وصية الإمام الأعظم
أبي حنيفة رضي الله عنه
تحقيق
الدكتور
جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009م
الإمام أبو حنيفة (1)
أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه الفقيه الكوفي، مولى تيم الله ابن ثعلبة، وهو من رهط حمزة الزيات؛ كان خزازاً يبيع الخز، وجده زوطي من أهل كابل، وقيل بابل، وقيل من أهل الأنبار، وقيل من أهل نسا، وقيل من أهل ترمذ، وهو الذي مسه الرق فأعتق، وولد
ثابت على الإسلام.
وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة : أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت ابن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارس من الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط . ولد جدي سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو أن يكون الله تعالى قد استجاب ذلك لعلي فينا، والنعمان
بن المرزبان أبو ثابت هو الذي أهدى لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الفالوذج في المهرجان النيروز، فقال: مهرجونا كل يوم، هكذا قال الخطيب في تاريخه، والله تعالى أعلم.
وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، رضوان الله عليهم وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة ، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة ، ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنه، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل.
وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أنه رأى أنس بن مالك، رضي الله عنه. وأخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع عطاء بن أبي رباح وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، وهشام بن عروة وسماك بن حرب؛ وروى عنه عبيد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم.
__________
(1) هذه الترجمة من ابن خلكان ـ وفيات الأعيان 5/405 ـ 415(1/1)
وكان عاملاً زاهداً عابداً ورعاً تقياً كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى، ونقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد ، فأراده على أن يوليه القضاء فأبى، فحلف أبو حنيفة أن لايفعل "فحلف المنصور لتفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لايفعل، وقال: إني لن أصلح إلى قضاء" فقال الربيع بن يونس الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف؟ فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني، وأبى أن يلي، فأمر به إلى الحبس في الوقت.
وقال الربيع: رأيت المنصور ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء، وهو يقول: اتق الله، ولا ترعي أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك، ثم تهددتني أن تغرقني في الفرات أو تلي الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، ولا أصلح لذلك، فقال له: كذبت أنت تصلح، فقال له: قد حكمت لي على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب؟
وحكى الخطيب أيضاً في بعض الرويات: أن المنصور لما بنى مدينته ونزلها، ونزل المهدي في الجانب الشرقي وبنى مسجد الرصافة، أرسل إلى أبي حنيفة فجيء به، فعرض عيله قضاء الرصافة فأبى، فقال له: إن لم تفعل ضربتك بالسياط، قال: أو تفعل؟ قال: نعم، فقعد في القضاء يومين فلم يأته أحد، فلما كان في اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر، فقال الصفار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانيق ثمن تور صفر، فقال أبو حنيفة: اتق الله وانظر فيما يقول الصفار، قال: ليس له علي شيء، فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول؟ فقال:(1/2)
استحلفه لي، فقال أبو حنيفة للرجل: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة معتمداً على أن يقول قطع عليه وضرب بيده إلى كمه، فحل صرة وأخرج درهمين ثقيلين للصفار: هذان الدرهمان عوض عن باقي تورك، فنظر الصفار إليهما وقال: نعم، فأخذ الدرهمين، فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات.
وأراده يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أن يلي القضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، فأبى عليه فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله. وكان أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، إذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضرب أحمد على القول بخلق القرآن.
وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: مررت مع أبي بالكناسة فبكى، فقلت له: يا أبت ما يبكيك؟ فقال: يا بني، في هذا الموضع ضرب ابن هبيرة أبي عشرة أيام، في كل يوم عشرة أسواط، على أن يلي القضاء، فلم يفعل. والكناسة، بضم الكاف، موضع بالكوفة.(1/3)
"قال الفضل بن غانم: كان أبو يوسف مريضاً شديد المرض فعاده أبو حنيفة مراراً، فصار إلى آخر مرة، فرآه ثقيلاً فاسترجع ثم قال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير. ثم رزق العافية وخرج من الغد فأخبر أبو يوسف بقول أبي حنيفة فيه فارتفعت نفسه وانصرفت وجوه الناس إليه فعقد لنفسه مجلساً في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة فسأل عنه فأخبر أنه عقد مجلساً وأنه يلقي كلامك فيه، فدعا رجلاً كان له عنده قدر فقال: سر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره بدرهم ، فعاد إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء وأنكره، ثم إن رب الثوب رجع إليه فدفع له الثوب مقصوراً، أله أجرة؟ فإن قال لك: له أجرة فقل له أخطأت، وإن قال: لا أجرة له فقل: أخطأت؛ فسار إليه وسأله، فقال أبويوسف: له أجرة، فقال: أخطأت، فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له، فقال له: أخطأت، فقام أبو يوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة فقال: ما جاء بك إلاّ مسألة القصار، قال: أجل، قال: سبحان الله، من قعد يفتي الناس وعقد مجلساً يتكلم في دين الله وهذا قدره، لا يحسن أن يجيب في مسألة من الاجارات؟ فقال: يا أبا حنيفة، علمني، فقال: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة لأنه قصر لصاحبه؛ ثم قال: من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبك على نفسه".
وكان أبو حنيفة حسن الوجه حسن المجلس، شديد الكرم حسن المواساة لإخوانه، وكان ربعة من الرجال، وقيل كان طوالا تعلوه سمرة، أحسن الناس منطقاً وأحلامهم نغمة.
وذكر الخطيب في تاريخه أن أبا حنيفة رأى في المنام كأنه ينبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فبعث من سأل ابن سيرين، فقال ابن سيرين: صاحب هذه الرؤيا يثور علماُ، لم يسبقه أحد قبله.(1/4)
قال الشافعي، رضي الله عنه، قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ فقال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وروى حرملة بن يحيى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الناس عيال على هؤلاء الخمسة، من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه، ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان، هكذا نقله الخطيب في تاريخه.
وقال يحيى بن معين: القراءة عندي قراءة حمزة، والفقه فقه أبي حنيفة على هذا أدركت الناس.
وقال جعفر بن الربيع: أقمت على أبي حنيفة خمس سنين، فما رأيت أطول صمتاً منه، فإذا سئل عن الفقه تفتح وساهل كالوادي، وسمعت له دوياً وجهارة في الكلام.
وكان إماماً في القياس؛ قال علي بن عاصم: دخلت على أبي حنيفة وعنده حجام يأخذه من شعره، فقال للحجام: تتبع مواضع البياض، فقال الحجام: لا تزد، فقال: ولم؟ قال لأنه يكثر، قال فتتبع مواضع السواد لعله يكثر، وحكيت لشريك هذه الحكاية فضحك وقال: لو ترك أبو حنيفة قياسه لتركه مع الحجام.
وقال عبد الله بن رجاء: كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحماً فطبخه أو سمكة فيشويها ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دب الشراب فيه غرد بصوت، وهو يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر (1)
__________
(1) البيت من الوافر ، وقد نسب لكل من ابن نباتة المصري ، والعرجي ، وأمية بن أبي الصلت ، انظر دواوينهم / الموسوعة الشعرية .(1/5)
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته كل ليلة، وأبو حنيفة كان يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ، وركب بغلته، واستأذن على الأمير، فقال الأمير: ائذنوا له وأقبِلوا به راكباً ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ببغلته، ففعل، ولم يزل الأمير يوسع له في مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم، وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه وقال: يا فتى أضعناك؟ فقال: لا، بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار ورعاية الحق، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان عليه.
وقال ابن المبارك: رأيت أبا حنيفة في طريق مكة، وشوي لهم فصيل سمين، فاشتهوا أن يأكلوه بخل فلم يجدوا شيئاً يصبون فيه الخل، فتحيروا ، فرأيت أبا حنيفة وقد حفر في الرمل حفرة وبسط عليها السفرة، وسكب الخل على ذلك الموضع، فأكلوا الشواء بالخل، فقالوا: تحسن كل شيء، فقال: عليكم بالشكر، فإن هذا شيء ألهمته لكم فضلاً من الله عليكم.
"وحكى الحسن بن زياد قال: دفن رجل مالاً في موضع، ثم نسي في أي موضع دفنه فلم يقع عليه، فجاء إلى أبي حنيفة فشكا إليه فقال له أبو حنيفة: ما هذا فقه فأحتال لك، ولكن اذهب فصل الليلة، ففعل الرجل، ولم يقم إلا أقل من ربع الليل حتى ذكر الموضع،فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره، فقال له: قد علمت أن الشيطان لا يدعك تصلي حتى يذكرك، فهلا أتممت ليلتك شكراً لله عزوجل.(1/6)
وقال ابن شبرمة: كنت شديد الازراء على أبي حنيفة، فحضر الموسم وكنت حاجاً يومئذ، فاجتمع إليه قوم يسألونه، فوقفت من حيث لا يعلم من أنا، فجاءه رجل فقال: يا أبا حنيفة: قصدتك أسألك عن أمر أهمني وأزعجني قال: وما هو؟ قال: لي ولد وليس لي غيره، فإن زوجته طلق، وإن سريته أعتق، وقد عجزت عن هذا فهل من حيلة؟ قال له: نعم اشتر الجارية التي يرضاها لنفسه ثم زوجها منه، فإن طلق رجعت إليك مملوكتك وإن أعتق أعتق ما لايملك، وإن ولدت ثبت نسبه لك، فعرفت أن الرجل فقيه من يومئذ وكففت عن ذكره إلا بخير".
وقال ابن المبارك أيضاً: قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة عن
الغيبة، ما سمعته يغتاب عدواً له قط، فقال: هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهبها.
وقال أبو يوسف: دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع صاحب المنصور، وكان يعادي أبا حنيفة: يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يخالف جدك، كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو بيومين جاز
الإستثناء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلاً باليمين، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين، إن الربيع يزعم أنه ليس لك في رقاب جندك بيعة، قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم، فضحك المنصور وقال: يا ربيع، لا تتعرض لأبي حنيفة، فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع: أردت أن تشيط بدمي، قال: لا، ولكنك أردت أن تشيط بدمي فخلصتك وخلصت نفسي.(1/7)
وكان أبو العباس الطوسي سيء الرأي في أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يعرف ذلك، فدخل أبو حنيفة على المنصور، وكثر الناس، فقال الطوسي: اليوم أقتل أبا حنيفة، فأقبل عليه فقال: يا أبا حنيفة، إن أمير المؤمنين يدعو الرجل فيأمره بضرب عنق الرجل لا يدري ما هو، أيسعه أن يضرب عنقه؟ فقال: يا أبا العباس أمير المؤمنين يأمر بالحق أم الباطل؟ فقال: بالحق، قال: أنقذ الحق حيث كان ولا تسأل عنه؛ ثم قال أبو حنيفة لمن قرب منه: إن هذا أراد أن يوثقني فربطته.
وقال يزيد بن الكميت: كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله تعالى، فقرأ بنا علي بن الحسن المؤذن ليلة العشاء الأخيرة سورة [ إذا زلزلت] وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يتفكر ويتنفس، فقلت: أقوم لا يشتغل قلب بي، فلما خرجت تركت القنديل ولم يكن فيه إلا زيت قليل، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم وقد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خيرً خيراً، ويا من يجزي بمثقال
ذرة شر شراً، أجر النعمان عبدك من النار، ومما يقرب منها من السوء، وأدخله في سعة رحمتك، قال: فأذنت وإذا القنديل يزهر وهو قائم، فلما دخلت قال لي: تريد أن تأخذ القنديل، قلت: قد أذنت لصلاة الغداة، فقال: اكتم علي ما رأيت، وركع ركعتين وجلس حتى أقمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل.
وقال أسد بن عمرو: صلى أبو حنيفة فيما حفظ عليه صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنة، وكان عامة ليلة يقرأ جميع القرآن في ركعة واحدة وكان يسمع بكاؤه في الليل حتى يرحمه جيرانه، وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة.
وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه: لما مات أبي سألنا الحسن بن عمارة أن يتولى غسله ففعل، فلما غسله قال: رحمك الله وغفر لك! لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة، وقد أتعبت من بعدك، وفضحت القراء.(1/8)
ومناقبه وفضائله كثيرة، وقد ذكر الخطيب في تاريخه منها شيئاً كثيراً، ثم أعقب ذلك بذكر ما كان الأليق في تركه والإضراب عنه، فمثل هذا الإمام لا يشك في دينه، ولا في روعه وتحفظه، ولم يكن يعاب بشيء سوى قلة العربية، فمن ذلك ما روي أن أبا عمرو بن العلاء المقرىء النحوي- المقدم ذكره -سأله عن القتل بالمثل: هل يوجب القود أم لا؟ قفال: لا، كما هو قاعدة مذهبه خلافاً للإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق، فقال: ولو قتله بأبا قبيس، يعني الجبل المطل على مكة حرسها الله تعالى.
وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من يقول: إن الكلمات الست المعربة بالحروف- وهي أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال - أن إعرابها يكون في الأحوال الثلاث بالألف، وأنشدوا في ذلك:
إن أباها وأبا وأباها قد بلغنا في المجد غايتاها (1)
وهي لغة الكوفيين، وأبو حنيفة من أهل الكوفة، فهي لغته، والله أعلم.
وهذا وإن كان خروجاً عن المقصود لكن الكلام ارتبط بعضه ببعض فانتشر.
وكانت ولادة أبي حنيفة سنة ثمانين للهجرة، وقيل سنة إحدى وستين، والأول أصح، وتوفي في رجب، وقيل في شعبان سنة خمسين ومائة، وقيل لأحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى من السنة، وقيل إحدى وخمسين وقيل ثلاث وخمسين، والأول أصح؛ وكانت وفاته في السجن ليلي القضاء فلم يفعل، هذا هو الصحيح، وقيل إنه لم يمت في السجن، وقيل توفي في اليوم الذي ولد فيه الإمام الشافعي رضي الله عنهما، ودفن بمقبرة الخيرزان، وقبره هناك مشهور يزار.
وزوطى: بضم الزاي وسكون الواو وفتح الطاء المهملة وبعدها ألف مقصورة، وهو اسم نبطي.
__________
(1) من الرجز ،نسب لأبي النجم العجلي ، ديوانه / الموسوعة الشعرية ،ونسب للعجاج ، ديوانه / الموسوعة الشعرية ، ولم أجده في ديوانالعجاج برواية الأصمعي المطبوع .(1/9)
وكابل: بفتح الكاف وضم الباء الموحدة بعد الألف وبعدها لام، وهي ناحية معروفة من بلاد الهند ينسب إليها جماعة من العلماء وغيرهم.
وأما بابل والأنبار فهما معروفان فلا حاجة إلى الكلام عليهما.
وبنى شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي على قبر الإمام أبي حنيفة مشهداً وقبة، وبنى عنده مدرسة كبيرة للحنفية، ولما فرغ من عمارة ذلك ركب إليها في جماعة من الأعيان ليشاهدوها، فبينما هم هناك إذ دخل عليهم الشريف أبو جعفر سعود المعروف بالبياض الشاعر- المقدم ذكره -وأنشده:
ألم تر أن العلم كان مبدداً فجمعه هذا المغيب في اللحد (1)
كذلك كانت هذه الأرض ميتة فأنشرها فعل العميد أبي سعد
فأجازه أبو سعد جائزة سنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
__________
(1) من الطويل .(1/10)
اعلم أرشدنا الله وإياك أنّه واجب على كل مُكلّف أنْ يعلم أنّ الله عزّ وجل واحد في ملكه ، خلق العالم بأسرهم العلوي والسفلي ، والعرش والكرسي ، والسموات والأرض وما فيهما ، وما بينهما ، جميع الخلائق مقهورون بقدرته ، لا تتحرك ذرة إلاّ بإذنه ، ليس معه مُدبِّر في الخلق ، ولا شريك في الملك ، حيٌّ قيوم (1) ، لا تأخذه سِنة (2) ولا نوم ، عالم الغيب والشهادة (3) ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، يعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ، ولا حبّة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ، ولا يابس إلاّ في كتاب مبين ، أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، فعَّال لما يريد ، قادر على ما يشاء ، له الملك والغَناء (4) ، وله العزة والبقاء ، وله الحكم والقضاء ، وله الحمد والثناء ، وله الأسماء الحُسنى ، لا دافع لِما قضى ، ولا مانع لِما أعطى ، يفعل في مُلكه ما يُريد، ويحكم في خلقه بما يشاء ، لا يرجو ثوابا ، ولا يخاف عقابا ، ليس عليه حَقٌّ ، ولا عليه حكم ، وكلُّ نِعمة منه فضل ، وكل نقمة (5)
__________
(1) القيوم : المبالغ في القيام بتدبير خلقه .
(2) السنة : النعاس .
(3) عالم الغيب والشهادة : ما غاب وما شوهد .
(4) الغناء بالفتح النفع ، وبالكسر من السماع ، لسان العرب ( غنا )
(5) النَّقِمةُ والنَّقْمةُ: المكافأَة بالعقوبة، والجمع نَقِمٌ ونِقَمٌ، فنَقِمٌ لنَقِمة، ونِقَمٌ لنِقْمةٍ، وأَما ابن جني فقال: نَقِمة ونِقَمٌ، قال: وكان القياس أن يقولوا في جمعِ نَقِمة نَقِم على جمع كَلِمة وكَلِمٍ فعدلوا عنه إلى أَن فتحوا المكسورَ وكسروا المفتوح. قال ابن سيده: وقد علمنا أَن من شرط الجمع بِخَلع الهاء أَن لا يُغَيَّر من صيغة الحروف شيء ولا يُزاد على طرح الهاء نحو تَمْرة وتَمْر، الليث: يقال لم أَرْض منه حتى نَقِمْت وانتَقَمْت إذا كافأَه عقوبةً بما صنَع. ابن الأَعرابي: النِّقْمةُ العقوبة، والنِّقْمةُ الإنكار..وقوله تعالى: هل تَنْقِمون مِنّا؛ أَي هل تُنْكِرون. قال الأَزهري: يقال النَّقْمةُ والنِّقْمةُ العقوبة؛ وفي الحديث: أنه ما انتَقَم لنفسِه قَطّ إلا أن تُنتَهَكَ مَحارِمُ الله أَي ما عاقبَ أَحداً على مكروهٍ أتاه من قِبَله، وقد تكرر في الحديث. اللسان ( نقم )(1/11)
منه عدل ، لا يُسأل عما يفعل ، وهم يُسألون ، موجود قبل الخلق ، ليس له قبل ولا بعد ، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال ، ولا خلف ولا أمام ، ولا كلٌّ ولا بعض ، ولا يُقال متى كان ، ولا أين كان ، ولا كيف كان ، كوَّن المكان ، ودبّر الزمان ، ولا يتخصص بالمكان ، ولا يلحقه وهم ، ولا يُكيِّفه عقل ، ولا يتخصص في الزمن ، ولا يتمثل في النفس ، ولا يُتصوَّر في الوهم ، ولا يَتكيَّف في العقل ، ولا تلحقه الأوهام والأفكار ، ولا تحويه الجهات والأقطار (1) ، وليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، نِعم المولى (2)
__________
(1) القُطْر، بالضم: الناحية والجانب، والجمع أَقْطار. وقومُك أَقْطارَ البلادِ: على الظرف وهي من الحروف التي عزلها سيبويه ليفسر معانيها ولأَنها غرائب. وفي التنزيل العزيز: من أَقطار السموات والأَرض؛ أَقطارُها: نواحيها، واحدها قُطْر، وكذلك أَقتارُها، واحدها قُتْرٌ. قال ابن مسعود: لا يعجبنك ما ترى من المرء حتى تنظر على أَيِّ قُطْرَيْه يقع أَي على أَي شِقَّيه يقع في خاتمة عمله، أَعلى شق الإِسلام أَو غيره. اللسان ( قطر )
(2) روى ابن سلام عن يونس قال: المولى له مواضع في كلام العرب: منها المولى في الدين وهو الولي وذلك قوله تعالى: ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، أي لا ولي لهم، ومنه قول سيدنا رسول
الله، صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه أي من كنت وليه، وغفار موالي الله ورسوله أي أولياء الله، قال: والمولى العصبة، ومن ذلك قوله تعالى: وإني خفت الموالي من ورائي، قال: والمولى الحليف، وهومن انضم إليك فعز بعزك وامتنع بمنعتك، قال أبو عبيدة: يعني الموالي أي بني العم، وهو كقوله تعالى: ثم يخرجكم طفلا، والمولى: المعتق انتسب بنسبك،ولهذا قيل للمعتقين الموالي، قال: وقال أبوالهيثم المولى على ستة اوجه: المولى ابن العم والعم والأخ والابن والعصبات كلهم، والمولى الناصر، والمولى الوالي الذي يلي عليك أمرك، قال: ورجل ولاء وقوم ولاء في معنى ولي وأولياء لأن الولاء مصدر، والمولى مولى الموالاة وهو النعمة وهو المعتق أنعم على عبده بعتقه، والمولى المعتق لأنه ينزل منزلة ابن العم يجب عليك أن تنصره وترثه إن مات ولا وارث له، فهذه ستة أوجه. اللسان ( ولي )(1/12)
ونِعم النصير (1) ، عرفه العارفون بأفعاله ، ونَفَوا التَّكييف عن جلاله / فكل ما خطر في الأوهام والأفكار فالله تعالى اب بخلافه .
... أمَّا بعد ...
... ... فهذه وصية من الإمام الأعظم أبي حنيفة ، رحمه الله لأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ، على مذهب أهل السنة والجماعة .
... لمَّا مرض أبو حنيفة رضي الله عنه قال : اعلَمُوا أصحابي وإخواني أنّ مذهب أهل السنة والجماعة على اثنتي عشرة خصلة (2) ، فمن كان يستقيم على هذه الخِصال لا يكون مبتدعا (3) ،
__________
(1) النصير : الناصر .
(2) الخَصْلة: الفَضِيلة والرَّذيلة تكون في الإِنسان، وقد غلب على الفضيلة، وجمعها خِصَال. والخَصْلة: الخَلَّة. وفي الحديث: من كانت فيه خَصْلة من النفاق أَي شُعْبة من شُعَب النفاق وجزء منه أَو حالة من حالاته. اللسان ( خصل )
(3) بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. وبدَع الرَّكِيّة: اسْتَنْبَطَها وأَحدَثها. ورَكِيٌّ بَدِيعٌ: حَدِيثةُ الحَفْر. والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوّلاً. وفي التنزيل: قُل ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُل؛ أَي ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ، قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير.والبِدْعةُ: الحَدَث وما ابْتُدِعَ من الدِّينِ بعد الإِكمال. ابن السكيت: البِدْعةُ كلُّ مُحْدَثةٍ. وفي حديث عمر، رضي الله عنه، في قِيام رمضانَ: نِعْمتِ البِدْعةُ هذه..ابن الأَثير: البِدْعةُ بدْعتان: بدعةُ هُدى، وبدْعة ضلال، فما كان في خلاف ما أَمر الله به ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فهو في حَيِزّ الذّمِّ والإِنكار، وما كان واقعاً تحت عُموم ما ندَب اللهُ إِليه وحَضّ عليه أَو رسولُه فهو في حيِّز المدح، وما لم يكن له مِثال موجود كنَوْع من الجُود والسّخاء وفِعْل المعروف فهو من الأَفعال المحمودة، ولا يجوز أَن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به لأَن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: مَن سنّ سُنّة حسَنة كان له أَجرُها وأَجرُ مَن عَمِلَ بها، وقال في ضدّه: مَن سنّ سُنّة سَيئة كان عليه وِزْرها ووِزْر مَن عَمِلَ بها، وذلك إذا كان في خلاف ما أَمر الله به ورسوله، قال: ومن هذا النوع قول عمر، رضي الله عنه: نعمتِ البِدْعةُ هذه، لمّا كانت من أَفعال الخير وداخلة في حيّز المدح سَمّاها بدعة ومدَحَها لأَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يَسُنَّها لهم، وإِنما صلاَّها لَيالِيَ ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها ولا كانت في زمن أَبي بكر وإِنما عمر، رضي الله عنهما، جمع الناسَ عليها وندَبهم إِليها فبهذا سماها بدعة، وهي على الحقيقة سنَّة لقوله، صلى الله عليه وسلم، عليكم بسنّتي وسنة الخُلفاء الراشدين من بعدي، وقوله، صلى الله عليه وسلم: اقْتَدُوا باللذين من بعدي: أَبي بكر وعمر، وعلى هذا التأْويل يُحمل الحديث الآخَر: كلُّ مُحْدَثةٍ بدعة، إِنما يريد ما خالَف أُصولَ الشريعة ولم يوافق السنة، وأَكثر ما يستعمل المُبْتَدِعُ عُرْفاً في الذمِّ. وقال أَبو عَدْنان: المبتَدِع الذي يأْتي أَمْراً على شبه
لم يكن ابتدأَه إِياه. اللسان ( بدع )(1/13)
ولا صاحب هوى ، فعليكم بهذه الخصال حتى تكونوا في شفاعة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة :
أولها ... : الإيمان ، وهو إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان ، ومعرفة بالقلب ، والإقرار وحده لا يكون إيمانا ؛ لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين ، وكذلك المعرفة لا تكون إيمانا ، لأنها لو كانت إيمانا ؛ لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين . قال الله تعالى في حق المنافقين : [وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ] (1) ، وقال في حقّ أهل الكتاب : [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] (2) ، والإيمان لا يزيد ولا ينقص ، لأنه لا يُتصوَّر نقصانه إلاّ بزيادة الكفر ، ولا يُتصوَّر زيادته إلاّ بنقصان الكفر ، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا ، والمؤمن مؤمن حقا ، والكافر كافر حقا ، وليس في الإيمان شك ، كما أنه ليس في الكفر شك ، لقوله تعالى : [أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا] (3) و[أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ] (4) ، والعاصون من أمة محمد عليه السلام كلهم مؤمنون حقا ، وليسوا بكافرين ، والعمل غير الإيمان ، والإيمان غير العمل ، بدليل أنّ كثيرا من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن ، ولا يجوز أنْ يُقال: ارتفع عنه الإيمان ، فإن الحائض (5)
__________
(1) المنافقون 1
(2) البقرة 146 ، الأنعام 20
(3) الأنفال 4
(4) النساء 151
(5) حاضَتْ المرأةُ تَحيضُ حَيْضاً ومَحيضاً، فهي حائِضٌ وحائِضَةٌ أيضاً، عن الفراء. ونساءٌ حُيَّضٌ وحَوائِضُ. والحَيْضَةُ: المَرَّةُ الواحدةُ. والحيضَةُ بالكسر: الاسمُ، والجمعُ الحِيَضُ. الصحاح ( حيض )(1/14)
يرفع الله سبحانه وتعالى عنها الصلاة ، ولا يجوز أن يُقال : رفع الله عنها الإيمان ، أو أمرها بترك الإيمان/ وقد قال لها الشرع دعِ الصوم ، ثم اقضيه ، ولا يجوز2أ ولا يجوزأن يُقال : دعِ الإيمان ، ثم اقضيه ، ويجوز أن يُقال : ليس على الفقير الزكاة ، ولا يجوز أن يُقال : ليس على الفقير الإيمان ، وتقدير الخير والشر كله من الله سبحانه وتعالى ؛ لأنه لو زعم أحدٌ أنّ تقدير الخير والشر من غيره لصار كافرا بالله ، وبطلَ توحيده ، إنْ كان له توحيد .
والثاني : نُقِرّ بأنَّ الأعمال ثلاثة : فريضة ، وفضيلة ، ومعصية ، فالفريضة بأمر الله تعالى ، ومشيئته ، ومحبته ، ورضاه ، وقضائه ، وقَدَره ، وتخليقه ، وحكمه ، وعلمه ، وتوفيقه ، وكتابته في اللوح المحفوظ . والفضيلة ليست بأمر الله تعالى ، ولكن بمشيئته ، ومحبته ، ورضاه ، وقضائه ، وقَدَره ، وتخليقه ، وكتابته في اللوح المحفوظ . والمعصية ليست بأمر الله ، ولكنْ بمشيئته ، لا بمحبته ، وبقضائه ، لا برضاه , وبتقديره ، لا بتوفيقه ، وبخذلانه ، وعلمه ، وكتابته .
والثالث : نُقِرّ بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى ، من غير أن يكون له حاجة ، واستقرار عليه ، وهو حافظ العرش ، وغير العرش من غير احتياج ، فلو كان محتاجا لما قَدِر على إيجاد العالم ، والحفظ ، وتدبيره كالمخلوقين ، ولو صار محتاجا إلى الجلوس والقرار ، فَقَبْلَ خلْقِ العرش أين كان الله تعالى ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .(1/15)
والرابع: نُقِرُّ بأن القرآن كلام الله تعالى ، غير مخلوق ، ووحيه ، وتنزيله ، وصفته ، لا هو ولا غيره ، بل هو صفته على التحقيق ، مكتوب في المصاحف ، مقروء بالألسُن ، محفوظ في الصدور ، غير حالٍّ فيها ، والحبر والكاغد والكتابة كلها مخلوقة ؛ لأنها أفعال العباد ، وكلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق ؛ لأنَّ الكتابة والحروف والكلمات والآيات كلها آلة القرآن ؛ لحاجة العباد إليها ، وكلام الله تعالى قائم بذاته ، ومعناه مفهوم بهذه الأشياء ، فمَنْ قال بأنَّ القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم / والله تعالى معبود لا يزال كما كان ، وكلامه مقروء مكتوب2ب ومحفوظ من غير مزايلة عنه عن الموصوف .
والخامس : نُقِرُّ بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ، ثم عمر ثم عثمان ، ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين ، لقوله تعالى : [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ] (1) وكل مَنْ كان أسبق فهو أفضل ، يُحبهم كل مؤمن تقي ، ويبغضهم كل منافق شقي .
والسادس : نُقِرُّ بأن العبد مع أعماله ، وأقواله ، ومعرفته مخلوق ، فلمَّا كان الفاعل مخلوقا فأفعاله أولى أنْ تكون مخلوقة .
__________
(1) الواقعة 10 ـ 12(1/16)
والسابع : نُقِرُّ بأن الله تعالى خلق الخلق ، ولم يكن لهم طاقة ؛ لأنهم ضعفاء عاجزون ، والله تعالى خالقهم ، ورازقهم ، لقوله تعالى : [ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ] (1) ، والكسب حلال ، وجمع المال من الحلال حلال ، وجمع المال من الحرام حرام . والناس (2) على ثلاثة أصناف : المؤمن المخلص في إيمانه ، والكافر الجاحد في كفره والمنافق المداهن في نفاقه ، والله تعالى فرض على المؤمن العمل ، وعلى الكافر الإيمان ، وعلى المنافق الإخلاص ، لقوله تعالى : [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ] (3) يعني : أيها المؤمنون أطيعوا ، وأيها الكافرون آمنوا ، وأيها المنافقون أخلصوا .
والثامن : نُقِرُّ بأنّ الاستطاعة مع الفعل لا قبل الفعل ، ولا بعد الفعل ؛ لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مستغنيا عن الله تعالى وقت الحاجة ، فهذه خلاف حكم النّص ، لقوله تعالى : [وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ] (4) ، ولو كان بعد الفعل لكان من المحال ؛ لأنه حصول الفعل بلا استطاعة .
والتاسع : نُقِرُّ بأنَّ المسح على الخفين واجب للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ، لأن الحديث ورد هكذا ، فمن أنكر فإنه يُخشى عليه الكفر ؛ لأنه قريب من الخبر المتواتر ، والقصر ، والإفطار في السفر رخصة بنص الكتاب ، لقوله تعالى : [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ] (5) وفي الإفطار / قوله تعالى : [فَمَنْ كَانَ 3 أ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] (6) .
__________
(1) الروم 40
(2) كتبت والمؤمن ، وهذا غير صحيح ، والصواب ما أثبتناه .
(3) النساء 1 ، الحج 1 ، لقمان 33
(4) محمد 38
(5) النساء 101
(6) البقرة 184 ، 196(1/17)
والعاشر : نُقِرُّ بأن الله تعالى أمر القلم بأن يكتب ، فقال القلم : ماذا أكتب يا رب، فقال الله تعالى : اكتب ما هو إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : [وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ] (1) .
والحادي عشر : نُقِرُّ بأنَّ عذاب القبر كائن لا محالة ، وسؤال منكر ونكير حق ، لورود الأحاديث ، والجنة والنار حقّ ، مخلوقتان لأهلهما ، لقوله تعالى في حقّ المؤمنين: [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (2) وفي حقّ الكفرة : [أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] (3) خلقها الله تعالى للثواب والعقاب ، والميزان حقّ ، لقوله تعالى : [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ] (4) وقراءة الكتب حقّ ، لقوله تعالى : [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ] (5) .
__________
(1) القمر 52 ، 53
(2) آل عمران 133
(3) البقرة 24 ، آل عمران 131
(4) الأنبياء 47
(5) الإسراء 14(1/18)
والثاني عشر : نُقِرُّ بأنّ الله تعالى يُحيى هذه النفوس بعد الموت ، ويبعثهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة للجزاء والثواب ، وأداء الحقوق ، لقوله تعالى : [وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ] (1) ولقاء الله تعالى ، لأهل الجنة حقّ بلا كيفية ، ولا تشبيه ، ولا جهة ، وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حق لكل من هو من أهل الجنة ، وإن كان صاحب الكبيرة، وعائشة رضي الله عنها بعد خديجة الكبرى أفضل نساء العالمين ، وأم المؤمنين ، ومطهرة من الزنا ، بريئة عما قالت الروافض ، فمنْ شهد عليها بالزنا ، فهو ولد الزنا ، وأهل الجنة في الجنة خالدون ، وأهل النار في النار خالدون ، لقوله تعالى في حق المؤمنين : [أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ] (2) ، وفي حق الكافرين : [أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ] (3) .
... ... والحمد لله ربِّ العالمين وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمت وصية الإمام أبي حنيفة لأصحابه
رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، آمين ، آمين ، آمين
وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله
وحده
م
__________
(1) الحج7
(2) البقرة 82 ، الأعراف 42 ، يونس 26 ، هود 23
(3) البقرة 39 ، 257 ، الأعراف 36 ، ويونس 27 ، والمجادلة 17(1/19)