتتنوا في الحديث عنها افتتان أوربا بأساطير اليونان، كي يرضوا ميول الناس إلى السذاجة، ويمتعوا عواطفهم وأخيلتهم. ولكن هل يتساوى الأثران في المجتمعين: " الإلياذة" في المجتمع اليوناني، والسيرة في المجتمع الإسلامي، وهل كانت السيرة يومًا ما في التاريخ موضوعًا لتسلية قصصية أو مباراة لفظية" (3).
وفي الجزائر نشرت مجلة "الشباب الجزائرية" (ذي القعدة عام 1352 هـ - 1934م) تحت عنوان "دسائس طه حسين" قالت: "ألف طه حسين كتابًا أسماه "على هامش السيرة" يعني السيرة النبوية الطاهرة، فملأه من الأساطير
__________
(1) "محاكمة فكر طه حسين" (ص 185، 187).
(2) المصدر السابق (ص 189).
(3) المصدر السابق (ص 188 - 189).(1/247)
اليونانية الوثنية وكتب ما كتب في السيرة الكريمة على منوالها، فأظهرها بمظهر الخرافات الباطلة وأساطير الخيال، حتى يخيل للقارئ أن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هي إلا أسطورة من الأساطير، وفي هذا من الدس والبهت ما فيه" (1).
* "الشيخان" أبو بكر وعمر:
يمضي الدكتور طه حسين في كتابه هذا على نفس النمط الذي سار عليه في كتابه "الفتنة الكبرى" وهي مجموعة أحقاد ووصايا تبشيرية واستشراقية موجهة ومدروسة يضعها في قلب هذه الدراسات لإثارة الشكوك حول صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد مهّد لكتاب "الشيخان" بمقدمة خطيرة أعلن فيها مذهب الشك الفلسفي بوضوح فيعبث في تاريخ أمتنا ويطعن في الرواة الثقات من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وتابعي التابعين وينكر أحاديث متفقًا على صحتها:
فيطعن في حادث السقيفة قائلاً: "لست أطمئن إلى أكثر ما يرويه الرواة من نصوص الحوار الذي كان بين أبي بكر وصاحبيه من جهة وبين الأنصار من جهة أخرى".
- ويطعن في حديث العباس وعلي عن موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن العباس عرف الموت في وجه النبي، مع رواية البخاري له وأحمد.
- ويشكك في استسقاء عمر بالعباس مع أن الحديث مروي عن أنس في "صحيح البخاري".
- ويشكك في أن يكون عمر قد راجع أبا بكر -رضي الله عنه- معترضًا على حرب المرتدين مع أن الحديث رواه الجماعة سوى ابن ماجه .. وما أكثر قوله
__________
(1) المصدر السابق (ص 189).(1/248)
في رواية الثقات العدول: "ويزعم الرواة".
- ويلغ في أعراض الصحابة فيلمز أبا هريرة وسعد بن أبي وقاص ويتحامل على معاوية -رضي الله عنه- ويوغل في عرض سيف الله المسلول خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ويجد في القصص التي اختلقها الوضاعون من أعداء الله عبر التاريخ الإسلامي ذريعة للطعن في أعظم قائد عرفته المعارك بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ويصف عمر -رضي الله عنه- في غير موضع بالبطش، وقال: إنه لم يمت حتى ملته قريش. وينتقد أبا بكر -رضي الله عنه- في أنه حصر الخلافة في قريش مع أنه في هذه المسألة قد وردت أحاديث صحيحة كثيرة، ويصف عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بأنه ماكر أهل الشام والأشعث بن قيس بأنه ماكر أهل العراق، ولا ريب أن الطعن في الصحابة -رضي الله عنه- يرمي إلى زلزلة الثقة بأهل الثقة.
انظر إليه وهو يقول في كتابه "الشيخان": "وكان حظ الكوفة من سواد العراق ومما فُتح من أرض الفرس أعظم من حظ البصرة. وكان أهل البصرة يطمعون في أن يوسعوا رقعتهم ويكثروا من الفتوح، لتتاح لهم من الغنائم وسعة الفيء إلى ما كانوا يؤمنون به من فضل الجهاد والغزو في سبيل الله، حتى قال الأحنف بن قيس ذات يوم لعمر: "إن عيشنا أضيق من عيش إخواننا بالكوفة، وأنا لن نأمن الفرس"، وما زال الإلحاح حتى أذن عمر، فاندفع أهل البصرة حتى بلغوا من الفتح ما أرادو" فهل هذه هي النيات التي تحكم الأبرار الأطهار الذين تربوا في مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - ووعوا قوله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" فما بال القتال في سبيل الغنائم.
* طه حسين والصحابة:
نجد أصولاً عامة مشتركة في كل كتب طه حسين:(1/249)
أولاً: ظلم عثمان واستنقاص الصحابة - رضي الله عنهم - والافتراء على السيدة عائشة - رضي الله عنها -
ثانيًا: تكذيب الروايات التي وردت في "صحيح البخاري" وكتب السنة.
وفي كتاب "الوعد الحق":
- يطيل الحديث في كتابه "الوعد الحق" عن ظلم عثمان -رضي الله عنه- وطغيانه، وأنه ما زال يضرب ابن مسعود -رضي الله عنه- حتى كسر ضلعه، وأشبع عمار بن ياسر -رضي الله عنه- ضربًا حتى أصابه الفتق، وغشي عليه، وفاتته صلوات الظهر والعصر والمغرب (ص 170)، وهذا دجل من طه حسين وكذب صراح.
- ويدعي أن عثمان -رضي الله عنه- نكث عن بيعته لعبد الرحمن بن عوف وانحرف عن طريق صاحبيه، وأن بني أمية في عهد عثمان حكموا حكمًا جاهليًّا بعيدًا عن الإسلام.
وفي كتابه "مرآة الإِسلام":
في صفحاته الأخيرة تتوالي عباراته الجارحة للصحابة -رضي الله عنه- وتكذيب للأحاديث الصحاح.
ويركز طه حسين في هذا الكتاب على خصوم الإسلام الذين تآمروا عليه من أمثال الزنادقة في عهد المهدي، والحلاج، فيدافع عنهم ويهاجم الخليفة المهدي في صنيعه بالزنادقة، ويصف قتل الحلاج بالغلوّ، ويزكي المعتزلة القائلين بخلق القرآن ويدافع عن قتلة عثمان -رضي الله عنه-.
* إعجاب طه حسين بثورات التخريب:
بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك في مغايظة المسلمين وتنكب الطريق الصحيح، واعتبر أن مؤامرة القرامطة والزنج ثورتان إسلاميتان تطلبان العدل والمساواة.(1/250)
ولا ريب أن طه حسين كما يقول محمد النايف: لا يستطيع أن يتخلى عن عاطفته نحو الملحدين كالسبأية، والزنادقة والحلولية والقرمطية وثورة الزنج، ويُحشر المرء مع من أحب.
* طه حسين وصلته باليهود:
في محاضرته في " المدرسة الإسرائيلية " بالإسكندرية في 24 ديسمبر 1944 كما نشرتها مجلة المكشوف البيروتية في 2 كانون الثاني 1944:
"ألقى الدكتور طه حسين مراقب الثقافة في وزارة التربية الوطنية في المدرسة الإسرائيلية بالإسكندرية - يوم 24 كانون الأول 1944 محاضرة عن اليهود والأدب العربي فذكر العلاقات بين اليهود والعرب منذ الجاهلية وأي أثر كان لليهود في تحضير سكان الجزيرة، ثم تكلم عن انتشارهم في أفريقيا الشمالية وأسبانيا حيث كانت لهم خدمات في سبيل الثقافة وكيف نافسوا العرب أنفسهم على أكثر المناصب في الدولة، إلى أن قال: إن المسيحيين واليهود كانوا خير عون للعرب في نقلهم العلوم والفنون والآداب عن اليونان والهنود والفرس .. " قالت المجلة: فقُوبل كلام المحاضر بعاصفة من التصفيق وقرر المجلس الملي الإسرائيلي إنشاء جائزتين باسم طه حسين يُمنحان لألمع طالبين في المدرسة الإسرائيلية".
- وقبل ذلك بكثير احتضن طه حسين في كلية الآداب طالبه الأثير (إسرائيل ولفنسون) الذي وُصف بأنه رجل استقدمه الدكتور إلى الجامعة وأحاطه بعنايته ورعايته ومكّنه من الحصول على إجازة الدكتوراه برسالة عن "اليهود في جزيرة العرب" قدمها بنفسه في الحفل وفي الطبع، وقد أطلق على نفسه (أبو ذؤيب) وقد عمل أستاذًا فترة من الزمن في دار العلوم، وقد وجد فيما نقله من أخبار وأحاديث تحريفًا وبترًا واقتطاعًا من نصوص محفوظة معروفة.(1/251)
موضوع رسالة الصهيوني إسرائيل ولفنسون (المشرف على البحوث الإسرائيلية في أفريقيا بعد ذلك) هو "تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام" قدم لها الأستاذ المشرف طه حسين بمقدمة جاء فيها:
الموضوع في نفسه قيّم جليل الخطر بعيد الأثر جدًا في التاريخ الأدبي السياسي والديني للأمة العربية فليس من شك أن هذه المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيرًا قويًّا في الحياة العقلية والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز، وليس من شك أن الخصومة كانت عنيفة أشد العنف بين الإسلام ويهودية هؤلاء اليهود، وفي أنها استحالت من المحاججة والمجادلة إلى حرب بالسيف انتهت بإجلاء اليهود عن البلاد العربية.
وهذه الرسالة استحق صاحبها من الدكتور طه المشرف عليها أن ينعته بأنه عالم شاب وُفِّق إلى الخير وإلى تحقيق أشياء كثيرة لم تكن قد حُققت من قبل.
وإسرائيل ولفنسون هذا قال عنه طه حسين: جئت به من فرنسا، وهو القائد لأكبر حملات الكذب والدعاية والتضليل على العرب في فلسطين.
- ورسالة الدكتوراه هذه حلقة من كتب الدعاية الصهيونية التي كانت الشعبة الثقافية للمؤتمر الصهيوني بإشراف (مارتن بوبر) تدعو إلى نشرها، وقد أضفى طه حسين وتلميذه اليهودي على اليهود ما ليس لهم، وما لم يكن فيهم، بل هو فضل خلعاه على اليهود فما كان لليهود على العرب، أو على غيرهم من البشر أي فضل.
ولقد تصدى لهذا الدجل الرخيص الدكتور فؤاد حسنين وبين عوار هذه الرسالة.
- وطه حسين هو المدافع عن عبد الله بن سبأ اليهودي في كتابه "الفتنة الكبرى" ويشكك في حقيقة هذا اليهودي الذي تزعّم أكبر فتنة في صدر الإسلام، وحاول محاولة ساذجة في إنكار شخصية ابن سبأ وآثارها(1/252)
البعيدة المدى.
- ويكتب طه حسين صفحة كاملة في جريدة "الوادي" يلخص فيها كتاب "الأجناس" للكاتب الألماني الإسرائيلي فرديناند بروكينز والتي نقلها من مجلة اللاستراسيون ونشرها في3 يونيو عام 1934 وهي في مجموعها دعاية صارخة لليهود ومحاولة لتثبيت معلومات زائفة عن قتلهم بيد هتلر وإثارة القلوب عليهم بالإشفاق.
- وبعد ذلك أشرف طه حسين على دار الكاتب المصري اليهودية التي عيّنته مستشارًا لها ورئيساً لتحرير مجلة الكاتب المصري.
"ولندع الدكتور لويس عوض تلميذ الدكتور وصفيّه في كثير مما يدعو إليه يتحدث عن هذه القصة فيقول: كان لهذه الدار قصة واضحة وغامضة معًا، كان يملك هذه الدار أربعة إخوة من يهود مصر الميسورين. كنا نعرف في هذه الفترة مليونيرات يهود، بعضهم من يهود مصر وبعضهم من اليهود المصريين المتصلين بالثقافة والمثقفين منهم من كان ضالعًا في تشكيل حركاتنا السياسية الجديدة كالشيوعية وما إليها، وكنا نعرف أو نسمع عن آل كوريل: هنري وراؤول ومليونير يهودي شاب اسمه ريمون أحيون. كنا نسمع عن هؤلاء وغيرهم أنهم يمولون الحركات الشيوعية بالمال وقيل بالجنس أيضًا، لم نسمع عن آل هراري كانوا أربعة إخوة تجارًا ووكلاء شركة ومنتجين للآلة الكاتبة، قرروا دخول عالم النشر وتعاقدوا مع طه حسين .. كنت أسمع أن حملة ضارية قد شُنت على الدار من بعض الصحف المصرية الصغرى يقودها إسماعيل مظهر اتهمت فيها دار الكاتب المصري بأنها رأس رمح لليهود في مصر .. والحق أن ظهور دار الكاتب المصري في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العالم العربي إذا نظرنا له بعد هذه الفترة البعيدة أمر يدعو إلى الاستثارة فعلاً" (الأهرام 20/ 2/1968).(1/253)
وإذا راجعنا ما أصدرته الدار وجدنا حربًا واضحة للإسلام ممثلة في كتاب جولدزيهر -اليهودي- ونجد عاصفة من المترجمات المثيرة التي تحمل الإلحاد والإباحية والفكر الغربي في صوره المنحلة والمضطربة الوجودية والشيوعية وغيرها" (1).
- ولعل هذا ما دعا مجلة الإثنين أن تستجوب طه حسين في عددها (8 أكتوبر عام 1945) تحت عنوان "يقولون عنك فماذا تقول؟ " "يقولون عنك أنك تعمل على مساعدة الصهيونية فماذا تقول؟ ".
- يقول الأستاذ أنور الجندي عن طه حسين:
" أيدت كتاباته مفاهيم الرأسمالية وعاون الماركسين واليساريين حتى عدّوه "أستاذهم" ولم يطلق كلمة واحدة في سبيل فلسطين، وكان ولاؤه للفكر الصهيوني واضحًا في جولاته في المدارس الإسرئيلية بمصر أو إلقاؤه محاضرات يشيد فيها بدور كاذب لليهود في الجزيرة العربية والأدب العربي واستقدم شابين يهوديين وأعطاهم مجالاً للتبرير في الجامعة أحدهما (إسرائيل ولفنسون) .. والأخر (بول كراوس) الذي كان يروج للفكر الباطني والشعوبي من أمثال الحلاج وابن عربي وابن سبعين وعدد من الزنادقة، وكانت رحلاته للقدس المحتلة، فقد سافر مع لطفي السيد لافتتاح الجامعة العبرية بالقدس (1944م) وسافر مع حسين فوزي (الذي أعلن ذلك صراحة) لزيارة الأقسام الاستشراقية وأهدوه كتاب " أنساب الأشراف " للبلاذري الذي اعتمد عليه في كتابه "الفتنة الكبرى" مبرئًا عبد الله بن سبأ اليهودي من أثره المعروف والمجمع عليه في مقتل عثمان، وولاه اليهود في مصر رئاسة تحرير مجلة الكاتب المصري ودارها عام 1947، وقد كشفت أطروحات علمية في الجامعات
__________
(1) "طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام" (ص 131).(1/254)
المصرية دور طه حسين في الصحافة الصهيونية في مصر وشهد نوفون رئيس إسرائيل في إبان زيارته لمصر في عهد السادات أنه صحب طه حسين في زيارة للمستعمرات اليهودية، فهذه زيارة لم يعلن عنها في وقتها" (1).
- ماذا نكتب عن عميد الأدب العربي وتشجيعه لطلابه على إقامة أحفال الرقص المختلط في البيوت (2).
* هل اعتنق طه حسين النصرانية في فرنسا؟
- قال الدكتور نجبب البهيتي تلميذ الدكتور طه حسين: "إنهم حاصروا طه حسين بحصارين: زوجته الفرنسية وسكرتيره القبطي، وأنه لم يكن يستطيع أن يفلت من مهمته، وأن نظرة واحدة إلى كتاب " معك " للسيدة سوزان يكشف بوضوح عن وجه طه حسين وقد وصفه الأستاذ أحمد حسين بقوله: أنه دخل عشرات الكنائس في كل مكان ذهبوا إليه ولم يدخل مسجدًا واحدًا" (3).
- "أما شبهة التنصر فقد ذكرها سكرتيره في حديث صاخب لمجلة الإذاعة وعلّق عليها الأستاذ أحمد حسين" (4).
ونختم بما قال الأستاذ أنور الجندي: "في السنوات الأخيرة من حياة
طه حسين كان لا يزال الرجل يردد شبهاته، وفي مجلس ضمّ اللواء محمود
شيت خطاب الذي روى لي القصة (عام 1972 تقريبًا) قال طه حسين: إن
القرآن كان غير منقط، ولذلك فقد حدث فيه اختلاف كثير فهناك كلمات
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 343 - 344).
(2) المصدر السابق (ص 344).
(3) "جيل العمالقة" (ص 343).
(4) "جيل العمالقة" (ص 332).(1/255)
تنطق كذا وكذا فتبيّنوا، فتثبتوا، إلخ
قال شيت خطاب: يا دكتور إن الله يقول: {إِنا نحن نزلنا الذكر وِإنا له لحافظون} هل لو كانت كلمات اختلف فيها أما كان الفقهاء والمفسرون سجلوا ذلك، إننا لا نجد في كتاب التفسير أو القراءات ما يدل على ما ذهبتم إليه، إن ما تقولون به هو ما قاله ماسينون وغيره من المستشرقين افتراء على القرآن والإسلام، ولا بد من مواجهة هذا والجهاد فيه.
وصمت طه حسين لحظة قال: لماذا لم تقولوا لي إن فلانًا هنا معنا، إني أعتب عليك يا دكتور مدكور" (1).
- ونختم بما قاله الدكتور محمد محمد حسين لله دره: "طه حسين الذي تشهد كتبه بأنه لم يكن إلا بوقا من أبواق الغرب وواحدًا من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير يرّوج لثقافاته ويعظمها ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديه".
* هل تاب طه حسين:
نظمت نقابة الصحفين المصرية حفلاً لتأبين المفكر الإسلامي أنور الجندي الذي وافته المنية مساء الأثنين 14/ 11/1422هـ الموافق 28 من يناير عام 2002 م.
وفي كلمته في هذا الحفل تكلم الدكتور عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ الإسلامي: "وأكد عويس بأن طه حسين تاب في آخر أيامه، ولكنه كان عاجزًا عن إعلان توبته، والتنكر لكل ما كتبه حيث منعه أناس من خارج بيته ومن داخله -يعني زوجته- واستدل د. عويس على توبة طه حسين بعدة أدلة منها ما ذكرته مجلة "العربي" الكويتية في تحقيق لها عن (حج طه حسين)،
__________
(1) "طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام" (ص 143).(1/256)
وذكرت أنه بكى وقبل الحجر الأسود لمدة ربع الساعة فمنع الناس من الطواف، وذكر من شهد هذا الموقف أن طه حسين كان يردد عبارات التوبة بأنه أخطأ في حق دينه، وكان طه حسين يقوم بتقبيل تراب مكة وهو في طريقه إلى الحج.
وأضاف عويس بأن العلمانيين يتعمدون إخفاء هذه الصفحة من حياة طه حسين.
وذكر د. عبد الحليم عويس واقعة أخرى تؤكد توبة طه حسين وهذه الواقعة يشهد عليها اثنان من تلامذة طه حسين على قيد الحياة الآن وهما: د. محمد عبد المنعم خفاجي (85 سنة) ود. علي علي صبح (عميد كلية اللغة العربية بالأزهر بالقاهرة) حيث ذكر أنهما ذهبا إلى طه حسين وهو محمول على الأيدي بعد جلسة مجمع اللغة العربية في أواخر حياته وقالا له: بحق الله أكتبت "في الشعر الجاهلي" عن علم أم كتبته للدنيا والشهرة؟! فأجاب طه حسين: بل كتبته للدنيا والشهرة!!
واستحلفهما أن يكتبا هذه الشهادة، ويوقعا عليها ليظهرا توبة طه حسين للعالمين .. فطه حسين أساء وأخطأ ولكنه تاب ورجع" (1).
* العقاد كتب الكثير عن الإِسلام ولكن الحق أحب إِلينا منه .. مدح البهاء والبهائية .. وكتب "عبقرية محمد" وهذا قصور منه وغياب عن النبوة النبوة لا العبقرية يا عقّاد:
كل من ترجم للعقاد يعرف ثناءه ومدحه للبهاء والبهائية وهذه من أكبر
__________
(1) مقال "رحلة قلم .. مع الحق والحقيقة" لكمال السعيد حبيب -مجلة المنار الجديد- العدد
18 محرم/ربيع 1423 هـ - أبريل 2002م (ص 131، 139).(1/257)
السقطات في فكر العقاد، ثم كتابته عن "عبقرية محمد" - صلى الله عليه وسلم - وذهوله عن الفوارق العميقة بين النبوة والعبقرية.
- قال الأستاذ أنو الجندي في كتابه "جيل العمالقة" (ص 384 - 389): "الفوارق العميقة بين النبوة والعبقرية:
إن التفرقة بين (النبوة) و (العبقرية) هي من أخطر ما تعرضت له كتابات العصريين للسيرة النبوية فليس من المعقول أن تطلق تسمية (العبقرية) على الرسول - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بالوحي ثم تطلق أيضًا على صحابته أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وقد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعبقرية في كتابات العقاد والبطولة في كتابات عبد الرحمن عزام، وبطل الحرية في كتابات عبد الرحمن الشرقاوي، وكل هذه مسميات تحجب عن القارئ المسلم الصفة البارزة والمهمة الأساسية وهي "النبوة" المؤيدة بالوحي.
إن دراسة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت أي اسم من شأنها أن تعجز عن استيفاء جوانب هذه الشخصية العظيمة، وليس ثمة غير منهج واحد هو أنه نبي مرسل من قبل الله تبارك وتعالى، فإن هذا الفهم وحده هو الذي يكشف عن الحقائق الناعمة ويكشف عن صفحات السمو والكمال الخلقي والعقلي والنفسي.
إن كلمة (العبقرية): هي مصطلح عرف في الفكر الغربي وتناولته الأقلام ودارت حوله المعارف والمساجلات، وفي عام 1935 انتقلت هذه المعارك إلى المجلات العربية فدارت عنه مناقشة طويلة بين محمد فريد وجدي والدكتور أمير بقطر.
والتقطها الأستاذ العقاد واختزنها في ذاكرته وجعلها عنوانًا لدراسة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي بدأها عام 1942.
ومن مجمل الدراسات التي دارت يتكشف أن هذه النظرية تجري حول(1/258)
التميز والذكاء والتفوق في مجال "الفن والموسيقى والتصوير ولم يرد في الأسماء التي تناولتها الأبحاث أي اسم من أسماء المصلحين أو أصحاب الرسالات.
ولقد قصر أمير بقطر العبقرية على الذكاء، وقال: إنها تجيء عن طريق الوراثة وأنها غير مكتسبة، وأوردت دوائر المعارف وصفا للعبقرية بأنها لغة الكامل في كل شيء يكون مبلغ رقم قياسي ذكاء العبقري فوق المعتاد، وبينما يقصر (أمير يقطر) العبقرية على مسألة اختبار الذكاء، فإن (فريد وجدي) يرى أنها (هبة إلهية ثمرتها فوق القدرة البشرية يمنحها الله لبعض الأفذاذ لتبرز على ألسنتهم أو على أيديهم في أمور لا يستطيع العقل البشري أن يستقل بإيجادها.
- ولعل هذا هو المعنى الذي جعل العقاد يختارها ليصف بها الرسول مع أن جميع علماء العرب لم يصفوا بها أحدًا من الأنبياء كالمسيح أو موسى عليهما السلام والحقيقة أن مقاييس الجاه والثروة والعظمة التي جاءت بها العلوم المادية الحديثة تختلف تمامًا عن التقديرات التي جاءت بها النبوة.
وأن أي قدر من الموهبة الإلهية التي وصف بها العبقرية تختلف اختلافًا واضحًا عن النبوة.
وبالرغم من الاختلاف في فهم العبقرية بين كتابات العشرات من الباحثين الغربيين فإن أحدًا لا في الغرب ولا في العرب أدخل النبوة والأنبياء في هذه الدائرة ولكن يبدو أن الأستاذ العقاد أراد أن يتفوق على صاحبيه (هيكل وطه) وقد سبقاه لعشر سنوات في كتابة السيرة باتخاذ هذا المصطلح.
- يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي: يجب أن يقرأ للعقاد باحتياط وهو يكتب عن الإسلام فالعقاد ابن العصر الحديث أخذ ثقافته مما قرأ لأدبائه وعلمائه وهو شيء كثير، وليس كل ما كتبه المستشرقون يقبله المسلم، ولا كل(1/259)
نظريات الغرب متفق وما قرره القرآن، ولكن العقاد اعتقد من هذه النظريات ما اعتقد فهو ينظر إلى القرآن من خلال ما اعتقد منها ويبدو أن من بين ما اعتقده العقاد نظرية (فريزر) في نشوء الأديان فهي عنده ليست سماوية، ولكنها أرضية نشأت بالتطور والترقي إلى الأحسن ومن هنا تفضيل العقاد للإسلام على غيره من الأديان فهو آخرها وإذن فهو خيرها، ويقول: إن لم يكن هذا هو تفسير إطلاق اسميه الغربيين على كتابه "عبقرية محمد والفلسفة القرابية" فهذه التسمية خطأ منه ينبغي أن يتنبه إليه قارئ الكتاب من المسلمين لينجو ما أمكن مما توحي به التسميات من أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عبقري من العباقرة لا نبي ولا رسول بالمعنى الديني المعروف في الأديان المنزلة ويؤكد هذا الإيحاء أن جاء الكتاب واحدًا من سلسلة كتب العبقريات الإسلامية ولن يكون أولها، فالناشئ الذي يقرأ بعد عبقرية محمد عبقرية أبي بكر وعبقرية عمر مثلاً لا يمكن أن يسلم من إيحاء خفي إلى نفسه أن محمدًا وأبا بكر وعمر من قبيل واحد، عبقري من عباقرة وإن يكن أكبرهم جميعًا، كالذي سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بطل الأبطال فأوهم أنه واحد من صنف ممتاز من الناس متجدد على العصور وليس من صنف اختتم به - صلى الله عليه وسلم - صنف الأنبياء والمرسلين من عند الله، فالنبي والرسول يأتيه الملك من عند الله بما شاء الله من وحي ومن كتاب، ولا كذلك العبقري ولا البطل، فالنبوة والرسالة فوق البطولة بكثير، كم من الصحابة -رضي الله عنه- من بطل ومن عبقري وكلهم يدين له - صلى الله عليه وسلم - بأنه رسول الله إلى الناس كافة في ذلك العصر وما بعده وأنه خاتم النبين.
- ويقول الأستاذ غازي التوبة: كتب العقاد العبقريات دفاعًا عن العظمة الإنسانية في وجه المتطاولين والحاقدين والمشوهين، هذه العظمة الإنسانية التي تحتاج إلى رد الاعتبار في عصره ودفاع العقاد عن العظمة الإنسانية هي حلقة(1/260)
من دفاعه عن الفرد وإيمانه به ولكن ما هي الأخطار التي هددت الفرد والعظمة وجعلته يستل قلمه سنة 1942 ليكتب أول عبقرية من عبقرياته، في الحقيقة أن الأخطار المباشرة التى هددت الوجه الآخر من إيمان العقاد بالفرد هو النظام الديمقراطي، هددته ثلاثة أخطار هي الفاشية والشيوعية والمد الإسلامي، تصدى للفاشية في "هتلر في الميزان" وتصدى للشيوعية في كتابه "الشيوعية والإنسانية" وأفيون الشعوب، أما تيار المد الإسلامي فحاربه بسلاح الشخصيات فكتب العبقريات ليؤكد صحة أفكاره في أولية الفرد في التاريخ وأحقيته كمحرك له وليطعن ويشوه الإيمان بالجانب الجماعي في الإسلام ويشكك في دور العقائد والتربية في توجيه الأشخاص، فالعظيم عظيم بفطرته والعبقري عبقري منذ نشأته، كذلك فقد ركز العقاد على العوامل الوراثية والتكوين الجسماني والعصبي ووضع هذه الأسباب في المرتبة الأولى في توجيه الشخصية بحيث تأتي العقيدة الإسلامية والتربية في المرتبة الثانية إن كان هناك دور للعقيدة أو التربية، والعقاد في موقفه هذا متأثر ببعض المدارس الأوربية التي تقدس الفرد والفردية وتفسر مختلف حوادث التاريخ على هذين الأساسين، وقد أورد العقاد ذكرًا لإحدى هذه المدارس التي تحدد صفات العبقري انطلاقًا من تكوينه الجسدي وهي مدرسة (لومبروزو).
وهكذا قولب العقاد الشخصيات الإسلامية ضمن نظرياته الجاهزة في الفرد والطوابع الفردية.
- وهو في هذا قد حجب الجانب الرباني المعجز، وحجب الغيبيات.
فهو في موقفه من انتصار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزواته لا يعرض مطلقًا لوعد الله تبارك وتعالى لرسوله ورعايته والملائكة المقاتلون والنعاس الذي تغشى المسلمين أمنة، والمطر الذي طهرهم والرياح التي اقتلعت خيام المشركين وتثبيته لافئدة المقاتلين وقذفه الرعب في قلوب الكافرين، فليست العوامل(1/261)
المادية وحدها هي قوام مكانة الرسل العسكرية، ولكن العوامل الربانية يجب
أن تضاف إلى ملكات الرسول في التخطيط.
- كذلك فهو لم يكشف عن دور الإسلام في بناء شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالإسلام هو الذي أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الإيمان بالله تبارك وتعالى والإيمان بأحقية الموت في سبيل الله وذلك القدر من الثبات والتضحية والإقدام والعزم والصبر.
هذا الجانب الذي تجاهله العقاد واكتفى بالمقارنة بين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين نابليون من النواحي المادية والعسكرية، كذلك لم يتبين الفارق بين حروب محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين حروب نابليون وأنها كانت خالصة فى سبيل الله ونشر الإسلام وليست في سبيل المطامع والسيطرة.
- ذلك أنه ناقش عبقرية الرسول العسكرية في ضوء العبقريات البشرية، ولم يتنبه للفوارق العميقة، التي يتميز بها شخصية الرسول بوصفه نبي مرسل أو تلك التي هداه إليها الإسلام، وأن تمييزه هذا يختلف عن البطولات والعبقريات البشرية الأخرى، ومن هنا يبدو النقص في وزن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعبقريات البشرية الأخرى.
كذلك هذا التمييز الذي عرفت به شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - "نبيًا" ومرسلاً وهاديًا، تختلف في المقارنة بينه وبين الأبطال العالميين الأخرين من ناحية كما أن شخصيته عليه السلام تختلف عن شخصية كل من أبي بكر وعمر وغيرهم.
لقد تحدث العقاد عن الجانب المادي في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحجب تمامًا الجانب الروحي المتصل بالوحي وأظهره كمجرد إنسان يعمل بمواهب ممتازة وملكات خاصة، وهكذا فان (العبقرية) التي حاول العقاد أن يقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلالها، كان حجمها ضيقًا ومجالها ناقصًا،(1/262)
وأخطر ما أخذ عليه هو أنه لم يظهر أثر الإسلام في بناء شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو العامل الأكبر في حياته وتصرفاته على النحو الذي وصفته السيدة عائشة -رضي الله عنه- بقولها: "كان خلقه القرآن" هذه الربانية الخالصة التي تعلو على طوابع البشر، وقد وصفها القرآن في قوله تعالى: {قل إِن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالين لا شريك له}.
- كذلك فقد تحدث عن افتتان المسلمين بشخص الرسول وانبهارهم بمواهبه واعتبر إعجابهم به سببًا وحيدًا لدخولهم في الإسلام وعزا اجتماع الصداقات المتنوعة حوله نتيجة لمزاياه النفسية وبذلك أنكر أثر عظمة الإسلام نفسه في إيمان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس من شك في أن إعجاب المسلمين بالرسول له أهميته في مرحلة الدخول في الإسلام، ولكن تقدير المسلمين للإسلام هو العامل الذي ثبتهم بعد ذلك على الإيمان بالإسلام وحفزهم للدفاع عنه.
- إن الأستاذ العقاد وقد حارب مذهب التفسير المادي للتاريخ الذي قدمه ماركس والشيوعية حربًا لا هوادة لها خضع مع الأسف للمذهب المادي الذي لا يعترف بالآثار المعنوية المترتبة على الإيمان والعقيدة في بناء الشخصية كما تجاهل جانب الغيبيات ولم يفهم النبوة فهمًا صحيحًا، ولذلك فإن الجانب الروحي القادر على العطاء في بناء الشخصيات والذي صنع شخصية رسول الإسلام تراه باهتًا غائمًا عنده، وذلك لأنه اعتمد في دراسة الشخصيات والبطولات على مذاهب غربية تتجاهل النبوة والوحي والغيبيات والمعجزات ولا تجعل لهذه العوامل الروحية والمعنوية أي وزن وأي اعتبار، وإنما قامت اعتباراتها على جوانب الحس وتركيب الإنسان المادي والوراثيات وغيرها" اهـ (1).
__________
(1) وضع العقاد تحت عنوان هذا الفصل فيه تساهل كبير يتلافى في الطبعات القادمة .. فقد تم الترتيب تحت ظروف صعبة.(1/263)
* الشيخ عبد المتعال الصعيدي يحاول هدم الحدود الإسلامية المستقرة في الكتاب والسنة، ونظرة إِلى كتابه "المجددون" تعلم منه ضآلة علم هذا الرجل وأنه يدس السم في العسل:
كان الشيخ عبد المتعال الصعيدي "يحاول هدم الحدود الإسلامية المستقرة في الكتاب والسنة زاعمًا أن الأمر بها للندب لا للوجوب، وأن الأمر لا يقتضي التكرار الدائم إلى آخر هذا اللغو المتهافت" (1).
والرجل قد سوّدت يداه كتابه "المجددون" واعجب عجب العجاب يا أخي حين تراه يعد منهم الكندي والفارابي وابن سينا!!! ولا تعليق.
* خالد محمد خالد كتب الكثير الرائق كرجال حول الرسول وكبا جواده في "الديمقراطية أبدا " وسار على نهج علي عبد الرازق ولكن بأسلوب أذكى وأحدث في كتابه "من هنا نبدأ" تم تاب غفر الله له:
كتب الأستاذ خالد محمد خالد الكثير الطيب وخاصة كتابه القيم "رجال حول الرسول"، ولكنه سقط سقطتين كبيرتين لا بد من التنبيه عليهما فولاؤنا لله ورسوله.
- أما السقطة الأولى فكتابه "الديمقراطية أبدًا"، ومن ضمن ما قال فية:
1 - حق المرأة في وقف تعدد الزوجات، وعلى ذمته ينسب إلى محمد عبده أنه قال: "يجب تحريم التعدد الآن عملاً بحديث لا ضرر ولا ضرار" (2).
2 - تأميم الطلاق على حد تعبيره (3).
__________
(1) "من هنا نعلم" للشيخ محمد الغزالي (ص13).
(2) "الديمقراطة أبدًا" خالد محمد خالد (ص 137 - 138).
(3) المصدر السابق (ص 164).(1/264)
- أما الكتاب الثاني فهو الخطير المسمى "من هنا نبدأ" وهو دعوة صريحة إلى العلمانية.
- يقول الأستاذ جمال سلطان في كتابه "جذور الأنحراف في الفكر الإسلامي الحديث":
"في كتابه الشهير "من هنا نبدأ" (1) كتب خالد محمد يقول: "إن تصفية العلاقات بين المجتمع والدين، هي بداية الطريق المفضي إلى النماء والاستقرار" (ص 44).
فبداية طريق النهضة، كما يراه هذا الرمز العلماني يوم كتب كتابه ذاك، هو تصفية العلاقات بين المجتمع والدين، وهو لا يلبث أن يطرح عدة تساؤلات توضح أهمية هذه "التصفية" لنجاح المسيرة، فيقول: "وإننا لنقف في خضم هذا العالم الذي تتقاذف أممه، وتتدافع إلى الأمام سائلين أنفسنا أنمضي قدمًا أم ننتكس إلى الوراء؟ أننحرف عن قومية الحكم إلى عنصريته وطائفيته، أم نضاعف هذه القومية وننميّها؟ أنمزج الدين بالدولة، فنفقد الدولة ونفقد الدين؟ أم يعمل كل منهما في ميدانه؟ فنربحهما جميعًا، ونربح أنفسنا ومستقبلنا"؟ (ص151) وهذه التساؤلات تجعلنا نقترب من صميم قصد المؤلف، ونلخصه في السؤال: أنقترب من "الأنموذج" الأوربي أم نبتعد عنه فننتكس إلى الوراء؟ وهذا السؤال يجعله أقرب وضوحًا في ذهن القارئ ما عطف به المؤلف ليضرب لنا المثل والعبرة والدرس، فيقول: "ولعلنا لم ننس بعد ما حدث للمسيحية، فحين حوّلتها الكنيسة إلى دولة وسلطان، واقترفت باسمها أشد أصناف البغي والقسوة، جاء يوم ثار فيه الناس جميعًا على المسيحية، وعلى الكنيسة، واتخذوهما هزوًا ولعبًا وخلعوا كل ما في أعناقهم
__________
(1) المقولات المثبتة بالمتن عن كتاب "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد -من الطبعة التاسعة- ط. مكتبهة الخانجي - القاهرة 1958.(1/265)
للدين من عهد وطاعة، حتى إذا عادت الكنيسة بالمسيحية إلى مكانها الطبيعي، تبشر وتهدي فقط، رجع الآبقون إليها، ولاذوا من جديد بها، وبدأت تستعيد سلطانها الأدبي واستقرارها التاريخي (ص 151).
وإذًا فالسبيل واضحة، إما أن نفصل الكنيسة المسلمة (!!! ) عن الدولة وإما أن يثور الناس على الإسلام و"كنيسته" معًا، ولعل القارئ البسيط يسأل: وما هي "كنيسة الإسلام"؟! وهل في الإسلام كنيسة؟! وهو سؤال بديهي الآن، ولكن -في حقبة التنوير- كان عكس ذلك هو البديهي إن خالد محمد خالد لم يكلّف نفسه الوقوف ليسأل، وما وجه الشبه بين التجربة المسيحية وصراعها الأوربي، والتجربة الإسلامية؟ وما هي بالتحديد "الكنيسة" أو نظيرها الذي يتوجّب عزله عن الدولة؟ إن المسألة كانت محسومة في أذهان ذلك الجيل، وهي أن التجربة الأوربية "أنموذج" وعلى الجميع احتذاؤه، وهي "مثال" وعلى من يطلب النور والحضارة أن يتمثل به ويشابهه، ويسير على دربه، ويتبع خطاه.
وكتاب "من هنا نبدأ" موزع على فصول أربعة، جاءت الفصول الثلاثة الأولى منها مصدَّرة بعبارات لنفر من مفكري أوربا المحدثين هم على التوالي "فولتير" و"توماس بين"، و"فولتير" مرة ثانية؟!! وهي لمحة نلفت بها ذهن القارئ لتفهم طبيعة التكوين النفسي لرموز "التنوير" ومبلغ إدراكهم لمنابع النور! كتب خالد محمد خالد يدعو للنهوض برسالة المسجد في الإسلام بحيث تؤدي دورها "النموذجي"، فإذا به ينحرف فجأة لأخذ النموذج من "الكنيسة"، يقول: "ولقد أن الأوان لرسم سياسة للمسجد، وتنظيم رسالته أو تهذيب وسائله، فالكنائس في الغرب تعمل مع المجتمع لا ضده، وتمجد الرقي لا تلعنه وتدعو إلى الحياة لا الموت، وتتطور مع العلم والزمن" (ص72).(1/266)
- وإذن فالنموذج واضح لا لبس فيه، وهو أن يتشبه المسجد بالكنيسة في الغرب، ومن هنا يبدأ التنوير، أو ما يسميه خالد محمد خالد "النهضة الكنسية" (ص73).
- والمسألة لا تقف عند الكنيسة كمؤسسة، وإنما "الأنموذج " ينبغي أن يكون أكثر صراحة، فالشيخ المسلم والعالم المسلم ينبغي أن يكون كقسيس الكنيسة في أوربا، فهو ينادي بتأسيس كليات "اللاهوت" الإسلامي بحيث -حسب نصه- يتخرّج فيها وعاظ من طراز جديد، كوعّاظ الكنيسة في أوروبا" (ص83).
- والهوس بالأنموذج الأوربي "المتنور" كان يصل أحيانًا - بل كثيرًا إلى نوع من الفجاجة الفكرية التي لا تُقبل من الصبي الحدث، فما بالك برمز تنويرفي كبير، يتأسف "أدونيس" على تراجعه عن مخططه التنويري، فيقول خالد في كتابه: "لقد انعقد إجماع العلم المتحضر كله، على أن النظام الذي تبلغ به المنفعة الاجتماعية حدها الأقصى في الوقت الحاضر، هو الاشتراكية" (ص123) ثم يقول: "إن كل توجيهات الرسول لتنزع إلى الاشتراكية في كل نظام يبتكره الناس، ويحقق منافعهم ومصالحهم" (ص124).
وأصبحت الرسالة المقدسة كما نص عليها كتاب "من هنا نبدأ" هي "الخبز"، أن تمتلئ البطون وترتوي الشهوات! فتحت عنوان "الخبز هو السلام" كتب يحدد وظيفة الحكم اللازمة لبلادنا، فقال: "إننا نعيش في عصر، ليس للحكومات فيه رسالة سوى تحقيق المنفعة الاجتماعية للشعوب، وإزاحة كل العوائق التي تعترضها وتصدها عن غايتها المقدسة!! (ص98).
- نقطة البداية هذه، التي نسجل بها كيف بدأ الخلل، وكيف انحرفت حركة النهضة العربية عن جادة السبيل، لا ينفرد بها كتاب ولا اثنان ولا حتى عشرة؛ لأنها كانت "روح" هذه النخبة المثقفة المتغرّبة، والمثل الذي نأخذه من(1/267)
كتاب "من هنا نبدأ" هو بمثابة شهادة وثيقة، ورغم أن صاحبها قد تخلى عن كثير مما ورد فيها الآن، إلا أن هذا لا يناقض منهجنا؛ لأننا لا نعني الأشخاص، وإنما نرصد حالة فكرية من خلال نسقها الحضاري في لحظة زمانية معينة.
* الشيخ الغزالي يتصدى لخالد محمد خالد ويرد على كتابه "من هنا نبدأ" بكتابه "من هنا نعلم" فأحسن:
رد الشيخ محمد الغزالي على خالد محمد خالد في كتابه "من هنا نعلم" فأحسن وأجاد.
ومن عجيب التصاريف أن الرجل الذي تصدى لانحرافات (خالد محمد خالد) منذ أربعين سنة، يقع هو ذاته في الخطأ المنهجي الذي تولدت عنه كل خطايا كتاب خالد محمد خالد "من هنا نبدأ"، وهكذا برزت في كتابات الشيخ (محمد الغزالي) الأخيرة إشارته إلى القيم الأوروبية والذوق الأوربي والفكر الأوربي على سبيل التبجيل وإعلاء الشأن، ولا أغالي إذا قلت بأن أحاديثه في هذا الشأن وصلت إلى حد جعل "الأنموذج" الغربي مثلاً يُحتذى في كثير من قيم وآداب وأفكار المجتمع الإسلامي المعاصر، ووصلت إلى الحد الذي يجعله يقيم بعض آدابنا الإسلامية وأخلاقنا وأفكارنا وثقافتنا على أساس وزنها بالتقدير الأوربي والنظرة الأوربية.
فإذا تحدث عن موقف الإسلام من الفن بصورة المختلفة مثل الموسيقى والتصوير ونحوها برز في حديثه الأنموذج الغربي، وكيف أننا نسيء إلى صورة الإسلام إذا حرمنا كذا أو كذا، وإذا تحدث عن هيئة الحجاب الشرعي، وضع في مقاييسه ومعاييره اشمئزاز الإنسان الأوربي من صورة النقاب، ونفوره من هيئة المرأة المنقبة، وإذا تحدث عن آداب بعض شباب الإسلام من تقصير الثياب أو لبس العمامة، استنكر هذه الهيئة لعدم ملاءمتها لمعايير التحضر عند الإنسان الأوربي، وإذا درس قضية فقهية مثل سفر المرأة، أو(1/268)
خروجها إلى المسجد، أو توليتها القضاء أو الإمامة الصغرى أو العظمى، وجدت حديثه ينصرف إلى ضرب المثل من المرأة الأوربية وربما المرأة اليهودية مثل (جولدا مائير)!، كما يضرب المثل بالراهبات والمبشرات ونشاطهن وحركتهن وسلوكهن الاجتماعي، تمامًا كما ضرب خالد محمد خالد المثل للعالم المسلم بالقسيس، وضرب المثل للمسجد ودوره بالكنيسة ودورها، فالمنهج واضح، وإن اختلفت التطبيقات، أو ضاقت مساحات الجرأة والتهور.
وأصبح معروفًا من الموازنات الجديدة لدى الشيخ (الغزالي) في فتاواه وأحكامه، تقسيم الفتوى على أساس جديد، ليس هو الشرعي وغير الشرعي، أو الحق والباطل، وإنما على أساس هذا حضري وهذا بدوي، فالمقياس أصبح هو التحضر والبداوة، وشاع في أحاديث الشيخ إنكاره على بعض الفتاوى الشرعية على أساس أنها "فقه بدوي"، كما شاع عنه هجومه على من يعتصمون بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية دونما اعتبار لأي مشروعية أخرى، ويطلق الشيخ عليهم وصف "النصوصيون"، وأحيانا "الحَرْفيون"، وهذه التقسيمات والاصطلاحات كلها ليست بنات فكر الشيخ، وإنما هي وليدة أفكار نفر من المنحرفين بالفكر الإسلامي تحت دعوي "الفكر الديني المستنير" ونحن في غنى عن تضخيم البحث باستقصاء المقولات الممثلة لهذه الأفكار من كتابات الشيخ، فهي مشهورة وواسعة التداول.
ولا نطيل الوقوف عند هذا الخلل المنهجي عند الشيخ، وحسبنا الإشارة إليه والتنبيه إلى خطورته، وقد عرضنا لنقده بشيء من التفصيل في كتابات سابقة" (1، 2)
__________
(1) راجع "أزمة الحوار الديني" لجمال سلطان - طبع دار الصفا.
(2) "جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث " لجمال سلطان (ص 107 - 114) - دار الاعتصام.(1/269)
* الدكتور زكي مبارك يشارك طه حسين التشكيك في القرآن:
من الإنصاف أن يقال: إن زكي مبارك كانت له جهود أدبية وفكرية في المنافحة عن تراث أمته وأرومة حضارته، خاصة موقفه المشرف من هجوم الدكتور طه حسين على العقل العربي الإسلامي عندنا انحاز طه بحماس بالغ للحضارة الغربية وريثة العقل اليوناني - بما في ذلك شذوذه الهابط.
إلا أن الدكتور زكي مبارك انخرط هو الآخر فيما انخرط فيه خصمه طه حسين من تملق وتزلف شنيع لبعض أساتذته من المستشرقين الفرنسيين الذين درس وأخذ عنهم في جامعة السوربون بباريس أثناء تحضير أطروحته للدكتوراه الموسومة بـ "النثر الفني في القرن الرابع الهجري " حيث ذهب الدكتور مبارك يجاري آراء أساتذته، خاصة منهم "المسيو مرسيه" و"ديموبين" وقد وصل الأمر إلى القرآن.
لقد لمز زكي مبارك القرآن وجارى المستشرقين .. فلم يلبث أن أعلن في أطروحته أن القرآن كتاب أرضي لا سماوي (كذا والله) .. فالقرآن عنده أثر نثري جاهلي!!! وأنا هنا لا أتحامل ضده أو أقوّله ما لم يقل، بل أكتفي بنقل أسطر قليلة موثقة من كتابه "النثر الفني" قال: "فليعلم القارئ أن لدينا شاهدًا من شواهد النثر الجاهلي يصح الاعتماد عليه وهو القرآن، ولا ينبغي الاندهاش من عدّ القرآن أثرًا جاهليًّا فإنه من صور العصر الجاهلي؛ إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره، وهو بالرغم مما أجمع عليه المسلمون من تفرّده بصفات أدبية لم تكن معروفة في ظنهم عند العرب، يعطينا صورة للنثر الجاهلي" (1).
__________
(1) "النثر الفني في القرن الرابع الهجري" للدكتور زكي مبارك (1/ 43) - دار الجيل - بيروت.(1/270)
- ويقول في صفاقة غريبة: "القرآن شاهد من شواهد النثر الفني، ولو كره المكابرون فأين نضعه من عهود النثر في اللغة العربية؟ أنضعه في العهد الإسلامي؟ وكيف والإسلام لم يكن موجودًا قبل القرآن حتى يغيّر أوضاع التعابير والأساليب؟ فلا مفرّ إذن من الاعتراف بأن القرآن يعطي صورة صحيحة من النثر الفني لعهد الجاهلية" (1).
الحق أن ما افتراه الدكتور مبارك، وما قاله عن القرآن ليس هيّنًا، وهو يتناقض تمامًا مع اتجاه عدّه رمزًا من رموز الدفاع عن الثقافة العربية .. وهوية أمتنا الحضارية .. لذلَك لم يكن حراس عرين تلك الهوية من الغافلين عن مفترياته، ولا سيما إذا تعلّق بالكتاب العزيز والوحي الخالد ..
- قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: "أراد الدكتور زكي مبارك أن ينال إجازته العلمية من باريس فكيف يصنع الدكتور الذكي؟؟ رأى أن يسوق ألف دليل على أنه وعى جيدًا دروس أساتذته، وأنه اقتنع بالفكرة التي يصرّحون بها حينًا، ويلمحون بها حينًا آخر، فكرة أن القرآن من وضع محمد، وأنه ليس وحيًا مصونًا كالإنجيل أو التوراة "كذا" فاسمع العبارات التي بثها بثًا دنيئًا وسط مائتي صفحة من كتابه "النثر الفني" وتملّق بها مشاعر السادة المستشرقين الذين يوجهون العلم والأدب لخدمة المستعمرين ونصرة الصليبيِن" (2).
وبعد أن أورد الشيخ فقرات من كتاب "النثر الفني" تتعلق جميعها بمفتريات الدكتور مبارك على القرآن الكريم علّق على ذلك بقوله: "ماذا يطلب أعداء الإسلام أكثر من هذا؟ وأين تبلغ أهداف الصليبية الغازية بعد
__________
(1) المرجع السابق (ص 44).
(2) "الاستعمار أحقاد وأطماع" للشيخ محمد الغزالي (ص 228) - دار الكتب الإسلامية - الطبعة الثالثة - القاهرة.(1/271)
هذا؟ هذه العبارة (1) مليئة بالمطاعن والأكاذيب هي أثر الغزو التنصيري الذي شنّه الاستعمار علينا .. والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي نلقى فيه صورة الوحي الإلهي كاملة غير منقوصة .. وهو أنقى ينبوع لهدايات الله، كما تنزل على رسله الأكرمين، وكما بلغها إمام الأنبياء محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المعجزة التى حاول المغرورون أن يتعرضوا لها، فارتدوا على أعقابهم يتبعهم الخزي، وتتناول أقفيتهم الصفعات .. ".
ثم استتلى في تعليقه قائلاً: "ومحاولة المستشرقين وأذنابهم أن ينالوا منه ليست محل اكتراثنا، وليس هنا مجال تفنيدها، وكشف دخلها ودغلها، وكل ما يعنينا هنا إبراز الصلات الفكرية بين نوع من الأدب قدمه لنا بعض الناس، وبين غايات الهجوم الصليبي الذي لقح هذا النوع ونماه واحتضن أصحابه، ومهد لهم في المحافل! ولا ندري هل رجع الدكتور زكي إلى الله بعد هذا الكفران المبين أم مات على زيغه؟ لقد كتب بعد هذا كتابات حسنة في التصوف! وان كان الرجل ظل يدمن الخمر حتى صرعه السكر، فقضى على حياته وهو نشوان" (2).
فكيف يجرؤ الدكتور مبارك فيذهب هذا المذهب الشنيع فيعدّ القرآن آثرا عربيًا صرفًا، أي أنه كتاب نبت من الأرض ولم ينزل من السماء!!
والقارئ المسلم لا يغض طرفه ولا ينسى إذا تعلق الأمر بلمز كتاب ربه والحط من منزلة الوحي الكريم (3).
__________
(1) "يقصد ما أورده من كلام زكي مبارك.
(2) "الاستعمار أحقاد وأطماع" للغزالي (ص 231).
(3) مقالة بعنوان "زكي مبارك شارك طه حسين التشكيك في القرآن الكريم" بالمجلة العربية - العدد 315 السنة 28 - ربيع الآخر 1424 هـ/يونيو 2003 م (ص 34 - 35).(1/272)
كتاب "النثر الفني في القرن الرابع الهجري " ورد الدكتور محمد أحمد الغمراوي على زكي مبارك:
المؤلف تعرض في كتابه للدين بما لا يقره عقل ولا خلق:
في كتاب " النثر الفني في القرن الرابع الهجري " للدكتور زكي مبارك أخطاء خطيرة في دراسته للقرآن الكريم تناولها الدكتور محمد أحمد الغمراوي بالبحث في فصول مطولة متعددة نشرتها الرسالة المصرية في مجلد عام 1944 م ونحاول عرضها هنا بإيجاز.
- تضمن البحث شبهات ثلاث تخالف ما يعرف من الدين بالضرورة:
أولاً: دعوته إلى نقد القرآن.
ثانيا: إنكاره إعجاز القرآن.
ثالثا: أنه يكاد يصرح بأن القران من كلام البشر.
رابعًا: أن الأديان كلها نبت البيئة ومن وضع الأنبياء.
- قال الدكتور محمد أحمد الغمراوي: إن زكي مبارك يحاول إبطال حكمة الله في جعل كتابه الذي أنزله على آخر أنبيائه ورسله معجزة أدبية، وهي محاربة لله من غير شك، ويحاول زكي مبارك إبطال تلك الحكمة عن طريقين:
أولاً: طريق نظري في الدعوة إلى إنكار (إعجاز القرآن) ليبطل عند صغار العقول أمثاله: إن القرآن من عند الله.
ثانيًا: طريق عملي هو العمل على جعل الأدب إِباحيًّا شهوانيًّا بعد أن جعله الله في القرآن وبالقرآن إصلاحيًا ربانيًّا، وزكي مبارك في هذا تابع مقلد فقبله كان أبو نواس، وأمثال أبي نواس من الذين صرفوا الأدب عن الوجهة(1/273)
التي شرعها الله للناس فى الأدب بالقرآن فجعلوا الأدب للغواية بعد أن كان للهداية وجعلوه للشيطان بعد أن كان لله، ومثله كان ابن الراوندي وغيره من أهل الأهواء.
يتعرض الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني للدين بما لا يمكن أن يقره عليه عاقل ولا دين وبما يخالف الكتاب والسنة والإجماع عند المسلمين يتعرض لا لجزئية من الجزئيات يجوز فيها الخلاف بل للأصول التي يقوم الدين بقيامها وينهدم بأنهدامها كأصل "إعجاز القرآن" وأن القرآن كتاب الله لا كتاب محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - فنجده في أول فصل من فصول الكتاب يعيب على علماء العربية أنهم حين تعرضوا لنقد القرآن لم يذكروا إلا المحاسن.
وفي هذا خرج على علماء العربية وعلى الإجماع، إذ أن النقد عنده أن يقف الباحث أمام الأثر الأدبي موقف الممتحن للمحاسن والعيوب، وهذا صحيح ولكن في نقد كلام الناس لا كلام الله، ولو كان القرآن كلام بشر لكان أثرًا أدبيًّا لصاحبه، أما وهو كلام الله خالق البشر أنزله سبحانه معجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتحدى به كل شاك فيه من العرب وغير العرب، بل تحدى به الجن والإنس على اختلاف العصور، فكيف يمكن أن يقف الناقد أمامه إلا كما يقف العالم أمام آية من آيات الله في الأرض أو في السماء؟
إن العهد الذي كان ينظر فيه في القرآن نظرة تطلب العيوب قد مر بالفعل، مر إلى غير رجعة، والذين نظروا في القرآن تلك النظرة التي يدعو إليها الدكتور زكي مبارك كانوا أقدر منه ألف مرة على إدراك أي عيب لو وجدوه، وأبصر بنقد الكلام لأنهم كانوا أهل العربية الفصحى.
افترض الدكتور زكي مبارك أن القرآن أثر جاهلي وزعم أن للعرب في الجاهلية نهضة علمية وأدبية وسياسية وأخلاقية واجتماعية كان الإسلام تاجًا لها، أي أن الإسلام نتيجة وتمامًا لتلك النهضة لا سببًا لها.(1/274)
- يقول في تعليل ذلك: لأنه لا يمكن لرجل فرد مثل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن ينقل أمة كاملة من العدم إلى الوجود ومن الظلمات إلى النور ومن العبودية إلى السيادة القاهرة، كل هذا لا يمكن أن يقع دون أن تكون تلك الأمة قد استعدت في أعماقها وفي ضمائرها وفي عقولها بحيث استطاع رجل واحد أن يكوِّن منها (أمة متحدة)، وكانت قبائل متفرقة، وأن ينظم علومها وآدابها بحيث تستطيع أن تفرض سيادتها وتجاربها وعلومها على أجزاء مهمة من آسيا وإفريقيا وأوربا في زمن وجيز، ولو كان يكفي أن يكون الإنسان (نبيًا) ليفعل ما فعله النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لما رأينا أنبياء أخفقوا ولم يصلوا لأن أممهم لم تكن صالحة للبعث والنهوض.
فزكي مبارك يحاول أن يرد نهضة العرب بعد الإسلام لا إلى رسالة الإسلام ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل الله عليه من قرآن وحكمة، ولكن إلى علوم وآداب وتجارب كانت عند العرب، وأن كل ما فعله النبي هو أن نظمها حتى استطاع أهلها أن يسودوا في القارات الثلاث في زمن وجيز.
وتاريخ نشأة العلوم والآداب في الأمة العربية بعد الإسلام معروف، كما أن مقاومة العرب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته ومحاربتهم له ولها معروفة، ولكن الرجل ينكر التاريخ ويفتري تاريخًا آخر ويزعم زعمًا لا يجوز ولا يستقيم في منطق أو تفكير إلا إذا كان القرآن كلام النبي، كلام محمد العربي - صلى الله عليه وسلم - لا كلام الله سبحانه، عندئذ فقط يعقل أن يكون العرب على ما وصف زكي مبارك من نهضة وعلم وأدب؛ لأن القرآن أكثر من نهضة وعلم وأدب، ولا يعقل إن كان كلام بشر أن يأتي به صاحبه في أمة جاهلة كالتي أجمع على وجودها قبل الإسلام مؤرخو اللغة العربية من شرقيين ومستشرقين ومؤرخي الإسلام.
ويلتحق بزعمه الذي زعم لعرب الجاهلية من نهضة علمية، سياسية،(1/275)
اجتماعية، زعمه أن نشأة علوم الربية كالنحو والبلاغة والعروض قديمة، أي أنها نشأت قبل الإسلام لا بعده وهو يبني هذا الزعم أيضًا على ما افترض من أن القران أثر جاهلي.
* زكي مبارك حاول أن يصف القرآن الكريم بكل ما لا يصدق وأنه من كلام العرب!!
افتراض أن القرآن من كلام عربي من العرب:
حاول زكي مبارك أن يصف القرآن بكل ما لا يصدق إلا على نتاج البيئة، يقول: فمن الواجب أن يترك الباحثون ذلك الميدان الذي أولعوا بالجري فيه وهو عصر الدولة العباسية وأن يجعلوا ميدان النضال (عصر النبوة) نفسه وأن يحدثونا ما هي الصلات الأدبية والاجتماعية التي وصلت إلى العرب من الخارج فأعطت نثرهم تلك القوة وذلك الزخوف اللذين تراهما مجسمين في القرآن؟ هنالك نعرف بالبحث: أكان القرآن صورة عبقرية أم تقليدية.
فهذا شك لا يقبل شكًا ولا يحتمل تأويلاً في أن صاحب الكتاب يرى القرآن من كلام العرب، تأثر بما تأثروا به أو يصح أن يكونوا تأثروا به من صلات أدبية واجتماعية أتتهم من الخارج، وأن ما امتلأ به في زعمه من "الزخرف والصنعة المحكمة" ليس طبيعيًا ولكنه مكتسب مجلوب من الخارج".
وقوله: "هنالك نعرف بالبحث أكان القرآن صورة عبقرية أم تقليدية، والتقليد هنا ليس هو تقليد عربي لعربي ولكن تقليد عربي لأعجمي؛ لأن الصلات الخارجية التي يسأل عنها هي صلات بين العرب ومن حولهم من الأعاجم فتشكيكه في العبقرية وتجويزه التقليد على القرآن قاطع في أنه لا يرى القرآن من كلام واهب العبقرية وفاطر الإنسان، ولكن من كلام بشر(1/276)
مشكوك حتى في عبقريته.
- ويقول زكي مبارك "والقرآن نثر جاهلي والسجع فيه يجرى على طريقة جاهلية، حين يخاطب القلب والوجدان، ولا ينكر متعنت أن القرآن وضع للصلوات والدعوات ومواقف البكاء والخوف والرجاء سورًا مسجوعة تماثل ما كان يرتله المتدينون من النصارى واليهود والوثنيين، ولا تنس أن الوثنية كانت دينًا يؤمن به أهله في طاعة وخشوع، وكانت لهم طقوس في هياكلهم وكانت تلك الطقوس تؤدى على نحو قريب مما يفعل أهل الكتاب من النصارى واليهود".
- وهذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق في أنه يضع القرآن في صف كتب الوثنيين وأهل الكتاب ويجري المقارنة بينها وبينه ويقول: والقرآن وضع لأهله صلوات وترنيمات تقرب في صيغها الفنية مما كان لأهل الكتاب من صلوات وترنيمات والفرق بين الملتين يرجع إلى المعاني ويكاد ينعدم فيما يتعلق بالصور والأشكال، ذلك بأن الديانات الثلاث، الإسلام والنصرانية واليهودية ترجع إلى مهد واحد هو الجزيرة العربية، فاللون الديني واحد وصورة الأداء تكاد تكون واحدة.
وهكذا صارح صاحب "النثر الفني" القارئ بذات نفسه، لا عن القرآن فقط وتقليده حتى الوثنيين في الصورة والشكل ولكن عن الأديان الثلاثة كيف أنها كانت نبت البيئة، نبت الجزيرة العربية، والرجل يقول هذا وقد وضع بين أيدي الناس "المفتاح" إلى مذهبه في القرآن والدين.
- ويقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي: إن الخصومة بينه وبين زكي مبارك ليس منشؤها ما يعتقد الدكتور، ولكن ما يعلن ويدعو إليه، فاعتقاده ودينه أمر بينه وبين ربه، أما ما يعلن ويكتب فأمر بينه وبين الناس، وهو حر فيما يرى ويفكر وفيما يعتقد، ما اقتصر ذلك على ذات نفسه أو ظل سرًا بينه(1/277)
وبين خلصائه والله تعالى سيجازيه به، ولكنه يفقد تلك الحرية في اللحظة التي يحاول أن يتخذ من الأدب وسيلة لبث آرائه ومعتقداته بين الناس، إنه في تلك اللحظة يصطدم بما يعتقد الناس إذا كان ما يعتقد يخالف ما يعتقدون خصوصًا إذا كان ما يعتقدون هو الحق وما يدعو إليه هو الباطل.
- لقد تركنا للدكتور كل هذه السنين يبدئ ويعيد في الأخلاق وغير الأخلاق مما يتصل بالدين اتصالاً وثيقًا من غير أن نتعرض له، إلا مرتين.
الأولى: حين ختم كلمة له في نعيم الجنة بذلك الدعاء الماجن "اشغلني عنك يا رباه بأطايب الجنة فإن نظري لا يقوى على نور وجهك الوهاج".
والثانية: حين كتب يقول: "أعوذ برب الفلق من خير ما خلق"، وقد وقع الرجل على حيلة أخذها من صديقه الشيطان هو أن يسمي المسميات ضد أسمائها ليدخل على بعض النفوس عن طريق الايحاء فستر الإنسان جسمه بالثياب رياء واعوجاج في الضمير والدعوة إلى تعريته دعوة إلى الحياة، احتضان الفتاة للفتى هو مثال الفرح النبيل، وهجوم الفتاة على الفتى طاعة لغريزة كريمة، وانتهاب الجمال هو في ذاته شكران لواهب الجمال، فتراه مثلاً يقول لك: "وانتفع الصوفية بسماحة الإسلام وهو دين يأبى أن يكون بين المسلم وربه وسيط فقرروا أنهم أرفع من الأنبياء وهذا كفر بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غاية الإيمان".
- فانظر كيف رتب على المعنى أن الصوفية يضعون أنفسهم فوق مرتبة النبوة؛ لأنهم أعرف بالله وأرعى له من الأنبياء، وباطنه أنه ليس بهم ولا بك إذا ارتقيت مثلهم إلى الأنبياء حاجة وإلا كان بينك وبين الله وسطاء فتلك هي في رأي زكي مبارك سماحة الإسلام وبها انتفع الصوفية فلا الإسلام يحترم سماحة حمقاء كالتي نسبها إليه زكي مبارك ولا الصوفية بلغ بهم(1/278)
الغرور أن يرو أنفسهم فوق الأنبياء (1). اهـ.
* محمود عزمي المدافع عن اليهودية .. الممجِّد للشيوعية .. الداعي إِلى الفرعونية .. :
كانت رياح الصهيونية من وراء كتابات محمود عزمي ومحمد عبد الله عنان، فقد كان محمود عزمي واضح الموقف في الدفاع عن اليهود، وإثارة الشفقة عليهم، وكان في الوقت نفسه يمجد المفاهيم الماركسية الشيوعية، والمعروف أن زوجته كانت من روسيا البيضاء، وربما كانت يهودية.
- وأبرز مظاهر الشعوبية في هذه المرحلة أن يكتب محمود عزمي في جرأة: "لماذا عنيت بحضور المؤتمر الصهيوني في بال؟ " يقول: "إني أعنى منذ سنوات غير قليلة بالصهيونية على اعتبار أنها حادث اجتماعي وسياسي يشغل بال أهل فلسطين العرب، فيجب أن يشغل بالتالي بال كل من يتصل بفلسطين وأهلها العرب، ويجب أن يشغل بال أولئك الذين يفكرون ويعملون في سبيل الوحدة العربية، وتوثيق عرى (بلاد العربية) جميعا وفلسطين أحد بلاد العربية، وهكذا يراوغ الدكتور عزمي ليخدع العرب والمصريين عن الأشتراك في هذا المؤتمر الذي رشحته له عوامل كثيرة. والمعروف أن محمود عزمي كان يدعو إلى الفرعونية، ولما وجد موجة العروبة أفسح لسمومه دخل إليها ليفسد مفهومه، فهو لم يوافق على إطلاق لفظ البلاد العربية على الشرق العربي، واخترع مصطلحًا جديدا هو (بلاد العربية)، يقول أحمد عبد السلام بلا فريج: يريد أن يقول إن تلك البلاد ليست بلادًا عربية بجنسيتها، ولكن بلادًا تكلمت العربية، فيجب أن تنسب إلى اللغة وهي فكرة تدل على ضعف
__________
(1) "أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب " لأنور الجندي (ص 384 - 389) - دار الفضيلة.(1/279)
معلوماته التاريخية عن أصل سكان العراق والشام، وسائر الأقطار التي تتكلم العربية، ومن شعوبيته قوله: إن الوحدة يجب أن تبنى على اللفظ فقط، وأن تقسم بلاد العرب إلى ثلاثة أقسام: بلاد المغرب ومصر والشام، وقوله بما أن مدنية الغرب هي المدنية الغالبة فينبغي أن نتخذها بلا انتقاد، بل بمحاسنها وقاذوراتها، وقد ردّ عليه أحمد عبد السلام بلا فريج قال: إن الدعوة إلى اتخاذ مدنية الغرب بلا قيد ولا شرط تعني القضاء على الثقافة العربية واضمحلال شخصيتنا وتعني اندماجنا في هيكل الغالب" (1).
* محمد عبد الله عنان متطرف في تأييده للصهيونية وأتاتورك واشترك مع سلامة موسى في إنشاء أول حزب شيوعي في مصر:
أما محمد عبد الله عنان فإنه دعا إلى الاستسلام في قبول النفوذ الصهيوني وقال: لا نعتقد أن سياسة العنف طريق صالح يستطيع أن يسلكه الشعب الفلسطيني لتحقيق أمانيه؛ لأن سياسة العنف أصبحت اليوم طريقًا خطرًا لا يأمن سلوكه الأقوياء أنفسهم فضلاً عن الضعفاء، على أن العامل الحاسم في تسيير السياسة البريطانية المقبلة هي كلمة اليهودية بلا مراء، ويلوح لنا أن اليهودية لا يمكن أن تنزل عن حكمها القديم الأسمى بهذه السهولة، وأنها تؤثر أن تضيف هذه الشدة إلى ثبت محنتها الحافل، وأنها قد تقرأ فيها نذيرًا لا بوجوب التراجع القديم والحذر، ولكن بوجوب مضاعفة المغامرة والإقدام.
ويقول: "إن في وسع العرب أن يغنموا كثيرًا بالاتحاد والجهاد السلمي المستنير وأن يحولوا في المستقبل دون إراقه الدماء".
__________
(1) "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" - المجلد الرابع (اللغة والأدب والثقافة) لأنور الجندي (4/ 538).(1/280)
- ولا ريب أن هذا الموقف من أعنف مواقف التبعية للصهيونية وقد واجهت هذا حركة اليقظة، فكشف السيد محب الدين الخطيب في مجلة الفتح وجهة محمد عبد الله عنان في تأييده للصهيونية وتأييده لكمال أتاتورك، ولا ريب أن خلفية عنان باشتراكه مع سلامة موسى في إنشاء أول حزب شيوعي في مصر، وكتاباته الخطيرة عن (الثورة العالمية)، ويقصد بها مخططات الصهيونية الشيوعية التلمودية تُوحي بما جاء في هذا المحاولة.
- وقد كتب باحث في مجلة الفتح (3 أكتوبر 1929) تحت عنوان "هل عبد الله عنان يهودي صهيوني؟ " ما يلي: "قرأت مقالة عن الصهيونية (نشرها في السياسة الأسبوعية 7 سبتمبر 1929 وما بعدها) فلم يعتريني شك في أن الكاتب ليس يهوديًّا فقط بل من غلاة الصهيونية، كنت أظنه مؤرخًا صادقًا يشرح وجهة نظر العرب من ناحية ووجهة نظر الصهيونية من ناحية أخرى، ثم يقفي على ذلك بالحقوق التاريخية والمكتسبة للعرب، ولكني وجدته خصّ نفسه بشرح نظرية اليهود واطراح أمر العرب، وزاد الطين بدفاعه المستتر مرة والمنكشف مرة أخرى عن القضية اليهودية، وأعتقد أنه إما معتنق مذهب الصهيونية يعطف عليها ويدافع عنها، وإما ذو هوى في خدمة مصالح اليهود؟ فراح يتهوس تحرقًا على قوميتهم، ويؤسفني أن أخطّ هذا؛ لأني لست أفهم سرّ هذا الدفاع، وينسى أو يتناسى أن فكرة الوطن القومي اليهودي اشتُريت بأموال اليهود في الحرب العظمى واستغلال ضعف العرب، فأراد الصهيونيون أن يغتصبوا أرضهم وأموالهم بدون مسوغ من القوانين الوضعية والحقوق الدولية، وبينما فلسطين بحر من الدماء واليهود يتحرشون بأهل البلاد العزّل من السلاح، والعالم العربي والإسلامي يصيح من هول المأساة إذ بهذا الكاتب وزمرته يقولون ما لا يعلمون. ومن يقرأ التصوير المزيف الذي قدمه عنان يتوهم أن العرب هم البادئون بالعدوان وأن اليهود أصحاب حق، وأن عنان في هذا المفهوم يجري مجرى التلمودية الصهيونية.(1/281)
ومن أخطاء عنان قوله: أن الأساطير اليهودية تقول: إن جدار البراق هو البقية الباقية من هيكل سليمان. وترى فيه التقاليد اليهودية الدينية أثرًا من أجل آثار إسرائيل، وقد ردّ عليه (ن) وربما يكون شكيب أرسلان بقوله: "كان مأمولاً منه ألا يمر على الأساطير دون أن يضع إلى جانبها الحقيقة. هذه الحقيقة تختص بعلماء الآثار ومهرة المعماريين أكثر ما تختص بالأساطير، فعلماء الآثار ليس فيهم من يقول: بأن أي قسم من الجدار الغربي للحرم القدسي الشريف يرجع في عهد بنائه إلى زمن سليمان بل المتفق عليه قطعًا أن هذا الجدار بُني في زمن لاحق متأخر جدًّا، ومن الذين يذهبون إلى القطع بأن هذا الجدار ليس بقية الهيكل "المستر جار" مدير آثار حكومة فلسطين سابقًا، والمستر اشي الذي اشتغل في حكومة فلسطين أربع سنوات وهو من أكبر المعماريين الثقات، فزعم اليهود أن الجدار يعد باقية من الهيكل ساقط أساسًا لأن علم الآثار والمعمارية ينفيانه نفيًا باتًا".
- ولعنان موقف آخر من الشريعة الإسلامية يهاجم فيها موقفها من المرأة (الثقافة - 7 يوليو 1952) حيث يقول تحت عنوان: "المرأة والحقوق الدستورية": "لا محل للاحتكام بشأنها إلى الدين. تقول الحقيقة أن هذا الاتجاه خاطئ من أساسه ولا محل له على الإطلاق، إن تنحية الدين أساس في هذا الموضوع سواء لتوكيد التحريم أو الإباحة، وإذا كانت مصر دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية، أو أنها دولة تطبق أحكام الدين في سائر النواحي. فالنظم الأساسية والقوانين المدنية والجنائية المصرية كلها نظم وقوانين تطبعها الصفة الأوربية، ولا يطبق في مصر شيء من أحكام الشريعة الإسلامية في العبادات والمعاملات أو الحدود بصورة جبرية، والقضاء الشرعي يعتبر قضاءً استثنائيًا بالنسبة للقضاء الوطني العام، ويصل من هذه السموم والمغالطات كلها إلى أن يقول: لا محل لأن يحتل الدين حكمًا في مسائل لا(1/282)
علاقة لها بالدين ولا يمسّ العقيدة، ولا محل إذًا لنرجع بمطالب المرأة السياسية والاجتماعية لأحكام الدين".
ولا ريب أن رأي عنان هذا فاسد على إطلاقه؛ فإن الإسلام ليس دينا بالمعنى اللاهوتي، ولكنه نظام مجتمع ومنهج حياة، ولذلك كان له حق تنظيم العلاقات الاجتماعية وخاصة مما يتعلق بالمرأة والأسرة" (1).
* الشّعوبي حسين فوزي، غالٍ من غلاة التبعية للحضارة الغربية:
اتسع نطاق دعوة حسين فوزي إلى تغريب الفكر الإسلامي حين أفسحت الأهرام للشعوبيين الثلاثة (توفيق الحكيم - لويس عوض - حسين فوزي) (1960 - 1970) المجال ومجمل دعوته التي ردّدها أكثر من 40 عامًا هي على الوجه الآتي كما لخّصها لمجلة الآداب (أبريل 1962): "درجت على حب الغرب والإيمان بحضارة الغرب، واستحال الحب والإعجاب إيمانًا بكل ما هو غربي. لم يعتور إيماني ضعف بضرورة الحياة الغربية حتى وأنا أرى الحضارة تهددها الفاشية والنازية، وتكاد تتردى بها إلى هاوية الفناء والعدم، أغلب الناس لا يرون في حضارة الغرب إلا صورتها المادية (الراديو-الثلاجات-التليفزيون) مع أن الحضارة الغربية في أساسها فكر وفن وفلسفة وعلم، وهذا ما يعنيني من الحضارات. من الخطأ أن نأخذ إنتاج الحضارة دون أن نتشرب أساسها.
وسمة الحضارة الغربية أن العقل فيها مطلق، هذه السمة أفضل تسميتها الفكر الحر، لست أقول: إن الحضارة الغربية بلغت المثل الأعلى الذي نادى به الفلاسفة والمصلحون، ولكني أعجب إعجابًا بظاهرة واحدة في هذه الحضارة هي: الفكر الحر، ومهما كانت الأخطاء التي ارتُكبت فإن فضيلة هذه الحضارة
__________
(1) المرجع السابق (ص 538 - 540).(1/283)
في أنها تملك أداة إصلاح ذاتيه هي (الفكر الحر) وآمل أن نمحو من أذهان النشء هذه المقابلات العميقة بين الشرق والغرب، فليس غير الإنسان وليس ثمة إلا عالم واحد". وحين يتحدث عن الجوانب الروحية في تاريخ مصر يخلط بين مدرسة هليوبوليس ومدرسة الإسكندرية وبين الأزهر الشريف.
ويقول: "لا صلة للعقيدة الدينية بمسائل الأمم". والدكتور حسين فوزي في مفهومه هذا غال من غلاة التبعية للحضارة الغربية، وهو يركز على جانبها الخاص بالفنون والمسارح والموسيقى والرقص، ويرى أن هذه هي الفنون التي تُنقَل إلى البلاد العربية. ويركز على خداع قومه بالدعوة إلى الربط بين الحضارة المادية والفكر الغربي، كأنه يريد من قومه أن يتحولوا إلى غربيين في الفكر، وأن ينصهروا في الغرب؛ وليس أدل على ذلك من إعلانه الكراهية والاحتقار للتراث الإسلامي العربي، ويصف هذه الثقافة بأنها ماتت، ويُتابع طه حسين في الدعوة إلى نقل كل ما تمثله الحضارة (خيرها وشرها، وحلوها ومرّها، وما يُحمد منها وما يُعاب).
- أما قضية الفكر الحرّ فهي قضية تلك الجماعة التي حملت في الغرب لواء المادية والإباحية، وكسرت جميع ضوابط الدين والخُلُق، وكانت تابعة للتلمودية اليهودية التي قادها فولتير وروسو ويدرو ونيتشه وأوجست كونت ثم خلَّفت فرويد ودور كايم وسارتر. ولا ريب أن إيمان هذا الرعيل بالتبعية الغربية واضح وعميق، فهم يكرهون الإسلام والعربية والتراث والتاريخ الإسلامي ويزدرونه، وهم في هذا على خط واحد مع طه حسين وسلامة موسى وزكي نجيب محمود" (1).
- يذهب الدكتور حسين فوزي إلى أبعد حد في العنف والقسوة في
__________
(1) المصدر السابق (4/ 542 - 543).(1/284)
مهاجمة الثقافة العربية فيقول. "ماتت الثقافة العربية عبر القرون الوسطى وانطفأ نورها كما ينطفئ السراج الذي نضب زيته وأُحرِقت زبالته وانكسر إناؤها أيضًا، وذهب غبارها مع الثقافات الأخرى التي عُرفت في أوربا فيما بين انحلال الإمبراطورية الرومانية وعصر الرنيسانس ولا قيمة للثقافة العربية عندي أكثر من أنها لعبت دور انتقال في العصور الوسطى فكانت مستودعًا لبعض مظاهر تفكير اليونان فيما قبل عصر إحياء العلوم" (1).
- ويكذب حسين فوزي حين يرى أن شئون الزينة تتصل بالعادات والتقاليد بينما هي في الحقيقة من أصول الأخلاق. وكتب في الأهرام 21/ 8/1964 عن مُوَدة الصدر المكشوف، ويفيض في هذا الحديث ويحسنه ويغري به كل قارئ (2).
* الدكتور أحمد زكي أبو شادي زعيم جماعة أبوللو والفجور:
رحم الله مصطفى صادق الرافعي القائل عن حركة التجديد الأدبي أنها: "فساد اجتماعي، لا يدري أهله أنهم يضربون به الذلة على الأمة" (3).
في أوائل العقد الرابع أنشأ أحمد زكي أبو شادي أحد فرسان التجديد الأدبي - "جماعة أبوللو"، كحركة "تجديد في الشعر العربي"، وأصدر مجلة تحمل اسم الجماعة نفسه، وجذب إليه العدد من المواهب الأدبية في مصر والبلاد العربية الأخرى، وخاصة من الشباب.
ولقد اشتد نزاع النقاد في مناقشة التجديدات التي أدخلها أبو شادي على "عمود الشعر العربي"، ولكن أحدًا منهم -مع الأسف- لم يفسر لنا،
__________
(1) المصدر السابق (4/ 516).
(2) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 75).
(3) "تحت راية القرآن" للرافعي (ص 23).(1/285)
ما هي صلة القوافي وعَرُوض الخليل بن أحمد، بالصور العارية، والمناظر الجنسية المثيرة التي كان ينشرها الدكتور أبو شادي بجوار قصائده في مجلة "أبوللو"؟ (1).
فقد درج أبو شادي على نشر قصائدة في "أبوللو" وبجوارها صورة عارية ومثيرة، مثل قصيدة "في الحمّام" التي نشر أمامها صورة مثيرة لفتاة عارية، وكتب تحتها "في الحمّام"، وقد قلّده بعض تلاميذه مثل: إسماعيل سري الدهشان، الذي نشر قصيدة "الصائدة المتجردة"، وأمامها صورة امرأة عارية تصطاد في البحر.
لقد جمع أبو شادي حوله جيلاً من الشباب العربي وأرضعهم لبان "تجديده"، الأدبي، فلنستمع -إذن- إلى واحد من هؤلاء الشباب ذلكم هو الشاعر التونسي الثائر أبو القاسم الشابي يطالعنا برسالة يزدري فيها الأدب العربي ويتحدى:
نبئوني يا سادة: هل تجدون في العربية من يستطيع أن يحدثكم عن تلك العواطف العنيفة، التي تهز الحياة هزًّا؟ كلا -خبروني يا سادة أي شاعر عربي يستطيع أن يحدثكم عن نشوة الحب، وسكرة العواطف، ومعنى الأمومة ورحاب الأمل، أو يريكم هجسات القلوب وخلجاتها؟ -كلا-، ولكنكم واجدوه وأكثر منه- عند آداب الأمم الأخرى" (2).
- يقول الماركسي أحمد زكي أبو شادي الذي ألّف كتاب "ثورة الإسلام" في كتابه هذا (ص 25):
__________
(1) انظر "جماعة أبوللو وأثرها في الشعر الحديث" للدكتور عبد العزيز الدسوقي (ص 355 - 356).
(2) "الخيال الشعري عند العرب" (ص 107 - 109) طبع تونس، و"جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث" لجمال سلطان (ص 118 - 119) - دار الأعتصام.(1/286)
"وهذه سنن ابن ماجه والبخاري وجميع كتب الحديث والسنة طافحة بأحاديث وأخبار لا يمكن أن يقبل صحتها العاقل ولا نرى نسبتها إلى الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، إذ أغلبها يدعو إلى السخرية بالإسلام والمسلمين والنبي الأعظم".
ويقول أيضًا متشدقًا بحب المستشرقين أعداء الإسلام: "ومع أن علم أولئك المستشرقين كعلم المستنيرين من المسلمين، بأن الجمهرة من الأحاديث النبوية مختلفة اختلاف الإسناد نفسه، الذي لم يكن معروفًا في فجر الإسلام، فإن حظهم هو التعلق بكل سخيف حقير منها، للتدليل على سخافة الإسلام وحقارته يساندهم في ذلك من طريق غير مباشر جهلة الكتاب المسلمين" (1).
* لويس عوض الكاره الكريه .. الكاره للإسلام والعروبة والعربية، الممجِّد للاحتلال الفرنسي الصليبي والخونة الصليبيين وكبيرهم الجنرال المعلم يعقوب:
نعم هو الكاره الكريه .. الكاره للإسلام ولكل ما يمت إلى الإسلام بصلة .. كاره لطهارة الإسلام وطهره مثلما قال الله تعالى عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] .. فلا عجب أن يفضحه الله، فيخط لويس بقلمه فجوره ودنسه وشربه للخمر وممارسته للزنا بانتظام، وحديثه الكثير عن الشذوذ الجنسي دون استنكار.
- يقول لويس عوض: "ومن ملذاتي أني كنت أشرب كل شهر زجاجة
__________
(1) "ثورة الإسلام" لأحمد زكي أبو شادي (ص 17).(1/287)
نبيذ أحمر قبرصي كانت تكلفني أقل من خمسة قروش، أو زجاجتيْ بيرة تكلفاني خمس أو ست (كذا!! ) قروش .. " (1) ويعد هذا من ملذاته البريئة (!! ) (2).
ويعترف القذر بممارسته للزنا وبطريقة منتظمة "أوراق العمر" (ص 338) وما بعدها، (340)، وما بعدها ويحلم بحل المشكلة الجنسية في مصر على الطريقة الأوربية (ص 552)، وفي سياق دعوة لويس إلى الإباحية الغربية، نراه يشيد باليهود وموقفهم من المرأة الزانية فيعلق على حَمْل الفتاة اليهودية "أستير" من أحد سكّان منزلها وإنجابها طفلة زنا، وقبول أسرتها للأمر الواقع ويقول: "إن هذا القبول سلوك في غاية التمدن" (3)!!!
- وإلحاح لويس على الحديث عن الشذوذ الجنسي في سيرته الذاتية وبعض كتبه الأخرى دون أن يبدي رأيًا معاديًا، بل يبدو كأنه يراه أمرًا مشروعًا لا غبار عليه (4)، وأن "ليوناردو دافنشي، وشكسبير وتشايكوفسكي وهمرشلد وهربرت فون كاربان، وربما سقراط وأفلاطون من بينهم (5) ويبدو أنه يريد أن يبلغنا رسالة فحواها أن المشاهير في الماضي والحاضر -وبالتالي في المستقبل- لا بد أن يكونوا شواذًا أو مرحين وفق المصطلح الإعلامي السائد (6).
- ولقد تأثر لويس في مرحلته الجامعية بثلاثة من أساتذته الإنجليز وهم
__________
(1) "أوراق العمر" للويس عوض (ص 549) - مكتبة مدبولي - القاهرة 1989.
(2) المرجع السابق (ص 550).
(3) "أوراق العمر" (ص 452).
(4) "لويس عوض الأسطورة والحقيقة" للدكتور حلمي القاعود (ص 34) - دار الأعتصام.
(5) "أوراق العمر" (ص 474).
(6) "لويس عوض" لحلمي القاعود (ص 36).(1/288)
كريستوفر سكيف وإيرفينج وفيرنس مضافًا إليهم دافيس الأعرج وبيفن .. رجال معروفون بأحقادهم الصليبية وبأعمالهم في المخابرات البريطانية (1).
* أما سلامة موسى فهو صانعه ومعلمه ووالده الروحي:
وقد طبق أفكاره وتصوراته في القضايا الفكرية والأدبية التي عالجها وناقشها ويشير لويس عوض إلى دور سلامة موسى الخطير في حياته فيقول: "وضع سلامة موسى أمام أبناء جيلنا أكثر القضايا العلمية والفلسفية الاجتماعية والاقتصادية التي كانت ولا تزال مصدر البحث الإنساني في كل بلاد التحضر، وربطنا بتيارات الفكر العالمي الحي فجعلنا نحس بأننا أحياء (2).
ويشيد بسلامة موسى وبلاغته المزعومة، وحملته على البلاغة العربية (! ) ثم يكمل كلامه قائلا: "فقولوا هذا الذى رحل كان رائدًا شامخًا، وكان محطم أوثان، ولن تخطئوا في شيء، فهذا ما سيقوله التاريخ" (3).
"وعلى المستوى الشخصي يكشف لويس عن طبيعة تأثير سلامة موسى المباشر عليه، فيقول: "وقاد سلامة موسى خطاي نحو الاشتراكية" (4)، ويقول: "وعلى الجملة فقد نمت فيّ عقلية المفكر الاجتماعي التي كان سلامة موسى يغذيها في نفسي بمؤلفاته وبالمجلة الجديدة" (5).
ويصفه لويس عوض بأنه كان صريحًا في اشتراكيته، صريحًا في
__________
(1) "أباطيل وأسمار" لمحمود محمد شاكر (ص 449) - مطبعة المدني،
(2) "مقالات في النقد والأدب" للويس عوض (ص 109) - مكتبة الأنجلو المصرية.
(3) المصدر السابق (ص 110).
(4) "أوراق العمر" (ص 462).
(5) المصدر السابق (ص 447)، والمجلة الجديدة كان يصدرها سلامة موسى، ويبشر من خلالها بالفكر الاشتراكي والدعوة إلى الإباحية، واللحاق بأوربا، وتطليق الشرق ومواريثه (أي الإسلام).(1/289)
زندقته، ويرى أنه كان مسيحيًّا بالميلاد فقط، وكان يضع جميع أديان التوحيد في سلة واحدة، وكان ينظر إلى الأيان التوحيدية والوثنية نظره إلى ظواهر أنثروبولوجية، أي مجرد فولكلور راق، وكان من دراويش مصر القديمة، دائم الدعوة للاهتمام بدراسة حضارة مصر الفرعونية، و"كان عنده شموخ القبطي المتمسك بأصلابه الفرعونية حضارة وأمجادًا" (1).
ويبدو أن لويس قد استقى التناقض في تفكيره أساسًا من التناقض الذي يمثله سلامة موسى (الاشتراكي، الزنديق، المثقف المسيحي، اللاديني، الفرعوني، القبطي) ويبدو أنه ورث عنه تلك الكراهية العميقة للإسلام وكل ما يتعلق به، مع التعبير عن هذه الكراهية بمصطلحات مراوغة مثل الرجعية والسلفية والمحافظة والخلفية التاريخية والشرق والجمود والتخلف والغوغاء والسوقة .. إلخ وهي مصطلحات تتردد بكثرة في كتاباتهما.
انظر إلى لويس عوض هذا الإباحي القذر ينشر بعض شعره في مجلة "حوار" اللبنانية جاء فيها على لسان السيدة مريم البتول أم المسيح عليه السلام:
رميتُ عليه طلَّسْمي لأُنقذَه من البدَد
نصبت له فخاخ الحب في الأبعاد والرمد
فذاق العقل طعم الحب من ثغري ومن جسدي
وأخصبني بآلته فذقت حلاوة الوتد!!
وقد علّق عليها عباس خضر ووصفها بالقمامة القذرة (2).
__________
(1) "أوراق العمر" (ص 464).
(2) " الرسالة"، العدد 1093 - 20 شعبان 1384 هـ - 24 في ديسمبر 1964 (ص 42)، و"لويس عوض" لحلمي القاعود (ص 91 - 92)، و"المكالمات (اللاهوت) شعر لويس عوض (ص 36) نقلاً عن لويس عوض لحلمي القاعود (ص 169).(1/290)
إن الروح الصليبية تشكل الفرع الأول في الإطار المرجعي لدى لويس عوض، وكذا الماركسية، وهو بحق رسول الصليبية الحديثة والماركسية إلى الأمة العربية، فحمل إليها العدوانية على الإسلامية، وبشر فيها بالتبعية للغرب، وبث فيها الكثير من السموم والأحزان قاتله الله.
* إِلى أصحاب الفكر المستنير التقدمي من تلامذة لويس عوض:
يا من قلتم عنه أنه "لويس عوض المعلم العاشر" (1).
أو أن التاريخ سيذكر لويس عوض في صفحات ناصعة لفكره الناقد وبحثه الدائب عن الحقيقة كما يقول "شريف الشوباشي" (2).
هل من المقبول عندكم أيها التنويريون التقدميون أعداء الظلاميين أن يصف لويس "أم الكون" بالزنا، وأن البشر كلهم زناة.
فأم الكون زانية، وكل ابن لها زان
غشت ماخور بَعلَزْبُون بين البعد والآن
وهذا الكونُ بالفحشاء من بذرة شيطان (3)
* "المكالمات أو شطحات الصوفي" شعر لويس عوض:
تعالوْا يا معاشر التقدميين إلى عبث لويس بالذات الإلهية عبر المرحلتين المنشورتين من قصيدته "المكالمات" عبثًا لا مسوغّ له، وحديث زندقته الذي لا يحفظ للذات الإلهية قدسيتها وهيبتها بل يشوهها تشويهًا بشعًا حين يضعها في العديد من الصور السوداء وبخاصة في المرحلة الثانية [الناسوت] الذي يبدأ مقطعه الأول هكذا:
__________
(1) جريدة أخبار اليوم (12/ 9/1990).
(2) جريدة الأهرام (13/ 9/1990).
(3) " المكالمات (اللاهوت) " (ص 37).(1/291)
[وقالوا: ربنا واحد، فقلتُ: ليته عَشَرهْ
كمثل زيوس في الأوليمب يحسو الراح في زمرهْ
ويؤنس بعضهم بعضا، وتحلو العزلة المرةْ
وينسوْنا، وننساهم، ويشرب آدمُ خمرهْ]
ويضعه في صورة أخرى لمخلوق يخرّ مصابًا بالشلل في المقطع الرابع:
[وخر الرب مفلوجًا كمعلول بلا علل
تعلّق لطفه في الكون بين الفجر وَالطفَل
فيا غوثاه، إن وقفت إرادته على شلل
أو يضعه في صورة لا تليق بذاته العلية كما يقول في المقطع الخامس علي لسان هابيل:
[رآني الله مذبوحًا كشاةٍ خُضِّبت بدمِ
فما مدّ اليد الطولى لينقذني من العدم]
أو يسند إليه -جلا وعلا- صفات رخيصة يأباها المخلوق السويّ، فيقول في المقطع السادس على لسان نبي الله أيوب:
[أنا أيوب، مشهور بتسبيحي وتقبيحي
ويوم بصقتَ، يا اللهُ، في وجهي وفي روحي
شكرتُ، فزدتني بصقا، وثُرتُ، فزدتَ من قيحي
سألت الغابة العذراء، ثم صرخت في الريح:
لماذا يبصق الرحمن في وجهي وفي روحي؟! ]
ويذكر هذا الكافر أنه أكل الله في خبزه (المقطع الثامن) وشربه في خمره (المقطع التاسع) ويصفه بالصائد الماكر [المقطع العاشر] والعنكبوت [المقطع الأخير] (1).
__________
(1) انظر مجلة حوار البيروتة ع 10 حزيران 1964 (ص 33)، حوار ع 11/ 12 - 1964 (ص49). ولويس عوض للقاعود، (ص 165 - 166).(1/292)
* لويس عوض على خطا سلامة موسى يدعو إلى العامية بدلاً من العربية:
زعم سلامة موسى أن اللغة العربية، أو تأخرنا اللغوي من أعظم الأسباب لتأخرنا الاجتماعي! ويهاجم الذين يتمسكون بالعربية ويرى فيهم باعثين للأمس، ويدعو إلى مطلبه الأخطر والأعظم وهو "اتخاذ الخط اللاتيني، يحمل الأمة إلى الأمام مئات السنين، ويكسبها عقلية المتمدنين، ويجعل دراسة العلوم سهلة، وهو خطوة نحو الاتحاد البشري (1).
وعلى خطا أستاذه دعا لويس عوض إلى العامية وقال: "لقد أنتج المصريون في هذه اللغة الشعبية -أي العامية- أدبًا شعبيًا لا بأس به .. ولكن التركيب العبودي الذي اتصف به المجتمع المصري طوال هذه القرون قد صرف انتباه الدارسين إلى الأدب العربي، أدب الخاصة، وجعلهم يهملون الأدب المصري، أدب الشعب، وليس هذا بمستغرب، فالمثقفون في كل جيل يستمدون ثقافتهم من ثقافة السادة المحليّين أو السادة المستعمرين بحسب الحال؛ لأنهم يولدون بأبوابهم" (2).
ويكفي نظرة إلى كتابه التطبيقي عن العامية "مذكرات طالب بعثة" (3) لتعرف دجله وكذبه.
- وتحدث لويس عن إعجاز القرآن، وادعى أن الإعجاز وهم وخرافة، وزعم أن الإعجاز يعطي قداسة خاصة أو شرفًا خاصًا للغة العربية التي نزل بها القرآن، وبالتالي يسبغ على العرب أصحاب هذه اللغة امتيازًا خاصًا أو سيادة خاصة بين كافة المسلمين تؤهل العرب دون غيرهم لحكم العالم
__________
(1) "البلاغة العصرية واللغة العربية" لسلامة موسى (ص 188) - ط 4 سلامة موسى للنشر والتوزيع.
(2) "بلو تولاند" للويس عوض (ص 12 - 13) الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1989.
(3) "مذكرات طالب بعثة" للويس عوض - الهيئة المصرية العامة للكتاب 1991.(1/293)
الإسلامي واستعماره (؟؟ ) كما زعم أن لغة السيف هي التي فرضت على المسلمين أن يقولوا إن لغة القرآن هي معيار الصحة والخطأ، وهذا القول استفز رجاء النقاش -وهو من المقربين للويس- فأعلن رفضه لوجهة نظر لويس وقال: أرفضها كل الرفض جملة وتفصيلاً وهي وجهة النظر التي تقول: إن الحضارة العربية بآدابها وفلسفتها وعلومها ولغتها وعمرانها وكل شيء فيها، ليست حضارة أصيلة، وإنما هي حضارة منقولة عن الغرب" (1).
- "لويس عوض تلميذ سلامة موسى الفرعون الذي دعا إلى ترجمة القرآن إلى اللغة العامية المصرية وحجته كما يقول الأستاذ محسن عبد الحميد في كتابه "اللغة العربية" (ص 14): إن كتابا يؤمن به الشعب يجب أن يقرأه بلغته لا بلغةٍ أخرى" (2).
* لويس عوض والثناء على الثورة الفرنسية والحملة الفرنسية على مصر:
ْقام لويس عوض بتزوير التاريخ وتجميل وحشية الحملة الفرنسية على مصر وإسباغ الوطنية على خائن نصراني اسمه "المعلم يعقوب".
- وفي مناسبة مرور مائتي عام على الثورة الفرنسية 1879 م، كتب لويس عوض قرابة العشرين مقالاً مطولاً في الأهرام (3) أشاد فيها بإنجازاتها وشعارها: الحرية، والإخاء، والمساواة فكان لويس -في هذه المقالات- فرنسيًّا أكثر من الفرنسيين، فلقد أبادت هذه الثورة في مذابحها سبع سكان فرنسا (4).
__________
(1) انظر مقال " الرمز والمثال " لمحمد قطب - مجلة فصول (ص 343 - 345) مجلة فصول صيف 1992.
(2) "كلهم سلمان رشدي " لأحمد الدوسري النجدي (ص 28) مكتبة الروضة.
(3) بدأ نشر هذه المقالات أسبوعيًا في الأهرام ابتداءً من 15/ 7/1989.
(4) الأهرام 8/ 8/1989 مقالة لفهمي هويدي.(1/294)
بيد أن دراويش الثورة الفرنسية في بلادنا يصرون على أنها رمز التنوير والتقدم ويُجهدون أنفسهم في إثبات ذلك.
- ولقد عدّ لويس عوض حملة نابليون على مصر والشام سببًا لدخول مصر إلى العصر الحديث وإقامة الدولة المدنية وبناء نهضتها على أسس علمية عدّها بشير التقدم والتحضر، وسبب النهضة الذي نقل مصر من التخلف إلى التحديث، أما ما اقترفته الحملة من إراقة الدماء والنهب واستباحة المقدسات، واستلاب الحرية والكرامة، فأمر لا يعنيه.
- يقول: "لا مناص من اعتبار حملة نابليون على مصر 1798 م وما تلاها من استمرار بين مصر وأوربا عاملاً فاصلاً في تكوّن الأفكار السياسية والاجتماعية بالمعنى الحديث في مصر خاصة وفي العالم العربي بوجه عام" (1).
ثم يشير لويس إلى أن نشأة الفكرة القومية في مصر والعالم العربي، كانت وليدة التأثر بالثورة الفرنسية وحملة نابليون، ويستشهد بما كتبه الأخير وهو في منفاه بسانت هيلانه حول استقلال مصر عن العثمانيين، وتعيين والٍ من أهل البلاد لتستقل وتكون مملكة عربية، ويحدث تغيير عظيم على يد الرجل المنتظر (2).
- ويصف لويس الحكم التركي المملوكي بالوحشية، وقيامه على نهب خيرات مصر وإذلال أهلها إذلالاً تقشعر لهوله الأبدان (3).
__________
(1) "تاريخ الفكر المصري الحديث" (من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل) للويس عوض (ص 9) مكتبة مدبولي - ط 4 - 1987.
(2) السابق (ص 55، 105).
(3) السابق (ص 62).(1/295)
وقد ردّ على لويس عوض الشيخ محمود محمد شاكر في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" طبع دار الهلال، ومحمد جلال كشك في كتابه "ودخلت الخيل الأزهر".
- وسوف نكتفي بالرد على ديموقراطية نابليون بما قالته الدكتورة "ليلى عنان" في كتابها "الحملة الفرنسية بين الأسطورة والحقيقة".
يقول "دينون" بعد أن يصف بشاعة ما فعله الجند الفرنسيون بالمصريين العزل: "كنا نتباهى بأننا أكثر عدلاً من المماليك، وكنا نقترف كل يوم وبصورة اضطرارية عددًا كبيرًا من المظالم، لصعوبة تمييز أعدائنا بناءً على الشكل واللون، كان يجعلنا نقتل يوميًا فلاّحين أبرياء، كان الجند الذين نرسلهم للاستكشاف، يظنون التجار المساكين من أهل مكة (الذين حضروا لمساعدة المصريين) وقبل أن نصل لنعيد العدل -إذا ما كان هناك وقت للعدل- يكون الجند قد قتلوا اثنين أو ثلاثة، وتكون قافلتهم قد سُلبت أو بُددت، وجمالهم قد تم تبديلها بجمالنا الجريحة".
"وعندما كان الفلاّحون يذعنون لتهديدنا، ويحضرون لدفع الميري، كما يحدث أحيانًا، كنا نظن تجمعهم بسبب كثرتهم عداء لنا، وعصيهم أسلحة، فكان عليهم أن يتحملوا رصاص القناصة، أو الدوريات، قبل أن يشرحوا موقفهم، فكانوا يدفنون موتاهم، ونظل أصدقاء إلى أن تتاح لهم فرصة انتقام أكيد، والحق يُقال: أنهم إذا ما بقوا في منازلهم، ودفعوا الميري، وأوفوا بكل احتياجات الجيش، لوفّر ذلك عليهم مشقة السفر والبقاء في الصحراء. في هذه الحالة كانوا يشاهدون مواردهم تُؤكل بانتظام، فيأكلون نصيبهم ويحتفظون ببعض أبوابهم، ويبيعون البيض للجند، ولا يُغتصب إلا القليل(1/296)
من نسائهم وبناتهم" (1).
ويقول "برنواييه" وهو يصف اقتحام الجيش الفرنسي لإحدى القرى قرب دمنهور: "عندما رآنا أهل هذا الكَفْر من بعيد لاذوا بالفرار .. فأحرق الجيش كل شيء، يا له من منظر بشع، وقد قضى الحريق على نصف البلدة" (2).
ولقد تحدثت رسائل برنواييه عن وحشية نابليون ودمويته وحبه لاغتصاب النساء المصريات الأبكار قبل جنوده.
- يقول نابليون. "في استطاعتي محاسبة كل واحد منكم على مشاعره الدفينة في قلبه، لأنني عليم بكل شيء، حتى بما لا تبوحون به لأحد، ولكن سيجيء اليوم الذي سيرى فيه العالم أن كل المجهودات البشرية لا تستطيع فعل شيء ضدي" (3).
هذا هو نابليون فليخسأ لويس عوض .. أما الخائن يعقوب فسنفرد له ترجمة خاصة به.
* لويس عوض الكاره للإِسلام:
لقد أصر القزم لويس عوض على استبعاد الإسلام من الواقع والحياة العملية ولقد دعا في غمرة كفاحه ضد ما يسميه إسلامية مصر أو ما يسمّيه بالرجعية إلى "دين قومي" أو دين مشترك يجمع بين المسلمين واليهود والنصارى له وجه مسيحي يقول:
__________
(1) "الحملة الفرنسية بين الأسطورة والحقيقة" لليلى عنان (ص 74 - 75) - دار الهلال - 1992.
(2) المصدر السابق (ص34).
(3) المصدر السابق (ص80 - 81).(1/297)
"لي الغفران إن أشهرت إسلامي وتهويدي
بلا حب ولا صلب، ولا خمر وتعميد" (1).
وحاول قدر طاقته إبعاد الإسلام عن مجال التعليم وشن حملة شعواء على حلمي مراد وزير التعليم حين جعل مادة التربية الدينية مادة رسوب ونجاح ووصف سلوك حلمي مراد بأنه تملّق للسوقية والغوغاء (2)، ويقول عن هذه الحصة: أنها اغتصاب لعقول النشء.
- وهو يعارض تطبيق الشريعة الإسلامية ويشيد بالمستنيرين الذي يعارضون تطبيقها (3).
- وهذا الكاره الكريه كان له موقف معادِ من الخلافة عامة، ومن الدولة العثمانية خاصة، ويشيد بمعارضة الأحرار الدستوريين للخلافة لأن "موقفهم من الخلافة كان من أمجد المواقف التي عرفها تاريخ مصر الحديث ومن أكثرها استنارة وثقافة وتحديًا للحكم المطلق باسم الدولة الدينية منذ رفاعة الطهطاوي " (4).
* لويس عوض ودعوته إِلى الفرعونية:
هذا الكريه كان رافضًا للعرب والوحدة العربية والانتماء العربي مستعيضًا عن كل ما يكرهه بفكرة القومية المصرية يقول: "أنا أتكلم عن القومية المصرية بوصفها شيئًا مختلفًا ومستقلاً عن القومية العربية التي لا أفهمها خارج الجزيرة العربية" (5).
__________
(1) " المكالمات " (الناسوت) (ص 51).
(2) "أوراق العمر" (ص 256).
(3) المصدر السابق (ص 302).
(4) السابق (ص 300 - 301)، وانظر "النظريات السياسية في الإسلام" لمحمد ضياء الدين الريس.
(5) مقال "معاتبات قومية" للويس عوض - الأهرام (20/ 4/1978).(1/298)
- وهو كاره للبدو والأقوام البدوية هم العرب فيقول: "كنت لا أحب البدو ولا أخالطهم، بل كنت أكنّ احتقارا شديدًا لكل الأقوام البدوية، وأتصورها معادية للحضارة، بنت الزراعة، والصناعة والاستقرار، وكنت أراها عقيمة عقم الصحراء" (1).
ويقول: "وكان من محفوظاتي في القرآن أن الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا، وكان كل العرب عندي أعرابًا" (2).
- قاتلك الله من قزم مزوِّر أغرق في احتقار العرب حَمَلة الإسلام، وقال: " العروبة العرقية لون من ألوان النازية (3).
لقد رفض الوحدة العربية وسوغّ فصل السودان عن مصر.
- إن لويس عوض أسير فكرته الحانقة على الانتماء العربي الإسلامي، وأسير تعصبه الطائفي المقيت، وأسير روحه المنتمية إلى العالم الصليبي بكل ما فيه من عنصرية وعدوانية ووحشية واحتقار عظيم للعرب والمسلمين.
وجزى الله خيرا كل قلم إسلامي طاهر فضح هذا الكريه - ولعلّ آخر الأقلام المتوضئة ردا على هذا القزم هو قلم الدكتور حلمي القاعود في كتابه عن لويس والذي سمّاه "لويس عوض .. الأسطورة .. والحقيقة" طبع دار الاعتصام.
- يقول الأستاذ أنور الجندي: سجلت صفحات الدكتور لويس عوض أحقادًا وسمومًا بالغة الخطر عميقة الأثر:
__________
(1) "أوراق العمر" (ص 450).
(2) السابق (450 - 451).
(3) الأهرام 7/ 4/1978.(1/299)
أولاً: من أخطرها حملته على اللغة العربية الفصحى ودعاواه الكاذبة في مواجهتها كراهية للإسلام والقرآن، وقد كان من أخطرها كتابه "مدخل إلى فقه اللغة العربية" التي حاول فيه الأدعاء بأن العرب جاءت من القوقاز، وأن اللغة العربية لغة آرية ليس لها أي تميز خاص وقد خاض في شبهات حول الإعجاز القرآني وغيره على نحو مضلل.
ثانيًا: موقفه من الشعر العربي وهجومه على الأصالة واحتضانه لشعراء التفعيلة من أمثال: صلاح عبد الصبور وأدونيس والسياب وغيرهم ودعوته إلى تحطيم عمود الشعر وكسر بلاغة اللغة العربية، وهي دعوى قديمة ما زال يرددها ويجددها.
ثالثًا: مواقفه المتعددة من التراث الإسلامي والفكر الإسلامي وهي مواقف توحي بالشبهة في سلامة البحث وعلميته، والالتجاء إلى أفكار المستشرقين ومتابعتهم وكراهية أمة العرب والإسلام، والتي تكشف عن أحقاد دفينة.
وقد واجهه كثير من المفكرين وكشفوا زيفه، وفي مقدمتهم الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "أسمار وأباطيل" (1).
* قبحك الله من جاهل .. :
يا ناطح الجبل العالي لتكلمه ... أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
محاولة حقيرة من هذا القزم للتشكيك في القرآن الكريم تحمل في طياتها جهل وتجهيل باللغة العربية وافتراء على التاريخ وتهجم على الفكر الإسلامي وخلط عجيب.
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 267 - 268).(1/300)
انظر إلى كتابه "مقدمة في فقه اللغة" يبلغ عدد صفحاته 600 صفحة.
وانظر إلى الكشف العجيب البديع للجاهل لويس حيث يقرر أن العدد (3) في العربية مأخوذ من جذر هندي أوربي وهو في المصرية القديمة من جذر غير هندي، وأن ثلاثة المصرية القديمة هي "خمت" و"خمت المصرية"
تساوي " صمد " العربية.
ثم يصل إلى القول بأن كلمة (صمد) في العربية وهي من الأسماء الحسنى كلمة محيرة؛ لأنها مادة جامده لم تشتق من فعل ولم يشتق منها فعل وهى غامضة المعنى، نادرة الاستعمال، وأشهر استعمال لها في الصمدية ولهذا ربط المفسرون معناها دائمًا بتوكيد التوحيد وإنكار التثليث في مفهوم الصمدانية.
- وهكذا حكم الدكتور على كلمة صمد بأنها تساوي كلمة (خمت) المصرية التي تعني (3) ثم يتساءل كيف يصف القرآن الكريم بها الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ} إذا كيف تكون الكلمة تعني ثلاثة أو ثالوث ويقول الله سبحانه أنها تعني التوحيد المؤكد (1).
وخطأ الدكتور بين الربط بين كلمة (خمت) المصرية وكلمة (صمد)
حيث لا يوجد بينهما أي تشابه. ولم يقدم دليلاً واحدًا مقنعًا للربط بينهما
يقوم على سند صحيح، وإنما هو الهوى. وقوله: بأن الكلمة جامدة يكذبه "لسان العرب" أو أي معجم يصرح بأن (صمده ويصمده صمدًا وصمد إليه كلاهما قصده، وصمد صمدًا لأمر قصد قصده، وصمد رأسه تصميدًا إذا لفّ رأسه بخرقة أو ثوب أو منديل، وأصمد إليه الأمر أسنده، والصمد بالتحريك السيد المطاع الذي لا يُقضى دونه أمر).
__________
(1) انظر "مقدمة في فقه اللغة" للويس عوض - الهيئة العامة المصرية للكتاب 1980.(1/301)
- يقول الدكتور إبراهيم عوضين: "والدكتور تجاهل سياق سورة الإخلاص فلا يعرف أن السياق يؤكد هذا المعنى إذ تقول السورة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فوصف الله تعالى بالأحدية يعني أنه غير متجزئ، وليس كما يتوهم، عدم التعدد.
أما إذا كان الدكتور يعلم ذلك فإننا نكون في صراحة أمام طعن في القرآن الكريم وأحكامه لأنه والحال هكذا يعني أن الآية الأولى من السورة تناقض الآية الثانية منه بزعمه.
* الهجوم على لغة القرآن:
في مواجهة اللغة العربية: (لغة القرآن) رأينا الحملات الشرسة توجه دون كلل للنيل من أصالة هذه اللغة وصمودها.
وقد اتخذ الهجوم ثلاثة محاور:
الأول: قاده سلامة موسى وأمثاله من التغربيين وقد دعوا إلى طرح الحروف العربية جانبًا واتخاذ الحروف اللاتينية بديلاً وروج أصحاب هذا الاتجاه للزعم القائل بأن اللغة العربية جامدة وخمودها سبب من أسباب تخلف العرب ونسوا أن أصحاب الحروف اللاتينية لم تشفع لهم حروفهم اللاتينية يوم أن كانوا متخلفين.
الثاني: أما المحور الثاني فقد حمل ألويته بعض تلامذة الغرب الذين رباهم على فكره وسوَّل لهم الباطل فرأوه حسنا، ولهذا فقد شجعوا العامية لغة خطاب ولغة كتابة وساعدهم على ذلك تقدم وسائل الأعلام التي تبنت هذه القضية.
الثالث: المحور الثالث الشرس نجده يظهر في حملة التشكيك في أصل(1/302)
اللغة العربية وفي القرآن ثم في أصل العرب ذاتهم، وهذا ما نجده في كتاب الدكتور لويس عوض (مقدمة في فقه اللغة العربية).
* وأهم أباطيله أثنان:
1 - أن العرب بصفة خاصة والساميين بصفة عامة منذ فجر التاريخ كانوا يقطنون مكانا آخر غير الجزيرة العربية، وأن الجزيرة العربية لم تكن مهدهم الأول، بل قدموا لها من مكان آخر. وأنه لا يوجد جنس يُسمى بالساميين إلا في إطار الشجرة العامة الهندية الأوربية.
2 - لم يهاجر السكان العرب من داخل شبه الجزيرة بل على العكس كانت الهجرة من خارج الجزيرة إلى داخلها.
ويتجاهل الدكتور لويس البراهين التاريخية وما يؤكده التاريخ من أن الهجرات السامية خرجت من الجزيرة العربية لأسباب اقتصادية ومناخية، ودلائل التاريخ كلها تشير إلى أن بابل وآشور وكنعان ومصر والحبشة كانت كلها هدفًا لغارات من أقوام قدموا إليها من الجزيرة العربية ومع هذه الأدلة القاطعة نجد لويس عوض يصر على تجاهل الحقيقة ليجعل من العرب ولغتهم كمًّا مهملاً في عرف التاريخ.
كذلك فقد ساق الدكتور عبد الغفار حامد أدلة علمية يثبت بها أن اللغات السامية ذات طريقة خاصة تختلف في جوهرها عن اللغات الهندية الأوربية التي يزعم لويس أن العربية جزءَّاً منها أو نتاج للتعامل بها.
- ويكشف دكتور لويس عن حقيقة نواياه فيقول:
إن نظرية التعصب للغة العربية يجعلها لا تقبل الألفاظ الدخيلة وهو السبب في دخول العربية في مأزق شطرها إلى لغتين: لغة الكتاب المقدسة ولغة الكلام الدارجة، ولو أننا أخذنا بمبدأ التعريب والامتصاص والتمثيل(1/303)
اللغوي السائد في جميع اللغات لتغيرت حال معاجمنا ولجرت قوانين الصيرورة على النحو العربي والصرف العربي بما يقرب اللغة الفصحى من اللغة العامية.
نعم هذا ما يريده لويس عوض للعربية لغة القرآن: يريد لها الفناء بالانصهار مع الزمن في غيرها ليصير القرآن أبعد عن التأثير في حياة المؤمن، وهذا شبيه بما عرف من أن اليازجي كان قد شرع في تصحيح لغة الإنجيل مما يشوبها من ركاكة إلا أنهم أشاروا عليه بالكف عن ذلك حتى لا يكون فيه تدعيم للعبارة القرآنية أو لغة القرآن، ويأتي لويس عوض هنا ليهدم العبارة القرآنية بالمكر والدهاء فهو يتمنى أن يرى اللغة العملاقة التي صرعت غيرها صريعة قلمه الواهي ولكن أنَّى له ولأمثاله ذلك.
- ثم يقول الأستاذ أنور الجندي:
ْإن لويس عوض يرى أن اللغة اللاتينية نوعت إلى لهجات هي الفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية وقد تحولت هذه اللهجات إلى لغات وأن اللغة العربية مثل اللغة اللاتينية، وإن لهجاتها العامية يمكن أن تتحول إلى لغات منفصلة تمامًا عن الأصل. قال لويس عوض بهذا الرأي وما يزال يصر عليه ويعمل له، وقد نادى به في مقدمة ديوانه بلوتولاند سنة 1947 وعاد إلى هذا إلى الرأي عام 1978 في مقال بجريدة الأهرام (11 مايو 1978) حتى يكرر في هذا المقال بكل تحديد ووضوح أن اللهجات العامية تشبه اللهجات اللاتينية التي كانت منتشرة في أوربا قبل خمسمائة سنة، وهو يدعو إلى أن تتحول اللهجات العامية إلى لغات مستعمله، وهو رأي مصر عليه ينادي به في كل مناسبة، وقد عاد إلى هذا الرأي في كتابه "مقدمة في فقه اللغة العربية - الصادر 1980 فالفكرة التي تسري في الكتاب هي فكرة التشابه بين اللاتينية والعربية واستقلال اللهجات العربية الأخرى عن أصلها،(1/304)
وفي محاولة واسعة للتشكيك في مكانة اللغة العربية العلمية، وهو يحاول أن يفصل بين اللغة العربية والإسلام وبين اللغة العربية والعروبة وأنه من الممكن أن يكون هناك متعلمون بالعربية لعدة أجيال مثل المصريين ولا يكون لهم شأن بالعرب والإسلام، ويرى لويس عوض أنه كتابته باللغة العربية العلمية هو خيانة لعهده الذي أخذه على نفسه بين أشجار الدردار عند الشلال في كمبردج" (1).
- يقول الأستاذ أنور الجندي في "جيال العمالقة" (ص 278 - 279):
"ما هو الحجم الحقيقي للدكتور لويس عوض، وهل أصبح حقًّا من الأساتذة الكبار بالرغم من مرور الأعوام الطوال، لا أظن أنه أبدع شيئًا مهمًا أو حصل علمًا نافعًا أو اكتسب خبرة أو صقلته الأيام.
وإذا كانت نبرة لويس عوض هادئة باردة فليس لأنه لا ينفعل أو لا يتعصب ولكن لأنه تمرس على القتل العمد فالهدوء ليس اتزانًا وإنما هو احتراف للظلم، وما درج عليه من براعة في صناعة السموم ولم ينس محاوروه أن يسخروا منه في إصدار الأحكام العامة دون معرفة أو علم أو شك أن يسدد إلى قلبه سهمًا نافذًا لولا أنه اكتفى بأن يسكب على وجهه وثيابه زجاجة من الحبر الأسود وقد أقحم نفسه في أشياء كثيرة لا يجيدها:
1 - حاول الشعر في مطلع حياته وبشر بموت الشعر العربي وطالب بكسر عمود البلاغة العربية ولم يمت الشعر العربي ولم تتحطم أعمدة البلاغة العربية، ولكن شعر الدكتور لويس عوض هو الذي مات وبادت نظريته في أحياء البلاغة العامية وتهشم عمودها.
2 - وحاول أن يكون مؤرخًا مع أنه لم يتخصص في التاريخ ففشل
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 176).(1/305)
فشلاً ذريعًا وكثرت سقطاته وتضاعفت عثراته ويكفي أنه أشاد ببعض الخونة والجواسيس الذين تعاونوا مع الحملة الفرنسية ضد أبناء وطنهم من أمثال المعلم يعقوب ورفعهم إلى مصاف الأبطال.
3 - حاول دراسة الأدب العربي فما استقام له منهج وما حقق شيئًا في هذا المجال ودليل فشله تحقق بشكل واضح في دراسته (على هامش الغفران) -الأهرام في الستينات- وقد حركت هذه المقالات قلم الأستاذ محمود محمد شاكر فعلق على الموضوع في مقالات متعددة صارت فيما بعد كتابا في جزئين بعنوان "أباطيل وأسمار" وهو من أهم الكتب التي صدرت في تاريخنا الحديث تحقيقًا وتأصيلاً للمنهج العلمي في الدراسة الأدبية إلى جانب ما فيه من متعة فنية وجمال في العرض ودفاع عن تاريخنا ومقومات حضارتنا وسيظل هذا الكتاب العظيم دليلاً عميقًا على أن الدكتور لويس عوض في حجم البعوضة وأن الهالة التي منحتها له ظروف الحياة في عقد الستينات؛ عقد الهزيمة اللعين، لا تساوي جناح تلك البعوضة بل سيظل هذا الكتاب صحيفة سوابق أدبية للدكتور لويس تحمل بين طياتها سطورًا كثيرة تهدر كل قيمة علمية أو أدبية له ويكفي أن محمود محمد شاكر قد ضبط لويس عوض متلبسًا بعدم معرفة قراءة الشعر العربي.
والذي يقرأ كتاب "أباطيل وأسمار" يعرف الدكتور لويس عوض تمامًا ويحدد بدون عناء مكانته العلمية وقيمته الأدبية.
- ونختم هذه الترجمة العفنة بكلام للأستاذ عبد العزيز الدسوقي والأستاذ شاكر مصطفى.
- يقول الأستاذ عبد العزيز الدسوقي:
"إن أي كلام يكتبه الدكتور عوض لا تأثير له وليست له أية قيمة وأنه قد سقط من غرابيل المعري منذ ارتكب تأليف كتابه "على هامش الغفران".(1/306)
- ويقول الأستاذ شاكر مصطفى:
"ترى ما الرأي لو جاء باحث بعد قرن من الزمان فنظر في التقارير الأمنية عن الدكتور لويس عوض فوجد أنها خليط شيوعي أمريكي فاتهمه بالذبذبة، والتلون، ونظر في تراثه الفكري فوجد فيه ريح الطائفية فرماه بالباطنية والنفاق وفي تراثه السياسي فوجده متصلاً بأمريكا وإنجلترا فدمغه بالعمالة وكتب عنه فتحدث عن أسطورة لويس عوض وأن له دورا كان يؤديه لحساب مجهول، وإن له ماضيًا مريبًا وتعاونًا كاملاً مع جهة ما وأنه مزدوج الشخصية أو مثلثها أو مربعها حسب الظروف وأن مواقفه وتحركاته جملة من المتناقضات كل ذلك بوثائق أمريكية وإنجليزية وفرنسية" (1).
* اليساري محمد مندور رئيس تحرير مجلة " الشرق " الشيوعية ودعوته إِلى فصل الدين عن الدولة في مقاله "الدين والتشريع" وصداقته الحميمة للويس عوض:
كتب محمد مندور اليساري مقالاً بعنوان "الدين والتشريع" عام 1944 في جريدة "المصري" التي كان يعمل بها، دعا فيه صراحة إلى فصل الدين عن الدولة، وضرورة سن القوانين الوضعية التي لا ترتبط بالشريعة الإسلامية، ولكن الجريدة رفضت نشره ويعلق لويس عوض على دعوة مندور قائلاً: "وواضح أن هذا الكلام الذي نشره مندور في 1944 مؤسس على ذلك الركن الركين في الفلسفة الديمقراطية الليبرالية وهو فصل الدين عن الدولة، وإقامة فقه دستوري وفقه تشريعي على أساس وضعي بدلاً من الأساس الثيوقراطي الذي كانت تقوم عليه المجتمعات الإقطاعية في العصور
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 280).(1/307)
الوسطى" (1).
لقد كان مندور صريحًا في تطلعاته وتصوراته فهو رجل يساري لم ينكر ذلك، وانتهى به المطاف إلى أن يكون رئيسًا لتحرير مجلة "الشرق" التي تصدرها سفارة موسكو في القاهرة، وتعبّر عن الفكر الشيوعي الذي يرّوج له الاتحاد السوفيتي (قبل سقوطه مؤخرًا) .. ولذا فعندما أعلن مندور رفضه للشريعة أو الإسلام فهو متسق مع نفسه .. ونحن نرفضه ونرفض فكره جميعًا.
لقد كان مندور صديقًا حميمًا للويس عوض شاركه فكره وتصوراته وزامله فترة طويلة من العمر في داخل البلاد وخارجها. وكان لويس عوض يشبهه بآخيل في مملكة الربة أثينا، بينما يشبه نفسه بأجاكس، وقد ذهبا معًا إلى أثينا لتصنع لهما دروعًا كي يحاصر طروادة مدينة الموت ذات الأبراج السوداء والأسوار العالية (2).
والرمز في هذه المرثية لا يخفى على من يتابع كتابات لويس، وغاياته الفكرية والأدبية، وقد كشف عنها على مدى المرثية حينما تحدث عن الرجعية وأعداء الموت وأنصار الحياة.
لقد اتخذ لويس عوض من موت محمد مندور الشيوعي فرصة للهجوم وهجاء الإسلام والمسلمين الرجعيين حيث شبه مصر المسلمة بطروادة مدينة الموت ذات الأبراج السوداء والأسوار العالية .. ويقول كلامًا عن محمد مندور يبين خطر محمد مندور وعمله المستمر ضد الإسلام .. يقول لويس عوض في رثاء مندور:
"هي الرجعية يا صاحبي، وهذه الرجعية هي التي قضى محمد مندور
__________
(1) "الثورة والأدب" للويس عوض (ص23) - دار الكاتب العربي للطباعة والنشر 1967.
(2) "الثورة والأدب" (ص 6 - 7).(1/308)
شبابه ورجولته في حصارها، فمذ أن عرفته في باريس في الحادي والعشرين من أكتوبر 1937 حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في 19 مايو 1965 لم يكن لمحمد مندور من همّ في الحياة غير محاربة الرجعية في كل صورة من صورها: رجعية الفكر، ورجعية السياسة، ورجعية المال، ورجعية النظم الاجتماعية، فتاريخ محمد مندور إذن ليس إلا فصلاً كبيرًا في كتاب الحرية العظيم في بلادنا، كتاب الحياة الجديدة الذي وضع فاتحته رفاعة الطهطاوي، وسطر أبوابه محمد عبده (!!! ) وقاسم أمين ولطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرازق، ومن حولهم كوكبة عظيمة من أعداء الموت وأنصار الحياة" (1).
والدكتور مندور تلميذ مخلص لليونان وعاشق لفنهم، وعارف بحضارتهم ومتحدث في صفحات كبار عن الالياذة والأوديسا ووثنيات اليونان وآلهتهم الزور.
"وقد حاول لويس عوض أن يرسم صورة مضللة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية فأعطى قيادتها الأدبية لثلاثة "محمد مندور ونجيب محفوظ ولويس عوض" مدعيًا أن هؤلاء الثلاثة هم الذين وضعوا بذور النهضة والتقدم خلفًا للمدرسة التي خرجت طه حسين وسلامة موسى ومحمود عزمي وأنهم كانوا النور المضيء في ظلمات هذه المرحلة.
- وقد ردت الدكتورة بنت الشاطئ على لويس عوض فقالت:
إن أحدًا لم يدر شيئًا عن البذور الخفية التي قال: إنه ألقاها هو ومحمد مندور ونجيب محفوظ في أحشاء التربة المعتمة والأرض الخراب؛ لأن هذه البذور بصريح اعترافه لم تكن لترى النور قط. إذن فمن أين استمد الشعب
__________
(1) المرجع السابق (ص 7).(1/309)
زاد وعيه ونور بصيرته وري وجدانه. والذي يسجله الواقع التاريخي أنه كان هناك دائمًا نبع سخي لم يغض أبدًا، يمد جماهير الشعب الأمي بالري المستديم ويفيض عليها من منهله الصافي ما يرهف وجدانها وينير بصيرتها ويشحذ إرادتها للنضال من أجل الوجود الحر الكريم. كان هناك (القرآن) يتلى في البيوت والأكواخ والمساجد والزوايا وينفذ إلى أعماق القرى ونائي النجوع منفردًا بالسيطرة الكاملة على الوجدان الشعبي، الذي لم ينفذ إليه قط من أي سبيل دعوات التقدميين ومقالات التطوريين، وإذا كانت الأمية قد فرضت على عامة الشعب وحيل بينهم وبين قراءة أي كتاب أو مجلة فقد بقي لهم كتابهم الخالد ينسخ أميتهم بمدد سخي من الوعي ويمزق عن بصيرتهم حجب الجهل وغشاوة العمى وغطاء الغفلة ويلح على عقولهم ونفوسهم بكلمات الله في حقوق الإنسان وكرامة البشر، من هذا النوع السخي وجدت الأرض الطيبة من الري المستديم ما يحميها من العقم والجدب، من هذه المدرسة تلقى الشعب الأمي الشحنة للاقتحام العنيد لكل العوائق والمواقع التي تعترض حياته عصيًا على كل المحاولات التي تغير نصًا لكلمات الله التي يتلوها الأميون مصبحين وممسين دينا وعقيدة لن يرفضوا الإقرار بالعبودية إلا لله وحده وأن يقاوموا البغي والظلم والباطل ويسحقوا جبروت الطغاة".
- وتقول الدكتورة بنت الشاطئ في دحض هذه الدعوات المسمومة التي حمل لواءها لويس عوض في الدعاية لطائفة المضللين من التقدميين والعلمانيين ودعاة المادية والماركسية في صدر جريدة الأهرام: يجهل تاريخنا من يظن أن هذا الشعب في جمهرته العامة بقي جامد الضمير مخدر الحواس بصليل الأغلال حتى جاء دعاة التطور وأنصار التقدم فعلموه، ويجهل شخصية هذه الأمة من يتصور أنها اطمأنت إلى شيء من البضاعة الفكرية والثقافة المجلوبة أو انفعلت بها وهي تتأهب للاقتحام العنيد لكل العوائق(1/310)
والموانع التي تحول دون وجودها الحر، فقبل أن تسمع الدنيا بالمذاهب الحديثة والحركات المعاصرة كان هذا الشعب الأمي يفرض وجوده على الغزاة والطغاة من كل جنس وملة فيحسبون له ألف حساب، فلم يدعهم يهدءون لحظة من ليل أو نهار وقد أعيتهم منه شتى الحيل فما أجدت عليه يد حديدية ولا لهفة معاهدة ولا انطلت عليه حيلة المفاوضات، وفرض وجوده على القصر والأحزاب، لم يستورد الشعب زاد وعيه من الخارج وإنما هو سره الخالد تلقاه جيل عن جيل أمانة صعبة وميراثًا محتومًا، فالشعب الذي قهر الصليبيين وهزم التتار ودوخ الجبابرة ولفظ الغزاة على مسار الزمن لم يكن بحاجة إلى من ينقل إليه مقالاً في التطور يستثير به نخوته أو يستورد له شعلة من وراء السور الحديدي تشحذ إرادته، ولديه النبع الصافي يعصمه من الغفلة والضلال وفيه ميراثه العريق يزوده بطاقة متجددة على تحدي البغي والشر .. ولا يقل قائل إن دعاة التقدم هزّوا الأمة ضميرًا جامدًا وحواس معطلة ووجدانًا أصم، فلقد قامت بينهم وبين الوجدان الشعبي سدود وأبواب" وهكذا نرى كيف قادت الصحافة عن طريق الأدب معركة التجهيل والهزيمة ومحاربة التراث الأصيل" (1).
* نجيب محفوظ تلميذ سلامة موسى .. الشاك في كل قيمه. المتذبذب في كل فكره، الضائع في كل واد، المتحدي لعقيدة الأمة، صاحب جائزة نوبل!! عن قصته "أولاد حارتنا" أو موت الإِله:
نجيب محفوظ هو تلميذ سلامة موسى.
لقد سُئِل نجيب محفوظ: "هل كان لسلامة موسى أثر قوي في تكوينك الفكري كما يذهب بعض الباحثين؟ ".
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 148 - 149).(1/311)
فقال: "نعم كان لسلامة موسى أثر قوي في تفكيري فقد وجهني إلى شيئين مهمين هما العلم والاشتراكية، ومنذ دخلا مخي لم يخرجا منه إلى الآن، وكان الأديب الوحيد الذي قبل أن يقرأ رواياتي الأولى، وهي مخطوطة، قرأ ثلاث روايات، وقال لي: إن عندي استعدادًا ولكن الروايات غير صالحة للنشر، ثم قرأ الرواية الرابعة، وكانت "عبث الأقدار" وأعجبته ونشرها كاملة في "المجلة الجديدة" كما قرأ أول أقاصيص كتبتها ونشر بعضها في "الرواية" ومجلتي" اهـ.
إذن فقد تأثر نجيب منذ بدايته الأولى كأديب بسلامة موسى المفكر ومنذ دخل عقله (الاشتراكية والعلمية) أو بعبارة أخرى (الاشتراكية العلمية) أو (الماركسية العلمانية) لم يخرجا منه حتى الآن.
إذا تقرر هذا فاعلم أن النهاية معروفة من مطلع البداية فالاشتراكية العلمية أو الماركسية المادية التي عششت في مخ الكاتب وباضت وأفرخت وصادفت عنده مكانًا خاليًا فتمكنت .. هذه الأشتراكية العلمية تناقض الإسلام كل التناقض ولا تلتقي به في أي موضع من المواقع.
إِياك تجني سكرًا من حنظل ... فالشيء يرجع في المذاق لأهله" (1)
- وكذلك نجد (نجيب محفوظ) يسقط في حلقة الاحتواء التغريبي وتخدم قصصه نفس الأهداف، بل نجد الماركسيين يولونه اهتمامًا كبيرًا ويرون في كتاباته خدمة لغاياتهم وفكرهم وتفسيرهم المادي للتاريخ، وقد استخدموه في دعوتهم إلى الإباحية وإلى المفاهيم الهدامة في الأسرة والفتاة. وعمل المرأة وعلاقتها بالرجل، وقد كان نجيب محفوظ مهيأ لذلك كله؛ لأنه من خريجي قسم الفلسفة - ثم كان اتصاله بسلامه موسى عاملاً هامًا من عوامل
__________
(1) كلمتنا في الرد على "أولاد حارتنا" للشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله- (ص 34 - 35) المختار الإسلامي.(1/312)
تكونيه وقد كانت فكرته عن الألوهية فاسدة وقائمة على مفاهيم الماديين.
- ونجيب محفوظ هو الذي "أبرز في رواياته صورة الرجل الشاك في كل قيمه المذبذب في كل فكره الضائع في كل واد المتحدي لعقيدة الأمة والمتجه ناحية المشارب الأخرى يعب منها، وقد كانت اتجاهاته الثلاثة واضحة في تطوره القصصي على التوالي: اتجاهه الإلحادي واتجاهه المادي واتجاهه الماركسي الأخير. وهو الذي تقلب في التبعية للمذاهب الوافدة الغربية والشرقية على السواء في الرومانسية والواقعية والرمزية المغرقة، حتى في اتهامه للأزهر بأنه لا يقرأ؛ لأن الأزهر وقف ضد فساده وهو يصور أنبياء الله تلك الصورة السفيهة، وقد توالت كتاباته واستمرت ووجدت من يدفعها إلى الأمام ويشجعها"، وتسارع هيئات السينما لنقلها إلى الناس على أبشع ما يجد الذوق وأردأ ما يكون التقديم وأسوأ ما يجترأ على الأخلاق والفضائل، بل إن هناك من حاول أن يكتب عن قصص نجيب محفوظ وكأنه من دعاة الإسلام وهو القائل:
"الحق أنني معجب بالماركسية بما تحققه من عدالة اجتماعية ورؤية إنسانية سامية واعتمادها على العلم، ولكني أرفض دكتاتوريتها وفلسفتها المادية".
وهكذا سار نجيب محفوظ في طريق اليسار وعاش مع هذا التيار الذي ظن أنه يرفع من أسهمه وشهرته، وقد حاول بعد أن سقطت هيبة الشيوعيين في مجال الإعلام والصحافة والسينما أن يتراجع ويتراجع، ولكن بعد أن وصمته هذه الأفكار وقضت على كل محاولة لاستنقاذه. وقد وصفه بعض النقاد بأنه عاش مع صناع الأفكار وابتعاد الروح عن موارد الحق والخير، وأن المطالع لرواياته يزداد اقتناعًا بأن الرجل لا شيء، إذ أنه يمثل الضياع العقائدي كما يمثل الضياع الفكري أو التبعية للاستعمار الثقافي في بلادنا.
وقد تابع نجيب محفوظ دكتاتورية الناصرية، وكان من المؤيدين لها فلما(1/313)
سقطت هاجمها بعنف وحاول تقليد توفيق الحكيم في نقد الماضي الذي كان مشتركًا فيه مستغلاً لخدمته، وأن الباحث في آثار نجيب محفوظ يجد ظاهرتين خطيرتين: الأولى: الجنس، والثانية: الإلحاد.
أولاً: طابع الجنس واضح في معظم روايات نجيب محفوظ، شأنه في ذلك شأن إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، ولكنه عند محفوظ أشد خطورة فهو يجعله نتيجة للفقر، ولا يرى للمرأة إذا جاعت إلا طريقًا واحدًا وهو أن تبيع عرضها، ولا ريب أن هذا الفهم خاطئ من ناحية، ولا يمكن تعميمه على كل الناس، فإن كثيرًا من الناس لا يبيعون أعراضهم ولو ماتوا من الجوع، وهو في هذا الفهم يرسم صورة مادية فردية لا يعرفها المجتمع الإسلامي الكريم القائم على الإيمان بالله، وإنما هي منقولة ومقتبسة ومسروقة من قصص الغرب حيث لا يقيم الناس أي اعتبار للعرض والشرف والكرامة.
ولقد جرى نجيب محفوظ انطلاقًا من مفاهيم المادية والوثنية والإباحية إلى أن يجعل أغلب بطلات قصصه ممن يضغط عليهن الفقر فيلجأن إلى الجنس أي الدعارة المقنعة ونجيب محفوظ في هذا الاتجاه يجري مجرى المتطلعين إلى أن تكون القصة مصدرًا للكسب المادي سواء أكانت قصة مقروءة أم مسرحية أم فيلمًا سينمائيًا فيقول: إن الجنس ظاهرة من ظواهر الحياة مثل الحب والزواج والجريمة والعقيدة. وهي عنده ظاهرة تصلح موضوعًا للعمل الفني وكل ظاهرة عرضة للاستغلال التجاري.
ويدافع نجيب محفوظ عن الجنس في أدب إحسان عبد القدوس ويراه مرتبطًا بمناقشة التقاليد الجامدة وحرية المرأة وانحلال بعض الطبقات.
ولا ريب أن نجيب محفوظ لم يعرف حقيقة المجتمع الإسلامي وأغواره، وأن ما يعرفه عنه إنما يتمثل في بعض النماذج الفاسدة التي اتصل بها، أما جوهره الحقيقي فهو ليس معروفًا له، وشأنه في هذا شأن إحسان(1/314)
عبدالقدوس وكلاهما متأثر بالوسط الضيق الذي عاش فيه، فليس كما يقول
أن المنحرفة يرجع انحرافها إلى أسباب اجتماعية، أو أن المجتمع هو الذي
يؤدي إلى انحرافها.
وليس من شك أن المرأة التي تتخذ من البغاء والدعارة المقنعة وسيلة إلى
الحياة الطيبة هم قلة قليلة، وليس أغلب المنحرفات كان الفقر مصدر انحرافهن
أو سقوط المرأة بسبب الفقر، أو أن سبب الانحراف هو سبب اجتماعي هذا
كله مفهوم ماركسي ومادي، وليس صحيحًا على إطلاقه، وليس صحيحا
بالأولى في المجتمع الإسلامي، ويخطئ نجيب محفوظ حين يقول: أن أوربا
استطاعت حل المشكلة الجنسية بطريقتها الخاصة وهذه الطريقة أن البنت التي
عمرها 16 سنة تلتقي في حرية تامة مع أي شاب حيث لا مشكلة جنسية ولا
مشكلة عفاف ولا بكارة.
وليس هذا الذي يقوله نجيب محفوظ مما يصلح لتطبيقه على مجتمعنا أو
أنه حل حق حقيقي لهذه المشكلة.
والواقع أن كتاب القصة (نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، ويوسف
السباعي ويوسف إدريس وغيرهم) هم أقل الكتاب المعاصرين تجربة في مجال
الدراسات الاجتماعية بل إن آراءهم في هذا المجال تدل على سذاجة شديد
وعلى فقر كبير، فهم مع الأسف لم يقرأوا إلا مجموعة من القصص الغربية
ثم نقلوها- بعد أن انقضى عهد الترجمة- إلى تآليف عربية حيث أبقوا على
القيم والمفاهيم والتقاليد الغربية في كثير من القضايا التي يختلف حلها في
إطار المجتمع الإسلامي وفي ضوء قيمه ومفاهيمه، وهذه المفاهيم التي يقدمها
نجيب محفوظ في قصصه المختلفة، لا تمثل حقيقة هذا المجتمع ولا مشاكله
ولا يقدم حلولآ حقيقية له، ولذلك فإن هؤلاء الكتاب عندما يخرجون من
دائرة القصة إلى دائرة الكتابة الاجتماعية على النحو الذي عرفناه في كتاباتهم(1/315)
" من مفكرة الأهرام " يتكشف قصورهم وعجزهم.
وتمثل كتابات نجيب محفوظ في عبارة جامعة "الضياع" ففي رواياته الشحاذ وثرثرة فوق النيل وميرامار والمرايا يبدو المثقفون وكأنهم كائنات ضائعة هاربة من الواقع في الحشيش أو الجنس، وتبدو كذلك شخصيات أنانية إلى حد المرض، وقد قال: "رواياتي تنبع من ماء الهزيمة الآسن"، وبطولاته أحد اثنين: أناس لا يعيشون وأناس يحيون بفضل الانحراف والجريمة.
وقد اتهمه لويس عوض في محاضرة بإحدى الجامعات الأمريكية أنه باع نفسه للناصريين فكرمه النظام الناصري، وكان الثمن هو تشويه ثورة 1919 وزعيمها سعد زغلول حتى لا تبقى على سطح التاريخ السياسي لمصر في القرن العشرين سوى 23 يوليو. وقال نجيب محفوظ: أنا لم أبع نفسي لأحد ولم يطالبني أحد ذلك.
- سأله أحدهم: أثار الناصريون في الفترة الأخيرة أنك انضممت إلى توفيق الحكيم واليمين في مهاجمة جمال عبد الناصر وعصره ومنجزاته في رواية الكرنك مع أنك نلت في عصر عبد الناصر أعلى جوائز الدولة وأعلى المناصب الرسمية (درجة نائب وزير) وعشت في عصر عبد الناصر دون أن يوجه إليك نقد، فما سر حملتك في روايتك الكرنك؟ قال: الكرنك تدين الإرهاب لا المنجزات، وقد كانت رواياتي كلها نقدًا للعصر، لقد تبين لي أن العهد يبني بيد ويهدم بالأخرى وأنه سلم مؤسساته إلى أناس بلا كفاءة ولا خلق ينغمس قادتها في الترف والثراء، تنكل باهل الرأي من مخالفيها تنكيلاً وحشيًا وتشهر سيف الرعب والإرهاب، تزج بنفسها في مغامرات دون اعتبار لقوتها الحقيقية، وتأتي النتيجة رهيبة فقد هزمنا شر هزيمة في تاريخنا كله وتتركنا بلا آمال ولا كرامة، وهكذا برز نجيب محفوظ تحوله من تأييد عصر كان فيه من أبرز دعاته.(1/316)
ثانيًا: طابع الإلحاد، وهذا الطابع واضح في مختلف كتابات نجيب محفوظ ويرجع إلى إيمانه بالفلسفات المادية وإعجابه بالماركسية واتصاله بسلامة موسى وقصوره وعجزه عن مطالعة الفكر الإسلامي أو الاتصال به، ولقد كان من أسوأ بادرات نجيب محفوظ (التهكم) على الله تبارك وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا حيث يقول:
"فقد أعطانا الله سبحانه أرضًا كثيرة ولكنها فقيرة في غالبها، ثم أين مساحة الأرض التي قسمها الله للعرب من مساحة الأرض التي تملكها روسيا"، وهذا الكلام يدل على قصور نجيب محفوظ حتى في معرفة أبعاد وأعماق المنطقة العربية الزاخرة بالثروات والخيرات والواقعة بين القارات الثلاث والتي تمر منها جميع المواصلات الجوية والبرية والبحرية فضلاً عن مكانتها الجغرافية الضخمة، وحيث هي "الأمة الوسط" التي قامت على كلمة الله الحق والتي كان جندها وسيظل خير أجناد الله، وإليها حماية الدعوة والأرض والعقيدة".
ْ- وأين من موقع الأمة الإسلامية موقع روسيا أو غير روسيا، أليس هذا هو الجهل المركب من المغرورين الذين يتصدرون للزعامات الأدبية.
ويبدو فساد عقيدة نجيب محفوظ ومفاهيمه في الألوهية في قصة "أولاد حارتنا" التي تقوم على السخرية بالأنبياء والرسل ودعوة الله الحق والتي استقبلها المستشرقون ودعاة التغريب بالتقدير والإعجاب وكتبوا عنها البحوث الضافية ورفعوا صاحبها إلى أعلى ذرا العبقرية.
وقد حاول نجيب محفوظ في هذه القصة أن يقول بالرمز كل ما عجز عن قوله صراحة عن مفهوم مادي زائف وعقيدة مضطربة، ونحن لا نستغرب هذا الفهم من نجيب محفوظ الذي هو في الأساس من تلاميذ سلامة موسى الذي دربه على الفكر المادي وأعده ليكون واحدًا من هذه المدرسة التغريبية(1/317)
وغرس فيه مفهوم احتقار الأديان والقيم والاندفاع نحو الفرعونية، ثم الماركسية ثم نحو معارضة كل القيم الأساسية لهذه الأمة في عشرات المواضع من كتاباته وقصصه وفي استعلاء طابع الجنس على رواياته واستهانته بكل القيم والمقدسات وقد احتفلت (أهرام هيكل) برواية أولاد حارتنا وظنوا أنها يمكن أن تمر على الناس بسهولة، فلما اكتشف الناس رموزها وعرفوا أنها تهدف إلى الانتقاص من ذات الله تبارك وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا علت صيحاتهم فأوقفت الرواية، ومنع نشرها ونشرت في بيروت وصفق لها سهيل إدريس ناشرها واحتفل بدراسات عنها، ثم تبين من بعد فساد طريقها وهدفها وأنها حملت حملة شعواء على رسل الله وأنبيائه، وأنها أعلت شأن الفكر المادي على الأديان.
وليست شخصيات القصة رموزًا بل هي تحوير لغوي لا غير لأسماء الأنبياء موسى وعيسى ومحمد، ويقال: أن القصة مشاركة من نجيب محفوظ في ذلك الحوار الواسع الذي جرى على المنابر المصرية بتوجيه من جهات مسئولة لتحديد اختبارات فكرية واضحة، ولعل ذلك في الوقت الذي كانت تجري المحاولة فيه بواسطة مراكز القوى على إقناع منظمات الشباب بقبول العقيدة المادية وإنكار وجود الله واحتقار الأديان فكان نجيب محفوظ أداة طيعة في هذا الاتجاه.
- ويرى الكثيرون أن نجيب محفوظ في قصة "أولاد حارتنا" يفسر التاريخ تفسيرًا يتفق مع مفهوم المادية التاريخية، وأنه يتجاوز الماركسية، ويقول المستشرق فرنيس شيتات: إنه من العسير على الكثيرين أن يفصحوا عن المقصود بالجبلاوي وأنهم حين يتحاشون الخوض في هذه المسألة وجدناهم يتحدثون عن المطلق أو عن الإله.
- ويرى المستشرقون أن جاك جويد هو أول من نبه الغرب إلى "أهمية(1/318)
هذه الرواية عندما قدمها في محاضرة له في أمستدردام، وتبين أن كثيرين من
المستشرقين أولوها اهتمامهم (ساسون سوفيج، وفايكونيس). وتساءل
أحدهم. هل ينكر نجيب محفوظ وجود الله في قوله: أن الميتافيزيقيا تتراجع
أمام الضرورات الأرضية، ويرى الآخرون أن هذا هو أهم مراحل التطور
العلماني في الكتابات العربية الموالية للتغريب وأن هذه القصة مساهمة طيبة
في هذا المجال.
" وقد وُوجه نجيب محفوظ بنقد صريح من الباحثين في مجال القصة
والأدب العربي المعاصر فيقول أحمد محمد عبد الله: إن نجيب محفوظ روائي
مشهور حاز مرتبة فى هذه الناحية، نقل للناس كثيرًا من الخرافات والأكاذيب
وقليلاً من الصدق والوضوح، حتى الوضوح لا تتضح فيه الرؤية تمامًا فعليها
من الغشاوة ما عليها، وقد بحثت عن خيال للفضيلة فيما يسطر فوجدت أن
الحقيقة ترفس رفسًا وأن الفضيلة ما وجدت إلا لينال منها أو يسخر بها،
وعرفت أن الهالة التي تُبنى حول هؤلاء إنما هي من قبيل البروز للكاتب
والمكتوب معه، إن نجيب محفوظ يمثل جزءا من قتامة التفكير في عالمنا العربي
والإسلامي فما كان ينتظر منه وهو الذي نال شهرة واسعة أن يكون قائد
الميدان نحو الانحدار، وما عهدنا رجلاً حمل المشعل وسار به إلا وتقاذفه
السفهاء من كل جانب ليطفئوا مشعله فلربما سقط وحمل المشعل آخرون
والمسيرة باقية، وأما الذي يرفع صوت الشيطان وصورته فنجد سياجًا من
الفوضى والبربرية تحيط به تملأ الدنيا صراخا وتصفيقًا وتصفيرًا.
وقد برز نجيب محفوظ في رواياته بصورة الرجل الشاك في كل قيمه،
المتذبذب في كل فكره، الضائع في كل واد، المتحدي لعقيدة الأمة، والمتجه
ناحية المشارب الأخرى يعب منها حتى يطفح فيفيض ما عليه على غيره
وينتكس بعد ذلك إلى غيره " (1).
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 189 - 196).(1/319)
* قصة "أولاد حارتنا" أو موت الإله:
هذه القصة قد بدأ نشرها مسلسلة في الأهرام سنة 1959 م. وقد ثارت ثورة الأزهر، وبين وجه الافتراء فيها على الإسلام وأبدى الرأي في ذلك صريحًا واضحًا فما كان من رئيس تحرير الأهرام وقتئذ محمد حسنين هيكل إلا أن انبرى لثورة علماء الأزهر على هذا الكتاب وأبدى احتجاجه الشديد اللهجة على رد العلماء، وشجّع الأستاذ نجيب محفوظ على مواصلة نشر القصة، ولم يعبأ بما أبداه علماء الأزهر من غضبة لله تعالى ودفاع عن شرع رسوله الكريم، فاستمر نشر هذه القصة في تلك الظروف القاتمة السواد.
ولم تظهر هذه القصة في كتاب مكتمل في مصر ولكنها صدرت في بيروت عن دار الآداب سنة 1967.
ومما هو معلوم الثبوت أن هذه القصة تُرجمت إلى الإنجليزية وصدرت سنة 1981 عن دار هاينمان وقال المترجم (فيليب استيوارت) في مقدمته وكذلك الناشر على الغلاف أنها أكمل طبعة لهذه الرواية.
- ولا ينسين أحد أن هذه القصة بالذات كانت على رأس الحيثيات التي منحت كاتبها هذه الجائزة (جائزة نوبل)؛ وذلك لأنهم اعتبروها قصة غير عادية وقد صرّحوا بذلك كما جاء في الخطاب الذي ألقاه سكرتير لجنة الجائزة في حفل التسليم باستوكهولم والذي أشار في هذا الخطاب وهو يمدح المؤلف ويطريه مشيرًا إلى ما تضمّنته القصة من (موت الإله) (1).
- وجاء في نص حيثيات منح جائزة نوبل لنجيب محفوظ أنه تأثر بالمفكرين الغربيين مثل ماركس وفرويد وداروين (2).
__________
(1) "كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا" (ص 9 - 10).
(2) المصدر السابق (ص 36 - 37).(1/320)
- إن عملين من أعمال نجيب محفوظ كانا مستند اللجنة نوبل عند اختيارها للأديب عند منحه جائزتها عن عام 1988 وهما "أولاد حارتنا" (1) و"ثرثرة فوق النيل" مع الإشارة إلى الثلاثيات.
- يقول الأستاذ مصطفى عدنان في جريدة النور الصادرة بتاريخ 20 ربيع آخر 1409 هـ (30 نوفمبر 1988): "نحن نؤكد للأستاذ الكبير!! نحبيب محفوظ بعد فحص النص الذي أمامنا لأولاد حارتنا أنه حين كتبه كان يكتبه خدمة للشيوعية، كيف؟
فلقد انتصر للشيوعي الملحد (الذي قتل الله) ولنرجع للحلقة المنشورة في الأهرام يوم 25/ 12/1959 وهي الحلقة الخاتمة للرواية ويتضح منها جليًا الهدف من الرواية وينكشف بلا أية أردية حيث يقول الأستاذ نحبيب محفوظ:
"هذا الشيوعي الملحد الذي قتل الله هو المصلح الأخير للبشرية وهو الأمل الذي سيقود العالم إلى يوم الخلاص".
فعلى طول 96 حلقة و14 فصلاً، انتهى الأستاذ نجيب إلى أن الوصايا العشر (التي أنزلها الله على موسى عليه السلام)، والكلمات التي جاء بها موسى (التوراة) وعيسى (الإنجيل) ومحمد (القرآن) عليهم أفضل الصلاة والسلام أجمعين هي بنص كلماته "أحلامًا ضائعة قد تصلح ألحانًا للرباب لا للمعاملة في هذه الحياة" الفصل 14" (2).
* جاءت لنظرته المعارف حُوَّلا:
لقد كان سلامة موسى ملحدًا وعلمانيًا لا تلين له قناة، وكان من أوائل
__________
(1) انظر "الطريق إلى نوبل" للدكتور محمد يحيى - معتز شكري، انظر إلى (ص 18)، "موت الإله".
(2) "كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا" (ص 343).(1/321)
ما نشوه كتاب بعنوان "نشوء فكرة الله" سنة 1912، وليس إذن من قبيل المصادفة أن يكون من بين أوائل ما كتب التلميذ النجيب المخلص لفكر سلامة موسى والمتأثر به بحث من عدة مقالات عن فكرة (الله) وتطورها. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} " (1).
* فك الرموز:
التعريف بـ "أولاد حارتنا" يبدأ بفك الرموز المستعملة فيها، ثم التنظير بين معانيها الرمزية، والمعاني المقابلة لها في الخارج في مادة الموضوع الذي أدار عليه المؤلف الحديث من طرف خفي، ثم الكشف عن مواضع "الفر" أو "الإحجام" بعد "الكرد" أو "الإقدام" الذي أشرنا إليه من قبل.
* أنواع الرموز:
الرموز التي وظَّفها الكاتب الكبير الأستاذ "محفوظ" ليست نوعًا واحدًا بل جاءت -كما تبين لنا بعد النظر الطويل- على ثلاثة أقسام:
الأول: رموز "أشخاص" أو "شخوص" (2)، مثل أدهم وعرفة.
الثاني: رموز أماكن، مثل "صخرة هند" و"الخلاء".
الثالث: رموز معان، مثل "الوقف"، و"السحر".
- وهذه الرموز على اختلاف أنواعها قسمان:
- رموز شفيفة يمكن فهم معناها بيسر وسهولة.
- رموز كثيفة لا يُفْهم المراد بها إلا بعد فكر طويل، وتأمل عميق.
وبفضل الله وتوفيقه استطعنا فك رموز الرواية بقسميها:
__________
(1) المصدر السابق (ص 35 - 36).
(2) "الأشخاص ما كان لهم وجود في الواقع"، والشخوص ما ليس لها وجود إلا في الخيال.(1/322)
الشفيف والكثيف. والموضوع الذي تحكيه والأهداف المرادة منها، مهما توارت وأُحيطت بهالة من الغموض المتعمد، والتمويه المريب".
- ورموز الرواية على درجتين:
الأولى: رموز أصول أو أقطاب يدور عليها بناء الرواية كلها، أو بناء فصل منها، مثل: الجبلاوي، والبيت الكبير، والوقف. فهذه رموز أصول اعتمد عليها الكاتب الروائي من أول كلمة، إلى آخر كلمة في "أولاد حارتنا".
ومثل: أدهم، جبل، رفاعة، قاسم، عرفة. فهذه رموز أصول -كذلك- لكن كل رمز منها موقوف -بالدرجة الأولى- على الفصل الذي ورد فيه.
الثاني: رموز مساعدة أو "فرعية" تؤدي دورًا ما في نسيج الفصل الذي هي فيه، وذلك مثل "البلقيطي" في فصل "جبل"، و"عبده" في فصل "رفاعة"، و"زكريا" في فصل "قاسم" و"حنش " في فصل "عرفة"، ومثل "همام" في فصل "أدهم" من قبل.
والرموز الأصول حين يُفَك معناها سرعان ما تتساقط طاقات من الضوء على وجوه الرموز "المساعدة" أو "الفرعية"، فيُدْرك معناها تباعًا على طريقة تداعي المعاني كما يقول علماء النفس، لذلك فإن الرموز التي سنركز على فك معانيها، ونقيم عشرات الأدلة على صدق ما فهمناه منها، هي الرموز الأصول" (1).
* جوانيات نجيب محفوظ والدكتور المطعني يرد على محفوظ ويطعنه في مقتل:
كل كلمة في الرواية تدل على أن كاتبنا حين كتب روايته يؤمن إيمانًا
__________
(1) جَوانيات الرموز المستعارة لكبار "أولاد حارتنا" أو نقض التاريخ الديني النبوي للدكتور عبد العظيم المطعني (ص 8 - 9) - مكتبة وهبة.(1/323)
قويًا بالعلم الحديث والثقة المفرطة فيه، مضافا إليه شعبة البحث العقلي التجريبي زاهدًا كل الزهد فيما سواه، وبخاصة المعارف الدينية، والتوجه المنبثق عنها.
* الهدف من وضع "أولاد حارتنا":
"هذا الهدف -باختصار شديد- هو تفشيل دور الدين بوجه عام في حلول مشكلات الحياة، وتحقيق السعادة للناس فيها، وبعد وقوع ذلك التفشيل، من خلال ما ورد في الرواية، يأذن الأستاذ "محفوظ" للعلم الحديث أن يطل برأسه إلى الوجود، ثم ينمو شيئًا فشيئًا حتى يصبح عملاقًا لا يقاوم، وقادرًا لا يعجز، ثم يتمكن من القضاء على الدين متمثلاً في قتل أو موت الجبلاوي -كما سيأتي- ويهز مشاعر أولاد الحارة أو الدنيا، بمخترعاته المذهلة، فينحاز الناس أو أولاد الحارة إلى عرفة وحنش، اللذين يمثلان العلم الحديث، ويفضلونه على الدين عيانًا جهارًا، وينخلعون عن الإطار الديني النبوي في وَضَح النهار؟! " (1).
* حتى لا نُخدع هذه معاني الرموز في "أولاد حارتنا":
م ... الرمز: .................... معناه
1 ... الحارة: ................... الكرة الأرضية أو "الدنيا".
2 ... أولاد الحارة: .............. الإنس والملائكة، والجن.
3 ... الجبلاوي واعتزاله: ........ هو فى الرواية: "الله" سبحانه، واعتزال الجبلاوي: رمز إلى توقف دور الدين؟
4 ... البيت الكبير: .............. الحضرة القدسية (2).
__________
(1) المصدر السابق (ص 13).
(2) تردد رمز "البيت الكبير". بين عدة معان في الرواية منها: الجنة، والوصف الجامع لها هو ما ذكرناه.(1/324)
م ... الرمز: .............................. معناه
5 ... الوقف: ............................ منهج الله في إدارة شئون الحياة.
6 ... الشروط العشر: .................... الوصايا العشر في أواخر سورة " الأنعام ".
7 ... الخلاء: ............................ الغيب أو ما وراء الطبيعة من أسرار.
8 ... أدهم-جبل-رفاعة-قاسم: ......... أسماء أو رموز أربعة رسل سيأتون.
9 ... الحكايات: .......................... التاريخ الديني النبوي.
10 ... المقاهي: .......................... مركز العلم والإعلام.
11 ... شعراء الرباب: .................... الرواة والدعاة الدينيون.
12 ... الفتوات: .......................... المتسلطون وذوو القهر.
13 ... النبابيت: .......................... أدوات القمع والاضطهاد.
14 ... أدهم: ............................. آدم
15 ... أُميمة: ............................ حواء
16 ... همام: ............................. هابيل
17 ... قدري: ............................ قابيل
18 ... إدريس: ........................... إبليس
19 ... رضوان-جليل-عباس: ............ رموز لجماعة الملائكة
20 ... هند: ............................. الغواية الشيطانية
21 ... إدارة الوقف: ..................... الخلافة أو الاستخلاف في الأرض
22 ... هانم: ............................. النور، والنار
23 ... الجارية السوداء: .................. الأرض
24 ... جبل: ............................. موسى عليه السلام
25 ... ناظر الوقف: ...................... فرعون
26 ... هدى هانم: ........................ امرأة فرعون
27 ... زقلط: ............................. هامان
28 ... البلقيطي: .......................... شعيب عليه السلام(1/325)
م ... الرمز: ......................... معناه
29 ... شفيقة: ..................... ابنة شعيب زوجة موسى
30 ... آل حمدان: ................. بنو إسرائيل في مصر قبل موسى عليه السلام
31 ... آل جبل: ................... بنو إسرائيل في مصر في عهد موسى عليه السلام
32 ... صخرة هند: ................ المكان الذي ينزل فيه الوحي على موسى
33 ... دعبس: .................... الإسرائيلي الذي استغاث بموسى مرتين
34 ... رفاعة: ..................... عيسى عليه السلام
35 ... عَبْدَةَ: ...................... مريم -رضي الله عنها-
36 ... شافعي: ..................... يوسف النجار
37 ... صخرة هند: ................ مكان التتويج بالرسالات عند المؤلف
38 ... زكي-حسين-علي-كريم: ... رمز لجماعة الحواريين
39 ... العفاريت: ................... الكفر والمعاصي والشرور
40 ... الدواء: ...................... المواعظ والهداية
41 ... المرضى: ..................... العصاة والكفرة
42 ... قاسم: ....................... محمد - صلى الله عليه وسلم -
43 ... قمر: ........................ خديجة -رضي الله عنه-
44 ... إحسان: .................... فاطمة -رضي الله عنه-
45 ... زكريا: ...................... أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -
46 ... حسن: ...................... علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-
47 ... صادق: ..................... أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-
48 ... بدرية: ...................... عائشة بنت أبي بكر وزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -
49 ... يحيى: ........................ ورقة بن نوفل
50 ... قنديل: ...................... جبريل عليه السلام
51 ... الجرابيع: .................... العرب قبل الإسلام والمسلمون بعد الإسلام
52 ... سوارس: .................... أبو جهل أو أبو لهب عليهما لعنة الله
53 ... عرفة: ....................... رمز العلم الحديث
54 ... حنش: ...................... رمز القوة في العلم الحديث(1/326)
م ... الرمز: ...................... معناه
55 ... قَتْل عرفة الجبلاوي: ...... قضاء العلم الحديث على الدين
56 ... موت الجبلاوي: ........... انتهاء دور الدين في الحياة
57 ... إحياء عرفة "الجبلاوي": .... علو سُلْطان العلم الحديث على الدين
58 ... وصية الجبلاوي لعرفة: ..... استسلام الدين للعلم الحديث
59 ... السِّحْر: .................... العلم الحديث المذهل
60 ... المكتوب مكتوب: .......... جبرية القضاء والقدر
61 ... نهاية واحدة هي الوت: ...... إنكار الحياة الآخرة
62 ... التمساح المحنط: ............. الفكر الديني الذي مصدره الوحي قديم جامد جاف
63 ... الحجرة الخلفية: ............... المعامل والمختبرات العلمية
وبفك هذه الرموز يستطيع المرء أن يدرك مدى شناعة وقبح هذه الرواية وشكر الله الدكتور عبد العظيم المطعني والشيخ عبد الحميد كشك والدكتور محمد يحيى وغيرهم .. وللدكتور المطعني النصيب الوافر والأكبر في حل هذه الرموز.
* تقرير عن رواية "أولاد حارتنا" أو "موت الإِله" التي كانت سببًا لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل:
- يقول الدكتور المطعني:
"بكل موضوعية وصدق وإخلاص نقول:
- إن موضوع هذه الرواية "أولاد حارتنا" يتكوَّن من قسمين اثنين:
الأول: ويبدأ من "افتتاحية" أو مقدمة الرواية، ويستمر حتى الفصل الرابع، أو هو تفصيلاً:
1 - المقدمة.(1/327)
2 - أدهم، أي آدم عليه السلام.
3 - جبل: أي موسى عليه السلام.
4 - رفاعة: أي عيسى عليه السلام.
5 - قاسم: أي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أما القسم الثاني: فهو مكوَّن من فصل واحد هو: عرفة، وقد جعله المؤلف رمزًا للعلم الحديث كما تقدم.
إن مادة القسم الأول شاملاً المقدمة والفصول الأربعة المتقدم ذكرها، هي -بلا جدال- وقائع التاريخ الديني النبوي، ممثلاً في أبي البَشر آدم (أدهم في الرواية) ثم الرُّسُل الثلاثة الكبار:
موسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمرموز لهم في الرواية بـ: جبل، ورفاعة، وقاسم. وقد أقمنا على صحة هذا "الفهم" عشرات الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، والحجج الدامغة التي لا تقبل أدنى نزاع مهما أوتي المدافعون عن الرواية من مهارة في المغالطات، ومن أساليب الخداع والتمويه.
إن "الحارة" رمز للدنيا كلها، وليست "حارة" بالمعنى الضيق المعروف للناس.
إن "أولاد الحارة" هم البَشر جميعًا من لدن آدم عليه السلام إلى العصر الحاضر، وربما دخل فيهم -عند المؤلف- الملائكة والشيطان!
* الجبلاوي:
الجبلاوي في الرواية هو قطب الأقطاب، والمصدر الوحيد للتاريخ الديني النبوي، وهو في الرواية رمز لـ "الله" سبحانه وتعالى" (1).
__________
(1) جوانيات الرموز المستعارة لكبار "أولاد حارتنا" (ص 206 - 207).(1/328)
* الأدلة على أن الجبلاوي في الرواية هو الله سبحانه وتعالى عما يقول الزنادقة عُلُوًّا كبيرا:
الدليل الأول: لغز من الألغاز:
مهد المؤلف برمز آخر هو "جَدنا" مقصود منه "الله" كدْلك. قال المؤلف.
"وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات، كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير .. وقال في حسرة: "هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه .. " (1).
- في هذا النص ثلاثة رموز:
البيت الكبير، وهو مستودع الأسرار الإلهية، أو العرش.
و"جَدُّنا"، وهذا الرمز جاء على تشبيه "الخالق" بوالد الأبناء، فيكون معناه: خالق أبينا آدم.
والثالث: "من صلبه" أي: من خلقه وإيجاده، فليس مراد الكاتب المعاني الحقيقية الظاهرة للألفاظ، بل مراده معاني أُخرى تربطها بالمعاني الحقيقية الظاهرة أنماط من العلاقات، مثل علاقة التشبيه التي أشرنا إليها الآن.
- وبعد هذه الرموز التمهيدية ورد رمز "الجبلاوي" لأول مرة في قول المؤلف:
"وجَدُّنا هذا لغز من الألغاز، عُمِّر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور، حتى ضُرب المثل بطول عمره، واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يره منذ اعتزاله أحد .. على أي حال كان يُدْعَى الجبلاوي، وبامسه سميت
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 5).(1/329)
حارتنا، وهو صاحب أوقافها، وكل قائم فوق أرضها، والأحكار المحيطة بها في الخلاء" (1).
* الاعتزال:
هذا رمز ثان وصف به الكاتب "الجبلاوي" رمز الألوهية "الله"، فقال: إنه اعتزل منذ عهد بعيد، والذي فهمناه من هذا الرمز أن المؤلف يقصد به انقطاع الوحي وتوقف الرسالات السماوية، بعد أن جاء الإسلام حاملاً الكلمة الأخيرة لله في توجيه الإنسانية جمعاء إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة.
أما قوله بعد ذلك:
"فلم يره أحد منذ اعتزاله" فقد رمز به لعدم سماع كلام جديد له بعد توقف الرسالات مشبها السماع بالرؤية في سياق نفي كل منهما.
الدليل الثاني: مالك الملك:
قال المؤلف يصف "الجبلاوي" رمز الألوهية: "الله":
"وهو صاحب أوقافها، وكل قائم فوق أرضها، والأحكار المحيطة بها في الخلاء" (2).
سبق أن استدللنا على أن المراد من الحارة فى "أولاد حارتنا" هي الدنيا أو الوجود بأسره، فإذا قال المؤلف بعد ذلك:
"وهو صاحب أوقافها، وكل قائم فوق أرضها .. " كان معناه: "مالك الملك"، ولن يكون صاحب هذا الوصف إلا الله.
__________
(1) المصدر السابق (ص 5)، بتصرف بالحذف اليسير.
(2) "أولاد حارتنا" (ص 5).(1/330)
الدليل الثالث - كان الله ولم يكن معه غيره:
الله هو الأول بلا بداية، الأول الذي لم يسبق وجوده عدم، هذا المعنى أو هذه المعاني التي يؤمن بها المؤمنون الصحيحو الإيمان السليمو الاعتقاد في الله، أشار إليها مؤلف "أولاد حارتنا"، فقال: "عاش فيها -أي في الحارة- وحده، وهي خلاء" (1).
عبارته هذه تعني أن "الحارة" هي الكون، ولما كان رمز"الجبلاوي" يعني عند المؤلف "الله" كان معنى عبارته أن الله كان والكون خلاء، ليس فيه سواه.
وهكذا تتضح حقيقة "الجبلاوي" في الرواية، طورًا بعد طور ويزيد المسألة وضوحًا هنا، قوله واصفا "الجبلاوي".
"وكان بالضعفاء رحيمًا" (2).
الدليل الرابع - ضلال بعض الطوائف في الاعتقاد:
قال المؤلف: "ثم جاء زمان فتناولته قلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا" (3).
الذي فهمناه من هذه العبارة في وصف "الجبلاوي" ومز الألوهية "الله" عند المؤلف احتمالين:
أحدهما: الإشارة إلى العقائد الوضعية البدائية حول نشأة العقيدة في الله، مثل أديان الهند، والفُرس، واليونان القدماء، وعقائد مصر في عهد
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 5، 6).
(2) المصدر السابق (ص 6).
(3) المصدر السابق (ص 6).(1/331)
الفراعنة قبل عصر الرسالات؛ لأن هذه العقائد كلها لم تصل إلى العقيدة المثلى في الإيمان بالله، وقد تكلم فيه أصحاب هذه النِّحل الوضعية بكلام لا يليق بقدره ومكانته، كما قال المؤلف. وهذا الاحتمال هو الراجح عندنا؛ لأن المؤلف يتحدث هنا عن عصر ما قبل الرسالات.
الثاني: أن يكون مراده الإشارة إلى الطوائف التي حرَّفَتْ حقيقة الرسالات التي جاءتهم بها رُسُلهم، فهم -كأولئك- نسبوا إلى الله ما لا يليق به، كنسبة الصاحبة والولد، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وأيًّا كان مراده فإن هذه العبارة -على قصرها- دليل رابع على أن المراد بالجبلاوي هو الله.
الدليل الخامس - وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إِلا هو:
هكذا وصف الله نفسه:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26].
وهذه هي عقيدة المؤمنين: لا يَعْلمُ الغيبَ إلا الله.
قارن هذا الوصف بما جاء في قول المؤلف يصف "الجبلاوي":
"أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق، وأن نعيش نحن في التراب" (1).
إذا أحسنت المقارنة والفهم تبيَّن لك في الحال أنها عبارة تشير إلى استئثار الله بعلم الغيب، يدلك على هذا وصف البيت الكبير -بيت الجبلاوي- بأنه مغلق، وموظفًا هذا الرمز "مغلق" في الدلالة على الحيلولة بين الخلق وبين ما
__________
(1) المصدر السابق (ص 6).(1/332)
هو كائن في علم الله، كما قال عيسى بن مريم عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
أليس هذا دليلاً من أقوى الأدلة على أن "الجبلاوي" في "أولاد حارتنا" المراد به عند المؤلف هو "الله" سبحانه.
الدليل السادس - الرسل أعلم الناس بالله:
أي نزاع ينشأ حول أُصول الدين أو فروعه، فالفزع فيه إلى رُسُلِ الله، وما أنزل إليهم من ربهم، مصداق ذلك قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
احتفظ بهذه الحقيقة في ذهنك، ثم اقرأ ما قاله المؤلف في هذه الفقرة: "وإذا تساءلت عما صار به -يعني الجبلاوي- وبنا إلى هذه الحال، سمعت من فورك القصصي -أي الديني النبوي- وترددت على أُذنيك أسماء: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم. ولن تظفر بما يبل الصدر -لعله الصدى- أو يريح العقل؟! " (1).
يقرر الكاتب -هنا- ما أشرنا إليه من فزع الناس إلى ما جاء به الرُّسُل إذا شب بينهم نزاع حول مسألة من أُصول الدين أو فروعه، تضمن هذا قوله الذي نقلناه من سماع القصص أو ذكر ما جاء به الرُّسُل الذين رمز إليهم بـ "أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم: أي آدم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذه الرموز الأربعة تعني الرُّسُل الأربعة، المذكورين.
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 6) وقوله: الصدر خطأ مطبعي. وصوابه ما وضعناه بين الشرطتين وهذا الكلام يدل على ريب المؤلف وشكه في قيمة الوحي وغناؤه ويدل على رقة دينه.(1/333)
الدليل السابع - اللجوء إِلى الله في الشدائد:
من الأمور المركوزة في الطبع، المتأصلة في الفِطرة الإنسانية الفزع إلى الله واللياذ به، واللجوء إليه في الشدائد والمحن حتى غير المؤمنين بالله إذا أفزعهم خطر، نسوا كفرهم وجاروا إلى الله ليكشف كربهم، ويزيح غمتهم هاتفين بلسان حالهم ومقالهم: يا رب.
مصداق هذا قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
ومؤلف "أولاد حارتنا" يدرك أن مفزع الناس في الكوارث والمحن إنما هو الله، ترى ذلك واضحًا في قوله:
"وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات -يعني القصص الديني النبوي- كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم، أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير .. وقال في حسرة:
"هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه!! (1)، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع؟ وكيف نُضام؟ " (2).
وقال: "ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير، ونقول في حزن وحسرة: "هنا يقيم الجبلاوي، صاحب الأوقاف، هو الجد، ونحن الأحفاد" (3).
أفليس في كلام المؤلف -هنا- في الموضعين أوصاف لا يوصف بها إلا الله قيوم السموات والأرض، وليس الجبلاوي الذي لا وجود له إلا في
__________
(1) لعله رمز إلى "من خلقه" لا صلبه حقيقة.
(2) "أولاد حارتنا" (ص 5).
(3) "أولاد حارتنا" (ص 7).(1/334)
خيال المؤلف؟
أما قوله: "هو الجد، ونحن الأحفاد"، فهذا لا يليق بـ: "الجبلاوي" باعتباره رمز الألوهية "الله".
ولهذا القول -عندنا- محملان:
أولهما: أنه من الفر بعد الكر، أو الإحجام بعد الإقدام، ذكره المؤلف للتمويه والتشويش على القُراء.
وثانيهما: أن يكون رمزًا مبنيًا على التشبيه، بأن جعل خالق الأب الأول -آدم- كأبي الأب، ولا غرابة في ذلك؛ لأن التعبير الرمزي في الرواية، لا يكاد يخلو منه سطر من سطورها فضلاً عن صفحاتها.
الدليل الثامن - خالق الكون:
عرفنا -قبلاً- أن الأستاذ نجيب محفوظ رمز بالحارة إلى الوجود الكوني كله، يؤكد هذا ما حكاه في الرواية من البداية إلى النهاية، فضلاً عن الأدلة التى ذكرناها من قبل.
إذا تقرر هذا فتأمل قوله في وصف "الجبلاوي" رمز الألوهية في الرواية: "هو أصل حارتنا" (1).
وما عليك إلا أن تفك الرمز "أصل"، وتقف على المعنى المتواري خلفه، وهو "خالق حارتنا" أي خالق دنيانا، ثم تضم هذا الدليل إلى الأدلة التي ذكرناها قبله، فيصبح لديك ثمانية أدلة في المقدمة وحدها على أن المراد من الجبلاوي في "أولاد حارتنا" هو الله.
الدليل التاسع - عجز الفكر عن الإدراك:
قلنا من قبل: إن الله تعالى يُعْرَف بآثاره وآلائه وآياته فى الكون ومن
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 5).(1/335)
فيه وما فيه.
فتعال: اسمع ماذا قال عن "الجبلاوي" رمز الأُلوهية (الله): "كنت -وما زلت- أجد الحديث عنه شائقًا لا يُمَل، وكم دفعني ذلك إلى. الطواف ببيته الكبير لعلي أفوز بنظرة، ولكن دون جدوى" (1).
لقد رمز المؤلف بالطواف عن "التفكر" في ذات الله المجيد وفي صفاته المقدَّسة، راجيًا أن يقف على حقيقتها أو بعض حقيقتها، ولكن عاد بخفي حنين لا بحنين نفسه، حيث تجاوز المتاح اليسير، وهو معرفة الله بآياته في الكون والنفوس - إلى غير المتاح العسير، وهو الإحاطة بحقيقة الذات العلية!!
الدليل العاشر - غيب ما وراء الطبيعة:
ما وراء الطبيعة اصطلاح فلسفي يراد به العالم المعنوي، مما لا يدرك بأي حاسة من الحواس الخمس، ويقابله العالم الحسي المادي، وهو ما له وجود يدرك بالحواس الخمس، ويشغل حيزًا من الفراغ، سواء كان حيوانًا، أو نباتًا، أو جمادًا.
ومن لطف الله بعباده أن جعل ما وراء الطبيعة من اختصاص الوحي الأمين، وما صح من كلام الرُّسُل المكرمين.
والأستاذ نجيب محفوظ في الفترة التي نقلناها عنه من قبل اعترف أن تجاربه الفكرية حول معرفة ما وراء الحس قد فشلت وعجزت عن الوصول إلى أي شيء!!
- ثم عاد فكرر الإشارة إلى هذا العجز حين قال:
"وكم وقفت أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنَّط المركب أعلاه!!
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 5).(1/336)
وكم جلست في صحراء المقطم غير بعيد من سوره الكبير، فلا أرى إلا رءوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تنم عن أثر الحياة!! " (1).
- قال الدكتور المطعني في كتابه القيم (ص 23):
وأقسم برب السموات والأرض، وعالم الغيب والشهادة لو أن مسلمًا أقسم بالله أن الكاتب لم يقصد من "الجبلاوي" إلا الله ما حنث في يمينه، ولكان صادقًا كل الصدق.
أو أن آخر أقسم بالطلاق على هذا الفهم لما حرمت عليه قرينته.
أما أولئك الزاعمون بأن "الجبلاوي" في "أولاد حارتنا" ليس المقصود منه الله، فلا يخلو حالهم من الاحتمالات الآتية:
- إما أنهم لم يقرأوا الرواية فراحوا يشهدون بما لا علم لهم به!!
- وإما أنهم قرأوا ولم يفهموا.
- وإما أنهم قرأوا وفهموا، ثم عاندوا وكابروا، وراحوا يشهدون شهادة زور، ويصرون على الحنث العظيم، ويحسبونه هينًا، وهو عند الله عظيم.
وها نحن أولاء أمام هذه المكابرة، وذلك العناد نستخرج من كلام المؤلف عشرات الأدلة التي تكشف زيفهم، وتعري مواقفهم وتسحق زورهم وبهتانهم، وترد كيدهم في نحورهم، وتظهرهم غلى حقيقتهم أمام القُراء
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 6).
ونلفت نظر القارئ إلى أن قوله: "وكم جلست في صحراء المقطم .. إلخ عبارات تمويه من باب الفر بعد الكر الذي يلجأ إليه المؤلف كثيرًا ليشوش على القراء ويصرفهم عن مراده.(1/337)
مهما كانت مواقعهم وانتماءاتُهم.
- يقول الدكتور المطعني:
"وقد ذكرنا -فيما تقدم- الأدلة "القطعية" على أن الجبلاوي في الرواية هو " الله " سبحانه وتعالى، ونريد هنا أن نرد -في إيجاز واف- على من أنكر هذا " الفهم " الذي فهمه بعض نقاد الرواية. وقد جاءت دراستنا هذه مناصرة لما فهموه مع إثباته بالبراهين القاطعة كما تقدم في غضون هذه الدراسة.
* شبهتان للمنكرين:
الذين أنكروا أن يكون "الجبلاوي" في الرواية هو "الله " استندوا إلى شبهتين حسبوهما دليلين، وما هما بدليلين قط:
الشبهة الأولى:
أن اسم الله قد ورد مصرحًا به في الرواية في بعض المواضع، حتى في الحديث مع " الجبلاوي " نفسه، ومن ذلك - مثلاً قول جبل للجبلاوي:
"الحمد لرب السموات على أنك ما زلت تتمتع بصحتك" (1).
ومثل قول جبل: "ألا لعنة الله على الجبناء" (2).
قلت: ليس في هذه الأقوال -وما أشبهها- دليل قط على أن "الجبلاوي" في الرواية ليس هو "الله"؛ لأن المؤلف -كعادته- في التمويه يتحدث عن "الله" باسمه الصريح حينًا، وبالرمز أحيانًا أخرى.
وهذه الشبهة كانت "تفيد" في الدفاع لو كانت التهمة الموجهة إلى المؤلف هي "إنكار وجود الله"!! لكن هذه التهمة ليس لها وجود لدينا، وإنما
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 178).
(2) المصدر السابق (ص 187).(1/338)
التهمة هي أن المؤلف يتحدث عن "الله" الذي يؤمن به حديثًا لا يليق بجلاله ووحدانيته ومخالفته للحوادث.
الشبهة الثانية:
أما الشبهة الثانية التي استند إليها هؤلاء " المنكرون "، فهي ما أورده المؤلف على لسان إدريس (أي: إبليس) بعد أن طرده "الجبلاوي" (أي الله) من البيت الكبير - أي من الجنة:
"ما أهون الأبوَة عليك!! خُلِقْتَ جَبَّارًا فتوَة"!! (1).
وجه الاستدلال عندهم أن الجبلاوي -هنا- وُصِف بأنه مخلوق، والله ليس مخلوقًا.
هذا الدفاع مع صحته في نفسه فليس فيه دليل على أن " الجبلاوي " في الرواية ليس هو " الله "، وذلك لسببين:
الأول: ليس وصف " الجبلاوي " في الرواية بأنه مخلوق هو الوصف الوحيد الذي لا يليق بـ " الله "، فالجبلاوي في الرواية له صاحبة وولد، ويأكل ويشرب، ويرتاح وينام، ويتقدم به العمر، وله خدم وغرفة نوم، ويموت أو يُقْتل!! فلماذا يتمسك المنكرون بوصف "المخلوقية" وَيَدعُون ما عداه من الأوصاف "البشرية"؟!
أما السبب الثاني، فإن المؤلف لم يُعبر عن معنى واحد من معانيه "الجُوَانية" إلا بالرموز، وهذا ينطبق على قوله: "خُلقْتَ" وصفًا لـ "الجبلاوي" رمز الألوهية (الله) في الرواية. فليس ببعيد أن يَكون المؤلف قد أراد من "خُلقْتَ" معنى رمزيًا هو: "الوجود المطلق"، وليس الخلق بمعنى الإيجاد من العدَم، المقتضي لوجود خالق غير الله!!
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 15).(1/339)
وبهذا يتضح لنا وللقراء ضعف مستند "المنكرين" في الدفاع عن الأستاذ نجيب محفوظ وأولاد حارته.
ولدينا رد آخر يشمل الشبهتين معًا، وهو أن هذا كله إنما ذكره المؤلف بقصد التمويه على "القُراء" ليبعد عن نفسه التهمة التي أشرنا إليها من قبل، وهي نقده أو نقضه للتاريخ الديني النبوي، ووصفه بـ "الفشل" في الريادة والإصلاح تمهيدًا للإطاحة به -دفعة واحدة- ثم إحلال العلم الحديث "محله"!!.
* دفاع مضحك:
وقد قرأت -مؤخرًا- دفاعًا من نوع جديد لصاحب منصب "أدبي رفيع" ورئيس أضخم مؤسسة في مصر تقوم على نشر المعرفة تأليفًا، وترجمة، وهي من مؤسسات الدولة الرسمية.
صاحب هذا المنصب يُنْكِر أن يكون "الجبلاوي" في الرواية هو "الله".
أما دليل إنكاره فأعجب من العجب، وخلاصته هي:
"الجبلاوي " ليس هو الله في الرواية؛ لأنه -يعني "الجبلاوي " دائمًا يُقسمُ بالله، فكيف يكون هو الله، وهو- دائما يقسم بالله؟!
هذه خلاصة أمينة لما قاله هذا "الرئيس"!! قرأت هذا الكلام فأضحكني من الأعماق، ثم قلت:
وما المانع -يا حضرة الرئيس- فالله نفسه قد أقسم بنفسه وبصفاته، وببعض مخلوقاته، وجاء ذلك كله في كتاب الله العزيز:
أقسم بنفسه فقال: {تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56].
وقال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23].
وقال: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1، 2].(1/340)
وقال في الإقسام ببعض مخلوقاته -وما أكثر إقسامه بها-: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1، 2].
فهل يُسْتَدل -على طريقتك- بأن الله في القرآن هو ليس الله؟! لأنه أقسم بنفسه يا حضرة الرئيس؟!
فلو فُرِضَ أن "الجبلاوي" في الرواية يُقْسم بالله -دائمًا- كما زعمت فليس في ذلك دليل على أن "الجبلاوي" في الرواية لم يرمز به "صديقك" إلى الله!!
* ولكنه لم يُقْسم:
جارينا "حضرة الرئيس" جدلاً على أن "الجبلاوي" في الرواية يُقسم بالله -دائمًا- جاريناه لنُبطلَ استدلاله على أن الجبلاوي في الرواية ليس هو "الله" وها نحن قد أبطلنا هذا الاستدلال كما رأيت.
بيد أن الواقع أن "الجبلاوي" لم يقسم بالله ولا حتى مرة واحدة، ولا نصف مرة إن صح هذا التعبير. فالرواية على طولها الطويل (522 صفحة من القطع الكبير) تخلو تمامًا من إقسام "الجبلاوي" بالله، بل وبغير الله.
اللهُم إلا مرة واحدة أقسم فيها "الجبلاوي"، ولكن بالطلاق وليس بالله؟!
فقد ذكر المؤلف عبارة أسندها إلى الجبلاوي صدرت منه -كما زعمت الرواية- في حالة غضب، بعد طرد إدريس (أي إبليس) من البيت الكبير، وحذر أهل البيت من السماح بدخول إدريس فيه. قال المؤلف على لسان الجبلاوي:
" الهلاك لمن يسمح له بالعودة، أو يعينه عليها، ورفع رأسه -يعني الجبلاوي- صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرة أُخرى:(1/341)
" وطالقة ثلاثًا من تجترئ على هذا .. " (1).
هذا هو القسم الوحيد للجبلاوي في رواية "أولاد الحارة"!!
فهل هذا قسم بالله؟ ولو فرضنا جدلا أنه قسم بالله، فأين الاستمرار والدوام الذي عبَّر عنه "حضرة الريس" بأن الجبلاوي يقسم بالله دائمًا؟!
وأكاد أقسم بالله بارًا غير آثم أن "حضرة الريس" لم يقرأ رواية: "أولاد حارتنا" قط، ولو كان قرأها لما ورَّط نفسه في هذه الورطة "البلقاء"، ويبدو لي أن كل المدافعين أو جُلهم من هذا القبيل؟!
* إِمَّا هذا، وإِمَّا ذاك:
وهل درى هؤلاء المدافعون عن الرواية، الذاهبون إلى أن "الجبلاوي" في الرواية ليس رمزًا للأُلوهية " الله "، هل دَرَوْا بأن دفاعهم هذا يُورط "المؤلف" في عقيدة الإشراك بالله -سبحانه- وأنَّه -أي المؤلف- يدعو مع الله إلهًا آخر ليس له به علم، وما أنزل الله به من سُلطان؟!
* بيان ذلك:
فقد ثبت في هذه الدراسة على وجه " اليقين " أن أدهم هو آدم، وأن "جبل" هو موسى، وأن "رفاعة" هو عيسى، وأن "قاسم" هو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا صحَّ أن "الجبلاوي" في الرواية ليس رمزًا لـ "الله"، فيلزم من ذلك وجود إله آخر اسمه " الجبلاوي " مع الله الواحد الأحد قيوم السموات والأرض؟!
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 16).(1/342)
ويلزم أن هذا الإِله الوهمي هو الذي:
- أخرج آدم وزوجه من الجنة!!
- وطرد إبليس ولعنه!!
- وأرسل موسى وعيسى ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم -!!
- ثم هو الذي أنزل التوراة والإنجيل والقرآن!!
فما هو رأي هؤلاء القائلين بأن "الجبلاوي" في الرواية ليس هو "الله" بعد هذا البيان؟!
- إنهم -لا محالة- مُلْزَمون بواحد من أمرين كلاهما شديد المرارة:
- فإما أن يُقروا بأن "الجبلاوي" هو "الله" في الرواية، فيلزمهم أن يوافقونا على أن الرواية أساءت -كل الإساءة- إلى الذات العلية، وإلى الرسل الكرام، وسخرت سخرية لاذعة بالتاريخ الديني النبوي!!
- وإما أن يتمسكوا -جدلاً- بأن "الجبلاوي" ليس هو "الله" في الرواية، فيلزمهم أن ينسبوا "المؤلف" إلى عقيدة الشرك والعياذ بالله!!
أمران شديدا المرارة، وخيما العاقبة، فإما هذا، وإما ذاك، ولا ثالث لهما!! فاين المفر يا حضرات المدافعين؟
ثم ما رأيكم:
ثم ما رأيكم أيها السادة القائلون بأن "الجبلاوي" في الرواية ليس هو "الله":
ْأنصدقكم أم نصدِّق المؤلف نفسه؟ أعتقد أن تصديق المؤلف هو المتعين هنا؛ لأنه كاتب "النص الروائي" لا أنتم.
فقد تخيل المؤلف أن حديثًا دار بين "عرفة" وزوجته "عواطف"، فقالت(1/343)
"عواطف" هانم لزوجها "عرفة" وهي تتحدث عن "الجبلاوي" بوصف "جَدنا":
"جَدُّنا من دنيا، ونحن من دنيا أُخرى" (1).
أليست هذه العبارة دليلاً قاطعًا على أن "الجبلاوي" مُغَاير مغايرة تامة لأبناء الحارة -أي أهل الدنيا- جميعًا، فمن يكون هذا "الجبلاوي" إن لم يُرد به المؤلف "الله"؟!
نحن وأنتم نعلم أن هذا الكلام هو كلام المؤلف نفسه، سواء أسنده إلى عواطف أو إلى غير عواطف من "شخوص" روايته، ونعود مرة أُخرى فنسألكم: أنصدقكم أم نصدق المؤلف؟!
وليست هذه العبارة هي وحدها التي فلتت من "جُوَّانيات" المؤلف، فكانت وصفًا صريحًا لائقًا بـ "الجبلاوي" المرموز به لـ "الله".
فقد سبق أن قال المؤلف على لسان جبل في وصف " الجبلاوي ": "ليس كمثله أحد من أولاد حارتنا، ولا من الناس جميعًا"!!
وقد ذكرنا هذه العبارة من قبل، ونظَّرْنا بينها وبين قول الله تعالى واصفًا ذاته العلية:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فهل -بعد هذا- يقال، أو يُصَدَّقَ إذا قيل: إن الجبلاوي في الرواية ليس هو "الله"؟
وإذا ثبت يقينًا أن الجبلاوي في الرواية هو "الله" وها هو ذا قد ثبت -فإنه يثبت- يقينًا - كذلك أن:
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 497).(1/344)
- "أدهم" هو آدم عليه السلام.
- وأن "جبل" هو موسى عليه السلام.
- وأن "رفاعة" هو عيسى عليه السلام.
- وأن "قاسم" هو محمد - صلى الله عليه وسلم -.
- وأن "الحارة" هي الدنيا بأسرها.
- وأن أولاد الحارة هم الخلق من الإنس والجن، بل والملائكة.
ويثبت تبعا لهذا كله:
أن موضوع رواية "أولاد حارتنا":
المقدمة والفصول الأربعة:
أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم هو:
وقائع التاريخ الديني النبوي.
وأن الرواية قدَمت هذا التاريخ "المقدس" في إطار رمزي مغلف، وجعلته هدفًا للنقد الساخط أو " النقض " تمهيدًا للإطاحة به، وإحلال العلم الحديث محله في الريادة والتوجيه!!
* ملاحظاتنا على القسم الأول:
ولنا عدة ملاحظات على القسم الأول نسجلها فيما يأتي في إيجاز:
الملاحظة الأولى: تحريف الوقائع:
عرض المؤلف وقائع التاريخ الديني النبوي في الفصول الأربعة الأولى: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم عرضا محرَّفًا مزوَّرًا:
ففي فصل "أدهم" -آدم عليه السلام- حرَّف كثيرًا من الوقائع، حيث جعل خطيئة آدم -مثلاً- هي محاولة الاطلاع على "كتاب الحجة" بدلاً من(1/345)
الأكل من الشجرة، وجعل معصية إدريس -أي إبليس- اعتراضه على إسناد إدارة الوقف إلى آدم، بدلاً من امتناع إبليس عن السجود لآدم حين أمره الله به!!
وفي فصل "جبل" -أي موسى عليه السلام- جَعل التقاط آل فرعون لموسى من حفرة بدلاً من اليم، وجعل البئر التي سقى موسى أغنام ابنتي شعيب منها، جعلها صنبورًا أو حنفية مياه، وجعل "شعيب" هو الذي جاء إلى موسى بدلا من ذهاب موسى إليه!!
وفي فصل "رفاعة" جعل الحواري الخائن الذي أرشد اليهود على المكان الذي اختفى فيه عيسى عليه السلام امرأة كان عيسى قد تزوجها، وهى جاسوس عليه.
وجعل لعيسى أبًا هو "شافعي"، وعيسى عليه السلام ليس له أب.
أما في فصل "قاسم" -أي محمد (صلى الله عليه وسلم) - فقد كثر التحريف والتزوير. من ذلك الافتراء الصارخ على السيرة النبوية الطاهرة، حيث زعم أن "قاسم" كان بيَّاع بطاطة، وأنه ضُبط متلبسًا باختلاس ثمار الجوافة من حديقة يملكها آخرون، وأنه جرى في الشارع عريان والأطفال يتضاحكون حوله.
وأنه كان تلميذًا لورقة بن نوفل، وكان يناديه بـ "يا معلمي"!!، وأن خديجة تشككت كثيرًا في أمر الرسالة .. إلخ .. إلخ.
- وسبب هذا التحريف أمران فيما قدرنا:
أحدهما: حرص المؤلف على الاستفادة من وقائع التاريخ الديني النبوي في "رسم شخصيات الرواية"، وهذا أمر ظاهر جدًا في القسم الأول من الرواية.
أرجح الأقوال أن الرجل الصالح ليس هو نبي الله شعيب.(1/346)
والثاني: حرص المؤلف الشديد على إخفاء "جوانياته"، وعدم ظهورها للقُراء؛ لأن الرواية -كما عرفنا من قبل- أخضعت التاريخ الديني النبوي -وهو مقدس- للنقد والنقض معًا، وهذا أمر -لو ظهر- لقابله النَّاس بالاستنكار والاستياء، بل وبالغضب والسخط.
لذلك لجأ المؤلف إلى التعببر الرمزي أولاً ثم إلى تحريف الوقائع ثانيًا، ودار التحريف في الرواية على ثلاثة محاور:
الأول: استبدال الواقعة بأُخرى شبيهة بها من بعض الوجوه، ومختلفة في الوجوه الأخرى.
الثاني: بتر جزء أو أجزاء من الواقعة المراد الاستفادة منها في رسم شخصيات الرواية.
الثالث: زيادة جزء أو أجزاء مضافة إلى الواقعة، أو يأتي بحشو مُتَعمَّد قصدًا للتمويه على القارئ.
وقد مرَّت في غضون هذه الدراسة أمثلة عديدة لكل محور من هذه المحاور.
والاعتذار عن المؤلف بأنه يكتب فنًّا لا تاريخًا مرفوض مرفوض كما تقدم توضيح ذلك.
الملاحظة الثانية: الإِساءة إِلى الذات العلية:
لم توجه رواية "أولاد حارتنا" كمًّا هائلاً من الإساءة مثلما وجهت إلى "الجبلاوي" رمز الأُلوهية (الله)، وجاءت هذه الإساءات على لساني كل من إدريس الذي هو " إبليس " في الرواية، ثم قدري الذي هو "قابيل" أحد ابني آدم، وقاتل "هابيل" أخيه وهو "همام" في الرواية.
هذا بالإضافة إلى الأوصاف البشرية التي وُصفَ بها "الجبلاوي" في(1/347)
الرواية كلها من التزاوج والإنجاب والاحتياج إلى "غيره" والأكل والشرب والراحة والنوم والشيخوخة، والاعتزال، ثم القتل والموت!! وكل هذه افتراءات تكاد السموات تتفطر منها وتنشق الأرض، وتخر الجبال هَدا.
* نماذج من سباب إِدريس:
إِدريس لأدهم:
- "اخرس يا كلب يا ابن الكلب"!! (1).
- "طغيان أبيك أنطقني بالحق"!! (2).
- "طردني أبوك بدون حياء؛ فليتحمل العواقب"!! (3).
* إِدريس يخاطب الجبلاوي:
"وتقبع أنت وحيدًا في بيتك، تبدل وتغير في كتابك كيف شاء لك الغضب والفشل!! وتعاني وحدة الشيخوخة في الظلام حتى إذا جاء الأجل فلن تجد عينًا تبكيك"!! (4).
وحسبنا هذا القدر من بذاءات إدريس وإساءاته الموجهة إلى الجبلاوي، ذكرناها على سبيل التمثيل لا الحصر.
* نماذج من سباب قدري:
قدري لهمام:
" أؤكد لك أن جدنا -يعني الجبلاوي- شخص شاذ لا يستحق
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 22) مع ملاحظة أن الرواية تصف أدهم وإديس بأنهما ولدا الجبلاوي!!
(2، 3) "أولاد حارتنا" (ص 23).
(4) "أولاد حارتنا" (ص 51).(1/348)
الاحترام، ولو كان به ذرة من خير لما جفا لحمه هذا الجفاء الغريب!! إني أراه كما يراه عمنا -يعني إدريس- لعنة من لعنات الدهر .. لقد نال هذه الأرض هبة بلا عناء، ثم طغى واستكبر"!! (1).
قدري لأدهم:
"هذا الرجل -أي الجبلاوي- أسوأ من ابنه إدريس"!! (2) - يعني إبليس.
قدري لهمام:
"هل وعدك البلطجي الأكبر -يعني الجبلاوي- بالحماية"؟ (3).
وحسبنا .. كذلك - هذا القدر من بذاءات قدري الموجهة إلى الجبلاوي، وما أكثرها، وعلم الله أننا مكرهون على نقل هذه "الكفريات" لأننا نريد أن نقنع القارئ الذي لم تتح له فرصة قراءة الرواية "أولاد حارتنا" بالحكم الذي سنراه مناسبًا لهذه الرواية المشئومة.
وفي ختام هذه الملاحظة نقول:
إن رواية "أولاد حارتنا" كان ينبغي عليها أن ترعى حرمة الجبلاوي هذا ما دامت قد رمزت به إلى "الله"، وهي مسئولة عن كل كلمة وردت فيها، سواء أسندتها إلى "شخوصها" أو "أشخاصها"، وهم جميعًا -الشخوص والأشخاص- أبرياء مما أسندته الرواية إليهم، أبرياء أمام الله، وأبرياء أمام الناس؛ لأنهم لم يقولوا حرفًا واحدًا مما نُسِبَ إليهم، ويعلم الله، وتشهد ملائكته وصالحو المؤمنين أن إبليس نفسه -فيما حكاه عنه القرآن- كان أكثر
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 71).
(2) "أولاد حارتنا" (ص 92).
(3) "أولاد حارتنا" (ص 94).(1/349)
أدبًا مع الله من رواية "أولاد حارتنا"، وأعرف بجلال الله وعظمته من هذه الرواية الطائشة الرعناء!!
* الملاحظة الثالثة: الإِساءة إِلى رسول الإِسلام - صلى الله عليه وسلم -:
تحدثت الرواية بعد حديثها عن آدم عن ثلاثة من الرُّسُل الكبار: موسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وحديثها عن الرسولين الأولين موسى وعيسى عليهما السلام كان معتدلا نوعًا مَّا، فلم يرد فيه ما يسيء إساءة جارحة لأيٍّ منهما.
- أما حديثها عن محمد رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء مليئًا بالإساءة والتجريح إلى حد الافتراء في بعض الأحيان، فقد نسبت إليه الرواية اختلاس ثمار الجوافة، والجري في الطريق العام وهو عارٍ تمامًا من ملابسه مع تضاحك الأطفال عليه!!
وهذا افتراء محض وكذب صارخ على من أرسله الله رحمة للعالمين، وصانه من "العبث" في جميع مراحل عمره المبارك قبل البعثة وبعدها.
- ثم جعلته الرواية "بياع بطاطة" ينادي على بضاعته ويقول وهو "يزق" عربة يد "كارو":
"بطاطة العمدة .. بطاطة الفرن"!!
وهذا كذلك افتراء خالص، وليس له سند من الواقع ولا من الوهم!!
- وجعلته الرواية مُغْرمًا بمعاكسة الفتيات يترصدهن في الطريق العام قبيل الغروب!!
- وجعلته الرواية كسولاً لا يحب العمل، ويخلد إلى الراحة والدعة حتى أكرهته السيد خديجة على العمل في إدارة أملاكها!!
- ثم أجلسته الرواية على "المقاهي" وسقته الـ ... على الجوزة!!(1/350)
- ووصفت الرواية حفل زفافه إلى "خديجة" وصفًا مزريًا للغاية، كانت الخمور تجري فيه أنهارًا، وكل المدعوين كانوا سكارى ومساطيل؟!
- وجعلت الرواية محمدًا وخديجة يسيران في ليلة زفافهما خلف راقصة تتمايل وتهتز وكأنها تلقي عليهما الدرس الأخير في العلاقات الـ .. ؟
- وعيرته الرواية -مرات- بأنه راعي غنم لليهود والنصارى وغيرهم؟!
- لم ترع الرواية حرمة خاتم النبيين الذي وصفه رب العالمين بأنه سراج منير، وعلى خلق عظيم، ورحمة للناس كافة:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
هكذا صنعت الرواية مع خير خلق الله، وهي تعلم عمَّن تتحدث جلالاً وعظمة، وهيبة ووقارًا؟!
* الملاحظة الرابعة - الحط من قَدر العرب والمسملمين؟!
وعندما تحدثت الرواية عن آل حمدان أو آل جبل، وهما رمزان لليهود قبل موسى عليه السلام وبعده، وعندما تحدثت الرواية عن آل رفاعة، وهم رمز للنصارى، عندما تحدثت الرواية عن هاتين الطائفتين، تحدثت عنهما بكل تقدير واحترام، ولكن عندما تحدثت عن العرب قبل الإسلام، ثم عن المسلمين بعد الإسلام رمتهم بكل نقيصة، فهم أتعس أولاد الحارة -أي الدنيا- وهم الجرابيع الحفاة العراة الذين لا أصل لهم ولا صفة -أي كريمة- وحياتهم لا تعلو كثيرًا عن حياة الكلاب والقطط والذباب؟! يلتمسون رزقهم في النفايات وأكوام القمامة؟!
هكذا ورب السموات والأرض وصفت الرواية العرب والمسلمين،(1/351)
العرب الذين اختار الله رسوله الخاتم منهم، وأنزل كتابه المعجز بلغتهم، وشرفهم بجعلهم أول من يتلقى رسالته الخاتمة، ثم يبلغونها للناس في مشارق الأرض ومغاربها.
والمسلمون الذين وصفهم الله بأنهم " خَيْرُ أُمَّة أُخْرِجَتْ للناسِ " هم في رواية "أولاد حارتنا" أحط الناس قدرًا، منزلتهمَ منزلة الكَلاب والقطط والذباب؟!
أليس هذا مما يجعل الحليم حيران، ويدعو إلى سوء الظن في الرواية ومؤلفها والمدافعين عنها إلى آخر شوط، وإلى أبعد مدى؟!
أليس في هذا "الصنع" محاولة سافرة لمصادرة قول الحق:
"الله أعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالتَهُ .. "؟!
ليتنا نعلم الثأر الذي بين رواية "أولاد حارتنا" وبين العروبة والإسلام والمسلمين؟!
أم أن موعدنا "يومَ تُبلَى السرائِرُ"؟!.
* الملاحظة الخامسة - مناصرة غير الإِسلام على الإِسلام؟!
ومن الملاحظات البارزة على الرواية، أنها -دائمًا- تناصر غير الإسلام على الإسلام نفسه، حتى في العقائد الثوابت في الإسلام، ولنضرب بعض الأمثلة:
- تفضيل عيسى على محمد صلى الله عليهما وسلم، وعِلَّة تفضيل عيسى على محمد في الرواية أن عيسى كان عزوفًا عن النساء؛ أما محمد فكان يترصد الفتيات عند المغيب، وكان زير نساء؟!
هذا ما يقوله الحمقى من المبشِّرين والمستشرقين، وقد ناصرتهم الرواية وخذلت المسلمين؟!(1/352)
- مجاراة الرواية لليهود، أو مناصرتهم في دعواهم أنهم قتلوا عيسى عليه السلام وصلبوه، فتجزم الرواية أنهم قتلوه فعلاً، وتضرب عرض الحائط بعقيدة المسلمين وبقول الحق:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
- وناصرت الرواية المبشِّرين والمستشرقين في اتهامهم نبي الإسلام بعشق زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة، ثم تزوجه منها بعد أن طلقها زيد استجابة للواعج العشق؟!
- تناصر الرواية أعداء الإسلام وتُعبر عن مناصرتها لهم بقولها: "وتعشَّق امرأة من الجرابيع -أي المسلمين العرب- ثم تزوجها أيضًا"؟! (1).
- دعوى الرواية أن السيدة خديجة تشككت طويلاً في أمر الرسالة لما أخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدء نزول الوحي عليه، وأنها ظلَت تراجعه وتجادله حتى قال لها: إني أعُفيك من أن تصدقيني؟! مع أن الثابت إِسلاميًّا أن السيدة خديجة بادرت بقولها:
"إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأُمَة" عند أول سماعها بنزول الوحي.
ودعوى الرواية كاذبة كاذبة، وهي مجاراة منها ومناصرة لمزاعم أعداء الإسلام.
ْ- ناصرت الرواية حقدة المستشرقين والمبشرين في دعواهم أن القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل؟! فجاءت الرواية تقول -كذبًا وزورًا وبهتانًا-: أن قاسمًا أو محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان يتردد كثيرًا على ورقة بن نوفل الكاهن النصراني، وأخذ عنه علمًا غزيرًا، وأن محمدًا كان يخاطب ورقة بقوله: "يا معلمي"؟!، والرواية تعلم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس له مُعَلم قط إلا الله عز
__________
(1) "أولاد حارتنا" (ص 443).(1/353)
وجل، وبذلك نزل الوحي الأمين:
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48].
{وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
أليس هذا -مرة أُخرى- داعيًا إلى سوء الظن في الرواية إلى آخر شوط؟!
* الملاحظة السادسة - تجريد التاريخ النبوي من محتواه:
حرص المؤلف -كل الحرص- على تجريد التاريخ الديني النبوي من محتواه، وتفريغه تمامًا من "الإيمانيات والروحانيات" وتصويره في صورة صراع مادي صرف يبدأ وينتهي حول حطام الدنيا وملذاتها الفانية؟!
فليس في رواية "أولاد حارتنا" أية إشارة، ولو رمزية إلى قضية التوحيد والإيمان بما وراء الطبيعة من حقائق هي أُسس ما نادت به الرسالات السماوية.
- فمثلاً لقاء موسى بفرعون لم يكن إلا لنيل بني إسرائيل حقوقهم من "الوقف" وحصولهم على المعاملة الكريمة في المجتمع الفرعوني المستبد.
- ودعوة موسى لبني إسرائيل محصورة -في الرواية- في توحيد صفوفهم لينالوا حقوقهم، ويمكنهم الحفاظ عليها إذا نالوها.
- ومهمة عيسى كانت لمحاربة العفاريت وتخليص المرضى من شرورها ليكونوا أصحاء؟!
- ورسالة محمد - صلى الله عليه وعليهم جميعًا وسلم - كانت لمحاربة " الفتوات " وتسخير "الوقف" للجميع.(1/354)
- أما مهمة "عرفة" فكانت لإحلال قوة العلم الحديث محل الإيمان بالله ورُسُله، بعد أن حكمت الرواية على هذا الإيمان بالفشل؟!
ومؤدى هذا كله:
أن الرواية تجاري العلمانية في تفسيرها المادي للتاريخ رضي المؤلف أم لم يرض، أحب أم كره.
* الملاحظة السابعة - التعاطف مع الشيطان؟!
جارت الرواية "أولاد حارتنا" بعض الكتاب الأوروبيين والعرب في التعاطف مع الشيطان الذي طرده الله من الجنة بسبب عصيانه وكفره، ونظروا إلى هذه الواقعة على أنها من وقائع "حرية الرأي"، وأن الشيطان عوقب -ظلمًا- على رأيٍ أبداه، وعقيدة اعتقدها، حملته على عدم السجود لآدم؟ بل إن بعض الدجالين العرب دعا إلى نصرة الشيطان على الله عز وجل، وزعم هذا الأفَّاق الأشر أن الشيطان قال لله:
"لا أسجد إلا لك"، ومع هذا عاقبه الله وطرده وهو مظلوم مظلوم؟! (1).
واشترك في هذا -الدجل- الأستاذ توفيق الحكيم من قبل، وتخيل محاورة دارت بين "إبليس" وشيخ الأزهر، فأفحم إبليس شيخ الأزهر؟! وأثبت -إبليس- أمام شيخ الأزهر أنه مظلوم، مظلوم، وأن جميع الكائنات كانت تردد صياح إبليس: أنا مظلوم مظلوم؟!
سارت رواية "أولاد حارتنا" في هذا الاتجاه، ولوَحت كثيرًا بأن "إدريس"، وهو رمز الشيطان فيها، طرد من البيت الكبير -أي من الجنة-
__________
(1) هو خالد العظم أحد الشيوعيين العرب، وله بذاءات أخرى في هذا المجال أعرضنا عنها لشناعتها.(1/355)
بدون سبب معقول أو مقبول. وزعمت -زورًا وبهتانًا- أن جميع الملائكة، كانت تؤيد الشيطان، ولكنهم كتموا أسرارهم خوفًا من بطش "الجبلاوي" (الله)، وتظاهروا بعدم الاعتراض؟!
فطرد الشيطان في الرواية كان لبغض "الجبلاوي" (الله) للشيطان ولإرادته النافذة التي لا تصغي لحجة مظلوم؟!
* الملاحظة الثامنة - ربط منابع النور بمواضع الخطيئه؟!
ما زلت -والله في حيرة- من بعض الرموز في "أولاد حارتنا"، ومن أكثر الرموز إثارة للحيرة رمز "صخرة هند"، وقد علم قارئ هذه الدراسة أن "هند" هي ابنة إدريس في الرواية، أي ابنة الشيطان، وأن الصخرة التي أضافها إلى "هند" مؤلف الرواية، هي المكان الذي زعمت الرواية أن ابن آدم "قدري" ارتكب فيه "الفاحشة" مع "هند"، وقد فسرنا الرمز "هند" من قبل بأنه: الغواية الشيطانية، ولا معنى لها سوى هذا، إذ لا يُعلم أن للشيطان ابنة اسمها "هند"، وحتى لو كان له ابنة فمن أدرى المؤلف أنها تُسمَّى هندًا؟!
وليس هذا هو مبعث الحيرة، وإنما مبعث الحيرة أن مؤلف الرواية الأستاذ نجيب محفوظ قد ربط بين منابع النور وهي الرسالات السماوية الثلاث، وبين هذا الموضع "صخرة هند"، وهو موضع أول جريمة "زنا" تقع في الوجود حسب "جو" رواية "أولاد حارتنا" الأوسع من الخيال والأوهام؟!
- فالرُسُل الكرام تلقوا رسالاتهم من "الجبلاوي" (الله) عند "صخرة هند"؟!
ومفزعهم وملجؤُهم كان "صخرة هند"؟!
- وعيسى والحواريون كانوا يتخذون من "صخرة هند" ناديًا للحديث والتشاور؟!(1/356)
فما الذي حمل المؤلف على ربط منابع النور بمواضع الخطيئة يا ترى؟!
إنها ملاحظة ذات خطر، وإني لأحتفظ بما فهمته منها، وما أردت إلا أن أشرك معي القارئ في الحيرة، ولعله يفهم مثلما فهمت؟!
* الملاحظة التاسعة - الاختيار والترك:
عرف قارئ هذه الدراسة أن الفصول الأربعة الأولى: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم، تتناول أحداثا واقعية لها وجود حقيقي في التاريخ، وهي تمثل -كما تقدم- حركة التاريخ الديني النبوي وتطوراته. وقد لاحظنا أن المؤلف يقف من وقائع هذا التاريخ موقفا معينًا يقوم على سمتين بارزتين:
إحداهما: الأخذ، والأخرى: التَّرك: أي يأخذ بعض وقائع ذلك التاريخ، ويترك بعضًا آخر في رسم صور "الأشخاص" الأربعة، الذين تحدث عنهم، وهم:
آدم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، فما أكثر ما تركه من سيَر هؤلاء الرُّسُل الكرام، فمما تركه في "أدهم" المنهجِ الذي حدده الله لعمارة الأرض بعد الهبوط {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38، 39].
- ومما تركه في "جبل" فلق البحر وعبور موسى وبني إسرائيل إلى سيناء، وغرق فرعون وآله، ورفع الجبل فوقهم، ووزارة هارون لموسى.
- ومما تركه في "رفاعة" حديث المائدة والكلام في المهد.
- ومما تركه في "قاسم" الإسراء والمعراج، وحصار شعب بني عامر، ومع هذا الترك، فإن ما ذكره كان كافيا جدًّا في تحديد "حقيقة" كل شخصية من الأربعة المذكورين.(1/357)
* الملاحظة العاشرة - نباهة عرفة وصاحبيه:
إن "عرفة"، و"حنش" وعواطف هم "الوحيدون" في الرواية الذين رفعهم المؤلف "مكانًا عليًا"، وصانهم من كل ألوان النقص والهمز واللمز أو التجريح، وهذا يلائم الجو العام لـ .. وجدانيات المؤلف، "وجوانياته"؟!.
القسم الثاني - عرفة:
أما القسم الثاني، فهو معقود -أساسًا- لعمليتي هدم وبناء، أو "إعدام" و"إحياء"، وكانت نيةُ "أولاد حارتنا" مُبيتة على هذا من قبل أن "يُخَط" حرف واحد فيها؛ فالنية -عادة وواقعًا- تسبق العمل دائمًا، وتكون "هي" الباعث على العمل، والداعية إلى الهدم أو الإعدام لـ "الدين" الذي جاء به الرُّسُل وحيًا يوحى من عند ربهم؟! والإحياء لـ "العلم الحديث" ممثلاً فيما يُدرَك بالحواس الخمس، وتُجرى عليه التجارب والملاحظات والمشاهدات، ثم تستخرجُ قوانينه الكلية، وقواعده الجزئية المستوحاة من المادة المدروسة. وكان كل شيء في الرواية يخدم هذا الاتجاه، ويمهد له من وراء ستار، ولكن كيف تمت عمليتا الهدم والبناء، أو الإعدام والإحياء؟ هذا تساؤل مهم للغاية.
- أما الإجابة عليه فنصورها في الآتي:
جيء بـ "عرفة" رمز العلم الحديث، ونائبه "حنش"، ثم وُضِع بإزائهما التاريخ الديني النبوي، ممثلاً في الجبلاوي، وأدهم، وجبل، ورفاعة، ثم قاسم. وبدأت العمليتان معًا:
ضربة بالمعول في صرح التاريخ الديني النبوي، ثم وضع لبنة في صرح العلم الحديث. وتعددت ضربات المعول في الهدم، وتعددت كذلك عملية البناء بوضع لبنة جديدة محكمة، وسار الفصل الخامس "عرفة" على هذا النظام:(1/358)
كل انخفاض في جانب التاريخ الديني النبوي يقابله ارتفاع في جانب العلم الحديث؟!
وكل نقص في الأول يقابله زيادة في الثاني، إلى أن وصل الأمر إلى تنفيذ حكم الإعدام التام في الدين، وعلى "التو" قام العلم الحديث، وجلس على "عرش الرحمن" وحل محله، ومكانه؟! هذا في الرواية، وليس في الواقع؟!
والذي قام بتنفيذ حكم الإعدام في الدين، هو العلم الحديث نفسه، ممثلاً في "عرفة" قاتل الجبلاوي في الرواية، وكانت الرواية قد جعلت "الجبلاوي" المصدر الأول والوحيد للاتجاه الديني في الوجود كله، يعني هو "الله" تعالى عما يقولون عُلوا كبيرًا، وكان لحكم الإعدام في الرواية مبررات كما تقدم:
- تقديم السن بالجبلاوي، اعتزاله، فشل رجاله الكبار: جبل ورفاعة وقاسم، تَخلف منهجه، فساد بضاعته، زهد أولاد الحارة فيه وفي رجاله؟!
أما العلم الحديث فكان يحقق نصرًا وازدهارًا وتقدمًا كل يوم، فعرف الناس له فضله، ووقفوا على قدراته الهائلة، وطاقاته التي لا حدود لها، فإنه - كما وصفته الرواية: "قادر على كل شيء"؟!
فلماذا -وهذا شأنه- لا يكون هو الآمر المطاع، والناهي المسموع، ومعقد آمال الناس التي لم يستطع أن يحققها الجبلاوي ورجاله على مدى العمر الطويل؟!
* والخلاصة:
إن هذه الرواية تترجم في وضوح: أن كاتبها ساعة كتبها كان زاهدًا في "الدين" كل الزهد، معرضا عنه كل الإعراض، ضائقًا به صدره، أعجميًّا به(1/359)
لسانه، فراح يشفي نفسه الثائرة، ويعبر عن آرائه في وحي الله الأمين، بهذه الأساليب الرمزية الماكرة، والحيل التعبيرية الغادرة، رافعًا من شأن العلم الحديث إلى مكان الثريا، واثقًا فيه كل الثقة، حتى أجلسه في روايته على "عرش الديَّان" مناصرًا للعلمانية الجاهلة، على دين الله القيم، ورسالاته السامية.
فالرواية -وهذا واقعها- رواية آثمة "مُجَرَّمَة" بكل المقاييس وطنيًّا، وقوميًّا ودينيًّا.
والتماس البراءة لها: مستحيل، مستحيل، مستحيل.
اللهم إلا إذا طمسنا قلوبنا، وأعمينا أبصارنا، وسددنا سمعنا، ثم هتفنا مع أولاد حارة الأستاذ نجيب محفوظ، وقلنا كما قالوا: "لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خيرنا بين "الجبلاوي" (الله) والسحر، لاخترنا السحر"؟! (1).
وهيهات هيهات لما يتصورون؟ " (2).
* من سقطات محمد جلال كشك في كتابه "أولاد حارتنا فيها قولان":
الدفاع المبالغ فيه البعيد كل البعد عن الحقيقة.
- يقول عن موقف اليسار من نجيب محفوظ:
"وهم يبغضون منه النفس الإسلامي الذي يتضوع من أعماله" (ص 19) وهل يصدق هذا عاقل؟!
وقال في (ص 138): "جريمة نجيب محفوظ أنه قدم وجهًا إِسلاميًّا
__________
(1) " أولاد حارتنا" (ص 551).
(2) "جوانيات الرموز المستعارة" (ص 208 - 229).(1/360)
مشرقًا، مشرقًا في الزمن الرديء جدًّا .. وفي زمن بدا فيه المسلم قبيح المسلك قبيح الفكر".
ويقول في (ص 58): "ولا شك أن قاسم يرمز إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - " فلينظر كل الناس إلى ما قاله نجيب عن قاسم.
وقوله عن جمال الدين الأفغاني (ص 36): "المجاهد الشهيد أستاذ الأجيال جمال الدين الأفغاني .. شاهت الوجوه .. من فيهم له في خدمة الإسلام ما للأفغاني؟!!
الأفغاني بلا جدال هو أعظم مسلم في القرن التاسع عشر هو الزعيم المفكر الذي جعل العالم الإسلامي ميدان نشاطه، متخطيًا بنجاح الحدود القومية والمذهبية" رأيت ردنا المفصل على فكر الأفغاني.
وقال عن الأفغاني: "ولكنه بلا جدال أستاذ الجميع، وخير من خدم الإسلام في القرن التاسع عشر، ولولا شنشنة نعرفها من أخزم، لقلنا بل ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم" (ص37، 38)!!
وقال (ص 41): "إن المسلم الذي يتعرّف على الله سبحانه وتعالى من معالم شخصية الجبلاوي، هو الذي يستحق الاستتابة، ويجب عليه أن يعيد تثقيف نفسه في علم التوحيد .. وهو مسلم ظن بالله الظنون ولم يقدر الله حق قدره .. والسموات مطويات بيمينه - سبحانه وتعالى عما يشركون" (1).
- ونحن نحيل القارئ إلى ما قاله سكرتير لجنة الجائزة في حفل التسليم باستوكهولم عام 1988 حيث أشار في غضون إطرائه على الرواية إلى ما تضمنته من مفهوم (موت الإله)! (2).
__________
(1) "أولاد حارتنا فيها قولان" لمحمد جلال كشك - الزهراء للإعلام العربي.
(2) "الطريق إلى نوبل عبر حارة نجيب محفوظ" لمحمد يحيى ومعتز شكري (ص 6) - أمة برس للطباعة والنشر.(1/361)
ونحيل القارئ إلى الكتاب الهام " الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ " للأستاذين الدكتور محمد يحيى ومعتز شكري.
* نجيب محفوظ والشيخ عبد الحميد كشك وأحمد عبد المعطي حجازي:
"في صحيفة الأهرام الصادرة في 2/ 6/1999 شن أحمد عبد المعطي حجازي هجومًا ضاريًا على الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله- مدعيًا أن الكتاب الذي كتبه الشيخ كشك عن نجيب محفوظ فيه دعوة لاغتيال نجيب محفوظ استجاب لها ولباها -كما يقول حجازي- "بعض القردة المتوحشين"، وانهالوا على عُنُق الكاتب بالخناجر والمُدى" ويمضي فيصف الشيخ كشك بأنه "واعظ محدود الثقافة!! لا علاقة له بدراسة الأدب" وبأنه: "واعظ نصف أمي" ويتساءل ساخرًا: "لماذا لا يُعيَّنْ الشيخ كشك أستاذًا في جامعة المنصورة، أو في جامعة القاهرة" (1).
* في ميزان الحق:
"وما ذكره حجازي يرفضه الحق وينقضه الواقع، فالذين اعتدوا على نجيب محفوظ لم يقرأ واحد منهم كتاب الشيخ كشك بل لم يسمع به، وهذا ما أثبتته التحقيقات والشيخ كان من حفظة القرآن المتعمقين في معانيه وأسراره، وكان ذا ثقافة موسوعية واسعة، ووهبه الله حنجرة قوية الأمر والتأثير، وكنت أتمنى أن يقرأ حجازي كتاب "النبي والفرعون" للكاتب العالمي الشهير "جيلز كيبل" وقد كتب فيه فصلاً عن الشيخ كشك من عشرين صفحة جاء فيه. "أنهم يستمعون لكشك في القاهرة، وفي الدار البيضاء، وفي حي المغاربة في مارسيليا .. فهو نجم الدعوة الإسلامية، وقد كان لكشك مقلّدوه،
__________
(1) مقال " الغاية والدستور والزعيم والسبيل " (1 - 2) للدكتور جابر قميحة - مجلة آفاق عربية - الصفحة الأخيرة عدد (610) - 5 ربيع الآخر 1424 هـ - 5 يكونية 2003 م.(1/362)
ولكن لم يتوافر لأحدهم أحباله الصوتية التي لا تُضاهَى، أو ثقافته الإسلامية الواسعة، أو قدرته غير العادية على الارتجال، أو روحه الجسور في نقده للأنظمة الظالمة، والدكتاتورية العسكرية، ولمعاهدة السلام مع إسرائيل".
هذه سطور من شهادة كاتب غربي غير مسلم لرجل اتهمه حجازي بالأمية والتعصب وضيق الأفق .. " (1).
* ونقول لأحمد عبد المعطي حجازي ضيق الأفق:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رَمَدٍ ... وينِكُرُ الفم طعم الماء من سقَم
ونقول له: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109].
والله الموعد.
* عبد الرحمن الشرقاوي يشوِّه التاريخ الإِسلامي:
سبق أن تكلمنا عن عبد الرحمن الشرقاوي وكتابه "محمد رسول الحرية" وردّ الشيخ محمد أبي زهرة علية (2)، يقول الأستاذ أنور الجندي تحت عنوان "أخطاء عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه "السيرة والتاريخ":
في كل كتاباته الإسلامية يظهر الغرض المبيت المدفون واضحًا:
"محمد رسول الحرية -مسرحية الحسين ثائرًا- كتاباته عن الإمام علي".
إن درجة الوعي الإسلامي الآن في فهم تيارات التغريب قد أصبحت عالية وما نعتقد أنها يمكن أن تخدع وهذه الأسماء معروفة الهوية ولذلك فهي لا تستطيع أن تكسب ثقة قارئ واحد من المؤمنين باليقظة الإسلامية ولعل هذا هو ما يزعج هؤلاء ومَن وراءهم، إن خطط التغريب والغزو الثقافي قد
__________
(1) المرجع السابق.
(2) وذلك في "زهر البساتين في مواقف العلماء الربانيين".(1/363)
كشفت تمامًا فمهما حاولوا تغيير جلودهم ومهما خلطوا أوراقهم ومهما نشرت لهم الصحف الكبرى ومهما حالت بين مفترياتهم وبين تصحيحها، فلييئس هؤلاء تمامًا وسيرتد الكيد إلى نحور أهله.
إنها محاولة لتحطيم الصحوة وللقضاء على الأصالة ولطرح مزيد من الشبهات والشكوك والسموم على الطريق الذي أصبح صالحًا ليسلك عليه المسلمون إلى إقامة المجتمع الرباني، إنها محاولات يائسة لإفساد الفكر ولتزييف التاريخ ولهدم القيم تحت أسماء إسلامية، ومن خلال صحف محتوية للتغريب والغزو الفكري، ففي روايته الحسين شهيدًا كان حريصًا على أن يصور المجتمع الإسلامي بعد أن اختار الرسول الرفيق الأعلى بنصف قرن في صورة بشعة، وكأن هذا المجتمع قد تداعى وتهاوى وصار مجتمع عربدة وفجور، ومجتمع شقاق ونفاق ومجتمع جبن وضعف ومجتمع خيانة ونكث للعهود، مع أن المجتمع كان لا يزال يزخر بعدد كثير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان (وهذه متابعة لخطة طه حسين) التي جرى عليها في الهجوم على الصحابة وأتباعهم أما في دراسته عن الإمام علي فقد اعتمد على مراجع معينة أغلبها مشكوك في صحتها وفي مقدمتها الأغاني، وفي هذا تابع أهواء الدكتور طه وخطته حتى ليخيل إلي أنه امتداد حقيقي وتجديد استشراقي تغريبي لأفكار طه حسين المسمومة التي بثها في كتابه الفتنة الكبرى وعلي وبنوه في الأربعينات يجددها الشرقاوي في الثمانينات.
فقد جرى وراء القصص البراق، واعتمد على المصادر المضلة وساير خصوم الشيخين أبي بكر وعمر من الباطنية وحاول أن يلحق الإساءة بالسيدة عائشة على هوى بعض الفرق.
- ويمكن أن نقول بوضوح أن عبد الرحمن الشرقاوي القصاص الذي(1/364)
يغلبه الخيال والبريق والرواية المثيرة لا يصلح مؤرخًا ولا يمكن أن يقبل منه كل ما كتب على أنه تاريخ وهو يمضي في سلك واحد مع جورجي زيدان أولا وطه حسين أخيرًا ومن العجيب أن أحدًا ممن نقدره لم يشر إلى متابعته لخطأ طه حسين في هذا المجال.
- وفي الوقت الذي يأتي كتاب غربيون يشيدون بعظمة الإسلام ورسوله ورجاله ينحرف كتاب عرب لهم أسماء إسلامية عن هذا الخط ويخوضون إلى ما تحت ركبهم في الأعراض والقبائح.
ولقد تأكد ما قاله الشيخ الشعراوي من أن الأهرام أصبحت وكرًا لأعداء الإسلام وأن موقف الأهرام من إغلاق الصحيفة على كتابها دون أن تسمح بوجهة النظر الأخرى هو من الآثام التي سوف تحاسب عليها الأهرام عندما يكتب تاريخ الصحابة، وما كانت هكذا تجري المعارك الأدبية في القديم حيث كان يسمح لكل طرف أن يعرض آرائه، وها هي الأهرام تستخدم من قبل توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود، والشرقاوي لخدمة أعداء الإسلام.
- ولقد صدق الشيخ محمد الغزالي حين وصف الشرقاوي بأنه يجمع القمامات من كتب التاريخ ويصدق أيضًا ما وصف بأنها مؤامرة لضرب الإسلام لحساب المسيحية ولضرب الصحوة التي أدخلت في الإسلام أعلامًا كبارًا أمثال جارودي (1) وبوكاي.
ولعل أسوأ صفحات الشرقاوي هو أسلوبه في الحوار وإدخاله الإقذاع والسخرية فهو كاتب يمكن أن يوضع في صف الشعراء القدامى الذين تخصصوا في الهجاء المقذع الذي يرفضه الإسلام أسلوبًا للحوار فما بالك وصاحب الحق في الرد لا يمكن من أن يقول كلمته في نفس المكان، أي
__________
(1) انظر رد الشيخ ابن باز على هذا في كتابي "زهر البساتين".(1/365)
ظلم هذا" (1).
* مآخذ على كتابات الشرقاوي حول الإمام علي:
أولاً: إن مصادر الكتابة عن الإمام علي - رفاقه ومنهج البحث في سيرة الصحابة تختلف عن المصادر ومنهج البحث في التاريخ العام، وهو لم يلتزم بهذا المنهج بل عمد لكتب التاريخ وغير كتب التاريخ فاستقى منها مادته وأخباره، فرجع إلى كتاب " الأغاني "، وهو مرجع لمؤرخي الأدب في العصر العباسي يجمع أخبار الشعراء والأدباء والمغنيين والمغنيات ومجالس الشراب والطرب، فإذا وجدت فيه معلومة عن صحابي أو تابعي فيجب الوقوف أمامها طويلاً، للبحث عما إذا كانت قد وردت في مصدر تاريخي أصيل مما تتكفل به أصول البحث العلمي، ومصطلح علم الحديث وأصول الرواية في معرفة حال الرواة وصحة المتن وطريق التحمل ولكن الشرقاوي سوى بين المصادر القديمة لقدمها ولم يفرق بينها ومن هنا وقع اللبس.
- ومن مصادر الشرقاوي (الطبري) والطبري لا يشك أحد في صدقه ولكنه اعترف في كتابه أن الكتاب لا يخلو من الوقائع المكذوبة والأخبار المنحولة فلما هوجم الشرقاوي في هذا دافع عن مصدره وأهمل هذا التحذير الخطير الذي سجله الطبري في صدر كتابه.
وهكذا فإن المصادر التي رجع إليها الشرقاوي لم تكن كلها كفئًا للموضوع فوقع في ورطة إذ لم يستجب لنصح الناصحين فيها.
ثانيًا: "تناول أشخاصًا لهم بلاء وغناء وسبق إلى إلاسلام والجهاد في سبيل الله ووصفهم بما لا يليق بأمثالهم، فهم تلاميذ محمد - صلى الله عليه وسلم - والشوامخ
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 250 - 251).(1/366)
الذين هاجروا في الله بعد ما فتنوا وهاجروا وصبروا وقد قدم لنا الإمام علي في عماية فتنة وأعصار محنة، وقديمًا قرر الفقهاء والعلماء والسلف الصالحون ممن أدركوا الفتنة وجاءوا بعدها الإمساك عن الخوض فيها فإن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم ولكل منهم وجهة نظر واجتهاد والمخطئ فيه له أجر والمصيب له أجران.
لم يتناول الكاتب دور اليهود في هذه الفتنة التي آثر الخوض فيها وما فعله عبد الله بن سبأ وأشياعه والمخدوعون به فهم أسبابها وما أشبه الليلة بالبارحة ولم ينهج نهج المحدثين وأهل الأثر من نقده الأخبار على مقتضى قوانين الرواية والجرح والتعديل الذي ميز الله به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وراح يسوق الأخبار ومنها الملفقة كأنها حقائق مسلمة ويبني عليها اتهامات ويصدر أحكامًا قاسية وهي أخبار واهية لا تحل روايتها فضلاً عن اعتمادها في تقرير حكم أو توجيه لوم خاصة إذا كانت تحمل في ثناياها دليل بطلانها، ولم يشر إلى مرجع واحد من مراجعه التي اعتمد عليها، فإن كثيرًا من أئمة المؤرخين قد ينقلون الشائعات والأخبار التي لا تصدق، ولكن بأسانيدها اعتمادًا على أن الناس سيبحثون الأسانيد فيتقبلونها أو يرفضونها.
(عن بحث الأستاذ عبد المعز عبد الستار بتصرف)
ثالثًا: إلحاحه في قوله: "ليس لبني إسماعيل فضل على بني إسحاق ولا لبني إسحاق فضل على بني إسماعيل" والحق أنني ألمح منها كيدًا خفيًا من عمل اليهود وإفكًا افتروه، بعد أن عزلهم الله عن قيادة البشر وجعلها في العرب من بني إسماعيل فاليهود من يريدون أن يتساووا مع العرب والمسلمين ويستغلوا المبدأ ويقرروا أنهم يرتقون إلى مستوى المسلمين على ما بهم من بغي وكفر وقساوة قلب، وعلى أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وقولهم: "ليس علينا في الأميين سبيل"، ونحن نقول: "بل(1/367)
لبني إسماعيل اليوم فضل على بني إسحاق"، وللعرب فضل على اليهود بعد ما أثبت اليهود ببغيهم وعداوتهم أنهم على مدى التاريخ وراء كل فتنة وسبب كل محنة وأنهم كالمشركين لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمةً.
رابعاَّ: غرق عبد الرحمن الشرقاوي في أباطيل الرواة وفي "الروايات الضالة فأجرى على لسان (الإمام علي) عبارات ما كان يمكن أن تجري على لسانه، وتقوَّل عليه أخبارًا كاذبة كمثل ما نسب إليه من أنه قال أنه كان أولى من أبي بكر وعمر بالخلافة.
خامسًا. انزلق عبد الرحمن الشرقاوي في أعراض الصحابة واندفع بهدف ونية مُبيتة وليس من باب الخطأ، أو عدم الإحاطة بالمصادر، ولا كانت هذه الفترة من تاريخ الإسلام شائكة، وكان هو غير متخصص في التاريخ وقليل الدراية، والعلم بالصحابة بحيث يجب أن يتناول تاريخهم بأسلوب مختلف، يقوم على احترامهم ومعرفة قدرهم وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا حين قال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، ويقول. "لا تسبوا أصحابي، من سب أصحابي فقد سبني".
وقد بدا القصد من سياق السرد وهو النيل من الآخرين ومن سابقته بالذات، وهي نقطة مهمة كان لا بد من إثارتها، وكانت عبارات الكاتب تستهدف التنقيص ممن قبله من الخلفاء - رضي الله عنهم - أجمعين.
وقد قصد الكاتب إلى إثارة خلاف في هذه الآونة بين طائفتين أو أكثر من المذاهب الإسلامية وإيجاد بلبلة وتباغض بين تلك الأمم والمذاهب ومن هنا دخل في الخطر الكبير الذي جاء عنه التحذير في بعض الآثار: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
الأخطاء كثيرة وكأن بالرجل يرمي إلى شيء من وراء هذه المغالطات غير العلم فابتعد عن الحقائق، وماذا يقصد بأوصافه التي أتى بها خياله عن(1/368)
ليلة زواج ذي النورين عثمان - رضي الله عنه - من نائلة، وهو الذي كانت تستحي منه ملائكة الرحمن، ومن أين له هذا الوصف البعيد كل البعد عن العلم وعن التاريخ وأقرب ما يكون إلى روايات الجنس، ثم كتاباته عن أم المؤمنين عائشة وعن الصحابة طلحة والزبير وغيرهم عندما وصفهم بغير أوصاف المؤمنين وهم المؤمنون حقًا.
عن (عبد الله الأنصاري) بتصرف.
سابعًا: بدأ الشرقاوي خطته بأن ألف كتابه "محمد رسول الحرية" على أساس أن الإسلام مظهر للصراع بين الطبقات وأن الأصنام تم صبها حول الكعبة لأسباب مادية وتم هدمها كذلك لأسباب اقتصادية ومضى في طريقه يفسر الوقائع بمعايير الفكر اليساري ويقرأ كتب التاريخ غير مميز بين حقيقة وشائعة، وبين صحيح وموضوع وغير مدرك لمكانة الرجال الذين يتحدث عنهم فجاءت كتاباته بعيدة كل البعد عن المنطق العلمي، كما جاءت بعيدة الأثر في الإساءة إلى الإسلام والصحابة وإلى الآمال المرجوة في الصحوة الإسلامية وجمع الشمل وقد ردد الشبهات والتقط النقاط المشكوك فيها التي تعينه على باطله، ومنها الخطبة المنسوبة إلى علي بأنه أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر وهي خطبة تعني أن الخلفاء الثلاثة كانوا مغتصبين حقًّا ليس لهم وأنهم طلاب دنيا وعشاق رياسة وأن جمهور الصحابة جبن عن مظاهرة صاحب الحق المقرر، وهذا النسق يرمي إلى فتح الباب للطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ودعواه أن بني النضير أسلموا باطل فما أسلم بنو النضير يومًا، وأنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان بينهم في بعض الشئون وهناك قضية وهب لها الشرقاوي فكره ونشاطه، ويريد أن يجر الإسلام إليها جرًا دون هوادة، هل للمسلم أن يدخر أو يكنز بعد أن يؤدي الحق المقرر عليه في ماله،(1/369)
أم يجب إلا يمسك عنده شيئًا فوق حاجته وهو يؤكد أنه لا يجوز استبقاء شيء لصاحبه فوق نفقته العادية، إن هذا هو ميل إلى نظرية كارل ماركس (لكل حسب حاجته)، ولكنه يصور الرأي الذي ارتآه على أنه من الكتاب والسنة، وهو يحاول أن يجعل علي بن أبي طالب ضد رأس المال مهما أدى ما عليه من حقوق وهو يحاول أن يجعل عثمان كأحد الباشوات أو اللوردات الذين يشبعون شهواتهم ويرهبون المجتمع بفضول أموالهم ومن المقرر أن كتابات عبد الرحمن الشرقاوي لا تحكي تاريخًا إِسلاميًّا، فهو يساري يريد أن يجعل الإسلام وتاريخه مصبوغين باللون الأحمر والتفكير المادي ويسوق الحوادث سوقًا لخدمة هذا الغرض.
فهل صحيح أن الصراع بين التوحيد والوثنية كان صراعًا طبقيًا كما يقول الأغنياء يدافعون عن وجودهم والفقراء عن حقهم في الحياة الكريمة، وعن أحلامهم في عالم أفضل، أي أحلام هذه وهل صحيح أن موسم الحج كان "يستثمر هؤلاء الأغنياء أموالهم في البيع والشراء والربا فيربحون ويربحون، وهذه الأصنام هي التي تمنحهم كل سلطاتهم على الأجراء والمعدومين والعبيد وأبناء السبيل وواجه محمد هذا كله بأن الأصنام ضلال مبين فهو يلعن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، هكذا يقول الشرقاوي في تصوير الرسالة الإسلامية. صراع بين الغنى والفقر لا وجود له إلا في دماغ المؤلف.
وآية عدم اكتناز الذهب والفضة نزلت بعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الرسالة ولا صلة لها بعبادة الأصنام أو الحرب التي شنها الإسلام على الوثنية من أول يوم. حتى الهجرة إلى المدينة جعل لها الشرقاوي أسبابًا اقتصادية فإن المرابين في المدينة كان ضغطهم أقل، والهوان الذي يتعرض له المدينون كان أخف، تأمل قوله: هنا مجتمع آخر أكثر تقدمًا من مجتمع مكة، هنا علاقات(1/370)
اجتماعية أخرى أكثر قابلية لتعاليم محمد، فالمرابي اليهودي لم يكن قادرًا على استعباد المدين العربي إذا عجز عن الوفاء كما كان يحدث في مكة، ولم يكن له الحق في أخذ امرأة المدين أو ابنته لإكراههما على البغاء كما كانت تفعل قريش، وأجير الأرض في المدينة أعلى درجة من عبيد مكة الذين كانوا يحرسون القوافل والمصارف إلخ.
ليس في هذا الكلام كله ذرة من صدق، والقول بأن العرب كانوا يسترقون المدين المعسر، ويستوفون ديونهم من استرفاق امرأته وابنته وإرغامهما على الزنى، كلام مكذوب، ما كان شائعًا لا في مكة ولا في المدينة وبالتالي فلا صلة للهجرة بهذه الأوضاع المختلفة.
إن هذا الكلام ليس تشويه تاريخ، بل هو تزوير تاريخ، أو كما يقال في مصر (سمك، لبن، تمر هندي) وليس في القرآن ولا في السنة المطهرة ولا في السير المؤلفة عن صاحب الرسالة ما يترك مثل هذا الانطباع الغريب، عن الجو الذي بدأت منه تعاليم محمد. كما يصف عبد الرحمن الشرقاوي الإسلام ونبيه وما نزل عليه من وحي وما تمخض عنه من حضارة.
عن الشيخ (محمد الغزالي بتصرف)
* مسرحية الحسين شهيدًا:
الأصابع الحمراء تشوه حقائق المعارك الإسلامية وتشهر بالصحابة الأجلاء (أحمد الشرباصي، محمد الطيب النجار، زكي البنهاوي) نشرة الاعتصام - مايو 1975 عن هذه الدراسة للمسرحية تحت عنوان: "مسرحية الحسين شهيدًا".
1 - المسرحية تظهر شخصية الحسين وشخصية السيدة زينب - رضي الله عنهما - وهما من آل بيت الرسول الأعظم، وقد تكررت الفتوى من العلماء المسئولين بمنع(1/371)
إظهار هذه الشخصيات الطاهرة.
2 - تردد في المسرحية التشهير بجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم قدوة لنا وقد نوه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكانة أصحابه في أكثر من حديث شريف ومن واجبنا أن نبرز مفاخرهم ونركز عليها ونهتم بها وألا نطيل الوقوف أمام ما نسب إليهم من خلاف أو أخطاء.
3 - ترددت في المسرحية عبارات الاتهام بالكفر والخروج عن الإسلام وعبارات اللعنة والتغريض الشنيع بالحرمان وهذا كله بين مجموعة تنتسب إلى الإسلام وجاءت فيها ألفاظ خارجة مثل (أبناء الأمهات الزانيات، يا ابن الفاعلة، يا ابن البرصاء، الدعي بن الدعي).
4 - صورت المسرحية العصر الأموي تصويرًا يجافي الحقيقة في بعض النواحي فوصفه بأنه عهد الإقطاع والأطماع وجردت الأمويين من كل خير ونحن لا ننكر أن هذا العصر فيه عيوب ومآخذ، ولكن هذا العصر شهد أيضًا فتوحات إسلامية كثيرة، وكان فيه جهاد ونضال فكيف نجرده من كل حسنة، ونبالغ في تصوير فساده كل هذه المبالغة.
5 - والعجب كل العجب أن يوجد "وحشي بن حرب" بين شخصيات هذه المسرحية؛ لأن أحداثها تدور في سنة ستين للهجرة ووحشي بن حرب قد مات سنة خمس وعشرين للهجرة في خلافة عثمان - رضي الله عنه - فوحشي إذن لم يدرك شيئًا من أحداث هذه المسرحية فكيف يضاف إلى أشخاصها.
6 - هناك نوع من القسوة في الحكم على معاوية مع أنه صحابي ومن كتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكرت المسرحية أنه عطل أصلاً من القرآن وزيف قاعدة الشورى وأهدر أحكام السنة إلى غير ذلك من التهم الشديدة التي يختلف في تحديدها المؤرخون والباحثون.
7 - جاء على لسان الحسين - رضي الله عنه - وأرضاه أنه ذهب حينما اشتدت المحنة(1/372)
إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال يخاطب النبي: جدى، أنا لا أعرف ما أصنع فأعني "والحسين خير من يعرف أن العون إنما يلتمس من الله تبارك وتعالى، وجد الحسين هو نفسه القائل: "إذا استعنت فاستعن بالله" فضلاً عن أن الواقعة لا نصيب لها من الصحة.
8 - ذكرت المسرحية أن (يزيد) قد فرح بمقتل الحسين - رضي الله عنه - وهذا يخالف الواقع؛ لأن التاريخ يذكر أن يزيد قد توجس شرًّا من قتل الحسين وأنه بكى حين رأى رأسه ولسنا ندري لمصلحة من يظهر يزيد وهو حاكم المسلمين على أقل تقدير - في مظهر حقير مثير لو كان أمرًا واقعًا لما كان من الحكمة إبرازه.
فقد قدمت المسرحية عقب مقتل الحسين شخصًا يبدو مخمورًا والجواري تمتطين ظهره وينخسنه فيسير بهن كالحمار والتاريخ يذكر فيما يذكر أن يزيد كان متهمًا بالانحراف عن الآداب الدينية قبل المبايعة له فلما تولى الحكم انصرف عن هذا الانحراف أو على الأقل لم يجاهر بمثل ما كان يجاهر به من قبل.
9 - أن المسرحية مع الأسف كأنها تحرص على تصوير المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنصف قرن فقط في صورة بشعة، وكأن هذا المجتمع قد تداعى وتهاوى، وصار مجتمع عربدة وفجور ومجتمع شقاق ونفاق ومجتمع جبن وضعف ومجتمع خيانة ونكث للعهود مع أن المجتمع كان لا يزال فيه عدد كبير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان.
10 - تردد في المسرحية أكثر من مرة التعريض بنظام الجواري حيث تناول الأشخاص عبارات الاتهام باللهو والتمتع بالجواري، على سبيل التعريض والتهكم مثل هذه العبارات (ما يجيد سوى مصاحبة الجواري)، (تمتع بجواريك الأبكار الخرد)، (سوق الإماء).(1/373)
11 - تناثرت عبارات مأخوذة من جو غير إسلامي مثل هذه العبارات (ما جئت لألقي سيفًا) (جئت لألقي موعظة) (لأملأ كل بيت بالمحبة، جموع الفقراء) (يا مطفئ نور الحضارة).
12 - اختير لون السواد لطائفة من الممثلين والممثلات وهذا السواد شعار طائفي مذهبي خاص فهل من المصلحة إثارة مثل هذه الطائفية، وكذا بدا من قام بدور الحسين في ثياب تشعر بأنها إيحاء بشخصية غير إسلامية، وإن كانت شخصية لها مكانها في نظر المسلم.
وكان هناك في نص المسرحية نواح وندب وتعديد وقد طال هذا وامتد فما مدى اتفاق ذلك مع تعاليم الدين.
كذلك جاء على لسان أحد الأشخاص من أتباع الحسين - رضي الله عنه - ما يفيد، أن قتال المعارضين للحسين خير من قتال المشركين فهل يحكم على عقائد الناس بمثل هذه السهولة.
* عبد الرحمن الشرقاوي شاعر الرؤية الخائنة ومسرحيته " وطني عكا ":
لقد أيّد الشرقاوي خط الصلح الكامل مع إسرائيل الذي أنتهجه السادات، وكان موقفه هذا قد سبقه تقديمه لمسرحيته "وطني عكا" التي طرحها عام 1969، وكان عبد الرحمن الشرقاوي بكامل قواه العقلية والأيديولوجية متبنيًا لتلك المغالطات التي رددها الشيوعيون العرب حول قضية فلسطين وعلاقتنا بالكيان المغتصب وهي نظرة ومغالطات لحثالة من الشيوعيين شوهاء مجرمة ظلت تعتقد بوجود شعب طيب في "إسرائيل" تحكمه قلة رجعية لا تمثل الغالبية، وأنه لو تغير نظام إسرائيل -يقصدون الكيان الصهيوني- من الرأسمالية إلى الماركسية تنعدل الأمرر وتنتهي المشكلة. أي أن الشرقاوي كان يعبر -ولا شك أنه نجح في التعبير- عن رؤية خائنة شوهاء لمستقبل أهم وأوضح قضية من قضايانا على المستويين القومي والإسلامي.(1/374)
ويبدأ الشرقاوي في تقديم افتراضات -ليس لها أي مبرر مادي- لنماذج من العسكرية الإسرائيلية، يفترسهم تأنيب الضمير صبيحة انتصارهم عام 1967! ويظهرون كلهم كضحايا تضليل الصهيونية (لاحظ الدس لايجاد شعور بأن هناك فارقًا بين الصهيونية وبين دولة إسرائيل! ).
- وعندما نصل إلى المشهد الأخير يصور لنا الشرقاوي نضج وكثافة ما ادعاه -طوال المسرحية- من الأصوات الحرة التي ارتفعت داخل إسرائيل وتأثيرها في الموقف الحاسم، عندما يأمر الضابط الإسرائيلي "يعقوب" بنسف القرية العربية إذا لم تسلم الفدائيين، فيتقدم الضابط الإسرائيلي (الحر) "سلامسكي" معترضًا في غضب وثورة على أمر قائده "يعقوب" (ولا يضربه بالرصاص كما هو متبع في مخالفة الأمر العسكري أثناء معركة، بل يجادله بالحسنى! ) ونجد ضابطا إسرائيليًّا آخر (حرًا) كذلك اسمه "سعد هارون" من يهود فلسطين القدامى - يؤيد معارضة "سلامسكي" متخذًا أسلوبًا دينيًا كهنوتيًا في التعبير عن رفضه لأمر الضابط (يعقوب) بنسف القرية العربية.
وفي هذه اللحظة نفسها -والشرقاوي يصور لنا الأصوات الحرة في إسرائيل تعارض وتمنع الذبح والنسف والقتل، وهي تبدو متغلبة ومنتصرة على التيار المعادي للعرب في هذه اللحظة بالذات يدخل الفدائي الفلسطيني (أبو حمدان) بالمفرقعات وبخدعة ساذجة يستطيع أن يقنع الفرقة العسكرية الإسرائيلية (والتي تبدو طيبة وإنسانية إلى درجة البراءة) يقنع الفرقة بالالتفاف حول صندوق المفرقعات فينفجر ويقتل الفرقة العسكرية كلها .. ويضاء المسرح ونرى الفرقة الإسرائيلية الإنسانية جثثًا مبعثرة على الأرض .. أشلاء الأصوات الإسرائيلية (الحرة) التي قتلها الفدائي الفلسطيني.
- وبهذا يصل الشرقاوي بمدلول اللغة المسرحية المرسلة مع هذا المشهد - إلى أن المقاومة الفلسطينية، إنما تقتل بأعمال "العنف" الأصوات الحرة التي(1/375)
نكسبها داخل معسكر الأعداء!! وبذلك يخلص حضرته إلى إدانة المقاومة.
لصالح تلك الأصوات الحرة المزعومة، التي يدعي وجودها في داخل الكيان الصهيوني المعتدي، والتي تدعونا المسرحية إلى الأعتراف بها والتعاون والتعاطف معها، وفق خطة رؤية خائنة مضللة طيلة العرض المسرحي.
لاحظ التخاريف الشرقاوية التي تقول أننا داخل الكيان الصهيوني ننجح في تشكيل تيار لصالحنا، ولعلنا لا ننسى المفارقة في أن الكيان اليهودي -للأسف- هو الذي نجح في تشكيل تيار عام داخلنا نحن لصالحه!
ومن المفارقات أن تكرَّم هذه المسرحية من قبل بعض ممثلي المقاومة الفلسطينية الذين قدّم (أبو إياد) باسمهم درع المقاومة، جائزة تقديرية للمخرج كرم مطاوع والمؤلف عبد الرحمن الشرقاوي عن عملهما ذاك الشائن" (1).
* مدحت باشا الخائن والمؤامرة على الخلافة في تركيا:
المؤامرة على تركيا الخلافة مؤامرة على الإسلام بدؤها مدحت. ووسطها الاتحاديون. وختامها أتاتورك.
لماذا هذا الحقد الشديد البالغ من أقلام عربية لكتاب مسلمين جغرافيًّا على الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي تشرق في هذه الأيام شمسه وتبدو علاماته وتعلو راياته بعد أن تعددت كتابات الكتاب عن الصحوة الإسلامية بأنه "ضربة موفقة"، أو قول أحد المؤرخين الشعوبيين: "وهكذا سقطت الخلافة الإسلامية إلى الأبد"!.
وقد نسي هؤلاء وأولئك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون
__________
(1) "الخديعة الناصرية" بتصرف يسير (ص 71 - 89).(1/376)
ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت" (1).
وما ينطق الرسول عن الهوى. وهذا الحديث الصحيح يؤكد عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى على نحو أوثق صلة بحكم الله ونظامه الذي جاء به القرآن الكريم. ولقد كان سقوط الخلافة الإسلامية (حدثًا) خطيرًا لم يكتب عنه بعد، وكان له أثره في نفوس العاملين في حقل اليقظة الإسلامية.
وقد كان مصدرًا لقيام المفهوم الصحيح للإسلام بوصفه منهج حياة أو نظام مجتمع. وما من دعوة إسلامية إلا وقد أخذت على أهلها العهد بالعمل لعودة الخلافة الإسلامية متى جاء أوانها، وما تزال الحركات الإسلامية كلها عاملة على هذا النهج، سائرة في هذا الطريق.
ولا ريب أن قيام عدد من المنظمات الإسلامية العالمية هي بشائر الخير في هذا الطريق. فإن الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية أصبح اليوم عملاّ ضروريًّا بعد أن فسدت الدعوات الاقليمية والقومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. ولا بد للمسلمين من أن يصلوا إلى الطريق الحقيقي لمواجهة تآمر الغرب والصهيونية والشيوعية عليهم وهو إحياء جامعتهم وإقامة خلافتهم.
* معلومات مسمومة:
ولست أدري لماذا هذا الاهتمام بإعادة طرح معلومات مسمومة كاذبة
__________
(1) صحيح: رواه أحمد (4/ 273) ومن طريق أحمد رواه الحافظ العراقي في "محجة القرب إلى محبة العرب" (17/ 2)، وقال: هذا حديث صحيح، ورواه الطيالسي في "مسنده" (438)، وقال الهيثمي في "المجمع" (5/ 189): "رواه أحمد والبزار أتم منه"، والطبراني ببعضه في "الأوسط " ورجاله ثقات: وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (5).(1/377)
مضللة انتشرت زمنًا وكانت أشبه بالمسلمات، روجها اليهود والمارون ثم تبين زيفها وتكشفت الحقائق التي تدحضها؟!
لماذا العودة إلى الزيف بعد أن ظهرت الحقائق؟!
ولماذا الادعاء بأن مدحت مصلح. وأن مصطفى كمال أتاتورك مجاهد؟!! - والحقيقة أن للرجلين ومن بينهما من رجال "الاتحاد والترقي" هم عملاء النفوذ الأجنبي والصهيونية. لقد تكشفت هذه الحقائق في العالم الإسلامي كله، ولم يعد في إمكان كاتب ما أن يضلل الناس بإعادة هذه الأكاذيب وصفِّها، وخداع الناس في أمر رجل كان والده حاخاما يهوديًّا مثل (مدحت) أو رجل هو من الدونمة أصلاً مثل (أتاتورك) إن الدعاوى الصهيونية والغربية قد خدعت المسلمين طويلاً بتزييف صفحة الدولة العثمانية، والسلطان عبد الحميد من أجل هدف معروف وواضح هو إسقاط هذا السلطان، وإزالة الدولة العثمانية، وهدم الخلافة الإسلامية لتمكين الصهيونية العالمية من الوصول إلى فلسطين، والاستقرار في القدس!!
لقد كان أتاتورك والاتحاديون هم مادة تجربة جديدة فاسدة أُريد بها القضاء على النظام الإسلامي، وهدم الشريعة الإسلامية وإقرار نظام العلمانية والمادية والوثنية في المجتمع والتربية والسياسة في البلاد الإسلامية، ومحاولة لجعله مثلاً أعلى للتقدم والتجديد. ثم جاءت أحداث التاريخ بعد خمسين عامًا لتكشف زيف هذه المحاولة وفسادها بعد أن تعددت حلقات هذا الغزو التغريبي الذي تجئ الأحداث يومًا بعد يوم بمثابة الدليل الأكيد على فساد هذه التجربة وعلى سقوط هذا المنهج ومؤكدة بأن المجتمع الإسلامي الأصيل القائم على فكرة التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنًا يرفض العضو الغريب، ويتأكد له بعد التجربة المتصلة مع الديمقراطية الغربية والاشتراكية الماركسية وفشلهما أن السبيل الوحيد أمامه هو المنهج الرباني الأصيل، وأن الذين(1/378)
حرضوه طوال هذه السنين بالتماس المنهج الغربي (شرقية وغربية) سبيلاً للنهضة في العالم الإسلامي لم يكونوا صادقين في دعواهم فإن هذا الأسلوب في الاحتواء والعمل على صهر المسلمين في بوتقة الأممية الغربية كان من نتائجه سقوط الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية، وسقوط فلسطين والقدس في أيدي الصهيونية، والحيلولة دون امتلاك المسلمين لارادتهم وتطبيق شريعتهم الإسلامية والعمل على منعهم من أداء فريضة الجهاد، أو إمتلاك القوة القادرة على تجديد بناء الحضارة الإسلامية القائمة على العدل والرحمة والإخاء الإنساني.
* مدحت باشا:
إن الصورة التي رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة. فلم يكن مدحت بطلاً قوميًّا ولكنه كان واحدًا من قوى المؤامرة التي أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وقد كان أمره مكشوفًا لدى السلطان عبد الحميد الذي كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية وما كان مدحت شهيدًا في الحقيقة؛ لأن الشهادة لا تكون للخونة، وما قتلوه في الحقيقة، ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإسلام تقية لإخفاء هويتهم، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل. وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس، والمتآمرين المقيمين في سالونيك. ولم يكن الدستور الذي دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام، وتمكينها من الانقضاض على الدولة.(1/379)
- وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية. ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإسلامية، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذي كان عاملاً من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها. ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم، ورد (هرتزل) عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من ممثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته فلم يتردد في تضحيته وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي.
* الانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية:
وإذا كانت هناك محاولة للانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية، واتهامها بالتقصير، فإن هناك ما يؤكد كذب ذلك، وما أورده جمال الدين في حديثه إلى المخزومي باشا في كتابه (خاطرات جمال الدين) يكشف عن مدى قدرة السلطان عبد الحميد على فهم تيارات الغربيين، وقدرته على ضرب مخططاتهم وضرب بعضهم ببعض. ولقد قام السلطان عبد الحميد بإعلان تلك الصيحة المفزعة التي عجلت به. وهي قوله: "يا مسلمي العالم اتحدوا"، وكان هدفه أن يجمع المسلمين ممن هم خارج الدولة العثمانية (العرب والترك) تحت لواء الخلافة والوحدة. وفزع الغربيون واليهود من ذلك فزعًا شديدًا، فقد مضى إليه بُخطا حاسمة وحقق نتائج هامة.
ولقد كان عقلاء المجاهدين المسلمين يؤمنون بأن المحافظة على الدولة العثمانية إحدى العقائد الإسلامية بعد التوحيد والنبوة. ومن ذلك محمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم. وقد كانت الدعوة الحقيقة هي محاولة إصلاح الدولة العثمانية من تحت مظلة الخلافة وتعديل تنظيمات الحكم دون(1/380)
إسقاط الدولة، وكان ذلك فهم أحرار العثمانيين والعرب جميعًا، وقد كان هذا ممكنًا لولا ذلك الدور الذي قامت به الماسونية واليهودية العالمية في سبيل تحطيم نفوذ السلطان عبد الحميد، وإحلال نفوذ الاتحاديين وأعوانهم الذين تربوا في محافلهم. والذين سلموا لهم فلسطين، وسلموا للإيطاليين في طرابلس الغرب، وأدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ولا ناقة لها فيها ولا جمل حتى يحطموها ويقضوا عليها.
* وحدة إِسلامية وليست عنصرية:
كذلك فإن علاقة مصر والبلاد العربية بالدولة العثمانية لم تكن علاقة استعمار بل إن كلمة استعمار لا تطلق إلا على النظام الغربي الحديث، وإنما كانت علاقة ترابط تحت لواء الأخوة الإسلامية، واستعانة البلاد المستضعفة بالدولة القوية، والمصريون والجزائريون وغيرهم هم الذين طلبوا من الدولة العثمانية الارتباط بها خوفًا من تجدد مؤامرات الحروب الصليبية.
* زيف ما في كتب الموارنة وأتباعهم:
ولا شك أنه من أكبر أخطاء الباحثين هو إعادة نشر ما جاء في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية السابقة لظهور "بروتوكولات حكماء صهيون" عن السلطان عبد الحميد وتركيا العثمانية. وهذا كله زائف ومن صنع الصهيونية وأعوانهم من الموارنة. أما اليوم فإن الرؤية التاريخية المنصفة قد اتسعت ومن الظلم أن يقف الباحثون عند الحملات الكاذبة المضللة وتجاهل الرؤية الصحيحة لإبعاد الواقع التاريخي، لقد حملت كتب جورجي زيدان وأحمد أمين وغيره صورة مضللة زائفة للسلطان عبد الحميد، وصورة براقة زاهية للاتحاديين الذين علقوا العرب على المشانق ومكنوا للصهيونية وحطموا الدولة العثمانية، وهم الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية. وعلى(1/381)
الباحث المنصف أن يرجع إلي الإضافات الجديدة التي ظهرت بعد الخمسينات والتي تكشف فساد ما كتبه جورجي زيدان وفارس نمر وسليم سركيس.
والجديد يجلو الحقيقة، فما كتبه جواد رفعت ومحمد جميل، وعبد الله التل والعقاد وخليفه التونسي وعجاج نويهض وتوفيق برو فإن هذه الكتابات قد غيرت تلك الصورة الزائفة التي ما زال يعتمد عليها خصوم الإسلام.
والقضية: أن اليهود عندما أحسوا بأن السلطان عبد الحميد قد وقف في طريقهم نهائيًّا عملوا على تصفيته، ومهدوا لذلك باتهامه بالاستبداد والفساد، وأذاعوا ذلك في صحف الموارنة في مصر مثل المقطم والهلال والمقتطف وغيرها.
ثم جاء أحمد أمين وأمثاله فنقلوا منهم؛ لأن الحقائق لم تكن قد تكشفت بعد، ولم تكن البروتوكولات قد ترجمت. إلى العربية، فلماذا هذا التزييف بحجب مرحلة من الحقائق، والعودة إلى إذاعة ما قبلها من الضلال بإعلاء شأن مدحت وأتاتورك، وهما من هما في الخيانة والتبعية.
* الرجل الصنم .. والخائن الأكبر مصطفى كمال أتاتورك الذي أسقط دولة الخلافة وأتى بالعلمانية:
- قال هذا الزنديق في افتتاح البرلمان التركي عام 1923:
"نحن الآن في القرن العشرين لا نستطيع أن نسير وراء كتاب تشريع يبحث عن التين والزيتون" (1).
* اصطناع البطل الوهمي أتاتورك:
لقد كانت اللعبة العالمية تقتضي اصطناع (بطل) تتراجع أمامه جيوش
__________
(1) "كلهم سلمان رشدي" (ص 27).(1/382)
الحلفاء الجرارة! وتعلق الأمة الإسلامية اليائسة فيه أملها الكبير وحلمها المنشود، وفي أوج عظمته وانتفاخه ينقض على الرمق الباقي في جسم الأمة فينهشه ويجهز عليها إلى الأبد! وهذا أفضل قطعًا من كل الـ "مائة مشروع لتقسيم تركيا" (1) وهدم الإسلام.
- وتمت صناعة البطل بنجاح باهر ووقف يتحدى الحلفاء وألقى باليونان في البحر (2)، ولم ير الحلفاء بدًا من التفاوض معه! وكانت ثمرة المفاوضات هي - الاتفاقية المعروفة باتفاقية "كيرزن" عام 1923 ذات الشروط الأربعة:
"1 - إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًّا من تركيا.
2 - أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.
3 - أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.
4 - أن يستبدل الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت (3).
- ويصف المؤرخ (آرمسترونج) خطوات تنفيذ الاتفاقية قائلاً:
"انطلق كمال أتاتورك يكمل عمل التحطيم الشامل الذي شرع فيه وقد قرر أنه يجب عليه أن يفصل تركيا عن ماضيها المتعفن الفاسد، يجب عليه أن يزيل جميع الأنقاض التي تحيط بها، هو حطم فعلاً النسيج السياسي القديم، ونقل السلطنة إلى ديمقراطية، وحول الامبراطورية إلى قطر فحسب، وجعل
__________
(1) عنوان كتاب ألفه جوفار ولخصه الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي.
(2) الأبطال الحقيقيون لحرب الاستقلال ذكرهم مؤلف كتاب "الرجل الصنم" وعلى العموم، فإن شجاعة المجاهدين الاتراك هي التي مكنت أتاتورك من ركوب الموجة، انظر الفصل الرابع من الكتاب المذكور.
(3) "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام" لمحمد محمود الصواف (ص 174).(1/383)
الدولة الدينية جمهورية عادية، إنه طرد السلطان (الخليفة) وقطع جميع الصلات عن الامبراطورية العثمانية، وقد بدأ الآن في تغيير عقلية الشعب بكاملها وتصوراته القديمة وعاداته ولباسه وأخلاقه وتقاليده وأساليب الحديث ومناهج الحياة المنزلية التي تربطه بالماضي" (1).
- وامتدح توينبي عمله واعتبره أعظم من هتلر عبقرية في فن الهدم وقطع الصلة بالماضي، وقال: "إن الدولة القومية التركية التي أقامها مصطفى كمال على النسق الغربي تبدو -وقت كتابة هذه السطور- عملاً ناجحًا لم يتحقق مثله حتي ذلك الوقت في أي بلد إسلامي آخر" (2).
- وامتدحه ولفرد كانتول سمث -على طريقته الخاصة- قائلاً: " .. رأينا تركيا في سبيل رفعة شأنها وخلق مثل عليا جديدة لم تتردد في سحق السلطات الدينية وألغت تعاليمها وحررت الإسلام وكشفت النقاب عن الدين الحق القويم!! " (3).
نصب مصطفى كمال نفسه إلهًا من دون الله يشرع للأمة كما يشاء، فلفق قانونًا فريدًا يتكون أكثره من القانون السويسري والقانون الإيطالي وغيرهما وأكمل الباقي من عنده، ومع ذلك فهو يدعي أنه كله من عنده قائلاً:
"نحن لا نريد شرعًا فيه قال وقالوا ولكن شرعًا فيه قلنا ونقول" (4).
- ويصف أحد الكتاب الغربيين جلسة في مجلس النواب فيقول أن مصطفى كمال وقف قائلاً:
__________
(1) "الصراع بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية" (ص 16).
(2) "مختصر دراسة التاريخ" لأرنولد توينبي (3/ 113).
(3) "الإسلام والخلافة" لعلي الخربوطلي (ص 285).
(4) "حاضر العالم الإسلامي" لستودارد (3/ 343).(1/384)
"إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد".
- ثم اقتفاه وزير العدل شارحاً ومفسراً:
"إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه بدون أن يتقيد بما فكر غيره من قبله، وقد كان كل مادة من مواد كتبنا القضائية مبدوءة بكلمة قال المقدسة، فأما الآن فلا يهمنا أصلاً ماذا قالوا في الماضي بل يهمنا أن نفكر نحن ونقول نحن" (1).
- ويعترض عليه مرة أحد القانونيين بقوله:
"إن هذا النظام الذي تريدون وضعه لا يوجد في أي كتاب للقانون".
فيتلقى الجواب التالي:
- "إن النظم ليست إلا أشياء وأموراً تكيفت ومرت من التجارب .. على أن أنفذ ما أريد وعليكم أن تدرجوا ما أعمل في الكتب!! " (2).
ونتيجة التطرف والغلو المفرط والأعمال التي لا مبرر لها إلا تنفيس الحقد الأوربي على الإسلام ومركب النقص الذي كان يستشعره الكماليون -اتخذت تركيا المتعلمة تدبيرات وإجراءات غريبة حقًّا:
فقد ألغت بالعنف والإرهاب الكتابة التركية بالأحرف العربية ثم تجرأت فحرمت الأذان بالعربية، وكتبت المصحف أو ترجمته بلغتها الهجين، وحددت عدد المساجد وأقفلت كثيراً منها أو حولته إلى ما لا يتفق وقداسته كما فعلت بجامع أيا صوفيا، وألغت وزارة الأوقاف. وفرضت بقوة السلاح المسخ الفكري وحتى المظهري على الأمة لا سيما معركة القبعة الأوروبية التي
__________
(1) المصدر السابق (3/ 344، 345).
(2) "الرجل الصنم" لضابط تركي سابق (ص 205).(1/385)
سالت لأجلها الدماء، وألغت الأعياد الإسلافية، وحطمت بصورة استبدادية مظاهر الحشمة والحياء الإسلافيين، فأكرهت النساء على تقليد المرأة الغربية في كل شيء وحاربت بشدة صارمة كل من اعترض طريقها من المتورعين وحتى المعتدلين شيئًا ما من الكماليين (1).
ولذلك فإن حكومة تركيا العلمانية الكمالية -هي كما وصفها الأمير شكيب أرسلان- ليست حكومة دينية من طراز فرنسا وإنجلترا فحسب، بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشانية في روسيا سواء بسواء، إذ أنه حتى الدول اللادينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في حروف الأناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغي الكنائس (2).
والحقيقة المرة أن مصطفى كمال قد خلق نموذجًا صارخًا للحكام في العالم الإسلامي، وكان لأسلوبه الاستبدادي الفذ أثره في سياسات من جاء بعده منهم، كما أنه أعطى الاستعمار الغربي مبررا كافيًا للقضاء على الإسلام، فإن فرنسا مثلا ًبررت تنصير بلاد المغرب العربي وفرنجتها بأنه لا يجب عليها أن تحافظ على الإسلام أكثر من الأتراك المسلمين أنفسهم!!
وليس أعجب من هذا الرجل وزمرته إلا من ينادون اليوم -من الزعماء- بإقامة حكومات علمانية في بلادهم ويقولون: أن مصطفى كمال هو قائدهم الروحي.
* حقيقة أتاتورك:
- يقول الأستاذ أنور الجندي: "إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهدًا
__________
(1) انظر "تاريخ الشعوب الإسلامية" لبروكلمان، فصل "تركية والإسلام في الغرب" جان بول رو: (181، 186)، و"الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية" (59 - 63).
(2) "حاضر العالم الإسلامي" (3/ 336).(1/386)
ولا مصلحًا، وإنما كان تتمة الاتحاديين لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني.
فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفي ماليتها ووجودها.
وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغربي، وينقلها نقلة واسعة عن دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية، ويقضي على الإسلام تمامًا، ومعاهدته السرية المعروفة التي عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح.
وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدي دوره كاملاً فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف، وطلب الدعاء منهم.
أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفًا، وأن غيره هو الذي قام بدور البطولة، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه.
ولقد كان أتاتورك عميلاً غربيًا كاملاً، وعميلاً صهيونيًّا أصيلاً، وقد أدى دوره تمامًا، وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التي تركت آثارها من بعد على العالم الإسلامي كله، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها، وتبرأ الأتراك المسلمون من تبعتها، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة للفطرة ولطبائع الأشياء، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم (هاملتون جب) أن العرب لن يقعوا في براثن هذه التجربة التي خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية.
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلاً منه رئاسة الدولة التركية، كعلامة(1/387)
من علامات الخسة والنذالة والخيانة!!
وقد صفع المؤرخ العالمي آرنولد توينبي التجربة الكمالية التي يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها. يقول توينبي: إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية، وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شيء إلى هذه الحضارة، فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج.
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن كما يدعي المدعون شيئًا جديدًا، ولكنه كان حلقة في المؤامرة بدأها مدحت، وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية. ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية، وقد جرى ضمن مخطط يرمي إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية، وكان دعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس، وهم عناصر الأمة الواحدة التي جمعها القرآن وقادها محمد - صلى الله عليه وسلم - وآمنت بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعًا أمة واحدة، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدى كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه أستيورت وهو غربي في كتابه "حاضر العالم الإسلامي قبل أربعين عامًا"، وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية ودورها الذي قامت به في وجه الصليبية الغربية.
- أما صيحة العناصر والأجناس التي حاول كاتب أخبار اليوم أن يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وإنما هي المؤامرة التي عمد النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية، أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها(1/388)
ولا كلمة العروبة نفسها، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب، وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليميات والقوميات بتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التي كان الغرب يخشاها، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية.
ولا ريب أن الأسلوب الذي اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التي استطاعت أن تحمي وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة باسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين.
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصرًا عسكريا أو سياسيًّا وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي: وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذي فتح الطريق إلى كل شيء، وبه حلت جميع المشاكل، وانسحبت كل الجيوش، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال، وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذي لم يكن إلا عميلاً من عملاء الخيانة لحساب الصهيونية العالمية والنفوذ الغربي والشيوعية أيضًا، فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام ".
* عدوه الأكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
كان أتاتورك في فندق "بارك" وكان المؤذن يرفع الأذان في المسجد الصغير الكائن أمام الفندق مباشرة، يلتفت أتاتورك لمن حوله قائلاً: "من قال بأننا مشهورون؟ وما شهرتنا نحن؟ أنظروا إلى هذا الرجل (1)
__________
(1) يقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/389)
كيف أنه وضع اسمًا وشهرة بحيث أن اسمه يتكرر في كل لحظة، وفي جميع أنحاء العالم إذا أخذنا فرق الساعات بنظر الاعتبار؛ ليهدموا هذه المنارة".
وانظر إلى شذوذ هذا الزنديق وفجوره وسكره لتعلم أي قزم كان هذا الخائن - انظر إلى "الجزاء من جنس العمل" (1/ 399 - 405).
أفتى خُزْعبلة وقال ضلالة ... وأتى بكفر في البلاد بُواحِ
فلتسمعنَّ بكل أرض داعيا ... يدعو إِلى الكذاب أو لِسجاح
ولتشهدن بكل أرض فتنة ... فيها يُباع الدين بيع سماح
يُفتَى على ذهبِ المعِزِّ وسيفه ... وهوى النفوس وحقدها الملحاح (1)
* الدكتور عبد الرزّاق السنهوري واضع القانون الدني الوضعي الذي حجب نور الشريعة عامله الله بما يستحق:
تمهيد:
- يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر:
أحب أن ألقي ضوءًا على القانون المدني الذي حكم مصر قرابة سبعين عامًا، من سنة (1883) إلى سنة (1949)، ثم القانون المدني الذي جاء من بعده، وقد اخترت هذا القانون بالذات؛ لأن لمصر في الدول العربية والإسلامية مكانة كبيرة، ولذلك فإن الحكام ورجال الفكر في مصر إذا قاموا بعمل ما فإن أثر هذا العمل يظهر ويتردد صداه في أكثر الدول العربية والإسلامية، ولذلك فإن قانون (1949) أنتقل إلى كثير من الدول العربية، يقول واضعه: "إن القانون المصري الجديد ليؤذن بعهد جديد، لا في مصر فحسب، بل أيضًا في البلدين الشقيقين العربيين: سورية والعراق، ويكفي أن
__________
(1) لأحمد شوقي -رحمه الله- في رثاء الخلافة.(1/390)
يكون هذا الشرح للقانون المصري الجديد في الوقت ذاته شرح للقانون السوري الجديد .. (1).
القانون المدني المصري الأول:
هذا القانون هو نفس قانون نابليون الذي صدر في سنة (1804)، مع كثير من التشويه والتحريف لذلك القانون، وقد وصفه رجال القانون بأنه قانون معيب لا يصلح لأن يحكم الحياة في مصر. يقول الدكتور السنهوري في كتابه "الوسيط":
"وأول ما يعيب هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسي العتيق، فجمع بين عيوب التقليد وعيوب الأصل الذي قلده" (2).
ويقول: "لم يقتصر التقنين المصري على نقل عيوب التقنين الفرنسي، بل زاد عليها عيوبًا من عنده" (3).
ويقول: "ففي تقنيننا المدني القديم فضول واقتضاب، وفيه غموض وتناقض، ثم هو يقع في كثير من الأخطاء الفاحشة" (4).
وقد شرح هذه العيوب في عدة صفحات لاحقة.
- وتقول المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون المدني الذي أقر في سنة 1948: "يمكن القول أن قانوننا المدني فيه نقص، ثم فيه فضول، وهو غامض حيث يجب البيان، مقتضب حيث تجب الإفاضة، ثم هو يسترسل في التافه من الأمور، فيعنى به عناية لا تتفق مع أهميته المحدودة، يقلد التقنين الفرنسي تقليدًا أعمى فينقل من عيوبه، وهو بعد متناقض في نواح مختلفة،
__________
(1) "الوسيط" (1/ 9).
(2) "الوسيط" مصادر الالتزام (1/ 14).
(3) "الوسيط" مصادر الالتزام (1/ 15).
(4) المصدر السابق.(1/391)
ويضم إلى هذا التناقض أخطاء معيبة" (1)، وقد شرحت المذكرة هذا الإيجاز وبينته.
وجاء في تقرير لجنة الشئون التشريعية بمجلس النواب المصري: "وضع القانون المدني الحالي سنة (1883) باللغة الفرنسية، ثم ترجم إلى اللغة العربية ترجمة لم تسلم من الأخطاء، وقد جاء في معظم أجزائه صورة مقتضبة مشوهة من القانون الفرنسي الذي أصبح هو ذاته قانونًا عتيقًا في حاجة ماسة إلى تنقيح شامل وقانوننا المدني -في اقتضابه وغموضه، مما دعا الكثيرين من رجال القانون إلى توجيه النقد إليه معددين أخطاءه- لم يعد يجاري تقدم العمران في مختلف نواحيه واتساع المعاملات بين الناس، لذلك ازداد قصورًا فوق قصوره، عن مسايرة مقتضيات العصر الحاضر، وأصبح رجل القانون يسبح في بحر خضم من نصوص غامضة، وأحكام قضائية مطرد بعضها متنافر بعضها الآخر، وتفسيرات متفقة أحيانًا متجافية أحيانًا أخرى، فهو تارة يستوحي مواد القانون الغامضة ويستقرئها، وتارة أخرى يولي نظره شطر أحكام القضاء يستلهمها ويسترشدها -ما استقر عليه الرأي منها وما تشعبت الآراء فيه- وطورًا يرجع إلى المعجمات الفرنسية ومؤلفات الشراح من رجال الفقه المصريين وغيرهم مستقصيًا باحثًا. وبقدر كثرة المفسرين وتعدد الآراء التي يذهب إليها كل منهم، تتشعب الآراء فيضل الباحث فيما احتوتها من مجلدات" (2).
وقد تحدثت المناقشات التي دارت في جلسات اللجنة القانونية لمجلس الشيوخ المصري كثيرًا عن عيوب القانون المدني ومصدره (3).
__________
(1) "القانون المدني" الأعمال التحضيرية (1/ 13).
(2) "القانون المدني: مجموعة الأعمال التحضيرية" (ص 27).
(3) "القانون المدني: مجموعة الأعمال التحضيرية" (ص 142 - 147).(1/392)
لماذا حكم ذلك القانون المشوه ديار مصر الإِسلامية؟
إذا كان القانون المدني المصري الذي حكم مصر الإسلامية فيه هذه العيوب فلماذا أقر؟ ولم حكم الديار المصرية سبعين عامًا؟ هل كان ذلك بإرادة المسلمين؟ مهما قيل في عيوب الفقه الإسلامي الذي كان يحكم بلاد المسلمين فإن عيوب هذا القانون تفوق كل وصف. فلماذا ألغيت قوانين الأحكام الشرعية ووضع بديلاً عنها قانون نابليون؟
الجواب: أن الذين أمروا بوضعه من الحكام المصريين كانوا مخدوعين مبهورين بكل ما جاءهم من الدول الأوربية، ويظنون أن قوانينهم وثقافتهم هي الحضارة التي لا غاية بعدها.
- يقول السلطان عبد الحميد في مذكراته: "خدع الإنجليز المصريين بأفكارهم لدرجة أن بعضهم يؤمن بأن طريق الإنجليز هو السبيل إلى الأمن والنجاة، ويفضل القومية على الدين، إنهم يظنون أن حضارتهم ستمتزج بحضارة الغرب دون أن يشعروا بأن هناك تضادًا بين الحضارة الإسلامية والحضارة النصرانية بحيث لا يمكن أبدًا التوفيق بينهما" (1).
هذا جانب، والجانب الآخر أن الشعب المصري المسلم كان مغلوبًا على أمره، فقد اجتمع عليه حكم الكفار الذين احتلوا دياره، وظلم الطغاة الذين ساروا في ركب الكفار ينفذون مطالبهم بلا توان، فلم يكن يملك من أمره شيئًا، ولذلك فرض عليه القانون الفرنسي، جاء في مناقشات مجلس الشيوخ لمشروع القانون المدني الذي أقر في (سنة 1948 م) قول الدكتور ملش بك: "إن الأستاذ الوكيل بك وضع يده على مفتاح التشريع حينما قال: إن مصر كانت مغلة بالامتيازات الأجنبية التي كانت أول الأمر منحًا من الولاة ثم
__________
(1) "مذكرات السلطان السياسية" (ص 133).(1/393)
أضحت قيودًا على استقلال وسلطان البلاد" (1).
وجاء في تلك المناقشات قول مقرر المجلس: "قد احتملت البلاد ذلك القانون على ما به بسبب ظروفنا وأحوالنا الماضية الأليمة".
وقال أيضًا: "اقتصر الأمر في وضع التقنين المدني المختلط على مجرد النقل في اقتضاب جائر عن التقنين المدني الفرنسي بسبب الظروف القاهرة التي كانت تدعو إلى التعجيل من ناحية، وبسبب الرغبة في تيسير إقناع الأجانب بوجوب إقرار الوضع الجديد من ناحية أخرى .. " (2).
* نظرة في قانون مصر المدني المنفذ في عام 1949 والذي وضعه عبد الرزاق السنهوري:
- لقد بين رجال القانون شيئًا من عيوب قانون (1876)، وقانون (1883) فكيف كان العلاج؟
كنا نظن أن الأمر سيعود إلى نصابه، وذلك بتكليف رجال القانون المسلمين، أعني فقهاء الإسلام بوضع القانون الإسلامي المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله، ليحكم المسلمون بالإسلام الذي فرض عليهم أعداؤهم هجره وإقصاءه.
ولكننا وجدنا الذين يشكلون اللجان لوضع قانون مدني مصري جديد يقعون في الخطأ نفسه الذي وقع فيه من سبقهم، فاللجان تكون من أعداء الإسلام الصليبيين ومن بعض المسلمين الذين غرقوا إلى آذانهم في فقه القوانين الوضعية، وهؤلاء لا يستطيعون أن يفكروا إلا كما فكر أساتذتهم
__________
(1) "القانون المدني" الأعمال التحضيرية (1/ 93).
(2) "القانون المدني" الأعمال التحضيرية (1/ 142).(1/394)
الفرنسيون والإيطاليون وغيرهم، يقول المستشار محمد صادق فهمي بك، المستشار في محكمة النقض المصرية في مناقشته لمشروع القانون في جلسات مجلس الشيوخ:
"إننا نعرف تاريخنا، فبعد الشريعة أتت القوانين الجديدة ووضع التشريع وهو مأخوذ من التشريع الفرنسي، ثم انتقلنا منه إلى القانون المدني الأهلي، وقد استحضرنا أساتذة من فرنسا وأرسلنا البعوث إليها، وبدأنا نتعلم اللغة الفرنسية، وأصبحنا نعتبر أن الفرنسية لغة ضرورية كلغة للقانون. والسبب في هذا أن تغيير القوانين لا يكفي فيه التطبيق العملي ولا التفسير الفقهي بل يلزم الرجوع في هذا التفسير إلى المصادر، وحيث إن قانوننا مأخوذ من فرنسا فيجب أن نفسر القانون المصري جنبًا إلى جنب مع القانون الفرنسي حتى نستفيد بهذه الثروة التي أصبحت ثقافتنا متصلة بها كل الاتصال، كما يجب أن نستفيد بهذا الذخر العظيم ألا وهو الأسلوب الفرنسي في القانون، ولا يخفى على حضراتكم ما للفرنسيين من مركز سام خصوصًا فيما يتعلق بالتشريعات المنظمة والموضوعة في مجموعات. وهذه الثقافة التي وصلنا إليها الآن أخشى عليها فيما لو كان المشروع يؤثر عليها ويحاول أن يخرجنا منها فلو كان الأمر كذلك فتكون الطامة الكبرى" (1)، أرأيتم الطامة الكبرى في نظره؟ إنها تتمثل في الخروج عن الثقافة التي وردت من فرنسا.
- ويقول المستشار صادق فهمي في موضع آخر مبينًا مدى تغلغل القانون الفرنسي في عقول رجال القضاء: "لما كان مصدرنا هو القانون الفرنسي في كل أحكامنا وفي كل فقهنا وفي كل تفكيرنا، فإنكم تجدون أن الأحكام تسير بانسجام، وإذا ما رجعتم إلى القضاء الفرنسي فإنكم تجدون أننا
__________
(1) "القانون المدني: الأعمال التحضيرية" (1/ 53).(1/395)
نسير جنبًا إلى جنب مع محكمة النقض، ولقد وصل الأمر عندنا إلى حد أننا نترجم بالكلمة أحكام محكمة النقض والأحكام الفرنسية؛ لأن النصوص مصادرها معروفة" (1).
* مصادر القانون المدني الجديد:
- اعتمد القانون المدني الجديد المقر في سنة (1948 م) ثلاثة مصادر:
الأول: القانون المدني الذي وضعه الصليبي مانوري، وأضيف إليه أحكام القضاء المصري طوال سبعين سنة، يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري واضع هذا القانون: "أهم مصادر التنقيح التقنين المدني القديم، بعد أن هذبت وأضيف إليها أحكام القضاء المصري طوال سبعين سنة، بقي فيها القضاء المصري يعمل في تفسير هذه النصوص وتطبيقها، والنصوص التي استقيت من هذا المصدر تكاد تستغرق ثلاثة أرباع التقنين الجديد" (2).
وجاء في تقرير لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ: "إن المشروع لم يخرج عن التقاليد التشريعية التي استقرت في البلاد منذ إدخال نظام التقنينات عند إنشاء المحاكم المختلطة (سنة 1876). والمحاكم الوطنية (سنة 1883) " (3).
وجاء فيه أيضًا: "المصادر التي استمد منها المشروع أحكامه هي التقنين الحالي، وما صدر في شأنه أحكام المحاكم المصرية أولا .. " (4).
الثاني: "التقنينات الحديث. فقد استحدث القانون الجديد موضوعات
__________
(1) المصدر السابق (1/ 112 - 113).
(2) " الوسيط " (1/ 44).
(3) "القانون المدني: الأعمال التحضيرية" (1/ 120).
(4) المصدر السابق (1/ 128).(1/396)
أخذها عن هذه التقنينات، واستأنس في موضوعات أخرى بما تميزت به هذه التقنينات من تقدم في الصياغة ورقي في الأسلوب التشريعي" (1).
والتقنينات التي أخذ منها القانون الجديدة كثيرة: "التقنينات اللاتينية قديمها وحديثها، فالقديم يأتي على رأسه التقنين الفرنسي. ومعه التقنين الإيطالي القديم، والتقنين الأسباني، والتقنين البرتغالي، والتقنين الهولندي، والتقنينات اللاتينية الحديثة تشتمل على التقنين التونسي والمراكشي، والتقنين اللبناني، والمشروع الفرنسي الإيطالي، والتقنين الإيطالي الجديد، وتشتمل على التقنينات الجرمانية وأهمها. التقنين الألماني، والتقنين السويسري، والتقنين النمساوي. ورجع أيضًا إلى التقنين البولوني، والتقنين البرازيلي والصيفي، والياباني، وهذه التقنينات استقت من المدرسة اللاتينية والجرمانية" (2).
- ويقول واضع القانون: "من كل هذه التقنينات المختلفة النزعة المتباينة المناحي، ويبلغ عددها عشرون تقنينًا استمد المشروع ما اشتمل عليه من النصوص، ولم يوضع نص إلا بعد أن فحصت النصوص المقابلة في كل هذه التقنينات المختلفة ودقق النظر فيها" (3).
الثالث: الفقه الإسلامي: فقد استبقى التقنين الجديد ما أخذه من التقنين القديم عن هذا الفقه، وأضاف مسائل جديدة إلى ما سبق أخذه (4).
* القانون المدني لا يمثل الشريعة الإسلامية:
وبالتأمل في مصادر القانون المدني نجد أن "القانون المدني لا يمثل الشريعة
__________
(1) "الوسيط مبادئ الالتزام" (1/ 45).
(2) "الوسيط مبادئ الالتزام" (1/ 62).
(3) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 17 - 18).
(4) "الوسيط مبادئ الالتزام" (1/ 45).(1/397)
الإسلامية بحال من الأحوال:
1 - لأن التشريع الإسلامي واضعه رب العالمين، أما هذا القانون فواضعه الدكتور عبد الرزاق السنهوري المصري والأستاذ إدوارد لامبير الصليبي الفرنسي، وقد عاون في وضعه الصليبيان استويت وساس.
2 - أخذ واضعو هذا القانون أكثر من 85% من نصوصه من قوانين الكفار الصليبيين. كما سبق بيانه، ولذلك نراه يبيح أحكامًا حرمتها الشريعة حرمة قطعية كالربا والقمار.
3 - النصوص القليلة التي أخذت من الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي روعي فيها أن تكون متفقة مع المبادئ التي قام عليها القانون، فالقانون هو المهيمن على الشريعة الإسلامية، يأخذ منها ما يوافقه، ويرفض ما لا يتفق مع مبادئه، يقول الدكتور السنهوري في هذا: "يُراعَى في الأخذ بأحكام الفقه الإسلامي التنسيق بين هذه الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها التشريع المدني في جملته، فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ، حتى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه" (1).
وفي ضوء كلام الدكتور السنهوري يمكننا أن نفهم مراده من جوابه على سؤال الشيخ عبد الوهاب طلعت باشا، فقد سأله الشيخ: "هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟ " فقال السنهوري: "أؤكد لك أننا ما تركنا حكمًا صالحًا في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا القانون إلا وضعناه" (2).
فمدى صلاح الحكم الموجود في الشريعة الإسلامية للقانون المدني مبني
__________
(1) المصدر السابق (1/ 61).
(2) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 159).(1/398)
على موافقته للمبادئ التي بني عليها القانون الوضعي، وهل يليق بالدكتور السنهوري أن يقسم أحكام الشريعة إلى أحكام صالحة وأحكام غير صالحة، وينصب نفسه حكمًا يأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء!!، ولاحظ قوله: "يمكن أن يوضع في هذا القانون" لتعلم أن بعض الأحكام التي يمكن أن تكون صالحة في رأيه لم يأخذ بها؛ لأنه لا يمكن وضعها في ذلك القانون لمعارضة مبادئ القانون لها.
وفي إجابة أخرى للدكتور السنهوري على سؤال من الشيخ عبد الوهاب طلعت قال الدكتور السنهوري: "لقد أخذنا كل ما يمكن أخذه عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث" (1).
لاحظ في الإجابة قوله: "كل ما يمكن أخذه"، وقوله: "مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث" لتعلم أنه أقام نفسه وأصول التقنين الحديث حاكمًا على شريعة الله يأخذ منها ما وافق أصول التقنين الحديث، ويترك ما خالفه، كأنما حكم الله وشرعه متروك لأحكام البشر وأهوائهم.
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
وقد اقترح الدكتور السنهوري أن تكون المادة الأولى في القانون هكذا "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا
__________
(1) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 159).(1/399)
القانون .. " (1)، فهو يريد تقييد القاضي عندما لا يجد نصًا في القانون ولا في العرف فيأخذ من الشريعة أن يكون أخذه من الشريعة محكومًا بالمبدأ الأكثر ملاءمة لنصوص القانون، فيجعل القانون هو الحاكم والمهيمن على الشريعة الإسلامية، وفي هذا ما فيه.
ْوالمادة الأولى من القانون المدني تقول: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة" (2).
- وهذه المادة تحرم على القاضي الرجوع إلى الشريعة الإسلامية التي ألزم الله الحكام المسلمين بتحكيمها ما دام الحكم منصوصًا عليه في القانون المدني الوضعي، فإذا لم نجد الحكم في نصوص القانون فيوجب علينا واضعه الرجوع إلى عرف البشر، ويجعل أعراف البشر مقدمة على أحكام الشريعة الإلهية، ثم يمن علينا واضع القانون بأن جعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث، ويمن علينا أنه قدمها على القانون الطبيعي وقواعد العدالة، يقول الدكتور السنهوري في هذا: "الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للقانون المدني المصري، وهي إذا أتت بعد النصوص التشريعية والعرف، فإنها تسبق مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة" (3)، وكونها تسبق مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة ليس مبررًا لأن يسبقها التشريع الذي أخذت معظم نصوصه من القوانين الوضعية، وأعراف البشر التي كثيرًا ما تكون أعرافًا
__________
(1) المصدر السابق (1/ 190).
(2) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 182).
(3) "الوسيط - مبادئ الالتزام" (1/ 59).(1/400)
خاطئة، ونحن نرفض قوله بعد ذلك: "ولا شك أن ذلك يزيد كثيرًا في أهمية الشريعة الإسلامية" (1)، ونرفض قوله: "ويجعل دراستها دراسة علمية في ضوء القانون المقارن أمرًا ضروريًّا لا من الناحية النظرية فحسب، بل كذلك من الناحية العلمية التطبيقية" (2).
أما أولاً: فلأن جعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث ظلم للشريعة الإسلامية وانتقاص من حقها، وتقديم لقوانين البشر وأعرافهم على شريعة ربهم، لا كما يقول السنهوري من أنه يزيد من أهميتها.
ثانيًا: لأن الشريعة الإسلامية لا تدرس في ضوء القانون المقارن بحيث يهيمن عليها، ويننقص منها، وهي الشريعة التي أنزلت حاكمة على الشرائع كلها والقوانين والكتب السماوية السابقة وغير السماوية.
وثالثًا: لأن النتيجة التي يمكن تحقيقها من وراء كل هذا محدودة الأهمية، بل تكاد تكون سرابًا، كما يقول الدكتور توفيق فرج أحد رجال القانون، ويعلل ذلك بقوله: "ذلك أن التشريع في الدولة الحديثة يكاد يستوعب كل شيء، وإذا وجد مجال يحتمل أن تقوم فيه بعض الثغرات، فإن العرف من وراء التشريع محيط به في شبه شمول، ولا يبقى لمبادئ الشريعة إلا النزر اليسير" (3).
ويرى أيضا: "أن الدور الذي يترك لمبادئ الشريعة يزداد انكماشًا إذا أخذ بما يتجه إليه البعض من أنه لا يلجأ إلى مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر للقانون - إلا إذا لم تكن تلك المبادئ تتعارض مع المبادئ العامة التي
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) " المدخل للعلوم القانونية " للدكتور توفيق فرج (ص 279).(1/401)
يقوم عليها التشريع المدني في جملته" (1)، ثم ينقل عبارة الدكتور السنهوري الذي يرى هذا الرأي والتي يقول فيها: "فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من تلك المبادئ، حتى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه" (2).
* كيف جعلت الشريعة والإسلامية المصدر الثالث:
على الرغم من أن جعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث الذي يرجع إليه القاضي غير مقبولة بحال من الأحوال، فإن واضعي القانون لم يتكرموا بوضعها إبتداء فقد كان نص المادة في المشروع التمهيدي هكذا: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
ويستلهم في ذلك الأحكام التي أقرها والفقه مصريًا كان أو أجنبيًا وكذلك يستلهم مبادئ الشريعة الإسلامية" (3). وهذه المادة جعلت الشريعة الإسلامية في الذيل كما ترى.
وعندما طبع مشروع القانون ووزع على الهيئات القضائية والقانونية وتحدثت منه الصحف في الديار المصرية طالب الشعب المصري أن تجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرسمي الوحيد لكل تشريع يصدر في البلاد، فلم تستجب رغبة الشعب، وفرض عليه القانون الذي أخذ أربعة أخماسه أو أكثر
__________
(1) المصدر السابق.
(2) "الوسيط" للسنهوري (1/ 49).
(3) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 182).(1/402)
من القوانين الكافرة، وحاول الذين وضعوه وناقشوه استرضاء الرأي العام بجعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث، يرجع إليها القاضي حينما لا يجد مراده في نصوص القانون ولا العرف" (1).
* دعوى موافقة القانون المدني للشريعة الإِسلامية:
زعم واضع القانون المدني أن نصوصه موافقة للشريعة الإسلامية ولا تعارض بينهما، يقول في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي: "ما ورد في المشروع من نصوص يمكن تخريجه على أحكام الشريعة الإسلامية دون كبير مشقة، فسواء وجد النص أم لم يوجد، فإن القاضي بين اثنين، إما أنه يطبق أحكامًا لا تتناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وإما أنه يطبق الشريعة الإسلامية ذاتها" (2).
والدكتور السنهوري يتناقض مع نفسه ففي المناقشة التي جرت بينه وبين الأستاذ الدكتور حامد بك زكي أستاذ القانون المدني في كلية الحقوق بجامعة فؤاد، قال الدكتور السنهوري: "المشروع في أساسه وفي بعض نصوصه يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية" (3)، فهو هنا يقول: إن القانون متفق مع الشريعة في بعض أحكامه لا كلها، وأحب أن أنقل للقارئ الكريم شيئًا من المناقشة التي جرت بين حامد بك والسنهوري في مجلس الشيوخ المصري.
قال حامد بك زكي: إن الجزء العام في القانون خاص بنظرية الالتزامات ومصادرها، وهذا الجزء على ما أذكر قد تناولته المواد من 19 إلى 450 فهو كله أوربي أي روماني.
__________
(1) "المدخل" لعلي علي منصور (ص 103).
(2) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 20).
(3) المصدر السابق (1/ 90).(1/403)
معالي السنهوري باشا: إنه قضاء مصري متفق مع الشريعة الإسلامية (1).
حامد بك زكي: أنا عندما أقول إنه أوربي إنما أعني بذلك أنه روماني.
معالي السنهوري باشا: قل ما شئت، والمهم أنني أقول. إن هذا إنما هو قضاء مصري.
حامد بك زكي: أريد أن أصل إلى القول بأن الأحكام الخاصة بالعقود إنما هي تطبيقات للأحكام الواردة في باب الالتزامات تحت اسم العقود، وأنا من هذه الناحية - أعلن صراحة أن المشروع إنما هو مشروع أوربي بحت، وأعلن أنني أوافق على هذه الفكرة، ولكن أريد أن أصل إلى القول بأن الشريعة الإسلامية قد رجع إليها في بعض المسائل الخاصة باستلهام بعض أحكامها.
الرئيس: إذا نظرنا إلى العلاقات بين الأفراد منذ الخليقة الأبدية نجد أن فلسفة الحياة الموضوعية تتقارب (2).
لقد كان حامد زكي صريحًا عندما أعلن أمرين: الأول أن القانون المدني قانون أوربي روماني بحت، والثاني: أنه راض عن هذا، وأنه لا يرضى بأن تكون الشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع، وقد وضح رأيه هذا في بقية المناقشة.
أما الدكتور السنهوري فإنه يريد أن يجعل القانون المأخوذ من القوانين الأوربية موافقًا للشريعة الإسلامية (3).
__________
(1) هذا الاتفاق لا قيمة له، فإن الشريعة الإسلامية كما بينا في مبحث "خصائص الشريعة" وحدة منسجمة مستقلة، وما يلاحظ بينها وبين غيرها فإنما هو اتفاق عرضي، ثم إن هذه القوانين كما يقول الدكتور محمد عبد الجواد مهما نقلت أو اقتبست من الشريعة لا تزال تحتفظ بأصولها الأجنبية، راجع "بحوث في الشريعة والقانون" (ص 39).
(2) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 91).
(3) هذا الذي قام به السنهوري لا يأبى أضل أهل الأرض عن القيام به، فالكفار لا يمتنعون =(1/404)
لقد كان رجال القانون الذين وضعوا هذا القانون يعرفون أن القانون بعيد عن الشريعة الإسلامية، ولكنهم كانوا يخافون من ثورة الأمة وانتقاد العلماء يقول رئيس اللجنة القانونية لمجلس الشيوخ لدى مناقشة مشروع القانون (1): "وقد قلنا كلنا: إن إغفال الشريعة الإسلامية من شأنه أن يعمل هيجانًا كبيرًا في الأفكار، ولما وجدنا أن المشروع لا يقول بما يخالف الشريعة الإسلامية قلنا نقدم الشريعة الإسلامية على القانون الطبيعي" (2)، فالتقديم للشريعة إنما كان خشية هياج الأفكار!!
* العلماء الأوربيون يقررون ألا لقاء بين القانون الأوربي والإسلامي:
لا يجوز لمنصف صادق في حديثه أن يزعم أن قانونًا أخذت أصوله من القانون الروماني، وأخذت نصوصه من أكثر من عشرين قانونا أوروبيًا - أنه قضاء يتفق مع الشريعة الإسلامية، يقول فتزجيرالد Fitz Gerald وقد كان أستاذ القانون الإسلامي في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بلوندرا يقول في مقال نشره في مجلة القانون الفصلية الإنكليزية عدد يناير 1951 م: "الواقع أن النظامين: الرومي والإسلامي متضادان إلى حد لا يمكن معه التوفيق بينهما فيما يتعلق بالمسائل الأساسية، وهي المأخذ الصحيح للقانون، فالقانون الإسلامي هو قانون الله المشرع الوحيد، ولا سلطة لأي أمير في
__________
= من الاقتباس من الشريعة، فالمستشرق (سانتيدانا) وضع الكثير من قواعد فقه المذهب المالكي في (مجلة الالتزامات والعقود التونسية) التي صدرت سنة 1906 في عهد الاحتلال الفرنسى راجع: "بحوث في الشريعة الإسلامية" (ص 38).
(1) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 92).
(2) هذا هو الدافع لوضع المادة التي جعلت الشريعة المصدر الثالث أفيليق بالسنهوري ورجال القانون أن يملئوا الدنيا ضجيجًا بأنهم أنصفوا الشريعة، ولسان حالهم بل لسان المقال يقول: مكره أخاك لا بطل.(1/405)
وضع القوانين، ومشيئة العوام لا اعتبار لها إلا إذا مثلت إجماعًا عامًا كافيًا" (1).
ويقول أيضًا: "الشريعة كما ذكرنا من قبل تختلف اختلافًا أساسيًا عن القانون الرومي، سواء في طبيعتها أو في غرضها، فالقانون الرومي حتى في خالص ناحيته المجردة والعلمية ليس إلا قانون العلماء القانونيين، أو كما يقال في المثل اللاتيني: "كل قانون وضع فإنه وضع بسبب إنسان"، أما القانون الإسلامي فهو أولاً وقبل كل شيء نظام أهل دين يطبقون الأحكام (الموجودة) على الوقائع، وغرضهم وصل كل نفس إنسانية بالله تعالى .. " (2).
إن الفقه الإسلامي وهو قانون المسلمين جزء من الدين الإسلامي لا ينفك عنه، أما القانون الوضعي فهو علم مادي من أمور الدنيا، يقول المستشرق الإيطالي نالينو Nallino "جعل المسلمون الفقه جزءًا من علم الدين لا ينفك عنه، ولم يجعلوه علما ماديًّا من أمور الدنيا" (3).
* مناقشات بعض رجال القانون لواضع القانون المدني:
سأذكر محاورتين جرتا في مجلس الشيوخ المصري لدى مناقشة مشروع القانون المدني المقر في (1948 م) أحببت أن أثبتهما للدلالة على أن القانون المدني الجديد بعيد عن الشريعة الإسلامية، وليعلم المسلمون أن رجال مصر لم يكونوا موافقين على هذا القانون، وإنما أقر ظلمًا عدوانًا.
المناقشة الأولى: للمستشار حسن الهضيبي:
وقد كان فارسها حسن الهضيبي بك المستشار بمحكمة النقض آنذاك رحمه الله.
__________
(1) انظر كتاب "هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي" (ص 165).
(2) المرجع السابق (ص 166).
(3) المرجع السابق (ص 21).(1/406)
"حسن الهضيبي بك: أود أن أقول: إن لي رأيًّا معينًا في المسألة برمتها، وليس في القانون المدني فقط، وهذا الرأي بمثابة اعتقاد لدي لا يتغير وأرجو أن ألقى الله عليه، إنني لم أتعرض للقانون المدني باعتراض أو بنشر وأنا لم أقل شيئًا يتعلق بمضمونه؛ لأن من رأيي ألا أناقشه.
وقد جئت اليوم بناء على دعوتي؛ لأن، زميلي صادق فهمي بك صحح المسألة بالنسبة إلي، فقد ألحق بالحاضرة التي كان مزمعًا أن يلقيها، كلمة تبين مركزي في هذا المقام.
الذي قلته أنا في تصحيح الرأي الذي نشره صادق بك هو اعتقادي أن التشريع في بلادنا كلها وفي حياتنا جميعا يجب أن يكون قائمًا على أحكام القرآن، وإذا قلت القرآن فإني أعني كذلك بطبيعة الحال سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن طاعته من طاعة الله.
حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: يقصد سعادة حسن الهضيبي بك القرآن والحديث؟
حسن الهضيبي بك: نعم، يجب أن يكون هذان المصدران هما المصدران لكل تشريع فإذا ما أردنا أن نأخذ شيئَّا من التشريعات أو النظم الأجنبية فيجب أن نردها أولا إلاً هذين المصدرين.
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
فإذا كان هذا التقنين صادرًا عن أحكام القرآن والسنة كان بها وإلا فيجب أن نرفضه رفضًا باتًا، ونرد أنفسنا إلى الحدود التي أمر الله بها.
حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: وإن سكت عنه؟
حسن الهضيبي بك: الأمور في الشريعة، أمر ونهي وعفو.
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].(1/407)
أما العفو فهو من الأمور المباحة التي يمكن لولي الأمر أن يصرفها كما يشاء على ما تقتضي به المصلحة.
من أجل هذا لم أشترك في مناقشة مشروع القانون المدني موضوعًا، ومن رأيي أن يصدر كيفما يكون؛ لأني شخصيًّا أعتقد أنه ما دام غير مبني على الأساس الذي ذكرته والذي أدين به فخطئوه وصوابه عندي سيان.
لقد تفضل زميلي صادق بك فهمي وصحح الموقف بالنسبة إلي في مذكرة ألحقها بمحاضرته وكانت بإملائي. ولقد جئت اليوم لأبين لحضراتكم وجهة نظري وإني أعلم تمام العلم أنكم غير مستعدين لقبول هذا الرأي (1).
الرئيس: لا شك أن كل تشريع يمكن أن يوجه إليه كثير من النقد غير المحدد ونحن هنا هيئة تشريعية قدم إلينا مشروع قانون فاجتهدنا في بحثه، ونريد الآن أن نسمع الانتقادات التي وجهت إلى تقرير اللجنة كي تجتمع اللجنة بعد ذلك لاقرار ما تراه، ولقد بدأت الآن بعرض الأمر بالطريقة المنطقية فقد قدمت انتقادات موضوعية، وتريد اللجنة أن تناقش أصحابها.
حسن الهضيبي بك: لقد ذكرت منذ لحظة أن خطأ هذا المشروع وصوابه عندي سيان (2).
رحم الله الهضيبي لقد قال كلمة الحق التي ينبغي أن يقولها المسلم، فهذا القانون لا يستحق أن يناقش؛ لأنه غير مأخوذ من الكتاب والسنة، وصوابه وخطؤه عنده سيان ما دام كذلك، ولم يطل الكلام، فهو يعلم أن القائفين على إعداد القانون غير مستعدين لقبول رأيه؛ لأن الأمر مفروض
__________
(1) كانوا غير مستعدين لقبول رأيه؛ لأن الحكومة المصرية تعهدت في معاهدة "مونترو" للدول الكبرى عندما ألغيت الامتيازات والمحاكم المختلطة أن تضع من الشرائع ما من شأنه أن يكون مطابقًا للشرائع الحديثة، انظر "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 99).
(2) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 48 - 49).(1/408)
على الأمة فرضًا، ولم يستطع السنهوري أن يناقش الهضيبي - رحمه الله؛ لأن الهضيبي كان حازمًا وصريحًا.
المناقشة الثانية: للشيخ عبد الوهاب طلعت:
كان فارسها المرحوم الشيخ عبد الوهاب طلعت باشا:
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟
المقرر: لقد ذكرت ذلك فيما سبق وأقرر أن المشروع اتبع الوضع الذي اختارته البلاد منذ إدخال التقنينات الحالية بل وزاد عليه كما أبنت الآن.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية): أؤكد لك أننا ما تركنا حكمًا صالحًا في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا التقنين إلا وضعناه (1) والدليل على ذلك أن أحد حضرات المستشارين أراد أن يضع نموذجًا مأخوذًا من الشريعة الإسلامية فأتى بنفس نصوص القانون ونسبها للشريعة الإسلامية.
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: وهل استعنتم بالفقهاء الشرعيين لعله يمكنهم أن يساعدوا في هذا السبيل.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية):
لقد قمنا بكل ما يمكن عمله في هذا السبيل، وأخذنا كل ما يمكن أخذه عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث ولم نقصر في ذلك (2).
__________
(1) لاحظ كيف أقام السنهوري نفسه حكمًا يأخذ ويترك من الشريعة الإسلامية ما يشاء.
(2) لم يجب السنهوري على سؤال الشيخ وحاد عن الإجابة، وكان ينبغي أن يقول أنه وضعه بالاشتراك مع ثلاثة من الصليبين ولم يشارك فيه عالم من علماء المسلمين.(1/409)
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: إني كرجل يؤمن بالكتاب المنزل وكرجل درس الشريعة الإسلامية كما درس المعاملات فيها أرى أن فيها ما يتسع لكل شيء.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية):
أرجو أن تجد سعة من وقتك لزيارتي وأنا على أتم استعداد لأن أبحث معك الموضوع وأنا واثق أنك ستقتنع (1، 2).
الناقشة الثالثة: لسيد عبد الله علي حسين:
سيد عبد الله من علماء الأزهر الذين درسوا الحقوق وحصل على درجة الليسانس في الحقوق من فرنسا، وقد كتب كتاب المقارنات التشريعية في مجلدين ردًا على الدكتور السنهوري وعلماء القانون الذين يزعمون أن رجال القانون الأوربيين لم يعتمدوا في قوانينهم على الفقه الإسلامي، وقد أثبت في كتابه أن كثيرًا من قانون نابليون مأخوذ من الفقه المالكي، ومع ذلك فقد أغفل واضعوه هذا المصدر، وقد ناقش المؤلف في مقدمة كتابه الدكتور عبد الرزاق السنهوري في دعواه أن الفقه الإسلامي لا يصلح لأن يجعل قانونًا في الوقت الذي وضع فيه السنهوري القانون المدني مستمدًا من القوانين الأوربية الصالحة لذلك بزعمه.
وقد أورد سيد عبد الله نصوص أقواله ورد عليها، وسأكتفي بإيراد جزء من مناقشته للدكتور السنهوري (3).
__________
(1) واضح أن السنهوري لا يحب أن يسّتثير العلماء المسلمين فتأتي إجابته ناعمة لينة، في نفس الوقت الذي يحيد فيه عن الجواب.
(2) "لجنة القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 159، 160).
(3) "المقارنات التشريعية" (1/ 21).(1/410)
السنهوري: قد دار الزمن دورته والفقه الإسلامي واقف، العالم يمشي وهو جامد، والحضارة تتطور وهو ساكن، فبعد عن الحاجات المتجددة.
سيد عبد الله: أنت أدرى يا سيدي الأستاذ لم وقف؟ لأن من تنطق بحجتهم ومن اعتنقت مذهبهم طاردوه في كل مكان، ولكن أصوله باقية وخالدة على الدهر لا تطفأ.
السنهوري: فأصبح من العسير على الأمم العربية في العصر الحاضر أن تستقي منه قوانينها الحاضرة.
سيد عبد الله: قواكم الله في الإتيان بالبديل، فأنتم وأمثالكم داعون للقوانين الوضعية، وهذا هدم للتشريع الإسلامي، إن بقي فيه شيء لم يهدم من أعدائه ومن احتلوا بلاد المسلمين.
السنهوري: فأخذت تهجره واحدة بعد الأخرى ولجأت إلى القوانين الغربية الحية لتماشي مدنية العصر ومن هنا نشأت أزمة الفقه الإسلامي.
سيد عبد الله: لا يا أستاذ لم تهجر الأمم العربية التشريع الإسلامي كراهية فيه، أو لعدم صلاحيته للزمن، ولكنها أُكرهت من عدوها الذي احتلها على تركه واستبداله بقوانينه، وأظن الأستاذ يشاهد البلاد العربية التي لم يحتلها أجنبي تحكم بالتشريع الإسلامي (اليمن والحجاز).
السنهوري: نحتاج إلى جهود جبارة ووقت طويل حتى يعود الفقه إلى مجده الأول، وينفض عنه غبار الجمود الذي تراكم عليه، فيسترد قوته ورونقه، ويعود جديدًا وفقهًا خصبًا قويًّا.
سيد عبد الله: أدركنا يا رب العالمين من عبادك والطف بنا وبهم في هذا الدنيا، إنك أنت اللطيف الخبير، هذا الذي يمهد السبيل لإصلاح الفقه لو أنه تبنى بحثًا منه ودافع عنه لظن الناس خيرًا، وقبلوا هذه الدعوى، ولكن رجلاً تبنى نظرية لامبير، ونقل لنا أسمالاً بالية من عدة تشاريع وضعية وخاطها لنا(1/411)
قانونًا مدنيًّا، وقال في مادته الثانية ما يأتي: "فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون .. " لا يصح أن يكون حكمًا، ولا يؤخذ قوله حجة.
والواجب أن يقول الأستاذ بلغة العرب الفصيحة: إنني أدعو العرب لهجر التشريع الإسلامي في بلاد الإسلام حتى تعود إليه الحياة، ويعود فقهًا خصبًا قويًّا؛ لأن رجلاً يلزم القاضي بقانونه أن يحكم العادة قبل أن يحكم التشريع الإسلامي لا يصح أن يتكلم في التشريع الإسلامي؛ لأنه يجهله أو يعاديه، إن أعداء الإسلام أخذوا منه ما لذ وطاب، ولم يقل أحد منهم هذه الأقوال؛ لأنهم درسوه وعرفوا قيمته، أصوله وقواعده، ولكنهم سكتوا عن ذكره سكوت أهل القبور، وعملوا على محوه وتعطيله في كل قطر دخلوا فيه، وتركوا من أبناء هذه الأقطار داعية لتشريعهم الوضعي فيها، وهي حقيقة مرة يعرفها من ألقى السمع وهو شهيد.
أيها الأستاذ: إن التشريع الإسلامي حي حياة إلهية، ولو لم يرق في نظرك، فلست أكثر حولاً ولا طولاً ممن محوه من بلاد الإسلام، وأدخلوا قوانينهم، وحكموا بها، وألزموها المسلمين قهرًا، وبلا ذنب إلا احتلالهم، إن علماء التشريع الإسلامي قد أصبحوا والحمد لله يضارعون في تفكيرهم وفهمهم أكبر عالم من علماء القوانين الوضعية، ولو سألتموهم عن أي قاعدة لبهركم وأخذ عليكم مجامع تفكيركم الوضعي ما يجيبون به، ولكن ما تدعون من علم ومعرفة قد جعلكم في نظركم على الأقل أعلم مخلوق وأعظم مشروع، والله يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ونصيحتي إليكم أن ترجعوا إلى التشريع الإسلامي، وفيه ما فوق الكفاية، فتعلموه، وابحثوا، وبشروا به في كل مكان يعظم شأنكم، ويرضى(1/412)
عنكم ربكم، فلستم بمعجزين الله في الأرض، ولو شاء لسلبكم ما تدعون، وليس ذلك على الله بعزيز.
* خلاصة القول في القانون المدني المصري الذي وضعه السنهوري ويبوء بإِثمه أمام الله:
خلاصة القول في هذا القانون الذي زعم واضعوه أنه قانون مصري خالص - أنه قانون بعيد عن الشريعة الإسلامية، وأنه قد أقر أعين الكافرين، وأدمى قلوب المؤمنين، لقد خدعنا أعداء الإسلام عندما سمحوا لنا أن نغير القانون الفرنسي، وقالوا لنا: خذوا قانونكم من أي قانون شئتم، إلا أن يكون القانون المحكم هو الشريعة الإسلامية، فظننا أننا بذلك نلنا استقلالنا.
- يقول الدكتور السنهوري: "لقد ظفر التشريع المصري بالاستقلال في سنة 1937، وكانت معاهدة مونتريه هي صك استقلاله، وظفر القضاء المصري بالتوحيد بعد انقضاء فترة الانتقال، وزوال المحاكم المختلطة" (1).
لقد سمح الكفار لنا بصياغة قونينا بعد أن وجدوا رجالاً رضعوا ثقافته وأعجبوا بقوانينه، وبعد أن أخذوا علينا العهود بأن نتجه نحو تلك القوانين، وبعد أن رضينا بإقصاء شريعة الله.
لقد كان رجال القانون الذين لا يفقهون الشريعة يريدون أن يمصروا الفقه.
- يقول الدكتور السنهوري واضع القانون في كتاب "نظرية العقد" قبل وضعه للقانون بعشرين سنة: "علينا أولا أن نمصر الفقه، فنجعله فقهًا مصريًا خالصًا، نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس فيه أثر عقليتنا" ثم يتألم ويتوجع من
__________
(1) "الوسيط" (1/ 8).(1/413)
حال الفقه في ذلك الوقت: "فقهنا حتى اليوم لا يزال -هو أيضًا- يحتله الأجنبي، والاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة، ولا بأقل عنتًا من أي احتلال آخر" وهو يأسى لرجال القانون في بلده حيث يقول: "لا يزال الفقيه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد، لا يكاد يتزحزح عن أفقه أو ينحرف عن مسراه، فهو في ظله اللاصق، وتابعه الأمين، ثم ينادي مطالبًا: "باستقلال الفقه المصري وتفريغه في جو مصري يشب فيه على قدم مصرية وينمو بمقومات ذاتية" (1). وعندما أتيحت له الفرصة بادر بوضع هذا القانون على النحو الذي وصفه.
- يقول الدكتور السنهوري في القانون بعد وضعه: "إن النصوص التشريعية الواردة في هذا المشروع لها من الكيان الذاتي ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التي أخذت منها، ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية في التفسير والتطبيق والتطور؛ فإن هذا حتى لو كان ممكنًا، لا يكون مرغوبًا فيه، فمن المقطوع به أن كل نص تشريعي ينبغي أن يعيش في البيئة التي يطبق فيها، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات، وما يخضع له من مقتضيات، فينفصل انفصالاً تامًا عن المصدر التاريخي الذي أخذ منه، أيًا كان هذا المصدر، وقد حان الوقت الذي يكون لمصر فيه قضاء ذاتي وفقه مستقل، ولكل من القضاء والفقه، بل على كل منهما عند تطبيق النص أو تفسيره، أن يعتبر هذا النص قائمًا بذاته منفصلاً عن مصدره، فيطبقه أو يفسره تبعًا لما تقتضيه المصلحة، ولما يتسع له التفسير من حلول تفي بحاجات البلد، وتساير مقتضيات العدالة، وبذلك تتطور هذه النصوص في صميم
__________
(1) " الوسيط" (1/ 8).(1/414)
الحياة القومية، وتثبت ذاتيتها، ويتأكد استقلالها، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومي، يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتي مما يجعل أثرهما ملحوظًا في التطور العالمي للقانون" (1).
إن ما قرره واضع القانون المدني ليس صوابًا، كل الذي فعله أن حكم في رقاب المسلمين قانونًا وضعه هو واستمده من أكثر من عشرين قانونًا بعد أن كان يحكم في رقابنا قانون مترجم هو قانون نابليون، والقوانين الوضعية عندنا سواء الذي يضعه نابليون، أو أبو جهل العربي، أو السنهوري فكل القوانين الوضعية تحاد شريعة الله، ونحن نريد أن نتحاكم إلى ما أنزله الله لا إلى ما وضعه البشر.
قد يكون في القوانين الوضعية قانون أفضل من قانون، ولكنها جميعًا مرفوضة عند المسلم الصادق؛ لأنها اعتداء على ألوهية الله وحكمه" (2) اهـ.
ونختم بما قال السنهوري: "السيادة في القانون الإسلامي لله وحده، ولكنه يفوضها للأمة، كل الأمة وليس لشخص ولا لأي مجموعة من الناس أيًّا كانت".
- قال الدكتور عمر الأشقر بعد أن رد شبه السنهوري وأمثاله: لا يخفى على المسلم ما في هذه الأقوال من كفر وضلال" (3).
- ولله در القائل.
عجّتْ فروج الناس ثم حقوقهم ... لله بالبكرات والآصال
كم تستباح بكل شرع باطل ... لا يرتضيه ربنا المتعالي
__________
(1) "الوسيط" (1/ 9).
(2) "الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية" لعمر سليمان الأشقر (ص 123 - 146) - طبع دار النفائس.
(3) المصدر السابق (ص 111) الطبعة الثانية.(1/415)
والكل في قعر الجحيم سوى الذي ... يقضي بحكم الله لا لنوالِ
أَوَمَا سمعت بأن ثلثيْهم غدًا ... في النار في ذاك الزمان الخالي
وزماننا هذا وربك أعلمُ ... هل فيه ذاك الثلثُ أم هو خالي؟
* الشاعر العراقي معروف الرصافي يسقط في وحل الخيانة ويناصر اليهود:
كثيرون مهدوا لضياع فلسطين وامتدحوا الصهاينة .. امتدحوا اليهود، ووصفوا احتفالاتهم في القدس، في ليال هي عندهم بمستوى ليلة القدر في القُدسية!!! ولكنك قارئي الكريم لعلك تصعق حين تعلم أن من هؤلاء الكثيرين الشاعر العراقي معروف الرصافي .. استمع إليه في غيبوبته الفكرية .. في قصيدته التي يمتدح بها الصهيونيين يهودا وهربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني في فلسطين في محفل في القدس حضرة عام 1920 م منشدًا:
خطاب يهودا قد دعانا إِلى الفكر ... وذكّرنا ما نحن فيه على ذكر
لدى محفل في القدس بالقوم حافل ... تبوّأه هربرت صموئيل في الصدر
دعاهم رئيس القدس ذو الفضل راغب ... إِليه، فلبوا دعوة من فتى حُرِّ
فأمسوا وفي ليل المحاق اجتماعهم ... يحفول من هربر صموئيل بالبدر
فيا ليلة كادت وقد جلَّ قدرها ... تكون على علاتها ليلة القدر
ولما تناهى من يهودا خطابه ... وقد سرّنا من حيث تدري ولا ندري
تصدّى له هربر صموئيل ناطقًا ... بسحر مقال جلّ عن وصمة السحر
وعدت فأمسى القوم بين مشكل ... ومنتظر الإِنجاز منشرح الصدر
فكذِّبْ وأنت الحر من ساء ظنه ... فقد قيل: إِن الوعد دين على الحر(1/416)
ولسنا كما قال الألى يتهموننا ... نعادى بني إِسرائيل في السرَّ والجهر
وكيف وهم أعمامنا وإليهم ... يمتّ بإٍسماعيل قدمًا بنو فهر
هما من ذوي القربى، وفي لغتيهما ... دليل على صدق القرابة في النجر
ولكننا نخشى الجلا، ونتقي ... سياسة حكم يأخذ القوم بالقهر
وهل تثبت الأيام أركان دولة ... إِذا لم تكن بالعدل مشدودة الأزر
وها أنا قبل القوم جئتك معلنًا ... لك الشكر حتى أملأ الأرض بالشكر
وعلى أثر هذه القصيدة طرد الشعب الفلسطيني " الرصافي " بعد رجمه بالحجارة! وقد غادر القدس فجرًا، ولسان حاله يردد:
إِذا أنكرتني بلدة أو أنكرتها ... خرجت مع البازي عليّ ظلام
وماذا ننتظر من الشعب الفلسطيني غير هذا التوديع بالطرد والحجارة وهو يكيل المديح إلى الصهيوني "هربرت صموئيل" أو موضى سام أرسلته بريطانيا إلى فلسطين لتهويدها" (1).
* محمد أحمد خلف الله يزعم أن القرآن يحوى الأساطير؟!!
محمد أحمد خلف الله هو القائل: "ما عدا القرآن -يقصد السنة المشرفة- فكر بشري نتعامل معه بعقولنا، وتفسير رسول الله للقرآن قول بشر" (2).
__________
(1) مجلة "إحياء التراث العربي الإسلامي" العدد 12 السنة الثالثة 1401 هـ - 1981 م (ص 72)، والمنشورة كذلك في "ديوان الرصافي" - الجزء الأول - المكتبة التجارية الكبرى، مطبعة الاستقامة - القاهرة - دراسة وتحليل دار اليقظة العربية، بيروت، (ص 30، 1964) للدكتور ممدوح حقي، والمنشور بعضها على صفحات آفاق عربية (عدد آذار 1979 م) بعنوان "الماسونية وعلاقتها بالصهيونية" و"عقيدة اليهود في تملك فلسطين" لعابد الهاشمي ص (21).
(2) "اليسار الإسلامي" (ص 40).(1/417)
محمد أحمد خلف الله هو القائل: "إن النص القرآني إن لم يكن قادرًا على تحقيق المصلحة تركناه، ولجأنا إلى الفكر البشري؛ فإن مدار النصوص على المصالح، فهي أصل والنصوص فرع" (1).
وقد مرّت بنا قصة الدكتور خلف الله الذي كتب عن "الفن القصصي في القرآن الكريم" فوصف قصص القرآن بالخرافة، وزعم أن القرآن نفسه لا ينفي أنه يحوي أساطير؟!! وهذا البحث لقي اتفاق وإجماع أهل العلم في مصر وغيرها على ضلال وجرأة صاحبه، "كما لقي دعم وإعجاب كثير من المشبوهين ومن المستشرقين الذين انبروا للدفاع عنه وتقريظه، حتى إن ج. بالجون، وج. جومييه -من القساوسة الدومينيكان- وصفاه بأنه البحث الوحيد الذي يمثل الاستنارة الحقيقية في الفكر الإسلامي عن حركة المجتمع العربي المعاصر، وقصر القرآن على العبادات والمساجد، كضرورة حتمية لتقدم المجتمع العربي" (2).
- يقول الأستاذ أنور الجندي: "امتدت دعوة أمين الخولي في تلامذته، فظهر عمل خطير هو " الفن القصصي في القرآن " لمحمد أحمد خلف الله، وكان بتوجيه الشيخ (3).
- يقول الأستاذ محمد مصطفى رمضان: " كان الشيخ الخولي وراء كثير من الحملات على القرآن الكريم، ومنها "القصص الفني في القرآن"، فقد أعلن الشيخ أنه متضامن معه فيها وشريكه في التبعية، وذلك جريًا على
__________
(1) "اليسار الإسلامي" (ص 34).
(2) انظر "الوعى الإسلامي" - من مقالة للأستاذ جمال سلطان، و" اليسار الإسلامي " (ص 34 - 35). وانظر كتابي "زهر البساتين".
(3) يعني: أمين الخولي.(1/418)
خطته في الحملة على علوم البلاغة ومسخه لبلاغة القرآن، وكفره بتنزيه الله، ودعوته إلى العامية السوقية المبتذلة (عرضنا لهذه الرسالة في كتابنا "المساجلات والمعارك الأدبية").
- يقول الأستاذ محمد أحمد الغمراوي: هذه الرسالة تقيس القصص القرآني بمقاييس ليست وثيقة ولا مقررة؛ فإن خالف القرآن تلك المقاييس كان عند أصحابها كذبًا وافتراءً على التاريخ، أو كان نوعًا من ذلك الفن الأدبي الذي لا يلتزم الواقع التاريخي، ولا الصدق العقلي، وإنما يخضع في تآليفه لهذه الحرية الفنية التي يخضع لها كل فنان موهوب، وتطبيقًا لهذه القاعدة صار القرآن -في رأي صاحب الرسالة- "يتقوّل على اليهود وينطقهم بما لم ينطقوا به، ويتقوّل أمورًا لن تحدث ويقرر أمرًا خرافيًا أو أسطوريًا ثم يعود فيقرر نقيضه ويغيرّ الواقع ويبدل ويزيد وينقص بحكم هذه الحرية الفنية".
ومن مفاسد هذه الرسالة اعتبارها أن مصادر القصص القرآني هي التوراة والإنجيل والأقاصيص الشعبية، وما امتزج بها من عناصر فارسية وإسرائيلية، وأنه جرى في ذلك خلف قساوسة المستشرقين أمثال ردويل ومرجليوث حتى بلغ به الأمر أنه لم يدرك ما هنالك من تناقض بين نسبة القرآن إلى الحق سبحانه، والحكم على قصص القرآن بأن أكثره غير صحيح.
"ومما يذكر أن محمد أحمد خلف الله قد خاض بعد ذلك في ميدان آخر يهاجم فيه الإسلام، وهو موضوع الشريعة الإسلامية" (1) اهـ.
__________
(1) محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل (المجلد الرابع) - "اللغة والأدب والثقافة" للأستاذ أنور الجندي (ص 535 - 536) - دار الأنصار - القاهرة،(1/419)
* أخطر من يحكم في مسألة الجاهل بتفاصيلها:
- يقول الأستاذ أحمد الشايب في دراسة عن حياته العلمية (1913 - 1970): أشير في إيجاز إلى هذه المعركة العلمية التي دارت في كلية الآداب، عام 1947 م حول مشروع رسالة "الفن القصصي في القرآن الكريم" تقدم به طالب يدعى محمد أحمد خلف الله، بإشراف الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وتأييده والدفاع عنه.
وقد قام هذا المشروع على أساس أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مؤلف القرآن، وأن القرآن في قصصه لم يتحر الصدق، وأنه كان يغير ويبدل في القصص نزولاً على ظروفه الخاصة التي كانت تحيط بالدعوة الإسلامية، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في القصص القرآني الكريم كان يخلق من الحوادث ما لم يقع، ويصوره على أنه الواقع التاريخي إلى نحو ذلك مما لم يستند إلى برهان علمي؛ وإنما كان مجاراة للمبشرين.
وقد شغلت هذه المسألة الجهات الجامعية والأزهرية والبرلمانية، والصحافة ومجلس الدولة، وقد رفض أحمد الشايب هذا المشروع إذ كان معينًا لفحصه، وبرأيه أخذت كل الهيئات المذكورة وقد أبعد أصحابه عن الجامعة.
- هذا هو ملخص كتاب "الفن القصصي في القرآن" الذي يقول كاتبه بالنص في الرسالة، والتي تمثل الخطوط العامة لرسالته "إن القصص القرآني لم يراع الحقيقة التاريخية" وأن المقصود منه عرض فني، فلسنا ملزمين بتصديق حقائق هذا القصص؛ وإنما تقدر فيه "الغاية الفنية" وأن القصص مستمدة من مصادر أخرى غير عربية، كالتوراة والأدب اليوناني والأدب الفارسي، وأن فيه أساطير لا أساس لها.(1/420)
- ويقول تقرير الفاحصين للرسالة من أساتذة الجامعة والأزهر (الشيخ عبد الوهاب خلاف، والدكتور زكي حسن، والدكتور الشرقاوي):
إن أساس هذه الرسالة أن القصص في القرآن عمل فني، خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام الصدق التاريخي والواقعي، وهذا صريح وواضح من جملة مواضع في الرسالة، وقد أيده الكاتب بما استشهد به من الأمثلة:
ففي (ص 26 سطر 10) قرر: أن القرآن أنطق اليهود بما لم ينطقوا به، وذلك في قوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى} [النساء: 157]: و (ص 26) قرر كاتب الرسالة عن قوله تعالى في سورة المائدة: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116]، أن هذا القول وهذا الحوار تصوير لموقف لم يحدث بعد، بل لعله لن يحدث، وفي (ص 89) قرر الكاتب أن قصة موسى -عليه السلام- في سورة الكهف لم تعتمد على أصل في واقع الحياة وفي هذا مخالفة ظاهرة لقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 13]، ولقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111]، وقد واجه هذه الشبهات سبعة من العلماء بالكشف عن زيفها وفسادها.
أولاً: رأى الشيخ عبد المتعال الصعيدي:
صاحب هذه الرسالة لم يكن له أن يظفر إلى الكتابة عن موضوع القرآن، وهو يجهل تعريف التناقض في المنطق، ويبني على جهله به حكمًا خطيرًا في قصة إبراهيم - عليه السلام، وهو يدل على مستوى صاحب الرسالة في العلم، وعلى أنه جرى في رسالته على هذا المنوال فقذف نفسه في بحر لا يحسن السباحة فيه، ولم يخض فيه فحول العلماء وأكابر(1/421)
الحكماء، من الطبري إلى الزمخشري إلى الرازي، وإلى أمثالهم فى علمهم وحكمتهم.
وقد ذكر الأستاذ أحمد أمين: أن صاحب الرسالة يرى أن القصة في التاريخ لا تلتزم الصدق التاريخي وإنما تتجه كما يتجه الأدب إلى تصوير الحادثة، تصويرًا فنيًا، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد، مثل: أن البشرى كانت لإبراهيم أو لامرأته، فدعوى هذا التناقض، تدل على أن صاحب هذه الرسالة لا يعرف تعريف (التناقض)، وعلى أنه سار في رسالته بهذا العلم الذي لا يزال في طور الطفولة، فَضلَّ الصواب وخَبَط خَبْط عشواء، والقرآن أجل من أن يتناول بمثل هذا العلم العاجز، وأخطر من أن يحكم في مسائله من لا يزال يجهل تعريف التناقض.
ولقد قال الله تعالى في البشرى بهذا الغلام: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، وفي هذه الآية كانت البشرى لسارة امرأة ابراهيم -عليه السلام- ثم إن الله تعالى قال في هذه البشرى: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، وقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، وكانت البشرى في الآيتين لإبراهيم -عليه السلام- فهل تبشير سارة مرة بهذا الغلام، وتبشير إبراهيم مرة به من التناقض الذي يصح أن تضرب به قصة إبراهيم مثلاً، للقصة التي لا يلتزم فيه الصدق التاريخي.
اللَّهم لا .. لأن التناقض اختلاف قضيتين في الإيجاب والسلب، اختلافًا يلزم لذاته من صدق إحدى القضيتين كذب الأخرى، فلا بد فيه من الاختلاف في الإيجاب والسلب، ولا بد فيه من الاتحاد في الموضوع والمحمول وقيودهما.
ليس في هذه القصة اختلاف في قضية البشرى من جهة الإيجاب(1/422)
والسلب، فلا يكون التناقض الذي يلزم فيه صدق إحدى القضيتين وكذب الأخرى.
وإنما الذي كان أن كلاًّ من إبراهيم وامرأته يبشر بهذا الغلام، وقد تكررت هذه القصة في هذه السور فذكرت في بعضها بشرى إبراهيم به، وذكرت في بعضها بشرى امرأته به، تنويعًا في الأسلوب وتصريفًا في القصة لمقامات تقتضي التنويع وتستدعي ذلك التعريف.
صاحب الرسالة لا يفرق بين القصص الذي نص القرآن على وقوعها، وبين الأمثال التي يجوز فيها الوقوع وعدمه، وهي أمثال لا أساطير وقد ورد كثير منها في القرآن أيضًا، ولكن صاحب الرسالة لم يرزق قوة التمييز بينها، فخبط فيها خبط عشواء، وسقط سقوط من يتناول ما فوق طاقته.
لقد ذكر الله تبارك وتعالى قصة مريم في سورة آل عمران ثم قال فيما ذكره منها: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وهذا نص قاطع على وقوع هذه القصة.
وذكر قصة نوح في سورة هود، ثم ختمها بقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، فجعل تلك الأنباء وهي من الغيب من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح الاستدلال بها على نبوته إلا إذا كانت صحيحة.
وذكر قصة يوسف في سورة يوسف ثم ختمها بقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102]، وهذا نص قاطع على وقوع القصة، وهكذا اعتبر هذه القصص من قصص الأنبياء ونحوها أمثالاً قرآنية.(1/423)
وهناك أمثال يضربها الله تعالى للناس كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75].
فهذا مثل لا يلزم أن يكون واقعًا وكذلك ما أشبهه في أمثال القرآن، وقد فات صاحب الرسالة الفرق بين هذين الأسلوبين، فأساء إلى نفسه وأساء إلى عمله.
ثانيًا: رأي الأستاذ أحمد أمين في الرسالة:
هذه الرسالة ليست عادية بل رسالة خطيرة، أساسها: أن القصص القرآني عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام لصدق التاريخ والواقع، وأن محمد - صلى الله عليه وسلم - فنان، وبهذا المعنى يرى المؤلف أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وأنها تتجه كما يتجه الأدب في تصوير الحادثة تصويرًا فنيًا، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد.
1 - مثل أن البشري بالغلام كانت لإبراهيم وامرأته.
2 - القصة مخلوقة مثل: {إِذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت} الآية.
3 - والإجابة عن الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليست تاريخية ولا واقعية، وإنما هي لتصوير واقع نفسي عن أحداث مضت في القدم سواء أكان ذلك الواقع النفسي متفقًا مع الحق والواقع أم مخالفًا له.
4 - وربما كانت مسألة الجن، التي تصور رأي الجاهلية في تسمع الجن لأخبار السماء ميدانًا من الميدان القصصي، والقرآن يقرر أن الجن تعلم بعض الشيء، ثم لما تقدم الزمن قرر القرآن أنهم لا يعلمون شيئًا، والمفسرون(1/424)
يخطئون حين يأخذون الأمر مأخذ الجد.
5 - الأنبياء أبطال "ولدوا في البيئة وتأدبوا بآدابها، وخالطوا الأهل والعشيرة وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة ودانوا بما تدين به من رأى وعبدوا ما تعبد من آلهة".
6 - تصوير أخلاق الأمم كبني إسرائيل ليس بضروري أن يكون واقعيًا، بل يصح أن يكون تصويرًا فنيًا يلاحظ الواقع النفسي أكثر من صدق القضايا.
7 - القصة هي العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له أو لبطل له وجود ولكن الحوادث التي ألمت به لم تقع أصلاً، أو وقعت ولكنها نظمت على أساس فني، إذ قدم بعضها وأخر بعضها، أو حذف بعضها وأضيف إلى الباقي بعض آخر أو بولغ في تصويرها، إلى حد يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون حقيقية إلى ما يجعلها في عداد الأشخاص الخيالية، وهذا قصدنا من الدراسة القرآنية.
8 - أخطأ الأقدمون في عد القصص تاريخًا.
9 - منهجه هو معالجة القصة من حيث هي أدب، ويعني بذلك خلق الصور والابتكار والاختراع.
10 - لذلك لا مانع من اختلاف تصوير الشخصية الواحدة في القرآن.
11 - لعل قصة موسى في سورة الكهف لم تعتمد على أصول من واقع الحياة، بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ.
12 - القرآن عمد إلى بعض التاريخ الشعبي للعرب، وأهل الكتاب ونشره نشرًا يدعم غرضه كقصة ذي القرنين؟؟!!
13 - قصة إبليس من نوع الخلق الفني الذي يتشبث فيه القرآن بالواقع.
14 - عناصر القصة هي العناصر الفنية والأدبية التي اتخذ منها الفنان مادته التركيبية والتي أعمل فيها خياله وسلط عقله ونالها بالتغيير والتبديل،(1/425)
حيث أصبحت وكأنها مادة جديدة بما بث فيها من روحه وكذلك القصص في القرآن والبحث عن المصادر في القصص القرآني على هذا الأساس.
15 - يجب ألا يزعجنا هذا لأنه الواقع العملي في حياة كل الفنون والآداب.
16 - إن القرآن كان يغير من العناصر ليجعلها ملائمة للبيئة ولطبيعة الدعوة.
17 - وما تمسك به الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمد - صلى الله عليه وسلم - بالتاريخ، بل قد يكون ذلك من عمل الفنان، الذي لا يعنيه الواقع التاريخي، ولا الحرص على الصدق العقلي، وإنما ينتج عمله ويبرز صوره بما يملك من الموهبة والقدرة على الابتكار والاختراع والتغيير والتبديل.
18 - ومن هذا القبيل خلق صور الجن والملائكة.
19 - تدرج القصص في القرآن كما يتدرج أدب كل أديب، فالأدباء يلتمسون المتعة واللذة في كل أمر فني يعرض لهم، ثم يتقدمون خطوة فيتبعون الاستمتاع واللذة بالمحاولات التي تقوم على التقليد والمحاكاة، ثم يكون التخلف شيئًا فشيئًا، والدخول في ميدان التجارب الخاصة ومظاهر ذلك النسخ والتدرج بالتشريع.
ثالثًا: رأي الأستاذ عبد الفتاح بدوي:
يدعي المؤلف أن الأستاذ محمد عبده، قال: إن القرآن الكريم ليس كتابًا أنزل للتاريخ وضبط الوقائع وترتيب الحوادث التاريخية بعضها على بعض، ولكنه بالإجماع يستخدم التاريخ ويقص من هذا التاريخ حقائق واقعة ثابتة، مرتبًا بعضها ترتيبًا لا استنتاج فيه، كما يستنتج المؤرخ ولكن ترتيب الحق والواقع وينزل بذلك الواقع المرتب ترتيب الحقائق لهداية الناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح.(1/426)
فالقرآن يخالف كتب التاريخ في أمور، ويوافقها في أمور، فالمؤرخ قد يرى من واجبه أن يتتبع تفاصيل الواقعة من الأسماء والزمان والمكان والأحداث، وتفاصيلها؛ لأن هذا كله قد يعينه على استنتاج الحكم التاريخي الذي يحكم به على الواقعة، أو يشبع به صم العواطف فقد لا يعنيه بعض هذا؛ لأنه لا يستنتج الأحكام التاريخية ولكنه الفيصل فيها.
إنه يرتب المقدمات ترتيبًا يقينيًا لا شك فيه: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فالقرآن مصدر من مصادر التاريخ وليس كتابًا من كتب التاريخ.
- يقول المؤلف: على أن هذه المسألة قديمة، ومن أجلها عد الأصوليون القصص القرآني من المتشابه، ولقد نتج عن ذلك طريقتان: طريقة السلف، وطريقة الخلف، أما الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقع، وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام.
وهذا الذى يقوله المؤلف: جرأة أخرى على الأصوليين، وتقول مفترى على الإمام محمد عبده، فليس أحد من الأصوليين ولا أحد من المسلمين يعتبر القصص القرآني متشابهًا، ولا نعرف أحدًا من الأصوليين ولا المسلمين لا يلتزم بما ورد في القرآن من القصص؛ وإنما هي أحداث وقعت وحوادث هي خلاصة الحقيقة التي وقعت في سوالف الأزمان، يسوقها القرآن عبرة وهدى للعالمين، وليدلنا المؤلف على أصولي لا يقول هذا، أو عن مسلم لا يقول هذا.
وكلام المؤلف افتراء على الأستاذ الإمام يكذبه قول الإمام ومنهجه الذي اختطه لنفسه في صراحة لا شبهة فيها ولا اختلاط.(1/427)
- قال الإمام: إذا جاء في نصوص الكتاب والسنة شيء ينافي ظاهره التنزيه "لله تعالى" فللمسلمين فيه طريقتان: إحداهما طريقة السلف: وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، وقوله عز وجل {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، وتفويض الأمر إلى الله في فهم حقيقة ذلَك، مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا.
والثانية: طريقة الخلف وهي التأويل يقولون إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل، فلا يخرج شيء منها عن المعقول؛ فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره، ولا بد من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل.
- وقال الإمام: وإننا على طريقه السلف في وجوب التسليم والتفويض، فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته، وعالم الغيب، وأنا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين.
فالأستاذ الإمام لم يقل أن القصص من المتشابه، ولم يقل بذلك مسلم قبله ولا بعده.
التهمة الأولى الموجهة إلى الباحث: أنه يجهل المقررات المنطقية التي تجمع عليها العقول.
والتهمة الثانية: أنه جهل المنهج الذي يدرس عليه القرآن الكريم، فالقرآن الكريم يدرس على منهجين.
المنهج الأول:
منهج الباطنية وهم فرقة من الملاحدة يعطلون ألفاظ القرآن عن مدلولاتها، ويسلكون بها سبلاً تخيلية وهمية، توصلاً بذلك إلى تعطيل الشريعة الغراء، فهم يدعون للألفاظ أو للجمل مرادًا عامًا لا ينبني على(1/428)
أسس علمية، وهؤلاء كفار والجري على طريقتهم كفر وجهالة؛ لأن مذهبهم هذا مجرد دعاوى لا تنبني على شيء من العلم، فهم يقولون مثلاً في تفسير قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، استقيموا لله وطهروا أنفسكم بالأخلاق الحسنة، وكونوا خاضعين، وليست هناك صلاة شرعية ولا زكاة شرعية ولا سجود ولا ركوع.
المنهج الثاني:
منهج المسلمين، وهو منهج العلم والعقل الذي تقوم عليه نواحي الحياة كلها، وليس القرآن وحده، ذلك أن الكلام يجب أن يكون لألفاظه مدلولات حقيقية تنصرف إليها تلك الألفاظ ولا يعدل عنها إلا إذا وجدت قرينة تمنع من إرادة المدلولات الحقيقية.
فأما ترك تلك المدلولات الحقيقية مع عدم وجود تلك القرينة، التي تمنع من إرادة الحقيقة فإنما هو في غير طريق القرآن خبل وجهالة.
وإذا ادعي شيء من ذلك في مقام القرآن فهو خبالة وجهالة وزندقة، يخرج بها صاحبها من عداد المسلمين؛ لأنها تعطيل لكلام الله تعالى الذي أنزل لهداية البشر أجمعين، ومن المسلمين من يقف عند هذا الحد لا يتعداه، بل يحمل الكلام على الحقيقة ما أمكنه ذلك، ثم على المجاز الذي تدل عليه القرينة عند وجودها، ولا يقولون إن القرآن يشير من وراء هذه الحقيقة أو هذا المجاز إلى شيء من باب الإشارة والإيماء؛ لأن هذه الإشارة وهذا الإيماء لا تدل الألفاظ عليه.
والباطنية لا يعتبرون لله "جل جلاله" ذاتًا، ولا الملائكة موجودات ولا الجنة شيئًا، ولا إبليس حقيقة؛ وإنما يقولون في ذلك كله ما يقوله المؤلف من أن القرآن في ذلك لم يتشبث بالواقع.
ولقد حاولت أن ألتمس بعض المعاذير ولو أوهاها في التورط فيما(1/429)
تورط فيه، فمنعني سلوكه وحالت بيني وبين ذلك خلائقه، ذلك أنني وجدته مدلسًا في النقل، خائنًا للأمانة العلمية، فهو يكذب في النقل أو يبتر المنقول ولا يتمه، بل يخفي منه ما يبين المراد منه، تمويهًا للحقيقة وإلباسًا على الناس.
- ومن ذلك ما نقله عن الرازي "محرفًا" في رسالته، فالفخر الرازي ليس فيه شيء مطلقًا لا من قريب ولا من بعيد. مما نسبه إليه المؤلف فرية واختلافًا، ولعل عند المؤلف أو الذي كان يشرف معه على رسالته نسخ خطية خاصة من كتاب الفخر الرازي، عملت لهما فقط، وخط لهما فيها ما يشاءان ما هذا يا أستاذ وما هذه الخيانة في العلم؟!!!.
كما أورد الأستاذ عبد الفتاح بدوي مثالاً للبتر في النقل، نقل منه المؤلف أيضًا من الفخر الرازي ولم يتمه فجاء الناقد بالجزء الباقي، وهو يغير مفهوم ما أخذه تغييرًا كاملاً، ثم قال: وكلام الرازي صريح في أن القرآن لا يذكر القصة؛ لأنه كتاب تاريخ، بل يذكرها لما في ذكرها من الفوائد التي ذكرها.
وكلام الفخر الرازي صريح في أن القرآن لم يحرف في القصص ولم يغير وكان ذلك دليلاً على أنه بوحي من الله، أما دعوى المؤلف فهي أن القصص القرآني لا يثبت بالواقع، وإذن لا بد من التدليس في النقل، ليوهم القارئ أن للكلام الذي يقوله المؤلف أصلاً في كلام السابقين، وبذلك صارت صفات المؤلف ثلاث: "الجهل والكذب والخيانة".
* وقفه مع محمد أحمد خلف الله:
ومما يذكر أنه حدث إشكال في إقرار إجازة الدكتوراه له، وقرر مجلس الجامعة ضرورة أن يثبت في مقدمة الكتاب عند طبعه هذا الإشكال، الذي يوحي باعتراض هذا المجلس، وقد صدرت الطبعة الأولى متضمنة ذلك ثم رفعت في الطبعات التالية.(1/430)
رابعًا: الأستاذ محمد أحمد الغمراوي:
كل من تعود البحث العلمي وعرف ما في القرآن الكريم واطلع على كتاب "الفن القصصي" لا يشك في أنه بعيد كل البعد عن التفكير العلمي، لما فيه من خبط وخلط كثير، جرى فيه صاحبه خلف قساوسة المستشرقين أمثال روديل ومرجليوث حتى بلغ به الأمر أنه لم يدرك ما هنالك من تناقض، بين نسبة القرآن إلى الحق تبارك وتعالى، والحكم على قصص القرآن الكريم أن أكثره غير صحيح.
وإذا كان البعض لا يرى في هذا الحكم كفرًا ولا شبه كفر فلعله يرى على الأقل أنه تفكير يؤدي إلى جواز الجهل والكذب على الله جل شأنه وهو تفكير لا يمكن بوجه من الوجوه أن يمت إلى التفكير الصحيح، إنه تفكير لا يستقيم إلا على فرض أن القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - لا من عند الله كما يقول قساوسة المستشرقين.
خامسًا: الأستاذ أحمد الشايب:
إن مشروع الرسالة حين تقدم إلى كلية الآداب سنة 1947 رفضت لجنة الفحص تقديمه للمناقشة وأسقطته لأسباب دينية خلقية، ويكفي أن أشير بغاية الإيجاز إلى أن الرسالة تقيس القصص القرآني بمقاييس ليست وثيقة ولا مقررة؛ فإن خالف القرآن تلك المقاييس كان عند أصحابها كذبًا وافتراء على التاريخ، أو كان نوعًا من ذلك الفن الأدبي الذي لا يلتزم بالواقع التاريخي ولا الصدق العقلي؛ وإنما يخضع في تأليفه لهذه الحرية الفنية التي يخضع لها كل فنان موهوب.
وتطبيقًا لهذه القاعدة صار القرآن الكريم "في رأي صاحب الرسالة":
يتقول على اليهود وينطقهم بما لم ينطقوا به، ويتقول أمورا لن تحدث، ويقرر أمرًا خرافيًا أو أسطوريًا، ثم يعود فيقرر نقيضه، ويغير الواقع ويبدل، ويزيد(1/431)
وينقص بحكم هذه الحرية الفنية.
وهكذا كانت صورة موسى في سورة الكهف ليس لها أصل تاريخي أو أسطوري، والإجابة على الأسئلة التي كان يوجهها المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليست تاريخية ولا واقعية.
وقصة إبليس مع آدم من الخلق الفني، الذي لم يتشبث فيه القرآن بالواقع، ومصادر القصص القرآني هي: التوراة والإنجيل، والأقاصيص الشعبية، وما امتزج بها من عناصر فارسية وإسرائيلية، وإن ما تمسك به المستشرقون على أنه من أخطاء محمد - صلى الله عليه وسلم - الناتجة عن جهله بالتاريخ ليس بذي بال.
ذلك لأن المسألة تعلل بأكثر من سبب، فقد يكون ذلك من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي، ولا الحرص على العقلي؛ وإنما ينتج عمله ويبرر صوره ويوحي بما يشاء بقدرته على الابتكار والاختراع والتغيير والتبديل، ثم يدير -صاحب الرسالة- كذبًا وجهلاً على أمثال الزمخشري والفخر الرازي ومحمد عبده، أنهم قالوا بما يؤيد هذا الهراء الجاهلي الضال.
ثم يطلب السيد عبد الرزاق السنهوري -وزير المعارف حينذاك- إلى الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله- فحص هذه الرسالة، وكتابه تقرير عنها؛ فإذا بهذا التقرير يدمغها بالكفر والجهل والفساد؛ لأنها قامت على أسس فاسدة وأنها غارقة في تكذيب القرآن، وأن كاتبها افترى على العلماء، وأنه جاهل لا يفهم النصوص وختم تقريره: بأن تُطهَّر الجامعة من هذه الدراسة التي تنافي الحرية العلمية وتنتهي إلى الفوضى، وتهدم الأصول الإسلامية في هذا البلد الإسلامي.
كما أفتى أكثر من مائة عالم أزهري في طائفة كثيرة من نصوص هذه الرسالة بأنها مكفرة يخرج بها صاحبها عن الدين الإسلامي.(1/432)
ثم نسأل: هل هذه الصورة المطبوعة الآن هي مطابقة لذلك الأصل الذي قدم إلى لجنة الفحص بكلية الآداب عام 1947، والواقع أن هذه الصورة المطبوعة ليست مطابقة لذلك الأصل أولا، ثم هي صورة لا تزال جاهلة ضالة فاسدة ثانيًا.
أما أولاً: فأين هي هذه القصة المنشورة، ما قيل في الأصل عن مصادر القرآن، وأين ما قيل عن قصة موسى في سورة الكهف، وما قيل مما يفيد أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فنان هذا القرآن وصاحبه وأما أنه من عمل الذي لا يعنيه الواقع التاريخي والصدق العقلي، وإنما يغير ويبدل ويزيد ويخترع لأنه فنان موهوب، وكيف حرفت عبارة تدل على أن القرآن يتشبث بالواقع في قصة إبليس وآدم، وكيف اضطرب الأمر أمام الأسطورة والأساطير، بعدما قال الأقدمون إن الأساطير كذب وبهتان لم ينزل به وحي إلى غير ذلك مما يثبت التزوير والتضليل.
أما ثانيًا: فلا يزال القرآن -في هذه الصورة المنشورة- يتقول على اليهود ويتقول ما لم يحدث ويحكي غير الواقع، وحين يقول القرآن الكريم {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] تتوقف هذه الصورة المنشورة أمام هذا النص الحاسم الذي يقطع بأن قصص الرسل غير كاذب ولا مفترى.
- ونقول: ولا يصح لمعترض أن يعترض على أن الأقاصيص القرآنية مخالفة للحق والواقع، أو مخالفات التاريخ -إلى غير ذلك- ما هو آخذ بآفاقها.
وأحب أن أشير هنا إلى أن ما ورد في هذه الصورة المطبوعة عن قول الله تعالى عن اليهود {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} يقول كاتب الرسالة بالحرف الواحد "فليس من شك أن اليهود ينكرون رسالة عيسى(1/433)
ومن أجل ذلك قتلوه فهم لم يقولوا هذا القول؛ وإنما أنطقهم القرآن، ويدعي أن عبارة {رَسُولَ اللَّهِ} إما أنها من قول اليهود سخرية، وإما من قول الله تعالى بيانًا للواقع وإكبارًا لعيسى -عليه السلام- وهذا ما أراده صاحب " الكشاف " وإن لم يفهمه أصحاب الرسالة "خلف الله وأمين الخولي".
ومن الخير لهم أن يرجعوا إلى "الكشاف" في هذه الآية ليعرفوا أن الزمخشري يقول في بيان ذلك. قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعًا لعيسى عما كانوا يذكرونه به، وتعظيمًا لما أرادوا بمثله كقوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 9، 10] وواضح أن صاحب "الكشاف" يريد أن الله يضع الذكر الحسن، على أنه من قوله تعالى لا على أنه من قول اليهود، يفعل ذلك أثناء حكاية قصصهم ومجادلتهم، وإذا أرادوا زيادة الإيضاح فليرجعوا إلى ما قاله الزمخشري نفسه في تفسير هذه الآية {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} من سورة الزخرف لعلهم يعلمون من هذه المقايسة ما يريد صاحب "الكشاف" أن يقوله في تفسير آية النساء.
كذلك يقولون -وهم على سبيل الدفاع عن الرسالة- على الأستاذ محمد عبده إنه يجرى على طريقة الخلف، إزاء القول في القصص القرآني، فيكذبهم الشيخ محمد عبده نفسه، حيث يقول "وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض" وذلك بصدد القول في قصة الخليقة.
وتقولوا عدى الشيخ محمد عبده أنه قال: إن القرآن لا يلتزم حدود التاريخ، وذلك فى تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243]، ولكن الشيخ محمد عبده لم يقل ذلك ولم يعلنه في الرواق العباسي كما ادعوا عليه فليرجعوا إلى تفسير المنار لعلهم يعلمون ما قاله بل(1/434)
لعلهم يفهمون ما قبل ذلك.
وفي ذلك قول الشيخ شلتوت: إن القصص القرآني من المتشابه بهذا المعنى الذي يجري فيه التأويل والتفويض، أما موقفهم من الفخر الرازي فقد سبق أن بينه الشيخ عبد الفتاح بدوي، وبيناه في الحلقة السابقة.
سادسًا: السيد محب الدين الخطيب (1):
فيما ذهب إليه المؤلف في هذه الرسالة تلميح بتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن القرآن موحى به إليه من الله عز وجل، وزعم أنه من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن ما فيه من القصص عمل فني خاضع لما يخضع له الفن من خلق وابتكار، من غير التزام بصدق التاريخ.
والواقع أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فنان بهذا المعنى وأن الأنبياء أبطال ولدوا في البيئة وتأدبوا بأدبها، وخالطوا الأهل والعشيرة وقلدوهم في كل ما يقال ويفعل، وآمنوا بما تؤمن به البيئة من عقيدة ودانوا بما تدين به من رأي وعبدوا ما تعبد من إله، هذا ما ذهب إليه المؤلف وهو كذب.
كما زعم أن القرآن متناقض، فكان يقرر أولاً أن الجن تعلم بعض الشيء ثم لما تقدم الزمن قرر أنهم لا يعلمون شيئًا، وأن قصة موسى في سورة الكهف لم تعتمد على أصل من واقع الحياة، بل ابتدعت على غير أساس من التاريخ.
ويمن محمد أحمد خلف الله على الإسلام، بأنه دافع عنه بقوله: إن ما
__________
(1) نشرت تفصيلات هذه القضية في مجلات الرسالة والأزهر والفتح عام 1947 كما تبادل السيد محب الدين الخطيب وأمين الخولي الحوار حول هذا الموضوع، محب الدين الخطيب في جريدة الإخوان المسلمون، وأمين الخولي في أخبار اليوم، وعندما أقر أمين الخولي بموافقته على كل ما جاء بالرسالة أجابه محب الدين الخطيب، وألقى بنفسه وصاحبه في النار، المجلة.(1/435)
تمسك به الباحثون من المستشرقين ليس سببه جهل محمد - صلى الله عليه وسلم - بالتاريخ، بل قد يكون ذلك من عمل الفنان الذي لا يعنيه الواقع التاريخي ولا الحرص على الصدق العقلي، والواقع أن هذا الكلام فرية لا تقل عن خلط المستشرقين.
سابعَا: الشيخ شلتوت:
هذه الرسالة تقيس القصص القرآني بمقاييس ليست دقيقة ولا مقررة، فإن خالف القرآن تلك المقاييس كان عند صاحبها كذبًا وافتراء على التاريخ، أو كان نوعًا من ذلك الفن الأدبي الذي لا يلتزم الواقع التاريخي ولا الصدق العقلي، وإنما يخضع في تأليفه لهذه الحرية الفنية التي يخضع لها كل فنان موهوب، وطبقًا لهذه القاعدة، صار القرآن في هذه الرسالة يتقول على اليهود وينطقهم بما لم ينطقوا به، ويتقول أمورًا لن تحدث، ويقرر أمرًا خرافيًا أو أسطوريًا ثم يعود فيقرر نقيضه ويغير الواقع ويبدل ويزيد وينقص بحكم هذه الحرية الفنية.
وهكذا كانت قصة موسى في سورة الكهف ليس لها أساس تاريخي، ولا أسطوري، والإجابة عن الأسئلة التي يوجهها المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليست تاريخية ولا واقعية.
وقصة إبليس مع آدم من الخلق الفني الذي لم يتشبث فيه القرآن بالواقع، ومصادر القصص القرآني هي التوراة والإنجيل والأقاصيص الشعبية، وما امتزح بها من عناصر فارسية وإسرائيلية، وإن ما تمسك به المستشرقون على أنه من أخطاء محمد الناتجة عن جهله بالتاريخ ليس بذي بال، والادعاء على الزمخشري والفخر الرازي ومحمد عبده، أنهم قالوا بما يؤيد هذا الهراء (1).
__________
(1) "أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب" للأستاذ أنور الجندي (ص 364 - 378).(1/436)
* تغريد عنبر ثمرة من شجرة الحنظل -مدرسة أمين الخولي - ورسالتها "أصوات المد في تجويد القرآن"
في عام 1965 جدّد الشيخ أمين الخولي حملته على القرآن الكريم، إذ ظاهر الطالبة تغريد عنبر في رسالتها "أصوات المد في تجويد القرآن" التي تقدمت بها إلى كلية آداب جامعة الأسكندرية، وكان الخولي أحد أعضاء لجنة المناقشة مع إبراهيم أنيس وحسن عون، ووضع الخولي خطة يتفادى بها ما وقع لتلميذه خلف الله التي ردّت لجنة المناقشة رسالته إليه، فتظاهر بأنه على غير رأي الطالبة في بعض ما ذهبت إليه؛ لأنه مدرك أن زميليه لن يوافقا على الرسالة، واستنكر إبراهيم أنيس بهتان الرسالة وطعنها في القرآن الكريم، وافتراءها عليه، وأيده الخولي ليقطع عليه وعلى زميله الآخر طريقهما، وقد نجح، نجحت خطة الخولي وخدع زميليه ومُنحت الطالبة الماجستير بتقدير جيد جدًا، ولكن من حضروا المناقشة ثاروا واستنكروا، ورفعوا الأمر إلى مدير الجامعة الدكتور حسن بغدادي وطلبوا وقف الماجستير، واستفظعوا قرار اللجنة؛ لأن الرسالة كانت في جملتها طعنًا لئيمًا في كتاب الله، ولتأييد أعضاء اللجنة في آرائها، وتوقف منح الطالبة الدرجة الجامعية، وذكر الدكتور محمد محمد حسين أن عمل الطالبة في رسالتها لا سند له من الحق، وهو مناهض للمنهج العلمي السليم، وزعمت اللجنة أنها قامت بتهذيب الرسالة وتعديلها، ثم فوّضت إلى الخولي مراجعة الرسالة بعد التعديل والتهذيب، وأعلن الخولي أن الرسالة صالحة للنشر بعد استجابته للتعديل، وظن الشيخ الخولي أن خطته قد نجحت، وأن الرسالة ستظفر بما قُدَر لها من درجة، وأن معولاً جديدًا لهدم القرآن يكون في متناول أعدائه، ولما قرئت الرسالة إذا هي كما كانت مليئة بتجريح القرآن وطعنه، وما كان من تعديل اللجنة إلا الخداع والتضليل.(1/437)
- وأحيا الشيخ الخولي من جديد ما فعل في رسالة خلف الله الذي أشرف على رسالته للدكتوراه منذ بضع عشرة سنة، هذا ما رواه الأستاذ محمد مصطفى رمضان، ثم قال: إن الخولي طامع، طامع في مجد أدبي كمجد العقاد وطه وهيكل والمازني، ولكنه محروم من مواهبهم، فاتخذ هذا السبيل ليشتهر، يضاف إلى ذلك زعم -دون غيره- أنه صاحب مدرسة أدبية، وسمّاها مدرسة الأمناء، والأمناء جمع أمين، وأمين اسم الشيخ، أطلق الشيخ اسم المجموع على مدرسة لا وجود لها إلا في وهمه ووهم من تسلط عليهم.
وكل الحوادث تدل على أن الشيخ الخولي يحقد على القرآن الكريم لغة وبلاغة وأسلوبًا وعلومًا، ويطبل ويزمر للمنكرات يوهمهم أنهم مجددون ما داموا أمناء، وكل من ليس أمينًا فهو لا شيء (1).
- كتبت تغريد عنبر بحثها وهو "دراسة في أصوات المد في تجويد القرآن" وهو بحث يقوم على مجازفات تجمع بين الانحراف والجهل يريد أن يشكل في سلامة النص القرآني.
هذا البحث كُتب تحت إشراف الدكتور حسن عون، وناقشة أمين الخولي وإبراهيم أنيس، وتقول مصادر كثيرة إن البحث من توجيهات أمين الخولي، ولما طالب الدكتور محمد محمد حسين الجامعة بالتوقف عن منح الدرجة واستجابت الجامعة عند ذلك ظهر أعوان الشر ودعاة الهدم، يشنعون به ويهاجمونه منتهزين فرصة أن الصحف كانت في أيدي الشيوعيين، وقادت الحملة "مجلة المصور" التي يشرف عليها محمود أمين العالم وتبين أن وراء القصة أعوانًا وأنصارًا لم يكن في الحسبان أن يقفوا وراء قضية خاسرة مثلها، زعمت الطالبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغيّر ويبدل في القصص القرآني،
__________
(1) " محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل " المجلد الرابع (ص 536 - 537).(1/438)
وأن النص القرآني لم يتعرض للتغيير والتبديل على يد رسول الله وحده، بل تعرض لهذا التغيير والتبديل على أيدي المسلمين الأولين من الصحابة؛ لأن القرآن في زعمها ليس منزلاً من عند الله بلفظه، ولكنه منزل بمعناه، وزعمت أن المسلمين لم يتفقوا على نص موحد للقرآن وكل ما وصلوا إليه في زعمها هو شيء يشبه النص الموحد، وقد تزعمت الحملة "أمينة السعيد" في مجلة الصور بمقالات بدأت في 27/ 5/1966 (1).
- وفي مذكرته التي قدمها إلى الجامعة ردًا على هذا البحث الذي نوقش في 7/ 10/1965.
قال الدكتور محمد محمد حسين: زعمت الطالبة أن المسلمين لم يتفقوا على نص موحد للقرآن، وكل ما وصلوا إليه في زعمها هو شيء يشبه النص الوحد، فكانوا حين يرددون القرآن يحرصون -حسب تعبيرها- على الاتفاق على ما يشبه النص الموحد، وقبل منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك، لأنه كان مطمئنًا إلى أن التحريف من يدخل القرآن، فلغته هي العربية بين قوم يتكلمون بها، وفي الغالب لم يكن الفرد من الصحابة ليغير النص فى كل مرة يقرأ بها (ص 13 سطر 14).
وتعود الطالبة إلى تأكيد تلك المزاعم الفاسدة فتقول (ص 37 س 7):
وعرض الأمر على هذا النحو يساعد على هدم فكرة التوقيف في قراءة القرآن، تلك الفكرة التي لا يقرها الدرس اللغوي أو الواقع التاريخي. ومن الواضح أن نفي فكرة التوقيف هو نفي لتواتر القرآن.
من باب الإنصاف ذكر الدكتور محمد محمد حسين موقف الشيخ أمين الخولي برأي مخالف لرأي الأستاذ أنور الجندي، وقوله أن الشيخ أمين الخولي ندد بما تضمنه بحثها من استخفاف بعقائد المسلمين ومقدساتهم (2).
__________
(1) المصدر السابق (ص 537 - 538).
(2) انظر "حصوننا مهددة من داخلها" (ص 252، 267، 268).(1/439)
- وقال: والاعتراض الثاني هو نتيجة للاعتراض الأول ومترتب عليه هو أن الطالبة قد وقعت في أخطاء فادحة نتيجة للجهل ونتيجة للتعرض لما لا تعرفه، وهي أخطاء تمسّ العقيدة، بل تهدم الأساس الأصيل الذي يقوم عليه الإسلام، وتؤذي إيمان المؤمنين في أعز ما يعتزون به وهو القرآن، وذلك بما زعمته الطالبة وأكدته في أكثر من موضع من أن القرآن الذي يتعبد به المسلمون ليس منزلاً من عند الله، أو هو منزل من عند الله بمعناه لا بلفظه، وهو ما لم يجرؤ أحد من المسلمين على القول به، بل ما لم يجرؤ الملاحدة على الجهر به في وطن إسلامي.
زعمت الطالبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغيِّر ويبدِّل في النص القرآني، فجاء في (ص 8 س 8): ولما كان الرسول يفعل ذلك في أحاديثه العامة معهم، فمن الأولى أن يفعله في الأمر الأهم الذي أتوه من أجله من الطبيعي أن يستبدل في النص القرآني لفظة بأخرى يعلم أنها أكثر شيوعًا في تلك البيئة، أو يرى أنها تحمل شحنات من المعاني تفهم الفكرة أكثر، أو أن يغير في نظام الجملة ليجعلها أكثر وضوحًا، أو ليكسبها بلاغة أكثر في نظر القوم الذين يقرأ أمامهم؛ بل قد زعمت الطالبة أن النص القرآني لم يتعرّض للتغير والتبديل على أيدي المسلمين الأولين من الصحابة؛ لأن القرآن في زعمها ليس منزلاً من عند الله بلفظه، ولكنه منزّل بمعناه، فجاء في (ص 10 س 4):
"ويبدو لي الأمر على النحو التالي: حين نزل القرآن في أول عهده، كان الهدف الأول للمسلمين نشر الدعوة الإسلامية، وطبيعي أن يتركز الاهتمام على الفكرة وأن ينشغل بها الجميع. فكان الرسول يقرأ النص ويغير فيه حسب الظروف، فيسمح لمن يقرأ عليه بقدر من المخالفة. وكذلك الأمر فيما يتعلّق بالأداء".(1/440)
وأكدت الطالبة هذا الزعم الفاسد في مواضع أخرى من بحثها حين قالت (ص 11 س 7).
"على أن الرسول عليه السلام كان يبيح الاختلاف ولا يعمد إلى التخطيء. كان يتسامح في النص بعض الشيء. وطبيعي أن يكون التسامح أيضًا في الجانب الأدائي إن لم يكن على نطاق أوسع".
وقالت (ص 11 س 11):
"كان كل ما يهم الرسول عليه السلام هو المحافظة على الفكرة. هذا بالإضافة إلى أن الرسول عليه السلام لم يضع في اعتباره فكرة التخطيء لمجرد اختلاف لفظين يؤديان معنى واحدًا".
وقالت (ص 11 س 16):
"ولكن الرسول عليه السلام كان حريصًا على الاعتدال وإباحة الاختلاف، ما دامت الفكرة لم تتغيّر، والعبارة لم تخرج عن حدود العربية السليمة".
والسلامة أدنى مرتبة من البلاغة، والبلاغة أدنى مرتبة من الإعجاز" (1).
* أمينة السعيد وعداؤها لكل ما يمت إِلى الإِسلام بصلة:
لو لم يكن لأمينة السعيد إلا مناصرتها لتغريد عنبر في قولها عن القرآن في ست حلقات متتالية، بدأت بالعدد 2172 من المصور الصادر في 7 صفر 1386 (27/ 5/1966 م) واستمرت حتى أنتهت في العدد 2177 الصادر في 12 ربيع الأول 1386 (1/ 7/1966 م) لكفاها خزيًا وذلاً وعارًا، فما بالك بحديثها الدءوب المناقض لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة.
__________
(1) "حصوننا مهددة من داخلها" (ص 256 - 257).(1/441)
- تقول أمينة السعيد: (في مجلة حواء 18 نوفمبر 1972) عن الحجاب والنقاب:
"إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة أو اكتساب رضا الله. فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها (زي إسلامي) لم أجد ما يعطيني مبررًا منطقيًا معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء".
وتستطرد الكاتبة في امتهان هذا الاتجاه الكريم فتقول:
"بعضهم قال: أنه تقليعة جديدة تلجأ إليها الفتيات من أجل لفت الأنظار بعد أن استنفد الميني جيب أغراضها، والبعض قال: إنها الرغبة في الظهور بمظهر التدين سعيًا وراء الزواج والتحايل على أزمة الزواج" (1).
- وتقول أمينة السعيد أن التدين ليس بالتدثر بالأكفان وإنما التدين بالإيمان والعقيدة وطهارة النفس والعفة في السلوك.
وتثرثر أمينة السعيد بنظريتها الباطلة فتقول: "إن خروج المرأة إلى مجال العمل يعني زيادة دخلها ودخل أسرتها وبهذا تستطيع أن تمنح أولادها وزوجها معًا فرصة أكبر للعيش في مستوى لائق" (2).
- وتقول: "إن الخروج إلى العمل يكشف للمرأة الحياة كلها ويعطيها فرصة التعامل مع الناس ودراسة الحياة، وهذا كله ينعكس على شخصيتها وعلى أسرتها بشكل إيجابي يرفع من مستوى المجتمع" (3).
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 44).
(2) المصدر السابق (ص 46).
(3) المصدر السابق (ص 47).(1/442)
وتمضي أمينة السعيد في بث سمومها في كل الآفاق، فهي تعارض عودة المرأة إلى الزي الإسلامي، وترى فيه هوسًا دينيًا، وهي تعترف بأن قوامة الرجل على المرأة شيء مقرر في الإسلام، ولكنها في نفس الوقت تعتبر القوامة اليوم لا مبرر لها؛ لأن هذه القوامة مبنية على المزايا التي كان الرجل يتمتع بها في الماضي في مجال الثقافة والمال، وما دامت المرأة استطاعت اليوم أن تتساوى مع الرجل في كل المجالات فلا مبرر للقوامة" ولا ريب أن هذه الآراء المسمومة التي ترددها أمينة السعيد هي التي طرحتها سيمون دي بوفوار ومجمع المؤامرات المنعقدة على المرأة المسلمة (1).
وتنصح أمينة السعيد في إحدى المشكلات الواردة لها باللجوء إلى الزواج العرفي!! تخلصًا من حكم القانون بسقوط حق الحضانة من المرأة عندما تتزوج مرة ثانية (المصور 3/ 12/1965) هذه النصيحة على ما تتضمنه من احتجاج خفي على موقف الشرع من أحكام الحضانة فإنها دعوة إلى الهروب من القوانين (2).
وتدعو أمينة السعيد إلى تحديد النسل وترمي المسلمين بالجهل في قولها في كلمة لها في (المصور 20/ 10/1966) إن ملايين الجهال في بلادنا هم الذين يرددون أن الله يرسل لكل طفل رزقه.
- يقول الدكتور يحيى هاشم: إن هذا القذف يتعدّى الأشخاص إلى العقيدة التي يؤمنون بها (3).
***
__________
(1) المصدر السابق (ص 48)
(2) المصدر السابق (ص 50).
(3) المصدر السابق (ص 51).(1/443)
* نوال السعداوي مؤسسة بالكامل لإِعلان الحرب على ثوابت الإِسلام .. وكلامها عن الإِله .. هل هو ذكر أم أنثى تعالى الله عما يقول الزنادقة علوًا كبيرًا.
أسست د. نوال السعداوي جمعية "تضامن المرأة العربية" وكان شعار "رفع الحجاب عن العقل" يكتب على أغلفة مطبوعاتها، وكانت معركة الخطاب النسوي مع الحجاب شرسة باعتباره رمز القهر الذكوري الديني الرجعي .. إلخ (1).
- وكثير من هذه التجمعات النسوية في مصر، انفضح أمرها في غمرة جهادها التحرري! وتكشف أبعاد دورها عندما كشف النقاب عن "نفق الدولارات" الذي ينساب في جيوب المتنفذات من زعماء تحرير المرأة، على النحو الذي تكشّفت فيه فضيحة نوال السعداوي وتلقيها أموالاً "سرية من مؤسسة فورد فونديشن الأمريكية وغيرها من المؤسسات الإنجليزية والهولندية" (2).
ولنوال السعداوي عدد من المؤلفات تكشف عن هويتها، من هذه المؤلفات: "المرأة والجنس" و"الأنثى هي الأصل"، و"الوجه العاري"، و"معركة جديدة في قضية المرأة"، و"المرأة والصراع النفسي" و"مذكرات طبيبة"، و"سقوط الإمام".
- تقول الدكتورة هبة رؤوف عزت في تعقيبها على كلام د. نوال
__________
(1) تعقيب على بحث الدكتورة نوال السعداوي للدكتورة هبة رؤوف عزت (ص 263) من كتاب "المرأة والدين والأخلاق" للدكتورة نوال السعداوي، والدكتورة هبة رؤوف عزت - دار الفكر - دمشق، ودار الفكر المعاصر - بيروت.
(2) "ثقافة الضرار" لجمال سلطان (ص 72 - 73) دار الوطن العربي للنشر.(1/444)
السعداوي في كتاب "المرأة والدين والأخلاق".
أما د. نوال السعداوي فإن عداءها للدين واضح، وهي لا تُخفيه بل يظهر جليًا في نصها، وهو عداء يقوم على الأسس التالية كما أوردتها في صفحات النص المختلفة:
1 - أن الدين صناعة إنسانية، ومنتج تاريخي، وهي رؤية علم الاجتماع الغربي بمدارسه الكلاسيكية واليسارية على حد سواء، لذا نجدها تتحدث عن أن الأديان نشأت في عصور قديمة يحكمها النظام العبودي (1) (ص 7)، وهي تتبنى التقسيم الماركسي للتاريخ لمراحل تصاعدية، والدين ينتمي للماضي وليس للحاضر أو المستقبل وهو بالضرورة أداة قهر.
2 - أن أي محاولة للحديث عن الدين بشكل إيجابي يجب أن تحول الدين إلى منحى (ذاتي/إنساني/جواني)، فجدتها كان تقول: "إن الله عرفوه بالعقل" (فلا حاجة للوحي ألبتة إذن)، ووالدها يقول: أنا أعرف الله في أعماقي وهو العدل، الله يخرج من أعماقنا وليس من المطبعة أو من فوق المآذن والجوامع، وهي أقوال كلة حين تستشهد بها الكاتبة أن هذه أول خطوة لفصل الدين عن الحياة وأن هذا هو عين سبب فقدان الدين لآفاقه التحررية كمصدر للعدل الاجتماعي وليس العكس.
3 - أن الدين يجب أن يخضع للهوى، فيتغير بتغير الظروف، لا بالتجديد والاجتهاد وضبط التوازن بين المطلق (الوحي) والنسبي (الواقع) بل بإخضاع المطلق للنسبي، الوحي للمادة، وإلا كان الدين ظلاميًا رجعيًا وأداة
__________
(1) كلامها بالنص (ص 27) من كتاب "المرأة والدين والأخلاق" نشأت الأديان في عصور قديمة يحكمها النظام العبودي، وانعكست الفلسفة والقيم العبودية على هذه الأديان بشكل واضح، لهذا السبب نجد بعض المفاهيم التي تشير إلى "الرق" في بعض الآيات الدينية كما نجد أيضًا التي تشير إلى أن جنس الذكور أعلى درجة أو درجات من جنس الإناث".(1/445)
للظلم والقهر، فهي تقول: "الأخلاق والأديان والقيم كلها تتغير مع تغير القوى المسيطرة سياسيًا على وسائل التعليم والإعلام والتفسير للكتب الدينية، والدين جزء من المجتمع وهو نتاج من نتاجات المجتمع البشري فكرًا وممارسة" (ص 45)، وكأنه لا ثوابت ولا قيم ثابتة بل أديان صناعة محلية .. وحسب!!.
4 - أن الدين هو خادم السياسة يتم فقط توظيفه (ص 46) وهو حليف الرأسمالية البغيضة المستغلة وأداة لاستغلالها، والاقتصاد هو الذي يحدد مسار التاريخ وليس الدين أو حتى الثقافة (ص 62، 69) وببساطة يلتقي الشرق والغرب، والإسلام والمسيحية واليهودية في إصدار القوانين والقيم الأخلاقية والسياسية التي تجعل مفهوم الحرية أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان قاصرة على الرجل وعلاقتهم بالدولة والحكم (ص 72).
5 - أن رجال الدين خضعوا للسلطة السياسية والاقتصادية على مرّ العصور، وإن عليهم أن يعتذروا عن الجرائم التي اقترفوها في حق الناس والنساء كما اعتذرت الكنيسة الكاثوليكية (ص 84).
6 - أن هناك تحالفًا بين الأديان الآن ضد المرأة في المؤتمرات الدولية، والدين حليف الرجعية، ويجب فصله عن حياة النساء ليتحقق التقدم.
والطريف أنها حين تشير إلى الإسلام تشير إليه إشارات أقل ما توصف به أنها مقتضبة، والطريف أنها جلها مغلوطة، ومليئة بالأخطاء المضحكة فهي لا تعرف الفرق بين الآية القرآنية والحديث النبوي الشريف، فتقول: "يقول الله في القرآن لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" (ص 37) وهو حديث وليس آية، وهي لم يصل لها سوى آية واحدة من قصة آدم هي الآية (121 - 122) من سورة طه؛ فتقول: إن القرآن يعلن العفو عن آدم فقط لتحمل حواء وحدها ذنب الخروج من الجنة، ولم يخبرها أحد أن الآية(1/446)
المكملة هي في سورة الأعراف الآيات (22، 23) حيث اعترف الاثنان بالاشتراك في الخطأ وطلبا العفو والمغفرة من الله.
* الإِبداع السعداوي .. المشكلة في الإِله كونه الإِله الذكر الواحد أصل الوجود:
انظر إلى التشوش في تصورها للإله، وهو تشوش قد يكون مقبولاً من ماركس أو إنجلز لأنهما لم يعرفا عن الإسلام شيئًا، أما أن تضع د. نوال السعداوي كل العقائد في سلة واحدة سواء كانت عقائد عن (إله) أو (آلهة)، وترى أن المشكلة في الإله كونه الإله الذكر الواحد أصل الوجود؛ لأن الإلهة الأنثى هي الأصل!!، لذا فهي تحتفي بالعقائد الفرعونية؛ لأنها كان بها آلهة إناث و"كانت لهن مكانة عالية، تعلو أحيانا على الآلهة الذكور" (ص 6)، فالأمر ولا شك سيُغضب الدارسين في مجال الأديان المقارنة، فالمشكلة الحقيقية بين د. نوال السعداوي والله أنه ذكر!!! في حين أنها تريد الله الأنثى؟؟ وحين تجد أنثاها تنفق وقتها في قراءة كتب الأساطير الفرعونية وكتب التاريخ الفرعوني وتخلط بينهما وتتحمل عناء البحث .. أما قراءة القرآن الذي تشير له لمامًا أو أحاديث (محمد) فلا ...
- تقول الزنديقة نوال السعداوي بالحرف الواحد (1): "وهناك من يحاولون تجاهل الحضارات القديمة في بحوثهم العلمية من أجل إثبات أن الإله الذكر الواحد هو أصل الوجود، وليس الإلهة الأنثى، الأم القديمة، أو الأمهات الإلهات، ويثبت التاريخ المصري القديم أن تعدد الإلهات الإناث والآلهة الذكور كان هو السائد، وأن الإلهات كانت لهن مكانة عالية تعلو أحيانًا على الآلهة الذكور، مثال إلهة العدل (معات) وإلهة الطب والصحة والموت (سخمت)، والإلهة "إيزيس" إلهة الحكمة والمعرفة.
__________
(1) " المرأة والدين والأخلاق " (ص 20، 21).(1/447)
وفي هذا المجال يمكن أن يجتهد الباحثون والباحثات، وهناك من يقول: إن (إيزيس) وليس (أوزوريس) هي الأولى في التاريخ التي قامت فلسفتها على التوحيد مثل أمهات (نون) إلهة السماء، وجدتها الكبرى (نون) التي كانت إلهة الكون الموحد دون انفصال السماء عن الأرض، ولقد بدأت الديانات الانفصالية في التاريخ بانفصال السماء عن الأرض، وكانتا وحدة واحدة بقيادة واحدة هي الإلهة الأم الكبرى (نون)، وقد ساعدت هذه الوحدانية على ازدهار الكون ونمو الخير وتوزيعه على الناس بالعدل دون أسياد وعبيد، إلا أن نشوء العبودية أدى إلى ظهور فلسفة جديدة تقوم على الانقسام والتفرقة (فرق تسد) إن هذه الفترة من التاريخ القديم بحاجة إلى دراسات متعمقة بعيدة عن التنافس السياسي والحزبي الذي يقسّم الناس إلى فرق تتنازع الحكم فوق الأرض وفي السماء أيضًا.
إن النبي موسى (الذي نُسبت إليه التوراة) قد قرأ فلسفة إخناتون ونفرتيتي وتأثر بهما ونقل عنهما، وهو أمر طبيعي؛ لأن كل نبي أو زعيم سياسي لا يبدأ من فراغ أو من الصفر، ولكنه يبني أفكاره على أفكار من سبقوه ويزيد عليها، أو يطوّرها إلى الأفضل أو إلى الأسوأ حسب المرحلة التاريخية التي يمر بها الشعب في ذلك الوقت.
- ولعل أكبر تحول من النظام الأمِّي إلى النظام الأبوي في التاريخ البشري هو أن الإله (أوزوريس) أصبح أول الآلهة الذكور الموحدين، الذي ولد نفسه بنفسه، ولم تلده أمه، وهي الإلهة (نوت) "، وكانت إلهة السماء وزوجها (جب) إله الأرض بعد انفصال السماء عن الأرض ... ".
* نوال السعداوي وإِبداع الأساطير:
- تقول الدكتورة هبة رؤوف عزت: "أنا لا أدري كيف تجهل د. نوال السعداوي رغم سنوات العمر الطويلة هذه أن الله في الإسلام {لَيْسَ كَمِثْلِهِ(1/448)
شَيْءٌ} وأنه ليس ذكرًا ولا أنثى وأن هذا هو جوهر التوحيد في الإسلام، والذي يميزه عن أية عقيدة أخرى، يميزه عن تجسد الإله في المسيح الذكر في التراث المسيحي (1)، ويميزه عن الإله في التصور اليهودي، ويميزه عن الإله بالمرة في بعض مذاهب البوذية، وكذا غياب اليوم الآخر.
وفي كتب مقارنة الأديان كلام طويل حول اختلاف تصورات الإله في الأديان والملل المختلفة، لكن آثار الماركسية من إنكار الألوهية، ونزعة التمركز حول الأنثى التي تمثل د. نوال السعداوي نموذجًا مثاليًا لها تحجب كل هذا عن عقل د. نوال السعداوي؛ لأن الدين ليس فقط منفي من عقلها كمصدر للمعرفة بل كموضوع لمجرد المعرفة.
* الإِسلام بشموليته يشمل سعادة الروح والجسد ولا يفصل بينهما خلاف ما تقوله نوال السعداوي:
- تقول الدكتورة هبة رؤوف عزت: "في حين كان الإسلام بالتوحيد توحيدًا للروح والجسد، ومسئولية بالاستخلاف والأمانة، والعمارة للكون وفاعلية اجتماعية بنظام الحقوق والواجبات التي تغذيه علاقات الفضل والعفو والصفح، ترى د. نوال السعداوي من خلال حجاب المرجعية المادية أن "الموروث المقدس الذي يتغلغل إلى أعماق العقل والجسد والروح فيفصل بين الثلاثة فيمزق الإنسان المتكامل والكيان الواحد إلى ثلاثة أجزاء متنافرة متصارعة تحت اسم الجسد والعقل والروح، يندرج منها تحت فرع من العلوم فينفصل عن الفرع الآخر، تدخل الروح تحت علم الدين أو اللاهوت أو الروحانيات، أو الأخلاقيات، ويدخل الجسد تحت علم الطب أو البيولوجي أو الفسيولوجي أو التشريح، وعلم الأمراض، ويدخل العقل تحت تخصص
__________
(1) المُحرف.(1/449)
آخر وهو الطب النفسي أو الأمراض النفسية والعقلية، وينفصل كل ذلك عن الأمراض الاجتماعية أو السياسية التي ينتج عنها الفقر أو البطالة أو الحروب الاقتصادية والعسكرية وغيرها مما يشكل أهم الأسباب التي تعرض أجسام الناس وعقولهم وأرواحهم للأمراض والمشاكل على اختلاف أنواعها.
وأنا لن أتوقف كثيراً أمام لغة الكاتبة المستقاة من الخطاب الماركسي أو الأدبيات الغربية النسوية، من قبيل (المقدس)، و (الموروث) أو (اللاهوت) والتي هي كلمات غريبة عن قاموسنا الإسلامي، غربية لفظًا وغريبة مضمونًا، فقد سبق أن أدركت أن د. نوال تقرأ "عن" الإسلام، ولا تقرأ "في" الإسلام، لكنني فقط أتأمل في هذا الخلط البالغ والمذهل حقًا، ففي حين قامت الأيدلوجية الماركسية ثم الأيدلوجية النسوية على فصل الجسد عن الروح، وانشغلت بالجسد والمادة والاقتصاد والجنس والذات المادية، وبدأت عقلانية، ثم تحولت العقلانية في بعض تيارات ما بعد الحداثة إلى رفض للعقل المحض كمطلق، وإعلاء العقل النسبي، وتم رفض (شمول) الدين، تتجاوز الكاتبة كل هذا بقفزة واحدة، وما أكثر قفزاتها في النص ليصبح الدين هو مصدر هذا الفصل (1)، وهذا كذب ودجل صريح.
* نوال السعداوي والتمركز حول الأنثى:
تنطلق نوال السعداوي في تفكيرها من فكرة المرأة الفرد لا من فكرة الإنسان في إطار جماعة اجتماعية بينها ترابطات من الحقوق والواجبات المتبادلة، وهي تصوغ حقوق المرأة بشكل بالغ التطرف ومثير للسخرية ومسلمات أسطورية مفزعة وصار الأمر عندها محاربة كل المحاربة لأنصار الأبوية الذكورية المستبدة المعادية ... إلخ.
__________
(1) تعقيب الدكتورة هبة رؤوف عزت على بحث د. نوال السعداوي (ص 257 - 259).(1/450)
وهي تريد الاستغناء النسوي عن الرجال جنسًا واجتماعًا وإنجابًا وهي تريد أن نحمل نسب أمهاتنا لا آبائنا "مساواة! " (ص 52)، ثم لماذا لا نجمع بين زوجين؟ (ص 78)، ولماذا لا يحق لنا السفر منفردات دون محارم.
وهي تعلن أن الأسرة غير مقدسة وأن المرأة لن تعود بعد أن تحررت بالاستقلال الاقتصادي "لحيرة" الأمومة والدين والأخلاق (61) ولا لحظيرة البيت (ص 60) فهي في بيت زوجها أجيرة، وفي بيت أبيها عالة .. والأسرة مؤسسة قهر ... إلخ إلخ.
* من فمها أُدينها:
يكفي أن نأتي بمجموعة من عبارات نوال السعداوي لنرى أيَّ شيطانة من شياطين الإنس هذه المخلوقة الغريبة العجيبة؛ وذلك من كتاب " المرأة والدين والأخلاق " تقول الشيطانة نوال: "بدأت أحلم بعالم آخر لا يشطب فيه أحد على أسماء الأمهات، ولا أحد يسألني من أبوك؟ وما دينك؟ وما جنسك؟ أو جنسيتك؟ (ص 12).
- وتقول عن الحجاب: تغيّر شكل الحجاب ونوعه حسب تطور المجتمعات، قد يكون حجابًا ماديًا بالكامل يخفي جسد المرأة وعقلها وروحها وشخصيتها كما يحدث في بعض البلاد حتى اليوم تحت اسم الدين أو الاخلاق، وقد يكون حجابًا من نوع آخر لا تراه العين، تفرضه التربية في البيوت والمدارس والاحزاب السياسية التي يسيطر عليها الفكر السائد الذي يميز الرجال عن النساء (ص 28).
"كان أبي ضد تعدد الزوجات مثل الشيخ محمد عبده .. كان يؤمن أن الله ليس نصًا أو كتابًا يخرج من المطبعة بأموال الحكومة، لكن الله هو العدل والحرية والمساواة بين البشر، لا فرق بين ذكر أو أنثى أو حاكم ومحكوم " (ص 50).(1/451)
وقالت: "بينما كان يرى عمي الشيخ أن النص ثابت ومقدس، كان أبي يرى أن عبادة النص مناقضة للإيمان، وليس ذلك إلا أحد موروثات الوثنية".
ولا زلت أذكر صوت أبي يجادل عمي الشيخ ويقول له: "يا شيخ محمد أنا أعرف الله في أعماقي وهو العدل، الله يا شيخ محمد يخرج من أعماقنا وليس من المطبعة أو من فوق المآذن والجوامع" (ص 50 - 51).
وقالت: إن القانون في بلادنا لا يعطي المرأة إلا حق الوصاية فقط، أما الولاية فهي حق الرجل فقط، لم أعرف هذا إلا بعد موت أبي، حين بدأت أقرأ في القانون والدين لأعرف لماذا حُرِمت من الولاية على أخواتي القاصرات لكوني امرأة على الرغم من أني كنت طبيبة في ذلك الوقت يضع الناس أرواحهم في يدي، وقادني البحث إلى قانون الاحتباس، وقوامة الرجل أو سيادته على المرأة، وهذه هي المدرسة الشائعة في الدين الإسلامي، والتي لا تأخذ من النصوص الدينية إلا ما يؤكد التفرقة بين البشر على أساس الجنس أو العقيدة أو العرق، هذه المدرسة ترى أن حق الولاية لا يجوز أن يُعطى للمرأة أو للرجل غير المسلم، لقد سادت هذه الأفكار في القرون السابقة، في القرن التاسع والثامن، من أجل تأكيد التفرقة بين الناس، وسلب النساء حقوقهم الإنسانية وكذلك سلب الرجال غير المسلمين حقوقهم أيضًا.
هذه الأفكار التي تمنع ولاية المرأة أو ولاية الرجل غير المسلم كان نتاج ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة عن الظروف التي نعيشها اليوم .. " (ص 51، 52).
- حتى في الجنة تريدها د. نوال السعداوي حربًا فتقول (ص 53، 54): أما حقوق النساء والأمهات في الجنة فتحتاج إلى بحث آخر؛ لأن الرجال الذكور يحظون في الجنة بكل شيء وإشباع رغباتهم الجنسية حتى الثمالة مع الحوريات العذراوات اللاتي لا يفقدن عذريتهن رغم الممارسات(1/452)
المتكررة، أما الأمهات والزوجات فإن حقوقهن في الجنة لا تزيد شيئًا عن حقوقهن في الحياة الدنيا وليس لأي واحدة منهن في الجنة إلا زوجها.
- والسؤال الذي يبادر إلى الذهن: "إذا كان زوجها مشغولاً ليل نهار بالحوريات العذراوات فماذا تفعل هي؟ " سألت إحدى القارئات للصحف الدينية هذا السؤال في بريد القرّاء، وردّ عليها أحد المشايخ قائلاً: إن الله قد ساوى بين النساء والرجال في الجنة؛ لأن الممارسة الجنسية في الجنة لا ينتج عنها أطفال مثل الدنيا، وليس هناك خلط للأنساب، ويمكن للمرأة أن تحظى بما تشاء من اللذة مثل الرجل عن طريق الغلمان في الجنة الذين ذكرهم الله بمثل الحوريات للرجال، لكن بعض الآراء من رجال الدين تؤكد أن الغلمان في الجنة لم يخلقهم الله للنساء بل للرجال؛ لأن بعض الرجال يفضلون الغلمان على الحوريات العذراوات" (ص 53، 54).
* وقفة:
هكذا تصبح الجنة أرض الطيبين أرضًا للواط كما تتصورها نوال السعداوي وهؤلاء المخرفون، ولا يستطيع من له أدنى إلمامة بالعلوم الشرعية أن ينطق بمثل هذا (1).
- وفي سقطة من سقطات محمد جلال كشك تحدث في كتابه "خواطر مسلم في المسألة الجنسية" بمثل هذا، فقال: "فكما أن "الحور العين" جزاء من اشتهى الزنا ولم يقربه من خشية الله، فكذلك "الولدان" جزاء من اشتهى وعف" (2)، وانبرى الدكتور جمال مصطفى عبد الحميد للرد عليه في كتاب
__________
(1) انظر "الصاعقة الأزهرية لإبادة الخواطر الشيطانية" والرد على كتاب "خواطر مسلم في المسألة الجنسية" للدكتور جمال مصطفى عبد الحميد.
(2) "خواطر مسلم في المسألة الجنسية" لمحمد جلال كشك (ص 214) - مكتبة التراث الإسلامي.(1/453)
كامل سماه "الصاعقة الأزهرية لإبادة الخواطر الشيطانية" والرد على كتاب "خواطر مسلم في المسألة الجنسية".
- وتقول: "إن الدين جزء من المجتمع، وهو نتاج من نتاجات المجتمع البشري فكرًا وممارسة، وهو نتيجة لتفاعل عوامل اجتماعية وسياسية دولية ومحلية، وله أثر على العقل الواعي واللاواعي للفرد والجماعة، لكنه ليس السبب التاريخي الأول الذي جعل المرأة أقل قيمة من الرجل، لقد انعكست دونية المرأة في النظام العبودي على الأديان وليس العكس" (ص 79، 80).
* عمليات الختان للذكور والإِناث:
مع أن هذا من سنن الفطرة وأوصت به السنة المطهرة إلا أن هذا لا يرضي د. نوال السعداوي، فتقول: "لماذا تحدث عملية ختان الذكور والإناث؟ هل يمكن أن يأمر الله بقطع عضو هو الذي خلقه في جسم المرأة؟ أيمكن أن يقع الله في هذا التناقض؟ أن يخلق شيئًا ثم يأمر بقطعه؟؟ " (ص 82).
- وتقول: "خرجت بكتابي الأول عن قضية تحرير المرأة بعنوان "المرأة والجنس" الذي اشتمل على جزء خاص عن ختان الإناث، تمت مصادرة الكتاب في مصر عام 1969 م، ثم نشر في بيروت بعد ذلك بعامين أو ثلاثة" (ص 83).
- وتقول: خلال عام 1999 م نشرت بعض المقالات في مصر عن أضرار ختان الذكور، وطالبت بمنعه، ونشر المعلومات الجديدة عن مضاره إلا أنني تعرضت للهجوم من السلطة الطبية والسلطة الدينية، يكاد يشبه الهجوم الذي تعرضت له منذ ربع قرن حين كشفت عن أضرار ختان الإناث وطالبت بمنعه، (ص 85).(1/454)
- وتقول عاملها الله بما تستحق: أما المشكلات النفسية لختان الذكور فهي متعددة، أولها: صدمة الألم أثناء العملية الجراحية (نسيت التخدير يا دكتورة!!! ) يبقى الألم في ذاكرة الطفل طوال حياته.
كما أن غياب الغرلة يؤدي إلى عدم الإشباع الجنسي عند الرجل، مما يؤدي إلى أنواع من التوتر والعنف والرغبة في الانتقام من الذين أساءوا إليه في طفولته، ومنهم الأب والأم، وقد لا يستطيع الرجل الانتقام منهما، ولا يجد أمامه إلا زوجته أو فتاة أخرى يغتصبها أو يقهرها" (ص 86).
فلم عدّه النبي - صلى الله عليه وسلم - من سنن الفطرة إذا كان سيؤدي إلى التوتر والعنف والرغبة في الانتقام من الذين أساءوا إليه في طفولته، ومنهم الأب والأم، وختان النساء في أقل حالاته مستحب وجاء فيه حديث أم عطية الصحيح، وأين قول الطب وهو لا يعارض دين الله .. والأبحاث الطبية التي تؤكد فوائد عملية الختان من الناحية الطبية في الوقاية من الإيدز وسرطان العضو التناسلي للرجل.
- وتقول: "في بداية هذا القرن العشرين كان الشيخ محمد عبده ضد ختان الذكور (!! ) واعتبره عادة يهودية لا علاقة لها بالإسلام؛ إلا أن المشايخ عارضوه، وفي بداية الستينيات من هذا القرن ردد الشيخ شلتوت رأي الشيخ محمد عبده، وقال عن ختان الذكور إنه إسراف في الاستدلال، ولم يأمر به الله إلا اليهود" (ص 94).
- وتقول: "إن لقمة العيش تأتي قبل الدين في الحياة البشرية في أي مكان وزمان، ولا يمكن أن يفكر الإنسان في الدين إلا بعد أن يأكل" (ص 107).
***(1/455)
* نوال السعداوي تطالب بتعدد الأزواج مساواة للرجال في تعدد الزوجات:
- وتقول: كنت أتوقع سؤالاً تسأله ملايين النساء في بلادنا اليوم، وهو: إذا تولت المرأة الإنفاق على الأسرة وعلى زوجها وأطفالها هل تصبح لها القوامة؟ هل تحق لها الولاية؟ هل يصبح من حق الأم أن تنسب أطفالها إليها في حالة عدم وجود الأب، في حالة اختفائه وتهربه من المسئولية؟! وإذا كان الرجل عقيمًا لا ينجب الأطفال، وضعيفًا صحيًا وعاطلا بلا مورد رزق والزوجة هي التي تتولى كل شيء وترعى زوجها المريض بمثل ما ترعى أباها العجوز، وهي زوجة شابة في ربيع شبابها وتريد أن يكون لها طفل، فأيهما أكثر إنسانية ورحمة أن تطلق زوجها العقيم الضعيف المريض وتلقي به في الشارع، أم ترعاه في بيتها ثم تتزوج رجلا آخر يمنحها الطفل الذي تريده؟ "ولا أقول الجنس أو اللذة".
ستكون هذه الزوجة في نظر القانون والدين مجرمة تستحق السجن؛ لأنها تجمع بين زوْجين، رغم أن المسألة هنا ليس فيها خلط للأنساب (لأن الزوج الأول عقيم ومريض) فما المسألة هنا؟ ألا يمكن أن تتغير الأحكام القانونية والشرعية والأخلاقية مع تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية ودواعي الرحمة بالإنسان المريض الضعيف؟ " (ص 214).
وقالت: وقد جادلت مرة إحدى النساء المسلمات حول حق الرجل في تعدد الزوجات، فقالت: لقد شرع الله هذا الحق للرجل رحمة بالنساء اللائي بلا مورد رزق إلا زوجها. أليس الأفضل لها أن يكون لها زوج آخر عن أن يطردها زوجها إلى الشارع؟.
- المسألة إذن في تعدد الزوجات هو توفير المأوى والرزق للزوجة(1/456)
الأولى، فلماذا لا يسري المنطق ذاته لتوفير المأوى والرزق للزوج الأول العقيم المريض؟! إذا كانت الرحمة هي المقياس، فلماذا لا تشمل الرحمة الرجل العاطل العقيم، كما تشمل المرأة العاطلة العقيمة؟!
إن عامل العقم هذا عند الزوج يخرجنا من مأزق اختلاط النسب الأبوي، حين يُنسب الطفل إلى الأب فقط، حيث إن مناقشة هذا النسب الأبوي ونقده أكبر من هذا البحث" (ص 214).
- وتقول: "إن مشكلة الأديان بما فيها الأديان السماوية الثلاثة أنها نشأت في ظل مجتمعات عبودية، ولهذا انعكست هذه الفلسفة العبودية الفردية في الأديان، كما دخلت هذه الثنائيات إلى الأديان ومنها ثنائية: (الأنا) الخير أو الصواب، والآخر (الشيطان) الشر أو الخطيئة" (ص 217).
- وتقول (ص 227، 228): "المشكلة الحقيقية في رأيي هو (مفهوم الألوهية) وليس وجودها أو عدم وجودها، وإذا كان الله هو العدل والحرية والمساواة والكرامة والحق والجمال فهو موجود؛ بل لا بد أن يقف مع المظلومين من النساء والرجال، ولا يقف مع الظالمين والحكام الأقوياء عالميًا ومحليًا وداخل العائلة، إن الذي يسلب الطمأنينة من النساء والفقراء والشباب (وليس الأطفال فقط داخل البيت) هو أن مفهوم الله أو مفهوم العدل والحرية والاستقلال لا يسري على جميع البشر بالتساوى والحق، لكن القوة هي التي تسود ويختفي الحق والمنطق والعقل" (ص 228).
- نقول لنوال السعداوي زعيمة المستنيرات: تطلقين مفهوم الألوهية والله على مجموعة من القيم والمثل .. هل تجهلين وأنت على مشارف الثمانين أن لله ذاتًا لها صفات تليق بجلالها وأن الله ليس كمثله شيء.
- وتقول هذه الآثمة عن قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى(1/457)
النِّسَاءِ} [النساء: 34]. هنا يدخل الله كقوة مقدسة في صف الأزواج فماذا تقول الزوجات الضعيفات الأميات اللاتي لم يقرأن كتاب الله (ص 228)، أين هذه الآثمة من قول الله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
- وتقول عن تعدد الزوجات أيضًا (ص 230): "وإذا كانت الأم نفسها مهددة في أي لحظة بالطلاق أو بالضرة (الزوجة الأخرى) فهل يمكن أن توفر الطمأنينة لأطفالها؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه! " (ص 230).
- وتقول: "يحاول المفكرون الإسلاميون إثبات أن التاريخ البشري بدأ بالإسلام، وأن آدم أول البشر كان مسلمًا، بالطبع لا يقولون إن حواء كانت أول المسلمات أو امرأة مسلمة، وإلا حدثت مشكلة؛ لأن حواء ليست مثل آدم، ولم تتلق من ربها كلمات فتاب عليها" (ص 237).
- وتقول عن ظواهر المشكلة في نظرها: اعتبار النصوص الدينية المكتوبة أو النظريات السائدة من الثوابت أو المطلقات أو المقدسات التي لا يمكن الجدل حولها، إلا فيما يوافق عليها رجال الدين أو رجال الدولة من ذوي السلطة والنفوذ، كذلك التمسك الحرفي بتأويل أو تفسير وحيد للنص الديني أو النص السياسي والاعتماد على مرجعية واحدة مطلقة وثابتة خارج اكتساب النصوص الدينية وتوجيهات الملوك والرؤساء قداسة ترتفع فوق القانون الاجتماعي لتصبح صالحة لكل زمان ومكان لا تقبل المساءلة أو المراجعة إلا بشروط القوة الدينية والسياسية التي تتبناها.
ومن هنا يظهر التناقض بين النصوص والنظريات المجردة الثابتة وبين الحياة اليومية المتغيرة على الدوام (ص 237، 238).
- وتقول (ص 239): "أيهما أكثر أخلاقًا الرجل الذي يخلص لزوجته وأطفاله (ولا يشردهم ليتزوج أربع زوجات) أم الرجل الذي يوثق عقد الزواج(1/458)
ويدفع المهر ويستوفى الشروط القانونية، ثم يخون زوجته وأطفاله وينطلق وراء الشهوة الجنسية، ويتزوج بامرأة أخرى؟! " (ص 239) (1) فتعدد الزوجات يبيحه الله وتعتبره نوال السعداوي خيانة.
- هذه كلمات من فكر الزندقة .. ستذهب هذه الكلمات وصاحبتها إلى مزابل التاريخ ويبقى الإسلام ما بقيت السموات والأرض، وتبقى كلمات الله تضيء الطريق للناس كافة ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثًا.
***
__________
(1) نوال السعداوي في تعقيبها على بحث الدكتورة هبة رؤوف عزت - 8 أغسطس سنة 2000 من كتاب "حوارات لقرن جديد"، "المرأة والدين والأخلاق" الدكتورة نوال السعداوي - الدكتررة هبة رؤوف عزت.(1/459)
جبران خليل جبران
* أسلوب جبران: "إِباحي .. إقليمي .. فوضوي .. ملحد .. متطرف .. وفي كتابه "النبي" يصور نفسه على أنه المصطفى المختار الحبيب"
- الكتابات المهجرية قائمة على الإباحية والتشكيك والتحلل.
- المدارس المهجرية الشمالية ثمرة للإرساليات التبشيرية.
استشرى هذا اللون من الكتابات المهجرية وعرف بأدب الظلال والرموز والأضواء وجرت محاولات ضخمة لإذاعته وإعلاء أمره؛ لأنه يقوم على (الجملة التوراتية) وذلك في مواجهة (الحملة القرآنية) التي كان يحمل لواءها مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي، كما كان في مضمونه قائمًا على الإباحية والتحلل والتشكيك في العقائد والنبوات، ظهر ذلك في كتابات جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمه وأمين الريحاني.
ولقد اعتمد الأدب المهجري على عناصر ستة:
أولاً: الحملة العنيفة على اللغة والدين ومقومات المجتمع الإسلامي.
ثانيًا: استمد المهجريون أسلوبهم في الشعر والكتابة النثرية من مذهب ويتمان، واستمدوا مفاهيمهم من نيتشه ومذهب وحدة الوجود واللاأدرية.
ثالثًا: الثورة على الألوهية والإفراط في الإباحية وإدخالها مرحلة التصوف ومهاجمة القيم الأخلاقية في الحب والزواج.
رابعًا: حاولوا تغيير قيم الأدب العربي بإدخال أسلوب جديد مستغرب يصادم مفاهيم البلاغة ويعلي عليها صيغة التوراة والمجاز الغربي.
خامسًا: تغلبت عندهم النظرة العالمية المفرقة في الأممية والتبعية على النزعة الوطنية المناضلة في سبيل الحرية والقوة.(1/460)
سادسًا: الإسراف في الجانب الرومانسي المليء بالظلال والحالم، والمفهوم الرمزي المغرق في العاطفة والخيال المضاد لطابع النفس العربية المسلمة.
ويمكن القول بأن المدرسة المهجرية الشمالية، كانت ثمرة من ثمار الإرساليات التبشيرية التي وردت لبنان وسيطرت على وجود التعليم والثقافة فيه، ثم كان لهذه الثمار اتصالها بالمدارس الغربية وخاصة مدرسة بوسطن التي اتخذها المهجريون مقرًا لهم، وهي من قديم مقر الإرساليات التبشيرية في الولايات المتحدة، فلما صدرت عن أدبها الجديد تلقفته أيدي دعاة الغزو الثقافي وعملت على إذاعته والدعوة إليه بوصفه لونًا جديدًا من ألوان الأدب العربي المتسم بالعنصرية والجرأة على القيم وذلك في مواجهة المدرسة العربية الإسلامية.
ولعل أصدق ما يمثله الأدب المهجري ما كتبه جبران خليل جبران نفسه عام 1919 بعد أربعة عشر عامًا من بدء كتاباته عام 1905، قال في خطاب له إلى (إميل زيدان) إن فكرى لم يثمر غير الحصرم وشبكتي ما برحت مغمورة بالماء، ومن الحق أن أسلوب جبران قد بهر كثيرًا من الشباب وسرى سريان النار في الهشيم، ولكن سرعان ما انطفأ وفقد أثره، وذلك لمصادمته للنفس العربية الإسلامية، ومعارضته لمنهجها، وتضاربه مع مزاجها النفسي الاجتماعي، ذلك أن جبران كان إقليميًا مغرقًا في الإقليمية إباحيًا مسرفًا في الإباحية، وقد حاول في الكثير من نبراته محاكاه (مزامير داود) ونشيد سليمان وسفر أيوب، ومراثى أرميا، وتخيلات أشعيا، حيث كان أسلوب التوراة هو المثال الأدبي الأول الذي تأثر به، فقد حفلت كتاباته بمجموعة من الصور والتعبيرات التي استقاها من الأسفار، فهو يقدم أشباه الجمل والظروف والأحوال، ثم يمزج ذلك بعين وافد هو أسلوب (ولت ويتمان) الشاعر الأمريكي.(1/461)
كما أشار كثير من مترجمي سيرته إلى حرمان الكنيسة له وهو في العشرين من عمره، على أثر قصيدته التي هاجم فيها الأديان، اندفع في طريق إحياء أمجاد فينيقية وحضارة الكلدانيين، وقد أشار في خطاب له من بوسطن 1920 إلى صديقه نخلة إلى هذا المعنى، فقال: إن القوم في سوريا يدعونني كافرا والأدباء في مصر ينتقدونني قائلين: هذا عدو الشرائع القديمة، والروابط القديمة والتقاليد القديمة وهؤلاء الكتاب يا نخلة يقولون الحقيقة لأني بعد استفسار نفسي وجدتها تكره الشرائع.
بل لقد صور جبران مفاهيمه وانحرافاته في مقال مطول استهله على هذا النحو: "هو متطرف بمبادئه حتى الجنون، هو خيالي يكتب ليفسد أخلاق الناشئة، لو اتبع الرجال والنساء المتزوجون وغير المتزوجين آراء جبران في الزواج لتقوضت أركان العائلة وانهدمت مباني الجامعة البشرية وأصبح هذا العالم جحيمًا وسكانه شياطين، قهرًا عما في أسلوبه في الكتابة من الجمال فهو من أعداء الإنسانية، هو فوضوي كافر ملحد، ونحن ننصح لسكان هذا الجيل المبارك بأن ينبذوا تعاليمه ويحرقوا مؤلفاته لئلا يعلق منها شيء في نفوسهم، وقد قرأنا له الأجنحة المتكسرة، فوجدناها سما في الدسم".
- هذا ما يقوله الناس عني وهم مصيبون فأنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي قلبي كره لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة، أما قول بعضهم أن كتاباتي (سم في دسم) فكلام يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، فالحقيقة العارية هي أنني لا أمزج السم بالدسم، بل أسكبه صرفًا غير أني أسكبه في كئوس نظيفة شفافة.
أما الذين يعتذرون عني أمام أنفسهم قائلين: هو خيالي يسبح مرفرفًا(1/462)
بين الغيوم، فهم الذين يحدقون بلمعان تلك الكئوس الشفافة، منصرفين عما في داخلها من الشراب الذي يدعونه (سمًّا) لأن معدهم الضعيفة لا تهضمه، قد تدل هذه المواطأة على الوقاحة الخشنة، ولكن ليست الوقاحة بخشونتها أفضل من الخيانة بنعومتها، إن الوقاحة تظهر نفسها بنفسها، أما الخيانة فترتدي ملابس فصلت لغيرها. اهـ.
هذه الاعترافات الجبرانية تكشف بوضوح عن طابع غريب عن الأدب العربي وقيمه، ومزاجه النفسي وانتمائه الإسلامي، هو طابع دخيل مسرف في التحدي والتشويه وهو ليس في الأغلب طابع النفس المنحرفة التي حملها جبران، ولكنه طابع الغزو الثقافي الذي يدفع جبران ويرسم من وراء ذلك أهدافًا وغايات، ومع ذلك فقد سقط (أدب جبران) ولم يحقق النتائج التي عول عليها دعاة التغريب.
- وإذا رجعنا إلى حياة جبران نفسه، وجدنا تفسيرًا واضحًا لاتجاهاته الأدبية، وقد عرض لهذه الحياة أصدق أصدقائه -ميخائيل نعيمه- في كتابه عنه، كما أفاض في ذلك كل الذين أرخوا لحياته، فقد كان أبوه ميالاً إلى حياة اللهو والشراب، سكيرًا مرحًا، وكانت أمه مريضة وأخواته كن مرضى بنفس المرض الخبيث، وأنه بدأ حياته بقراءات بسيطة فحفظ (مزامير داود) ولم يستطب قواعد اللغة العربية من صرف ونحو، ثم قصد إلى بوسطن 1895 دفعا لشقاء العيش وضيق ذات اليد مع أخيه وأختيه (بطرس ومريانا وسلطانة) حيث تعلم اللغة الإنجليزية واحتضنته الأيدي المتطلعة إلى المشارقة الأغرار، ولم يكن يعرف من العربية إلا حروف الهجاء، ولم يلبث أن عاد إلى بيروت للتزود من اللغة، قال جبران: "فأنا لا أكاد أعرف من لغة أجدادي إلا ألفها وباءها، ولا أعرف من بلادي غير مسقط رأسي، ومن الضروري لي أن أدخل مدرسة في بيروت لأتعلم لغتي على الأقل"، ثم(1/463)
توجه جبران إلى الأساطير والميثولوجيا، وكانت التوراة في ترجمتها العربية هي المكون الأول لأسلوبه الكتابي، وكانت التوراة قد ترجمت باللغة العامية، فلما التزم بها المهجريون لم يستطيعوا إعطاء الأسلوب العربي حقه من البلاغة، ومن أجل قصورهم هذا هاجموا الأسلوب البليغ، وماتت الأم وسلطانة وبطرس بنفس الداء، وبقيت مريانا تخيط الثياب لتطعمه، وكان جبران مريضًا فقد تزاحمت عليه الأمراض وحملت رسائله صراخًا عاليًا منذ وقت مبكر في حسابه بما داهمه من الأمراض، القلب يسارع في الوجيب، تسمم في المعدة، داء النقرس، الأنفاس تتفتق بها الرئتان ومثل هذه الشخصية بتلك الوراثيات والتكوين الاجتماعي، هي شخصية مهزوزة مريضه عقليًا واجتماعيًا وجسديًا، ولا تصلح بتكوينها ولا بعقائدها؛ لأن تأخذ مكان الصدارة أو التوجيه فيه، وإنما هو الغرور الذي صور له عندما كتب كتابه "النبي" أنه هو النبي نفسه وقد استنكر ميخائيل نعيمه، أن يصور جبران نفسه نبيًا ولو تحت نقاب من التمويه الفني، وليس يسع أحدًا إلا أن يستكثر هذا الشطط، غير أن حياة جبران تفسره وتجعله غير مستغرب من مثله وإن كان في ذاته مما يستهين على حد تعبير المازني الذي يقول: "إن جبران كان يشعر في سريرته بنقص ويتمرد عليه".
- ومن اهتزاز شخصية جبران، أنه كان يدعي أنه حاز شهادة الأمتياز من كليه الفنون الفرنسية، وسُمي عضوًا في جمعية الفنون الفرنسية، ونال عضوية الشرف في جمعية المصورين الإنجليزية، بينما لم ينل شيئًا من كل هذا، ويرى ناقدوه أنه يناقض نفسه في الإعلان بهذه الأكاذيب، بينما يدعي أنه يكره التقاليد التي يحرص عليها الناس؛ فإذا هو أشد منهم تهالكًا ولما فتن بالفليسوف (نيتشه) ظهر هذا الأفتتان في كتابه "النبي" الذي قلد فيه أسلوب (نيتشه) في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" وقد بلغ أثر نيتشه في نفسه أنه صار يخجل من أن يكون مسقط رأسه بلدة صغيرة (بشرى) في بلد صغير (لبنان)،(1/464)
وكان يقول إن مثله يجب أن يكون قد ولد في بلد عظيم كالهند مثلاً، ولذلك فإنه عندما طلب إليه (نسيب عريضة) بعض معلومات عن حياته لنشرها في مجلة "الفنون" قال إنه ولد في (بومباى) بالهند.
- ويجمع الكتاب على أن أثر نيتشه في أدبه كان بعيد السوء، وأن كتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت"، قد أعطى جبران تلك المفاهيم المنحرفة التي أذاعها، وزرادشت مؤسس المجوسية، يقول نعيمه: "وما عرف جبران (نيتشه) حتى كاد ينسى كل من عرفهم قبله من كبار الكتاب والشعراء، وعلى قدر ما كان يطيب له أن يختلي به، كان يلذ له في البدء أن يحدث غيره عنه وأن يهدي أصحابه ومعارفه إليه، حتى أنه قال، إن كتاب "هكذا تكلم زرادشت" في نظري أعظم ما عرفته كل العصور، وما استأنس جبران بزرادشت ونيتشه حتى أحس بوحدة أقسى من ذي قبل تكتنفه أينما سار وبغربة تفصله عن ماضيه إلى حد أنه صار يخجل أمام نفسه من كل ما كتبه وصوره في ذلك الحين.
وأشار نعيمة إلى أنه افتتح عهده الجديد بمقال أطلق عليه اسم "حفر القبور" جرى فيها على نهج الزرادشتيه، وبدأ جبران المتقمص في جسد رجل يحب العزم والقوة، لقد سكر جبران بزرادشت وسكر أكثر من ذلك بما قاله فازداد به شهرة في العالم العربي.
- وأخطر ما دعا إليه نزعة جبران المهجرية الوافدة على الأدب العربي محاولة تحويل (الجنس) إلى نوع من القداسة وتحويل الشهوة إلى صوفية، فقد قام أدب جبران زعيم المدرسة على ثلاث دعاثم: (لذة الجنس، الحب الشهواني، المرأة العارية) وقد تأثر في ذلك على حد قول النقاد بمزامير داود والحياة في باريس، ومن ثم أعلن سخريته بكل القيم والمثل، ودعا إلى الاستسلام لسلطان الغريزة والعاطفة الجنسية، وقد راجع كثير من الأدباء آثار(1/465)
جبران، وأجمعوا على أنه يتميز بعدم الاكتراث (1) للأخلاق في بحثه عن لذة الجسد والخروج عن قواعد الدين، وقال عنه الأب الزغبي: إنه يهدم صرح الديانة المسيحية وينبذ جميع الأديان، وإنه كثير الآلهة، ولكن ليس (الله) بينها، وأنه يدين بمذهب عبودية العقل والآراء للشهوة الحيوانية، وأنه هادم للسلطة الدينية والأسرة، وأنه دعا في كل كتاباته إلى (الحب المحرم، والعشق السري، والفحش).
- يقول: أجل، جبران ينادي بحلاوة المرأة العارية ولذة طعمها، وما هذا سوى الشهوة الجسدية المتجسمة، ويصرح بأن الجنة قائمة بهذا الحب، وإنه يدعو إلى إحياء الغرائز، وتغليب الحب الجنسي، ويرى الباحثون أن هذا الأدب لا يستأهل الخلود لعدم ترفعه عن الاستسلام للشهوة المحرمة.
- ويقول الأب الزغبي: إن جبران مصور الأجسام العارية وكاتب الشهوة المطلقة من كل قيد، ولا عبرة عنده بالعقل ولا بالواجب حتى يصطدم الهوى بذلك الواجب، وليس في موسيقى الأدب الجبراني سوى طبول تدوي عن فرع أصواتها وتذيع ضجة البلاغة اللفظية، والكلام الطنان الذي يؤثر بالأذن تأثيرًا قويًا ويصل بالإنسان إلى عالم الدوخة والانذهال، ولا وجود فيه للأنغام العميقة المركبة من كثرة النفسيات المتشاحنة حيث تبرز واحدة من هذه النفسيات وتتغلب على غيرها تغلبًا أخلاقيًا فهو معجب بالزوجة التي تركت زوجها، واتبعت قلب حبيبها، طروب بالاتصال الجنسي شغوف بالمرأة المستسلمة، إلى خادمها المفتري، هذا جبران الذي يسكب السم الأخلاقي في كئوس نظيفة شفافة على حد تعبيره، إن معظم كتاب الغرب في موضوع الميول القلبية والشهوة الإنسانية وتكريسها لم يبلغوا من الفساد الأخلاقي والإباحية ما بلغه الأدب الجبراني فهو قد حول مزامير التوراة من دعاة
__________
(1) الاكتراث: الاهتمام.(1/466)
الفضيلة إلى دعاة الرذيلة، وفي كتاب "النبي" يصور نفسه على أنه المصطفى المختار الحبيب.
ولقد حاول الجبرانيون شن حملة عاصفة على المنفلوطي في حقد وشراسة لأنه هدم الأسلوب المهجري وأسقط جبران، ومن ذلك ما يسوقه مارون عبود في كتابه "جدد وقدماء" من هجوم على المنفلوطي ونسي مارون عبود وغيره، أن المنفلوطي حين أشرق قد كسف شموسًا كثيرة ودخل تحت جناحه كثير من الذين أعجبهم بريق جبران الخاطف من الذين أنفضوا عنه حين اكتشفوا معارضته للنفس العربية الإسلامية ومضادته للمزاج الإسلامي (1). اهـ.
* الدكتور فؤاد زكريا والدعوة بكل قوة إلى العلمانية:
الدكتور فؤاد زكريا الحاصل على درجة الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من جامعة عين شمس عام 1956 م عمل أستاذًا ورئيسًا لقسم الفلسفة حتى 1974، وعمل مستشارًا للعديد من الجهات ومنها الشئون الثقافية والعلوم الإنسانية لليونسكو بالقاهرة، ونائبًا لرئيس الهيئة الاستشارية لدراسة الثقافة العربية، وله العديد من الدراسات والمقالات منها: "اسبينوزا ونظرية المعرفة"، "الإنسان والحضارة"، ترجمة ودراسة جمهورية أفلاطون وغيرها، يدعو إلى العلمنة بقوة، ويطالب بحصر الدين في المسجد أو بإبعاده، وله مناظرة شهيرة أجراها مع الشيخين القرضاوي والغزالي.
- يقول الدكتور فؤاد زكريا في حوار له مع جريدة الثورة الدمشقية - العدد 6775: "إن أوربا قد وجدت الحل الأمثل لمشكلة الدين في حياتها -بإزالته وإقصائه عن ميادين الحياة كلها- أما نحن فلا نزال ننتظر من يتمتع
__________
(1) "أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب" لأنور الجندي (ص 378 - 384).(1/467)
بالجرأة الكافية، ويقدم على حلها.
- ويقول في موضع آخر: "إن الدين يأبى إلا أن يخوض على غير بينة (!!! ) في مسائل الطبيعة والكونيات، وهو ينتظر مصلحين جرآء يقدمون دون مخافة ولا وجل على إصلاح هذا الفساد وعلى إبعاد الدين عما ليس من اختصاصه" وهو هنا يُسقط الموقف الكنسي على المنهج الإسلامي، ومحاولته الوصول بالإسلام إلى ما آلت إليه النصرانية، على ما بين المنهج المحرف وكتاب الله المحفوظ من تضاد" (1).
* إبراهيم مصطفى وكتابة "إِحياء النحو":
دعا طه حسين دعوة خبيثة إلى ما يسميه تيسير النحو فقال: "إن أبينا إلا أن نمضي كما كان النحو وكما كانت الكتابة، فلا بد أن ينشأ عن هذه اللغة العربية الفصحى القديمة لغات مختلفة كما نشأت الإيطالية والبرتغالية عن اللغة اللاتينية القديمة". وهي دعوة إلى تبديل قواعد النحو والصرف.
- يقول الدكتور محمد محمد حسين: إن أصحاب النحو الجديد أو ما يسمونه (تيسير النحو) شعبة من تلك الفرقة الموكلة بهدم تراثنا وقطع كل صلة تربطنا به، فهم لا يهدمون لأن الهدم هو وسيلتهم إلى البناء من جديد، كما يزعمون، ولكنهم يهدمون في حقيقة الأمر لأن الهدم هو هدفهم وغايتهم، وهم بهذا الهدم يمهدون الأرض ويسوونها لبناء جديد ولكنه للأجنبي لا لنا، يسيطر فيها الذين يسخرونهم لما يعملون من بعد ما يشاءون.
زعم أصحاب القواعد الجديدة أن قواعد النحو التي صنعتها اثنا عشر قرنًا سخيفة معقدة.
__________
(1) "اليسار الإسلامي خنجر في ظهر الإسلام" للأستاذ عبد السلام البسيوني - ص (29) - مكتبة الأقصى - الدوحة - قطر.(1/468)
وبقي أن نسأل أصحاب التيسير: كيف يصنع الناس بكتب التفسير والحديث والفقه وشروح دواوين الشعر التي تمتلئ صفحاتها باصطلاحات النحو المتبادلة والتي حكموا عليها بالإعدام، وبقي أن نسألهم: هل استشرتم العرب جميعًا فيما صنعتموه بل وهل استشرتم المسلمين الذين لا يستغني فقهاؤهم عن هذه اللغة التي لا تستعمل غير اصطلاحات النحو الذي يريدون أن يلحقوه بكل ما يريدون إعدامه والقضاء عليه من قديم، أم أنهم لا يعرفون أن هذه اللغة ليست ملكًا لطه حسين وإبراهيم مصطفى والقوصي ومن شايعهم ممن يخافهم أو يرجوهم أو يضله شيطانهم؛ بل هي ليست ملكًا للمصريين وحدهم، بل هي ليست ملكًا للعرب وحدهم ولا للمسلمين وحدهم من أهل هذا الجيل، وإنما هي أمانة يتحتم علينا أن نحفظها للأجيال من بعدنا كما تلقيناها عمن قبلنا، زعم طه حسين في تقريره الذي قدمه إلى وزير المعارف عام 1935 فألقاه في سلة المهملات أن الناس مجمعون على أن تعلم اللغة العربية وآدابها في مصر في حاجة شديدة إلى الإصلاح، ورد نفور الطلبة من الدراسات العربية إلى اللغة العربية وما يتصل بها من العلوم والفنون ما زال قديمًا في جوهره بأدق معاني الكلمة، فالنحو والصرف والأدب تعلم الآن كما كانت تعلم منذ ألف سنة.
ولم يمض على هذا التقرير سوى سنتين حتى صدر كتاب في النحو نسقه إبراهيم مصطفى على ما تخيله طه حسين في تقريره ذاك، وقدم له طه حسين واقترح له اسمًا ضخمًا عريضًا فيه كثير من التبجح والادعاء فسماه "إحياء النحو" والمقول بأن إحياء النحو هو الحلقة الثانية من سلسلة تيسير النحو وهو الصورة التنفيذية لمذكرة طه حسين، ومذكرة طه حسين صريحة في أن الخطوط الأولى ليست إلا تمهيدًا لما يجيء بعد من التطور الذي سيأتي وسيتحقق شيئًا فشيئًا.(1/469)
فهي صريحة في الكشف عن نية صاحبها وعن أسلوبه في استدراج الناس والبدء بالهين اليسير؛ ولأنه لا يسقيهم السم الزعاف القاتل لساعته؛ لأنه يلفت النظر ويثير الشكوك، ولكنه يسقيهم سمًّا بطيئًا يصل إلى غرضه دون أن يكشف عن الجريمة، فليعرف الناس إذن أن "تيسير النحو" ليس هو منتهى ما يريدون ولكنه أول طريق طويل يدفعون الناس فيه إلى قرار سحيق.
- إن الغرض الذي يرمي إليه طه حسين ومن على شاكلته كإبراهيم مصطفى يستهدف إلى إخراج اللغة العربية من أيدي حملتها إلى أيدي خصومها، وأن هذا نحو من أنحاء العمل الذي يقوم به الشعوبيون الذين يروجون اللهجات السوقية المحلية ويسمونها العامية بمختلف الأساليب يرمي إلى أنتزاع الدراسات العربية من حصانة الدين والقرآن وقطع الصلات التي تربطها الدراسات العربية بالدراسات الإسلامية أو على حد تعبير الدكتور محمد محمد حسين بما ينزع عن العربية قداستها ويحرمها من حصانة الدين ليكشفها أمام أعدائها ويعينهم على الإجهاز عليها بعد أن يفردها من كل نصير أو معين.
* الخوري مارون غصن ودعوته إِلى العامية في سوريا:
دعا الخوري غصن إلى العامية، نشر في بيروت 1911 كتابه "بستان السلوى" وفي عام 1924 م نشر كتابه "درس ومطالعة" تحدث فيه عن حياة اللغة وموتها وعن اللغة العامية وعن تحسين اللغة العربية بإدخال علامات الوقف عليها، ثم توسّع في البحث فأصدر كتابًا عنوانه "حياة اللغة وموتها" اللغة العامية، عام 1926، ينطلق الكاتب من افتراض أن كل لغة سائرة إلى الفناء قياسًا على ما عرفه تاريخ اللغتين اليونانية واللاتينية، وأشار إلى تعلق الشعب باللغة العامية، ودعا إلى قاعدة العامية، وهي اللهجة العامية السورية، ودعا إلى إحلال العامية محل الفصحى، وقال: نعم؛ إن العربية(1/470)
الفصحى يحتمل بل يرجح بقاؤها في القرآن إلى منتهى الأزمان، ولكن لا ينتج عن ذلك بقاء اللهجة في البلاد العربية كما هي الآن، ورد عليه الأب لويس شيخو اليسوعي والأب صالحاني.
* جميل صدقي الزهاوي مرة أخرى ورد الشيخ علي يوسف عليه:
كتب الشاعر جميل صدقي الزهاوي مقالا في 9 أغسطس 1910 في جريدة المؤيد بعث به من بغداد عن ما أسماه "لغة الكتابة ووجوب اتخاذها باللغة المحكية" يقول: إني فتشت طويلاً عن انحطاط المسلمين فلم أجد غير سببين، أولهما الحجاب الذي عددت في مقالاتي الأولى مضاره لو كانت هناك آذان واعية، والثاني: هو كون المسلمين ولا سيما العرب منهم يكتبون غير اللغة التي يحكونها، وواضح أن الزهاوي قد تابع في هذه الدعوة كتابات المقتطف وولمور وويلكوكس ومن لف لفهما وأنه لم يكن يصدر عن الأصالة بل كان يصدر عن التبعية التي عرفت عنه في كثير مما اتجه إليه، وقد صفق له دعاة التغريب وأعجبوا به وأطلقوا عليه لقب المجدد والمحقق والعالم الكبير، ورد الشيخ علي يوسف على الزهاوي، فقال: إن مسألة اللغة الكتابية في العربية ذات وجهين: لكل أصحاب وجهة منهما براهين وأدلة على صحة مذاهبهم وبطلان مذهب مخالفيهم وأكبر الاعتراضات التي ترد على حضرة الفاضل الزهاوي أن لغة التخاطب ليست واحدة عند الأمم العربية بل هي تكاد تكون لغات متعددة، وبين لغة كل أمة من هاته الأمم دخائل مجهولة عند الأمم الأخرى، فأهل الغرب الأقصى يختلفون في النحت والمزج اختلافًا كثيرًا عن أهل العراق مثلاً في تخاطبهم ويكثر في كلامهم الدخيل من لغة البربر، وأهل الجزائر في الغرب يختلفون كثيرًا عن أهل اليمن في تخاطبهم مزجًا ونحتًا ودخيلاً كذلك يوجد بعض الاختلاف بين أهل الشام ومصر وهي أهل الوسط في اللسان العربي كما يوجد اختلاف بين كثير بين بعضهم والأمم(1/471)
العربية الأخرى بحيث لو صيرت لغة التخاطب، لغة كتابة لجهل قارئو العربية بين الأمم ما لا يجهلون الآن، وعسير أن توحد لغة الكتابة لسان الأمم العربية من هاته الألسن البابلية، أما اللغة الفصحى التي يتحف بها السيد الزهاوي كل كاتب عربي فهي مقروءة مفهومة عند كل قراء العربية ليس الخاصة فقط، بل الذين ارتفعت عنهم الأمية وكلما ارتفع إحصاء القارئين الكاتبين في الأمم العربية اتسع ميدان اللغة الفصحى لأهلها، وهي لا تأبى الدخيل الجديد من أسماء المخترعات والمكتشفات ولعل السيد الزهاوي يراجع مذهبه ثانيًا ليرى أن ما يسميه معطلاً للعرب ليس هو بالقدر الذي يعبر عنه بيانه، وهناك محاذير أخرى يجرها على الأمم العربية اتخاذ لسان التخاطب لسانًا كتابيا منها جعل لغة القرآن بمعزل عن القارئين والكاتبين الذين سيذهب بهم التجدد بعد ذلك كل مذهب ومنها أن تجعل بيننا وبين الكتب العربية المرموقة باللغة الفصحى من فقه وحديث وسيرة وتاريخ، وعلوم حاجزًا كلما تقدم الزمان وصار صفيقًا حتى تعود اللغة العربية الفصحى كاللغة اللاتينية عند الأمم الإفرنجية.
* أنيس فريحة أستاذ اللغات السامية بالجامعة الأمريكية بلبنان ودعوته إِلى العامية مكتوبة بالحرف اللاتيني:
انصب اهتمام أنيس الخوري فريحة أستاذ اللغات السامية بالجامعة الأمريكية على دراسة اللهجة العامية والدعوة إليها مكتوبة بالحرف اللاتيني، وقد بدأ نشاطه الجدي في اللهجة العامية بكتابه "معجم الألفاظ العامية في اللهجة اللبنانية" عام 1947، وفي عام 1959 كتب الأمثال العامية (مجلة الأبحاث م 3)، وفي عام 1952 نشر كتابه "تبسيط قواعد اللغة العربية" وتبويبها على أساس منطقي جديد، وفي 1955 كتب موضوعه المشهور "هذا الصرف وهذا النحو، أما لهذا الليل من آخر" تمنى فيه أن يرى حاكمًا عسكريًا(1/472)
سياسيًا يفرض العامية على العرب، ثم ألقى عام 1955 محاضرات في معهد الدراسات العربية عن اللهجات وأسلوب دراستها، وأتبع ذلك محاضرة عن اللهجة اللبنانية، وكتابه "نحو عربية ميسرة" حملة مركزة على اللغة العربية الفصحى وعلى الأدب العربي، وتحدث بصفة خاصة عن صلة اللغة العربية بالقرآن الكريم.
- وزعم أن "مسألة توحيد اللهجات في الجاهلية إنما هي خرافة إسلامية" وقد تولى الرد عليه الدكتور عمر فروخ (1) جزاه الله خيرًا.
* دعاة الانفصال عن تركيا الخلافة ورافعي شعار القومية العربية كنعرة شعوبية تفت في عضد المسلمين:
يقول الدكتور محمد محمد حسين في كتابه "الإسلام والحضارة الغربية" حين نشأت الدعوة المعاصرة إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أو ما كان يسمى وقتذاك بالجامعة العربية - كانت كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحي لبنان، مثل البستاني واليازجي والشدياق وأديب إسحاق ونقاش وشميل وتقلا ومشاقة وزيدان ونمر وصروف، وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستنتى، وأكثرهم في الوقت نفسه ينتمي إلى الماسونية" (2).
* ناصيف اليازجي وابنه إِبراهيم اليازجي:
إبراهيم اليازجي (1847 - 1906) وأبوه ناصيف اليازجي (1800 -
__________
(1) انظر الدكتور عمر فروخ في "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" (4/ 92 - 95).
(2) "الإسلام والحضارة الغربية" (ص 233).(1/473)
1871 م) كانا على صلة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكان يترددان على مطبعتها في بيروت التي كان يُشرف عليها وقتذاك الدكتور فانْديك وقد علم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمته التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وله قصيدة سينية دعا فيها العرب إلى الثورة على الترك كما فعلت شعوب البلقان، وفي هذه القصيدة يبدو وجه الدعوة العلماني واضحًا حين يهاجم الشاعر القائمين بأمر الدين من المسلمين والمسيحيين على السواء حيث تقول:
ودَعوا مقال ذوي الشِّقا ... ق من المشايخ والقساقسْ
ما هم رجال الله فيـ ... كم بل هم القوم الأبالسْ
يمشون بين ظهوركم ... تحت الطيالس والأطالِسْ
فالشر كل الشر ما ... بين العمائم والقلانِسْ
دبَّت عقاربهم إِليـ ... كم بالمفاسد والدسائس
وإبراهيم اليازجي صاحب هذه القصيدة السينية هو صاحب مجلة الضياء.
- بطرس البستاني:
ومن مؤسسي هذه الدعوة بطرس البستاني (1819 م-1883 م)، وقد كان أيضًا على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي البروتستانتي من الأمريكان، وتولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت، وأعان الدكتور سمث المبشر الأمريكي، ثم الدكتور فانديك من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864 م، ثم طُبعت في أمريكا سنة 1866 م، وأعان الدكتور فانديك أيضًا في إحياء مدرسة عبية الأمريكية، وهو صاحب(1/474)
القاموس العربي "محيط المحيط"، وهو صاحب دائرة المعارف المعروفة باسمه أتم منها سته مجلدات، وتوفي وهو في بدء السابع، فأتمه هو والثامن ابنه سليم، ثم توفي ابنه قبل أن يتم التاسع، فأصدر أبناؤه الباقون بمعاونة ابن عمه سليمان البستاني -مترجم الإلياذة إلى العربية- الأجزاء الباقية (التاسع والعاشر والحادي عشر).
* سليم تقلا مؤسس صحيفة الأهرام ودورها المشبوه:
ومن دعائم هذه الدعوة أيضًا سليم تقلا مؤسمس صحيفة الأهرام المصرية (1849 - 1892 م) تلقى علومه في مدرسة عبية التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور فانديك أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية التي بدأت سنة 1866 م باسم "الكلية السورية الإنجيلية" ومنهم جرجي زيدان الذي سنفصل الكلام عنه، واتخذ سليم تقلا وأهرامه الموقف المعادي لكل ما هو إسلامي، ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام ولم يعد اسم الجامعة العربية مرادفًا لاسم الجامعة الإسلامية.
* جورجي زيدان صاحب مجلة الهلال شعوبي كاره للإسلام يحرف الكلم ويخون في النقل ويتعمد الكذب:
جورجي زيدان (1861 - 1914 م) مؤسسة مجلة الهلال، كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان، وكان يُدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم وعلى يده ويد نصارى الشام كانت التفرقة بين العروبة والإسلام والوقوف على طول الخط ضد تركيا.
***(1/475)
* جرجي زيدان وكتابه "تاريخ التمدن الإِسلامي" ورد العلاّمة شبلي النعماني عليه:
- يقول العلامة شبلي النعماني، المصلح الشهير مؤسس جمعية ندوة العلماء في لكهنو بالهند في مقاله ونشر هذا النقد مجلة المنار والتي كان يصدرها الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- على حلقات المجلد 15 (1330 هـ-1912 م):
إن الدهر دار العجائب ومن إحدى عجائبه أن رجلاً من رجال العصر جرجي زيدان صاحب الهلال يؤلف فى "تاريخ تمدن الإسلام" كتابًا يرتكب فيه تحريف الكلم، وتمويه الباطل وقلب الحكاية والخيانة في النقل وتعمد الكذب، ما يفوق الحد ويتجاوز النهاية.
وينشر هذا الكتاب في مصر وهي غرة البلاد وقبة الإسلام ومغرس العلوم ثم يزداد انتشارًا في بلاد العرب والعجم، مع هذا كله فلا يتفطن أحد لدسائسه، ولم يكن ليجترئ على مثل هذه الفظيعة في مبتدأ الأمر، ولكنه تدرج إلى ذلك شيئًا فشيئًا؛ فإنه أصدر الجزء الأول من هذا الكتاب، وذكر في مثالب العرب دسيسة يتطلع بها على إحساس الأمة وعواطفها، ولما لم يتنبه لذلك أحد، ولم ينبض لأحد عرق، ووجد الجو صافيًا أرخى العنان وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية على العرب عمومًا، وخلفاء بني أمية خصوصًا.
- إن الغاية التي توخاها المؤلف ليست إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها، ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة، غير مجرى القول ولبس الباطل بالحق"، بيان ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية، ودور بني العباس، فمدح الدور الأول، وكذلك الثالث ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين(1/476)
وبمدحه لبني العباس وهم أبناء عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وبهم فخارنا في ثبت التمدن وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع عنهم تفرع لها وحمل عليهم حملة شنعاء، فما توك سيئة إلا وعزاها إليهم وما خلى حسنة إلا وابتزها منهم.
ثم لو كان هذا لأجل أنهم من آل مروان أو لكونهم من سلالة أمية لكنا في غنى عن الذب عنهم والحماية لهم ولكن ذنبهم أنهم من (العرب) على صرافتهم ما شابتهم العجمة مطلقًا، وقد حصر الباحث أخطاءه في عدد من الأصول العامة:
أولاً: عصبية العرب على العجم:
أطال المؤلف وأطنب في إثبات هذه الدعوى، وقال: إن العرب يعاملونهم معاملة العبيد في عديد من المواضع (العنوان العام في الجزء الرابع ص 58)، واعلم أن المؤلف في إتقان باطله فعل أطوارًا شتى منها:
تعمد الكذب، ومنها تعميمه لواقعة جزئية، ومنها الخيانة في النقل وتحريف الكلم عن مواضعه، ومنها الاستشهاد بمصادر غير موثوقة، مثل كتب المحاضرات والفكاهات، وغير خافٍ على من له إلمام بتاريخ الفرس والعرب، أن الفرس كانت قبل الإسلام تحتقرًا لعرب وتزدريهم، ولما أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى كسرى العجم، اشمأز وقال: عبدي يكتب لي؟ وكتب يزدجرد إلى سعد بن أبي وقاص فاتح القادسية أن العرب على شرب ألبان الإبل وأكل الضب بلغ بهم الحال إلى أن تمنوا دولة العجم فأف لك أيها الدهر الدائر.
ثم لما شرف الله العرب بالإسلام، أنتصفت العرب من العجم، واستنكفوا من سيادتهم عليهم وجاءت الشريعة الإسلامية ماحية لكل فخر ونخوة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته الأخيرة في حجة الوداع: "أن لا(1/477)
فضل للعربي على العجمي ولا للعجمي على العربي، كلكم أبناء آدم"، حينئذ ارتفع التمايز وتساوى الناس، ولكن مع ذلك بقيت في بعض الناس من كلا الطرفين حزازات كامنة في صدورهم، كانت سببًا لحدوث حزبين متكاملين يسمى أحدهما: الشعوبية: وهي التي تحتقر العرب وترميهم بكل معيبة، والثاني "المتعصبون" للعرب وقد عقد ابن عبد ربه في كتابه "العقد الفريد" بابًا في حجج كل من الطرفين وصدر هذه الأقوال بقوله: (قال أصحاب العصبية من العرب) وأنت تعلم أن هذه العصبية ليست كل العرب ولا أكثرها ولا عشر معشارها، فهؤلاء شرذمة مغمورون في الناس، ولكن المؤلف ما اقتنع بذلك، بل ربما نسب قول رجل معين معلوم الاسم إلى العرب عامة.
- وقد مضى جرجي زيدان في دعواه متابعًا كتابات المستشرقين في اتهام العرب بانتقاص الموالي، فقال: إنهم منعوهم من المناصب الدينية المهمة (الجزء الرابع ص 6).
- فقال الشيخ النعماني: إن البلاد التي كانت عواصم الأقاليم وقواعدها في عصر بني أمية كان كل أئمتها من الموالي ففي مكة عطاء، وفي اليمن طاووس، وفي الشام مكحول، وفي مصر يزيد بن أبي حبيب، وفي خراسان ضحاك بن مزاحم، وفي البصرة الحسن البصري، ومع كونهم أعجامًا وكونهم أولاد الإماء، كانوا سادة الناس وقادتهم تذعن لهم العرب ويحترمهم خلفاء بني أمية وولاة الأمور، وقد عالج هذه النقطة بما عرض مطولاً بما يؤكد أن الموالي كانوا في أيام بني أمية بأعلى محل الشرف والمكانة وأن كل ما أورده جرجي زيدان وسابقوه من المستشرقين افتئات ظاهر وتجن وظلم.
استند جرجي زيدان على نص حاول فيه الادعاء بأن عمال بني أمية كانوا يفرضون نوعًا من الجور والشدة، يقول: وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقطع الجابي منها طائفة، ويقول: هذا رواجها وصرفها(1/478)
واستند في هذا على كتاب "الخراج" لأبي يوسف.
- ويقول الشيخ النعماني: أيها المؤلف الفاضل: أليس لك وازع من نفسك؟ أليس لك رادع من ديانتك؟ أتجرؤ على مثل هذا الكذب الظاهر، والمين الفاحش جهرة؛ فإن أبا يوسف ما تكلم في شأن عمال بني أمية ببنت شفة، وإنما ذكر عمال هارون الرشيد واساءتهم العمل في جباية الخراج.
وكتاب "الخراج" لأبي يوسف بين أيدينا، وأن ما استند إليه من عمال هارون الرشيد، فكيف يأخذ المؤلف أقواله وينقلها من حيث إنها هي الطرق التي كان عمال بني أمية يجمعون الأموال بها.
ثانيا: مساوئ بني أمية:
- ويقول الشيخ النعماني: إن موضوع الكتاب ليس إلا بيان تمدن الإسلام؟ فأي متعلق في ذلك لإبداء مساوئ بني أمية.
ولعلك تقول: لا بد في تاريخ تمدن الإسلام من بيان منهج السياسة، هل كانت مؤسسة على الاستبداد والجور أو العدل والنصفة، فجر ذلك إلى كشف عوار بني أمية عرضًا، أناشدك الله أما كان لأحد منهم مأثرة تذكر ومنقبة تنقل، وسياسة تنفع البلاد، وعدل يعم الناس، نعم إن خلفاء بني أمية لا يوزنون بالخلفاء الراشدين، وليس هذا عار عليهم، ولا فيه حط لمنزلتهم؛ فإن إدراك شأن الراشدين واللحوق بهم أمر خارج على طوق البشر، وليس فيه مطمع لأحد، ولا موضع رجاء لمجتهد.
ولكن التوازن والتطابق بين الأموية والعباسية، وإنما هم ملوك فيهم المحسن والمسيء والعادل والجائر بل الذي أعدلهم سيرة وأوفاهم ذممًا لا يخلو من عثرات لا تقال وهنات لا تذكر.
فلو لزم المؤلف جادة الصواب، ووفى لكل أحد قسطه وأعطى كل ذي(1/479)
حق حقه، لاستراح واسترحنا، ولكنه مال إلى واحد فأطرى في مدحه العباسي ونال من الآخر فأسرف في تهجينه وذمه الأموي، ثم إنه لم يفارق في مدحه وذمه عمود الكتاب أي: ذم العرب، والحط من شأنهم فإنه ذم بني أمية لأنهم العرب، ومدح العباسيين لا لأنهم العرب، ولا لأنهم من سلالة بني هاشم أو من أقرباء النبي - صلى الله عليه وسلم - بل لأمر واحد: لأن دولتهم دولة أعجمية.
ثالثًا: حريق خزانة الإِسكندرية:
عقد المؤلف بابًا لإثبات أن حريق خزانة الإسكندرية كان بأمر عمر بن الخطاب وأطال وأطنب في ذلك واستدل عليه بستة دلائل (الجزء الثالث) أهمها رغبة العرب في صدر الإسلام في محو كل كتاب غير القرآن.
وقد كشف الشيخ النعماني أن هذا غير صحيح، وأن المسلمين نظروا في كل الكتب، ونقلوا في تفاسيرهم روايات مختلفة فيها الغث والسمين مما نقل إليها من الأديان الأخرى، فلو كان أهل القرون الأولى يبغضون ما سوى القرآن ويمحون ما كان قبله من العلم -كما يدعي المؤلف- فمن روى الإسرائيليات وأقاصيص التلمود والتوراة وحشاها في التفسير؟
ثانيًا: أورد ما جاء في تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج ثم نقل رواية الإحراق برمتها وأطال في إثبات أن أبا الفرج ليس بأول من روى هذه الرواية، بل ذكرها عبد اللطيف البغدادي عرضا في ذكره عمود السواري وذكرها القفطي في تاريخ الحكماء.
ولا ننازع المؤلف في أن أبا الفرج مسبوق في ذكر هذه الرواية بالقفطي والبغدادي، ولكن ماذا ينفعه ذلك؛ فإن البغدادي وهو أقدمهما من أهل القرن السادس للهجرة، قد ذكر الرواية من غير إسناد ومن غير إحالة على كتاب.(1/480)
- ويقول: لقد تعود المؤلف من صباه قبول مختلقات أهل الكتاب وأوهامهم وسبب ذلك أنه يزن التاريخ الإسلامي بميزان غير ميزاننا، ولذلك يصغي إلى كل صوت ويستمع لكل قائل، ولكل فن أصول وقواعد وما لم تكن الرواية مطابقة لهذه الأصول اليقينية لا يلتفت إليها أصلاً.
ومنها أن الناقل للرواية لا بد أن يكون شهد الواقعة؛ فإن لم يشهد فليبين الرواية ومصدرها، حتى تتصل الرواية إلى من شهدها بنفسه.
ومنها أن يكون رجال السند معروفين بصدقهم وديانتهم، وأنت تعلم أن البغدادي والقفطي من رجال القرن السادس والسابع، فأي عبرة برواية تتعلق بالقرن الأول يذكر أنها من غير سند ولا رواية ولا إحاله إلى كتاب.
أما كتب القدماء الموثوق بها، فليس لهذه الرواية فيها أثر ولا عين، وهذا تاريخ الطبري واليعقوبي و"المعارف" لابن قتيبة، و"الأخبار الطوال" للدينوري، و"فتوح البلدان" للبلاذري، و"التاريخ الصغير" للبخاري، وثقات ابن حبان و"الطبقات" لابن سعد، قد تصفحناها وكررنا النظر فيها، مع أن فتح الإسكندرية مذكور فيها بقضها وقضيضها فليس لحريق الخزانة ذكر.
والحاصل أن محققي أهل أوربة قضوا بأن الواقعة غير ثابته أصلاً، منهم (جيبون) المؤرخ الشهير الإنجليزي، و (درببر) الأمريكاني، و (سيديو) الفرنسي، و (كارليل) الألماني، والمعلم (رينان) الفرنسي وعمدتهم في أفكار ذلك أمران:
الأول: أن الواقعة ليس لها عين ولا أثر في كتب التاريخ الموثوق بها كالطبري وابن الأثير، والبلاذري وغيرها مما ذكرنا.
والثاني: أن الخزانة كانت قد ضاعت قبل الإسلام، اثبتوا ذلك بدلائل لا يمكن إنكارها.(1/481)
رابعًا: الضغوط على أهل الذمة:
ادعى المؤلف أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب عهدًا لنصارى الشام، وذكر نصه منقولاً عن سراج الملوك للطرطوشي، واعترف بأن فيه ضغطًا على النصارى، ثم اعتذر لعمر بأن نصارى الشام كانوا يميلون إلى قيصر الروم، وكانوا من بطانته يتجسسون له، فلذلك احتيج إلى الشدة بهم والتضييق عليهم.
- يقول الشيخ النعماني: كل من له أدنى مسكة في التاريخ يعرف أن الطرطوشي ليس من رجال التاريخ، وكتابه كتاب أدب وسياسة، وهو من رجال القرن السادس، وإنما المعول على المصادر القديمة الموثوق بها، كتاريخ الطبري والبلاذري، واليعقوبي وابن الأثير وغيرها، وهذا ما كان يخفى على المؤلف ولكن لأجل هوى في نفسه أعرض عن كل هذا، وتشبث برواية واهية تخالف الروايات الصحيحة المذكورة بإسنادها ورجالها، وقدم الشيخ النعماني رواية القاضي (أبو يوسف) في كتابه "الخراج"، وهي تكشف عن اعتراف أهل الذمة بوفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم.
* خاتمة:
وقد أشار السيد رشيد رضا -رحمه الله- في دراسة له عن جرجي زيدان "صاحب الهلال" بعد وفاته كشف فيها وجه هذا الشعوبي، فقال: أنه أظهر بعد الانقلاب العثماني (1909) نزعة جديدة، هي إحياء لمذهب الشعوبية، ذلك أنه زار الأستانة ولقى فيها بعض زعماء الاتحاد والترقي ثم عاد متشبعًا بالنهضة التركية الزائفة مستنكرًا عدم مجاراة العرب لإخوانهم الترك في الانضمام على خطة الاتحاديين والترقي إلى تتريك العناصر وادغام العرب في الترك.(1/482)
وقد كتب في الهلال ما يشعر بهذه النزعة من مطاعن في العرب، أودعها بعد ذلك في كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي"، وفطن لها أخيرًا من لم يكن يحفل بها، وزادهم التفاتًا إليها ترجمة جريدة (أقدام) التركية لتاريخ التمدن الإسلامي ونشره بالتتابع، وهذا ما حفز الشيخ شبلي النعماني إلى الرد عليه وأخفى شبهاته.
- الأستاذ والتلميذ: "وكان الأب لامنس اليسوعي قدوته في نقد العرب وبني أمية، كما كان سوفان فلهوزن دليله في الحديث عن ما أسماه الحملة على الموالي وهو أكبر متعصبي المستشرقين، ولجرجي زيدان سموم أخرى في كتابه عن أدب العرب" (1).
* كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" وردّ الشيخ السكندري عليه:
هذا هو الكتاب الثاني لجورجي زيدان الماروني الفرنسي الثقافة الذي تربى في مدارس الشيوعيين، وعلمه باللغة وأدابها لا يؤهله لفهم مؤلفاتها، ولذلك تصدى له الشيخ السكندري وبين عواره.
- قال الشيخ السكندري: الأمور التي تؤخذ على الكتاب كثيرة:
أولاً: الخطأ في الحكم الفني، أي تقرير غير الحقيقة العلمية سواء أكان ذلك بقصد من المؤلف أم بغير قصد.
ثانيًا: الخطأ في الاستنتاج، وهو ما يعذر فيه المؤلف لأنه اجتهاد من عند نفسه.
ثالثًا: الدعوى بغير دليل، وهو ما يقرره المؤلف من غير دليل عليه، وقد يكون في ذاته صحيحًا ولكن سوقه ساذجًا يتيح مجالاً للشك.
__________
(1) "جيل العمالقة" (ص 70 - 76).(1/483)
رابعًا: الخطأ في النقل وهو آت من تصرف المؤلف في عبارات المؤلفين بقصد اختصارها، أو من تسرعه في الجمع وقلة مراجعة الأصول.
خامسًا: قلة تحري الحقيقة بمراجعة الكتب المعتمدة والتواريخ الصادقة ووزن كل عبارة بميزان العقل والإنصاف وقياس الأمور بأشباهها، بل كثيرًا ما تروج عند المؤلف أقوال الخصوم في خصومهم، وأقوال الكتب الموضوعة لأخبار المجان أو لذكر عجائب الأمور وغرائبها.
سادسًا: تناقض بعض أقوال الكتاب.
سابعًا: الاختصار في كثير من التراجم والمباحث، وإهمال ما ليس من شأنه أن يهمل.
ثامنًا: إدخال ما ليس من موضوع الفن فيه، لغير مناسبة أو لمناسبة ضعيفة جدًا.
تاسعًا: الاستدلال بجزئية واحدة على الأمر الكلي، وهو كثير الحصول في جميع كتب المؤلف وفي أكثر استنتاجاته ودعاواه.
عاشراً: تقليد المستشرقين في مزاعمهم أو نقلها من غير تمحيص.
حادي عشر: اضطراب المباحث وصعوبة استخراج فائدة منها لاختلال عبارتها، أو لعدم صفاء الموضوع للمؤلف.
ثاني عشر: اضطراب التقسيم والتبويب إما بذكر المباحث في غير موضعها، ويعد رجال عصر في عداد رجال عصر آخر.
ثالث عشر: التحريف واللحن وهمًا كثيرًا الشيوع في جميع كتب المؤلف.
رابع عشر: تهافت المؤلف على تطبيق قانون النشوء والارتقاء حتى على الأمور التي فيها تدنٍ وانحطاط لا نشوء ولا ارتقاء.(1/484)
* أولاً: الخطأ في الحكم الفني:
1 - قول المؤلف: (وكان أبو حنيفة لا يحب العرب ولا العربية حتى أنه لم يكن يحسن الإعراب ولا يبالي به).
وقد عزا هذه العبارة إلى (ابن خلكان - وفيات الأعيان ج 2) فالذي يثق بالمؤلف يصدق عبارته بعد أن تبرأ من تبعتها ونسبها إلى مؤرخ عظيم، ولكنه إذا آخرها ابن خلكان في هذه الصفحة بل إذا قرأ ترجمة أبي حنيفة من أولها إلى آخرها لم يشم منها رائحة هذه الألفاظ بل المعاني.
2 - فقول المؤلف (وكان أئمة الفقه في المدينة، فأراد المنصور تصغير أمر العرب وإعظام أهل الفرس لأنهم أنصارهم -أي: العباسيين- وأهل دولتهم، فكان من جملة مساعيه في ذلك تحويل أنظار المسلمين عن الحرمين، فبنى بناء سماه القبة الخضراء محجًا للناس (كذا) وقطع المسيرة عن المدينة، وفقيه المدينة يومئذ الإمام مالك الشهير فاستفتاه أهلها في أمر المنصور، فأفتى بخلع بيعته فخلعوها، وبايعوا محمد بن عبد الله من آل علي .. إلخ.
ومن عبارته يفهم أن جمهرة أئمة الفقه كانت بالمدينة فقط، وأن المنصور كان يكره العرب كراهية حملته أن يرتد عن الإسلام ويحاول صرف المسلمين عن تولية وجوههم شطر قبلتهم، وأن أهل المدينة استفتوا مالكًا في خلع المنصور فأفتاهم.
وكل هذه اللوازم باطلة فلم تكن جمهرة الفقه بالمدينة بل كانت في كل الأقطار ثم كيف يكره المنصور العرب بهذه الكراهية وهو عربي، وابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وخليفته في أمته وشريعته.
أما عن الثالث فينافيه ما تقدم، واعتذر المنصور بعد ذلك لمالك عما وقع، كذلك فإن المنصور لم يقطع عن أهل المدينة إلا بعد مبايعتهم محمدًا ابن عبد الله، ومن خطئه في الحكم عده طاهر بن الحسين -فاتح بغداد وقاتل(1/485)
الأمين- في عداد المنشئين كتاب الرسائل، مع أن هذا الاسم لا ينطبق عند علماء الأدب إلا على الكاتب في ديوان الرسائل، ولم نجد فيه طاهر بن الحسين منشئًا قط.
- ومن الخطأ في الحكم زعم المؤلف أن علم الكلام ومذهب الاعتزال نشأ في العصر الثاني من حكم بني العباس أي بعد 132 هـ، مع أن المشهور في التاريخ أنه لما كثرت الزنادقة والملاحدة في زمن المهدي، أوعز إلى العلماء أن يحاجوهم بالأدلة العقلية ويدون ذلك في الكتب ففعلوا وسموا المتكلمين.
ومن الخطأ فى الحكم جعله أبا منصور عبد الملك الثعالبي صاحب يتيمة الدهر، هو صاحب التفسير الكبير المعروف بتفسير الثعلبي، والثعلبي هو الإمام الحجة الثبت (أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي) فهو شخص آخر غير أبي منصور الثعالبي.
- ومن أخطائه قوله أن القصائد طالت في العصر الثالث من حكم بني العباس وطول القصائد لم يختص في عصر دون عصر، وقوله: أن العرب لم يدركوا شأو اليونان والفرس في تطويل القصائد؛ فإن المؤلف لم يفطن إلى الفرق بين الشعر العربي والأعجمي؛ فإن الشعر العربي تنظم القصيدة فيه من بحر واحد وقافية واحدة وروي واحد، وشعر الأمم الأعجمية ليس فيه قافية.
- ومن الخطأ في الاستنتاج، زعم المؤلف أن التصوف لم ينشأ إلا في العصر الثالث أي بعد 324 هـ، وينعى على ابن خلدون وغيره ممن يرى أن اشتقاقه من الصوف، ويرى أن اشتقاقه من كلمة سوفيا اليونانية (بمعنى الحكمة).
- وأقول أن طريقة القوم قد اشتهرت بهذا الاسم قبل شيوع ترجمة الكتب اليونانية وانتشار الفلسفة.(1/486)
ومن خطأ الاستنتاج واضطراب الكلام واختلاطه: الفصل الذي كتبه المؤلف عن السيرة النبوية، فقد جعل سيرة ابن اسحاق وابن هشام واحدة، وابن هشام لم يكن راويًا، والحقيقة أن سيرة ابن اسحاق سيرة كبيرة مستقلة عن سيرة ابن هشام، وهي التي يطعن في شعرها ولم يتفق على صحتها وأن ابن هشام لم يكن هو الراوي لهذه السيرة بل لخص سيرته النبوية عن سيرة ابن اسحاق وغيرها من كتب المغازي.
* ثانيًا: دعاوى المؤلف:
- ومن دعاوى المؤلف بغير دليل دعواه أن ابن قتيبة أول من تجرأ على النقد الأدبي فألف في أكثر فنون الأدب المعروفة.
فإن أراد المؤلف أنه أول من كتب في نقد الشعر، فليس بصحيح إذ سبقه إلى ذلك كثير منهم محمد بن سلام الجمحى، في كتابه "طبقات الشعراء" وقبله ألف أبو عبيدة كتاب "نقائض جرير والفرزدق".
- ومن دعاوى المؤلف قوله أن الشعر في العصر الأول من بني العباس قد بطل استعماله في العصبية، كما بطل استناد الخلفاء للشعراء بسبب انتصارهم لفريق على فريق.
والحقيقة أن الشعر بقى يستعمل في العصبية طوال العصر العباسي الأول وبعض العصر الثاني، بل لقد فتح الخلفاء العباسيون في العصبية بابًا شرًا من عصبية القبائل وهو تفضيل العباسيين على الطالبيين.
- ومن دعاوى المؤلف قوله: ولم يكن للشاعر العربي بد من الرحلة إلى بلاد العرب لاقتباس أساليبهم، فليقل لنا المؤلف ما هي رحلات أبي نواس ومسلم والحسين بن الضحاك، ومطيع بن إياس وحماد عجرد وأبان اللاحقي إلى بادية العرب، إن الرحلة إلى بلاد العرب كانت خاصة بالعلماء(1/487)
ورواة الأدب واللغة أمثِّال الخليل والأصمعي وأبي عبيدة والكسائي.
ومن دعاوى المؤلف: أن ابن المقفع كان يعرف اليونانية جيدًا، ولم نر في كتب الأدب والتاريخ من ذكر هذا.
ومن دعاوى المؤلف في الكلام على طريقة أبي الحسن الأشعري في علم الكلام: أن الناس عولوا على رأيه لما فيه من التسوية بين الآراء، فكيف يعقل أن مذهبًا يسوي بين آراء كل الطوائف، وفيهم من يناقض مذهبه مذهب الآخر، وغاية الأمر أنه اعتدل بين مذهبي المعتزلة والسلفية من أهل السنة.
ومن دعاوى المؤلف: عن المتوكل الخليفة العباسي أنه أهلك جماعة من العلماء، وحط مراتبهم وعادى العلم وأهله.
فمن أين للمؤلف هذا الكلام وكل هذه الغارة على المتوكل من جراء أنه رفع الفتنة بخلق القرآن، ونهى الناس عن الجدل فيها بعد أن أنهكت دينهم وأخلاقهم وأنه أمر أهل الذمة بلبس شارات تميز زيهم وأنه صادر بختيشوع الطبيب وبعض الكتاب لخيانة ظهرت له منهم.
ومن دعاوى المؤلف: أن الإنشاء في العصر الثالث العباسي قد صار له طريقة خاصة سماها (كلاسيك) أخذ من اصطلاح الافرنج، ثم أخذ يسرد شروطًا للإنشاء المدرسي، والمتتبع لها يجد أن أكثرها لا يختص بعصر دون عصر، وأن أغلبها أمور طبيعية وعادية في كل زمان.
ومن دعاوى المؤلف: زعمه أن العرب نقلت محاضراتها عن اليونان، وما نقله المؤلف من تعريف المحاضرات إنما يؤكد أنها فن عربي بحت كان يطلق قديمًا على عدة علوم من أنواع التاريخ والأخبار والنوادر والشعر ومنه كامل المبرد وأمالي القالي وكثير من كتب الجاحظ والدينوري.
ومن دعاوى المؤلف أن كتب (السيرافي) لم يصلنا منها شيء وعد(1/488)
منها كتاب "النحويين البصريين"، والكتاب في دار الكتب المصرية في نسخة قديمة وأظنها من كتب الشنقيطي.
* ثالثًا: الخطأ في النقل:
أخطأ المؤلف في نقل عبارات المؤلفين إما بتصرف فيها تصرفًا أفسد معناها، وإما بتحريف الكلم وإما بنقلها من نسخة معرفة من غير تمحيص، وهو كثير.
ومنها خطأه في تسميه اسم رجل واحد على مسميين (أحمد بن يوسف ابن صبيح) فقال: أحمد بن يوسف وزير المأمون، وابن صبيح.
ومن تقصير المؤلف في توضيح ما نقله عن السيوطي، ناقلاً عن كتاب "العين ومختصر الزبيدي"، إحصاء المستعمل من الألفاظ العربية والمهمل منها، فاستخرج المؤلف من كتاب "الزبيدي" إحصاء المستعمل من الألفاظ العربية 6520 لفظًا مع أن كتاب القاموس (وهو ليس إلا قطرة من بحر اللغة العربية) يشتمل على ستين ألف مادة، متوسط ما في كل منها من المزيد والمشترك عشرون كلمة على الأقل أي نحو مئتي ألف كلمة فكيف ولسان العرب به ثمانون ألف مادة متوسط ما في كل منها ثلاثون كلمة على الأقل.
* رابعًا: عدم تحري الحقيقة والصواب:
اعتاد المؤلف أن ينقل إلى كتبه ما يعتقده بذاته، أو ما يكون دائمًا على ألسنة عامة القراء والوراقين من غير تمحيص لحقيقتها، لكل من تعرض لتدوين التاريخ في السياسة أو الأدب ألا يكتفي برواية كتاب واحد أو كتابين أو بما يذيع على ألسنة الناس؛ بل يجب عليه تحقيق الخبر وتمحيصه والأخذ بالرواية القريبة من العقل.
ومن ذلك نقله عبارة ابن خلكان عن أن الأمين جمع بين سيبويه والكسائي في مجلس المناظرة، وأن الكسائي زعم أن العرب تقول كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة فإذا هو إياها .. والمشهور أن المناظرة جرت في(1/489)
مجلس يحيى بن خالد البرمكي، ومن ذلك أنه لم يتحر الحقيقة والصواب في تعداد كتب الواقدي.
* خامسًا: التناقض:
فمن ذلك ما ذكره عن ابن الرومي والمتنبي وما شكك من نسبة كتاب "العين" إلى الخليل، وناقض المؤلف نفسه في نشأة علم الجغرافيا في العصر العباسي الثاني.
- ومن تناقض المؤلف قوله: نشأ علم الجغرافيا في هذا العصر (العصر الثاني العباسي) بعد نقل علوم القدماء إلى العربية وفي جملتها كتاب بطليموس، وعليه معولهم في تقويم البلدان.
على أن المسلمين بدءوا بوضع الجغرافيا قبل اطلاعهم على هذا الكتاب، لأسباب غير التي دعت اليونان إلى وضعها إلخ ..
- وهذا تناقض من المؤلف إذ ذكر الجغرافية أولاً بمعنى الجغرافيا الرياضية، وأعادها ثانيًا باسم الجغرافيا التخطيطية، التي كانت تسمى علم المسالك والممالك، والمعروف أن العرب اشتغلوا بالجغرافية اليونانية قبل العصر الثاني، والمأمون وعلماؤه ممن صحح أغلاط بطليموس وغيره، في محيط الأرض وقطرها ومنياس الدرجة الأرضية.
ومن تناقض المؤلف وتحيره في قول أبي العتاهية: قد نظم في كل أبواب الشعر وامتاز منها بالزهد ويؤخذ من سيرة حياته أنه كان مترددًا متقلبًا على أن تمنع أبي العتاهية عن قول الغزل بعد أن أمره به الرشيد يخالف هذه القاعدة.
والرأي أن هذه العلل لو صدقت على كل شاعر يتكسب بالشعر لتبرمت الدنيا بكثرة المحرورين والموسوسين.
* سادسًا: الاختصار فيما يجب الإِطناب فيه:
ومن أعجب أمور المؤلف أنه يعلم، ويعلم أن الناس تعلم، أنه يؤلف كتاب في آداب اللغة العربية لا آداب اللغة اليونانية القديمة ولا الفارسية ولا(1/490)
اللغات الأوربية، ثم تراه إذا خاض في ذكر بحث من مباحث الآداب العربية، أو عدد النبغاء أو ذكر ترجمة شاعر أو كاتب، أقتصر على ذكر نتف قليلة أو اقتصر على العدد القليل من مشهوري النبغاء واختصر تراجمهم مكتفيًا بذكر ما لا يلزم الناقد الأديب ويذكر الكتب التي يراجعها من شاء التوسع.
- وأشار إلى تقصير المؤلف بإهماله ذكر الجرمي من نحاة العصر الثاني مع ترجمته لابن ولاء وأبي جعفر النحاس، وإهماله ذكر الأوزان والقوافي التي طرأت على الشعر في جميع العصور التي ذكرها كالمواليا والدوبيت، وتخصيصه إثنى عشر صفحة من كتابه لموضوع أجنبي عن موضوع آداب اللغة العربية بالمرة، وهو آداب اللغة اليونانية وأطوارها وتراجم فلاسفة اليونان.
ومن ذلك إسهاب المؤلف في شرح الأدب والانشاء عند الأفرنج وذكره لبعض قصص الأفرنج الخرافية، ومن التطويل المخل بالنظام وضع الكلام في مبحث تأثير القرآن الكريم في اللغة العربية في هذا الجزء ومن حقه أن يدرج في الجزء الأول ومن التطويل تكرار الكلام في موضعين أو ثلاثة لغير موجب مثل وصف التهتك والخلاعة عند الشعراء.
* سابعًا: الاستدلال بحادثة جزئية على أمر كلي:
اعتاد المؤلف في كتبه أن يستنتج من حادثة جزئية أمرًا كليًا وهذه الخصلة من أكثر ما ينعاه عليه النقاد وقد عمل بها في كتابه هذا غير مرة (وقدم الباحث في ذلك نماذج متعددة)
* ثامنًا: تقليد مستعربي الفرنجة حتى في الخطأ:
للمصنف ولع بنقل ما يكتبه المستعربون عن العرب وآدابهم ولو خالف الواقع، ومن ذلك نقله فصولاً برمتها مشوبة بالخطأ من كتاب نيكلسن الإنجليزي وبركلمان الألماني مثل مقالة الشعر في العصر الأول وغيرها.
من ذلك أن وضع ما يصلح أن يذكر في آداب الفرنجة في آداب(1/491)
العرب، وما ينبغي أن يجعل في عصر ظهور الإسلام جعله في عصر بني العباس، ومن يجب أن يترجم له في عصر معين أو في طائفة بعينها ترجم له في عصر غير عصره وطائفة غير طائفته، بحيث تضطرب المباحث وتتداخل العصور.
من ذلك ذكره أن الخلاف بين النحويين الكوفيين والبصريين حصل في العصر الثاني وما بعده من عصور الدولة العباسية، والحقيقة أنه حصل في العصر الأول، ومن ذلك تأخيره الكلام عن نشأة علم الفرائض إلى العصر الثالث مع أنه قديم دُوِّن منذ دون الفقه في العصر الأول.
* تاسعًا تهافت المؤلف:
للمؤلف تهافت وولع بالشيء لا يؤبه له، أو بالأمر يناسب مقامًا خاصًا فيقحمه في كل مقام، كما فعل هذا في كتابه في مواضيع شتى.
من ذلك حالة النشوء والارتقاء يقيس بها كل أمر حتى خرج به القياس إلى عكس ما يراد بها وذكر أن اضطراب العلاقة الإسلامية وانحلالها إلى إمارات وممالك صغيرة متنافسة متشاكسه من دواعي النشوء والارتقاء في حين يعده المؤرخون من دواعي الانقراض والفناء.
* عاشرًا: اللحن والأغلاط اللغوية:
لا تكاد تمر بالقارئ صفحة إلا وهي مشتملة على خطأ لفظي، إما في النحو أو الصرف أو اللغة، وإذ كانت هذه الاغلاط تعد بالعشرات بل بالمئات فإننا لا نستطيع تعدادها.
- وفي النهاية يختم الشيخ السكندري -رحمه الله- نقده ختامًا مؤدبًا حيث يقول: والنتيجة أن الكاتب على ما فيه من مواضع النقد لا يخلو من منافع في موضوعه وغير موضوعه، وهي عبارة مؤدبة تعني أن المؤلف لم يكن منضبط المنهاج فكان كلامه أحيانًا يخرج عن موضوع الكتاب.(1/492)
* روايات جورجي زيدان لا روايات الإسلام تهدف إلى إِفساد مفهوم الشخصية الإِسلامية والبطولة:
كتب جورجي زيدان "فتاة غسان"، و"عذراء قريش"، و"17 رمضان"، و"غادة كربلاء"، و"الحجاج بن يوسف"، و"فتح الأندلس"، و"شارل وعبد الرحمن"، و"أبو مسلم الخراساني"، و"العباسة أخت الرشيد"، و"الأمين والمأمون"، و"فتاة القيروان"، و"صلاح الدين ومكايد الحشاشين"، و"شجرة الدر".
- إن إعادة النظر في كتابات جورجي زيدان تكشف بوضوح أنه يمثل اتجاه الاستشراق والتبشير والتغريب حاملاً شبهاته وسمومه وعاملاً على غرسها في أبحاث التاريخ الإسلامي، وقد كانت هذه الكتابات مجهولة المصدر إلى أن ترجمت دائرة المعارف الإسلامية، التي كتبها متعصبو المستشرقين، وتبين أنها تضاهيها من حيث وحدة المصدر.
- ثم جاء بعد ذلك طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي وغيرهم، فأدخلوا التاريخ الإسلامي في مراحل جديدة أشد خطورة ثم جاءت بعد ذلك محاولات التفسير المادي للتاريخ الإسلامي التي حمل لواءها عبد الرحمن الشرقاوي وغيره.
* روايات جورجي زيدان:
أما المجال الذي استطاع جورجي زيدان أن يبث فيه سمومه، فهو مجال القصص فقد ألف عددًا من القصص تحت اسم روايات الإسلام، دس فيها كثيرًا من الدسائس والمؤامرات والأهواء، وحاول إفساد مفهوم الشخصية والبطولة الإسلامية حيث أساء إساءة بالغة إلى الأعلام من أمثال صلاح الدين الأيوبي، وهارون الرشيد، والسلطان عبد الحميد، وعبد الرحمن الناصر،(1/493)
وعبد الرحمن الغافقي، وأحمد بن طولون، والأمين والمأمون، وعبد الرحمن الداخل، وشجرة الدر .. إلخ.
- وما زالت هذه الروايات تظهر بين وقت وآخر مطبوعة طباعة فاخرة لتخدع الشباب بذلك الأسلوب القصصي المسموم، وقد أقام جورجي زيدان تصوره على أساس خطير:
أولاً: تصويره للخلفاء والصحابة والتابعين بصورة الوصوليين الذين يريدون الوصول إلى الحكم بأية وسيلة، ولو كان على حساب الدين والخلق القويم مع تجريحهم واتهام بعضهم بالحقد وتدبير المؤامرات.
ثانيا: تزييف النصوص التي نقلها عن المؤرخين القدامى وحولها عن هدفها تحويلاً أراد به السخرية والاستخفاف بالمسلمين وبني عليها قصصًا غرامية باطلة.
ثالثا: استهدف من حشد العلاقات الغرامية، ذات المواقف المنبثة داخل روايات تاريخ الإسلام إثارة غريزة الشباب وتحريك شهوة المراهقين، مستغلاً ضعف ثقافة الكثيرين منهم، وجهلهم بالغاية التي يرمي إليها في رواياته مع الاستشهاد بالأبيات الشعرية المكشوفة الساقطة، التي تحرك الغرائز الدنيا.
رابعًا: تبين من البحث الذي قدمه عالم أزهري درس باستفاضة روايات جرجي زيدان أن معظم الأحداث التاريخية في رواياته قد حُرفت وبنيت على أساس فاسد فقد ظل جرجي زيدان -على حد تعبير الباحث- ينقب وينقر ويجهد نفسه في مزج الحق بالباطل وتقديمه في أسلوب براق جذاب معتمدًا على فن أدبي ذي أثر بالغ، وذلك هو فن القصة والرواية، حيث لم يكن حريصًا على تحري الحقائق التاريخية قدر حرصه على الحبكة القصصية وخلق الحوادث المثيرة خلقًا، وقد عمل جاهدًا على طمس التاريخ الإسلامي وتشويه(1/494)
معالمة بغية تنفير أبناء العرب والمسلمين من ماضي آبائهم المجيد.
خامسًا: من أخطر شبهاته أنه قال ببشرية القرآن، وشكك في مصادر العربية الأول، ومدح بني العباس لأنهم أنزلوا العرب منزلة الكلب (على حد قوله) ونسب إحراق مكتبة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب.
- وقد طبع اللبنانيون -ودار الهلال في مصر- روايات جرجي زيدان مزدانة بالصور الملونة والألوان الصارخة بقصد استهواء الشباب وحثهم على قراءة هذه الكتب التي لا تعطيهم إلا صورًا مشوهة لتاريخ أمتهم وأخبارًا ملفقة بغية التشكيك في ذلك التاريخ.
سادسًا: أعطى نفسه الحرية المطلقة في تفسير أحداث التاريخ في معظم رواياته، استنادًا إلى ما يسمى موقف الأديب من التاريخ، وكانت تفسيراته متعسفه متكلفة، تخفي محاولة لإثارة مشاعر السخط في نفوس المسلمين.
سابعًا: تفسيره لتصرفات هارون الرشيد مع أخته العباسة وجعفر البرمكي وما أثير حولهما من أخبار، بما لا يتفق مع ما عرف عن الرشيد من أنه كان يحج عامًا ويغزو عامًا، بل وبما لا يتفق مع أيسر قواعد التفكير والمنطق السليم وفي رواية (أرمانوسة المصرية) - والتي تحكي قصة فتح عمرو ابن العاص لمصر حاول أن يقول أن الحب بين أرمانوسة وأركاديوس قائد حصن الروم، هو السبب في هزيمة الروم وانتصار المسلمين، واتهم المسلمين بأنهم دخلوا البيوت ينهبون ويسلبون عندما فتحوا بلبيس، وهو مناقض تمامًا لما أورده المؤرخون المنصفون من المسلمين وغير المسلمين.
* فتاة غسان:
ثامنًا: في رواية "فتاة غسان" والتي تحكي فتوح الشام وبدء ظهور الإسلام أورد شبهة بأن النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أخذ تعاليمه من الرهبان، وتأثر(1/495)
بتوجيهات الراهب بحيرا واتسمت كتابته بالسخرية والاستخفاف بوثائق العهد النبوي ووصف حادثة شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرابة، وادعى أن هناك خصومة بين خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - وأخذ مصادره في هذا من كتب المستشرقين.
تاسعًا: في رواية "عذراء قريش" والتي تناولت عصر الخلفاء الراشدين، أقام منطقه على تجريح الصحابة - رضي الله عنه - واتهام بعضهم بالحقد وتدبير المؤامرات، واتهم السيدة عائشة - رضي الله عنه - بالميل إلى سفك الدماء والنزوع إلى الشر.
ووصف الخليفة عثمان - رضي الله عنه - بأنه رجل إمعة وذليل ومستسلم لابن عمه، وافترى على (علي بن أبي طالب كرم الله وجهه) وفسر الفتنة تفسيرًا مغرضًا واتهم عليًّا - رضي الله عنه - بالتهاون في المطالبة بدم عثمان.
عاشراً: وفي رواية العباسة، التي تحكى قصة نكبة البرامكة - اتهم الرشيد بالاستهتار والمجون والاستبداد والظلم، وقدم تفسيرًا خاطئًا ومغرضًا لقتل بني برمك، وشوه شخصية العباسة أخت الرشيد.
الحادي عشر: في رواية "شارل وعبد الرحمن" -والتي تحكي جزءًا من عصر الولاة بالأندلس- زعم بأن القواد وأمراء الجند من المسلمين كانوا مشغولين بحب فتيات النصارى وقد فتنوا بجمالهن، وأن هذا الحب قد صرفهم عن أمر الفتح، فتركوا جنودهم في ساحة القتال وادعى أنهم كانوا يهتمون بالغناثم أكثر من اهتمامهم بما عداها، وجرى على تصوير حروب الإسلام عن أنها حروب غنائم.
الثاني عشر: أجرى على لسان أبي مسلم الخراساني من الافتراء، ما قال من أن العرب كانوا يحتقرون غير العرب، ويسومونهم سوء العذاب ثم يفتخرون عليهم بالنبوة، وطمس معالم التاريخ الإسلامي في هذه الرواية(1/496)
بالدس والافتراء، وقدم صورًا باهرة للكنيسة ورهبانها، وأشاد بالأديرة والرهبان حيث جعلها ملجأ الضعفاء وملاذ التائهين والخائفين.
- وفي رواية الأمين والمأمون كان واضح التحامل على العرب، واصفًا إياهم بالاستبداد وسوء التصرف مع الأجناس الأخرى التي تربطهم رابطة الإسلام قبل كل شيء.
* وفتاة القيروان:
الثالثّ عشر: في رواية، "فتاة القيروان" التي تحكي أخبار الفاطميين ومن عاصرهم - حاول التشكيك في أنساب الكثيرين من حكام المسلمين، وكذلك عمد إلى التشكيك في نسب الخليفة المعز لدين الله واعتمد في قصصه الغرامية على الخيال إذ لا يوجد ذكر لكل هذه المواقف في جميع كتب التاريخ وخاصة حاكم سلجماسة الأمير حمدون، بل إن صاحب سلجماسة في كتب التاريخ يختلف تمامًا عما جاء في رواية زيدان، مما يؤكد ميل زيدان إلى التزوير والتحريف.
- بل إن صاحب سلجماسة هو محمد بن داسول، وليس الأمير حمدون، ولم يقل ابن الأثير أن له بنتًا شغلت القائد جوهر فخطبها لابنه، وقد أعطى زيدان لليهود في روايته دورًا إيجابيًا، وجعلهم أصحاب الفضل الأول في إزالة الدولة الإخشيدية، وإقامة دولة الفاطميين مقامها.
الرابع عشر: في رواية صلاح الدين تلفيق وتزوير وإفساد للتاريخ فقد ذهب إلى أن الخليفة العاضد لما ضعف أمره استدعى صلاح الدين، وأوصاه بأهله خيرًا وأن صلاح الدين نقض هذا العهد بعد سويعات، وحاصر قصر الخليفة وأخذ كل ما فيه ومن فيه.
ولا ذكر في كتب التاريخ لتلك الوصية والإشارة في كتب التاريخ إلى(1/497)
سيرة الملك هذه.
- وهذه الوصية التي ذكرها زيدان لم ترد في الكامل لابن الأثير ولا غيره فهي ملفقة مزورة، كذلك فقد زيف زيدان النصوص التي نقلها من ابن الأثير، وحولها تحويلاً أراد به السخرية والاستخفاف بالمسلمين وبنى عليها قصصا غرامية باطلة.
ولم يعن المؤلف بالتصوير الحي لشخصية صلاح الدين، ولم يسجل مواقفه الحاسمة، وصرف الشباب عن الحديث عن الدور المهم الذي قام به صلاح الدين، بالحديث عن مكائد الحشاشين -الإسماعيلية- وتهديدهم لصلاح الدين، واعتمد على روايات طائفة الحشاشين، تلك الجماعة الضالة المنحرفة، وحاول أن ينسب إلى صلاح الدين قصصًا غرامية كاذبة.
الخامس عشر: وفي رواية "شجرة الدر" والتي تحكي أحداث نهاية العصر الأيوبي وبداية المماليك في مصر - حاول أن يصور نساء السلطان الصالح نجم الدين أيوب بصورة النساء اللاتي يتاجرن بأعراضهن، في سبيل الحصول على ما يتطلعن إليه وليس معه أي دليل من التاريخ وهذه الدعاوى التي أوردها حول شجرة الدر تختلف عن الحقائق الواردة في الكتب التي أرخت لهذه الفترة من أمثال النجوم الزاهرة لأبي المحاسن والمواعظ والاعتبار في الخطط والآثار، وصبح الأعشى للقلقشندي.
* التلاعب بالمراجع:
السادس عشر: وخلاصة ما يصل إليه البحث حول روايات جرجي زيدان:
1 - تحوير مواقف الشخصيات التاريخية.(1/498)
2 - إثارة الشكوك حول البطولات الإسلامية.
3 - تعمد إغفال الحوادث التاريخية المهمة.
4 - إضفاء حالات مثالية على الأديرة والرهبان ودور النصارى واليهود في التاريخ الإسلامي.
5 - التلاعب بالمصادر والمراجع.
* رأي مجلة الموسوعات:
قالت مجلة الموسوعات 1899: لم يلتزم جرجي زيدان بتمحيص الحوادث التاريخية، فاختلق شخوصًا ونسب إلى بعض الشخصيات الإسلامية البارزة ما ليس فيها مما أثار جمهور المسلمين.
- فعذراء قريش (أسماء) بطلة الرواية لا وجود لها، إلا في ذهن المؤلف، وقد يكون له بعض العذر التأليفي كقاص، ولكن الباطل أنه نسب لمحمد بن أبي بكر، المعروف عنه الزهد عشق هذه العذراء، بل إن صاحب الهلال بنى على هذا الباطل باطلاً، فاختلق سببًا من عنده ليس له أسانيد تاريخية في تفسيره بعض الأحداث وزعم أن عشق محمد بن أبي بكر (كان سببًا) في ازدياد هياجه على عثمان - رضي الله عنه -، ونسب إلى الحسين بن علي - رضي الله عنهما - عشقه لهذه العذراء الوهمية وغيرة محمد بن أبي بكر منه.
وادعى أن الإمام عليًّا - رضي الله عنه - أعجب بعذراء قريش، عندما أدخلت عليه في زي رجل مع أن الدين كان يحث على عدم تشبه النساء بالرجال وقد عرف عن علي كرم الله وجهه تمسكه بالدين مما ينفي عنه أنه يعجب بمثل هذا.
- وقد أقر جرجي زيدان بخطئه في هذه الوقائع (هلال مايو 1899) وحاول أن يدافع عن نفسه ولكن دفاع الطائر الذي وقع في شبكة الصياد.(1/499)
- ونقول: إن المجلة انطوت وبقيت القصة في أيدي القراء، يعاد طبعها دون التفات إلى هذه الملاحظات وقد أرسل العلامة رفيق العظم إلى جرجي زيدان 1899، يؤاخذه على إغفاله الاعتبارات التاريخية ويستنكر تأليف التاريخ الإسلامي برمته في قالب قصصي.
- وهذه الملاحظة قد تكررت من الناقدين، وقد انتقدوه في شأن هذه القصص وما أورد فيها من أخباره الكاذبة، وثانيًا: بسبب نسبة العشق والغرام إلى رجال سلفنا الكرام، وقد أشارت جريدة المؤيد إلى ذلك في التعليق على قصة (الحجاج بن يوسف)، فقالت: الحوادث الغرامية لم تسند إلى أحد من رجال السلف العظام والأئمة الذين يجلون عن هذه الانحرفات، هذا فضلاً عن الأخطاء في الأمور التاريخية المشهورة.
* صحافة الضرار والأقلام المسمومة:
- من فمك أدينك:
وصف محمد التابعي -الذي كانوا يعدونه أستاذ الجيل كله من الصحفيين الذين خرجتهم مجلة روزاليوسف- الصحافة بأنها ذات تبعية خارجية متعددة الألوان، فقال بالنص:
"هذه الصحيفة صنيعة أمريكا، وهذه الصحيفة مأجورة للإنجليز، وهذه المجلة تصدر بأموال شيوعية، وهذا الصحفي يتلقى أوامره ومرتبه الشهري من موسكو أو وارسو أو براج. وهكذا أصبحنا جميعًا نحن الصحفيين بين فاسدين ومفسدين ومنافقين وخونة، مأجورين للكتلة الغربية والكتلة الشرقية، وأصبح الشعب في حيرة من لسانه المسموم، الصحف التي أيدت الطغيان ودافعت عن الفساد، الصحفيون الذين مرّغوا جباههم تحت أقدام الطغيان بعد(1/500)
أن أسفر الطغيان" (1).
- يقول الدكتور محمد عباس. "منتهى الخسة - ذهلت والله يا قراء .. ذهلت .. ذهلت رغم أن ما نمرّ به أوحى إلي أنني لن أذهل بعد ذلك أبدًا .. لكن ما رأيته كان يفوق أبشع خيال ممكن، كانت إحدى القنوات الفضائية الليبرالية أعنى غير الإسلامية تعرض برنامجًا عن الحداثة والثقافة، وكانت المناسبة اكتشافهم المتأخر جدًا لكتاب المؤلفة البريطانية فرانسيس ستونز "من يدفع أجر العازف" والذي تفضح فيه بالأسماء عملاء المخابرات الأمريكية من كبار الفلاسفة والكتاب والمفكرين ومجلات عربية تطرق الحديث إلى مجلة الكاتب (2) التي رأس طه حسين تحريرها في الأربيعنيات بعد أن أعطوه شيكًا على بياض بما يحدده لنفسه من راتب ودون الالتزام حتى بالكتابة .. وأن المشرف المالي على المجلة كان .. كان .. كان أبا إيبان!! .. نعم .. أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي بعد ذلك (3).
__________
(1) أخبار اليوم 25/ 10/1952 م.
(2) وهي يهودية.
(3) في كتاب "طه حسين في ميزان العلماء والأدباء" لمحمود مهدي استانبولي (385 - 388).
قال الدكتور سعدي الهاشمي: "إن طه حسين هو الذي تبنى إصدار قرار بتعيين الحاخام اليهودي "حاييم ناحوم" عضوًا في مجمع اللغة العربية في القاهرة؛ ليكون عينًا على المفكرين ورجال اللغة".
ويقول "فريد شحاتة" كاتب طه حسين، وقد كان موضع أسراره العشرات من السنين، وكان لصيقًا بقلب طه حسين، وكان نصرانيًا، كتب مقالاً جاء فيه: "إن طه حسين قد تعمد لاعتناق النصرانية في شبابه عند زواجه من زوجته الفرنسية، وكان ذلك في كنيسة إحدى القرى الفرنسية" انظر مجلة الثقافة، العدد (74 لسنة 1979) (ص 4)، من مقالة لأحمد حسين، ومعركة الشعر الجاهلي بين الرافعي وطه حسين للدكتور إبراهيم عوض (ص 27) مكتبة الفجر الجديد - مصر.(1/501)
- تطرق الحديث إلى ما كشفته وثائق المخابرات السوفيتية عن الشيوعيين في العالم العربي وقدر ما كان يمنح لهم من رواتب ومصروفات سرية، توقعت أن يسقط الشيوعي من الخجل، وتوقعت أن يصرح الحداثى أنه اكتشف أنه كان غبيًا وقد خدع، لكن ذلك لم يحدث .. فعلى الفور .. ركبوا الموجة .. وراحوا يؤكدون على أن الثقافة منذ ستين سنة صناعة أجهزة المخابرات الأمريكية والسوفيتية وكأنهم لم يكونوا هم بالذات عملاءها ومفاتيحها إلى التسلل إلى الوطن لتخريبه (1).
- رحم الله مصطفى صادق الرافعي حين وصف الصحافة فقال: "لو عرفت الصحافة وأهلها لرأيت أن العمل فيها أشق الأعمال على النفوس الكريمة فهذه ليست صحفًا وإنما هي حوانيت تجارة".
ولقد سقطت الصحافة في تلك السنوات في أيدي اليساريين فانحرفت انحرافًا شديدًا وهزمت فيها القيم هزيمة منكرة، وعورضت كل مفاهيم الدين والأخلاق، ولم يكن الشيوعيون وحدهم ولكن كان معهم الماسون والتلموديون والبعثيون، وكل أعداء الإسلام والعرب وقد تجمعوا في صعيد واحد.
ولقد سحق تيار الشيوعيين في هذه الفترة كثيرًا من أهل الأصالة وأهملهم ووضعهم في الظل ولم تستطع الصحف أن تجد مجالاً لكلمة واحدة عن الأخلاق والدين إلا ما كان ينشر تحت رقابة شديدة في مجلة منبر الإسلام يحمل توجيهات الخصوم للدعوة الإسلامية ورجالها وإلى دعوة التضامن الإسلامي.
__________
(1) من مقال "ظلمات فوقها ظلمات .. فاخرجي يا أمة .. تنكشف الغمة" مجلة المختار الإسلامي العدد 248 - السنة 24 غرة ربيع الثاني 1424 هـ- 1 يونيو 2003 م (59 - 60).(1/502)
وفاجأ الناس الدكتور صفي الدين أبو العز وزير الشباب بكلمته المسمومة حين هاجم التراث الإسلامي ووصفه بالجمود والرجعية وتبعه الدكتور يوسف إدريس فدعا إلى حرق التراث.
- وجاءت كتابات لطفي الخولي وأحمد عباس صالح وأحمد عبد المعطي حجازي، وعبد الرحمن الشرقاوي لترسم محاولة ماكرة في أن تجعل للشيوعية والاشتراكية والماركسية جذورًا في الفكر الإسلامي، وفي محاولة لتفسير تاريخ الرسول والصحابة على نحو تقسيمهم بين اليمين واليسار، وجرت محاولات لجمع خيوط والتقاط كلمات وعبارات وإخراجها عن سياقها وواقعها من كتابات عبد الله النديم، وجمال الدين، ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي لمركسة مفاهيم الإسلام، كما جرى الاتكاء على تيارات مشبوهة كان أصحابها أولياء للنفوذ الأجنبي والاحتلال والاستعمار أمثال شبلى شميل وأديب إسحق ويعقوب صنوع وفرح أنطون وأمين الريحاني وجبران، وهو تيار مشبوه يجب الكشف عن زيفه وانحرافه وجرت المحاولة لجعل كلمة الاشتراكية من مفاهيم الإسلام كما حاول الاستعمار من قبل في كلمة الديمقراطية. اقرأ كتاب العقاد.
كانت الغاية هي تقديم اليسار على طبق إسلامي وهي محاولة ضالة ثبت فشلها وسرعان ما هزمت بالرغم من نفوذ الصحافة الماركسية.
أفسحت الصحافة العربية في هذه الفترة صفحاتها للدفاع والدعوة لعدة قضايا مسمومة:
أولاً: مفهوم القومية الوافد المفرغ من القيم العربية والإسلامية.
ثانيًا: مفهوم الماركسية والتفسير المادي للتاريخ.
ثالثًا: مفهوم الإباحية والجنس والكشف والإلحاد.(1/503)
- وهكذا صبت صحافة النكسة السموم عن طريق الأقلام الشيوعية والمادية والوجودية، ولا ريب أنه كان لهذه الكتابات مسئوليتها الخطيرة في الهزيمة والنكبة والنكسة، وفي الوصول إلى مرحلة التسليم والتقبل والاحتواء للنفوذ الأجنبي ممثلاً في الشيوعية والصهيونية (هذه المرحلة التي عاشتها البلاد العربية قبل العاشر من رمضان).
ولقد دحرت بشدة تلك الأقلام التي حاولت أن تكشف هذه الأخطار ممثلة فيما نشرته مجلة الرسالة عن لويس عوض ودور جريدة الأهرام، وأغلقت تلك المجلات الثقافية؛ لأنها كانت تعمل على طريق الأصالة، وجرت إلى ذلك محاولة إحياء الماضي الفرعوني والإغريقي والجاهلي العربي وتمجيده وبعث الأساطير وإعادة صياغة الوثنيات والفلسفات السريانية والمجوسية، والباطنية وإحياء عشتروت وزيوس وباخوس، والهدف هو هدم التصورات الإسلامية وإخراجها من مفاهيمها الأصيلة والتشكيك في هذه النقولات وإخضاعها للمفهوم الماسوني الوثني القديم والحديث الذي يختلف بل ويتعارض مع مفهوم التوحيد الإسلامي.
واستغل الماركسيون رفاعة الطهطاوي كما استغله الليبراليون لأنه تأثر بالفكر الغربي وبالدعوة إلى الوطنية وأعجب بمظاهر الحضارة الغربية وخاصة الرقص الغربي، وتنافس عليه خصوم الإسلام ودعاة الشيوعية جميعًا.
وهوجم عزيز أباظة عندما أثار في حفل توزيع جوائز الدولة مسألة الفصحى، هاجمه الشيوعيون بقوة وشراسة، هاجمه صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور، وقال صلاح عبد الصبور: "إنه رجل سلفي يؤمن بالجمود ويتحدث عن التطور كارهًا، وقد فاته أن التعبير بالعامية لا يعادي اللغة العربية، وقد نسي أو تناسى أوسمة منحت لصلاح جاهين وسعد وهبه ومرسي جميل عزيز، وهم من كتاب العامية، والقضية ليست قضية إطار(1/504)
لغوي ولكنها قضية تعبير عن العصر، وفي هذا يتساوى من يعبر بالفصحى وأنا منهم ومن يعبر بالعامية مثل كتاب المسرح والأغنية، واللغة العامية لغة تعبير موفقة في كثير من الأحيان ومكملة للعربية في كثير من الحالات.
- وهكذا أفسحت الصحافة لمهاجمة الفصحى والدفاع عن العامية ووصفها بأنها لغة، ولم يظهر رجل رشيد يدحض هذه الكلمات المليئة بالمغالطة والانحراف حين يرى أن كل مدافع عن الفصحى سلفي مؤمن بالجمود، أو دعواه الباطلة بأن التعبير بالعامية لا يعادي الفصحى.
وهكذا كانت الصحافة وعاء لكل تلك السموم، وهددت الصحافة البشرية بالمجاعة موالية بذلك دعوى الرأسماليين وأصحاب الملايين اليهود، وعارضت تطبيق الشريعة الإسلامية وغضت من شأنها وفتحت صفحاتها لكل من يستطيع أن يثير الخلاف أو يقدم الرأي الذي ينتقص من الشريعة، وحملت ترجمات القصص الأجنبية المكشوفة أمثال أزهار الشر، وصورة دون جراي، وهكذا تكلم زرادشت، وعشيقة اللورد شترلي، وفتحت صفحاتها أسبوعًا وراء أسبوع لترويج هذه السموم المكشوفة والصور الفاضحة.
وبالجملة فإن الصحافة العربية في فترة (الهزيمة والنكبة والنكسة) (1948 - 1967) التي نؤرخ لها قد حملت كل الأفكار التي طرحها الاستعمار والتغريب وروجت لها وأشادت بها وقطعت أشواطًا طويلة في الدعوة لها والدفاع عنها والإلحاح بها والبث يومًا بعد يوم، وفي مقدمتها الاشتراكية الديمقراطية، القومية الوطنية، وكلها مستمدة من مفهوم غربي من شأنه أن يمزق الوحدة الإسلامية الجامعة، وكان أغلب زعماء الصحافة في هذه الفترة ماسونًا ومن غير دين الأغلبية يهودًا وكاثوليك وموارنة، ثم جاء من بعدهم أتباع الروتاري والليونز وحملة لواء الوجودية والبهائية والقاديانية، وقد دافع هؤلاء وأولئك عن التفرقة بين الاشتراكية والشيوعية وبين الصهيونية واليهودية.(1/505)
- وهي التي والت النفوذ الأجنبي على مختلف جبهاته: فرنسيين مع فرنسا، وإنجليز مع بريطانيا وأمريكيين مع الولايات المتحدة وروسًا مع الاتحاد السوفيتي، وهم من وراء ذلك موالون لما هو أشد خطورة، للماسونية العالمية والتي تربط بين الرأسمالية والشيوعية والصهيونية برباط خفي، وهي التي حملت على رجال الدين وعلى الأزهر وعلى كل صيحة إسلامية، وشوهت الأسماء اللامعة بالسخرية منها بالنكتة الفاضحة والكاريكاتير السخيف.
وهي التي أخفت كل الحقائق حتى يظل النفوذ الأجنبي قادرًا على العمل خادعًا للمسلمين، وكم من وثائق وتصريحات لقادة عالميين كبار ويهود وغيرهم تكشف عن مخططات يراد بها هدم الإسلام أو تدمير المسلمين، عملت الصحافة على تجاهلها ثم كشفت عنها الحقائق من بعد.
- وقد كانت الشخصيات التي حاربت الإسلام وخدعت العرب والمسلمين موضع تقدير الصحافة العربية من أمثال لطفي السيد وسعد زغلول، وساطع الحصري وطه حسين وقاسم أمين، وعلى العكس من ذلك كان كل المجاهدين العاملين من أجل إعلاء كلمة الله موضع تجاهلها والإغضاء والإنكار.
* نموذج من فساد الأقلام المسمومة وإِفسادها:
لعلك تعجب حين ترى جريدة الأهرام تتهم السيدة خديجة - رضي الله عنه - بأنها حوّلت دارها إلى حزب نسائي (الأهرام 21/ 9/1975) ووصفتها بأنها كانت تدعو إلى تحرير المرأة.
- وصبري أبو المجد يكتب كتابًا يسميه "أم الأشتراكية - خديجة بنت خويلد" (1).
__________
(1) كلهم سلمان رشدي (ص 27).(1/506)
* الصحفي محمد التابعي أستاذ الجيل لصحفي روزاليوسف ورائد المدرسة الروزيوسفية وعرّاب الإِثارة:
محمد التابعي هو رأس مدرسة الإثارة بدأها عام 1926 م في مجلة روزاليوسف ثم بعد أن خرّجت روزاليوسف أجيالاً من الصحفيين تبلورت المدرسة في دار أخبار اليوم التي صدرت عام 1943 واتسعت من بعد ووضعت اسم محمد التابعي على رأس جريدتها اليومية باعتباره الأستاذ الأعظم حتى قريبًا من وفاته سنة 1976.
* رأس مدرسة الإِثارة محمد التابعي:
لا ريب أن محمد التابعي هو رأس هذه المدرسة الروزيوسفية التي خرجت مصطفى أمين وإحسان عبد القدوس، وهيكل وأنه هو الذي أسس لصحافة ساخرة خليعة تعتمد على الإثارة والجنس وتعقب الناس ومعرفة أسرار البيوت وكشف العورات.
وأن هذا اللون في الصحافة العربية لم يكن معروفًا على هذا النحو قبل صدور مجلة روزاليوسف عام 1926، وقد عاش التابعي يرعى هذا العمل حتى نما واستحصد في آخر ساعة ثم في أخبار اليوم وهو الذي وسع نطاق الكاريكاتير الذي كان سياسيًا في مجلة الكشكول فأصبح اجتماعيًا وسياسيًا في روزاليوسف وآخر ساعة وأخبار اليوم.
- وكان على الجناح الآخر فكري أباظة في صحف دار الهلال، وقد أشار مصطفى أمين في السنوات الأخيرة إلى أنه كلف أمينة السعيد وهي طالبة في الجامعة بأن تكون مندوبة آخر ساعة وأن تجمع له ما يدور على ألسنة السيدات في البلاج وفي سهرات سان استيفانو، وهذا يؤكد تلك الظاهرة الواضحة التي سجلها تاريخ الصحافة؛ فإن مجلة آخر ساعة كانت تنشر من(1/507)
أسرار البيوت والبيوتات ما عجزت الصحف كلها عن الوصول إليه لسبب سري جدًا هو أن مندوبي مجلته في هذا الباب كن من الصديقات اللائي لا يعرف أحد صلتهن بالتابعي.
ولقد عمل التابعي في مجلة المسرح (عبد الحميد حلمي) ثم في الأهرام بتوقيع حندس، وكان عمله قاصرًا على النقد المسرحي وكذلك بدأ عمله في (روزاليوسف) ولكن حزب الوفد الذي كان قد أزعجته حملات الكشكول المعارضة أراد أن يواجه العمل بمثله، فاتفق مع صاحبة المجلة على تحويلها سياسيًا وقام مكرم عبيد بتدريب التابعي على هذا الفن الملعون (فن الكاريكاتير) والسخرية بالناس والبحث عن أسرار بيوت خصومهم للكشف عنها، وكان التابعي من أشد دعاة الوفد المتحمسين والمدافعين عنه، ولكن صداقته لأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي لم تلبث أن حولته إلى خصم عنيد للوفد حين شكلت تلك الجماعة المؤيدة للملك فاروق بعد حادث 4 فبراير عندما اقتحم المحتلون الإنجليز قصر عابدين وفرضوا على الملك حكومة برئاسة مصطفى النحاس باشا.
- وتشكلت هذه الجماعة من محمد التابعي ومصطفى أمين، وكامل الشناوي وكثير من نواة جريدة أخبار اليوم عام 1944 التي أنشئت بواسطة السعديين المنشقين عن الوفد (شيك بمبلغ خمسه آلاف جنيه ورخصة جريدة) ودخلت أم كلثوم وساهمت بإغراء أن يكون لها دفاع وكانت تنوشها الصحف كل يوم (20 ألف جنيه).
وكانت هذه العصبة تلبس قفازًا من حرير، وتحتمي وراء مظهر الوطنية لتعمل عملها وتدفع المرأة خارج حياة الأسرة على النحو الذي عرفته الصحافة العربية تحت اسم صحافة الإثارة.
- يقول التابعي: اعتدت أن أمضي كل سنة سبعة شهور أو ثمانية(1/508)
خارج مصر بين باريس والريفيرا وسان موريتز، وشبعت من كل مفاتن الحياة، ولم يعد هناك جديد يستهويني، وأذكر أنني كنت آخذ معي إلى الكباريهات علي ومصطفى أمين الذي كان يأتي مرغمًا؛ لأنه ليس له مزاج في شيء من الحياة إلا الجري وراء الأخبار والأحاديث، وكان الناس يطلقون عليهم الحزب الخاص للتابعي.
وقد وصف الصحفي الذي أجرى معه الحديث (8 - 10 - 1960) بأن غرفة مكتبه كانت غرفة بار متصلة بغرفة المائدة.
- ويصور التابعي حياته الصحفية في عديد من المقالات (كيف كنا نعيش في رأس البر) (21 - 4 - 1956) أخبار اليوم، على الشاطئ الرملي البدائي الساذج خطرت الغزلان الغواني والغانيات يرتدين ثياب الاستحمام وأحدث أزياء الصيف التي كن اشترينها من دورفيل ونيس وكان وروما وباريس، وكانت لي عشة صغيرة على شاطئ البحر مباشرة، كانت أشبه بدار ضيافة للأصدقاء فقد كنت أرجوهم أن يقيموا معي ويؤنسوا وحدتي (أم كلثوم وتوفيق الحكيم والصاوي، وحفني محمود، ونجيب الريحاني، وسليمان نجيب، وفكري أباظة، ومحمد عبد الوهاب، وسعيد عبده) وقد رووا قصصًا مثيرة أو قصصًا غامضة، وكلهم يؤكد أن قصته حقيقية وأن حوادثها وقعت وأبطالها عاشوا.
- هذه هي الخلفية لصحافة الإثارة، يقول حافظ محمود: بدأ محمد التابعي من المسرح وجو المغنيات والممثلات ثم جاءت السياسة فأداها بنفس مفهوم السخرية والبحث عما وراء حجرات النوم، وفي مجلة روزاليوسف استعار أسلوب النقد المسرحي وحوله إلى نقد سياسي وأنشأ بأسلوبه مدرسة من ناشئة الصحافة، وكبر تلاميذه وتفوقوا عليه، وترك روزاليوسف وأنشأ آخر ساعة.(1/509)
سفره إلى أوربا في الصيف والأقصر في الشتاء، أول من اختاره أحمد حسنين لدعم الملك فاروق وجمع حوله المجموعة، هاجم مصطفى النحاس لحساب القصر بعد أن كان أكبر نصراء الوفد وكان أصدق صديق لأحمد حسنين رئيس الديوان الملكي الذي كان يستخدم كل أسلحته لطعن الوافدين.
وكان يتقاضى أعلى مرتب وصل إليه صحفي (700 جنيه في الشهر) في الخمسينات وقد أشار كاتبون كثيرون إلى أنه عرف بإسرافه في الحديث عن المرأة أثناء نزوله في فنادق سويسرا وباريس، يبحث عن النبيلات من الأسر المالكة التي قوضت الحرب والثورات عروشهن في أوربا والعصابات والجاسوسيات الدوليات والفنانات والهاويات من أنصاف الفنانات، بوصفهن مخلوقات عجيبة، يشتركن في مأساة الانهيار السياسي والاجتماعي الذي أصاب العالم بعد حربين عالميتين خرجت منها هذه النساء كحطام يبحث عن الحب أو الأمل في كأس أو مغامرة، وكما فعل التابعي حين هاجم النحاس باشا والوفد لحساب الملك فاروق وصاحبهم في رحلة الحياة كشف سوءاتهم بعد حركة الجيش 1952، كذلك فعل مصطفى أمين.
- كان الهدف الاجتماعي يختفي وراء الهدف السياسي: إشاعة روح السخرية والاستخفاف بكل القيم الاجتماعية، وخلق أسلوب جديد تجتمع فيه العامية مع تفاهة المعنى، تمييع الحياة السياسية بإطلاق عبارات نازلة على السياسيين كوزير المصارين ومأذون القرية، ويتفاخرون بأمانة التابعي الصحفية وأنه قدم للمحاكمة، أما أمانته الصحفية فيكشف عنها موقفه في كشف أسرار الجهات التي ائتمنته عليها.
- أما بالنسبة للمحاكمات فإنها لم تكن من أجل الوطن ولا من أجل كلمة الحق فالمقال الذي حوكم عنه التابعي يكفي ذكر عنوانه: "ملوك وملكات أوربا تحت جنح الظلام" ندد فيه بملوك أوربا وفضائحهم، ولم يقتصر على(1/510)
الفضائح المترجمة بل أضاف إليها مما أبدع خياله، وإن القضية الآخرى كانت ولاء حزبيًا، وقد وصف التابعي بأنه عاش معتزًا بكبريائه وكرامته فأين هي هذه الكرامة وهذا الكبرياء؟ في البحث عن عورات البيوت والأسر والمشاهير أم في تعقب الأميرات اللواتي سقطت عروشهن في أوربا، هل عرف عن التابعي مقالاً في مواجهة الأخطار التي تعرضت لها مصر أو البلاد العربيهّ، إن مقاله عن اليهود كان دعوة لزعماء العرب إلى التصييف في إسرائيل.
وكانت دعوته إلى إلغاء الأحزاب وإنشاء الحزب الواحد إبان دكتاتورية عبد الناصر من الصفحات السوداء في تاريخه، وكانت حملاته على بعض ملوك العرب وزعمائهم متابعة للولاء الدائم للحاكم المستبد، هذا فضلاً عن عمله الخطير في تدمير القيم الإسلامية والخلقية بكتاباته الساخرة من الإسلام والشريعة والحدود ورجال الدين، وبدعوته إلى كتابة قصص الجنس المكشوفة وأخبار الأسر بأسلوب غير كريم.
- كان التابعي على مدى حياته رجلاً مترفًا منحلاً يريد أن يذيع فلسفة الانحلال من خلال كتاباته الصحفية ليرضى عنه كل حاكم، وهو لا يبالي أن يكون مع الحاكم إبان حكمه ثم يكون ضده من بعده فيكشف عوراته ويصمه بأسوأ صور الفساد مع أنه كان مؤيدًا له، وذلك موقفه من فاروق قبل وبعد، وكان حريصًا على نشر قصص الفساد العالمي والتحدث عن سوءات البيوتات وتلخيص قصص الجنس العالمية، من مثل هذا: (كانت اللادي ديانا قد عرفت وهي لا تزال بعد دون العشرين من عمرها خادمًا في قصرها مفتول الذراعين قوي الساقين وأسلمته الفتاة نفسها، سليلة الشرف والمجد المؤثل ثم تزوجت رجلاً خامل الذكر بليد الفهم وعرف زوجها وأدمن الشراب .. )
هذه هي القصص التي كان يقدمها التابعي ويوليها اهتمامه الكبير، بالإضافة إلى قصص عصبة المجان في رأس البر، ويقول: (أعطيت أحد(1/511)
الزملاء ممن كانوا يتعاونون معي في تحرير آخر ساعة فكرة قصة وأمسك اليوم عن ذكر اسمه لأنه أصبح قصصيًا ناجحًا معروفًا) والقصة قصة فتاة من بنات البيوتات الكبيرة والأسر الراقية، وتزوجت الفتاة من فتى أحبها وأحبته واكتشفت ذات يوم أن زوجها هو عشيق أمها، وهكذا نقل التابعي وقائع المجتمع التي تتعلق بخصوم سياسيين إلى مجال القصة حتى يفلت من العقوبة، وكذلك تعلمت عصبة المجان هذا الأسلوب وهذه هي القصة التي حققت من أجلها النيابة معه وكان يدعي أنه سجن من أجل كرامة المهنة وشرف الكلمة.
- وكان التابعي قد نشر ذلك في جريدة أخبار اليوم من بعد، ويكتب محمد التابعي قصة عام 1960 يتحدث فيها عن رجل يخدع ويضحك عليه ويدبر له أمرًا بادعاء من سيدة تعطلت سيارتها ولاحقتها الأمطار وتريد أن تجفف ثيابها، ثم عرف بعد أنها راهنت عليه وكسبت الرهان وكيف أن المرأة ضحكت علية وسخرت منه وبعبارة التابعي (وكيف أنه حمار ومغفل وقد طب أمام سحرها زي المقطف)، لحساب من هذه القصص الصارخة التي تريد أن تعلم فتياتنا أساليب ماكرة من الغواية والاغتصاب، هذه هي قصصهم التي تجددت من بعد تحويل حادثة معينة إلى قصة، وتحويل قصة إلى ظاهرة اجتماعية، ويدخل التابعي في مناقشات مع علماء الدين ليسخر منهم وليؤكد هدفه في إذاعة الفحش والفساد.
- ويتساءل التابعي في بعض مقالاته: كان بعض أصحاب الفضيلة من رجال الدين قد أثار في وقت ما ضجة حول الصور العارية التي تنشرها الصحف والمجلات، ولم يقل لنا أحد يومئذ هل الاعتراض مقصور على الصور العارية لكواكب السينما الأجنبيات، ومن في حكمهن والصور العارية لنساء وفتيات غير معروفات بالاسم واللقب والصور العارية المرسومة من(1/512)
الخيال أم بعض صور سيدات وآنسات المجتمع المصري كما يظهرن في الحفلات والمآدب والليالي الساهرة، التي تقام في أندية عامة أو في بعض الفنادق.
ثم ما هو المقصود تمامًا وعلى وجه التحديد من كلمة الصور العارية، هل يكفي مثلا أن تكون الصور لسيدة قد عرت ظهرها وصدرها ونحرها ْنزولا على أحكام آخر موضة جاءتنا من باريس أو روما أو لندن. إن الأجساد العارية في الأفلام وإعلانات الجدران خاضعة لرقابة الأفلام ولكن لأي رقابة تخضع الأجساد العارية في حفلات مواسم الأوبرا.
- هذا هو أسلوب التضليل والخداع والنفاق وإثارة الشبهات والفتنة الذي كان يتبعه التابعي الذي عمل تابعًا للسيدة روزاليوسف في مجلتها ثم انفصل عنها والذي عاش قلمًا مدافعًا عن كل الفنانين والراقصات.
كتب التابعي عن إحدى الممثلات: "إنها فقدت كل شيء، مالها وشبابها وجمالها ولكن شيئًا واحدًا لا تزال تحتفظ به وتعتز، هو كبرياؤها وعزة نفسها، لقد كسبت عشرات الألوف من الجنيهات وأنفقتها كلها في سبيل التمثيل، وسمعت من ثقة أنها باعت أدوات المطبخ واليوم قبلت أن تظهر على المسرح كذا، لا لتمثل ولكن لترقص وتغني، إنها مأساة".
وهذه هي المأساة في نظر التابعي امرأة راقصة أو ممثلة أو مغنية فقدت المال الذي جمعته لأنه حرام ثم أخذت تتسول، والتابعي هو محامي هذا الصنف من الناس، والتابعي هو الذي قدم قصة مرغريت فهمي التي قتلت علي فهمي كامل، وقصة أسمهان تلك الفاجرة التي كانت جاسوسة للاستعمار البريطاني والصهيونية، والتي قيل أن التابعي إبان الحرب العالمية الثانية كان يسافر إلى القدس ليجتمع بها والتي كانت بحكم زواجها من أحد أمراء الدروز الموالين للحلفاء، كانت تطلعه على كثير من الأسرار.(1/513)
- هذه هي صحافتهم التي ابتدعوها: تذليل العقبات أمام كل صور الفساد والإباحية والاغتصاب، ويتساءل محمد التابعي: هل هناك حياة بعد الموت، ويحيل الإجابة على السؤال إلى يوسف وهبي الذي ليس إلا عمودًا خطيرًا من أعمدة التغريب والغزو الثقافي، وهو ثالوث طه حسين وأم كلثوم.
لقد كان التابعي على رأس مدرسة الدفاع عن كل باطل ما دام في خدمة المخططات الأممية تحت لواء الليبرالية ظاهرًا وهدم المرأة والأسرة هو العمل الأول، وله كتاب "نساء في حياتي" يصور فيه مغامراته الدنسة، ويقول أنه لا يؤمن بالحب العذري، ولكن التابعي لم يفلت من ضربة القدر فقد قاسى المرض العضال في آخر أيامه دون أن يرعوي أو يعود إلى الله، يقول: لقد عشت حياتي بالطول وبالعرض، ونقول: نعم، ولكن في مجال الاستمتاع الذاتي بالحرام وإشاعة الحرام وتبريره ومحاربه كل كلمة شريفة (1).
- "وقد كتب مصطفى أمين عما أسماه مدرسة التابعي التي تعلم منها هو وعلي أمين، كانت المدرسة هي مجلة روزاليوسف مدرسة السخرية والتقريع واللمز والغمز للممثلين والممثلات قال (13 - 11 - 1954)، مدرسة التابعي الصحفية لها أثرها في تاريخ الصحافة، لقد قرر أسلوب الصحافة الساخرة من الأسجاع والمترادفات، فهو الذي أدخل اللغة الكاريكاتورية في الصحافة، بضعة خطوط سريعة تعبر كأنها لوحة فنية، كلمة واحدة تلتصق بشخصيهّ السياسي وتحوله من رجل وقور إلى مسخرة، لقد كانت لغة الصحافة قبل ذلك أشبه بفساتين السيدات في الماضي مليئة بالذيول والكشكشة والكلف، فجعل لغة الصحافة بسيطة كأثواب السيدات الآن، وقد وصف التابعي بأنه ضعيف أمام النساء، متلاف في النفقات
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 89، 96).(1/514)
الضخمة، وكان قبل زواجه يعيش كما يعيش هارون الرشيد" (1) ا. هـ.
- "هذه هي الصحافة التي صنعها أحمد حسنين لحساب الملك فاروق وجند لها التابعي ومصطفى أمين وآخرين عندما اهتزت مكانته بعد حادث 4 فبراير، وحاول أحمد حسنين أن يجمع حوله أكبر عدد من الصحفيين للدفاع عنه، وبدأ العمل أولاً من خلال آخر ساعة ومجلة الإثنين، ثم بإنشاء أخبار اليوم ثم صدرت المصري (التابعي، كريم ثابت، محمود أبو الفتح) وكتبت في مدح الملك فاروق مثل ما كتبه التابعي ومصطفى أمين".
- وأخيرًا: "يتحدث التابعي عن تحضير الأرواح، ويتساءل هل هناك حقًا حياة بعد الموت، ويتساءل عن خلود الروح، وكل هذه عناوين مضللة تهدف إلى نقل التشكيك من دائرة ضيقة هي تحضير الأرواح إلى دائرة أوسع .. تهدف إلى التشكيك في الحياة الأخرى، ولو كانت الصحافة تحمل الأصالة لقالت أن الروح من أمر الله، وأن البعث حق والجزاء حق" (2).
* فكري أباظة البطل الثاني في مدرسة الإِثارة:
كان فكري أباظة على رأس صحف دار الهلال فهو في مقدمة الذين عملوا مع أبناء زيدان (إميل وشكري) منذ عام 1926 أيضًا، إلى أن توفي عام 1979 وكان هو حامل لواء الصفحات المثيرة عن أخبار الناس وأخبار البلاج وملكات الجمال والسخرية بكل القيم الإجتماعية في مجلات المصور والكواكب وحواء (وما تزال تصدر) والدنيا الجديدة والفكاهة وكل شيء والإثنين (وقد توقفت).
- يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "الصحافة والأقلام المسمومة"
__________
(1) المصدر السابق (ص 99).
(2) المصدر السابق (ص 230).(1/515)
(ص 97، 98): أما البطل الثاني في مدرسة الإثارة فهو فكري أباظة الذي عاش أغلب حياته في أوربا بحثًا عن الجنس والمرأة والحب، وهو رجل ساخر بكل شيء لا يكف عن الحديث عن غرامياته ومغامراته واهتمامه بالرياضة، والتمثيل وقد دافع عن المسرح في مجلس النواب عندما حاول بعض المخلصين أن يصور فساد هذه المؤسسة، وساير كل أجيال المسرح والغناء والرقص وآزرها بقلمه: روزاليوسف، وأم كلثوم والريحاني، وكل المغنيات والراقصات، وله رسائل متبادلة مع التابعي، ولقد كان كالتابعي يتخذ من كتابات السياسة والوطنية غلافًا للكتابات الاجتماعية المكشوفة والقصص، ولقد ابتدع لأول مرة ما أطلق عليه (أخبار البلاج) وهي صفحات خطيرة كانت تنشر خلال الصيف كل أسبوع عن النساء العاريات على شاطئ البحر، وفلان وفلانة في الكازينو وبعد الغروب .. إلخ وهو يدافع عن الصور العارية تحت كلمة (اشمعنى).
"لماذا الصحافة وحدها يطلب إليها ذلك ولا يطلب من السينما، يقول لك الناقدون أن الصحافة تنشر القصص المغرية المثيرة للغرائز، وقد يصح أن بعض المجلات تنشر هذه القصص ولكن أين عدالة الناقدين والطاعنين على الصحافة المصرية وأين شجاعتهم وهم يسمعون في الإذاعة وغيرها من الإذاعات الخارجية الأَنَّات والتأوهات والنغمات والمغريات الصوتية التي ترن قي آذان الملايين ومن بينهم أطفال لا يقرأون الجرائد ونساء وأميون، واشتدت الحملة ولا تزال مشتدة على الصور العارية التي تنشرها بعض المجلات، ويا سبحان الله ألا يلمح الناقدون الطاعنون هذه الصور متحركة ناطقة لاعبة بالألباب أمام أولادهم وبناتهم على شاشة السينما، ألم يلمحوها في موسم الصيف على البلاجات متحركة سابحة فاتنة، لاعبة بالألباب، ألم يلمحوها في الحفلات والأفراح والمراقص راقصة متحركة لاعبة بالألباب، الصحافة(1/516)
وحدها، الصحافة وحدها".
- هذا هو منطق دعاة الإثارة والكشف من زعماء الصحافة العربية لماذا نحن وحدنا الذين يطلب منا الالتزام بالأخلاق؟ وهذا هو نفس منطق التابعي المدرسة كلها على طريق الفساد، ولعلك تدهش حين ترى بعض المغرر بهم الذين كتبوا عن فكري أباظة يكرمونه بعد موته، وهو دعامة خطيرة من دعامات صحافة الإثارة، الحقيقة أن الوطنية المدعاة لم تكن إلا غلافًا رقيقًا لتغطية هذا العمل الخطير، ومع ذلك فمن الذي يستطيع أن يقول أن التابعي وفكري أباظة كانا وطنيين مخلصين وهما دعاة التسوية مع الاستعمار والصهيونية؟
ولم تكن الحياة عندهم إلا كأسًا من الخمر أو راقصة أو مغنية سواء هنا في مصر أم في أوربا، ويحفل المصور خلال خمسين عامًا بمذكرات فكري أباظة وتعقباته للنساء في أوربا، وكلماته التي يؤيد بها انطلاق المرأة إلى كل ما يطمح إليه أصحاب الأهواء، دعوة ملحة مستمرة متخفية تحت قناع كاذب من ادعاء الأخلاق والفضيلة" ا. هـ.
* سارتر دجّال الوجودية:
والواقع أن نظرية الوجودية قد نفقت قبل هلاك سارتر بوقت طويل، وإن حاول هذا الشقي أن يمد من عمرها بانتمائه في السنوات الأخيرة إلى الشيوعية واحتضانه لقضايا الصهيونية إذ هو نصف يهودي كما كان يطلق عليه عباس العقاد لأن أمه يهودية، وقد خدع بعض البلهاء من المصريين حتى أعدوا له زيارة ليحصلوا منه على تصريح يخدم القضية الفلسطينية بعد أن نقلوه إلى خيام اللاجئين في غزة، فما أن غادرها حتى كشف عن هويته الصهيونية وأعطى الماركسيين الذين احتفلوا به درسًا كشف عن عمالتهم هم، ومكره هو والذين رافقوه ومع هذه اللطمة القاسية فإن كتابًا مصريين وعربًا ما(1/517)
زالوا يذكرون سارتر ويتحدثون بمذهبه وبما يسمونه الوجودية العربية التي قادها عبد الرحمن بدوي وكان لها على فترة طويلة أعوان، وكانت كتب سارتر تظهر في باريس بالفرنسية وفي بيروت بالعربية في وقت واحد، وربما ندم بعض الكتاب عن تبعيتهم لسارتر، وأحسوا أنهم أخطاوا الطريق بعد أن قرأوا ما كتبه "جاك بيرك" مثلاً حين قال:
"إن سارتر عقل كبير ولكنه مع الأسف يفتقر إلى الذكاء السياسي وليس من الضروري أن يكون العقل الكبير عقلاً سياسيًا، ولكن المشكلة عند سارتر أنه يريد أن يكون سياسياً فيما يجابه من التيارات اليسارية ومنها الشيوعية بنوع من العقد النفسية، ومن المؤسف أن سارتر الذي يبني معظم فلسفته على فهم الآخر لا يفهم الآخر ولا يحس به، لم يستطع سارتر أن يتغلب على ما أحيط به من الدعاية والتضليل الصهيوني، فاعتبر إسرائيل (صيحة) وقلب القصة فاعتبر إسرائيل (مدعى عليها) وقد بلغت الدعاية الصهيونية به أن يقلب الحقيقة التاريخية في أوربا كلها، إنهم ينفون أن يكون الوجود الصهيوني استعمارًا".
ويردد كثير من أنصار سارتر فشل سارتر، وكيف تبخرت مفاهيمه التي ضللت الشباب العربي ردحًا من الزمن، وكيف أنقشع بريق اسمه فظهرت الوجودية فلسفة للفوضى والانحلال، وكيف هوجمت فلسفة سارتر من كلتا النزعتين، الرأسمالية والشيوعية ورفضوا مفهومه عن الحرية ووصفوها بأنها حرية فوضوية ومن ثم حاول سارتر أن يتقرب إلى الشيوعيين وتراجع عن كثير من آرائه السابقة.
- يقول أنيس منصور تلميذ عبد الرحمن بدوي أول فليسوف وجودي مصري: "سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد كانت آخر كلماته لا شيء، أي لا فائدة من أي شيء .. فهو يرى أن الوجود والعدم لهما نفس المعنى كالليل(1/518)
والنهار لا ينفصلان، ولا تعرف على أي شيء أجاب سارتر لآخر مرة بكلمة لا شيء لا فائدة لا معنى، لا هدف، كل شيء عدم أو كل وجود عدم، أو كل موجود معدوم".
- وهكذا يندم أنيس منصور على أنه تابع هذا الفكر الضال أكثر من عشرين عاماً من عمره قضاها في تحسين هذا الفكر وزخرفته وتقديمه إلى الشباب في عشرات من الكتب التي طبع منها مئات الألوف ليخدعهم عن الحقيقة وليزيف لهم الواقع وليردهم عن الفهم الأصيل، عندما كتب مقالاته عن رحلته إلى الأراضي المقدسة، وكان عليه أن يعلن انسحابه من كل هذه المفاهيم والعقائد، وأن يصحح موقفه أمام قرائه خلال هذه السنوات الطويلة، واليوم يصف فلسفة الوجودية بأنها فلسفة المقابر؛ لأن سارتر تحدث عن الموت والدمار والخراب، والوحدة والقلق والفزع، والخوف والغثيان والعدم، والتقت كل هذه المعاني السوداء في قلبه وفي خياله، هناك وجودية ملحدة عند سارتر وكامي وهيدجر واسيرز وأونامونو، ووجودية مؤمنه عند جابريل مارسيل، وبرديانف وجاك مارتيان.
- إيمان بمفهوم المسيحية المثلثة، وكان حقًّا على أنيس منصور أن يقرأ الفكر الإسلامي الأصيل ويعرف زيف الوجودية جملة بمفهوم الانطلاق من الضوابط والحدود والقيم التي رسمها الدين الحق، وأن يعلم أن نظرية الوجودية كما جاء بها سارتر إنما تمثل تحديًا خاصًا مر بالشعب الفرنسي بعد سقوطه في قبضة ألمانيا إبان الحرب، هذا السقوط الذي كشف كما قال زعيمه "بيتان" عن انهياره الأخلاقي العاطف، ولما كانت الصهيونية العالمية هي التي صنعت هذا بالأمة الفرنسية فإذا قدمت سارتر على جميع أجهزة الإعلام والدعاية لتفتح صفحة أشد عنفًا من الأنهيار الخلقي والاجتماعي، تلك التي صنعتها فلسفة سارتر بظهور جماعات الوجوديين الذين تشكلوا في الغرف المظلمة والحواري الضيقة وتحت أسطح العمارات ليمارسوا أسوأ صور الجنس(1/519)
ويعلنوا احتقارهم للمجتمع، ومنهم نشأت بذرة (الهيبية) التي تعم الآن العالم كله.
كان أخطر ما في الدعوة الوجودية إنكار الله تبارك وتعالى والسخرية بالأديان واعتبار الإيمان بالله عائقًا كبيرًا عن حرية الإنسان وأن أثر التعاليم الربانية على الإنسان جد خطير؛ لأنه يضيع عليه فرصة التمتع بالأهواء والتمرغ في الشهوات، فالوجودي لا يؤمن بوجود الله (تبارك وتعالى) ولا يؤمن بنظام خلقي يسود على الإنسانية، الإنسان عندهم حر ومسئول أمام نفسه فحسب، لا أمام الله، وهكذا نجد سارتر يدعو إلى الحرية المطلقة من كل قيد!!!.
- ولقد جاء سارتر إلى مصر ترفقه سيمون دي بوفوار التي قالت لنساء مصر في صراحة تامة: نحن نريد أن نحطم (قوامة) الرجل ودعت إلى حياة زوجية محررة من (العقد الشرعي) كحياتها هي مع سارتر، ولقد كشفت إحدى المرافقات لسارتر خلال رحلته إلى مصر في الفترة الأخيرة خفايا كثيرة في هذه الزيارة اللعينة، فأشارت إلى أن (رفيق) سارتر وسيمون كان رجلاً يهوديًا (كلود لانزمان) وهو الذي وجه الزيارة على النحو الذي أرادته الصهيونية، وقد أشارت إلى أن كتاب اليسار استقبلوا سارتر بتقدير بالغ كان موضع دهشته هو أساسًا، وذلك مثلاً حين كتب أحد الشيوعيين مقالاً عنوانه "سارتر ضمير العصر" وكان سارتر يتساءل بعدها (أنا ضمير العصر كله؟! أنا لست حتى ضمير نفسي)، ثم يطلب ضاحكًا من لانزمان أن يتحمل عنه بعض هذه الألقاب (1).
- وتقول الكاتبة: "لقد سمع ورأى، ولكنه لم يتأثر قيد أنملة بما سمع
__________
(1) هل يتصور أحد أن يُجبر الأزهر في العهد الناصري على استقبال سارتر الملحد وعشيقته سيمون دي بوفوار .. وا إسلاماه .. وا إسلاماه.(1/520)
ورأى، لقد كان استقبالنا لسارتر أشبه بمظاهرة، وكان كلامنا معه أشبه بالصدى في وادي مهجور، إلا أن الصهيونية كانت أذكى منا وأكثر دقة في قيادته إلى أهدافها، فقد دست (كلود لانزمان) بفكرة الصهيوني المغلف بطبقة مزيفة من الفكر التقدمي للتضليل دسته على سيمون دي وقت كان فيه سارتر يتأرجح بين وجوديته والشيوعية فاستطاعت سيمون بتأثير من (لانزمان) أن تسوق سارتر إلى أن يخرج عن قاعدته ويسير وراءها منومًا أو كالمنوم، فانبهر بما قدم إليه فترة قبل أن يعود إلى قواعده سالمًا، وقد رأينا كيف كان لانزمان يقف في الظل وراء سارتر في كل زياراته ليسمعه صوت (هرتزل) واضحاً مجلجلاً وهو يهمس به إليه".
كان في مارس 1967 وفي نوفمبر من نفس العام اكتملت الصورة، فقد منحت إسرائيل شهادة الدكتوراه الفخرية لسارتر في سفارة إسرائيل بباريس بحضور عدد من المثقفين الفرنسيين على رأسهم سيمون وفرانسواز جيرو وزيرة الثقافة الفرنسية، وأذاع التلفزيون الفرنسي كلمة سارتر التي قال فيها: "إن قبولي لهذه الدرجة العلمية التي أتشرف بها له مدلول سياسي فهذا القبول يعبر عن الصداقة التي أحملها لإسرائيل منذ نشأتها"
- هذا سارتر الذي كتب "المسألة اليهودية" وهو الذي زار إسرائيل وأشاد بها، وهو الذي شارك في المظاهرات، ووقع البيانات المؤيدة لإسرائيل، وقد قبل سارتر الدكتوراه الفخرية من الجامعة العبرية بينما رفض من قبل كل الجوائز التي أهديت له بما فيها جائزة نوبل.
كان سارتر قد قام بزيارته لإسرائيل قبل حرب 1967 ببضعة شهور، وما لبثت نذر الحرب بعد عودته إلى فرنسا أن بدت في الأفق في مايو 1967 فسارع سارتر ومجموعة من المثقفين الفرنسيين الآخرين إلى إصدار بيان في تأييد إسرائيل التي سيدمرها العرب، ولكن إسرائيل بدأت بالهجوم، واحتلت(1/521)
من الأرض وقتلت من العرب، ودمرت فلم يراجع سارتر نفسه ولم يعدل موقفه إلا بعد أن اشتعل النضال الفلسطيني بعد الهزيمة، وامتدت نيرانه إلى بعض العواصم الأوربية.
وبعد، فلقد سقط فكر سارتر قبل أن يذهب لأن دعوته هي نوع من هوى النفس، وهي مواجهة لتحد عاشه في عصره .. ولكن الزمن يتحول، والفكرة التي تكون اليوم استجابة لوضع معين .. فإنها سرعان ما تسقط مع تحولات الزمن والبيئات، ولذلك فإن الوجودية لم تستطع أن تكون مذهبًا قائمًا أو مستمرًا، وهكذا كل الأيدلوجيات البشرية التي صنعها الفلاسفة وظنوا أنهم قد استطاعوا بها حل مشاكل عصرهم ذلك أن هناك منهجًا واحدًا: هو الذي يستطيع أن يحل مشاكل الإنسان في كل العصور والبيئات؛ ذلك هو منهج الله الحق (لا إله إلا الله).
* الدكتور عبد الرحمن بدوي أول فليسوف وجودي مصري:
وفي مصر تقدم عبد الرحمن بدوي برسالة دكتوراه عن "الزمان الوجودي" ورأس الحفل الدكتور طه حسين واشترك مع المستشرقين بول كراوس وأعلن طه حسين أن عبد الرحمن بدوي أول فليسوف وجودي مصري، وقد قدم بدوي الفكر الوجودي وترجم كل المصطلحات الوجودية الشاقة وترجم كتاب سارتر الضخم (الوجود والعدم)، ولم يلبث عبد الرحمن بدوي أن اختفى وطوته الموجة التي تطوي كل المذاهب الضالة والمنحرفة، وكشف الفكر الإسلامي عن أصالته في أنه يرفض كل ما ليس متصلاً بقيمه الأصيلة مهما بدأ يومًا وله بريق أخاذ، لقد كانت فلسفة سارتر شؤمًا عليه، فقد أضفت عليه ظلاً مظلمًا ما زال يلاحقه.
- وقد كان عبد الرحمن بدوي قبل سارتر تابعًا للفلسفات الباطنية والمجوسية يحييها ويرد إليها الروح، ويقدم شخصيات قلقة في تاريخ الإسلام(1/522)
ويشيد بأمثال الراوندي والحلاج وغيرهما من الزنادقة، وإلى جانب ذلك فقد قدم في الفلسفة الإسلامية الجانب الصوفي المتصل بوحدة الوجود والحلول وأشاد بالسهروردي وابن عربي وابن سبعين، تلك الشخصيات الضالة التي عمل أستاذه الأول (ماسينون) على إحيائها، وكان طه حسين هو صاحب الدعوة إليها في الأدب العربي منذ أعاد انبعاث (إخوان الصفا) وكما سقط الفكر الباطني سقط الفكر الوجودي وانهارت تلك الصروح على رءوس أصحابها {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}.
وإذا كان الأدب الغربي قد عرف وجودية كير كجارد، وكافي وسارتر؛ فإن ذلك كله مستمد من أصول أصيلة فيه تقوم على فكرة الخطيئة المسيحية، أما الفكر الإسلامي فإن محاولة زكي نجيب محمود عن الوضعية المنطقية، وفؤاد زكريا عن الفلسفة الماركسية، وعبد الرحمن بدوي عن الفلسفة الوجودية هي محاولات ضالة باطلة سرعان ما لفظها الفكر الإسلامي صاحب الصرح الشامخ القائم على فكرة التوحيد الخالص والإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
وقد ذابت محاولات إحياء الفلسفة الصوفية التي قادها (ماسينون) أربعين عامًا بإحياء الحلاج لأن المسلمين عرفوا طريقهم إلى التوحيد الخالص، فقد أسقطت حركة اليقظة محاولات إحياء الفلسفة والتصوف الفلسفي، والكلام والاعتزال، وجعلته ركامًا حين أحيت (المنهج القرآني) الأصيل حيث بدت كل محاولات الفلاسفة الإسلاميين المعاصرين وكأنها مقدمات موقوفة انطوت صفحتها حين برز نور المفهوم القرآني، مفهوم أهل السنة والجماعة على نفس النسق الذي واجه المشائين القدامى أمثال ابن سينا والفارابي، وقد تكشفت نزعتهما إلى الباطنية الإسماعيلية في الأخير بعد أن خدع بهما الكثيرون، وحين يتنادى باسمه غلمان المستشرقين فإن الأمر لا يخدع أحدًا، ذلك أن(1/523)
الحقائق التي تكشفت قد ردت كبار الكتاب عما خدعهم به البريق الخاطف.
- يقول أنيس منصور: من الضروري أن تفلت من جاذبية شخص كبير لتجد نفسك ومعك حريتك، لقد وقعنا في غلطة حين تأثرنا بأستاذنا عبد الرحمن بدوي ذلك أن كثيرًا مما رآه كان رؤيته هو والذي وجده شاقًّا كان مشكلته هو، والذي أحبه كان مزاجه هو ولكن في السنوات الأخيرة عاودت قراءة الفلسفة من ينابيعها التي أفزعنا منها عبد الرحمن بدوي فلم أجدها كذلك.
وهكذا تبين أن هذه الهالة كانت باطلة؛ بل إن أنيس منصور يبشرنا بأن سارتر عندما مات قال على فراش الموت: لا شيء كل شيء عدم.
* أنيس منصور ومتابعته للفكر التلمودي ودفاعه عن بيع الخمور، والرقص، وقوله عن اللباس الإسلامي أنه خيمة:
قدمت الصحافة العربية لأنيس منصور ركامًا ضخمًا من الكتابات المترجمة عن الغرب تتميز على كثرتها وتنوعها بأنها تمثل ذلك الهدف الخطير الذي عمدت إليه الصحافة في موقفها من الأدب والفكر والترجمة والنقل من الفكر الأجنبي: وهو الإثارة ولقد كانت دراسة أنيس منصور متصلة بالفلسفة أول الأمر، وكان أكبر أمانته للفلسفة الوجودية ومن هنا فقد اتسمت كل كتاباته بهذا اللون حتى بعد أن سقطت الفلسفة الوجودية وتكشف زيفها وفسادها وانطفأت تلك الشمعة التي أوقدها سارتر وسيمون دي بوفوار وكامي، وحل محلها ذلك اللون من العبث الذي عرف عن بكيت وكافكا والهيبيين.
ولقد ظهر في فترة من الفترات أن أنيس منصور قد استجاب للفكر الإسلامي واتصل بمفاهيمه وقيمه في محاولة إعلانية صحفية خطيرة تمثلت في(1/524)
زيارته للكعبة والمشاهد المقدسة وفي خلال ذلك كتب صفحات حاول فيها أن يسترد إيمانه بالله، ولكنه لم يلبث بعد ذلك أن عاود كتاباته المثيرة عن الراقصات والأزياء العارية وكل ما يتصل بالوثنيات الغربية التي تتمثل في الأفكار المثيرة التي تتصل بالثورة الجنسية والمسرح والرقص، ولم تعد أمانته للمفاهيم الإسلامية إلا أثرًا بعد عين، ذلك أن محاولته لم تكن في الحقيقة رغبة صحيحة في التماس المفهوم الأصيل، ولكنها كانت مظاهرة صحفية بعد تقلص ظل النفوذ الماركسي من الفكر الإسلامي، وهي أشبه بالمظاهرة الصحفية الخطيرة التي بدأ بها حياته الصحفية حين نقل إلى الصحافة العربية فكرة السلة والقلم الذي يكتب بغير كاتب وهذه العملية الساخرة التي نقلها من بلاد الوثنية الشرقية، وكافأه عليها أصحاب أخبار اليوم بمنصب رئيس تحرير مجلة "الجيل الجديد".
ولقد أمضى أنيس منصور سنوات طويلة يكتب الصفحة الأخيرة من أخبار اليوم، وينقل فيها خليطًا من تلك الفلسفات الوثنية والأساطير والخرافات، وكتابات متضاربة عاصفة، تعصف بنفوس الشباب حين تقتلع من الجذور أسباب الإيمان وتبث الشكوك في القلوب حتى كان الباحثون يتساءلون: ما هي الفلسفة التي يحاول مثل هذا الكاتب أن يغرسها في القلوب والعقول؟ وكيف يفهم الشباب الطرير الذي ليس له خلفية كافية من الإيمان بالله، أبعاد الحياة وأمور الدنيا وشئون المجتمع، وهل هذا العمل هو هدف صحفي قاصر يراد به كسب القراء بالإثارة أم أنه جزء من خطة التغريب الضخمة التي يراد إغراق الثقافة والفكر الإسلامي فيها بترجمة فلسفات وسموم لم يكن المسلمون والعرب يومًا في حاجة إلى نقلها.
لقد لخص عشرات الكتب الغربية التي لا تهدف بعرضها دون مقدمات أو تعليقات تلقي الضوء على مضامينها أو تكشف عن سلامة هذه المضامين(1/525)
أو زيفها، إلا إفساد العقل الإسلامي والذوق الإسلامي والمزاج الإسلامي وتحويله إلى مفاهيم غربية صارخة تستمد أساسها الأول من نفس قلقة ومزاج مريض ورجل قد تحوطته الأمراض والأهواء جميعًا فضلاً عن علامة البدء في حياته الفكرية والثقافية الأساسية وهي الوجودية المستمدة من مفهوم الفلسفة المادية والتي تستهين بكل القيم وتحتقر كل المفاهيم الأخلاقية أو الدينية.
- ولقد كانت كتابات أنيس منصور يومًا ما -كتابات لويس عوض- لا يعرف هل هي ماركسية أو ليبرالية أم أنها من مدرسة معروفة هي مدرسة العلوم الأجتماعية التي تنكر كل القيم وتحتقر الفطرة وتعلي شأن الماديات، ولقد عرف أنيس منصور نفسه ذات يوم، فقال: أنا أول من قدم (يائل) ديان إلى القارئ، أنا أول من قدم الكاتب اليهودي العظيم ألبرتومورافيا إلى المصريين والعرب عام 1947 وترجم له أكثر من مائة قصة قصيرة، وقابلته هنا وفي بلاده وفي أمريكا عشر مرات.
وعندما ترجمت صحيفة جيوش أوبزرفر صفحات من كتابه "وداعًا أيها الملل" قالت: إن المؤلف ينتسب إلى قبائل الغجر الفلسفية التي تضم الكاتب اليهودي كافكا وغيره من الضائعين والتائهين، يقول إني لم أغضب لأن هذا ليس رأي المجلة وحدها، ولكنه رأي أنا أيضًا، ولكني غضبت لأنها ساقت المقال على هيئة اكتشاف ونسيت أنني اعترفت بذلك دون أن أدين بهذا القلق لكافكا أو لغيره (الأخبار 5 يونيه 1974).
- والحقيقة أن أنيس منصور قدم في هذا الميدان "ركامًا" كثيرًا بلبل به الأذهان وحطم به النفوس وأدخل إلى قلوب كثير من الشباب شكًا وقلقًا ويأسًا، وما تزال كتبه التي تحمل هذه السموم تطبع ويقرؤها الكثيرون على أنها فاكهة محرمة وتسلية ومتعة للغرائز والأهواء، ولكنها في الحقيقة ليست إلا أهواء البشرية الضالة الممزقة، وهو خلاصة ما قدمه الكتاب التلموديون(1/526)
لتمزيق النفس الإنسانية وهدمها وتحطيم قيمها منذ ظهرت هذه الكتابات على أيدي فرويد ونيتشه وميكافيلي ورينان وأوجست كونت وبودلير وسارتر وعشرات الهدامين.
بل إن أنيس منصور قد ذهب إلى أبعد من هذا فعُني بترجمة كلمات الممثلات صوفيا لورين وبرجيت بردو، ومارلين دتريش وغيرهن، وعُني بالكتابة عن الشقراوات المتوحشات، بالإضافة إلى الأفلام العارية والأدوار الشاذة، وكتابات الإباحيين ومحاولة تصوير هؤلاء الممثلات على أنهن "الآلهات الرومانيات" وذهب في الإغراء بالكلمة إلى أبعد حد في الحديث عن الأجساد العارية وما يتصل بالفنانين من تماثيل وطوابع بريد وعملات ذهبية، وعمد إلى استغلال الجنس إلى أبعد حد في إفساد مفاهيم العلاقة بين الرجل والمرأة، وكان في كتاباته حريصًا على الاستشهاد بالتوراة وبسفر خاص فيها يتحدث عن الجنس فضلاً عن فكر أرسطو وأفلاطون.
- وحرص أنيس منصور على هدم الصلة بين الآباء والأبناء وإثارة الأبناء على الآباء، حين وصف هذه العلاقة كما وصفها فرويد والتلموديون بأنها "سيطرة" في حين أنها ليست إلا رعاية وتوجيهًا وحماية من الكبير للصغير في مرحلة من أخطر مراحل الحياة، وهو يرى أن الصحافة قد أخضعت الشباب لنفوذ آخر غير نفوذ الآباء، وأن الصحف شجعت الشبان على الثورة والتمرد على البيت والأسرة والكنيسة، ويرى أن انتشار مرقص (الروك آند رول) دليل على اهتمام الشباب بإزعاج الآباء وتحديهم، وكذلك انتشار التدخين والخمور يؤكد أن الشبان حريصون على هدم الرأي العام، ولا ريب أن ترديد هذا الكلام مرات متعددة إنما يرمي إلى الإيحاء والتوجيه وإفساد من لم يفسد، ودعوة إلى خلق جو من التمرد للقضاء على روح الإيمان والخلق بين الأجيال الجديدة.(1/527)
- ويتحدث أنيس منصور عن الفتاة الجامعية في الغرب التي تجد حبوب منع الحمل في أجزخانة الكلية، ولا أحد يسألها عن سبب شرائها للحبوب.
ويرى أن العري لم يعد كافيًا لإثارة الجنس، وأن هناك الإثارة العنيفة بالكلام والحركة، وأن الأغاني أكثر إثارة من الأفلام، وكذلك يرى أن الرقص الجديد يقضي على خجل الشباب، وحين يتحدث عن الزواج يقول أنه هو وحده الذي أنفرد بالملل؛ لأن كل شىء فيه يتكرر بانتظام، وينسى أن الزواج هو الطريق الكريم للعلاقة بين الرجل والمرأة، وهكذا لا يتوقف أنيس منصور عن ترديد آراء فلاسفة الجنس والمادية والإباحية الذين يصدرون عن بروتوكلات صهيون لهدم المجتمع الغربي، ثم هو ينقل ذلك إلى المجتمع المسلم بقوة وحماسة واستمرار وعمل لا يتوقف، وعندما يتحدث (محمد أنيس منصور) عن السيد المسيح يردد مسألة الصلب، والصلب غير وارد في مفهوم الإسلام.
- ويدافع أنيس منصور بعد كتاباته عن الكعبة والأراضي المقدسة عن الخمر ويهاجم قرار شركة مصر للطيران بمنع توزيع وبيع الخمور على طائراتها ويتهجم على التعليم الديني في المدارس، ويتحدث بإعجاب عن الأدب المكشوف والقصص الجنسي الأوربي، ويكشف عن خلاصة تجربته في (27/ 1/1973) أخبار اليوم، فيقول: إن كل ما قرأت وتعلمت لم يكن ينفعني في الإجابة عن شيء، ولم أجد من كل ألوف الكتب التي أمضيت فيها عمري وأطفأت فيها نور عيني وأوجعت فوقها رأسي وظهري، ولم أجد واحدًا يقول لي شيئًا يريحني أو يجعل أيامي أسهل لا شيء، إنني لم أكن قريبًا إلى نفسي أو إلى أحد وإلى هذا الحكيم المجهول القوي الذي لا نعرفه والذي هو هناك، هو هنا في كل واحد وفي كل شيء، إنك قطعت عمرك كله مسحوبًا من عقلك وقلبك وغرائزك وأنك في ساقية تدور وتدوخ وأنك(1/528)
أسلمت نفسك لجلاد هو الليل والنهار، هو المال والجاه والأولاد واللذة والخوف والطمع واليأس والشك.
والحق أن هذا أمر يرثى له، أن يكون قارئ هذه المجلدات الضخمة على حافة الشك وعلى حدود الهاوية مع أنه لو اتجه نحو كتاب واحد من الكتب الأصيلة لوجد نفسه ولفهم نفسه، ولفهم مهمته في الحياة ولعرف رسالته الحقة ومسئوليته وأمانة القلم والجزاء الأخروي ولاستطاع أن يقدم خيراً كثيرًا لعل الله يغفر به تلك الصفحات السوداء التي قدمها لإثارة الشكوك في العقيدة والتمزق النفسي خلال أكثر من عشرين عامًا.
لقد صدق أنيس منصور حين طلب حرق كتبه، وقال: إن حرصي على احتراق كتبي فلأنها لا تساوي شيئًا، فلا هي أشبعتني ولا هي روتني ولا أراحتني، ولذلك يجب أن تكون ترابًا أدوسها بترابي.
- وكان أنيس منصور قد تمنى أن يحرق جسده بعد موته مع هذه الكتب، وهذه نفحة بوذية خطيرة لا يمكن أن يقولها رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ولعل من أبرز أخطاء أنيس منصور متابعة الفكر التلمودي في القول بأن (الرب قد خلق العالم في ستة أيام واستراح في السابع) مع أن هذا المعنى يتعارض مع مفهوم أقل المسلمين ثقافة وفهمًا للإسلام وهو في هذا متابع لليهود (أعرف عدوك) كما أنه تابع المستشرقين في القول بأن فرعون هو الذي أخرج اليهود من مصر أيام موسى -عليه السلام- والعكس هو الصحيح؛ فإن اليهود بقيادة موسى خرجوا فارين بدينهم من ظلم فرعون، وأن فرعون هو الذي تابعهم ليقضي عليهم فنجوا وغرق فرعون، وأغرق الله قومه.
***(1/529)
* مواقف مخزية لأنيس منصور:
في الأهرام (10/ 1/1977)، علّق أنيس منصور على قرار شركة مصر
للطيران بمنع توزيع وبيع الخمور على متن طائراتها بأنه قرار ضار سيسيء إلى سمعة شركة مصر للطيران في منافستها مع شركات الطيران العالمية.
- ويهدي فتياتنا إلى الرقص!!!
ورقص الشرق ذا فن تجلّى ... وذا تسبيح عين الشاكرينا
- ويتكلم عن الموضة وفساتين النساء، فيقول: "سوف تكون خيوط الموضة هذا الشتاء محتشمة جدًا وسخيفة جدًا؛ لأن الفساتين سوف تكون طويلة وواسعة وسوف تبدو المرأة وكأنها شماعة تحمل هذه الفساتين، وأن ما بينها وبين هذه الفساتين خصام، فلا الفستان يحتضنها برفق على الصدر أو على الخصر أو على الأرداف، ثم إن الفساتين تبدو وكأنها إهانة للمرأة، فلا الساقان ظاهرتان ولا النهدان أو الردفان ولا الذراعان ولا العنق، كأنها أنواع مختلفة من الخيام، وإن المرأة قد ضربت حولها وأمامها ووراءها الخيام فلا يراها أحد.
- أرأيت ما يقال للمرأة المسلمة تحريضًا لها على العري والفساد؟
- ثم يقول الكاتب واسمه (محمد أنيس منصور):
"إن ملوك الأناقة عوضوا المرأة عن هذه الخيمة بأشكال جميلة من قمصان النوم، ومعنى ذلك أن الموضة ستجعل المرأة جميلة في البيت وغير ذلك في الشارع، على الرغم من أن المرأة حريصة على أن تبدو جميلة لكل الناس؛ فإنها تفضل أن تكون جميلة لشخص واحد، والمرأة التي لا تسعد برجل واحد؛ فإنها تحاول أن تلفت عيون الآخرين، ولذلك فإن المرأة تسارع إلى الشارع وتتمتع بنظرات الناس إليها؛ لأنها لا تجد هذه المتعة في البيت".(1/530)
وهذا هو التحريض على هدم كل القيم التي جاء بها الدين الحق للمرأة المسلمة من أن تكون زينتها قاصرة على بيتها وزوجها وألا تخرج إلا بالملابس الواسعة المحتشمة.
ويصل أنيس منصور إلى مفاهيم مسمومة تدعو إلى الفساد والشر وتقلب كل المفاهيم الأصيلة: فالمرأة في الموضة تقف في حالة تلهف والرجال يكرهون الحشمة؛ لأنهم يتطلعون إلى السيقان العارية والصدور البارزة والظهور المكشوفة.
ويكتب أنيس منصور عن مؤتمر الأدباء في بغداد فيقول: أن الأدباء كانوا يجلسون في عشرات المطاعم في شارع أبي نواس يأكلون ويشربون ويضحكون ويحبون وينظرون بعين واسعة جريئة إلى الميني جب تحت العباءة السوداء، ثم يقول هذه العبارة الشريرة: (ويبدو أن هناك اتفاقًا سريًا بين النساء والرجال أن تكشف المرأة، وبسرعة صدرها وساقيها بشرط أن ينظر الرجل) (1).
إن هؤلاء الكتاب متهمون بأنهم مثيرون للسموم، مجددون لعناصر الإفساد؛ فإن كانوا لا يعلمون مدى خطر الدور الذي يقومون به والأثر الذي يتركونه في نفوس الشباب والفتيات، وعقولهم فتلك مصيبة، وإن كانوا يعلمون الدور الذي يقومون به ويعرفون أبعاده فإن حسابهم عند الله جد عسير.
وتعجب حين تقرأ لأنيس منصور مثلاً قوله: نحن نعيش في عصر الإثارة الجنسية، وليس في عصر الجنس، فالجنس من ألف سنة كان أعنف وأقوى وأكثر تنوعًا من الجنس الآن، وفي استطاعتك أن ترجع إلى ألف ليلة
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 71).(1/531)
وإلى شعر أبي نواس وإلى مقامات الوهراني، وإلى كتاب "الروضة العطرة" وإلى قصور الملوك في فرنسا، إنها مليئة بأشكال وألوان من الجنس أكثر بكثير مما جاء في مؤلفات المركيز دي صاد، أما العصر الذي نعيش فيه فإنه عصر الإثارة الجنسية، عصر بلبلة العواطف وتقليب المشاعر وتضليلها، الأغاني المثيرة، والمجلات والأفلام كذلك، والرقص والانفجار.
ويحرص هؤلاء الكتاب أن يقدموا في الصحافة العربية نماذج مظلمة، لماذا يحرصون على تقديم هذه الوجوه الكالحة، والنفوس الشريرة المفعمة بالسوء والإثم، إن أحد هذه النماذج التي يقدمها أنيس منصور آندريه مالرو يقول: لقد انتحر جده، وأبوه أيضًا انتحر، وكان مالرو في الرابعة عشرة من عمره ولا يعرف ماذا جرى لأبيه كل ما عرفه أنه ابتلع كمية من السم، وخشي الأب وهو يترنح أن يظل في غيبوبة دون أن يموت فأطلق على نفسه الرصاص، وحزن مالرو على والده ولم يحزن على ما صار إليه أمر الأسرة، فالأسرة لا تهمه ولا هي رباط متين ولا هي علاقة إرادية، ولا هي أي شيء، وكل ما يربطه بالأب هو أنه نسخة من أبيه، وصورة هذا الأب تطارده في أخلاقه على شكل قط أسود مخيف، فهو هارب من أحلامه هارب من شعوره.
- هذه هي النماذج التي تقدمها الصحافة العربية في فترة النكبة والنكسة والهزيمة لأبناء الأمة العربية، ما قيمة هذا كله في أن يقدم للقارئ العربي، ألا يوجد لدى مالرو فكرة أو فكرتان إنسانيتان يمكن أن ينتفع بهما الناس، ولكن الهدف من الترجمة هو تقديم سموم الناس، لقد كان مالرو ملحدًا وكان فاسقًا فلأي شيء ننقل عنه إذا لم يكن لنا هدف (1).
__________
(1) المصدر السابق (ص 81، 82).(1/532)
* أنيس منصور ويوسف السباعي والدعوة إلى إعادة البغاء:
"طالب يوسف السباعي وأنيس منصور بالعودة إلى الدعارة العلنية بدعوى أن ذلك يقضي على القلق الذي يساور الشباب في المجتمعات، ولو كانوا صادقين مخلصين في النصح لطالبوا بأسلوب من التربية الدينية والخلقية، فهذا وحده هو الأسلوب الذي يؤدي إلى إنقاذ هذه الأجيال، أما هذه الدعوى المسمومة فإنها لا تحقق إلا مزيدًا من الفساد، وما تزال تجربة البغاء التي عرفتها البلاد العربية في ظل النفوذ الأسمتعماري معروفة، وقد ظل معسكر العاهرات أكبر مصدر لنشر الأمراض السرية التي فتكت بأجسام وعقول الآلاف من الرجال، والتي دمرت الآلاف من العائلات وأشاعت البؤس والشقاء بين آلاف الأسر" (1).
* أنيس منصور على رأس الذين نقلوا ركام الفكر الغربي الحديث:
"لقد كان الأدب هو أوسع الأبواب مدخلاً لتقديم السموم المختلفة، وأيسرها لتقديم الأساطير والخرافات التي تزخر بها الآداب الغربية عن اليونان والفرس والمجوس القديمة، ولقد كان للقصة الغربية المترجمة مكان واسع، واحتلت كتابات كل دعاة الجنس وتدمير القيم من سارتر إلى بكيت إلى دور كاديم إلى كافي إلى كفكا مكانًا بارزًا فنقلت إلى أفق الفكر الإسلامي عن طريق الصحافة مترجمات مسمومة وأفكارًا مضللة، ولم يتوقف الأمر كما كانوا يقولون عن الروائع - بل إنهم لم يتركوا شيئًا على مختلف المستويات والمذاهب حتى أشدها ضلالاً إلا قدموه، وهم يهدفون بذلك إلى إثارة موجة من الاضطرابات والبلبلة نتيجة هذا التضارب الشديد.
وكان أنيس منصور على رأس هؤلاء الذين نقلوا ركام الفكر الغربي
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 85).(1/533)
الحديث، وكان لويس عوض وغيره من ناقلي ركام الفكر الوثني الغربي وكلها أفكار تدور حول الجنس والمرأة والأهواء.
وهم حين يترجمون لا يؤصلون الأشياء ولا يعرفون القارئ العربي بالمترجم لهم ولا يذكرون مثلاً أنه كان مجنونًا أو مصابًا بأشد أنواع انفصام الشخصية كنيتشه أو فرويد، ولكنهم يقدمون كل ذلك كأنه علم وكأنه حقيقة، بينما هو في الحقيقة من أهواء النفوس الضالة المغموسة في أشد ألوان الفساد والانحراف ويتركون التساؤلات دون إجابة زيادة في التعمية، وكل الأسئلة المحيرة التي يوردها الباحثون والعلماء إجابتها واضحة أمام المسلم؛ فلماذا لا يجيبون ولا يهدون القارئ الحائر إلى الحقيقة التي يعلمها، لماذا يتركونه في متاهات ومجاهل وتساؤلات والإجابة يسيرة؟ لماذا يخلقون هذا الجو من الحيرة والشك؟ إن القارئ المسلم يعرف أنه ليس في حاجة إلى كل هذا الركام، ويفهم أن هذا الركام من حثالة أقوام ضلوا وانحرفوا فهو لا يستطيع أن يهديهم أو يقدم لهم شيئًا نافعًا وأنه من صنع بيئة أخرى؛ فلماذا يترجمونه ويقدمونه ويملأون به الصفحات إلا إن كانوا يريدون خداع الذين لا خلفية لهم وتضليلهم.
- إن الأمانة تقتضي من الصحافة العربية حين تقدم قصة أو كتابًا أو موضوعًا غربيًا أن تقدم كاتبه بأمانة وتقدم ظروف البحث بأمانة وأن توازن بين مفهومنا الإسلامي وبين مفهومهم وبين حاجتنا إلى ذلك أم العكس.
أما أن تغرقنا الصحافة العربية في باب الأدب بكل هذا الركام من المترجمات التي تزيد من حيرة الشباب الصغير الذي يكون في هذه المرحلة في حاجة إلى إضاءة الطريق أمام نفسه القلقة إلى معرفة الخير والنور والهدى والرشاد؛ فإن أصحابنا مسئولون أمام الله عن هذه الجرائم؛ لماذا لا يضعون الإجابات عن تلك الشبهات والتساؤلات؟ لماذا لا يضعون أبحاثهم المترجمة(1/534)
في إطارها الصحيح؟ لماذا لا يقدمون الطيب والكريم والنافع ويؤثرون عليه الخبيث والفاسد والمنحرف منذ أن اصطنع لهم طه حسين ترجمة القصة الفرنسية المكشوفة (ومن سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها) وفي مجال التراث تفسح الصحافة العربية أعمدة كثيرة، وموضوعات متعددة، وترمي تراثنا بأنه صحائف صفراء كما يقول يوسف إدريس وغيره، وهو قول باطل؛ فإن تراثنا تشهد له الدنيا كلها، وعلماء الغرب المنصفون يعرفون قدره، ولا يماري في هذا إلا عدو أو جاهل أو مضلل.
* محمد أنيس منصور ودوره الكبير في إحياء الأساطير الفرعونية:
ولقد قام محمد أنيس منصور بدور كبير في إحياء الأساطير الفرعونية في مقالات متصلة، وقدم ركامًا كثيرًا عن الفكر الفلسفي والديني عن الفراعنة وهو من نافلة القول التي لا تقدم ولا تؤخر، فلم يعد هناك من يؤمن بهذه الأساطير، كذلك فقد كانت من خداعات الكتاب ذلك الحديث المكرر المعاد عن ديانة التوحيد عند إخناتون ولم يكن إخناتون إلا أحد مؤلهي الشمس، أما ما عرفه الفراعنة من النظريات الطبية والفلكية وما بلغوه في مجال الهندسة والعمارة والزراعة، فذلك تراث الأجيال الذي قدمته لهم الأديان السماوية أساسًا، ولكن الفراعنة لم يكونوا إلا مسخرين للأساطير والأشباح والأرواح والسحر وما يسمونه سر الأرقام وقوى الحروف وهي من الخدع الباطلة، أما إيمان الفراعنة بالحياة بعد الموت فهو مستمد من أديان السماء، والهدف معروف لتقديم كل هذه الأساطير، وهو بلبلة الأذهان وصرفها عن مفهوم الدين الحق والتوحيد الأصيل.
* أنيس منصور والوجودية:
ويُعنىَ أنيس منصور بالوجودية وكتابات فرانسوا ساجان ويملأ الصفحات(1/535)
على امتداد الأسابيع والشهور بهذه الأفكار المسمومة، عندما تعالت صيحة الوجودية وحاولت احتواء الفكر البشري، ثم لم يلبث أن سقطت؛ لأنها لم تستطع أن تستجيب للفطرة الإنسانية، وإنما كانت تمثل الأوهام والمطامع والشهوات والصرخات الصاخبة، ولذلك سرعان ما انطفأت الوجودية وسارتر وفرانسوا ساجان.
ويُعنَى أنيس منصور بأن يترجم سموم ساجان ليطلع شبابنا وبناتنا على ما لم يقرأوه، فيقول أنها فتاة كافرة تقول الصدفة أرادت، الصدفة شاءت، ونعرف أن وراء هذه التفاهات قوى تنشرها وتملأ بها الدنيا وتجند لها أسباب الشهرة والمال؛ لأنها سموم يتلقفها الشباب فيزداد رخاوة ومرضًا.
- لقد عاش أنيس منصور سنوات عمره كلها يترجم السموم ويقدم الكتابات الجنسية والأساطير والقصص والصور الفاسدة، يقرؤها الشباب في طول البلاد وعرضها عن طريق أخبار اليوم على أوسع نطاق وفي خلال سبعة عشر عامًا يتصدر الصفحة الأخيرة من الأخبار لينقل سمومه دون توقف.
* أنيس منصور يبث السم في العسل:
لما تحدث عزيز أباظة عن اللغة الفصحى، وهاجم اللهجة العامية وكتابها شنت عليه الحرب من الماركسيين والوجوديين على السواء، كأنما هناك اتفاق مشترك بين القوى المضادة على محاربة الفصحى، وبالرغم من أن أنيس منصور يتحذلق أحيانًا في الدعوة إلى الفصحى إلا أنه هاجم عزيز أباظة، يقول: أخطأ عزيز أباظة مرتين:
أولاً: عندما جعل مشكلة الفصحى والعامية نوعًا من الشكوى وكان في استطاعته أيضًا أن يشكو من الشعر الحر ومن الفنون التجريدية في الرسوم.
ثانيًا: جعل القصة شكوى أو بلاغًا أو تهمة في حين أن مشاكل اللغة(1/536)
والفن هي وجهات نظر وتجارب يقوم بها الأدباء والفنانون في مجالات مختلفة في الشكل والمضمون والأداء ولا بد أن يكون هناك تطوير لأدوات التعبير.
وهذا الكلام المسموم الذي يقوله أنيس منصور هو ذلك النص المكتوب الذي قدمه الاستشراق والتبشير لطه حسين وسلامة موسى وكل أعداء الفصحى ليقولوا به خداعًا؛ وإلا فمن قال أن اللغة العربية الفصحى تخضع لمثل هذه المفاهيم، وهي لغة القرآن الكريم ولغة ألف مليون من البشر من حيث العقيدة والفكر، ولغة مائة مليون من العرب وكل محاولة ترمي إلى ما تسمى بتطوير أدوات التعبير إنما تستهدف إيجاد فاصل عميق بين بلاغة القرآن وبيانه وبين أسلوب الأداء العربي، ولا ريب أن كل ما يُدعَى بالتقريب بين العامية والفصحى أو اللغة الوسطى أو غير ذلك، إنما هو من محاولات التغريب والغزو الثقافي التي يراد بها فصل الأجيال الجديدة عن أسلوب القرآن وعن التراث الإسلامي، ويكذب أنيس منصور حين يقول أن اللغة وسيلة من وسائل المواصلات بين الناس، وأنها تتطور فإن هذا القول إن كان معروفًا ما وراءه فإنه يمثل دعوة خطيرة، وإن كان لا يعرف ما وراءه فإنه يمثل جهلاً بأبعاد قضية مرتبطة بالعقيدة والفكر والثقافة إلى أبعد حد.
* الدكتور إِبراهيم بيوفي مدكور وتصوّره الزائف لحركة اليقظة الإِسلامية:
هناك محاولة جديدة لاتهام حركة اليقظة الإسلامية التي تمضي اليوم على مفهوم الإسلام الأصيل، الذي يستمد وجهته من المنابع الصحيحة، القرآن الكريم والسنة المطهرة بأن هذه الحركة قد خرجت عن الخط الذي رسمه لها الشيخ محمد عبده، والذي يدعي بأن لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين قد ساروا فيه، وتخلف عنه الذين نقلوا اليقظة الإسلامية من مرحلة الفكرة إلى مرحلة الدعوة، وهي دعوى مبطلة تمامًا لأن المستقرئ لتاريخ(1/537)
اليقظة الإسلامية منذ ظهور دعوة التوحيد التي دعا بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية ودعا بها كثير من تلاميذ فكر التوحيد الخالص الذي قدمه ابن تيمية وابن القيم وأتباعهما يؤمن بأن الأمة الإسلامية كانت قادرة على الانبعاث من داخلها عندما تنحرف بها الطريق أو تتجمد الخطوات، ولا ريب أن هناك مرحلة غلبت فيها جبرية الصوفية على المفاهيم الإسلامية بعد أن مرت مرحلة الجهاد في مقاومة حملات الصليبيين والتتار وتَوقَّفَ المسلمون عن فتح باب الأجتهاد خوفًا من دخول الفكر الوافد وحرصًا على سلامه مفاهيم الإسلام، وقد كسر هذا الجمود انطلاقة المصلحين الإسلاميين أمثال محمد بن عبد الوهاب والشوكاني وخطيب مسجد المؤيد في القاهرة بالدعوة إلى التوحيد الخالص.
- ومنذ ذلك الوقت سارت حركة اليقظة الإسلامية في طريقها مرحلة بعد مرحلة، فسرعان ما دخلت مرحلة الجهاد بالسيف في مواجهة الغاصب، ثم انتقلت حركة اليقظة الإسلامية إلى مقاومة حملات الهجوم على الإسلام التي بدأها التبشير والاستشراق وهي مرحلة خصبة انتقلت فيها حركة اليقظة الإسلامية إلى منطلقات واسعة في سبيل رسم التصور الإسلامي الصحيح عقيدة وفكرًا، وكان من أبرز ما قامت به إعادة مفهوم الإسلام إلى منطلقه الأصيل من التوحيد الخالص وتحرير إرادة المسلم والخضوع وكسر قيود الجبرية الصوفية وإنكار الأنسحاب من الحياة ودفع المسلم إلى إصلاح المجتمع، غير أن هذه المرحلة لم تصل إلى جوهر المفهوم الإسلامي الأصيل بل شابها بعض القصور؛ لأنها صدرت من منطق مفاهيم المعتزلة، وعلماء الكلام فمضت بها ثمة وكان اهتمامها بإعلاء العقل على النقل، واعتمادها على المنطق، هنالك كان لا بد لحركة اليقظة الإسلامية أن تصحح نفسها وأن تدخل مدرسة التفسير القرآني للإسلام وأن تتحرر تمامًا من أسلوب الاعتزال والتأويل،(1/538)
كذلك فقد خرجت حركة اليقظة الإسلامية من الفكرة إلى الدعوة حيث بدأت تربي جيلاً جديدًا تربية إسلامية على النحو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة، ومن ناحية ثالثة فقد استعلنت اليقظة مفهومها الصحيح للإسلام بوصفة منهج حياة ونظام المجتمع، وأعلنت لأول مرة وقوفها في وجه الحضارة الغربية وأساليب الغزو الثقافي والتغريب وإعادة الفكر الإسلامي إلى مجرى الأصالة والمنابع، وتحريره من التبعية والإذابة التي جرت خطة العمل بها عن طريق الصحافة والجامعة وقبول مفاهيم المستشرقين الذين جاءت بهم الجامعة ليسيطيروا على علوم الفلسفة والنفس والاجتماع، والاقتصاد والأدب ومن ثم فرضوا مناهجهم الغربية عليها وأصبح الفكر الإسلامي محجوبًا تمامًا عن أهله.
هذا هو الخط الذي سارت فيه حركة اليقظة وهو خط طبيعي وتصور صحيح، وانتقال من المرحلة التي قام بها محمد عبده ورشيد رضا إلى المرحلة التالية تمامًا فهل يمكن أن يوصف هذا بأنه تراجع، أو انحدار أو تحول عن الطريق الصحيح، لقد بدأت الفكرة الإسلامية طريقها واستعلنت ثم مضت في نفس الوقت تبنى جيلاً على مفاهيمها.
- أما جماعة المجددين الذين ادعوا كذبًا وضلالاً أنهم تلاميذ جمال الدين، ومحمد عبده أمثال لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم فهؤلاء هم الذين خانوا أمانة اليقظة الإسلامية، أو أمانة حركة الإصلاح بانحرافهم إلى التبعية وقبولهم مفاهيم الغرب وانزلاقهم إلى خدمة أهداف التغريب.
لقد أصبحت هذه المجموعة السائرة في فلك النفوذ الغربي والقابلة لفكرة التأويل والعمل لتحقيق أهداف الحاكمين سواء في قبول الربا والفتوى به، أو صنع القانون المدني استمدادًا من القانون الوضعي حيث لا يذكر فيه(1/539)
التشريع الإسلامي إلا في المرحلة الثالثة حيث لا يوجد نص غربي أو عرف أقليمي، وكذلك الفتوى بالتأمين وشهادات الاستثمار.
كذلك فقد تكشف انحراف المجموعة التي عملت في ميدان كتابة التاريخ الإسلامي والسيرة: هيكل والعقاد وطه حسين وأحمد أمين وغيرهم.
ولولا يقظة حركة اليقظة الإسلامية لذلك كله لما انكشف أمره ولمضى التغريب بأيدي علماء لهم أسماء إسلامية.
لقد نعى الدكتور إبراهيم بيومي مدكور على حركة اليقظة انطلاقتها ووصفها بأنها نكسة تهدم ولا تبني؛ لأنها وقفت أمام ذلك الخط الذي رسمه النفوذ الأجنبي واستخدم له الذين تسموا كذبًا بخلفاء الشيخ محمد عبده من أمثال لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين، ومن بعدهم كل الذين حاولوا التأويل لخدمة الربا وتحرير المرأة وتبرير القانون الوضعي.
- إن الدكتور إبراهيم بيومي مدكور يرى في ارتباط الدين بالسياسة خلطًا وضلالاً ويتابعه في هذا كل أعداء حركة اليقظة الإسلامية، الذين يرثون انزواء مدرسة تجديد الفكر الديني، هذه المدرسة التي كان يطمع النفوذ الغربي بأن تحقق أهدافه من خلال مجموعة من علماء الإسلام يفتون بإباحة الربا، وبتحرير المرأة، والقانون المدني والتبعية للفكر الغربي، والذين لا يقفون أي موقف بالنسبة لفساد المجتمعات وانهيارها ولا يطالبون بتطبيق الحدود الإسلامية لأنها تتنافى مع المدنية.
ومن العجيب أن ترى رجلاً مثل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور يحاول أن يؤرخ للحياة الفكرية على هذا النحو المضطرب الزائف ونراه يدافع عن انحدار المرأة في المجتمعات تحت اسم تحريرها يقول: لا رجعة في هذا المضمار بحال، ولن تنزل المرأة عن حق اكتسبته وهي جادة في كسب حقوق أخرى، لعلك تدهش يا سيدي الدكتور بأن المرأة قبلت بإرادتها العودة(1/540)
إلى الله والعودة إلى بيتها وعرفت أن مثل دعوتكم هذه ضالة. مستقاة من بروتوكولات حكماء صهيون.
نحن نؤمن بأن حركة اليقظة قد تطورت تطورًا طبيعيًّا وأن محمد عبده وفتاواه وأفكاره هي مرحلة من هذه المراحل جاءت بعدها مرحلة أخرى أكثر صلة بالقرآن والأصول الأصيلة للإسلام بعيدًا عن التبريرات التي كان يدافع بها المسلمون عن أنفسهم إزاء الغزاة، أما لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين ومن برروا الربا والقانون المدني فهم خارجون عن هذه الحركة ودخلاء عليها وأن دعواهم في الإصلاح الإسلامي كاذبة وأشدهم كذبًا مؤرخ هذه الحركة الدكتور إبراهيم بيومي مدكور.
* إِحسان عبد القدوس عرّاب أدب الفراش والداعي بلا حدود إِلى حرية المرأة المزعومة:
لسنا نعجب حين نرى مصطفى أمين وزكي عبد القادر وإحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ ومن وراءهم يشكلون مفهومًا خطيرًا يبثونه يومًا بعد يوم:
أولاً: نظرية تحديد النسل والتهويل من شأن التفوق البشري في العالم الإسلامي وهي نظرية صهيونية.
ثانيًا: إطلاق حرية المرأة وهي نظرية صهيونية أيضًا.
ثالثًا: الكتابة عن الجنس والإباحية وتحويل القصة إلى مفهوم عام (وتدهش حين ترى بعضهم وقد بلغ السبعين أو قاربها يكتب قصصًا جنسية مثيرة ويتطرق إلى جوانب من وحي شيطان الإغراء والفساد).
رابعًا: تكريم الراقصات والمغنيات والممثلات وإعلاء شأنهن.(1/541)
خامسًا: تقديس المسرح تحت اسم الفن.
سادسًا: تشجيع الكرة.
أفسحت الصحافة العربية لإحسان عبد القدوس مكانًا واسعًا عريضًا على مدى أكثر من ثلاثين سنة كسب خلالها شهرة واسعة ومالاً وفيرًا وصفه في فتره قريبة (600 قصة قصيرة أو طويلة، 19 رواية، 4 قصص للسينما، 46 فيلمًا، بستان عشرون فدانًا في الهرم فواكه، خمسة آلاف جنيه في العام من الصحافة) هذا غير ما كسبه من الأفلام والقصص وهو كثير جدًا فوق ما يتصور الجميع.
وبالرغم من أن إحسان عبد القدوس الآن (1980) على أبواب الستين من العمر؛ فإنه ما زال ممعنًا في ذلك الطريق المظلم الأسود الذي شقه لنفسه منذ مطالع شبابه، وما زال مدافعًا عن أدب الفراش الذي يكتبه بدعوى أنه أدب واقعي، وبأنه محب لحرية المرأة مدافع عن حقها في الجنس والانطلاق وراء الأهواء، ولقد كانت قصصه مصدر فساد كبير واضطراب عميق في نفوس جيل كامل من الفتيات اللاتي انسقن وراء الصور التي ساقها عن المرأة المنحرفة والتي حاول فيها أن يجعل المرأة المنحرفة ظاهرة طبيعية في المجتمع أو أن يصبح المجتمع متقبلاً لهذا الانحراف نتيجة إقناعه بهذا المفهوم المسموم في محاولة خطيرة لتغيير أعراف هذا المجتمع الإسلامي الأصيل الفهم لمعنى العرض والبكارة، والعفاف مهما طغت مظاهر الحياة المادية عليه، وآية هزيمة فلسفة إحسان عبد القدوس هذا التيار الإسلامي الجديد للمرأة الذي يرفض هذه المفاهيم المنحرفة التي نقلها إحسان عبد القدوس لا عن سارتر وألبيرتو مورافيا وكامي وحدهم لكن عن طريق فرانسوا ساجان وسيمون دي بوفوار حينما تقمص شخصية المرأة في كتاباته، ولعله مما يزعج حقيقة أن يؤلف كاتب رجل قصة يطلق عليها (ونسيت أني امرأة).(1/542)
- ويرجع اتجاه إحسان عبد القدوس في هذه الجرأة على الحرمات والقيم وتصوير ما وراء غرف النوم، وكتابة ذلك اللون الذي عرف به والذي وصمه الأستاذ العقاد بذلك الأسم الشهير بأنه أدب الفراش، بالرغم من علاقة مدعاة بين إحسان عبد القدوس والعقاد، وقد وصفه يحيى حقي بحق حين قال: "لا عجب إن كانت ألفاظه كبالونات المراقص المتواثبة أمام عينك فكيف تريد منها أن تستقر على الورق، الويل له إن كان فتى يافعًا أو فتاة في مقتبل الصبا؛ فإن السحر يصبح نوعًا من التخدير كبقية المكيفات لا يخلو من خطر".
ولعل أبلغ وصف ما وصفه به أحد المسئولين حين قال له في مؤتمر صحفي: إنني لا أدخل (صباح الخير) إلى بيتي وأمنع بناتي من قراءتها.
- قال إحسان عبد القدوس في حديث إلى راجي عنايت كاشفًا عن خلفيات قصصه: أنا (أمينة) في قصة (أنا حرة).
وقد أدهشني دهشة الناس من تصوري لعواطف النساء بدقة وتنوع، وسؤالهم لي عن وسيلتي لدراسة هذه العواطف، وقد فكرت في هذا الموضوع طويلاً ووصلت إلى نظرية وهي أن عواطف الرجل هي عواطف المرأة، ولكن الاختلاف فقط يكون في التصرف والنزوع، وهذا المفهوم الذي يقوله إحسان عبد القدوس لا يصدق على مفاهيم التحليل النفسي الصحيح للمرأة وللرجل، وللفوارق العميقة بينهما والتي تتصل بالتركيب الببيولوجي المختلف والعميق الاختلاف بينهما إلا أن يكون للرجل الذي عاش في بيئة النساء زمنًا طويلاً من القدرة على تصوير عواطف المرأة، ونحن إذا راجعنا قصص إحسان عبد القدوس لم نجد تحليلاً لمشاعر المرأة وإنما وجدنا تصويراً جنسيًا صارخًا أشبه بصيحات مراهق كبير محروم، ونماذج المرأة في قصصه لا تعطي صورة المجتمع الإسلامي العربي المصري أبدًا، فالبطلة في النظارة السوداء من سلالة أجنبية، وفي (راقصة في أجازة) نموذج لراقصة أجنبية(1/543)
حلت بمصر، وهناك فتاة نشأت شاذة منحرفة، وامرأة خلابة لعوب صاحبها يمسك في يده كأس خمر طول مدة السير متهورًا إلى حد الوقاحة متحللاً من كل قيد.
- يقول أحمد حسين الطماوي: من يتأمل معظم قصص إحسان التي أدارها على لسان أبطاله يجد أنها جاءت مناسبة لتفكير المراهقين، محركة لغرائزهم يقبلون عليها إذ فيها ما يثير حواسهم وما يجعل شهواتهم تتراكض مستعرة في نفوسهم، والصور الوصفية التي يعرضها لا يمكن أن تكون تصويرًا اجتماعيًا. فهل هذه الأوصاف تعبر عن الحياة الاجتماعية وهل من الحكمة أن يكون الانحلال واستطلاع أخبار الناس ورصد الشذوذ هي أفضل الموضوعات لدراسة المجتمع، إننا لا نطلب من الكاتب أن يلغي مفعول الغرائز ولكنه يجب أن يعمل على تهذيبها، ويعبر عنها بطريقة لا ينفعل القارئ بها أنفعالاً شهوانيًّا، بل يحس بتأثيرها الوبيل عليه ولو انغمس فيها، وفي هذه الحالة نجا منها وهو يعرفها ويتجنب الوقوع في حمأتها ما استطاع، كذلك فإن تصويره للشخصيات فيه مغالطة كبيرة وافتراء على الواقع فالأم تأخذ بيد بنتها لتسلمها للضياع وتساوم الرجل وكأنها قوادة (قصة أنف وثلاث عيون)، وهذا أبشع تصوير للأم والزوجة تقف في جنازة زوجها وتمسك بعلبة البودرة (الطريق المسدود) والطبيب يدمن المخدرات ويقنع الناس بفائدتها وكأنها روشتة من الطبيب إلى المريض لكي (يروق دماغه).
- وهذه هي شخوص إحسان عبد القدوس وهي شخصيات منحرفة عن الواقع.
إن شخصيات الرواية لا تريد ولكنها منقادة تعمل لإرادة المؤلف فيها، والقصاص هو المتحكم في سلوك أبطاله ومصائرهم وأنه من مهام الكاتب تحليل المشاعر ومعرفة أعماق الوجدان وتصوير النفس وتحري أسرارها وإماطة(1/544)
اللثام عن مستدق أحوالها ووزن أفعالها، فتكون القصة بعد ذلك دراسة للنفس ونزاعها مع ما يحيط بها ونزوعها إلى ما تريد من خير وضير، وعندما لا يستطيع ذلك يترك عالم النفس والخاطر إلى دنيا الشهوة والغرائز ومواخير البغاء حيث الحياة الملوثة المريعة.
ويشهد إحسان في رسالة عن بلزاك الذي كان يكتب قصصًا أشد صراحة من قصصه، هذا أحد كتاب الغرب، إن قصص إحسان بما فيها من إثارة جنسية تصبح والحالة هذه لا عمل لها إلا إلانة الهمم الغلابة والنيل من أخلاق المجتمع، هذه الحرية الجنسية التي منحها إحسان لأبطاله قد وجدت من يعتنقها من نساء المجتمع ورجاله، ومن ذلك ما نشرته نوال السعداوي التي تطالب بالتحرر الجنسي.
ولكن ما هو موقف إحسان من الاتهامات التي توجه إليه:
- يقول: إن إيماني بحرية المرأة ليس له حدود، وربما كان أحد دوافعه الأساسية في البداية مستمدًا من إيماني بتفرد تجربة أمي (فاطمة اليوسف) هذه السيدة التي أثبتت وجودها في عالم الرجال ونجحت في فرض نفسها عليهم وحققت ما لم يستطع كثير من الرجال أن يحققوه.
ولا شك أن الأستاذ إحسان ليس مستوعبًا لأبعاد هذا المعنى وحقيقته، فالسيدة فاطمة اليوسف كانت ممثلة شهيرة كان لها في مجال المسرح خصوم وصداقات، وقد رأت يومًا أن تحارب خصومها بأن تخرج مجلة تهاجم فيها هؤلاء الأعداء بسلاح الصحافة، هذا كان هو الهدف الأول، ولكن المجلة تغير اتجاهها بعد أن رغب حزب الوفد في أن يتخذ منها منبرًا سياسيًا عن طريق أسلوب الكاريكاتير في مواجهه مجلة الكشكول التي كانت تُصْلي حزب الوفد نقدًا شديدًا، ولم تكن السيدة روزاليوسف كاتبة أو صحفية في الحقيقة، وما نسب إليها من مقالات أو مذكرات فإنما هو بقلم بعض أتباعها(1/545)
وتلاميذها، وهو يحوي وجهة نظرها إلى الأمور ولكنه ليس بقلمها.
ولذلك فإن ما يذكره إحسان عبد القدوس في هذا المجال في حاجة إلى مراجعة، ولا بد أنه كان للسيدة فاطمة اليوسف دور ودور خطير في حياة ابنها إحسان، يقول تحت عنوان "أمي":
"إن أمي لا تريد أن تنسى أنها تعبت في حملي تسعة أشهر فتطالبني بالتكفير عن هذه الشهور التسعة طوال حياتي، كنت مقتنعًا بأن أمي تعاملني معاملة فراخ التقفيصة تطعمني ما شاءت وتذبحني إذا أرادت مع اعتقادها أن (لكي) الكلب أشد إخلاصًا لها مني".
ومع اعتقادي هذا نتيجة وقائع وظروف أحاطت بي فقد تفتح وعيي فإذا بي بين يدي أم ليست ككل الأمهات، أم ليس لها نعومة السيدات ولا ضعفهن نحو أبنائهن ولا يستقيم مع أخلاقها تدليل الأطفال ومناغاتهم، بل كانت أمًا طاغية طغيان مارد، عنيدة عناد جبار، ولا شك أنها سهرت بي الليالي كما سهرت كل أم، ولكن كل ذلك حدث قبل أن أعيي وقبل أن يتنبه إحساسي، وإنما تفتح وعيي وتنبه إحساسي؛ فإذا بأمي هي السيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة روزاليوسف الأسبوعية ثم اليومية، وإذا بها تخاصم حكومات وتناضل زعماء وأحزابًا وإذا بها تستدعى إلى النيابات ويحقق معها كل يوم ثم تسجن في إحدى المرات.
وأحسست بالجفاف الروحي وسط هذا الجو الذي أعيش فيه، ولم أكن أرى أمي إلا ساعة الغداء، وكان يحز في قلبي أن أرى طفلاً تلاعبه أمه في حديقة أو تسحبه من يده أو تضمه إلى صدرها، ومن حق أمي عليّ أن أذكر أن عملها لم يفقدها حنان الأم، فقد كانت تعود في المساء فتجلس إلى جانب سريري لتطمئن إلي، وربما كانت ساعتها تناغيني وتقبلني ولكني في هذه الساعة أكون نائمًا، وقد أرادت أمي أن تخلق مني صحفيًا بنفس الطريقة التي(1/546)
خلقت بها صحيفتها، فعينتني محررًا في مجلتها وخصصت لي راتبًا شهريًا ينقطع إذا انقطعت عن التحرير؛ فإذا حاولت أن أعاملها كأم ناسيًا أنه رئيسة تحرير، أوقفتني نظراتها الغاضبة عند حدي، وأخيرًا تغلب ما أرادته وأصبحت علاقتي معها لا تتعدى علاقة رئيسة تحرير بأحد المحررين.
والسيدة والدتي عنيدة في عملها عنادًا أحس به كل من عمل معها أو اتصل بها، وكان عليَّ أن أنفذ أوامرها بلا مناقشة وأعتنق آراءها بلا محاولة ولكن من سوء حظي أنني ورثت عنها كل هذا العناد فكنا إذا اختلفنا في الرأي اصطدمنا، لم تكن تلين أبدًا أو ترحم أعصاب ابنها البكر الوحيد، بل كانت دائمًا طاغية جبارة ولم تقابلني أبدًا كأم إلا مرة واحدة عندما تذكرت أن من حقوق الأم أن تضرب ابنها علقة فضربتني علقة، وبلغت مصادماتنا حدًا وصل إلى طردي من تحرير المجلة عدة مرات.
هكذا يصور إحسان عبد القدوس علاقته بأمه، وهي علاقة مضطربة غريبة ولا شك أن اتجاه إحسان إلى هذه الكتابات المثيرة التي يريد بها أن تحدث الدوي هي نتيجة "الاضطهاد" الذي عاشه في حياته الأولى، التي شكلت عواطفه ومشاعره واتجاهاته كلها ولقد كانت الصحافة لإحسان عبد القدوس حرفة ومورد رزق ولم يكن مورد الرزق الصحفي في هذه الفترة إلا أحد عملين: الكتابة السياسية الحزبية التي تؤيد بها حزب ضد حزب وهذا ما كانت تقوم عليه مجلة روزاليوسف وكان صراعها أنها كانت في صف أحزاب الأقلية التي كانت لا تصل إلى الحكم إلا عن طريق الدكتاتورية التي يشكلها القصر مع الاستعمار، وهناك كتابة القصة وهي مصدر توزيع خطير وقد كتب (محمد إحسان عبد القدوس) في أول أيامه في السياسة ثم فضل أخيرًا أن يقدم لمجلة روزاليوسف مصدرًا ضخمًا من التوزيع وهو القصة الجنسية المكشوفة التي رفعت من توزيع المجلة أضعافًا مضاعفة، ولم يكن(1/547)
إحسان عبد القدوس يقدم قصصه في غلاف سياسي أو وطني إلا ليخدع الناس وليفتح الطريق للفكرة المسمومة في مجال القصة وهي الكشف والإباحية ولذلك فإن إحسان عبد القدوس يكذب حين يقول: أنا لست محترفًا، أنا من الهواة.
- ذلك أن كتابات إحسان عبد القدوس كلها توحي بإشاعة روح الفن كما يفهمه دعاة التغريب، جنسًا خالصًا، وهو متبعًا مما جعل كاتبًا مثل صبري حافظ" يقول: "هذا ( ... ) الذي أغرق كتاباته في طوفان اللحظة الشبقية مما جعله ينجح تمامًا في دس أغلب كتبه تحت وسائد المراهقات رغم ضخامة حجم هذه الكتب وغلاء ثمنها غير المبررين، ولقد حرص إحسان عبد القدوس فترة طويلة على كتابة خواطر فنية يوجه فيها الراقصات والمغنيات ليصور لهم أصول الفن وقداسته، ويقول لهم: هذا عيب وهذا واجب وعلى الفتاة فلانة أن تخس كذا كيلو حتى يتلاءم جسدها مع دورها. الذي تمثله، ولا يعقل أن تظهر البطلة بثلاثة فساتين فقط في مسرحية ولا تبدو في الصباح بثوب نسائي مجرجر .. إلى مثل هذه الكتابات التي تدل على استبطان عجيب لأساليب المخرجين.
ولا ريب أن إحسان عبد القدوس قد دخل في السنوات الأخيرة مرحلة أشد خطورة بقصصه في جريدة الأهرام منذ سنة 1974 ذلك أنه كان في الماضي يعايش القصة ويحاول أن يجعل من الخطيئة ظاهرة أساسية في مجتمع أبطاله، فهم جميعًا منحرفون تدفعهم أهواؤهم وشهواتهم وملاذهم ولم يكن المجتمع في حقيقته كذلك ولكنه كان يريد أن يقرض حالة (خاصة) ليجعلها ظاهرة عامة وأن يجعل من التجربة والظروف والخلفيات الفردية منطلقًا لصورة عامة، ولم يكن في هذا الأمر إلا جريئًا على أصول الدراسات الاجتماعية وسنن الأمم والجماعات منكرًا لأصالة المجتمع الإسلامي الذي(1/548)
يتميز في مجموعه بالعفة والطهر والخلق والحرص على العرض والبكارة والبعد عن الاغتصاب، ما عدا بعض حالات ليست أصيلة وليست من شيم المسلمين وأخلاق العرب، وإنما دخلت عليهم من الأمم الأخرى والنحل التي حاولت أن تنصهر في مجتمع الإسلام فحملت معها أوشابها وخطاياها وتواريثها إذ لم يستطع الإسلام بعد أن يطهرها وينقيها ويدفعها إلى البحر الواسع بأمواجه الطاهرة فبقيت على حفافي الجداول، أما الموجة الجديدة في قصص وكتابات إحسان عبد القدوس فهو يحاول أن ينقل من الحياة صورة حية للخطيئة، فهي لم تعد قصة في مجال الخيال والبناء الفني وإنما هي أشبه بواقع منتزع من الحياة نفسها، فكل الذين يكتب عنهم يدعي أنه قابلهما فعلاً ودخل معهم في تجربة "المطاردة والاغتصاب" هذه الطبيبة الإنجليزية التي قدمت جسدها للعبد الأسود الأفريقي، أو تلك المهاجرة من بورسعيد إلى القاهرة أو تلك الفتاة البدوية التي كانت طالبة داخلية في أحد معاهد العاصمة العربية.
كل هؤلاء نماذج جديدة حية من الرجال والنساء يلغون في الخطيئة، تلك الظاهرة التي يراها إحسان عبد القدوس طبيعية في المجتمع العربي وفي كل المجتمعات البشرية ويعجب كيف يدسونها أو يكتمونها، وأن ظاهرة المرأة الخاطئة وظاهرة الخمر، وظاهرة تقديم الجسد عن رضا لأي رجل لم تعد في تقدير إحسان عبد القدوس بالأمر الذي يستلفت النظر، وكأنه يريد أن يقرره ظاهرة جديدة في المجتمع العربي هو انتهاء طابع الغيرة والحفاظ على العرض من هذا المجتمع الإسلامي الأصيل وبروز بادرة الرغبة والشهوة من المرأة إلى الرجل، ونحن نرى أن هذا ليس طابع المجتمع العربي والإسلامي في الحقيقة، فما تزال المرأة متصونة ومتعززة ومطلوبة ولم تصل إلى مثل هذا الانحراف الذي يعرفه المجتمع الغربي الذي ينقل منه هذه القصص بعواطفها وأحداثها وتحدياتها، وما يوجد لدينا من انحراف إنما يتمثل في نماذج قليلة(1/549)
من نبت نبت من أمهات منحرفات أو لسن مسلمات على الأصح، إنما يحاول إحسان عبد القدوس وطائفة من الكتاب اليوم في إصرار عجيب على تقديم صور الجنس وقصصه وأحاديثه ومع كوكبة من أمثال لويس عوض ونجيب محفوظ ومصطفى أمين ويوسف إدريس في نفس الوقت الذي أخذت فيه ظاهرة المرأة المسلمة المحتشمة تبدو واضحة في كل مكان على أنها واقع أصيل يصفع الدعاة إلى الشهوات والآثام، وقد علقت مجلة المجتمع الكويتية في عددها (18/ 1/1977) على قصة إحسان عبد القدوس "خذني من هذا البرميل" فقالت:
إحسان عبد القدوس أحد المسئولين عن إفساد هذا الجيل بما كتبه من روايات تجر الشباب جرًا إلى القاع، وتقتل فيهم نوازع السمو والسعي نحو مستوى خلقي أفضل، إنه يرضي مظاهر واتجاهات الانحراف فيشجعها ويمجدها ويفلسفها ويرصد اتجاهات الاستقامة والفضيلة فيخذلها ويصد عنها ويحاربها، ولقد فسر بعض المفكرين هذا السلوك الذي يضيق بالطهر ويفرح بالانحطاط فاكتشف أن هذا الشخص ينطلق من عقدة خاصة تدفعه إلى تلويث المجتمع كله بالرذيلة وأنه يمضي في طريقه تحت شعار (لنسقط متحدين)، وفي جريدة الأهرام نشر كاتب الرذيلة قصة من ثلاث حلقات عنوانها (أرجوك خذني من هذا البرميل):
- والقصة عن امرأة من الكويت صوّرها مختنقة في برميل من البترول وتريد الخروج منه، وفي الحوار الجاهلي الطويل حول الخروج من البرميل والبحث عن حواجز، بث ما يريد بثه من أفكار السقوط والجرائم الأخلاقية، وفي الحوار أيضًا لجأ إلى أسلوب التعميم فجعل الكل يبحث عن حواجز ويعمم الأحكام حين يقول عن بطل القصة على لسانها: إنه كان رجلاً من الكويت يستأجر كل ليلة امرأة دون أن يحس بأنه يخون زوجته.(1/550)
وفي ثنايا الحوار نقمة على الكويت كله، ونحن كما ندين كتابات هذا الشخص الرامية إلى إفساد الجتمع المصري ندين قصته هذه ولا ننكر أن في المجتمعات انحرافات لكن هذا شيء والرغبة في الإفساد تعبيرًا عن عقد مرضية وأحقاد مهتاجة شيء آخر، إن القصة هجوم سياسي صيغ في أسلوب فني".
وكذلك هناك قصة إحسان عبد القدوس التي يقول على لسان بطلها عندما أراد أن يتزوج عشيقته اليهودية: "أنت تستطيع أن تتزوج دون أن تغير دينك، إنها أنانية الإسلام، البنت المسلمة لا تستطيع أن تتزوج غير المسلم ولكن الرجل المسلم يستطيع أن يتزوج من كل الأديان.
- والحقيقة أن هذا الكلام تشوية للإسلام؛ لأن الشريعة الإسلامية هي خير الشرائع عامة وفي النواحي الاجتماعية خاصة وقد أسلم كثيرون لفك قيدهم الاجتماعي من الأديان الأخرى.
- والإسلام حينما ينادي بأنه لا زواج للمسلمة من غير المسلم فلذلك حكمة عظيمه وهي ألا تمتهن المرأة المسلمة ولا يكون لغير المسلم عليها ولاية وحتى لا ترتد يومًا عن دينها، وحتى لا يخرج أبناؤها على دين أبيهم اليهودي أو المسيحي، أما أن يتزوج الرجل من الكتابية؛ فإن الرجال قوامون على النساء وباستطاعة الرجل أن يؤثر على زوجته فتتبع الإسلام مثله، أو على الأقل ينضم الأبناء لدين أبيهم وهو الإسلام والواجب أن نظهر للناس هذه المعاني لخير الأديان بدلاً من تشويه صورته التي يحولها بعض ذوي الأغراض إلى طعنات قاتلة للنيل من ديننا.
* وفي ضوء مفاهيم إحسان عبد القدوس المنقولة من كتب جنس الغربيين:
والتي تعتمد أساسًا على مفاهيم فرويد الزائفة التي كشفت الأبحاث(1/551)
الميدانية والعلمية عن ضلالها ينطلق إلى مفاهيم غاية في الفساد والاضطراب ومن ذلك أن الموت راحة وأن الانتحار ليس جبنًا أو هروبًا، أو كما يقول: إنه عندي إقرار بالشبع وبأنك لم تعد تحتاج من الدنيا أكثر من ذلك ولا أطول، وليس أدل على فساد عقلية إحسان عبد القدوس من مثل هذا القول الذي يضاف إلى دعواه العريضة بأنه بقصصه يعلم الفتاة ويجعلها أكثر قوة على مواجهة الحياء، ومتى كان تضليل المرأة عن مهمتها وعن حق الله عليها وعن الطهارة والعفة هو توجيه لها لتكون أكثر قدرة على مواجهة الحياة؛ فإذا أضفنا إلى هذا أن مجلة روزاليوسف في خلال رئاسة إحسان عبد القدوس قد روجت لكثير من الدعوات الهدامة ومنها العلمانية والبهائية والإباحية، وآية ذلك ما نشرته روزاليوسف (17 ديسمبر 1956) يتحدث عن أن عددًا كبيرًا من المؤمنين بالدين البهائي ولكنهم لا يعلنون عن إيمانهم مكتبين باتباع التعاليم في السر، وكل ما نعرفه أن بمصر والسودان خمسة عشر محفلاً، ويقول المقال: لكي تكون بهائيًا يجب أن تؤمن بموسى وعيسى ومحمد، وبالتوراة والإنجيل والقرآن ثم ببهاء الله وكتابه الأقدس ... إلخ.
- بل إن إحسان عبد القدوس عندما "يسرق" من استيفان دي فايج يصل إلى أبعد منه جرأة وإباحية، يقول الدكتور مندور: إن زفايج قصد في قصته السر المحرم إلى إظهار هذه الغيرة الاجتماعية على الشرف ولا أدل على ذلك من أن زفايج قد جعل الطفل يرفض أن يبوح لأبيه بسقوط أمه وجريمتها المخلة بالشرف، أما إحسان فقد اكتفى باستيحاء الإطار العام للقصة والذي راقه كان فيما يبدو هو استسلام الزوجة للذة الآثمة أكثر من معنى الشرف عند الطفل الصغير، وذلك بدليل أن الطفل في قصة إحسان قد اكتشف بسرعة سقوط أمه وهنا كان الواجب أن تثوب الأم إلى رشدها، ولكنا نراها مع ذلك -على يد إحسان- تعود فتلتقي بعشيقها في الأحراش وتستسلم له(1/552)
مرة ثانية، وهذا هو أسلوب التوغل في المسائل الجنسية.
- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
* يوسف إدريس الماركسي يدعو إلى حرق كتب التراث كلها:
ويكشف يوسف إدريس عن هويته واضحة تجاه الأدب العربي كله حتى يدعو إلى نبذ التراث العربي كله وإلقائه في البحر أو إحراقه حيث يقول في مجلة البلاغ الأردنية: إن تراثنا تحريفات وزخرفات لغوية وإن التراث سخيف وليس فيه شيء للقراءة.
- ويقول: أنا قرأت عشرات من كتب التراث ولم أع منها فكرة واحدة باستثناء بعض الكتاب أمثال الغزالي وابن رشد، ولذلك يجب أن تحرق كتب التراث كلها. والواقع أن أكثر الناس جهلاً هم أجرأ الناس على الاتهام، ومن جهل شيئًا عاداه، والواقع أن يوسف إدريس لم يقرأ شيئًا من التراث لأنه ليس له أرضية أساسية لمثل هذا، فهو قد شكل نفسه على قراءة بعض القصص الأدبية الماجنة والإباحية ومنها استمد مفاهيمه ثم عرف الفكر الماركسي فخلق ذلك كله في نفسه العداء للفكر الإسلامي الذي لم يعرفه وإن كان قد ذكر اسم الغزالي وابن رشد فلكي يعلي من شأن نفسه، وإلا فأين ابن تيمية وابن حزم، وابن القيم والشافعي ومالك وأبو حنيفة والجاحظ وعشرات من رواد التراث الأعلام، الواقع أن هذه صيحة عداء وخصومة للفكر الإسلامي يحملها كاتب ماركسي يسارى لم يكن شيئًا حتى أعطاه الدكتور طه حسين صك الشهرة والظهور هو وأصحاب الأفكار الإباحية التي يروجها سارتر وكامي وكافكا وكل من المنحرفين وليس إلا واحدًا من هؤلاء الذين ظهروا خلال فترة المد الماركسي في العالم العربي وهو نبت هش لا(1/553)
جذور له، ولا قيمة له، ولا وزن له في ميزان القصة أو النقد، وما نعرف كاتبًا يحترم نفسه يهاجم تراث أمته على هذا النحو إلا إذا كان متعصبًا ضد هذه الأمة، كارهًا لفكرها، خادمًا لأهداف أعدائها؛ بل إنه لا يمكن لكاتب يقدر مكانته في أمته ويكتب بلغتها يقول مثل هذا القول؛ بل إن أعتى المستشرقين غلوًا وأكثرهم تعصبًا وأشدهم كراهة للإسلام والقرآن واللغة العربية لم يصرح بمثل هذه العبارة وإن كان يستبطنها في أعماقه، وهذا يدل على الحمق، وعلى أن الكاتب قد باع نفسه ولم يعد له سهم واحد من المكانة في أمته، ذلك لأن التراث الإسلامي قد اعترف بمكانته أشد أعدائه عداوة له، بعد أن تكشف مدى الأثر الضخم الذي تركه في الفكر الغربي والفكر العالمي سواء في مجال التقنية والعلم أم في مجال العلوم الاجتماعية أم في مجال القانون والتشريع باعتراف عشرات من أعلام الغرب المتخصصين، مما يصفع يوسف إدريس ويثبت تبعيته وتعصبه وحقده على الفكر الإسلامي الأصيل.
وهكذا يكشف كتاب القصة عن حقيقة واضحة هي أنهم أعجز الناس عن التفكير في أفق المجتمع الإسلامي أو دراسة قضاياه لأنهم يعيشون في أعماق القصص الغربي وقضاياه كما تعيش الأسماك في أعماق المحيطات.
- وينصح يوسف إدريس في جريدة الجمهورية (21/ 5/1966) فتاةً تشكو من حبها المصحوب بالحرمان، إلى أن تخفف من حرمانها كوسيلة للتخلص من شدة عاطفتها، أي أنه يدعوها إلى اقتراف المنكر، وهو يسخر منها لأنها رفضت قبلة صديقها وفتاها، يقول أنها لو قبلت لاستراحت، وبقي عليها مقاومة الحياة.
ولا ريب أن هذه النصيحة المسمومة سترتد إلى نحر يوسف إدريس بالجزاء الأوفى وبالنقمة والمثلة؛ فإنه بذلك قد أفسد عقلية فتاة مسلمة وعاطفتها وكشف لمئات من القارئات عن الاستهانة بهذه الأمور، وحرضهم(1/554)
على الاندفاع وراء الأهواء وتحمل وزر ذلك كله وجرمه عند الله تبارك وتعالى، ونجد في الصحافة النسوية عشرات الأمثلة من هذه الإجابات قدمها أنيس منصور وإحسان عبد القدوس وأمينة السعيد وغيرهم.
* فساد مفهوم يوسف إِدريس عن الموت:
- يقول يوسف إدريس في ظروف وفاة كامل الشناوي عن الموت: "ولكن الغادر -أي الموت- لم ينتظر لكي يريه الفجر، ضن عليه ببضع ساعات، يا موت رفقًا بكامل الشناوي يا موت دعه يرى الشروق وهو يقبل على القاهرة كما كان يريد، يا موت حين تحين النهاية اجعله ينام في سلام كما ينام الأطفال، بربك خذه، وهدهد عليه، ضمه بحب كما كنا نضمه، كم كان شفافًا أيها المعتم، كم كان ذهبًا متوهجًا يا أيها الغبي المغلق، كم كان إنسانًا، كم كان يخافك يا ملعون، يا حق، يا من لا مهرب منك، ولكن الموت ذلك الصديق الغادر، في غل بارد، وبإرادة حديدية متجمدة، كان يضمر له النهاية، فاجأة مرة بأن انقض عليه وحيدًا، من فرط ثقتي قد خلت أنه أقوى من الموت حتى لو ربط الموت في فراشه، كنت متأكدًا أنه خالد، يا كامل لا تمت، تلك اللحظة التي تلقى فيها عدوًا ظالمًا خشيته النهاية التي ليس بها إلا رفيق كئيب مستمر لا يأخذ ولا يعطي ولا يتكلم".
هذه هي مفاهيمهم عن الموت وحديثهم معه، وهو حديث ضال مظلم يدل على أن صاحبه لم يعرف كلمة واحدة من المفاهيم التي قال بها الدين، أي دين - عن الموت، ولقد كان أولى به أن يخشع وينتظر نفس المصير، ضربة القدر قبل الموت، التي تلحق بكل هؤلاء الضالين المبطلين الذين لا يعرفون الله ولا يلتمسون طريقه الحق.
- ولا ريب أن إذاعة هذا المفهوم الفاسد عن الموت، كما يصوره دعاة(1/555)
الفكر المادي وكتاب الوجودية والماركسية حين يتردد في مقالات تنشرها الصحف كل حين إنما يوحي للقارئين بأنه مفهوم الموت بينما هو مفهوم زائف مضلل، وأن المفهوم الإسلامي الأصيل يختلف عن هذا اختلافًا كبيرًا، فنحن نؤمن بالموت كحقيقة أساسية يقوم عليها مفهوم العمل كله في الدنيا، ونؤمن بأن بعد الموت بعثًا ونشورًا وجزاءً وحسابًا وعقابًا، وجنةً ونارًا، وأن الدنيا مزرعة للآخرة، ولذلك فنحن لا نخاف الموت ونؤمن بأنه يحمل للمؤمنين الرضوان والخير، وأنه نهاية كل حي وأنه حين يأتي فتلك نهاية عمل الإنسان في الحياة يتقبلها في رضا واستبشار، وليس في جزع وخوف، ذلك أنه لا يخاف الموت إلا أصحاب الأعمال الشريرة الفاسدة أولئك الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، فهم يرهبون لقاء الموت؛ لأنه يضعهم على حافة الحساب والعقاب.
* كامل الشناوي الغارق في أهوائه:
وماذا كان يفعل كامل الشناوي بالصباح إذا أشرق، إلا أن يلقاه كما كان يلقاه دائمًا غارقًا في أهوائه، هل كان ينادي الله إذا أشرق الصباح أو يتذكر أن يومًا جديدًا قد أقبل من عمره وأن عليه أن يعمل فيه خيرًا أم أنه كان يستقبل الصباح بالنوم، ويستقبل الليل بالسهر، دون أن يستجيب لحق واحد من حقوق الله عليه، أي رفق يتوقع يوسف إدريس من الموت لهؤلاء الضالين الذين لم يضعوا جباههم على الأرض لله يومًا، وكيف يمكن أن يخاطب الموت بمثل هذه اللغة، والموت حق نعلم جميعًا أنه ينتظرنا وأنه ينقلنا إلى عالم جديد، وأن الموت ليس هو النهاية التي يتصورها يوسف إدريس حين لا يؤمن بالبعث من جديد والوقوف بين يدي الله والحساب والجزاء، فما الموت إلا نقلة من حياة إلى حياة أخرى وهي لا تخيف إلا الضالين والظالمين الذين لم يقدموا شيئًا والذين عاشوا حياتهم في أهواء التيه والضلال.(1/556)
- أما كمال الشناوي فحسابه أشد عسرًا؛ لأنه حفظ القرآن وتعلم في الأزهر ونشأ في بيئة الدين ثم خرج على كل هذه القيم وهجرها، وفضل حياة الضلال والهوى.
* يوسف السباعي الداعي إِلى إِعادة البغاء والدعارة العلنية، يتهم العربية بأنها سخيفة، ويجهل مفهوم الموت في الإسلام، وآية ذلك روايته "نائب عزرائيل" (1):
- قال الأستاذ أنور الجندي في كتابه "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 75): "طالب يوسف السباعي وأنيس منصور، بالعودة إلى الدعارة العلنية، بدعوى أن ذلك يقضي على القلق الذي يساور الشباب في المجتمعات".
فهل يرضى ذلك لأمه أو لأخته أو لابنته أو لزوجته أم هي الدياثة الفكرية ومحبة إشاعة الفاحشة في الجتمعات المسلمة، وهل ينتظر أمثال هؤلاء إلا العذاب من الله في الدنيا والآخرة.
قد كان يوسف السباعي لا يجيد الكتابة بالعربية إلا بصعوبة شديدة ويفضل العامية ويتحدى في وقاحة شديدة ويسخر من الفصحى، ومن سلامة الكتابة على أصول اللغة وقد هوجمت قصص يوسف السباعي (وخاصة قصة إني راحلة) لأنها عافية اللغة، وأن الكاتب العربي الذي يكتب لمائة مليون عربي يجب أن يجيد الفصحى ولا يحصر نفسه في دائرة العامية المصرية.
ولا يبالي يوسف السباعي أن يقول: إني لا أهتم مطلقًا بمبادئ اللغة واعتبر أن أسلوبي (كويس كده) وليس في حاجة إلى المحسنات اللفظية،
__________
(1) الأحاديث في تسمية ملك الموت بعزرائيل لا تصح.(1/557)
والواقع أن لغتنا العربية سخيفة وفيها حاجات (مش معقولة) واحد مجنون مثلاً قال لنا (خلي الكلمة دي تبقى كده) وخلاص هي عملية مجهدة لا معنى لها ولا نهتم بها الآن أو يحافظ عليها المصححون في الجرائد، وأنا على كل حال أعتبر اللغة وسيلة وليست غاية.
إن مثل هذا الهراء لو وضع موضع النقد الحقيقي لكان حقًا بأن يطرد كاتبه من ساحة الكتابة الأدبية ونأسف لأن جريدة تنشر مثل هذا الكلام (جريدة المساء).
وإذا كان هذا هو موقف يوسف السباعي من اللغة فلا ريب أن موقفه من القيم الأساسية أخلاقية ودينية أشد عنفًا، وذلك واضح في قصصه التي تقوم على ظاهرة الكشف، والتي تقوم العلاقة فيها بين الرجل والمرأة على أساس المطاردة والخداع والاغتصاب.
- هذه القصص التي كان يقال أنه يكتبها في كابينة على البلاج يذهب إليها ومعه كراسة بيضاء وزجاجة ماء ملون، ويعود بها لتنشر في الصحف مع الاحتفال بها ثم تنشر في مجلد ضخم تقوم مكتبة الخانجى بنشره ثم يتحول إلى سيناريو سينمائي، وكان يوسف السباعي عضوًا في لجنة اختيار الكتب لكتبات وزارة المعارف ومدارسها، وكان يوسف يدخل اللجنة ومعه قائمة الخانجي فيعرضها على اللجنة بمعدل 3 آلاف أو ألفي نسخة من كل قصة يحصل من ورائها على ألوف الجنيهات، يحصل على ثلاثة آلاف طالب وطالبة على سموم الإباحة والجنس والإنحراف الخلقي.
ثم يحصل على أجور مضاعفة من الأفلام السينمائية بعد أن تكون هذه القصص الجنسية المسرفة في تصوير الغرائز وإفساد الشباب قد وصلت إلى كل بيت، ولقد وضع نفسه في أحضان طه حسين الذي كان يعرف أنه حين يقدم يوسف السباعي ونجيب محفوظ وأمين يوسف غراب وغيرهم، إنما يقدم سمًا(1/558)
من نوع خطير إلى الأجيال الجديدة فيخدم به دعوته، ويكون جيلاً يحمل أفكاره (كل ما هنالك أن طه حسين كان يخدع الناس حين يدعو هؤلاء إلى الكتابة باللغة الفصحى التي لا يعرفونها) فقد أعلن طه حسين أكثر من مرة أن يوسف السباعي يجهل اللغة والنحو ومع ذلك فقد مضى طه حسين يشجع هذه العناصر ويحميها ويدفعها إلى الأمام في صحافة لها هوى مع كل منهج مضاد للأصالة.
ولقد كشف النقاد أمر يوسف السباعي منذ وقت بعيد فقد نشرت مجلة الآداب (أغسطس 1955) رأي خصومه فيه حيث قال أحدهم: "إن يوسف السباعي لا يمثل إلا الوجه المرفوض غير الأصيل في الثقافة المصرية، ولكنه مع ذلك استطاع أن يصل إلى هذا المستوى الذي لمع فيه" وأن كثيرًا من الشباب المتفتح الواعي يميلون إلى اعتبار أدبه غذاء سوقيًا تجد فيه الطبيعة البرجوازية المترفة موضوعًا لغرائزها، وهو يؤدي نفس الدور الذي تؤديه الأقلام المصرية السخيفة ويهدف إلى افتعال حياة غير حقيقية للمستمع المصري حتى يظل بعيدًا عن واقعه الصحيح بما فيه من مشكلات.
لقد لمع يوسف السباعي حقًا في جو ثقافي أثقلته القيود والأغلال، ولقد كانت مفاهيم يوسف السباعي منحرفة حقًا ضئيلة تدل على فقر شديد في الثقافة، إنها ثقافة الحي الذي عاش فيه ثقافة الأحياء البلدية والزجل والمواويل وكلام المناهي، وذلك فهمه للعلاقات بين الرجل والمرأة ولذلك غلب عليه طابع اللامبالاة بالقيم ومن أجل انتشار قصصه غلب طابع الجنس.
بل إن يوسف السباعي ذهب إلى أبعد من هذا حين جعل "السخرية" طابع كتاباته فهو يسخر من كل شيء، حتى من القيم المقدسة، وآية ذلك رواية (نائب عزرائيل) وتدهش حين ترى يوسف السباعي يوجه كلامه إلى الملك المكرم سيدنا عزرائيل ملك الموت، فيقول: "ستلمس لي العذر إذا(1/559)
علمت أني رجل، أحب المزاح، أو أنني أرى أن المرء لا يربح في حياته إلا ساعات الضحك وإذا علمت أيضًا أن الإنسان بطبيعته مخلوق مهرج إنه لا يغريه شيء كالهزل والتهريج وإنك إذا ما أردت منه أن يستمع إليك فاضحك أولاً ثم قل له ما تريد قوله، لا تظن بقولي هذا تزلفًا فالتزلف لا يكون إلا لخشية أو حاجة وما كان بي من خشية منك ولا حاجة إليك".
- ويقول: (ولا يمكن أن يكتب هذا عاقل في وعيه الكامل) لن أكف عن الغرور إلا في نهاية العمر عندما أقف على شفا الموت وأتلفت ورائي فأكتشف مبلغ حمقي وإضاعتي عمري هباء وجهدي سدى في سبيل شهرة أو خلود، وهذا الكتاب يا سيد عزرائيل أنت بطله فهو منك وإليك حاولت أن أظهرك للبشر على حقيقتك وأن أزيل من أذهانهم تلك الصورة الشوهاء التي يتخيلونك بها.
بهذه اللغة الردئية يتحدث مثل يوسف السباعي إلى الملك المكرم كيف يستطيع يوسف السباعي الذي لم يقرأ شيئًا من الفقه أو السنة أن يصور ذلك الملك الكريم ملك الموت الذي يقبض أرواح البشر؟ وكيف يتصور يوسف السباعي أنه يستطيع أن يصور هذا الملك الكريم على حقيقته من خلال رواية هزيلة ومن خلال سخريات خليعة، إن جهل يوسف السباعي بمفهوم الموت في الإسلام وموقف الإسلام من الملائكة هو الذي أورده هذا المورد الخطير، فهو يحاول أن يصور أمر الموت على أنه خبط عشواء وإن مع عزرائيل قائمة وأن فيها طبيبًا يموت قبل مريضه، وعروسًا قبل زواجها بينما يجد الشحاذ الضرير لا يزال حيًا بلا خوف.
والواقع أن حكمة ذلك كله لها مفهوم في تقدير الله تبارك وتعالى عز وجل لا يصل إليه يوسف السباعي إلا إذا فهم حكمة الخلق والوجود والموت، أما سيدنا عزرائيل فإنه ملك مكلف من قبل ربه تبارك وتعالى وما(1/560)
هكذا يتناول الكتاب أو القصاص مثل هذه الأمور.
وهكذا يمضي يوسف السباعي في جرأة وسخرية وفساد رأي وعجز عن فهم الأمور ليكتب، وليكتب بعد ذلك عن كل شيء فيفتي في اللغة وهو يجهل كل شيء عنها كما يفتي في أمور الخلق والموت دون أن يجد من يقول له: قف عند حدك؛ ذلك لأن ظروفًا أخرى جعلت يوسف السباعي في موضع من صحافة ضعيفة عاجزة عن أن تضع كل كاتب في موضعه الصحيح (1).
* مصطفى أمين وإِشاعة روح تحرير المرأة قلبيًا، وإِشاعة الحب بين الرجل والمرأة حتى يكون في حياة كل شاب امرأة ويُسفّه مطلب تطبيق الشريعة ويسقط عمدًا من مذكوات سعد زغلول 150 صفحة عن تجربة سعد زغلول مع القمار:
- يقول مصطفى أمين: حارب الأحرار في هذا البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها ويظهر أن بعض الناس يريدون العودة بنا إلى الوراء، وقد يحدث هذا في أي مكان ولكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر (أخبار اليوم 5 نوفمبر 1977).
وهكذا يشهد مصطفى أمين على نفسه وعلى تلك المجموعة التي شكلها محمد التابعي في مجلة روزاليوسف لتحمل لواء هذه الدعوة وتتزعم تلك الصحافة التي تحرض المرأة على الخروج من القيم الدينية والأخلاقية وتدافع عن أمثال أم كلثوم وفاطمة رشدي وتحتفظ بأسماء أولئك الذين كشفت التحقيقات عن إدارتهن لبيوت الفساد، في مخطط واضح دقيق
__________
(1) "الصحافة والأقلام السمومة" (ص 185 - 188).(1/561)
مستمر، وقد أشار بعضهم أكثر من مرة أن المرأة هي التي تشتري الجريدة من مصروف المنزل ولذلك فهم يؤيدونها، ولكن المرأة الرشيدة تعلم أن ما يدعونها إليه ليس هو في مصلحتها أو من أجل إسعادها، وما ترى المرأة سعادتها في عمل يحرمها من تربية أبنائها أو من سهرات تحول بينها وبين دين الحفاظ على وجودها الذاتي وكيانها وأسرتها.
* مصطفى أمين موجِه سياسة أخبار اليوم:
أخذ مصطفى أمين الخيط من روزاليوسف وآخر ساعة وجند التابعي عنده أما هو فكان صانع الإخراج والكاريكاتير وتوجيه سياسة الصحيفة وكانت أبرز قدرات مصطفى أمين:
أولاً: القدرة على تقديم الرأي وضده يهاجم حزبًا معينًا ولا مانع أن يكتب كاتب في نفس العدد يدافع عنه.
تانيًا: القدرة على وضع السموم في علب ملونة حلوة المظهر تخدع القراء.
ثالثًا: الاختباء وراء النغمة الوطنية أو نغمة مناجاة الله في سبيل تنفيذ الغرض الأكبر: الدفاع عن قيم الغرب وحضارته ودفع المرأة المسلمة إلى ما يسمونه آفاق المجد والعمل خروجًا عن الأسرة وتربية الأبناء.
رابعًا: القدرة على الدفاع عن الحاكم ثم القدرة على تدميره بعد سقوطه، وقد كتب مصطفى أمين ألوف المقالات عن فاروق تمجيدًا وتشريفًا وإعلاءً، ثم هدمه بعد ذلك وكشف عوراته، وكذلك فعل مع عبد الناصر، ولم يكن الهدف إلا أداء الرسالة الخاصة بتسميم قيم المجتمع في مسائل المرأة والأسرة، وفي ظاهر العمل الصحفي السياسي أن مصطفى أمين عمل مع أحزاب الأقليات ومع الملك ضد حزب الوفد لتحطيمه.(1/562)
- وقد وصف مصطفى أمين (مجلة النداء إحدى صحف الوفد 26/ 2/1952) بأنه كان يرأس تحرير مجلة أسبوعية مصورة وكان يوقع مقالات خفيفة مضحكة بإمضاء مستعار (مصمص) وعرف القراء مصمص الذي يضحكهم بالحديث عن البنت التي خربشته من تحت المائدة أمام الضيوف، ويضحكهم بالحديث عن بدانته التي تضايقه أثناء الرقص، ودفعه الطموح -على حد تعبير مجلة النداء- أن يرأس تحرير مجلة يكون هو صاحبها، والذين يشتغلون بالصحافة يعلمون أن إصدار جريدة ليس أمراً سهلاً، إن المال الكثير لا بد أن يتوفر ولم يكن مصطفى أمين يملك سوى قلمه وقلم شقيقه علي أمين، ولم يكن يملك مالاً عندما جمع أوراقه وغادر دار الهلال، اختلف مع أصحاب دار الهلال لأنه أراد أن يجعل من مجلة الإثنين مجلة تنطق بلسان حكومة السعديين.
وتحدثت الصحيفة عن الاجتماع الذي تم بين مصطفى وعلي والباشا حيث رسمت سياسة أخبار اليوم فيه وفي سرعة تم كل شيء، وبعد أيام صدرت أخبار اليوم واختاروا المادة الصحفية التي تثير انتباه الشعب، لماذا ساءت العلاقات بين القصر والنحاس باشا.
ومضت أخبار اليوم تلعب دورها، العمل على تحطيم الوفد، وإعطاء الفرصة لأحزاب الأقلية لكي تحكم مصر، كانت الأحاديث تدور وراء الكواليس تتضمن تفاصيل المؤامرة الكبرى، كان مصطفى أمين يصنع الأصنام ويعبدها ويحاول أن يجر الشعب معه ليسجد لتلك الأصنام، وأشارت النداء إلى تلك الأعداد التي صدرت بعد 8 أكتوبر 1951 تلك الأحداث الوطنية، عدد آخر ساعة وصورة الغلاف هي لاستر وليامز لينسى الناس الاستعمار وهم يشاهدون غلاف آخر ساعة والأفخاذ العارية، وكان موقفه مع الاستعمار البريطاني واضحًا.(1/563)
وهاجموا ما نشرته الصحف الوطنية حتى لقد قالت آخر ساعة العدد 897 أن كثيرًا من الصحف جرفها التيار إلى نشر هذه القصص الخيالية والصحف حتى الآن ما تزال تبالغ، إن الأكاذيب والمبالغات لها نتيجة واحدة أنها تخدعنا نحن ولا تخدع أحدًا سوانا، وتعطي الناس فرصة للسخرية منها، هذه هي الصورة من وجهه نظر أخرى، وإذا كانت الأحزاب السياسية كلها شر ولها تاريخ أسود فإن مناصرة أحزاب الأقليات ومناصرة الملك فاروق تكون أشد سوءًا وشرًا، ولقد حاول مصطفى أمين أن يقلل من الحركة الوطنية التي قامت في الإسماعيلية لمقاومة الإنجليز، ولم يلبث النظام الملكي أن سقط وسرعان ما اندمج مصطفى أمين مع حركة الجيش وبدأ يكتشف سوءات العهد الملكي، وسرعان ما أودعته حركة الجيش السجن في يوليو 1965، فقد اتهم مصطفى أمين وجاء في قرار الاتهام بأنه تخابر مع أشخاص يعملون لمصلحة دولة أجنبية بقصد الإضرار بالمركز الحربي والسياسي والاقتصادي للدولة، وذلك بأن اتفق مع أشخاص فيعملون لصالح دولة أجنبية على أن يمدهم بمعلومات وأخبار عن القوات المسلحة العربية والأوضاع السياسية والاقتصادية للدولة في الداخل والخارج، وسلم لشخص يعمل لمصلحة دولة أجنبية أسرارًا خاصة بالدفاع عن البلاد واشترك بطريق الاتفاق والمساعدة مع أجنبي مقيم في مصر في التعامل بالنقد المصري.
ومهما قيل من بعد أن الاتهام جاء بعد أن وقع الخلاف بين عبد الناصر ومصطفى أمين حول أسلوب العمل السياسي الذي كان يقوم به الأخير بتكليف من الأول، وقد جاء ذلك بعد أن اختلف عبد الناصر مع الأمريكيين وإن كان مثل هذا الاتهام قد وجه أيضًا إلى محمد حسنين هيكل، وإن كان مصطفى أمين لم يكشف أهدافه في وضوح غير مرة واحدة فإن ما قاله إذ ذاك يكفي لكي يضيء لنا طريق حياته ووقائعها كاتب مصطفى أمين في مجلة(1/564)
الإثنين (15 مارس 1943) تحت عنوان الأهداف التي ستعمل مصر لها بعد الاستقلال.
- وقد جعل من أهدافه التي سيعنى بها ويقود لها الرأي العام بعد الحرب أن يحارب التعصب الديني وأن يجدد الأزهر وأن ينادي بتحرير المرأة قلبيًا؛ لأن الحب الطاهر لا يزال جريمة يعاقب عليها المجتمع، والمجتمع المصري إلى اليوم مجتمع لا روح فيه؛ لأنه خال من المرأة، والشباب المصري لا شخصية له؛ لأنه ليس في حياته امرأة ومن أهدافه أن يشجع المرأة على المطالبة بحقوقها السياسية وتولى الوظائف وأن ترث كما يرث الرجل تمامًا وأن يدعوا إلى اتحاد شرقي (لا اتحاد إسلامي بهذا النص) على نظام الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الصورة التي كانت تجول في ذهن مصطفى أمين تكشف الأهداف التي ظلت كامنة وراء عمله الصحفي كله، إشاعة روح تحرير المرأة قلبيًا، وإشاعة الحب بين الرجل والمرأة حتى يكون في حياة كل شاب امرأة، ومن وراء هذا المعنى يقف هدف الصحافة الأكبر الإثارة والجنس.
كما تحدث الكثيرون عن السر في انتشار أخبار اليوم، فقد أشار أحد كتابها إلى هذا المعنى حين قال: (كان لنفوذها في الدوائر البريطانية، والأمريكية أثره في تقديم أخبار جديدة لفتت الأنظار وشدت القراء إليها واستطاعت هي في هذا الوقت ومن خلال هذا الولاء السياسي - خدمة الأهداف الكبرى).
- نعم: لقد استطاع مصطفى أمين بنفوذه الضخم في الدوائر السياسية الأجنبية والداخلية أن يحقق أهدافًا سنة 1943 على رأسها تحوير المرأة قلبيًا حين كانت ترسم الخطط خلال الحرب العالية لرسم خريطة جديدة للمجتمع العربي والإسلامي.(1/565)
ولقد كان المدى بعيدًا عام 1943 حين رسم مصطفى أمين مخططه هذا وبين ما كتبه عام 1979، يطالب برد الإيمان إلى قلوب أبناء الجيل الجديد؛ فإن موجة الكفر والإلحاد هي المسئولة عن استهتار بعض شباب العالم بالمثل العليا وضعف المستوى الخلقي وانتشار الجرائم والمخدرات بين الذين سيتسلمون مصير العالم بعد سنوات.
وليست هذه الدعوة الجديدة نتيجة لتغيير في الخطط وإن كانت نتيجة لتغيير في الأسلوب، فما زال مصطفى أمين بالرغم من كتاباته المملوءة بعبارات الحنان مؤمنًا بكل الأهداف وما زال ينتفض إذا جاء خبر بأن امرأة ما تولت عملاً جديدًا حتى لو كانت كناسة في شوارع موسكو، وما زال مصطفى أمين يضرب أمثلة البطولة والنجاح واحتمال الجهد في سبيل الشهرة بأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وما زال يؤكد أنه حضر ثورة 1919 مع أنه ولد عام 1916، ولقد كان خليقًا بالسجن الذي آوى إليه تسعة أعوام أن يدفعه لأن يغير خطته إلى خدمة القيم العليا للحياة الإنسانية ولكنه لم يفعل بل خرج من السجن ليكتب قصصًا جنسية أشد عنفًا مما كان يكتب من قبل ويؤكد مفاهيمه السابقة ويصر عليها، إن كتابات مصطفى أمين تقف في قوة في وجه الشيوعية ولكنها تخدم الديمقراطية الغربية، والكتابات الأخيرة بعد السجن تكشف عن ظاهرة عميقة الدلالة هي "الجنس الصارخ" ونحن ندهش كيف يمكن أن يحدث ذلك بعد ارتفاع السن وكيف يجمع المتناقضات بين قصة جنسية وعمود (فكرة) بما يحمل من اتجاه إلى الله أحيانًا ودعوة إلى الخير (وفي عدد 6 يوليو 1974 يكتب علي أمين أيضًا عن الجنس والرقص) وكيف يمكن إقناع القارئ بهذا التناقض ولكن الذي يفهمه الناس جميعًا أن كلمات (فكرة) خدعة ومصيدة لتضليل القارئ عن مؤازرة الكاتب لهذا الاتجاه الواضح الظهور اليوم في الصحافة الأمريكية والذي تدفع إليه الصهيونية وهو(1/566)
الإباحية، ونحن نأسف لأن الصحافة الأمريكية تصدر الإباحية والصحافة السوفيتية تصدر الإلحاد ونحن بينهما في طاحونة شديدة؛ لماذا لا تعطي هذه التجربة الخطيرة بالسجن تسع سنوات فوصة لمراجعة العمل والحياة، ولماذا لا تعطي إحساسًا حقيقيًا بالعودة إلى الله يتمثل لا في جمع القروش لليلة القدر ولا في الكلمات البراقة، ولكن في التوجه الحقيقي لشخصية لها وزنها وثقلها في عالم الصحافة إلى العمل الخالص، وكفى ذلك التاريخ الطويل السابق، وتلك المحاولة الخطيرة المتصلة التي حملت لواءها الصحافة العربية في العصر الحديث للعمل على إفساد القيم الأخلاقية والدينية، لقد جاء السجن ضربة قوية لإيقاظ النفس، ثم جاءت العودة إلى المكانة الصحفية حجة عليكم من الله تبارك وتعالى حتى يعلم الناس العبرة، والواقع أن الله تبارك وتعالى سبحانه وليس أحد غيره هو الذي وضعكم موضع العقوبة ثم هو الذي عفا عنكم وأعادكم إلى العمل ورد لكم اعتباركم وهو قادر على أن يعيدكم إلى عقاب أشد "ولعذاب الآخرة أشق" فليعلم مصطفى أمين أنه موضع رقابة شديدة من الله وأنه على حافة خطر عظيم.
- ولقد كتب مصطفى أمين يطالب برد الإيمان إلى قلوب أبناء الجيل الجديد فما هو العمل الذي قدمه حقيقة في هذا الميدان، هل حاول أن يقدم القصة الأخلاقية والكلمة الكريمة، هل حاول أن يخفف من هذه السموم المبثوثة في صفحات الجريمة والرياضة والمرأة، هل فتح بابًا جديدًا لزرع الإيمان في النفوس وإعادة الإيمان إلى الصدور، أم هي ألفاظ وكلمات خادعة مضللة يحملها عمود لتكون "تغطية" على ذلك الركام الشديد السواد الذي ما تزال تقدمه الصحافة.
إن اللمسة الإنسانية في تبنى قضايا المظلومين وتحقيق رغبات المحرومين في ليلة القدر لا تكفي، إذ أن التغيير يتطلب الوصول إلى أعماق النفس، إن(1/567)
الدور الذي يشيدون به له في الصحافة هو دور مادي: رفع المرتبات، إدخال فنون جديدة للإخراج، إغراء القراء بالصحيفة عن طريق دغدغة أهوائهم وتقديم مزيد من المرغبات والمثيرات للقارئ، هذا شيء لا يمكن أن يتم إلا على حساب القيم الأساسية للدين والخلق لهذه الأمة.
- وقد علق أحد الكتاب على مدرسة مصطفى أمين، فقال (1):
أولاً: إن مقياس النجاح عند مصطفى أمين هو الإيراد الذي تحققه الجريدة من الإعلانات والتوزيع، وإيراد الإعلانات يضع صاحبه في الخدمة المباشرة للشركات الأجنبية والرأسمالية، وبذلك ظلت صحافة مصطفى أمين قبل يوليو 1952 مخلصة للاستعمار والرأي وأحزاب الأقلية وكبار الرأسماليين.
ثانيًا: صفحات أخبار اليوم تطفح بالإثارة المفتعلة والأخبار الكاذبة والصور العارية والتحقيقات التي تهدف إلى جذب أنظار الناس عن الأحداث الجارية.
ثالثًا: كثيرًا ما صدرت أخبار اليوم بمانشيتات مبتذلة في وقت كانت تتفجر فيه أحداث وطنية وأحداث عامة، وكثيرًا ما أسدلت الصورة العارية والفضائح الشخصية ستارًا من الإثارة على موضوعات هامة وحيوية.
ولا ريب أن تحكيم الإعلان في الصحافة من أكبر أخطار الصحافة ومن أشدها خطرًا الإعلانات المكتوبة على هيئة مقالات.
غير أن أسلوب تقديم الأخبار على النحو الذي ابتكره مصطفى أمين يعمل على: تفتيت الأحداث بدلاً من إعطاء الظاهرة الأساسية الكبرى وراء تجميعها في منطلق واحد، وضآلة القدر المعطى للأصالة والإسلاميات وضياع هذا
__________
(1) روزاليوسف (12/ 9).(1/568)
القدر وسط البرامج المختلفة، بل وفساد مضمونه الأساسي، وقد وصف أحدهم مدرسة مصطفى أمين بأنها مدرسة الرجل الذي عض كلبًا، أي أنها تقدم الإثارة الحقيقية ولا سيما في توافه الأمور التي تروق للبسطاء.
ومن الناحية التاريخية فلحساب الولاء لسعد زغلول غيرت أخبار اليوم حقائق كثيرة وفي مقدمتها تشويه مذكرات محمد فريد بالإضافة إليها والحذف منها (عام 1964) وقد نقلت من مذكرات سعد زغلول ما تحاول تكذيب وقائع محمد فريد، فهي تؤيد سعد زغلول على طول الخط، وسعد عدو ومخالف لمحمد فريد، وقد حاول فريد كشف خططه، بل إن مصطفى أمين أخفى أخطر ما في مذكرات سعد زغلول عندما نشرها في الأخبار، أخفى 150 صفحة منها عن تجربة سعد زغلول مع القمار.
- ولعل أسمى ما تطمح إليه الأمة في هذا العصر هو تطبيق الشريعة الإسلامية، ومع ذلك فإننا نجد مصطفى أمين يسفه هذا المطلب ويقول أن حضارة مصر عمرها سبعة آلاف سنة، ولا يمكن أن تعود القهقرى إلى الخلف وهو يعرف أن تطبيق الشريعة هو المنطلق الوحيد لهزيمة صحافة الإثارة وهو الخطر المترصد بهذه الكوكبة الضالة.
* التابعي ومصطفى أمين وتلاميذهم يحملون لواء الدفاع عن الراقصات والمغنيات والممثلات:
حمل التابعي ومصطفى أمين وتلاميذهما لواء الدفاع عن هذا الصنف من الناس، وأغروا كثيرًا من المخرجين والعاملين في حقل السينما بتصوير حياة الراقصات وتقديمها على أنها بطولات تاريخية وصفحات من حياة أولئك الذين قدموا تلك الصفحات المظلمة من العلاقات غير المشروعة بين العاشقين والسكارى والندامى، وحفلت الصحف بالدعاية لهذا اللون من الأفلام،(1/569)
وجاءت أفلام خطيرة الأسم وخطيرة المضمون: امرأة لكل رجل، المرأة الخائنة.
وكان حقًا علينا أن نتساءل: لماذا هذا الاهتمام بتصوير حياة الراقصات وما يعشن فيه من ابتذال وفحش بين النوادي الليلية والصالونات، ولا ريب أن تصوير هذه الحياة يؤذي النظر ويخدش الأذن ويعطى مثلاً بالغًا غاية السوء للشباب والفتيات ولا يشفع في هذا أنه تاريخ وأنه تصوير حادثة حقيقية فليس كل التاريخ مما يكتب ويروى ويجسد، وليست كل الحقائق تقال، وإلا فهل يجوز مثلاً تصوير ما يجرى في البيوت سيئة السمعة من عبارات وألفاظ وحركات ويعتذر عنها بأنها حقيقة واقعة من الحقائق الواقعة في المجتمع وفي الحياة.
وكان حقًّا على الصحافة العربية التي تحمل أمانة الأداء للعرب والمسلمين أن تتساءل: لماذا هذه الأفلام وما مدى خطورة الجانب الأخلاقي وجانب القدوة السيئة للشباب، وهل بمثل هذه الأفلام يمكن تدعيم المجتمع، ثم كيف تفتح أمام الشباب أبواب الضياع والسلبية وهي تقدم لهم زادًا أقل ما يقال فيه أنه دعوة صريحة إلى الفساد.
وهل ترى لا بد أن نعيد للأذهان أسوأ ما كان يجرى منذ الثلاثينيات والأربعينات مع أنه كان في هذه الفترة صور حقيقية من البطولة والكفاح والنضال في سبيل نيل الحرية ومناومة الغاصب.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فهناك محاولة تحويل الرقص بخلفياته المعروفة، ووجوهه الكريهة، وطوابعه الإباحية والمخمورة، والفاسدة إلى مثل عليا وقيم مع اللعب بالألفاظ وخداع السذج على النحو الذي يكتبه دكتور وعميد كلية عن ابنته الراقصة (1) حيث يقول تلك العبارات الضالة: "كلنا
__________
(1) هي الراقصة فريدة فهمي عضوة فرقة رضا للفنون الشعبية.(1/570)
نرقص بشكل أو بآخر، ولكنها وحدها تتخطى الجسد وتتجاوز الإيقاع لتصبح وحدها إيقاعًا مميزًا".
وهذه هي محاولات الخداع في اتخاذ الأسلوب الأدبي والعبارات البراقة مدخلاً إلى إغراء الشباب الصغير قليل الثقافة، ولقد كان حقًا على هؤلاء المضللين أن يسموا هذه العائلة بالعائلة (المقدسة) وأن يسموا الرقص (ثقافة) وأن يسموا الفن (خالدًا)، وأن يؤلف عن ذلك الكتب وتدبج الصفحات وتقدم الصحافة العربية ذلك كله في إعجاب وتقدير.
* أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر:
دخل مصطفى أمين في الحلقة السابعة من العمر ومع ذلك يتخذ أسلوب القصة الجنسية المكشوفة إطارًا لوضع سمومه وأهوائه؛ وأبرز ذلك كتاباته بعد خروجه من السجن "سنة أولى حب" وغيرها.
ولما توفي سيد كراوية أشهر عازف طبلة في مصر، والذي عمل مع جميع راقصات مصر الشهيرات، أعلن مصطفى أمين أنه لو كان له ولد لعلّمه ليكون عازف طبلة تقديرًا للدخل الكبير، والمقاييس عنده مادية، هذا عرّاب صحيفة أخبار اليوم.
إِذا كان الغراب دليل قوم ... يمرّ بهم على جيف الكلاب
* زكي عبد القادر على درب مصطفى أمين والتابعي من قبله:
دعا زكي عبد القادر إلى نظرية تحديد النسل، وكتب الكثير عن الجنس والإباحية وعن تكريم الراقصات والمغنيات والممثلات وإعلاء شأنهن وتقديس المسرح، جسّم الجنس وكتب القصص الغريبة وهو فوق الستين من عمره بلا أدنى وازع من حياء، وقدّم نماذج مضطربة لا يجوز لرجل مثله أن يطرحها بهذه الصورة العارية؛ لأنها تؤدي إلى إحداث آثار خطيرة في نفوس الفتيات،(1/571)
وكان الأولى ألا يتوسع في تصوير الإثم والخطأ والفساد، وأن يتوسع في التحليل وبيان الأخطاء التي ترجع في مصدرها إلى سوء التربية وغيرها.
- ومن ذلك قصة فتاة يصورها على أنها متطلعة دائمًا إلى الرجال وأنها مغرمة بالعبث بهم وإيقاعهم في حبائلها؛ وأنها لا تعرف الحب مع ذلك، وهي تصلي وتفعل الخير، ولكنها تعمل دائمًا على اقتحام عالم جديد للبحث عن اللهو والتسلية والعبث بالناس، ويمضي زكي عبد القادر في التوسع على أعمدة أربعة في تصوير خواطرها المسمومة، وهو يعنى بأن يقدم هذه الخواطر دون أن يعلق عليها ولو كان يريد حقيقة أن يهدي إلى الرشاد؛ ولكنه لا يفعل شيئًا تجاه ذلك، ولا يصور خطأها وانحرافها، وكأنما هو معجب به راض عنه وهو في السبعين من العمر يهدهد هذه الغرائز ويزيدها اشتعالاً في نفوس أناس ربما كانوا يثقون في كتاباته، ويضعونه في قائمة أخرى غير قائمة أنيس منصور ويوسف إدريس وغيرهم، وفي أكثر من كلمة يتكشف اهتزاز القيم الإسلامية الأصيلة في نفس الكاتب، ولو كان مؤمنًا بها لكان حاسمًا في معالجة القضايا التي يتعرض لها ولما شغف بين آن وآخر بتقديم هذه القصص الإباحية، ولست أدري لماذا يهتم بأن يقول أنها فتاة لها أنوثة طاغية، وأنها نشأت دون رعاية أو رقابة وأنها فتاة مغرورة ليس لها قدر من ثقافة وإيمان تجري مع الأهواء، لماذا الاهتمام بمثل هذه الرسائل وقد نشر منها العشرات في سياق ما كان ينشره من كلمات يتحدث فيها عن الخلق والفضيلة.
هل هذا هو واجب الصحفي صاحب القلم، وهل هذه هي رسالته، الإلحاح على صور الفساد دون أن يقدم العلاج والتوسع في رسم صور الإباحة والوقوف عند ذلك دون أن يحلله أو يظهر خطأه أو يوجه أهله إلى الخير، لماذا الاهتمام بمثل هذه التي وصفها بأنها شيطانة تضج منها الشياطين (أخبار 12/ 3/1978)، وهي تكذب حين تقول أنها تصلي أو تعرف الإيمان(1/572)
أو الصحف الذي في حقيبتها أو أنها حجت وطافت بالكعبة، ثم هي تخاف أن يقع ابنها أو زوجها على هفواتها ومن التبجح أن يقول أنها تعتقد أن السماء تحفظها ولن تتخلى عنها وأن الله يغفر لها ويحفظ سرها، مع أنها لم تزمع التوبة.
- هذا الكلام يراد به تخفيف الجريمة في نظر أصحابها، والتهوين من شأنها وهي محاولة خطيرة في نشر الفساد؛ فإن للتوبة شروطها فإن ستر الله ورحمته لا يكون مع الضالين المفسدين، ولكن مع المؤمنين أو التائبين الذين يستنكرون صفحاتهم السوداء المظلمة ولا يعلنون بها، إن هذه هي محاولة خطيرة في وضع وقائع زائفة في صورة القصة وهي أسوأ ما تقوم به الصحافة في العصر الحديث.
* دعوة زكي عبد القادر إِلى ترك كل القيم والحدود التي رسمها الدين في سبيل الخضوع للعصر:
- قال الأستاذ أنور الجندي في كتابه "الصحافة والأقلام المسمومة":
- يقول زكي عبد القادر (1/ 11/1978): "العالم كله مضطرب ومتلعثم في الأدب والسياسة والاقتصاد والاجتماع وهو مضطرب في العلاقات بين الأفراد والعلاقات بين الطبقات، أنظر إلى الصداقة والحب والكراهية، أنظر إلى الزواج والعلاقات الأسرية بين الزوج وزوجه، بين الآباء والأمهات، أنظر إلى مفهوم الأخلاق والسلوك، ألا ترى أنه يتميع ويتداخل، انظر إلى الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وانظر إلى علاقة الفرد بالدولة بالمجتمع، وأنظر إلى مفهوم الحرية ألا ترى أنه متميع ومتداخل ومتشابك ... ".
- هذا الكلام ماذا يخدم، لماذا إثارة الشكوك حول كل شيء؟ وما هو(1/573)
العلاج؟، لماذا لم يقدم الكاتب للناس العلاج، إن هذا الأسلوب هو أسلوب الماسونية التي تتقنع الآن تحت اسم (الروتاري) وهو مفهوم الصهيونية التلمودية، هذه الدعوة المدمرة إلى إثارة الشبهات وترك الناس بدون حلول.
- ومن أخطاء زكي عبد القادر قوله بأن تربية الأبناء الصحيحة وإعدادهم الإعداد الكامل، هو محاولة لصب هؤلاء الأبناء في قوالب الآباء وإلزام لهم بمنهج التفكير والتصور الذي نشأوا عليه وأنهم بذلك يقضون على شخصياتهم ويطعنون الإلهام والفتوة والقدرة فيهم من قال هذا! إن زكي عبد القادر يريد أن يتابع ذلك اليهودي الذي استشهد به والذي قال أن ابنه له الحق في أن يعرب عن رأية بحرية ولو خالف وجهة نظره هو.
والحق أن هذه محاولة للاتهام بأن هذا الأسلوب صحيح والواقع أنها محاولة لإقرار مفهوم مضلل وافد، ولا ريب أن إثارة مثل هذه الملاحظات وترديدها إنما يوحي بالهدف الذي يرمى إليه زكي عبد القادر وهو متابعة منهج الماسونية الذي يقول مثل هذا.
- ويكتب زكي عبد القادر تحت عنوان "الانفصال عن العصر" في دعوة مسمومة لترك كل القيم والحدود والضوابط التي رسمتها الأديان في سبيل الخضوع للعصر، وهذا ليس إلا مغالطة واضحة للحقائق الأساسية التي يقوم عليها بناء الأمم من أخلاق وقيم وعقائد، وأن هذا الكلام يعني ما يقوله الماركسيون والماديون والوثنيون من إخضاع الأخلاق والقيم للمجتمعات والعصر، ويتعرض زكي عبد القادر لعلاقات المرأة بالرجل والزواج والجنس وأزمة الشباب والجريمة وهو يقصد في هذا أن تتحرر هذه العلاقات من ضوابطها الحقيقية، ويقال هذا ويردد في أفق المجتمع الإسلامي وفي الصحافة العربية بهدف واضح هو تدمير المجتمعات خدمة للماسونية، وإن كان يقال في حرص شديد ومكر شديد أيضًا.(1/574)
* زكي عبد القادر على درب الباطنية:
ْويذهب زكي عبد القادر إلى ترديد كلام الباطنية حين يقول أن الله في داخل الإنسان، وأن في كل فرد جزءًا إلهيًا، ولا يعرف الإسلام هذه العبارات بل هي من نتاج الهندوس والفراعنة والمسيحية، أما المسلمون فإنهم ينزهون ذات الله العليا عن التلبس بالمادة سموا بها عن المماثلة وأن الله تبارك وتعالى كما وصف نفسه "ليس كمثله شيء".
* أحمد بهاء الدين الماركسي يقول: إِن تشريعات الإِسلام لا تلزم عصرنا ومجتمعنا:
وقد وقعت مجموعة جريدة الأهرام (هيكل، لويس عوض، توفيق الحكيم، حسين فوزي، نجيب محفوظ، أحمد بهاء) في المرحلة الناصرية في مواجهة الدعوة لاتخاذ الإسلام أساسًا لقيام نهضة حضارية عصرية في البلاد العربية تكون هي منطلق نداءات الوحدة والتضامن، مع بروز الطابع اليساري الماركسي العلماني الذي كشفته الندوات ورفض التيار المطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية وجعلها أساسًا لقيام مفهوم جامع للأمة العربية الماركسية والرأسمالية على أي انتماء أصيل، وكانت روح الحقد والكراهية للإسلام واضحة في مختلف الكتابات فضلاً عن محاربتهم للمجلات الإسلامية والعربية والدعوة إلى إيقافها (الرسالة والثقافة)، وكان طابع العمل الصحفي واضحًا في عبارات محددة كتبها أحمد بهاء الدين كأنما هي دستور للصحافة العربية في هذه المرحلة.
- قال أحمد بهاء الدين: لا بد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيدًا عن اللف والدوران، وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيمًا خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير، أما ما(1/575)
جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل ومن باب تنظيم حياة نزلت في مجتمع بدائي إلى حد كبير ومن ثم فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا.
وكانت هذه صيحة تلك المرحلة والعلامة البارزة التي سبقتها النكبة ولحقتها النكسة، وهي ليست صيحة دعاة الحضارة الغربية ولا الاستعمار وإنما هي كلمة كل أعداء هذه الأمة، ماركسيين وصهيونيين وغربيين، ذلك القول المردود بكل دليل، القول الباطل بأن الإسلام لا علاقة له بحياة المجتمع ولا تنظيمه ولا دخل له في التشريع ولا في الأحكام والعمل على إبعاد القرآن والسنة وكل ما جاء به الرسول من عند الله عن حياتنا الاجتماعية والسياسية على أن يبقى فقط وازعًا خلقيًا، وهذا ما يسمى بتمسيح الإسلام وهي صيحة كرومر وطه حسين وماركس وسارتر وكل أعداء الإسلام، ولقد كان الماركسيون جميعًا يحملون هذه الدعوى، ويعتقدون أن ماركسيتهم هي وحدها علاج المجتمعات الإسلامية فإذا بهم داؤها وشرها وعلى أيديهم وفي ظل نفوذهم جاءت الضربة القاسمة للأمة العربية في نكسة 1967، ومن الطبيعي أن تكون دعوتهم إلى إبعاد الإسلام لتحل محله الماركسية ولما وجدوا الهزيمة في دعواهم تراجعوا فطالبوا المصالحة بين الإسلام والماركسية من حيث يرون أن الإسلام دين لاهوتى يقوم على مسألة وازع الضمير، وتجعل للماركسية وظيفة الحياة وتنظيماتها، وكان هذا من الأهواء الكاذبة فإن الإسلام بوصفه دينًا ربانيًا سماويًا لا يقبل المشاركة ولا المقارنة ولا أن يصبح مبررًا لدعوات أو حضارات سواء الديمقراطية الغربية أو الماركسية الشيوعية، وإنما هو نظام أصيل له ذاتيته الخاصة، وهو دين ونظام مجتمع في نفس الوقت، وقد قدم منهجًا جامعًا ونظامًا للحياة والمجتمع لن تستطيع أن تلحقه الديمقراطية ولا الماركسية.(1/576)
* أحمد بهاء الدين والهجوم على الشيخ محمد أبي زهرة والمباهاة بانحراف الإِعلام في مسألة المرأة:
حملت الصحافة حملة شعواء على العلماء الذين قدموا حكم الإسلام في المرأة في مواجهة سمومهم وأضاليلهم، وفي مقدمة هؤلاء محمد أبو زهرة، ومحمد الغزالي فحمل أحمد بهاء الدين على الشيخ أبو زهرة وحمل موسى صبري على الشيخ الغزالي.
- يقول بهاء الدين: إن بعض رجال الدين يريدون أن يحتكروا تفسير الدين، وبالتالي يحتكروا تفسير الحياة، ووصف عقولهم بأنها متحجرة في أغلب الأحيان لأنهم عاشوا حياتهم العقلية أسرى بين جدران كتب محددة ووصف معارضة الشيخ أبو زهرة للمفاهيم الماركسية المنحرفة في شأن المرأة بأنها مطالبة بموت هذه الأمة.
ويباهي بهاء الدين بانحراف الصحافة والإعلام في مسألة المرأة، فيقول إن التليفزيون يذيع ساعات طويلة من التمثيليات التي تشترك فيها النساء والأغاني التي تغنيها المطربات والدولة ترسل بعثات من الفتيات إلى الخارج، وإن البنت تذهب بمفردها إلى أوربا، وإن في الأندية الرياضية آلافًا من الفتيات يقدمن التمرينات والألعاب والاستعراضات.
ونحن نقول للكاتب: وهل يكون هذا الانحراف عن المفهوم الأصيل لعمل المرأة ومهمتها وأوضاعها حجة على الإسلام نفسه؟ إن المجتمعات قد تنحرف وقد تتحرى الصواب ولكن مفهوم الإسلام يبقى فوق كل اعتبار، هو الحق الذي لا مرية فيه، ومهما كثر الانحراف؛ فإنه هو الكلمة الأخيرة التي يجب على المجتمعات بعد أن تجرب وتنحرف أن تجد نفسها ولا سبيل لها إلا العودة إلى حدود الله.(1/577)
إن هذه الصورة التي يعرضها الكاتب هي حجة عليه، وهي علامة على الانحراف وليست دليلاً على الأصالة أو على الطريق الصحيح، إن من وراء هذا كله بيوتًا مضطربة ونفوسًا مضطربة أيضًا، ولن يصلح أمر هذا المجتمع إلا بعودته إلى الأوضاع الطبيعية من حيث أن تصبح المرأة مسئولة عن بيتها وزوجها وأطفالها، ونحن نعلم أن وراء هذه الاتجاهات ضحايا كثيرة ومآسٍ عسيرة وإحساسًا يملأ النفوس بأن هذا الطريق ليس هو الصحيح.
- وأخيرًا: انظر إلى استخفاف أحمد بهاء الدين وسوء أدبه يكتب مقالاً له بعنوان "الله يقيم أوكازيونًا في ليلة القدر" وقد ردّ عليه الأستاذ أحمد أمين في جريدة الأخبار في عددها 9474 بتاريخ (22/ 12/1982) وقد قامت القيامة على الأستاذ أحمد زين حين ردّ على هذا المنحلّ دينيًا وقالوا هذه حرب الرأي وحرية الفكر لا نريد رجال الكنيسة مرة أخرى.
* موسى صبري وفجوره وعشيقاته:
وموسى صبرهم يعوى جهارًا ... يسبُّ الحبر يهجو المسلمينا
يهاجم موسى صبري (أخبار اليوم) الشيخ محمد الغزالي؛ لأنه أثار ضجة حول المرأة في اجتماعات المؤتمر الوطني (1962) يقول: يرى الشيخ الغزالي أن الرجل والمرأة سواء في جميع الفضائل والتعاليم الدينية، ومن حق المرأة أن تعمل في التجارة وتعمل مدرسة وطبيبة وممرضة ولا مانع من اشتغالها محامية، ولكنه يرى استحالة مساواة المرأة بالرجل في الوظائف وتولي المناصب القيادية، فالرجال قوامون على النساء بحكم الطبيعة والدين الذي جعل حق الإنفاق وقيادة الأسرة للرجل وشهادة الرجل وميراثه كشهادة وميراث امرأتين، أما مساواة الرجل في الوظائف فإني اكتفي فيها بشهادة ديوان الموظفين عن مدى صلاحية المرأة للتوظيف قبل وبعد الزواج، وهي لا(1/578)
تصلح للمناصب الرئيسية، ويهاجم موسى صبري هذه الآراء ويصف الشيخ محمد الغزالي بأنه عدو جديد للمرأة، ولا ريب أن موسى صبري يعد متطفلاً في هذه المسألة فإن القضية تتعلق بالمرأة المسلمة لا بالمرأة بصفة عامة، وهو والله للمرأة كالذئب للشاة، وأخباره الماجنة مع عشيقاته تزكم الأنوف وسارت بها الركبان، وسلوا فنادق أوربا تخبرك بإثمه وفجوره ودنسه ... أما موقفه من الشباب المؤمن الملتزم بدينه فمعروف.
لو كل كلب عوى ألقمته حجرًا ... لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
- "يتحدث موسى صبري عن حرية الحب في السويد، وينقل إلينا الصورة مع اختلاف البيئة والزمن والدين والتقاليد والقيم الاجتماعية، ويقصد بحرية الحب حرية الجنس، ويفيض في الحديث عن التجربة التي تعلم الجنس للفتيات في سن مبكرة واعتبار الجنس متعة كالطعام والملابس، ويردد عبارات أساطين الجنس والانحلال فيقول: إن ما يباح للشاب يجب أن يباح للفتاة، وأن أحدهم يقول أنه يحترم العلاقة الشاذة بين أخته وصديقها وإنها مسئولة عن نفسها تمامًا.
ولا يتردد موسى صبري أن ينقل لأبنائنا تلك السموم التي ترددها كتابات دعاة التحلل وتدمير المجتمعات كأنما هي "التصريح الذي يؤهلهم لتسلم مراكز القيادة في الصحف" ويتساءل موسى صبري: ماذا تفعل الفتاة إذا أصبحت أمّا بغير زوج؟ والجواب: هو إما أن تتخلص من جنينها، أو أن الدولة كفيلة برعايته، والابن غير الشرعي له تقدير في نظر المجتمع وهكذا نجد أن الصحافة تنقل لنا سموم المجتمع الغربي لا بقصد تفسيره في ضوء مجتمعاتنا ولا من أجل تبريره والدفاع عنه بل لهدف أخطر وأشد خطراً هو أن تصبح مجتمعاتنا منقادة لهذه الأعراف الفاسدة الضالة وقابلة لها وهم يضعون بين يدي المنحلين والفاسدين العبارات والوسائل والدفوع التي(1/579)
يتذرعون بها في دعواهم وفي محاولاتهم لخداع الفتيات واغتصاب البريئات.
- "الابن غير الشرعي له كل تقدير في نظر المجتمع" هذه العبارة لا ترمي إلا إلى أن تهدم مقومات هذا المجتمع المسلم الذي يقوم على أساس حماية العرض وإنكار الزنا، وتقوم شريعته الإسلامية على أساس الضرب على أيدي المفسدين بالجلد والتنكيل.
ثم يصور لنا موسى صبري كيف أن هذه الدول التي يصل الدخل القومي فيها إلى أعلى مستوى في العالم يقوم شبابها على أساس إدمان المخدرات والخمور وأن عشر الذين يصلون إلى سن البلوغ في السويد يتعرضون لاضطرابات عقلية تلازم أمراضهم الجسدية، ألا يكفي هذا في نظر الكاتب صاحب الأمانة لوطنه وقومه أن يتوجه إليهم بالحديث على نحو آخر.
ولكن هذه هي الصحافة ورسالتها كما فهمها هذا الجيل، وهي التي وصلت بهذه الأمة إلى الهزيمة والنكبة والنكسة.
* محمد عودة الماركسي يثني على علاقة سيمون في بوفوار مع عشيقها سارتر ويقول إن الثورة الاشتراكية ثورة في العلاقة بين الرجل والمرأة:
تهتم الصحافة اليومية بتقديم النماذج الفاسدة المنتقاة من جميع صحف العالم، وتعنى بالمرأة الآبقة (سيمون دي بوفوار) وتردد كثيرًا مقالتها وآراءها في الهجوم على العفة والأخلاق والقوامة.
وقد أولتها اهتمامًا خطيرًا أثناء زيارتها لمصر مع جون بول سارتر وحاولت أن تصور هذه العلاقة بأنها أعلى وأكبر وأجل من علاقة الزواج من حيث إن سيمون ليست زوجة شرعية لسارتر ولكنها محظية، ولقد نشرت الصحف فخرها بهذه العلاقة، واهتمت بتصويرها وإعلاء شأنها، مع أن(1/580)
تحسين هذه العلاقة يرمز إلى احتقار مفهوم الزوجية الشرعي، ويدمر مفهوم علاقة الرجل بالمرأة في وضعها الطبيعي ومن الأسف أن اهتمت الصحف بعباراتها التي قالت عنها أنها تدعو إلى تحطيم قوامة الرجل وأي وصاية من الرجل على المرأة.
- ويصور هذا المعنى تصويرًا مسمومًا الكاتب الماركسي محمد عودة (الجمهورية 19/ 1/1967) فيقول:
"هي علاقة قد لا يفهمها البعض عندنا بمقاييسنا الشرقية وذلك كما لا يفهمها أيضًا البعض في أوربا المحافظة، ولكنها إحدى العلاقات التاريخية التي تقوم على أعمق وأصدق ما تقوم عليه العلاقة بين الرجل والمرأة، وقد أغنت الحياة الأدبية والعاطفية للعصر كله، وهي علاقة لا بد أن يفهمها ويستشعرها شبابنا وفتياتنا لأن الثورة الاشتراكية هي أيضًا ثورة في أعم علاقة إنسانية وهي العلاقة بين الرجل والمرأة".
وهذه العبارات المسمومة لا تعني أكثر من قلب للمفاهيم الأصيلة التي يعرفها الناس جميعًا عن العلاقات الشرعية بين المرأة والرجل حسبما أحل الله ذلك وأن كل علاقة غير هذه، أو من هذا النوع الذي يجهر به سارتر وسيمون هو نوع من الدعارة والزنا والفساد الذي لا يقره عرف ولا شرع، والذي لا يرضى عنه أي دين أو أي مذهب، أو أي نحلة فحين يحاول أمثال محمد عودة من الشيوعيين تحسين هذه العلاقة وتصويرها على هذا النحو الفاسد إنما يروجون لمفهوم معروف في الشيوعية وفي المذاهب المادية، وهو الإباحية؛ فإذا قيل أنها أغنت الحياة الأدبية والعاطفية، فبماذا أغنتها إلا بتلك الصفحات المسمومة السوداء التي تصور علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة، والتي تصور أسوأ من هذا، تلك الانحرافات التي تتصل بالكاتبة في علاقات أخرى، وهذا هو ما يسميه محمد عودة وغيره ثورة في العلاقات الإنسانية أي(1/581)
هدم لكل القيم؛ إن العلاقة بين سارتر وسيمون وما كتب عنها هي أسود صفحة في تاريخ العلاقات بين المرأة والرجل على السواء؛ لأنها هدم للمجتمع والدين والخلق على السواء، ويكفي من دجله وبيان كذبه ومغالطاته مقاله في صحيفة "الجمهورية" الأربعاء (19 أبريل 1967) في الصفحة الأخيرة وتحت عنوان بالخط العريض "ليس من المستحيل التوفيق بين الإسلام والماركسية" ورد عليه العلاّمة المجاهد محمود عبد الوهاب فايد في مقال نشر بمجلة الاعتصام في عدد صفر 1387 هـ - الموافق 11 مايو 1967 م تحت عنوان بديل: "من المستحيل التوفيق بين الإسلام والماركسية - الإلحاد والإيمان ضدان لا يجتمعان".
* مدرسة صلاح جاهين الإِلحادية:
صلاح جاهين ومصطفى حسين وردتهما وتطاولهما على النبي - صلى الله عليه وسلم -:
نقلت الصحافة العربية فنًا غريبًا من فنون النقد الاجتماعي والسياسي هو الكاريكاتير أو الصور الساخرة، وهو عمل يقوم على السخرية من كل القيم ويحارب كل مفاهيم الأصالة في سبيل إضحاك القارئ، وتبدأ الحملة فيه على كل وجه من وجوه الخير من نقد لعلماء الدين أو زي المرأة المسلمة أو الغمز للصوم والصائمين، أو الهجوم على شهر رمضان أو إذاعة التفاهات من الكلمات والفكاهات والعبارات النازلة، وقد كان من أسوأ هذه الصور كاريكاتير الشيخ متلوف الذي استمر في مجلة روزاليوسف سنوات في نقد لاذع لكل القيم التي يمثلها عالم الإسلام، بل إن صلاح جاهين قد جاوز بعد ذلك كل الحدود حين أجرى الكاريكاتير على أعلى قيم الإسلام، وسخر هذا الملحد كثيرًا من الإسلام وجعل كاريكاتيره الغمز واللمز وحرب الإسلام.
- وجاء مصطفى حسين فرسم الديك وزوجاته وكتب تحته: "محمد(1/582)
أفندي والزوجات التسع" يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجاته أمهات المؤمنين، ونشرت أيضًا جريدة المساء المصرية التي يملكها مجلس قيادة الثورة المصرية سنة 1382 هـ - 1962 م صورة كاريكاتيرية تتمثل في وجه إنسان ورجل يقول: "أهو دا محمد أفندي اللي اتجوز 9" والهدف معروف من وراء هذه الإشارة كما نشرت جريدة صباحية كاريكاتورية رسمًا للاعب كرة وهو يضرب عمامة أحد علماء الأزهر بدلاً من كرة القدم.
وعلى أثر حادث الإرهابيين في فيينا رسم صورة كتب تحتها يصف الإرهابيين بهذه الأوصاف خديجة مائير، أحمد ليفي إلى آخر هذه الأسماء لماذا اختار هذه الأسماء الإسلامية الكريمة ليصلها بأبغض الأسماء.
- عامله الله بما يستحق - وإلى مزابل التاريخ ذهب هو ومدرسته وتلامذته وعلى رأسهم:
سندريللا الشاشة العربية تلميذة صلاح جاهين سعاد حسني والجزاء من جنس العمل:
- {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} هذه التي أفسدت الشباب والفتيات برقصها ومرحها ودلها وأدوارها الماجنة وألهبت الشباب بحركات وجهها، وكان جزاؤها من جنس عملها، أبدلها الله بمرحها كبتًا نفسيًا وعزلة لم ينجها منها العلاج في أكبر مصحات بريطانيا وأصيبت بشلل في وجهها وزيادة في وزنها وشرخًا في عمودها الفقري، فقبح منظرها ثم كانت الخاتمة انتحارًا أو قتلاً ..
ومن المعلوم أنها غرقت في كدر الشيوعية بسبب زوجها السابق الشيوعي، وبسبب أستاذها صلاح جاهين.
***(1/583)
* سيدة الشاشة العربية وتمثيلها لفيلم "أريد حلاً" وفيه من التطاول على الشريعة ما فيه:
كيف قبلت تمثيل هذا الفيلم وهو محاولة خبيثة للنيل من الشريعة الإسلامية والطعن في تعاليمها فالقصة التي قام عليها تصور حياة شابة اكتشفت بعد الزواج أن زوجها رجل فاسد الطباع منحرف الأخلاق فلجأت إلى القضاء الشرعي تطلب الطلاق للضرر، واستطاعت أن تثبت ذلك الضرر، وبدلاً من أن ينصفها ذلك القضاء سد في وجهها أبواب الرحمة باسم الدين وضيق عليها منافذ الحياة باسم تعاليم الشريعة الإسلامية ثم ألجأها إلى رهبانية رهيبة لا يعرفها الإسلام، رهبانية امتصت رحيق شبابها وحيويتها وجعلها تصرخ "أريد حلاً" ولم تجد حلاً فعاشت للعذاب والشقاء، وهكذا صوروا لها الإسلام وصوروه لكل من شاهد الفيلم، الإسلام الذي أعز المرأة ورفعها إلى المستوى الإنساني بعد أن كانت تعامل معاملة السائمة والعبيد في أمريكا والذي سوى بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات، وجاء بتشريع كامل شامل ينظم الأسرة ويضمن للمرأة كافة أسباب الحياة الكريمة زوجة وبنتًا وأمًا.
- ونتساءل كيف حدث هذا، فتتجه أصابع الاتهام إلى المخرج فهو مسلم بحكم شهادة الميلاد، وهو من ألد أعداء الإسلام بحكم نزعته واتجاهه، لقد أخذ قصة تنقد بعض أوضاع المحاكم الشرعية في مصر فحولها إلى معول لهدم الشريعة، واستند في إخراجها إلى عناصر لا دينية ولها انتماءات ماركسية ثم أعد لها دعاية ضخمة بلغت تكاليفها أكثر من ميزانية الفيلم نفسه وطبعًا دفعت هذه المبالغ جهات لها مصلحة في النيل من الإسلام وزعزعة إيمان ضعاف النفوس من أبنائه، والعجيب أن الرقابة على الأفلام في مصر(1/584)
صرحت بالفيلم مع التقدير الشديد، والهيئات النسائية رحبت به ترحيبًا خياليًا واعتبرته الدفاع الصحيح عن المرأة التي ظلمها الإسلام، والأعجب أن أحدًا من علماء الأزهر لم يتنبه إلى خطورة ما يهدف إليه الفيلم وخطورة الحملة الدعائية التي صاحبت ظهوره، وجعلته يعرض في الدول العربية وجعلت الناس يتهافتون على مشاهدته، ثم جعلت نساء البلد الذي أنتجه يطالبن بضرورة تعديل قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية واستبدالها بقوانين مستوردة من الكتلة الشرقية (أمينة الصاوي).
* يوسف وهبي فنان الشعب المدمن للخمر لا يرى تحريم الخمر:
ما أصدق ما قال هنري فورد في كتابه "اليهودي العالمي" بأن اليهود من أجل تحقيق غايتهم قد سيطروا على ثلاثة أشياء: البنوك للربا، والسينما لتقديم مفاهيمهم المسمومة، ومعامل الملابس والمساحيق والعطور، وسواها من مستلزمات الموضة؛ بل ونزيد هنري فورد شيئًا رابعًا وهو الصحافة .. فها هي الصحافة العربية تدافع عن الخمر بنشر إعلاناته، وإيراده في كل قصة ورواية، بل وتدافع عنه عن طريق شاربيه ومدمنيه الذين يدافعون عنه أمثال يوسف وهبي (مجلة روزاليوسف - العدد 1457).
- قال: لا أرى أي شيء طالما أن الضرر أو النفع يعود على الشخص نفسه، فأنا أمقت تحديد الحريات ما دامت هذه الحريات تعبر عن إطلاق القيود في المجتمع، وكل امرئ مسئول عن عمله وكل فرد هنا له عقل يعرف كيف يتصرف به؛ فإن من يمنع شيئًا بالقوة مثل من يمنع اللص من السرقة بوضعه داخل أربع جدران، وتحريم الخمر يماثل أمر الحاكم بأمر الله الذي قضى على زراعة الكروم ليمنع الناس من شراب النبيذ.
وينسى يوسف وهبي أو يتجاهل مدى الأخطار الاجتماعية التي تصيب(1/585)
شارب الخمر وتحريم الشرائع والأديان لها، بل ويتجاهل ما يقوله الأطباء من أخطارها على الكبد والمعدة والعقل.
* يوسف شاهين وتزوير التاريخ .. يجعل شعار صلاح الدين الدفاع عن العروبة .. ويجعل عيسى العوام -البطل المسلم الشهيد- نصرانيًّا:
حملت سينما يوسف شاهين وفيلمه "الناصر صلاح الدين" سمومًا صليبية حين صور معارك "حطين" وفتح القدس على يد البطل المسلم الكردي صلاح الدين صوّرها على أنها معارك عربية أو مصرية ضد القوى الأجنبية الغازية مع إخفاء وتجاهل وحجب البعد الإسلامي - وهي معارك بين الغرب الصليبي وعالم الإسلام وأنها كانت تستهدت اقتلاع الإسلام من جذوره .. ويصور يوسف شاهين صلاح الدين أنه بطل عربي يكثر في حديثه الكلام عن العرب والعروبة وهذا دجل، وبلغ دجل يوسف شاهين وكذبه وزوره أنه جعل عيسى العوام مسيحيًا يعلق الصليب على صدره، ويكفي أن أذكر من المصادر التاريخية التي كتبها ثقات علماء المسلمين الذين عاصروا عيسى وعايشوه ما يكفي لإلقام هذا الدجال يوسف شاهين حجرًا.
- يقول القاضي بهاء الدين بن شداد في كتابه "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" أو "سيرة صلاح الدين" تحت عنوان "ذكر قصة العوام عيسى -رحمه الله-: "ومن نوادر هذه الواقعة ومحاسنها أن عوامًا مسلمًا يُقال له عيسى، وكان يدخل إلى البلد (1) بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً، على غرَّة من العدو، وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو، وكان ذات ليلة شدّ على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار وكُتب للعسكر، وعام في البحر فجرى عليه من أهلكه وأبطأ خبره عنا، وكانت
__________
(1) أي: عكا.(1/586)
عادته أنه إذا دخل البلد طار طير عرّفنا بوصوله، فأبطأ الطير، فاستشعر الناس هلاكه، ولما كان بعد أيام بينما الناس على طرف البحر في البلد، وإذا البحر قد قذف إليهم ميتًا غريقًا فافتقدوه فوجدوه عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب، وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رؤي من أدّى الأمانة في حال حياته، وقد أدّاها بعد وفاته إلا هذا الرجل، وكان ذلك في العشر الأخير من رجب (1) " اهـ.
فما يقول يوسف شاهين الصليبي الدجّال؟! وهل هذا من الأمانة أن تجعل من شهيد مسلم نص ابن شداد على إسلامه نصرانيًّا؟!!
* ومن تزويرهم للتاريخ:
وإن تعجب فاعجب من قول العصراني الدكتور محمد عمارة عن صلاح الدين الأيوبي أنه "القائد الإقطاعي البارز؟! " (2).
"ويأسف الدكتور عمارة لانتصار المسلمين في الحروب الصليبية؛ لأنها أعادت الحيوية للإقطاع العربي، فلقد كانت الحروب الصليبية مرحلة من الأحداث الكبرى التي أتاحت للإقطاع العربي فترة من استرداد الحيوية والنشاط" (3).
- د. محمد عمارة الذي يصف الفتح العثماني بأنه "طوفان الدمار التركي وأرجال الجيش العثماني الذي لفّ العالم العربي بردائه الأسود أكثر من أربعة قرون" (4).
__________
(1) "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" أو "سيرة صلاح الدين" للقاضي ابن شداد
(ص 135، 136) - تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال - الطبعة الأولى.
(2، 3) "فجر اليقظة العربية" لمحمد عمارة (ص 228) عن غزو من الداخل (ص 17).
(4) "فجر اليقظة العربية" (ص 362).(1/587)
وانظر إلى سقطة أخرى من سقطات محمد عمارة فقد قال عن عمر بن الخطاب "فقد كان رائد التمييز بين السياسة والدين مع معارضة جمهور الصحابة له، ولقد بنى الدولة الإسلامية على هذا التمييز (1) أي: أن عمر بن الخطاب كان العلماني الأول في الإسلام وانظر إلى طامة أخرى من طوامه إذ قال عن حروب الردة:
"فحروب الردة لم تكن حروبًا دينية، ولا حرب علي مع خصومه كانت دينية؛ لأنها كانت حربًا في سبيل الأمر، أي الخلافة والرئاسة والإمامة وهذه سلطة ذات طبيعة سياسية ومدنية، ومن ثم كانت الحروب التي نشبت لأجلها سياسية ومدنية هي الأخرى" (2).
- وصفهم قراقوش بأنه رمز لكل مستبد جائر، مع أنه من أبطال الإِسلام العظام وهو نائب صلاح الدين:
وراء ذلك كله الأسعد بن مماتى وله كتاب "الفاشوش في أحكام قراقوش" وسار ذلك مسرى النار في الهشيم وسط العامة والخاصة إلا من له إطلاع وافٍ على كتب التاريخ.
- يقول ابن خلكان: "إن صلاح الدين كان يعتمد في أحوال المملكة عليه، ولولا وقوفه بمعرفته وكفايته ما فوّضها إليه".
وكان القاضي الفاضل وزير صلاح الدين لا يدع رسالة يأتي فيها ذكر الأمير العظيم بهاء الدين قراقوش حتى يملأها مدحًا وثناءً عليه، وعلى جده ونشاطه وصبره وإخلاصه وأمانته، ثم ذلك ما عرفه الصليبيون فقالوا عن شخصية بهاء الدين قراقوش أنها شخصية رجل محارب، له روح غريبة،
__________
(1) "المعتزلة وأصول الحكم" لمحمد عمارة (ص 348).
(2) "المعتزلة وأصول الحكم" (ص 348).(1/588)
أدهشت الصليبيين وأثارت إعجابهم بشجاعة صاحبها، ومهارته وقدرته حتى نظروا إليه على أنه جندي وقديس معًا" (1).
- قال عنه العماد الأصفهاني في وفيات سنة سبع وتسعين وخمسمائة وهي السنة التي مات فيها بهاء الدين قراقوش: "وفيها توفي الأمير بهاء الدين قراقوش، وهو من القدماء الكرماء، وشيوخ الدولة الكبراء، أمير الأسدية ومقدمها، وكريمها ومكرمها، ولم أر غيره خصيًا لم تقاومه الفحول، ولم يؤثر في مجال مأثراته المحول، وله في الفتوحات والغزوات مواقف معروفة ومنامات موصوفة وهو الذي احتاط على القصر حين استتبت على متوليه أسباب النصر، وذلك قبل موت العاضد بمدة.
ولما خُطِب لبني العباس بالديار المصرية، تسلم القصر بما فيه، واستظهر على أقارب العاضد وبنيه، وتولى عمارة الأسوار المحيطة بمصر والقاهرة، وأتى فيها بالعجائب الظاهرة وكان معاذ الالتجاء، وملاذ الارتجاء.
- ولما احتاج السلطان صلاح الدين إلى إقامة الجسور، وتطهير الترع، وتشييد القلاع والأسوار المحيطة بالبلاد لتقيها شر الغارات التي قد تأتي إليها من جانب الفرنج تارة، والشيعة المنبثين في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي تارة أخرى لم يكن لهذه المشروعات العظيمة إلا الأمير قراقوش، ولعل أول ما قام به الأمير من ذلك قلعة الجبل، ثم قلعة المقس، وهي برج كبير بناه الأمير على النيل، وبنى بالقرب منه أبراجًا أخرى، ثم أقام سورًا عظيمًا على حافة الصحراء الغربية، واستغرق منه ذلك من عام 567 هـ حتى 569 هـ، ثم أمره السلطان صلاح الدين ببناء سور يحيط بالقاهرة وتم له ذلك، "وأمن
__________
(1) ثلاث شخصيات في التاريخ: "ابن المقفع صلاح الدين قراقوش" للدكتور عبد اللطيف حمزة (ص 396) الهيئة المصرية العامة للكتاب.(1/589)
أهل القاهرة من يد تتخطف ومجرم يقدم ولا يتوقف" كما قال القاضي الفاضل، وسُرّ السلطان برسالة القاضي وبخادمه قراقوش، وعلم أن الله تعالى يريد بدولته خيرًا، إذ قيض لها مثله ومثل وزيره القاضي الفاضل.
- ومن أعماله العظيمة بناء سور حول عكا بعد أن تهدم من شدة القتال، وحاصر الفرنج عكا عامين، ذاق فيهما الأمير والمسلمون معه الأمرّيْن، بل ذاقوا هنالك أقسى ما عرفته المحنة الصليبية من ألم وتحملوا فيهما أشق ما مرّ بها من جهد ونصب، ودخل الصليبيون عكا، وانهالوا على أهل المدينة نهبًا وذبحًا وأسرًا، وكان الأمير نفسه ممن أسر بعد أن ثبت ثبات الأبطال وصبر صبر الرجال، وشدّ من عزائم من معه من الجنود، وبقي في الأسر حتى أفرج عنه حين عقد الصلح، وكان يوم الإفراج عنه يوم سرور عظيم؛ إذ فرح به السلطان الناصر صلاح الدين الفرح كله، لما كان له عليه وعلى الإسلام كله من الحقوق، فبقي الأمير إلى جانب السلطان ينيبه عنه في أخطر المواقف لم يفارقه حتى فارق صلاح الدين هذه الدنيا.
- هذه صفحة في إنصاف بطل من أبطال تاريخنا "وما أضيع الأمة حين يكون حاضرها لا أصل له ولا ماضٍ ولا تاريخ".
* أهل الفن وتجارة الغرائز .. الكعبة .. والراقصة!!:
عُرضت في عام 1991 م مسرحية في مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة وفوجئ المشاهدون بمشهد تظهر فيه الكعبة المشرفة -قبلة المسلمين ورمز وحدتهم ومحل حجهم ومكان تطهرهم- وقد خرجت منها راقصة ترقص بصورة فاضحة، ثم تتحول الكعبة إلى برميل بترول!!!
جرى هذا المشهد في مسرحية تُعالج "الزار" الذي يلجأ إليه العوام الجهال، فما العلاقة بين الكعبة والزار؟!.(1/590)
- واستخدمت الكاتبة صافيناز كاظم قلمها في التنبيه إلى الجريمة ومرتكبيها الذين يستعدون -فيما بعد- ليبولوا في حلوقنا (!! ) (المصور 6/ 9/1991 م) بعد أن جرحوا مشاعر المسلمين ومقدساتهم، وهاجت الدنيا وماجت، ولكن الذين قدموا المسرحية أو ساعدوا على تقديمها، حققوا لأنفسهم شهرة كبيرة ودعاية عظيمة، بل أتيح لهم أن يظهروا على شاشة التلفزة للناس بعيون جريئة: لم نكن نقصد!! أو أن الناس فهموا خطأ!! ثم كان لسان حالهم يقول للجمهور: موتوا بغيظكم.
- من يتصدى لهذه البذاءات يوصف بالتطرف والتخلف والسلفية والردة والظلامية ... إلى آخر القاموس البذيء الذي يستخدمه أصحاب هذه السفالات، وأنصارهم من حملة الأقلام غير المتوضئة (1).
* المسرحية التي تسخر وتستهزئ بالملائكة .. (الرجل اللي ضحك على الملائكة! ):
والمسرحية المصرية التي تستهزئ بملائكة الرحمن بعنوان "الرجل اللي ضحك على الملائكة" وتقوم فكرتها على أن الآخرة لا بد أن يكون فيها عمل وتجعل الملائكة في وضع ساخر، حيث يضحك مدير الشركة الذي سلب ونهب في الدنيا على الملك فيقطع ورقة من دفتر حسابه بعد أن أجبر على اعتبار نومه عبادة، متمسكًا بأن هنا مبدأً دينيًّا فلما ذهب الملك للاستفتاء سرق ورقة إدانته.
***
__________
(1) انظر: "أهل الفن وتجارة الغرائز" لحلمي محمد القاعود (ص 79 - 80) - دار الاعتصام.(1/591)
* كوكب الشرق:
كوكب الشرق ضاع قومي لما ... تاه في حبك القطيع وهاما
- يقول صالح جودت شاعرهم في قصيدة عنوانها "دور الشعر والفن في تعزيز أخلاق الأمة أو انحلالها" في الملتقى الفكري الإسلامي التاسع بمدينة تلمسان بالجزائر، أول شهر رجب سنة 1395 هـ!!!.
وبئس ليل ما به آهةٌ ... من أم كلثوم ومن أسمهان (1)
أي والله هكذا!!!
- خدِّريهم يا كوكب الشرق:
- قال الشيخ يوسف العظم: "يقولون إن أم كلثوم ظاهرة عجيبة، وأضيف، وظاهرة تخديرية رهيبة، ما أصابتنا كارثة، أو حَلَّت بنا مأساة إلا وقفت تغني لليل، والخمر والحب الضائع، حتى في أعقاب الكارثة المدمرة، في الخامس من حزيران، وقفت تغني للمترفين، والدم البريء يسيل على كل رابية، والعار الأسود يُجلِّل جباه المخدَّرين والمخدَّرات، ممن راحت تصفع وجوههم، ولا يشعرون "هذه ليلتي وحلم حياتي" لعل هذا الضياع الذي أصاب الأمة، وهذا الخدر الذي سرى في أعصابها هو الذي دعا صحفيًا إلى القول في صحيفته البيروتية مباهيًا دون خجل: "إني أعرف مكانة أم كلثوم عند العرب، وأعرف كذلك أن حب الكثيرين لها يوازي حبهم لفلسطين" (2).
***
__________
(1) "في رحاب الأقصى" ديوان ليوسف العظم (ص 272) - المكتب الإسلامي.
(2) المصدر السابق (ص 212).(1/592)
- يقول يوسف العظيم:
"كوكب الشرق" لا تذوبي غراما ... ودلالاً وخرقة وهُيَامَا
لا ولا تنفثي الضياع قصيدًا ... عبقريا أو ترسلي الأنغاما
فدماء الأحباب في كل بيت ... تتنزَّى وتبعث الآلاما
وجراح "الأقصى" جراح الثكالى ... ودموع الأقصى دموع اليتامى
أيها الشعب خدَّرته "الليالي" ... مثقلات تفجّرت آثاما
فعن الحق تارة يتلهّى ... وعن النور تارة يتعامى
يتهاوى على ذراع طروب ... أو لعوب في حضنها يترامى
وإذا الشعر بالكئوس تغنى ... والنواسيّ عانق الخيّاما
وأنين الكمانِ صار أذانا ... في حمى البيت والنديمُ إِماما
وِإذا ليلتي وحلم حياتي ... لم تحطم في فجرها الأصناما
فإِلامَ الجهاد يا "كوكب الشر ... ق" وما بالنا نهزُّ الحُساما
لا تغنى الخَيّام يا "كوكب الشر ... ق" وتسقى من راحتيْه المُداما
ففلسطين لا تحب السُّكارى ... ورُبَى القدس لا تريد النياما
ولو أنّ الخيّام يبعث حيًا ... هَوَتِ الكأس من يديه حُطاما
"كوكب الشرق" شاع قومي لما ... تاه في حبك القطيع وهاما
قد أطاعوا الهوى فضلّتْ دروب ... سلكوها وقد أباحوا الحراما (1)
منحوك الإِعجاب يا ويح قومي ... وعلى الصدر علّقوك وساما
ناوليهم من راحتيك كئوسا ... وامنحيهم من ناظريك ابتساما
واجعلي الفن ردَّةً وضياعا ... لا أحاسيس أمةٍ تتسامى
__________
(1) ومنه الغناء فهو حرام.(1/593)
ودَعيهم في كل واد يهيمون ... ن سكارى ونكَّسى الأعلاما
خدِّريهم باللحن يا كوكب الشر ... ق وصوغي من لحنك استلاما
أيها السادة الكبار سلاما ... قد قتلتم في كل نفس سلاما (1)
- اعجب يا أخي: بعد هزيمة حزيران بأيام سُئِلت أم كلثوم عن أهم صفة في عبد الناصر؟ فقالت: إنسانيته (2).
- هل غاب وعيك يا كوكب الشرق أم خدِّرت قومك.
- العندليب عبد الحليم حافظ الذي صفق طويلاً للدجاجلة وضيع شباب الأمة:
في أول يونيه 1967 نُشر في العمود الثالث من الصفحة الأخيرة بجريدة الأهرام أي: قبل الحرب بأربعة أيام خبرٌ نصه:
"وضع مجدي العمروسي مدير صوت الفن جميع الإمكانيات تحت تصرف إدارة التوجيه المعنوي في القوات المسلحة، كما بدأ في طبع 40 ألف صورة كارت بوستال عليها صورة عبد الوهاب، و40 ألفًا عليها صورة عبد الحليم حافظ، و40 ألفًا عليها صورة نجاة الصغيرة، و40 ألفًا عليها صورة شادية على كل منها إهداء من صاحبتها .. سترسل من الغد إلى جنودنا الرابضين في الجبهة" (3).
- وفي كتابها "جندي من إسرائيل" تقول ابنة موشي ديان عن أيام ما
__________
(1) قصيدة خدريهم "يا كوكب الشرق" من ديوان "في رحاب الأقصى".
(2) "تذكير الحكام بأيام الله" للدكتور جابر الحاج (ص 62) - دار الاعتصام.
(3) "وبالحق صدعنا في وجه الطغيان" للشيخ محمود عبد الوهاب فايد (ص 95) دار الاعتصام.(1/594)
قبل المعركة مباشرة "كانت إذاعات العدو (1) تقول: قاتل وأم كلثوم معك في المعركة .. قاتل وعبد الحليم معك في المعركة".
نعم .. إنه عبد الحليم حافظ المسئول أمام الله عن ميوعة الشباب وتخنثهم وضياعهم في تيه الأغاني والحب وكل ما هو محرم .. يكفي فيلم واحد من أفلامه "أبي فوق الشجرة" فما ظنك بتدمير شباب أمة بالكامل.
- أليس هو الذي غنى "قدر أحمق الخطا .. سحقت هامتي خطاه"، أما علم الناس أغيته الداعية إلى الاشتراكية الساخرة من الرجعيين
ونطبل لك كده هو ... ونزمر لك كده هو
ونقول لك يا عدو الاشتراكية ... يا خاين المسئولية
أليس هو القائل "انتصرنا" في وقت الهزيمة.
- نذكر الناس بأغنيته التي حوّلت الشعب إلى قطيع يأتمر بأمر الطاغية "جماهير الشعب تدق الكعب .. تقول كلنا صاحيين"، لقد كان عبد الحليم صوتًا للشمولية في قسوتها، وبشاعتها ضد شعبها وأمتها، وكان لسانًا للقمع الذي أخضع الشعب لسطوته وقهره، كان رمزًا لزمن الهزائم والعار، وعدّه العدو جنرالاً يحارب به النظام معاركه الخاسرة دائمًا.
لماذا عبد الحليم وشقشقاته وطقطقاته التي ترضي الزعيم الفلتة المفلوتة من دورة الزمان؟!
في ذكرى وفاة المطرب عبد الحليم حافظ العشرين -بل وفي كل سنة- فرضت أجهزة الدولة الإعلامية زفة عن عبد الحليم في أكثر من عشر محطات إذاعية وأكثر من عشر قنوات تلفزيونية، فضلاً عن جرائد السلطة ومجلاتها طوال أسبوعيين تقريبًا، وفي كل أوقات البث والإرسال موضوع عبد الحليم
__________
(1) أي: المصريين.(1/595)
حافظ في مجال الأغنية، ومجال السينما، ومجال الموسيقى، ومجال الأسرة ومجال الصحة، ومجال الزواج السري ... إلخ.
ووضعت عبد الحليم في صورة البطل القومي الذي لا تتم الوطنية والقومية والثورية إلا بمعرفة تاريخه منذ التقت به إحدى المذيعات في الطريق وقدمته للجمهور حتى رحيله في إحدى المدن الأوربية ذات يوم من شهر مارس .. مات وأنبوبة العلاج قد وصلت إلى حنجرته .. أي والله حنجرته حيث الأحبال الصوتية مكان الغناء ولا يظلم ربك أحدًا .. والجزاء من جنس العمل، تُعلق صوره على صدور الشباب من الجنسين وفي الشوارع وعلى الأرصفة ويُصوّر في صورة البطل الذي تفتقده الأمة ليخلصها من متاعبها وهؤائمها، وفي الوقت نفسه تحل ذكرى شيخ الأزهر جاد الحق والشيخ الغزالي فما سُمِع صوت ولا حديث ولا تعليق من أجهزة الدعاية الحكومية.
- إن عبد الحليم حافظ وزمانه في خانة غير مرغوبة بالمعايير الصحيحة للشعوب الحية التي تحترم دينها وتبحث عن الحرية والأمل الحقيقي (1).
إيه يا زمن عبد الحليم حافظ .. زمن تنطق فيه الرويبضة .. السفيه يتكلم في أمر العامة يصدق فيه الكاذب ويكذب فيه الصادق.
وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهةً ... وقال الدجى للصبح أنت مُؤَسَّسِي
فقالوا لظَلْمات الليالي "تنفّسي" ... وقالوا لشمس الصبح "مالك عسعسي"
وشاهدت غوريللا تُباهي بحسنها ... قطيع ظباء مائسات وكُنَّس (2)
وشاهدت من يشري العزيز بدرهم ... ومن باع ماء الوجه فيها وبأبخس
__________
(1) انظر: دفاعًا عن الإسلام والحرية .. قراءة في الأحداث والرموز لحلمي القاعود (ص 148 - 150) - دار الاعتصام.
(2) مائسات وكنس، أي: متمايلات وسائرات في كناسها أي: منامها بين الشجر.(1/596)
وأصبح للشوك الأثيم مَعَارَض ... ولم أر فيها من ورود ونرجس
وجاء ضرير القوم يلعن مبصرا ... ويسخر من "سحبانها" (1) كل أخرس
ومادرها (2) يُزرى بحاتم طيئٍ ... ويُنكر نبت الجود في كل مغرس
وألقوْا أمين القوم في قاع مظلمٍ ... وصفّق أقوام للص مُدَلِّس
فقلت وفي حَلقِي الممزق غصَّةٌ ... وقد ضاق من كَرْب الخزايا تنفسي
"لقد هَزِلت حتى بدا من هزالها ... كُلاَها، وحتى سامها كل مفلس" (3)
* موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب يحضر أول زواج بين الشواذ في مصر لرجليْن ويباركه:
لن نتكلم عن حرمة الموسيقى وأنها صفة الفسّاق، ولن نتكلم عن حياة محمد عبد الوهاب الخاصة، فقد أفضى إلى ما قدم .. لكن لا يستطيع أي صادق من معارفه أن ينكر حضوره ومباركته لأول زواج بين شاذين في واحة من واحات مصر .. وقد نشرت الجرائد المصرية ذلك .. ولا تعليق على ذلك إن كان بالقوم حياة .. حتى قال أحدهم ساخرًا من هذه الرموز الخليعة:
وموسيقارنا عبد الوهاب ... وكوكب شرقنا نبحت سنينا
وذاك العندليب أخو الغراب ... أنتركه لدعوى الطاهرينا
ورقص الشرق ذا فن تجلّى ... وذا تسبيح عين الشاكرينا
__________
(1) سحبان السهمى: أخطب العرب وأفصحهم.
(2) مادر: يضرب به الثمل في البخل.
(3) من قصيدة "في سوق العجائب العربية" من ديوان "الله والحق وفلسطين" للشاعر جابر قميحة (49 - 51) - ط 1 - الدار المصرية اللبنانية.(1/597)
* فنان الشعب سيد درويش يموت وهو يتعاطى الحشيش والأفيون:
موسيقار الشعب سيد درويش يموت وهو يتعاطى المخدرات والحشيش والأفيون، أي والله وباعتراف أمه كما جاء في المجلات، ولا عجب فهذا دأب الكبار والرموز دائمًا. فقد "كان كبار مسئولي الدولة في السلطة الناصرية والساداتية بعدها من المدخنين للحشيش، بالإضافة إلى بعض فناني الدولة مثل نجيب محفوظ، وأحمد مظهر، وشاعر النظام الناصري صلاح جاهين وشيخه سيد مكاوي" (1) واسلمي يا مصر.
* عادل إمام الإِرهابي الكبير والمهرج يصف فرج فودة بـ "أخي الشهيد":
عادل إمام الذي سخر من الحجاب والمحجبات، ومثّل الإسلاميين بأقبح الصور وعدّهم من "طيور الظلام"، وقال عن فرج فودة "أخي الشهيد" أي شهادة وهو مرتد؟!!. وستذهب كما ذهب إلى مزابل التاريخ.
* لطفي الخولي اليساري:
هو القائل: "إن اليسار في مجتمعنا هو الوريث الحقيقي لدين محمد ابن عبد الله ولدين عيسى بن مريم ولفضل أبي بكر وعمر، وهي محاولة فاسدة وكاذبة ومضللة ترمى إلى رفع دعاة الشيوعية من الحضيض إلى قمة الأنبياء والصحابة وقادة الفكر، وهيهات أن يصلوا إلى مستوى أقدامهم أو أفعالهم (2).
* كامل زهيري يريد هدم التراث كله:
أخطر دعاوى الصهيونية والماركسية ما أعلن عنه كامل زهيري حين قال
__________
(1) "الخديعة الناصرية" لصافي ناز كاظم (ص 86 - 87) - القارئ العربي - الطبعة الأولى.
(2) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 216).(1/598)
للأستاذ علي الجندي: إننا نريد أن نهدم القديم كله .. التراث كله وليس الشعر فحسب (1).
* الدعوة إِلى المصرية والفرعونية:
- ومن دعاتها: أمين إِسكندر ..
من الأفكار المسمومة التي نشرها كتاب الصحف قول أمين إِسكندر:
"إن مصر حافظت على وجودها وشخصيتها القومية إزاء الأديان، وإن الأديان التي عرفتها مصر سواء بالنشأة أو بالانتساب لم تغير من مصر طابعها القومي وإنما تحولت إلى جزء من هذا الطابع، كان لمصر مسيحيتها الخاصة وإسلامها الخاص".
وهذه نغمة مسمومة كاذبة فليس هناك إسلام مصري مختلف، وليست مصر كما يقولون أخضعت الإسلام، الحقيقة أن روح الإيمان التي عرفت في مصر قبل الإسلام وقبل المسيحية إنما هي ثمرة من ثمار الحنيفية السمحاء التي حمل لواءها دين الله الإسلام الذي دعا إليه سيدنا إبراهيم -عليه السلام- وهو صاحب كل الميراث الخلقي والروحي الذي عرفته المنطقة العربية قبل الإسلام بألف وأربعمائة سنة، وهذا هو ما كان موجودًا في مصر قبل الإسلام ولا ريب أنه من الإسلام نفسه. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.
ذلك أن هناك علاقة كاملة بدأها إبراهيم -عليه السلام- في هذه المنطقة بدعوة التوحيد الخالص وختمها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت في ثناياها رسالة موسى ورسالة عيسى وسائر الأنبياء، فلماذا هذا التضليل الكاذب بإعلاء شأن العنصريات والقوميات والإقليميات على هذا النحو البغيض، إن شخصية
__________
(1) المصدر السابق (ص 217).(1/599)
مصر الحقيقية في جوهرها هي عصارة التوحيد والدين الحق، ولم يكن لمصر شخصية أساسية مطلقًا قبل الإسلام، فقد نبذت مصر الدين واللغة التي امتدت خلال الحضارة الرومانية قبل الإسلام ألف سنة (1).
* فهمي عبد اللطيف:
- يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 230): "هناك محاولة للقول بأن "روح مصر" أكبر من "روح الإسلام"، وأن مصر أرض وعبقرية أولاً ثم يجيء الدين والقيم، هذا ما يذهب إليه الكثيرون منهم فهمي عبد اللطيف إنهم يقولون أن عطاء النيل هو الذي كون روح الشعب المصري، وهل يمكن أن تتكون روح الأمم من المادة، الحقيقة أن الأديان والقيم هي التي تشكل روح الأمم، أما هذه الأهرام الشامخة التي يعتزون بها فإنها تمثل مفهوم دين الفراعنة الوثني، ذلك الكلام الخادع، قهر الفناء الذي يحطم حياة الحي وسبعة آلاف سنة، الحقيقة أن مصر عرفت التوحيد باكرًا وعرفت رسالة السماء في إدريس وإبراهيم وفي يوسف وأنها هي مصدر تلك الأصالة وليس النيل أو الأهرام كما يدعون".
* محمد رفعت - شفيق غربال، ومحمد صبري والدعوة إِلى القومية المصرية:
"كانت الصحافة العربية حاضنة الدعوة الإقليمية، ثم الدعوة القومية المفرغة من القيم الإسلامية، وكانت الدعوة الوطنية، وكانت الدعوة إلى إحياء الفرعونية والفينيقية، وحملت الصحافة لواء الدعوة إلى كتابة التاريخ من وجهة نظر مصرية محضة.
__________
(1) المصدر السابق (ص 224 - 225).(1/600)
محمد رفعت، شفيق غربال، محمد صبري وكان هدفها هو إعلاء شأن مصر على الدولة العثمانية والعرب، ومحاولة القول بأن مصر ليست عربية وأن الإسلام لم يؤثر فيها، ثم اعتمدت القومية المصرية الضيقة مدخلاً وهدفًا بما يتعارض مع الوحدة العربية من ناحية ومن الوحدة الإسلامية من ناحية أخرى، ومصر في الحقيقة لها طابع عربي وطابع إسلامي، وما يقال أن علاقتها بالعرب والإسلام كانت علاقة غزو أجنبي هو محض كذب، وكذلك القول بأنها ظلت محتفظة بمقوماتها قادرة على أن تجتاز منة الاحتلال، كل هذا الكلام لا يقوم على أساس ما لم يكن معلومًا أن الإسلام هو مصدر كل قوة وقدرة على المقاومة.
وكانت الصحافة العربية ضالة ومضلة في اعتمادها على دعاوي الجنس والعنصر والإقليمية مدخلاً إلى الفكر بعد أن جعل الإسلام وحدة العقيدة والثقافة أساسًا، فالثبات أمام الغزاة مصدره العقيدة، هذه التي حكمت بامتصاص الدخيل أو إجلائه عن الأرض، هذه العراقة المصرية كلها مصدرها الإسلام وليس أي شيء آخر، ولا ريب أن العقيدة الإسلامية هي المناعة الوحيدة دون الانصهار في الفكر البشري الوافد، ولا ريب أن الصحافة العربية كانت مسرفة في الانحراف في احتضانها لمفاهيم الأقليات والقوميات وما تتأثر منها من دعوات متعددة ومتضاربة (1).
وفي الوقت الذي كان طه حسين يدعو فيه إلى المتوسطية، كان العقاد يدعو إلى سياسة مصرية (لا عربية) (المصور 9/ 12/1949)، ينبغي أن تكون سياسة مصر مصرية على الدوام، مصرية قبل كل شيء، مصرية في علاقتنا بالأمم العربية، ومصرية في علاقتنا بالأمم الأوربية، وقد ووجهت
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 219).(1/601)
الفكرتان بالنقد والتفنيد، أما أولاهما فهي تدعو إلى ولاء واضح مع فرنسا التي كانت تقود سياسة الدعوة المتوسطية، أما دعوة العقاد فقد كانت تدعو إلى الإقليمية وتجمد المثل العليا وتمزق وحدة العرب (1).
وسقط العقاد سقطته مثلما سقط سقطته الكبرى يوم أن دافع عن البهائية ومجّد البهاء الذي ادعّى الألوهية وهنا يعلم الناس مدى أهمية تقييم الناس والقادة والعمالقة، والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام وميزانه .. الإسلام وحده.
* كمال الملاخ وزكي شنودة والمسيحية السياسية والفرعونية:
فكرة القومية المصرية بديلاً للعروبة، امتدت لتؤسس نمطًا من التفكير والتوجه لدى عدد من مفكري النصارى وكتابهم في مصر، وبخاصة أولئك الذين أسسوا ما يُسمّى بالمسيحية السياسية من خلال كتاباتهم وأبحاثهم من أمثال كمال الملاّخ وزكي شنودة مؤلف "تاريخ الأقباط" وكأنهم يقولون "أبعدوا شبح العرب عن مصر .. العرب استعمروا مصر وشوّهوا وجهها الحضاري" (2).
- ويتكلم الأستاذ أنور الجندي عن الخطوط العامة التي تحتاج إلى دراسة وبحث في مجال الأدب واللغة والتراث فيتحدث عن محاولة طرح طابع فرعوني على الفكر العربي الإسلامي، وهذه محاولة تستشري في كتابات كمال الملاخ ولويس عوض وزكي شنودة، وطائفة كبيرة من "المصريولوجيين" الذين يحاولون أن يردوا القيم والأخلاق والتقاليد والعادات التي يحفل بها المجتمع العربي الإسلامي إلى الفرعونية، وكلما جرى الحديث حول فن من
__________
(1) المصدر السابق (ص 221).
(2) "لويس عوض" لحلمي القاعود (ص 266).(1/602)
الفنون، تحدثوا عن الفن الفرعوني والطب الفرعوني، والحكمة الفرعونية، وهذه محاولات باطلة لأن الخيوط التي بين أيدينا عن العصر الفرعوني قليلة وضئيلة وساذجة ولا تستطيع أن تكون صورة حضارية أو صورة أدبية لغوية، فقد تقطعت الأسباب بيننا وبين ذلك العصر البعيد وجاء الإسلام خلال أربعة عشر قرنًا فقضى على اللغة والتقاليد والعادات القديمة، وهي دعوة معارضة لروح الأمة المتدفقة التي تربط مصر بالعروبة والإسلام، انفصلت آثاره وأخباره بينما تسحب ستائر الصمت عن ميراث حي يتدفق بالحياة متصل بأمجاد هذه الأمة في صورتها العربية الإسلامية جميعًا، وليس معنى هذا أن يغمض الطرف عن الآثار الفرعونية فهي مفخرة من مفاخر مصر، وجزء من تاريخ العرب؛ لأن الذين أقاموها كانوا يمثلون مرحلة ضخمة من مراحل الحضارة والتقدم الذي جاءت به أديان السماء، وكانت الموجة الفرعونية أصلاً صادرة عن جزيرة العرب كما أكدت أبحاث العلماء الأجانب والمصريين، وقد أثبت القاموس الذي أعده (أحمد كمال باشا) أن أغلب الكلمات الفرعونية ذات أصل عربي، ومثل هذا يقال في الموجات الفيفيقية والآشورية والبابلية والبربرية، وذلك تحقيق تاريخي استغرق أعوامًا وأعوامًا حتى قيلت فيه كلمة الحق بعد أن استغلته مؤامرات الغزو الاستعماري والثقافي في الثلاثينات (1).
- هذه المحاولات التي تحاول الكلام عن الفرعونية القديمة إنما تصدر عن حقد دفين وعبث بالغ.
وإخناتون للتوحيد داعٍ ... قديمًا قبل كل المرسلينا!!
أإِخناتون عابدُ قرص شمسٍ ... بزعم الكفر شيخ المسلمينا؟!
"فميمكمُ" و"صادكم" وراءٌ ... غدت وثنًا وطاغوتًا لعينا
__________
(1) "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" (4/ 580 - 581).(1/603)
* غالي شكري يغمز كل ما له اتصال بالتراث أو الدين أو الوطنية ويصفه بالعقم في كتابه "ثقافة تحتضر":
جاء غالي شكري ليغمز كل ما له اتصال بالتراث أو الدين أو الوطنية من الشعر، ووصفه بالعقم مع تأكيده للخطة التغريبية التي يعمل عليها شعراء الرفض، وشعراء العامية، وهكذا دافعت الصحافة عن هذه المفاهيم المسمومة وأفسحت لها ومكنّت لهؤلاء الذين ظهروا في ذلك الاتجاه من أن يتفتحوا في رحابها وأن تلمع أسماؤهم، والهدف هو ضرب اللغة العربية وضرب القيم والأخلاق من خلال ما تحمل هذه الكتابات من مفاهيم مضللة زائفة منحرفة وإحلال ظلام الوجودية والمادية والإباحية المعقدة ومفاهيمها الضالة محل روح الأصالة والرحمة والعدل والتوحيد الخالص الذي يمثله الأدب العربي الأصيل، بل إن هذه الموجة قد زلزلت مفاهيم الكثيرين فانحرفوا عن عمود الشعر الأصيل إلى هذا الاتجاه أمثال، محمود حسن إسماعيل، وعبد الرحمن الخميس وغيرهم (1).
- ويقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" (4/ 597 - 600):
"يقول غالي شكري في كتابه "ثقافة تحتضر" فهل يعني بها ذلك الركام الذي قدمته كتابات الماركسيين والشيوعيين والوجوديين خلال تلك السنوات العجاف فلم يكن ممثلاً لفكر هذه الأمة وقيمها، أم أنه يقصد بالثقافة التي تحتضر الثقافة الإسلامية العربية، الواقع أن الثقافة التي احتضرت فعلاً هي تلك الكتابات المسمومة التي قدمتها هذه المجموعة من الشعوبيين، والتي لم تكن في حقيقتها تمثل جوهر هذه الأمة أو فكرها أو روحها، كما يطلق عليه
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" (ص 162).(1/604)
"تراث الإنسانية" وإنما تراث الإنسانية الصحيح هو معطيات الأديان السماوية المنزلة التي جاءت بالحق من ربها قبل أن تفسدها تفسيرات الحاخامات والرهبان، ونحن إذا عدنا إلى أصول هذا التراث في الحنيفية السمحة التي جاء بها إبراهيم -عليه السلام- وامتدت في رسالات موسى وعيسى ومحمد وجدنا التراث الصحيح الذي يمكن أن يسمى تراث الإنسانية جمعاء، أما تلك الأوهام والأهواء التي قدمها سقراط وأرسطو وأفلاطون أو مزدك، وماني ومجوس؛ فإن هذا ليس تراث إنسانية ولكنه أهواء البشرية حين انحرفت عن رسالة الدين الحق المنزل، ولذلك فإنه من الغش للناس أن يقول لهم أن هذا تراثهم؛ وإذا كان غالي شكري يعتبر أن كتابات هذه المرحلة الماركسية التغريبية هي بمثابة ثقافة تحتضر فإنا نصدقه في هذا التصور، ولكن لا نرى أن غياب الدولة العصرية هو مصدر النكسة، وإنما نرى أن غياب الأصالة العربية في فهم أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد استمدادًا من المنهج الأصيل هي مصدر النكسة، وإن محاولة الادعاء بالدولة العصرية هي محاولة مضللة؛ فإن تلك المراحل الطويلة التي قطعتها أمتنا من الهزيمة إلى النكبة إلى النكسة، إنما كانت تحت لواء الدولة العصرية جريًا إلى المفهوم الغربي الليبرالي وتحولاً إلى المفهوم الماركسي الشيوعي وكلاهما لم يكن أكثر من محاولة لدحر هذه الأمة وتدمير شخصيتها، ولقد تبين بعد النكسة أن الطريق الصحيح هو طريق الأصالة الذي خدعت عنه هذه الأمة بتلك المصطلحات والشعارات، وإن أمثال غالي شكري إنما كانوا ولا يزالون يدعون هذه الأمة إلى أن تصفي وجودها بالانصهار في العالمية الممزقة أو الأممية الضالة، في ظل حضارة تحتضر وثقافة تنهار، وفي إطار أزمة المادية المعاصرة سواء في الشرق أو في الغرب أما مراجعة كتابات قسطنطين زريق وعمر فاخوري ومطاع صفدي؛ فإن ذلك كله لن يزيد الأمر إلا إحساسًا بالغربة وتجاوز الحقيقة الواقعة، فتلك(1/605)
كلها دعوات تحاول أن تخرج العرب من أصالتهم وتدعوهم إلى مفازات التيه والضياع وهي بعيدة عن التماس الخيوط الأصيلة لهذه الأمة، ولن يغني غالي شكري وشيعته شيئًا إعادة الكتابة عن شبلي شميل وفرح أنطون؛ فإن حركة اليقظة الإسلامية قد كشفت فساد هذا الاتجاه، وبطلان تلك الدعوات إلى اتخاذ أسلوب التطور الاجتماعي منطلقًا لبناء المجتمع العربي الإسلامي، بل إن أصحاب القوى الدافعة لهذه السموم إلى مجتمعنا غيروا خطتهم من بعد وقدموا بدائل رفضها الفكر الإسلامي أيضًا سواء ما كتبه إسماعيل مظهر وما قدمه سلامه موسى، أما تلك الخيوط التي يتشبث بها التغريب والشعوبية، وهي كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين، و"الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق؛ فإنها خيوط واهية، هي خيوط العنكبوت فهذه لم يعد لها أثر حقيقي بعد أن تكشفت خلفياتها الضالة وغاياتها المسمومة، وأهواء أصحابها، فليكف التغريب ورجاله عن إعادة الكلام عن هذين الكتابين اللذين مزقتهم الأجيال الجديدة ورفضت ما فيهما من تضليل، أما كتابات سلامة موسى فإن الأمر قد أصبح واضحاً وجليًا الآن، وقد تكشفت الأغراض التي كانت تدفع هذا الكاتب وتسوقه إلى تلك المحاولات التي فشلت جميعها وباءت بالخسران.
- ويعلق الأستاذ خالد محيي الدين البرادعي على أسلوب غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين" فيقول: إنه يرفض التراث رفضًا مطلقًا بعصبية وانفعال بحجة أن التراث الأدبي لأمتنا مرتبط بالدين إن لم يكن وجد لخدمة الدين أصلاً، وبذلك اكتسبت اللغة العربية صفة القداسة لارتباطها بقداسة الدين، هذه الفكرة المهلهلة المكذوبة أصلاً وتاريخًا وتفسيرًا، إني أدعو إلى مراجعة مؤلفات الأصمعي والجرجاني وابن رشيق وغيرهم من النقاد القدامى الذين نفوا أن تكون القيم الدينية مرتكزًا لإعطاء الشعر قيمة فنية(1/606)
وجمالية من خلال هذا الخط المشبوه ينفذ غالي شكري لمصافحة المنبوذين والتائهين ومعانقة الشعراء الذين من خلال عقدهم رفضوا بدورهم تراث أمتهم، وأسقطوا نقمتهم على كل ما خلفه لنا الأوائل دون غربلة أو تمحيص، ويتساءل البرادعي: هل كتب غالي شكري كتابه هذا لإضفاء هالة من الرضا والتشجيع على النعرة الإقليمية في فكرنا، إمّا لاقتلاع الإنسان العربي من شعوره بأنه عربي، وإحداث صدع رهيب بينه وبين ماضيه من جهة لزرعه على سهول اليتم التاريخي والضياع الحضاري، وبينه وبين حاضره المعاش من جهة ثانية، وذلك عن طريق تشكيكه بقدرته على مواجهة هذا الواقع، وبينه وبين مستقبله من جهة ثالثة، وهو يعمل كذلك على إطفاء هذا الشعاع الشاعري المتوقد الذي طلع علينا من مناضلينا في الأرض المحتلة، مع أن التركيز الدقيق على فقدان الشاعرية لدى الأصوات الأصيلة التي أقلعت عن حداة قوافل المجد، ويرى أن كتابات غالي شكري هي امتداد لدعوة إنهاء هذه الأمة تاريخيًا ووجودًا، فهو يمشي مع عدد من الشعراء الذين نُبذوا جماهيريًا وهربوا إلى منادرهم السوداء، ينتطحون عصاراتهم المرة باسم الرؤيا الشعرية الجديدة، فكتبوا أشياء لا تمت إلى الشعر العربي بصلة تحت اسم التجديد.
- ويقول الأستاذ البرادعي: الخط الثاني الذي اختاره ناقدنا كان "كسر جوهر اللغة العربية، على حد تعبيره وهو يدعو إلى ذلك دون مواربة ولا يكفي كما يقول أن يكسر الشعراء الشباب "ميزان الخليل" ويتخطوه بل عليهم أن يحطموا جوهر اللغة، وقد ترك هذه الدعوة عائمة مطاطة بلا تجديد أو تأطير، ولم تفهم ما هو المقصود من "كسر جوهر اللغة"، هل يكون بتأنيث المذكر وتذكير المؤنث أم كسر جوهر اللغة هو إلغاء حركات الإعراب أو وضعها على ذوق قائلها بدون حساب، ويصل الأستاذ البرادعي إلى الإجابة على تساؤلاته، فيقول: الجواب الوحيد هو تمزيق القرآن وإزالته من الوجود،(1/607)
هذا الحدث الهائل هو ما يشغل بال غالي شكري ولا يستطيع النوم والهدوء ما دام القرآن هذا الكتاب الذي يمدنا بالفصاحة والبلاغة وحسن التعبير، وجمال الروي وفن الأداء، ويتحدث البرادعي عن الخط الثالث لدعوة غالي شكري وهي رفض الشعر المفهوم وتسمية أصحابه بالرجعيين والسلفيين، وكل قصيدة تطرب وتمتع فهي ليست في رأيه فنًا وليست شعرًا، ولذلك هو يدعو إلى كتابه الشعر بالطريقة الأحلامية مفردات غير متراصفة لصفة لا علاقة بالموصوف والرمز لا علاقة له بالصورة والاسم لا يمت إلى الفعل بصلة.
هذه هي دعوته: التحلل المطلق من كل مفهوم ينقل في صورة شعرية، أو كل صورة تنقل لنا فكرة عن جلال الفن ومن هنا ينفذ إلى مفاهيم السريالية: لا ترابط ولا فكر ولا وجود؛ وإنما الهلوسة والهذيان والجنون المطلق وغاية دعوته الشك في كل ما أنجبت أمتنا ولن تجد سبيلاً إلا التوجه إلى الغرب، وقد خصص لنا مدرستين لتخرجا شعراء عربًا هما: أليوت وازرا أباوند، متجاهلاً طبعًا أن الأديب نتاج بيئته وأن لكل أمة لغة فنها وجمالها ورونقها.
وهو يدعو إلى تحطيم الأصنام التي تعوق تقدمنا الشعري ومنها القرآن، هذه العقدة المزعجة التي تركتها الصليبية في رأس غالي شكري والمعول الهدام الذي حمله إزاء تراثنا الخالد، وهو يتبع كتابات الموتورين والحاقدين والناقمين على تاريخنا وحضارة أمتنا فيدعو الشعراء إلى التخلي عن كل ما خلف الأقدمون وعن كل المناهج الشعرية السائدة في بيئتنا المعاصرة، وأن يتجهوا نحو الغرب، وهكذا نجد أن كل واحد من دعاة التغريب والشعوبية يركز على ثغرة معينة ويتخذها منطلقًا له إلى طريق الهدم والتدمير" ا. هـ.
* غالي شكري وعداؤه لكل ما هو إِسلامي:
غالي شكري متعصب شديد التعصب ضد الإسلام وتصوراته وكان من(1/608)
أعضاء التنظيمات الشيوعية وانتهى به المطاف فيها إلى تشكيل "حزب العمال الشيوعي" وعمل مع الكاتب المتعصب الراحل "لويس عوض" في جريدة الأهرام "ثم هاجر إلى بيروت في عهد الرئيس أنور السادات ليعمل هناك في مجال الصحافة، ثم رحل إلى باريس ليعمل في الصحف المهاجرة التي أصدرتها ليبيا والعراق، وعاد منذ سنوات ليعمل في الأهرام من جديد وليصبح من كتابه "الكبار" وقد منحته "السربون" درجة الدكتوراه من المستوى الثالث (= ماجستير) بالرغم من أنه لا يحمل إلا شهادة متوسطة تقديرًا لبعض خدماته الدينية!!!.
- وانظر إلى بعض عناوين لمقالاته في مجلة "الوطن العربي":
- العدد (193 - 719) الصادر في (23/ 11/1990) مقال له بعنوان: "الإسلام السياسي من الفكر إلى الإرهاب"، "الجاهلية الجديدة بدأت"، "الخلافة العثمانية"، "العلمانية كلمة السر لتكفير العالم".
- في العدد (194 - 721) الصادر في (30/ 11/1990) يكتب غالي شكري: "لا برنامج للإسلام السياسي سوى الإرهاب - الإخوان يسلكون طريق الانتهازية السياسية، والجماعات تتبنى أسلوب الاختراق".
- في العدد (196 - 722) الصادر في (14/ 12/1990) يكتب غالي شكري فيقول: "محمد عمارة يميّز بين الدين والدولة -العلمانية تطابق المجتمع الإسلامي فلسنا بحاجة إليها- الأمة مصدر السلطات".
- في العدد (199 - 723) الصادر في (4/ 1/1991) يكتب غالي
شكري عن "التجربة السياسية في السودان، فيقول: السودان مفترق الطريق -قوانين سبتمبر- يقصد قوانين تطبيق الشريعة -هي الجسر المضاد للديمقراطية- ويكثر من الحديث من الإرهابي السلفي، والسلفية بملابس عسكرية.(1/609)
- العدد (200 - 726) الصادر (11/ 1/1991) يكتب غالي شكري "مكاشفات بين الأضواء والظلال، يتحدث فيها عن ثقافة الإرهاب، كما يسميها التي تتحدث عن الإسلام ولا تؤمن بزعماء العلمانية في مصر الذين يرون الدين مجرد عبادات ولا يؤمنون بالخلافة ويصرّون على التبعية للغرب" (1).
ويكتب مدير التحرير في العدد ذاته مرحبًا بهجرة اليهود السوفيت إلى العالم العربي - وهذه المجلة "مجلة الوطن العربي" ممولة من العراق وتخدم "حزب البعث العربي الاشتراكي ومبادئه" وما خفي كان أعظم يا صدام .. أيها الخائن القذر والعميل الوقح .. وعدو الإسلام وقاتل المسلمين.
* د. محمد النويهي، حملته الشرسة على الإسلام، واعتباره حجر عثرة في سبيل تحقيق الغزو الفكري، ويدعو المسلمين إِلى التخلي عن مقدساتهم وتصوراتهم وقيمهم:
- يقول الدكتور محمد النويهي: "ليس هدفي أن أبسط رأي الشخصي في العقيدة الدينية وصحتها أو فسادها، وحاجة الإنسان إليها أو استطاعته الاستغناء عنها، ويقول: هل أعني أن يتجه مثقفونا إلى العمل على اقتلاع العقيدة الدينية من قلوب الناس، وإزاحة العقيدة الدينية عن طريق ثورتنا الثقافية الشاملة، هل عنيت الحملة على الدين ومحاولة تحرير الناس من سطوته، هكذا يبدأ محمد النويهي حملة التشكيك في القيم الأساسية لأمتنا العربية الإسلامية، ثم يقول: إن موقف المعاداة للدين نفسه ومحاولة إلغائه هو ما اتخذه بعض المحررين وأنفقوا جهودهم فيه في مختلف الثورات
__________
(1) "الصحافة المهاجرة دراسة وتحليل" لحلمي القاعود (ص 169 - 171) - دار الاعتصام.(1/610)
التحريرية وبخاصة في الثورتين العظيمتين اللتين عرفهما تاريخ الإنسانية، الثورة الفرنسية (أواخر القرن الثامن عشر) والثورة الشيوعية (أواخر القرن العشرين)، ويقول: إن الأديان الكبرى كانت في بدايتها حركات تحرير عظيمة وإنما صارت أداة جمود وتحجر وأداة ابتزاز وسلب حين زالت عنها فورتها الثورية الأولى واستولت عليها الطبقات الحاكمة فحولتها إلى وسيلة لاستيفاء الامتيازات الموروثة وعرقلة حركات التجديد في شئون الفكر والتغيير في شئون المجتمع، والذي يقرأ هذه النصوص في كتابات النويهي يدهش؛ لأنه يجدها منقولة نقلاً يكاد يكون تامًا من بروتوكولات صهيون، ومن البيان الذي أصدره ماركس ولينين بالدعوة الشيوعية الماركسية، فهو يجمع بين العنصرين المتفرقين المتكاملين "الماركسية والصهيونية" في إهاب واحد، فتلك دعواهما وهكذا طريقهما، وهكذا فهمهما للدين ودعوتهما إلى التخلص منه، إن النويهي يعلن في صراحة تامة وجرأة كاملة أنه يقوم بمهمة أساسية هي: محاولة تغيير فهم الناس لماهية الدين ورسالته في الحياة الإنسانية، وكيف يقنع الناس بألا يتخذوا من الدين حجر عثرة يقيمونه أمام كل رأي جديد ومذهب جديد، وما يدعو إليه النويهي هذا ليس إلا مفهومًا باطلاً وزائفًا لعلاقة الدين بالحياة الإنسانية بعامة من ناحية، وبعلاقة الإسلام بالمجتمعات الإسلامية، فالدين إطار لحركة الناس والمجتمعات في الطريق الصحيح يرسم لهم رسالة الإنسان في هذه الحياة ويضع الضوابط التي تحمي شخصيتهم والعلاقات بين الفرد والفرد، وبين الفرد والمجتمع وبين الفرد والخالق الكبير؛ فإذا صدقت دعوى النويهي فهو يريد أن يعود الناس هملاً يتصرفون وكأنهم ليسوا مسئولين عن حركتهم في الحياة، وهذا مفهوم لا ديني محض، لا يقول به إلا الماديون الذين ينكرون علاقة المجتمعات والأمم بالأديان، ثم يجهل مفهوم الإسلام الجامع بين تشكيل العلاقة بين الله(1/611)
والإنسان وبين الإنسان والإنسان والإنسان والمجتمع، فالذي يقول به النويهي هو ما قال به رجال الفكر الحر من الملاحدة والماديين والإباحيين في الفكر الغربي الذين كانوا في الحقيقة من خريجي المحافل الماسونية ومن أتباع الفلسفة التلمودية الصهيونية التي تهدف إلى تدمير المجتمعات والتي أقامت الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية جميعًا لتحطم القيم الخلقية والدينية في المجتمعات الغربية ولتحتويها داخل أتون الفكر الأممي الذي يستهدف تمزيقها وضربها، والذي كان دائمًا متقررًا في عقول وأذهان دعاتها وفي ذهن الدكتور النويهي أن الشيوعية وليدة اليهودية العالمية كالصهيونية تمامًا، وإنهما يحاولان احتواء البشرية كلها وأن النويهي واحد من دعاة هذه المحاولة في أفق الفكر الإسلامي، فهو حين يبدأ حياته تابعًا للفكر الغربي في بريطانيا تنم كتاباته عام 1940، وما بعدها في مجلات الدعاية البريطانية على هذا الولاء، ثم هو حين يكتب عن الشعر الحر في مجلة الرسالة ويمجد الذين يتخذون الرموز المسيحية من الشعراء المسلمين أمثال صلاح عبد الصبور وأدونيس، إنما يكشف جانبًا من هويته وهدفه ثم هو حين يقول لمناقشيه (في مجلة الآداب) عن الماركسيين أنه وهم دعاة للتقدمية يجب أن يتضامنوا للقضاء على الفكر الأصيل، ثم يجابه الإسلام وتاريخه وجماعته بما لا يقبله الماركسيون أنفسهم اقرأ (الآداب - نوفمبر 1971) وما قبلها تعرف ما هي الرسالة وما هي الدعوة التي جند النويهي نفسه لها مرتين: المرة الأولى حين دعا إلى ثورة ثقافية جعل قوامها الحملة على الإسلام نفسه الذي اعتبره كحجر عثرة في سبيل تحقيق الغزو الفكري والسيطرة التلمودية الماركسية، وقد جاءت دعوته هذه بعد النكسة إعلانًا منه بضرورة أن يتخلى المسلمون عن كل مقدساتهم وتصوراتهم وقيمهم وأنه لا سبيل لانتصارهم على الصهيونية إلا بأن يصبحوا غربيين تمامًا، قد تجردوا من التراث والتاريخ والقيم وفي مقدمتها القرآن،(1/612)
ومن هنا نجد محاولته في إيجاد الالتباس إزاء مفاهيم الإسلام كقوة قادرة على بناء المجتمعات وما حاوله من التشكيك في شريعته ونظامه بجمع خيوط واهية وشبهات مضللة شأنه في ذلك شأن أبو رية في الحديث النبوي وعلي عبد الرازق في مسألة الخلافة - وقد كان جل اعتماده على ما كتبه شعوبي آخر عن (أزمة الفكر الإسلامي) وكل هذه محاولات لا تلبث أن تتجمع لتظهر بصورة أشد عنفًا في مؤتمر الحضارة الذي عقد في الكويت حيث برز القادة الشعوبيون: زكي نجيب محمود، والنويهي، وأدونيس، وطرحوا سمومهم وأحقادهم في وجه المسلمين والعرب، واستعملوا كل أساليب الاحتقار والانتقاص للإسلام ودعوته ورسوله وقيمه ولغته وتاريخه.
- إن على النويهي أن يدرك أنه لن يخدع أحدًا فالغربيون والمستشرقون قَبْل المسلمين أهل الدين يعلمون أن الإسلام يختلف من المسيحية، وأن هذه الحملة التي بدأها فولتير وروسو وديدرو، وتابعها نيتشه وماركس وفرويد على التفسيرات المسيحية وعلى الدين بجملة، لا يمكن بأي حال أن تنتقل إلى أفق الفكر الإسلامي، وإذا أغرتهم التلمودية بنقلها رغبة في إثارة الشبهات والسموم بين أبناء الإسلام فإننا نؤمن بأنها لن تكون إلا زوبعة في فنجان وأنها لن تستطيع أن تصل إلى شيء، وإن الإسلام عميق الجذور لا تستطيع أعتى القوى أن تدمرها أو تستأصلها.
- ليس الإسلام مذهبًا لعصر من عصور الإنسان، ولا لبيئة من البيئات حتى يتصور النويهي وأضرابه أنه لا يستطيع الاستجابة لعصر آخر أو بيئة أخرى، وأن نظرية النويهي هذه نظرية مادية، وهو يكشف بكتاباته تلك من هويته الخصيمة وعن مادية فكره وعن اعتقاده الباطل بأن الإسلام ليس دينًا ربانيًا سماويًا؛ بل إن عباراته توحي بأسوأ من هذا، توحي بأنه يرى أن الدين شر على البشرية، وأن على البشرية أن تتخلص منه، ولكنه يرى أن من(1/613)
الكياسة أن تتم هذه العملية على مراحل، وهو في هذه المرحلة يرى مسايرة الدين ثمة مع دعوة الناس إلى التحرر منه، وإذا كان هذا هو رأيه فماذا في ذلك يختلف عما تقول "بروتوكولات صهيون" أو عما يقول جارودي في كتابه "ماركسية القرن العشرين" أو عما يقول دعاة الفلسفة المادية والشيوعية والوجودية وغيرهم، الحق أن النويهي بهذا الأسلوب قد كشف نفسه وحرق أوراقه، ولم يستطع أن يكسب مثقفًا واحدًا فضلاً عن تلك الحملات العنيفة التي وُجِّهت إليه في كتابات الكُتّاب ومنابر المساجد، والأندية والجماعات الأدبية والثقافية في العالم الإسلامي كله مما وضعه في صفوف الشعوبيين والتلموديين والتغريبيين العتاة" (1).
- محمد حسنين هيكل عرَّاب الناصرية ودجالها الكبير، جنرال وفيلسوف هزيمة يونيو 67:
يبوء سادن الناصرية هيكل بعبارات التقديس التي أضفيت على عبد الناصر .. إنه كبير حملة المباخر له، وكبير مقربي القرابين له، وكبير محترفي الارتزاق، كال مع الناصريين كلمات الإطراء لناصر وتجاوز إطراؤه حد اللامعقول.
في زيارة لأسيوط تهلل وجه عبد الناصر بشْرًا وصفّق مع المصفقين لشاعر هزيل قال:
مصر بلا جمال ما لها صفة ... مصر بَلا جمال أمة عدم
وحين قال محافظ أسيوط يومئذ: "اللهم إننا نحبك، ولكننا نحب جمالاً .. فما حيلتنا؟ وكان أن رُقِّي بعد ذلك ليكون محافظ القاهرة، وحين قال مدير جامعة أسيوط المعين قبل أن يكتمل إنشاؤها: "إن كان عيسى المسيح
__________
(1) "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" (4/ 601 - 604).(1/614)
قد أحيا ميتًا أو اثنين أو ثلاثة، فقد أحييت يا سيادة الرئيس مائة مليون عربي، وإذا كان موسى - عليه السلام - قد ضرب بعصاه البحر فشقّ فيه طريقًا يبسًا، فقد صنعت بالسد العالي أكثر مما صنع موسى، وكان أن رُقِّي المتحدث بعد ذلك فعُيِّن وزيرًا للثقافة" (1).
كان مقال هيكل الأسبوعي "بصراحة" والذي كان يُنشر في الأهرام يوم الجمعة يلف ويدور حول معاني منها "سنحارب إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل" "إن لم يعجب أمريكا أن تشرب من البحر الأبيض فأمامها البحر الأحمر" لن نسمح لأحد أن يجرنا إلى المعركة وسنحدد نحن يوم المعركة، ومن فاتته قراءة المقال في الأهرام فما عليه إلا أن يدير مفتاح المذياع ليستمع إليه من إذاعة إسرائيل، ومن العجيب أن التشويش على إذاعة إسرائيل كان يتوقف أثناء إذاعة حديث هيكل؛ لأن أحاديث عبد الناصر إلى الغرائز لم تكن قاصرة على الشعب المصري، وإنما يعني عبد الناصر أن تصل إلى كل عربي، وإذاعة إسرائيل تساهم بنصيب نشيط في هذا المجال، ومع الفارق، فالناصرية تخاطب به غزائر المغلوبين على أمرهم من المصريين والعرب، وإسرائيل تخاطب به عقول المتعاطفين معها، وقادة الدول العظمى، ولا تمل من إسماعهم تهديدات الزعيم لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل، ولسان حالهم يقول: "احذروا هتلر الجديد".
أكبر جريمة ارتكبتها الناصرية هي الديكتاتورية، وكان غلو الناصرية في الديكتاتورية، وتسخيرها السلطة العمياء في هدم الشرفاء والتنكيل بهم أول طريق الضياع صوب هيكل سهامه ضد ديكتاتورية السادات ونسي صاحبه (2) ديكتاتورية عبد الناصر لا تحتاج إلى دليل ولقد موّه الإعلام الناصري وعلى
__________
(1) "الذين طغوا في البلاد" لمحمد عبد الله السمان (ص 126) - الكلمة الطيبة.
(2) "تذكير الحكّام بأيام الله" للدكتور جابر الحاج (ص 27 - 28) - دار الاعتصام.(1/615)
رأسه هيكل على أقبح الأعمال وأردأها، غطّى على الإرهاب والتسلط الذي اختير له صنف من الناس تأنف الحيوانات أن تنتسب إليهم على حد تعبير محمد نجيب في مذكراته، وإذا كان هذا هو وصف نجيب للصنف من الزبانية الذين تعاملوا معه، فكيف يكون حال الصنوف والضروب الأخرى الذين عُلقوا وسحلوا وقتلوا ونهبوا وشردوا وأحرقوا، وانتهكوا الحرمات، وتسلّطوا على الأعراض، ونهبوا الأموال وألقوا بأصحابها في السجون أو في الطرقات.
- حدثنا هيكل عن آلاف الجنيهات التي أنفقها السادات على استراحاته وعلى مظهره وعلى أمنه، ولم يحدثنا عن المليارات التي بددها صاحبه على المؤامرات في الداخل وفي الحروب الفاشلة والتجارب الخائبة (1).
إن الادعاء بنزاهة عبد الناصر، أو تعففه عن المال العام هو مجرد لغو من القول، لقد ترك المال العام نهبًا لكل من هَبّ ودَبّ، كان أخوه "الليثي عبد الناصر" حاكمًا بأمره في الإسكندرية، و"علي شفيق" الضابط من الصف الثاني، قُتِل في لندن وسُرِق منه مليون دولار، وكان له مليون آخر بالبنك، وفي المحاكمات التي جرت إثر هزيمة عام 1967 م ثبت أن المشير عبد الحكيم عامر كان له ثماني عشرة شقة خاصة، وصهر الزعيم أشرف مروان أصبح فيما بعد مليارديرًا، وأخيرًا وليس آخرًا باعت ابنة الزعيم فيلا بسبعة ملايين ونصف مليون جنيه، وقيل إن الزعيم اشتراها في حياته بعشرة آلاف جنيه فقط، وما خفي كان أعظم" (2).
ترك عبد الناصر مصر غارقة في الديون، مصر التي تسلمها دائنة لإنجلترا بخمسمائة مليون جنيه إسترليني" (1).
__________
(1) المصدر السابق (ص 31).
(2) "الذين طغوا في البلاد" (ص 138 - 139).(1/616)
* كذب هيكل:
انظر إلى ركام العفن والزيف والجرأة على الحق وعلى مصادر التاريخ الصحيح، وقدرة هيكل على قلب الأوضاع ومسخ التاريخ وتبرئة المذنب، واتهام البريء، نقرأ لمحمد هيكل في كتابه "عبد الناصر والعالم":
"وذات يوم كان عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة يبحثون مسألة بناء برج لاسلكي للاتصالات العالمية التي تقوم بها وزارة الخارجية وإدارة المخابرات، وقيل لعبد الناصر: إنه قد تم شراء بعض المعدات، ولما احتج أنه ليست هناك أموال مرصودة في الميزانية قيل له: إن المال جاء من اعتماد أمريكي خاص، ودهش عبد الناصر إذ كانت هذه أول مرة يسمع فيها بوجود أي اعتماد خاص، وقيل له: إن وكالة المخابرات المركزية وضعت تحت تصرف اللواء محمد نجيب ثلاثة ملايين دولار، وكان المبلغ قد تم تسليمه بواسطة عميل أمريكي في حقيبة ضخمة عبئت بقطع نقدية من فئة المائة دولار، واستشاط عبد الناصر غضبًا عندما سمع ذلك وتوجه بالسيارة فورًا إلى مجلس الوزراء وطلب تفسيرًا من محمد نجيب". (1)
ينسج هيكل من خياله هذه القصة المختلقة .. وفوجئ هيكل بمحمد نجيب يرفع عليه قضية، وكان ظن هيكل أن خبطات جمال لنجيب قد حوّلته إلى تمثال لا يقرأ ولا يسمع، وحين بلغه خبر القضية وانكشف زيفه اعتذر وتراجع بأسلوب مترنح لا يعرف صراحة أهل الحق حين يبصرون بباطلهم فإذا هم مبصرون .. وتنازل الرجل الطيب عن القضية وعن التعويض بعد أن استبان الحق، وعرف الجميع أن نجيبًا لو كان هو الرجل الذي يقبل هدايا الأمريكان لأعانوه على جمال ولاختلف الوضع، تنازل نجيب، وما كان
__________
(1) المصدر السابق (ص 150).(1/617)
نجيب في حاجة إلى قضية يثبت بها صدقة وإفك خصومه، فقد عُرِف عنه الصدق، وما عُرِف عنهم صدق في يوم من الأيام، وحقيقة أخرى يحدثنا هيكل بأن جمال وهو قادم من يوغسلافيا في المحروسة علم وهو في البحر بانقلاب حدث في العراق، فاستشار محمود فوزي، فقال له محمود فوزي: هذه أمور تحسمها إلهامات الزعامة، وليست مجالاً لمشورة أحد.
محمود فوزي نفى حدوث ذلك وأنكره، ولا يعلم هيكل أن قوله هذا إن كان كذبًا فجُلّ كتابه كذلك، وإن يكن صادقًا فذلك برهان ساطع على نوع المستشار الذي يستطيع البقاء مع الديكتاتور (1).
* عقيدة هيكل:
في كتابه "عبد الناصر والعالم" الطبعة الإنجليزية، يقول هيكل: إن عبد الناصر سأله في أحد جلساته: "هل تؤمن بالبعث؟! وأجاب هيكل: بأنه يؤمن بالبعث ولكن الجزاء ليس النعيم أو العقاب الحسي الذي يتصوره البعض.
لماذا لم يكتب ذلك في الطبعة العربية، وهل يهم الإنجليز أن يعرفوا إيمان هيكل وعبد الناصر بالآخرة؟ (2).
إيمان بالمزاج، كحرية بالمزاج، وكحربهم لإسرائيل وانهزامهم بالمزاج، وكتنقلهم من حضن دولة لدولة بالمزاج، وكاشتراكيتهم الغارقة في أهواء من احتفظوا لأنفسهم باللحم وتصدّقوا بالعظم.
كمطعمة الأيتام من كدّ عرضها ... فليتها لم تزن ولم تتصدّق
__________
(1) "تذكير الحكّام بأيام الله" (ص 55 - 56).
(2) "تذكير الحكام" (ص 58).(1/618)
* دجل هيكل:
أي زيف أقبح من زيف هيكل عن الانتصارات المزعومة في حرب 5 يونيو في جريدته الأهرام وأعداد الجريدة في 5 يونيو وما تلاها، وعدد الطائرة التي أسقطناها تؤكد كذبه ..
"أي زيف أقبح من أن يزعم هيكل أننا أنتصرنا في 5 يونيو لأن اليهود وإن أخذوا سيناء برمالها فقد عجزوا عن إسقاط عبد الناصر (1).
أنسب مكان لصنع تمثال لعبد الناصر -إن جازت التماثيل- تمثال في تل أبيب جزاء ما قدم لليهود من جميل لن ينسوه له.
سألوا عن التمثال أين مكانه ... ليخلدوه ويستمر زمانهُ
زعماء إِسرائيل عرفوا فضله ... فبظلمه انتصروا وخاب رجالهُ
لو أنصفوه لقدسوا تمثاله ... وتكون تل أبيب ميدانًا لهُ (2)
- من أراد أن يعرف هيكل وعبد الناصر على حقيقتهما المرة فليرجع إلى كتاب "فلسفة الثورة" وسواء كان هو كاتبه أم هيكل أم هما معًا وهذا هو الأرجح.
- إنه هيكل القائل عن ناصر: "والشيء المهم فيما يتعلّق بعبد الناصر وربما كان من أبرز أسباب نجاحه أنه مثل "محمد علي" قبله أدرك بعمق حقيقة الثوابت الجغرافية والتاريخية التي تصوغ وتحكم أقدار مصر.
زعم أن عبد الناصر نجح، وإذا كان هذا هو النجاح فماذا يكون الفشل؟ (3).
__________
(1) المصدر السابق (ص 61 - 62).
(2) المصدر السابق (91).
(3) المصدر السابق (119).(1/619)
* إنه هيكل:
الذي يحدثنا عن حرب العبور فيكاد يشعرك أن يده كانت مع السادات وأن أياديه البيضاء ورؤيته السديدة للأشياء كانت كفيلة بإحراز نصر أكبر! وعلى باقي الناصريين أن يسألوه: أفلا كان الأولى بك أن تُفيد عبد الناصر بهذه العبقرية لينتصر ولو مرة واحدة.
- كنت أود لهيكل أن يكتفي بمغالطاته السياسية، ويحلل ويتأول كما يشاء ويبعد عن الخوض في الإسلام، فهو أولاً: بعيد عن هدي الإسلام، ثانيًا: هو جاهل به، ثالثًا: إنه كان أحد أركان التعتيم الناصري، والمبرر لضرب عبد الناصر للإسلام ولأهله والمفتري على الإخوان المسلمين في محاكماتهم بقضايا ملفقة.
كان على هيكل أن يبتعد عن الخوض في الإسلام لأن خطأه سيكتشفه غيورون على إسلامهم ولن يتركوا هيكل يلبس عمامة ليعلم الناس مغالطات باسم الدين بجرأة هيكل على قلب الحقائق، والالتواء بالواقع، لينصر سيده حيًا وميتًا، بنفس الجرأة يغالط وهو يتكلم عن الجماعات الإسلامية، وكأن السادات ارتكب منكرًا حين تركهم يؤدون صلاة العيدين في الخلاء، وترك لهم حرية الحركة حتى اشتد عودهم وكثر عددهم وأصبحوا عبئًا عليه، وقوة ضده وليست له .. في نفس الوقت الذي ترك فيه شجرة الناصرية تذبل وتضمر، وأصبح الناصريون كاليتامى فقدوا عائلهم ولا يجدون من يقيم شأنهم، ويوجه تحركهم، تأمل معي تفكير الكاتب الأوحد لتعرف بأي عقل يفكر الناصريون، وأن هناك أصنافًا منهم لا زالت عقولهم في حناجرهم.
- هل كان فرضًا على السادات أن يسير على طريق الناصرية، فيلفق التهم، ويشكل المحاكم، ويعدم الخصوم، ويزيد من الخرائب التي خلّفها له جمال؟!!(1/620)
- هل كان على السادات -ليعجب هيكل- أن يترك العفن الذي تركه له عبد الناصر ليأتي على الأخضر واليابس؟ (1).
- يا عرّاب الناصرية الكادح إلى حتفه كدحًا، أما أن لك أيها السكران بخمر الناصرية الأثيم أن تفيق .. إن حديث الغرائز كان عليه أن يتوقف يوم 28 سبتمبر سنة 1970 بذهاب سيدك إلى ربه - لو جمعت أكاذيبك عن الإسلاميين لملأت مجلدات ولكن كيف تجترئ الكذب على الله فتقول في "خريف الغضب" (ص 289):
"وكانت لكتابات سيد قطب تأثيراتها، ولقد ساعد على انتشار هذه التأثيرات أن الإخوان المسلمين لم يقبلوا مجمل الأفكار الرئيسية التي جاءت بها الثورة المصرية، كانت أفكار الثورة عن المساواة وتذويب الفوارق بين الطبقات تبدو متعارضة مع قول القرآن (وجعلنا بعضكم فوق بعض طبقات) هذا كلام هيكل وليس كلام الله، ومن يكذب على الله، فليس بمستغرب عليه أن يكذب على الناس.
إِن كان يقصد ما يقول فآثم ... أو كان يجهل فالجهالة عار (2)
- تقول صافيناز كاظم في كتابها "الخديعة الناصرية" عن التيار الثوري الانتهازي أنه يتكلم بلغة الثوار، ويستخدم اصطلاحاتهم ويصفق للاشتراكية، وكان هذا التيار بانتهازيته يجمع مكاسب مادية هائلة، يسوغها لنفسه بمقولة: "الاشتراكية لا تعني الفقر .. الاشتراكية من أجل حياة أفضل"! وكانت وظيفته الأساسية أن يزوّر حقيقة عبد الناصر، ويجعل منه وثنًا معبودًا له خوار، ويفلسف كل أخطائه ويبررها، ويدافع عنها أمام الرأي العام العربي
__________
(1) المصدر السابق (ص 120 - 121).
(2) المصدر السابق (ص 122 - 123).(1/621)
والعالمي، ويقوم بدور تشويه وسحق مجموعة المثقفين الشرفاء من الحركة الإسلامية ويتهمهم بالتطرف والطفولة الثورية والإرهاب والشغب كان هذا التيار يُهندسه ويقوده محمد حسنين هيكل ومن تحت إبطه لطفي الخولي -قبل أن يغدر به- ومحمود أمين العالم من جانب آخر، بالإضافة إلى ثقلين ثقافيين رئيسيين هما: توفيق الحكيم (1)، ونجيب محفوظ (هاتان الشخصيتان الزئبقيتان اللتان أثبتتا قدرة شيطانية رهيبة في القفز واللعب على حبال كل التيارات بحيث أمكن لها الامتداد والاستمرار في مكانتهما الراسخة العالية لدى كل سلطة مهما تغيرت الأقنعة واللغة واللهجة والصوت والصيحات سبحان الله!! )، وكان كل اسم من هؤلاء يحتكم تحت إمرته وحمايته طابورًا من أسماء عديدة - "معظمها ناصرية وماركسية وتوليفة الماركسية الناصرية والناصرية الماركسية" (2)
* الهزيمة النكراء التي سماها هيكل النكسة:
كيف استطاع هيكل أن يزور التاريخ وهو يكتب في أكبر صحيفة وهي الأهرام عن أيام 5 يونيو - كيف كتب عن أعمق مأساة في تاريخنا، مأساة توقف عندها التاريخ .. لم تجف لها دموع الملايين على مئات الألوف من الأبرياء، كيف استطاع عبد الناصر وهيكل أن يخدعا شعبًا ويضللا أمة؟ وكيف أننا ما نزال نهز آذاننا ونفرك عيوننا ونرى الموّال الذي لا ينتهي عن "كلنا بنحبك .. ناصر".
__________
(1) أول من عمل على إحياء نتاج الإباحيين من كتاب "الأدب الغربي المكشوف" هو توفيق الحكيم، لقد افتتح توفيق هذا الاتجاه بكتابه "الرباط المقدس"، وظهرت في مدرسة القوميين السوريين كتابات غادة السمان وليلى بعلبكي.
(2) "الخديعة الناصرية" لصافيناز كاظم (ص 35 - 36) - القارئ العربي.(1/622)
- إن احتيال الدجال هيكل وزمرته قد أطال بقاء الوثن في الحكم، بزعم أنه تجاوز عمره الافتراضي في مايو 1967 م يوم أعلن أنه لن يحارب .. لن يهاجم .. لن يبدأ، ثم حشد مئات الألوف من الجنود بلا استعداد، بلا خطة، وجعلهم عراة في الصحراء، وكأنه "رومولوس" آخر ملوك الإمبراطورية الرومانية، عندما قرّر أن يصفي الإمبراطورية لأنها كبرت وشاخت، فقبل أن تحاكمه وتحكم عليه، حاكمها وحكم عليها، وأدانها ونفّذ فيها حكم الإعدام في صبيحة الخامس من يونيو عام 1967 م.
- وظهرت براعة عبد الناصر وهيكل في التمثيل يوم النكسة وما بعدها، فقد قررّ عبد الناصر أن يتنحَّى ظهرًا ويعود ليلاً، وأعد له خطاب التنحي الممثل البارع محمد حسنين هيكل، ورُسِمت الأدوار بواسطة الدّجالين .. يترك ناصر الحكم لوزير الحربية المهزوم شمس بدران ثم يعدل عنه إلى زكريا محيي الدين وهو كريه عند الشعب المصري، وكأنه يتنحَّى من ناحية ويدفع الناس إلى التمسك به، ودُبِّرت مظاهرات العدول عن التنحي، وكانت الصورة التي يجب أن نخجل لها حتى آخر الزمان .. صورة "أعضاء مجلس الأمة، وهم يرقصون طربًا؛ لأن عبد الناصر قد قررّ العودة، أوْ قل: فرقة الفنون الشعبية التابعة لمجلس الأمة .. رقص الناس طربًا وفرحًا للرجل الذي مسح بهم الأرض من المحيط إلى الخليج .. للرجل الذي كان سببًا في سفك دماء الآلاف الذين ذبحوا على رمال سيناء .. للرجل الذي أدخل اليهود في مصر وسوريا والأردن والقدس في ست ساعات".
- أية شعوب هذه التي تهلل وتكبر للزعيم الذي جلب لها هزيمة نكراء لا مثيل لها في التاريخ القديم والحديث، ومع هذا يعلن هيكل أننا انتصرنا لبقاء عبد الناصر في الحكم وإن ضاعت سيناء برملها، ولسوف يُسأل هيكل عن دجله أمام محكمة التاريخ، وأمام الأجيال القادمة ... وسيسأل أمام الله(1/623)
عز وجل في الآخرة عما فعل بأمته.
- ومن يوم هزيمته في 5/ 6/1967 حتى هلاكه في 28/ 9/1970
عاش عبد الناصر ثلاث سنوات وثلاثة أشهر و23 يومًا ظهر دجل حاوي الناصرية وفيلسوفها محمد حسنين هيكل.
* "بصراحة" لمحمد حسنين هيكل بعد النكسة .. بجريدة الأهرام:
كان محمد حسنين هيكل يخرج لنا كل جمعة بأفيون صراحته، يغالط في ضوء الشمس كل الحقائق الصارخة، ويقول: إننا لا نستطيع أن نحارب مثل فيتنام؛ لأن فيتنام دولة فقيرة وشعبها بدائي وليس لديه ما يخسره، أما شعب مصر فشعب عريق، لديه السد العالي، والأهرامات ولا يجب أن يعرضهم للدمار والنسف بدخولها حربًا مثل حرب فيتنام (انظر مقالات هيكل بالأهرام ما بين 6/ 1967 إلى 12/ 67) واستمر هيكل يركز على الحل السلمي وفقًا لقرار 242 المعترف بإسرائيل، وأن الحرب الوحيدة الممكنة هي حروب استنزاف لفرض الحل السلمي، وكان يقدم منطقًا تعجيزيًا يوهن من عزيمة الشعب المصري بقوله: إنه لا يمكن الحرب ضد إسرائيل؛ لأن الحرب معها تعني الحرب مع أمريكا، ونحن لا يمكن أن نناطح أمريكا، واختراع خرافة اسمها "تحييد أمريكا! ".
كانت مقالات هيكل السامة دائبة السعي لإنهاك معنويات الشعب المصري وسحقها، وكان يبدو في مقالاته ديناصورًا ساديًا كريهًا، لكنه كان يُرضي بمقالاته وروحه هذه الكثير من شرائح المثقفين المهزومين والثوريين مع وقف التنفيذ، وكانت هذه الشرائح بطبيعة ذاتية أنانية - تبحث وسط الخراب عن المكسب الذاتي والمصالح الشخصية، وكانت ترى في راية الكفاح الشعبي ومواصلة الاستعداد للدفاع من أجل استعادة كل الأراضي المحتلة بالقوة،(1/624)
كانت ترى في هذه الراية ما يهدد استقرارها وراحتها لذلك قامت هذه الشرائح بتبني مقولات هيكل، وصوّرته في هيئة الرجل العاقل الواعي غير المتهور، إذ وجدت في صراحته الكاذبة صياغة لما يجول في ضمائرها ويخدم أهدافها.
- (كان أهم ما أبدع فيه هيكل هو إعلانه أننا انتصرنا في الحقيقة -رغم خسارة الرجال وضياع الأرض- ونصرنا هو: إن نظام عبد الناصر لم يسقط وبالفعل صرنا نحتفل بعيد النصر رغم الهزيمة! ) (1).
* برغم عداوتي وكرهي الشديد للعامية:
برغم عداوتي وكرهي الشديد للكتابة بالعامية إلاَّ أني أستميح القارئ عذرًا في إيراد هاتين القصيدتين قصيدة عن الأستاذ ميكي (أي محمد حسنين هيكل) وقصيدة عن نكسة 5 يونيو وعبد الجبار (يعني عبد الناصر) لأحمد فؤاد نجم رغم أنني أخالفه في انتمائه الفكري وسلوكه الشخصي من الألف إلى الياء يصدق فيه قول رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: "صدقك وهو كذوب".
- قصيدة تدحض مغالطات هيكل وسيده ناصر .. ومقالاته الكاذبة في جريدة الأهرام تحت عنوان "بصراحة":
"بصراحة يا أستاذ ميكي .. (المقصود هيكل)
إنك رجعي وتشكيكي
بصراحة لا أنت معايا
ولا طالل من شبابيكي
وبلادنا لسه جريحة
__________
(1) "الخديعة الناصرية" (ص 52 - 53).(1/625)
وبتصرخ بالأفريكي
لو بات التار يا ولادي
حيبات الذل شريكي
"بصراحة" يا أستاذ ميكي
إنك رجعي وتشكيكي
قاعد لا مؤاخنة تهلفط
وكلامك رومانتيكي
ولا ناوي تبطَّل تكتب
بصراحة كلام بولوتيكي
عن دور الحل السلمي
واستعماله التكتيكي
فـ الوقت اللي إحنا صراحة
دايخين دوخة البلجيكي
وبلدنا لسه جريحة
وبتصرخ بالأفريكي
لو بات التار يا ولادي
حيبات الذل شريكي
والشعب يقول يا بلادي
بالروح والدم أفديكي
وحاجات "بصراحة" بتحصل
في بلدنا يا أستاذ ميكي
"بصراحة" لا أنت معايا(1/626)
ولا طالل من شبابيكي
وكأنك مثلاً موميا
للسلطان الأنتيكي
أحياها لاستعمالها
لستعمار الأمريكي
رجعت على هيئة
ميكي!! "
يوم أُعلنت الهزيمة باسم النكسة في يونيو 1967 وجد أحمد فؤاد نجم نفسه يتقيأ دمًا، ومع هذه الحالة الجسمانية المفاجئة جلس ليكتب قصيدته الشهيرة التي كلّفته قرارًا بالاعتقال مدى الحياة عام 1968:
الحمد لله خبّطنا تحت باططنا
يا محلى رجعة ظبّاطنا من خط النار!
يا أهل مصر المحمية بالحراميةْ
الفول كثير والطعمية
والبرّ عَمَار
والعيشة معدن وآهي ماشيةْ
آخر آشية
ما دام جنابُهْ والحاشية
بكروش وكتارْ
ها تقوللي سينا وما سيناشي
ما تدويشناشي
ما ستميت أتوبيس ماشي(1/627)
شاحنين أنفار
إيه يعني لما يموت مليون
أو كل الكون
العمر أصلاً مش مضمون
والناس أعمار
إيه يعني في العقبة جرينا
والاّ في سينا
هيّ الهزيمة تنَسِّينا
إننا أحرار
إيه يعني شعب في ليل ذله
ضايع كله
دي كفاية بسّ أمّا تقول لُّه
إحنا الثوار
وكفاية أسيادنا البعدا
عايشين سُعدا
بفضل ناس تملا المعدة
وتقول أشعار
أشعار تمجدْ وتماين
حتى الخاين
إن شاء الله يخربها مداين
عبد الجبار!!
***(1/628)
* مدرسة يوسف الخال (مدرسة الحزب القومي السوري) منطلق العمل الشعوبي وأساس البناء التغريبي وحاملة لواء الفينيقية والوجودية:
- يوسف الخال - غسان تويني - لويس الحاج - أدونيس - توفيق صايغ - جبرا إِبراهيم - غادة السمان - ليلى بعلبكي:
"تمثل مدرسة الحزب القومي السوري الأدبية منطلق العمل الشعوبي وأساس البناء التغريبي في هذه المرحلة، فهي تحمل لواء الإقليمية والفينيقية، والوجودية وكل شتات الدعوات الوافدة لتزييف أصالة الأدب العربي.
وعلى قمة هذه المؤسسة: يوسف الخال، غسان تويني، لويس الحاج، وقد أفرزت: أدونيس، وتوفيق صايغ، ويوسف حبش الأشقر، وجبرا إبراهيم جبرا، وليلى بعلبكي، وغادة السمان، وقد احتضنت هذه المؤسسة التيار الماركسي والوجودي والبعثي، وفي أحضانها نمت كتابات وأشعار: البياتي، وكاظم حداد وعبد المعطي حجازي، والسياب وصلاح عبد الصبور، ومن أكبر دعاتها: أدونيس ولويس عوض وقد تصدروا مجلات أدب وحوار وشعر، ويصور الباحثون منطلق هذا العمل بأن القوميين السوريين الذين صودرت دعوتهم الهدامة منذ سنوات، قد وجدوا في الأدب والشعر منطلقًا جديدًا، يقول: فيشعر القوميون السوريون أن "فينيقيا" هي فردوسهم المفقود، وهي أرضهم الموعودة التي يحلمون بها ويحاولون إعادتها إلى الواقع الحي" وهذا الحنين إلى فينيقيا أو إلى سوريا الكبرى بلغة الاصطلاحات الحديثة يملأ شعر القوميين السوريين وخاصة أدونيس وهو أنضج هؤلاء الشعراء فنًا وأكثرهم تعبيرًا عن هذه الفكرة، وكانت جريدة النهار هي بوتقة العمل، يقول طلال رحمة: كانت الأسماء التي ظهرت على صفحات جريدة النهار بمجملها من الناحيتين السياسية والفكرية، امتدادًا طبيعيًا لأوائل المبشرين اللبنانيين والسوريين فيما يسمى عصر النهضة الأدبية، وفي أواخر الأربعينات هزمت(1/629)
الحركة النازية وتقدمت على أنقاضها الحركة الشيوعية، وعربيًا اتضح الصراع الصهيوني -العربي- ومعه جاءت الهزيمة الأولى، واستعان غسان تويني (بكالوريس الاقتصاد والسياسة من جامعة هارفارد الأمريكية) برفيقه في الحزب السوري القومي الاجتماعي ورفيقه في الجامعة (الرفيق يوسف الخال) ورسمه عرابًا على صقلية الأدب والفن في النهار، ومع يوسف الخال بدأ عهد جديد كان مطلعًا على الأدب العربي، ومتأثرًا بشارل مالك الذي لم يكن معجبًا بالتراث العربي، فأقام نوعًا من التوازن، وحمل يوسف الخال عن أستاذه شارل مالك لواء (الفكرة اللبنانية - الفينيقية).
- يقول طلال رحمة: امتازت هذه المرحلة تحت ستار التجديد والتحديث بتسخيف التراث العربي بما في ذلك ابن خلدون وابن سينا، وابن المقفع وابن الرومي، وبتقديس كل ما هو أجنبي.
وأخرج يوسف الخال مجلة شعر التي لعبت دورًا كبيرًا وخطيرًا في الحياة الثقافية، ثم اتجه جبرًا إلى أن يتخلص من أداة الوصل، فبدلاً من أن يقول: (أيها الشاب الذي يموت باكرًا) خرج بتطبيقات لتحطيم اللغة العربية تحت بند التجديد من مثل (يا الشاب اليموت باكرًا)، وكان سعيد عقل يتابع جهوده من أجل تحديث اللغة وتطويرها عبر دعوته الصريحة إلى الكتابة باللغة العامية الدارجة (لبنان أن حكى)، وبالحرف اللاتيني (يارا)، فالتقى مع جماعة النهار وكان لقاءً عظيمًا نجم عنه انسداد نوافذ لبنان الفكرية على المنطقة العربية ونحو انعزالية ثقافية دعمت الانعزالية السياسية في ذلك الحين، ثم تولى أنسى الحاج جريدة النهار، وتولى توفيق صايغ مجلة حوار، وتولى أدونيس مجلة مواقف، وقد كشف طلال رحمة عن مبادئ هذه الجماعة، فذكر أن أهمها هي: نهش اللغة العربية كلغة وكتراث واستخدام الكلمات واللهجة العامية بالإضافة إلى تركيب الجملة وفق الأسلوب الفرنسي.(1/630)
كذلك نهش جميع المفكرين والكتاب الأحياء منهم الأموات الذين تجرأوا وآمنوا إما بالعروبة السياسية أو بالحضارة العربية ثقافيًا (لا أعترف بوجود الكتاب الكبار أمثال طه حسين، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم .. إلخ) هذه هي الخلفية للمخطط الذي سارت عليه مؤسسة الشعوبية والتغريب التي اتصلت خيوطها بما قام في مختلف العواصم العربية من محاولات لبناء الواجهة الشعوبية، فكانت بيروت بمجلاتها ومؤسساتها هي العامل الموجه للحركة في هذه المرحلة التي نؤرخها، ويتابع الاستشراق هذه المحاولة ويؤيدها، فنجد أمثال (جاك بيرك) يصدر كتابًا يسجل فيه المحاولة التي تعاونت الشعوبية والتغريب والماركسية عليها في سبيل تحويل مجرى الأدب العربي، والتأثير في مجالاته بالأدب الجنسي المكشوف في القصة وكسر عمود الشعر في النظم وإقامة الأسلوب اللبناني التوراتي في النثر، فقد أصدر كتابه (في الأدب العربي) عام 1966، وحشد فيه دعاة التجديد في هذه المؤامرة الخطيرة، وهم: نجيب محفوظ، لويس عوض، بشر فارس، حسين فوزي، محمود أمين العالم، عبد الرحمن الخميسي، سعيد عقل، أدونيس، ميخائيل نعيمة، محمد كامل حسين، جبران، سلامة موسى، طه حسين، الجوهري، أمين الخولي، صلاح عبد الصبور، هذه الواجهة الشعوبية العريضة التي كانت سببًا في نكسة 1967.
- يقول الأستاذ محمد التازي تحت عنوان "نكسة الأدب": إن الأدب المغربي الذي لم تفاجئه الهزيمة وما نجم عنها من أحداث بل وجد في الهزيمة دليلاً على صدق حدسه وإحساسه، ففي الوقت الذي ظهر فيه أدب التشاؤم واليأس والشك في كل القيم والمقومات الأخلاقية والإنسانية، حرص الأدب المغربي على التأكيد على ضرورة التمسك بالأصالة الروحية للإنسان العربي، ونحن على خلاف واضح مع بعض النقاد العرب، فعندما لاحظوا سطحية(1/631)
الأدب العربي بعد الهزيمة وتعبيره المباشر عن آثارها، زعموا أن ذلك يرجع إلى فقدان العمق والأصالة في الثقافة العربية المعاصرة، بينما زعمنا أن الثقافة العربية غنية بالعمق والأصالة، وأن مرد السطحية الملاحظة هي سقوط الأدب بين براثن الإعلام، فلا الأدب استمر على أصالته محافظًا على مقوماته، وكانت كارثة الإعلام العربي الممهدة للكارثة العسكرية، وبذلك فقدت الكلمة إشراقها وصدقها ونفاذها، وأخذ المواطن العربي يكذب كل ما يسمع ويقرأ بعد أن كان يصدق كل ما يسمع وما يقرأ، وأصبحت المشكلة في نظرنا ليست مشكلة تعبير وقول تبليغ، وإنما المشكلة تصديق ما يكتب وما ينشر، فقد فقدت الثقة بين الأديب والإنسان العربي حين اكتشف هذا الإنسان الطيب المكافح أنه كان ضحية للمذياع والتلفاز والصحيفة والكتاب قبل أن تزحف عليه قوى الشر بأسلحتها الفتاكة لتغتاله وتحرقه وتشرده، وقد انفصل الأدباء العرب بعد النكسة إلى ثلاث فئات:
1 - "فئة النكسة": التي تعتقد أن ما حدث يوم 5 يونيو هو مجرد نكسة أصابت الكفاح العربي، وأنها لا يجب أن تؤثر بأي حال في السياسة والمنهج والأسلوب والتفكير وكل ما كان خطه العمل قبل 5 يونيه، وهؤلاء الذين أريد لهم أن يرفعوا علم النكسة بعد الحرب واتخذوا من الكلمة مسوغًا للاستمرار في السياسة.
2 - "فئة النكبة": أولئك الأدباء الذين أطلقوا على ما حدث يوم 5 يونيه اسم النكبة ليعبروا من خلال هذه التسمية عن استمرار شكهم في السياسة والمنهج والأسلوب الذي كان سائدًا قبل 5 يونيه وزادتهم النكسة اقتناعًا بتفكيرهم وتأكيدًا لشكهم.
3 - "الفئة الثالثة": "وتسمى ما وقع بعد الخامس من يونيه بالهزيمة العسكرية لتحدد مسئولية ما وقع، ولتضع خطًا فاصلاً بين المسئولية الشعبية التي انزوت وخفتت، وبين المسئولية العسكرية التي أوشكت أن تقضى عليها،(1/632)
وإذا كان المستقبل من صنع الحاضر؛ فإن الحاضر من صنع الماضي، والذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم أن يعيدوا أخطاءه ولو لم يريدوا ذلك، ومجرد رفض الماضي لا يقيم حاضرًا ولا يعد لمستقبل، إن المثقفين العرب قصروا في واجبهم نحو الجماهير التي تحولت من فعل مؤثر إلى متفرج في حلبة الصراع، حيث يتصارع الطموح الشخصي على حساب قضية الجماهير، فأوشكت هذه الجماهير أن تفقد حس المعركة، إن المثقفين كانوا يجهلون كل شيء عن العدو المتربص بهم، إن المثقف العربي أكره في كثير من أجزاء الوطن العربي على تجنب تحليل هذا الرفض وتعميقه لدى الإنسان العربي". اهـ.
- "ونضيف إلى ذلك أن الذين تولوا الثقافة في أغلب البلاد العربية كانوا ماركسيين وشعوبيين، وكانوا على هوى مع الصهيونية الشيوعية، ولذلك فقد وجهوا الأدب بمختلف فنونه وجهة أخرجته عن الأصالة وردته إلى أساليب جوفاء، ثم كان لهم بعد النكسة الادعاء الباطل بأن التراث العربي الإسلامي هو سبب الهزيمة وأن النصر لا يأتي إلا بالانصهار الكامل في الفكر الغربي وخاصة الماركسية، وقد كشف هذا عن مؤامراتهم الخطيرة في بناء الواجهة الشعوبية، ومدى الخطر الذي لحق بالقيم وبالأمة وبالكيان من جراء هذه السيطرة التي بدأت عام 1960 تقريبًا على الصحافة ووسائل الإعلام والسينما والمسرح، ولكن السنوات التي تلت النكسة ما لبثت أن حطمت هذا الاتجاه وكشفت عن فساد التماس العالم الإسلامي والعرب لمنهج الماركسية، كما تكشف من قبل فساد تبعيته لمنهج الليبرالية تمامًا، وتبين للعرب أنه ليس هناك إلا طريق واحد: هو طريق الأصالة الذي يستمد مقوماته من القيم الإسلامية التي بناها القرآن، وكان مجرد الاتجاه نحو هذا الهدف هو منطلق النصر الذي تحقق في العاشر من رمضان، فدل بذلك على سلامة(1/633)
الطريق وعلى ضرورة تعميقها والسير فيها إلى النهاية" (1). اهـ.
* الدكتور حسن حنفي على درب القطيعة مع ثوابت الإِسلام وأصوله .. إلحاد وزندقة:
على درب القطيعة المعرفية الكبرى مع ثوابت الإسلام وأصوله سار الدكتور حسن حنفي حذو النعل بالنعل، وذهب على درب تأويل الإسلام تأويلاً يفرغ الدين من الدين، فيقول عن الذات الإلهية التي أجمع المسلمون على تنزيهها، وفي الذات والصفات والأفعال، عن مماثلة أو مشابهة المحدثات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ويقول عن التوحيد والوحي، والنبوة والرسالة والإيمان والغيب، والتراث وغيرها من مفاهيم ثوابت الدين ومصطلحاته: "إنه -أي الله- هو الأرض .. والخبز .. والحرية .. والعدل .. والعتاد .. والعُدّة .. وصرخات الألم .. وصيحات الفرح .. فهو تعبير أدبي أكثر منه وصفًا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفًا خبريًا، ولذلك وجب التخلي عن ألفاظ ومصطلحات كثيرة في علم أصول الدين من مثل: الله، والرسول والدين، والجنة والنار، والثواب والعقاب؛ لأن هذه الألفاظ والمصطلحات قطعية؛ ولأنها تجاوز الحس والمشاهدة .. ولأنها تشير إلى مقولات غير إنسانية .. فما الله إلا وعي الإنسان بذاته .. وما صفاته وأسماؤه إلا آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها .. وكل صفات الله -العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة- كلها صفات الإنسان الكامل، وكل أسماء الله الحسنى تعني آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها .. فالحقيقة هي الإنسان والواقع الذي يعيش فيه، ولذلك فتعبير الإنسان الكامل أكثر تعبيرًا من لفظ الله.
__________
(1) "مقدمات العلوم والمناهج" - "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" (ص 544 - 547).(1/634)
والتوحيد ليس توحيد الذات الإلهية، كما هو الحال في علم الكلام الموروث، وإنما هو وحدة البشرية ووحدة التاريخ، ووحدة الحقيقة، ووحدة الإنسان ووحدة الجماعة، ووحدة الأسرة .. فالمهم هو إيجاد الدلالة المعاصرة للموضوع القديم، وتخليصه من شوائبه اللاهوتية، فليس للعقائد صدق داخلي، ولا يوجد دين في ذاته، والوحي هو البناء المثالي للعالم .. والمطلوب هو تحويل الوحي إلى أيديولوجية وإلى علم إنساني.
- والعلمانية هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور، والتراث قضية وطنية لا دينية، ومادة التراث نسقطها كلها من الحساب، ونستبدل بها مادة أخرى جديدة من واقعنا المعاصر.
والإلحاد هو التجديد، والتحول من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع إنه وعي بالحاضر .. ودرء للأخطار .. بل هو المعنى الأصلي للإيمان، والمطلوب هو الانتقال من العقل إلى الطبيعة، ومن الروح إلى المادة، ومن الله إلى العالم ومن النفس إلى البدن، ومن وحدة العقيدة إلى وحدة السلوك، ومن العقيدة إلى الثورة" (1).
هكذا بلغ "التأويل - العبثي" الذروة إن لم يكن قد تجاوزها! فكل ثوابت الإسلام، وجميع عقائده، ومضامين مصطلحاته -من الله إلى الرسول إلى الدين إلى الجنة إلى النار إلى الثواب والعقاب- قد جردت من محتواها الديني "فنفس الكلمات لم يعد لها نفس المعاني" كما قال الحداثيون الغربيون، وانقلبت مصطلحات الدين وعقائده الثوابت إلى هذا العبث
__________
(1) "مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية" للدكتور محمد عمارة (ص 28 - 29) مكتبة الشروق الدولية.(1/635)
الحداثي اللا معقول! " (1).
* وصدق الله تعالى إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].
* وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
- يقول هذا الضال المضل رائد اليسار الإسلامي!!!: "النقل وحده لا يثبت شيئًا، "وقال الله"، "وقال الرسول" لا يُعتبر حجة (2)، ويقول رائد التجديد!! "فألفاظ مثل: الجن والملائكة والشياطين، بل الخلق والبعث والقيامة ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها الناس، ولا تؤدي دور الإيصال؟! (3).
* حسن حنفي يقول: "احتمينا بالنصوص فجاء اللصوص":
- يقول د. حسن حنفي أحد أقطاب هذا الاتجاه: "إن العقل هو أساس النقل، وأن كل ما عارض العقل فإنه يعارض النقل، وكل ما وافق العقل فإنه يوافق النقل، ظهر ذلك عند المعتزلة وعند الفلاسفة" ثم يقول: "لقد احتمينا بالنصوص فجاء اللصوص" (4).
__________
(1) "التراث والتجديد" لحسن حنفي (ص 128، 130، 124، 137، 139، 141، 142، 144، 146، 153، 154، 185، 176، 177، 66، 22، 114، 203، 208، 69، 21، 173، 67، 61) - طبعة القاهرة سنة 1980 م.
(2) "اليسار الإسلامي" (ص 33).
(3) المصدر السابق (ص 51).
(4) "التراث والتجديد" لحسن حنفي (ص 119 - 120) - نشر مكتبة الجديد - تونس.(1/636)
وهكذا تحول المؤمنون بالنص والدعاة إليه إلى "لصوص"؟!!، والعبارة استعارها حنفي من الشاعر الماركسي الفلسطيني محمود درويش (1).
وصار المهم عند هؤلاء مسايرة روح العصر فقط، وتساوت لديهم النصوص الدينية في حجيتها مع الأمثال العامية والأغاني الشعبية.
- يقول حسن حنفي حول هذه الفكرة: ما يهمنا هو روح العصر، وما نهتم به هي مشاكل العصر .. لذلك نهتم بالأمثال العامية وبسير الأبطال، كما نفعل تمامًا مع النصوص الدينية، ونهتم بالأغاني الشعبية (2).
ثم أصدر حنفي كتابًا تحت عنوان "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر" بث فيه الشكوك والإلحاد، ويدعو إلى أن الفكر الغيبي أقرب إلى الأساطير منه إلى الفكر الديني، وأن قصص آدم وحواء والملائكة والشياطين، كلها رموز أو جزء من الأدب الشعبي، ويرى هذا الضال المرتد أن العقل ما كان في حاجة إلى الشرع؛ لأن الإنسان لا يحتاج إلى الوحي، وأن ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- يؤمنان بوجود الشياطين والجن، وهذا هو أحد وجوه الضعف في هذه المدرسة، وأن الإنسان لا يحتاج لكونه مسلمًا إلى الإيمان بالجن والملائكة" (3).
وقد وصلت به الحماقة إلى أن يقول: "يمكن للمسلم المعاصر أن ينكر كل الجانب الغيبي في الدين ويكون مسلمًا حقًا في سلوكه" (4).
***
__________
(1) انظر "ظاهرة اليسار الإسلامي" لمحسن الميلي (53 - 55).
(2) ماذا يعني اليسار الإسلامي (مقال) لحسن حنفي، مجلة اليسار الإسلامي - العدد الأول.
(3) "قلاع المسلمين مهددة من داخلها" للدكتور محمد عبد القادر هنادي (ص 42).
(4) "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر" للدكتور حسن حنفي (ص 91 - 93) - دار التنوير - بيروت.(1/637)
* وهو يهدم أصول الدين على طريقة الفكر الماركسي:
- يقول: "لا يوجد دين في ذاته، بل يوجد تراث لجماعة معينة، ظهر في لحظة تاريخية محددة، ويمكن تطويرها للحظة تاريخية قادمة" (1).
* الموقف من التراث:
يقف اليسار من التراث موقفًا نقديًا تاريخيًا، فهو يعني إبراز مواطن التقدم في التراث من عقلانية وطبيعية وديمقراطية، وهو ما نحتاجه في قرننا هذا (2)، وحتى تعود للإنسان قيمته التي فقدها عندما اعترف بالله، يدعو اليسار الإسلامي الإنسان إلى التحرر من كل سلطة إلا من سلطة العقل والواقع، وهذا العمل يقتضي ضرب كل الأطروحات الرجعية، والانطلاق في التجديد.
ويرى حسن حنفي أن السبب في فقد الإنسان لقيمته في تراثنا الإسلامي يرجع إلى سيادة الاختيار الأشعري، وقد تكون هذه السيادة هي إحدى معوقات العصر؛ لأنها تعطي الأولوية لله في الفعل، وفي العلم والحكم وفي التقويم، في حين أن وجداننا المعاصر يعاني من أخذ زمام المبادرة هذه باسم الله مرة، وباسم السلطان مرة أخرى، ومن ثم فالاختيار البديل: هو الخيار الاعتزالي .. الذي قد يكون أكثر تعبيرًا عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه (3).
يريد الكاتب انتزاع السيادة من الله جل جلاله، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وما تخفي صدورهم أعظم، ولا شك أن هذه نزعة إلحاد ماركسية
__________
(1) "التراث والتجديد" لحسن حنفي (ص 22).
(2) ماذا يعني اليسار الإسلامي (مقال) لحسن حنفي.
(3) "التراث والتجديد" لحسن حنفي (ص 21).(1/638)
لا تحتاج إلى بيان وإن موهوا وخدعوا.
- وهناك تجديد على مستوى اللغة والمصطلحات (1): يرى حسن حنفي أن اللغة التقليدية في تراثنا قاصرة، وتتضمن عيوبًا كثيرة منها:
أنها لغة إلهية، تدور الألفاظ فيها حول الله .. بل إن لفظ الله لا يعبر عن معنى معين، فهو صرخة وجودية .. إذ أن الله عند الجائع هو الرغيف، وعند المستعبد هو الحرية، وعند المظلوم هو العدل، أي: أنه في معظم الحالات "صرخة المضطهدين" ثم ينتهي حنفي إلى أنه لا يمكن إيصال أي معنى بلفظ "الله"؛ لأن الله حوى كثرة من المعاني لدرجة أنه يدل على معانٍ متعارضة (2).
فلا داعي إذن طبقًا لهذا الكلام إلى استعمال لفظ الجلالة، لتحل محلها كلمات: الخبز والحرية والعدل والحب، والإشباع والإنسان الكامل!!!.
إن كل الأقنعة والتموية باسم الإسلام، قد انقشعت وها هو منهج المصطلحات الماركسية يبث سمومه بلا وجل ولا تردد، وانظر إلى قوله كذلك: "إن اللغة القديمة لغة دينية تشير إلى موضوعات دينية خالصة مثل: دين، ورسول، ومعجزة، ونبوة .. وهي لغة عاجزة عن إيصال مضمونها في العصر الحاضر!! وهي -كذلك- لغة تاريخية صورية مجردة .. ولذلك فاليسار يروم تأسيس لغة جديدة تستعمل الألفاظ التي يقبلها العصر!!.
- يقول حنفي: إن في العصر ألفاظًا تجري مجرى النار في الهشيم مثل: الأيديولوجيا، والتقدم والحركة والتغير، والتحرر والجماهير، والعدالة .. وهي ألفاظ لها رصيد نفسي لدى الجماهير، والتي يمكن أن تعبر
__________
(1) انظر "ظاهرة اليسار الإسلامي" لمحسن الميلي (ص 62 - 64).
(2) "التراث والتجديد" (ص 129) وما بعدها.(1/639)
عن ثقافة وطنية (1).
وهذه اللغة مفتوحة وعقلانية، أما ألفاظ "الله والجنة والنار والآخرة والحساب والعقاب" فهي ألفاظ قطعية صرفة، لا يمكن التعامل معها دون فهم أو تفسير أو تأويل، ويضيف قائلاً: بأن الألفاظ يجب أن يكون لها مقابل في الواقع الحسي، فألفاظ "الجن والملائكة والشياطين؛ بل والخلق والبعث والقيامة" ألفاظ تجاوزها الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع ولا يقبلها كل الناس.
وفي نظر اليسار أن ذلك سينقل عصرنا من "مرحلة التمركز حول الله إلى مرحلة التمركز حول الإنسان، وتلك مهمة التراث والتجديد في أول محاولاته من أجل إعادة بناء علم أصول الدين، على أنه علم الإنسان (2)، إننا إذا فعلنا كل ذلك أمكننا التغيير والتجديد ما دمنا قد تخلينا عن لغة اللاهوت، وتخلصنا من كل المفاهيم الغيبية المعيقة للتقدم والانطلاق.
- وإنها لجرأة -وأي جرأة- يعلنها اليسار الإسلامي على الله، والوحي والإسلام، باسم الإنسان والعقل والتجديد (3).
* الفهم المقاصدي للشريعة (4):
الشريعة عند أصحاب اليسار جاءت لتحقيق بعض المقاصد العامة والمقاصد العليا التي جاءت الشريعة لتحقيقها في نظرهم خمسة هي: الإنسانية، والعدل الاجتماعي، والحرية السياسية، المبدئية، التقدم المستمر
__________
(1) المصدر السابق (ص 140) وما بعدها.
(2) "التراث والتجديد" (ص 140).
(3) "ظاهرة اليسار الإسلامي" (ص 64) محسن الميلي.
(4) أنظر "ظاهرة اليسار الإسلامي" (ص 64، 68).(1/640)
نحو الأفضل، لكن ما الوسائل المعتمدة في تحقيق هذه المقاصد؟ هل يحددها الوحي أم يختارها الإنسان؟!
لدى اليسار أن المصلحة أصل مستقل في التشريع، وأنه لا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، لقد أصبح الواقع هو المجدد للاختيارات والقوانين، أما دور الشرع فثانوي؛ لأن اختياراتنا هي التي تحدد طبيعة القوانين، وذلك يعني أن القوانين والأحكام المنزلة في القرآن، والواردة في السنة قابلة للتأويل والتعطيل، ونحن في كل ذلك نستلهم روح الشريعة ومقاصدها .. ولعلنا لا نكون بعيدين عن المادية التاريخية إن لم نقل من أكبر ممثليها والداعين إليها" (1).
* العلمانية والوحي:
انظر إلى هذا الكفر الصريح، يقول حسن حنفي: "إن العلمانية هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور" (2).
* أما الرؤية الاقتصادية:
فأبرز أهدافهم أن يصلوا إلى إقامة المجتمع الاشتراكي، إقامة مجتمع بلا طبقات، وبعض الملكية الفردية، مع تبني أسلوب الملكية الجماعية، وتشجيع العمل النقابي والإصلاح الزراعي.
- وهم يعتمدون الثورة الاشتراكية، يقول حسن حنفي: "بالنسبة لنا: الاشتراكية قضية مبدأ دائم، وليست قضية نظام عابر يتغير بتغير الحكام، وتظل الجماهير الإسلامية في كلتا الحالتين فاترة لا يعنيها الأمر في شيء،
__________
(1) مجلة اليسار الإسلامي - العدد الأول (ص 15 - 21) حوار مع حسن حنفي.
(2) "التراث والتجديد" (ص 72).(1/641)
هذا إضافة إلى أن الإسلام ذاته ضد تجميع رأس المال في أيدي القلة {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، ويرفض الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي، ويقول بالمساواة، ويرفض الاستغلال والاحتكار .. ويعطي الإمام حق التأميم والمصادرة للمال المستغل لصالح المسلمين، مهمة اليسار الإسلامي إعادة توزيع ثروة المسلمين بين المسلمين، كما شرع الإسلام، طبقًا للعمل والجهد والعرق (1).
هكذا؟! لو أردتم شرع الإسلام لتركتم هذا التلفيق المريب، ورفض حكم الله في الاقتصاد وغيره؟!.
* الطيب تيزيني الماركسي الغالي في ماركسيته:
أستاذ جامعي سوري، أعدّ هذا المجرم "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بدايته وحتى المرحلة المعاصرة" وقد أصدر جزءين من مشروعه، خصّص الأول منهما لعرض النظرية المقترحة في قضية التراث .. ويعتمد الماركسية مذهبًا، والمادية التاريخية منهجًا، يقول: "إن النظرية الاشتراكية العالمية (الماركسية) هي المنظار الذي يجب أن ننظر من خلاله إلى التراث، فما استقام منه لها قبلناه، وأما ما لا يستجيب منه لذلك فإنه يُعزل تاريخيًّا" (2).
- وقفة أخرى مع هيكل نختم بها هذا المجلد:
يتباكى الناصريون الآن على إعلان هيكل عن اعتزاله الكتابة والعمل الصحفي .. وأقاموا الدنيا وأقعدوها وصوروا هيكل على أنه المنقذ للأمة والمجدد لآمالها.
__________
(1) "ماذا يعني اليسار الإسلامي" (34 - 35).
(2) "اليسار الإسلامي" (ص 33).(1/642)
وحال الناس والجماهير الغوغاء ولسان حالهم
"وزمِّر مع كل قرد حتى ينتهى سوق القرود، ولكنا نقول لدجّال الناصرية سخرية.
* لا تعتزل:
من غيرك يقدر أن يعطي للكلمة أكثر من معنى؟!
النكبة نكسة، والسجنُ .. تأديب للشعب المجرمْ
والحركة ثورة، والتأميم .. تنظيم من أجل الأمة
لا تعتزل
من غيرك يمكن أن يتكلم في التبرير وفي التمرير
في التحذير من التحرير، وفي تحريك الشعب
فيهبُّ يطالب باستمرار مسيرة جلاده؟
لا تعتزل
من غيرك يمكن أن يرضي كلَّ الأذواقْ؟
من غيرك يُمكن أن يُخرس كل الأبواق؟
من غيرك يقدر أن يقنع آلاف البشر المطحونين
بأن الكون جميل لا أبدع
وبأن الحاكم قد قرّر
وبأن الشعب بأجمعه قد فوّض شخصًا لا يسمعْ
وبأن صواريخ "القاهر" يمكن أن تقهر بن جوريون
وبأن الأزمة حاليًا
لا مخرج منها سوى العودة
لعهود التسعات الخمسة(1/643)
ولعهد الميثاق اللعبة
ولعهد النكسة والنكبة
ولعهد الخامس من يونية؟
لا تعتزل .. لا تعتزل (1).
- أفيقوا أيها السادرون في غيّكم والفظوا حملة المباخر ودجلهم من ضيّعوا الأمة وانحرفوا بها عن الإسلام مصدر كرامتها وعزتها فدمروا يومها وغدها وجعلوها في المستنقع الآسن والظلام الحالك.
والحمد لله أن شباب هذه الأمة بدأ يفيق من غيبوبته وما عاد يسمع لدجل الحواة، ولا يشنف سمع الطيبين إلا وحي السماء وقول الكبير المتعال.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
***
__________
(1) قصيدة "لا تعتزل" لمحمد حسن أحمد - مجلة آفاق عربية العدد 627 الصفحة (13 - 6 من شعبان 1424 هـ).(1/644)
أعلام وأقزام
في ميزان الإسلام
جمع وترتيب
الدكتور سيد بن حسين العفّاني
الجزء الثاني
الناشر
دار ماجد عسيري للنشر والتوزيع
السعودية - جدة - هاتف 6631403 فاكس 6657529 جوال 054346151(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2/2)
أعلام وأقزام في ميزان الإسلام(2/3)
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
1424 هـ - 2004 م
الطبعة الأولى
رقم الإِيداع بدار الكتب المصرية
رقم الإيداع 17881/ 2003(2/4)
* الدكتور نصر أبو زيد يقول عن القرآن أنه نص بشري .. ومُنتَج ثقافي لا قداسة له:
"ونموذج ثان، لحداثي آخر، من الذين اتخذوا الدراسات الإسلامية ميدانًا لهذا التأويل العبثي .. يقول -عن القرآن الكريم- الذي يؤمن المؤمنون -كل المؤمنين- أنه وحي سماوي، وتنزيل إلهي معجز وخالد .. يقول هذا الحداثي -عن القرآن-: إنه نص بشري، ومُنْتَج ثقافي .. لا قداسة له! وأن بينه وبين الشعر الجاهلي -وخاصة شعر الصعاليك- شبهًا كبيرًا! وبنص عباراته -التي لا تحتاج إلى تعليق- يقول:
"من الواقع تكوَّن النص [القرآن]، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، فالواقع هو الذي أنتج النص .. الواقع أولاً، والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا.
لقد تشكل القرآن من خلال ثقافة شفاهية .. وهذه الثقافة هي الفاعل، والنص منفعل ومفعول .. فالنص القرآني في حقيقته وجوهره مُنْتَج ثقافي.
والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة فترة تزيد على العشرين عامًا ... فهو ديالكتيك صاعد وليس ديالكتيكا هابطًا .. والإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يطمس هذه الحقيقة .. والفكر الرجعي في تيار الثقافة العربية هو الذي يحوّل النص من نص لغوي إلى شيء له قداسته.
والنص القرآني منظومة من مجموعة من النصوص، وهو يتشابه في تركيبته تلك مع النص الشعري، كما هو واضح من المعلقات الجاهلية مثلاً، والفارق بين القرآن وبين المعلقة من هذه الزاوية المحددة يتمثل في المدى الزمني الذي استغرقه تكوّن النص القرآني .. فهناك عناصر تشابه بين النص القرآني ونصوص الثقافة عامة، وبينه وبين النص الشعري بصفة خاصة .. وسياق مخاطبة النساء في القرآن، المغاير لسياق مخاطبة الرجال، هو انحياز منه لنصوص الصعاليك"!.
هذا عن القرآن .. أما عن "النبوة والرسالة" و"الوحي" .. فإنها -عند(2/5)
هذا الحداثي الماركسي-: ظواهر إنسانية، وثمرة "لقوة المخيلة" الإنسانية، وليس فيها إعجاز ولا مفارقة للواقع وقوانينه .. فالأنبياء مثل الشعراء والمتصوفة، مع فارق في درجة "المخيلة"، فقط لا غير .. وبنص عباراته:
"إن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية "المخيلة" في اليقظة والنوم على السواء .. ومن حيث قدرة "المخيلة" وفاعليتها، فالنبي يأتي على رأس قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب.
وتفسير النبوة اعتمادًا على مفهوم "الخيال" معناه أن ذلك الانتقال من عالم البشر إلى عالم الملائكة انتقال يتم من خلال فاعلية "المخيلة" الإنسانية، التي تكون في "الأنبياء" أقوى منها عند سواهم من البشر .. إنها حالة من حالات الفاعلية الخلاقة، فالنبوة، في ظل هذا التصور، لا تكون ظاهرة مفارقة .. وهذا كله يؤكد أن ظاهرة الوحي لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع، أو تمثل وثبًا عليه وتجاوزًا لقوانينه، بل كانت جزءًا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها"! (1).
وبعد تحويل القرآن إلى نص بشري .. والوحي والنبوة إلى قوة في "المخيلة" الإنسانية .. يذهب هذا الحداثي الماركسي إلى تطبيق "التاريخية والتاريخانية" على معانٍ ومضابين وأحكام القرآن -كل معانيه ومضامينه وأحكامه- من العقائد إلى الأحكام وحتى القيم والأخلاق والقصص - الأمر الذي يعني نسخ كل مضابين القرآن وتجاوزها .. فيقول:
" .. فالقرآن خطاب تاريخي، لا يتضمن معنى مفارقًا جوهريًا ثابتًا ..
وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص .. فالقرآن قد تحوّل من لحظة نزوله من كونه [نصًا إِلهيًّا] وصار فهمًا [نصًّا إِنسانيًّا]؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل.
__________
(1) "مفهوم النص" لنصر حامد أبو زيد (ص 56، 38) - طبعة القاهرة سنة 1990 م.(2/6)
وهذه التاريخية تنطبق على النصوص التشريعية، وعلى نصوص العقائد والقصص .. وهي تحرك دلالة النصوص وتنقلها في الغالب من الحقيقة إلى المجاز .. " (1)!!.
هكذا، تم العبث الحداثي بالثوابت والمقدسات -القرآن .. والنبوة والرسالة .. والوحي- على هذا النحو اللامعقول! " (2).
* قال تعالي: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
* وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
* وقال تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 70 - 72].
* وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 23 - 25].
* أحمد عبد المعطي حجازي من شياطين الإِنس:
- هو أولى الناس بقول الشاعر:
وكنتُ امرأً من جند إِبليس فارتقى ... بي الدهر حتى صار إِبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسنُ بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
__________
(1) "منقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد (ص 83، 94، 82 - 84) - طبعة القاهرة سنة 1992 م.
(2) "مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية" (ص 30 - 31) للدكتور محمد عمارة.(2/7)
- يقول الدكتور محمد عمارة عنه في كتابه "مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية" (ص 31 - 33)
ونموذج ثالث، لشاعر حداثي -يسمونه "الشاعر الكبير"- بدأ عروبيًا، وانتهى فرنكفونيًا، في بلد ليس لها تاريخ في الفرنكفونية! أي أنه فرنكفوني بالهواية والهوى! ولقد احترف -في كتاباته الصحفية .. التي غلبت شعره- الدعوة إلى:
- تعبير الأنثى بالجسد .. أي: جعل الجسد الأنثوي العاري "الموديل" هو الملهم للرسامين والنحاتين والمصورين والأدباء .. ففصاحة الجسد الأنثوي العاري -عنده- لا تعادلها فصاحة أخرى!! وهو يسحب هذه الدعوة حتى على جسد آدم وحواء عليهما السلام!!.
- والدعوة إلى احتقار العربية -لغة القرآن الكريم- وذلك عندما يدافع عن وصف لويس عوض لهذه اللغة الوطنية والقومية بأنها: "لغة ميتة .. ودخيلة"!!.
- والدعوة إلى الاحتفاء والاحتفال بالإسكندر الأكبر (356 - 324 ق م) بتزيين مياديننا بتماثيله - وهو الذي افتتح مرحلة غزو الغرب للشرق، والقهر الحضاري لثقافات الشرق ولغاته ودياناته، عشرة قرون، لم تنقشع ظلماتها إلا بالفتوحات التحريرية التي قادها الإسلام والمسلمون.
- والمشاركة في الاحتفال -عامين كاملين- بالاحتلال، بدلاً من الاستقلال - الاحتفال بمرور قرنين على غزوة بونابرت (1769 - 1821 م) لمصر (1213 - 1216 هـ - 1798 - 1801 م) وإحراقه مئات القرى المصرية، وإبادته لسُبْع تعداد الشعب المصري، وتحويله الأزهر الشريف إلى إصطبل للخيول! مزق الفرنسيون فيه القرآن الكريم، وتراث العلوم الإسلامية .. بل(2/8)
وبالوا وتغوطوا فيه!
- والتحدي لمشاعر الأمة الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية، عندما غضبت كل الأمة من الوحشية الصهيونية التي استخدمت كل أسلحة الدمار الثقيلة، والمحرمة دوليًا، ضد أطفال وشباب ونساء وشيوخ انتفاضة الأقصى المبارك والقدس الشريف والاستقلال الفلسطيني -التي تفجرت في 28 سبتمبر سنة 2000 م- فكتب هذا الشاعر الحداثي داعيًا إلى حب الجنود الصهاينة الذي أطلقوا الرصاص على الطفل الفلسطيني الأعزل -محمد الدرة- لمدة خمس وأربعين دقيقة!!.
فالكراهية -في عرف هذا الشاعر الحداثي- يجب أن تقف عند "القتل" ولا تتعداه إلى القاتل" (1)!! ..
ولست أدري -ولا المنجم يدري- هل يمكن كراهة الزنا، مع حب الزناة؟! وكراهة السرقة، مع حب اللصوص؟! وكراهة "الشيطنة" مع حب الشياطين؟! ..
وهل يمكن أن نقيم العدالة والقصاص على الجريمة، مع الحب وإطلاق السراح للمجرمين؟!.
- ولقد توّج هذا الشاعر الحداثي مسلسل القطيعة مع ثوابت الأمة، عندما سُئل عن رأيه فيما:
"لو اصطدم المبدع الشاعر بما هو مقدس؟ ".
فإذا به - بعد أن أعلن "تقديسه لقيمة العقل وقيمة الحرية" يعلن رفضه لوجود "المقدس الديني" من الأصل والأساس! .. فهذا الذي يسمونه "مقدسًا
__________
(1) مقال لأحمد عبد المعطي حجازي بعنوان "سوف أكون صريحًا مع الجميع" - الأهرام (ص 28) في 11 - 10 - 2000 م.(2/9)
دينيًا"، ليس أكثر من اختراع نخترعه نحن، وادعاء ندعيه .. ونص عبارته -في الإجابة على هذا السؤال- يقول:
"إن المقدس ليس كائنًا خارج الشعر، أو خارج الإنسان .. المقدس هو مقدس لأننا نقدسه .. والشاعر يفترض أنه قد غلبته النشوة، أو روح السخرية، أو الجحود، كل هذه المشاعر وكل هذه الحالات تصادف الإنسان، وتصادف الشاعر، ماذا يصنع في هذه الحالة؟ نحن نتوقع دائمًا من الشاعر أن يكتب بلغة تؤدي ما يرين أن يؤديه، لكن تظل محافظة على ما يجب لها من جمال" (1)!.
فالمقدس -بإطلاق- عند هذا الشاعر الحداثي الفرنكفوني - هو "العقل" و"الحرية" .. أما المقدس الديني فهو اختراع يخترعه من يؤمن به، ولا وجود له في الواقع والحقيقة .. والسخرية من هذا المقدس الديني، والجحود له، في لحظات "النشوة" و"الإبداع" أمر مطلوب، طالما كانت العبارة التي نعبر بها عن هذه السخرية وهذا الجحود، جميلة .. فقط لا غير!!.
هكذا تعاملت وتتعامل حداثة القطيعة المعرفية مع الموروث، مع المقدس الديني، وثوابت القيم، وما أجمعت واجتمعت عليه الفطر السليمة من مشاعر وحقائق تتعلق بالتراث وبالتاريخ!.
* الدين عند أحمد عبد المعطي حجازي علاقة بين العبد وربه:
بلغ التطرف بهذا العلماني أحمد عبد المعطي أن طلب من المسئولين حرمان الدكتور السيد أحمد فرج من التدريس بالجامعة؛ لأنه أخطر على الطلاب من كتابه -"أدب نجيب محفوظ"- الأهرام 7/ 7/1999. وكان من
__________
(1) أحمد عبد المعطي حجازي من حوار معه "أخبار الكتاب" العدد 37 - سبتمبر سنة 2000 م.(2/10)
حيثيات هذه الدعوة ما قرأه حجازي للدكتور فرج في بعض كتبه من أن "الدين هو الرابطة المقدمة على أية رابطة أخرى، فالدين في نظر السيد فرج ليس مجرد اعتقاد، أو علاقة بين الإنسان وخالقه، وإنما هو أيضًا قومية وجنسية" (1).
* حجازي والوديلات العارية:
بكى حجازي بكاءً مرًّا وهاج هياجًا شديدًا للنكبة التي نزلت بالفن؛ لأن وزيرًا مسئولاً حرّم "الموديلات العارية" في كليات الفنون. والموديلات العارية نساء يُستأجَرن ويجلسن ويقفن أو يضطجعن -تبعًا للوضع المطلوب- عاريات تمامًا ليرسمهن الطلاب والأساتذة.
ووصف حجازي الوزير الذي أصدر القرار بالاستبداد وضيق الأفق وقال بالحرف الواحد: "نريد أن نحرر عقولنا من الخرافة، ونعالج نفوسنا من الخوف، ونعامل أجسامنا بما هي جديرة به من اعتزاز واحترام" (الأهرام 16/ 6/1999).
وهل لا يكون الاعتزاز بالجسد من وجهة نظره إلا بالتعرية.
ولقد رد عليه فهمي هويدي في الأهرام 6/ 7/1999 تحت عنوان "لكي نتجنب مصير الهنود الحمر" قائلاً: "إنها فكرة غير إنسانية تبتذل جسد المرأة وتهينه .. بالمناسبة هل يقبل المدافعون عن رسم الجسد العاري أن تقف أمهاتهم أو زوجاتهم أو بناتهم هذا الموقف أمام الطلاب وغيرهم من هواة الفن؟ .. وهؤلاء المشغولون بالدفاع عن رسم الجسد العاري لم نجد لهم دورًا ولا باعًا في الدفاع عن الأمة العارية المكشوفة حضاريًّا، والتي لا تكاد تجد ما
__________
(1) انظر مقال الدكتور جابر قميحة - مجلة آفاق عربية - العدد (610) - 5 من ربيع الآخر 1424 هـ - 5 من يونيه 2003 م.(2/11)
يستر عوراتها في سباق التقدم".
- وأحمد عبد المعطي حجازي الشاعر وأقواله طوام، ويكفيك ما قاله في جريدة الأهرام يوم الأربعاء 10/ 7/2002 في مقاله الأسبوعي بعنوان "الإزار والرداء" وعرّج على قول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وهو يرى كالعشماوي أن ألفاظ الآية ليس فيها ما يدل على أن تغطية المرأة شعرها واجب ديني؛ لأن الخمار هو الغطاء دون تحديد.
- ونصر أبو زيد الذي يريد الناس أن يتعاملوا مع القرآن كنص أدبي وليس وحيًا إِلهيًّا بل يقول في آخر كتابه: "وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا، قبل أن يجرفنا الطوفان" (1).
وهو يريد زحزحة القرآن عن موكب حياة المسلمين، ويقول: "إن الاحتكام إلى كتاب الله عز وجل لم يكن موجودًا إلا عندما ظهر الخوارج" (2).
* أدونيس:
واسمه الحقيقي علي أحمد سعيد، قزمٌ تعملق، كان على النحلة النُصيرية المارقة، ثم تاب على يد إبليس منها، والتحق بالشيوعية وتسمَّى بأحد أسماء آلهة الفينيقيين (أدونيس) وانضم في مقتبل عمره إلى الحزب القومي السوري، وتأثر برئيس الحزب النصراني "أنطوان سعادة"، ثم مال إلى اليهودية بعد عمالة طويلة للماسونية.
ومن نماذج شعره الكفري العفن قوله:
__________
(1) "الإمام الشافعي، وتأسيس الأيدلوجية الوسطية" لنصر أبو زيد (ص 110).
(2) المصدر السابق (ص 21).(2/12)
كاهنة الأجيال قولي لنا شيئًا عن الله الذي يولد ..
قولي أفي عينيه ما يُعبد ..
وقوله: مات إلهٌ، كان من هناك يهبط من جمجمة السماء.
وقوله: لا الله أختار .. ولا الشيطان .. كلاهما جدار ..
كلاهما يغلق لي عيني، هل أبدِّل الجدار بالجدار ..
وقوله: اعبر اعبر .. فوق الله والشيطان ..
وقوله: يا أرضنا يا زوجة الإله والطغاة ..
وقوله: نمضي ولا نصغي لذلك الإله .. تُقنا إلى ربٍّ جديدٍ سواه ..
* وعبد العزيز المقالح:
كاتب وشاعر يمني عَفِن، كان مديرًا لجامعة صنعاء وهو ذو فكر يساري.
ومن نماذج شعره الملحد قوله:
صار الله رمادًا، صمتًا، رعبًا في كف الجلادين ..
حقلاً ينبت سبحات وعمائم .. بين الرب .. الأغنية ..
الثروة .. والرب القادم من هوليود ..
كان الله قديمًا حُبًّا .. كان سحابةً ..
كان نهارًا .. في الليل أغنيةٌ ..
* عبد الوهاب البَياتي:
وعبد الوهاب النبياتي شاعر عراقي ماركسي ومن شعره الكفري قوله:
الله في مدينتي يبيعه اليهود ..
الله في مدينتي مشردٌ طريد ..
أراده الغزاة أن يكون لهم أجيرًا شاعرًا قواد ..(2/13)
يخدع في قيثاره المذهب العباد ..
لكنه أصيب بالجنون ..
لأنه أراد أن يصون زنابق الحقول من جرادهم ..
أراد أن يكون ..
* محمود درويش:
وهو عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني والمستشار الثقافي السابق لياسر عرفات .. وهذا الذي يُشار إليه بالبنان في المعارض الثقافية الكبيرة .. ويُمثل فلسطين!! أي والله.
- ومن شعره الكفري:
كل قاضٍ كان جزّارًا تدرّج في النبوءة والخطيئة ..
وقوله: نامي فعين الله نائمة ... عنا وأسراب الشحارير (1).
ويقول" في قصيدته "مديح الظل العالي":
يا خالقي في هذه الساعات من عدمٍ تجلّ ... لعلّ لي ربًّا لأعبده لعلَّ
- ويقول في قصيدته "المطر الأول":
في رذاذ المطر الناعم كانت شفتاها
وردة تنمو على جلدي ... وكانت مقلتاها
أفقًا يمتد من أمسي إلى مستقبلي
كانت الحلوة لي
كانت الحلوة تعويضًا عن القبر الذي ضم إلهًا
وأنا جئت إليها من وميض المنجل
__________
(1) من قصيدته "الموت في الغابة".(2/14)
والأهازيج التي تطلع من لحم أبي نارًا وآها
- ويقول في قصيدة (أهديها غزالاً):
وفي ليل رمادي رأينا الكوكب الفضي
ينقط ضوءه العسلي فوق نوافذ البيت
وقالت وهي حين تقول تدفعني إلى الصمت
تعال غدًا لنزرعه مكان الشوك في الأرض
أبي من أجلها صلى وصام
وجاب أرض الهند والإغريق
إلها راكعًا لغبار رجليها
وجاع لأجلها في البيد
أجيالاً يشدّ النوق
وأقسم تحت عينيها يمين قناعة الخالق بالمخلوق
فدائي الربيع أنا
وعبدُ نعاسِ عينيها
وصُوفيُّ الحصى والرمل والحجر
سأعبدهم لتلعب كالملاكِ
وظلّ رجليها على الدنيا
صلاة الأرض للمطرِ
* صلاح عبد الصبور:
يقول هذا الهالك التالف الحائز على جائزة الدولة التقديرية!! في شعره الكفري العَفِن:
.. وفي الجحيم دحرجت روح فلان ..(2/15)
يا أيها الإله كم أنت قاسٍ مُوحش ..
وقوله: والشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم ..
وقوله: ملاحنا ينتف شعر الذقن في جنون ..
يدعو إله النقمة المجنون ..
أن يلين قلبه، ولا يلين ..
وقوله: كان لي يومًا إله وملاذي كان بيته ..
قال لي إن طريق الورد وعرٌ فارتقيته ..
وقوله: حين أبصرت إلهي أسمر الجبهة وردي ..
ورقصنا وإلهي للضحى خدًّا لخد ..
ثم نمنا وإلهي بين أمواج وورد ..
وقوله: وإلهي كان طفلاً .. وأنا طفلاً عبدته ..
* أمل دنقل:
القائل في شعره الكفري:
المجد للشيطان معبود الرياح ..
مَن قال لا في وجه من قالوا نعم ..
* فدوى طوقان:
وهي شاعرة فلسطينية يبرأ منها الحجر والشجر في أرض الإسراء، ومن شعرها قولها في حق ربها وخالقها تقول في قصيدة لها بعنوان "مرثاة إلى نمر":
وأنت يا من قيل عنه إنه هناك ..
حان لطيفٌ بالعباد ..
أين أنت لا أراك ..(2/16)
دعني أراك .. كي أقول إنه هناك ..
* وقال راشد حسين في قصيدة له عن مصادرة اليهود لبعض أملاك العرب:
الله أصبح غائبًا يا سيدي ... صادر إِذن حتى بساط السجدِ
- نوال السعداوي:
المحادة لله ورسوله القائلة: كون الإله ذكرًا انحياز إلى الرجال ضد النساء .. هل بعد هذا ردة وزندقة .. هذه الطاعنة في كل ثوابت ديننا.
* وشيخة الإسلام إِقبال بركة!!
التي تنكر فريضة الحجاب وتشن عليه الحرب الشعواء وتقول: إنه يرمز لعصر الرق والإماء ولا حاجة إليه في عصرنا!! وتكذب أساطين العلم وسادات المحدثين والمفسرين عاملها الله بما تستحق وأخزاها في الدنيا قبل الآخرة ..
* يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي عن أهل الإِلحاد:
"فأهل هذا المذهب أعظم الخلق مكابرة وإنكارًا لأظهر الأشياء
وأوضحها، فمن أنكر الله فبأي شيء يعترف {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6]، وهؤلاء أبعد الناس عن عبودية الله والإنابة إليه، وعن
"التخلق بالأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها الشرائع، وتخضع لها العقول الصحيحة، ومع خلوّ قلوبهم من توحيد الله والإيمان به وتوابع ذلك، فهم أجهل الناس وأقلهم بصيرة، ومعرفة بشريعة الإسلام وأصول الدين وفروعه، فتجدهم يكتبون ويتكلّمون ويدّعون لأنفسهم من العلم والمعرفة والثقافة واليقين ما لا يصل إليه أكابر العلماء، ولو طُلب من أحدهم أن يتكلم عن أصل من أصول الدين العظيمة التي لا يسع أحدًا جهله، أو على حكم من(2/17)
الأحكام في العبادات والمعاملات والأنكحة لظهر عجزة، ولم يصل إلى ما وصل إليه كثير من صغار طلبة العلم الشرعي، فكيف يثق العاقل فضلاً عن المؤمن بأقوالهم عن الدين، فأقوالهم في مسائل الدين لا قيمة لها أصلاً، ولو سبرت حاصل ما عليه رؤساؤهم لرأيتهم قد اشتغلوا بشيء يسير من علوم العربية، وترددوا في قراءة الصحف التي على مشربهم، وتمرنّوا على الكلام الذي من جنس أساليب كثير من هذه الصحف الرديئة الساقطة، فظنوا بأنفسهم وظن بهم أتباعهم الاضطلاع بالمعارف والعلوم، فهذا أسمى ما يصلون إليه في العلم" (1).
هذا النبت الشيطاني النكد لا يُسكت عليه أبدًا فهم جنود الشياطين الذين فاقوا مكرًا ودهاء وكيدًا للإسلام وشعائره وعوام المسلمين الذين لا يفطنون لشبههم لقلة علمهم وضعفهم.
"أليس ضعف المسلمين في هذه الأوقات يوجب لأهل البصائر والنجدة منهم أن يكون جدّهم ونشاطهم وجهادهم الأكبر متضاعفًا ويقوموا بكل ما في وسعهم لينالوا المقامات الشامخة ولينجوا من الهوّة العميقة التي وقعوا فيها؟ أليس هذا من أفرض الفرائض وألزم اللازمات في هذه الحال؟ " (2).
* وفرج فودة:
هذا الذي سمّاه الزعيم "عادل إمام": بالشهيد وبصديقه العزيز هذا الذي سال قلمه بالسم الزعاف على الإسلام والشريعة ثم ذهب إلى مزابل التاريخ.
* حسن سليمان حُداثيّ العُرْي والموديلات العارية:
- أما النموذج لحداثة القطيعة مع قيم الأمة ومعايير الحلال والحرام التي
__________
(1) "انتصار الحق" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص 14 - 15) المكتبة السلفية.
(2) المصدر السابق (ص 7).(2/18)
جاء بها دينها، وتجسدت عادات وأعرافًا في حياتها .. فهو "فنان كبير"، احترف رسم الجسد العاري للنساء .. وللنساء المعدمات، اللائي يكتسبن من حرفة "الموديل"، واللائي يخجلن من هذه الحرفة، فيكتمن ممارستهن لها حتى عن زميلاتهن فيها .. لأنها -حتى في عرفهن- "نخاسة حداثية"، يبعن فيها الحشمة والكرامة والكبرياء والخصوصية لقاء كسرة خبز أو جرعة دواء!
وفي حديث صحفي مع هذا "الفنان الكبير" نشرته مجلة أدبية شهيرة -كجزء من كتاب تحت الطبع- يصدر عن هذا "الفنان"، تحدث عن واحدة من النساء "الموديل" .. تلك التي رسم لجسدها العاري ثلاثمائة لوحة، وهي ترقص -بعد أن "سَطَلَها" بالحشيش، وأسكرها بزجاجة "البولانكي" الرخيص! .. يتحدث هذا "الفنان" الكبير عن "تجربته الفنية" مع الجسد الأنثوي العاري، فيقول- عن "صفية"، التي "جُنَّ بجسدها العاري، حين شاهده، إلى حد تخصيص معرض كامل لها هو معرض [الراقصة] أوائل الثمانينيات .. وكيف أحضر لها "قرش الحشيش" وزجاجة "البولانكي" الرخيص، لتسكر حتى الصباح بينما يدير أسطوانة [يا مسهّرني] لسيد مكاوي، لترقص على إيقاعها طول الليل"!.
- ثم يستطرد في الحديث عن "تجربته الفنية" هذه، فيقول:
"كانت جميلة، أطرافها طويلة، وجسمها طويل. لقد أضافت إلى خطوطي الكثيرة .. منحتني معرض [الراقصة]، ومنحتني القدرة على رسم "الإسكتش" السريع [300 سكتش] كنت أرسم بسرعة جنونية على أوراق "الكلك" حتى ألاحق حركة جسدها مع إيقاع الموسيقى .. ومنحتني حساسية خاصة في التعامل مع الإيقاع، ومنحتني أيضًا صدقًا وإخلاصًا نادرًا .. وأظن أن هذا التجاوب شرط مهم لمستوى اللوحة، وحتى لا أضطر إلى المزيد من الإغراءات من فلوس وتودد وغواية"!!(2/19)
وحتى لا يظن أحد أن هذا "الفنان الكبير" قد صنع ويصنع ذلك من باب "الضرورات التي تبيح المحظورات" -مع التنبيه على أننا لسنا هنا بإزاء "ضرورة". ولا "حاجة" بل ولا حتى أمرًا من "التحسينات"- إذ الكارثة أن هذا الفنان الحداثي الكبير يمارس هذه "النخاسة الفنية" باعتبارها الأمر الطبيعي .. ويتحدث عن حقبة السبعينيات -من القرن العشرين- تلك التي ضغطت فيها موجة التدين والصحوة الإسلامية على كليات الفنون الجميلة حتى ألغت نظام "الموديل العاري" في تلك الكليات .. يتحدث عن هذه الحقبة باعتبارها (الزمن الأهبل)! لأن الجسد الأنثوي العاري -بنظر هذه الحداثة- ليس فقط كلأ مباحًا ومستباحًا، وإنما هو -كما يقول- أقدم معبود عبده الإنسان .. وأطول المعبودات التي عبدها هذا الإنسان في العمر والتاريخ!.
نعم، يعلن هذا "الفنان" عن هذه "العقائد الحداثية" لهذا "الدين الحداثي" فيقول:
"لقد خلقنا الله في أحسن تكوين، ولهذا تكون النسب الصحيحة عارية بالضرورة .. بل ولا تكون صحيحة إلا عارية، ولا يمكن أن يتم تجريد سليم دون عري".
تلك حقيقة أساسية في الفن، لكن الشرط الاجتماعي القائم لا يسمح بعرض اللوحات العارية (زمن أهبل)! .. إن جسد المرأة هو أقدم عبادة عرفها الإنسان، وأعظم ديانة منذ عرفت الأديان. إن "أفروديت" (1) الطالعة من زبد
__________
(1) أفروديت هي إلهة الجمال والحب في الأساطير الوثنية الإغريقية .. ولقد كذب هذا الدّجال عندما عمم عبادة أفروديت على الإنسانية زاعمًا أن ذلك قد استمر عشرين ألف سنة .. وكأن تاريخ الإنسانية هو هذه اللحظة الأسطورية الإغريقية.(2/20)
البحر، عبدت 20 ألف سنة، أكثر من كل الديانات السماوية .. !! (1).
وهكذا .. فلا اعتبار لما تقرره الأديان -كل الأديان- من أن البشرية -التي بدأت بآدم، عليه السلام- قد بدأت -قبل الانحرافات الوثنية- بعبادة الله، سبحانه وتعالى؛ لأن "الحداثة" -التي أصبحت "دينًا" للحداثيين- قد جعلت الجسد الأنثوي العاري أقدم المعبودات، لأقدم الديانات .. وأطول الديانات عمرًا في التاريخ!.
تلك نماذج -مجرد نماذج- للأفكار والآداب والفنون الحداثية، التي أقامت قطيعة معرفية كبرى مع موروث الأمة .. ومع موروثها الديني -عقيدة وشريعة وقيمًا- على وجه الخصوص.
* أدونيس الكاره للعروبة والإِسلام وإِحياء الوثنيات البابلية والآشورية:
- يقول الأستاذ أنور الجندي:
"على طريق الصحافة العربية في خدمة أهداف التغريب والشعوبية والغزو الثقافي كان احتفالها بالشعر الحر واهتمامها بدراسته وإفساح الطريق أمام كتابه، وقد تبينت خلفية ذلك كله حين كشف دعاة القومية السورية والفينيقية والرموز المسيحية من المدارس اللبنانية عن غايتهم وأهدافهم من حيث اتخاذهم الشعر الحر وسيلة لضرب عامود الشعر الأصيل ومهاجمة اللغة العربية في أعظم ميادينها على أساس أن حرب الفصحى تتركز في إذاعة العامية والحروف اللاتينية والشعر الحر.
ولم يقف الأمر عند هذا بل إنه اتصل بالتراث فعُني كتابه على ابتعاث أبي نواس وبشار بن برد والفلسفات المستترة خلف الباطنية والمجوسية في
__________
(1) من حديث أجرته عبلة الرويني مع "حسن سليمان" - مجلة "أخبار الأدب" القاهرة - العدد 366 في 16 - 7 - سنة 2000 م.(2/21)
شعر دعاة التصوف الفلسفي فجرى إحياء الحلاج إلى جوار عشتروت وفينق وتموز وأدونيس، وظهر أدب الهزيمة والإباحية في شعر نزار قباني والرفض لكل قيم المجتمع الإسلامي في شعر سميح القاسم ومحمود درويش، وفي هذا الجو المسموم ظهر أمثال صلاح عبد الصبور الذي نصبه الكاهن الأكبر لويس عوض أميرًا لشعراء الشعوبيين، وقد نمت هذه الحركة بتأييد الاستشراق ودعم أمثال جاك بيرك وسعيد عقل ويوسف الخال لها حتى تقدمت رسالة دكتوراه في الجامعة اللبنانية عن تطور مفهوم الحب والمرأة في شعر نزار قباني وإشاعة مفاهيم الإباحية الجنسية في الدراسات الجامعية فضلاً عن رسالة أدونيس عن الشعوبية العربية خدمة لمذهب القوميين السوريين الذي جند العشرات، ومنهم القصاصة غادة السمان التي جرى على نسقها الكثيرات في أسلوب الكشف الجريء من أمثال جاذبية صدقي وغيرها.
- هذا هو التيار الذي احتضنته الصحافة العربية وجندت له الكثيرين باعتباره عاملاً هامًا في حركة الهدم الضخمة التي تقوم بها لحساب النفوذ الأجنبي.
ولقد عمدت حركة اليسار أول ما عمدت لتثبت هذا التيار أن قامت بضرب الاتجاه الصحيح الذي قامت عليه حركة الشعر العربي الممتدة منذ فجر الإسلام إلى اليوم بتحطيم الإطار الأصيل ومهاجمة عامود الشعر والدعاة إليه، وإتاحة الفرصة لأمرين: للشعر الحر الذي يقوم على غير أساس صحيح والشعر العامي والزجل والفلكلور والبحث عن كل التفاهات التي قالها السكارى والمخرفون على مدى العصور على أساس أنها تراث للفلكلور ترمى كلها إلى التحرر من قيود اللغة العربية والنحو في محاولة هروبية للخروج من مأزق الجهل إلى كبرياء الادعاء بأن الفصحى شاقة وعسيرة.
وتولى أمثال السياب والبياتي وأدونيس الدعوة إلى تمسيح الشعر(2/22)
وصعلكته وابتعاث الأساطير القديمة وإحيائها في عداء شديد للفصحى وما وراءها من قيم الإسلام والقرآن.
وجاء غالي شكري ليغمز كل ما له اتصال بالتراث أو الدين أو الوطنية من الشعر، ووصفه بالعقم مع تأكيده للخطة التغريبية التي يعمل عليها شعراء الرفض وشعراء العامية.
وهكذا دافعت الصحافة عن هذه المفاهيم المسمومة وأفسحت لها ومكنت لهؤلاء الذين ظهروا في ذلك الاتجاه من أن يتفتحوا في رحابها وأن تلمع أسماؤهم، والهدف هو ضرب اللغة العربية، وضرب القيم والأخلاق من خلال ما تحمل هذه الكتابات من مفاهيم مضللة زائفة منحرفة وإحلال ظلام الوجودية والمادية والإباحية والماركسية المعقدة ومفاهيمها الضالة محل روح الأصالة والرحمة والعدل والتوحيد الخالص التي يمثلها الأدب العربي الأصيل" (1).
- يقول الأستاذ أنور الجندي -رحمه الله-:
"استهدفت حركة الالتفاف حول الأصالة العربية الإسلامية خلق مثل أعلى مغاير للمثل العربي الإسلامي يقوم على مفاهيم وثنية مضللة قوامها بعث الحضارة الفينيقية التي ظهرت في سوريا ثم في شمال أفريقيا قبل الميلاد بثلاثمائة عام تقريبًا، باعتبار أن الدعوة إلى سوريا الكبرى هي إعادة لمجد الفينيقيين وحضارتهم وبعث للعظمة الفينيقية والسيادة الحقيقية على البحر المتوسط، وسوريا الكبرى أو فينيقيا المجيدة التي هي الفردوس المفقود والحلم الضائع وهي الأمل الكبير بالنسبة لكل أعداء الوحدة العربية وعلى هذه المفاهيم وفي إطار هذا المعنى يدور الأدب الذي قام عليه أدونيس ويوسف
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" لأنور الجندي (ص 161 - 162) دار الاعتصام.(2/23)
الخال وجريدة النهار وآزره لويس عوض وصلاح عبد الصبور. كذلك فقد ركزت هذه المحاولة على رمز تاريخي هو القائد الفينيقي السوري القديم هانيبال الذي دخل حروبًا طويلة مع الرومان خلال الفترة الممتدة من 264 - 204 قبل الميلاد وقد وصلت جيوش هانيبال إلى أبواب روما واستولت تحت راية الفينيقيين على كل شمال إيطاليا، وفي هذا الإطار جاءت محاولة السياب والبياتي وأدونيس إلى إحياء الأساطير القديمة التي تساعد هذه الدعوة وترمز إليها. ولما لم يجدوا للفينيقيين القدماء أساطير معروفة لجأوا إلى الأساطير البابلية والآشورية لإحيائها وبعثها والعمل على استخدامها في الأدب الجديد، وأهم هذه الأساطير التي وقف عندها القوميون السوريون: تموز وعشتار وأدونيس.
هذه هي الأفكار التي احتضنتها الصحافة العربية لتغرسها في نفوس الشباب العربي المسلم والتي جندت لها عشرات من شعراء الرفض الذين يرفضون الحضارة العربية الإسلامية أساسًا ويصمونها بكل نقيصة.
ويعتقد أصحاب هذه الأفكار أنهم يعيشون في الأرض الخراب التي هي العالم العربي الإسلامي، فهم لكل هذه القيم كارهون ولها محاربون.
في سبيل انبعاث الأساطير البابلية القائمة على الوثنية والإباحية والتي تتكامل مع الدعوة إلى الفرعونية أيضًا، وقد وصفها أحد الكتاب بأنها مغالطات مقصودة تهدف في النهاية إلى خلق فكرة مغرية يمكن لصغار النفوس وصغار العقول أن يلتفوا حولها بحماسة، وحتى تكون هذه الفكرة مدرسة قوية لتخريج عملاء يحاربون الفكرة العربية والدعوة الإسلامية داخل الوطن العربي، وأن هذه المغالطات تهدف إلى المساعدة على بعث الأقليات الفكرية والدينية والعنصرية الأخرى.
- وهكذا استطاعت الصحافة العربية أن تحشد حشدًا هائلاً من دعاة(2/24)
الشعر الحر الذين انطووا في هذه المفاهيم عارفين لها أو جاهلين، تحت اسم فينيقيا القبلة الروحية التي يعود المجد الغابر إلى هذه المنطقة من خلالها، ويعتبر (علي أحمد سعيد) الذي غير ملته واسمه فأطلق عليه زعيم القوميين السوريين أنطون سعادة قبل أن يشنق اسم الإله البابلي القديم وجعله أمير شعرائهم وكان قد خرج من بلاده هاربًا منذ سنوات وعاش في لبنان وباريس وهيئت له كل الأسباب التي تجعله في مركز الصدارة، أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة شعر ثم مجلة مواقف.
وقد حمل أدونيس كل مفاهيم أنطون سعادة في كراهية العروبة والإسلام واحتقار الواقع المعاصر، والدعوة إلى تغييره وإحياء تراث الفينيقية القديم باعتبار فينيقيا هي الفردوس المفقود عند القوميين السوريين.
- يقول رجاء النقاش: "وقد أدرك الاستعمار قيمة هذه الفكرة فوقف وراءها وساندها فهي في حقيقتها جزء من الثورة المضادة للعروبة؛ لأنها تحاول أن تثير الشك في سلامة الفكرة العربية والإسلامية".
"والاستعمار هو راعي الفكرة ومغذيها إلى أبعد مدى، يريد أن يستفيد منها في خلق جيل مشبع بوهم الروح الفينيقية كاره للوحدة العربية. كل هذا انتهى بأدونيس إلى كره العرب والعروبة كراهة عميقة، لذلك فهو يتبنى كل ما يوحي بابتعاده عن العروبة وسخطه عليها، بالإضافة إلى غنائه النائح حول فينيقيا وإلى تسمية نفسه باسم أدونيس كرمز من الرموز التي يدعو القوميون السوريون إلى إحيائها، بالإضافة إلى هذا كله فقد سمى نفسه في قصيدة أخرى: مهيار الدمشقي. ويشبه أدونيس نفسه بمهيار على اعتبار أن مهيار لا ينتمي إلى العرب؛ لأنه من أصل فارسي، وبذلك يتبرأ أدونيس من عروبته ويعلن أنه مثل مهيار من أصل غير عربي، مهيار الدمشقي فينيقي وهو يقول: المصريون فراعنة والسوريون فينيقيون، ويقول رجاء النقاش: لقد أصبح(2/25)
واضحًا بعد مرور أكثر من ربع قرن أن قيادات حزب القوميين السوريين كانت متصلة من ناحية التمويل والتوجيه بالسلطات الاستعمارية الأجنبية. وكان الهدف من قيام الحزب أن يكون عنصرًا من العناصر المساعدة على تمزيق الأمة العربية وإعاقة أي تطور مادي أو فكري لها، وهكذا نجد الإجابة على السؤال الحائر: لماذا يعملون على زحزحة الناس عن القيم الأصيلة وينقلون الناس من مفاهيمهم التي صنعها الإسلام أربعة عشر قرنًا؟!.
وما يقال عن أدونيس، يقال عن بدر شاكر السياب الذي كان مضطرب المواقف الفكرية السياسية بين الوطنية المحلية والشيوعية، وبين الارتباط بالقوميين ثم بجماعة مجلة شعر، والقوميين السوريين، يقول رجاء النقاش: "وكان الذين يهاجمون السياب يرون فيه منافقًا عريقًا وانتهازيًا كبيرًا، وكانوا يعتبرونه باحثًا عن مصالحه لا عن مبادئه، وما يقال عن السياب يقال عن البياتي" (1).
* رائد الحداثة أدونيس وأقواله العفنة:
أدونيس رائد الحداثة الذي وُضع في واجهة الأدب الحداثي، وصارت له شهرة داوية في المحافل الأدبية والفكرية على صعيد العالم العربي، ودوائر الاستشراق الأوروبي وبخاصة الفرنسي. تصدى له في الستينات عبر مجلة الرسالة في إصدارها الثاني عدد من الأدباء والشعراء، منهم الدكتور عبده بدوي، والدكتور أحمد كمال زكي، والاستاذ عباس خضر، والدكتور عبد الكريم الخطيب -يرحمهم الله- وغيرهم من الكتاب في تلك الفترة الذين رأوا في "حركة الرفض" التي يقودها أدونيس - كما كانت تُسمَّى الحداثة آنئذ خطرًا على العروبة والإسلام والشعر أيضًا.
__________
(1) المصدر السابق (ص 163 - 165).(2/26)
وممن تصدي له وفضح زوره ودجله الدكتور حلمي القاعود في كتابه "الحداثة العربية المصطلح - المفهوم".
* الدكتور حلمي القاعود يرد دجل الكذّاب الأشر أدونيس:
- يقول الدكتور حلمي محمد القاعود مبينًا حقيقة أفكار أدونيس وأقواله: "لا حاجة لي إلى استدعاء شعر أدونيس وتقديم النماذج التي تحمل رموزًا وأفكارًا تعبّر وتُشير إلى طبيعة حداثته ومنهجه .. لأني سأكتفي بقراءة عابرة لمجلته "مواقف" التي أصدرها في بيروت أواخر عام 1968 عقب هزيمة 1967، ففيها من فكره الواضح وسلوكه الصريح ما يكفينا عناء تفسير شعره أو تأويله .. إنها "المانيفستو" الحقيقي الذي يعبّر عن الرجل ومنهج الحداثة في أرضيته الفكرية وطلائه الأدبي .. وأقول أيضًا لا حاجة بي إلى ترديد ما قيل عن الرجل ونشأته وتكوينه الثقافي وانتماءاته الطائفية وولائه لمن رعوه علميًّا وأدبيًّا، فهذه أيضًا قد تدخل في سياق التأويل الذي يثير من الجدل أكثر مما يثير من الاتفاق .. إننا سنقرأ ما كتبه (أدونيس) في مجلته "مواقف" مذيلاً بتوقيعه وبخط يده.
في أول عدد من "مواقف" يفتتحه (أدونيس) بمقدمة قصيرة، منها:
"نلتقي في "مواقف"، كوكبة من أصدقاء، تحتضن أصواتنا وأصوات الخلاقين جميعًا. تُقاسمنا، لكي تنمو وتستمر، خبزنا اليوميّ. إنها تعبير عنا، وجزء منا، وتكملة لنا. إنها لذلك، حقيقة ورمز: تفجر جيل عربي اختبر ما في الحياة العربية من تصدعّ وخلل، وقرّر أن يبحث من جديد، وأن يكتشف ويبني من جديد".
إلى هنا يبدو كلام (أدونيس) مقبولاً، لأنه يتحدث عن موقف ويرصد(2/27)
حالة، ويعبّر عن غاية، ولكنه بعدئذ يبدأ في كشف أوراقه تدريجيًّا، حين يتكلم عن التدمير والرفض: "هكذا تطمح "مواقف" إلى أن تكون استباقًا، كل استباق إبداع الإبداع: هجوم ما نرفضه وإقامة ما نريده، الحضارة إبداع: ليست استخدام الأدوات بقدر ما هي ابتكار الأدوات، كذلك الثقافة: ليست استعمال اللغة بقدر ما هي تجديد اللغة وخلقها المستمران".
ثم يستمر في حديثه الذي يكشف عن غايته الرافضة المدمّرة: "المعرفة، إذن، هجوم، هي ما لم نعرفه بعد، وليست الحرية، إذن، حقّ التحرك ضمن المعلوم المقنَّن وحسب؛ إنها، إلى ذلك وقبله، حق البحث والخلق والرفض والتجاوز، إنها ممارسة ما لم نمارسه بعد: تلك هي مواقف".
* هالة القداسة!
ويكشف عن الجذر الحقيقي لمنهجه الهادف إلى نسف الثوابت نسفًا كاملاً، فيصف "مواقف" قائلاً:
"إنها مناخ للمجابهة. إنها فعل المجابهة، تزول في هذا الفعل هالة القداسة. لن تكون هناك موضعات مقدسة لا يجوز بحثها. لن تكون هناك حقائق ينبغي إخفاؤها أو تجاهلها أو التغاضي عنها. هذا الفعل يتخطّى كلّ تكريس، كلّ نهائية، كل سلطوية، إنه النقد الدائم، وإعادة النظر الدائمة.
إنه الطوفان المتلاحق الذي يغسل ويضيء كل شيء".
["مواقف"، العدد الأول، تشرين الثاني 1968].
* يزيل اللبس!
- وإذا كانت افتتاحيات (أدونيس) التالية لأعداد مواقف تدور في إطار الرفض وعدم القبول للثوابت والمقدسات من خلال أسلوب أقرب إلى المراوغة، وإثارة الالتباس فإنه في العدد السادس يزيل اللبس، ويصرّح برؤيته(2/28)
وغايته، ويؤكد مرجعيته الشيوعية الخالصة، يقول:
"ما نطمح إليه ونعمل له كثوريين عرب هو تأسيس عصر عربي جديد.
نعرف أن تأسيس عصر جديد يفترض، بادئ بدء، الانفصال كليًّا عن الماضي.
نعرف كذلك أن نقطة البداية في هذا الانفصال -التأسيس- هي النقد: نقد الموروث ونقد ما هو سائد شائع، لا يقتصر دور النقد هنا على كشف أو تعرية ما يحول دون تأسيس العصر الجديد، وإنما يتجاوز إلى إزالته تمامًا.
إن ماضينا عالم من الضياع في مختلف الأشكال الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية؛ إنه مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر. وهي مملكة لا تمنع الإنسان العربي من أن يجد نفسه وحسب، وإنما تمنعه كذلك من أن يصنعها".
* الدين .. الجوهر!
كتب ماركس يقول سنة 1843: "إن مهمتنا هي أن نعرّي العالم القديم تعرية تامة، وأن نعطي للعالم الجديد معنى إِيجابيًّا (في رسالته إلى صديقه روجيه). ويتابع في الرسالة نفسها:
"نريد أن نجدّد العالم الجديد بنقد العالم القديم ... إننا نعلم علم اليقين ما يجب علينا أن نحققه في الحاضر وهو: نقد النظام القائم كله نقدًا لا هوادة فيه .. نقدًا لا يخشى نتائجه ولا صراعه مع القوى القائمة".
- ولما كانت بنية الثقافة والحياة العربيتين السائدتين تقوم في جوهرها، بالدين، فإننا نفهم أبعاد ماركس من أن (نقد الدين شرط لكل نقد) "مشاركة في نقد فلسفة الحق عند هيغل، الآثار الكاملة، مجلدًا، 83)، وإذا فهمنا بالتالي أن النقد عند ماركس ليس عقليًّا تجريديًّا، بل عملي .. ، نستطيع أن(2/29)
نقول": إن النقد الثوري للموروثات العربية شروط لكل عمل ثوري عربي".
["مواقف"، العدد 6، 1969، الافتتاحية].
وواضح من هذا الاقتباس الذي طال بعض الشيء أن الحداثة في وعي (أدونيس) ومن سار على نهجه من أهل الحداثة المعاصرين، ترتبط بالموقف من الدين، أو قل بنفي الدين من واقع الأمة وتصوّرها، مهما كانت نتائج هذا النفي. ولنتذكّر أن الدين هنا يُقصد به الإسلام وحده؛ لأن الأمة العربية لا تملك إلا دينًا رئيسيًّا تؤمن به الأغلبية الساحقة التي تمثل 95% من أبنائها تقريبًا، ولا يقصد به النصرانية أو اليهودية؛ لأن (أدونيس) في مجلته "مواقف" قد تعاطف مع النصرانية وحدها دون الإسلام، ولم يهاجم اليهودية أبدًا، وأتاح لعدد من النصارى ورجال الدين المسيحي أن يعبروا بكل حرية -بل يبشِّروا بمعنى أدق- بعقيدة التثليث أو النصرانية المنحرفة (انظر مثلاً مقالة: الثورة بين ديانة الأب وديانة الأبن، مواقف، العدد 3، ص 149)، المقصود إذًا هو الإسلام وليس غيره!
* الانفصال كليًّا:
إن نفي الدين، أو إسقاطه من معادلة الوجود العربي -إن صحّ التعبير- تبدو الهدف الأوحد للحداثة العربية المعاصرة، ويستتبع ذلك إسقاط كل ما يتعلق بالإسلام من مقومات حضارية ولغوية وتصورية، وهو ما عبّر عنه (أدونيس) -بالانفصال كليًّا عن الماضي- بكل ما يرمز إليه هذا الماضي من معتقدات وأفكار وإنجازات وإخفاقات. وبالطبع فإن هذا الماضي العربي الذي صنعه الإسلام يمثل العقبة الكئود التي لا يكفي الانفصال عنها، بل لا بد من إزالتها تمامًا؛ لأنها تحول دون تأسيس العصر الجديد كما يرى (أدونيس).
وإذا عرفنا أن هذا الكلام قد قيل عقب هزيمة 1967 التي أكّدت وجود(2/30)
الدولة اليهودية على أرض فلسطين المقدسة، بكل ما ترمز إليه هذه الدولة من بعثٍِ للماضي (لا الانفصال عنه)، واستدعاءٍ له لغة وتصورًا وآثارًا (ليس إزالته تمامًا)، وتأسيس عصر يهودي جديد، أدركنا مدى المفارقة التي تريدنا أن نزيل ماضينا بينما يُوجد غيرنا ماضيه!
* مملكة الوهم والغيب:
إن أدونيس، لا يتورعّ عن وصف ماضينا بالضياع في مختلف المجالات أو ما يسميه (الأشكال) ويبدأها بالشكل (الديني) أي الإسلامي، ولا ندري ما المقصود بالضياع تمامًا؟ ولكنه حين يصف ماضينا بمملكة الوهم والغيب التي تتطاول وتستمر، ندري جيدًا أنه يرفض الإسلام جملة وتفصيلاً، ويلقي عليه تبعة أن يجد (العربي) نفسه، أو يصنعها!
إلى هذا الحدّ وصلت أفكار الحداثة عند (أدونيس) بحيث صار إلغاء الماضي، وإلقاء تبعة الحاضر عليه مدخلاً ضروريًّا لتأسيس العصر الجديد الذي يريده. إنه عصر بلا إسلام، ولم يقل لنا: لماذا يرفض الماضي، ولماذا عدّه (مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر)؟!
إنه مقتنع تمامًا أن (الحداثة) لا بد أن تزيل الإسلام دون تقديم أسباب منطقية أو جوهرية، ومرجعه في ذلك ما يقوله (لينين)، و (هيغل) .. أي إن مرجعيته العقدية والفكرية هي (الماركسية) كما يراها صنّاعها وعشّاقها .. ولما كانت (الماركسية) نقدًا لما هو سائد وهدم له، فلا بد أن ننقد -كما يريد أدونيس- ما هو سائد عندنا ونهدمه لنبني (العالم الجديد) على أنقاض العالم القديم الذي يقوم في جوهره -ثقافةً وحياةً- على الدين، ولذا يستشهد (أدونيس) بمقولة ماركس: (نقد الدين شرط لكل نقد) وهذا النقد أساس بناء العصر الجديد .. أي العصر الماركسي!.(2/31)
* استيعاب الدّرس!
ولا ريب أن هزيمة الماركسية في بلادها مع انهيار الإمبراطورية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وأوروبة الشرقية والتوابع الإفريقية والآسيوية واللاتينية، ثم التنديد بقادة ومفكري الماركسية وحلّ الأحزاب الشيوعية في العالم أو تغيير أسمائها، قد كشفت زيف (الحداثة) العربية التي هي الماركسية أو الشيوعية كما قدمها (أدونيس).
وإذا كان العالم كله قد استوعب درس سقوط الماركسية، فإن (الحداثيين) أو الماركسيين العرب هم الاستثناء الذي لم يستوعب الدرس حتى الآن، وظل على ولائه (للحداثة)، ليس من أجل الفقراء أو الكادحين، ولكن من أجل إزالة (مملكة الوهم والغيب) التي يقصدون بها الإسلام!
* نسق الدين!
ولما كان (أدونيس) عرّاب (الحداثة) في بلادنا العربية صريحًا في أطروحاته، واضحًا في مقولاته بنفي (الإسلام) وحده، فإنه كان صادقًا مع نفسه حين طبّق تصوّره الحداثي على دراساته الأدبية والنقدية، وكذلك إنتاجه الأدبي.
لقد نشر (أدونيس) في مجلته "مواقف" موضوعات عديدة تتعرض بالنقد للدين والوحي من منظورات مختلفة تحمل عناوين من قبيل: هل للدين منطقه الخاص؟ -الثورة والوحي- هل الدين قابل للنقد الفلسفي؟ -معنى موت الله عند نيتشه- التناقض في الوحي الإلهي .. إلخ، مما يعني أن الرجل يجعل هدف (الحداثة) الأول هو نسف الدين، أو إزالته تمامًا وفق تعبيره!؛ لأن هذه الموضوعات تصبّ في بحر هذا الهدف، ولجّتِهِ العنيفة.(2/32)
* صورة الإِله عند بلند الحيدري السائر على درب عرّاب الحداثة "أدونيس":
بل إنه ينشر قصائد تخدم هذه الغاية، وتتحدث صراحة عن (الإله) بصورة غير لائقة، بل مقزّزة، ومنها قصيدة (بلند الحيدري) التي عنوانها (لو مرّة نمت معي)، وقد جاء فيها:
" يا سيدي ..
لن نوقد الشموع كي تعودْ
لن نغسل الدروب بالدموع كي تعودْ
ولن نحبّ ربك المسلول مثل الجوع .. كي تعودْ
عد مثلما نريدْ
ككل شيء كاذب يضحك ملء دارنا
ككذبة الصباح في تحيّةٍ لجارنا
لأننا نريد أن نعرف في الخطيئة الإنسانْ
لأننا نريد أن نعبد فيك الله والشيطانْ"
- ثم يقول في مقطع آخر أكثر جرأة:
"لو مرّة عرفت يا إلهي الكسيح
كيف الزنا يصيرْ
كيف تصير ليلة بهولها
كيف أنا أصير
دمّلة في أضلعي
وكيف، كيف، سيدي أصيرْ(2/33)
بجرحي الصغير
بليلي المصلوب عبر مخدعي
أكبر من صليبك المرميّ خلف الشمس، خلف الريح
أكبر منك يا إلهي الكسيح
عد مرّة كوجهي القبيح
كجسمي القبيح .. إلخ".
["مواقف"، العدد 4، أيار - حزيران، 1969، ص 73].
وإذا كان الشاعر (بلند الحيدري) يتعامل مع لفظ الجلالة بهذه الصورة الجريئة والمقزّزة، فإنه كان حريصًا أيضًا على استخدام المصطلحات النصرانية بغزارة مثل: الخطيئة، والصليب، وهو الحرص الذي حافظ عليه كذلك شعراء آخرون نشروا في مواقف مثل: مظفّر النواب، وأدونيس نفسه.
(راجع: العدد السابق ص 84، 89، وما بعدهما).
* الظواهر النافرة!
لقد تابع أدونيس في دراساته، بل وترجماته، مسيرته الحداثية التي تقوم على الإزالة الكاملة للماضي .. ولعل أول دراساته ما كتبه حول الشعر العربي عبر عصوره المختلفة (مقدمة للشعر العربي، دار العوة، ط 2، بيروت، 1975)، الذي نشره مسلسلاً في مجلة "المجلة" المصرية أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. لم تعجبه في الشعر العربي إلا الظواهر النافرة والمتمردة، طرفة بن العبد، بشار بن برد، أبو نواس، ابن بابك .. إلخ .. ولم يرض إلا بالنماذج التي خالفت القيم الدينية والفنية .. وتوقف عندما يسمى قصيدة النثر مبشرًا ومباركًا!
لقد توالت دراسات أدونيس وأشعاره، وهي تنبئ عن استمرار منهجه(2/34)
في الرفض والإزالة، وفي كتابه "الثابت والمتحول" الذي حصل به على درجة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف في بيروت؛ خلاصة واضحة لإيمانه الماركسي، وموقفه من أدبائنا الذي تشكل وفقًا لمدى قربهم أو ابتعادهم عن الدين: أي الإسلام!
* شيوخ ومريدون!
ويمكن القول: إن (أدونيس) استطاع أن يحقق نجاحًا ملحوظًا على مدى عقود ثلاثة، واستطاع مع آخرين، أن يجذب الأتباع والأشياع والدراويش إلى عالم الحداثة الأدبية والفكرية جميعًا، بل إن بعض (الماركسيين) تَخلَّوا عن (الواقعية الاشتراكية) لحساب (الحداثة) الأدونيسية وبوجه خاص في مجال الإنتاج الأدبي؛ بغموضها وسيرياليتها وهذيانها وانخلاعها عن القيم الفنية والتقاليد الأدبية الموروثة، وبصفة عامة فقد صار للحداثة على مستوى (العالم العربي) شيوخ ومريدون يسيطرون على الساحة الأدبية، ويملكون مفاتيح الشهرة والتعتيم، ويا ويل من تحدثه نفسه بالوقوف في وجه الحداثة بالمنطق والعلم والحجة!!!. هـ (1).
ولكن المستقبل كل المستقبل للإسلام وسيذهب أدونيس ومن معه إلى مزابل التاريخ.
لا تُهيئ كفني يا عاذلي ... فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهدُ
* وقفة أخيرة مع أدونيس وكتابه "مقدمة في الشعر العربي":
يتحدث أدونيس عن أبي نواس في جمل عائمة هائمة، ضائعة المعالم والمعاني، كلمات تفوح برائحة الخمرة، وتدور دوار الثمل، وتترنّح ترنح
__________
(1) "الحداثة العربية .. المصطلح - الفهوم" للدكتور حلمي محمد القاعود (ص 3825) - دار الاعتصام.(2/35)
السكران، وتشتط في أكثر من سبيل معوّجة تائهة ويرى في سلوك أبي نواس ثورة وتجديدًا وحداثة، يقول عن أبي نواس إنه بودلير العرب" (1).
"فما بال كاتبنا مغرم بتشبيه شعرائنا بالساقطين في ديار الغرب .. ولو بُعِث أبو نواس وسمع هذا التشبيه وعرف من هو "بودلير" لقذف الكلام في وجه صاحبه ولتاب وأناب" (2).
- يقول الكاتب عن أبي نواس وهو يمجد سقوطه في الخمر: "شعر أبي نواس مصابيح .. لذلك لا يخاف العقاب بل يفعل ما يؤدي فعله إلى العقاب" (3).
- ويقول: "أبو نواس شاعر الخطيئة لأنه شاعر الحرية" (4).
- ويتحدث عن قتل ديك الجن لزوجه، وندم ديك الجن نفسه على جريمته، ولكن أدونيس لا يحب له أن يندم أو يبكي .. إن الكاتب يريد أن يجعل أقبح جريمة في حياة الإنسان .. جريمة القتل الظالم .. القتل المجنون حرية ممجّدة. إنه يقول":
"هذه الخطيئة الممجّدة تنقلب عند ديك الجن إلى جريمة ممجدة وضرورية كتوكيد أعلى ومطلق للحرية والشرف، جوهر الشخص الإنساني" (5).
وهكذا تصبح أحطّ الجرائم وأبشعها مجدًا وحرية وشرفًا عند كاتبنا .. أي شرف هذا الذي تنعم الوحوش والذئاب في حرية دامية مظلمة مفزعة.
__________
(1) "مقدمة في الشعر العربي" لأدونيس (ص 47).
(2) "الحداثة في منظور إيماني" للدكتور عدنان النحوي (ص 27) - دار النحوي.
(3) "مقدمة في الشعر العربي" (ص 49).
(4) المصدر السابق (ص 52).
(5) المصدر السابق (ص 52).(2/36)
أي شرف هذا الذي تنعم الوحوش والذئاب في حرية دامية مظلمة مفزعة.
- ويسفّ الكاتب غاية الإسفاف وهو يقول عن أبي نواس أنه "يواجه الله" "هكذا أبو نواس فصل الشعر عن الأخلاق والدين. إنه الإنسان الذي لا يواجه الله بدين الجماعة، وإنما يواجهه بدينه هو" (1).
وهكذا تسفّ التعابير، وتسف المعاني، وتسف الغاية.
- ويحارب اللغة ويشتد في حربه وفي خدره وفي غيبوبته فيقول: "إن تحرير اللغة من مقاييس نظامها البراني، والاستسلام لمدها الجواني، يتضمنان الاستسلام بلا حدود إلى العالم" (2).
إنه تحطيم كامل للغة، وإلغاء لقواعدها كلها: نحوها وصرفها وبلاغتها وبيانها .. فيقول: "وهذا يؤدي إلى القضاء على علم المعاني" (3).
* أدونيس شيطان من شياطين الإِنس:
أدونيس شيطان من شياطين الإنس السكارى الغاوين الأفّاكين يمضي في عالم التيه والسراب والظلمات والوادي السحيق ينتقل بعد ذلك إلى أخطر جريمة، وأسوأ كلمة، وأقبح تصور، وأوقح تعبير، ينتقل بشكل واضح سافر ليهدم العقيدة والإيمان بهجوم سافر مباشر .. إنه يقول:
"الله في التصور الإسلامي التقليدي نقطة ثابتة متعالية، منفصلة عن الإنسان. التصوف ذوّب ثبات الألوهية، جعل حركة النفس في أغوارها، أزال الحاجز بينه وبين الإنسان .. وبهذا المعنى قتله (أي الله)، وأعطى الإنسان طاقاته. المتصوف يحيا في سكر يسكر بدوره العالم، وهذا السكر نابع من
__________
(1) المصدر السابق (ص 53).
(2) المصدر السابق (ص 138).
(3) المصدر السابق (ص 138).(2/37)
قدرته الكامنة على أن يكون هو والله واحدًا. صارت المعجزة تتحرك بين يديه" (1).
- وهكذا يسف أدونيس ويهوي في واد سحيق، يهوي في وحول، ويسقط في رجس. ونستحي أن نعيد ألفاظه فهي أقبح من كل تعليق، يقول الدكتور عدنان النحوي:
"هذا كاتب واحد من كُتّاب الحداثة. فما بالك بغيره من الكتاب، وإني أَؤمن أن استعراض كتاباتهم جميعها ضرورية حتى نعرف الخط الذي يُرسم، والحرب التي تُشَنّ. ولكن مثل هذه الدراسة أوسع من مجال هذا الكتاب، ولقد تحدث الأستاذ الدكتور محمد مصطفى هدارة في محاضرته القيّمة في مؤسسة الملك فيصل الخيرية في 17/ 6/1406 هـ عن الحداثة، ولقد كان عنوان المحاضرة "الحداثة والتراث" استعرض في مقدمتها أهمية هذا الموضوع وخطورته، وكان من جملة ما قاله:
"والحقيقة هي أن الحداثة أخطر من ذلك بكثير، فهي اتجاه فكري أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدّامة؛ ذلك أنها تتضمّن كل هذه المذاهب والاتجاهات، وهي لا تخصّ مجالات الإبداع الفني أو النقد الأدبي ولكنها تعمّ الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء" (2) اهـ.
- يقول الدكتور عدنان النحوي:
"كتبتُ قصيدة في (أدونيس) على أثر إعلانه في جريدة الشرق الأوسط أنه يبحث عن مهندس يصمم له قبره. قلتُ القصيدةَ لأُبين له ثلاث نقاط:
__________
(1) المرجع السابق (ص 131).
(2) "الحداثة في منظور إيماني" (ص 40).(2/38)
- إذا مات على كفره المعلن الصريح هلك، وكان من أهل النار.
- وما أدراه كيف يموت وأين يموت؟
- وأخيرًا أدعوه إلى الإسلام عسى الله أن يغفر له إذا أسلم. وبعثت بالقصيدة إلى مجلة إسلامية معروفة، عسى أن تبلّغه هذه الرسالة وتبلغه دعوتي له إلى الإسلام عن طريق نشر هذه القصيدة.
وكنت أرى أن القصيدة قوية فنيًا ومعنى، بعد أن سمعها عدد من الأصحاب والأدباء وأثنوا عليها. وبعد فترة ليست بالقصيرة وجدت أن المجلة لم تنشرها.
فاتصلت هاتفيًا برئيس التحرير المسلم، أو الداعية المسلم، فماذا أجاب؟ قال: "القصيدة شديدة عليه". قلت له: الذي تحدى الله وسبّه وسبّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنكر الإيمان وحارب الإسلام، ولم يُبال بالعالم الإسلامي كله، وتحدّاهم جميعًا، أفأنت ترى القصيدة شديدة عليه؟! وقلت: مع ضعفنا هذا حُقَّ لأدونيس وغيره أن يستخفّوا بالمسلمين ويتحدوهم" (1).
الشعرُ بابان باب من أبالسةٍ ... يوحون بالشعر آثامًا وأوزارا
وزخرفًا لم تزل ترضاه أفئدة ... تلقى به النار أو تلقى به العارا
وشاعر من هدى الرحمن خفقته ... معنى ولفظًا وأشواقًا وإِيثارا
يطوف في الكون يلقى من عجائبه ... آيًا تفتّح للألباب أسفارا (2)
__________
(1) "الشعر المتفلت بين النثر والتفعيلة وخطره" للدكتور عدنان النحوي (ص 116) - دار النحوي.
(2) من قصيدة "لآلئ الشعر أوزان وقافية" للدكتور عدنان النحوي من المصدر السابق (ص 55).(2/39)
* نزار قباني .. الزنديق شاعر الإِباحية:
إلى الأمة الغافلة النائمة نرسم بالصدق حقيقة هذا الزنديق الذي تباكى عليه المرتزقة الفرحون بقتل كل فضيلة وعفة ونشر كل رذيلة وخسيسة، وهمّهم الوحيد خفض دين الله بكل وسيلة والصد عن سبيله ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
إلى أصحاب الأقلام الداعرة المستأجرين على حطام من الدنيا قليل، وهم عند ربهم من المجرمين الفاجرين، الذين سال مدادهم حزنًا على شهيد الشعراء!!، وشاعر الأمة العربية، وشاعر المرأة نزار.
أين أنتم من جراح أمتنا؟ أين أدبكم وشعركم لماذا لم يتغنّ على أطلال الأندلس المسلوبة؟ وعلى جبال كشمير المغصوبة؟ وعلى أشجار الفلبين الخضراء؟! وتلال أرتريا وبورما وسهولها؟ وأرض البوسنة وجراحها؟! أين كتاباتكم أيها الأدباء والكُتَّاب عن أرض الملاحم وأرض الأنبياء، أرض الإسراء التي ترزح تحت أيدي أحفاد القردة والخنازير يهود الغدر والخيانة؟ أين مداد أقلامكم؟ ما لي أراها قد جَفّت وأقلامكم قد تكسَّرت، عن كشف ما حلّ في أمتنا من منكرات وبدع في الدين قُدِّمت على دين الله تعالى وشرعه، وانقاد إليها الناس أفواجًا إثر أفواج، وأسرابًا تتبعها أسراب!!! " (1).
سنفضحكم ونفضح نزاركم الذي تولى كبره .. نزار وما أدراك ما نزار التكبر على الخالق .. نزار الاستهزاء بكل فضيلة وعفّة وبؤرة كل فساد وعفونة .. نزار الزندقة والإلحاد، ووجه الحداثة الكالح، ومستنقع الوثنية الآسن (2).
__________
(1) "السيف البتار في نحر الشيطان نزار" لممدوح السهلي الحربي ص (85) - دار المآثر بالمدينة.
(2) مثله مثل عبد الله العروي المغربي، ومحمد الجابري المغربي، وعبد العزيز المقالح وعبد الوهاب البياتي، وغيرهم وغيرهم.(2/40)
خنزير طبع في خليقة ناطق ... مستوف بالكذب والبهتان
أيها الجبناء قولوا للناس ما تعلمون من شعر نزار .. قولوا لمن كان عنده مثقال ذرة من إيمان .. ماذا تقول في نزار القائل:
"من أين يأتي الشعر يا قرطاجة ..
والله مات وعادت الأنصاب" (1).
- والقائل:
(ماذا تشعرين الآن؟ هل ضيّعت إيمانك مثلي، بجميع الآلهة) (2).
- والقائل: "بلادي ترفض الحُبّا
بلادي تقتلُ الرب الذي أهدى لها الخصبا
بلادي لم يزرها الرب منذ اغتالت الرّبا (3).
- ويقول في "دفاتر فلسطينية" (ص 119):
"حين رأيت الله .. في عمّان مذبوحًا
على أيدي رجال البادية".
- ويقول في مجموعة "لا" في "خطاب شخصي إلى شهر حزيران" (ص 124):
"أطلق على الماضي الرصاص
كن المسدس والجريمة ..
من بعد موت الله، مشنوقًا على باب المدينة
لم تبق للصلوات قيمة
__________
(1) "الأعمال الشعرية الكاملة" لنزار (3/ 637).
(2) "الأعمال الكاملة" لنزار (2/ 338).
(3) "يوميات امرأة لا مبالية" لنزار (ص 620).(2/41)
لم يبق للإيمان أو للكفر قيمة".
- ويقول في مدح الكفر:
"يا طعم الثلج وطعم النار
ونكهة كفري ويقيني" (1).
- ويقول:
"أريد البحث عن وطن ..
جديد غير مسكون
ورب لا يطاردني
وأرض لا تعاديني" (3).
- ويقول هذا الزنديق:
(لأنني أحبك، يحدث شيء غير عادي، في تقاليد السماء، يصبح الملائكة أحرارًا في ممارسة الحب، ويتزَّوج الله حبيبته في السماء) (2).
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.
- ويقول هذا الملحد:
"إله في معابدنا نصلّيه ونبتهلُ
يغازلنا وحين يجوع يأكلنا
إله لا نقاومه يعذبنا ونحتمل
إله ما له عمر إله اسمه الرجل" (3).
- ويقول: (الله يفتش في خارطة الجنة عن لبنان) (4).
__________
(1) "الأعمال الشعرية الكاملة" (2/ 39).
(2) "يوميات امرأة لا مبالية" (ص 597).
(3) "الأعمال الشعرية الكاملة" (2/ 442).
(4) المصدر السابق (1/ 631).(2/42)
- ويقول: "القلب الإنساني قمقم رماه الله على شاطئ هذه الأرض، وأعتقد أن الله نفسه لا يعرف محتوى هذا القمقم، ولا جنسية العفاريت التي ستنطلق منه، والشعر واحد من هذه العفاريت" (1).
- ويقول: "كل كلمة شعرية تتحوّل في النهاية إلى طقس من طقوس العبادة والكشف والتجلي ..
كل شيء يتحول إلى ديانة
حتى يصير الجنس دينا ..
والغريب أنني أنظر دائمًا إلى شعري الجنسي بعين كاهن، وأفترش وجه حبيبتي كما يفترش المؤمن سجادة صلاة، أشعر كلما سافرت في جسد حبيبتي أني أشف وأتطهر وأدخل مملكة الخير والحق والوضوء.
وماذا يكون الشعر الصوفي سوى محاولة لإعطاء الله مدلولاً جنسيًّا؟ (2).
- ويقول: فيكون الله سعيدًا في حجرته القمرية".
- ويقول: (حين وزعّ الله النساء على الرجال
وأعطاني إياك
شعرت أنه انحاز بصورة مكشوفة إليّ
وخالف كل الكتب السماوية التي ألّفها
فأعطاني النبيذ وأعطاهم الحنطة
__________
(1) المصدر السابق (2/ 323).
(2) "أسئلة الشعر" لمنير العكش في مقابلة له مع نزار (ص 195).
(3) المصدر السابق (ص 196).
(4) "مجموعة الأعمال الشعرية" (2/ 188).(2/43)
حين عرّفني الله عليك ذهب إلى بيته
فالله كما قالوا لي لا يستلم إلا رسائل الحب (1).
- ويقول: (عمر حزني، مثل عمر الله، أو عمر البحور) (2).
- ويقول: (فلا تسافري مرة أخرى
لأن الله منذ رحلت دخل في نوبة بكاء عصبية
وأضرب عن الطعام) (3).
- ويقول: (لا الله يأتينا ولا موزع البريد
مند سنة العشرين حتى سنة السبعين) (4).
- ويقول": (ولماذا نكتب الشعر وقد نسى الله الكلام العربي) (5).
- ويقول": (حين يصير الدمع في مدينة ..
أكبر من مساحة الأجفان
يسقط كل شيء
الشمس والنجوم والجبال والوديان ..
والليل والنهار والشطآن
والله والإنسان) (6).
- ويقول: (لا تخجلي مني فهذي فرصتي
__________
(1) "الأعمال الشعرية" (2/ 402).
(2) "الأعمال الشعرية الكاملة" (1/ 775).
(3) المصدر السابق (2/ 562).
(4) المصدر السابق (2/ 648).
(5) المصدر السابق (2/ 648).
(6) "الأعمال السياسية" لنزار (3/ 105).(2/44)
لأكون ربًّا أو أكون رسولاً) (1).
- ويقول: (وشجعت نهديك .. فاستكبرا على الله .. حتى فلم يسجدا) (2).
- ويقول: (في شكل وجهك أقرأ شكل الإله الجميل) (3).
- ويقول عن فم حبيبته:
وكيف فكّرت بهذا الفم ..
كم سنة ضيّعت في نحته
قل لي: ألم تتعب .. ؟ ألم تسأم؟ " (4).
- ويقول: (وطن بدون نوافذ ..
هربت شوارعه .. مآذنه .. كنائسه ..
وفرّ الله مذعورًا ..
وفّر جميع الأنبياء) (5).
- وإلهه هواه فيقول:
(هو الهوى .. هو الهوى
الملك القدوس والآخرين القادر) (6).
***
__________
(1) "المجموعة الكاملة" (2/ 761).
(2) ديوان "قالت لي السمراء" لنزار (ص 45).
(3) نفس المصدر (ص 55).
(4) نفس المصدر - قصيدة "فم" (ص 107).
(5) قصيدة "هل تسمعين صهيل أحزاني" (ص 188).
(6) القصيدة السابقة (ص 63).(2/45)
- ويقول:
(شكرًا من الأعماق ..
يا من جئت من كتب العبادة والصلاة) (1).
- ويقول": (يا إلهي: إن كنت ربًّا حقيقيًّا .. فدعنا عاشقينا) (2)
- ويقول": "شكرًا لحبك .. فهو مروحة .. وغمامة وردية ..
وهو المفاجأة التي قد حار فيها الأنبياء) (3).
- ويقول: (وكتبت شعرًا .. لا يشابه سحره ..
إلا كلام الله في التوراة) (4).
- ويقول: (أنا أرفض الإحسان من يدي خالقي) (5).
- ويقول: (قد كان ثغرك مرة ربي، فأصبح خادمي) (6).
- ويقول: (مارست ألف عبادة وعبادةٍ
فوجدت أفضلها عبادة ذاتي) (7).
- (أين غرور الله من غروري) (8).
***
__________
(1) "أشعار خارجة على القانون" (ص 25).
(2) المصدر السابق (ص 65).
(3) المصدر السابق (ص 27).
(4) ديوانه "الرسم بالكلمات" (ص 14).
(5) المصدر السابق (ص 94).
(6) المصدر السابق ص (135).
(7) المصدر السابق (ص 17).
(8) "خطاب من حبيبتي" لنزار (ص 426).(2/46)
* نزار قباني .. الزنديق شاعر الإباحية:
أسهبنا القول فيما مضى في ذكر كفرياته وزندقته من خلال الأعمال الكاملة له، يقول الأستاذ أنور الجندي:
"أما شعر نزار قباني الذي أوسعت له الصحافة العربية الصفحات فيكفيني في التعريف به ما كتبه محمد سالم غيث في كتابه "الحب والجنس في شعر نزار قباني" يقول: لقد خلع نزار ثياب الرجل كثيرًا ولبس ثياب المرأة وتقمص شخصيتها وتحدث بلسانها فهل صحيح أنه يفعل ذلك "دفاعًا عن المرأة التي حكم عليها هذا الشرق الغبي بالإعدام حتى يقدم كتاب يوميات امرأة لا مبالية إلى طالبات الجامعة الأمريكية ويقول: إنه كتابكن، كتاب كل امرأة حكم عليها هذا الشرق الغبي الجاهل بالإعدام، ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها؛ ولأن هذا الشرق غبي وجاهل ومعقد يضطر رجل مثلي أن يلبس ثياب امرأة ويستعير كحلها وأساورها ليكتب عنها. أليس من مفارقات القدر أن أصرخ أنا بلسان النساء ولا تستطيع النساء أن يصرخن بأصواتهن الطبيعية".
- ما سر نيابته عن المرأة في الحديث عن الإحساسات التي لا يحاسب المجتمع عليها المرأة إذا هي كتبتها. لماذا لم يكتب هذه المعاني بصوت الرجل، وإحساساته، ما سر تدخل الشاعر في أشياء لا تشعر بها إلا امرأة. إننا نرى أن شاعرنا من الفئة التي تعرف إحساسات المرأة وطبائعها لاتفاقه معها في الطبع والشعور. إن إسراف نزار في استخدام الأسلوب النسائي ليصرخ نيابة عن المرأة: هل عبر عن المرأة الشرقية؟ نقول: لا".
وتكشف الدراسات كثيرًا من جوانب حياة نزار قباني، وأبرزها أنه لم يجب أبدًا على السؤال الذي وجه إليه: لماذا فصل من السلك السياسي السوري؟ وقد تحداه أن يجيب عن ذلك كثيرون في الصحف علنًا. يقول(2/47)
صالح جودت: "لو عرفتم الجواب لأدركتم لماذا هرب نزار قباني من سوريا ولماذا تلبنن" لا رحم الله نزار، لقد مات كسوري، ومات كعربي ومات كشاعر ومات كإنسان".
- ومن الأحاديث التي أجريت معه أجاب هذه الإجابات التي تكشف خبيئته:
"لو كنت حاكمًا لألغيت مؤسسة الزواج وختمت أبوابها بالشمع الأحمر".
"العري أكثر حشمة من التستر".
"مع حبيبتي لا أخرج من الغرفة ومع زوجتي لا أدخل الغرفة أساسًا".
- هذه هي المفاهيم التي يقدمها نزار قباني في شعره الذي تحتفل به الصحافة العربية، ولعل من أبرز سيئات نزار قباني قصيدته "أفتح صندوق أبي":
تلك التي أعلن فيها الرفض لكل ما هو عربي وإسلامي، وقد سمى سيف الدولة "مغرورًا" وهو الذي قضى حياته مجاهدًا في سبيل الله حتى جمع من غبار ثيابه في معاركه مع الروم ما جعل منه وسادة أوصى بوضعها تحت خده بعد موته" (1).
* صلاح عبد الصبور ينصبه الكاهن الأكبر لويس عوض أميرًا للشعراء!!
من شعراء الرفض "صلاح عبد الصبور" الذي تبناه لويس عوض وحمل لواء الكلمات المسيحية في الشعر الحديث.
ويُعنى صلاح عبد الصبور بتطويع مفاهيم الفلسفات المادية والمفاهيم
__________
(1) "الصحافة والأقلام المسمومة" لأنور الجندي (ص 167 - 168).(2/48)
الباطنية التي يرددها أمثال الحلاج وغيره ليقدمها مرة أخرى في أسلوب فني جديد، وهو يشير في ذكرياته أنه كان على اتصال بالدين في أول عمره ثم مرق مروقًا شديدًا بعد أن التقي بالفيلسوف الهدام الذي مات مصروعًا، نيتشه، وقد تأثر بمفاهيمه المضللة.
وهو يشير إلى تجربته الإيمانية بعد الخروج عنها فيقول: "لم تمنحني هذه التجربة السكينة بل لعلها زادت قلقي. إن يكن ذلك عطاء من الله فلم لا يعطيه لي دون جهد وقد عشت في بلبالها عامًا كاملاً، ويقول: ربما كانت قراءة بسائط. الدارونية تلخيص سلامة موسى وقراءة نيتشه في صيحته المرعبة (إن الله قد مات) هي التي دفعتني إلى الطرف الآخر من الموضوع وأصبحت أتزين بالأفكار وأجمع القرائن عليه من كل الفلسفات والأفكار كما يجمع المدعي أدلة الاتهام" هذا الأعتراف ولا حول ولا قوة إلا بالله يكشف عن فساد تجربة صلاح عبد الصبور أساسًا وأنها كانت شيطانية ولم تكن ربانية، ذلك لأن من يتجه إلى الله تبارك وتعالى فإن الله يهديه إلى طريقه، أما فكرة نيتشه فإنها فاسدة ولو أنه قرأ ما كتبه المسيحيون الغربيون أنفسهم عنه لصحح له مفاهيمه، وأما مفاهيم دارون فهي باطلة ولو أنه قرأ كتاب الدكتور موريس بوكاي برغبة الوصول إلى الحقيقة لانتفع به.
- يقول: "ساعدتني الفلسفة المادية التي كنت قد اقتربت منها اقترابًا كبيرًا وخاصة بعد تخرجي من الجامعة عام 1951 على أن أجد في الأفكار لونًا من الموقف الفكري الموحد التماسك وأن ديواني (الناس في بلادي) معبر عن هذا الإحساس".
والواقع أن كتابات الشكوك والانحراف التي قدمها صلاح عبد الصبور وأنيس منصور قد كشفت عن فساد الخط الثقافي الذي نشأ فيه جيل كامل وكان طه حسين وسلامة موسى على رأس الدعوة إليه.(2/49)
والواقع أن شعراء الرفض قد تتلمذوا على الملاحدة والإباحيين من شعراء الغرب وكتابه أمثال هايدجرد وسارتر وكامي وشعرهم يقوم على رفض القيم والإغراق في اليأس والتحلل والتمزق النفسي.
- وحين يشتد بهم الانحراف يصل الواحد منهم إلى حالة التشبع بالأفكار وهو ما يسمى "الطبع" على القلب فقد طبع الله على قلوبهم فهم لا يهتدون" (1).
* سعيد عقل ودعوته إِلى الحروف اللاتينية وكرهه العميق للحرف العربي:
أفسحت الصحافة المجال الكبير "لدعوة سعيد عقل إلى الحروف اللاتينية فقد ابتكر سعيد عقل واحدًا وثلاثين حرفًا وبها أنشأ ديوانه الشعري "يارا" يقول: إن الحرف العربي ليس إلا مؤسسة من مؤسسات الإنسان العربي وأنا أهاجم الحرف العربي ولا أهاجم الإنسان العربي، ويدعي أن الحروف اللاتينية قادرة على إلغاء الأمية.
ودعوى سعيد عقل باطلة أصلاً، ولكن الصحافة العربية لم تفسح المجال لمن ينقضها" (2).
- إن دعوة سعيد عقل إلى خلق لغة جديدة يسميها اللغة اللبنانية لإحلالها محل العربية تعتمد على عنصرين:
اللهجة العامية مكتوبة بالحرف اللاتيني بدلاً من العربية، وقد تفضّل فقدّم رموزها وشيئًا من نماذجها التي كان قد وصفها عدد من المستشرقين والمبشرين لغايات علمية ومآرب سياسية معروفة.
__________
(1) المصدر السابق (168 - 169).
(2) المصدر السابق (ص 179).(2/50)
وقد أصدر أول كتاب لبناني بالحرف اللاتيني عام 1961 باسم "ياره - شعر" وهذا الكتاب مطبوع بأحرف الأبجدية اللاتينية مضافًا إليها سبعة رموز جديدة وأحد عشر حرفًا لاتينيًّا زيد عليها إشارات خاصة حتى تؤدي أصواتًا مكان الحرفين اللذين يؤديان في اللهجة اللاتينية صوتًا واحدًا.
ويتابع سعيد عقل الدعوة المضطردة التي حمل لواءها: ميشال الفعالي وجبور عبد النور وأنيس فريحة.
وتجري هذه الدعوة في نطاق عزل لبنان عن الأمة العربية - وإحياء الإقليمية وضمن المخطط التبشيري الاستشراقي المرسوم الذي سار فيه كثيرون من قبل مستهدفة قطع الماضي عن الحاضر وتحطيم الوحدة اللغوية في الأمة العربية.
وقد لخص سعيد عقل دعوته في عبارات موجزة حين قال: "علينا أن نترك لغة الكتب لنأخذ لغة الحياة، وعلينا أن نترك فرع الهجاء الفينيقي بالحرف العربي، ونعتمد فرعًا آخر منه كاللاتيني أو ما أشبه لا تعوزه تلك الحروف. إن بقينا على لغة الكتب نكون قد استنكفنا عن مجاراة الناموس العام: الأخذ بما هو شاب وترك ما قد شاخ".
وقد ردّ عليه الدكتور عمر فروخ فأفحمه.
* الشعر الحر والقراءة التوراتية والتراث الصليبي:
"إن أخطر الظواهر التي نراها في الشعر الحر وخاصة في كتابات:
صلاح عبد الصبور، معين بسيسو، بدر شاكر السياب، نزار قباني. هي ظاهرة مشتركة مستمدة من القراءات التوراتية والفكر الوثني والتلمودي والتراث المسيحي حتى أن لويس عوض احتفل بها واحتفل خاصة بكتابات صلاح عبد الصبور وأطلق عليه من أجلها لقب أمير الشعراء في هذا العصر.
بعد أن قال: أن صلاح عبد الصبور يقرأ الإنجيل بحماسة وأنه داخل دائرة(2/51)
الخلاص المسيحية. وأنت حين تقرأ كتابات صلاح عبد الصبور تجده يكتب ما يشبه فكرة الصلب التي ينكرها الإسلام.
ومن هذا قصيدة حكاية قديمة: "الذين أسلموه للجنود لقاء حفنة من النقود" إلخ ومنهم من يتعمد نظم أبيات شبيهة بنشيد الأنشاد:
المجد للذين في العذاب يبسمون ... المجد للذين بالرغيف يقنعون
نجد هذا في بكائيات هؤلاء، ونجد عند نزار قباني عبارات "مصلوبة الشفتين" و"الصليب الذهبي" ونجد عند عبد الوهاب البياتي "صليب الألم" والظاهرة التي لا يشك فيها أحد أن أغلب قصائد الشعر الحر هي التي تحتضن هذا الاتجاه.
وهذا الاتجاه يعني التبعية لتيار لبناني مسيحي منحرف عن الفكر الإسلامي ومعاداة للقصيدة العمودية وللتراث العربي.
ووراء هذا يوسف الخال ولويس عوض وأدونيس" (1).
* سعيد عقل:
- قال الأستاذ أنور الجندي في كتابه "مقدمات العلوم والمناهج" (4/ 575 - 577):
"عملان خطيران قام عليهما سعيد عقل في سبيل بناء الواجهة الشعوبية هما:
1 - الدعوة إلى العامية اللبنانية المكتوبة بالحروف اللاتينية.
2 - الشعر الحر وهدم عامود الشعر.
وكلا الدعوتين تهدفان إلى هدم البيان القرآني العربي؛ وعزل أساليب
__________
(1) المصدر السابق (ص 173).(2/52)
الكتابة والأداء عن بلاغة القرآن؛ والقضاء على الفصحى التي صمدت في وجه الغزو والتي توحد بين العرب سياسيًّا واجتماعيًّا وبين العرب والمسلمين ثقافيًّا وعقائديًّا؛ ويجري سعيد عقل في هذا مع مخططات الشعوبية التغريبية التي تهدف إلى قطع الحاضر العربي عن الماضي الإسلامي، وتحطم الوحدة اللغوية في الأقطار العربية، ومن أهداف سعيد عقل والمخطط الذي يعمل له: عزل لبنان عن العروبة، وإقامة فينيقية لبنانية مستقلة عن الوجه العربي وقد أصدر أول كتاب باللهجة اللبنانية بالحرف اللاتيني سنة 1961 أسماه (ياره - شعر) هذا الكتاب مطبوع بأحرف الأبجدية اللاتينية؛ مضافًا إليه سبعة رموز جديدة وأحد عشر حرفًا لاتينيًّا زيدت عليها إشارات خاصة حتى تؤدي أصواتًا مكان الحرفين اللذين يؤديان في اللهجة اللاتينية صوتًا واحدًا.
والدعوة إلى (اللهجة العامية مكتوبة بالحروف اللاتينية) دعوة قديمة وقد وضع رموزها وشيئًا من نماذجها مستشرقون كثيرون، لغايات علمية أو مآرب سياسية. وفي لبنان مؤسسة تستهدف تحقيق أهداف الشعوبية يحمل لواءها أنيس فريحة وسعيد عقل. ووجه الخلاف بينهما أن كلاًّ منهما يريد إحلال لهجة قريته رأس المتن أنيس فريحة، وزحلة سعيد عقل.
- ويقول الدكتور عمر فروخ: إن من يقرأ شعر سعيد عقل باللغة الفصحى والحرف العربي يجده أحاجي وألغازًا، فما قولك ونحن نقرأ شعره العامي بالحرف اللاتيني، إن غير اللبناني لن يقرأ هذا الكتاب، إذ ليس في مكنته ولو كان يعرف الأحرف اللاتينية الخمسة والعشرون، ثم حفظ الرموز العشرين التي زادها سعيد عقل على الأبجدية اللاتينية؛ أن يصل إلى تلك الرموز المطموسة، إن الكتاب موضوع بلهجة لا تهز حماسة اللبناني العامي ولا تدخل على قلوبهم متعة؛ فالمتعة الأدبية كالمتعة الفنية جو اجتماعي قبل أن تكون حروفًا ورموزًا.(2/53)
إنني أدرك أن جهات خاصة ستصفق لصدور هذا الكتاب لا على أنه إنتاج أدبي جديد، بل على أنه محاولة من المحاولات التي يحيونها في ميدان النشاط الذي يقومون به، إن الدعوة إلى اللغة العامية بالحرف اللاتيني جاءت أولاً من الخارج؛ وسيمر هذا الكتاب أمام عيون أناس لا يرون فيه أكثر من محاولة لا تذهب إلى أبعد من الكتاب الذي وضعت فيه؛ ولكن هذا الكتاب امتحان قاس لأنصار العامية ولأنصار الأدب العالمي، لقد جاءوا بمزحة فطبعوها بالحبر الأسود على ورق نفيس.
ويقول حليم كنعان: يريد سعيد عقل أن يتحدث اللبنانيون بالعامية اللبنانية؛ كأن الفصحى ليست لغة لبنانية عريقة الأمجاد، وفي لبنان وفي كل مكان احتله لبناني فيه ترعرعت وفيه كانت منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد.
منه انتشرت أو بالأحرى ثبتت دعائمها وركائزها من أطراف فارس إلى أطراف غاليًا، مرورًا بشمال أفريقيا والأندلس، إن (السعقلية) يريد التخلي عن دروب الفصحى المبلطة والسير في المتعرجات العامية المسدودة؛ أي عامية، في كل متعرج عامية لبنانية بل في كل مسرب من المتعرجات لهجة عامية مختلفة عنها في المسرب الآخر؛ هذه عامية كسروانية وعامية زحلية بقاعية وعامية جنوبية، أي عامية تنتقي، إن عاميتنا اليوم اقتربت من درب الفصحى المبلط، يصح هنا القول على لبنان وعلى سورية كما يصح على كل بلد تثقفت نسبة عالية من سكانه. إن العاميات في العالم ليست وَقْفًا على البلاد الغربية، ففي كل بلد عامية: عاميات إنجلترا وفرنسا وألمانيا، غير أن عاميات هذه البلدان لا تجرؤ على البروز ليس لأنها تختبئ أمام وهج الفصحى بل لأن نور العلم فيها مقدم على حلك الجهل، وليست هذه العاميات سوى أغراض مرضية تحركها بعض الأيدي الخفية لغاية ما في نفس يعقوب وكم من غايات يعقوب؛ ثم من قال إن اللغة هي ملك صرف غير منازع للأدباء أو الشعراء. ولماذا إذًا لا(2/54)
نتكلم الفصحى: إن اللحن دخيل على العربية وليس كهيًا فيها أصيلاً، غير أن العربية دون أي شك كانت لغة المنطقة التي عرفت باسم فينيقيا عند نهاية الألف الأول قبل الميلاد، ولنا على ذلك الشواهد ولم يبق من عربية فينيقيا سوى صلة القربى بينها وبين عربية الصحراء عندما وصلت الدفعة العربية الكبيرة، ولم يبق لنا من عربية فينيقيا شيء قبل الألف الأول للميلاد لأسباب نجهلها، غير أنه بإمكاننا الإثبات أن ما قبل الفينيقية كانت العربية لغة اللبنانيين أصل الفينيقيين، وبالجملة فإن الفينيقية لهجة عربية منقرضة". ولقد كانت لدعوة سعيد عقل صدى في كل واجهات الشعوبية، فقد اهتم بها كمال الملاخ في الأهرام "فكتب عنه وعن دعوته صفحة كاملة (13/ 4/1974) الأبجدية الجديدة اللاتينية: الشكل، العربية، المنطلق، قال: ويحاول سعيد عقل أن يضع نفسه في صورة (ديكتاتور) القومية اللبنانية تشبهًا بأتاتورك الذي عزل تركيا عن ماضيها عبر استخدام الحرف اللاتيني مؤكدًا الانفصال نهائيًا، وسعيد عقل لا يقبل أن يُسمَّى لبنان بالعربي وهو في قصائده يستعمل لغة شعرية حديثة تختلف اختلافًا كاملاً على كل تركيب شعري سابق" اهـ.
* ومن شعراء الحداثة الزنادقة من شعراء المراحيض والشبق الجنسي والتطاول على الذات الإِلهية: حسن طلب صاحب "آية جيم":
شعراء الهالوك وشعرهم لون من الباطنية أشُد نكْرًا من الباطنية القديمة، وكتاباتهم زندقة مظلمة، سقيمة في لغتها. يقول حداثي عنهم: "إنهم نسفوا أدونيس" .. ما ظنك بحثالات من البشر تفوّقوا على شيطانهم وعرّاب حداثتهم.
قال (شكري عياد) عن أحدهم: إنه شاعر زخرفي ولا جدوى من قراءته، وكل ما يفعله مجرد ألاعيب لفظية كان يفعلها من قبل شعراء العصر(2/55)
المملوكي، وليست الكتابه بالحروف والتشكيل بها دليلاً على عبقرية الشاعر، ويشير عياد بذلك إلى ديوان حسن طلب الذي صدر مؤخرًا بعنوان "آية جيم" والذي يعتمد على حرف الجيم في مفرداته ومعانيه (1).
والاعتماد على حرف من حروف المعجم هو تقليعة "مملوكية" بعثها "الهالوك" مرة أخرى، وزعموا "حداثيتها" حيث كان الشعراء في أواخر العصر المملوكي يأخذون من أحد الحروف، أو أكثر من حرف، وسيلة في نظمهم للتدليل على قدرتهم اللغوية، والعروضية، وقدرتهم أيضًا في مجال القافية، وأبرز الأمثلة على ذلك ما عرف بالبديعيات والألغاز والتواريخ، وقد ازدهرت جميعًا في العصر العثماني، وجاء الهالوك، ليخدعوا الناس بقدرتهم على التجديد والإتيان بما لم تأت به الأوائل، وما دروا أنهم قدموا "تقليعة" رديئة كانت مظهرًا من مظاهر الضعف والخواء في العصرين المملوكي والعثماني.
صاحب "آية جيم" لم يقدم فيها أكثر من نظم لمعاني "حرف الجيم" الموجودة في المعاجم، وهو نظم بارد وركيك، يدل على أن صاحبه يهزأ بالعقول والأفئدة، فضلاً عن جراءته على المفهوم القرآني لمعنى كلمة "آية" حيث اتخذ منها عنوانًا لمنظومته الرديئة فضلاً عن ادعائه وافترائه بأن القرآن قد ظلم حرف الجيم بعدم استخدام ألفاظ تعتمد عليه .. ترى ماذا في هذا النص من قيم شعرية عالية؟ يقول:
"جيمٌ جمزتْ أم جيمٌ بَجمَتْ؟
جيمٌ من يأجوج ومأجوج تَجُخُّ وتجأر
جيمٌ كالجلوْاز الأعْجَرْ
__________
(1) انظر جريدة "الرياض" (27/ 5/1992).(2/56)
وجُهَاداها: إجهاض الجيم المسجونة
بين الجامع والمتجر
أم جيم تتهجَّى وتجاهِرُ:
جيمٌ تتفجَّر؟! ".
- ترى بماذا نخرج من هذا الكلام؟ وما هي القيم الجمالية التي يمثِّلها ويؤديها؟! ثم لنقرأ قوله:
"جيم حجناء وجيم جبَّاء وجيم بجراء وجيم عجراء وجيم جيميه.
من جعل الجيم مفاجأةً وأهازيج جزافيه؟ " (1).
هل زاد المذكور على رص معاني الجيم المعجمية؟
هل أضاف جديدًا بتساؤله عن الجيم المفاجأة والأهازيج الجزافية؟
ألا يذكِّرنا ذلك بمن كان يقول: الأرض أرضٌ والسماء سماء .. ؟
- وإليك مقطعًا آخر يقول فيه صاحب الجيم العجراء:
"الجيم الجعرانية جابهت الجيم السنجانيه
فانبعجت جيم الأيديولوجيه
وتوجست الجيم الجيماء
فما جدوى جيمين هما جيم الشجب
أو الجيم الجلاتينيه؟ " (2).
***
__________
(1) حسن طلب، مجلة "إبداع"، عدد 12، ديسمبر 1991، (ص 51)، والمنشور في "إبداع" جزء مما نشر بالديوان.
(2) انظر "آية جيم" لحسن طلب - الهيئة العامة للكتاب 1992، و"الورد والهالوك شعراء السبعينات في مصر" لحلمي القاعود (ص 198 - 200) - دار الاعتصام.(2/57)
* الهيئة المصرية للكتاب تطبع قرآن مسيلمة الكذّاب:
تحت هذا العنوان كتب الشيخ صفوت الشوادفي -رحمه الله- في مجلة أنصار السنة المحمدية:
"في هذه السنة ظهرت كتب وأقلام كثيرة تحارب الإسلام وتنال منه في بلده، ولكن العجيب والغريب أن يظهر كتاب يضاهي القرآن، يقسمه مؤلفه إلى سور ويسميه: "آية جيم"!!!.
والأعجب والأغرب أن تقوم الهيئة المصرية للكتاب التابعة لوزارة الثقافة بطبعه ونشره.
ومؤلف الكتاب يستعيذ بالشعب بدلاً من الله، فيقول: "أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم، باسم الجيم".
ولا ندري من هو السلطان الغشيم الذي يقصده.
ثم يقسم الكتاب إلى خمس سور، وكل سورة لها اسم يختص بها وكل السور تتحدث عن حرف الجيم إلا السورة الخامسة ففيها قرآن الشيطان أو قرآن مسيلمة الكذاب، فهو بعد الاستعاذة بالشعب يقول: "باسم الجيم، والجنة والجحيم، ومجتمع النجوم، إنكم ستفجأون، كم وددتم لو ترجأون، إلى يوم لا جيم ولا جيوم، فإذا جد الهجوم، فأجهشت الجسوم، فسجرت الجيم، ومن أدراك ما الجيم، فإذا مزجنا الأجيام مزجًا، ثم مخجنا جُرْجَهُنَّ مخجًا، ثم مججناهن مجًا، قل يا أيها المجرمون إنكم يؤمئذ لفي وجوم، تستنجدون فلا تُنجدون، وقل يا أيها الراجون، إنكم يومئذ الناجون، جاءتكم الجيم بما كنتم تستعجلون، ما لكم كيف لا تبتهجون، ولآية الجيم لا تسجدون. وبإعجازها لا تلهجون".
إلى أن قال في نهاية السورة: "الجيم جل جلالها .. صدق الحرف الرجيم".(2/58)
- ومع هذا فليس العجب في طبع هذا الكتاب، بل العجب الذي لا ينقضي أن تطبع وزارة الثقافة هذا الكتاب ضمن كتب الهيئة في الوقت الذي يتفق فيه الجميع على وجوب الدعوة إلى استقرار المجتمع.
- ومن المسئول عن علامة الاستفهام التي كتب قبلها: كيف يطبع مثل هذا الكتاب في دولة مسلمة يعلن فيها أننا لسنا ضد الشريعة، ولماذا يظهر الكتاب في هذا الوقت بالذات ومن الذي وراء مخطط الإثارة والتخريب في هذا البلد؟؟ أليس هذا الكتاب وغيره من مطبوعات الهيئة يحقق أحد أهداف الصهيونية العالمية الذي ينص على ضرورة إثارة الحكومة ضد الشعب، وإثارة الشعب ضد الحكومة؟!!
- وهل تغلغلت الماسونية العالمية إلى هذا الحد الذي تسيطر فيه على وزارة الثقافة المصرية وتوجه مسيرتها داخل الهيئة وخارج الهيئة، وإذا لم يكن هذا تطرف فماذا يكون التطرف؟!!
- وآخر سؤال: من المسئول عن حماية الشباب المسلم من هذه الأخطار الفكرية التي تؤدي به إلى عواقب لا يخفى على أحد خطرها؟ إن الاستقرار الذي ننشده لهذا البلد له طريق واحد يعرفه من يعرف جواب الأسئلة السابقة ويجهله من يجهلها!!.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه" (1).
- شعراء الهالوك:
لقد نسفوا القصيدة العربية نسفًا، وعمل عرّاب الحداثة أحمد عبد المعطي حجازي جاهدًا لتسويق كتاباتهم الرديئة في أوسع الصحف انتشارًا. "ويلعب
__________
(1) "مصابيح أضاءت لنا الطريق" لصفوت الشوادفي.(2/59)
شعراء الهالوك على وتر "اللغة الدينية" لتشويه كل ما هو مرتبط بالإسلام.
والسخرية منه، ومزجه بلغة "الشبق الجنسي" التي تسيطر على كثير من مفرداتهم وتركيباتهم.
وفي البداية، فإننا نستشعر موقفًا عدائيًّا من "الانتماء الإسلامي" يتمثّل في صورتين:
الأولى: تتمثل في المصادر التي ينتمون إليها على المستوى العقدي، فهم كما رأينا متأثرون بمجموعة شعراء مجلة "شعر" اللبنانية (أدونيس، أنسي الحاج، توفيق صايغ)، وهؤلاء عمليًّا، معادون للفكرة الإسلامية، مناهضون لها، وقد ظهر التأثير واضحًا في المصطلح الديني الذي يستخدمونه (المسيح المصلوب، النبي المصلوب، الراهب، الكاتدارئية) في الوقت الذي يكثرون فيه من الحديث عن الحركات السّريّة والباطنية في الإسلام (وهي حركات معادية بالضرورة)، وفضلاً عن ذلك فإن اسم الرسول الكريم (محمد) - صلى الله عليه وسلم -، لم يرد أصلاً في كتابتهم. أما لفظ الجلالة، فقد جاء في مجال غير لائق، سواء عبروا عنه بلفظ الإله أو الله، ثم جاءت بعض الرموز الإسلامية لديهم في صورة ساخرة أو شائهة، كما سنرى بعد قليل إن شاء الله.
ثانيًا: سعيهم لتدمير النموذج اللغوي القرآني كما يسمونه، واحتفاؤهم بالنموذج التوراتي وقد مر بنا قول أحدهم عندما تحدث عن الخروج على النسق الثقافي الشامل، وقال: "إن تغيير النسق يحتاج إلى عمل على مستويات عدّة، كتجديد النحو، وخلق مفردات مغايرة، والخروج على النموذج اللغوي القرآني، إذا حدث هذا، يصبح ممكنًا الخروج على نسق الخليل .. " (1).
__________
(1) أحمد طه - مجلة الكرمل (ع 4/ 1984 ص 303) - قبرص.(2/60)
كما خصص أحدهم ما سماه قصيدة مأخوذة عن سفر الجامعة، بعنوان "الجامعة" استوحي فيها سيرة النبي (سليمان) عليه السلام (1).
ولعل قراءة بعض النماذج القليلة تغني عن قراءة الكثير من غثاء الهالوك، وبخاصة في مجال التناول للذات الإلهية، دون أن نرتب على ذلك حكمًا شرعيًّا (2)، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، دون أن يستدعي ذلك اتهامنا بتكفير أحد أو تبرئته، سنقرأ النماذج، وعلى القارئ أن يتخذ ما يراه ..
- يقول الزنديق أحمد زرزور في مقطع من نص بعنوان "تدخلات في شئون القلب":
"تخلصوا من بيعكم
يأيها الملوثو أروقة الهياكل،
واستشعروا شيئًا من النخيل يلقى رُطَبًا جنيًّا،
فالله لا يماطل
إلا الذين يوجعون القلب بالصدى المفرّغ المخاتلْ" (3).
ومع سخف البناء والتصوير، وإظلام المعنى، فإن وصف الذات الإلهية بالمماطلة، نوع من التطاول الذي لا يقره أحد. حتى غير المؤمنين بالله -والذين لا يدينون بالإسلام- لا يقبلون إقحام الذات الإلهية في هذا الهذيان المحموم. إن لفظ الجلالة (الله) يخصّ بالضرورة الدين الإسلامي، لماذا الإصرار على النيل منه، ولماذا التركيز على جرح المشاعر الإسلامية؟.
__________
(1) محمد سليمان - مجلة الكرمل (ع 4/ 344).
(2) ولم لا يترتب عليها حكم، والسخرية والتطاول على الذات الإلهية كفر أكبر مُخرج من الملّة؟!
(3) أحمد زرزور - مجلة الكرمل (ع 4/ 314).(2/61)
- ويقول صاحب النص في مقطع آخر منه، متخذًا من لفظة العرش التي هي من خصائص الذات الإلهية في المفهوم الإسلامي علامة على هلاكها، مع الإلحاح على مفردات قرآنية وعقدية توحي بالسخرية والتهكم:
"لك الذي ما ليس لكْ
لك الفصول أينعتْ
لك السماء .. انفطرتْ
والأغنياء انفرطتْ
فخذ عصاك وابتعدْ،
يا من بعرشه هلكْ" (1).
- وعلى فرض أنه يخاطب كيانًا آخر، فهل يجوز لصاحبنا أن يضعه في دائرة الألوهية والملك والسماء والانفطار والعرش؟ وهل صارت خصائص الذات الإلهية نهبًا مشاعًا للهالوك يفعلون بها ما يشاءون وفقًا لمفهوم الحرية القاصر عندهم، وكسر المعتاد والثوابت؟.
* الرفيق أحمد طه قاتله الله من زنديق:
أما الرفيق الهالوكي الآخر، فيضع نفسه في مقام الذات الإلهية مباشرة، ليسبّح نفسه، ويقّدس نفسه؛ يقول في نصٍّ بعنوان "ثنائية":
"جيمي جحيم وجيمكمو جنّةٌ
وأنا واحد في الجحيم
أسبّحني .. وأقدّسني.
أستجير بكم: أشعلوا الماءَ في جسدي" (2).
__________
(1) المصدر نفسه (ص 315).
(2) أحمد طه - الكرمل - العدد 4/ 1984 (ص 316)، وانظر "الورد والهالوك" (ص 319).(2/62)
وبعيدًا عن لعبة الحروف السخيفة المتهافتة في كلام الهالوك، فهل يجوز آن يكون التسبيح والتقديس لغير الله؟ لقد ذكر القرآن الكريم ذكر التسبيح والتقديس لله وحده، كما أن الملائكة خُلقت لتسبيحه وتقديسه وحده، فكيف يتأتى لشخص -يفترض أنه مسلم، ويحمل اسمًا إِسلاميًّا- أن يضع نفسه بمحاذاة الذات الإلهية؟
* وزنديق آخر "عبد المنعم رمضان" قاتله الله:
ثم ها هو رفيق ثالث يعبث بالذات الإلهية بطريقة لا تحتمل التأويل أو الدفاع عنها يقول:
"سمعت صرخة
عرفت أن الله كان ها هنا
وإنني بإذنه
أنحل كالغمام
إنني بإذنه أسرق بعض الريش" (1).
يتعامل صاحبنا مع الذات الإلهية كأنه يتعامل مع رفاقه الذين يأتون إليه ويذهبون، ثم يسخر من الله -تعالى الله عما يقول علوًا كبيرًا- حين يجعل من إرادته ومشيئته وإذنه وسيلة لينحلّ صاحبنا كالغمام أو يسرف بعض الريش! ما معنى هذا التطاول الرخيص؟
-يشير (حامد أبو أحمد) إلى نص آخر للمذكور يقول فيه: "وهأنذا واقف كالإله المريض" ويعلق قائلاً:
"إن هذا الكلام متهافت ومعنى ملفق، والفرق بين التعبيرين واضح،
__________
(1) عبد المنعم رمضان "دمي صوب كل الجهات" البيان الكويتية، عدد 233، أغسطس 1985.(2/63)
والبون بينهما شاسع. فعندما يشبِّه الشاعر نفسه هنا بأنه واقف كالإله المريض، أو واقف كالإله يكون في مجال التعميم. ولعله يشبه نفسه بآلهة الأساطير أو آلهة الوثنية. ولكنه عندما يحدد اللفظ بكلمة الله ندخل من مجال التعميم إلى التخصيص وتصبح المسألة كلها تلفيقًا لا معنى، وخيالاً مريضًا و"عنجهية" كاذبة، خاصة إذا كانت القصيدة في حد ذاتها متهافتة لا قيمة لها" (1).
ويبدو أن الكاتب يحاول أن يلتمس -بالرغم من كل شيء- عذرًا للرفيق الهالوكي، ويحاول أن يفرّق بالتعميم والتخصيص في مسألة إساءة الأدب إلى الذات الإلهية، وأعتقد أن حكاية آلهة اليونان أو آلهة الأساطير، بوصفها مخرجًا لشخص يتعامل مع الذات الإلهية بهذا الأسلوب الرخيص، لا مسوّغ لها، لأن كاتب النص لا تعنيه تلك التبريرات الساذجة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنني أسأل (حامد أبو أحمد) وهو الأزهري الذي يعرف حدود الحلال والحرام في التوحيد والفقه والتفسير: ما رأيه في الاستهانة بالذات الإلهية على هذا النحو الذي طالعناه في النصوص السابقة؟
لقد حاول (حامد أبو أحمد) أن يتملّق (الهالوك) عندما قال في مقالته: "وإني سمعت بأذني من يتهم الشعراء المحدثين (يعني الهالوك) بالكفر! أي والله بالكفر!! وكأنهم مارقون يريدون هدم الدين والأصول والمعتقدات.
وأظن أن القارئ في غنى عن أن أضرب له بعض الأمثلة من هذا القبيل مما ظهر في صحفنا خلال العامين الأخيرين" (2).
والآن يجوز لنا أن نسأله: ما رأيك الآن؟ ثم إننا نقدم المزيد، عندما نرى صاحبه يصف الإله بأنه ذو عضوين!
__________
(1) انظر مقاله، أدب ونقد، العدد 22، (ص 140).
(2) أدب ونقد، عدد 22، يونيو 1986، (ص 126).(2/64)
"أدخلونا حجرةً بها عبدتان تحتكمان للإله ذي العضوين" (1).
إنه نوع من الإسفاف الذي لا يحتاج إلى تعليق، وأيضًا لا يحتاج إلى تملّق!
إن هناك نصوصًا أخرى لهذا الزنديق الماجن، تمزج بين الذات الإلهية والشبق الجنسي بصورة أشد وقاحة، وتطاولاً واستهتارًا بالقيم والأخلاق والعقيدة والذوق العام، ولا يمكن أن يأتي نشرها عفويًّا أو اعتباطيًّا في مجلة رسمية تصدرها الدولة، وينفق عليها شعب مسلم له مفاهيمه وتصوّراته التي تنكر هذا الإجرام وتلك الفجاجة، التي توجب أن تكون شرطة المحافظة على الآداب العامة هي الشاهد الأول عليها أمام القضاء. إني أستغفر الله، وليعذرني القارئ إذا نقلت له جزءًا من هذا النصّ القبيح الآثم، الذي يدافع عنه البعض باسم الحرية!
"العاشق: حين نصير عجائز نصبح ممحوّين
العاشقة: ومتزنين
العاشق: سوف يقيم الله بناءً رحبًا
تحت المقبرة البحرية
العاشقة: وينفخ في أجداث الموتَى
ينبعثون رجالاً في صفٍّ
ونساءً في صفين
العاشق: وينادي يا أبناء الله
يجيب الجمعُ: نعم
العاشقة: ينادي يا فتياتِ الله
__________
(1) عبد المنعم رمضان، الكرمل، عدد 4/ 1984، 339.(2/65)
يجبن: نعم
العاشق: وإذا نادى يا رمضان
يكون الجَمعُ حليفًا للنسيان".
إلى هنا، والمسألة فيما يبدو مجرد ثرثرة بين عاشقين يسخران من أحداث يوم القيامة، وبخاصة البعث والحساب، ويتلاعبان بلفظ الجلالة (الله)، دون مبرّر واضح للسخرية أو الاستهزاء به، وهما في حالة شبق ومطارحة يفصح عنها الكلام الذي يأتي بعدئذ على النحو التالي:
"تكون الأنثى حافيةً
ذكرٌ حاف يومئُ
أن كوني من شئْت
فكيف أظنك قادمةً من تيه
كيف أسمّي هيأتك البرية
أنت امرأةٌ
وأنا رجلٌ
كنت صنعتُك من خمسة أضلاعٍ
ثم اسّاقط عنها العرقُ
ورائحةُ الإبطين
وجوعٌ
فالتحمت
واتكأ عليها كوعُ الله
وأحدث ثقبًا (يقصد الفرج)
يكفي أن يدخله الرجلُ
فتحمل عنه الوحدانيةُ كلَّ شظايا الكونِ(2/66)