همسات للسراة
الشيخ علي بن عبدالخالق القرني
المصدر: تفريغ وإعداد: تامر أحمد محمد الشبينى
تاريخ الإضافة: 15/03/2009 ميلادي - 18/3/1430 هجري
الحمد الله، أمر ألاَّ تعبُدوا إلا إيَّاه، لا يكشِفُ الضُّرَّ سِواه، ولا يدعو المُضطرُّ إلا إيَّاه، نعُوذُ مِن سَخَطِهِ برِضَاه، ونُنزِلُ فقرَنا بغِناه، ونستغفِرُه؛ {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
نحمَدُه والحمدُ من إنعامه إذ ذِكْرُنا إيَّاه من إلهامه
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، لا تُدرِكُه الأبصار، وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار، جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وفَلَقَ البحر لموسى الكليم، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 17، 18].
وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، خِيرَتُه من خلقه، وأمينُه على وحْيه، دعا إلى سبيل ربِّه بالحكمة، فأحيا الله به الأمَّة، وكشف الله به الغُمَّة، صلواتُ الله وسلامُهُ عليْه وعلى آلِه وأتْباعه بإحسانٍ وصحبه.
يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ المُصْطَفَى مَا اهْتَزَّتِ الأَثَلاتُ من نَفَسِ الصَّبَا
يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ مَا كَوْكَبٌ فِي الجَوِّ قَابَلَ كَوْكَبَا
صَلُّوا عَلَى المُخْتَارِ فَهْوَ شَفِيعُكُمْ فِي يَوْمِ يُبْعَثُ كُلُّ طِفْلٍ أَشْيَبَا
صَلَّى وَسَلَّمَ ذُو الجَلالِ عَلَيْهِ مَا أَزْكَاهُ فِي الرُّسُلِ الكِرَامِ وَأَطْيَبَا
جَعَلَنا اللهُ من أهل سُنَّتِه، وجَمَعَنا اللهُ معًا في جنَّته.(1/1)
مرحبًا بالوُفودِ إخوةً وبنين وأخواتٍ، غير خزايا ولا ندامى، يوم خفُّوا وأجابوا الداعي سِرَاعًا، ونضَّر الله هذه الوجوه النيِّرَة، وما تحتها من نفوس أحسبُها بارَّةً خيِّرَة، لو كان الخيرُ وراء البحرِ لخاضَتِ البحرَ إليه، ولو كان في أعماقه لغَاصَت في لُجَجِه عليه.
وبتحيَّة الإسلام أُحَيِّي هذه الوجوه، التي ننتظِر منها ما ينتظره المُدلِجُ في الظلام من تباشير الصباح، التي تكشِفُ المعالم وتطمِسُ الأوْهام، فإذا الحقائقُ نيرانٌ على أعلام.
فالسَّلامُ عليكم ورحْمة الله وبركاته، في الحلِّ والتّرْحَال تغشَاكم، وفي الغُدُوات والرَّوحات تلْقاكم، ما دُمتُم في سبيل الله مراحُكُم ومَغْدَاكم، وفى مرضاته قيدُكم وسراحكم، من أخٍ مُشتاقٍ إليْكم، مُعتزٍّ بالله ثم بِكُم، قَدِمتُم خير مَقدَم، وبُؤْتُم بحُسنِ الإيابِ والمُنقَلَب.
وَعَلَوْتُمُ العَلْيَا فَكُنْتُمْ أَوَّلاً وَالأَوَّلُونَ مِنَ الرِّجَالِ قَلائِلُ
وَزَهَتْ بِجَمْعِكُمُ السَّرَاةُ وَغَرَّدَتْ وَتَرَنَّمَتْ نَجْدٌ وَغَنَّى السَّاحِلُ
حُبِّي لَكُمْ يَا إِخْوَتِي لَمَّا يَعُدْ سِرًّا وَكَيْفَ وَكُلُّ عَيْنٍ تَنْطِقُ
بِمَحَبَّةِ اللَّهِ العَلِيِّ أُحِبُّكُمْ حُبًّا عَلَى جَنَبَاتِ قَلْبِي يُشْرِقُ
فَلِكُلِّ فَرْدٍ فِي الفُؤَادِ مَكَانُهُ مَا ضَاقَ عَنْهُ القَلْبُ وَهْوَ الضَّيِّقُ
هذا لقاءُ الأُخُوَّة بالأُخُوَّة، وما أدراكُم ما لُقْيَا الأُخُوَّة؟!
تناجٍ بالبِرِّ والتقوى، وتطارُحٌ للهمِّ والشَّكوى، يهشُّ وجهٌ لوجه، ويخفِقُ قلبٌ لقلب، وتُصافِحُ يدٌ يدًا، وتشفعُ تحيَّةٌ تحيَّة، وعندها يقوى ساعدٌ بساعِد، ويشتدُّ عَضُدٌ بعَضُد، ويمتزِجُ ضعفٌ بضعفٍ، فينبَثِقُ عنه قوَّة، فضعِيفَان يغلِبانِ قوِيًّا، فخُذْهَا بقوَّة.
لا يَرْتَقِي دَرْبَ المَكَارِمِ تَافِهٌ أَوْ يَبْلُغُ العَلْيَاءَ يَوْمًا خَامِلُ
معاشر الإخوة:(1/2)
في خِضَمِّ الأحداثِ المُتسَارِعَةِ المُفاجِئَة الجِسَام، النَّازِلَةِ بأمَّة الإسلام، في حاضرٍ أشبَهَ بحاضرِ الغَنَمِ يطرُقُها الذِّئبُ فترْتَاع، ويغِيبُ عنها فترتَع، في خِضَمِّ هذا لا يفتَأُ المُتابِعُ والمُتأمِّلُ يسمعُ بحَدَثٍ، ويشرَعُ في البَحثِ عن موقفٍ منه حتَّى يفجأَهُ حَدَثٌ آخر يُنسِيهِ الأول.
ومن آخرها تِلكُمُ الهجمةُ الصليبيَّةُ الشَّرِسة، التي ثَارَت عاصِفَتُها فاقتَلَعَت مَن اقتَلَعَت، وانحنَت لها رؤوس، فسَلِمَت أو أُرجِئَتْ، وكنَّا - نحن المسلمين - هَدَفَها، أفصَحَت عن ذلك غير مرَّة للعالَمِ عبر خِطَطٍ مُعْلَنة، وابتدأَت بالعراق، فكان ما كان مما لستُ أذكُرُه.
سَائِلُوا دِجْلَةَ عَمَّا رَاعَهَا أَوْ دَعُوهَا، فَكَفَاهَا مَا دَهَاهَا
وغَفَلْنا عن الذِّرَاع، فطَمِعُوا في الكُرَاع، حتى قال أحدُ مُنَصِّريهم: "لن تتوَقَّف جُهُودُنا حتى يرتَفِعَ الصليبُ في سماءِ مكَّة، ويُقامَ قُدَّاسُ الأحَدِ في المدينةِ"، خاب!
رَامَ ذَا المَغْرُورُ أَمْرًا دُونَهُ مِنْهُ خَضْمُ الغَابِ أو عَبْرُ الخِضَمّ
ومِن قَبلُ قام كبيرُهم خطيبًا في العالمِ، يُملِي علَيْهِم عقيدةَ الولاء والبراء صلْعاء سافرة: "مَن ليس معنا فهو عدُوُّنا" بمنطِقِ: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، و{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29].
ويقفُ المرءُ مذهولاً أمام وصفِهِ للمجاهدين الذين يجاهدون، ويذُبُّون، ويُدافِعُون عن دينهم وعِرضِهم وأرضِهم في فِلَسطين وغيرها من بلاد المسلمين، بأنَّهم جماعاتٌ من القَتَلةِ والمجرمين، ومن يحتلُّ أرضَهم وينسِفُ منازِلَهم، ويحصُدُ شِيبَهم وشبَابَهم، ونِساءَهم وأطفالهم بسلاحِهِ هو: رجلُ سلامٍ يستحقُّ التقدير والاحترام!
هَكَذَا ظَنَّ وَهَذَا مَا ادَّعَى هَكَذَا قَالَ وَهَذَا مَا أَرَادْ
كَفَرَ النَّاسُ بِمَا قَالَ وَهَلْ يَحْصُدُ المَرْءُ وُرُودًا مِنْ قَتَادْ(1/3)
شِعارُهُ: حمايةُ الحرية والعدالة، ورعاية السلام، فإذا صاحَ صائحٌ بالوَيْلِ، وصَرَخَ مُستغِيثٌ من ظُلمِهِ بالليل، قال: اسكُت، نحن حُماةُ الحرية، فيا أرضُ ابلعِي، رُفِعَ القِردُ فاضطَجَع، ليس في القِردِ مُصطَنَع.
قَدْ حَلَّ مِنْ لُؤْمِ الفِعَالِ مَوَاضِعًا لَمْ يَخْلُ للثَّقَلَيْنِ مِنْهَا مَوْضِعُ
يُملِي ويستخِفُّ، ويُريدُ من غيره أن يُنفِّذَ ولا يسأل، هَزُلَت وكُلاها بَدَتْ.
زَمَانٌ رَأَيْنَا فِيهِ كُلَّ العَجَائِبِ وَأَصْبَحَتِ الأَذْنَابُ فَوْقَ الذَّوَائِبِ
ومع الحرب الصليبيَّة على العالمِ الإسلامي تَوَالَت أحداثٌ داخليَّة غير خافية، تُرفَضُ ولا تُقَرُّ، وتضُرُّ ولا تسُرُّ، ويجبُ ألاَّ تُستَغَلَّ لتقْبيحِ حسنٍ أو تَهمِيشِ ثابت، ففي خِضَمِّ هذه أو تلك اندفَعَت أقلامٌ - كان الأولَى بها أن تُكسَرَ - لتكتُبَ عن هوًى وتخُطّ، وألسِنَةٌ كان الأولَى قطعُها تحكُمُ وتشتَط، وتَطَايَرَت كلماتٌ من أفواهٍ كان الثَّرَى أولَى بها - على قِلَّتِها - لتُعلِنَ حربَها على الثوابِتِ والقِيَم وما يتَّصِلُ بها، بدءًا بالمناهجِ الشرعيَّة، والهيئات، والجمعيات الخيرية، والعلماء، والدعاة، وحلقات التحفيظ، وغيرها.
فكانوا أداةَ العدو في اختِراق الأمَّة، وتسويق مشاريعه باسم التغيير والتطوير؛ {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52].
وهذا دَيْدَنُهم كلما نزلت بالأمَّة نازلة، أو ألمَّت بها مُلِمَّة؛ {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، ما فاجؤونا؛ ليس هناك مِن حَدَثٍ إلا ويظهرونَ في صُورٍ وأشْكال قد تتباين؛ لكنَّ المخازيَ واحدة، ألسنةٌ لا تُترجِمُ عن حق، ولا تصدُرُ عن يقين.(1/4)
مبدؤُها: لا فَرقَ بين قُرَّاءِ البقرة وعُبَّاد البقرة، تقِيسُ مع الفَارِق، وتقِفُ على {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4]، و{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43]، تكذِبُ ولا يُستغرَبُ الكَذِبُ ممَّن رأسُ مالِهِ الكذِب، وما هم اليوم إلا مَن عرفناهم بالأمس.
حالُ الأمَّة معهم يقول بقول القائل:
أَشْكُو إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ عَلَقٍ يَعِيشُ عَلَى جِرَاحِي
مِنْ جِلْدَتِي لَكِنْ أَشَدْ دُ عَلَيَّ مِنْ طَعْنِ الرِّمَاحِ
أَخَذَ الدِّيَانَةَ عَنْ مُسَيْ لِمَةَ الكَذُوبِ وَعَنْ سَجَاحِ
مِنْ كُلِّ تَيْسٍ كُلَّمَا كَبَّرْتُ بَرْبَرَ لِلنِّطَاحِ
عُمْيٌ بَصَائِرُهُمْ طُمْسٌ مَشَاعِرُهُمْ كَأَنَّهُمْ فِي مَرَاعِي وَهْمِهِمْ غَنَمُ
فَالشَّرُّ مَنْطِقُهُمْ وَالغَدْرُ شِيمَتُهُمْ وَالخُبْثُ دَيْدَنُهُمْ إِنَّ العَدُوَّ هُمُ
هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُمْ وقَرَّت، وظَهَرَت بعضُ الحقائقِ واستقرَّت، وأخرَجَت الصُّدُور دَفَائِنها وافتَضَحَت، وعن اللبنِ الصريحِ الرّغْوَةُ انجَلَت.
وسَكَتْنا كلَّ هذه المدَّة، لا سُكوتَ المَشدُوهِ عَقَدَتِ الحَيْرَةُ لِسانَه، ولا سُكُوتَ الجَبَان سَكَنَ الهَلَعُ جَنَانَه، ولا سُكُوتَ الغَافِلِ تفجؤُهُ الأحداثُ فيَجِمُ لها ويُطرِقُ ويَعْيَا بيَانُهُ؛ لكنَّنا سكَتْنا سُكُوتَ المعتدِّ بإيمانِهِ ويقينِهِ، المُستبصِرِ في مآخِذِ ومَتَارِكِ شُؤُونِهِ، الواثقِ بأن هذه الأحداثَ وإن اعتصَرَت ظلماؤُها غَمَراتٌ ثم ينجَلِين، وأنَّ هذه المكائد مردودة في نحور الكائدين، ولا يحيق المكرُ السيِّئُ إلا بالماكرين، وأنَّ العاقبة للمتقين، ولا عدْوان إلاَّ على الظالمين.
ثم هَمَسنا:
فكانت هذه الكلمات بعنوان: "هَمَساتٌ لِلسَّرَاةِ"، وسَراةُ كلِّ أمَّةٍ من الجن أو الإنس هم خِيارُها وكِرامُها وأشرافُها.
يقول العربيُّ:(1/5)
أَتَوْا نَارِي فَقُلْتُ: مَنُونَ؟ قَالُوا: سَرَاةُ الجِنِّ قُلْتُ: عِمُوا ظَلامًا
وإني لأرى الشرف مُتربِّعًا مُتمكِّنًا فيكم، فاللهم اجعلهم خيرًا مما أظن.
إنَّها هَمَساتٌ في أُذُن أمَّة تُعاني في حاضرها ما يُعانيه الحُرُّ الأبيُّ أُكرِه على الضَّيْم، وأُرِيدَ على ما لا يُريد، وجُرِّع السُّمَّ في الحنظل، وقُطِعت أوصالُه وهو يشعُر، واستُبيحَت محارمُه وهو يسمعُ ويُبصِر، وفُرِض عليه أن يعيش غُربَتَه في أرضه، وأن يتعاون مع عدوِّه على طمس هويَّته ونسيان ماضيه، وأن ينتبِذ مكانًا غربيًّا من أهله.
همَساتٌ: أن أَعلِني - أيَّتُها الأمَّة - خُطَّة الشَّرف، خُطَّة العمل، فساعة العمل خيرٌ من ألف شهرٍ من التأوُّه والكلام.
فَمَا ضَاعَ حَقٌّ لَمْ يَنَمْ عَنْهُ أَهْلُهُ وَلا نَالَهُ فِي العَالَمِينَ مُقَصِّرُ
إنَّها همساتٌ: في أُذُن يائسٍ شاكٍ خابطٍ في الدياجي، طال ليلُه،وطالَ ويلُه وعويله.
هَمساتٌ: في أُذن مُتثائبٍ تقول: ليس بعد التَّثاؤب إلا التمطِّي والانتِعاش.
همساتٌ: تؤذِّن بالإصلاح في أُذُن المريض لينتفِض انتِفاضةً تتطاير معها الأثْقال، وتنفصِم الأغلال بصوت بلال.
همساتٌ: تقول: حذارِ حذار اليأس؛ إنَّ بطش الله بالظَّالمين لشديد، وإنَّ الحرير قد يفُلُّ الحديد.
همساتٌ: إلى أرض الأمَّة الجُرُز لتهتزَّ وتربو وتنهض وتنشط، بعد خُمودٍ وقعودٍ ورُكودٍ ورُقُود.
فَلَقَدْ دَنَا العَهْدُ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ: سَيَحْصُلُ
همساتٌ: هي تباشيرُ الصباح، إلى السُّؤدَد اللمَّاح، في كرٍّ وإلْحاح، وعزماتٍ صِحاح، تهتِف وتحدو إلى الحياة الكريمة العزيزة، إلى تَمكين سلطان الدين على الحياة، فاليومَ يومُك للسباق، واليوم يومُك يا جواد.
همساتٌ تدعو:
فَأَيِّدِ اليَوْمَ يَا رَبَّاهُ أُمَّتَنَا وَالْطُفْ بِهَا فِي خِضَمِّ المَوْجِ وَاللُّجَجِ(1/6)
همساتٌ للسَّراة في الأزمات، أسأل الله أن يرفع وينفع بها، وأن يكفيَنا إفْراط من ينطق عن الهوى، ويجهل أنَّ لكل امرئٍ ما نوى.
ومع هذا؛
فَمَنْ ظَنَّ مَنْ لا يُلاقِي الحُرُوبَ بِأَلاَّ يُصَابَ فَقَدْ ظَنَّ عَجْزَا
عَلَى أَنَّنِي رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الهَوَى وَأَخْلُصَ مِنْهُ لا عَلَيَّ وَلا لِيَا
فَإِنْ ضَلَلْتُ بِقَفْرِ الأَرْضِ مُنْقَطِعًا فَمَا عَلَى أَعْرَجٍ فِي ذَاكَ مِنْ حَرَجِ
اللَّهم لا سهل إلا ما جعلتَه سهلاً، وأنت تجعلُ الحَزْن إذا شئتَ سهلاً
فَهَبْ لِي إِلَهِي مِنْكَ حَوْلاً وَقُوَّةً فَإِنِّي ضَعِيفٌ دُونَ حَوْلِي وَقُوَّتِي
الهمسة الأولى:
صدق الله، وكَذَب المُموِّهون؛ {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2].
إنَّ ممَّا لمسه الموافق والمخالف، والمعتدِل والمُجانِفُ: أنَّه ما كان أعداءُ الله أظهرَ عداوةً للمسلمين منهم في هذه الأيَّام، ولا أقبح، ولا أوقح؛ {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]، ووالله ما يُريدون من أمَّة الإسلام ما هو دون الانسِلاخ من دين الإسلام، ولن يُرضِيَهم إلا أن نقول - ونعوذ بالله أن نقول -: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، أو {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، أو {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، أو {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، أو {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181].
لا يُريدون ما هو دون هذِه الغاية، وإن تعددت الوسائل إليْها وتدرَّجَت، إن تشُكَّ في ذلك:
فَأُقْسِمُ بِالجَبَّارِ إِنَّكَ خَالِطٌ وَمَا يُوقِظُ المَخْلُوطَ شَيْءٌ كَصَفْعَةِ
وَمَا لَكَ فِيمَا تَدَّعِي أَيُّ حُجَّةٍ وَأَنْتَ إذًا عَيْرٌ بِأُذْنٍ طَوِيلَةِ(1/7)
لِمَ؟ لأنَّ الله يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، ويقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، ويقول: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105]، ويقول: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].
لا جديد ولا مُفاجئ - معشر الإخوة - فيما يحدُث، فالمعركة مستمرَّة دائمة ما توقَّفََت منذ بعْثة رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ولن تتوقَّف إلى قيام السَّاعة، ما طلعت شمسٌ ولا غَرَبَت إلا وهم يُخطِّطون، ويمكرون، ويُدبِّرون، وعلى القرآن والنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأمَّةَ يحسُدون، وعلى كون مادَّة حضارتهم بأرض الإسلام ينقمون؛ {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119].
فلا ينبغي أن نتوقَّف عند حدثٍ مهما عظم، ونترك ما بأيدينا ونقول: ماذا نعمل؟
نحن على هذا لن نعمل أبدًا، ولن نُفلِح أبدًا، وعلى هذا فعِنْدَ كلِّ حدثٍ نقول: كلُّ قائمٍ على ثغرةٍ فليعلم أنَّه في عُمق المعركة، فاللهَ اللهَ أن يُؤتَى الإسلام من ثغرته.
الأبُ في بيته على ثغرة، والأم كذلك، الخطيبُ والإمام في مسجِدِه على ثغرة، العالِم والمُربِّي في حلقتِه ومدرستِه وجامعته على ثغرة، التاجر بِماله على ثغرة، صاحبُ الرأي برأيه على ثغرة، العالمُ على ثغرة، المُرابِطُ على ثغرة، كلُّ مسؤولٍ على ثغرة.
فَلْيَنْطَلِقْ كُلُّ فَرْدٍ حَسْبَ طَاقَتِهِ يَسُدُّ ثَغْرَتَهُ سِرًّا وَإِعْلانَا(1/8)
وَلْنَتْرُكِ اللَّوْمَ لا نَجْعَلْهُ عُدَّتَنَا وَلْنَجْعَلِ الفِعْلَ قَبْلَ القَوْلِ مِيزَانَا
يا عارَ وهزيمةَ فردٍ أُتِيَت الأمة من ثغرة يقوم على حراستها.
فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ بَادَرَ الصَّيْدَ مَعَ الفَجْرِ قَنَصْ
ألا ولنتعامل مع الوضع بما يستحِقُّه، فالمعركة شاملةٌ لكل الميادين، ليستِ احتلال أرض، كفلسطين، أو العراق، أو غيرها فقط، بل هي معركةٌ في كل ميدان.
هدفها: طمسُ هويَّة المسلم، فما زالوا بلُؤْمِهم ومكْرِهم يَمكرون ليصرفوا هذه الأمة عن قُرآنها، حتَّى لا تأخُذَ منه أسلِحَتَها الماضية وعُدَّتها الواقية.
وهُم آمِنون ما انصرفت الأمَّة عن موارد وينابيع قوَّتِها الحقيقيَّة، إنَّ خُصومَنا لا ينقمون منَّا إلا الإيمان، ليْست المعركة سياسيَّة، ولا اقتصاديَّة، ولا عنصريَّة، ولو كانت كذلك لسهُل وقْفُها، لكنها معركة عقيدة؛ إمَّا كفرٌ وإمَّا إيمان، إمَّا جاهليةٌ وإما إسلام.
لقد عُرِضَ على رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - المالُ، والحكمُ، والمتاعُ في مُقابل أن يُدهِنَ ويدَع معركةَ العقيدة، ولو أجابَهم – حاشاه، صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى شيءٍ ممَّا أرادوا ما بقِيَت بيْنهم وبينه معركةٌ على الإطلاق.
إنَّها قضية عقيدة، ومعركة عقيدة، وهذا ما يجبُ أن يستيْقِنه المؤمنون حيثُما واجهوا عدُوًّا لهم، فإنَّه لا يُعاديهم ولا ينقِمُ منهم {إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، ووالله ما صبر المؤمِنون وثبَتوا إلا ورَأَوْا بأمِّ أعيُنهم انْهِيار تماسُك أهل الباطل، فلا يهُولَنَّ المُسلم ما يراه من لجلجة الباطل، فإنَّ الله قال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14].(1/9)
قد يُحاول الأعداء أن يَرْفعوا للمعركة رايةً غير راية العقيدة، كل ذلك ليُموِّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويُطفِئوا في أرواحهم شُعلة العقيدة، فمن واجِبِنا - نَحن المسلمين - ألاَّ نُخدَع، وأن نُدرِكَ أن هذا التمويه لغرضٍ مُبيَّتٍ مقيتٍ.
الإسلامُ وعدوُّه لا يندمجان ولا يمتزجان أبدًا، وإن تعاونا في تحقيق هدفٍ نبيلٍ.
في اللغة العربية تركيبٌ يُسمَّى: (الإسنادي)، والإسلام لا يرضى أن يُسنَد إلى عدوِّه يُشكِّلُه، وفي العربية: (التركيب الإضافي)، والإسلام لا يسمحُ أن يُصافَ إلى عدُوٍّ يُصرِّفُه، وفي العربية: (التركيب المَزجِيّ)، والإسلامُ وعدُوُّه كالزَّيت والماء لا يمتزجان إلا في لحظةِ تحريكٍ عنيف، ثم يعود كلٌّ منهما إلى سُنَّته من المباينة والمظاهرة.
والصَّليبيَّة الصهيونيَّة العالميَّة بقيادة أمريكا هي رأسُ أعْداء الإسلام في ماضيهِ كلِّه وفي حاضِرِه، لَم يَكْتُب تاريخُها أنها جاوَرَته فأحسَنَت، أو عامَلَته فصَدَقت، أو قَدرَت عليه فَعَفَت أو عَفَّتْ، أو حَكَمَت فعدَلَت؛ بل يدلُّ الواقع على أنَّ الإسلام ما جنى منها إلا الكيد له بعيدًا، والإضرار به قريبًا، ويجري عليْنا حكم المجانين إن تصوَّرنا أنَّ حاضرَها يُخالفُ ماضيها، أو أنَّ آتيَها خيرٌ من حاضرها؛ لأنَّ ما نقوله نحن جعَلَته هي ذاتيًّا لا يتخلَّف ولا يُنقَض.
إنَّها شرٌّ، والشَّرُّ لا يأتي بخير، إنَّها شوك ولا يُجنَى من الشوك العنبُ، قد قلنا فيها بما نعرف، وشهِدنا بما نعلم، فإن كان فيها غير ما عرَفْناه، فسلُوا عن العسَل من ذاق طعمَه، أمَّا نحن فذُقْنا الحنظل فوَصَفنا الحنظل.(1/10)
فالذي يريد أن يُغيِّر راية المعركة إنَّما يريد أن يَخدعنا عن سلاح النَّصر الحقيقي في المعركة، ونحن نشهدُ نموذجًا من تَمويه الراية بِمحاولة الصليبيَّة الصهيونيَّة العالميَّة اليوم أن تَخدعنا عن حقيقة المعركة، وأن تزعُم أنَّ الحرب الصليبيَّة إنَّما هي لنشْر الحريَّة والسَّلام في العالم الإسلامي، وإسْقاط الأنظِمة المُستبدَّة.
وما تقوم به اليوم في العراق شاهدٌ؛ حيث تُعلِنُ أنها جاءت لتحقيق الحرية، بينما هي تقمع الشعب المسلم، وتُحطِّمُ استقلاله، وتُمارِسُ إذلاله، وتعمُر بالخراب ديارَه، فكانت كمُسيلِمة الكذَّاب: تَفَل في بئرٍ عذبةٍ فصارتْ مِلْحًا أُجاجًا، ونَضبَ ماؤُها فصارتْ يبابًا، ومسح رأس طفلٍ فصار أصلع.
فَدَعْ عَنْكَ أَوْهَامَ الضَّلالَةِ وَانْتَبِهْ وَرَابِطْ عَلَى مِنْهَاجِ ذِكْرٍ وَسُنَّةِ
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ فِي جَرَائِمِ حَرْبِهِمْ خُرُوجُهُمُ بِاسْمِ الحُرُوبِ الصَّلِيبَةِ
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ فِي جَرَائِمِ حُكْمِهِمْ حِرَابَةُ دِينِ اللَّهِ فِي كُلِّ دَوْلَةِ
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ فِي جَرَائِمِ غَزْوِهِمْ إِبَادَةُ شَيْخٍ بَلْ وَأُنْثَى وَطِفْلَةِ
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ فِي زَمَانٍ مُعَاصِرٍ صِنَاعَةُ آلاتِ الدَّمَارِ المُبِيدَةِ
فَلَمْ يَعْرِفِ التَّارِيخُ جُرْمًا كَجُرْمِهِمْ وَلا غَادِرًا يَسْعَى بِكُلِّ أَذِيَّةِ
فَهَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ لَوَ انَّنِي تَتَبَّعْتُهُ لاحْتَجْتُ مِلْيُونَ صَفْحَةِ
قال الله - وإذا قال الله بطَل كلُّ قولٍ وقائل -: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وصدق الله، وكذب المُموِّهون.
الهمسة الثانية:
ما قُضِيَ كان:
فَلَوْ خَلائِقُ الإِلَهِ اجْتَمَعَتْ لِضُرِّ عَبْدٍ وَاحِدٍ مَا قَدَرَتْ(1/11)
أَوْ نَفْعِهِ فَافْهَمْ هُدِيتَ لِلْعَمَلْ إِنْ لَمْ يَكُنْ قُدْ خُطَّ قَبْلُ فِي الأَزَلْ
ما قُضِي كان، وما سُطِّر مُنتَظَر، وكل شيءٍ بسبب، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان حتَّى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطِئَه؛ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ وَالكُلُّ فِي أُمِّ الكِتَابِ مُسْتَطَر
والله لا يضع أمرًا إلا في موضعه، ولا يُوقِعُه إلا في موقعه، إنه حكيمٌ عليم.
ما حدثٌ مؤلمٌ يحُلُّ إلا بحكمة الله، لتتميَّز الصفوف، وتتعرَّى النفوس، وتظهر الحقائق، ويتميَّز الحق من الباطل، إنَّه حكيمٌ عليم، يبتلي عبادَه المؤمنين ليستخرِج عبوديَّتَهم وذُلَّهم وافتِقارهم له؛ إذ لو كانوا مَنصورين دائمًا لدخَل معهم مَن ليس منهم وبطِرُوا، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا ما قامت للدين قائمة، ولم يدخل معهم فيه أحدٌ ويئِسوا، إنه حكيمٌ عليم.
فلتعلم الأمَّة أنَّ ما أصابها من شدَّةٍ ولأْوَاء وهزائم إنَّما يتم بعِلْم الله وحكمته، والعاقبة لأولياء الله ولدين الله الذي تكفَّل بِحفظه، ونُصرة أهله، فلا يأس.
جَنِينُ النَّصْرِ يَصْرُخُ فِي سِنِينِ العَجْزِ وَاليَاسِ
دَعُوا الأَحْزَانَ يَا قَوْمِي عَلَى أَبْوَابِ يُؤَّاسِ
وَصُوغُوا البِشْرَ وَلْتُحْ يُوا لَيَالِيَكُمْ بِإِينَاسِ
قَرِيبًا تُغْسَلُ الأَرْضُ الْ لَتِي خَبُثَتْ بِأَنْجَاسِ
بِشَارَاتٌ نَتِيهُ بِهَا نُحَطِّمُ صَخْرَةَ اليَاسِ
وعدٌ من الله، ولن يُخلِفَ الله وعده، ولن تجد لسنة الله تبديلاً؛ لكنَّها سنَّةٌ لا تتحقَّقُ إلا بأسبابها، من عملٍ بكل ما في الوُسع والطاقة، مع إيمانٍ ويقين بأن المُدافعة مستمرة، والعاقبة للحق.
وَالنَّصْرُ آتٍ يَوْمُهُ وَالحَقُّ لا يَتَبَدَّلُ(1/12)
هَذَا يَقِينٌ صَادِقٌ إِنِّي لأُقْسِمُ مُقْبِلُ
فلا عجز ولا استِسلام ولا تواكُل؛ بل سعيٌ وجِدٌّ وعمل، ودفعٌ لقَدَر الله بقَدَر الله، وفرارٌ من قَدَر الله إلى قَدَر الله، مع ثقةٍ بوعْدِ الله، وجزمٍ بقُربِ نصر الله.
فإذا قُضِي الأمر ولم تنفع المُدافعة، وجَبَ التَّسليم مع رجاء الخير العظيم؛ {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور: 11]، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا} [البقرة: 216].
فيا ابن الإسلام:
ترويضًا لا تهويلاً، وطِّن نفسَك على المكروه تهُنْ عليْك الشدائد، فالدنيا سِجنُ المؤمن، والجنة حُفَّت بالمكاره.
فَانْشُدِ العَلْيَاءَ وَادْفَعْ مَهْرَهَا طَالِبُ الحَسْنَاءِ لا يَخْشَى الثَّمَنْ
إذا ألمَّت بك الخُطُوب وتألَّمتَ، واعتراكَ الفزعُ، والطمَعُ، والبأسُ، والكَرْبُ، والجهدَ قد بذَلتَ، فاقطَع العلائقَ بأسباب الأرض، وفِرَّ إلى الله، فالأمرُ كلُّه إليه، الجأْ إليْه، وتوكَّل عليْه، لا لجوءَ يائسٍ ذليلٍ، ولا مُحْبَطٍ كسير؛ لكنَّه لُجوء مؤمنٍ صادقٍ يركنُ إلى حوْل الله وقوَّته، ويعتقد في يقينٍ بأنَّ الطمأنينة والسَّكينة لا تكون إلا بذكره وفي جنبه.
العِزُّ فِي كَنَفِ العَزِيزِ وَمَنْ عَبَدَ العَبِيدَ أَذَلَّهُ اللَّهُ
لُجوء مؤمنٍ يُوقِنُ أنَّه: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]، فالحياةُ بيدِه، والممات بيده، والسَّعادة بيده، والشَّقاء بيده، والنَّصر بيدِه، وما شيءٌ يُطمَع فيه إلا وخزائنُه بيده، الكلُّ مُضطرٌّ إليه، مُفتقِرٌ إليه.
إِلَيْهِ وَإِلاَّ لا تُشَدُّ الرَّكَائِبُ وَمِنْهُ وَإِلاَّ فَالمُؤَمِّلُ خَائِبُ
هُوَ اللَّهُ مَوْلانَا هُوَ اللَّهُ رَبُّنَا وَلَيْسَ لَنَا مِنْ مَلْجَأٍ دُونَ رَبِّنَا
فَلا تَكِلْنَا إِلَى مَنْ لَيْسَ يَكْلَؤُنَا وَكُنْ كَفِيلاً فَأَنْتَ الكَافِلُ الكَالِي
الهمسة الثالثة:
مَن كان الله معه فممَّ يخاف؟!(1/13)
يَا أُمَّتِي مَا خَابَ مَنْ بِزِمَامِ خَالِقِهِ اعْتَصَمْ
مَا كَانَ رَبُّكَ غَافِلاً وَهُوَ الحَكِيمُ المُنْتَقِمْ
لَوْ شَاءَ أَهْلَكَ مَنْ طَغَى لَوْ شَاءَ دَمَّرَ مَنْ ظَلَمْ
فِرْعَوْنُ أَغْرَقَهُ وَلَمْ تُعْجِزْهُ عَادٌ أَوْ إِرَمْ
لما ضاقت قريش بمحمَّد - صلى الله عليه وسلَّم - وبِكَلِمة الحقِّ التي يدعو إليْها، ائتمرتْ به، وقرَّرت أن تتخلَّص منه، فأطلَعَه الله على ما يمكرون ويأتمِرون، وأوحى له بالخروج، فخرج ومعه الصِّدِّيق، وأُسقِط في أيدي المشركين، فأعلنوا الجائزة العُظمى لمن يأتي برسول الهدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيًّا أو ميِّتًا.
واشتدَّ البحث، وتفرَّقَت العُيون في الدُّروب، في الجبال، في الكهوف، اقتُفِيَت الآثار حتَّى أحاطوا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبِه في الغار، أصبحا منهم رأْي العين، وأزاغ الله منهم الأبصار، حزِن أبو بكر - رضي الله عنه - حزنًا شديدًا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا على نفسه، فما كان يعيش لنفسِه، فقال: يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظَر إلى قدمَيْه لرآنا، فقال - وهو في جوْف الجبل أشدَّ ثباتًا من ذلك الجبل، في ثقةٍ بالله جلّ -: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنيْن اللهُ ثالثهما؟! لا تحزَنْ إنَّ الله معنا)).
واللهِ الَّذي لا إله إلا هو، لوْ سارتْ مع قُرَيْشٍ كلُّ الأحْياء، وتشقَّقت القبور فخرج الأموات يسحبون أكفانَهم خلْف قريش، يقلبون حجارة الأرض، ويُزحزِحون جبالَها، ويُفتِّشون فِجاجَها - ما قدروا على اثنيْن، اللهُ ثالثُهما.
إِنَّ مَنْ يَحْرُسُهُ بَارِئُهُ لا يُبَالِي بِالرَّدَى إِنْ خَطَرَا
مَعِيَّةُ اللَّهِ أَغْنَتْ عَنْ مُضَاعَفَةٍ مِنَ الدُّرُوعِ وَعَنْ عَالٍ مِنَ الأُطُمِ(1/14)
إنَّها الموازين الحقيقيَّة للقُوى والقِيَم، مَن كانت قوَّة الله معه فلا خوف عليه، وإن اجتمع عليه من بأقطارها، ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخيرات كلها.
هذا هو خليل الرحمن - عليه الصلاة والسلام - يتبرَّأ من المشركين؛ {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4]، ويجعل أصنامهم جُذاذًا؛ {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58]، فتنادى الملأ: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]، أجْمَعوا رأْيَهم وشرعوا في الحطَب يَجمعون، تحرِصُ المرأة منهم وتنذُر إذا عُوفِيَت لتحمِلنَّ حطبًا لحريق إبراهيم، وكذلك يفعلون.
بنَوا له بنيانًا ملؤُوه بالحطب، وتدَاعَوا يُضرِمون النار ويُؤجِّجون، ويعلو لها شررٌ لم يُرَ مثلُه وهم فرِحون، وُضِع الخليل في المنجنيق ليُرمَى من مكان سحيق، فرفَع رأسه لوليِّه ومولاه وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل".
عرض له جبريل فقال: يا إبراهيم، ألَك حاجة؟ قال: "أمَّا إليك فلا، أمَّا إلى الله فنعَم، حسبي الله ونعم الوكيل"، حالُه: تنحَّ عني يا جبريل، وخلِّني وخليلي فعنده الرَّحمة، هل بَذَلتُ له إلا لحمةً تبلَى أو شحمة، وطَّن نفسه على أن يصير مُوحِّدًا في الله فحمة، فحماه الكريم؛ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
وتستجيبُ النَّار لباريها فتبرُد على أهل المشرِق والمغرب، فلم ينضَج بها كُراعٌ يومئذٍ، وتُهرَع الدَّواب لتُطفِئ النَّار إلا الوزغ، فإنَّه ينفخ النَّار، وهيهات أن يبلغ وزغٌ مرادَه ما دام مع العبد مولاه!
لما لم يتعلَّق الخليلُ بأحدٍ دون الله لما أُضِيمَ، ولما أتى ربَّه بقلبٍ سليم، ولما لم يتزوَّد إلا الانقياد والتسليم؛ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.(1/15)
لما رآه ربُّه لا يمُدُّ لغيره كفًّا مدَحه، ويكفي في مدحه؛ {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، ابتلاه الله بكلمات فأتمهنَّ، وأراه قدرته يوم {فَصُرْهُنَّ} [البقرة: 260]، وكسر الأصنام غيرةً لله منهن، فوقاه الكريم.
أراد أعداء الخليل أن ينتصروا فخُذِلوا، وأن يرتقُوا فاتَّضعوا، وأن يَغلبوا فغُلِبوا؛ {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70]، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98]، تلكم هي العواقب، وما يُدرِكُها إلا بصرٌ ثاقبٌ.
أَنَا أَقْسَمْتُ وَهَذَا الكَوْنُ لِي شَاهِدٌ قَوْلاً وَفِعْلاً وَاعْتِقَادْ
أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ يَحْدُو دَائِمًا كُلَّ مَنْ يَدْعُو إِلَى دَرْبِ الرَّشَادْ
فيا معشر المسلمين:
إنَّ الإيمان هو الأمان، والله مع ذوي التقوى والإحسان، أهلِ رُسُوخِ القلبِ في العِرفانِ، حتى يكون الغيبُ كالعيان.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وهو يتولى الصَّالحين.
ها هو الخليل أُخرى، يُهاجِرُ من ديار قومِه، ويسألُ ربَّه على كِبَر؛ {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، فيُبشَّر على رأس ستٍّ وثمانين من عمره بغلامٍ حليم، ولمَّا بلغ معه السعي وشبَّ وسعَى في مصالح أبيه، رأى إبراهيمُ في المنام أنَّه يُؤمَرُ بذبْحِه، فامتَثَلَ واستْسلم وما تردَّدَ في حبٍّ وتعظيمٍ لله ربِّ العالمين، وعَرَضَ ذلك علي ولده؛ {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، فبادَرَ الغلامُ الحليمُ بجوابٍ في غايةِ السداد: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 102 - 103].(1/16)
قيل: ألقاه على وجهه ليذبحَه من قفاه لئلا يشاهِدَه حال ذبحه، وقيل: أضجَعَه كما تُضجَعُ الذَّبائح، فيا لَلَّهِ من لحظاتٍ جديرةٍ باستِنْزال العَبَرَات، وتصعيد الزَفَرَات، وذهابِ النفوسِ حَسَرَات!
سمَّى إبراهيم وكبَّر، وتشهَّدَ إسماعيلُ واستَسْلم، ومرَّت السكينُ على العُنُقِ فسُلِبَت حدَّها كما سُلِبَت النارُ إحراقَها؛ {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104، 105].
إنها الخُلَّةُ - معشر المؤمنين - بذَلَ بدَنَهُ للنيران، وابنَهُ للقُربان، ومالَهُ للضِّيفان؛ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 106، 107].
يقول ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "فُدِيَ إسماعيل بكبشٍ أقرنَ أعيَنَ، قد رعَى في الجنة ورَتَعَ فيها أربعين عامًا، هَبَطَ من ثَبيرٍ له ثُغاء، فذبحه إبراهيم".
سلام على إبراهيم، سِجِلٌّ خالدٌ في التَّسليم، وكتابٌ مرقومٌ استحقَّ به أن يكون الخليل، ويُفدَى ابنُهُ بذِبحٍ عظيم.
خُذُوا إِيمَانَ إِبْرَاهِيمَ تَنْبُتْ لَكُمْ فِي النَّارِ جَنَّاتُ النَّعِيمِ
ويُبشِّرُ إبراهيم بولادة مولودٍ ذَكَرٍ من بني إسرائيل، يكون هلاكُ فرعونَ وذهابُ مُلكِهِ على يديه، ويبلغُ الخبرُ فرعونَ، فيُصدِرُ أمرَهُ بذبحِ كل مولودٍ ذَكَرٍ من بني إسرائيل؛ {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
ولن يُنجِيَ حَذَرٌ من قَدَر، ولكلِّ أجلٍ كتاب؛ لأنَّ الله قضى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6].(1/17)
وَلا يُرَدُّ مَا بِهِ اللَّهُ قَضَى وَكُلُّ أَمْرٍ فِي الكِتَابِ قَدْ مَضَى
الله يريدُ غيرَ ما يريدُ فرعون، ويُقدِّرُ غير ما يُقدِّرُ فرعون، والطُّغاةُ تخدعُهُم قوَّتُهم وسطوَتُهم فإرادةَ الله ينسَون، ويحسَبُون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبُّون، ويختارون لأعدائِهم ما يشاؤون ممَّا يكرهون، ويظنُّون أنَّهم على هذا وذاك قادِرون؛ لأنَّهم لا يعقلون، لا يفقهون، لا يُبصِرُون، وهم مستكبرون.
جنَّدَ المئات من الدَّايات اللائي يتعرَّفنَ على الحوامل، فإن كان المولود ذَكَرًا يُقتَل، أو أنثى تُستَحْيَا، وكثُرَ القتْل في بني إسرائيل، وجاء القِبط فقالوا: يا فرْعون، الكبارُ بآجالِهم يموتون، والصغارُ يُذبَحُون، يُوشِكُ أن يفنَى بنو إسرائيل.
فأمَرَ فرعونُ بقتلِ الوِلْدان عامًا وترْكهم عامًا، وشاء الله أن تكون ولادةُ هارون في عام التَّرك، وولادة موسى في عام القتل، ومن لُطفِ الله بأُمِّ موسى أنَّه لم يظهر عليها مَخَايلُ الحمْل، ولم يفطن لها الداياتُ اللائي كنَّ يدُرْن على بني إسرائيل؛ لكنَّها خافَتْ عليْه خوفًا عظيمًا وهو لم يزَلْ حَمْلاً حتى وقَعَ في قلبِها، ورَكِبَها من الهمِّ ما دخل عليْه وهو في بطنها، وضَعَتْهُ، وحبًّا عظيمًا أحبَّتْه، كيف وهي أمُّهُ؟! وقد ألقى الله عليه المحبة، فما رآهُ أحدٌ إلا أحَبَّه، ومع حُبِّهِ ضَاقَتْ به ذَرْعًا، فعدُوُّه مُتربِّصٌ به، والخَطْبُ أعظِمْ به!
خُطُوبٌ لا تُشَابِهُهَا خُطُوبُ وَكَرْبٌ لا يُمَاثِلُهُ كُرُوبُ
وَأَضْلاعٌ سَرَى فِيهَا الْتِيَاعٌ تَكَادُ لِهَوْلِ رَهْبَتِهِ تَذُوبُ(1/18)
ها هي ذي حائرةٌ به، خائفةٌ عليه، تَخشى أن يصِلَ نَبَؤُهُ إلى الجلاَّدِين، وترجفُ أن تتناولَ عُنُقَهُ السكِّينُ، ها هي ذي بطِفْلها عاجزةٌ عن حمايته، عاجزةٌ عن إخفائه، عاجزةٌ عن منع صوتِهِ الفِطْريِّ أن ينمَّ عليه، عاجزةٌ عن تلقِينِهِ حيلةً أو وسيلةً، ها هي ذي وحدَها عاجزةٌ ضعيفةٌ مسكينةٌ وَجِلةٌ قَلِقةٌ مذعورةٌ، فيُلهِمُها اللهُ أن تُلقِيه في اليم.
ونزل هذا الإيحاء على قلْبها الواجِفِ الراجِفِ الخائِفِ بردًا وسلامًا؛ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
إنَّ إلقاءَ الطفل في اليمِّ هَلَكةٌ مُحقَّقة في المألوف والعادة؛ لكنَّ الله أراد - ولا رادَّ لما أراده الله - أراد أن يُربِّيَه فرعونُ نفسُهُ، وأن ينشأَ في قصْرِه، امتثَلَت أمُّهُ، وألْقَتْ به في اليمِّ مُجرَّدًا من كل قوَّةٍ وحيلة، عاجزًا عن أن يدفَعَ عن نفسِه أو يستنجِدَ بغيره.
يا لَلَّهِ! ما أشرفه من مقامٍ وأحلاه، وأعلاهُ وأسماهُ وأسناه! إنَّ الأم إذا خافَتْ على ابنِهَا ضَمَّتهُ إلى صَدرِهَا، أما أمُّ موسى فتقذِفُ بولَدِها في تيَّارِ الماء تَتَلاعبُ به الأمواجُ، وتجري به إلى عدُوِّه المُتربِّص به، يا لَلَّه! كيف فَعَلَت ما لم تفعلهُ أم؟! كيف طَلَبَت له السَّلامة بهذه المخافة؟! إنه - والله - لكمالُ الثقةِ بالله.
رَبَّاه:
أَنْتَ المُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ وَأَنْتَ مَلْجَأُ مَنْ ضَاقَتْ بِهِ الحِيَلُ
لسانُ حالها: إنَّه وهو في اليمِّ في رعاية من لا أمنَ إلاَّ في جِوَارِهِ، ولا خوفَ على مَن كان معه، من جعل النار بردًا وسلامًا، وجعل البحر ملجأً ومنامًا، من لا يجرُؤُ جبابرةُ الأرض على أن يدنُوا من حِمَاه.(1/19)
فَمَنْ يَكُنِ الإِلَهُ لَهُ حَفِيظًا فَحَاشَا أَنْ يُضَيَّعَ أَوْ يُضَامَا
ويتَهَادَى التابوت بالرَّضيع حتَّى يصِل تحت قصر فرعون، فالتقَطَهُ آلُ فرعون، التقطَهُ الجواري وذهبنَ به إلى امرأة فرعون؛ لتكون المعركة على أرضِ قصر فرعون.
يا فرعون، تذبحُ الآلاف من أجل ذلك الرضيع؟! ها هو الآن في بيْتك يا وضيع.
يا فرعون، تُجنِّدُ المئات من الدايات من أجل ذلك الرضيع؟! ها هو الآن في قصرك يا وضيع.
يا فرعون، أنتَ تريدُ، والله فعَّالٌ لما يريد، قضى الله أن لا يُربِّيَهُ إلا في حجرِك.
كَشَفَت امرأةُ فرعون عنْه فإذا هو غلامٌ من أحْسن الخلق وأجملِه، كيف وهُو جمالٌ زكَّاه الله؛ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، فألقَى الله محبَّتَه في قلبِها يوم أرادَ الله كرامَتَها وشقَاءَ زوجِهَا، ورآهُ فرْعونُ وهمَّ بقتلِهِ، فشَرَعَت تُحبِّبُه إلى زوجِهَا وتُخاصِمُ عنه؛ {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9]، قال: أمَّا لكِ، فنعم، وأمَّا لي، فلا.
وقد كان قرَّةَ عينٍ لها؛ فقد هداها الله بسبَبِه، فصارَت مثلاً للَّذين آمنوا، ولم يُصِبهُ فرعونُ بأذى، فيا لَلَّه لِهَوانِ فرعون على الله! ما حُمِيَ موسى بملائكةٍ تتنزَّل معه، بل حماهُ بسترٍ رقيقٍ من حُبٍّ حانٍ في قلْب امرأتِه سقَطَت معه قوةُ فرعون، وغِلظَتُه، وحِرصُهُ، وحَذَرُه، هَانَ فرعونُ على الله أن يُحمَى منْه موسى بغيرها؛ {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].
كُلَّمَا رَامُوا بِمُوسَى ضَرَرًا صَانَهُ اللَّهُ وَكَفَّ الضَّرَرَا(1/20)
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12]، عَرَضوا عليه المراضِعَ، فلم يقبل ثديَ امرأةٍ في القصر، فنَزَلوا به إلى السوق، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 10، 11]؛ اتَّبِعي أثَرَه، اعرِفي خَبَرَه، انطلَقَت أختُه على حَذَرٍ وخُفية، تتَتَبَّعُ أخبارَه، تتحَسَّسُ آثَارَه، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11].
فقالت أختُهُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 10، 11]، فأخذوها وقالوا: ما يُدريكِ؟ ما نُصحُهم له؟ أتعرِفِينَه؟ قالت: لا، ولكن نُصحهم له رغبتهم ورجاؤهم في نفع الملك، فزَالَ الشكُّ وقالوا: هيَّا إليهم.
ذهبوا به معها إلى منزل أمِّه، فأعطَتْه الثديَ فالتَقَمَه، وعلا الوجوهَ البِشْرُ، وانطَلَقَت البشائرُ إلى القصر، وتطلُبُ امرأتُهُ أمَّ موسى، وتُحسِنُ إليْها وهي لا تعلمُ أنَّها أمُّه، ثم تسألُها أن تُقِيمَ عندها في القصر لتُرضِعَه، فأبَت وقالت: إنَّ لي بعلاً وولدًا، فإن شِئتِ أرضَعتُهُ عندي، فوَافَقَت على رجوعه معها إلى بيتها، فعادت راضيةً مطمئنةً آمنةً، في عِزٍّ وجاهٍ ورزقٍ ورَغد، تجرِي عليها الصِّلاتُ والنَّفَقاتُ ونفائسُ الهدايا والعطايا.(1/21)
تبارك الله، وجلَّ الله، ما شاء كان، وما لَم يشأ لم يكن، بيدِهِ الأمر، جعل لمن اتَّقاهُ من كل همٍّ فَرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، لقد كانت تُرضِعُ ولدَها على خوفٍ من فرعون وملئِه، والآن تُرضِعُهُ في أمان واطمئنان، وبأمر فرعون الجبان، والله ما كان هذا لأمٍّ غيرها أبدًا، إنه جزاءُ الثقة بالله، وذاك قولُ الله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13].
عاد الرضيعُ الغائبُ لأمِّه الملهوفة الوالهة، مُعافًى في بدنه، مرموقًا في مكانته، يحميهِ فرعونُ خَصمُه، وترعاهُ امرأتُه، تضطَرِبُ المخاوفُ من حوله وهو قريرُ العين، آمِنٌ مع أمه، حاله:
مَعِي اللَّهُ الَّذِي مَا لِي سِوَاهُ وَكَيْفَ يَخَافُ مَنْ مَعَهُ الإِلَهُ؟!
فيا أيتها الأمة المباركة:
إذا ادلهمَّت الخُطوب، وتوالَت الهزائمُ والكروب، وتقطَّعَت عُرَى النجاة، وعزَّ الناصرُ، وقلَّ المُعينُ، وزمجَرَ الباطلُ ولجلَجَ - فلا تيأسي، ولا تقنَطِي، وكتابَ الله تدبَّري.
هذه قصَّة موسى وفرعون شاهدةٌ بأنَّ الأمن لا يكون إلا في جانب الله، وأنَّ المخافةَ لا تكونُ إلا في البُعدِ عن الله،كلاهُمَا أُلْقِيَ في اليم، فكان اليمُّ لموسى الرَّضيع ملجأً ومأمنًا، وكان لفرعونَ الطاغية وجُنده خوفًا وهلاكًا وغرقًا، عاقبةُ فرعون هي عاقبة الظالمين، وعاقبةُ موسى هي عاقبة المتقين.
إنَّها عقيدةٌ ينبغي أن نُثبِتَها في أنفُسنا، ونُمكِّنَها من قُلُوبنا، ونُرسِّخَها في مشاعرنا، ونصدُرَ عنها في شِدَّتنا، ورخائِنا، وأقوالنا، وأعمالنا، وأفكارِنا، وأحاسيسِنا، ومشاعرنا، ونُربِّي عليها ناشِئَتنا، ونلقَى بها اللهَ ربَّنا.(1/22)
إنَّ الشَّرَّ حين يتمحَّضُ يحملُ سببَ هلاكِهِ في ذاته، وإنَّ البغيَ حين يتَّضِحُ ويتمرَّدُ لا يحتاجُ إلى مَن يدفعه؛ بل إنَّ الله يأخذ بيدِ المستَضْعفين فيُنقِذهم، ويجعلُهُم أئِمةً، ويجعلُهُم الوارثين، ومن كان الله معه فممَّ يخاف؟! لكن الله مع مَن؟ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
الهمسة الرابعة:
{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
النَّصرُ للمؤمنين وعدٌ من الله ما من شكٍّ في تحقُّقه في واقع الحياة، وإن تأخَّر عن حساب البشر، مهما فشَت الضلالة، واستحكَمَت الغَوايةُ، فسينصُرُ اللهُ دينَهُ، وستكونُ خلافةٌ على منهاجِ النُّبُوَّةِ، وسيبلُغُ هذا الدينُ ما بَلَغَ الليلُ والنَّهارُ، بصِدقِ العلماءِ، وجُهودِ الدُّعاةِ، ودماءِ الشهداء، بالجِدِّ لا بالهزل، بالأعمال لا بالأقوال ولا بالآمال، بالقلوب الصادقة لا النفوس الخائنة؛ {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 51]، {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21].
كيف تيأسُ أمةٌ معها هذه النصوص من كتاب الله، بل معها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم؟!
كُلَّمَا أُطْفِئَ مِنْهَا قَبَسٌ أَشْرَقَ القُرْآنُ بِالفَجْرِ الجَدِيدْ
كيف تيأسُ أمةٌ معها خبرٌ صادقٌ ثابتٌ لا شكَّ فيه، أنَّها باقيةٌ ظاهرةٌ منصورةٌ إلى قيامِ الساعةِ؟!
كيف تيأسُ أمةٌ هي غيثٌ لا يُدرَى خيرٌ أوَّلُه أم آخِرُه؟!
كيف تيأسُ أمَّةٌ معها خبرٌ يقينٌ: أنَّها سوف تُهيمِنُ، وتحكُم الدنيا، وتَملأُ الأرضَ عدلاً بعد أن تُملأ جورًا وظلمًا؟!(1/23)
كيف تيأسُ أمةٌ عبوديَّتُها لربٍّ كريم رحيم، لا يزدادُ على السؤال إلا كرمًا وجُودًا؟!
كيف تيأسُ أمَّةٌ تقرأُ في قرآنها: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]؟!
كيف تيأسُ أمةٌ أو تستسْلِم وهي مدعُوَّةٌ حين تنقطعُ بها الأسبابُ أن تتَّصِل بمُسبِّبِ الأسباب، وتظلَّ تأملُ في زوال الغُمَّةِ، وتحسُّنِ الأحوال.
فَاطْرَحِ اليَّأْسَ جَانِبًا وَاتَّخِذْ مِئْزَرَ الثِّقَاةْ
مَا الْتِفَاتٌ إِلَى الوَرَا بِالَّذِي يُوصِلُ السُّعَاةْ
مَا ارْتِمَاءٌ عَلَى الثَّرَى بِالَّذِي يَنْقُلُ الحُفَاةْ
إنَّ تأخُّرَ النصر لا يعني عدم تحقُّقِ وعْد الله، لكن ذلك لسببٍ يُبحَثُ عنه بلا يأسٍ ولا كَلال، ومن سعَى باحثًا لم يعدم السَّبَب.
يقول سيد - رحمه الله - ما مضمونه: "قد يُبطِئُ النَّصر لأنَّ بنية الأمَّة المؤمنة لم تنضجْ نُضجَها بعدُ، فلو نالَت النصرَ حينئذٍ لفَقَدَتْه وشيكًا، ولم تحمِهِ طويلاً".
فَاتَّئِدُوا فِي أَمْرِكُمْ وَائْتَلِفُوا وَامْشُوا عَلَى الهَدْيِ وَلا تَسْتَيْئِسُوا
قد يُبطئُ النَّصر حتى تبذُلَ الأمَّةُ المؤمنةُ آخرَ ما في طوقِها من قوة، وما تملِكُه من رصيدٍ، فلا تُبقِي عزيزًا ولا غاليًا إلا بَذَلَتْه هيِّنًا رخيصًا في سبيل الله، وحالها:
وَهَبْتُ نَفْسِي لِمَوْلًى لا يَخِيبُ لَهُ رَاجٍ عَلَى الدَّهْرِ وَالمَوْلَى هُوَ الوَاقِي
إِنِّي مُقِيمٌ عَلَى عَهْدِي وَمِيثَاقِي وَلَيْسَ لِي غَيْرُ مَا يَقْضِيهِ خَلاَّقِي
قد يُبطِئُ النصرُ؛ حتى تُجرِّبَ الأمَّةُ كلَّ قُوَاها، فتُدرِك أنَّ هذه القُوَى بدون سندٍ من الله لا تكفلُ لها النصر، فتَكِلُ الأمرَ بعدَها إلى الله، وحالها:
فَيَا رَبِّ أَدْرِكْنَا فَقَدْ بَلَغَ الزُّبَى مِنَ الكَرْبِ سَيْلُ الفَاجِعَاتِ المُغَرِّقُ(1/24)
قد يُبطِئُ النصر؛ لأن البيئة لا تصلُحُ بعدُ لاستِقْبال الحق، فيظلُّ الصراعُ قائمًا حتى تتهيَّأ النفوسُ في تلك البيئة لاستِقْبال الحقِّ واستبقائه.
فَالنَّصْرُ يَا قَوْمِ لَنْ تَهْمِي سَحَائِبُهُ إِلاَّ بِجِيلٍ عَظِيمِ البَذْلِ مِغْوَارِ
هُبُّوا وَلَبُّوا فَمَا فِي البُؤْسِ مِنْ رَغَدٍ فَالجِذْعُ مِنْ مَكَّةٍ وَالغُصْنُ أَنْصَارِي
وَلَمْ تَزَلْ رَايَةُ التَّوْحِيدِ خَافِقَةً وَمُرْهَفُ الحَدِّ مَسْنُونٌ عَلَى النَّارِ
قد يُبطِئُ النصرُ؛ لتزيدَ الأمَّةُ صِلَتَها بالله، وهي تُعانِي وتتألَّم وتتضرَّع، فإذا ما أذِنَ الله لها بالنَّصر، لم تطغَ ولم تنحَرِف عن الحق الذي نصرها الله به.
لَكِنَّهَا كَالجِبَالِ الشُّمِّ قَدْ ثَبَتَتْ فَمَا يُزَعْزِعُهَا بَغْيٌ وَإِرْجَافُ
قد يتأخَّرُ النصر؛ لأنَّ الأمَّة المؤمنة لم تتجرَّد في جهادها لله، فهي تُجاهِدُ لمغنمٍ أو حمِيَّةٍ أو شجاعةٍ، واللهُ يُريدُ أن يكونَ الجهادُ لإعلاءِ كلِمَتِه، وفي سبيله:
بِعَقِيدَةٍ لَوْ هُزَّتِ الأَجْبَالُ مِنْ ذُعْرٍ لَمَا اهْتَزَّتْ مَعَ الأَجْبَالِ
عَقَدَ الإِلَهُ عُرَاهُ جَلَّ جَلالُهُ أَتَرَى لِعَقْدِ اللَّهِ مِنْ حَلاَّلِ؟!
قد يُبطِئُ النَّصر؛ لأنَّ في الشَّرِّ الذي تُجاهِدُهُ الأمَّةُ بقيَّةً من خيرٍ، يريدُ الله أن يُجرِّدَ الشرَّ منها، ليتمحَّضَ خالِصًا، ويذهبَ وحدَهُ هالكًا.
فَلَوْ كَانَ مُلْقًى بِظَهْرِ الطَّرِي قِ لَمْ يَلْتَقِطْ مِثْلَهُ اللاَّقِطُ
وقد يُبطئُ النَّصر؛ لأنَّ الباطلَ الذي تُحارِبُهُ الأمَّةُ لم ينكشِفْ زيْفُهُ للناس، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى ينكَشِفَ ويذهبَ غيرَ مأسوفٍ عليه؛ ولذا فإنَّ عليْنا تعريةَ الباطل، والكشفَ عن وجهِهِ القبيح، وفضحَ أهلِهِ لتكفُرَ الأمَّةُ بهم، وتتبرَّأ منهم، فذلك من أعزِّ مقاصدِ التشريع: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].(1/25)
إِذْ كَيْفَ يَأْمَنُ رُعْيَانٌ وَإِنْ جَهِدُوا إِذَا تَرَدَّى ثِيَابَ الشَّاءِ سِرْحَانُ
ومع ذا فالنَّصر آتٍ، لكنَّه لا يأتي عفوًا؛ بل له سَننٌ خلَّدَه اللهُ في كتابه ليعمل ويتعامل به المؤمنون.
ومنها:
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، ونِعمَ الناصرُ الله، كتب الله بأن الحقَّ غالب، وبأنَّ الرسل منصورون باسم الله مهْما أرجَفَ الطاغوتُ واستعلَى وأفنَى وتكالَبَ، إنَّ دين الله غالب، إنَّ أمرَ الله غالب، إنَّ وعدَ الله غالب، إنَّ حزبَ الله غالب.
ومنها:
أنَّ الله لا يَنصُر إلا مَن ينصره؛ {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].
ومنها:
أنَّ النَّصر لا يكون إلا للمؤمنين، وبالمؤمنين؛ {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، قد ينصُر الله بالملائِكة، وبالرِّيح، وبالرُّعب، وبِجنودٍ لا تُرَى؛ لكنَّ هذه تتوقَّفُ كلها على وجود المؤمنين، فالملائكةُ نَزَلَت في بدْرٍ على المؤمنين؛ {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، والجنود التي لا تُرَى، والريحُ أرسَلَها الله يوم الأحزاب حين ابتُلِيَ المؤمنون؛ {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
لا تَيْئَسُوا لَيْلُ الشَّقَاءِ سَيَنْجَلِي وَالفَجْرُ سَوْفَ يَزُفُّ صَوْتَ البُلْبُلِ
وَسَتَحْمِلُ الدُّنْيَا مَشَاعِلَ نَصْرِنَا فِي كَفِّهَا وَتَدُكُّ كُلَّ مُضَلِّلِ
الهمسة الخامسة:(1/26)
{قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
إنَّ سبَبَ الهزيمة واحدٌ لا يَنبغي تَجاهُلُهُ ولا طَمْسُهُ بالأعْذارِ الواهية، إنَّه سببٌ داخليٌّ، فلا تلومُوا أحدًا ولومُوا أنفُسَكم، هذا هو فَجُّ الحقيقة الذي يسلُكُه ويؤمِنُ به العُقَلاء، فلا يضِلُّ بهم سبيل.
إذا ما انْهزم المسلِمون في ميادين الدَّعوة والجهاد، فعلَيْهم أن يتَّهِمُوا أنفُسهم، ويُقوِّموا مسيرَتَهم، ويَزِنُوا أعمالَهم بِميزان الحقِّ، فمِنْ سُنَنِ الله: أن الله لا يسلُبُ قومًا نِعمَةً إلا إذا غيَّروا أو بدَّلوا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
ومن سنن الله: أنَّ النَّصر لا يكون إلا بإخْلاصِ النيَّةِ لله، وحُسنِ التوكُّلِ عليه، والأخْذِ بكافَّةِ الأسباب، فلا يستحقُّ نصرَ الله مَن تنكَّرَ لِهذه السُّنَن واعتمدَ على قوَّتِه وحوْلِهِ وكثْرةِ جُندِه.
صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَعْدَهُ إِنَّمَا النَّصْرُ ثَوَابُ المُخْلِصِينْ
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، وعدٌ قطعيٌّ لا يختصُّ بعصرٍ دون عصر، حقيقةٌ لا يحفظُ التاريخ الإسلاميُّ كلُّهُ واقعةً تُخالِفُها.
فنقول في ثقةٍ بوعْد الله: إنَّ الهزيمة لا تلحقُ بالمؤمنين، ولم تلْحق بِهِم في تاريخِهم كلِّه إلاَّ مِن خِلال ثَغْرة، وبقدْرِ هذه الثَّغرَة تكونُ الهزيمة ثم يعودُ النصرُ للمؤمنين.
ففي أُحُدٍ: كانت الثَّغرةُ في ترك طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والطمع في الغنيمة.
وفي حُنَيْن: كانت الثَّغرةُ في الاغتِرار بالكثرةِ والإعجاب بها؛ "لن نُغلَبَ اليومَ مِن قِلَّة".(1/27)
فمِنَ الخير للأمَّة: أن تُدرِكَ ذلك جيِّدًا، لقد طَرَقَت الأمَّةُ كلَّ الأبْواب، ومَدَّت أيدِيَها مُستخْزِيَةً إلى كلِّ الأمم، فجاءت بالوَشَل، وباءَت بالفَشَل، كذَبَ الرعدُ، وأخلف الوعْد، وأورَدَ الإبِلَ سعد، وما رَجَعَت إلا بالخَيْبَةِ صِفْرَ العَيْبَةِ مع المَهَانةِ والصَّغَار، والضَّعَةِ والخَسَار، فإن بقِيَت على حالها فهي بِحاجةٍ إلى لَطَماتٍ وضَرَباتٍ، وصَفَعاتٍ تُوقِظُها حتَّى تَعِي، وستعِي اليومَ أو غدًا، أو بعد غدٍ، فإنْ قالتْ في خِضَمِّ مِحنتِها: أنَّى هذا؟ قلْنا بقول الله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
لَوْ عَرَفْنَا اللَّهَ مَا شَطَّتْ بِنَا سُبُلُ التَّضْلِيلِ أَوْ ذُقْنَا الهَوَانْ
هذا ما فَهِمهُ قادةُ أمَّتنا الذين أعزَّ الله بهم دينَهُ.
يذكُرُ ابنُ النحَّاس: أنَّ بعض جنْدِ المسلمين حاصروا حِصْنًا للكفَّار فاستعصَى عليهم فتحُهُ، فقال أميرُهم: انظروا ماذا ارتَكَبْتموه من البِدَع، أو تركْتُموه من السنن، فنَظَروا فإذا هم قد أهمَلُوا السِّوَاكَ، فبَدَرُوا إليْه واستعمَلُوه، فقَذَفَ اللهُ الرعبَ في قلوب عدوِّهم، وفَتَحَ الله عليهم.
إِنَّ اللآلِئَ تَبْقَى وَهْيَ غَالِيَةٌ وَإِنَّمَا تَعْصِفُ الأَمْوَاجُ بِالزَّبَدِ
فلو ذهبنا نتتبَّعُ كلَّ مرَّة تَخلَّف فيها النَّصرُ عن المسلمين في تاريخهم، لوَجَدنا شيئًا من ذلك نعرِفُهُ أو لا نعرِفُه، أمَّا وعدُ الله فهو حقٌّ في كلِّ حين، والهزيمةُ حقًّا هي هزيمةُ الرُّوح، أمَّا إذا بَعَثَت الهزيمةُ الهمَّة، وبصَّرَت بالمزلَقِ، وكشَفَت الزَّيْفَ، فهي مُقدِّمةٌ لنصْرٍ أكيد، إنَّ قاعدةَ قهْرِ الباطلِ هي إيجادُ الحقِّ؛ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].
فلنُراجِع أنفُسَنا وإلا كنَّا:(1/28)
مِثْلَ الفَرَاشَةِ حِينَ تُلْقِي نَفْسَهَا فَوْقَ السِّرَاجِ بِلَهْفَةٍ فَتَحَطَّمُ
أَوْ كَالسُّعَاةِ إِلَى السَّرَابِ وَكَلَّمَا زَادَ اقْتِرَابُ القَوْمِ زَادَ المَنْدَمُ
أنَّى هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
الهمسة السادسة:
الخيطُ الواهِي مع مثلِهِ حبلٌ متينٌ.
{جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
إنَّ استثمار كافَّة الطَّاقات والمواهب والأفكار، والعقول والسَّواعد والدَّقائق؛ لنُصرةِ دين الله والتَّمكين له - ضرورةٌ، خُصوصًا في الأزمات، معَ تأْجيل الخُصُومات، وتجاوُز الخِلافات، والتفتيشِ عن الثَّغَرات، وتركِ اللَّومِ والتَّوبيخ؛ فإنَّ اللومَ لا يُحرِّكُ ولا يَجمع، وعند كلٍّ من الهموم ما يكفيه، ولسْنا بحاجةٍ إلى مُعكِّرٍ إضافيٍّ، والأعمالُ الكبيرةُ إذا تقَاسَمَتْها الأيدي هَانَ حملُها.
وَلَرُبَّمَا اعْتَضَدَ الضَّعِيفُ بِمِثْلِهِ لا خَيْرَ فِي يُمْنَى بِغَيْرِ يَسَارِ
تفعيلُ الأمَّة وفقَ ما يُرضِي الله، والعملُ بدين الله واجبُ الجميع؛ لأنها أزمةُ الجميع، الأمة كل الأمة، الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والصحيح والمريض، والأعرج والمشلول، والبر والفاجر، والمُخلِّط ومن لم يخرُج من دائرة الإسلام، كلٌّ عليه تَبِعَة وكلٌّ بحَسَبِه، فما الكفُّ إلا إصبعٌ ثم إصبَع.
وَمَا يُدْرِكُ الحَاجَاتِ مِنْ حَيْثُ تُبْتَغَى مِنَ الرَّهْطِ إِلاَّ مَنْ أَعَدَّ وَشَمَّرَا
فكونوا يدا، وفي نبيِّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - اقتِدا.
في الهجرة يخرُج نبيُّ الأمَّة وصاحبُهُ، فتُمَوِّنُه أسماءُ الفتاة، وعائشةُ الصَّغيرة، وعينُهُ على عدُوِّه عبدالله الشابُّ، ويُخفِي أثَرَه عامرٌ الراعي.
لا تُثْبِتُ العَيْنُ شَيْئًا أَوْ تُحَقِّقُهُ إِذَا تَحَيَّرَ فِيهَا الدَّمْعُ وَاضْطَرَبَا(1/29)
في الخندق، والأزمةُ أزمة، الرِّجالُ يحفُرُون، والصُّخُورَ يحمِلُون، والثُّغُورَ يحرُسُون، سلمانُ يُخطِّطُ للخَندَقِ، وعليٌّ يقصِفُ رأْسَ مَن يعبُرُ الخندقَ، وابنُ رواحةَ يتحسَّسُ أخبارَ قُريْظَة، وامرأةُ جابرٍ تصنعُ طعامًا يُبارِكُ اللهُ فيه، فيكفِي لأهل الخندق، ابنُ الزبير - وهو الطفلُ الصَّغير آنذاك - يُراقِبُ من على سور الحِصْنِ، ابنُ أمِّ مكتوم - وهو الرَّجلُ الضَّرير - يُولِّيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إدارةَ المدينة، استِنْهاضٌ للهِمَم بالآيةِ والحديث، والخُطبة والشعر، بل حتى بالصوت، فإنَّ السيوفَ قبل أن تقصِفَ الرؤوس تقصِفُ الهِمَم.
((لَصَوتُ أبي طلحةَ في الجيْش خيرٌ من فئةٍ))، وهو صوتٌ، و((شِعْرُ حسَّان أسرعُ فيهم من نضْحِ النَّبْلِ))، وهو شعرٌ، والنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((جَاهِدُوا المشركين بأموالكم وأنفُسِكم وألسنَتِكم)).
في أزمة الرِّدَّة، أوَّل أزمةٍ بعد وفاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - اشتبكت فيها السياسة الداخليَّة بالخارجيَّة بِمسائل العقيدة والفقه، فقال أبو بكر كلمَتَه، فقَطَعَت قولَ كلِّ خطيبٍ، وشرَحَ الله بِها الصدور:
وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُوا عِقَالَ نُوَيْقَةٍ أَدَّوْهُ نَحْوَ المُصْطَفَى لَنْ يَسْلَمُوا
وَجَرَى الحَدِيدُ مِنَ الحَدِيدِ وَلَمْ يَزَلْ فِي نَصْرِ دِينِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَضْجَرِ
حَلَفَ البَلِيدُ لَيَظْفَرَنَّ بِمِثْلِهِ حَنِثَتْ يَمِينُكَ يَا بَلِيدُ فَكَفِّرِ
انتَفَضَ أبو بكرٍ، فانتفَضَت الأمَّةُ كلُّها تَبَعًا له، فهو يُفتِي ويُوجِّهُ، ويعقِدُ الألوِيَةَ، ويُقاتِلُ بنفسِهِ، على الأعْداء يقذِفُ بالكَلِمِ كالحِمَمِ، ويحمِي بيضةَ الإسلام بالصارم الصَّمصَامِ، يقول: لا رِدَّة بعد اليوم، ولا يتمُّ في اليقَظَةِ ما تمَّ في النوم.(1/30)
فَاعْجَبْ لِقُوَّةِ نَفْسٍ لَيْسَ يَصْرِفُهَا طَعْمُ المَنِيَّةِ مُرًّا عَنْ مَرَامِيهَا
عليٌّ والزبيرُ وطلحةُ وسعدٌ يحرُسُونَ أنقابَ المدينَةِ، وآل مُقَرِّن في معركةٍ مع الأعراب، وأسامةُ إلى الرُّوم، وخالدٌ إلى البِطَاح، وعكرمةُ إلى اليمامة، وعمرٌو إلى الشَّمال، والعلاءُ إلى البحرين، وسُهَيْلٌ يُثبِّتُ أهلَ مكَّة، وآخرُ يُثبِّتُ أهلَ الطائِفِ، وفي سنتيْن، وإذا بالأُمَّةِ تُحاصِرُ أعظَمَ المَمَالِكِ تنشُرُ الخيرَ الأعمَّ، تبذُلُ العِزَّ الأشمّ.
بِفِتْيَةٍ كَأُسُودِ الغَابِ لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ الرِّمَاحُ إِذَا احْمَرَّ الوَغَى أُجُمُ
كَالبَرْقِ إِنْ عَزَمُوا، وَالرَّعْدِ إِنْ صَدَمُوا وَالغَيْثِ إِنْ وَهَبُوا، وَالسَّيْلِ إِنْ هَجَمُوا
وإمامُهُم دونَ الأنامِ محمَّدٌ.
وَمَنْ يَتَبَاعَدْ عَنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ يُجَرْجِرْهُ شَيْطَانُ الطَّرِيقِ البَعِيدَةِ
كَمَا صَحَّ فِي مَعْنَى حَدِيثِ نَبِيِّنَا أَرَى الذِّئْبَ أَكَّالَ النِّعَاجِ القَصِيَّةِ
والخيطُ الواهي مَعَ مِثْلِه حبلٌ متين، فكيفَ بجَسَدٍ واحد، وبنيانٍ واحدٍ، روحٌ إلى روحٍ، وعِرقٌ إلى عِرق، ودمٌ إلى دمٍ، وإنَّما السيلُ اجتماعُ النُّقَط.
الهمسة السَّابعة:
الفرعُ للأصْلِ يُنسَبُ:
مَا أَحْسَنَ الفَرْعَ إِذَا الأَصْلُ بَهَرْ وَهَلْ يُفِيدُ الرَّعْدُ مِنْ غَيْرِ المَطَرْ
أَصْلُنَا طِيبٌ بِمِسْكِ فَائِحٌ مِنْ غَيْرِ شَكِّ
وَمَا لِلْمِسْكِ فِي أَنْ فَاحَ حَظٌّ وَلَكِنْ حَظُّنَا فِي أَنْ يَفُوحَا(1/31)
أصلُنا سامٍ، أتاه القُرآنُ وهو في مَزلَقِ الآراء فأخَذَ بيده إلى صوابها، وفي نواجِمِ الفِتَن فجَلَّى غمَّاءَهَا، وفي مُعتَرَكِ الشَّهَواتِ فكَسَرَ شِرَّتَها، وفي مُفتَرَقِ السُّبُل فهَدَى لأقوَمِها، وفي سُوقِ المصالح والمفاسد فميَّزَها وذَيَّلَها، وفي مجمَعِ العقائدِ فميَّزَ حقَّها من باطِلِها، وفي شُعَبِ الأحْكام فقَطَعَ فيها بفَصْلِ الخِطاب، بالنصِّ، أو بالظَّاهر، أو بالإشارة والاقتِضاء، مع مزيدٍ تعجزُ عنهُ العُقولُ مهْما ارتَقَت، وهو تعقيبُ كلِّ حكمٍ بِحكمتِه، وكل أمرٍ بما يُثبتُه، وكل نَهيٍ بما يُنفِّرُ عنه، استمسَكَ أصلُنا السَّامِي به، واهتدَوا بِهديِهِ، ووَقَفُوا عند حُدُودِهِ، وفي أنفُسهم وغيرهم حَكَّمُوه، فصَارُوا صالحِين مُصلِحِين سادةً قادةً.
دَلِيلُهُمْ فِي السُّرَى إِنْ تَاهَ غَيْرُهُمُ هَدْيٌ مِنَ السُّنَّةِ الغَرَّا وَقُرْآنُ
جَمَالَ ذِي الأَرْضِ كَانُوا فِي الحَيَاةِ وَهُمْ بَعْدَ المَمَاتِ جَمَالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ
أَخْلاقُهُمْ نُورُهُمْ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ أَقْبَلْتَ تَنْظُرُ فِي أَخْلاقِهِمْ سَطَعُوا
فيا أيتُها الفروعُ النامِيَة:
تِلكُم أصولُكُم السَّامية، لا يقطعنكم عنها خنَّاس من الجِنَّة والناس، حتَّى تسلمَ الأنفاسُ لربِّ الجِنَّةِ والنَّاسِ، لقد جرَّبنا فصَحَّتِ التَّجرِبة، وامتحَنَّا فدلَّ الامتحانُ على أن عِرْقَ الإيمان في قلوب هذه الأمَّة كعِرْقِ الذَّهَبِ في المَنجَمِ، كلاهما لا يكادُ يَبلَى، وخصائِصُهُ لا تكادُ تتغيَّر وإن تَطَاوَلَت القُرُون، ذلك العِرْقُ المخبوءُ في تلك المُضغَةِ يتحرَّك فيأتي بالعجائب، أمرٌ محسوسٌ ولا يُكابِرُ في المحسوس إلا ممسوس.(1/32)
فهَلُمَّ هَلُمَّ أيُّها الفرعُ النامِي إلى الأصلِ السَّامِي، إلى أنفعِ ميراثٍ يرِثُهُ خَلَفٌ عن سَلَفٍ، وخيرُ زادٍ يُقدِّمُهُ سَلَفٌ لخَلَفٍ؛ لتنطَلِق الهِمَمُ كالسَّيْلِ المُتدَافِعِ، يقذفُ تيَّارًا بتيارٍ، في زمنٍ يجهَدُ أعداء الفرع والأصلِ معًا لإعادةِ النائم إلى نومِهِ، وهو قريبُ عهدٍ به.
فَاكْشِفُوا التُّرْبَ عَنِ الكَنْزِ الدَّفِينْ وَارْفَعُوا السِّتْرَ عَنِ الصُّبْحِ المُبِينْ
ها هي ذي أم سُلَيم - رضِي الله عنها وأرضاها - لما قَدِمَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة، ابنُها أنس ابنُ ثمانٍ أو عشرِ سِنين، فقَطَعَت خِمَارَها نِصفَيْن، فآزرَتْه بنِصفِهِ، وجَعَلَت النِّصفَ الآخَرَ له رِداءً، ثم انطَلَقَت به إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: يا رسولَ الله، لَم يبقَ رجلٌ ولا امرأةٌ من الأنْصار إلا وقد أتحفَكَ بتُحفَةٍ، وإنِّي لا أقدِرُ على ما أُتْحِفُكَ به إلاَّ بُنَيَّ هذا، فخُذْهُ فليَخْدُمْكَ مَا بَدَا لك، وادعُ اللهَ له، قال أنس: فما تَرَكَ خيرَ آخِرَةٍ ولا دنيا إلا دعا به، وكان ممَّا قال: ((اللهمَّ ارزُقْهُ مالاً وولدًا، وبارِك له فيه)).
فبتِلكَ الدعوة فإنَّ مالَهُ لكثِيرٌ، وإنَّ له بُستانًا ليحمِلُ في السَّنة مرَّتين، ووُلِدَ من صُلبِهِ مائةٌ وتسعةٌ وعشرون ولدًا وأكثر، وكان في بُستانِهِ ريحانٌ يجِيءُ منه رائحةُ المِسكِ، فخَدَمَهُ عشرَ سنين ما عَبَسَ في وجهِهِ قط، وما قال له: لِمَ فَعَلتَ أو تَرَكتَ؟ خُلُقٌ زكَّاهُ الله؛ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
مَاذَا يَقُولُ الوَاصِفُونَ وَفَضْلُهُ حَقًّا بِهِ نَطَقَ الكِتَابُ المُحْكَمُ
صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ الَّذِي زَكَّاهُ مَا لَبَّى الحَجِيجُ وَأَحْرَمُوا(1/33)
أحبَّهُ أنسٌ حُبًّا مَلَكَ قلبَهُ، وفَاقَ حُبَّ نفسِهِ، وبعد موتِهِ صار رُؤيَا مَنَامِهِ، يقول أنسٌ: واللهِ، ما ليلةٌ إلاَّ وأنا أرى فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يبكي.
فَلِلَّهِ قَلْبٌ قَدْ تَلَظَّى فَرَدَّدَا: أَيَا نَفْسِ قَدْ آنَ النُّزُوعُ إِلَى الكَرَى
فَآبَتْ لِرُؤْيَا فِي المَنَامِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْ دَهْرِهِ مَا تَعَوَّدَا
وَلِلَّهِ قَلْبٌ ضَاقَ مُذْ غَابَ بَدْرُهُ وَلِلَّهِ طَرْفٌ دَمْعُهُ فِيهِ مَا هَدَى
معشر الإخوة والأخوات:
أما واللهِ، ما قَدَّمَت أمٌّ لابنِها ما قَدَّمَتْهُ أمُّ سُلَيْمٍ لأنَس، أورَدَتْهُ المنهَلَ العذبَ الصافي ثم قالت: رِدْ، فَوَرَدَ وصَدَرَ عنْه وهو رُوَاء.
نَالَ السِّيَادَةَ فِي دُنْيَا وَآخِرَةٍ وَالسَّبْقَ وَالفَضْلَ وَالتَّقْدِيمَ وَالشَّرَفَا
نعم، أيَّتُها الأمَّهات، إنَّ الدُّرَر تَبْقَى في أصدَافِها حتَّى يأتي من يُخرِجُها.
إنَّ الأمَّ التي لا تصنعُ لابنِهَا أسبابَ الحياةِ الشَّريفةِ يُصنَعُ له الموتُ.
إنَّ الأمَّ التي لا تعملُ لابنِها ما يُسعِدُهُ وينفعُهُ يُعمَلُ له ما يضُرُّهُ ويُشقِيهِ.
الأمّ التي تتَّخِذُ اللَّهوَ مَركَبًا تُغْرِقُ بنِيهَا في اللُّجَّة.
الأمُّ التي لا تُكرِمُ أبناءَها بالعِلمِ والتربية مُضيِّعة لرأسِ مالها.
الأمُّ التي لا تجعلُ الأخلاقَ مِلاكَ بيتِها تتعجَّلُ هدمَهُ ودَمَارَهُ وزوَالَهُ.
الأم التي تلِدُ فتَكِلُ التَّربيةَ لِمن ليس أهلاً لها: أَمَةٌ تلِدُ العَبيدَ لا تلِدُ الأحرارَ الصناديد، طُفيليَّةٌ على موائدِ الخَدَم، حقيقةٌ بالقَهْرِ والنَّهْر وقَصْمِ الظَّهْر.
لَيْسَ يَبْقَى فَرْعُ نَابِتَةٍ أَصْلُهَا فِي المَوْتِ مُغْتَرَسُ
فيا طاهرة:
تَسَامَيْ، لَكِ اللَّهُ يَا طَاهِرَةْ وَسِيرِي فَدَرْبُ الهُدَى سَائِرَةْ(1/34)
وَكُونِي مَنَارَةَ خَيْرٍ وَهَدْيٍ تَفِيضُ عَلَى الفِتْيَةِ الحَائِرَةْ
والفرعُ للأصلِ يُنسَب، نحنُ فرعٌ لأصلٍ يُقال للصبيِّ فيه: العب، قال: ما للَّعِب خُلقتُ.
يَبْدُو شَذَى الرَّيْحَانِ أَوَّلَ غَرْسِهِ وَيَبِينُ قَدْرُ الدُّرِّ وَهْيَ صِغَارُ
مَالُوا عَنِ الأَقْوَالِ لِلأَعْمَالِ فَامْتَلَكُوا نَاصِيَةَ المَعَالِي
الزُّبَيْرُ حَوَارِيُّ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُسلِمُ وهو ابنُ ثمان، في وقتٍ يَكِعُّ فيه أشِدَّاءُ الرِّجَالِ في مَكَّة، فيأتيه عَمُّهُ ليَثنِيَهُ عن دينه، ويضرِم له النار، ويضَعهُ في الحَصِيرِ، ويمُرُّ به على النَّارِ حتَّى كادَ يختَنِقُ بدُخَانِهَا ويقول له: ارْجِعْ عن دين محمَّد، فيقول ذلك الصبيُّ - وقد خالَطَت بشاشةُ الإيمان قلبَهُ -: لا أرجعُ إلى الكُفْر بعد إذْ أنقَذَنِي اللهُ منه؛ {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].
كَالشُّعْلَةِ الحَمْرَاءِ لَوْ نَكَّسْتَهَا لأَضَفْتَ إِشْعَالاً إِلَى إِشْعَالِ
حاله:
أَقُولُ الحَقَّ لا أَخْشَى وَإِنِّي لأُبْصِرُ خَلْفَهُ عُنُقِي تُدَقُّ
وَلَسْتُ بِجَازِعٍ مَا دَامَ قَلْبِي يُرَدِّدُ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقُّ
إنَّه ابنُ صفية، والفرعُ للأصلِ يُنسَب.
فَانْظُرْ إِلَى فِعْلِ الفَتَى لا جِسْمِهِ فَالمَرْءُ يَكْبُرُ بِالفِعَالِ وَيَصْغُرُ(1/35)
ويَخلُفُهُ في حاضر الأمَّة الوَلُود، مَن في أنُوفِهِم شَمَمٌ، وفي قُلوبِهِم إباء، وفي أنفسهم ترفُّعٌ واعتزاز، من لم يُوحِشهم قلة الناصر، ولم يُوهِنْهُم كثرةُ الخَاذِل، إنَّهم أطفالُ – لا، بل أبطالُ - العقيدةِ في فلسطين، الذين فعَلُوا بإخْوان القِرَدَةِ والخنازيرِ الأفاعيلَ، وقالوا وفعلوا: لن يبيع فلسطينَ من لا يملِكُها، ولن يشتَرِيَها من لا يستحِقُّها، إنَّ غَرْسَ يهودَ لا ينبُت، وإن نَبَتَ فلَنْ يثبُت، إنَّ فلسطين وديعةُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندنا، وأمانةُ عُمَر - رضِي الله عنه - في ذِمَّتِنا، وعهدُ الإسْلام في أعناقِنا، لئِنْ أخَذَها اليهود منَّا ونحنُ عُصبةٌ إنَّا إذًا لخاسِرون.
حال أحدهم:
أَنَا مِنْ بَنِي الإِسْلامِ إِنْ مَادَ الجِبَالُ فَلا أَمِيدُ
اقْرَأْ عَلَيَّ وَصِيَّةَ الصْ صِدِّيقِ تَرْوِيهَا الثِّقَاتُ
خُضْ بِالحُسَامِ المَوْتَ تُو هَبْ يَا بُنَيَّ لَكَ الحَيَاةُ
لا تَعْجَبُوا إِنَّهُمْ أَحْفَادُ مَنْ بَلَغُوا آفَاقَ هَذِي الدُّنَا، وَالعِرْقُ دَسَّاسُ
وها هو صِنْوٌ لذلك الفرع، فالخيرُ متَّصل:
طالبٌ مسلمٌ سودانيٌّ، كان يدرُسُ في الجامعة الأمريكيَّة في بيروت، ويُحافِظُ على أداء فرائِضِه في وقْتِها، وفي أحد الأيَّام لاحَظَهُ أحدُ المُدرِّسِين النَّصَارى في الجامعة يتوضَّأُ للصَّلاةِ في المَغسَلة، فصَاحَ غاضبًا: كيف تغسِلُ قدمَيْكَ في حَوضٍ نغسِلُ فيه وُجُوهَنَا؟! فقال الطَّالبُ المسلمُ في هدوءِ العزَّة والإباء: كم مرَّةً تغسِلُ وجْهَك في اليوم يا دكتور؟
قال: بالطَّبع مرَّةً واحدةً كلَّ صباح، فقال الطَّالبُ المسلمُ: أمَّا أنا، فأغسِلُ رِجلِي على الأقلِّ خمسَ مرَّاتٍ في اليوم، ولك أن تحكُمَ بعد ذلك أيُّهما أكثرُ نظافةً: رِجلِي أم وجهك؟! فلم يُحِرْ جوابًا، بل غَصَّ بِرِيقه، ألا إنَّه من يَزحَمِ البَحرَ يغرَقِ.(1/36)
لا تَلْقَ أَشْبَاهَ الحَمِيرِ بِحِكْمَةٍ مَوِّهْ عَلَيْهِمْ مَا قَدَرْتَ وَمَخْرِقِ
هُوَ الإِيمَانُ يُظْهِرُهُ التَّحَدِّي بِقَوْلِ الحَقِّ يَفْرِي كُلَّ وَغْدِ
والفرعُ للأصل يُنسَب.
نحنُ فرعٌ لأصلٍ قائمٍ لله بالحق، يستعذِبُ العذابَ من أجل عقيدَتِهِ، يستمرِئُ المُرَّ في نُصرَةِ دعوَتِهِ، يَرَى النَّفْيَ هِجْرَةً إلَى الله، والسّجْنَ خلوةً لطاعةِ الله، والقَتلَ شهادةً في سبيل الله، إذا وَجَدَ فرْعونَ يُهدِّدُ قال بقول السحَرة: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]، إذا أريد أَحدُهم على شيءٍ من أمر دينِه رأيتَ حمالِيقَ عينه تدورُ في رأسه كأنَّهُ مجنون، والله ما هي إلاَّ الغيرةُ لا الجُنُون.
في "السير" للذَّهبي ما مضمونه: أنَّه لما قَدِمَ السَّفَّاحُ الشَّامَ، وفَرَغَ من قتْل بني أُميَّة كأنَّه قال: مَن يُنكِرُ عليَّ؟ فأشارُوا عليْه أنَّه لن يُنكِرَ إلاَّ الأوْزاعيُّ، الإمام - عليه رحمةُ الله.
فاستدْعَاهُ فأتاه، ودخل عليْه وهو على سريرِه، وفي يده مِقرَعَة، السُّيوفُ مُصْلَتَة، والنِّطْعُ بين يدَيْه، فنَكَتَ الأرض بمِقرَعَتِهِ ثم رفع رأسَهُ وقال: يا أَوْزاعيُّ، أَيُعدُّ مقامُنا هذا ومسيرُنا رِباطًا في سبيل الله؟
قال: جاءَ في الآثار عن رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((من كانت هِجْرَتُهُ إلى الله ورسولِه فهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورسوله)).
فنَكَتَ نَكتًا أشدَّ، وجَعَلَ مَن حولَهُ يعَضُّون على أيديهم، ويضُمُّونَ ثِيَابَهُمْ لئلاَّ يُصيبَها دَمُهُ.
ثم رفع رأسَهُ وقال: ما تقولُ في دماء بني أميَّة؟
قال: جاءت الآثار: ((لا يحلُّ دمُ امرِئٍ مسلمٍ إلاَّ بإحْدَى ثلاث ...)) الحديث.
قال: وَيلَك! أليسَتِ الخِلافَةُ وصيَّةَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، قَاتَلَ عليْها عليٌّ؟
قال: لو كانتْ وصيَّةَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما رَضِيَ عليٌّ بالحَكَمَيْن.(1/37)
فَنَكَسَ رأسَهُ، وانعَقَدَ جَبِينُهُ، ونَكَتَ نَكْتًا أشَدَّ، ثمَّ أطرَقَ ملِيًّا ورَفَعَ رأسَهُ، وقال: ما تقولُ في أموال بني أمية؟
قال: إن كانتْ لَهم حرامًا فهِي عليْك حرامٌ، وإن كانتْ لَهم حلالاً فما أحلَّها الله لك إلاَّ بِحقِّها.
كَشَفَ بالحقِّ القِنَاع، وحذف من الجملة حرفَ الامتناع.
فنَكَتَ الأرضَ بالمِقرَعَةِ نَكتًا أشدَّ ممَّا قبله، وأطرَقَ ملِيًّا، ثم رَفَعَ رأسَهُ وقال: يا أوزاعيُّ، لقد هَممتُ أن أُولِّيكَ القضاء.
قال: إنَّ ورائي لحُرَمًا في حاجةٍ لقِيامي بِهم، وسَترِي عليهم.
قال: ذلك لك، فاخرُج، فخرج وحاله:
وَمَا أَنَا مِمَّنْ تَقْبَلُ الضَّيْمَ نَفْسُهُ وَيَرْضَى بِمَا يَرْضَى بِهِ كُلُّ مَائِقِ
فبعث السفَّاحُ في إثْرِهِ بِمائتَي دينار، فلم يبرَحْ مكانَهُ حتَّى وزَّعَها في الأرامل والأيْتام، وحاله:
فَلَيْسَ يَرُوعُنِي فِي الحَقِّ سَيْفٌ وَلَيْسَ يَزُوغُنِي ذَهَبٌ وعِلْقُ
صَدَعْتُكَ فَالْتَمِسْ يَا لَيْثُ غَيْرِي طَعَامًا إِنَّ لَحْمِي كَانَ مُرَّا
إيهٍ أيُّها الأصل.
يقول الذَّهبي: فمعَ كوْن السَّفَّاح جبَّارًا سفَّاكًا صعبَ المِراس، فإنَّ العالِم يدفَعُهُ بالمُرِّ الحقِّ - كما سمِعْتَ - لا خُلُقَ علماءِ السُّوء الذين يُزيِّنونَ للظَّلَمَةِ ما يتَعَسَّفون من مظالمَ ويقتَحِمون، أو مع القُدرَةِ على بيانِ الحقِّ يسكُتُون، فأنَّى يُؤفَكُون؟!
واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو، إنَّ سُكوتَ عُلماءِ الأرْض كلِّهم على الباطل لا يُصيِّرُهُ حقًّا، وإنَّ تَواطُؤَهم جَميعًا على المنكَرِ لا يُصيِّرُهُ معروفًا، وإنَّنا لسنا من الكرامة على الله أن ينسخَ أحكامَ دينِهِ لأجلِنا، أو أن ينسَخَ صَوَابَ دِينِهِ لأجلِ خَطَئنا فيه، وما ثَمَّ إلا ما خُتِمَتْ به الرِّسالةُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذٍ دينًا فليس اليوم بدين.(1/38)
يَا بَارِيَ القَوْسِ بَرْيًا لَسْتَ تُحْسِنُهُ لا تُفْسِدَنْهَا وَأَعْطِ القَوْسَ بَارِيهَا
معشر الإخوة:
في الأزمات يكثُرُ السؤال، والقيلُ والقالُ، وتتلفَّتُ الأمةُ إلى العلماء لتسمعَ الكلمةَ الفصلَ، والكلمةُ هناك غالية، قد تُكلِّفُ الرُّوحَ، قد تُورِثُ الذَّمَّ والنُّفورَ، قد تُخالِفُ هوَى مَن فوقَهُ، ومَن تحتَهُ، ومن معه، بل حتَّى هوَى نفسِه؛ لكنَّها ضرورةٌ، خُصوصًا إذا شُوِّشَ التوحيد، ونَطَقَ الرُّوَيبِضَة، وتكلَّمَ التافِهُ في أمر العامَّة، عندها لابدَّ من القيام بالقِسطِ والشهادة لله، ولو على النفس.
إِنَّمَا العَالِمُ فِي أُمَّتِهِ قَبَسٌ يَنْشُرُ فِي النَّاسِ الضِّيَاءْ
إنَّ على القادِرِ ما لَيسَ على العَاجِزِ، وإنَّ على العالِم ما ليس على الجاهل، إنَّ العالم من الأمَّة كالقلب من الجسد، إذا صلح صلح الجسَد كلُّه، وإذا فسد فسد الجسد كله.
العالِمُ حارس، فإذا نام الحارسُ استيقظَ اللص.
العالِمُ راعٍ، فإن غَفَلَ الرَّاعِي هَجَمَ الذِّئبُ.
العالِمُ رُبَّان، إن لم يحفَظ غَرِقَت السفينة.
العالِمُ قائدُ كتائب، إن لم يضبط القيادةَ حلَّت الهزيمة.
العالِمُ إذا لم يقُد انقَادَ، فإنِ انقاد أقبَلَت الفتنةُ والفسادُ، والوَيْلُ لأمَّةٍ يُنَحَّى عنها العلماءُ العامِلُون، ولا والله ما قامَ عبدٌ بالحقِّ على نفسِه وغيرِه لله مُستعِينًا بالله، فكَادَتْه السَّماواتُ والأرضُ إلا جَعَلَ الله له منها فَرَجًا ومَخْرَجًا، وَكَسَاهُ الهيبَةَ والعِزَّةَ والسَّنَا.
ها هو الأوْزاعي لما تُوفِّيَ وسُوِّيَ التُّرابُ عليه، قام والي الساحر عند رأسِه فقال: رحِمَكَ الله يا إمام، والله لقد كنتُ لكَ أشدَّ تقيَّةً مِن الذي وَلاَّني، مَن ظُلِمَ بعدك فليصبِر، مَن ظُلِمَ بعدك فليصبِر.
مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَأُسْدُ الشَّرَى لَدَيْهِ مِثْلُ الأَكْلِ بِالعَاوِيَهْ
والفرعُ للأصلِ يُنسَب.(1/39)
نحنُ فرعٌ لأصلٍ يجُودُ بالمالِ والنَّفسِ والجاهِ لنَفْعِ الفردِ والأمَّة، قد آمَنَ أنَّ أحبَّ النَّاسِ إلى الله أنفعُهم، وأحبَّ الأعمال سُرورٌ يُدخِلُهُ على مسلم.
غُيُوثٌ وَلَكِنْ قَطْرُهَا الجُودُ وَالنَّدَى لُيُوثٌ وَلَكِنَّ المُلُوكَ صُيُودُهَا
ذكر الحافظ ابن حجر: أنه دخلَ على شيخ الإسلام ابن تيمية - رحِمه الله - تاجرٌ يطلُبُ منه الشَّفاعةَ في قضاءِ حقٍّ له عند السلطان المنصوري، فشَفَعَ الشيخُ له عند السلطان، فقال السلطان المنصوري: إذا رأيتَ العالِمَ بباب الأمير، فبِئسَ العالِمُ والأمير.
فقال شيخُ الإسلام: دع عنْك ذا، لقد كان فرعونُ أنحَسَ منك، وموسى خيرًا منِّي، وكان يأتي كل يومٍ إلى بابِ فرعونَ يأمُرُهُ بالإيمان، وإني آمُرُك أن تدفَعَ لهذا الرَّجُلِ حقَّهُ، فلم يَسَعْهُ إلا الامتِثَالُ، وإيفاءُ الرجلِ حقَّه.
لا يَفُلُّ الحُسَامَ إِلاَّ الحُسَامُ أَثْبَتَ الفِعْلُ مَا نَفَاهُ الكَلامُ
نحن فرع لأصلٍ وسلفٍ نَذَروا حيَاتَهُم لله، وآثَرُوه على كلِّ مُغريَاتِ الحياة، فأعلَى اللهُ بهم كلِمَتَه، ونَصَرَ دِينَهُ، وأرغَمَ أنفَ عدُوِّه.
ها هو عُتبةُ بنُ غَزْوان - رضِي الله عنْه وأرْضاه - كان في ثَمانمائةِ فارس مسلم، فلَقِيَهُ الفارسي صاحبُ الفُرات في أربعةِ آلاف، فاستقَلَّ المسلمين واحتَقَرَهم، وقال المغْرور: أرونِيهم، ما هم إلا هؤلاء؟! اجعلوا الحِبالَ في أعْناقِهِم، وائتُوني بِهم.
فقام عُتبةُ ليرُدَّ على الصَّلَفِ والكِبْرِ والغُرور بالعمل، يرتَجِزُ، وحالُهُ:
خَسِئْتَ فَمَا زَالَ فِينَا الرِّمَاحْ وَمَنْ يَبْذُرِ الشَّوْكَ يَجْنِ الجِرَاحْ
لقد شَهِدتُ الحربَ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا زَالَت الشمسُ - أيُّها المسلمون – فاحملوا.
أَوْقِدُوا النَّارَ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَاجْعَلُوهُمْ لِلَظَاهَا حَطَبَا(1/40)
فَيَا جِبَالَ اقْذِفِي الأَحْجَارَ مِنْ حِمَمٍ وَيَا سَمَاءُ امْطِرِي مُهْلاً وَغِسْلِينَا
وَيَا كَوَاكِبُ آنَ الرَّجْمُ فَانْطَلِقِي مَا أَنْتِ إِنْ أَنْتِ لَمْ تَرْمِ الشَّيَاطِينَا
فحَمَلُوا عليهم فأبادُوا أربعَةَ الآلاف عن بَكْرَةِ أبيهم إلا المغرُورَ صاحبَ المقالة، فوضعُوا الحِبالَ في عُنُقِهِ، واقتادُوهُ أسيرًا ذليلاً مُهانًا، لكأنَّهم يقولون له: دُونَكَ ما استصغَرتَهُ فاحثُ وذُقْ.
ومن بعده يسمعُ العَادِليُّ الأسدُ الضِّرغامُ خادِمُ صلاح الدين، بأنَّ فرقةً من ثلاثمائة صليبيٍّ صارَت لأخذِ طَيبَةَ الطَّيِّبة، فانطَلَقَ العَادِليُّ في غيرةٍ على الدين، كالمعدِنِ لا يكادُ يفُلُّهُ الحديد، ولا تُذِيبُهُ النار، معهُ قيودٌ ثلاثمائة بعددهم، حاله:
أَنَا يَا غُدْرُ إِنْ لَمْ تَعْرِفُونِي فَتًى صُلْبُ العَقِيدَةِ لا أَرِقُّ
فأدرَكَهُم، فالتجؤُوا منه إلى جبلٍ، فترجَّلَ ومعهُ تسعةٌ، وصَعِدَ إليْهم، وحالُه:
أَلا لا تَهْرُبُوا مِنَّا فَإِنَّا سَنُدْرِكُكُمْ وَإِنْ تَعْلُوا السَّحَابَا
فلمَّا رأوْه أُلقِيَ الرُّعبُ في قلوبِهم، فسَلَّمُوا أنفُسَهم فقيَّدَهُم جميعًا، وأقبَلَ بِهم إلى القاهرة أذِلَّةً صاغرين، فكان يومًا مشهودًا في العالمين.
مَشَاهِدُ لَوْ وَعَاهَا الحِسُّ كَانَتْ عَبِيرَ المِسْكِ أَوْ رِيحَ الخُزَامَى
بمثلِ هذه الأصُولُ ترتَفِعُ رايةُ الله، في أرضِ الله، ويومها يفرحُ المؤمنونَ بنصرِ الله.
لا تَوَهَّمْهُ بَعِيدًا إِنَّمَا الآتِي قَرِيبُ
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
أُولَئِكَ هُمْ آبَاؤُكُمْ وَلأَنْتُمُ كَآبَائِكُمْ وَالفَرْعُ لِلأَصْلِ يُنْسَبُ(1/41)
ألا فليَخْسَأ الجُبنَاءُ دُعاةُ الهزيمة، وليعلَمُوا أنَّ الله أبرُّ بعبَادِهِ ودينِهِ وعبادِهِ مما يظُنُّون؛ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
عُودُوا لأَصْلِكُمُ دَوْمًا وَلا تَهِنُوا فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ، وَالحَقُّ مَشْهُودُ
تَبَصَّرُوا أَمْرَكُمْ أَحْيُوا أَرُومَتَكُمْ إِلَى مَنَابِتِكُمْ يَا أَهْلَنَا عُودُوا
إِنَّ العَنَاقِيدَ تَأْتِيهَا نَضَارَتُهَا مِنْ جِذْرِهَا وَهْوَ فِي الأَعْمَاقِ مَشْدُودُ
أيها الجيلُ السريُّ:
إنَّ النَّصرَ مع الصبر، وإنَّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وفي رَحِمِ الضَّائقة جنينُ الفَرَجِ ومِفتاحُ الحلّ، ومعَ العُسْرِ اليُسْرُ، ولو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبَهُ اليُسْرُ حتى يدخُلَ عليه، ولن يغلِبَ عُسْرٌ يُسرَيْن، فلا تيأس.
لابُدَّ لِلضِّيقِ بَعْدَ اليَأْسِ مِنْ فَرَجٍ وَكُلُّ دَاجِيَةٍ يَوْمًا لإِشْرَاقِ
فَكُلَّمَا اشْتَدَّتِ الأَحْدَاثُ نَهْتِفُ فِي أَعْتَى دُجَاهَا: أَنِ اشْتَدِّي لِتَنْفَرِجِي
يا رب:
الدِّينُ دِينُكَ فَانْتَصِرْ وَاعْصِفْ بِجَبَّارٍ أَشِرْ
وَاجْعَلْ جُمُوعَ المُعْتَدِي أَعْجَازَ نَخْلٍ مُنقَعِرْ
أيْ طلائع الزُّحُوف، ومَقدمَ الصُّفُوف، وبُناةَ الصَّرْحِ، وحُمَاةَ السَّرْح، يا زِينَةَ النادي، ويا بَشاشَةَ الوادي، قد تَرَونَ ما يستفزُّكم، وتسمَعُون ما يجرَحُ شُعُورَكم، وتقرؤون ما يُؤلِم ضَمائِرَكم، فقابلوا ذلك بالهدوء وضبط النفس، فليس الشديد بالصرعة، وليست القوَّة بالانفعال، إنما القوةُ بالسعيِ الدائبِ إلى الهَدَفِ، مع ضبطِ النَّفسِ أمام التحدِّيَاتِ التِي تُحاوِلُ أن تنحَرِفَ بالدعوة إلى الله عن أهدافها.(1/42)
فليكُن حالكم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12]، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].
فَلَنْ تَرَوْا صُحْبَةً تُرْضِي عَوَاقِبُهَا كَالحَقِّ وَالصَّبْرِ فِي خَطْبٍ إِذَا اجْتَمَعَا
ادأبُوا على علمٍ في السير إلى الهدف، في توازُنٍ يحكُمُ الإقدامَ والإحجَامَ، فالقوةُ الحقيقيةُ هي في الصبر، وعدمِ فتحِ المجال أمام من يجُرُّنا إلى مواقفَ محسوبَةٍ لمصلَحَتِهِ، ومعارِكَ لم نعُدَّ لها عُدَّتَهَا، فالصبرُ هو القوة، والإصلاح لن يتمَّ في ليلةٍ، والخيرُ لا يأتي دُفعةً، وسنةُ الله التدرُّجُ والنَّماءُ، وصيحةُ الحقِّ لابدَّ لها من مراحل، فلنُمهِّد لها، وذاك عملٌ شاقٌّ طويلٌ ولا شك؛ لكنه مضمونٌ ثابتٌ مأمون، نرتَضِيهِ ولو استغرق تمامُهُ السنين.
ألا فاعملوا من المعروف ما يقِي مَصَارِعَ السوء، ويُطفِئُ الغضبَ، ويدفَعُ الشرَّ، ويدحَرُ الشرَّ، ويدحرُ جُندَ الشيطانِ، ويزيدُ حرارةَ الإيمان؛ فقد حثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على المبادرة إلى العمل، قبل الانشغال بما يحدُثُ من الفتنِ المُتراكمَةِ تراكُمَ الليل المُظلِمِ، فقال: ((بادِرُوا بالأعمال فِتنًا كقِطَعِ الليل المُظلِمِ، يُصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبحُ كافرًا، يبيعُ دينَهُ بعَرَضٍ من الدنيا))؛ رواه مسلم.
يقول الحسن - رحِمه الله -: والله لقد رأيناهم صورًا ولا عقولاً، أجسامًا ولا أحلامًا، فَراش نارٍ، وذُباب طمعٍ، يغدُو أحدُهُم بدرهمين ويرُوحُ بدرهمين، يبيعُ أحدُهُم دينَهُ بثمن العنز، والله لن تستريحوا منهم إلا بالعمل، فإنَّ القافلة إذا صارت وشدَّت الرِّحال، تخلَّفَ العاطِلُ، وظَهَرَ الحقُّ من الباطل.
فَدَعْ أَذَاهُمْ وَقُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمُ فَالغَرْبُ مَوْلاكُمُ وَاللَّهُ مَوْلانَا(1/43)
واللهُ لا يُصلحُ عملَ المفسدين، والعُقبَى للصابرين، وليُكفكِفِ المُبطِلُون من غَلوَائِهم، وليقصرِ المُرجِفُون من إفكِهِم، فما زلنا نتوسَّمُ من حركاتِهم أنَّهم عواملُ نصبٍ وخفضٍ وجرٍّ، لا ترفعُ أبدًا، وإذا كان في الأساطير أنَّ الجنَّ تركبُ الخنافيس، فمن الحقائق أنَّ العدو يركبُ مثلَ هؤلاء ليفتحَ بِهم في بنيان الأمَّة قُوًى ومنافذَ، وهم - بِحمد الله - قليلٌ في حُكْم الشَّاذِّ، والشَّاذُّ لا يكون قاعدةً أبدًا، وكيدُهُم كيدُ شيطان، وقد قضى الله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، لا رادَّ لما الله سائقُه، وإنَّهم وإن اجتمعوا ليْسوا بمعجزِي الله.
وَأَيْنَ مِنَ العُنْقُودِ أَيْدِي الثَّعَالِبِ؟!
وَاللَّهُ يُمْهِلُ مَنْ بَغَى لَكِنَّهُ لا يُهْمِلُ
أيها الجيل السريّ:
إنَّ خيرَ ما يكون الإيجاف في السَّنوات العجاف، فلا تتعلَّل بالسنين فإنَّها تزُولُ، ولا تعتبِر بالأزمات فإنَّها تزول، وابنِ لأمَّتِك ونفْسِك ما يعودُ عليْك نفعُهُ.
أزِيحُوا بِالعلمِ العِلَل، وارْقعوا بالعمل الخَلَل، بلا مَلَلٍ ولا عَجَل، فقد يكونُ مع المُستعجِلِ الزَّلَلُ.
أنتم رجالُ حركةٍ فلا تَشِينوها بالرُّعُونةِ أو السُّكُون، أنتم أبطالُ معركةٍ فلا تجعلوها في غير عدُوٍّ، ولا يكن منكم إلى الهُوَيْنى رُكُونٌ.
فَالمَرْءُ يَعْلُو بِالهُدَى فَإِذَا هَوَى عَاشَ الحَيَاةَ مُطَبِّلاً وَمُزَمِّرَا
إن كان الأعداءُ يرَونَ أمَّتكم ميرَاثًا، فقولوا: لا إِرثَ مع وجود الوارثِ الأصيلِ، وإن كانوا يعدُّونَكم يتَامَى، فقولوا: قد كبِرَ اليتامَى ورشَدُوا، وإن كانوا يعُدُّونَكم مفقودين، فقولوا: قد رجعَ المفقودُ قبل الأجلِ المحدُودِ.
بَانَتْ تَبَاشِيرُ الصَّبَاحِ المُنْجَلِي أَلْقِ السِّتَارَ عَلَى الظَّلامِ وَأَسْبِلِ
أيها الجيل السريُّ:(1/44)
إِذَا تَضَارَبَتِ الأَقْوَالُ وَاخْتَلَطَتْ فَإِنَّنِي عِنْدَ قَوْلِ الحَقِّ وَقَّافُ
إنَّ الأمن في الديار، والأنفس، والأموال، والدين، والأعراض، والعُقُولِ - مقصدٌ عظيمٌ من مقاصِدِ دينِنَا الحنيف.
فَالدِّينُ جَاءَ لِسَعَادَةِ البَشَرْ وَلانْكِفَاءِ الشَّرِّ عَنْهُمْ وَالضَّرَرْ
فكلُّ عملٍ يجبُ أن تُراعَى فيه نُصُوصُ الشريعةِ، وقواعدها المُحكَمة، لتكون البيئةُ مُهَيَّأة لعُمُومِ الدعوة إلى الله وانتشار الخير، وإلا اضطربت الأمور، وظَهَرَت الفِتَنُ، وكثُرَ الخَبَثُ، والتَبَسَ الحقُّ بالباطِلِ، واستَعصَى الإصلاحُ على أهلِ الخيرِ، فاعلَم هُدِيتَ، وكُفِيتَ، ووُقِيتَ، وعن الشيطان نُحِّيتَ.
أيها السَّراة:
العلمَ العلمَ، والتواصُلَ مع العلماءِ المتقين، والدعاة الناصحين، والوُقوفَ على توجيهاتهم فهم أعلمُ بمقاصدِ الدين، وأبصرُ بالواقع وتجارِبِهِ، وأرعَى للمصالِحِ والمفاسِدِ، وأقدرُ على معرفةِ خيرِ الخَيْرَينْ وشرِّ الشَّرَّيْن.
فَإِذَا ادْلَهَمَّ الخَطْبُ فَاجْتَمِعُوا إِلَى عُلَمَائِكُمْ، وَإِلَى رُؤَاهُمْ فَارْجِعُوا
أيها الجيل السَّريُّ:
إنَّ أعداءكم لأغنياءُ بكم، وليْسوا أغنياءَ عنكم، إنَّهم أقْوياءُ بما يستمِدُّونَهُ من جُيُوبِكُم وجُعَبِكم، فاقْطعوا عنهم المَدَدَ يبلوا ويهزلوا، وفي وسْعك الاستِغْناء عمَّا في أيديهم، فإن لَم تفعل فلا تلمْهم ونفسَكَ لُمْ، وغيِّر ما بنَفسِكَ وهلُمّ.
أيُّها الجيل السريُّ:
إنَّ تبليغَ سنةِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الخلْقِ أفضلُ من تبليغِ السِّهامِ إلى نُحورِ الأعداءِ؛ لأنَّ تبليغ السِّهام إلى نُحور الأعداء يفعلُهُ الكثيرُ، أمَّا تبليغُ سنَّته - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى الخلق، فلا يفعَلُها إلا ورثَةُ الأنبِياء، جَعَلَنا الله وإيَّاكم منهم بمنِّهِ، كما يقول ابن القيم - رحمه الله.
أيها الجيلُ السريُّ:(1/45)
أنتم أنتم، أنتم نِبالُ الإسلام وقِسِيُّه، وحِبَالُهُ وعِصِيُّهُ، غِفَارُهُ ودَوسُهُ، خَزْرَجُهُ وأَوسُهُ.
فَإِنْ عَرَفَ التَّارِيخُ أَوْسًا وَخَزْرَجًا فَأَنْتُمْ - بِحَوْلِ اللَّهِ - أَوْسٌ وَخَزْرَجُ
يَا بَنِي الإِسْلامِ يَا نَبْتَ الهُدَى يَا غِرَاسَ المَجْدِ فِي خَيْرِ رُبَى
أَنْقِذُوا العَالَمَ مِنْ حَيْرَتِهِ أَصْلِحُوا مِنْ حَالِهِ مَا خَرِبَا
لا تَقُولُوا ذَهَبَتْ أَمْجَادُنَا فَالهُدَى يَرْجِعُ مَا قَدْ ذَهَبَا
هَذِهِ الأَحْدَاثُ قَدْ أَبْدَتْ لَنَا يَا بَنِي الإِسْلامِ مَا قَدْ حُجِبَا
كَشَفَتْ جُحْرَ الثَّعَابِينِ لَنَا فَرَأَيْنَا رَأْسَهَا وَالذَّنَبَا
فَاجْعَلُوا مِنْ دِينِكُمْ مُنْطَلَقًا وَثِبُوا إِنَّ الفَتَى مَنْ وَثَبَا
وَاجْعَلُوا مِنْ مَنْهَجِ اللَّهِ لَكُمْ مَنْزِلاً رَحْبًا وَأُمًّا وَأَبَا
أَنْتُمُ اليَوْمَ عَلَى مُنْعَطَفٍ مَنْ مَشَى فِيهِ بِهَدْيٍ كَسَبَا
يَا بَنِي الإِسْلامِ فِي قُرْآنِنَا مُنْقِذٌ مِمَّا أَصَابَ العَطَبَا
هذا مُجمَل الهَمَسَاتِ للسَّرَاةِ في مُرتَفَعَاتِ السَّرَاةِ، عَدَلتُ فيها عجزًا عن الغَيْثِ إلى البِلال، فاللَّهُمَّ أصلِحِ الحال.
يَا سَامِعًا أَصْغَى لَهَا إِنْ رَاقَ مَعْنَاهَا فَخُذْ
وَافْتَحْ لَهَا بَابَ الرِّضَا وَإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدّ
نستغفرُ اللهَ من كل قولٍ قصَدنَا به وجْهَهُ فخالَطَهُ غيرُهُ، نستغفرُ اللهَ من كل وعدٍ وعَدنَا به، ثم قصَّرنَا في الوفاءِ به.
اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَك المؤمنين، اللَّهُم عليْك بأعداءِ الدين، اللَّهُمَّ عليْك بأعْداء الدين، وأئمَّة الكفر من يهود ونصارى ومنافقين ومُشْركين، اللَّهُمَّ اشدُدْ وطأتَكَ عليْهم، واجعَلْهُم غنيمةً للمُسْلِمِين، اللَّهُمَّ اشدُدْ وطأتَكَ عليْهم واجعَلْهم غنيمةً للمُسلِمِين.(1/46)
اللَّهُمَّ كُن لإخوانِنَا المُجاهدين والمُستَضْعَفِين والمأسُورين والمظلومين في العالمين، اللَّهُمَّ أفرِغْ عليْهِم صبرًا وثبِّت أقدَامَهم وانصُرْهم على القَوم الكافِرين.
اللَّهُمَّ لا تُمِتْنا حتَّى تُقِرَّ أعيُنَنا من أعداءِ الدِّين، اللهُمَّ لا تُمِتْنا حتى تُقِرَّ أعيُنَنا من أعداءِ الدين.
اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بك من الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، اللهمَّ مَن أرادَنا والمسلمِينَ بسُوءٍ فاجعَل كيدَهُ في نَحْرِهِ، واجعل تدبيرهم تدميرًا لهم.
نسأل الله أن يرفَعَ عَلَمَ الجِهادِ، وأن يُقِرَّ أعيُنَنَا بنَصْرِ دينِهِ، والتَّمكينِ لأوليائِهِ، وأن يجعَلَنا من قومٍ يُحبُّهُم ويُحبُّونَهُ، اللَّهُمَّ أرِنا الحقَّ حقًّا وارزُقْنا اتِّبَاعه، اللَّهُمَّ أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّبَاعه، وأرِنا الباطِلَ باطِلاً وارزُقْنا اجتنَابَهُ، أنتَ حسبُنَا ومَن كنتَ حسبَهُ فقد كفَيْتَهُ، {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وسبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.(1/47)