هداية الحيارى
ابن القيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام ديناً، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً، وذخر لمن وافاه به ثواباً جزيلاً وفوزاً عظيماً، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه، والتمسك بدعائمه وأركانه، والاعتصام بعراه وأسبابه.
فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون.
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ، فلا يقبل من أحد ديناً سواه من الأولين والآخرين ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .
شهد بأنه دينه قبل شهادة الأنام ، وأشاد به ورفع ذكره وسمى به أهله وما اشتملت عليه الأرحام، فقال تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام .
وجعل أهله هم الشهداء على الناس يوم يقوم الأشهاد، لما فضلهم به من الإصابة في القول والعمل والهدى والنية والاعتقاد، غذ كانوا أحق بذلك وأهله في سابق التقدير ، فقال وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير .
وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قبلا فقال: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا .
الأديان قبل البعثة(1/1)
وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عبادة الرحمن، والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل والإحسان، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار.
أسس على عبادة النيران، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان، وبينه وبين الأوثان.
أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى وأقام هناك مدة من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعً يشب شيئاً فشيئاً ويبكي وأكل ويشرب ويبول وينام ويتقلب مع الصبيان، ثم أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان، ثم قبضوا عليه وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجاً من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً على وجهه وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان.
ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر من القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه ومع الرجلان، ثم خالطهما تلك المسامي التي تكسر العظام وتمزق اللحمان وهو يستغيث: يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منه إنسان هذا وهو مدير العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ثم مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوان ، ثم قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان فما ظنك بفروع هذا أصلها الذي قام عليه البنيان.(1/2)
أو دين أسس بنيانه على عبادة الآل المنحوت بالأيدي بعد نحت الأفكار من سائر أجناس الأرض على اختلاف الأنواع والأصناف والألوان، والخضوع له والتذلل والخرور سجوداً الى الأذقان، لا يؤمن من يدين به بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه يوم يجزى المسي بإساءته والمحسن بالإحسان.
أو دين الأمة الغضبية الذين انسلخوا من رضوان الله كانسلاخ الحية من قشرها، وباؤا بالغضب والخزي والهوان، وفارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها القليل من الأثمان، فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله وأوليائه ولاية الشيطان؟ أو دين أسس بنيانه على أن رب العالمين وجود مطلق في الأذهان، لا حقيقة له في العيان، ليس بداخل في العلم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا محايث ولا مباين له ، لا يسمع، ولا يرى، ولا يعلم شيئا من الموجودات ولا يفعل ما يشاء، لا حياة له، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار، ولم يخلق السموات والأرض في ستة أيام بل لم تزل السموات والأرض معه وجودها مقارن لوجوده، لم يحدثها بعد عدمها ولا له قدرة على إفنائها بعد وجودها، ما أنزل على بشر كتاباً، ولا أرسل إلى الناس رسولاً، فلا شرع يتبع، ولا رسول يطاع، ولا دار بعد هذه الدار، ولا مبدأ للعالم ولا معاد، ولا بعث ولا نشور، ولا جنة ولا نار، إن هي إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول، وأربعة أركان وأفلاك تدور، ونجوم تسير، وأرحام تدفع، وأرض تبلغ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ؟.
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد له ولا ند له، ولا صاحبة له ولا ولد له، ولا كفؤ له، تعالى عن إفك المبطلين، وخرص الكاذبين، وتقدس عن شرك المشركين، وأباطيل الملحدين.
كذب العادلون به سواه وضلوا ضلالاً بعيداً.(1/3)
وخسروا خسراناً مبيناً ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته.
وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده: ابتعثه بخير ملة وأحسن شرعة.
وأظهر دلالة وأوضح حجة، وأبين برهان إلى جميع العالمين نسهم وجنهم عربهم وعجمهم حاضرهم وباديهم، الذي بشرت به الكتب السالفة، وأخبرت به الرسل الماضية، وجرى ذكره في الأقصار في القرى والأمصار والأمم الخالية، ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر، إلى عهد المسيح أبن البشر، كلما قام رسول أخذ عليه الميثاق بالإيمان به والبشارة بنبوته حتى انتهت النبوة إلى كليم الرحمن، موسى بن عمران فأذن بنبوته على رؤوس الإشهاد بين بني إسرائيل معلنا بالأذان جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران .
إلى أن ظهر المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم فأذن بنبوته آذاناً لم يؤذنه أحد مثله قبله، فقام في بني إسرائيل مقام الصادق الناصح وكانوا لا يحبون الناصحين فقال: إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين .
تالله لقد أذن المسيح آذاناً أسمعه البادي والحاضر، فأجابه المؤمن المصدق وقامت حجة الله على الجاحد الكافر.(1/4)
الله أكبر، الله أكبر عما يقول فه المبطلون ويصفه به الكاذبون، وينسبه إليه المفترون والجاحدون، ثم قال : أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له ولا كفؤ له، ولا صاحبة له ولا ولد له، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ثم رفع صوته بالشهادة لأخيه وأولى الناس به بأنه عبد الله ورسوله، وانه أركون العالم، وانه روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول ما يقال له وانه يخبر الناس بكل ما اعد الله لهم ، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالغيوب ويجيئهم بالتأويل، ويوبخ العالم على الخطيئة، ويخلصهم من يد الشيطان، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر وصرح في آذانه باسمه ونعته وصفته وسيرته حتى كأنهم ينظرون إليه عياناً، ثم قال حي على الصلاة خلف إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، حي على الفرح بإتباع من السادة في إتباعه، والفلاح في الدخول في زمرة أشياعه، فأذن وأقام وتولى وقال: لست ادعكم كالأيتام، وسأعود واصلي وراء هذا الإمام، هذا عهدي إليكم إن حفظتموه دام لكم الملك إلى آخر الأيام.
فصلى الله عليه من ناصح بشر برسالة أخيه عليهما افضل الصلاة والسلام، وصدق به أخوه ونزهه عما قال فيه وفي أمه أعداؤه المغضوب عليهم من الإفك والباطل وزور الكلام، كما نزه ربه وخالقه ومرسله عما قال فيه المثلثة عباد الصليب، ونسبوه إليه من النقص والعيب والذم.
(أما بعد) فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا اله غيره جعل الإسلام عصمة لمن لجا إليه، وجنة لمن استمسك به وعض بالنواجذ عليه، فهو حرمه الذي من دخله كان من الآمنين، وحصنه الذي من لجأ إليه كان من الفائزين، ومن انقطع دونه كان من الهالكين.
وأبى أن يقبل من أحد ديناً سواه، ولو بذل في المسير إليه جهده واستفرغ قواه، فأظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها، وسار مسير الشمس في الأقطار.(1/5)
وبلغ إلى حيث انتهى الليل والنهار، وعلت الدعوة الإسلامية وارتفعت غاية الارتفاع والاعتلاء.
بحيث صار أصلها ثابت وفرعها في السماء فتضاءلت لها جميع الأديان، وجرت تحتها الأمم منقادة بالخضوع والذل والإذعان، ونادى المنادي بشعارها في جو السماء بين الخافقين: اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله صارخاً بالشهادتين، حتى بطلت دعوة الشيطان، وتلاشت عبادة الأوثان، واضمحلت عبادة النيران، وذل المثلثة عباد الصلبان، وتقطعت الأمة الغضبية في الأرض كتقطع السراب في القيعان، وصارت كلمة الإسلام العليا، وصار له في قلوب الخلائق المثل الأعلى، وقامت براهينه وحججه على سائر الأمم في الآخرة والأولى، وبلغت منزلته في العلى والرفعة الغاية القصوى، وأقام لدولته ومصطفيه أعوانا وأنصارا نشروا ألويته وأعلامه، وحفظوا من التغيير والتبديل حدوده وأحكامه، وبلغوا إلى نظرائهم كما بلغ إليهم من قبلهم، حلاله وحرامه، فعظموا شعائره، وعلموا شرائعه، وجاهدوا أعداءه بالحجة والبيان حتى استغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعلا بنيانه المؤسس على تقوى من الله ورضوان، إذ كان يناء غيره مؤسساً على شفا جرف هار.
فتبارك الذي رفع منزلته، وأعلى كلمته، وفخم شانه، وأشاد بنيانه، وأذل مخالفيه ومعانديه، وكبت من يبغضه ويعاديه، ووسمهم بانهم شر الدواب، واعد لهم إذا قدموا عليه اليم العقاب، وحكم لهم بانهم اضل سبيلا من الانعام، اذ استبدلوا الشرك بالتوحيد، والضلال بالهدى، والكفر بالاسلام، وحكم سبحان لعلماء الكفر وعباده حكماً يشهد ذوو العقول بصحته ويرونه شيئاً حسناً، فقال تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا .(1/6)
فأين يذهب من تولى عن توحيد ربه وطاعته، ولم يرفع رأساً بأمره ودعوته، وكذب رسوله واعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته واتبع غير سنته، ولم يستمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والعناد من قلبه، والجحود والكفر من صدره ، والعصيان والمخالفة من جوارحه؟ فقد قابل خبر الله بالتكذيب، وأمره بالعصيان، ونهيه بالارتكاب، يغضب الرب وهو راض، ويرضي وهو غضبان، يحب ما يبغض ، ويبغض ما يحب، ويوالي من يعاديه ، ويعادي من يواليه، يدعو إلى خلاف ما يرضى، وينهى عبداً إذا صلى قد اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم فاصمه وابكمه واعماه، فهو ميت الدارين، فاقد السعادتين، قد رضى بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وباع التجارة الرابحة بالصفقة الخاسرة، فقلبه عن ربه مصدود، وسبيل الوصول الى جنته ورضاه وقربه عنه مسدود، فهو ولي الشيطان وعدو الرحمن، وحليف الكفر والفسوق والعصيان .
قد رضي المسلمون بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد رسولاً، ورضي المخذول بالصليب والوثن الهاً، وبالتثليث والكفر ديناً ، وبسبيل الضلال والغضب سبيلاً، اعصى الناس للخالق الذي لا سعادة له الا في طاعته، واطوعهم للمخلوق الذي ذهاب دنياه وأخراه في طاعته ، فاذا سئل في قبره من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: هاه ، هاه لا ادري.
فيقال: لا دريت، ولا تليت، وعلى ذلك حييت ، وعليه مت، وعليه تبعث ان شاء الله، ثم يضرم عليه قبره ناراً، ويضيق عليه كالزج في الرمح الى قيام الساعة .(1/7)
واذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وقام الناس لرب العالمين، ونادى المنادي وامتازوا اليوم أيها المجرمون ثم رفع لكل عابد معبوده الذي كان يعبده ويهواه، وقال الرب تعالى وقد أنصت له الخلائق : اليس عدلاً مني ان اولى كل انسان منكم ما كان في الدنيا يتولاه؟ فهناك يعلم المشرك حقيقة ما كان عليه، ويتبين له سوء منقلبه وما صار اليه، ويعلم الكفار انهم لم يكونوا اولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .
ولما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان أهل الارض صنفين: اهل الكتاب، وزنادقة لا كتاب لهم.
وكان اهل الكتاب افضل الصنفين، وهم نوعان: مغضوب عليم ، وضالون.
فالامة الغضبية هم اليهود: اهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الانبياء واكلة السحت - وهو الربا والرشا - اخبث الامم طوية، وأرداهم سجية وابعدهم من الرحمة، واقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم من الانبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن الا ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خلطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثهم بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدوراً، واظلمهم بيوتاً وأنتنهم أفنية، واوحشهم سجية، تحيتهم لعنة ، ولقاؤهم طيرة، شعارهم الغضب، ودثارهم المقت.(1/8)
والصنف الثاني: المثلثة أمة الضلال وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه اياها احد من البشر ، ولم يقروا بانه الواحد الاحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً احد، ولم يجعلوه اكبر من كل شئ، بل قالوا فيه ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، فقل ما شئت في طائفة اصل عقيدتها: إن الله ثالث ثلاثة وان مريم صاحبته وان المسيح ابنه، وانه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى الى ان قتل ومات ودفن.
فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالاحمر والاصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: (يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا).
فدينهم شرب الخمور واكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل الى البعوضة، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير.
فهذا حال من له كتاب، واما من لا كتاب له: فهو بين عابد أوثان ، وعابد نيران، وعابد شيطان، وصابئ حيران ، يجمعهم الشرك، وتكذيب الرسل، وتعطيل الشرائع، وانكار المعاد وحشر الاجساد، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحدونه مع الموحدين.
فأمة المجوس منهم تستفرش الامهات والبنات والاخوات، دع العمات والخالات، دينهم الزمر، وطعامهم الميتة، وشرابهم الخمر، ومعبودهم النار، ووليهم الشيطان، فهم أخبث بني آدم نحلة، وأرداهم مذهباً، وأسوأهم اعتقاداً.(1/9)
وأمة زنادقة الصابئة وملاحدة الفلاسفة لا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ول لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالم عندهم رب فعال بالاختيار لما يريد قادر على كل شيء عالم بكل شئ، آمر، ناه، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن ، ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول وأربعة أركان، وسلسلة ترتبت فيها الموجودات هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول.
(وبالجملة) فدين الحنفية - الذي لا دين لله غيره بين هذه الاديان الباطلة - التي لا دين في الارض غيرها - أخفى من السها تحت السحاب، وقد نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من اهل الكتاب فاطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلم سراجاً منيراً، وانعم بها على اهل الارض نعمة لا يستطيعون لها شكورا، واشرقت الارض بنورها اكمل الاشراق، وفاض ذلك النور حتى دعم النواحي والافاق، واتسق قمر الهدى اتم الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق.(1/10)
فلله الحمد الذي انقذنا بمحمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق الى يوم الميقات، وارانا في نوره اهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون، وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت يؤمنون، ويعدلون ولكن بربهم يعدلون، ويعملون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون ويمكرون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والاحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فله المنة والفضل على ما انعم به علينا وارهنا به على سائلا الامم واليه الرغبة ان يورعنا شكر هذه النعمة ، وان يفتح لنا ابواب التوبة والمغفرة والرحمة، فاحب الوسائل الى المحسن التوسل اليه باحسانه والاعتراف له بان الامر كله محض فضله وامتنانه، فله علينا النعمة السابغة كما له علينا الحجة البالغة.(1/11)
نبوء له بنعمه علينا، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا وإسرافنا في امرنا، فهذه بضاعتنا التي لدينا، لم تبق لنا نعمه وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب والتخلص من اليم العقاب، بل بعض ذل يستنفد جميع حسناتنا، ويستوعب كل طاعتنا هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصة لوجهه واقعة على وفق امره، وما هو والله الا التعلق بأذيال عفوه وحسن الظن به، واللجأ منه إليه والاستعاذة به منه والاستكانة والتذلل بين يديه، ومد يد الفاقة والمسكنة اليه، بالسؤال والافتقار اليه في جميع الاحوال ، فمن اصابته نفحة من نفحات رحمته أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته انتعش من بين الأموات وأناخت بفنائه وفود الخيرات، وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات....
واذا نظرت إلي نظرة راحم في الدهر يوما انني لسعيد
ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان.
أسباب تصنيف هذا الكتاب
وكان انتهى إلينا مائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه ، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم انه باجابته القاصة اصاب، فقال : هذا هو الجواب! فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: ان دين الاسلام انما قام بالسيف لا بالكتاب.
فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت لحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب عن ساعد العزم، ونهض على ساق الجد وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف.
وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .(1/12)
والسيف إنما جاء منفذا للحجة مقوما للمعاند، وحدا للجاحد، قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز .
فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف.
فما هو الا الوحي او حد مرهف يقيم ضباه اخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل
وإلى الله الرغبة في التوفيق، فانه الفاتح من الخير أبوابه والميسر له أسبابه.
وسميته هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
وقسمته قسمين:
القسم الاول في اجوبة المسائل، والقسم الثاني في تقرير نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بجميع أنواع الدلائل، فجاء بحمد الله ومنه وتوفيقه كتاباً ممتعاً معجباً، لا يسأم قاريه ولا يمل الناظر فيه، فهو كتاب يصلح للدنيا والآخرة، ولزيادة الايمان ، ولذة الانسان.
يعطيك ما شئت من أعلام النبوة وبراهين الرسالة، وبشارات الانبياء بخاتمهم، واستخراج اسمه الصرح من كتبهم، وذكر نعته وصفته وسيرته من كتبهم، والتمييز بين صحيح الاديان وفاسدها وكيفية فسادها بعد استقامتها، وجملة من فضائح أهل الكتابين وما هم عليه، وانهم اعظم الناس براءة من انبيائهم، وان نصوص انبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم، وغير ذلك من نكت بديعة لا توجد في سواه.
والله المستعان وعليه التكلان، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
القسم الاول في أجوبة المسائل وعددها سبعة أسئلة
فنقول اما المسألة الاولى وهي: قول السائل قد اشتهر عندكم بان اهل الكتابين ما منعهم من الدخول في الاسلام الا الرياسة والمأكلة - لا غير.(1/13)
(فنقول : هذا) كلام جاهل بما عند المسلمين وبما عند الكفار، اما المسلمون فلم يقولوا انه لم يمنع اهل الكتاب من الدخول في الاسلام الا الرياسة والماكلة لا غير، وان قال هذا بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم،والممتنعون من الدخول في الاسلام من اهل الكتاب وغيرهم جزء يسير جداً بالاضافة الى الداخلين فيه منهم، بل اكثر الامم دخلوا في الاسلام طوعاً ورغبةً واختياراً لا كرهاً ولا اضطراراً ، فان الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً الى اهل الارض وهم خمسة أصناف قد طبقوا الارض: يهود ، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون.
وهذه الاصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها الى مغاربها.
فأما اليهود فاكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها، وكانوا باطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بارض فارس فرقة مستذلة مع المجوس، كان منهم بارض العرب فرقة، واعز ما كانوا بالمدينة وخيبر ، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أمماً وسلبهم الملك والعز.
وأما النصارى فكانوا طبق الارض: فكانت الشام كلها نصارى، وارض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك ارض مصر والحبشة والنوبة والجزيرة والموصل وارض نجران وغيرها من البلاد.
واما المجوس فهم اهل مملكة فارس وما اتصل بها.
وأما الصابئة فاهل حران وكثير من بلاد الروم.
واما المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها، وأديان اهل الارض لا تخرج عن هذه الاديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة.
وهذه الاديان الخمسة لها للشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان .
وهذه الاديان الستة مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .(1/14)
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه بعده اكثر اهل الاديان طوعاً واختياراً، ولم يكره احداً قط على الدين، وانما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، واما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لامر ربه سبحانه حيث يقول: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا احداً على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الاسلام فلما جاء الاسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام.
والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز اخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل اما ان يدخلوا في الدين واما ان يعطوا الجزية كما يقوله اهل العراق وأهل المدينة، وان استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان.
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له انه لم يكره أحداً على دينه قط وانه انما قاتل من قاتله واما من هادنه فلم يقاتله مادام مقيما على هدنته لم ينقض عهد، بل امره الله تعالى ان يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له كما قال تعالى: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم .
ولما قدم المدينة صالح اليهود واقرهم على دينهم ، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمن على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقبل بعضهم.
وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدأوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق، ويوم بدر ايضاً هم جاءوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.(1/15)
والمقصود: انه صلى الله عليه وسلم لم يكره احداً على الدخول في دينه البتة، وانما دخل الناس في دينه اختياراً وطوعاً فاكثر اهل الارض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وانه رسول الله حقاً فهؤلاء اهل اليمن كانوا لى دين اليهودية أو اكثرهم كما قال النبي لمعاذ لما بعثه الى اليمن: انك ستأتي قوما أهل كتاب فليكن اول ما تدعوهم اليه شهادة ان لا اله الا الله .
ثم دخلوا في الاسلام من غير رغبة ولا رهبة، وكذلك من اسلم من يهود المدينة وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام مذكورون في كتب السير والمغازي لم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف بل اسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة اعدائهم ومحاربة اهل الارض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة اقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن مع ضعف شوكة المسلمين وقلة ذات ايديهم.
فكان احدهم يعادي اباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الاسلام لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه فان كان كثير من الأحبار والرهبان والقسيسين ومن ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر فقد اسلم جمهور اهل الارض من فرق الكفار ولم يبق الا الاقل بالنسبة الى من اسلم، فهؤلاء نصارى الشام كانوا ملئ الشام ثم صاروا مسلمين الا النادر، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الابيض وكذلك المجوس كانت امة لا يحصى عددهم الا الله فاطبقوا على الاسلام لم يتخلف منهم الا النادر ، وصارت بلادهم بلاد اسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة ، وكذلك اليهود اسم اكثرهم ولم يبق منهم الا شرذمة قليلة مقطعة في البلاد.(1/16)
فقول هذا الجاهل: :ان هاتين الامتين لا يحصى عددهم الا الله كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كذب ظاهر وبهت مبين، حتى لو كانوا كلهم قد اجمعوا على اختيار الكفر لكانوا في ذلك أسوة بقوم نوح، وقج اقام فيهم الف سنة الا خمسين عاماً يدعوهم الى الله يريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم وقد اطبقوا على الكفر الا قليلاً منهم كما قال تعالى: وما آمن معه إلا قليل وهم كانوا اضعاف اضعاف هاتين الامتين الكافرتين اهل الغضب واهل الضلال.
وعاد اطبقوا على الكفر وهم امة عظيمة عقلاء حتى استؤصلوا بالعذاب، وثمود اطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر، ومع هذا فاختاروا الكفر على الايمان، كما قال تعالى: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقال تعالى: وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين فهاتان امتان عظيمتان من اكبر الامم قد اطبقتا على الكفر مع البصيرة، فامتى الغضب والضلال إذ اطبقتا على الكفر فليس ذلك ببدع، وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد اطبقوا على جحد نبوة موسى مع تظاهر الايات الباهرة آية بعد آية فلم يؤمن منهم الا رجل واحد كان يكتم ايمانه.
وأيضا، يقال لنصارى: هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح حتى كانوا ملا بلاد الشام كما قال تعالى: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وكانوا قد اطبقوا على تكذيب المسيح وجحدوا نبوته، وفيهم الاحبار والعباد والعلماء حتى آمن به الحواريون، فاذا جاز على اليهود وفيهم الاحبار والعباد والزهاد وغيرهم الاطباق على جحد نبوة المسيح والكفر به مع ظهور ايات صدقه كالشمس جاز عليهم انكارة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم ان جواز ذلك على امة الضلال الذين هم اضل من الانعام، وهم النصارى أولى وأحرى.(1/17)
فهذا السؤال الذي اورده هذا السائل وراد بعينه في حق كل نبي كذبته امة من الامم، فان صوب هذا السائل راي تلك الامم كلها، فقد كفر بجميع الرسل.
وان قال ان الانبياء كانوا على الحق، وكانت تلك الامم مع كثرتها ووفور عقولها على الباطل، فلان يكون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم الاقلون الاذلون الارذلون، من هذه الطوائف على الباطل وأولى وأحرى ، وأي أمة من الأمم اعتبرتها، وجدت المصدقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم جمهورها، واقلها واراذلها هم الجاحدون لنبوته، فرقعة الإسلام قد اتسعت في مشارق الأرض ومغاربها آية الاتساع بدخول هذه الأمم في دينه وتصديقهم برسالته ، وبقي من لم يدخل منهم في دينه وهم من كل أمة اقلها ، وأين يقع النصارى المكذبون برسالته اليوم من أمة النصرانية الذين كانوا قبله؟ ! وكذلك اليهود والمجوس والصابئة لا نسبة للمكذبين برسالته بعد بعثه إلى جملة تلك الأمة قبل بعثه.
وقد اخبر تعالى عن الأمم التي أطبقت على تكذيب الرسل ودمرها الله تعالى ، فقال تعالى: ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ، فاخبر عن هؤلاء الامم انهم تطابقوا على تكذيب رسلهم وانه عمهم بالإهلاك، وقال تعالى: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون ومعلوم قطعاً ان الله تعالى لم يهلك هذه الامم الكثيرة الا بعد ا تبين لهم الهدى فاختاروا عليه الكفر، ولو لم يتبين لهم الهدى لم يهلكهم، كما قال تعالى: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ، وقال تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ، أي فلم يكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس.(1/18)
ومعلوم قطعا انه لم يصدق نبي من الانبياء من اولهم الا آخرهم ولم يتبعه من الامم ما صدق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والذي اتبعوه من الامم اضعاف هاتين الامتين المكذبتين مما لا يحصيهم الا الله ولا يستريب من له مسكة من عقل ان الضلال والجهل والغي وفساد العقل الى من خالفه وجحد نبوته اقرب منه الى اتباعه ومن اقر بنبوته.
وحينئذ فيقال: كيف جاز على هؤلاء الامم التي لا يحصيهم الا الله الذي قد بلغوا مشارق الارض ومغاربها علىاختلاف طبائعهم واغراضهم وتباين مقاصدهم الطباق على اتباع من يكذب على الله وعلى رسله وعلى العقل ويحل ما حرم الله ورسله ويحرم ما أحله الله ورسله، ومعلوم ان الكاذب على الله ف دعوى الرسالة هو شر خلق الله وافجرهم واظلمهم واكذبهم.
ولا يشك من له ادنى عقل ان اطباق اكثر الامم على متابقة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخروجهم عن ديارهم واموالهم ومعاداتهم اباءهم وعشائرهم في متابعته وبذلهم نفوسهم بين يديه من امحل المحال؟ فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقية لها اغراض عديدة من هاتين الامتين اولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين طبقوا مشارق الارض ومغاربها ، وهم اعقل الامم واكملها في جميع خصال الفضل.(1/19)
اين عقول عباد العجل وعباد الصليب الذي اضحكوا سائر العقلاء على عقولهم ودلوهم على مبلغها بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟ واذا جاز اتفاق امة - فيها من قد ذكره هذا السائل - على ان رب العلامين وخالق السموات والارضين نزل عن عرشه وكرسي عظمته ودخل في بطن امراة في محل الحيض والطمث عدة شهور ثم خرج من فرجها طفرً يمص الثدي ويبكي ، ويكبر شيئاً فشيئاً، ويأكل ويشرب ويبول، ويصح ويمرض، ويفرح ويحزن، ويلذ ويالم، ثم دبر حيلة على عدوه ابليس بان مكن اعداءه اليهود من نفسه، فامسكوه وساقوه الى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرونه الى الصلب، والاوباش والاراذل قدامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكي فقربوه من الخبتين، ثم توجوه بتارج من الشوك، واوجعوه صفعاً، ثم حملوه على الصليب وسمروا يديه ورجليه وجعلوه بين لصين، وهو الذي اختار هذا كله لتتم له الحيلة على ابليس ليخلص ىجم وسائ ر الانبياء من سجنه، ففداهم بنفسه حتى خلوصا من سجن ابليس.
واذا جاز اتفاق هذه الامة وفيهم الاحبار والرهبان والقسيسون والزهاد والعباد والفقهاء ومن ذكرتم على هذا القول في معبودهم والههم تى قال قائل منهم وهو من اكابرهم عندهم: اليد التي خلقت ادم هي التاي باشرت المسامير ونالت الصلب، فكيف لا يجوز عليهم الاتفاق على تكذيب من جاء بتكفيرهم وتضليلهم، ونادى سراً وهراً بكذبهم على الله وشتمهم له اقبح شتم، وكذبهم على المسيح ، وتبديلهم دينه، وعاداهم وقاتلهم، وبراهم من المسيح وبراه منهم، واخبر انهم وقود النار وحطب جهنم ؟ فهذا احد الاسباب التي اختاروا لاجلها الكفر على الايمان وهو من اعظم الاسباب.(1/20)
فقولكم : ان المسلمين يقولون انهم لم يمنعهم من الدخول في الاسلام الا الرياسة الماكلة لا غير كذب على المسلمين، بل الرياسة والماكلة من جملة الاسباب المانعة لهم من الدخول في الدين، وقد ناظرنا نحن وغيرنا جماعة منهم فما تبين لبعضهم فساد ما هم عليه قالوا: لو دخلنا في الاسلام لكنا من اقل المسلمين لا يابه لنا، ونحن متحكمون في اهل ملتنا في اموالهم ومناصبهم ولنا بينهم اعظم الجاه!، وهل منع فرعون وقومه من اتبرا موسى الا ذلك ؟!
الاسباب المانعة من قبول الحق
والاسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جداً فمنها: الجهل به ، وهذا السبب هو الغالب على اكثر النفوس، فان من جهل شيئاً عاداه وعادى اهله ، فان انضاف الى هذا السبب بغض من امره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول اقوى، فان انضاف الى ذلك الفه وعادته ومرباه على ما كان عليه اباؤه ومن يحبه ويعظمه قوي المانع، فان انضاف الى ذلك توهميه ان الحق الذي دعي اليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته واغراضه قوي المانع من القبول جداً.
فان انضاف الى ذلك خوفه من اصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد المانع من قبول الحق قوة، فان هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الاسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه فاختار الكفر على الاسلام بعد ما تبين له الهدى، كما سيأتي ذكر قصته ان شاء الله تعالى.
ومن اعظم هذه الاسباب : الحسد، فانه جاء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه واوتي ما لم يؤت نظيره فلا يدعه الحسد ان ينقاد له ويكون من اتباعه.
وهل منع ابليس من السجود لادم الا الحسد ؟! فانه لما رآه قد فضل عليه ورفع غص بريقه واختار الكفر على الايمان بعد ان كان بين الملائكة.(1/21)
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الايمان بعيسى ابن مريم وقد علموا علماً لا شك فيه انه رسول الله جاء بالبينات والهدى فحملهم الحسد على ان اختاروا الكفر على الايمان واطبقوا عليه، وهم امة فيهم الاحبار والعلماء والزهاد والقضاة والملوك والامراء.
هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يات بشريعة يخالفهم ولم يقاتلهم، وانما اتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفاً ورحمة واحساناً ، وجاء مكملاً لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الايمان ، فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع ، مبكتاً لهم بقبائحهم، ومنادياً على فضائحهم، ومخرجاً لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم ويعلو هو واصحابه وهو معه دائماً في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي في قلوبهم؟ واين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح وقد اطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى؟ وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف اذا انضاف اليه زوال الرياسات والمأكل كما تقدم؟
فصل
اعتراف أبي جهل بنبوة محمد
وقد قال المسور بن مخرمة - وهو ابن اخت ابي جهل - لابي جهل يا خالي هل كنتم تتهمون محمداً بالكذب قبل ان يقول ما قال؟ فقال: يا ابن اختى! والله لقد محمد صلى الله عليه وسلم فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط قال : يا خال ! فما لكم لا تتبعونه؟ ! قال : يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبي فمتى ندرك مثل هذه؟ وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل : يا أبا الحكم ! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فانه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل : ويحك! والله ان محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟(1/22)
فصل
معرفة اليهود لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق المعرفة
وأما اليهود فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال ابن اسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة، قال : هل تدري عما كان اسلام اسد وثعلبة ابني شعبة واسد بن عبيد ، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير كانوا فوق ذلك ؟ فقلت : لا ، قال فانه قدم علينا رجل من الشام من اليهود يقال له ابن الهيبان فاقام عندنا، والله ما رأينا رجلا يصلي خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنا اذا قحطنا وقل علينا المطر نقول يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا ، فيقول : لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول : كم؟ فيقول صاع من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه ، ثم يخرج الى ظاهر حرتنا ونحن معه نستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمطر ويمر بالشعاب، قد فعل ذلك مرة ولا مرتين ولا ثلاة، فحضرته الوفاة واجتمعنا اليه، فقال : يا معشر يهود! اترون ما اخرجني من ارض الخمر والخمير الى ارض البؤس والجوع؟ قالوا انت اعلم، قال : فاني انما خرجت اتوقع نبي قد اظل زمانه، هذه البلاد مهاجرة ، فاتبعوه ولا يسبقن اليه غيركم اذا خرج، يا معشر اليهود فانه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا منعكم ذلك منه ، ثم مات ، فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا أحداثا: يا معشر اليهود والله انه للذي ذكر لكم ابن الهيبان، فقالوا ما هو به ، قالوا : بلى والله انه لصفته، ثم نزلوا واسلموا وخلوا اموالهم واهليهم قال ابن اسحق: وكانت اموالهم في الحصن مع المشركين فما فتح ردت عليهم.(1/23)
وقال ابن اسحاق: حدثني صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، قال كان بين أبياتنا يودي فخرج على نادي قومه بني عبد الاشهل ذات غداة فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحصاب والميزان، قال ذلك لاصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت وذلك قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ويحك يا فلان ! وهذا كائن ، ان الناس يبعثون بعد موتهم الى دار فيها جنة ونار يجزون باعمالهم ؟! قال : نعم ، والذي يحلف به ، لوددت ان حظي من تلك النار ان توقدوا اعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطبقون علي واني انجو من النار غدا، فقيل : يا فلان ما علامة ذلك؟ قال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد واشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا : فمتى نراه؟ فرمى بطرفته فرآني وانا مضطجع بفناء باب اهلي وانا احدث القوم ، فقال ان يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وانه لحي بين اطهرنا، فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا يا فلان الست الذي قلت ما قلت واخبرتنا به ؟! قال ليس به.
قال ابن اسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني اشياخ منا قالوا: لم يكن احد من العرب اعلم بشان رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود وكانوا اهل كتاب وكنا اصحاب وثن ، وكنا بلنا منهم ما يكرهون قالوا ان نبياً مبعوثاً الان قد اظل زمانه نتبعه فنقتلكم قتل عاد وارم، فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا وفيهم انزل الله عز وجل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
وذكر الحاكم وغيره عن ابن ابي نجيح عن على الازدي، قال كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس.(1/24)
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء ، فقالت: اللهم انا نسألك بحق محمد النبي الامي الذي وعدتنا ان تخرجه لنا في ىخر الزمان الا نصرتنا عليهم ، قال فكانوا اذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فانزل الله عز وجل وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا يعني بك يا محمد فلعنة الله على الكافرين .
يستفتحون أي يستنصرون.
وذكر الحاكم وغيره ان بني النضير لما اجلوا من المدينة اقبل عمرو بن سعد فاطاف بمنازلهم فراى خرابها ففكر ثم رجع الى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم فاجتمعوا، فقال الزبير بن باطا: يا ابا سعد اين كنت منذ اليوم فلم نرك - وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتاله في اليهودية قال: رايت اليوم عبراً اعتبرنا بها، رايت اخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا اموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط له بهم حاجة، وقد اوقع قبل ذلك بابن الاشرف في عزة بنيانه في بيته امنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم ، واوقع ببني قينقاع فاجلاهم وهم جل اليهود وكانوا اهل عدة وسلاح نجدة - حصرهم النبي عليه السلام ، فلم يخرج انسان منهم راسه حتى سباهم ، فكلم فيهم فتركهم على ان اجلاهم من يثرب.(1/25)
يا قوم قد رايتم ما رايتم فاطيعوني وتعالوا نتبعع محمداً ، فوالله انكم لتعلمون انه نبي وقد بشرنا به وبامره ابن الهيبان وابو عمرو بن حواس، وهما من اعلام اليهود جاءوا من بيت المقدس يتوفان قدومه وامرانا باتباعه وامرانا ان نقرئه منهما السلام ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا ، فاسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم ، فاعاد هذا الكلام ونحوه وخوفهم بالحرب السباء والجلاء، فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرات صفته في كتاب التوراة التي انزلت على موسى ليس في المثاني التي احدثنا ، فقال له كعب بن اسد : ما يمنعك يا ابا عبد الرحمن من اتتباعه؟ قال: انت ، قال : ولم فوالتوراة ما حلت بينك وبينه قط؟ قال الزبير: بل انت صاحب عهدنا وعقدنا فان اتبعته اتبعناه وان ابيت ابينا فاقبل عمرو بن سعد على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك الى ان قال كعب : ما عني في ذلك الا ما قلت ، ما تطيب نفسي ان اصير تابعاً.
وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى، فانه لما تبين له الهدى عزم على اتباع موسى عليه السلام ، فقال له وزيره هامان : بنا انت اله تعبد تصبح تعبد ربا غيرك قال : صدقت.
وذكر ابن اسحاق عن عبد الله بن ابي بكر ، قال : حدثت عن صفية بن حيي انها قالت : كنت احب ولد ابي اليه والى عمي ابي ياسر فما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا عليه ثم جاءا من العشى ، فسمعت عمي يقول لابي اهو هو قال : نعم والله ، قال اتعرفه وتثبته ، قال نعم، قال : فما في نفسك منه ، قال عدواته والله ما بقيت.
فهذه الامة الغضيبة معروفة بعداوة الانبياء قديماً واسلافهم وخيارهم ، قد أخبرنا الله سبحانه عن اذاهم لموسى ونهانا عن التشبه بهم في ذلك قال : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها .(1/26)
واما خلفهم فهم قتلة الانبياء : قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الانبياء ، حتى قتلوا في يوم سبعين نبياً واقاموا لاسوق في اخر النهار كانهم لم يصنعوا شيئاً.
واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه فصانه الله من ذلك واكرمه ان يهينه على ايديهم ، والقى شبهه على غيره فقتلوه وصلبوه.
وراموا قبل خاتم النبيين مراراً عديدة والله يعصمه منهم.
ومن هذا شانهم لا يكبر عليهم اختيار الكفر على الايمان لسبب من الاسباب التي ذكرنا بعضها او سببين او اكثر.
لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله
وقد ذكرنا اتفاق امة الضلال وعبادة الصليب على مسبة رب العالمين اقبح مسبة ، على ما يعلم بطلانه بصريح العقل ، فان خفي عليهم ان هذا مسبة لله مع ان العق يحكم ببطلانه وبفساده من اول وهلة ، لم يكثر على تلك العقول السخيفة ان تسب بشراً ارسله الله ، وتجحد نبوته ، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته ، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الارض والسموات الذي صاروا به ضحة بين جميع اصناف بني ادم.
فانه اطبقت على ان الاله الحق - سبحانه عما يقولون - صلب وصفح وسمر ووضع الشوك على راسه ودفن في التراب ، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر امر السموات والارض ، لا يكثر عليها ان تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وابداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله ، والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها ثم قاتلها واذلها واخرجها من ديارهم وضرب عليها الجزية ، واخبر انها من اهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها وانها شر من الحمير ، بل هي شر الدواب عند الله.(1/27)
وكيف ينكر لامة اطبقت على صلب معبودها والهها ثم عمدت الى الصليب فعبدته وعظمته ، وكان ينبغي لها ان تحرق كل صليب تقدر لى احراقه ، وان تهينه غاية الاهانة اذ صلب عليه الهها الذي يقولون تارة : انه الله ، وتارة يقولون انه ابنه ، وتارة يقولون ثالث ثلاثة؟ فجحدت حق خالقها وكفرتت به اعظم كفر وسبته اقبح مسبة ، ات تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به.
وكيف يكثر على امة قالت في رب الارض والسموات انه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه ، فااراد ان يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته لترتفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته؟ فهبط بذاته من السماء ، والتحم في بطن مريم ، فاخذ منها حجاباً ، وهو مخلوق من طريق الجسم ، وخالق من طريق النفس ، وهو الذي خلق جسمه وخلق امه ، وامه كانت قبله بالناسوت ، وهو كان من قبلها باللاهوت ، وهو الاله التام ، والانسان التال ، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده انه رضي باراقة دمه عنهم على خشبة الصليب ، فمكن اعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فاخذوه وصلبونه وصفعوه وبصقوا في وجهه ، وتوجوه بتاج من الشوك على راسه وغار دمه في اصبعه لانه لو وقع منه شيء الى الارض ليب كلما كان على وجهها ، فثبت في موضع صلبه النوار.
ولما لم يكن في الحكمة الازلية ان ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه او استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب وسقوط منزلة العبد اراد سبحانه ان ينتصف من الانسان الذي هو اله مثله ، فانتصف من خطيئة ادم بصلب عيسى المسيح الذي هو اله مساو له في الالهية ، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة من يوم الجمعة.
هذه الفاظهم في كتبهم .(1/28)
فامة اطبقت على هذا في معبودها؟! كيف يكثر عليها ان تقول في عبده ورسوله انه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا؟ ولهذا قال بعض ملوك الهند : اما النصارى فان كان اعداؤهم من اهل الملل يجاهدونهم بالشرع فانا ارى جهادهم بالعقل ، وان كنا لا نرى قتال احد لكنى استثني هؤلاءالقوم من جميع لعالم ؟ لانهم قصدوا مضادة العقل وناصبون العداوة وشذوا عن جميع مصالح العالم الشرعية والعقلية الواضحة ، واعتقدوا كل مستحيل ممكناً ، وبنوا من ذلك شرعاً لا يؤدي الى صلاح نوع من انواع العالم ، ولكنه يصير العاقل اذا شرع به اخرق ، والرشيد سفيهاً ، والحسن قبيحاً ، والقبيح حسناً لان من كان في اصل عقيدته التي جرى نشؤه عليها الاساءة الى الخلاق والنيل منه ، وسبه اقبح مسبة ، ووصفه بما يغير صفاته الحسنى ، فاخلق به ان يستسهل الاساءة الى مخلوق ، وان يصفه بما يغير صفاته الجميلة ، فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم الا لعموم اضرارهم التي لا تحصى وجوهها كما يجب قبل الحيوان المؤذي بطبعه لكانوا اهلا لذلك أ. هـ.
والمقصود ان الذي اختاروا هذه المقالة في رب العالمين على تعظيمه تنزيهه واجلاله ووصفه بما يليق به ، هم الذين اختاروا عبادة صور خطوها بايديهم في الحيطان مزوقة بالاحمر والاصفر والازرق ، لو دنت منها الكلاب لبالت عليها ، واعطوها غاية الخضوع والذل والخشوع والبكاء وسالوها المغفرة والرحمة والرزق والنصر ، هم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل على الايمان به وتصديقه واتباعه ، الذين نزهوا بطارقتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد ونحلوهما للفرد الصمد... هم الذي انكروا نبوة عبده وخاتم رسله.
صلاة النصارى إستهزاء بالمعبود(1/29)
والذين اختاروا صلاة يقوم اعبدهم وازهدهم اليها ، والبول على ساقه وافخاذه فيستقبل الشرق ثم يصلب على وجهه ويعبد الاله المصلوب ، ويستفتح الصلاة بقوله : يا ابانا انت الذي في السموات تقدس اسمك وليات ملكك ولتكن ارادتك في السماء مثلها في الارض اعطنا خبزنا الملايم لنا.
ثم يحدث من هو الى جانبه ، وربما سال عن سعر الخمر والخنزير وعما كسب في القمار وعما طبخ في بيته ، وربما احدث وهو في صلاته ، ولو اراد لبال في موضعه ان امكنه ، ثم يدعو تلك الصورة الي هي صنعة يد الانسان.
فالذين اختاروا هذه الصلاة على صلاة من اذا قام الى صلاته طهر اطرافه وثيابه وبدنه من النجاسة ، واستقبل بيته الحرام ، وكبر الله وحمده وسبحه ، واثنى عليه بما هو اهله ، ثم ناجاه بكلامه المتضمن لافضل الثناء عليه وتحميده وتمجيده وتوحيده ، وافراده بالعبادة والاستعانة وسؤاله اجل مسئول وهو الهداية الى طريق رضاه التي خص بها من انعم الله عليه دون طريق الامتين : المغضوب عليهم وهم اليهود ، والضالين وهم النصارى ، ثم اعطى كل جارحة من الجوارح حظها من الخشوع والخضوع والعبودية مع غاية الثناء والتمجيد لله رب العالمين ، لا يلتفت عن معبوده بوجهه ولا قلبه ، ولا يكلم احداً كلمة ، بل قد فرغ قلبه لمعبوده واقبل عليه بقلبه ووجهه ، ولا يحدث في صلاته ، ولا يجعل بين عينيه صورة مصنوعة يدعوها ويتضرع اليها.
فالذين اختاروا تلك الصلاة التي هي في الحقيقة استهزاء بالمعبود لا يرضاها المخلوق لنفسه فضلا ان يرضى بها الخالق على هذه الصلاة التي لو عرضت على من له ادنى مسكة من عقل لظهر له التفاوت بينهما.
هم الذين اختاروا تكذيب رسوله وعبده على الايمان به وتصديقه.(1/30)
فالعاقل اذا وازن بين ما اختاروا ورغبوا فيه وبين ما رغبوا عنه تبين له ان القوم اختاروا الضلالة على الهدى والغي على الرشاد ، والقبيح على الحسن ، والباطل على الحق ، وانهم اختاروا من العقائد ابطلها ، ومن الاعمال اقبحها.
واطبق على ذلك اساقفهم وبتاركهم ورهبانهم فضلا عن عوامهم وسقطهم.
ولم يقل احد من المسلمين ان ما ذكرتم من صغير وكبير وذكر وانثى وحر وعبد وراهب وقسيس كلهم تبين له الهدى ، بل اكثرهم جهال بمنزلة الدواب السائمة ، معرضون عن طلب الهدى فضلاً عن تبينه لهم ، وهم مقلدون لرؤسائهم وكبرائهم وعلمائهم - وهم اقل القليل وهم الذين اختاروا الكفر على الايمان بعد تبين الهدى.
واي اشكال يقع للعقل في ذلك ؟ فلم يزل في الناس من يختار الباطل ، فمنهم من يختاره جهلا وتقليداً لمن يحسن الظن به ، ومنهم من يختاره مع علمه ببطلانه كبراً وعلواً ، ومنهم من يختاره طمعاً ورغبة في ماكل او جاه او رياسة، ومنهم من يختاره حسداً وبغياً ومنهم من يختاره محبة في صورة وعشقاً ، ومنهم من يختاره خشية ، ومنهم من يختاره راحة ودعة ، فلم تنحصر اسباب اختيار الكفر في حب الرياسة والمأكلة.
فصل
السؤال الثاني
واما المسالة الثانية وهو قولكم : هب انهم اختاروا الكفر لذلك فهلا اتبع الحق من لا رياسة له ولا ماكلة اما اختياراً واما قهراً؟.
فجوابه من وجوه احدها : انا قد بينا ان اكثر من ذكرتم قد امن بالرسول وصدقه اختياراً لااضطراراً واكثرهم اولو العقول والاحلام والعلوم ممن لا يحصيهم الا الله ، فرقعة الاسلام انما انتشرت في الشرق الغرب باسلام اكثر الطوائف ، دخلوا دين الله افواجاً حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار.(1/31)
وقد بينا ان الذين اسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين اكثر من الذين لم يسلموا ، وانه انما بقي منهم اقل القليل ، وقد دخل في دين الاسلام من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق كثير ، فهذا (ملك النصارى على اقليم الحبشة) في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما تبين له انه رسول الله امن به ودخل في دينه واوى اصحابه ومنعهم من اعدائهم ، وقصته اشهر من ان تذكر ولما مات اعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم اصحابه بالساعة التي توفى فيها وبينهما مسيرة شهر ، ثم خرج بهم الى المصلى وصلى عليه.
نبذة عن النجاشي ملك الحبشة ووفد مشركي قريش إليه
وروى الزهري عن ابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، عن ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما نزلنا ارض الحبشة جاورنا بها خير جار : النجاشي ، امنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا على ان يبعثوا الى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة ، وكان من اعجب ما يأتيه منها الادم فجمعوا له ادماً كثيراً ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً الا اهدوا له هدية ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ابي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص ، وامروهما امرهم ، وقالوا لهما ادفعا الى كل بطريق هديته قبل ان تكلما النجاشي فيهم ، ثم قدما الى النجاشي هداياه ، ثم سلاه ان يسلمهم اليكما قبل ان يكلمهم .
قالت : فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جوار ، فلم يبق من بطارقته بطريق الا دفعا اليه هديته قبل ان يكلما النجاشي.(1/32)
ثم قالا لكل بطريق انه قد صبا الى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم ، وقد بعثنا اليك فيهم اشراف قومهم من ابائهم واعمامهم وعشائرهم لتردهم اليهم ، فاذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بان يسلمهم الينا ولا يكلمهم ، فان قومهم على بهم عينا ، واعلم بما عابوا عليهم ، فقالوا : نعم.
ثم انهما قربا هداياهما ال النجاشي فقبلها منهما ، ثم كلماه فقالا له : ايها الملك انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انت ، وقد بعثنا اليك فيهم اشراف قومهم من ابائهم واعمامهم وعشائرهم لتردهم اليهم ، فهم اعلى بهم عينا ، واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه ، قالت : ولم يكن شيء ابغض الى بد اله ابن ابي ربيعة وعمرو بن العاص من ان يسمع النجاشي كلامهما ، فقالت بطارقته حوله صدقوا ايها الملك ، قومهم اعلى بهم عيناً واعلم بما عابوا عليهم فاسلمهم اليهما ليردوهما الى بلادهم وقومهم ، قالت : فغضب النجاشي ، ثم قال : والله لا اسلمهم اليهما ولا اكيد اقوام جاوروني ونزلوا ببلادي واختاروني على من سواي حتى ادعوهم فاسالهم ما يقول هذان في امرهم ، فان كانوا يقولان اسلمتهم ورددتهم الى قومهم وان كانوا على غير ذلك منعتهم منهما واحسنت جوارهم ما جاوروني.(1/33)
قالت : ثم ارسل الى اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل اذا جئتموه ، قالوا نقول والله ما علمنا وما امرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن ، فلما جاءوه - وقد دعا النجاشي اساقفته فنشروا مصاحفهم حوله - سالهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين احد من هذه الامم ؟ قالت : وكان الذي كلمه جعفر بن ابي طالب، فقال له : ايها الملك ! كنا قوما اهل جاهلية نعبد الاصنام ، وناكل الميتة، وناتي الفواحش ، ونقطع الارحام ، ونسيئ الجوار ، يأكل القوي منا الضغيف ، فكنا عل ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وامانته وعفافه ، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان ، وامرنا بصدق الحديث ، واداء الامانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور واكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وامرنا ان نعبد الله لا نشرك به شيئاً ، وامرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت : فعدد عليه امور الاسلام ، فصدقناه وامنا به واتبعناه على م جاء به فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئاً ، وحرمنا ما حرم علينا ، واحللنا ما احل لنا ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الاوثان من عبادة الله عز وجل وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ان لا نظم عندك ايها الملك.(1/34)
قالت : فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيئ ؟ قالت : فقال له جعفر: نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، فقرأ عليه صدراً من كهيعص قالت : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت اساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ، ثم قال النجاشي : ان هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقوا فوالله لا اسلمهم اليكما ابجداً ولا اكيد.
قالت ام سلمة : فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لاتينه غداً اعيبهم عنده بما استااصل به خضراؤهم ، قالت : فقال عبد الله بن ابي ربيعة وكان ابقى الرجلين فينا : لا تفعل فان لهم ارحاماً وان كانوا قد خالفونا ، قال : والله لاخبرنه انهم يزعمون ان عيسى بن مريم عبد ، قالت : ثم غدا عليه من الغد فقال له : ايها الملك انهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فارسل اليهم فاسالهم عما يقولون فيه ، قالت فارسل اليهم فسالهم عنه ، قالت ولم ينزل مثلها.
فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في عسى اذا سالكم عنه ، قالوا نقول والله فيه ما قال الله عز وجل به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر بن ابي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد اله ورسوله وروحه وكلمته التي القاها الى مريم العذراء البتول وروح منه ، فضرب النجاشي يده الى الارض فاخذ منها عوداً ثم قال ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا هالعود ، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال ، فقال : وان نخرتم ، وانخرتم والله ، اذهبوا فانتم سيوم بأرضي - والسيوم : الآمنون - من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، ما أحب ان لي دبر ذهب واني أذيت رجلا منكم - والدبر : بلسان الحبشة الجبل - ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة الي بها ، فوالله ما اخذ الله مني الرشوة حين رد على ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما اطاع الناس في فاطيعهم فيه.(1/35)
قالت : فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به ، واقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت فوالله انا لعلى ذلك اذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه ، قال فوالله ما علمنا خزناً قط كان اشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفاً ان يظهر على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.
قالت فسار النجاشي وبينهما عرض النيل فقال اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم حتى يأتينا بالخبر ؟ قالت فقال الزبير : أنا ، وكان من احدث القوم سنا ، قالت فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج الى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم ، قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فاستوثق له امر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان شهر ربيع الاول سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى النجاشي كتاباً يدعوه فيه الى الاسلام ، وبعث به مع عمرو بن امية الضمري ، فلما قرئ عليه الكتاب أسلم ، وقال : لو قدرت على ان آتيه لأتيته.
وكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يزوجه ام حبيبة بنت ابي سفيان واصدق عنه اربعمائة دينار ، وكان الذي تولى التزويد خالد بن سعيد بن العاص بن امية.
وكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يبعث اليه من بقي عنده من اصحابه ويحملهم ففعل، فقدموا المدينة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فشخصوا اليه فوجدوه قد فتح خيبر، فكلم رسول اله صلى الله عليه وسلم المسلمين ان يدخلوهم في سهامهم ففعلوا.
فهذا ملك النصارى قد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به واتبعه .
وكم مثله من هو دونه ممن هداه الله من النصارى قد دخل في الدين ، وهم اكثر باضعاف مضاعفة ممن اقام على النصرانية.(1/36)
قال ابن اسحاق : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً او قريباً من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة فوجدوه في المسجد ، فجلسوا اليه وكلموه وقبالتهم رجال من قريش في انديتهم حول الكعبة.
فلما فرغوا من مسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ارادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الله ، وتلا عليهم القرآن فلما سمعوه فاضت اعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوسف لهم في كتابهم من امره فلما قاموا عنه اعترضهم ابو جهل ابن هشام في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ؟ بعثكم من ورائكم من اهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتمون بما قال ؟! ما نعلم ركبا أحمق منكم ؟ او كما قالوا.
فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ولكم ما انتم ليه ، لم نأل من أنفسنا خيراً ، ويقال ان النفر من النصارى من اهل نجران، ويقال فيهم نزلت الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين وقال الزهري : ما زلت اسمع من علمائنا انهن نزلن في النجاشي واصحابه.
خبر وفد نصارى نجران(1/37)
قال ابن اسحاق: ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة ، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر ، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فاراد الناس منعهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم فستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم ، وكانوا ستين راكباً ، منهم أربعة وعشرون رجلاً من اشرافهم ، منهم ثلاثة نفر اليهم يؤول امرهم ، هم العاقب أمير القوم وذوو رايهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون الا عن رايه وامره ، واسمه عبد المسيح، والسيل عقالهم وصاحب رحلهم ومجمعهم.
وأبو حارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وامامهم وصاحب مدراسهم ، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم من اهل النصرانية قد شرفوه ومولوه واخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم .
فلما وجهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس ابو حارثة على بغلة متوجهاً الى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى جنبه اخ له يقال له كرز بن علقمة يسايره اذ عثرت بغلة ابي حارثة ، بل انت تعست.
فقال : ولم يا أخي ؟ فقال والله انه للنبي الذي كنا ننتظره ، فقال لك كرز فما يمنعك من اتباعه وانت تعلم هذا ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا واكرمونا وقد ابوا الا خلافه ، ولو فعت نزعوا منا كل ما ترى ، فاصر عليها اخوه كرز بن علقمة حتى اسلم بعد ذلك.
فهذا وامثاله من الذين منعتهم الرياسة والماكل من اختيار الهدى وآثروا دين قومهم .
واذا كان هذا حال الرؤساء المتبوعين الذين هم علماؤهم واحبارهم كان بقيتهم تبعاً لهم ، وليس بمستنكر ان تمنع الرياسة والمناصب والمآكل الرؤساء ويمنع الاتباع تقليدهم ، بل هذا هو الواقع والعقل لا يستشكله.
خبر عدي بن حاتم الطائي(1/38)
وكان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإسلام لما تبين لهم أنه الحق، الرئيس المطاع في قومه عدي بن حاتم الطائي ونحن نذكر قصته كما رواها الإمام أحمد و الترمذي و الحاكم وغيرهم.
قال عدي بن حاتم : أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم -وجئت بغير أمان ولا كتاب- فلما رفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، قال: فقام لي، فلقيه امرأة وصبي معها فقالا إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله سوى الله قال: قلت لا ، ثم تكلم ساعة، ثم قال: ما يفرك أن يقال الله تعالى أكبر وتعلم أن شيئاً أكبر من الله ؟ قال: قلت لا.
قال: فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضلال قال: قلت فإني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه ينبسط فرحاً، قال: ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار جعلت أغشاه آتيه طرفي النهار، قال فبينا أنا عنده عشية إذ جاءه في ثياب من الصوف من هذه الثمار.
قال: فصلى وقام فحث عليهم.
ثم قال: ولو بصاع ، ولو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، بقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار ولو بتمرة ولو بشق تمرة، فإن أحدكم لاقي الله وقائل له ما أقول لكم، ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ؟ فيقول : بلى ، فيقول: ألم أجعل لك مالاً وولداً ؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك ؟! فينظر قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله ثم لا يجد شيئاً يقي وجهه حر جهنم، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى لتسير الظعينة، فيما بين يثرب والحيرة أكثر ما يخاف على مطيتها السرق، قال فجعلت أقول في نفسي فأين لصوص طي.(1/39)
وكان عدي مطاعاً في قومه بحيث يأخذ المرباع من غنائمهم.
وقال حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين: قال: قالأبو عبيدة بن حذيفة قال عدي بن حاتم: بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- فكرهته أشد ما كرهت شيئاً قط، فخرجت حتى أتيت أقصى أرض العرب مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول، فقلت لو أتيته فسمعت منه، فأتيت المدينة فاستشرفني الناس، وقالوا جاء عدي بن حاتم الطائي ! جاء عدي بن حاتم الطائي ! فقال: يا عدي بن حاتم الطائي أسلم تسلم فقلت إني على دين، قال: أنا أعلم بدينك منك قلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال: نعم، قال هذا ثلاثا، قال: ألست ركوسياً ، قلت: بلى، قال: ألست ترأس قومك ؟ ، قلت: بلى، قال: ألست تأخذ المرباع، قلت بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك قال فوجدت بها على غضاضة، ثم قال: العلى أن يمنعك أن تسلم أن ترى عندنا خصاصة، وترى الناس علينا ألباً واحداً، هل رأيت الحيرة ؟ قلت لم أرها وقد علمت مكانها، قال: فإن الظعينة سترحل من الحيرة تطوف بالبيت بغير جوار، وليفتحن.
الله علينا كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: كنوز كسرى بن هرمز، وليفيض المال حتى يهتم الرجل من يقبل منه صدقته قال فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت أول خيل أغارت على المدائن، ووالله لتكونن الثالثة أنه حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
خبر سلمان الفارسي
وقد كان سلمان الفارسي من اعلم النصارى بدينهم ، وكان قد تيقن خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقدم لمدينة قبل مبعثه ، فلما رآه عرف انه هو النبي الذي بشر به الميح فآمن به واتبعه ، ونحن نسوق قصته.
قال ابن اسحاق : حدثني عاصم ، عن محمود ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال حدثني سلمان الفارسي من فيه ، قال كنت رجلاً فارسياً من اهل أصبهان من قرية يقال لها جي.(1/40)
وكان ابي دهقان قريته ، وكنت حب خلق الله اليه لم يزل حبه اياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي توقدها لا نتركها تخبو ساعة.
وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوماً .
فقال : يا بني اني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب اليها فاطلعها ، وامرني فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي : ولا تحتبس عني فانك ان احتبست عني كنت اهم الي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيئ من أمري.
فخرجت اريد ضيعته التي بعثني اليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي اياي في بيته فلما سمعت أصواتهم ، دخلت عليهم انظر ما يصنعون ، فما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في امرهم ، وقلت هذا والله خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعته فلم آتها ، ثم قلت لهم : اين اصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام.
فرجعت الى ابي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : يا بني اين كنت؟ الم اكن عهدت اليك ما عهدت ؟ قلت : يا أبت مررت باناس يصلون في كنيسة لهم فاعجبني ما رايت من دينهم فوالله ما زلت حتى غربت الشمس ، قال : أي بني ! ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ، فقلت له : كلا والله انه لخير من ديننا.(1/41)
فخافني فجعل في رجلي قيداً حبسني في بيته ، وبعثت الى النصارى فقلت لهم : اذا قدم عليكم ركب من الشام فاخبروني بهم ، فقدم عليهم تجار من النصارى فاخبروني ، فقلت لهم : اذا قضوا حوائجهم وارادوا الرجعة الى بلادهم فآذنوني بهم ، قال : فلما ارادوا الرجعة اخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل الدين علماً ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة ، فجئته فقلت له : اني قد رغبت في هذا الدين ، واحببت ان اكون معك فاخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك ، قال : ادخل ، فدخلت معه.
فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم يها فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق.
فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ، ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنون فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً .
فقالوا لي : وما علمك بذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه ، فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً ، فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبداً ، فصلبوه ورموه بالحجارة !!.
وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلاً يصلي - أرى - أنه أفضل منه ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه ، فأحببته حباً لم أحبه شيئاً قبله ، فأقمت معه زماناً ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إني قد كنت معك وأحببتك حباً لم أحبه أحداً قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى .
فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني؟ فقال : أي بني واله ما أعلم أحداً على ما كنت عليه ، ولقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه.(1/42)
فما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني؟ قال : يا بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه ، فأقمت مع خير رجل ، فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضر قلت له : يا فلان إن فلاناً أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني؟ فقال : يا بني ! والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم ، فاكتسبت حتى كانت لي بقيرات وغنيمة ، ثم نزل به أمر الله ، فلما حضر قلت له : يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصي بي ؟ وبم تأمرني ؟ قال : يا بني والله ما أعلمه أثبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه .
ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب ، مهاجره إلى أرض بين حرتين ، بينهما نخل ، به علامات لا تخفى : يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ، ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.(1/43)
ثم مر بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم : احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقيراتي هذه وغنيماتي هذه ، قالوا نعم ، فأعطيتهم فحملوني معهم ، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي فكنت عنده ، فرأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي ، فبينما أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل سيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال : يا فلان قاتل الله بني قليلة والله إنهم الآن لمجتمعون معنا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي ، فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت إني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ما تقل ؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ، ثم قال : مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك ! فقلت : لا شئ إنما أردت أن استبثه عما قال ، وقد كان عندي شئ جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقبا فدخلت عليه ، فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شئ كان عندي للصدقة فلرأيتكم أحق به من غيركم ، فقربته إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كلوا وأمسك فلم يأكل ، فقلت في نفسي هذه واحدة .
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئاً.(1/44)
وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به ، فقلت : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي هاتان اثنتان ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعلى شملتان لي وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أأنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شئ وصف لي ، فألقى الرداء عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد ، قال سلمان ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينوا أخاكم فأعونوني بالنخل : الرجل بثلاثين ودية ، والرجل بعشرين ودية ، والرجل بخمسة عشر ، والرجل بعشر ، يعينني الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فإنني أكن أنا أضعها بيدي ففقرت ، وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته.(1/45)
فخرج معي إليها ، فجعلن نقرب إليه الودى ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي على المالي ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال : ما فعل الفارسي المكاتب فدعيت له فقال : خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان فقلت : وأين تقع يا رسول الله مما علي ؟ قال : خذها فإن الله سيؤدي بها فأخذتها فوزنت منها لهم والذي نفسي بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم ، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.
اعتراف هرقل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم
وكان ملك الشام - أحد أكابر عملائهم بالنصرانية - (هرقل) قد عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً ، وعزم الإسلام فأبى عليه عباد الصليب ، فخافهم عل نفسه ، وضن بمله - مع علمه - أنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته - ونحن نسوق قصته.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ، أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه ، قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فبينا أنا بالشام إذ جئ بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، فقال هرقل : هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا نعم ، قال فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، فدعا بترجمانه فقال : قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه .
فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت.
ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قال قلت : هو فينا ذو حسب قال : فهل كان من آبائه من ملك قلت : لا .(1/46)
قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا ، قال : ومن اتبعه ، أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قال قلت : لا قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت نعم ، قال فكيف كان قتالكم إياه ؟ قال قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه، قال : فهل يغدر ؟ قلت لا ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها ، قال : فواله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه ، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت لا.
قال لترجمانه : قال له إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك هل كن آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت يطلب ملك آبائه ، وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد رفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على اله عز وجل ، وسألتك هل يرتد أحد مهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له ؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم .
وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة .
وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو قال هذا القول أحد من قبله قلت رجل إئتم بقول قيل قبله .
ثم قال : فبم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف.(1/47)
قال : إن يكن ما تقول حقاً إنه لنبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ، فلما قرأه فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا ، ثم أذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع فقال : يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن تثبت مملكتكم فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرته وأيس من الإيمان : قال : ردوهم علي ، فقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ، وقد رأيب ، فسجدوا له رضوا عنه.
فهذا ملك الروم - وكان من علمائهم أيضا عرف وأقر أنه نبي وأنه سيملك ما تحت قدميه وأحب الدخول في الإسلام فدعى قومه إليه فولوا عنه معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ومنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورياسته ، ومنع أشباه الخمير ما منع الأمم قبلهم.
إسلام النجاشي ملك نصارى الحبشة(1/48)
ولما عرف النجاشي ملك الحبشة أن عباد الصليب لا يخرجون عن عبادة الصليب إلى عبادة الله وحده أسلم سراً ، وكان يكتم إسلامه بينهم هو وأهل بيته ولا يمكنه مجاهرتهم ، ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه مكانه يدعوه إلى الإسلام ، فقال له عمرو : يا أصحمة ! على القول وعليك الاستماع : إنك كأنك في الرقة علينا منا وكأنا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه ، ولم نخفك على شئ قط إلى أمناه ، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك ، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد ، وقاض لا يجور ، وفي ذلك موقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم ، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف وأجر منتظر.
فقال النجاشي : أشهد بالله أنه لنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة زكريا براكب الحمار كبشارة أشعياء براكب الجمل ، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر.
قال الواقدي : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة .
اسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيب والحصينة ، حملت بعيسى خلقه من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله إليك ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وقد بلغت ونصحت فقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى ... فكتب إليه النجاشي : بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة ، سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو .(1/49)
أما بعد فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى ، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً ، إنه كما ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثت به إينا ، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد إنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.
والتفروق علامة تكون بين النواة والتمرة.
اعتراف المقوقس ملك النصارى بمصر بالنبي -صلى الله عليه وسلم-
وكذلك ملك دين النصرانية بمصر (المقوقس) عرف أنه نبي صادق ، ولكن منعه من أتباعه ملكه وأن عباد الصليب لا يتركون عبادة الصليب.
ونحن نسوق حديثه وقصته ، قال الواقدي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم القبط يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وختم الكتاب.
فخرج به حاطب حتى قدم عليه الاسكندرية ، فانتهى إلى حاجبه فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال حاطب للمقوقس لما لقيه : إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك.
قال : هات ، قال : إن لنا يناً لم ندعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد.(1/50)
وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل نبي أدرك قوماً فهم أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممن أدرك هذا النبي ، ولسنا ننهاك عن ين المسيح ولكنا نأمرك به .
فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فرأيته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى ن مرغوب عنه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة من إخراج الخبء والإخبار بالنجوى ووصف لحاطب أشياء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : القبط لا يطاوعونني في اتباعه ، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك ، وأنا أضن بملكي أن أفارقه ، وسيظهر على بلادي وينزل بساحتي هذه أصحابه من بعده ، فارجع إلى صاحبك.
وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له ، ثم دعا كتاباً له يكتب بالعربية فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمد ابن عبد الله ، من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك ، أما بعد .
فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعو إليه وقد علمت أن نبياً بقي ، وكنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها ، والسلام عليك ، ولم يزد.
والجاريتان : مارية وسيرين ، والبغلة : دلدل ، وبقيت إلى زمن معاوية .
قال حاطب فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ضن الخبيث بملكه ، ولا بقاء لملكه .
إسلام حيفر وعبيد ابني الجلندي من ملوك النصارى
وكذلك ابنا الجلندي ملكا عمان وما حولها من ملوك النصارى أسلما طوعاً واختياراً ، ونحن نذكر قصتهما وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما ، وهذا لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى حيفر وعبيد ابني الجلندي ، سلام على من اتبع الهدى ... ( أما بعد) .(1/51)
فإني أدعوكما بداعية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما مكانكما ، وإن أبيتما أن قرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتي على ملككما .
وختم الكتاب وبعث به مععمرو بن العاص.
قال عمرو : فخرجت حى انتهيت إلى عمان ، فلما قدمتها انتهيت إلى عبيد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقاً ، فقلت : إني رسول الله إليك وإلى أخيك ، فقال أخي المقدم على بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ، ثم قال لي : وما تدعو إليه ، قلت أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وتخلع ما عبد من عبد من دونه ، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال : يا عمرو إنك سيد قومك فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قدوة ؟ قلت: مات ولم يؤمن بمحمد وودت أنه كان أسلم وصدق به ، وكنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام.
قال : فمتى تبعته؟ قلت : قريبا ، فسألني أين كان إسلامي ؟ فقلت عند النجاشي وأخبرته أن النجاشي قد أسلم .
قال : فكيف صنع قومه بملكه ؟ قلت : أقروه.
قال : والأساقفة والرهبان ؟ قلت : نعم.
قال : انظر يا عمرو ما تقول إنه ليس خصلة في رجل أفضح له من كذب.
قلت : ما كذبت وما نستحله في ديننا ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت : بلى.
قال : بأي شئ علمت ذلك ؟ قلت : كان النجاشي يخرج له خراجاً فلما أسلم وصدق بمحمد قال لا والله لو سألني درهماً واحداً ما أعطيته ، فبلغ هرقل قوله ، فقال له نياق أخوه : اتدع عبدك لا يخرج لك خراجاً ويدين ديناً محدثاً ؟ قال هرقل : رجل يرغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به ، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع.
قال : انظر ما تقول يا عمرو ؟ قلت : والله لقد صدقتك.(1/52)
قال : عبيد : فأخبرني ما الذي يأ/ر به وينهى عنه ؟ قلت : يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، عن عبادة الحجر والوثن والصليب.
فقال : ما أحسن هذا الذي هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير دينا.
قلت : إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم .
قال : إن هذا لخلق حسن ، وما الصدقة ؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل.
فقال : يا عمرو ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه ؟ فقلت : نعم ، فقال : واله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا.
قال : فمكثت ببابه أياماً وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري .
ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعى فقال : دعوه ، فأرسلت ، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس ، فنظرت إليه فقال : تكلم بحاجتك ، فدفعت إليه الكتاب مختوماً ففض خاتمه فقرأه حتى انتهى إلى آخره ، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته إلا أني رأيت أخاه أرق منه ، ثم قال : ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت ؟ فقلت : اتبعوه إما راغب في الإسلام وإما مقهور بالسيف.
قال : ومن معه ؟ قلت : الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال ، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الحرجة ، وإن أنت لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ويبيد خضراءك ، فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال .
قال : دعني يومي هذا وارجع إلى غداً.
فرجعت إلى أخيه فقال : يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه .(1/53)
حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي فانصرفت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه فأوصلني إليه، فقال : إني فكرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلاً ما في يدي وهو لا يبلغ خيله ههنا ، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى ، قلت : وأنا خارج غداً ، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، خلا به أخوه فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، فأصبح فأرسل إلى فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم ، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عوناً على من خالفني.
خبر هوذة بن علي الحنفي
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي ، سلام على من اتبع الهدى ، وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافز ، فألم تسلم ، أجعل لك ما تحت يدك .
وكان عنده أركون دمشق - عظيم من عظماء النصارى - فسأله عن النبيصلى الله عليه وسلم؟ وقال : قد جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام .
فقال له الأركون : لم لا تجيبه ؟ فقال : ضننت بديني وأنا ملك قومي إن اتبعته لم أملك ، قال : بلى والله لئن اتبعته ليمكنك وإن الخيرة لك في اتباعه ، وإنه للنبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم ، والله إنه لمكتوب عندنا في الإنجيل.
خبر الحارث بن أبي شمر
وذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر وهو بغوطة دمشق ، فكتب إليه مرجعه من الحديبية.
بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر ، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق ، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبقى لك ملكك وختم الكتاب.(1/54)
فخرج به شجاع بن وهب ، قال فانتهيت إلى حاجبه فوجدته يومئذ وهو مشغول بتهيئة الإنزال والإلطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيليا حيث كشف الله عنه جنود فارس شكراً لله عز وجل، قال فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، فقلت لحاجبه : إني رسول رسول الله إليه ، فقال حاجبه : لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا ، وجعل حاجبه ، وكان رومياً اسمه مرى ، يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء ، ويقول إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه فكنت أراه يخرج بالشام فإذا بي أراه قد خرج بأرض العرب ، فأنا أؤمن به وأصدقه وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني .
قال شجاع : فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي ، ويخبرني عن الحارث باليأس منه، ويقول هو يخاف قيصر ، قال : فخرج الحارث يوماً وجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، وقال : من ينتزع مني ملكي ؟! أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته ، علي بالناس ، فلم يزل جالساً حتى الليل ، وأمر بالخيل أن تنعل ، ثم قال أخبر صاحبك ما ترى ، وكتب إلى قيصر يخبره خبري فصادف قيصر بإيليا وعنده دحية الكلبي قد بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما قرأ قيصر كتاب الحار كتب إليه أن لا تسر إليه وتلهى نه وافني بإيليا .
قال ورجع الكتاب وأنا مقيم ، فدعاني وقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك ؟ قلت : غداً ، فأمر لي بمائة مثقال ذهباً ، ووصلني (مرى) بنفقة وكسوة ، وقال : اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وأخبره أنب متبع دينه ، قال شجاع: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال باد ملكه وأقرأته من مري السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق .(1/55)
ونحن إنما ذكرنا بعض ملوك الطوائف الذي آمنوا به وأكابر علمائهم وعظمائهم ولا يمكننا حصر من عداهم جمهور أهل الأرض ، ولم يتخلف متابعته إلا الأقلون ، وهم: إما مسالم له قد رضي بالذلة والجزية والهوان ، وإما خائف منه فأهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلمون له ، ومسالمون له ، وخائفون منه.
خبر إسلام عبد الله بن سلام من علماء اليهود
ولو لم يسلم من اليهود في زمنه إلا سيدهم على الإطلاق وابن سيدهم وعالمهم وابن عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم : عبد الله بن سلام ، لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض، فكيف وقد تابعه على الإسلام من الأحبار والرهبان من لا يحصى عددهم إلا الله.
ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام ، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك ، قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فقالوا : جاء نبي الله ن فاستشرقوا ينظرون ، إذ سمع به عبد اله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم فيها فجاء وهي معه، فسمع من نبي الل صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله ، فلما خلي نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام ، فقال أشهد أنك نبي الله حقاً وأنك جئت بالحق ، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم ، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.(1/56)
فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه ، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم يا معشر اليهود ويلكم ! اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً ، وأني جئتكم بحق ، أسلموا ، قالوا : ما نعلمه ، فأعادها عليهم ثلاثاً وهم يجيبونه كذلك ، قال : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : أفرأيتم إن أسلم؟ ، قالوا حاش لله ما كان ليسلم ، فقال : يا ابن سلام أخرج عليهم قال : فخرج عليهم فقال : يا معشر اليهود ويلكم ، اتقوا الله ! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقاً ، وأنه جاء بالحق ، فقالوا كذبت ، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم.(1/57)
وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث حميد عن أنس ، قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ ، قال : أخبرني بهن جبريل آنفاً ، قال : جبريل ؟ قال : نعم ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، قال ثم قرأ هذه الآية : من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني ، فجاءت اليهود إليه ، فقال : أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا خيرنا وابن خيرنا ، سيدنا ، وابن سيدنا ، قال : ؟ أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام قالوا أعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، قالوا : شرنا وابن شرنا . وانتقصوه ، قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.(1/58)
وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن يحيى بن عبد الله ، عن رجل من آل عبد الله بن سلام ، قال كان من حديث عبد الله بن سلام حيث أسلم ، وكان حبراً عالماً ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيأته والذي كنا نتوكف له ، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلما قدم نزل معنا في بني عمرو بن عوف ، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أ'مل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة ، فلما سمعت الخبر بقدومه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كبرت ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري : لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت.
قال ، قلت لها : أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به ، فقالت : يا ابن أخي أهو النبي الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال قلت لها : نعم ، قالت : فذاك إذن ، قال : ثم خرجت إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا ، وكتمت إسلامي من اليهود ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن اليهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم ثم تسألهم عني كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي ؟ فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني.
قال فأدخلني بعض بيوته ، فدخلوا عليه فكلموه وسألوه ، فقال لهم : أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا ، قال : فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم ، فقلت لهم : يا معشر اليهود ! اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة اسمه وصفته ، فإني أشهد أنه رسول الله ، وأؤمن به وأصدقه وأعرفه.(1/59)
قالوا: كذبت ، ثم وقعوا في ، فقلت : يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور ؟! قال فأظهرت إسلامي وأسلم أهل بيتي، وأسلمت عمتي ابنة الحارث فحسن إسلامها.
وفي مسند الامام أحمد وغيره عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وانجفل الناس قبله ، فقالوا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجئت في الناس لأنظر إلى وجهه ، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كاذب ، فكان أول شئ سمعته منه أن قال : يا أيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام .
فعلماء القوم وأحبارهم كلهم كانوا كما قال الله عز وجل الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فمنهم من آثر الله ورسوله والدار الآخرة ، ومنهم من آثر الدنيا وأطاع داعي الحسد والكبر.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري ، قال : كان بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثان تعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها ، فأقبل عليهم قومهم وعلى تلك الأوثان فهدموها ، وعمد أبو ياسر ابن أخطب أخو حيي ابن أخطب وهو أبو صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فسمع منه وحادثه ، ثم رجع إلى قومه وذلك قبل أن تصرف القبلة نحو المسجد الحرام فقال أبو ياسر : يا قوم أطيعوني فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون ، فاتبعوه ولا تخالفوه.
فانطلق أخوه حيي حين سمع ذلك - وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النضير فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه وسمع منه ، فرجع إلى قومه وكان فيه مطاعا ، فقال أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدواً أبداً ، فقال له أخوه أبو ياسر : يا ابن أمي أطعني في هذا الأمر ثم اعصني فيما شئت بعده لئلا تهلك ، قال: لا والله لا أطيعك واستحوذ عليه الشيطان فاتبعه قومه على رأيه !.(1/60)
وذكر ابن اسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عمن حدثه عن صفية بنت حيي أنها قالت: لم يكن من ولد أبي وعمى أحد أحب إليهما مني لم ألقهما في ولد قط إلا أخذاني دونه ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبا نزل في بني عمرو بن عوف ، فغدا إليه أبي وعمي أبو ياسر ابن أخب مغلسين ، فوالله ما جاءا إلا مع مغيب الشمس ، فجاءا فاترين كسلين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلي واحد منهما ، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم والله ، قال : تعرفه بنعته وصفته ؟ قال : نعم والله ، قال : فماذا في نفسك منه ، قال : عداوته والله ما بقيت.
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن شعية ، وأسد بن شعية، وأسيد بن عبيد ، ومن أسلم من اليهود ، وآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، قال من كفر من اليهود: ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين .
السؤال الثالث
وأما السؤال الثالث وهو : قال السائل : مشهور عندكم في الكتاب والسنة أن نبيكم كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل لكنهم محوه عنهما لسبب الرياسة والمأكلة ، والعقل يستشكل ذلك ، أفكلهم اتفقوا على محو اسمه من الكتب المنزلة من ربهم شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً ؟! هذا أمر يستشكله العقل أعظم من نفيهم بألسنتهم لأنه يمكن الرجوع عما قالوا بألسنتهم والرجوع عما محوا أبعد.(1/61)
والجواب: إن هذا السؤال مبني على فهم فاسد ، وهو أن المسلمين يعتقدون أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم الصريح وهو محمد بالعربية مذكور في التوراة والإنجيل - وهما الكتابان المتضمنان لشريعتين - وأن المسلمين عتقدون : ان اليهود والنصارى في جميع اقطار الأرض محوا ذلك الاسم وأسقطوه جملة من الكتابين وتواصوا بذلك بعداً وقرباً وشرقاً وغرباً.
وهذا لم يقله عالم من علماء المسلمين ولا أخبر الله سبحانه به في كتابه عنهم ، ولا رسوله ولا بكتهم به يوماً من الدهر ، ولا قاله أحد من الصحابة ، ولا الأئمة بعدهم ، ولا علماء التفسير، ولا المعتنون بأخبار الأمم وتواريخهم .
وإن قدر أنه قاله بعض عوام المسلمين يقصد به نصر الرسول فقد قيل : يضر الصديق الجاهل أكثر مما يضر العدو العاقل.
وإنما أتى هؤلاء من قلة (فهمهم ل) القرآن، وظنوا أن قوله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، دل على الاسم الخاص بالعربية في التوراة والإنجيل المخصوصين وأن ذلك لم يوجد البتة.
والحق ... أن الرب سبحانه : انما أخبر عن كون رسوله مكتوباً عندهم أي الإخبار عنه وصفته ومخرجه ونعته ، ولم يخبر بأن صريح اسمه العربي مذكور عندهم في التوراة والإنجيل ، وهذا واقع في الكتابين كما سنذكر ألفاظهما إن شاء اله ، وهذا أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فإن الاشتراك د يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز ، ولا يشاء أحد يسمى بهذا الاسم أن يدعى به بيان ولا تعريف ولا هدى، بخلاف ذكره بنعته صفته وعلاماته ودعوته وصفة أمته ووقت مخرجه ونحو ذلك فإن هذا يعينه ويميزه ويحصر نوعه في شخصه.(1/62)
وهذا القدر مذكور في التوراة والإنجيل وغيرها من النبوات التي بأيدي أهل الكتاب كما سنذكرها ، ويدل عليه وجوه: الوجه الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على تصديقه واتباعه إياه وإقامة الحجة على من خالفه وجحد نبوته ، ولا سيما أهل العلم والكتاب، فإن الاستدلال عليهم بما يعلمون بطلانه قطعاً لا يفعله عاقل ، وهو بمنزلة من يقول لرجل علامة صدقي أنك فلان بن فلان ، وصنعتكم كيت وكيت، وتعرف بكيت وكيت ، ولم يكن الأمر كذلك بل بضده ، فهذا لا يصدر ممن له مسكة عقل ، ولا يصدقه أحد على ذلك ، ولا يتبعه أحد على ذلك ، بل ينفر العقلاء كلهم عن تصديقه واتباعه، والعادة تحيل سكوتهم عن الطعن عليه والرد والتهجين لقوله ،ومن المعلوم بالضرورة أن محمداً بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه نادى معلناً في هاتين الأمتين اللتين هما أعلم المم في الأرض قبل مبعهث بأن ذكره ونعته وصفته بعينه عندهم ف كتبهم وهو يتلو ذلك عليهم ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهاراً ، في كل مجمع ، وفي كل ناد يدعوهم بذلك إلى تصديقه والإيمان به.
فمنهم من يصدق ويؤمن به ، ويخبر بما في كتبهم من نعته وصفته وذكره كما سيمر بك إن شاء الله ، وغاية المكذب الجاحد أن يقول هذا النعت والوصف حق ولكن لست أنت المراد به بل نبي آخر، وهذا غاية ما يمكنه من المكابرة ، ولم تجد عليه هذه المكابرة إلا كشفه عورته وإبدائه الفضيحة بالذب والبهتان ، فالصفات والنعوت والعلامات الم1كورة عندهم منطبقة عليه حذو القذة بالقذة بحيث لا يشك من عرفها ورآه أنه هو كما عرفه قيصر وسلمان بتلك العلامات المذكورات التي كانت عنده من بعض علمائه وكذك هرقل عرف نبوته بما وصف له من العلامات التي سأل عنها أبا سفيان فطابقت ما عنده ، فقال : إن يكن ما تقول حقاً فإنه نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين .
وكذلك من قدمنا ذكرهم من الأحبار والرهبان الذين عرفوه بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم.(1/63)
قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومعلوم أن هذه المعرفة إنما هي بالنعت والصفة المكتوبة عندهم التي هي منطبقة عليه ، كما قال بعض المؤمنين منهم : واله لحدنا أعرف به من ابنه ، إن أحدنا ليخرج من عند امرأته وما يدري ما يحدث بعده.
ولهذا أثنى الله سبحانه على من عرف الحق منهم ولم يستكبر عن اتباعه فقال : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم .
ذكر وفد أصحاب النجاشي
قال ابن عباس : حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي النجاشي وقرءوا القرآن سمع ذلك القسيسون والرهبان فانحدرت دموعهم ما عرفوا من الحق ، فقال الله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون .
وقال سعيد بن جبير : بعث النجاشي من خيار أصحابه ثمانين رجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن فبكوا ورقوا ، وقالوا نعرف والله ، فأسلموا وذهبوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم، فأنزل الله فيهم: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآيات .
وقال السدي: كانوا اثنى عشر رجلا سبعة من القسيسين وخمسسة من الرهبان فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بكوا وقالوا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .(1/64)
قال ابن عباس : هم محمد وأمته ، وهم القوم الصالحون الذين طمعوا أن يدخلهم الله فيهم ، والمقصود أن هؤلاء الذي عرفوا أنه رسول الله بالنعت الذي عندهم لم يملكوا أعنيهم من البكاء وقلوبهم من المبادرة إلى الإيمان ، ونظير هذا قوله سبحانه : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .
قال إمام التفسير مجاهد : هم قوم من أهل الكتاب لما سمعوا القرآن خروا سجداً وقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا .
كان الله عز وجل قد وعد على ألسنة أنبيائه ورسله أن يبعث في أخر الزمان نبياً عظيم الشأن يظهر دينه على الدين له ، وتنتشر دعوته في أقطار الرض ، وعلى رأس أمته تقوم الساعة وأهل الكتابين مجمعون على أن الله وعدهم بهذا النبي ، فالسعداء منهم عرفوا الحق فآمنوا به واتبعوه ، والأشقياء قالوا نحن ننتظره ولم يبعث بعد رسولا ، فالسعداء لما سمعوا القرآن من الرسول عرفوا أنه النبي الموعود به فخروا سجداً لله أيماناً به وبرسول وتصديقاً بوعده الذي أنجزه فرأوه عياناً فقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا .
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران
وذكر يونس بن بكير عن لمة بن عبد يسوع عن أبه عن جده قال يونس ، وكان نصرانياً فأسلم ، أن رسول اله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجرا : بسم إله إبراهيم وأسحاق ويعقوب ، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران (سلم أنتم) إني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، (أما بعد) فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب .
والسلام .(1/65)
فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به ، وذعر ذعراً شديداً ، فبعث إلى رجل من أهل عمان يقال له شرحبيل بن وداعة وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إلى معضلة قبله فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه ، فقال الأسقف : ما رأيك يا أبا مريم ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما نأمن من أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، لو كان أمر من الدنيا أشرت عليك فيه برأي وجهدت لك فقال الأسقف تنح فاجلس ، فتنحى ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل ، فأمره الأسقف فتنحى.
ثم بعث إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه ، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله ، فأمره الأسقف فتنحى ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح بالصوامع ، وكذلك كانا يفعلون إذا فزعوا بالنهار ، وإذا كان فزعهم ليلاً ضرب بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع ، فاجتمع أهل الوادي أعلاه وأسفله وطوله مسيرة يوم للراكب السريع وفيه ثلاثة وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل ، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه ، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/66)
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبة وخواتيم الذهب ، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام ، وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً فلم يكلمهم وعيهم تلك الحلل والخواتيم الذهب ، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم كانا يبعثان العير إلى نجران في الجاهلية فيشترون لهما من برها وتمرها فوجدوهما في ناس من المهتجرين والأنصار في مجلس ، فقالوا : يا عثمان ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، فتصدينا لكلامه نهراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا ، فما الرأي منكما، أنعود أم نرجع إليه ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهن ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه ، ففعل وفد نجران ذلك .
ووضعوا حللهم وخواتيمهم ، ثم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم ، ثم قال : والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم .
ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى فانا نحب ان نعلم ما تقول فيه ، فانزل الله عز وجل إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين فأبوا أن يقروا بذلك .(1/67)
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره إلى الملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فاقل شرحبيل لصاحبيه يا عبد الله بن شرحبيل ويا جبار بن فيض لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا مقبلاً ، واله لئن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه في أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حتى يصيبا بجائحة وإنا لأدنى العرب منهم جواراً ، ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك ، فقال له صاحباه : فما الرأي ي أبا مريم ؟ فقد وضعتك الأمور على ذراع فهات رأيك ، فقال : رأيي أن أحكمه ، فإني أرى الرجل لا يحكم شططاً أبداً ، فقالا له أنت وذاك.
فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك ، فقال : وما هو ؟ قال شرحبيل حكمتك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعل وراءك أحداً يثرب عليك ؟ ، فقال له شرحبيل سل صاحبي ، فسألهما فقالا ما نرد الموارد ولا نصدر المصادر إلا عن رأي شرحبيل.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم ، حتى إذا كان الغد أتون فكتب لهم كتاب صلح وموادعة ، فقبضوا كتابهم وانصرفوا إلى نجران.(1/68)
فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة من نجران ، ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له أبو علقمة ، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأسقف ، فبينما هو يقرؤه أبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت بأبي علقمة ناقته فتعس غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الأسقف عند ذلك : قد والله تعست نبياً مرسلاً ، فقال له أبو علقمة : لا جرم والله لا أحل عنها عقداً حتى آتيه ، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثنيى الأسقف ناقته عليه ، فقال له : افهم عني ، إنما قلت هذا مخافة أن يبلغ عني العرب أنا أخذتنا حمقة أو نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب ونحن أعزهم وأجمعهم داراً.
فقال له أبو علقمة : والله لا أقيلك ما خرج من رأسك أبداً ، ثم ضرب ناقته يقول : إليك تعدو قلقاً وضينها معترضاً في بطنها جنينها مخالفاً دين النصارى دينها حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه حتى استشهد بعد ذلك.
مجمل الأدلة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب القديمة
وإذا عرف هذا فالعلم بأنه صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب المتقدمة يعرف من وجوه متعددة.
أحدها: أخبار من قد ثبتت بنوته قطعاً با،ه مذكور عندهم في كتبهم ، فقد أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه فيجب تصديقه فيه ، إذ تكذيبه والحالة هذه ممتنع لذاته ، هذا لو لم يعلم ذلك إلا من مجرد خبره فكيف إذا تطابقت الأدلة على صحة ما أخبر به .
الوجه الثاني : أنه جعل الإخبار به من أعظم أدلة صدقه وصحة نبوته ، وهذا يستحيل أن يصدر إلا من واثق كل الوثوق بذلك وأنه على يقين جازم به.
الثالث: أن المؤمنين به من الحبار والرهبان الذي آثروا الحق على البالط صدقوه في ذلك وشهدوا له بما قال.(1/69)
الرابع: أن المكذبين والجاحدين لنبوته لم يمكنهم إنكار البشارة والإخبار بنبوة نبي عظيم الشأن صفته كذا وكذا وصفة أمته مخرجه وشأنه ، لكن جحدوا أن يكون هو الذي وقعت به البشارة وأنه نبي آخر غيره ، وعلموا هم والمؤمنون به من قومهم أنهم ركبوا متن المكابرة وامتطوا قارب البهت.
الخامس : أن كثيراً منهم صرح لخاصته وبطانته بأنه هو بعينه ، وأنه عازم على عداوته ما بقي ، كما تقدم.
السادس : أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مذكور في كتبهم هو فرد من أفراد إخباراته بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم وقومهم وما جرى لهم وقصص النبياء المتقدمين وأممهم وشأن المبدأ والمعاد وغير ذلك مما أخبرت به الأنبياء ، وكل ذلك مما يعلمون صدقه فيه ومطابقته لما عندهم ، وتلك الإخبارات أكثر من أن تحصى ، ولم يكذبون يوماً واحداً في شئ منها ، وكانوا أحرص شئ على أن يظفروا منه بكذبة واحدة أو غلطة أو سهو فينادون بها عليه ، ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه ، فلم يقل أحد منهم يوماً من الدهر أنه أخبر بكذا وكذا في كتبنا وهو كاذب فيه بل كانوا يصدقونه في ذلك وهم مصرون على عدم اتباعه ، وهذا من أعظم الأدلة على صدقه فيما أخبر به لو لم يعلم إلا بمجرد خبره.
السابع : أنه أخبر بهذا لأعدائه من المشركين الذين لا كتاب عندهم وأخبر به لأعدائه من أهل الكتاب وأخبر به لأتباعه ، فلو كان هذا باطلا لا صحة له ، لكان ذلك تسليطاً للمشركين أن يسألوا أهل الكتاب فينكرون ذلك وتسليطاً لأهل الكتاب على الإنكار وتسليطاً لأتباعه على الرجوع عنه والتكذيب له بعد تصديقه ، وذلك ينقض الغرض المقصود بإخباره من كل وجه ، وهذا لا يصدر من عاقل ولا مجنون، فهذه الوجوه يعلم بها صدق ما أخبر به وإن لم يعلم وجوده من ير جهة إخباره ، فكيف وقد علم وجود ما أخبر به؟(1/70)
الثامن : أنه لو قدر أ،هم لم يعلموا بشارة الأنبياء به وإخبارهم بنعته وصفته لم يلزم أن لا يكونوا ذكروه وأخبروا به وبشروا بنبوته إذ ليس كل ما قاله الأنبياء المتقدمون وصل إلى المتأخرين وأحاطوا به علما وهذا مما يعلم بالاضطرار ، فكم من قول قد قاله موسى وعيسى ولا علم لليهود والنصارى به ، فإذا أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه لم يكن جهلهم به موجباً لرده وتكذيبه.
التاسع : أنه يمكن أن يكون في نسخ غير هذه النسخ التي بأيديهم فأزيل من بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه.
وقولهم إن نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض وغربها كذب ظاهر ، فهذه التوراة التي بأيدي السامرة تخالف هذه وهذه ، وهذه نسخ الإنجيل يخالف بعضها بعضاً ويناقضه .
فدعواهم : أن نسخ التوارة والإنجيل متفقة شرقاً وغرباً من البهت والكذب الذي يروجونه على أشباه الأنعام ، وان هذه التوارة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان م لا يخفى لى الراسخين في العلم ، وهم يعلمون قطعاً أن ذلك ليس في التوارة التي أنزلها الله لعى موسى ، وأن هذه الأناجيل التي بأيدي النصارى فيها من الزيادة والتحريف والنقصان ما لا يخفى على الراسخين في العلم .
وهم يعلمون قطعا أن ذلك ليس في الإنجيلالذي أنزله الله عل المسيح ، وكيف يكون في التوارة قصة موت موسى ودفنه في أرض موآب ؟ وكيف يكون في الإنجيل الذي أنزل على المسيح قصة صلبه وما جرى له ، وأنه أصابه كذا وكذا ، وصلب يوم كذا وكذا ، وأنه قام من القبر بعد ثلاث ، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى ، وغايته أن يكون من كلام الحواريين خلطوه بالإنجيل وسموا الجميع إنجيلاً ، وكذلك كانت الأناجيل عندهم أربعة يخالف بعضها بعضاً.(1/71)
ومن بهتهم وكذبهم قولهم : أن التوارة التي بأيديهم وأيدي اليهود والسامرة سواء والنصارى لا يقرون أن الإنجيل منزل من عند الله على المسيح وأنه كلام الله : بل كل فرقهم مجمعون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة ولا يعرفون عن الإنجيل غير هذا : إنجيل ألفه (متى) تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح وكتب بالعبرانية في بلد يهود بالشام.
وإنجيل ألفه مرقس الهاروني تلميذ شمعون بعد ثلاث وعشرين سنة من رفع المسيح ، وكتبه باليونانية في بلاد أنطاكية من بلاد الروم ، ويقولون أن شمعون المذكور هو ألفه ثم محى اسمه من أوله ونسب لى تلميذه مرقس.
وإنجيل ألفه (يوحنا) تلميذ المسيح بع ما رفع المسيح ببضع وستين سنة ، كتبه باليونانية.
وكل واحد من هذه الأربعة يسمونه الإنجيل ، وبينها من التفاوت والزيادة والنقصان ما يعلمه الواقف عليها ، وبين توراة السامرة واليهود والنصارى من ذلك ما يعلمه من وقف عليها.
فدعوى الكاذب الباهت أن نسخ التوراة والإنجيل متفقة شراً وغرباً بعداً وقرباً من أعظم الفرية والكذب ، وقد ذكر غير واحد من علماء الإسلام ما بينها من التفاوت والزيادة والنقصان والتناقض لمن أراد الوقوف عليه ولولا الإطالة وقصد ما هو اهم منه لذكرنا منه طرفاً كبيراً.(1/72)
وقد وبخهم الله سبحانه وبكتهم على لسان رسوله بالتحريف والكتمان والإخفاء ، فقال تعالى : يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ وقال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، وقال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، وقال تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .
وأما التحريف : فقد أخبر سبحانه عنهم في مواضع متعددة ، وكذلك لي اللسان بالكتاب ليحسبه السامع منه وما هو منه .
فهذه خمسة أمور:
أحدها : لبس الحق بالباطل وهو خلطه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل.
الثاني : كتمان الحق.
الثالث : إخفاؤه وهو قريب من كتمانه.
الرابع : تحريف الكلم عن مواضعه ، وهو نوعان : تحريف لفظه وتحريف معناه.
الخامس : لي اللسان به ليلبس على السامع اللفظ المنزل بغيره وهذه الأمور إنما ارتكبوها لأغراض لهم دعته إلى ذلك .
فإذا عادوا الرسول وجحدوا نبوته وكذبوه وقاتلوه فهم إلى أن يجحدوا نعته وصفته ويكتموا ذلك ويزيلوه عن مواضعه ويتأولوه على غير تأويله أقرب بكثير ، وهكذا فعلوا ، لكن لكثرة البشارات وتهوعها غلبوا عن كتمانها وإخفائها فصاروا إلى تحريف التأويل وإزالة معناها عمن لا تصلح لغيره ، وجعلها لمعدوم لم يخلقه الله ولا وجود له البتة.(1/73)
العاشر : أنه استشهد على صحة نبوته بعلماء أهل الكتاب ، وقد شهد له عدولهم فلا يقدح جحد الكفرة الكاذبين المعاندين بعد ذلك ، قال تعالى : ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب .
وقال تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
وقال تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب .
وقال تعالى : ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .
وقال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون .
وإذا شهد واحد من هؤلاء لم يوزن به ملء الأرض من الكفرة ، ولا تعارض شهادته بجحود ملء الأرض من الكفار ، كيف والشاهد له من علماء أهل الكتاب أضعاف أضعاف المكذبين له منهم؟ وليس كل من قال من أشباه الحمير من عباد الصليب وأمة الغب : إنه من علمائهم فهو كذلك وإذا كان أكثر من يظن عوام المسلمين أنه من علمائهم ليس كذلك فما الظن بغيرهم؟ وعلماء أهل الكتاب إن لم يدخل فيهم من لم يعمل بعلمه فليس علماؤهم إلا من آمن به وصدقه، وإن دخل فيهم من علم ولم يعمل كعلماء السوء لم يكن إنكارهم لنبوته قادحاً في شهادة العلماء العاملين بعلمهم.(1/74)
الحادي عشر : أنه لو قدر أنه لا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته ولا صفته ولا علامته في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب اليوم لم يلزم من ذلك أن لا يكون مذكوراً في الكتب التي كانت بأيدي أسلافهم وقت متعثه ولا تكون اتصلت على وجهها إلى هؤلاء ، بل حرفها أوئك وبدلوا وكتموا ، وتواصوا وكتبوا ما أرادوا ، وقالوا هذا من عند الله ، ثم اشتهرت تلك الكتب وتناقلها خلفهم عن سلفهم ، فصارتالمغيرة المبدلة هي المشهورة والصحيحة بينهم خفية جداً ولا سبيل إلى العلم لاستحالة ذلك ، بل هو في غاية الإمكان ، فهؤلاء السامرة غيروا مواضع من التوراة ثم اشتهرت النسخ المغيرة عند جميعهم فلا يعرفون سواها وهجرت بينهم الصحيحة بالكلية ، وكذلك التوراة التي بأيدي النصارى ، وهكذا تبدل الأديان والكتب ولولا أن الله سبحانه تولى حفظ القرآن بنفسه وضمن للأمة أن لا تجتمع على ضلالة لأصابه ما أصاب الكتب قبله ، قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
الثاني عشر : أنه من الممتنع أن تخلو الكتب المتقدمة عن الإخبار بهذا الأمر العظيم الذي لم يطرق العالم من حين خلق إلى قيام الساعة أمر أعظم منه ولا شأن أكبر منه ، فإنه قلب العالم وطبق مشارق الأرض ومغاربها ، واستمر على العالم على تعاقب القرون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ومثل هذا النبأ العظيم لا بد أن تتطابق الرسل على الإخبار به.
وإذا كان الدجال رجل كاذب يخرج في آخر الزمان وبقاؤه في الأرض أربعين يوماً قد تطابقت الرسل على الإخبار به وأنذر به كل نبي قومه من نوح إلى خاتم الرسل فكيف تتطابق الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها على السكوت عن الإخبار بهذاالأمر العظيم الذي لم يطرق العالم أمر أعظم منه ولا يطرقه أبداً.(1/75)
هذا ما لا يسوغه عقل عاقل وتأباه حكمة أحكم الحاكمين ، بل المر بضد ذلك ، وما بعث الله سبحانه نبيا إلا أخذ عليه الميثاق بالإيمان بمحمد وتصديقه ، كما قال تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ، قال ابن عباس : ما بعث الله من نبي إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتابعنه.
فصل نص بعض النبوءات عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة
فهذه الوجوه على تقدير عدم العلم بوجود نعته وصفته الخبر عنه في الكتب المتقدمة ونحن نذكر بعض ما ورد فيها من البشارة به ونعته وصفته وصفة أمته ، وذلك يظهر من وجوه:
فصل
نصوص من التوراة
(الوجه الأول) : قوه تعالى في التوارة سأقيم لبني أسرائيل نبياً من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه.
فهذا النص مما لا يمكن أحداً منهم جحده وإنكاره : ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق : أحدها حمله على المسيح وهذه طريقة النصارى ، وأما اليهود فلهم فيه ثلاثة طرق :
أحدها أنه على حذف أداة الاستفهام ، والتقدير أقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم أي لا أفعل هذا ، فهو استفهام إنكار حذفت منه أداة الاستفهام.
الثاني أنه خبر ووعد ولكن المراد به شمويل النبي فإنه من بني إسرائيل ، والبشارة إنما وقعت ببني من إخوتهم ، وإخوة القوم ثم بنو أبيهم ، وهم بنو إسرائيل.
الثالث أنه نبي يبعثه الله في آخر الزمان يقيم به ملك اليهود ويعلو به شأنهم وهم ينتظرونه إلى الآن.(1/76)
وقال المسلمون : البشارة صريحة في النبي صلى الله عليه وسلم العربي الأمي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لا يحتمل غيره ، فإنها إنما وقعت ببني من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل نفسهم ، والمسيح من بني إسرائيل ، فلو كان المراد بها هو المسيح لقال أقيم لهم نبياً من أنفسهم ، كما قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، وأخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ، ولا يعقل في لغة أمة من الأمم أن بني إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل ، كما ، إخوة زيد لا يدخل فيهم زيد نفسه.
وأيضا فإنه قال نبي مثلك وهذا يدل على أنه صاحب شريعة عامة مثل موسى ، وهذا يبطل حمله على شمويل من هذا الوجه أيضاً ، ويبطل حمله على يوشع من ثلاثة أوجه:
أحدها أنه من بني إسرائيل لا من إخوتهم ، الثاني أنه لم يكن مثل موسى ، وفي التوارة: لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى ، الثالث أن يوشعنبي في زمن موسى ، وهذا الوعد إنما هو ببني بقيمه الله بعد موسى.
وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل حمله على هارون ، مع أن هارون توفى قبل موسى ، ونبأه الله مع موسى في حياته ، ويبطل ذلك من وجه رابع أيضاً وهو : أن في هذه البشارة أنه ينزل عليه كتاباً يظهر للناس من فيه وهذا لم يكن لأحد بعد موسى غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من علامات نبوته التي أخبرت بها الأنبياء المتقدمون ، قال تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين * وإنه لفي زبر الأولين * أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل .(1/77)
فالقرآن نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر للأمة من فيه ، ولا يصح حمل هذه البشارة على قلب المسيح باتفاق النصارى لأنها إنما جاءت بواحد من إخوة بني إسرائيل ، وبنو إسرائيل وإخوتهم كلهم عبيد ليس فيهم إله ، والمسيح عندهم إله معبود ، وهو أجل عندهم من أن يكون من إخوة العبيد ، والبشارة وقعت بعبد مخلوق يقيمه الله من جملة عبيده وأخوتهم ، وغايته أن يكون نبياً لا غاية له فوقها وهذا ليس هو المسيح عند النصارى.
وأما قول المحرفين لكلام الله : إن ذلك على حذف ألف الاستفهام وهو استفهام إنكار والمعنى لا أقيم لبني إسرائيل نبياً .
فتلك عادة لهم معروفة في تحريف كلام الله عن مواضعه والكذب على الله ، وقولهم لما يبدلونه ويحرفونه هذا من عند الله .
وحمل هذا الكلام على الاستفهام والإنكار غاية ما يكون من التحريف والتبديل ، وهذا التحريف والتبديل من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها عن الله من تحريفهم وتبديلهم ، فأظهر الله صدقه في ذلك لكل ذي لب وعقل ، فازداد إيماناً إلى إيمانه ، وازداد الكافرون رجساً إلى رجسهم.
(الوجه الثاني) : قال في التوراة في (السفر الخامس) : أقبل الله من سيناء ، وتجلى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، ومعه ربوات الأطهار عن يمينه وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة : نبوة موسى ، ونبوة عيسى ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمجيئه من سينا وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى ونبأه عليه إخبار عن نبوته ، وتجليه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت المقدس.
وساعير : قرية معروفة هناك إلى اليوم ، وهذه بشارة بنبوة المسيح.(1/78)
وفاران : هي مكة ، وشبه سبحانه نبوة موسى بمجئ الصباح ، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ، ونبوة خاتم الأنبياء بعدهما باستعلاء الشمس وظهور ضوءها في الآفاق ، ووقع الأمر كما أخبر به سواء ، فإن الله سبحانه صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته ، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح ، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم.
وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين فذكر أمكنة هؤلاء الأنبياء وأرضهم التي خرجوا منها ، والتين والزيتون : والمراد بهما منبتهما وأرضهما وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح ، وطور سينين الذي كلم الله عليه موسى فهو مظهر نبوته ، و هذا البلد الأمين : مكة حرم الله وأمنه التي هي مظهر نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم.
فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة سواء قالت اليهود فاران هي أرض الشام وليست أرض الحجاز أم لم تقل .
وليس هذا ببدع من بهتهم وتحريفهم فعندهم في التوراة : إن إسماعيل لما فارق أباه سكن في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر.(1/79)
ولا يشك علماء أهل الكتاب أن فاران مسكن لآل اسماعيل ، فقد تضمنت التوراة نبوة تنزل بأرض فاران ، وتضمنت نبوة تنزل على عظيم من ولد إسماعيل ، وتضمنت انتشار أمته وأتباعه حتى يملأوا السهل والجبل كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، ولم يبق بعد هذا شبهة أصلاً في أن هذه هي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي تزلت بفاران على أشرف ولد اسماعيل حتى ملأت الأرض ضياء ونوراً وملأ أتباعه السهل والجبل ، ولا يكثر على الشعب الذي نطقت التوراة بأنهم عادموا الرأي والفطانة أن ينقسموا إلى جاهل بذلك وجاحد مكابر معاند ، ولفظ التوراة فيهم : إنهم لشعب عادم الرأي ، وليس فيهم فطانة ، ويقال لهؤلاء المكابرين : أي نبوة خرجت من الشام فاستعلت استعلاء ضياء الشمس، وظهرت فوق ظهور النبوتين قبلها ؟! وهل هذا إلا بمنزلة مكابرة من يرى الشمس قد طلعت من المشرق فيغالط ويكابر ويقول بل طلعت من المغرب !!.
)الوجه الثالث): قال في التوراة في (السفر الأول): إن الملك ظهر لهاجر أم اسماعيل ، فقال : يا هاجر من أي اقبلت ؟ والى أين تريدين ؟ فلما شرحت له الحال قال : ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة ، وها أنت تحبلين وتلدين ابناً اسمه اسماعيل لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك وولدك يكون وحش الناس وتكون يده على الكل ويد الكل مبسوطة إليه بالخضوع.
وهذه بشارة تضمنت أن يد ابنها على يد كل الخلائق ، وأن كلمته العليا وأن أيدي الخلق تحت يده ، فمن هذا الذي ينطبق عليه هذا الوصف سوى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟!.
وكذلك في السفر الأول من التوراة: أن الله قال لإبراهيم إني جاعل ابنك إسماعيل لأمة عظيمة إذ هو من زرعك وهذه بشارة بمن جعل من ولده لأمة عقيمة ، وليس هو سوى محمد بن عبد الله الذي هو من صميم ولده ، فإنه جعل لأمة عظيمة.(1/80)
ومن تدبر هذه البشارة جزم بأن المراد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن اسماعيل لم تكن يده فوق يد اسحاق قط، وكانت يد اسحاق مبسوطة اليه بالخضوع ، وكيف يكون ذلك وقد كانت النبوة والملك في اسرائيل وعيسى ، وهما ابنا اسحاق.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقلت النبوة إلى ولد اسماعيل ودانت له الأمم وخضعت له الملوك وجعل خلافة الملك إلى أهل بيته إلى آخر الدهر وصارت أيديهم فوق أيدي الجميع مبسوطة إليهم بالخضوع.
وكذلك في التوراة في (السفر الأول) : إن الله تعالى قال لإبراهيم إن في هذا العام يولد لك ولد اسمه اسحاق ، فقال إبراهيم ليت إسماعيل هذا يحيى بين يديك يمجدك ، فقال الله تعالى قد استجبت لك في إسماعيل وإني أباركه وأنمه وأعظمه جداً بما قد استجبت فيه ، وإني أصيره إلى أمة كثيرة وأعطيه شعباً جليلاً.
والمراد بهذا كله الخارج من نسله ، فإنه هو الذي عظمه الله جداً جداً وصيره إلى أمة كثيرة وأعطاه شعباً جليلاً ، ولم يأت من صلب إسماعيل من بورك وعظم وانطبقت عليه هذه العلامات غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمته ملأوا الآفاق وأربوا في الكثرة على نسل إسحاق.
)الوجه الرابع) : قال في التوراة في )السفر الخامس) : قال موسى لبني إسرائيل لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين ، فسيقيم لكم الرب نبياً من إخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي ولا يجوز أن يكون هذا النبي الموعود به من أنفس بني إسرائيل لما تقدم أن أخوة القوم ليسوا أنفسهم ، كما يقول بكر وتغلب ابنا وائل ، ثم يقول تغلب أخوة بكر وبنو بكر أخوة بني تغلب ، فلو قلت : أخوة بني بكر بنو بكر كان محالاً ، ولو قلت لرجل أتيني برجل من أخوة بني بكر بن وائل لكان الواجب أن يأتيك برجل من بني تغلب بن وائل لا بواحد من بني بكر.
فصل نصوص من الإنجيل(1/81)
(الوجه الخامس) : ما في الإنجيل إن المسيح قال للحواريين : إني ذاهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق ، لا يتكلم من قبل نفسه ، إنما هو كما يقال له ، وهو يشهد على وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس ، وكل شئ أعده الله لكم يخبركم به.
فصل
نصوص خاصة بكلمة فارقليط
وفي إنجيل يوحنا : الفار قليط لا يجيئكم ما لم أذهب ، وإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة ، ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه مما يسمع به ، ويكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب.
وفي موضع آخر : إني سائل له أن يبعث إليكم فار قليطا أخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شئ.
وفي موضع آخر : ابن البشر ذاهب والفار قليط من بعده يجئ لكم بالأسرار ويفسر لكم كل شئ وهو يشهد لي كما شهدت له فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل .
قال أبو محمد بن قتيبة : وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة وإنما اختلفت لن من نقلها عن المسيح صلى الله عليه وسلم في الإنجيل من الحواريين عدة والفار قليط بلغتهم لفظ من ألفاظ الحمد ، إما أ،مد أو محمد أو محمود أو حامد أو نحو ذلك ، وهو في الإنجيل الحبشي : برنعطيس.
وفي موضع آخر : إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطاً آخر يثبت معكم إلى الأبد ويتكلم بروح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاماً إني سآتيكم عن قريب.
وفي موضع آخر : ومن يحبني نحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتحد المنزل ، كلمتكم بهذا لأني لسب عندكم مقيماً ، والفار قليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شئ ، وهو يذكركم كل ما قلته لكم ، استودعتكم سلامي ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم ، لو كنت تحبوني كنتم تفرحون ، فإن ثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدون.
وفي موضع آخر : إذا جاء الفار قليط الذي أبي يرسله روح الحق الذي أبي يشهد لي ، قلت لكم حتى إذا كان تؤمنون ولا تشكون فيه.(1/82)
وفي موضع آخر : إن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون عمله ، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب.
قال يوحنا : قال المسيح : إن أركون العالم سيأتي وليس له في شئ.
قال متى قال المسيح : ألم تروا أن الحجر الذي أخره البناؤون صار أساً للزاوية من عند الله ، كان هذا وهو عيب في أعيننا ، ومن أجل ذلك أقول لكم أن ملكوت الله سيؤخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى تعطي ثماره ، ومن سقط على هذا الحجر ينشدخ ، وكل من سقط هو عليه يمحقه.
(في معنى كلمة الفار قليط) وقد اختلف في الفار قليط في لغتهم فذكروا فيه أقوالاً ترجع إلى ثلاثة: أحدها أنه الحامد والحماد أو الحمد كما تقدم ، ورججت طائفة هذا القول ، وقال الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم أنه الحمد .
والدليل عليه قول يوشع: من عمل حسنة يكون له فار قليط جيد.
أي حمد جيد.
والقول الثاني : وعليه أكثر النصارى أنه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص ، قالوا وهذه كلمة سريانية ومعناها المخلص ، قالوا : وهو بالسريانية فاروق فجعل (فارق) ، قالوا و(ليط) كلمة تزاد ، ومعناها كمعنى قول العرب : رجل هو ، وحجر هو ، وفرس هو .
قالوا : فكذلك معنى (ليط) في السريانية.
وقالت طائفة أخرى من النصارى : معناه بالسريانية المعزي قالوا وكذلك هو في اللسان اليوناني .
ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم يكن لغته سريانية لا يونانيةبل عبرانية ، وأجيب عن هذا بأنه يتكلم بالعبرانية ، والإنجيل إنما نزل باللغة العبرانية وترجم عنه بلغة السريانية والرومية واليونانية وغيرهما، وأكثر النصارى على أنه المخلص ، والمسيح نفسه يسمونه المخلص ، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال : إنما أتيت لأخلص العالم والنصارى يقولون ي صلاتهم : لقد ولدت لنا مخلصاً.(1/83)
ولما لم يمكن النصارى إنكار هذه النصوص حرفوها أنواعاً من التحريف ، فمنهم من قال : هو روح نزلت عل الحواريين ، ومنهم من قال : هو السن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا بها الآيات والعجائب ، ومنهم من يزعم أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوماً وكونه قام من قبره ، ومنهم من قال لا يعرف ما المراد بهذا الفار قليط ولا يتحقق لنا معناه.
ومن تأمل ألفاظ الإنجيل وسياقها علم أن تفسيره بالروح باطل ، وأبطل منه تفسيره بالألسن النارية ، وابطل منهما تفسيره بالمسيح ، فإن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده وليست موصوفة بهذه الصفات وقد قال تعالى : لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت لما كان يهجو المشركين : اللهم أيده بروح القدس .
وقال : إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه .
وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فار قليطاً علم أن الفار قليط أمر غير هذا.
وأيضاً فمثل هذه الروح لا زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون وما بشر به المسيح ووعد به أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا.
وأيضاً فإنه وصف الفار قليط بصفات لا تناسب هذا الروح وإنما تناب رجلاً يأتي بعده نظيراً له ، فإنه قال : إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطاً آخر يثبت معكم إل الأبد فقوله فار قليطاً آخر دل على أنه ثان لأول كان قبله ، وأنه لم يكن معهم في حية المسيح وإنما يكون بعد ذهابه وتوليه عنهم.(1/84)
وأيضاً فإنه قال : يثبت معكم إلى البد وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته بقاء شرعه وأمره ، والفار قليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى البد ، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف الأول ، وهذا إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً فإنه أخبر أن هذا الفار قليط الذي أخبر به ويشه له ويعلمهم كل شئ وأنه يذكر لهم كل ما قال المسيح وأنه يوبخ العالم على خطيئته فقال : والقار قليط الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شئ وهو يذكركم كل ما قلت لكم ، وقال إذا جاء الفار قليط الذي أبي يرسله هو يشهد أني قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنون به ، ولا تشكوا فيه ، وقال أن خيراً لكم أن أنطلق إلى أبي ، إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط ، فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فهو يوبخ العالم على الخطيئة ، فإنه لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوم لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذ جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب.
فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على أمر معنوي في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه .
ونما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه ، فيشهد للمسيح ، ويعلمهم كل شئ ، ويذكرهم بكل ما قال لهم المسيح ، ويوبخ العالم على الخطيئة ، ويرشد الناس إلى جميع الحق ، ولا ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ، ويخبرهم بكل ما يأتي ، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين وهذا لا يكون ملكاً لا يراه أحد ولا يكون هدى وعلماً في قلب بعض الناس.(1/85)
ولا يكون إلا إنساناً عظيم القدر يخاطب بما أخبر به المسيح ، وهذا لا يكون إلا بشراً رسولاً ، بل يكون أعظم من المسيح ، فإن المسيح أخبر أنه يقدر على ما لا يقدر عليه المسيح ، ويعلم ما لا يعلمه المسيح ، ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحق الرب حيث قال : إن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله ولكنكم لا تستطيعون حمله ، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إل جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب.
فلا يستريب عاقل أن هذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن الإخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات وعن ملائكته وعن ملكوته وعما أعده في الجنة لأوليائه وفي النار لأعدائه أمر لا تحتمل عقول أكثر الناس معرفته على التفصيل .
قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
وقال بان مسعود : ما من رجل يحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن قال : ما يؤمنك أن لو أخبرتك بها لكفرت .
يعني لو اخبرتك بتفسيرها لكفرت بها وكفرك بها تكذيب بها.
فقال لهم المسيح : إن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله وهو الصادق المصدوق في هذا ، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات اله تعالى وصفات ملكوته وصفات اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة ، مع أن موسى صلى الله عليه وسلم كان قد سهل الأمر للمسيح ، ومع هذا فقد قال لهم المسيح: إن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله.(1/86)
ثم قال : ولكن إذا جاء روح الحق فذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، وإنه يخبركم بكل ما يأتي ، وبجميع ما للرب فدل هذا على أن الفار قليط هو الذي يفعل هذا دون المسيح وكذلك كان فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة ، ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق نبي يأتي بعده غيره ، وأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما يأتي من أشراط الساعة والقيامة والحساب والصراط ووزن الأعمال ، والجنة وأنواع نعيمها ، والنار وأنواع عذابها، ولهذا كان في القرآن تفصيل أمر الآخرة وذكر الجنة والنار وما يأتي أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل ، وذلك تصديق قول المسيح أنه يخبر بكل ما يأتي ، وذلك يتضمن صدق المسيح وصدق محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا معنى قوله تعالى : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون * بل جاء بالحق وصدق المرسلين .
أي : مجيئه تصديق للرسل قلبه ، فإنهم أخبروا بمجيئه فجاء كما أخبروا به ، فتضمن مجيئه تصديقهم ، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه ، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله بين يدي الساعة كما قال : بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وكان إذا ذكر الساعة علا صوته واحمر وجهه واشتد غضبه ، وقال : أنا النذير العريان .
فأخبر من الأمور التي تأتي في المستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء كما نعته به المسيح حيث قال : أنه يخبركم بكل ما يأتي ولا يوجد مثل هذا أصلاً عن أحد من الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يوجد عن شئ نزل على قلب بعض الحواريين.(1/87)
وأيضاً فإنه قال : ويعرفكم جميع ما للرب فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات وما له من الحقوق وما يجب من الإيمان به وملائكة وكتبه ورسله بحيث يكون يأتي به جامعاً لما يستحقه الرب، وهذا لم يأت به غير محمد-صلى الله عليه وسلم- فإنه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة.
وأيضاً فإن المسيح قال: إذا جاء الفارقليط الذي يرسله أبي فهو يشهد لي، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به، فأخبر أنه أشهد له، وهذه صفة نبي بشر به المسيح ويشهد للمسيح، كما قال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .
وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة، وهذا يستحيل حمله على معنى يوم بقلب الحواريين فإنهم آمنوا به وشهدوا له قبل ذهابه فكيف يقول إذا جاء فإنه يشهد لي ويوصيهم بالإيمان به ؟ أفترى الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح فهذا من أعظم جهل النصارى وضلالهم.
وأيضاً فإنه لم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد-صلى الله عليه وسلم-، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان ولم يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل وبخهم وفزعهم وتهددهم.
وأيضاً فإنه أخبر أنه ليس ينطلق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع.(1/88)
وهذا إخبار بأن كل ما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئاً تعلمه من الناس أو عرفه باستنباط، وهذه خاصة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما المسيح فكان عنده علم بما جاء به موسى قبله يشاركه به أهل الكتاب تلقاه عمن قبله، ثم جاءه وحي خاص من الله فوق ما كان عنده، قال تعالى: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل فأخبر سبحانه أنه يعلمه التوراة التي تعلمها بنو إسرائيل، وزاده تعليم الإنجيل الذي اختص به، والكتاب الذي هو الكتابة ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعلم قبل الوحي شيئاً ألبتة، كما قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .
وقال تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ، فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- ينطق من تلقاء نفسه بل إنما كان ينطق بالوحي كما قال تعالى: وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى أي ما نطقه إلا وحي يوحى، وهذا مطابق لقول المسيح أنه لا يتكلم من تلقاء نفسه بل إنما يتكلم بما يوحى إليه، الله تعالى أمره أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له العصمة في تبليغ رسالاته، فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق وألقى للناس ما لم يكن غيره من الأنبياء إلقاه خوفاً أن يقتله قومه، وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده، وأنهم لا يطيقون حمله وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- أيده الله سبحانه تأييداً لم يؤيده لغيره، فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره، وأيد أمته تأييداً أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم، فلم يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح: إن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكن لا تستطيعون حمله .(1/89)
ولا ريب أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل عقولاً وأعظم إيماناً وأتم تصديقاً وجهاداً، ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم.
وأيضاً فإنه أخبر عن الفارقليط أنه سيشهد له، وأنه يعلمهم كل شيء، وأنه يذكرهم كل ما قال المسيح، ومعلوم أن هذه الشهادة لا تكون إلا إذا شهد له شهادة يسمعها الناس لا تكون هذه الشهادة في قلب طائفة قليلة، ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد-صلى الله عليه وسلم-، فإنه أظهر أمر المسيح وشهد له بالحق حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض، وعلموا أنه صدق المسيح ونزهه عما افترته عليه اليهود وما غلت فيه النصارى، فهو الذي شهد له بالحق.
ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد -صلى الله عليه وسلم- للمسيح قال لهم: ما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود.
وجعل الله أمة محمد-صلى الله عليه وسلم-: شهداء على الناس شهدوا عليهم بما علموا من الحق، إذ كانوا وسطاً عدولاً لا يشهدون بباطل، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلاً، بخلاف من جار في شهادته فزاد على الحق أو نقص منه كشهادة اليهود للنصارى في المسيح.
وأيضاً فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد أو الحماد أو المحمود أو الحمد، فهذا الوصف ظاهر في محمد-صلى الله عليه وسلم-، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال، وهو صاحب لواء الحمد، والحمد مفتاح خطبته ومفتاح صلاته، ولما كان حماداً سمى بمثل وصفه فهو محمد على وزن: مكرم ومعظم ومقدس، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره ويستحق ذلك، فلما كان حماداً لله كان محمداً، وفي شعر حسان :-
أغر عليه للنبوة خاتم من الله ميمون يلوح ويشهد
وضم الإله إسم النبي إلى إسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من إسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد(1/90)
وأما أحمد فهو أفعل التفضيل، أي هو أحمد من غيره أي أحق بأن يكون محموداً أكثر من غيره، يقال: هذا أحمد من هذا، أي هذا أحق بأن يحمده من هذا، فيكون تفضيل على غيره في كونه محموداً.
فلفظ محمد يقتضي زيادة في الكمية، ولفظ أحمد يقتضي زيادة في الكيفية.
ومن الناس من يقول: معناه أنه أكثر حمداً لله من غيره وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد، وعلى الأول بمعنى المحمود.
وأن كان الفارقليط بمعنى الحمد فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد، كما يقال: رجل عدل ورضى ونظائر ذلك، وبهذا يظهر سر ما أخبر به القرآن عن المسيح من قوله: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد) فإن هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم.
وفي التوراة ما ترجمته بالعربية: وأما في إسماعيل فقد قلبت دعاك ها أنا قد باركت فيه وأثمره وأكبره بماد ماد هكذا هذه اللفظة بماد ماد، وقد اختلف فيها علماء أهل الكتاب فطائفة يقولون معناها (جداً جداً) أي (كثيراً كثيراً) فإن كان هذا معناها فهو بشارة بمن عظم من بنيه كثيراً كثيراً، ومعلوم أنه لم يعظم من بنيه أكثر مما عظم من محمد-صلى الله عليه وسلم-.
وقالت طائفة أخرى: بل هي صريح إسم (محمد)، قالوا ويدل عليه أن ألفاظ العبرانية قريبة من ألفاظ العربية فهي أقرب اللغات إلى العربية، فإنهم يقولون لإسماعيل شماعيل وسمعتك شمعتين، وإياه أوثو، وقدسك قد شيخا، وأنت أنا وإسرائيل، فتأمل قوله في التوراة قدس لي خل بخور خل ريخم بني سرائيل باذام ويبيمالي، معناه: قدس لي كل بكر كل أول مولود رحم في بني إسرائيل من إنسان إلى بهيمة لي .
وتأمل قوله: نابي أقيم لاهيم تقارب أخيهم كانوا أخا ايلاؤه شماعون فإن معناه: نبياً أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به يؤمنون وكذلك قوله: أنتم عابر تم بعيولي اجيخيم بنوا عيصاه ، معناه : أنتم عابرون في تخم اخوتكم بني العيص.(1/91)
ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر ، فإذا أخذت لفظة بماد ماد وجدتها أقرب شئ إلى لفظة محمد ، وإذا أردت تحقيق ذلك فطابق بين ألفاظ العبرية ، وكذلك يقولون : اصبوع أو لوهم هوم ، أي أصبع الله كتب له بها التوراة ، ويدل على ذلك أداة الباء في قوله : بماد ماد ، ولا يقال أعظمه بجداً جداً بخلاف أعظمه بمحمد .
وكذلك فإن عظم به وازداد شرفاً إلى شرفه ، بل تعظيمه ، بمحمد ابنه صلى الله عليه وسلم فوق تعظيم كل والد بولده العظيم القدر ، فالله سبحانه كبره بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى التقديرين فالنص من أظهر البشارات به ، أما على هذا التفسير فظاهر جداً ، وأما على التفسير الأول فإنما كبر اسماعيل وعظم على اسحاق جداً جداً بابنه محمد صلى الله عليه وسلم .
فإذا طابقت بين معنى الفار قليط ومعنى بمود مود - التي تكتب بماد ماد - معنى محمد ، وأحمد ونظرت إلى خصال الحمد التي فيه تسمية أمته بالحمادين وافتتاح كتابه بالحمد وافتتاح الصلاة بالحمد ، وكثرة خصال الحمد التي فيه وفي أمته وفي دينه وفي كتابه ، وعرفت ما خلص به العالم من أنواع الشرك والكفر والخطايا والبدع ، والقول على الله بلا علم ، وما أعز الله به الحق وأهله ، وقمع به الباطل وحزبه ، تيقنت أنه الفار قليط بالاعتبارات كلها.
فمن هذا الذي هو روح الحق الذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه ؟! ومن هو العاقب للمسيح ، والشاهد لما جاء به والمصدق له بمجيئه ؟! ومن ذا الذي أخبرنا بالحوادث في الأزمنة المستقبلة كخروج وظهور الدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج يأجوج ومأجوج ونزول المسيح بن مرييم ، وظهور النار التي تحشر الناس وأضعاف أضعاف ذلك من الغيوب التي قبل يوم القيامة ، والغيوب الواقعة من الصراط والميزان والحساب وأخذ الكتب بالأيمان والشائل ، وتفاصيل ما في الجنة والنار ما لم يذكر في التوراة و الإنجيل غير محمد صلى الله عليه وسلم؟!.(1/92)
ومن الذي وبخ العالم على الخطايا سواه ؟! ومن الذي عرف الأمة ينبغي لله حق التعريف غيره ؟! ومن الذي تكلم في هذا الباب بما لم يطق أكثر العالم أن يقبلوه غيره حتى عجزت عنه عقول كثير ممن صدقه وآمن به فساموه أواع التحريف والتأويل لعجز عقولهم عن حمله كما قال أخوه المسيح صلوات الله عليهما وسلامه؟! ومن الذي أرسل إلى جميع الخلق بالحق قولاً وعملاً واعتقاداً في معرفة الله وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله وقضائه وقدره وغيره؟! ومن هو أركون العالم الذي أتى بعد المسيح غيره؟ وأركون العالم هو عظيم العالم وكبير العالم وتأمل قول المسيح في هذه البشارة التي لا نيكرونها : إن أركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شئ كيف ؟ وهي شاهدة بنبوة المسيح ونبوة محمد معاً فإنه لما جاء صار الأمر له دون المسيح .
فوجب على العالم كلهم طاعته والانقياد لأمره وصار الأمر له حقيقة.
ولم يبق بأيدي النصارى إلا دين باطله أضعاف أضعاف حقه ، وحقه منسوخ بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم فطابق قول المسيح قول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم : ينزل فيكم ابن مريك حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً فيحكم بكتاب ربكم وقوله في اللفظ الآخر : يأتيكم بكتاب ربكم ، فطابق قول الرسولين الكريمين وبشر الأول بالثاني وصدق الثاني بالأول.
وتأمل قوله في البشارة الأخرى : ألم تر إلى الحجر الذي أخره البناؤون صار أساً للزاوية؟ كيف تجده مطابقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها ، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها ، ويقولون هلا وضعت تلك اللبنة ؟ فكنت أن تلك اللبنة .(1/93)
وتأمل قول المسيح في هذه البشارة : إن ذلك عجيب في أعيننا وتأمل قوله فيها : إن ملكوت الله سيؤخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى كيف تجده مطابقاً لقوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .
وتأمل قوله في الفار قليط المبشر به : يفشي لكم الأسرار ، ويفسر لكم كل شئ ، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل وكيف تجده مطابقا للواقع من كل وجه وقوله تعال: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، ولقوله تعالى : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .
وإذا تأملت التوراة و الإنجيل والكتب وتأملت القرآن وجدته كالتفصيل لمجملها والتأويل لأمثالها والشرح لرموزها، وهذا حقيقة قول المسيح : أجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل ، ويفسر لكم كل شئ ، وإذا تأملت قوله : وكل شئ عده الله لكم به وتفاصيل ما أخبر به من الجنة والنار والثواب والعقاب تيقنت صدق الرسولين الكريمين ، ومطابقة الإخبار المفصلة عن محمد صلى الله عليه وسلم للخبر المجمل من أخيه المسيح.(1/94)
وتأمل قوله في الفار قليط : وهو يشهد لي كما شهدت له كيف تجده منطبقاً على محمد بن عبد الله، وكيف تجده شاهاً بصدق الرسولين ، وكيف تجده صريحاً في رجل يأتي عبد المسيح يشهد له بأ،ه عبد الله ورسوله كما شهد له المسيح؟! فلقد إذن المسيح بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهما أذاناً لم يؤذنه نبي قبله ، وأعلن بتكبير ربه أني تكون له صاحبة أو ولد؟ ثم رفع صوته بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلهاً واحداً أ،داً فرداً صمداً لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، ثم أعلن بشهادة أن محمداً عبده ورسوله الشاهد له بنبوته المؤيد بروح الحق الذي لا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بما يوحى إليه ويعلمهم كل شئ ويخبرهم ما أعد الله لهم ، ثم رفع صوته بحي على الفرح باتباعه والايمان به وتصديقه وأنه ليس له من الأمر معه شئ ، وختم التأذين بأن ملكوت الله سؤخذ ممن كذبه ويدفع إلى اتباعه والمؤمنين به ، فهلك من هلك عن بينة وعاش من عاش عن بينة فاستجاب أتباع المسيح حقاً لهذا التأذين ، وأباه الكافرون ، والجاحدون، فقال تعالى : إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون .
وهذه بشارة بأن المسلمين لا يزالون فوق النصارى إلى يوم القيامة فإن المسلمين هم أتباع المرسلين في الحقيقة وأتباع جميع الأنبياء لا أعداؤه ، وأعداؤه عبادالصليب الذين رضوا أن يكون إلهاً مصفوعاً مصلوباً مقتولاً ولم يرضوا أن يكون الصليب نبياً عبداً لله وجيهاً عنده مقراً لديه ، فهؤلاء أعداؤه حقاً والمسلمون أتباعه حقاً.
والمقصود أن بشارة المسيح بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق كل بشارة لما كان أقرب الأنبياء إليه وأولاهم به وليس بينه وبينه نبي.
وتأمل قول المسيح : إن أركون العالم سيأتي وأركون العالم هو سيد العالم وعظيمه.(1/95)
ومن الذي ساد العالم وأطاعه العالم بعد المسيح غير النبي صلى الله عليه وسلم؟! وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما أول أمرك قال: أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى.
وطابق بين هذا وبين هذه البشارات التي ذكرها المسيح ، فمن الذي ساد العالم باطناً وظاهراً وانقادت له القلوب والأجساد وأطيع في السر والعلانية في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار ، وأفضل الأقاليم والأمصار ، وسارت دعوته مسير الشمس ، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار ، وخرت لمجيئه الأمم على الأذقان ، وبطلت به عبادة الأوثان ، وقامت به دعوة الرحمن ، واضمحلت به دعوة الشيطان ، وأذل الكافرين والجاحدين ، وأعز المؤمنين وجاء بالحق وصدق المرسلين ، حتى أعلن بالتوحيد على رؤوس الأشهاد وعبد الله وحده لا شريك له في كل حاضر وباد ، وامتلأت به الأرض تحميداً وتكبيراً لله وتهليلاً وتسبيحاً ، واكتست به بعد الظلم والظلام عدلاً ونوراً؟ وطابق بين قول المسيح : إن أركون العالم سيأتيكم وقول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، آدم فمن دونه تحت لواثي ، وأنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا وإمامهم إذا جمعوا ومبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي.
وفي قول المسيح في هذه البشارة وليس لي من الأمر شئ إشارة إلى التوحيد وأن الأمر كله لله ، فتضمنت هذه البشارة أصلى الدين : إثباتب التوحيد ، وإثبات النبوة .(1/96)
وهذا الذي قاله المسيح مطابق لما جاء به أخوه محمد بن عبد الل عن ربه من قوله له : ليس لك من الأمر شيء فمن تأمل حال الرسولين الكريمين ودعوتهما وجدهما متوافقين متطابقين حذو القذة ، وأنه لا يمكن التصديق بأحدهما مع التكذيب بالآخر البتة ، وأن المكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد تكذيباً للمسيح الذي هو المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله ، وإن آمن بمسيح لا حقيقة له ولا وجود وهو أبطل الباطل ، وقد قال يوحنا في رسالته الأولى :أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح ، لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها واعلموا أن كل روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانياً فهي من عند الله وكل روح لا تؤمن بأن المسيح قد جاء وكان جسدانياً فليست من عند الله بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم.
فصل ما عرض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق
فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء من عند الله بالهدى ودين الحق الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، والنصارى إنما تؤمن بمسيح دعي إلى عبادة نفسه وأمه وأنه ثالث وأنه الله وابن الله ، وهذا هو أخو المسيح الكذاب لو كان موجود ، فإن المسيح الكذاب يزعم أنه الله ، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي بشروا به ، فعوضهم الشيطان بعد مجيئه من الايمان به انتظاراً للمسيح الدجال .
وهكذا كل من أعرض عن الحق يعوض عنه بالباطل.
وأصل هذا أن إبليس لما أعرض عن السجود لآدم كبراً أن يخضع له تعوض بذلك ذل القيادة لكل فاسق ومجرم من بنيه ، فلا بتلك النخوة ولا بهذه الحرفة ، والنصارى لما أنفوا أن يكون المسيح عبداً لله تعوضوا من هذه الأنفة بأ، رضوا بجعله مصفعة اليهود ومصلوبهم الذي يسخرون منه ويهزؤون به ، ثم عقدوا له تاجاً من الشوك بدل تاج الملك ، وساقوه في حبل إلى خشبة الصلب يصفقون حوله ويرقصون .(1/97)
فلا بتلك الأنفة له من عبودية الله ولا بهذه النسبة له إلى أعظم الذل والضيق والقهر ، وكذلك أنفوا أن يكون للبترك والراهب زوجة أ, ولد وجعلوا لله رب العالمين الولد ، وكذل أنفوا أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ويطيعوا عبده ورسوله ثم رضوا بعبادة الصليب والصور المصنوعة بالأيدي في الحيطان وطاعة كل من يحرم عليهم ما شاء ويحلل لهم ما شاء ويشرع لهم من الدين ما شاء من تلقاء نفسه.
ونظير هذا التعويض أنفة الجهمية أن يكون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه حتى لا يكون محصوراً يزعمهم في جهة معينة ثم قالوا هو في كل مكان بذاته .
فحصروه في الآبار والسجون والأنجاس والأخباث ، وعوضوه بهذه الأمكنة عن عرشه المجيد ، فليتأمل العاقل لعب الشيطان بعقول هذا الخلق ، وضحكه عليهم ، واستهزائه بهم!!.
وقول المسيح : إذا انطلقت أرسلته إليكم معناه أني أرسله بدعاء ربي وطلبي منه أن يرسله ، كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولاً أو يولي نائباً أو يعطي أحداً ، فيقول أنا أرسلت هذا ووليته وأعطيته ، يعني أني كنت سبباً في ذلك ، فإن الله سبحانه إذا قضى أن يكون الشئ فإنه يقدر له أسباباً يكون بها ، ومن تلك الأسباب دعاء بعض عباده بان يفعل ذلك فيكون في ذلك من النعمة إجابة دعائه مضافاً إلى نعمته بإيجاد ما قضى كونه ، ومحمد صلى الله عليه وسلم قد دعا به الخليل أبو فقال : ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .
مع أن الله سبحانه قد قضى بارساله وأعلن باسمه قبل ذلك ، كما قيل له : يا رسول الله.
متى كنت نبياً ؟ قال : آدم بين الروح والجسد ، وقال : إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته .(1/98)
وهذا كما قضى الله سبحانه نصره يوم بدر ، ومن أسباب استعانته بربه ودعاؤه وابتهاله بالنصر ، وكذلك ما يقضيه من إنزال الغيث قد يجعله بسبب ابتهال عباده ودعائهم وتضرعهم إليه ، وكذلك ما يقضيه من مغفرة ورحمة وهداية ونصر قد يسبب له أدعية يحصل بها ممن ينال ذلك أو من غيره ، فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل أخاه محمداً إلى العالم ، ويكون ذلك من أسباب الرسالة المضافة إلى دعوة أبيه إبراهيم ، لكن إبراهيم سأل ربه أن يرسله في الدنيا فلذلك ذكره اله سبحانه ، وأما المسيح فإنما سأله بعد رفعه وصعوده إلى السماء.
وتأمل قول المسيح :إني لست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم عن قريب كيف هو مطابق لقول أخيه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليهما : ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، وإماماً مقسطاً ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، وأوصى أمته بأن : يقرئه السلام من لقيه منهم.
وفي حديث آخر :كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها؟!.
وقد تقدم نص التوراة تجلى الله من طور سينا .
وأشرف من ساعير ، واستعلن من جبال فاران ، قال علماء الإسلام - وهذا لفظ أبي محمد بن قتيبة - ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض لأن مجئ الله من طور سينا إنزاله التوراة على موسى من طور سينا كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا ، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح ، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها تسمى من اتبع نصارى ، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ، وجبال فاران هي جبال مكة.(1/99)
قال : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم ، قلنا أليس في التوراة أن ابراهيم أيكن هاجر واسماعيل فاران ؟! وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه وسامه فاران ، والنبي الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح؟! أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد ، وهما ظهر وانكشف فهل تعلمون ديناً ظهر ظهور دين الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوة ؟! قال علماء الإسلام وساعير جبال بالشام منه ظهور نبوة المسيح ، وإلى جانبه قرية بيت لحم ، القرية التي ولد فيها المسيح تسمى اليوم ساعير ولها جبال تسمى ساعير وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكاناً بساعير ، وأمر الله موسى أن لا يؤذيهم .(1/100)
قال شيخ الإسلام : وعلى هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة حراء الذي ليس حول مكة أعلى منه ، وفيه ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه ، وحوله جبال كثيرة ، وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم ، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى برية فاران ، ولا يمكن أحداً أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شئ من تلك الأرض ولا بعث نبي فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرلاسال محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على ترتيب الزمان ، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن وهذه الكتب نور الله وهداه ، وقال في الأول :جاء وظهر ، وفي الثاني أشرق ، وفي الثالث استعلن فكان مجئ التوراة مثل طلوع الفجر ، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس ، ونزول القرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء ، ولهذا قال واستعلن من جبال فاران فإن محمداً صلى الله عليه وسلم ظهر به نور اله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس في مشارق الأرض ومغاربها إذا استعلت وتوسطت السماء ، ولهذا سماه الله سراجاً منيراً وسمى الشمس سراجاً وهاجاً والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج ، فإن هذا يحتاجون إليه في وقت دون وقت ، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان ليلاً ونهاراً سراً وعلانية.(1/101)
وقد ذكر الله تعالى هذه الأماكن الثلاثة في قوله : والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين (فالتين والزيتون) هو في الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح ، وأنزل عليه فيها الإنجيل (وطور سينين) وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليماً وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة التي فيه ، وأقسم (بالبلد الأمين) وهو مكة التي أسكن إبراهيم وإسماعيل وأمه فيه وهو فاران كما تقدم ، ولما كان ما في التوراة خبراً عن ذلك أخبر به لعى الترتيب الزماني ، فقد الأسبق ، ثم الذي يليه ، وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها وإظهاراً لقدرته وآياته وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة بعد درجة ، فبدأ بالعالي ، ثم انتقل إلى أعلا منه ، ثم أعلا منهما ، فإن أشرف الكتب القرآن ، ثم التوراة ، ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء.
وهذا الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين من تأمل التوراة وجدها ناطقة به صريحة فيه ، فإن فيها وعد ابراهيم بأخذ الغلام وأخذ خبزاً وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر وحمله عليها ، وقال لها اذهبي ، فانطلقت هاجر ، ونفذ الماء الذي كان معها ، فطرحت الغلام تحت شجرة ، وجلست مقابلته على مقدار رمية الحجر لئلا تبصر الغلام حين يموت ، ورفعت صوتها بالبكاء ، وسمع اله صوت الغلام حيث هو ، فقال لها الملك : قومي فاحملي الغلام وشدي يدك فإني جاعله لأمة عظيمة ، فتح الله عينيها فبصرت ببئر ماء فسقت الغلام وملأت سقاها ، وكان اله مع الغلام فتربى وسكن في برية فاران.
فهذا نص التوراة أن غسماعيل ربى وسكن في برية فاران بعد أن كاد يموت من العطش ، وأن الله سقاه من بئر ماء ، قد علم بالتواتر واتفاق الأمم أن اسماعيل إنما ربى بمكة، وهو وأبوه ابراهيم نبيا البيت ، فعلم قطعاً أن فاران هي أرض مكة.(1/102)
ومثل هذه البشارة من كلام شمعون فيما قبلوه ورضوا ترجتمع جاء الله من جبال فاران ، وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته ولم يخرج أحد من جبال فاران التي امتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته سوى محمد صلى الله عليه وسلم : فإن المسيح لم يكن بأرض فاران البتة ، وموسى إنما كلم من الطور ، والطور ليس من أرض فاران ، وإن كانت البرية التي بين مكة والطور تسمة برية فاران فلم ينزل الله فيها التوراة وبشارة التوراة قد تقدمت بجبل الطور ، وبشارة الإنجيل بجبل ساعير.
ونظير هذا ما نقلوه ورضوا ترجمته ف نبوة حبقوق جاء الله من التيمن، وظهر القدس على جبال فاران ، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد ، وملك بيمينه رقاب الأمم ، وأنارات الأرض لنوره ، وحملت خيله في البحر.
قال ابن قتيبة : وزاد فيه بعض أهل الكتاب وستنزع في قسيك اعراقا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وهذا إفصاح باسمه وصفاته ، فإن ادعوا أنه غيره فمن أحمد هذا الذي امتلأت الأرض من تحميده ، الذي جاء من جبال فاران فملك رقاب الأمم؟ (الوجه السادس) : قوله في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة أن هاجر لما فارقت ساره خاطبها الملك فقال يا هاجر من أين أقبلت ؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال : ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون ، وها أنت تحبلين وتلدين ابناً اسمه اسماعيل ، لأن الله قد سمع ذلك وخضوعك ، وولدك يكون وحش الناس ، يده فوق يد الجميع، ويد الكل به ، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته.(1/103)
قال المستحرجون لهذه البشارة : معلوم أن يد بني اسماعيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني اسحاق ، بل كان في أيدي بني اسحاق النبوة والكتاب ، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب فلم يكن لبني اسماعيل فوقهم يد ، ثم خرجوا منها لما بعث موسى وكانوا مع موسى من أعز أهل الرض ولم يكن لأحد عليهم يد ، ولذلك كانوا مع يشوع إلى زمن داود وملك سليمان الملك الذي لم يؤت أحداً مثله فلم يكن يد بني اسماعيل عليهخم ، ثم بعث الله المسيح فكفروا به وكذبوه فدمر عليهم تكذيبهم إياه وزال ملكهم ولم يقم لهم بعده قائمة ، وقطعهم الله في الأرض أمماً.
وكانوا تحت حكم الروم والفرس وغيرهم ، ولم يكن يد ولد اسماعيل عليهم في هذا الحال ، ولا كانت فوق يد الجميع إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً برسالته وأكرمه الله بنبوته فصارت بمبعثه يد بني اسماعيل فوق الجميع ، فلم يبق في الأرض سلطان أعز من سلطانهم بحيث قهروا سلطان فارس الروم والترك والديلم ، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعباد الأصنام، فظهر بذلك تأويل قوله في التوراة ويكون يده فوق يد الجميع ، ويد الكل وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر.
قالت اليهود : نحن لا ننكر هذا ، ولكن إن هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره لا برسالته ونبوته .(1/104)
قالت المسلمون : الملك ملكان ، ملك ليس معه نبوة بل ملك جبار متسلط ، وملك نفسه نبوة ، والبشارة لم تقع بالملك الأول ، ولا سيما إن ادعى صاحبه النبوة والرسالة وهو كاذب مفتر على الله فهو من شر الخلق وأفجرهم وأكفرهم ، فهذا لا تقع البشارة بملكه وإنما يقع التحذير من فتنته كما وقع التحذير من فتنة الدجال ، بل هذا شر من سنحاريب وبخت نصر والملوك الظلمة الفجرة الذين يكذبون على الله ، فالأخبار لا تكون بشارة ، ولا تفرح به هاجر وابراهيم ، ولا بشر أحد بذلك ، ولا يكون ذلك إثابة لها من خضوعها وذلها وأن الله قد سمع ذلك ويعظم هذا المولود ويجعله لأمة عظيمة ، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال : إنك ستلدين جباراً ظالماً طاغياً يقهر الناس بالباطل ، ويقتل أولياء الله ، يسبي حريمهم ، ويأخذ أموالهم بالباطل ، ويبدل أديان الأنبياء ، ويكذب على الله ، ونحو ذلك .
فمن حمل هذه البشارة على هذا فهو من ا'ظم الخلق بهتاناً وفرية على الله ، وليس هذا ابمستنكر لأمة الغضب ، وقتلة الأنبياء وقوم البهت.
نصوص من مزامير داود - أمة التسبيح والتكبير -
(الوجه السابع): قول داود في الزبور : سبحوا الله تسبيحاً جديداً ، وليفرح إسرائيل بخالقه ، وبنو صهيون من أجل أن الله اصطفى له أمة وأعطاهم النصر ، وسدد الصالحين بالكرامة يسبحون على مضاجعهم ويكبرون الله بأصوات مرتفعة ، بأيديهم سيوف ذات شفرتين ، لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود ، وأشرافهم بالأغلال.
وهذه الصفات إنما تنطبق على محمد وأمته ، فهم الذين يكبرون الله بأصواتهم المرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس وعلى الأماكن العالية ، قال جابر :كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا عبونا كيؤنا ، واذا هبطنا سبحنا ، فوضعت الصلاة على ذلك.(1/105)
وهم يكبرون اله بأصوات عالية مرتفعة في الأذان ، وفي عبد الفطر ، وعيد النحر ، وفي عشر ذي الحجة ، وعقيب الصلوات في أيام منى ، وذكر البخاري عن عمر بن الخطاب أنه كان يكبر بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون بتكبيره ، فيسمعهم أهل الأسواق فيكبرون ، حتى ترتج منى تكبيراً وكان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
ويكبرون أيضاً على قرابينهم وضحاياهم ، وعند رمي الجمار ، وعلى الصفا والمروة ، وعند محاذاة الحجر الأسود ، وفي أدبار الصلوات الخمس.
وليس هذا لأحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا غيرهم سواهم ، فإن اليهود يجمعون الناس بالبوق ، والنصارى بالناقوس.
وأما تكبير الله بأصوات مرتفعة فشعار محمد بن عبد الله وأمته .
وقوله بأيديهم سوف ذات شفرتين فهي السيوف العربية التي فتح الصحابة بها البلاد، وهي إلى اليوم معروفة لهم .
وقوله يسبحون على مضاجعهم هو نعت للمؤمنين الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم .
ومعلوم قطعاً أن هذه البشارة لا تنطبق على النصارى ولا تناسبهم ، فإنهم لا يكبرون الله بأصوات مرتفعة ، ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين ينتقم الله بهم من الأمم ، والنصارى تعيب من يقاتل الكفار بالسيف ، وفيهم من يجعل هذا من أسباب التنفير عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ولجهلهم وضلالهم لا يعلمون أن موسى قاتل الكفار ، وبعده يوشع بن نون ، وبعده داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء ، وقبلهم ابراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(الوجه الثامن): قول داود: ومن أجل هذا بارك الله عليك إلى الأبد فتقلد أيها الجبار السيف ، لأن البهاء لوجهك ، والحمد الغالب عليك ، أركب كلمة الحق ، وسبحت التأله : فإن ناموسك وشرائعك مرونة بهيبة يمينك ، وسهامك مسنونة ، والأمم يخرون تحتك.(1/106)
وليس متقلد السيف بعد داود من الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي خرت الأمم تحته ، وقرنت شرائعه بالهيبة ، إما القبول ، وإما الجزية ، وأما السيف .
وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : نصرت بالرعب مسيرة شهر .
وقد أخبر داود أن له ناموساً وشرائعاً ، وحاطبه بلفظ الجبار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله ، بخلاف المستضعف المقهور ، وهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ، ونبي الملحمة ، وامته أشداء على الكفار رحماء بينهم ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، بخلاف الأذلاء المقهورين المستكبرين ، الذي يذلون لأعداء الله ويتكبرون عن قبول الحق.
(الوجه التاسع): قول داود في مزمور آخر : إن الله سبحانه أظهر من صهيون إكليلاً محموداً ، وضرب الإكليل مثلاً للرياسة والإمامة ، ومحمود هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال في صفته ويحوز من البحر إلى البحر ، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض ، وإنه لتخر أهل الجزائر بين يديه لعى ركبهم ، وتلحس أعداؤه التراب ، تأتيه ملوك الفرس وتسجد له ، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد ، ويخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه ، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ، ويرأف بالمساكين والضعفاء ، ويصلى عليه في كل وقت ويبارك.
ولا يشك عاقل تدبر أمور الممالك والنبوات وعرف سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة أمته من بعده أن هذه الأوصاف لا تنطبق إلا عليه وعلى أمته لا على المسيح ولا على نبي غيره، فإن حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي ، ومن لدن الأنهار جيحون وسيحون والفرات إلى منقطع الأرض بالغرب، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها .(1/107)
وهو الذي يصلى عليه ويبارك في كل حين وفي كل صلاة من الصلوات الخمس وغيرها ، وهو الذي خرت أهل الجزائر بين يديه : أهل جزيرة العرب ، وأهل الجزيرة التي بين الفرات ودجلة ، وأهل جزيرة الأندلس ، وأهل جزيرة قبرص ، وخضعت له ملوك الفرس فلم يبق فيهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون ، بخلاف ملوك الروم فإن فيهم من لم يسلم ولم يؤد الجزية ، فلهذا ذكر في البشارة ملوك الفرس خاصة ، ودانت له الأمم التي سمعت به وبأمته ، فهم بين مؤمن به ومسالم له ومنافق معه وخائف منه ، وأنقذ الضعفاء من الجبارين ، وهذا بخلاف المسيح فإنه لم يتمكن في حباته ، ولا من أتبعه بعد رفعه إلى السماء ، ولا حازوا ما ذكر ، ولا يصلون عليه ويباركون في اليوم والليلة، فإن القوم يدعون إلا هيته سدس.
)الوجه العاشر): قوله في مزمور آخر لترتاح البوادي وقراها ولتصير أرض فيدار مروجاً ، ولتسبح سكان الكهوف ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب ، ويذيعوا تسابيحه في الجو.
فمن أهم البوادي من الأمم سوى أمة محمد ؟! ومن قيدار غير ولد اسماعيل أحد أجداده صلى الله عليه وسلم؟! ومن سكان الكهوف وقلل الجبال سوى العرب؟! ومن هذا الذي دام ذكره إلى الأبد غيره؟!.
(الوجه الحادي عشر): قوله في مزمور آخر : إن ربنا عظم محموداً وفي مكان آخر إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحاً فقد نص داود على اسم محمد وبلده وأن كلمته قد عمت الأرض.
(الوجه الثاني عشر): قوله في الزبور لداود: سيولد لك ولد أدعى له أباً ويدعي لي ابناً اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه بشر.
وهذه أخبار عن المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم قبل ظهورهما بزمن طويل ، يريد ابعث محمداً حتى يعلم الناس أن المسيح بشر ليس إلهاً ، وأنه ابن البشر لا ابن خالق البشر ، فبعث الله هادي الأمة وكاشف الغمة فبين للأمم حقيقة أمر المسيح وأنه عبد كريم ونبي مرسل ، لا كما ادعته فيه النصارى ولا كما رمته به اليهود .(1/108)
فصل نصوص من سفر أشعياء
(الوجه الثالث عشر): قوله في نبوة أشعياء :قيل لي أقم نظاراً فانظر ما يرى تخبر به ، قلت أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل ، يقول أحدهما لصاحبه : سقطت بابل وأصنامها على الأرض.
وصاحب الحمار عندنا وعند النصارى هو المسيح ، وراكب الجمل هو محمد صلوات الله وسلامه عليهما ، وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم سقطت أصنام بابل لا بالمسيح ، ولم يزل في إقليم بابل من يعبد الأوثان من عهد ابراهيم الخليل إلى أن سقطت بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(الوجه الرابع عشر): قوله في نبوة أشعياء أنه قال عن مكة : ارفعي إلى ما حولك بصرك ، فستبهجين وتفرحين من أجل أن الله تعالى يصير إليك ذخائر البحر ، وتحج إليك عساكر الأمم ، حتى تعم بك قطر الإبل المؤبلة ، وتضيق أرضك عن المقطرات التي تجتمع إليك ، وتساق إليك كباش مدين ، وتأتيك أهل سبأ وتسير إليك أغنام فاران ، وتخدمك رجل نبايوت.
يريد سدنة الكعبة وهم أولاد نبايوت بن اسماعيل.
قالوا : فهذه الصفات كلها حصلت لمكة ، فإنها حملت إليها ذخائر البحر ، وحج إليها عساكر الأمم ، وسيق إليها أغنام فاران هدايا وأضاحي وقرابين ، وضاقت الأرض عن قطرات الإبل المؤبلة الحاملة للناس وأزوادهم ، وأتاها أهل سبأ وهم أهل اليمن.
)الوجه الخامس عشر : (قول أشعياء في مكة أيضاً: وقد أقسمت بنفسي كقسمي أيام نوح أني أغرق الأرض بالطوفان إني لا أسخط عليك ولا أرفضك ، وإن الجبال تزول وإن التلاع تنحط ورحمتي عليك لا تزول.(1/109)
ثم قال : يا مسكينة ، يا مضطهدة ، ها أنا ذا بان بالحسن حجارتك ، ومزينك بالجواهر ، ومكلل باللؤلؤ سقفك ، وبالزبرجد أبوابك ، وتبعدين من الظلم فلا تخافي ، ومن الضعف فلا تضعفي ، وكل سلاح يصنعه صانع فلا يعمل فيك ، وكل لسان ولغة تقوم معك بالخصومة تفلحين معها ، ويسميك اله اسماً جديداً - يريد أنه سماها المسجد الحرام - فقومي فأشرقي فإنه دنا نورك ، وقار الله عليك ، انظري بعينيك حولك ، فإنهم مجتمعون.
يأتونك بنوك وبناتك عدواً فحينئذ تسرين وتزهوين ، ويخاف عدوك ، وليتسع قلبك ، وكل غنم قيدار تجتمع إليك ، وسادات نبايوت يخدمونك.
ونبايوت هم أولاد نبايوت بن اسماعيل .
وقيدار جد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخو نبايوت بن اسماعيل.
ثم قال : وتفتح أبوابك بالليل والنهار لا تغلق ، ويتخذونك قبلة، وتدعين بد ذلك مدينة الرب.
)الوجه السادس عشر) : قوله أيضاً في مكة : سرى واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح ، وافرحي ولم تحبلي ، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي.
يعني بأهله : بيت المقدس ، ويعني بالعاقر : مكة ، لأنها لم تلد قبل محمد النبي ، نبياً ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت الأنبياء ومعدن الوحي، وقد ولد أنبياء كثيرين.
(الوجه السابع عشر): قول أشعياء أيضاً لمكة شرفها الله :إني أعطي البادية كرامة لبنان وبهاء كرمل ، وهما الشام وبيت المقدس ، يريد أجعل الكرامة التي كانت هناك بالوحي ، في ظهور الأنبياء بادية بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالحج.
ثم قال : ويشق البادية مياه وسواق في الأرض الفلاة ، ويكون بالفيافي والأماكن العطاش ينابيع ومياه ، ويصبر هناك محجة وطريق الحرم ، لا يمر به أنجاس الأمم ، والجاهل به لا يضل هناك ، ولا يكون بها سباع ولا أسد، ويكون هناك ممر المخلصين .(1/110)
)الوجه الثامن عشر): قول أشعياء أيضاً في كتابه عن الحرم : إن الذئب والجمل فيه يرتعان معاً، وإشارة إلى أمنه الذي خصه الله به دون بقاع الأرض ، ولذلك سماه البلد الأمين ، وقال : أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ، ويتخطف الناس من حولهم ، قال يعدد نعمه على أهله : لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
(الوجه التاسع عشر): قول أشعياء أيضاً معلناً اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد.
فهل بقي بعد ذلك لزايغ مقال أو لطاعن مجال؟! وقوله : يا قدوس الرب معناه يا من طهره الرب وخلصه واصطفاه ، وقوله : اسمك موجود من الأبد مطابق لقول داود في مزمور له اسمك موجود قبل الشمس.
(الوجه العشرون) : قول أشعياء في ذكر الحجر الأسود ، قال :الرب والسيد ها أنذا مؤسس بصهيون حجراً في زاوية ركن منه ، فمن كان مؤمناً فلا يستعجلنا ، وأجعل العدل مثل الشاقول والصدق مثل الميزان ، فيهلك الذين ولعوا بالكذب.
فصهيون تعادل مكة عند أهل الكتاب ، وهذا الحجر الأسود الذي يقبله الملوك فمن دونهم ، وهو ما اختص به محمد وأمته.
(الوجه الحادي والعشرون) : قول أشعياء في موضع آخر : إنه ستملأ البادية والمدن قصوراً إلى قيدار ومن رؤوس الجبال ، وينادونهم الذين يجعلون لله الكرامة ويثنون بتسبيحه في البر والبحر.
وقال :ارفع علماً لجميع الأب من بعيد ، فيصفر بهم من أقصى الأرض فإذا هم سراع يأتون.
وبنو قيدار هم العرب ، لأن قيدار هو ابن اسماعيل بإجماع الناس والعلم الذي يرفع هو النبوة، والصفير بهم دعائهم من أقاصي الأرض إلى الحج فإذا هم سراع يأتون ، وهذا مطابق لقوله عز وجل : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً ، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق .(1/111)
(الوجه الثاني والعشرون) : قول أشعياء في موضع آخر :سأبعث من الصبا قوما يأتون من المشرق مجيبين أفواجاً كالصعيد ثرة ، ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين.
والصبا يأتي من نحو مطلوع الشمس ، بعث الله سبحانه من هناك قوماً من أهل المشرق مجيبين بالتلبية كالتراب كثرة .
وقوله : ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين إما أن يراد به الهرولة بالطواف والسعي ، وإما أن يراد به رجال قد كلت أرجلهم من المشي.
(الوجه الثالث والعشرون): في كتاب أشعياء أيضاً: عبدي وخيرتي ورضا نفسي ، أفيض عليه روحي ، أو قال : أنزل عليه روحي ، فيظهر في الأمم عدلي ويوصى الأمم بالوصايا ، لا يضحك ، ولا يسمع صوته ، يفتح العيون العمي العور ، ويسمع الآذان الصم ، ويحيي القلوب الغلف ، وما أعطيه لا أعطي غيره ، لا يضعف ولا يغلب ، ولا يميل إلى اللهو ، ولا يسمع في السواق صوته ، ركن للمتواضعين ، وهو نور الله الذي لا يطفى ولا يخصم ، حتى يثبت في الأرض حجتي ، وينقطع به المعذرة.
فمن وجد بهذا الوصف غير محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟! فلو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبياً جمع هذه الأوصاف كلها - وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة - غيره ، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
فقوله عبدي موافق لقوله في القرآن وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ، وقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وقوله وأنه لما قام عبد الله يدعوه ، وقوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً .
وقوله : وخيرتي ورضا نفسي مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: إن اله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بنيي هاشم .(1/112)
وقوله : لا يضحك مطابق لوصفة الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة: ما رؤى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى تبدو لهواته : إنما كان يتبسم تبسماً وهذا لأن كثرة الضحك من خفة الروح ونقصان العقل ، بخلاف التبسم فإنه من حسن الخلق وكمال الإدراك.
وأما صفته صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة بأنه الضحوك القتال فالمراد به أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه إذا كان حداً لله وحقاً له ، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه ، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال فترك الضحك بالكلية من الكبر والتجبر وسوء الخلق ، وكثرته من الخفة والطيش ، والاعتدال بين ذلك.
وقوله : أنزل عليه روحي مطابق لقوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، وقوله : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ، وقوله يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ، فسمي الوحي روحاً لأن حياة القلوب والأرواح به ، كما أن حياة الأبدان بالأرواح.
وقوله : فيظهر في الأمم عدلى مطابق قوله تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم ، وقوله عن أهل الكتاب : فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط .(1/113)
وقوله : يوصى الأمم بالوصايا مطابق لقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقوله في سورة الأنعام : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا إلى قوله ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ، ثم قال : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده إلى قوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ، ثم قال : وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون .
ووصاياه صلى الله عليه وسلم هي عهوده إلى الأمة بتقوى الله وعبادته وحده لا شريك له ، والتمسك بما بعثه الله به من الهدى ودين الحق ، والإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ولقائه .
وقوله : ولا تسمع صوته يعني ليس بصخاب له فديد كحال من ليس له حلم ولا وقار.
وقوله يفتح العيون العمي والآذان الصم والقلوب الغلف إشارة إلى تكميل مراتب العلم والهدى الحاصل في القلوب والأبصار والأسماع ، فباينوا بذلك أحوال الصم البكم العمي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها ، فإن الهدى يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة ، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرل ، ففتح الله بمحمد صلى الله عليه وسلم الأعين العمي فأبصرت بالله ، والآذان الصم فسمعت عن الله ، والقلوب الغلف فعقلت عن الله ، فانقادت لطاعته عقلاً وقولاً وعملاً، وسلكت سبل مرضاته ذللاً.
وقوله : وما أعطيه فلا أعطي غيره مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء قبلي .(1/114)
ولقول الملائكة لما ربوا له المثل : لقد أعطي هذا النبي ما لم يعطى نبي قبله ، إن عينيه ينامان وقلبه يقظان فمن ذلك أنه بعث إلى الخلق عامة ، وختم عامة ، وختم به ديوان الأنبياء ، وأنزل عليه القرآن الذي لم ينزل من السماء كتاب يشبهه ولا يقاربه ، وأنزل على قلبه محفوظاً متلواً ، وضمن له حفظه إلى أن يأتي اله بأمره ، وأوتي جوامع الكلم ، ونصر بالرعب في قلوب أعدائه وبينهما مسيرة شهر ، وجعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً ، وأسرى به إلى أن جاوز السموات السبع ورأى ما لم يره بشر قبله ، رفع على سائر النبيين ، وجعل سيد ولد آدم ، وانتشرت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها ، واتبعه على دينه أتباع سائر النبيين من عهد نوح إلى المسيح ، فأمته ثلثا أهل الجنة ، وخصه بالوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة ، وبالمعام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، وبالشفاعة العظمى التي يتأخر عنها آدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى ، وأعز اله به الحق وأهله عزاً لم يعزه بأد قلبه ، وأذل به الباطل وحبه ذلاً لم يحصل بأحد قبله ، وآتاه من العلم والشجاعة والصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والعبادات القلبية والمعارف الإلهية ما لم يؤته نبي قبله ، ، وجعلت الحسنة منه ومن أمته بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، وصلى عليه هو وجميع ملائكته عليهم صلوات الله وسلامه ، وأمر عباده المؤمنين كلهم أن يصلوا عليه ويسلموا تسليماً ، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه كما في الخطبة والتشهد والآذان ، فلا يصح لأحد أذان ولا خطبة ولا صلاة حتى يشهد أنه عبده ورسوله ، ولم يجعل معه أمراً يطاع لا ممن قبله ولا ممن هو كائن بعده إلى أن تطوى الدنيا ومن عليها ، وأغلق أبواب الجنة إلا عمن سلك خلفه واقتدى به ، وجعل لواء الحمد بيده ، فأدم وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة ، وجعله أول من تنشق(1/115)
عنه الأرض ، وأول شافع وأول مشفع ، وأول من يقرع باب الجنة ، وأول من يدخلها فلا يدخلها أحد من الولين والآخرين إلا بشفاعته ، وأعطى من اليقين والإيمان والصبر والثبات والقوة في أمر الله والعزيمة على تنفيذ أوامره والرضا عنه والشكر له والقنوع في مرضاته وطاعته ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية في نفسه وفي الخلق ما لم يعطه نبي قبله.
ومن عرف أحوال العالم وسير الأنبياء وأممهم تبين له أن الأمر فوق ذلك ، فإذا كان يوم القيامة ظهر للخلائق من ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أنه يكون أبداً.
وقوله: ولا يضعف ولا يغلب هكذا كان حاله صلوات الله وسلامه عليه ما ضعف في ذات الله قط ، ولا في حال انفراده وقلة أتباعه وكثرة أعدائه واجتماع أهل الأرض على حربه ، بل هو أقوى الخلق وأثبتهم جأشاً وأشجعهم قلباً ، حتى أنه يوم أحد قتل أصحابه وجرحوا وما ضعف ولا استكان ، بل خرج من الغد في طلب عدوه على شدة القرح حتى أرعب منه العدو وكر خاسئاً على كثرة عددهم وعددهم وضعف أصحابه ، وكذلك يوم حنين أفرد عن الناس في نفر يسير دون العشرة والعدو قد أحاطوا به وهم ألوف مؤلفة فجعل يثب في العدو ويقول: أنا النبي لا أكذب أنا ابن عبد المطلب ويتقدم إليهم ، ثم أخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فولوا منهزمين.
ومن تأمل سيرته وحروبه علم أنه لم يطرق العالم أشجع منه ولا أثبت ولا أصبر ، وكان أصحابه مع أنهم أشجع الأمم إذا حمى البأس واشتد الحرب اتقوا به وتترسوا به فكان أقربهم إلى العدو ، وأشجعهم هو الذي يكون قريباً منه وقوله : ولا يميل إلى اللهو هكذا كانت سيرته ، كان أبعد الناس من اللهو واللعب ، بل أمره كله جد وحزم وعزم ، مجلسه مجلس حياء وكرم وعلم وإيمان ووقار وسكينة.
وقوله : ولا يسمع في الأسواق صوته أي ليس من الصاحبين في الأسواق في طلب الدنيا والحرص عليها كحال أهلها الطالبين لها.(1/116)
وقوله : ركن للمتواضعين فإن من تأمل سيرته ، وجده أعظم الناس تواضعاً للصغير والكبير والمسكين والأرملة والحر والعبد .
يجلس معهم على التراب ، ويجيب دعوتهم ، ويسمع كلامهم ، وينطلق مع أحدهم في حاجته ، ويأخذ له حقه ممن لا يستطيع أن يطالبه به ويخصف نعله ، ويخيط ثوبه.
وقوله : وهو نور الله الذي لا يطفا ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجته وينقطع به العذر وهذا مطابق لحاله وأمره ، ولما شهد به القرآن في غير موضع كقوله تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وقوله : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وقوله : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، وقوله : يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً وقوله فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ، ونظائره في القرآن كثيرة.
وقوله :حتى ينقطع به العذر وتثبت به الحجة مطابق لقوله تعالى: رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، قوله : والمرسلات عرفا - إلى قوله - فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا وقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ، وقوله : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فالحجة إنما قات على الخلق بالرسل ، وبهم انقطعت المذرة ، فلا يمكن من بلغته دعوتهم حافها أن يعتذر إلى الله يوم القيامة إذ ليس له عذر يقبل منه.
(فصل)(1/117)
وهذه البشارة مطابقة لما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو أخبرنا ببعض صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، فقال : أنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ، ولي أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء ، فأفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً : بأ، يقولوا لا إله إلا الله.
وقوله : إن هذا في التوراة لا يريد به التوراة المعينة التي هي كتاب موسى ، فإن لفظ التوراة والإنجيل و القرآن والزبور يراد بهالكتب المعينة تارة ، ويراد به الجنس تارة، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور ، وبلفظ التوراة عن القرآن ، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضاً وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن فالمراد به قرآنه وهو الزبور.
وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة : نبياً أقيم لبني إسرائيل من أخوتهم ، انزل عليه توراة مثل توراة موسى.
وكذلك في صفة أمته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة أناجيلهم في صدورهم.
فقوله أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة إما أن يريد التوراة المعينة أو جنس الكتب المقدمة ، وعلى التقديرين فإجابة عبد الله بن عمرو بما هو في التوراة أي التي هي أعم منالكتاب المعين ، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعينة بل هو في كتاب أشعياء كما حكيناه عنه.(1/118)
وقد ترجموه أيضاً بترجمة أخرى فيها بعض الزيادة :عبدي ورسولي الذي سرت به نفسي ، أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي ويوصيهم بالوصايا ، لا يضحك ، ولا يسمع صوته في الأسواق ، يفتح العيون العور ، والآذان الصم ويحي القلوب الغلف ، وما أعطيه لا أعطيه أحد! يحمد الله حمداً جديداً يأتي به من أقطار الأرض ، وتفرح البرية وسكانها ، يهللون الله كل شرف ، ويكبرونه على كل رابية ، لا يضعف ، ولا يغلب ، ولا يميل إلى الهوى مشفع ، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة ، بل يقوى الصديقين ، وهو ركن المتواضعين ، وهو نور الله الذي لا يطفى ، أثر سلطانه على كتفيه.
وقوله : مشفح بالشين المعجمة والفاء المشددة بوزن مكرم ، وهي لفظة عبرانية مطابقة لاسم محمد معنى ولفظاً زقارباً كمطابقة موذ بل أشد مطابقة ، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانية فإنها بين الحاء والهاء ، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة ، ولا يستريب عالم من علمائهم منصف أنها مطابقة لاسم محمد.
قال أبو محمد بن قتيبة: مشفح محمد بغير شك ، واعتباره أنهم يقولون شفحالاها ، إذا أرادوا يقولوا الحمد لله ، وإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد بغير شك، وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم إن مئذ مئذ هو محمد ، وهو بكسر الميم والهمزة ، وبعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة ، قال : ولا يشك العلماء منهم بأنه محمد وإن سكتنا عن إيراد ذلك ، وإذا ضربنا عن هذا صفحاً فمن هذا الذي انطبقت عليه وعلى أمته هذه الصفات سواه؟! ومن هذا الذي أثر سلطانه وهو خاتم النبوة على كتفيه رآه الناس عياناً مثل زر الحجلة ؟!! فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وبعد البصيرة إلا العمى ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .(1/119)
فصفات هذا النبي ومخرجه ومبعثه وعلاماته وصفات أمته في كتبهم يقرؤونها في كنائسهم ويدرسونها في مجالسهم لا ينكرها مهم عالم ولا يأباها جاهل ، ولكنهم يقولون لم يظهر بعد ، وسيظهر ونتبعه.
قال ابن اسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعهث ، فلما بعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كنوا يقولون فيه ، فقال معاذ ين جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة : يا معشر يهود : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك ، وتخبرونا بأنه نبي مبعوه ، وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضي : ما جاءنا بشء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله عز وجل : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
وقال أبو العالية : كان اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون : الله ابعث هذا النبي الذي نجده مكتباً عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .(1/120)
وقال ابن اسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن رجال من قومه ، قالوا: ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ما كنا مسمع من رجال اليهود ، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، وفإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم ، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله ، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات التي في البقرة : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .
)الوجه الرابع والعشرون): في كتاب أشعياء : أشكر حبيبي وابني أحمد فلهذا جاء ذكره في نبوة أشعياء أكثر من غيرها من النبوات ، وأعلن أشعياء بذكره ووصفه ووصف أمته ، ونادى بها في نبوته سراً وجهراً لمعرفته بقدره ومنزلته عند الله.
وقال أشعياء أيضاً :إنا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد.
وهذا إفصاح باسمه صلى الله عليه وسلم ، فليرنا أهل الكتاب نبياً نصت الأنبياء على اسمه وصفته ونعته وسيرته وصفة أمته وأحوالهم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
نصوص من كتاب حبقوق
(والوجه الخامس والعشرون) : قول حبقوق في كتابه : إن الله جاء من اليمن ، والقدوس من جبال فاران ، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد ، وامتلأت الأرض من حمده ، وشاع منظره النور ، يحوط بلاده بعزة ، تسير المنايا أمامه ، وتصحب سباع الطير أجناده ، قام يسمح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة وانخفضت الروابي فتزعزعت أسوار مدين ، ولقد حاز المساعي القديمة .(1/121)
ثم قال : زجرك في الأنهار واحتدام صوتك في البحار ، ركبت الخيول ، وعلوت مراكب الأتقياء، وستنزع في قسيك أعراقاً ، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء ، ولقد رأتك الجبال فارتاعت ، وانحرف عنك شؤبوب السيل ، وتغيرت المهارى تغييراً رفعت أيديها وجلاً وخوفاً ، وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك تدوخ الأرض وتدوس الأمم لأنك ظهرت لخلاص أمتك ، وانقاذ تراث آبائك.
فمن رام صرف هذه البشارة عن محمد فقد رام ستر الشمس بالنهار وتغطية البحار ، وأنى يقدر على ذلك وقد وصفه بصفات عينت شخصه وأزالت عن الحيران لبسه؟! ، بل قد صرح باسمه مرتين ، حتى انكشف الصبح لمن كان ذا عينين ، وأخبر بقوة أمته وسير المنايا أمامهم واتباع جوارح الطير آثارهم.
وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا تصلح إلا له ولا تنزل إلا عليه ، فمن حاول صرفها عنه فقد حاول صرف الأنهار العظيمة عن مجراها ، وحبسها عن غايتها ومنتهاها ، وهيهات ما يروم المبطلون والجاحدون ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، فمن الذي امتلأت الأرض من حمده وحمد أمته لله في صلواتهم وخطبهم وأدبار صلواتهم وعلى السراء والضراء وجميع الأحوال سواءً؟! حتى سماهم الله قبل ظهورهم الحمادين ! ومن الذي كان وجهه كأن الشمس والقمر يجريان فيه في ضيائه ونوره؟!.
قد عود الطير عادات وثقن بها شاهده في وجهه ينطق لو لم يقل إني رسول أما فهن يتبعنه في كل مرتحل ومن الذي سارت لمنايا أمامه وصحبت سباع الطيرجنوده لعلمها بما يقرب من ذبح الكفار لله الواحد القهار.
يتطايرون بقربه قربانهم بدماء من علقوا من الكفار ومن الذي تضعضعت له الجبال وانخفضت له الروابي وداس الأمم ودوخ العالم ، انتفضت بنبوته الممالك وخلص الأمة من الشرك والكفر والجهل والظلم سواء؟!
فصل نصوص من كتاب حزقيال(1/122)
(الوجه السادس والعشرون): قوله في كتاب حزقيال يهدد اليهود وصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن الله مظهرهم عليكم ، وباعث فيهم نبياً ، وينزل عليه كتاباً ، ويملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحق ، يخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين يوقعون بكم ، وتكون عاقبتكم إلى النار.
فمن الذي أظهره الله على اليهود حتى قهرهم وأذلهم وأوقع بهم وأنزل عليه كتاباً؟ ومن هم بنو قيدار غير بني إسماعيل الذين خرجوا معه ومعهم جماعات الشعوب؟ ومن الذي نزلت عليه وعلى أمته الملائكة على خيل بيض يوم بدر ويوم الأحزاب ويوم حنين حتى عاينوها عياناً تقاتل بين يديه وعن يمينه وعن شماله ، حتى غالب ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ليس معهم غير فرسين ألف رجل مقنعين في الحديد معدودين من فرسان العرب فأصبحوا بين قتيل وأسير ومنهزم.
(الوجه السابع والعشرون): قال دانيال النبي حين سأله بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها ثم أنسيها : رأيت أيها الملك صنماً عظيماً قائماً بين يديك ، رأسه من ذهب ، وساعداه من فضة ، وبطنه وفخداه من نحاس ، وساقاه من حديد، ورجلاه من الخرف ، فبينا أنت متعجب منه إذ أقبلت صخرة فدقت ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتاً ثم نسفته الرياح وذهب ، وتحول ذلك الحجر أنسانا عظيماً ملأ الأرض ، فهذا ما رأيت أيها الملك ، فقال بخت نصر : صدقت فما تأويلها ؟ قال : أنت الرأس الذي رأيته من الذهب ، ويقوم بعدك ولدك وهو الذي رأيته من الفضة وهو دونك ، وتقوم بعده مملكة أخرى هي دونه وهي تشبه النحاس ، وبعدها مملكة قوية مثل الحديد ، وأما الرجلا ن اللذان رأيت من خزف فمملكة ضعيفة ، وأما الحجر العظيم الذي رأيته دق الصنم فهو نبي يقيمه إله الأرض والسماء بشريعة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلء الأرض منه ومن أمته ، ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا فهذا تعبير رؤياك أيها الملك.(1/123)
ومعلوم أن هذا منطبق على محمد بن عبد الله حذو القذة بالقذة ، لا على المسيح وعلى على نبي سواه ، فهو الذي بعث بشريعة قوية ودق جميع ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض من أمته ، وسلطانه دائم إلى آخر الدهر ، لا يقدر أحد أن يزيله كما أزال سلطان اليهود من الأرض ، وأزال سلطان المجوس وعباد الأصنام وسلطان الصابئين.
(الوجه الثامن والعشرون) قول دانيال أيضاً: سألت الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون من بني إسرائيل ، وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء أو يجعل ذلك في غيرهم ، فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه فقال : السلام عليك يا دانيال ، إن الله يقول إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي وعبدوا من دوني آلهة أخرى ، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل ، ومن بعد الصدق إلى الكذب ، فسلطت عليهم بختضر فقتل رجالهم وسبى ذراريهم وهدم مسجدهم ، وحرق كتبهم ، وكذلك يفعل من بعده بهم ، مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط ، فلا يزالون ملعونين عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر ، وأرسلت إليها ملاكي فبشرها ، فأوحى إلى ذلك النبي ، وأعلمه الأسماء ، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره ، والتقوى ضميره ، والصدق قوله ، والوفاء طبيعته ، والقصد سيرته ، والرشد سنته ، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب ، وناسخ لبعض ما فيها ، أسرى به إلي ، وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو فأدنيه وأسلم عليه ، وأوحي إليه وأرقيه ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة ، حافظاً لما استودع ، صادقاً بما أمر ، يدعنو إلى توحيدي وعبادتي ، ويخبرهم بما رأى من آياتي ، فيكذبونه ويؤذونه.
ثم سرد دانيال قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا .
وهذه البشارة أيضاً عند اليهود والنصارى يقرؤونها ويقرون بها ، ويقولون لم يظهر صاحبها بعد.(1/124)
قال أبو العالية: لما فتح المسلمون تستر وجدوا دانيال ميتاً ووجدوا عنده مصحفاً ، قال أبو العالية أنا قرأت المصحف وفيه صفتكم وأخباركم وسيرتكم ولحون كلامكم ، وكان أهل الناحية إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقون ، فكتب أبو موسى الأشعري في ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فكتب عمر أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبراً وادفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به.
وصف الرسول في التوراة كما رواه كعب
(الوجه التاسع والعشرون): قال كعب وذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ويريد بها التوراة التي هي أعم من التوراة المعينة: أحمد عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، يعفو ويغفر ، مولده بكاء ، وهجرته طابا ، وملكه بالشام ، وأمته الحمادون يحمدون الله على كل نجد ، يسبحونه في كل منزلة ، ويوضئون أطرافهم ، ويأتزرون على أنصافهم ، وهم رعاة الشمس ، ومؤذنهم في جو السماء ، وصفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء ، رهبان بالليل ، أسد بالنهار ، ولهم دوي كدوي النحل ، يصلون الصلاة حيث ما أدركتهم ولو على كناسة.
(قول عمر بن حفص) (الوجه الثلاثون): قال ابن أبي الزناد حدثني عبد الحمن بن الحارث ، عن عمر بن حفص وكان من خيار الناس ، قال كان عند أبي وجدى ورقة يتوارثونها قبل الإسلام فيها اسم الله وقوله الحق ، وقول الظالمين في تبار ، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان يتزرون على أوساطهم ، ويغسلون أطرافهم ويخوضون البحور إلى أعدائهم ، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما هلكوا بالطوفان ، وفي ثمود ما هلكوا بالصيحة.
(نص آخر من أشعياء) (الوجه الحادي والثلاثون) : قال أشعياء وذكر قصة العرب فقال : ويدوسون الأمم دياس البيادر ، وينزل البلاء بمشركي العرب ، وينهزمون بين يدي سيوف مسلولة وقسى مؤترة من شدة الملحمة.(1/125)
وهذا أخبار عما حل بعبدة الأوثان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ويوم حنين وفي غيرهما من الوقائع.
(نصوص أخرى من الإنجيل) (الوجه الثاني والثلاثون): قوله في الإنجيل الذي بأيدي النصارى عن يوحنا : أن المسيح قال للحواريين من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا إني صنعت لهم صنائع لم يصنعها أحد لم يكن لهم ذنب ، ولكن من الآن بطروا فلا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس لأنهم أبغضوني مجاناً ، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح الحق فهو شهيد على وأنتم أيضاً لأنكم قديما كنتم معي ، هذا قولي لكم لكي لا تشكو إذا جاء.
والمنحمنا بالسريانية ، وتفسيره بالرومية البارقليط ، وهو بالعبرانية الحماد والمحمود والحمد كما تقدم.
فصل نصوص من إنجيل متى
(الوجه الثالث والثلاثون): قوله في الإنجيل أيضاً (إنجيل متى) : إن المسيح قال لليهود وتقولون : لو كنا في أيام آبائنا لم نساعدهم على قتل الأنبياء ، فأتموا كيل آبائكم يا تعابين بني الأفاعي كيف لكم النجاة من عذاب النار.
وسأبعث إليكم أنبياء وعلما تقتلون منهم وتصلبون ، وتجلدون وتطلبونهم من مدينة إلى أخرى ، لتتكامل عليكم دماء المؤمنين المهرقة على الأرض من دم هابيل الصالح إلى دم زريا بن برخيا الذي قتلتموه عند المذبح الذي قتلتموه عند المذبح ، إنه سيأتي جميع ما وصفت على هذه الأمة ، يا أورشلم التي تقتل الأنبياء وترجم من بعث إليك ، قد أردت أن أجمع بنيك كجمع الدجاجة فراريجها تحت جناحها وكرهت أنت ذلك ، سأقفر عليكم بيتكم ، وأنا أقول لا تروني الآن حتى يأتي من يقولون له مبارك ، يأتي على اسم الله.
فأخبرهم المسيح أنهم لا بد أن يستوفوا الصاع الذي قدر لهم ، وأنه سيقفر عليهم بيتهم أي يخليه منهم ، وأنه يذهب عنهم فلا يرونه حتى يأتي المبارك الذي يأتي على اسم الله .
فهو - أي محمد - الذي انتقم بعده لدماء المؤمنين.(1/126)
وهذا نظير قوله في الموضع الآخر : إن خيراً لكم أن أذهب عنكم حتى يأتيكم الفار قليط فإنه لا يجئ ما لم أذهب.
وقوله أيضاً: ابن البشر ذاهب ، والفار قليط من بعده، وفي موضع آخر أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط.
والفارقليط والمبارك الذي جاء بعد المسيح هو محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره.
(الوجه الرابع والثلاثون): قوله في إنجيل متى : إنه لما حبس يحيى بن زكريا بعث تلاميذه إلى المسيح وقال لهم : قولوا له أنت إيلياء أم نتوقع غيرك؟، فقال المسيح : الحق اليقين أقول لكم : إنه لم تقم النساء عن أفضل من يحيى بن زكريا ، وإن التوراة وكتب الأنبياء تتلو بعضها بعضاً بالنبوة والوحي حتى جاء يحيى ، وأما الآن فإن شئتم فاقبلوا فإن إيلياء مزمع أن يأتي ، فمن كانت له أذنان سامعتان فليستمع.
وهذه بشارة بمجئ الله سبحانه والذي هو إيلياء بالعبرانية ، ومجيئه هو مجئ رسوله وكتابه ودينه ، كما في التوراة : جاء الله من طور سيناء قال بعض عباد الصليب إنما بشر بإلياس النبي ، وهذا لا ينكر من جهل أمة الضلال وعباد خشبة الصليب التي نحتها أيدي اليهود ، فإن إلياس قد تقدم إرساله على المسيح بدهور متطاولة.
نصوص من سفر أرمياء
(الوجه الخامس والثلاثون): ي نبوة أرمياء : قبل أن أخلقك قد عظمتك من قبل أن أصورك في البطن ، وأرسلتك وجعلتك نبياً للأجناس كلهم.(1/127)
فهذه بشارة على لسان أرمياء لمن بعده ، وهو إما المسيح وأما محمد صلوات الله وسلامه عليهما لا يعدوهما إلى غيرهما ، ومحمد أولى بها لأن المسيح إنما كان نبياً لبني إسرائيل ، كما قال تعالى : ورسولاً إلى بني إسرائيل ، والنصارى تقر بهذا ، ولم يدع المسيح أنه رسول إلى جميع أجناس أهل الأرض ، فإن الأنبياء من عهد موسى إلى المسيح إنما كانوا يبعثون إلى قومهم ، بل عندهم في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين : لا تسلكوا إلى سبيل الأجناس ، ولكن اختصروا على الغنم الرابضة من نسل إسرائيل ، وأما محمد بن عبد الله فهو الذي بعثه الله إلى جميع أجناس الأرض وطوائف بني آدم ، وهذه البشارة مطابقة لقوله تعالى: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً .
وقد اعترف النصارى بهذه البشارة ولم ينكروها ، لكن قال بعض زعمائهم إنها بشارة بموسى بن عمران وإلياس اليسع ، وإنهم سيأتون في آخر الزمان وهذا من أعظم البهت والجرأة على الله والافتراء عليه : فإنه لا يأتي من قد مات إلى يوم الميقات المعلوم.
(الوجه السادس والثلاثون): قول المسيح في الإنجيل الذي بأيديهم وقد ضرب مثل الدنيا فقال : كرجل اغترس كرماً وسيج حوله ، وجعل فيه معصرة ، وشيد فيه قصراً ووكل به أعواناً ، وتغرب عنه ، فلما دنى أوان قطافه بعث عبده إلى أعوانه الموكلين بالكرم.
ثم ضرب مثلاً للأنبياء ولنفسه ، ثم للنبي الموكل آخراً بالكرم ، أفصح عن أمته فقال : وأقول لكم يسزاح عنكم ملك الله ، وتعطاه الأمة المطيعة العاملة ، ثم ضرب لنبي هذه الأمة مثلاً بصخرة وقال: من سقط على هذه الصخرة سينكسر ، ومن سقطت عليه ينهشم.
وهذه صفة محمد ومن ناوأه وحاربه من الناس.
لا تنطبق على أحد بعد المسيح سواه.
من صحف أشعياء
(الوجه السابع والثلاثون) : قول أشعياء في صحفه: لتفرح أرض البادية العطشى ولتبتهج البراري والفلوات لأنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان ومثل حسن الدساكير.(1/128)
وتا الله ما بعد هذا إلا المكابرة وجحد بعد ما تبين.
(من صحف حزقيال) (الوجه الثامن والثلاثون) : قول حزقيال في صحفه التي بأيديهم يقول الله عزوجل -بعد ما ذكر معاصي بني إسرائيل وشبهم بكرمة غذاها- : لم تلبث الكرمة أن قلعت بالسخطة ورمى بها على الأرض وأخرقت السمائم ثمارها، فعند ذلك غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى وخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت تلك الكرمة حتى لم يوجد فيها غصن قوى ولا قضيب .
وهذا تصريح لا تلويح به-صلى الله عليه وسلم-، وببلده وهي مكة العطشى المهملة من النبوة قبله من عهد إسماعيل.
(الوجه التاسع والثلاثون) : ما في صحف دانبال وقد نعت الكلدانيين الكذابين فقال: لا تمتد دعوتهم ولا يتم قربانهم، وأقسم الرب بساعده أن لا يظهر الباطل ولا يقوم لمدع كاذب دعوة أكثر من ثلاثين سنة .
وفي التوراة ما يشبه هذا، وهذا تصريح بصحة نبوة محمد-صلى الله عليه وسلم-، فإن الذين اتبعوه بعد موته أضعاف الذين اتبعوه في حياته، وهذه دعوته قد مرت عليها القرون من السنين وهي باقية مستمرة وكذلك إلى آخر الدهر، ولم يقع هذا لملك قط فضلاً عن كذاب مفتر على الله وأنبيائه مفسد للعالم مغير لدعوة الرسل، ومن ظن هذا بالله فقد ظن به أسوأ الظن وقدح في علمه وقدرته وحكمته.
ذكر مناظرة للمصنف مع اليهود
وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة ، فقلت له في أثناء الكلام : أنتم بتكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم قد شتمتم الله أعظم شتيمة .
فعجب من ذلك ، وقال: مثلك يقول هذا الكلام! فقلت له : اسمع الآن تقريره ، إذا قلتم : إن محمداً ملك ظالم قهر الناس بسيفه وليس برسول من عند الله ، وقد أقام ثلاثاً وعشرين سنة يدعى أنه رسوله الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول : أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا وأوحى إلى كذا ، ولم يكن من ذلك شئ .(1/129)
ويقول : إنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني نساءهم وغنيمة أموالهم وقتل رجالهم ، ولم يكن من ذلك شئ ، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم ، فلا يخلو إما أن تقولوا أن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه أو تقولوا أنه خفي عنه ولم يعلم به ، فإن قلتم لم يعلم به ، فإن قلتم لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل وكاان من علم ذلك أعلم منه ، وإن قلتم بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه فلا يخلو إما أن يكون قادراً على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا ، فإن لم يكن قادراً فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية ، وإن كان قادراً وهو مع ذلك يعزه وينصره ويؤيده ويعليه ويعلي كلمته ، ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به ولا بدعوة إلا استجابها له فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء فضلاً عن رب الأرض والسماء فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه وهذه عندكم شهادة زور وكذب.
فلما سمع ذلك قال معاذ الله أن يفعل الل هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد.
قلت : فما لك لا تدخل في دينه ؟ ، قال : إنما بعث إلى الميين الذين لا كتاب لهم ، وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه .
قلت له : غلبت كل الغلب ، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق ، وإن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم ، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب ، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به ، فأمسك ولم يحر جواباً.
وقريب من هذه المناظرة ما جرى لبعض لعلماء المسلمين مع بعض اليهود ببلاد المغرب قال له المسلم : في التوراة التي بأيديكم إلى اليوم أن اله قال لموسى : إني أقيم لبني إسرائيل من أخوتهم نبياً مثلك اجعل كلامي على فيه ، فمن عصاه انتقمت منه .(1/130)
قال له اليهودي : ذلك يوشع بن نون .
فقال المسلم : هذا محال من وجوه: (أحدها) أنه قال عندك في آخر التوراة: أنه لا يقوم في بني إسرائيل نبي مثل موسى (الثاني) أنه قال من إخوتهم وإخوة بني إسرائيل إما العرب وإما الروم ، فإن العرب بنو إسماعيل والروم بنو العيص ، وهؤلاء إخوة بني إسرائيل ، فأما الروم فلم يقم منهم نبي سوى أيوب وكان قبل موسى فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة ، فلم يبق إلا العرب وهم بنو إسماعيل وهم إخوة بني إسرائيل ، وقد قال الله في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب: إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد أخوته وهم بنو إسرائيل ، وهذه بشارة بنبوة ابنه محمد الذي نصب فسطاطه وملك أمته في وسط بلاد بني إسرائيل وهي الشام التي هي مهر ملكه كما تقدم من قوله وملكه بالشام.
فقال له اليهودي : فعندكم في القرآن : وإلى مدين أخاهم شعيباً ، وإلى عاد أخاهم هوداً ، وإلى ثمود أخاهم صالحاً ، والعرب تقول: يا أخا تميم لواحد منهم ، فهكذا قوله أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم قال المسلم الفرق بين الموضعين ظاهر ، فإنه من المحال أن يقال : أن بني إسرائيل إخوة بني إسرائيل وبني تميم إخوة بني تميم وبني هاشم إخوة بني هاشم ، هذا مالا يعقل في لغة أمة من الأمم ، بخلاف قولك : زيد أخو بني تميم ، وهو أخو عاد ، وصالح أخو ثمود أي واحد منهم ، فهو أخوهم في النسب ولو قيل عاد أخو عاد وثمود أخو ثمود ومدين أخو مدين لكان نقصاً ، وكان نظير قولك بنو إسرائيل ، إخوة بني إسرائيل فاعتبار أحد الموضعين بالآخر خطأ صريح.
قال اليهودي : فقد أخبر أنه سيقيم هذا النبي لبني إسرائيل ، ومحمد إنما أقيم للعرب ولم يقم لبني إسرائيل ، فهذا الاختصاص يشعر بأنه مبعوث إليهم لا إلى غيرهم .(1/131)
قال المسلم : هذا من دلائل صدقه ، فإنه رسول الله إلى أهل الأرض كتابيهم وأميهم ، ونص الله في التوراة على أنه يقيمه لهم لئلا يظنوا أنه مرسل إلى العرب والأميين خاصة ، والشئ يخص بالذكر لحاجة المخاطب إلى ذكره لئلا يتوهم السامع أنه غير مراد باللفظ العام ولا داخل فيه ، وللتنبيه على أن ما عداه أولى بحكمه ولغير ذلك من المقاصد ، فكان في تعيين بني إسرائيل بالذكر إزالة لوهم من توهم أنه مبعوث إلى العرب خاصة ، وقد قال تعالى : لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك وهؤلاء قومه ولم ينف ذلك أن يكون نذيراً لغيرهم، فلو أمكنك أن تذكر عنه أنه ادعى أنه رسول إلى العرب خاصة لكان ذلك حجة ، فأما وقد نطق كتابه وعرف الخاص والعالم بأنه ادعى أنه مرسل إلى بني أسرائيل وغيرهم فلا حجة لك.
قال اليهودي : إن أسلافنا من اليهود كلهم على أنه ادعى ذلك ، ولكن العيسرية منا تزعم أنه نبي العرب خاصة ولسنا نقول بقولهم ، ثم التفت إلى يهودي معه فقال نحن قد جرى شأننا على يهودية ، وتالله ما أدري كيف التخلص من هذا العربي ، إلا أنه أقل ما يجب علينا أن نأخذ به أن أنفسنا النهى عن ذكره بسوء.
وقال محمد بن سعد في الطبقات حدثنا معن بن عيسى حدثنا معاوية بن صالح عن أبي فروة عن ابن عباس أنه سأل كعب الأحبار : كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال : نجده محمد بن عبد اله ، مولده بمكة ومهاجره إلى طابة ، ويكون ملكه بالشام ، ليس بفحاش ولا سخاب بالأسواق ، ولا يكافئ السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح.(1/132)
وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش ، عن أبي صالح قال : قال كعب : نجد مكتوباً محمد رسول اله لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، وأمته الحمادون يكبرون الله على كل نجد ويحمدونه في كل منزلة ، يأتزرون على أنصافهم ، ويتوضئون على أطرافهم ، مناديهم في جو السماء ، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء ، لهم دوي كدوي النحل مولده بمكة ، ومهاجرة بطابة ، وملكه بالشام.
قال الدارمي وأخبرنا زيد بن عوف ، حدثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ذكوان أبي صالح ، عن كعب قال : في السطر الأول محمد رسول الله ، عبد المختار ، لا فظ ولا غليظ ، ولا صخاب بالأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، مولده بمكة ، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام.
وفي السطر الثاني محمد رسول اللله ، أمته الحمادون يحمدون الله في كل حال ومنزلة ، ويكبرونه على كل شرف ، رعاة الشمس ، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة ، يأتزرون على أوساطهم ، ويوضئون أطرافهم ، وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل.
وقال عاصم بن عمر بن قتادة ، عن نملة بن أبي نملة ، عن أبيه قال : كانت بنو قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ويعلمون الولدان صفته وسامه ومهاجره ، فلما ظهر حسدوا ويغوا وأنكروا.
وذكر أبو نعيم في دلائل النبوة من حديث سليمان بن سحيم ورميح بن عبد الرحمن كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، قال : سمعت أبي مالك بن سنان يقول : جئت بني عبد الأشهل يوماً لأتحدث فيهم ونحن يومئذ في هدنة من الحرب ، فسمعت يوشع اليهودي يقول : أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم.(1/133)
فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته ؟ فقال : رجل ليس بالقصير ولا بالطويل ، في عينيه حمرة ، يلبس الشملة ، ويركب الحمار ، وهذا البلد مهاجره قال فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع ، فأسمع رجلاً منا يقول : هذا وحده يقوله ؟! كل يهود يثرب تقول هذا ، قال أبي : فخرجت كتى جئت يهود بني قريظة فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الزربير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا بخروج نبي وظهوره ، ولم يبق أحد إلا أ،مد ، هذه مهاجرة ، قال أبو سعيد : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو أسلم الزبير وذووه من رؤساء يهود لأسلمت يهود كلها إنما هم لهم تبع.
وقال النضر بن سلمة حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن صالح بن محمد ، عن أبيه ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن محمد بن مسلمة قال : لم يكن في بني عبد الأشهلا إلا يهودي واحد يقال له يوشع ، فسمعته يقول وإني لغلام : قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت ، ثم أشار بيده إلى نحو بيت الله الحرام ، فمن أدركه فليصدقه ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا وهو بين أظهرنا ولم يسلم حسداً وبغياً.(1/134)
قال النضر : وحدثنا عبد الجبار بن سعيد ، عن أبي بكر بن عبد الله العامري ، عن سليم بن يسار ، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال : ما كان في الأوس والخزرج رجل أوصف لمحمد من أبي عامر الراهب ، كان يألف اليهود ويسائلهم عن الدين ويخبرونه بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن هذه دار هجرته ، ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبره بمثل ذلك ، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى فأخبروه بصفة الله صلى الله عليه وسلم ، وأن مهاجره يثرب ، فرجع أبو عامر وهو يقول : أنا على دين الحنيفية ، وأقام مترهبا ولبس المسوح ، وزعم أنه على دين ابراهيم وأنه ينتظر خروج النبي ، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لم يخرج إليه وأقام على ما كان عليه.
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وبغى ونافق ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد .
بم بعثتت ؟ قال بالحنيفية، قال : أنت تخلطها بغيرهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتيت بها بيضاء ، أين ما كان يخبرك الأحبار من اليهود والنصارى من صفتي ؟ فقال : لست الذي وصفوا فقا النبي صلى الله عليه وسلم كذبت فقال ما كذبت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أماته الله وحيداً طريداً ، قال: آمين ، ثم رجع إلى مكة وكان مع قريش يتبع دينهم وترك ما كان عليه ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريداً غريباً وحيداً.
وقال الواقدي : حدثني محمد بن سعد الثقفي وعبد الرحمن بن عبد العزيز في جماعة كل حدثني بطائفة من الحديث ، عن المغيرة بن شعبة أنه دخل على المقوقس وأنه قال له : إن محمداً نبي مرسل ، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه قال المغيرة فأقمت بالاسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها وسألت أساقفها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى الله عليه وسلم.(1/135)
وكان أسقف من القبط وهو رأس كنيسة أبي محنس كانوا يأتون بمرضاهم فيداويهم ويدعو لهم ، لم أر أحداً قط لا يصلي الخمس أشد اجتهاداً منه ، فقلت : أخبرني ثل بقي أحد من الأنبياء؟ قال : نعم وهو آخرهم ليس بينه وبين عيسى أحد وهو نبي قد أمرنا عيسى باتباعه ، وهو النبي الأمي العربي ، اسمه أحمد ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، في عينيه حمرة ، وليس بالأبيض ولا بالأدم يعفي شعره ، ويلبس ما غلظ من الثياب ، ويجتزي بما لقي من الطعام ، سيفه على عاتقه ولا يبالي من لاقى يباشر القتال بنفسه ، ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم هم له أشد حباً من أولادهم وآبائهم ، يخرج من أرض القرظ ، ومن حرم يأتي وإلى حرم يهاجر إلى أرض مسبخة ونخل ، يدين بدين إبراهيم ، يأتزر على وسطه ، ويغسل أطرافه ، ويخص بما لم يخص به الأنبياء قبله ، وكان النبي يبعث إلى قومه ويبعث إلى الناس كافة ، وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركته الصلاة تيمم ، وصلى ومن كان قلبهم مشدد عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبيع.
وقال الطبراني : حدثنا على بن عبد العزيز ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد ، عن أبيه ، عن جده سعيد بن زيد ، أن زيد بن عمرو وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل ،فقال لزيد : من أين أقبلت؟ قال من بيت إبراهيم ، قال : وما تلتمس ؟ قال ألتمس الدين ، قال ارجع فإنه يوشك أن يظهر الذي تطلب في أرضك ، فرجع وهو يقول : لبيك حقاً حقاً ، تعبداً ورزقاً.(1/136)
وقال ابن قتيبة في كتاب الأعلام : حدثني يزيد بن عمرو ، حدثنا العلاء ابن الفضل، حدثني أبي ، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية عن أبي سوية عن أبيه خليفة بن عبدة المنقري قال : سألت محمد بن عدي : كيف سماك أبوك عدي محمداً؟ قال : أما إني قد سألت أبي عما سألتني عنه ، فقال خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدهم ومجاشع بن دارم ويزيد بن عمرو بن ربيعة وأسامة بن مالك بن جندب نريد ابن جفنة الغساني ، فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير فيه شجرات وقربه ديراني فأشرف علينا ، وقال : إن هذه اللغة ما هي لأهل هذا البلد ، قلنا نعم نحن قوم من مضر ، قال : من أي المضريين ؟ قلنا من خندق ، قال : أما فإنه سيبعث فيكم وشيكاً نبي فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا ، فإنه خاتم النبيين، واسمه محمد ، فلما انصرفنا من عند ابن جفنة العساني وصرنا إلى أهلنا ولد لكل رجل منا غلام فسماه محمداً.
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكنيسة فإذا هو بيهودي يقرأ عليهم التوراة ، فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا ، وفي ناحيتها رجل مريض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما لكم أمسكتم؟ قال المريض إنه أتوا على صفة نبي فأمسكوا ، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال هذه صفتك وصفة أمتك : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول اله ثم مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : خذوا أخاكم.(1/137)
وقال محمد بن سعد : حدثنا محمد بن عمر ، قال حدثني سليمان بن داود ابن الحسين ، عن أبيه ، عن عكرمة عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : لما قدم تبعالمدينة ونزل بقباء بعث إلى أحبار اليهود فقال : إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم بها يهودية ويرجع الأمر إلى العرب ، فقال له شموال اليهودي ، وهو يومئذ أعلمهم ، أيها الملك ! إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني اسماعيل ، مولده بمكة ، اسمه أحمد ، وهذه دار هجرته.
وإن منزلك هذا الذي أنت به يكون به من القتل والجراح كثير في اصحابه وفي عدهم ، قال تبع : ومن يقاتله يومئذ وهو نبي كما تزعمون ؟ قال: يسير إليه قومه فيقتتلون هاهنا ، قال : فأين قبره ، قال : بهذا البلد ، قال : فإذا قوتل لمن تكون الدائرة؟ قال : تكون له مرة وعليه مرة ، وبهذا المكان الذي أنت به تكون عليه ويقتل أصحابه قتلاً لم تقتلوه في موطن ثم تكون له العاقبة ويظهر فلا ينازعه هذا الأمر أحد ، قال : وما صفته ؟ قال : رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ، في عينيه حمرة ، يركب البعير ، ويلبس الشملة ، سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى من أخ او ابن عم أو عم حتى يظهر أمره ، قال تبع : ما إلى هذه البلدة من سبيل ، وما يكون خرابها على يدي ، فخرج تبع منصرفاً إلى اليمن ، قال يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه لم يمت تبع حتى صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يهود يثرب يخبرونه ، وإن تبع مات مسلماً.
وقال محمد بن سعد : حدثنا محمد بن عم ، حدثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ، قال: كان الزبير بن باطا وكان أعلم اليهود يقول : إني وجدت سفراً كان أبي يكتمه على فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض القرظ ، صفته كذا وكذا، فتحدث به الزبير بعد أبيه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث بعد فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة فعمد إلى ذلك السفر فمحاه وكتم شأن انبي صلى الله عليه وسلم وصفته ، وقال ليس به.(1/138)
قال محمد بن عمر : وحدثني الضحاك بن عثمان ، عن مخرمة بن سليمان ، عن كريب عن ابن عباس ، قال : كان يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قبل أن يبعث ، وإن دار هجرته بالمدينة ، فلما ولد رسول اله صلى الله عليه وسلم قالت أحبار يهود : ولد أحمد الليلة ، هذا الكوكب قد طلع ، فلما تنبأ قالوا تنبأ أحمد قد طلع الكوكب كانوا يعرفون ذلك ويقرون به ويصفونه فما منعهم إلا الحسد والبغي.
وقال محمد ابن أسعد : أخبرنا على بن محمد عن ابي عبيدة بن عبد الله وعبد الله بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ،عن عائشة قالت : سكن يهودي بمكة يبع بها تجارات ، فلما كانت ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من مجالس قريش: هل كان فيكم من مولود هذه الليلة قالوا : لا نعلمه ، قال انظروا يا معشر قريش وأحصوا ما أقول لكم، ولد هذه الأمة أحمد ، وبه شامة بين كتفيه فيها شعرات ، فتصدع القوم من مجالسهم وهم يعجبون من حديثه ، فلما صاروا في منازلهم ذكروه لأهاليهم فقيل لبعضهم ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام وسماه محمداً ، فأتوا اليهودي في منزله فقالوا : علمت أنه ولد فينا غلام ، فقال : أبعد خبري أم قبله ؟ فقالوا قبله ، واسمه أحمد ، قال : فاذهبوا بنا إليه ، فخرجوا حتى أتوا أمه فأخرجته إليهم فرأى الشامة في ظهره فغشى على اليهودي ثم أفاق ، فقالوا : ما لك ؟ ويلك ! فقال : ذهبت النبوة من بني إسرائيل ، وخرج الكتاب من أيديهم ، فازت العرب بالنبوة ، أفرحتم يا معشر قريش ؟! أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب.(1/139)
قال ابن سعد : وأخبرنا علي بن محمد عن علي بن مجاهد ، عن محمد بن اسحق ، عن سالم مولى عبد الله بن مطيع ، عن أبي هريرة ، قال : أتى رسول اله صلى الله عليه وسلم بيت المادرس، فقال أخرجوا إلي أعلمكم ، فقالوا عبد الله ابن صوريا ، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فناشده بدينه وبما أنعم الله عليهم وأطمعهم من المن والسلوى وظللهم من الغمام أتعلم أني رسول الله ؟ قال اللهم نعم وإن القوم نعم وإنالقم ليعرفون ما أعرف ، وإن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكن حسدوك ، قال : فما يمنعك أنت ؟قال : أكره خلاف قومي عسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.
وقال أبوالشيخ الأصبهاني : حدثنا أبو يحيى الرازي ، حدثنا سهل بن عثمان حدثنا علي بن مسهر ، عن داود عن الشعبي، قال : قال عمر بن الخطاب : كتب آتي اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة التوراة للقرآن وموافقة القرآن للتوراة ، فقالوا : يا عمر ما أحد أحب إلينا منك لأنك تغشانا ، قلت : إنما أجئ لأعدب من تصديق كتاب الله بعضه بعضاً ، فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هذا صاحبك ، فقلت : أنشدكم الله وما أنزل عليكم من الكتاب أتعلمون أنه رسول الله ؟ فقال سيدهم : قد نشدكم الله فأخبروه ، فقالوا : أنت سيدنا فأخبره ، فقال : إنا نعلم أنه رسول اله ، قلت : فإني أهلككم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله لم لم تتبعوه ؟ قالوا : إن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة ، عدونا جبريل وهو ملك الفظاظة والغلظة ، وسلمنا ميكائيل وهو ملك الرأفة اللين .(1/140)
قلت : فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل ولا لميكائيل أن يعادي سلم جبريل ولا أن يسالم عدوه ، ثم قمت فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أقرئك آيات نزلت من قبل ، فتلا من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الأية ، فقلت : والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لاجترك بقول اليهود ، قال عمر : فلقد رأيني أشد في دين الله من حجر.
وذكر أبو نعيم من حديث عمرو بن عبسة قال : رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية ، وعرفت أنها على الباطل يعبدون الحجرة وهي لا تضر ولا تنفع فلقيت رجلاً من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين ؟ فقال يخرج رجل من مكة ويرغب عن آلهة قومه يأتي أفضل الدين ، فإذا سمعت به فاتبعه ، فلم يكن لي هم إلا مكة آتيها فأسأل : هل حدث فيها خبر ؟ فيقولون : لا فأنصرف إلى أهلي وأعتر الركبان فأسألهم فيقولون : لا ، فإني لقاعد إذ مر بي راكب فقلت : من أين جئت ؟ قال : من مكة ، قلت هل حدث حدث فيها ، قال : نعم ، رجل رغب عن آلهة قومه ودعا إلى غيرها ، قلت : صاحب الذي أريد فشددت راحلتي وجئت فأسلمت.
خبر المباهلة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين النصارى في زمنه
وقال عبد الغني بن سعيد : حدثنا موسى بن عبد الرحمن ، عن ابن جريج ، عن عطاء ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس : أن ثمانية من أساقفة نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب و السيد فأنزل اله تعالى: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم فقالوا أخرنا ثلاثة أيام ، فذهبوا إلى بني قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه ، وهو النبي الذي نجده في االتوراة والإنجيل ، فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حل في صفة وألف حلة في رجب ودراهم.(1/141)
وقال يونس بن بكير عن قيس بن الربيع ، عن يونس بن أبي سالم ، عن عكرمة : أن ناساً من أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث كفروا به ، فذلك قوله تعالى : فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .
وقال ابن سعد : حدثنا محمد بن اسماعيل بن أبي فديك عن موسى بن يعقوب الزمعي عن سهل مولى عثمة أنه كان نصرانياً وكان يتيماً في حجر عمه وكان يقرأ الإنجيل ، قال فأخذت مصحفاً لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة أنكرت كثافتها ، فإذاثي ملصقة ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا قصير ولا طويل ، أبيض بين كتفيه خاتم النبوة، يكثر الاحتباء ولا يقبل الصدقة ، ويركب الحمار والبعير ، وحتلب الشاة ويلبس قميصاً مرقعاً وهو من ذرية اسماعيل اسمه أحمد ، قال فجاء عمي فرأى الورقة فضربني ، وقال مالك وفتح هذه الورقة : فقلت : فيها نعت النبي أحمد ، فقال إنه لم يأت بعد.
وقال وهب : أوحى الله إلى أشعياء: إني مبتعث نبياً أفتح به آذاناً صماً وقلوباً غلفاً ، أ>عل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والوفاء والصدق طبيعته ، العفو والمغفرة والمعروف خلقه ، والعدل سيرته ، والحق شريعته ، والهدى أمامه ، والإسلام ملته ، وأ،مد أمه ، أهدى به بعد الضلالة ، وا'لم به بعد الجهالة ، وأكثر به بعد القلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم مختلفة ، وأجعل أمته خير أمة ، وهم رعاة الشمس ، طوبى لتلك القلوب.
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عثمان بن عبد الرحمن : أن رجلا من أهل الشام من النصارى قدم مكة ، فأتى على نسوة قد اجتمعن في يوم عيد من أعيادهم وقد غاب أزواجهن شفي بعض امورهم ، فقال يا نساء تيماء إنه سيكون فيكم نبي يقال له أحمد ، أيتما امرأة منكن استطاعت أن تكون له فراشاً فلتفعل فحفظت خديجة حديثه.(1/142)
وقال عبد المنعم بن إدريس ، عن أبيه ، عن وهب ، قال في قصة داود ، ومما أوحي الله إليه في الزبور : يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي يسمى أحمد ومحمد ، صادقاً سيداً ، لا أغضب عليه أبداً ولا يغضبني أبداً ، قد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأمته مرحومة ، اعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء ، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل ، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء من قبلهم وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل من قبلهم يا داود إني فضلت محمداً وأمته على الأمم كلها : أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم ، لا أؤخذهم بالخطأ والنسيان ، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شئ طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة أفضل من ذلك ، ولهم في المدخور عندي أضعافاً مضاعفة أفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا واسترجعوا الصلاة والرحمة والهدىفإن دعوني استجبت لهم ، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقاً فهو معي في جنتي وكرامتي ، ومن لقيني وقد كذب محمداً أو كذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صباً وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار.
وقال عفان : حدثنا همام عن قتادة ، عن زراة بن أبي أوفى ، عن مطرف بن مالك : أنه قال شهدت فتح تستر مع الأشعري فأصبنا قبر دانيال بالسوين ، وكانوا إذا أجدبوا خرجوا فاستسقوا به فوجدوا معه رقعة فلطبها نصراني من الحيرة يسمى نقيماً فقرأ وفي أسفلها ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين فأسلم منهم يومئذ اثنان وأربعون حبراً ، وذلك في خلافة معاوية فأتحفهم معاوية وأعطاهم.(1/143)
قال همام : فأخبرني بسطام بن مسلم أن معاوية بن قرة قال : تذاكرنا الكتاب إلى ما صار فمر عليها شهر بن حوشب فدعوناه فقال على الخبير سقطتم : إن الكتاب كان عند كعب فلما احتضر قال ألا رجل أئتمنه على أمانة يؤديها؟ قال شهر : فقال ابن عم لي يكنى أبا لبيد : أنا ، فدفع إليه الكتاب ، فقال : إذا بلغت موضع كذا وكذا فاركب قرقورا ثم اقذف به في البحر ففعل ، فانفرج الماء فقذفه فيه ورجع إلى كعب فأخبره فقال صدقت أنه من التوراة التي أنزلها الله عز وجل.
أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي ونحن نذكر بعضها
قال الزبير بن بكار : حدثني عمى مصعب ، عن مصعب بن عثمان، قال : كان ا/ية قد نظر في الكتب وقرأها ولبسا لمسوح تعبداً ، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر والأوثان والتمس الدين ، وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبياً يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قيل له : هذا الذي كنت تبشر به وتقول فيه ، فحسده عدو الله وقال أنا كنت أرجو أن أكون هو ، فأنزل الله عز وجل فيه : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين وهو الذي يقول : كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفية زور قال الزبير :(1/144)
وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي ، قال : كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين ويطمع في النبوة فخرج إلى الشام فمر بكنيسة ، وكان معه جماعة من العرب من قريش وغيرهم فقال أمية : إن لي حاجة في هذه الكنيسة فانتظروني ، فدخل الكنيسة ثم خرج إليهم كاسفاً متغيراً فرمى بنفسه ، فأقاموا عليه حتى سرى عنه ثم مضوا فقضوا حوائجهم ثم رجعوا فلم صاروا إلى الكنيسة قال انتظروني ودخل الكنيسة ثم خرج أسوأ من حاله الأول ، فقال له أبو سفيان بن حرب : قد شققت علي رفقتك ، فقال : خلوني فإني أرتاد لنفسي لمعادي ، وإن ههنا راهباً عالماً أخبرني أنه سيكون بعد يسى ست رجفات وقد مضت منها خمس وبقيت واحدة ، فخرجت وأنا أكمع أن أكون نبياً وأخاف أن يخطئني فأصابني ما رأيت ، فلما رجعت أتيته فقال قد كانت الرجفة وقد بعث نبي من العرب فأيست من النبوة فأصابني ما رأيت إذ فاتني ما كنت أطمع فيه.
قال وقال الزهري : خرج أمية في سفر فنزلوا منزلاً قام أمية وجها وصعد في كثيب فرفعت له كنيسة فانتهى إليها فإذا شيخ جاس ، فقال لأمية حين رآه إنك لمتبوع فمن أين يأتيك رئيك؟ قال من شقي الأيسر، قال : فأي الثياب أحب إليه أن تلقاه فيها ؟ قال السواد ، قال كدت تكون نبي العرب ولست به، هذا خاطر من الجن وليس بملك وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه الملك من شقه الأيمن ، وأحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض.
قال الزهري : وأتى أمية أبا بكر فقال له : يا ابا بكر عمي الخبر ، فهل أحست شيئاً ؟ قال : لا والله ، قال قد وجدته يخرج في هذا العام .(1/145)
وقال عمر بن شبة : سمعت خالد بن يزيد يقول: إن أمية وأبا سفيان بن حرب صحباني في تجارة إلى الشام ، فذكر نحو الحديث الأول ، وزاد فيه فخرج من عند الراهب وهو ثقيل ، فقال له أبو سفيان : إن بك لشراً فما قضيتك ؟ قال خيراً ، أخبرني عن عتبة بن ربيعة كم سنه ؟ فذكر سنا ، قال أخبرني عن ماله ، فذكر مالاً ، فقال له : وضعته، قال أبو سفيان بل رفعته ، فقال إن صاحب هذا الأمر ليس بشيخ ولا ذي مال ، قال وكان الراهب أيأسه وأخبره أن الأمر لرجل من قريش.
قال الزبير : وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي ، قال حدثني رجل من أهل الكوفة ، قال : كان أمية نائماً فجاءه طائران فوقع أحدهما على باب البيت ودخل الآخر فشق عن قلبه ثم رده الطائر ، فقال له الطائر الآخر أوعى ؟ قال: نعم ، قال : أزكى ؟ قال : أبى.
وقال الزهري : دخل يوماً أمية بن الصلت على أخته وهي تهنأ أدماً لها فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت ، قالت فانشق جانب من السقف في البيت وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه ، فشق الواقع في صدره فأخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأخر للذي على صدره : أوعى؟ قال : وعي ، قال : أقبل ؟ ، قال : أبى ، قال فرد قلبه في موضعه ثم مضى ، نعهما أمية طرفه وقال : لبيكما لبيكما ها أنا لديكما .
لا برئ فأعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر ، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه حتى أخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأعلى للواقع : أوعى ؟ قال : وعى ، قال : أقبل؟ قال : أبى ، ونهض فأتبعها أمية بصره فقال : لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما ، لا مال لي يغنيني ولا عشيرة تحميني .(1/146)
فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه حتى أخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأعلى للواقع : أوعى؟ قال : وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، ونهض فأتبعها أمية بصره فقال : لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما ، محفوف بالنعم محوط بالذنب ، قال فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه فأخرج قلبه فشقه ، فقال الأعلى: أوعى قال وعى ، قال : أقبل ؟ قال : أبى ، قال ونهض فأتبعهما طرفه فقال : لبيكما لبيكما ها أها ذا لديكما.
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك إلا ألما
ثم انطبق السقف وجلس أمية يمسح صدره ، فقلت يا أخي ! هل تجد شيئاً؟ قال : لا ولكني أجد حراً في صدري ، ثم أنشد يقول :
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا
اجعل الموت نصب عينيك واحذر غولة الدهر إن للدهر غولا
وقال مروان بن الحكم ، عن معاوية بن أبي سفيان عن أبي سفيان بن حرب، قال : خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت تجاراً إلى الشام ، فكان كلما نزلنا منزلاً أخرج منه سفراً يقرؤه ، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى فرأوه فعرفوه أهدوا له ، وذهب معهم إلى بيعتهم ، ثم رجع في وسط النهار فطرح نفسه واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما ، ثم قال : يا أبا سفيان .
هل لك في عالم من علماء النصارى إليه تناهى علم الكتب تسأله عما بدا لك؟ قلت :لا، فمضى هو وحده وجاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح وأصبح كئيباً حزيناً ما يكلمنا ولا نكلمه.
فسرينا ليلتين على ما به من الهم .(1/147)
فقلت : له ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك ، قال : لمنقلبي ، قلت : وهل لك من منقلب ؟ قال : إي والله لأموتن ولأحاسبن ، قلت : فهل انت قابل أماني؟ قال : على ماذا؟ قلت : على أنك لا تبعث ولا تحاسب ، فضحك وقال : بلى والله لتبعثن ولتحاسبن، ولتدخلن فريق في الجنة وفريق في السعير ، قلت : ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك ؟ قال : لا علم لصاحبي بذلك في ولا في نفسه ، فكنا في ذلك ليلتنا يعجب منا ونضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق، فبعنا متاعنا وأقمنا شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرىالنصارى فلما رأوه جاءوه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم ، حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم رمى بنفسه على فراشه ، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح مبثوثاً حزيناً لا يكلمنا ولا نكلمه.(1/148)
فرحلنا فسرنا ليالي ، ثم قال : يا صخر حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم ؟ قلت إي والله ، قال : أو يصل الرحم ويأمر بصلتها ؟ قلت نعم ، قال فكريم الطرفين وسيط في العشيرة ؟ قلت نعم ، قال : فهل تعلم قريشاً أشرف منه؟ قلت : لا والله ، قال أمحوج هو ؟ قلت : لا بل هو ذو مال كثير ، قال : كم أتى له من السنين؟ قلت : هو ابن سبعين أو قد قاربها ، قال : فالسن والشرف أزريا به ، قلت : واله با زاده خيراً : قال هو ذاك ، ثم إن رأيت بي أني جئت هذا العالم فسألته عن هذا الذي ينتظر ، فقال : رجل من العرب من أهل بيت تحجه العرب ، فقلت : فينا بيت تحجه العرب ، قال هو من إخوانكم وجيرانكم من قريش ، فأصابني شئ ما أصابني مثله إذ خرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون أنا هو ، فقلت : فصفه لي ؟ فقال: رجل شاب حين دخل في الكهولة ، بدؤ أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم ، ويصل الرحم ويأمر بصلتها ، وهو كريم الطرفين ، متوسط في العشيرة ، أكثر جنده من الملائكة ، قلت : وما آية ذلك ؟ قال : رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عدة رجفات كلها فيها مصيبة ، وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة ، يخرج على أثرها ، فقلت هذا هو الباطل ، لئن بعث الله رسولاً لا يأخذه إلا مسناً شريفاً ، قال أمية : والذي يحلف به إنه لهكذا.(1/149)
فخرجنا حتى إذا ان بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا راكباً من خلفنا فإذا هو يقول أصابت الشام من بعدكم رجفة دثر أهلها فأصابتهم مصائب عظيمة ، فقال أمية كيف تبرر يا أبا سفيان ؟ فقلت : والله ما أظن صاحبك إلا صادقاً ، وقدمنا مكة ثم انطلقت حتى أتيت أرض الحبشة تاجراً وكنت فيها خمسة أشهر ثم قدمت مكة فجاءني الناس يسلمون علي وفي آخرهم محمد وهند تلاعب صبيانها ، فسلم علي ورحب بي ، وسألني عن سفري ومقدمي ، ثم انطلق فقلت والله إن هذا الفتى لعجب ما جاءني من قريش أحد له بضاعة إلا سألني عنها وما بلغت ، والله إن له معي لبضاعة ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني عنها فقالت: أو ما علمت بشأنه ؟ فقلت - وفزعت - وما شأنه ؟ قالت : يزعم أنه رسول الله فذكرت قول النصراني فوجمت ، ثم قدمت الطائف فنزلت على أمية فقلت : هل تذكر حديث النصراني ؟ قال : نعم ، فقلت : قد كان ، قال : ومن؟ قلت : محمد بن عبد الله ، فتصبب عرقاً .
فقلت : قد كان من أمر الرجل ما كان فأين أنت منه؟ فقال : والله لا أؤمن بنبي من غير ثقيف أبداً.
فهذا حديث أبي سفيان عن أمية ، وذلك حديثه عن هرقل وهو في صحيح البخاري ، وكلاهما من أعلام النبوة المأخوذة عن علماء أهل الكتاب.
خبر بحيرا الراهب
وذكر الترمذي غيره من حديث عبد الرحمن بن عزوان وهو ثقة : أخبرنا يونس بن ابي اسحاق ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ قريش ، فلما أشرفوا على الراهب حطوا عن رحالهم ، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فر يخرج إليهم ولا يلتفت.(1/150)
قال : فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى إذا جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين يبعهث الله رحمة للعالمين ، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك ؟ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ، ولا يسجدون إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أفل من غضروف كتفيه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاماً فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال أرسلوا إليه فأقبل وعليه عمامة تظله ، فلما دنى من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فئ الشجرة ، فلما جلس مال فئ الشجرة عليه ، فقال انظروا إلى فئ الشجرة مال عليه .
قال فبينا هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه وإذا بسبعة قد أقبولا من الروم فاستقبلهم ، وقال ما جاء بكم ؟ قالوا : بلغنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلما يبقى طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا ، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه فهل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا: لا ، قال : فبايعوه وأقاموا معه ، قال أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا أبو طالب ، فلم يزل يناشدهم حتى رده ، وقد روى محمد بن سعد هذه القصة مطولة.(1/151)
قال ابن سعد حدثنا محمد بن عمر بن واقد ، حدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر الزبيري ، قال محمد بن عمر وحدثنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين ، قال لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيراً في صومعة له وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه ، فلما نزلوا على بحيراً وكانوا كثيراً ما يمرون به ولا يكلمهم حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلاً قريباً من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا ، فصنع لهم طعاماً ثم دعاهم ، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تل رسول الله صلى الله عليه وسلم من دونهم حتى تملوا تحت الشجرة ، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة فأخضلت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حجتي استظل تحتها.
فلما رأى بحيراً ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فأتى به وأرسل إليهم، وقال إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش وأنا أحب أن تحضروه كلكم، ولا تخلفوا أحداً منكم كبيراً ولا صغيراً حراً لا عبداً فإن هذا شئ تكرموني به ، فقال رجل إن لك لشأناً يا بحيراً ما كنت تصنع هذا فما شأنك اليوم؟ قال إني أحب أن أكرمكم ولكم حق ، فاجتمع القوم إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحالهم تحت الشجرة.(1/152)
فلما نظر بحيراً إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرفها ويجدها عنده وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ويراها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بحيراً يا معشر قريش لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي ؟ قالوا ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سناً في رحالهم ، فقال ادعوه ليحضر طعامي فما أقبح أن تحضروا يتخلف رجل واحد مع إني أراه من أنفسكم ، فقال القوم هو والله أوسطنا نسباً وهو ابن أخي هذا الرجل يعنون أبا طالب ، وهو من ولد عبد المطلب ، فقال الحارث بن عبد المطلب : والله إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ، ثم قال إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام والطعام والغمامة تسير على رأسه ، وجعل بحيراً يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده في صفته.
فلما تفرقوا عن الطعام قام إليه الراهب فقال : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألا ما أخبرتني عما أسألك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما ، فبالله ألا أخبرتني عما أسألك عنه، قال : سلني عما بدا لك ، فجعل رسول الله 0ص) يخبره فيوافق ذلك ما عنده ، ثم جعل ينظر بين عنينه ، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم.
وقال قريش : إن لمحمد عند هذا الراهب لقدراً ، وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه ، فقال الراهب لأبي طالب : ما هذا الغلام منك ؟ قال : هو ابني ، قال : ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً ، قال فابن أخي ، قال : فما فعل أبوه؟ قال : صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن عرفوا منه ما أعرف ليبغنه عنته فإنه كائن لابن أخيك هذا شان عظيم نجده في كتابنا ، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة.(1/153)
فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعاً ، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صفته فأرادوا أن يغتالوه فذهبوا إلى بحيراً فذكروا له أمره فنهاهم أشد النهي، وقال لهم : أتجدون صفته؟ قالوا : نعم ، قال فما لكم إليه سبيل ، فصدقوه وتركوه ، ورجع أبو طالب فما خرج به سفراً بعد ذلك خوفاً عليه.
خبر آخر عن هرقل
وذكر الحاكم والبيهقي وغيرها من حديث عبد الله بن إدريس ، عن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي امامة ، عن هشام بن العاص ، قال : ذهبتت أنا ورجل آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا غوطة دمشق ، فنزلنا على جبلة بن ألأيهم الغساني، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له ، فأرسل إلينا برسول نكلمه ، فقلنا لا والله لا نكلم رسولاً ، غنا بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمنا وإلا لم نكلم الرسول ، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك ، قال : فأذن لنا ، فقال : تكلموا.
فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام وإذا عليه ثياب سوداء فقال له هشام : وما هذه التي عليك ؟ فقال لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام ، قلنا ومجلسك هذا ، فوالله لنأخذنه منك ، ولنأخذن ملك الملك الأعظم ، أخبرنا بذلك نبينا ، فقال لستم بهم ، بل هم قوم يصومون بالنهار ويفطرون بالليل ، فكيف صومكم ؟ فأخبرناه فملئ وجهه سواداً ، فقال قوموا وبعث رسولاً إلى الملك فخرجنا حتى إذا كنا قريباً من المدينة قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فإن شئتم حملناكم على براذين ويغال، قلنا والله لا ندخل إلا عليها ، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ، فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا ، فقلنا لا إله إلا الله والله أكبر .
والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح.(1/154)
فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم ، وأرسل إلينا أن ادخلوا ، فدخلنا عليه وهو على فراش له وعنده بطارقته من الروم وكل شئ في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه نضحك، وقال ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا رجل فصيح بالعربية كثير الكلام، فقلنا إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك وتحيتك التي تحيا بها لا يحل لنا أن نحييك بها، قال : كيف تحيتكم فيما بينكم ؟ فقلنا السلام عليكم.
قال : كيف تحيون ملككم ، قلنا بها ، قال : كيف يرد عليكم ؟ قلنا بها ، قال فما أعظم كلامكم؟ قلنا لا إله إلا الله والله أكبر .
فلما تكلمنا بها - والله أعلم - لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها ، قال : فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة ، كلما قلتموها في بيوتكم تنتفض عليكم بيوتكم ، قلنا : لا ، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك ، قال : وددت أنكم كلما قلتموها ينتفض كل شئ عليكم وإني خرجت من نصف ملكي ، قلنا لم ؟ قال : لأنه يكون أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة وأن تكون من حيل الناس ، ثم سألنا عما أراد فأخبرناه.(1/155)
ثم قال : كيف صلاتكم وصومكم ؟ فأخبرناه، فقال ي : قوموا فقمنا ، فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير ، فأقمنا ثلاثاً ، فأرسل إلينا ليلاً فدخلنا عليه ، فاستعاد قولنا فأعدناه ، ثم دعا بشئ كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب ففتح بيتاً وقفلاً واستخرج منه حريرة سوداء فنشرها، فإذا فيها صرة حمراء ، وإذا فيها رجل ضخم العينين ، عظيم الإليتين لم أر مثل طول عنقه وإذا ليست له لحية وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله ، قال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال هذا آدم عليه السلام ، وإذا هو أكثر الناس شعراً ، ثم فتح باباً آخر واستخرج من حريرة سوداء ، وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له شعر قطط أحمر العينين ضخم الهامة حين اللحية ، قال : هل تعرفون هذا : قلنا لا ، قال : هذا نوح عليه السلام ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة سوداء وإذ فيها ورة رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخد أبيض اللحية كأنه يتبسم ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا ، قال : هذا إبراهيم عليه السلام ، ثم فتح باباً آخر فستخرج حريرة فإذا صورة بيضاء وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتعرفون هذا؟ قلنا نعم محمد رسول الله وبكينا.(1/156)
قال والله يعلم إنه قام قائماً ثم جلس فقال : والله إنه لهو؟ قلنا نعم غنه لهو كأنما ننظر إليه ، فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال أما إنه كان آخر البيوت ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم ، ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكت الأسنان مقلص الشفة كأنه غضبان ، قال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا موسى بن عمران ، وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس عريض الجبين في عينيه قبل ، قال هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا ، قال : هذا هارون ، ثم فتح باباً آخر فاستخرج حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعه كأنه غضبان ، فقال: هل تعرفون هذا قلنا لا ، قال: هذا لوط.
ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة أقنى خفيف العارضين حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا قلنا لا ، قال : هذا إسحاق، ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل تشبه إسحاق إلا أنه على شفته السفلى خال فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا ، قال هذا يعقوب، ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه ، أقنىالأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه نوره ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا ، قال : هذا اسماعيل جد نبيكم ، ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة كأنها صورة آدم كأن وجهه الشمس ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا يوسف .(1/157)
ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أحمر ، حمش الساقين ، أخفش العينين ، ضخم البطن ، ربعة متقلد سيفاً ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا لا ، قال : هذا داود ، ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل ضخم الإليتين ، طويل الرجلين ، راكب فرساً، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا سليمان بن داود .
ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة بيضاء وإذا رجل شاب شديد سواد للحية ، لين الشعر ، حسن الوجه ، حسن العينين ، فقال : هل تعرفون هذا؟ قلنا لا ، قال : هذا عيسى.
قلنا من أين لك هذه الصور لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء ، لإنا رينا صورة نبينا مثله؟ قال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم ، وكانوا في خزانة آدم عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين فصارت إلى دانيال ، ثم قال أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبد لأشدكم ملكة حتى أموت.
ثم أجارنا وأحسن جائرتنا وسرحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصديق فأخبرناه بما رأينا وما قال لنا وما أجارنا فبكى أبو بكر ، وقال لو أراد الله به خيراً لفعل.
فهذا في الإخبار بنبوته مما تلقاه المسلمون من أفواه علماء اهل الكتاب والمؤمنين منهم ، والأول فيما نقلوه من كتبهم ، وعلمائهم يقرون أنه في كتبهم .
فالدليل بالوجه الأول يقام عليهم من كتبهم ، وبهذا الوجه يقام بشهادة من لا يتهم عليهم لأنه إما من عظمائهم ، وإما ممن رغب عن رياسته وماله ووجاهته فيهم وآثر الإيمان على الكفر والهدى على الضلال ، وهو في هذا مدع أن علمائهم يعرفون ذلك ويقرون به ولكن لا يطلعون جهالهم عليه.
فالأخبار والبشارة بنبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة عرفت من عدة طرق: (أحدها) ما ذكرناه ، وهو قليل من كثير وغيض من فيض.(1/158)
(الثاني) إخباه صلى الله عليه وسلم لهم أنه مذكور عندهم وأنهم وعدوا به وأن الأنبياء بشرت به، واحتجاجه عليهم بذلك ، ولو كان هذا الأمر لا وجود له البتة لكان مغرياً لهم بتكذيبه منفراً لأتباعه محتجاً على دعاه بما يشهد ببطلانها.
(الثالث) أن هاتين الأمتين معترفون بأن الكتب القديمة بشرت بنبي عظيم الشأن يخرج في آخر الزمان نعته كيت وكيت ، وهذا مما اتفق عليه المسلمون واليهود والنصارى فأما المسلمون فلما جاءهم آمنوا به وصدقوه وعرفوا أنه الحق من ربهم .
وأما اليهود فعلماؤهم رفوه وتيقنوا أنه محمد بن عبد لله فمنهم من آمن به ومنهم من جحد نبوته وقالوا لأتباعه أنه لم يخرج بعد وأما النصارى فوضعوا بشارات التوراة والنبوات التي بعدها على المسيح ، ولا ريب أن بعضها صريح فيه وبعها ممتنع مله عليه وبعضها محتمل ، وأما بشارات المسيح فحملوها كلها على الحواريين ، وإذا جاءهم ما يستحيل انطباقه عليهم حرفون أو سكتوا عنه وقالوا لا ندري من المراد به.(1/159)
(الرابع) اعتراف من أسلمنهم بذلك وأنه صريح في كتبهم ،وعن المسلمين الصادقين منهم تلقى الملمون هذه البشارات وتيقنوا صدقها وصحتها بشهادة المسلمين منهم بها مع تباين أعصارهم وأمصارهم وكثرتهم واتفاقهم على لفظها ، وهذا يفيد القطع بصحتها ولو لم يقر بها أهل الكتاب ، فكيف وهم مقرون بها لا يجحدونها وإنما يغالطون في تأويلها والمراد بها؟! وكل واحد من هذه الطرق الأربعة كاف في العلم بصحة هذه البشارات ، وقد قدمنا أن إقدامه صلى الله عليه وسلم على إخبار أصحابه وأعدائه بأنه مذكور في كتبهم بنعته وصفته وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناهم وتكراره ذلك عليهم مرة بعد مرة بعد مرة في كل مجمع وتعريفهم بذلك وتوبيخهم والنداء عليهم به من أقوى الأدلة القطعية على وجوده من وجهين أحدهما قيام الدليل القطعي على صدقه ، الثاني دعوته لهم بذلك إلى تصديقه ، ولو لم يكن له وجود لكان ذلك من أعظم دواعي كذبه والتنفير عنه.
وهذه الطرق يسلكها من يساعدهم على أنهم لم يحفوا ألفاظ التوراة والإنجيل ولم يبروا شيئاً منها فيسلكها بعض نظار الملمين معهم من غير تعرض إلى التبديل والتحريف .
وطائفة أخرى تزعم أنهم بدلوا وحرفوا كثيراً من ألفاظ الكتابين ، مع أن الغرض الحامل لهم على ذلك دون الغرض الامل لهم على تبيل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن البشارات لكثرتها لم يمكنهم إخفاؤها كلها وتبديلها ، ففضحهم ما عجزوا عن كتمانه أوتبديله.(1/160)
وكيف ينكر من الأمة الغضيبة قتلة الأنبياء الذين رموهم بالعظائم أن يكتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وقد جحدوا بنبوة المسيح ورموه وأمه بالعظائم ونعته والباشرة به موجود في كتبهم ؟ ومع هذا أطبقوا على جحد نبوته وإنكار بشارة به ، ولي يفعل بهم ما فعله بهم محمد صلى الله عليه وسلم من القتل والسبي وغنيمة الأموال وتخريب الديار وإجلائهم منها ، فكف لا تتوصى هذه الأمة بكتمان نعته وصفته وتبدله من كتبها؟ وقد عاب لله سبحانه عليهم ذلك في غير موع من كتابه ولعنهم عليه .
ومن العجب أنهم والنصارى يقرون أن التوراة كانت طول مملكة بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحه ، واليهود تقر أن السبعين كاهناً اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفاً من التوراة ، وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم حيث زال الملك عنهم ولم يبق لهم ملك يخافونه ويأخذ على أيجيهم ، ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله فلا يؤمن منه تحريف غيره واليهود تقر أن السامرة حرفوا مواضع من التوراة وبدلوها تبديلاً ظاهراً وزادوا ونقصوا ، والسامرة تدعي ذلك عليهم.
وأما الإنجيل فقد تقدم أن الذي بأيدي النصارى منه أربع كتب مختلة من تألف أربعة رجال : متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا .
فكيف تطرق التبديل والتريف إليها؟ ولى ما فيها من ذلك فقد صرفهم اله عن تبديل ما ذكرنا من البشارات بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وإزالته وإن قدروا على كنمانه من أتباعهم وجهالهم.
نماذج من التحريفات التي في التوراة والإنجيل(1/161)
وفي التوراة التي بأيديهم من التحريف والتبديل وما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء ما لا يشك فيه ذوو بصيرة ، والتوراة التي أنزلها الله على موسى بريئة من ذلك ، ففيها عن لوط رسول الله أنه خرج من المدينة وسكن في كهف الجبل ، ومعه ابنتاه ، فقالت الصغرى لكبرى : قد شاخ أبونا فارقدي بنا معه لنأخ منه نسلاً، فرقدت معه الكبرى ثم الصغرى، فم فعلتا ذلك في الليلة الثانية وحملتا منه بولدين موآب وعمون.
فهل يحسن أن يكون نبي رسول كريم على الله يوقعه الله سبحانه في مثل هذه الفاحشة العظيمة في آخر عمره ، ثم يذيعها عنه ويحكيها للأمم؟ وفيها : أن الله تجلى لموسى في طور سيناء وقال له بعد كلام كثير أدخل يدك في حجرك وأخرجا مبروصة كالثلج.
وهذا من النمط الأول ، والله سبحانه لم يتجل لموسى وإنما أمره أن يدخل يده في جيبه وأخبره بأنها تخرج بيضاء من غير سوء أي من غير برص.
وفيها أن هارون هو الذي صاغ لهم العجل ، وهذا إن لم يكن من زياداتهم وافترائهم فهرون اسم السامري الذي صاغه ليس هو بهارون أخي موسى.
وفيها: أن الله قال لإبراهيم : اذبح ابنك بكرك أسحاق ، وهذا من بهتهم وزيادتهم في كلام الله، فقد جمعوا بين النقيضين ، فإن بكره هو اسماعيل فإنه بكر أولاده ، واسحاق انما بشر به على الكبر بعد قصة الذبح.
وفيها: ورأى الله أن قد كثر فساد الآرميين في الأرض فندم على خلقهم ، وقال سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض والخشاش وطيور السماء لأني نادم على خلقها جداً.
تعلى الله عن إفك المفترين وعما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وفيها : ان الله سبحانه وتعالى علواً كبيراً تصارع مع يعقوب فضرب به يعقوب الأرض.(1/162)
وفيها : أن يهوذا بن يعقوب النبي زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها ثامار، فكان يأتيها مستديراً فغضب الله من فعله فأماته ، فزوج يهوذا ولده الآخر بها فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض علماً بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعواً باسم أخيه ومنسوبا إلى أخيه ، فكره الله ذلك من فعله فأماته ، فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شيلا ويتم عقلة ، ثم ماتت زوجة يهوذا وذهب إلى منزله ليجز غنمه ، فلما أخبرت ثامار لبست زي الزواني وجلس على طريقه ، فلما مر بها خالها زانية فراودها فطالبته بالأجرة فوعدها بجدي ورمى عندها عصاه وخاتمه فدخل بها فعلقت منه بولدين.
ومن ولد منهما كان داود النبي، فقد جعلوه ولد زنا كما جعلوا المسيح ولد زنا ، ولم كفهم ذلك حتى نسبوا ذلك إلى التوراة، وكما جعلوا ولدي لوط ولدي زنا ثم نسبوا داود وغيره من أنبيائهم إلى ذنيك الولدين.
وأما فريتهم على الله ورسله وأنبيائه ورميهم لرب العلامين ورسله بالعظائم فكثير جداً ، كقولهم: إن الله استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض ، فأنزل الله عز وجل على رسوله تكذيبهم بقوله : ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ، وقولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء ، وقولهم : إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار وقولهم : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة .
وقولهم :إن الله تعالى بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة.
وقولهم الذي حكيناه آنفاً: إن الله ندم على خلق بني آدم وأدخلوا هذه الفرية في التوراة وقولهم عن لوط: أنه وطئ ابنتيه وأولدهما ولدين نسبوا إليهما جماعة من الأنبياء ، وقولهم في بعض دعاء صلواتهم : انتبه كم تنام يا رب؟ استيقظ من رقدتك؟.(1/163)
فتجرؤوا على رب العالمين بهذه المناجاة القبيحة ، كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحتمي ، كأنهم يخبرونه أنه قد اختار الخمول لنفسه وأحبا به فيهزونه بهذا الخطاب للنباهة واشتهار الصيت.
قال بعض أكابهم بعد إسلامه: فترى أحدهم إذا تلى هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده ، ولا يشك أن كلامه يقع عند الله بموقع عظيم ، وإنه يؤثر في ربه ويحركه ويهزه وينخيه.
وعندهم في توراتهم: إن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته فأبصروا الله جهرة وتحت رجليه كرسي منظره كمنظر البلور ، وهذا من كذبهم وافترائهم علىالله وعلى التوراة وعندهم في : إن الله سبحانه لما رأى فساد قوم نوح وإن شرهم قد عظم ندم على خلق البشر في الأرض وشق عليه.
وعندهم في توراتهم أيضاً : إن الله ندم على تمليكه شاؤل على إسرائيل.
وعندهم فيها: أن نوحاً لما خرج من السفينة بنى بيتاً مذبحاً وقرب عليه قرابين ، واستنشق الله رائحة القتار ، فقال في ذاته لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس لأن خاطر البشر مبوع على الرداءة ، ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت.
(أصل التوراة التي بيد اليهود الآن) قال بعض علمائهم الراسخين في العلم ممن هداه الله إلى الأسلام : لسنا نرى أن هذه الفريات كانت في التوراة المنزل على موسى ، ولا نقول أيضاً أن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها ، بل الحق أولى ما اتبع ، قال : ونحن نذكر حقيقة سبب تبديل التوراة.
فإن علماء القوم وأحبارهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد من علمائهم وأخبارهم أنها عين التوراة المنزلة على موسى بن عمران البتة لأن موسى صان التوراة عن بني إسرائيل ولم يبثها فيهم خوفاً من اختلافهم من بعده في تأويل التوراة المؤدي إلى انقسامهم أحزاباً ، وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوي ، قال : ودليل ذلك قول التوراة ما هذه ترجمته : وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى أئمة بني لاوى.(1/164)
وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم ، لأن الإمامة وخدة القرابين والبيت المقدس كانت فيهم، ولم يبد موسى لبني إسرائيل من التوراة إلا نصف سورة ، وقال الله لموسى عن هذه السورة : تكون لي هذه لسورة شاهدة على إسرائيل ولا تنسى هذه السورة من أفواه أولادهم.
وأما بقية التوراة فدفعها إلى أوىد هارون نجعلها فيهم وصانها عمن سواهم ، فالأئمة الهارونيون هم الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها فقتلهم بختصر على دم واحد ، وأحرق هيكلهم يوم استولى على بيت المقدس ، ولم تكن التوراة محفوظة على ألسنتهم ، بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلاً من التوراة.
فلما رأى عزيز أن القوم قد أحرق هيكلهم وزالت دولتهم وتفرق جمعهم ورفع كتابهم ، جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم ، ولذلك بالغوا في تعظيم عزير غاية المبالغة ، وقالوا فيه ما حكاه الله عنهم في كتابه ، وزعموا أن النور على الأرض إلى الآن يظهر على قبره عند بطائح العراق ، لأنه عمل لهم كتاباً يحفظ دينهم.
فهذه التوراة التي بأيديهم على الحقيقة كتاب عزير وإن كان فيها أو أكثرها من التوراة التي أنزلها الله على موسى ، قال وهذا يدل علىأن الذي جمع هذه الفصول التي بأيديهم رجل جاهل بصفات الرب تعالى وما ينبغي له وما لا يجوز عليه ، فلذلك نسب إلى الرب تعالى ما يتقدس وتنزه عنه ، وهذا الرجل يعرف عند اليهود والنصارى بعزرا الوراق.
ويظن بعض الناس أنه الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه .
ويقول إنه نبي ولا دليل على هاتين المقدمتين ، ويجب التثبت في ذلك نفياً وإثباتاً ، فإن كان هذا نبياً واسمه عزير فقد وافق صاحب التوراة في الاسم .(1/165)
وبالجملة فنحن وكل عاقل نقطع ببراءة التوراة التي أنزلها الله على كليمه موسى من هذه الأكاذيب والمستحيلات والترهات ، كما نقطع ببراءة صلاة موسى وبني إسرائيل معه من هذا الذي يقولونه في صلاتهم اليوم ، فإنهم في العشر الول من المحرم في كل سنة يقولون في صلاتهم ما تترجمته : يا أبانا أملك على جميع أهل الارض ليقول كل ذي نسمة الله إله إسرائيل قد ملك ومملكته متسلطة.
اليهود كذبوا مسيح الهدى، وينظرون مسيح الضلال، المسيح وأصحابه يقتلونهم شر قتلة
ويقولون فيها أيضا : وسيكون لله الملك ، وفي ذلك اليوم يكون الله واحداً واسمه واحد ، ويعنون بذلك إنه لا يظهر كون الملك له وكونه واحداً إلا إذا صارت الدولة لهم ، فأما ما دامت الدولة لغيرهم فإنه تعالى خامل الذكر عند الأمم ، مشكوك في وحدانيته ، مطعون في ملكه ومعلوم قطعاً أن موسى ورب موسى برئ من هذه الصلاة براءته من تلك الترهات.
وجحدهم نبوة محمد من الكتب التي بأيديهم نظير جحدهم نبوة المسيح وقد صرحت باسمه ، ففي نص التوراة لا يزول الملك من آل يهوذا ، والراسم من بين ظهرانيهم إإلى أن يأتي المسيح ، وكانوا أصحاب دولة حتى ظهر المسيح فكذبوه ورموه بالعظائم وبهتوه وبهتوا أمه فدمر الله عليهم وازال ملكهم ، وكذلك قوله :جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران ، فأي نبوة أشرقت من ساعير غير نبوة المسيح؟ وهم لا ينكرون ذلك ، ويزعمون أن قائماً يقوم فيهم من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع المم ولا يبقى إلا اليهود ، وهذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به ، قالوا من علامة مجيئن أن الذئب والتيس يربضان معاً ، وأن البقرة والذئب يرعيان معاً ، وأن الأسد يأكل التبن كالبقر.
فلما بعث الله المسيح كفروا به عند مبعثه .(1/166)
وأقاموا ينتظرون متى يأكل الأسد التبن حتى تصح لهم علامة مبعث المسيح ، ويعتقدون أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس ، وتصير لهم الدولة ، وقد عوضوا من الإيمان بالمسيح ابن مريم بانتظار مسيح الضلالة الدجال ، فإنه هو الذي ينتظرونه حقاً ، وهم عسكره وأتبع الناس له ، ويكون لهم في زمانه شوكة ودول إلى أن ينزل مسيح الهدى بان مريم فيقتل منتظرهم ، ويضع هو وأصحابه فيهم السيوف حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقولان : يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.
فإذا نظف الأرض منهم ومن عباد الصليب فحينئذ يرعى الذئب والكبش معاً ، ويربضان معاً ، وترعى البقرة والذئب معاً ، ويأكل الأسد التبن ، ويلقى الأمن في الأرض ، هكذا أخبر به أشعياء في نبوته وطابق خبره ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في خروج وقتل المسيح ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج في أثره ومحقهم من الأرض ، وإرسال البركة والأمن في الأرض حتى ترعى الشاة والذئب ، وحتى أن الحيات والسباع لا تضر الناس.
فصلوات الله وسلامه على من جاء بالهدى والنور وتفصيل كل شئ وبيانه ، فأهل الكتاب عندهم عن أنبيائهم حق كثير لا يعلافونه ولا يحسنون أن يضعوه مواضعه ، ولقد أكمل الله سبحانه بمحمد صلوات الله وسلامه عليه ما أنزله على الأنبياء عليهم السلام من الحق والبينة وأظهره لأمته ، وفصل على لسانه ما أجمله لهم وشرح ما رمزوا إليه ، فجاء بالحق وصدق المرسلين ، وتمت به نعمة الله على عباده المؤمنين.(1/167)
فالمسلمون واليهود والنصارى تنتظر مسيحاً يجئ في آخر الزمان ، فمسيح اليهود هو الدجال ، ومسيح النصارى لا حقيقة له ، فإنه عندهم إله وابن إله وخالق ومميت ومحي ، فمسيحهم الذي ينتظرونه هو المصلوب المسمر المكلل بالشوك بين اللصوص ، المصفوع الذي هو مصفعة اليهود ، وهو عندهم رب العالمين وخالق السموات والأرضين ، ومسيح المسلمين الذي ينتظرونه هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول عيسى بن مريم ، أخو عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله ، فيظهر دين الله وتوحيده ، ويقبل أعداءه عباد الصليب الذين اتخذوه وأمه الهين من دون الله ، وأعداءه اليهود الذين رموه وأمه بالعظائم فهذا هو الذي ينتظره المسلمون.
وهو نازل على المنارة الشرقية بدمشق ، واضعاً يديه على منكبي ملكين ، يراه الناس عياناً بأبصارهم نازلاً من السماء ، فيحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينفذ ما أضاعه الظلمة والفجرة والخونة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحيى ما أماتوه ، وتعود الملل كلها في زمانه ملة واحدة وهي ملته وملة أخيه محمد وملة أبيهما إبراهيم وملة سائر الأنبياء ، وهي الإسلام الذي من يبتغي غيره ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .
وقد حمل رسول اله صلى الله عليه وسلم من أدركه من أمته السلام ، وأمره أن يقرئه إياه منه ، فأخبر عن موضع نزوله بأي بلد وبأي مكان منه ، وبحاله وقت نزوله ، وملبسه الذي كان عليه ، وأنه ممصرتان أي ثوبان وأخبر بما يفعل عند نزوله مفصلاً حتى كأن المسلمين يشاهدونه عياناً قبل أن يروه.(1/168)
وهذا من جملة الغيون التي أخبر بها فوقعت مطابقة لخبره حذو القذة بالقذة ، فهذا منتظر المسلمين لا منتظر المغضوب عليهم والضالين ، ولا منتظر أخوانهم من الروافض المارقين ، وسوف يعلم المغضوب عليهم إذا جاء منتظر المسلمين أنه ليس بابني يوسف النجار ، ولا هو ولد زنية ، ولا كان طبيباً حاذقاً ماهراً في صناعته استولى على العقول بصناعته ، ولا كان ساحراً ممخرقاً ، ولا مكنوا من صلبه وتسميره وصفعه وقتله ، بل كانوا أهون على الله من ذلك .
ويعلم الضالون أنهابن البشر ، وأنه عبد الله ورسوله ليس بإله ولا ابن إله ، وأنه بشر بنبوة محمد أخيه أولاً وحكم بشريعته ودينه آخراً ، وأنه عدو المغضوب عليهم والضالين ، وولي رسول الله وأتباعه المؤمنين ، وما كان أولياؤه الأرجاس الأنجاس عبدة الصلبان والصور المدهونة في الحيطان ، إن أولياؤه إلا الموحدون عباد الرحمن أهل الإسلام والإيمان ، الذين نزهوه أمه عما رماهما به أعداؤهما اليهود، ونزهوا ربه وخالقه ومالكه وسيده عما رماه به أهل الشرك والسب للواحد المعبود.
فلنرجع إلى الجواب على طريق من يقول : إنهم غيروا ألفاظ الكتب وزادوا ونقصوا كما أجبنا على طريق من يقول : إنما غيروا معانيها وتأولوها على غير تأويلها ، قال هؤلاء : نحن لا ندعي ولا طائفة من المسلمين أن ألفاظ كل نسخة في العلام غيرت وبدلت ، بل من المسلمين من يقو إنه غير بعض ألفاظها قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغيرت بعض النسخ بعد مبعثه ، ولا يقولون إنه غيرت كل نسخة في العالم بعد المبعث ، بل غير البعض وظهر عند كثير من الناس تلك النسخ المغيرة المبدلة دون التي لم تبدل ، والنسخ التي لم تبدل موجودة في العالم.
ومعلوم أن هذا مما لا يمكن نفيه والجزم بعدم وقوعه ، فإنه لا يمكن أحد أن يعلم أن كل مسخة في العالم على لفظ واحد بسائر الألسنة ، ومن الذي أحاط علماً وعقلاً؟ ... أهل الكتاب يعلمون أن أحداً لا يمكنه ذلك.(1/169)
وأما من قال من المسلمين : أن التغيير وقع في أو الأمر فإنهم قالوا أنه وقع أولاً من عزرا الوراق، في التوراة في بعض الأمور إما عمداً وإما خطأً ، فإنه لم يقم دليل على عصمته ولا أن تلك الفصول التي جمعها من التوراة بعد احتراقها هي عين التوراة التي أنزلت على موسى ، وقد ذكرنا أن فيها ما لا يجوز نسبته إلى الله وأنه أنزله على رسوله وكليمه ، وتركنا كثيراً لم نذكره.
المناقضات في الإنجيل
وأما الإنجيل فهي أربعة أناجيل أخذت عن أربعة نفر ، اثنان منهم لم يريا المسيح أصلاً وهما مرقس ولوقا، واثنان رأياه واجتمعا به وهما متى ويوحنا ، وكل منهم يزيد وينقص ويخالف إنجيله إنجيل أصحابه في أشياء ، وفيها ذكر القول ونقيضه.
ففيه أنه قال : إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة ، ولكن غيري يشهد لي ، وقال في موضع آخر : إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟.
وفه أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال: قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول؟ يا أبتاه سلمني من هذا الوقت ، وانه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحاً عظيماً وقال :يا إلهي! لم أسلمتني.
فكيف يجتمع هذا مع قولكم : إنه هو الذي اختار أسلام نفسه إلى اليهود ليصلبوه ويقتلوه رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا ، وأخرج بذلك آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وجمع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس؟ وكيف يجزع إله العالم من ذلك؟.
وكيف يسأل السلامة منه وهو الذي اختاره ورضيه؟! وكيف يشتد صياحه ويقول : يا إلهي لم أسلمتني وهو الذي ألم نفسه؟! وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه وإنزال صاعقة على الصليب وأهله أم كان رباً عاجزاً مقهوراً مع اليهود.
وفيه أيضاً أن اليهود سألته أن يظهر لهم برهاناً أنه المسيح ، فقال : تهدمون هذا البيت - يعني بيت المقدس - وأبنيه لكم في ثلاثة أيام ، فقالوا له بيت مبني في ست وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام.(1/170)
ثم ذكرتم في الإنجيل أيضاً أنه لما ظفرت به اليهود وحمل إلى بلاط عامل قيصر واستدعيت عليه بينة أن شاهدي زور جاءا إليه وقالا سمعناه يقول أنا قادر أنا قادر على بنيان بيت المقدس في ثلاثة أيام فيالله العجب كيف يدعي ان تلك المعجزة والقدرة له ويدعي أن الشاهدين عليه بها شاهدا زور؟.
وفيه أيضاً للوقا إن المسيح قال لرجلين من تلامذته : اذهبا إلى الحسن الذي يقابلكما ، فإذا دخلتماه فستجدان فلواً مربوطاً لم يركبه أحد فحلاه وأقبلا به إلي ، وقال في أنجي متى في هذه القصة أنها كانت حمارة متبعة.
وفيه أنه قال: لا تحسبوا أني قدمت لأصلح بين أهل الأرض ، لم آت لصلاحهم ، لكن لألقى المحاربة بينهم ، إنما قدمت لأفرق بين المرء وابنه والبنت وأمها حتى يصير أعداء المرء أهل بيته.
ثم فيه أيضاً : غنما قدمت لتحيوا تزدادوا خيراً وأصلح بين الناس.
وأنه قال : من لطم خدك اليمين فانصب له الآخر.
وفيه أيضا أنه قال : طوبا لك يا شمعون ابن يونا ، وأنا أقول أنك بطرس وعلى هذا الحجر تبني بيعتي ، فكلما أحللته على الرض يكون محللاً في السماء ، وما عقدته على الأرض يكون معقوداً في السماء.
ثم فيه بعينه بعد أسطر يقول له : اذهب يا شيطان ولا تعارض فإنك جاهل فكيف شيطان جاهل مطاع في السموات.
وفي الإنجيل نث أنه لم تلد النساء مثل يحيى ، هذا في إنجيل متى ، وفي إنجيل يوحنا إن اليهود بعثت إلى يحيى من يكشف عن أمره ، فسألوه من هو ، أهوالمسيح ؟ قال : لا ، قالوا : نراك إلياس ؟ قال : لا ، قالوا : أنت النبي؟ قال : لا ، قالوا : أخبرنا من أنت؟ قال : أنا صوت مناد المفاوز ، ولا يجوز لنبي أن ينكر نبوته فإنه يكون مخبراً بالمكذب.
ومن العجب أن في إنجيل متى نسبة المسيح إلى أنه ابن يوسف ، فقال عيسى بن يوسف بن فلان ، ثم عد إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أباً ثم نسبه لوقا أيضاً في إنجليله إلى يوسف إلى ابراهيم نيفاً وخمسين أباً .(1/171)
فبينا هو إله تام إذا صيروه ابن الإله ثم جعلون ابن يوسف النجار.
والمقصود أن هذا الاضطراب في الإنجيل يشهد بأن التغيير وقع فيه قطعاً ، ولا يمكن أن يكون ذلك من عند الله ، بل الاختلاف الكثير الذي فيه يدل على أن ذلك الاختلاف من عند غير الله ، وانت إذا اعتبرت نسخة ونسخ التوراة التي بأيدي اليهود والسامرة والنصارى رأيتها مختلفة اختلافاً يقطع من وقف عليه بأنه من جهة التغيير والتبديل.
وكذلك نسخ الزبور مختلفة جداً ومن المعلوم أن نسخ التوراة و الإنجيل إنما هي عند رؤساء اليهود والنصارى وليست عند عامتهم ، ولا يحفظونها في صدورهم كحفظ المسلمين للقرآن ، ولا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ ، ولا سيما إذا كان بقيتهم لا يحفظونها ، فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك ، ثم إذا تواطئوا على أن لا يذكروا ذلك لعوامهم وأتباعهم أمكن ذلك ، وهذا واقع في العالم كثيراً.
تواطؤ اليهود والنصارى
فهؤلاء اليهود تواطئوا وتواصوا بكتمان نبوة المسيح حجد البشارة به وتحريفها واشتهر ذلك بين طائفتهم في الأرض مشارقها ومغاربها ، وكذلك تواطئوا على أنه كان طبيباً ساحراً ممخرقاً ابن زانية وتواصوا به مع رؤيتهم الآيات الباهرات التي أرسل بها وعلمهم أنه أبعد خلق الله مما رمى به وشاع ما تواطئوا عليه وملأوا به كتبهم شرقاً وغرباً ، وكذلك تواطئوا علىأن لوطاً نكح ابنتيه وأولدهما أولاداً وشاع ذلك فيهم جميعهم ، وتواطئوا على أن الله ندم وبكى على الطوفان وعض أنامله ، وصارع يعقوب فصرعه يعقوب ، وانه راقد عنهم وأنهم يسألونه أن يتنبه من رقدته وشاع ذلك في جميعهم.(1/172)
وكذلك تواطئوا على فصول لقوها بعد زوال مملكتهم يصلون بها ، لم تعرف عن موسى ولا عن أحد من أتباعه ، كقولهم في صلاتهم : اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا ، واقتبضنا جميعاً من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك ، يا جامع تشتيت قوم إسرائيل ، وقولهم فيها : أردد حكامنا منا كالأولين وسيرتنا كالابتداء ، وابن أورشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها ، سبحانك ، يا باني أورشليم ولم يكن موسى وقومه يقولون في صلاتهم شيئاً من ذلك .
وكذلك تواطؤهم على قولهم في صلاتهم أول العام ما حكيناه عنهم ، وكذلك تواطؤهم على شرع صوم إحراق بيت المقدس وصوم حصاً وصوم كدليا وفرضهم ذلك وصوم صلب هامان وقد اعترفوا با،ه زادوها لأسباب اقتضتها ، وتواطئوا بذلك على مخالفة ما نصت عليه التوراة من قوله : لا تزيدوا على الآمر الذي أنا موصيكم به شيئاً ، ولا تنقصوا منه شيئاً.
فتواطئوا على الزيادة والنقصان وتبديل أحكام اله ، كما تواطئوا على تعطيل فريضة الرجم على الزاني وهو في التوراة نصاً.
وكذلك تواطؤهم حجزهم على الله أن ينسخ ما شرعه فيما شرعه لعباده تمسكاً منهم باليهودية، وقد أكذبتهم التوراة وسائر النبوات.
ومن العجائب حجرهم على الله أن ينسخ ما شرعه لئلا يلزم البداء ثم يقولون أنه ندم وبكى على الطوفان وعاد في رأيه وندم على خلق الإنسان ، وهذه مضارعة لإخوانهم من عباد الصليب الذين نزهوا رهبانهم عن الصاحبة والولد ثم نسبوهما إلى الفرد الصمد.
ومن ذلك تواطؤهم على أن الملك يعود إليهم وترجع الملل كلهاإلى ملة اليهودية ويصيرون قاهرين لجميع أهل الملل ،ومن ذلك تواطؤهم على تعطيل أحكام التوراة وفرائضها ، وترفي جل أمورهم إلا اليسير منها وهم معترفون بذلك وأنه أكبر أسباب زوال ملكهم وعزهم.(1/173)
فكيف ينكر من طائفة تواطأت على تكذيب المسيح وجحد نبوته وبهته وبهت أمه والكذب الصريح على الله وعلى أنبيائه وتعطيل أحكام الله والاستبدال بها وعلى قتلهم أنبياء الله أن تتواطأ على تحريف بعض التوراة ، وكتمان نعت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته فيها.
وأما أمة الضلال وعباد الصليب والصور المزوقة في الحيطان ، وإخوان الخنازير ، وشاتموا خالقهم ورازقهم أقبح شتم ، وجاعلوه مصفعة اليهود ، وتواطؤهم على ذلك ، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل ، فلا إله إلا الله الذي أبرز للوجود مثل هذه الأمة التي هي أضل من الحمير ومن جميع الأنعام السائمة ، وخلي بينهم وبين سبه وشتمه وتكذيب عبده ورسوله ومعاداة حزبه وأوليائه وموالات الشيطان، والتعويض بعبادة الصور والصلبان عن عبادة الرحمن الرحيم ، وعن قول الله أكبر بالتصليب على الوجه ، وعن قراءة الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين بـ اللهم اعطنا خبزنا الملائم لنا وعن السجود للواحد القهار بالسجود للصور المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد .
فهذا بعض شأن المتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب ، فما الظن بسائر الأمم الذين ليس عندهم منالنبوة والكتاب حس ولا خبر ، ولا عين ولا أثر؟
السؤال الرابع
وأما السؤال الرابع وهو قول السائل : إن قلتم أن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونحوهما شهدوا لنا بذلك من كتبهم فهلا أتى ابن سلام وأصحابه الذين أسلموا بالنسخ التي لهم كي تكون شاهدة علينا أ.هـ.(1/174)
والجواب من وجوه: (الوجه الأول) : أن شواهد النبوة وآياتها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته ، بل آياتها وشواهدها متنوعة متعددة جداً ، ونعته وصفته في الكتب المتقدمة فرد من أفرادها ، وجهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن الشواهد والأخبار التي في كتبهم ،وأكثرهم لا يعلمونها ولا سمعوا بها بل أسلموا للشواهد التي عاينوها والآيات التي شاهدوها ، وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مقوية عاضدة من باب تقوية البينة وقد النصاب بدونها.
فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهم على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد ، وإن كان ذلك قد بلغ بعضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها كما ان الأنصار يسمعون من اليهود صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته ومخرجه ، فلما عاينوه وأبصروه قرفوه بالنعت الذي اخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه ، فشرق أعداء الله بريقهم وغصوا بمائهم ، وقالوا لي هو الذي كنا نعدهم به ، فالعلم بنبوة محمد والمسيح وموسى صلوات الله وسلامه عليهم لا يتوقف على العلم بأن من قلبهم أخبر به وبشر بنبوتهم بل طرق العلم بها متعددة ، فإذا عرفت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بطريق من الطرق ثبتت نبوته ووجب اتباعه ، وإن لم يكن من قبله بشر به.
فإذا علمت نبوته بما قام عليها من البراهين ، فإما أن يكون تبشير من قلبه به لازماً لنبوته ، وإما أن لا يكون لازماً ، فإن لم يكن لازماً لم يجب وقوعه ولا يتوقف تصديق النبي عليه بل يجب تصديقه بدونه، وإن كان لازماً علم قطعاً أنه قد وقع ، وعد نقله إلينا لا يدل على عدم وقوعه إذ لا يلزم من وجود الشئ نقله العام ، ولا الخاص ،وليس كل ما أخبر به موسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء المتقدمين وصل إلينا ، وهذا مما يعلم بالاضطرار.(1/175)
فلو قدر أن البشارة بنبوته صلى الله عليه وسلم ليس في الكتب الموجودة بأيديكم لم يلزم أن لا يكون المسيح وغيره بشروا به ، بل قد يبشرون ولا ينقل ، ويمكن أن يكون في كتب غير هذه المشهورة والمتداولة بينكم ، فلم يزل عند كل أمة كتب لا يطلع عليها إلا بعض خاصتهم فضلاً عن جميع عامتهم ، ويمكن أنه كان في بعضها تأويل منه وبدل ونسخت النسخ من هذه الكتب قد غيرت واشتهرت بحيث لا يعرف غيرها وأخفى أمر تلك النسخ الأولى ، وهذا كله ممكن ، لا سيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيها وشريعته ، هذا كله على تقدير عدم البشارة به في شئ من كتبهم أصلاً.
ونحن قد ذكرنا من البشارات به التي في كتبهم ما لا يمكن لمن له أدنى معرفة منهم جحده والمكابرة فيه ، وإن أمكنهم المغالطة بالتأويل عند رعاعهم وجهالهم .
(الوجه الثاني): أن عبد الله بن سلام قد قابل اليهود وأوفهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ذكره ونعته وصفته في كتبهم وأنهم يعلمون أنه رسول الله وقد شهدوا بأنه أعلمهم وابن أعلمهم وخيرهم وابن خيرهم ، فلم يضر قولهم بعد ذلك أنه شرهم وابن شرهم وجاهلهم وابن جاهلهم ، كما إذا شهد على رجل شاهد عند الحاكم فسأله عنه فعدله وقال إنه مقبول الشادة عدل رضي لا يشهد إلا بالحق وشهادته جائزة على فلما أدى الشهادة قال إنه كاذب شاهد زور، ومعلوم أن هذا لا يقدح في شهادته.(1/176)
وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به وصرح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى ، وأذن بها على رؤوس الملأ وصدقه مسلمو أهل الكتاب عليها، وأقروه على ما أخبر به ، وأنه كان أوسعهم علماً بما في كتب الأنبياء ، وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله ويزنونه بما يعرفون صحته فيعلمون صدقه ، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب أو من أصدقهم ونحن اليوم ننوب عن عبد الله بن سلام وقد أوجدنا كم هذه البشارات في كتبكم فهي شاهدة لنا عليكم والكتب بأيديكم فأتوا بها فاتلوها إن كنتم صادقين ، وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يواقفكم ويقابلكم ويحاقكم عليها، وإلا فاشهدوا على أنفسكم بما شهد الله وملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنون به عليكم من الكفر والتكذيب والجحد ومعاداة الله ورسوله.(1/177)
(الوجه الثالث) : أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكل نسخة متضمنة لغاية البيان والصراحة لكان في بهتكم وعنادكم وكذبكم ما يدفع في وجوهها ويحرفها أنواع التحريف ما وجد إليه سبيلاً ، فإذا جاءكم بما لا قبل لكم به قلتم : ليس هو ، ولم يأت بعد ، وقلتم : نحن لا نفارق حكم التوراة ، ولا نتبع نبي الأميين ، وقد صرح أسلافكم الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعاينوه أنه رسول حقاً ، وأنه المبشر به الموعود به على ألسنة الأنبياء المتقدمين ، وقال من قال منهم في وجهه : نشهد إنك نبي ، فقال : ما يمنعك من اتباعي؟، قال : إنا نخاف أن يقتلنا يهود ، وقد قال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم وقد جاءكم بآيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر ، بحيث أن كل آية منها يصلح أن يؤمن على مثلها البشر ، فما زادكم ذلك إلا نفوراً وتكذيباً وإباء لقبول الحق، فلو نزل الله إليكم ملائكته وكلمكم الموتى وشهد له بالنبوة كل رطب ويابس لغلبت عليكم الشقوة وصرتم إلى ما سبق لكم في أم الكتاب.
وقد رأى من كان أعقل منكم وأبعد من الحسد من آيات الأنبياء ما رأوا وما زادهم ذلك إلا تكذيباً وعناداً ، فأسلافكم وقدوتكم في تكذيب النبياء من الأمم لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك أوصى به الأول للآخر واقتدى فيه الآخر بالأول ، قال تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون ، وهبنا ضربنا عن إخبار الأنبياء المتقدمين به صفحاً ، أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت على يديه ما يشهد بصحة نبوته؟! وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفاً يقطع المعذرة ويقيم الحجة ، والله المستعان.
السؤال الخامس(1/178)
وأما السؤال الخامس وهو قول السائل : إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور فابن سلام وأصحابه أولى بذلك الغرض ، لأنهم قليلون جداً ، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عددأ.هـ.
والجواب من وجوه: (أحدها) : إن قد بينا أن جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به وصدقه وقد كانوا ملء الرض ، وهذه الشام ومصر وما جاورهما واتصل بهما من اعمالهما ، والجزيرة والموصل وأعمالهما ، وأكثر بلاد المغرب وكثير من بلاد المشرق ، كانوا كلهم نصارى فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين ، فالمتخلف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى من آمن به وصدقه ، وهؤلاء عباد الأوثان كلهم أطبقوا على الإسلام إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة ، وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرة وشوكة وعدداً دخلوا في دينه وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية.
(الثاني) : إنا قد بينا أن الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرد المأكلة والرياسة فقط ، وإن كان من جملة الأغراض ، بل منهم من حمله ذلك ، ومنهم من حمله الحسد ، ومنهم من حمله الكبر ، ومنهم من حمله لهوى ، ومنهم من حمله محبة الآباء والأسلاف وحسن الظن بهم ، ومنهم من حمله إلفه للدين الذي نشأ عليه وجبل بطبعه فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طبع عليه ، وأنت ترى هذا السبب كيف هو الغلب المستولي على أكثر بني آدم في إيثارهم ما اعتادوه من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والديانات على ما هو خير منه وأوفق بكثير ، ومنهم من حمله التقليد والجهل وهم الأتباع الذين ليس لهم علم ، ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب ، فلم تنسب هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده.(1/179)
(الثالث) : إنا قد بينا أن الأمم الذين كانوا قبلهم كانوا أكثر عدداً وأغزر عقولاً منهم وكلوا اختاروا العمى على الهدى والكفر على الإيمان بعد البصيرة، فلهاتين المتين سلف كثير وهم أكثر الخلق.
(الرابع) : أن عبد الله بن سلام وذويه إنما أسلموا في وقت شدة من الأمر وقلة من المسلمين وضعف وحاجة وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم واليهود والمشركون هم أهل الشوكة والعدة والحلقة والسلاح ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة ، وأعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه ، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه وخادمهما فاستخفوا ثلاثاً في غار تحت الأرض ، ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة، والشوكة والعدد والعدة فيها لليهود والمشركين.
فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النببي صلى الله عليه وسلم المدينة لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه ، وترك الأغراض التي منعت المغضوب عليهم من الإسلام من الرياسة والمال والجاه بينهم ، وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رئيسهم وخيرهم وسيدهم ، فعلم أنهم إن علموا بإسلامه أخرجوه من تلك الرياسة والسيادة فأحب أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : أدخلني بعض بيوتك وسلهم عني ففعل ، وسألهم عنه فأخبروه أنه سيدهم ورئيسهم وعالمهم ، فخرج عليهم وذكرهم وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله ، وقابلهم بذلك ، فسبوه وقدحوا فيه وأنكروا رياسته وسيادته وعلمه.
فلو كان عبد الله بن سلام ممن يؤثر عرض الدنيا والرياسة لفعل كما فعله إخوان القردة وأمة الغضب والقوم البهت ، وهكذا شأن من أسلم من اليهود حينئذ ، وأما المتخلفون فكثير منهم صرح بغرضه لخاصته وعامته ، وقال : عن هؤلاء قد عظمونا ورأسونا ومولونا فلو اتبعناه لنزعوا ذلك كله منا ، وهذا قد رأيناه نحن في زماننا وشاهدناه عياناً.(1/180)
ولقد ناظرت بعض علماء النصارى معظم يوم فلما تبين لح الحق بهت ، فقلت له وأنا وهو خاليين: ما يمنعك الآن من اتباع الحق ؟ فقال لي : إذا قدمت على هؤلاء الحمير - هكذا لفظه - فرشوا لنا الشقاف تحت حوافر دابتي وحكموني في أموالهم ونسائهم ولم يعصوني فيما آمرهم به ، وأنا لا أعرف صنعة ولا أحفظ قرآناً ولا نحواً ولا فقهاً ، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس ، فمن الذي يطيب نفساً بهذا ؟! فقلت : هذا لا يكون ، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك ويحوجك ؟! لو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق والنجاة من النار ومن سخط الله وغضبه ، فيه أتم العوض عما فاتك ، فقال : حتى يأذن الله ، فقلت : القدر لا يحتج به ، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح وحجة للمشركين على تكذيب الرسل ، ولا سما أنتم تكذبون بالقدر فكيف تحتج به ؟! فقال : دعنا الآن من هذا ، وأمسك
(الخامس): إن جوابك في نفس سؤالك فإنك اعترفت أن عبد الله بن سلام وذويه كانوا قليلين جداً وأضدادهم لا يحصون كثرة ، ومعلوم أن الغرض الداعي لموافقة الجمهور الذين لا يحصون كثرة ، وهم أولوا القوة والشوكة ، أقوى من الغرض الداعي لموافقة الأقلين المستضعفين.
والله الموفق.
السؤال السادس
وأما السؤال السادس وهو قول السائل : تدخل علينا الريبة من جهة عبد اله بن سلام وأصحابه ، وهو انكم قد بنيتم أكثر أساس شرائعكم في الحلال والحرام والمر والنهي على أحاديث عوام من الصحابة الذين ليس لهم بحث في علم ولا دراسة ولا كتابة قبل مبعث نبيكم ، فابن سلام هو وأصحابه أولى أن يؤخذ بأحاديثهم ورواياتهم ، لأنهم كانوا اهل علم وبحث ودراسة وكتابة قبل مبعث نبيكم وبعده ، ولا نراكم تروون عنهم من الحلال والحرام والأمر والنهي إلا شيئاً يسيراً جداً ، وهو ضعيف عندكم أ.هـ.
والجواب من وجوه :
الصحابة كانوا أعلم أهل الأرض(1/181)
(أحدها): أن هذا بهت من قائله ، فإنا لم نبن أساس شريعتنا في الحلال والحرام والأمر والنهي إلا على كتاب رينا المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي تحدى به الأمم كلها على اختلاف علومها وأجناسها وطبائعها وهو في غاية الضعف ، وأعداؤه طبقوا الأرض أن يعارضوه بمثله فيكونوا أولى بالحق منه ويظهر كذبه وصدقهم فعجزوا عن ذلك .
فتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا ، فتحداهم بأن بسورة من مثله فعجزوا ، هذا وأعداؤه الأدنون إليه أفصح الخلق وهم أهل البلاغة والفصاحة واللسن والنظم والنثر والخطب وأنواع الكلام ، فما منهم من فاه في معارضته ببنت شفة ، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه وأشدهم أذى له بالقول والفعل والتنفير عنه بكل طريق.
فما نقل عن أحد منهم سورة واحدة عارضة بها ، إلا مسيلمة الكذاب بمثل قوله : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، ومثل والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، فالخابزات خبزاً ، إهالة وسمناً وأمثال هذه الألفاظ التي هي بألفاظ أهل الجنون والمعتوهين أشبه منها بألفاظ العقلاء.
فالمسلمون إنما بنوا أساس دينهم ومعالم حلالهم وحرامهم على الكتاب الذي لم ينزل من السماء كتاب أعظم منه ، فيه بيان كل شئ وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة وشفاء لما في الصدور ، به هدى الله رسوله وأمته فهو أساس دينهم .
(الثاني): إن قولكم إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة من أعظم البهت وأفحش الكذب ، فإنهم وإن كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة وفضلهم في العلم والعمل والهدى والمعارف الإلهية والعلوم النافعة المكملة للنفوس على جميع الأمم ، فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم.(1/182)
فلو قيس ما عند جميع المم من معرفة وعلم وهدى بصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما ، وإن كان غيرهم من المم أعلم بالحساب والهندسة ، والكم المتصل والكم المنفصل ، والنبض والقارورة والبول القسطة ، ووزن الأنهار ونقوش الحيطان ، ووضع الآلات العجيبة وصناعة الكيمياء ، وعلم الفرحة ، وعلم الهيئة ، وتسيير الكواكب ، وعلم الموسيقى والألحان ، وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة ، وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد .(1/183)
فإن أردتم أن الصحابة كانوا عواماً في العلم بالله وأسمائه وصفاته وافعاله وأحكامه ودينه وشرعه وتفاصيله وتفاصيل ما بعد الموت وعلم سعادة النفوس وشقاوتها وعلم صلاح القلوب وأمراضها فمن بهت نبيهم بما بهته به وجحد نبوته ورسالته التي هي للبصائر أظهر من الشمس الأبصار لم ينكر له أن له يبهت أصحابه ويجحد فضلهم ومعرفتهم ، وينكر ما خصهم الله به وميزهم على من قبلهم ومن هو كائن من بعدهم إلى يوم القيامة ؟! وكيف يكونون عواماً في ذلك وهم أذكى الناس فطرة وأزكاهم نفوساً ، هم يتلقونه غضاً طرياً ومحضاً لم يشب عن نبيهم ،وهم أحرص الناس عليه واشوقهم إليه ، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل والنهار والحضر والسفر ، وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ، وعلم ماكان من المبدأ والمعاد ، وتخليق العالم وأحوال الأمم الماضية ، والأنبياء وسيرهم وأحوالهم مع أممهم ، ودرجاتهم ومنازلهم عند الله ، وعددهم ، وعدد المرسلين منهم ، وذكر كتبهم وأنواع العقوبات التي عذب الله بها أعداءهم ، وما أكرم به أتباعهم ، وذكر الملائكة وأصنافهم وأنواعهم وما وكلوا به واستعملوا فيه ، وذكر اليوم الآخر وتفاصيل أحواله وذكر الجنة وتفاصيل نعيمها والنار وتفصيل عذابها ، وذكر البرزخ وتفاصيل عذابها ، وذكر البرزخ وتفاصيل أحوال الخلق فيه ، وذكر أشراط الساعة والإخبار بها مفصلاً بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، كما أخبر به المسيح عنه من قوله في الإنجيل وقد بشرهم به فقال : وكل شئ أعده الله تعالى لكم يخبركم به وفي موضع آخر منه : ويخبركم بالحوادث والغيوب ، وفي موضع آخر ويعلمكم كل شئ وأجيئكم بالأمثال وهو يجيئكم بالتأويل ، وفي موضع آخر: إن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله ، لكن إذا جاء روح الحق ذلك يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده بل بتلكم بما يسمع ،(1/184)
ويخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للأب.
فمن هذا علمه بشهادة المسيح وأصحابه يبلقون ذلك جميعه عنه وهم أذكى الخلق وأحفظهم وأحرصهم ، كيف تدانيهم أمة من الأمم في هذه العلوم والمعارف ؟! ولقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الصبح ثم صعد المنبر فخطبهم حتى حضرت الظهر ، ثم نزل فصلى وصعد فخطبهم حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى وخطبهم حتى حضرت المغرب ، فلم يدع شيئاً إلى قيام الساعة إلا أخبرهم به ، فكان أعلمهم أحفظهم.
وخطبهم مرة أخرى خطبة فذكر بدأ الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم.
وقال يهودي لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شئ حتى الخراءة ! قال أجل.
فهذا اليهودي كان أعلم بنبينا من هذا السائل وطائفته !!.
وكيف يدعى في أصحاب نبينا عوام وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة على كثرتها واتساعها وتفنن إنما هي عنهم مأخوذة ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة ، وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طبق الأرض علماً وبلغت فتاويه نحواً من ثلاثين سفراً ، وكان بحراً لا ينزف لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علماً ، وكان إذا أخذ في تفسير القرآن ومعانيه يقول السامع لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في السنة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول القائل لا يحسن سواه ، فإذا أخذ في القصص وأخبار الأمم وسير الماضين فكذلك ، فإذا أخذ في أنساب العرب وقبائلها واصولها وفروعها فكذلك ، فإذا أخذ في الشعر والغريب فكذلك.
قال مجاهد : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة في قوله تعالى : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.(1/185)
ولما حضر معاذاً الموت قيل له : أوصنا ، قال : أجلسوني ، إن العلم والإيمان بمكانهما ، من اقتفاهما وجدهما عند أربعة رهط : عند عويمر أبي الدرداء ، وعند سلمان الفارسي ، وعند عبد الله بن مسعود ، وعند الله بن سلام ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه عاشر عشرة في الجنة.
وقال أبو اسحق السبيعي ، قال عبد الله : علماء الأرض ثلاثة ، فرجل بالشام ، وآخر بالكوفة ، وآخر بالمدينة .
فأما هذان فيسالان الذي بالمدينة ، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شئ.
وقيل لعلي بن أبي طالب: حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : عن أيهم ؟ قالوا : عن عبد الله بن مسعود ، قال قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفى بذلك ، قالوا : فحدثنا عن حذيفة ، قال : أعلم أصحاب محمد بالمنافقين ، قالوا : فأبو ذر؟ ، قال : كنيف ملئ ، قالوا: فعمار؟ ، قال : مؤمن نسي إذا ذكرته ذكر خلط الله الإيمان بلحمه ودمه ليس للنار فيه نصيب ، قالوا موسى؟ ، قال : صبغ في العلم صبغة ، قالوا: فسلمان ؟ ، قال : علم العلم الأول والآخر ، بحر لا ينزج ، هو منا أهل البيت ، قالوا : فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين؟ ، قال : إياها أرديم ، كنت إذا سئلت أعطيت ، وإذا سكت ابتديت.
وقال مسروق : شافهت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: إلىعلي ، وعبد الله ، وعمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء ، وأبي بن كعب ، ثم شافهت الستة فوجدت علمهم ينتهي إلى علي ، وعبد الله.
وقال مسروق : جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا كالأخاذ ، الأخاذ يروي الراكبين ، والأخاذ العشرة ، والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، وإن بعد الله من تلك الأخاذ .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أرى الري يخرج من أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر ، فقالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ، قال : العلم.(1/186)
وقال عبد الله : إني لا حسب أن عمر بن الخطاب قد ذهب بتسعة أعشار العلم.
وقال عبد الله : لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر.
وقال حذيفة بن اليمان : كأن علم الناس مع علم عمر دس في حجر ، وقال الشعبي : قضاة هذه الأمة أربعة عمر وعلي وزيد وأبو موسى.
وقال قبيصة بن جابر : ما رأيت رجلاً قط أعلم بالله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله من عمر.
وقال علي : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن ليس لي علم بالقضاء ، فقلت إنك ترسلني إلى قوم يكون فيهم الأحداث وليس لي علم بالقضاء ، قال فضرب في صدري وقال : إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، قال : فما شككت في قضاء بين اثنين بعده.
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : كنت أرعى عنماً لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فقال لي : يا غلام هل من لبن ؟ ، فقلت : نعم ولكني مؤتمن، قال :فهل من شاة لم ينزل عليها الفحل ؟ ، قال فأتيته بشة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر ، ثم قال للضرع : اقلص فقلص ، قال ثم أتيته بعد هذا فقلت : يا رسول الله علمني من هذا القول ، فمسح رأسي ، وقال : يرحمك لله إنك عليم معلم.
وقال عقبة بن عامر : ما أرى أحداً أعلم بما أنزل على محمد من عبد الله ، فقال أبو موسى : إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع ويدخل حين لا ندخل.
وقال مسروق : قال عبد الله : ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ، ولو إني أعلم أن رجلاً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل والمطايا لأتيته.
وقال عبد الله بن بريدة في قوله عز وجل : حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً قال : هو عبد الله بن مسعود.
وقيل لمسروق : كانت عائشة تحسن الفرائض ؟ قال : والله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.(1/187)
وقال أبو موسى : ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا منه علماً.
وقال شهر بن حوشب : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له.
وقال علي بن أبي طالب : أبو ذر وعاء ملئ علماً ، ثم وكئ عليه فلم يخرج منه شئ حتى قبض.
وقال مسروق : قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم.
ولما بلغ أبا الدرداء : إن من الناس من أوتي علماً ولم يؤت حلماً ، وشداد بن أوس ممن أوتي علماً وحلماً.
ولما مات زيد بن ثابت قام ابن عباس على قبره وقال : هكذا يذهب العلم .
وضم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس وقال: اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب ، وقال محمد بن الحنيفية لما مات ابن عباس : لقد مات رباني هذه الأمة وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : ما رأيت أحداً أعلم بالسنة ولا أجلد رأياً ولا أثقب نظراً حين ينظر من ابن عباس.
وكان عمر بن الخطاب يقول له : قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها ثم يقول عبيد الله : وعمر عمر في جده وحسن نظره للمسلمين.
وقال عطاء بن أبي رباح : ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس : أكثر فقهاً وأعظم جفنة ، إن أصحاب الفقه عنده .
وأصحاب القرآن عنده وأصحاب الشعر ، يصدرهم كلهم في واد واسع ، وكان عمر بن الخطاب يسأله مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيده الله علماً وفقهاً.
وقال عبد الله بن مسعود : لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عشره منا رجل .
أي ما بلغ عشرة.
وقال ابن عباس: ما سألني أحد عن مسألة إلا عرفت أنه فقيه أو غير فقيه ، وقيل له أني أصبت هذا العلم ؟ قال : بلسان سؤول ، وقلب عقول .
وكان يسمى البحر من كثرة علمه.
وقال طاوس : أدركت نحو خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر لهم ابن عباس شيئاً فخالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم.(1/188)
وقال الأعمش : كان ابن عباس إذا رأيته قلت : أجمل الناس ، فإذا تكلم قلت : أفصح الناس ، فإذا حدث قلت : أعلم الناس.
وقال مجاهد : كان بان عباس إذا فسر الشئ رأيت عليه النور.
وقال ابن سيرين : كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العمل مالا يعلمه الناس أجمعون .
قال ابن عون : فكأنه رآني أنكرت ذلك قال فقال : أليس أبو بكر كان يعلم مالا يعلم الناس، ثم كان عمر يعلم مالا يعلم الناس؟! وقال عبد الله بن مسعود : لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم في كفة لرجح بهم علم عمر ، قال الأعمش فذكروا ذلك لإبراهيم فقال : عبد الله ؟! إن كنا لنحسبه قد ذهب بتسعة أعشار العلم.
وقال سعيد بن المسيب : ما أعلم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب.
وقال الشعبي : قضاة الناس أربعة .
عمر وعلي وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري.
وكانت عائشة رضي الله عنهما مقدمة في العلم بالفرائض والسنن والأحكام والحلال والحرام والتفسير قال عروة بن الزبير : ما جالست أحداً قط أعلم بقضاء ولا بحديث الجاهلية ولا أروي للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب من عائشة .
وقال عطاء : كانت عائشة أعلم الناس وأفقه الناس.
وقال البخاري في تاريخه : روى العلم عن أبي هريرة ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع .
وقال عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه وبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد فجعلوا وزراءه .
وقال ابن عباس في قوله تعالى: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, وقال ابن مسعود : من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد ، أبر هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لإقامة دينه وصحبة نبيه فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.(1/189)
وقد أثنى الله سبحانه عليهم بما لم يثنه على أمة من الأمم سواهم فقال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً أي عدولاً خياراً .
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً .
وقال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله وقال : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، ذلك مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً .
وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وهم محمد وأصحابه.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال : أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمها على الله عز وجل .
وقال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم .
وقال مالك عن نافع : كان ابن عباس وابن عمر يجلسان للناس عند قدوم الحاج وكنت أجلس إلى هذا يوماً وإلى هذا يوماً ، فكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما يسأل عنه وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي.
قال مالك : وسمعت أن معاذ بن جبل يكون إمام العلماء برتوة يعنى يكون أمامهم يوم القيامة برمية حجر.
وقال مالك أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة يفتى الناس في الموسم ويغر ذلك وكان من أئمة الدين ، وقال عمر لجرير : يرحمك الله إن كنت لسيداً في الجاهلية فقيهاً في الإسلام .
قال محمد بن المنكدر : ما قدم البصرة أحد افضل من عمران بن حصين .
وكان لجابر بن عبد الله حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ عنه العلم.(1/190)
والعلم إنما انتشر في الآفاق عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين فتحوا البلاد بالجهاد ، والقلوب بالعلم والقرآن ، فملأوا الدنيا خيراً وعلماً ، والناس اليوم في بقايا آثار علمهم.
قال الشافعي في رسالته وقد ذكر الصحابة فعظمهم وأثنى عليهم ثم قال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم ، وآراؤهم لنا ،مد وأولى لنا من أرائنا ، ومن أدركنا ممن نرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صرنا فيما لم نعلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا ولم نخرج من أقاويلهم كلهم.
وقال الشافعي : وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة والإنجيل والقرآن وسبق لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم.
وقال أبو حنيفة : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم ولم نخرج عنه.
وقال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : لما خل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال ما كان أصحاب عيسى بن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على بأشد اجتهاداً من هؤلاء.
وقد شهد لهم الصادق الصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأنهم خير القرون على الإطلاق كما شهد لهم ربهم تبارك وتعالى بأنهم خير الأمم على الإطلاق.
وعلماؤهم وتلاميذ تلاميذهم جراً ، وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبق علمهم الأرض شرقاً وغرباً هم تلاميذ تلاميذهم ، وخيار ما عندهم ما كان عن الصحابة ، وخيار الفقه ما كان عنهم ، وأصح التفسير ما أخذ عنهم .
وأما كلامهم في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وقضائه وقدره ففي أعلى المراتب ، فمن وقف عليه وعرف ما قالته الأنبياء عرف أنه مشتق منه مترجم عنه ، وكل علم نافع في الأمة مستنبط من كلامهم ومأخوذ عنهم ، وهؤلاء تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم قد طبقت تصانيفهم وفتاويهم الأرض.(1/191)
فهذا مالك جمعت فتاويه في عدة أسفار ، وكذلك أبو حنيفة ، وهذه تصانيف الشافعي تقارب المائة ، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتأليفه نحو مائة سفر ، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سفراً ، وغالب تصانيفه بل كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ، وهذا علامتهم المتأخر شيخ الإسلام ابن تيمية جمع بعض أصحابه فتاواه في ثلاثين مجلداً ورأيتها في الديار المصرية ، وهذه تأليف أئمة الإسلام التي لا يحصيها إلا الله ، كلهم من أولهم إلى آخرهم يقر للصحابة بالعلم والفضل ، ويعترف بأن علمه بالنسبة إلى علومهم كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيهم.
وفي التثقيفات حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري ، عن أبيه: أن كعباً رأى حبراليهود يبكي ، فقال له ما يبكيك ؟ قال : ذكرت بعض الأمر ، فقال كعب: أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني ؟ قال : نعم ، قال أنشدك الله : هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : رب إني أجد خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلون الأعور الدجال فأجعلهم أمتي، قال هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم.
قال كعب : فأنشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط حمد الله ، الصعيد طهورهم والرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غرا محجلين من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي ، قال هم أمة أحمد يا موسى ؟ ، قال الحبر : نعم.(1/192)
قال كعب : أنشدك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم ، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة ، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل ، لا يدخل النار منهم أحد إلا من بر من الحسنات مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر .
قال موسى: فاجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى؟ ، قال الحبر : نعم.
فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً وأمته قال ليتني من أصحاب محمد ، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن: يا موسى إني اصطفيتك على الناس الآية ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون .
وكتبنا له في الألواح الآية ، قال فرضي موسى كل الرضا.
وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم وبعضها في نبوة أشعياء وبعضها في نبوة غيره.
و التوراة أعم من التوراة المعينة وقد كان الله سبحانه كتب لموسى في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فلما كسرها رفع منها الكثير وبقي خير كثير ، فلا يقدح في هذا النقل جهل أكثر أهل الكتاب به ، فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شئ لايعرفه إلا الآحاد من الناس أو الواحد ، وهذه الأمة على قرب عهدها بنبيها ، في العلم الموروث عنه، ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جداً من أمته وسائر الناس منكر له وجاهل به.
وسمع كعب رجلاً يقول : رأيت ف يالمنام كأن الناس جمعوا للحساب فدعي الأنبياء فجاء مع كل نبي أمته ورأيت لكل نبي نورين ولكل من اتبعه نوراً يمشي بين يديه ، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور ، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما ، فقال كعب : من حدثك بهذا ، قال : رؤيا رأيتها في منامي، قال : أنت رأيت هذا في منامك؟قال : نعم ، قال : والذي نفسي بيده إنها لصفة محمد وأمته وصفة الأنبياء وأممهم لكأنما قرأتها من كتاب الله.(1/193)
وفي بعض الكتب القديمة أن عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه قيل له: يا روح الله ! هل بعد هذه الأمة أمة ؟ قال : نعم ، قيل : وأية أمة ؟ قال : أمة أحمد ، قيل : يا روح الله! وما أمة أحمد قال: علماء حكماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل ، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.
وقال كعب : علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل وفيه حديث مرفوع لا أعرف حاله.
ثم نقول : وما يدريكم معاشر المثلثة عباد الصلبان وأمة اللعنة والغضب بالفقه والعلم ؟ ومسمى هذا الاسم حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل ، وهل يميز بين العلماء والجهال ويعرف مقادير العلماء إلا من هو من جملتهم ومعدود في زمرتهم؟ فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل أسفاراً ، وطائفة علماؤها يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله ، وتأخذ دينها عن كل كاذب ومفتر على الله وعلى أنبيائه ، فمثلها مثل عريان يحارب شاكي السلاح ، ومن سقف بيته زجاج وهو يزاحم أصحاب القصور بالأحجار، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في اعلم الخلوق أنهم عوام.
فليهن أمة الغضب علم المشنا والتلمود وما فيهما من الكذب على الله وعلى كليمه موسى وما يحدث أحبارهم وعلماء السوء منهم كل وقت ، ولتهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه ، وبكى الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة ، ودلتهم على أن يناجوا في صلاتهم بقولهم يا إلهنا انتبه من رقدتك كم تنام ينخونه حتى ينتخي لهم ويعيد دولتهم.
ولتهن أمة الضلال علومهم التي فارقوا بها جميع شرائع الأنبياء وخالفوا بها المسيح خلافاً تتحققه علماؤهم في كل أمره كما سيمر بك.(1/194)
وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا مما كادت السموات تنشق منه والأرض تنفطر والجبال تنهد لولا أن أمسكها الحليم الصبور.
وعلومهم التي دلتهم على التثليث ، وعبادة خشبة الصليب والصور المدهونة بالسيرقون والزنجفر، ودلتهم على قول عالمهم أفرايم أن اليد التي جبلت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوت، وأن الشبر الذي ذرعت به السموات هو الذي سمر على الخشبة ، وقول عالمهم المشهور عريقودس من لم يقل أن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله.
السؤال السابع
وأما السؤال السابع وهو قول السائل : نرى في دينكم أكثر الفواحش فيمن هو أعلم وأفقه في دينكم كالزنا واللواط والخيانة والحسد والبخل والغدر والتجبر والتكبر والخيلاء وقلة الورع واليقين وقلة الرحمة والمروءة والحمية وكثرة الهلع والتكالب على الدنيا والكسل في الخيرات ، وهذا الحال يكذب لسان المقال أ.هـ .
والجواب من وجوه:
(الوجه الأول): أن يقال : ماذا على الرسل الكرام من معاصي أممهم وأتباعهم؟! وهل يقدح ذلك شيئاً في نبوتهم أو يغير وجه رسالتهم ؟! وهل سلم من الذنوب على اختلاف أنواعها وأجناسها إلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ؟! وهل يجوز رد رسالتهم وتكذيبهم بمعصية بعض أتباعهم لهم؟ ! وهل هذا إلا من أقبح التعنت؟.
وهو بمنزلة رجل مريض دعاه طبيب ناصح إلى سبب ينال به غاية عافيته ، فقال : لو كنت طبيباً لم يكن فلان وفلان وفلان مرضى.
وهل يلزم الرسل أن يشفو جميع المرضى بحيث لا يبقى في العالم مريض؟ هل تعنت أحد من الناس للرسل مثل هذا التعنت؟
(الوجه الثاني): أن الذنوب والمعاصي أمر مشترك بين الأمم لم تزل في العالم من طبقات بني آدم علمهم وجاهلهم وزاهدهم في الدنيا وراغبهم وأميرهم ومامورهم ، وليس ذلك أمراً اختصت به هذه الأمة حتى يقدح به فيها وفي نبيها.(1/195)
(الوجه الثالث): أن الذنوب والمعاصي لا نتافي الإيمان بالرسل ، بل يجتمع في العبد الإسلام والإيمان والذنوب والمعاصي ، فيكون فيه هذا وهذا.
.
فالمعاصي لا نتافي الإيمان بالرسل وإن قدحت في كما له وتمامه.
(الوجه الرابع) : أن الذنوب تغفر بالتوبة النصوح ، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء وعدد الرمل والحصا ثم تاب منها تاب الله عليه، قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ، وهذا في حق التائب ، فإن التوبة تجب ما قبلها ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والتوحيد يكفر الذنوب ، كما في الحديث الصحيح الإلهي : ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة.
فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موجدين ، ويقوى التوحيد على محو آثارها بالكلية وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا عذبوا بذنوبهم.
وإما المشركون والكفار فإن شركهم وكفرهم يحبط حسناتهم ، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة ، ولا يغفر لهم شئ من ذنوبهم ، قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال تعالى في حق الكفار والمشركين وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبى الله أن يقبل من مشرك عملاً .
فالذنوب تزول آثارها بالتوبة النصوح ، والتوحيد الخالص ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة لها ، وشفاعة الشافعين في الموحدين ، وآخر ذلك عذب بما يبقى عليه منها أخرجه توحيده من النار.
وأما الشرك بالله والكفر بالرسول فإنه يحبط جميع الحسنات بحيث لا تبق معه حسنة.(1/196)
(الوجه الخامس): إن يقال لمورد هذا السؤال - إن كان من الأمة الغضبية إخوان القردة - ألا يستحي من إيراد هذا السؤال من آبائه وأسلافه كانوا يشهدون في كل يوم من الآيات ما لم يره غيرهم من الأمم؟ وقد فلق الله لهم البحر وأنجاهم من عدوهم وما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، قال إنكم قوم تجهلون .
ولما ذهب لميقات ربه لم يمهلوه أن عبدوا بعد ذهابه العجل المصوغ ، وغلب أخوه هارون معهم ولم يقدر على الإنكار عليهم ، وكانوا مع مشاهدتهم تلك الآيات والعجائب يهمون برجم موسى وأخيه هارون في كثير من الأوقات والوحي بين أظهرهم !! ولما ندبهم إلى الجهاد قالوا : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون وآذوا موسى أنواع الأذى حتى قالوا : إنه آدر - أي منتفخ الخصية - ولهذا يغتسل وحده ، فاغتسل يوماً ووضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فعدا خلفه عرياناً حتى نظر بنو إسرائيل إلى عورته فرأوه أحسن خلق الله متجرداً.
ولما مات أخوه هارون قالوا : إن موسى قتله وغيبه .
فرفعت الملائكة لهم تابوته بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتاً.
وآثروا العودة إلى مصر وإلى العبودية ليشبعوا من أكل اللحم والبصل والقثاء والعدس.
هكذا عندهم والذي حكاه الله عنهم أنهم آثروا ذلك على المن والسلوى.
وانهماكهم على الزنا وموسى بين أظهرهم وعدوهم بإزائهم حتى ضعفوا عنهم ولم يظفروا بهم ، وهذا معروف عندهم ، وعبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون معروف وتحيلهم على صيد الحيتان في يوم السبت لا تنسه ، حتى مسخوا قردة خاسئين.
وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً في أول النهار وأقاموا السوق آخره كأنهم جزروا غنماً وذلك امر معروف ، وقتلهم يحيى ين زكريا ، ونشرهم إياه بالمنشار ، وإصرارهم على العظائم ، واتفاقهم على تغيير كثير من احكام التوراة.(1/197)
ورميهم لوطاً بأنه وطئ ابنتيه وأولدهما ، ورميهم يوسف بأنه حل سراويله وجلس من امرأة العزيز مجلس المرأة من القابلة حتى انشق له الحائط وخرجت له كف يعقوب وهو عاض على أنامله فقام وهرب ، وهذا لو رآه أفسق الناس وأفجرهم لقام ولم يقض غرضه.
وطاعتهم للخارج على ولد سليمان بن داود لما وضع لهم كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتهما ، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان .
وقتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة.
ذنوب الموحدين من المسلمين في جنب عظائم اليهود
أفلا يستحي عباد الكباش والبقر من تعيير الموحدين بذنوبهم ؟! ولا تستحي ذرية قتلة الأنبياء من تعيير المجاهدين لأعداء الله ؟! فأين ذرية من سيوف آبائهم تقطر من دماء الأنبياء ممن تقطر سيوفهم من دماء الكفار والمشركين ؟! وألا يستحي من يقول في صلاته لربه : انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك ، ينخيه بذلك ويحميه ، من تعيير من يقول في صلاته : الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين .
فلو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال والتراب والأنفاس ما بلغت مبلغ قبل نبي واحد ولا وصلت إلى قول إخوان القردة إن الله فقير ونحن أغنياء ، وقولهم عزير ابن الله ، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه .
وقولهم : إن الله بكى على الطوفان حتى رمد من البكاء وجعلت الملائكة تعوده ، وقولهم : إنه عض أنامله على ذلك ، وقولهم : إنه ندم على خلق البشر وشق عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم وأعظم من ذلك نسبة هذا كله إلى التوراة التي أنزلها على كليمه.
فلو بلغت المسلمين ما بلغت لكانت في جنب ذلك كتفلة في بحر.(1/198)
ولا تنس قصة أسلافهم مع شاؤل الخارج على داود فإن سوادهم الأعظم انضم إليه وشدوا معه على حرب داود ، ثم لما عادوا إلى طاعة داود وجاءت وفودهم وعساكرهم مستغفرين معتذرين بحيث اختصموا في السبق إليه فنبغ منهم شخص ونادى بأعلى صوته: لا نصيب لنا في داود ولاحظ في ابن يسي ، ليمض كل منكم إلىخبائه يا إسرائيليين فلم يكن بأوشك من أن ذهب جميع عسكر بني إسرائيل إلى أخبيتهم بسبب كلمة ، ولما قتل هذا الصائح عادت العساكر جميعها إلى خدكة داود ، فما كان القوم إلا مثل همج رعاع يجمعهم طبل ويفرقهم عصى !!
دين اليهود
وهذه الأمة الغضيبة وإن كانا متفرقين كثيراً فيجمعهم فرقتان القراؤون والربانيون وكان لهم أسلاف فقهاء وهم صنفوا لهم كتابين : أحدهما يسمى المشنا ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقه ، والثاني يسمى الجمارا ومبلغه قرييب من نصف حمل بغل.
ولم يكن المؤلفون له في عصر واحد وإنما ألفوه في جيل بعد جيل ، فما نظر متأخرهم إلى ذلك وإنه كلما مر عليه الزمان زاوا فيه ، وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيراً من أوله ، علموا أنهم إن لم يقفلوا باب الزيادة وإلا أدى إلى الخلل الفاحش فقطعوا الزيادة وحظروها على فقهائهم وحرموا من يزيد عليه شيئاً فوقف الكتاب على ذلك المقدار.
وكان فقهاؤهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة من كان على غير ملتهم ، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبائح من لم ين عل دينهم ، لأنهم علموا ، دينهم لا يبقى عليهم مع كونهم تحت الذل والعبودية وقهر الأمم لهم إلا أن يصدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم ، وحرموا عليهم مناكحتهم والأكل من ذبائحهم ، ولم يمكنهم ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم ويكذبون فيها على الله.(1/199)
فإن التوراة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا أزواجهم في عباد الأصنام والكفر بالله ، وإنما حرمت عليهم أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قرباناً للأصنام لأنه سمي عليها غير اسم الله فأما ماذكر عليه اسم الله وذبح لله فلم تنطق التوراة بتحريمه البتة بل نطقت بإباحة أكلهم من أيدي غيرهم من الأمم ، وموسى إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام خاصة وأكل ما يذبحونه باسم الأصنام.
قالوا : التوراة حرمت علينا أكل : الطريفا ، قيل لهم : الطريقا هي الفريسة التي يفترسها الأسد أوالذئب أو غيرهما من السباع كما قال في التوراة ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا للكلاب تطرحونه.
فلما نظر فقهاؤهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل المم عليهم إلا عباد الأصنام وصرحت التوراة بان تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوف استجراج المخالطة إلى المناكحة والمناكحة قد تستتبع الانتقال من دينهم إلى أديانهم وموافقتهم في عبادة الأوثان ووجدوا جميع هذا واضحاً في التوراة اختلقوا كتاباً سموه هلكث شحيطا وتفسيره! علم الذباحة ، ووضعوا في هذا الكتاب من الأصار الأغلال ما شغلهم به عما هم فيه من الذل والصغار والخزي ، فأمروهم فيه أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملونها هل يخرج الهوا ء من ثقب منها أم لا فإن خرج منها الهواء حرموه ، وإن كانت بعض اطراف الرئة لاصقة ببعض لم يأكلوه ، وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه فإن وجد القلب ملتصقاً إلى الظهر أو أحد الجانبين ، ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة ، حرموه ولم يأكلون وسموه طريفاً.(1/200)
ومعنى هذه الفظة عنده أنه نجس حرام ، وهذه التسمية عدوان مهن ، فإن معناها في لغتهم هي الفريسة التي يفترسها السبع ليس لها معنى في لغتهم سواه ، ولذلك عندهم في التوراة أن أخوة يوسف لما جاءوا بقميصه ملطخاً بالدم قال يعقوب في جملة كلام طاروف طواف يوسف تفسيره : وحش درئ أكله افتراساً افترس يوسف ، وفي التوراة من الطريفا وهذا نزل عليهم وهم في التيه وقد اشتد قرمهم إلى اللحم فمنعوا من أكل الفريسة والميتة ، ثم اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة وقالوا ما كان من الذبائح سليماً من هذه الشروط فهو دخياً وتفسيره طاهر ، وما كان خارجاً عن ذلك فهو طريفا وتفسيره نجس حرام ، ثم قالوا : معنى قوله في التوراة: ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوا ، للكلاب تطرحونه ، يعنى إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم ، قالوا ومعنى قوله ولكلاب تطرحونه أي لمن ليس على ملتكم فهو الكلب فأطعموه إياه بالثمن ، فتأمل هذا التحريف والكذب على الله وعلى التوراة وعلى موسى.
ولذلك كذبهم اله على لسان رسوله في تحريم ذلك فقال في السورة المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به . الآية.(1/201)
وقال في سورة الأنعام : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم * وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم فهذا تحريم رائد على تحريم الأربعة المتقدمة ، وقال في سورة النحل وهي بعد هذه السورة نزولاً : وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ، فهذا المحرم عليهم بنص التوراة ونص القرآن.
فلما نظر القراؤون منهم وهم أصحاب عنان وبنيامين إلى هذه الحالات الشنيعة والافتراء الفاحش والكذب البارد على الله وعلى التوراة وعلى موسى وأن أصحاب التلمود والمشنا كذابون على الله وعلى التوراة وعلى موسى، وأ،هم أصحاب حماقات ورقاعات ، وأ، أتباعهم ومشايخهم يزعمون أن الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان ويسمون هذا الصوت بث قول فلما نظر القراؤون إلى ههذا الكذب المحال قالوا : قد فسق هؤلاء ، ولا يجوز قبلو خبر فاسق ولا فتواه، فخالفوهم في سائر ما أصلوه من الأمور التي لم ينطق بها نص التوراة وأما تلك الترهات التي ألفها فقهاؤهم الذين يسمونهم الحخاميم في علم الذباحة ورتبوها ونسبوها إلى الله فأطرحها القراؤون كلها وألفوها ، وصاروا لا يحرمون شيئاً من الذبائح التي يتولون ذبحها البتة ، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف إلا أنهم يبالغون في الكذب على الله ، وهم أصحاب ظواهر مجردة ، والأولون أصحاب استنباط وقياسات.(1/202)
والفرقة الثانية يقال لهم الربانوين وهم أكثر عدداً وفيهم الحخاميم الكذابون على الله الذين زعموا أن الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة الصوت الذي يسمونه بث قول وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم ، فإن الحخاميم أوهموهم بأن الذبائح لا يحل منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها ، فإن سائر الأمم لا تعرف هذا وإنه شئ خصوا به وميزوا به عمن سواهم ، وإن الله شرفهم به كرامة لهم ، فصار الواحد منهم ينظر إلى الميتة ، وأما القراؤون فأكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام ونفعهم تمسكهم بالظواهر وعدم تحريفها إلى أن لم يبق منهم إلا القليل لأنهم أقرب استعداداً لقبول الإسلام لأمرين (أحدهما)إساءة ظنهم بالفقهاء الكذابين المفتري على الله وطعنهم عليهم.
(الثاني) تمسكهم بالظواهر وعدم تحريفها وإبطال معانيها.
وأما أولئك الربانيون فإن فقهاءهم حخاميمهم حصروهم في مثل سم الخياط بما وضعوا لهم من التشديدات والآصار والأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبة لهم ، وكان لهم في ذلك مقاصد.
(منها) : أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم حتى لا يختلطوا بهم فيؤدي اختلاطهم بهم إلى موافقتهم والخروج من السبت واليهودية.
(القصد الثاني) : أن اليهود مبددون في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها ، كما قال تعالى : وقطعناهم في الأرض أمما .(1/203)
وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهما لخشونة في دينه والمبالغة في الاحتياط ، فإن كان من فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهمهم قلة دينهم وعلمهم ، وكلما شدد عليهم قالوا هذا هو العالم ، فأعلمهم أعظمهم تشديداً عليهم ، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل من أطعمتهم وذبائحهم ، ويتأمل سكين الذباح ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره ، ويقول لا آكل إلا من ذبيحة يدي ، فتراهم معه في عذاب ، ويقولون هذا علام غريب قدم علينا فلا يزال ينكر عليهم الحلال ويشدد عليهم الآصار والأغلال ويفتح لهم أبواب المكر والاحتيال ، وكلما فعل هذا قلوا : هذا هوالعالم الرباني والحخيم الفاضل ، فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله وقبل بينهم مقاله وزن نفسه معه فإذا رأى أنه ازدرى به وطعن عليه لم يقبل منه ، فإن الناس في الغالب يميلون معالغريب وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين ، ولا يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدد عليهم وضيق ، وكلما كان الرجل أعظم تضييقاً وتشديداً كان أفقه عندهم ، فينصرف عن هذا الرأي فيأخذ في مدحه وشكره ، فيقول : لقد عظم صلى الله عليه وسلم ثواب فلان إذا قوي ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة ، شيد أساسه ، وأحكم سياج الشرع ، فيبلغ العادم قوله فيقول ما عندكم أفقه منه ولا أعلم بالتوراة ، وإذا لقيه يقول : لقد زين الله بك أهل بلدنا ، ونعش بك هذه الطائفة.
وإن كان القادم عليهم حبراً من أحبارهم فهناك ترى العجب العجيب من الناموس التي تراه يعتمده والسنن التي يحدثها ،ولا يعترض عليه أحد ، بل تراهم مسلمين له ، وهو يجتلب درهم ويجتلب درهمهم.(1/204)
وإذا بلغه عن يهودي طعن عليه صبر عليه حتى يرى منه جلوساً على قارعة الطريق يوم السبت أو يبلغه أنه اشترى من مسلم لبناً أو خمراً أو خرج عن بعض أحكام المشنا ، والجمارا فحرمه بين ملأ اليهود وأباحهم عرضه ونسبه إلى الخروج عن اليهودية ، فيضيق به البلد على هذه الحال ، فلا يسعه إلا أن يصلح ما بينه وبين الحبر بما يقتضيه الحال ، فيقول لليهود : إن فلاناً قد أبصر رشده ورجع للحق وأقلع عما كان فيه وهو اليوم يهودي على الوضع ، فيعودون بالتعظيم والإكرام !!.
من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار !!
وأذكر لك مسألة من مسائل شرعهم المبدل أو المنسوخ تعرف بمسألة البياما والجالوس وهي أن عندهم في التوراة : إذا أقام أخوان في موضع واحد ومات أحدهما ول يعقب ولداً فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل حموها ينكحها ، وأول ولد يولدها ينسب إلى أخيه الدارج ، فإن أبي أن ينكحها خرجت متشكية إلى مشيخة قومه قائلة قد أبى حموي أن يستبقي اسماً لأخيه في بني إسرائيل ولم يرد نكاحي، فيحضره ويكلفه أن يقف ويقول ما أردت نكاحها ، فتناول المرأة نعله فتخرجه من رجله وتمسكه بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه: كله فليصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخته .
ويدعي فيما بعد بالمخلوع النعل ، وينتبز بنوه بهذا اللقب.(1/205)
وفي هذا كالتلجئة له إلى نكاحها ، لنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك فربما استحيا وخجل من شيل نعله من رجله والبصق في وجهه ونبره باللقب المستكره الذي يبقى عليه وعلى أولاده عاره ولم يجد بداً من نكاحها فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها بحيث يرى أن هذا كله أسهل عليه من أن يبتلي بها وهان عليه هذا كله فبالتخلص منها لم يكره على نكاحها ، هذا عندهم في التوراة ونشأ لهم من ذلك فرغ مرتب عليه وهو : أن يكون مريداً للمرأة محباً لها وهي في غاية الكراهة له ، فأحدثوا لهذا الفرع حكماً في غاية الظلم والفضيحة فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها ولقنوها أتقول : أن حموي لا يقيم لأخيه اسما في بني إسرائيل ، ولم يرد نكاحي ، وهو عاشق لها ، فيلزمونها بالكذب عليه وإنها أرادته فامتنع - فإذا قالت ذلك ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول : ما أردت نكاحها ، ونكاحها غاية سؤله وأمنيته ، فيأمرونه بالكذب عليها ، فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مسك هنا ولا ضرب بل يبصق في وجهه وينادي عليه : هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه.
فلم يكفيهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي وألزموه بالكذب والبصاق في وجهه والعتاب لى ذنب جره غيره ، كما قيل :
وجرم جره سفهاء قوم وحل بغير جارمه العذاب(1/206)
أفلا يستحي من تعيير المسلمين من هذا شرعه ودينه ؟! ولا يستبعد اصطلاح الأمة الغضيبة على المحال واتفاقهم على أنواع من الكفر والضلال ، فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذ بلادها انطمست حقائق سالف أخبارها ودرست معالم دينها وآثارها ، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أولوها وأسلافها ، لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات وخراب البلاد وإحراقها وجلاء أهلها عنها ، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها إلى أن تستحيل رسوم دياناتها وتضمحل أصول شرعها وتتلاشى قواعد دينها ، وكلما كانت الأمة أقدم واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصار كان حظها من اندراس دينها أفر ، وهذه الأمة الغضيبة أوفر الأمم حظاً من ذلك ، فإنها أقدم الأمم عهداً ، واستولت عليها سائر الأمم من الكلدانيين والبابليين والفرس واليونان والرومان والنصارى ، وما من هذه الأمم أمة الا وقصد استئصالهم وإحراق كتبهم وتخريب بلادهم ، حتى لم يبق لهم مدينة ولا جيش إلا بأرض الحجاز وخيبر فأعز ما كنوا هناك ، فلما قام الإسلام واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى وصادف هذه الشرذمة بخيبر والمدينة فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل والسبي وتخريب الديار ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم ، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء فكتب الله عليهم الجلاء وشتتهم ومزقهم بالإسلام كل ممزق ، ومع هذا فلم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين ولا آمن ، فإن الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء وبالغوا في طلبهم وعبدوا الأصنام ، أحضروا من البلاد سدنة للأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة وبنوا لها البيع والهياكل وعكفوا على عبادتها وتركوا لها أحكام التوراة وشرع موسى أزمنة طويلة وأعصاراً متصلة ، فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم فما الظن بشأنهم مع أعدائهم أشد الأعداء عليهم كالنصارى الذين عندهم أنهم(1/207)
قتلوا المسيح وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وكالفرس والكلدانيين وغيرهم.
وكثيراً ما منعهم ملوك الفرس من الختان وجعلوهم قلفاً ، وكثيراً ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء الى الأمم بالبوار على بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان ، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة اخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم سموها الخزانة وصاغوا لها ألحاناً عديدة وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها ، والفرق بين الخزانة والصلاة أن الصلاة بغير لحن ويكون المصلي فيها وحده ، والخزانة بلحن يشاركه غيره فيه ، فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم قالت اليهود نحن نغني ننوح على أنفسنا فيخلون بينهم وبين ذلك ، فجاءت دولة الإسلام فأمنوا فيها غاية المن ، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم ، واستمرت الخزانة فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح وتعوضوا بها عن الصلاة.
والجب أنهم مع ذهاب دولتهم وتفرق شملهم وعملهم بالغضب الممدود المستمر عليهم ومسخ أسلافهم قردة لتقلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت وخروجهم عن شريعة موسى و التوراة وتعطيلهم لأحكامها يقولون في كل يوم في صلاتهم محبة الدهر : (أحبنا يا إلهنا ! ويا أبانا ! أنت أبونا منقذنا) ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه وأنهم سيقيم الله لهم نبياً من آل داود إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع المم ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود ، وهو بزعمهم المسيح الذي وعدوا به ، وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم ، وينخونه ويحمونه ، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علواً كبيراً.
وضلال لهذه الأمة الغضيبة وكذبها وافتراؤها على الله ودينه وأنبيائه لا مزيد عليه.(1/208)
وأما أكلهم الربا والسحت و الرشا ، واستبدادهم دون العالم بالخبث والمكر والبهت ، وشدة الحرص على الدنيا ، وقسوة القلوب ، والذل والصغار ، والخزي ، والتحيل على الأعراض الفاسدة ، ورمي الراء بالعيوب ، والطعن على الأنبياء فأرخص شئ عندهم ، وما عيروا به المسلمين مما ذكروه فهو في بعضهم وليس في جميعهم ونبيهم وكتابه ودينه وشرعه برئ منه ، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم ، فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
دين النصارى
وإن كان المعير للمسلمين من أمة الضلال وعباد الصليب والصور المدهونة في الحيطان والسقوف فيقال له : ألا يستحي من أصل دينه الذي يدين به اعتقاده : أن رب السموات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه ودخل في فرج امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوط وتحيض ، فالتحم ببطنها، وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو وبول ودم طمث ، ثم خرج إلى القماط والسرير كلما بكى ألقمته ثديها ، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان ، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه ، وصفعهم قفاه ، وبصقهم في وجهه ، ووضعهم تاجاً من الشوك على رأسه والقصبة في يده ، استخفافاً به وانتهاكاً لحرمته .
ثم قربوه من مركب خص بالبلاء راكبه ، فشده عليه وربطوه بالحبال ، وسمروا يديه ورجليه ، وهو يصبح ويبكي ويستغيث من حر الحديد وألم الصلب.
هذا وهو الذي خلق السموات والأرض ، قسم الأرزاق والآجال ، ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن يمكن أعداءه من نفسه لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذاب والسجن في الجحيم ، ويفدي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه فيخرجهم من سجن إبليس ، فإن روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه.
مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها(1/209)
وأما قولهم في مريم فإنهم يقولون إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة، ووالدته في الحقيقة، لا أم لابن الله إلا هي، ولا والدة له غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، ولا ولد له سواه، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة ولده وابنه من بين سائر النساء، ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، ولكن اختصت عن النساء بأنها حبلت بابن الله، ولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره، ولا ولد له سواه، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه.
والنصارى يدعونها ويسألونها سعة الرزق، وصحة البدن، وطول العمر، ومغفرة الذنب، وأن تكون لهم عن ابنها ووالده -الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها، ولا ينكرون ذلك عليهم- سوراً وسنداً وذخراً وشفيعاً وركناً، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله اشفعي لنا ! وهم يعظمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيين والمرسلين، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية والرزق والمغفرة.
حتى أن اليعقوبية يقولون في مناجاتهم لها: يا مريم يا والدة الإله، كوني لنا سوراً وسنداً وذخراً وركناً.
والنسطورية يقولون: يا والدة المسيح كوني لنا كذلك، ويقولون لليعقوبية: لا تقولوا: يا والدة الإله وقولوا يا والدة المسيح ، فقالت لهم العقوبية: المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة فأي بيننا وبينكم في ذلك ؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ومقاربتهم في التوحيد .
هذا...والأوقاح الأرجالس من هذه الأمة تعتقد أن الله سبحانه اختار مريم لنفسه ولولده، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة.
قال النظام بعد أن حكى ذلك عنهم: وهو يفصحون بهدا عند من يثقون به.
قد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في المعونة، وقال: إليه يشيرون، ألا ترون أنهم يقولون، من لم يكن والداً عقيماً والعقم آفة وعيب، وهذا قول جميعهم وإلى المباضعة يشيرون، ومن خالط القوم وطاولهم وباطنهم عرف ذلك منهم .(1/210)
فهذا كفرهم وشركهم برب العالمين ومسبتهم له.
ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين: أهينوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر .
وقد أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم- عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال: شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ... لو أتى الموحدون بكل ذنب وفعلوا كل قبيح وارتكبوا كل معصية ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين، ومسبته هذا السب، وقول العظائم فيه.
فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ويسأل المسيح على رؤوس الأشهاد وهم يسمعون يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ فيقول المسيح مكذباً لهم ومتبرئاً منهم : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد .
فهذا أصل دينهم وأساسه الذي قام عليه.(1/211)
وأما فروعه وشرائعه فهم مخالفون للمسيح في جميعها ، وأكثر ذلك بشهاداتهم وإقرارهم ولكن يحيلون على البتاركة والأساقفة، فإن المسيح صلوات الله وسلامه عليه كان يتدين بالطهارة، ويغتسل من الجنابة، ويوجب غسل الحائض، وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب، وأن الإنسان يقوم من على بطن المرأة يبول ويتغوط ولا يمس ماء ولا يستجمر، والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ويصلي كذلك وصلاته صحيحة تامة عنده، ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره فضلاً عن أن يفسو أو يضرط، ويقولون : إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذ أبعد من صلاة المسلمين واليهود وأقرب إلى مخالفة الأمتين، ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه، وهذه الصلاة رب العالمين بريء منها، وكذلك المسيح وسائر النبيين، فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة، وحاش المسيح أن تكون هذه صلاته أو صلاة أحد من الحواريين.
والمسيح كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرؤونه في صلاتهم من التوراة، والزبور، وطوائف النصارى إنما يقرؤون في صلاتهم كلاماً قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم، يجري مجرى النوح والأغاني فيقولون: هذا قداس فلان وهذا قداس فلان، ينسبونه إلى وضعوه، وهم يصلون إلى الشرق، وما صلى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى إلى أن توفاه الله إلا إلى بيت المقدس، وهي قبله داود والأنبياء، قبله ، وقبلة بني إسرائيل، والمسيح اختتن وأوجب الختان كما أوجبه موسى وهارون والأنبياء قبل المسيح.
والمسيح حرم الخنزير، ولعن آكله، وبالغ في ذمه -والنصارى تقر بذلك- ولقى الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة، والنصارى تتقرب إليه بأكله.(1/212)
والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط ولا صامه في عمره مرة واحدة ولا أحد من الصحابة، لا صام صوم العذارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه ولا حرم فيه ما يحرمونه ولا عطل السبت يوماً واحداً حتى لقى الله، ولا اتخذ الأحد عبدا قط، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجدلية فأخرج منها سبع شياطين وأن الشياطين قالت له: أين ناوي؟ فقال لها: أسلكي هذه الدابة النجمية يعني الخنزير.
فهذه حكاية النصارى عنهم بوهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب وأجملها، والمسيح سار في الذبائح والمناكح والطلاق والمواريث والحدود سيرة الأنبياء قبله.
وليس عند النصارى على من زنا أو لاط أو سكر حد في الدنيا أبداً ولا عذاب في الآخرة، لأن القس والراهب يغفره لهم فكلما أذنب أحدهم ذنباً أهدى للقس هدية أو أعطاه درهماً أو غيره ليغفر له به.
وإذا زنت امرأة أحدهم بيتها عند القس ليطيبها له فرذا انصرفت من عنده وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به.
! وهم يقرون أن المسيح قال: إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضاً بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى، ومن نقض شيئاً من ذلك يدعى ناقضا في ملكوت السماء وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا، وقال لأصحابه: اعلموا بما رأيتموني أعمل، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به، ووصوا الناس بما وصيتكم به، وكونوا معهم كما كنت معكم، وكونوا لهم كما كنت لكم .(1/213)
قرأوا اليهود قد قالوا في المسيح: إنه ساحر مجنوب ممخرق ولد زنية فقالوا: هو إله تام وهو ابن الله !! ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان ! ورأوهم يبالغون في الطهارة فتركوها جملة ! ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض وملامستها ومخالطتها جملة فجامعوها! ورأوهم يحرمون الخنزير، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم، ورأوهم يحرمون كثيراً من الذبائح والحيوان فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة، وقالوا: كل ما شئت ودع ما شئت لا حرج، ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة فاستقبلوا وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاءوا ويحللوا ما شاءوا ويحوموا ما شاءوا، ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه فحرموا هم الأحد وأحلوا السبت مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه ، ورأوهم ينفرون من الصليب، فإن في التوراة ملعون من تعلق بالصليب.
والنصارى تقر بهذا ، فعبدوا هم الصليب، كما في التوراة تحريم الخنزير نصاً فتعبدوا هم بأكله، وفيها الأمر بالختان، فتعبدوا هم بتركه مع إقرار النصارى بأن المسيح قال لأصحابه: إنما جئتكم لأعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قلبي، وما جئت ناقضاً بل متمماً، ولأن تقع، ولأن تقع السماء على الأرض، أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى.(1/214)
فذهب النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بافر كسيس أن قوماً من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتو أنطاكية وغيرها من الشام فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح، فدعوهم إلى العمل بالتوراة وتحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان وإقامة السبت، وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه، فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحببوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم، وأكل ذبائحهم، والانحطاط في أهوائهم ، والتخلق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم وأنشأوا في ذلك كتاباً، فهذا أحد مجامعهم الكبار.(1/215)
وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء اجتمعوا مجمعاً افتروا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية، وفي رمنه بدل دين المسيح وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع وقام به وقعد، وكان عدتهم زهاء ألفي رجل، فقروا تقريراً ثم رفضوه ولم يرتضوه، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً منهم -والنصارى يسمونهم الآباء- فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به، ويسمونه سنهودس وهي الأمانة ! ولفظها: نؤمن بالله الآب الواحد يخالق ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله بكر أبيه وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده اتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مري البتول وحبلت به مريم البتول وولدته، وأخذ وصلب، وقتل أيام بيلاطس البنطي، وما ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب ، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء.
ونؤمن بالروح القدس روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين .
فصرحوا فيها بأن المسيح رب وأنه ابن الله، وأنه بكره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع، أي ليس بعبد مخلوق بل هو رب خالق، وأنه إله حق استل وولده من إله حق، وأنه مساو لأبيه في الجوهر، وأنه بيده أتقنت العوالم، وهذه اليد أتقنت العوالم بها عندهم هي التي ذاقت حر المسامير كما صرحوا به في كتبهم.(1/216)
وهذه ألفاظهم ، قالوا : وقد قال القدوة عندنا: إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلفته وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى ! قالوا وقد وصفوا صنيع اليهود به وهذه ألفاظهم وإنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه.
قالوا: وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء وتلده ويؤخذ ويصلب !، قالوا وأما سنهودس دون الأمم، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة وفيه: أن مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته.
قالوا: وعندنا أن المسيح ابن آدم وهو ربه وخالقه ورازقه، وابن ولده ابراهيم وربه وخالقه ورازقه، وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه، وابن مريم وربها وخالقها ورازقها .
قالوا: وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا : السيوع في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم نزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله وهو كلمة الله ، هذه ألفاظهم ، قالوا: فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسوه بأيديهم ، وهو الذي حبلت به مريم وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى: أنت تؤمن بابن الله؟ قال الأعمى: ومن هو حتى أؤمن به ؟ قال: هو المخاطب لك، ابن مريم، فقال: آمنت بك وخر ساجداً.
قالوا: فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وابن الله وكلمة الله .
وقالوا: وهو الذي ولد ورضع وفطم وأخذ وصلب وصفع وكتفت يداه وسمر وبصق في وجهه ومات ودفن وذاق ألم الصلب والتسمير والقتل لأجل خلاص النصارى من خطاياهم.
قالوا: وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم وموسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة .(1/217)
قالوا: وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف والمعونة، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه، فلهذا فارقت إناث جميع الحيوانات وفارق ابنها جميع، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء وحبلت به مريم وولدته إلها واحداً ومسيحاً واحداً ورباً واحداً لا يقع بينهما فرق ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه لا في حبل ولا في ولادة ولا في حال نوم ولا مرض ولا صلب ولا موت ولا دفن بل هو متحد به في حال الحيل، فهو في تلك الحال مسيح واحد وخالق واحد وإله واحد ورب واحد، وفي حال، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال الصلب الموت كذلك .
قالوا: فمنا من يطلق في لفظه وعبارته حقيقة هذا المعنى فيقول: مريم حبلت بالإله ، وولدت الإله، ومات الإله، ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها ويعطى معناها وحقيقتها ، ويقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي أم المسيح في الحقيقة، والمسيح إله في الحقيقة، ورب في الحقيقة، وابن الله في الحقيقة، وكلمة الله في الحقيقة، لا ابن لله في الحقيقة سواه، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو .
قالوا: فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال حبلت بالإله وولدت الإله وقتل الإله وصلب الإله.
ومات ودفن، وإن منعوا للفظ والعبارة .
قالوا: وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا: حبلت بالإله وولدت الإله وألم الإله ومات الإله أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو آب ولكنا نقول حل هذا كله ونزل بالمسيح والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من جوهر أبيه، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط.
قالوا : فهذا حقيقة ديننا وإيماننا، والآباء والقدوة قد قالوا قبلنا وسنوه لنا ومهدوه وهم أعلم بالمسيح منا .أ.هـ.(1/218)
لا تختلف المثلثة عباد الصليب من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي ولا عبد صالح ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وأنه إله تام من إله تام، إنه خالق السموات والأرضين، والأولين والآخرين، ورازقهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم من القبور وحاشرهم ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم.
والنصارى تعتقد أن الآب انخلع من ملكه كله وجعله لابنه، فهو الذي يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويدبر أمر السموات والأرض، ألا تراهم يقولون في أمانتهم : ابن الله وبكر أبيه، وليس بمصنوع -إلى قولهم- بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء -إلى قولهم- وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للفصل بين الأموات والأحياء ؟ ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم : أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا وترزقنا وتخلق أولادنا وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا.
وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه فإن المسيح قال لهم : إن الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم.
فشهد على نفسه أنه عبد الله مربوب مصنوع.
كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله، ففي إنجيل يوحنا أن المسيح قال في دعائه : إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق وأنك أرسلت يسوع المسيح .
وهذا حقيقة شهادة المسلمين أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقال لبني إسرائيل: تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله فذكر ما غايته أنه رجل بلغهم ما قاله الله، ولم يقل وأنا إله ولا ابن الإله على معنى التوالد.
وقال : إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي ولكن بمشيئة من أرسلني .
وقال : إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء نفسي، ولكن من الذي أرسلني، والويل لي إن قلت شيئاً من تلقاء نفسي ولكن بمشيئة هو من أرسلني .
وكان يواصل العبادة من الصلاة والصوم ويقول: ما جئت لأخدم.
وإنما جئت لأخدم.(1/219)
فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله الله بها وهي منزلة الخدام.
وقال : لست أدين العباد بأعمالهم ولا أحاسبهم بأعمالهم، ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى.
وفيه أن المسيح قال: يا رب قد علموا أنك قد أرسلتني ، وقد ذكرت لهم إسمك فأخبر أن الله ربه وأنه عبده ورسوله.
وفيه أن الله الواحد رب كل شيء، أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلو إلى الحق.
وفيه أنه قال: إن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم.
وفيه ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت شيئاً من قبل نفسي، ولكن اتكلم وأجيب بما علمني ربي.
وقال: إن الله مسحني وأرسلني، وأنا عبد الله، وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص....
وقال: إن الله عز وجل ما أكل ولا يأكل وما شرب ولا يشرب ولم ينم ولا ينام ولا ولد له ولا يولد ولا رآه أحد ولا يراه أحد إلا مات ، وبهذا يظهر لك سر قوله تعالى في القرآن: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام .
تذكيراً للنصارى بما قال لهم المسيح.
وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحيي الميت: أنا أشكرك وأحمدك لأنك تجيب دعائي في هذا الوقت وفي كل وقت، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني وأنك تجيب دعائي.
وفي الإنجيل أن المسيح حين خرج من السامرية ولحق بالجليل قال: لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه فلم يزد على دعوى النبوة.
وفي إنجيل لوقا : لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه فكيف تقتلونني .
وفي إنجيل مرقس : أن رجلاً أقبل إلى المسيح وقال: أنها المعلم الصالح أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة ؟ فقال له المسيح: لم قلت صالحاً ؟ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفت الشروط، لا تسرق ولا تزن ولا تشهد بالزور ولا تخن ، وأكرم أباك وأمك .(1/220)
وفي إنجيل يوحنا أن اليهود أرادوا قبضة رفع بصره إلى السماء وقال: قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك ، واجعل لي سبيلاً أن أملك كل من ملكتني الحياة الدائمة.
وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلهاً واحداً وبالمسيح الذي بعثت وقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت الذي أمرتني به فشرفني ، فلم يدع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث.
وفي إنجيل متى: لا تدعوا لكم أبا على الأرض فإن أباكم واحد الذي في السماء، ولا تدعوا معلمين فإنما معلمكم المسيح وحده .
والآب في لغتهم الرب المربي، أي لا تقولوا إلهكم وربكم في الأرض ولكنه في السماء، ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه وهو أن غايته أنه يعلم في الأرض وإلههم هو الذي في السماء.
وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا: إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته.
وفي إنجيل يوحنا أن المسيح أعلن صوته في البيت وقال لليهود: قد عرفتموني وموضعي، ولم آت من ذاتي ، ولكن بعثني الحق وأنتم تجهلونه، فإن قلت إني أجهله كنت كاذباً مثلكم وأنا أعلم وأنتم تجهلونه أنى منه وهو بعثني ، فما زاد في دعواه على ما ادعاه الأنبياء فأمسكت المثلثة قوله: إني منه وقالوا: إله حق من إله حق.
في القرآن رسول من الله ، وقال هود: ولكني رسول من رب العالمين ، وكذلك قال صالح ! ولكن أمة الضلال كما أخبر الله عنهم يتبعون المتشابه ويردون المحكم.
وفي الإنجيل أيضاً أنه قال لليهود وقد قالوا له: نحن أبناء الله .
فقال لهم: لو كان أباكم لأطعتموني لأني رسول منه خرجت مقبلاً ولم أقبل من ذاتي ولكن هو بعثني، لكنكم لا تقبلون وصيتي وتعجزون عن سماع كلامي، إنما أنتم أبناء الشيطان وتريدون إتمام شهواته .
وفي الإنجيل أن اليهود أحاطت به وقالت له: إلى متى تخفي أمرك إن كنت المسيح الذي ننتظره فأعلمناه بذلك ؟ ولم تقل إن كنت الله أو ابن الله فإنه لم يدع ذلك ولا فهمه عنه أحد من أعدائه ولا أتباعه.(1/221)
وفي الإنجيل أيضاً: إن اليهود أرادوا القبض عليه فبعثوا لذلك الأعوان وإن الأعوان رجعوا إلى قوادهم فقالوا لهم لم لم تأخذوه، فقالوا ما سمعنا آدمياً أنصف منه، فقالت اليهود وأنتم أيضاً مخدعون أترون أنه آمن به أحد من القواد أو من رؤساء أهل الكتاب ؟ فقال لهم بعض أكابرهم : أترون كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه ؟ فقالوا له اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من الجليل نبي .
فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه أنه ومالكه أنه نبي، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرت ذلك له وأنكرته عليه وكان أعظم أسباب التنفير عن طاعته، لأن كذبه كان يعلم بالحس والعقل والفطرة واتفاق الأنبياء.
ولقد كان يجب لله سبحانه -لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه- أن لا يدخل في فرج امرأة، ويقيم في بطنها بين البول والنجو والدم عدة أشهر، وإذ قد فعل ذلك.
لا يخرج صبياً ، يرضع ويبكي، وإذ قد فعل ذلك، لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام، وإذ قد فعل ذلك، فلا يبول ولا يتغوط ويمتنع من الخرأة إذ هي منقصة ابتلى بها الإنسان في هذه الدار لنقصه وحاجته، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، الذي ما وسعته سمواته ولا أرضه، وكرسيه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج امرأة، تعالى الله رب العالمين...وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام.(1/222)
فيا معشر المثلثة وعباد الصليب...أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطاً على خشبة الصليب وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلواً من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم ؟ أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب وليذوق حر المسامير وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: ملعون من تعلق بالصليب ، أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن ؟ أم تقولون -وهو حقيقة قولكم - لا ندري ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة والجواب عليهم ! فنقول لكم وللآباء : معاشر المثلثة عباد الصليب ! ما الذي دلكم على إلهية المسيح ؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع وشدوا يديه ورجليه بالحبال وضربوا فيها المسامير وهو يستغيث وتعلق ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه، فما أصحه من استدلال عند أمثالك ممن أهل أضل من الأنعام وهم عار على جميع الأنام.
وإن قلتم إنما استدللنا على كونه إلها بأنه لم يولد من البشر ولو كان مخلوقاً لكان مولوداً من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحاً فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلهاً منه لأنه لا أم له ولا أب والمسيح له أم، وحواء أيضاً اجعلوها إلها خامساً لأنها لا أم لها وهي أعجب من خلق المسيح.
والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبينه إظهاراً وأنه يفعل ما شاء، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى.(1/223)
وإن قلتم : استدللنا على كونه إلها بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله، فاجعلوا موسى إلها آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيواناً عظيماً ثعباناً، فهذا أبلغ من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا، فإن قلتم هذا غير إحياء الموتى فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى وهم يقرون بذلك، وكذلك الياء النبي أيضاً أحيا صبياً بإذن الله، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وفي كتبكم من ذلك كثير يعن الأنبياء والحواريين: فهل صار أحد منهم إلهاً بذلك ؟ وإن قلتم جعلناه إلهاً للعجائب التي ظهرت على يديه فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيلياء النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها فلم ينفذ ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين.
وإن جعلتموه إلهاً لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى ! وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جداً حتى شبعوا وملأوا أوعيتهم، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى يملأوا كل سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر.
وإن قلتم جعلناه إلها لأنه صاح بالبحر فسكت أمواجه، فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثني عشر طريقاً وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر سارحة! وإن جعلتموه إلهاً لأنه أبرأ الأكمه والأبرص فإحياء الموتى أعجب من ذلك، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك.(1/224)
وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى العبودية والافتقار وأنه مربوب مصنوع مخلوق، فإن كما كان ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال وليس بمؤمن ولا صادق فضلاً عن أن يكون نبياً كريماً وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما من تعالى: ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ، وكل من ادعى الإلهية من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله ونبوته ورسالته وجعلتموه أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال ! ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم فيقتله، ويظهر للخلائق أنه كان كاذباً مفترياً ولو كان إلها لم يقتل فضلاً عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه ! وأن كان المسيح إنما ادعى أنه عبد ونبي ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها ودل عليه العقل والفطرة وشهدتم أنتم له بالإلهية -وهذا هو الواقع- فلم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته وأنه مربوب مخلوق، وأنه ابن البشر، وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه ! وإن قلتم إنما جعلناه إلهاً لأنه أخبر بما يكون بعده من الأمور فكذلك عامة الأنبياء، وكثير من الناس يخبر عن حوادث في المستقبل جزئية ويكون ذلك كما أخبر به، ويقع من ذلك كثير للكهان والمنجمين والسحرة! وإن قلتم إنما جعلناه إلهاً لأنه سمى نفسه ابن الله في غير موضع من الإنجيل كقوله: إني ذاهب إلى أبي، وإني سائل أبي، ونحو ذلك وابن الإله إله، قيل: فاجعلوا أنفسكم كلكم آلهة في غير موضع إنه سماه أباه، أباهم كقوله أذهب إلى أبي وأبيكم وفيه ولا تدعوا لكم أبا على الأرض فإن أباكم واحد الذي في السماء وهذا كثير في الإنجيل وهو يدل على أن الأب عندهم : الرب ! وإن جعلتموه إلهاً لأن(1/225)
تلاميذه ادعوا ذلك له وهم أعلم الناس به كذبتم أناجيلكم التي بأيديكم فكلها صريحة أظهر صراحة بأنهم ما ادعوا له إلا ما ادعاه لنفسه من أنه عبد، فهذا متى يقول في الفصل التاسع من إنجيله محتجاً بنبوة أشعياء في المسيح عن الله عز وجل: هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له.
وفي الفصل الثامن من إنجيله: إني أشكرك يا رب، و ويارب السماوات والأرض .
وهذا لوقا يقول في آخر إنجيله : إن المسيح عرض له ولآخر من تلاميذه في الطريق ملك وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين ؟ فقالا: كأنك غريب في بيت المقدس، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر الناصري فإنه كان رجلاً نبياً قوياً تقياً في قوله وفعله عند الله وعند الأمة أخذوه وقتلوه .
وهذا كثير جداً في الإنجيل ! وإن قلتم : إنما جعلناه إلهاً لأنه صعد إلى السماء ... فهذا أخنوخ وإلياس قد صعدا إلى السماء وهما حيان مكرمان لم تشكهما شوكة ولا طمع فيهما طامع.
والمسلمون مجمعون على أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- صعد إلى السماء وهو عبد محض.
وهذه الملائكة تصعد إلى السماء، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان ولا تخرج بذلك عن العبودية، وهل كان الصعود إلى السماء مخرج عن العبودية بوجه من الوجوه ؟ وإن جعلتموه إلهاً لأن الأنبياء سمته إلهاً ورباً وسيداً ونحو ذلك فلم يزل كثير من أسماء الله عز وجل تقع على غيره جميع الأمم وفي سائر الكتب، ومازالت الروم والفرس والهند والسريانيون والعبرانيون والقبط وغيرهم يسمون ملوكهم آلهة وأرباباً.
وفي السفر الأول من التوراة: أن نبي الله دخلوا على بنات الناس ورأوهن بارعات الجمال فتزوجوا منهن .
وفي السفر الثاني من التوراة في قصة الخروج من مصر إني جعلتك إلهاً لفرعون .(1/226)
وفي المزمور الثاني والثمانين لداود قام الله لجميع الآلهة هكذا في العبرانية ، وأما من نقله إلى السريانية فإنه حرفه فقال: قام الله في جماعة الملائكة ، وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قوماً باروح: لقد ظننت أنكم ألهة وأنكم أبناء الله كلكم وقد سمي نفسه بذلك، وسماه بالعزيز وسمى نفسه بذلك، وسماه بالرؤوف الرحيم كما سمى نفسه بذلك، وسماه بالعزيز وسمى نفسه بذلك، واسم الرب واقع على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد، كما يقال هذا رب المنزل ورب الإبل ورب هذا المتاع، وقد قال أشعياء : عرف الثور من اقتناه والحمار مربط ربه ولم يعرف بنو إسرائيل .
وإن جعلتموه إلهاً لأنه صنع من الطين صورة طائر ثم نفخ فيها فصارت لحماً ودماً وطائراً حقيقة ولا يفعل هذا إلا الله، قيل فاجعلوا موسى بن عمران إله الآلهة فإنه ألقى عصا فصارت ثعباناً عظيماً ثم أمسكها بيده فصارت عصا كما كانت ! وإن قلتم : جعلناه إلهاً لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك، قال دانيال حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل بعد أربعمائة واثنين وثمانين سنة : يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم وعند انتهاء هذه المدة أتى المسيح، ومن يطيق تخليص الأمم من الكفر والشرك وخلصوهم من النار بإذن الله وحده، ولا شك أن المسيح خلص من آمن به واتبعه من ذل الدنيا وعذاب الآخرة، كما خلص موسى بني إسرائيل من فرعون وقومه، وخلصهم بالإيمان باليوم الآخر من عذاب الآخرة، وخلص الله سبحانه بمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله من الأمم والشعوب ما لم يخلصه نبي سواه فإن وجبت بذلك الإلهية لعيسى فموسى ومحمد أحق بها منه.(1/227)
وإن قلتم أوجبنا له بذلك الإلهية لقول أشعياء النبي عن ولادته: وفي ذلك الزمان يقوم لداود ابن، وهو ضوء النور، يملك الملك، ويقيم الحق العدل في الأرض، ويخلص من آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل ومن غيرهم، ويبقى بيت المقدس من غير مقاتل، ويسمى الإله فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها قد أطلق على غيره وهو بمنزلة الرب والسيد والآب ولو كان عيسى هو الله لكان أجل من أن يقال ويسمى إله وكان يقول وهو الله، فإن الله سبحانه لا يعرف بمثل هذا، وفي هذا الدليل الذي جعلتموه به إلهاً أعظم الأدلة على أنه عبد وأنه ابن البشر فإنه قال: يقول لداود ابن فهذا الذي قام لداود هو الذي سمى بالإله، فعلم أن هذا الإسم لمخلوق مصنوع مولود لا لرب العالمين وخالق السموات والأرضين.
وإن قلتم إنما جعلناه إلهاً من جهة قول أشعياء النبي : قل لصهيون يفرح ويتهلل فإن الله يأتي ويخلص الشعوب ويخلص من آمن به ويخلص مدينة بيت المقدس ويظهر الله ذراه الطاهر فيها لجميع الأمم المتبددين ويجعلهم أمة واحدة، ويبصر جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم وبين أيديهم ويجمعهم إله إسرائيل.
قيل لهم: هذا يحتاج إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة أشعياء بهذا اللفظ بغير تحريف للفظه ولا غلط في الترجمة، وهذا غير معلوم، وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إله تام وأنه غير مصنوع ولا مخلوق فإنه نظير ما في التوراة: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران ، وليس في هذا ما يدل على أن موسى ومحمداً إلهان والمراد بهذا مجيء دينه وكتابه وشرعه وهداه ونوره.
وأما قوله: ويظهر ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين ففي التوراة مثل هذا وأبلغ منه في غير موضع.(1/228)
وأما قوله: ويبصر جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم ومن بين أيديهم، فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل : لا تهابوهم ولا تخافوهم لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو محارب عنكم.
وفي موضع آخر قال موسى: إن الشعب هو شعبك، فقال أنا أضي أمامك، فقال إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من ههنا، فكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت نعمة كذا إلا بسيرك معنا ؟ .
وفي السفر الرابع: أنك أصعدت هؤلاء بقدرتك فيقولون لأهل هذا الأرض الذي سمعوا أنك الله بين هؤلاء القوم الذين أنت يا رب قد ظهرت لهم عيناً لعين وغمامك تغيم عليهم وبعمود غمام تسير بين أيديهم نهاراً وبعمود نار ليلاً .
وفي التوراة أيضاً يقول الله لموسى : إني آت إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك، وفي الكتب الإلهية وكلام الأنبياء من هذا كثير.
فيما حكى خاتم الأنبياء عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي .
وإن قلتم جعلناه إلهاً لقول زكريا في نبوته: ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني آتيك وأحل فيك وأتراءى، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعباً واحداً، ويحل هو فيهم ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا ويملك عليهم إلى الأبد.
قيل لكم: إن أوجبتم له الإلهية بهذا فلتجب لإبراهيم وغيره من الأنبياء، فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم، أن الله تجلى لإبراهيم واستعلن له وتراءى له .(1/229)
أما قوله : وأحل فيك لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته التي لا تسعها السموات والأرض في بيت المقدس، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهوراً مغلوباً مع شرار الخلق ؟ كيف وقد قال: ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك ؟ أفترى عرفوا قوته بالقبض عليه وشد يديه بالحبال وربطه على خشبة الصليب ودق المسامير في يديه ورجليه ووضع تاج الشوك على رأسه وهو يستغيث ولا يغاث ؟ وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب أحواله.
ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع وصحت ترجمتها كما ذكروه معناها أن معرفة الله والإيمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة، وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك.
وجماع الأمر......أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلهاً تاماً.
إله حق، من إله حق وأنه غير مصنوع ولا مربوب، بل لم يخصه إلا بما خص به أخوه وأولى الناس به محمد ابن عبد الله في قوله : إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وكتب الأنبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد-صلى الله عليه وسلم-، وذلك كله يصدق بعضه بعضاً ، وجيمع ما تستدل به المثلثة عباد الصليب على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب فإنها مشتركة بين المسيح وغيره كتسميته أباً وكلمة وروح وإلهاً، وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه أو في مكانه.(1/230)
وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه فظنوا أن ذلك نفس ذات الرب، وقد قال تعالى: وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، وهو ما في قلوب ملائكته وأنبيائه وعباده المؤمنين من الإيمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهو نظير قوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وقوله: وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ، وقوله: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ، فأولياء الله يعرفونه ويحبونه، ويقال : هو في قلوبهم.
والمراد محبته ومعرفته والمثل الأعلى في قلوبهم لا نفس ذاته وهذا أمر يعتاده الناس في مخاطبتهم ومحاوراتهم، يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي ولازلت في عيني...كما قال القائل:-
ومن عجب : أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت، وهم معي
وتطلبهم عيني، وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي، وهم بين أضلعي
وقال آخر:-
خيالك في عيني، وذكرك في فمي ومثواك في قلبي. فأين تغيب
وقال آخر:-
ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره
وقال آخر:-
إن قلت غبت ، فقلبي لا يصدقني إذ أنت فيه لم تغب
أو قلت:ما غبت، قال الطرف:ذا كذب فقد تحيرت بين الصدق والكذب
وقال آخر:-
أحن إليه، وهو في القلب ساكن فيا عجباً لمن يحن لقلبه
ومن غلظ صبعه وكشف فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية وتتحد بها وتمتزج بها... تعالى عما يقولون علوا كبيرا .
وإن قلتم أوجبنا له الإلهية من قول أشعياء: من أعجب الأعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر.(1/231)
قيل لكم: هذا مع أنه يحتاج إلى صحة هذا الكلام عن أشعياء وأنه لم يحرف بالنقل من ترجمة إلى ترجمة وأنه كلام منقطع عما قبله وبعده بينه، فهو دليل على أنه مخلوق مصنوع، وأنه ابن البشر مولود منه، لا من الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ! وإن قلتم : جعلناه إلهاً من قول متى في إنجيله: إن ابن الإنسان يرسل ملائكته ويجمعون مختاريه من أقصاء السموات إلى أقصائها ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض .
قيل: هذا كالذي قبله سواء، ولم يرد أن المسيح هو رب الأرباب ولا أنه خالق الملائكة، وحاش لله أن يطلق عليه أنه رب الملائكة بل هذا من أقبح الكذب والافتراء، بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح وتأييده ونصره بشهادة لوقا النبي القائل عندهم: إن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك .
ثم بشهادة لوقا: إن الله أرسل له ملكاً من السماء ليقويه .
هذا الذي نطقت به الكتب، فحرف الكذابون على الله وعلى مسيحه ذلك ونسبوا إلى الأنبياء أنهم قالوا هو رب الملائكة.
وإذا شهد الإنجيل واتفق الأنبياء والرسل أن الله يوصي ملائكة بالمسيح ليحفظوه.
علم أن الملائكة والمسيح عبيد الله منفذون لأمره، وليسوا أرباباً ولا آلهة.
وقال المسيح لتلامذته: من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل من أرسلني.
وقال المسيح لتلامذته أيضاً: من أنكرني قدام الناس أنكرته أنا قدام أبي الذي في السموات.
وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة: أغمد سيفك.
أولا تظن أني أستطيع أن أدعو الله الآب فيقيم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة من اثني عشر جيشاً من الملائكة ؟ فهل يقول هذا من هو رب الملائكة وإلههم وخالقهم ؟ وإن أوجبتم له الإلهية بما نقلتموه عن أشعياء: تخرج عصا من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله، ويحل فيه روح الرب، روح المحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح العلم وخوف الله(1/232)
قيل لكم هذا الكلام ، بعد المطالبة بصحة نقله عن أشعياء وصحة الترجمة له باللسان العربي وأنه لم يحرفه المترجم، هو حجة على المثلثة عباد الصليب لا لهم ، فإنه لا يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض، بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن، وأن المسيح أيد بروح الرب، فإنه قال: ويحل فيه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح العلم وخوف الله.
ولم يقل تحل فيه حياة فضلاً عن أن يحل الله فيه ويتحد به ويتخذ حجاباً من ناسوته.
هذه روح تكون من الأنبياء والصديقين، وعندهم في التوراة: إن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلت فيهم روح الملائكة وروح الفهم والعلم هي ما يحصل به الهدى والنصر والتأييد، وقوله: روح الله لا يدل على أنها نصفة فضلاً عن أن يكون هو الله، وجبريل يسمى روح الله، والمسيح إسمه روح الله.
والمضاف إذا كان ذاتاً قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك كبيت الله، وناقة الله وروح الله، ليس المراد به بيت يسكنه، ولا ناقة يركبها، ولا روح قائمة به، وقد قال تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا .
فهذه الروح أيد بها عباده المؤمنين.
وقد أخبر أنه أيده بروح العلم وخوف الله، فجمع بين العلم والخشية وهما الأصلان اللذان جمع القرآن بينهما في قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء .
وفي قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية وهذا شأن العبد المحض.
وأما الإله الحق ورب العالمين فلا يلحقه خوف ولا خشبة ولا يعبد غيره، والمسيح كان قائماً بأوراد العبارات الله أتم القيام.
وإن أوجبتم له الإلهية بقول أشعياء : إن غلاماً يولد لنا، أعطينا ولداً، ورياسته على عاتقيه وبين منكبيه، ويدعى اسمه ملكاً عظيماً عجيباً إلهاً قوياً مسلطاً رئيساً، قوي السلامة في كل الدهور وسلطانه كامل ليس له فناء.(1/233)
قيل لكم ليس في هذه البشارة ما يدل على أن المراد بها المسيح بوجه من الوجوه، ولو كان المراد بها المسيح لم يدل على مطلوبهم.
إن دلالتها على محمد بن عبد الله أظهر من دلالتها على المسيح، فإنه هو الذي رياسته على عاتقيه وبين منكبيه من جهتين: من جهة أن خاتم النبوة علا نغض كتفيه، وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء، وعلامة ختم ديوانهم ، ولذلك كان في ظهره.
ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه إذا ضرب به على عاتقه ، ويدل عليه قوله: مسلطاً رئيساً قوى السلامة، وهذه صفة محمد-صلى الله عليه وسلم- المؤيد المنصور رئيس السلامة، فإن دينه الإسلام، ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا ومن خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه، والمسيح لم يسلط على أعدائه كما سلط محمد-صلى الله عليه وسلم-، بل كان أعداؤه مسلطين عليه قاهرين له حتى عملوا به ما عملوا عند المثلثة عباد الصليب.
فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه ؟ وهو مطابقة لمحمد بن عبد الله-صلى الله عليه وسلم- من كل وجه، وهو الذي سلطانه كامل ليس له فناء إلى آخر الدهور.
فإن قيل : إنكم لا تدعون محمداً إلهاً بل هو عندكم عبد محض ؟ قيل: نعم.
والله إنه لكذلك.
عبد محض لله، والعبودية أجل مراتبه، واسم الإله من جهة التراجم جاء، والمراد به السيد المطاع لا الإله المعبود الخالق الرازق.
وإن أوجبتم له الإلهية من قول أشعياء فيما زعمتم: ها هي العذراء تحبل وتلد ابناً يدعى اسمه عمانويل، وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية : إلهنا معنا فقد شهد له النبي أنه إله.
قيل لكم بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره لا يدل على أن العذراء ولدت رب العالمين وخالق السموات والأرضين، فإنه قال تلد إبناً وهذا دليل على أنه ابن من جملة النبيين ليس هو رب العالمين.(1/234)
وقوله : ويدعى اسمه عمانويل فإنما يدل على أنه يسمى بهذا الإسم كما يسمى الناس أبناءهم بأنواع من الصفات والأسماء والأفعال والجمل المركبة من إسمين أو اسم وفعل، وكثير من أهل الكتاب يسمون أولادهم عمانويل.
ومن علمائكم من يقول: المراد بالعذراء ههنا غير مريم ويذكر في ذلك قصة، ويدل على هذا أن المسيح لا يعرف اسمه عمانويل وإن كان ذلك اسمه فكونه يسمى إلهنا معنا أو بالله حسبي أو الله وحده ونحو ذلك.
وقد حرف بعض المثلثة عباد الصليب هذه الكلمة وقال معناه الله معنا ورد عليهم بعض من أنصف من علمائهم وحكم رشده على هواه وهداه الله للحق وبصره من عماه وقال: (أهذا هو القائل: أنا الرب، ولا إله غيري، وأنا أحيي وأميت وأخلق وأرزق ؟ ، أم هو القائل لله: إنك أنت الإله الحق وحدك الذي أرسلت يسوع المسيح ).
قال: والأول باطل قطعاً، والثاني هو الذي شهد به الإنجيل، ويجب تصديق الإنجيل وتكذيب من زعم أن المسيح إله معبود.
قال: وليس المسيح مخصوصاً بهذا الإسم فإن عمانويل إسم تسمى به النصارى واليهود أولادهما.
قال: وهذا موجود في عصرنا هذا، ومعنى هذه التسمية بينهم شريف القدر.
قال: وكذلك السريان يسمون أولادهم عمانويل والمسلمون وغيرهم يقولون للرجل : الله معك فإذا سمى الرجل بقول الله معك كان هذا تبركا بمعنى هذه الإسم .أ.هـ.
وإن أوجبتم له الإلهية يقول حبقوق فيما حكنيتموه عنه: إن الله في الأرض يتراءى ويختلط مع الناس ويمشي معهم ، ويقول تاروخ أيضاً: الله يظهر في الأرض ويتقلب مع البشر .
قيل لكم هذا بعد احتياجه إلى ثبوت هذين الشخصين أولا وإلى ثبوت هذا النقل عنهما، وإلى مطابقة الترجمة من غير تحريف -وهذه ثلاث مقامات يعز عليكم إثباتها- لا يدل على أن المسيح هو خالق السموات والأرض، وأنه إله حق ليس بمخلوق ولا مصنوع، ففي التوراة ما هو من هذا الجنس وأبلغ ولم يدل ذلك على أن موسى إله ولا أنه خارج عن جملة العبيد.(1/235)
وقوله يتراءى مثل: تجلى أو ظهر أو استعلن ونحو ذلك من ألفاظ التوراة وغيرها من الكتب الإلهية.
وقد ذكر في التوراة أن الله تجلى وتراءى لإبراهيم وغيره من الأنبياء ولم يدل ذلك على الإلهية لأحد منه، ولم يزل في عرف الناء ومخاطبتهم أن يقولوا: فلان معنا وهو بين أظهرنا ولم يمت، إذا كان عمله وسنته وسيرته بينهم ووصاياه يعمل بها بينهم، وكذلك يقول القائل لمن مات والده: ما مات من خلف مثلك، وأنا والدك.
وإذا رأوا تلميذاً لعالم تعلم علمه قالوا: هذا فلان باسم أستاذه، كما كان يقال عن عكرمة هذا ابن عباس وعن أبي حامد هذا الشافعي.
وإذا بعث الملك نائباً يقوم مقامه في بلد يقول الناس جاء الملك و حكم الملك ورسم الملك.
وفي الحديث الصحيح الإلهي : يقول الله عز وجل يوم القيامة : عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده، عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال : أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
عندي استسقيك فلم تسقني، فيقول رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول: أما إن عبدي فلاناً عطش فاستسقاك فلم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي .
وأبلغ من هذا قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ، ومن هذا قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، فلو استحل المسلمون ما استحللتم لكان استدلالهم بذلك على أن محمداً إله من جنس استلالكم لا فرق بينهما!.
وإن أوجبتم له الإلهية بقوله في السفر الثالث من أسفر الملوك :والآن يا رب إله إسرائيل يتحقق كلامك لداود لأنه هل يسكن الله مع الناس الأرض؟ .
اسمعوا أيتها الشعون كلكم ، ولتنصت الأرض وكل من فيها ، فيكون الرب عليهم شاهداً ، ويخرج من موضعه ، وينزل ، ويطأ على مشارق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب.(1/236)
قيل لكم هذا السفر يحتاج أولاً إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي ، وأن هذا لفظه ، وأن الترجمة مطابقة له وليس ذلك بعلوم .
وبعد ذلك فالقول في هذا اللكلام كالقول في نظائره مما ذكرتموه وما لي يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض ، وأ،ه إله حق غير مصنوع ولا محلوق ، وأنه سكن في الأرض فإن قوله : هل يسكن الله مع الناس على الأرض؟ هو نفي للسكنى.
جميع الأنبياء دعوا إلى توحيد الله
وجميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقه على أصول:
أحدها : أن الله سبحانه وتعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه.
الثاني : أنه لا والد له ولا ولد ولا كفؤ ولا نسيب بوجه من الوجوه ولا زوجة.
الثالث : أنه غني بذاته فلا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى شئ مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.
الرابع : أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم والخوف والهم والحزن ونحو ذلك.
الخامس : أنه لا يماثل شيئاً من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شئ منها بل هو بائن عن خلقه بذاته والخلق بائنون عنه.
السادس : أنه لا يحل في شيء من مخلوقاته، ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السابع : أنه أعظم من كل شئ وأكبر من كل شئ وفوق كل شئ وعال على كل شئ وليس فوقه شئ البتة.
الثامن : أنه قادر على كل شئ فلا يعجزه شئ يريده بل هو الفعال لما يريد.
التاسع : أنه علام بكل شئ يعلم السر وأخفى ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس لا متحرك إلا وهو يعلمه على حقيقته.(1/237)
العاشر : أنه سميع بصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، فقد أحاط سمعه بجميع المسموعات ، وبصره بجميع المبصرات ، وعلمه بجميع المعلومات ، وقدرته بجميع المقدورات ، ونفذت مشيئته في جميع البريات ، وعمت رحمته جميع المخلوقات، ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر :أنه الشاهد الذي لا يغيب ولا يستخلف أحداً على تدبير ملكه ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه عليها أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.
الثاني عشر : أنه الأبدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت.
الثالث عشر: أنه المتكلم الآمر الناهي قائل الحق وهادي السبيل ومرسل الرسل ومنزل الكتب والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر ، ومجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته.
الرابع عشر : أنه الصادق في وعده وخبره ، فلا أصدق منه قيلا . ولا أصدق منه حديثاً ، وهو لا يخلف الميعاد.
الخامس عشر : أنه تعالى صمد بجميع الصمدية ، فيستحيل عليه ما يناقض صمديته.
السادس عشر : أنه قدوس سلام ، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السابع عشر : أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
الثامن عشر : أنه العدل الذي لا يجوز ولا يظلم ولا يخاف عباده منه ظلماً.
فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل ، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه ولا يخبر نبي بخلافه أصلاً ، فترك المثلثة عباد الصليب هذا كله ، وتمسكوا بالمتشابهة من المعاني والمجمل من الألفاظ ، وأقوال من ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
وأصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين تخالف هذا كله أشد المخالفة وتباينه أعظم المباينة.
فصل لو لم يظهر محمد بن عبد المطلب(1/238)
في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله-صلى الله عليه وسلم- لبطلت نبوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله: جاء بالحق وصدق المرسلين .
فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس صدق خبره، فكأن مجيئه تصديقاً لهم إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم وإيمانه بهم فإنه صدقهم بقوله ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله.
ومثل هذا قول المسيح: مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقاً لها، ثم بشر برسول يأتي من بعده فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقاً له، كما كان ظهوره تصديقاً للتوراة فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق، فلو لم يظهر محمد بن عبد الله ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله، والله سبحانه لا يخلف وعده ولا يكذب بظهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح على أن مريم بشرت به مرة واحدة، وبشرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبشر به إبراهيم مراراً، ثم ذكر الله سبحانه هاجر بعد وفاتها كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء، ففي التوراة أن الله تعالى قال: أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه، وكبرته، وعظمته .
هكذا في ترجمة بعض المترجمين.(1/239)
وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبراً من أحبار اليهود فإنه يقول: وسيلد اثني عشر أمة من الأمم وفيها لما هربت هاجر من سارة تراءى لها ملاك الله، وقال يا هاجر أمة سارة من أين أقبلت ؟ وإلى أين تذهبين ؟ قالت: هربت من سيدتي، فقال لها الملاك، ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة، ها أنت تحبلين وتلدين ابنا تسميه إسماعيل، لأن الله قد سمع خشوعك، وهو يكون عين الناس، ويكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته ، وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في برية فاران، وفيها فقال لها الملاك يا هاجر ليهدأ روعك.
فقد سمع الله تعالى صوت الصبي، قومي فاحمله وتمسكي به فإن الله جاعله لأمة عظيمة، وأن الله فتح عينيها فإذا ببئر ماء فذهبت وملأت المزادة منه وسقت الصبي منه وكان الله معها ومع الصبي حتى تربى، وكان مسكنه في برية فاران فهذه أربع بشارات خالصة بإسماعيل، نزلت اثنتان منها على إبراهيم واثنتان على هاجر.
وفي التوراة أيضاً بشارات أخرى بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جداً ، وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته.(1/240)
فإن بني إسحاق كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين خولاً للفراعنة والقبط حتى أنقذهم الله بنبيه وكليمه موسى بن عمران ، وأورثهم أرض الشام كرسي مملكتهم ، ثم سلبهم وقطعثم في الأرض أمماً مسلوباً عزهم وملكهم ، قد أخذتهم سيوف السودان ، وعلتهم أعلاج الحمران حتى إذا ظهر النبي صلى الله عليه وسلم تمت تلك النبوات وظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فهشموهم هشماً ، وطحنوهم طحناً ، وانتشروا في آفاق الدنيا ، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع ، وعلوهم علو الثريا فيما بين الهند والحبشة والسوس والأقصى وبلاد الترك والصقالية والخزر، وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين.
وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم ، فليس صبي من بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ولا امرأة ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم وآل إبراهيم.
وأما النصرانية وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة ، فإنه لم يكن لهم في محل اسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر ولا عز قاهر البتة ، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع ولا امتدت غليهم أيدي الأمم بالخضوع ، وكذلك سائر ما تقدم من البشارات التي تفيد بمجموعها العلم القطعي بأن المراد بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى الله عليه وسلم لبطلت تلك النبوات ، ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين إلا بالإيمان بالنبي الذي بشروا به قالوا: نحن في انتظاره ولي يجئ بعد ، ولما علم بعض الغلاة في كفره وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد اسماعيل أنكروا أن يكون لإبراهيم ولد اسمه إسماعيل ، وأن هذا لم يخلقه الله.(1/241)
ولا يكثر على أمة البهت وإخوان القرود وقبلة الأنبياء مثل ذلك، كما لم يكثر على المثلثة عباد الصليب الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا صلى الله عليه وسلم.
ونحن نبين أنهم لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة ولا آية ولا معجزة إلا بإقرارهم أن محمداً رسول الله ، وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شئ من ذلك البتة.
فنقول : إذا كفرتم معاشر المثلثة عباد الصليب بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فمن أين لكم أن تثبتوا لعيسى فضيلة أو معجزة ؟ ومن نقل إليكم عنه آية أو معجزة؟ فإنكم إنما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين أخبرتم عن منام رؤى فأسرعتم إلى تصديقه ، وكان الولي لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم لأنه لا يقبل قول اليهود فيه ، ولا سيما وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم ، فأخبار المسيح والصليب إنما شيوخكم فيها اليهود ، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعظم اختلاف ، وأنتم مختلفون معهم في أمره.
فاليهود تزعم انهم حين أخذه الرومان حبسوه في السجن أربعين يوماً ، فقالوا لهم : ما كان لكم أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثم تقتلوه إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم ، لنه كان يداخله في صناعة الطب عندهم .
وفي الأناجيل التي بأيديكم أنه أخذ صبح يوم الجمعة وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره ، واليهود مجمعون أنه لم يظهر له معجزة ولا بدت منه لهم آية غير أنه طار يوماً وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم فعلاه في طيرانه فسقط إلى الرض بزعمهم.(1/242)
وفي الإنجيل الذي بأيديكم في غير موضع ما يشهد أنه لا معجزة له ولا آية فمن ذلك أن فيه منصوصاً أن اليهود قالوا له يوماً ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله تعالى؟ فقال أمر الله : أن تؤمنوا بمن بعثه ، فقالوا له : وما آيتك التي ترينا لنؤمن بك وأنت تعلم أن آباءنا قد أكلوا المن بالمفاوز ؟ قال : إن كان أطعمكم موسى خبزاً فأنا أطعمكم خبزاً سماوياً ، يريد نعيم الآخرة فلو عرفوا له معجزة ما قلوا ذلك.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له: ما آيتك التي نصدقك بها ؟ قال: اهدموا البيت أبنيه لكم في ثلاثة أيام فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا، ولو كان هذا أظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضاً: أنهم جاؤوا يسألونه آية فقذفهم، وقال: جيل فاسق وشرير يطلب آية فلا تعطى له.
وفيه أيضاً أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم إن كنت المسيح فأنزل نفسك فنؤمن بك يطلبون بذلك آية فلم يفعل.
فإذا كفرتم معاشر المثلثة عباد الصليب بالقرآن لم يتحقق لعيسى ابن مريم آية ولا فضيلة، فإن أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها لاختلافكم في شأنه أشد الإختلاف وعدم تيقنكم لجميع أمره.
وكذلك اجتمعت اليهود على أنه لم يدع شيئاً من الإلهية التي نسبتم إليه أنه ادعاها، وكان أقصى مرادهم أن يدعى فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه وهو أن أحبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره خافوا أن تصير عامتهم إليه إذ كان على سنن تقبله قلوب الذين لا غرض لهم، فشنعوا عليه أموراً كثيرة، ونسبوا إليه دعوى الإلهية تزهيداً للناس في أمره.
ثم إن اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من أخباره.(1/243)
فمنهم من يقول : إنه كان رجلاً منهم ويعرفون أباه وأمه وينسبونه لزانية ! وحاشاه حاشا أمه الصديقة الطاهرة البتول التي لم يقرعها فحل قط قاتلهم الله أنى يؤفكون، ويسمون أباه الزاني باندرا الرومي، وأمه مريم الماشطة، ويزعمون أن زوجها يوسف من سبط يهوذا وجد باندرا عندها على فراشها وشعر بذلك فهجرها وأنكر ابنها.
إخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق
ومن اليهود من رغب عن هذا القول وقال إنما أبوه يوسف من سبط يهوذا الذي كان زوجاً لمريم، ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنا عليه: أنه بينا هو يوماً مع معلمه يهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعاً فجاءت امرأة من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال يهشوع ما أحسن هذه المرأة ؟ يريد أفعالها، فقال عيسى -بزعمهم- لولا عور في عينها، فصاح يهشوع وقال له: يا ممزار -ترجمته: يا زنيم- أتزني بالنظر ؟ وغضب منه غضباً شديداً ولما عاد إلى بيت المقدس حرم اسمه ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض قواد الروم وداخله بصناعة الطب فقوى بذلك على اليهود وهم يومئذ في ذمة قيصر طيباريوس، وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويعرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان.
وطوائف من اليهود يقولون غير هذا، ويقولون إنه كان يلاعب الصبيان بالكرة فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشايخ، فقوى عيسى وتخطى رقابهم وأخذها، فقالوا له ما نظنك إلا نيماً.
ومن اختلاف اليهود في أمره أنهم يسموه أباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف الذي من سبط يهوذا النجار، وبعضهم يقول: إنها هو يوسف الحداد.
والنصارى تزعم أنها كانت ذات بعل وأن زوجها يوسف بن يعقوب، وبعضهم يقول يوسف بن هالي.
وهم يختلفون أيضاً في آبائه وعددهم إلى إبراهيم فمن مقل ومكثر.
فهذا ما عند اليهود وهم شيوخكم في نقل الصلب وأمره.
وإلا فمن المعلوم أنه لم يحضره أحد من النصارى.(1/244)
وإنما حضره اليهود وقالوا: قتلناه وصلبناه وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم فإن صدقتموهم في الصلب فصدقوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذبتموهم فيما نقلوه عنه فما الموجب لتصديقهم في الصلب وتكذيب أصدق الصادقين الذي قامت البراهين القطعية على صدقه أنهم ما قتلوه وما صلبوه ، بل صانه الله وحماه وحفظه ، وكان أكرم على الله وأوجه عنده من أن يبتليه بما تقولون أنتم واليهود؟
النصارى أشد الأمم افتراقاً في دينهم
وأما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافاً في معبودها ونبيها ودينها منكم ، فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وأمه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر ، ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهباً .
مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث وعبادة الصليب، وان المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح ولا نبي ولا رسول ، وأنه إله في الحقيقة ، وأنه هو خالق السموات والأرض والملائكة والنبيين ، وأنه هو الذي أرسل وأظهر على أيديهم المعجزات والآيات، وأن للعالم إلهاً هو أب والد لم يزل ، وأن ابنه نزل من السماء وتجسم من روح القدس ومن مريم وصار هو وابنها الناسوتي إلهاً واحداً ومسيحاً واحداً ورازقاً واحداً ، وحبلت به مريم وولدته ، وأخذ وصلب وألم ومات ودفن ، وقام بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه.
اختلاف فرق النصارى في شخصية المسيح
قالوا والذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله ، فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم وأقام هناك تسعة أشهر ، وهو الذي ولد ورضع وفطم وأكل وشرب وتغوط وأخذ وصلب وشد بالحبال وسمرت يداه.
ثم اختلقوا : فقالت اليعقوبية - أتباع يعقوب البرادعي ولقب بذلك لأن لباسه كان من خرق برادع الدواب يرقع بعضها ببعض ويلبسها - إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعيتين :
إحداهما .. طبيعة الناسوت(1/245)
والأخرى .. طبيعة اللاهوت ، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنساناً واحداً وجوهراً واحداً وشخصاً واحداً ، فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح ، وهو إله كله ، وإنساه كله ، وهو شخص واحد ، وطبيعة واحدة من طبيعتين وقالوا : إن مريم ولدت الله ، وإن الله سبحانه قبض وصلب وسمر ومات ودفن ثم عاش بعد ذلك.
وقال الملكية - وهي الروم نسبة إلى دين الملك ، لا إلى رجل يدعى ملكانياً هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك - إن الابن الأزلي الذي هو الكلمة تجسدت من مريم تجسداً كاملاً كسائر أجساد الناس.
وركبت في ذلك الجسد نفساً كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنساناً بالجسد والنفس اللذين هما من جوهر الناس ، وإلهاً بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل ، وهو إنسان بجوهر الناس مثل إبراهيم وموسى وداود ، وهو شخص واحد لم يزد عدده ، وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل ، وح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم ، وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان ، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة ، فله بلا هوته مشيئة الأب ، وله بناسوته مشيئة إبراهيم وداود.
وقالوا : إن مريم ولدت المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت.
وقالوا : إن الذي مات هو الذي ولدته مريم ، وهو الذي وقع عليه الصلب والتمير والصفع والربط بالحبال ، واللاهوت لم يمت ولم يألم ولم يدفن.
قالوا : وهو إله تام بجوهر لا هوته ، وإنسان تام بجوهر ناسوته ، وله المشيئتان : مشيئة اللاهوت، ومشيئة الناسوت ، فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من أن مريم ولدت الإله إلا انهم بزعمهم نزهوا الإله عن الموت وإذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية مع تنازعهم وتناقضهم فيه ، فاليعقوبية أطرد لكفرهم لفظاً ومعنى.(1/246)
وأما النسطورية فذهبوا إلى القول بأن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة ، وأن طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة ، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصاناً ولا يمتزج بشئ ، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان ، فكان المسيح بذلك إلهاً وإنساناً ، فهو الإله بجوهر لللا هوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان ، وهو إنسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان.
وقالوا : إن مريم ولدت المسيح بناسوته وإن اللاهوت لم يفارقه قط.
وكل هذه الفرق استنكفت أن يكون المسيح عبد اله وهو لم يستنكف من ذلك ، ورغبت به عن عبودية الله وهو لم يرغب عنها بل أعلى منازل العبودية عبودية الله ، ومحمد وإبراهيم خير منه ، وأعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية فالله رضيه أن يكون له عبداً فلم ترض المثلثة بذلك.
وقالت الآريوسية منهم وهم أتباع آريوس : إن المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل ، وهو مربوب مخلوق مصنوع ، وكان النجاشي على هذا المذهب.
وإذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتلة ، وفعلوا به ما يفعل ممن سب المسيح وشتمه اعظم سب.
والكل من تلك الفرق الثلاث عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها ، بل يقولون إن الله تخطى مريم كما يتخطى الرجل المرأة وأحبلها فولدت له ابناً ، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم ، فهم يقولون : الذي تدندنون حوله نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقاليم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين ، وذلك للتهويل والتطويل ، وهم يصرحون بأن مريم والدة افله ، والله أبوه ، وهو الابن فهذا الزوج ، والولد وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .(1/247)
فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود والغالين فيه من النصارى والمثلثة عباد الصليب فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بما أزال الشبهة في أمره وكشف الغمة ، وبرأ المسيح وأمه من افتراء اليهود وبهتهم وكذبهم عليهما ونزه رب العالمين وخالق المسيح وأمه بما افتراه عليه المثلثة عباد الصليب الذين سبوه أعظم السب.
فأنزل المسيح أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها ، وهي أشرف منازله ، فآمن به وصدقه ، وشهد له بأنه بعد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول الطاهرة الصديقة سيدة نساء العالمين في زمانها ، وقرر معجزات المسيح وآياته ، وأخبر عن ربه تعالى بتخليد من كفر بالمسيح في النار وأن ربه تعالى أكرم عبده ورسوله ونزهه وصانه أن ينال إخوان القردة منه ما زعمته النصارى أنه نالوه منه ، بل رفعه إليه مؤيداً منصوراً لم يشكه أعداؤه بشوكة ، ولا نالته أيديهم بأذى ، فرفعه إليه وأسكنه سماءه وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال وأتباعه ، ثم يكسر به الصليب ، ويقتل به الخنزير ، ويعلي به الإسلام ، وينصر به ملة أخيه وأولى الناس به محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام.
فإذا وضع هذا القول في المسيح في كفة وقول عباد الصليب المثلثة في كفة تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل ما بينهما من التفاوت ، وأن تفاوتهما كتفاوت ما بينه وبين قول المغضوب عليهم فيه ، وبالله التوفيق.
فلولا محمد صلى الله عليه وسلم لما عرفنا أن المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله عبده وكلمته وروحه موجود أصلاً ، فإن هذا المسيح الذي أثبته اليهود من شرار خلق الله ليس بمسيح الهدى.
والمسيح الذي أثبته النصارى من أبطل الباطل لا يمكن وجوده في عقل ولا فطرة .(1/248)
ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة ، ولو صح وجوده لبطلت أدلة العقول ولم يبق لأحد ثقة بمعقول أصلاً ، فإن استحالة وجوده فوق استحالة جميع المحالات ، ولو صح ما يقولون لبطل العالم واضمحلت السموات والأرض وعدمت الملائكة والعرش والكرسي ولم يكن بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ولا يستعجب من إطباق أمة الضلال الذين شهد الله أنهم أضل من النعام على ذلك فكل باطل في الوجود ينسب إلى أمة من الأمم فإنها مطبقة عليه ، وقد تقدم ذكر إطباق الأمم العظيمة التي لا يحصيها إلا الله على الكفر والضلال بعد معاينة الآيات البينات ، فلعباد الصليب أسوة بإخوانهم من أهل الشرك والضلال.
فصل تاريخ المجامع النصرانية
في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب المجامع الذين كفر بعضهم بعضاً وتلقيهم أصول دينهم عنهم ، ونحن نذكر الأمر كيف ابتدأ ، وتوسط ، وانتهى ، حتى كأنك تراه عياناً.
كان الله سبحانه قد بشر بالمسيح على ألسنة أنبيائه ، من لدن موسى إلى زمن داود ومن بعده من الأنبياء ، وأكثر الأنبياء تبشيراً به داود ، وكانت اليهود تنتظره وتصدق به قبل مبعثه ، فما بعث كفروا به بغيا وحسدً وشردوه في البلاد وطردوه وحبسوه وهموا بقتله مراراً إلى أن أجمعوا على القبض عليه وعلى قتله ، فصانه الله وأنقذه من أيديهم ، ولم يهنه بأيديهم ، وشبه لهم بأنهم صلبوه ، ولم يصلبوه ، كما قال تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ، وقد اختلف في معنى قوله : ولكن شبه لهم ، فقيل المعنى : ولكن شبه للذين صلبوه بأن ألقى شبهه على غيره فصلبوا الشبه ، وقيل المعنى :(1/249)
ولكن شبه للنصارى أي حصلت لهم الشبهة في أمره وليس لهم علم بأنه ما قتل وما صلب ، ولكن لما قال أعداؤه إنهم قتلوه وصلبوه واتفق رفعه من الأرض وقعت الشبهة في أمره ، وصدقهم النصارى في صلبه لتتم الشناعة عليهم ، وكيف ما كان فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه لم يقتل ولم يصلب يقياً لا شك فيه.
ثم تفرق الحواريون في البلاد بعد رفعه على دينه ومنهاجه يدعون المم إلى توحيد الله ودينه والإيمان بعبده ورسوله ومسيحه ، فدخل كثير من الناس في دينه ما بين ظاهر مشهور ومختف مستور ، وأعداء الله اليهود في غاية الشدة والأذى لأصحابه وأتباعه ، ولقي تلاميد المسيح أتباعه من اليهود ومن الروم شدة شديدة من قتل وعذاب وتشريد وحبس وغير ذلك ، وكان اليهود في زمن المسيح في ذمة الروم وكانوا ملوكاً عليهم ، وكتب نائب الملك ببيت المقدس إلى الملك يعلمه بأمر المسيح وتلاميذه وما يفعل من العجائب الكثيرة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، فهم أن يؤمن به ويبع دينه فلم يتابعه أصحابه ، ثم هلك وولى بعده ملك آخر فكان شديداً على تلامذة المسيح.
ثم مات وولى بعده آخر ، وفي زمنه كتب مرقس إنجيله بالعبرانية ، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية فدعا إلى الإيمان بالمسيح ،وهو اول شخص جعل بتركاً على الاسكندرية ، وصبر معه اثنى عشر قسيساً على عدة نقباء بني إسرائيل في زمن موسى وأمرهم إذا مات البترك أن يختاروا من الإثني عشر واحداً يجعلونه مكانه ، ويضع الإثني عشر أيديهم على رأسه ويبركونه ، ثم يختارون رجلاً فاضلاً قسياً يصيرونه تمام العدة.
ولم يزل أمر القوم ذلك إلى زمن قسطنطين : ثم انقطع هذا الرسم واصطلحوا على أن ينصبوا البترك من أي بلد كان من أولئك القسيسين أو من غيرهم ، ثم سموه بابا ومعناه أبو الآباء.(1/250)
وخرج مرقس إلى (برقة) يدعو الناس إلى دين المسيح ثم ملك آخر فأهاج على أتباع المسيح الشر والبلاء وأخذهم بأنواع العذاب ، وفي عصره كتب فأهاج على أتباع المسيح الشر والبلاء وأخذهم بأنواع العذاب ، وفي عصره كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس عنه بالرومية ، ونسبه إلى مرقس.
وفي عصره كتب لوقا إنجيله بالرومية لرجل شريف من عظماء الروم ، وكتب له الابركسيس الذي فيه أخبار التلاميذ وفي زمنه صلب بطرس ، وزعموا أن بطرس قال له إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكساً لئلا أكون مثل سيدي المسيح فإنه صلب قائماً ، وضرب عنق بولس بالسيف ، وأقام بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة ، وأقام مرقس بالإسكندرية وبرقة سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح ، ثم قتل بالاسكندرية وأحرق جسده بالنار.
ثم استمرت القياصرة ملوك الروم على هذه السيرة إلى أن ملك مصر قيصر يسمى طيطس فخرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم ، وقتل من كان بها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطونالحبالى ويضربون بأطفالهن الصخور ، وخرب المدينة وأضرم فيها النار، وأحصى القتلى على يده فبلغوا ثلاثة آلف ألف.
ثم ملك ملوك آخرون فكان منهم واحد شديد على اليهود جداً ، فبلغوه أن النصارى يقولون أن المسيح ملكهم وأن ملكه يدوم إلى آخر الدهر فاشتد غضبه وأمر بقتل النصارى وأن لا يبقى في ملكه نصراني ، وكان يوحنا صاحب الإنجيل هناك فهرب ، ثم أمر الملك بإكرامهم وترك الاعتراض عليهم.(1/251)
ثم ملك بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيماً ، وقتل بترك أنطاكية برمية ، وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه وله يومئذ مائة وعشرون سنة ، وأمر باستعباد النصارى فاشتد عليهم البلاء إلى أن رحمتهم الروم وقال له وزراؤه : إن الهم ديناً وشريعة وإنه لا يحل استعبادهم فكف عنهم ، وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالرومية ، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس ، فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكاً فبلغ الخبر قيصر فوجه إليهم جيشاً فقتل منهم من لا يحصى ، ثم ملك بعده آخر وأخذ الناس بعبادة الأصنام ، وقتل من النصارى خلقاً كثيراً ، ثم ملك بعده ابنه وفي زمانه قتل اليهود ببيت المقدس قتلاً ذريعاً وخرب بيت المقدس ، وهرب اليهود إلى مصر وإلى الشام والجبال والأغوار وتقطعوا في الأرض ، وأمر الملك أن لا يسكن بالمدينة يهودي ، وأن يقتل اليهود ويستأصلوا ، وأن يسكن المدينة اليونانيون.
وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين ، والنصارى ذمة تحت أيديهم ، فرأوهم يأتون إلى مزبلة هناك فيصلون فيها فمنعوهم من ذلك ، وبنوا على المزبلة هيكلاً باسم الزهرة فلم يمكن النصارى بعد ذلك قربان ذلك الموضع ، ثم هلك هذا الملك وقام بعده آخر فنصب يهدا أسقفاً على بيت المقدس.
قال ابن البطريق: فمن يعقوب أسقف بيت المقدس الأول إلى يهوذا أسقفه هذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين ، ثم ولى بعده آخر واثار على النصارى بلاء شديداً وحرباً طويلاً ووقع في أيامه قحط شديد كاد الناس أن يهلكوا فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم فدعوا وابتهلوا إلى الله فمطروا وارتفع عنهم القحط والوباء.(1/252)
قال ابن البطريق : وفي زمانه كتب بترك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس وبترك أنطاكية وبترك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم وكيف يستخرج من فصح اليهود ، فوضعوا فيها كتباً على ما هي اليوم ، قال: وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوماً ويفطرون كما فعل المسيح ، لأنه لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها أربعين يوماً ، وكان النصارى إذا أفصح اليهود عيدوا هم الفصح ، فوضع هؤلاء البتاركة حساباً للفصح ليكون فطرهم يوم الفصح ، وكان المسيح يعيد مع اليهود في عيدهم.
واستمر على ذلك أصحابه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم فلم يصوموا عقيب الغطاس بل نقلوا الصوم إلى وقت لا يكون عيدهم مع اليهود.
ثم مات ذلك الملك وقام بعده آخر ، وفي زمنه كان جالينوس وفي زمنه ظهرت الفرس وغلبت على بابل وآمد وفارس ، وتملك ازدشير ابن بابك في اصطخر) وهو أول ملك ملك على فارس في المدة الثانية، ثم مات قيصر وقام بعده آخر ، ثم آخر وكان شديداً على النصارى عذب عذاباً عظيماً وقتل خلق كثيراً منهم ، وقبل كل عالم فيهم ،ثم قتل من كان بمصر والاسكندرية من النصارى ، وهدم الكنائس ، وبنى بالاسكندرية هيكلاً وسماه هيكلا الأليهة ثم قام بعده قيصر آخر ، ثم آخر وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة ، وكانت أمة تحب النصارى.
ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاءً عظيماً وقتل منهم خلقاً كثيراً ، وأخذ الناس بعبادة الأصنام ، وقتل من الأساقفة خلقاً كثيراً وقتل بترك أنطاكية فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي ثم هلك وقام بعده آخر ، ثم آخر.
ذكر ماني الكذاب
وفي أيام هذا ظهر ماني الكذاب وزعم أنه نبي وكان كثير الحيل والمخاريق ، فأخذه بهرام ملك الفرس فشقه نصفين ، وأخذ من أتباعه مائتي رجل فغرس رؤوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا.(1/253)
ثم قام من بعده فليبس فآمن بالمسيح فوثب عليه بعض قواده فقتله ، ثم قام بعده دانقيوس ويسمى دقيانوس فلقي النصارى منه بلاءً عظيماً وقتل منهم ما لا يحصى ، وقتل بترك رومية ، وبنى هيكلاً عظيماً وجعل فيه الأصنام ، وأمر أن يسجد لها ويذبح لها ومن لم يفعل قتل ، فقتل خلقاً كثيراً من النصارى وصلبوا على الهيكل ، واتخذ من أولاد عظماء المدينة سبعة غلمان فجعلهم خاصته وقدمهم على جميع من عنده ، وكانوا لا يسجدون للأصنام فأعلم الملك بخبرهم فحبسهم ثم أطلقهم ، وخرج إلى مخرج له فأخذ الفتية كل ما لهم فتصدقوا به ، ثم خرجوا إلى جبل فيه كهف كبير فاختفوا فيه وصب اله عليهم النعاس فناموا كالأموات ، وأمر الملك أن يبنى عليهم باب الكهف ليموتوا ، فأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس فكتب فيها أسماءهم وقصتهم مع دقيانوس وصيرها في صندوق من نحاس ودفنه داخل الكهف وسده.
ثم مات الملك.
أول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح هو بولس
ثم قام بعده قيصر آخر ، وفي زمنه جعل في أنطاكية بتركاً يسمى بولس الشمشاطي وهو أول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت وكانت النصارى قبله كلمتهم واحدة أنه عبد رسول مخلوق مصنوع مربوب لا يختلف فيه اثنان منهم فقال : بولسهذا - وهو أول من أفسد دين النصارى - إن سيدنا المسيح خلق من اللاهوت إنساناً كواحد منا في جوهره ، وأن ابتداء الابن من مريم ، وأنه اصطفى ليكون مخلصاً للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي ابن الله ، وقال إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد.
قال سعيد ابن البطريق : وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفاً في مدينة أنطاكية ونظروا في مقالة بولس فأوجبوا عليه العن فلعنوه ولعنوا من يقول بقوله وانصرفوا.(1/254)
ثم قام قيصر أخر فكانت النصارى في زمنه يصلون في المطامير والبيوت فزعاً من الروم ، ولم يكن بترك الإسكنرية يظهر خوفاً أن يقتل ، فقام (بارون) بتركاً فلم يزل يداري الروم حتى بنى بالاسكندرية كنيسة ، ثم قام قياصرة أخر منهم اثنان تملكا على الرومإحدى وعشرين سنة فأثارا على النصارى بلاءً عظيماً وعذاباً أليماً وشدة تجل عنالوصف من القتل والعذاب واستباحة الحريم والأموال وقتل ألوف مؤلفة من النصارى ، وعذبوا مار جرجس أصناف العذاب ثم قتلوه ، وفي زمنهما ضربت عنق بطرس بترك الاسكندرية ، وكان له تلميذان ، وكان في زمنه آريوس يقول : إن الأب وحده الله الفرد الصمد والابن مخلوق مصنوع وقد كان الأب إذ لم يكن الابن ، فقال بطرس لتلميذيه: إن المسيح لعن آريوس فاحذرا أن تقبلا قوله : فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب ، فقلت يا سيدي! من شق ثوبك ؟ فقال لي: آريوس فاحذروا أن تقبلوه أو يدخل معكم الكنيسة.
وبعد قتل بطرس بخمس سنين صير أحد تلميذيه بتركا على الاسكندرية فاقام ستة أشهر ومات، ولما جرى على آريوس ما جرى أظهر انه قد رجع عن مقالته فقبله هذا البترك وأدخله الكنيسة وجعله قسيساً ، ثم قام قيصر آخر فجعل يتطلب النصارى ويقتلهم حتى ب الله عليه النقمة فهلك شر هلكة.
ثم قام بعده قيصران : (أحدهما) ..ملك الشام وأرض الروم وبعض الشرق ، (والآخر) .. رومية وما جاورها ، وكانا كالسباع الضارية على النصارى فعلاً بهم من القتل والسبي والجلاء ما لم يفعله بهم ملك قبلهما ، وملك معهما قسطنطين أبو قسطنطين ، وكان ديناً يبغض الأصنام محباً للنصارى ، فخرج إلىناحية الجزيرة والرها فنزل في قرية من قرى الرها فرأى امرأة جميلة يقال لها هيلانة وكانت قد تنصرت على يدي أسقف الرها وتعلمت قراءة الكتب فخطبها قسطنطين من أبيها فزوجه إياها ، فحبلت منه وولدت قسطنطين فتربى بالرها ، وتعلم حكمة اليونان ، وكان جميل الوجه قليل الشر محباً للحكمة.(1/255)
وكان عليانوس ملك الروم حينئذ رجلاً فاجراً شديد البأس مبغضاً للنصارى جداً ، كثير القتل فيهم ، محباً للنساء ، م يترك للنصارى بنتاً جميلة إلا أفسدها وكذلك أصحابه ، وكان النصارى في جهد جهيد معه ، فبلغه خبر قسطنطين وأنه غلام هاد قليل الشر كثير العلم ، وأخبره المنجمون والكهنة أنه سيملك ملكاً عظيماً فهم بقتله فهرب قسطنطين من الرها ، ووصل إلى أبيه فسلم إليه الملك ، ثم مات أبوه ، وصب الله على عليانوس أنواعاً من البلاء حتى تعجب الناس مما ناله ورحمه أعداؤه مما حل به ، فرجع إلى نفسه وقال لعل هذا بسبب ظلم النصارى فكتب إلى جميع عماله أن يطلقوا النصارى من الحبوس ، وأن يكرموهم ويسألوهم أن يدعوا له في صلواتهم ، فوهب الله له العافية ورجع إلى أفضل ما كان عليه من الصحة والقوة.
فلما صح وقوى رجع إلى شر مما كان عليه ، وكتب إلى عماله أن يقتلوا النصارى ولا يدعوا في مملكته نصرايناً ولا يسكنوا له في مدينة ولا قرية ، فكان القتتلى يحملون على العجل ويرمى بهم في البحر والصحارى .
وأما قيصر الآخر الذي كان معه فكان شديداً علىالنصارى ، واستعبد من كان برومية من النصارى ، ونهب أموالهم ، وقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم.
فلما سمع أهل رومية بقسطنطين وأنه مبغض للشر محب للخير وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة كتب رؤساؤهم إليه يسألونه أن يخلصهم من عبودية ملكهم ، فلما قرأ كتبهم اغتم غماً شديداً وبقي متحيراً لا يدري كيف يصنع.
قال سعيد ابن البطريق : فظهر له على ما يزعم النصارى نصف النهار في السماء صليب من كوكب مكتوباً حله : بهذا تغلب.(1/256)
فقال لأصحابه رأيتم ما رأيت؟ قالوا : نعم ، فآمن حينئذ بالنصرانية ، فتجهز لمحاربة قيصر المذكور ، وصنع صليباً كبيراً من ذهب وصيره على رأس البند ، وخرج بأصحابه فأعطى النص على قيصر فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة هربا لملك ومن بقي من أصحابه ، فخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالإكليل الذهب وبكل أنواع اللهو واللعب فتلقوه وفرحوا به فرحاً عظيماً ، فلما دخل المدينة أكرم النصارى وردهم إلى بلادهم بعد النفي التشريد ، وأقام أهل رومية سبعة ايام يعيدون للملك والصليب.
فلما سمع عليانوس جمع جموعه وتجهز للقتال مع قسطنطين ، فلما وقعت العين في العين انهزموا وأخذتهم السيوف ، وأفلت عليانوس فلم يزل من قرية إلى قرية حتى وصل إلى بلده ، فجمع السحرة والكهنة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين ، وأمر ببناء الكنائس ، وأقام في كل بلد ن بيت المال الخراج فيما تعمل به أبنية الكنائس ، وقام بدين النصرانية حتى ضرب بجرانه في زمانه.
فلما تم له خمس عشر سنة من ملكه حاج النصارى في امر المسيح واضطربوا ، فأمر بالمجمع في مدينة (نيقية) وهي التي رتبت فيها المانة بعد هذا المجمع - كما سيأتي - فأراد آريوس أن يدخل معهم فمنعه بترك الإسكندرية ، وقال بطرساً قال لهم إن الله لعن آريوس فلا تقبلوه ولا تدخله الكنيسة ، وكان على مدينة أسيوط من عمل مصر أسقف يقول بقول آريوس فلعنه أيضاً وكان بالإسكندرية هيكل عظيم على اسم زحل وكان فيه صنم من نحاس يسمى (ميكائيل) ، وكان أهل مصر والإسكندرية في اثني عشر يوماً من شهر هتور وهو تشرين الثاني يعيدون لذلك الصنم عيداً عظيماً ويذبحون له الذبائح الكثيرة.
المجمع الأول
فلما ظهرت النصرانية بالاسكندرية أراد بتركها أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح له ، فامتنع عليه أهلها ، فاحتال عليهم بحيلة ، وقال: لو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملاك الله لكان أولى .(1/257)
فإن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فأجابوه إلى ذلك ، فكسر الصنع وجعل منه صليباً وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل فلما منع بترك الإسكندرية آريوس من دخول الكنيسة ولعنه خرج آريوس مستدياً عليه ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين ، وقال آريوس : إنه تعدى علي وأخرجني من الكنيسة ظلماً ، وسأل الملك أن يشخص بترك الاسكندرية بناظره قدام الملك ، فوجه قطنطين برسول إلى الإسكندرية فأشخص البترك وجمع بينه وبين آريوس ليناظره ، فقال قسطنطين لآريوس اشرح مقالتك قال آريوس : أقول إن الأب كان إذ لم يكن الابن ، ثم أنه أحدث الابن فكان كلمة له أنه محدث مخلوق ، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة ، فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما ، كما قال ففي إنجيله إن يقول وهب لي سلطاناً على السماء والأرض فكان هو الخالق لهما مما أعطى من ذلك ، ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسبحاً واحداً ، فالمسيح الان معنيان كلمة وجسد إلا أنهما جميعاً مخلوقان.
فأجابه عند ذلك بترك الإسكندرية ، وقال : تخبرنا الآن : أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا؟ قال آريوس : بل عبادة من خلقنا فقال له البترك : فإن كان خالقنا الابن كما وصفت ،وكان الابن مخلوقاً ، فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادةالأب الذي ليس بخالق ، بل تصير عبادة الأب الذي خلق الابن كفراً وعبادة الابنالمخلوق إيماناً ، وذلك من أقبح الأقاويل.
فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البترك ، وشنع عندهم مقالة آريوس ، ودارت بينهما أيضاً مسائل كثيرة ، فأمر قسطنطين البترك أن يكفر آريوس وكل من قال بمقالته ، فقال له : بل يوجه الملك بشخص للبتاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونصنع فيه قضية ويكفر آريوس .
يشرح الدين ويوضحه للناس.(1/258)
فبعث قسطنطين الملك إلى جميع البلدان فجمع البتاركة والأساقفة فاجتمع في مينة نيقية بعد سنة وشهرين ألفان وثمانة اربعون أسقفاً ، فكانوا مختلفي الأراء ، مختلفي الدين .
فمنهم من يقول : المسيح ومريم إلهان من دون الله وهم المريمانية.
ومنهم من يقول : المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار فلم ينقص من الأولى لإيقاد الثانية منها.
ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم لتسعة أشهر وأنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب، لأن كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهذه مقالة الباريليدس وأشياعه.
ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من الاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم ، وغنه اصطفى ليكون مخلصاً للجواهر الإنسية صحبته النعمة الإلهية فحلت منه بالمحبة والمشيئة فلذلك سمي ابن الله ويقولون : إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد ويسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهذه مقالة بولس وأشياعه.
ومنهم من كان يقول : ثلاثة آلهة لم تزل صالح ، وطالح وعدل بينهما وهذه مقالة مرقيون وأشياعه.
ومنهم من يقول : ربنا هو المسيح ، وهي مقالة ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً.
وقال ابن البطريق : ولما سمع قسطنطين الملك مقالتهم عجب من ذلك وأخلى لهم داراً وتقدم بالإكرام والضيافة ، وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه ، فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً على دين واحد ورأي واحد.(1/259)
وناظروا بقية الأساقفة المختلفين ففلحوا عليهم في المناظرة ، وكان باقي الأساقفة مختلفي الاراء والديان صنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفاً مجلساً عظيماً وجلس وي وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفع ذلك إليهم ، وقال لهم : قد سلطتكم اليوم على المملكة فاسنعوا ما بدا لكم وما ينبغي لكم أن تضيعوا ما فيه قوام الدين وصلاح الأمة ، فباركوا على الملك وقلدوه سيفه ، وقالوا له : إظهر دين النصرانية وذب عنه ، ووضعوا له أربعين كتاباً فيها السنن والشرائع وفها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها.
وكان رئيس القوم والمجمع والمقدم فيه بترك الاسكندرية وبترك اناطية وأسقف بيت المقدس .
ووجه بترك رومية من عنده رجلين فاتفق الكل على لعن آريوس واصحابه ولعنوه وكل من قال بمقالته ، ووضعوا الأمانة وقالوا : إن الابن مولود من الأب قبل كون الخلائق وإن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق ، واتفقوا على أن يكون فصح النصارى يوم الأحد ليكون بعد فصح اليهود ، وأن لا يكون فصح اليهود مع فصحهم في يوم واحد ، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة ، وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء ، لأنهم كانوا إذا صيروا واحداً أسقفاً وكانت له زوجة تثبت معه ولم تنح عنه ما خلا البتاركة فإنهم لم يكن لهم نساء ، ولا كانوا أيضاً يصيرون أحداً له زوجة بتركاً.
قال: وانصرفوا مكرمين محظوظين ، وذلك في سبعة عشر سنة من ملك قسطنطين الملك ، ومكث بعد ذلك ثلاث سنين:
(أحدها) : كسر الأصنام وقتل من يعبدها.
)والثانية) : أمر أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى ، ويكونون هم المراء والقواد.(1/260)
(والثالثة) : أن يقيم لناس جمعة الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملاً ولا يكون فيها حرب ، وتقدم قسطنطين إلى أسقف بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس ، ويبدأ ببناء القيامة فقالت هيلانة أمه : إني نذرت أن اسير إلى بيت المقدس وأطلب المواضع المقدسة وأبنيها ، فدفع إليها الملك أموالاً جزيلة ، وسارت مع أسقف بيت المقدس ، فبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب وكنيسة قسطنطين.
المجمع الثاني
ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعاً عظيماً ببيت المقدس ، وكان معهم رجل دسه بترك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بترك الاسكندرية ، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لآريوس ،وكان يرى رأيه ويقول بمقالته ، فقام الرجل وقال : إن آريوس لم يقل إن المسيح خلق الإنسان ولكن قال : بهخلقت الأشياء لنه كلمة الله التي بها خلقت السموات والأرض ، وإنماخلق الله الأشياء بكلمته ، ولم تخلق الأشياء كلمته كما قال المسيح في الإنجيل كل بيده كان ومن دونه لم يكن شئ ، وقال : به كانت الحياة والحياة نور البشر ، وقال : العالم به يكون فأخبر أن الأشياء به تكونت.
قال ابن البطريق : فهذه كانت مقالة آريوس ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً ولا ظلموه لنه إنما قال: الابن خالق الأشياء دون الأب ، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون يكون الأب لها خالقاً فقد أعطى أنه ما خلق منها شيئاً ، وفي ذلك تكذيب لقوله : الأب يخلق ، وأنا أخلق.
وقال : إن أنا لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني.
وقال : كما أن الأب يحيى من يشاء ويميته ، كذلك الابن يحي من يشاء ويميته.
قالوا : فدل على أنه يحي ويخلق ، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق وإنما خلقت الأشياء به دون أن يكون خالقاً.(1/261)
وأما قولك : إن الأشياء كونت به فإنا لما قلنا : لا شك أن المسيح حي فعال وكان قد دل بقوله إني أفعل الخلق والحياة كان قولك : به كونت الأشياء إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها وكانت به مكونة ، ولو لم يكن ذل لتناقض القولان.
قال: وأما قول من قال من أصحاب آريوس : إن الأب يريد الشئ فيكونه الابن الإرادة للأب والتكوين للابن .
فإن ذلك يفسد أيضاً إذا كان الابن عنده مخلوقا، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه ، وذلك أن هذا أراد وفعل.
وذلك بمنزلة لك فاعل من الخلق لما يريد بالخالق منه ، ويكن حكمه كحكمه في الخير والاختيار ، فإن كان مجبوراً فلا شئ له في الفعل ، وإن كان مختاراً فجائز أن يطاع وجائز أن يعصى ، وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب وهذا أشنع في القول.
ورد عليه أيضاً وقال : إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق والمخلوق غير الخالق بلا شك فقج زعمتم أن الخالق يفعل بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به إذ كان لا يتم له الفعل إلا به ، والمحتاج إلى غيره منقوص والخالق متعال عن هذا كله.
قال : فلما دحض بترك الاسكندرية حجج أولئك المخالفين وظهر لمن حضر بطلان قولهم ، وتحيروا وخجلوا ووثبوا على بترك الاسكندرية فضربوه حتى كاد يموت ، فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين ، وهرب بترك الاسكندرية وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة ، ثم أصلح دهن الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون ، وسار إلىالملك فأعلمه الخبر فصرفه إلى الاسكندرية.
قال ابن البطريق: وأمر الملك أن لا يسكن يهودي ببيت المقدس ولا يجوز بها ومن لم ينتصر قتل ، فظهر دين النصرانية وتنصر من اليهود خلق.(1/262)
فقيل للملك : إن اليهود يتنصرون من خوف القتل وهم على دينهم ، فقال : كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟ فقال بولس البترك إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير ، فأمر أن تذبح الخنازير ويطبخ لحومها ويطعم منها فمن لم يأكل منه علم أنه مقيم على دين اليهودينة ، فقال الملك إذا كان الخنزير في التوراة حراماً فكيف يحل لنا أن نأكله ونطعمه لناس؟ فقال له بولس : إن سيدنا المسيح قد أبطل كا ما في التوراة وجاء بنواميس أخر وبتوراة جديدة وهو الإنجيل وفي إنجيله إن كل ما يدخل البطن فليس حرام ولا نجس ، وإنما ينجس الإنسان ما يخرج من فيه وقال بولس: إن بطرس وريس الحواريين بينما هو يصلي في ست ساعات من النهار وقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت ، وإذا زاد قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض ، وفيه كل ذي أربع قوائم على الرض من السباع والدواب وغير ذلك من طير السماء ، وسمع صوتاً يقول له : يا بطرس قم فاذبح وكل ، فقال بطرس : يا رب ما أكلت شيئاً نجساً قط ولا دنساً قط فجاء صوت ثان : كل ما طهره الله فليس بنجس ، وفي نسخة أخرى : ما طهره الله فلا تنجسه أنت ، م جاءه الصوت بهذا ثلاث مرات ، ثم إن الزاد ارتفع إلى السماء فتعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه.
فأمر الملك أن بذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغاراً وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح ، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنازير ، فمن لم يأكل منه يقتل، فقتل لأجل ذلك خلق كثير.(1/263)
ثم هلك قسطنطين وقام بعده أكبر أولاده واسمه قسطنطين وفي أيامه اجتمع أصحاب آريوس ومن قال بمقالته إليه فحسنوا لهم دينهم ومقالتهم ، وقالوا : إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن طريق الحق في قولهم إن الابن متفق مع الأب في الجوهر ، فأمر أن لا يقال هذا فإنه خطأ ، فعزم الملك على فعله ، فكتب إليه أسقف بيت المقدس أن لا يقبل قول أصحاب آريوس فإنهم حائدون علن الحق وكفار ، وقد لعنهم الثلاثمائة عشر أسقفاً ولعنوا كل من يقول بمقالتهم فقبل قوله.
قال ابن البطريق : وفي ذلك الوقت أعلنت مقالة آريوس على قسطنطينية وأنطاكية والاسكندرية ، وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين هذا صار على أنطاكية بترك آريوسي ثم بعده آخر مثله.
قال : وأما أهل مصر والاسكندرية وكان أكثرهم آريوسيين ومانيين فغلبوا علىكنائس مصر فأخذوها ، ووثبوا على بترك الاسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى.
ثم ذكر جماعة من البتاركة والأساقفة من طوائف النصارى وما جرى لهم مع بعضهم بعضاً ، وما تعصبت به كل طائفة لبتركها حتى قتل بعضهم بعضاً واختلف النصارى أشد الاختلاف وكثرت مقالاتهم واجتمعوا عدة مجامع كل مجمع يلعن فيه بعضهم بعضاً.
المجمع الثالث(1/264)
فكان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول بنيقية فاجتمع الوزراء والقواد إلى الملك ، وقالوا : إن مقالة الناس قد فسدت وغلبت عليهم مقالة آريوس ومكدونيس ، فاكتب إلى جميع الأساقفة والبتاركة أن يجتمعوا ويوضحوا دين النصرانية فكتب الملك إلى سائر بلاده ، فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون أسقفاً ، فنظروا وبحثوا في مقالة آريوس فوجدوها : أن روح القدس مخلوق ، ومصنوع وليس بإله ، فقال بترك الاسكندرية : ليس روح القدس عندنا غير روح الله ، وليس روح الله غير حياته ، فإذا قلنا : إن روح الله مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة ، وإذا قلنا: إن حياته مخلوق فقد جعلناه غير حي ، وذلك كفر به.
فلعنوا جميعهم من يقول بهذه المقالة ولعنوا جماعة من أساقفتهم وبتاركتهم كانوا يقولون بمقالات أخر لم يرتضوها ، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق ، إله حق من إله حق من طبيعة الأب والابن ، جوهر واحد وطبيعة واحدة ، وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة والثمانية عشر ونؤمن بروح القدس الرب المحيي الذي من الأب منبثق.
الذي مع الأب والابن وهو موجود وممجد.
وكان في تلك الأمانة وبروح القدس فقط، وبينوا أن الابن والأب وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاث وجوه وثلاث خواص، وأنها واحدة في تثلثي في وحدة، وبينوا: أن جسد المسيح بنفس ناطقة وانفض هذا الجمع وقد لعنوا فيه كثيراً من أساقفهم وأشياعهم.
المجمع الرابع
ثم بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع كان لهم مجمع رابع على نسطورس، وكان رأيه: أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولذلك كان اثنان.
أحدهما: الإله الذي هو موجود من الأب، والآخر: إنسان وهو الموجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول إنه المسيح متوحد مع ابن الإله، ويقال له: إله، وابن الإله ليس على الحقيقة ولكن موهبة واتفاق الاسمين على طريق الكرامة.(1/265)
قبل ذلك بتاركة سائر البلاد فجرت بينهم مراسلات واتفقوا على تخطيئته مراث فأجمعوا على لعنه فلعنوه ونفوه وبينوا: أن مريم ولدت إلهاً وأن المسيح إله حق من إله حق وهو إنسان وله طبيعتان فلما لعنوا نسطورس تعصب له بترك أنطاكية فجمع الأساقفة فلم يزل الملك حتى الذين قدموا معه وناظرهم وقطعهم فتقاتلوا وتلاعنوا وجرى بينهم شر فتفاقم أمرهم ثم أصح بينهم فكتب أولئك صحيفة: أن مريم القديسة ولدت إلهاً وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة ومع الناس في الناسوت.
وأقروا بطبيعتين وبوجه واحد وأقنوم واحد وأنفذوا لعن نسطورس فلما لعنوه ونفى سار إلى مصر وأقام في أخميم سبع سنين ومات ودفن بها، وماتت مقالته إلى أن أحياها ابن صرما مطران نصيبين وبثها في بلاد المشرق فأكثر نصارى المشرق والعراق نسطورية وانفض ذلك المجمع الرابع ايضاً وقد أطبقوا على أمن نسطورس وأشياعه ومن قال بمقالته.
المجمع الخامس
ثم كان لهم بعد هذا المجمع مجمع خامس وذلك انه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له أوطيسوس يقول : إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا بالطبيعة ، وإن المسيح قبل التجسد من طبيعتين وبعد التجسد طبيعة واحدة.
وهو أول من أحدث هذه المقالة وهي مقالة اليعقوبية ، فرحل إليه بعض الأساقفة فناظره وقطعه ودحض حجته، ثم صار إلى قسطنطينة فأخبر بتركها بالمناظرة وانقطاعه فأرسل بترك القسطنطينية وجمع جمعاً عظيماً وناظره.
فقال أوطسيوس : إن قلنا أن المسيح طبيعتين فقد قلنا بقول نسطورس ولكنا نقول : إن المسيح طبيعة واحدة وأقنوم واحد لأنه من طبيعتين كانت قبل التجسد فلما قبل التجسد زالت عنه وصار طبيعة واحدةت وأقنوماً واحداً.(1/266)
فقال له بترك القمطنطينية : إن كان المسيح طبيعة واحدة فالطبيعة القديمة هي المحدثة وإن كان القديم هو المحدث فالذي لم يزل هو الذي لم يكن ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القاعد هو القاعد والحار هو البارد فأبى أن يرجع عن مقالته فلعنوه.
فاستعدى إلى الملك وزعم أنهم ظلموه وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة ، فاستحضر الملك البتراكة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسس، فثبت بترك الإسكندرية مقالة أوطيوس وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والاساقفة وكتب إلى بترك رومية والى جماعة الكهنة فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس.
ففسدت الأمانة وصارت مقالة أوطيسوس خاصة بمصر والاسكندرية وهو مذهب اليعقوبية ، فافترق هذا المجمع الخامس وكل فريق يلعن الآخر ويحرمه ويبرأ من مقالته.
المجمع السادس
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس في مدينة خليقدونية فإنه لما مات الملك ولى بعده مرقيون فاجتمع اليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلمون ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الإنصاف ، وأن مقالة اوطيسوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية فأمر الملك باستحضار سائر البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى مدينة خليقدونية فاجتمع فيها ستمائة وثلاثون أسقفاً فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الاسكندرية الذي قطع جميع البتاركة فأفسد الجميع مقالتهما ولعنوهما.
وأثبتوا : أن المسيح إله وإنسان ، في المكان مع الله باللاهوت .
وفي المكان معنا بالناسوب يعرف بطبيعتين تام بالللاهوت وتام بالناسوت ومسيح واحد.
وثبتوا أقوال الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً وقبلوا قولهم : بأن الابن مع الله في المكان نور من نور إله حق من أله حق.
ولعنوا آريوس ، وقالوا : إن روح القدس إله ، وأن الأب والابن وروح القدس واحد ببطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة.(1/267)
وثبتوا قول المجمع الثالث في مدينة أفسس أعني المائتي أسقف على نسطورس وقالوا /: إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسييح الذي هو مع الله بطبيعة ومع الناسوت بطبيعة وشهدووا : أن المسيح طبيعتين وأقنوماً واحداًولعنوا نسطورس وبترك الاسكندرية ، ولعنوا المجمع الثاني الذي كان بأفسس ثم المجمع الثالث المائتي أسقف بمدينة أفسس أول مرة ، ولعنوا نيطورس ، وبين نسطورس إلى مجمع خليقدونية أحد وعشرون سنة فانفض هذا المجمع وقد لعنوا من مقدميهم وأساقفتهم من ذكرنا وكفروهم وتبرؤوا منهم ومن مقالاتهم.
المجمع السابع
ثم كان له بعد هذا المجمع مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك ، وذلك أن سورس القسطنيطي كان على رأي أوطيسوس فجاء إلى الملك فقال : إن المجمع الخليقدوني في الستمائة وثلاثين قد أخطأوا في لعن أوطيسوس وبترك الاسكندرية ، والدين الصحيح ما قالاه فلا يقبل دين من سواهما ، ولكن اكتب إلى جميع عمالك ان يلعنوا الستمائة وثلاثين ويأخذوا الياس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد فأجابه الملك إلى ذلك فلما بلغ ذلك إيليا بترك بيت المقدس جمع الرهبان ولعنوا أنسطاس الملك وسورس ومن يقول بمقالتهما فلبغ ذلك أنسطاس ونفاه إلى أيكلة وبعث يوحنا بتركاً على بيت المقدس لأن يوحنا كان قد ضمن له أن يلعن المجمع الخيلقدوني الستمائة وثلاثين فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان وقالوا: إياك أن تقبل من سورس ولكن قاتل عن المجمع الخيلقدوني ونحن معك.(1/268)
فضمن لهم ذلك وخلف أمر الملك ، فبلغ ذلك الملك فارسل قائد وأمره أن يأخذ يوحنا بطرح المجمع الخيلقدوني ، فإن لم يفعل ينفيه عن الكرسي فقدم القائد طرح يوححنا في الحبس فصار إليه الرهبان في الحبس وأشاروا عليه بان يضمن للقائد ان يفعل ذلك ، فاذا حضر فليقر بلعنة من لعنة الرثبان ففعل ذلك واجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب ومعهم مدرس وسابا ورؤساء الديرات فلعنوا أوطيسوس وسورس ونسطورس ومن لا يقبل المجمع الخيلقدوني وفزع رسول الملك من الرهبان وبلغ ذلك الملك فهم بنفي يوحنا فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى أنسطاس الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولا أحد من المخالفين ولو أهريقت دماؤهم وسألوه أن يكف أذاه عنهم ، وكتب بترك رومية إلى الملك يقبح فعله ويلعنه.
فانفض هذا المجمع أيضاً وقد تلاعنت فيه هذه الجموع على ما وصفنا وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب يقول بمقالة سورس وكان يسمى يعقوب البرادعي وإليه تنسب اليعاقبةفأفسد أمانة النصارى ثم مات أنسطاس وولى قسطنطين فرد كل من نفاه انسطاس الملك إلى موضعه واجتمع الرهبان وأظهروا كتاب الملك وعيدوا عيداً حسناً بزعمهم وأثبتوا المجمع الخيلقدوني بالستمائة وثلاثين أسقفاً ثم ولي ملك آخر وكانت اليعقوبية قد غلبوا علىالاسكندرية وقتلوا بتركا له ميقال له بولس كان ملكياً ، فأرسل قائداً ومعه عسكر عظيم إلى الاسكندرية فدخل الكنيسة في ثياب البترك وتقدم وقدس فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه فانصرف .
ثم أظهر لهم من بعد ثلاثة أيام أنه قد أتاه كتاب الملك وضرب الحرس ليجتمع الناس يوم الأحد في الكنيسة فلم يبق أحد بالاسكندرية حتى حضر لسماع كتاب الملك وقد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس فصعد المنبر وقال : يا معشر أهل الاسكندرية! إن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لن تأمنوا أن يرسل إليكم الملك من يسفك دماءكم.(1/269)
فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه أن يقتل فأظهر العلامة فوضعوا السيف على كل من في الكنيسة فقتل داخلها وخارجها أمم لا تحصى كثرة حتى خاض الجند في الدماء وهرب منهم خلق كثير وظهرت مقالة الملكية.
المجمع الثامن
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن بعد المجمع الخيلقدوني الذي لعن فيه اليعقوبية بمائة سنة وثلاث سنين وذلك أن أسقف منبج - وهي بلدة شرقي حلب بالقرب منها وهي مخسوفة الآن - كان يقول بالتناسخ وأن ليس قيامة وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة وأسقف آخر يقولون : إن جسد المسيح خيال غير حقيقة فحشرهم الملك إلى قسطنطينية.
فقال لهم بتركها : إن كان جسده خيالاً فيجب أن يكون فعله خيالاً وقوله خيالاً وكل جسد يعاين لآحد من الناس أو فعل أو قول فهو كذلك.
وقال لأسقف منبج : إن المسيح قد قام من الموت وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس من الموت يوم الدينونة وقال في إنجيله : إنه تأتي ساعة حتى أن كل من في القبور إذا سمعوا قول ابن الله يحيون فكيف تقولون ليس قيامة؟ فأوجب عليهم الخزي واللعن ، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه واستحضر بتاركة البلاد فاجتمع في هذا العام مائة وأربعة وستون فلعنوا اسقف منبج وأسقف المصيصة وثبتوا على قول أسقف الرها أن جسد المسيح حقيقة لا خيال ، وانه إله تام وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعليين أقنوم واحد.
وثبتوا المجامع الأربعة التي قبلهم بعد المجمع الخيلقدوني ، وأن الدنيا زائلة ، وأن القيامة كائنة وأن المسيح يأتي بمجد عظيم فيدين الأحياء والأموات كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر.
المجمع التاسع(1/270)
ثم كان لهم مجمع تاسع في ايام معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه وذلك أنه كان برومية راهب قديس يقال له مقسلمس وله تلميذان ، فجاء إلى قسطا الوالي فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه ونزع لسانه وفعل بأحد التلميذسين مثله وضرب الآخر بالسياط ونفاه فبلغ ذلك ملك قسطنطينية فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الحجة ومن الذي كان ابتدأها لكيما يطرح جميع الآباء القديسين كل من استحق اللعنة ، فبعث غليه مائة وأربعين أسقفاً وثلاث شمامسة فلما وصلوا إلى قسطنطينية جمع الملك مائة وستين أسقفاً فصاروا ثلاثمائة ، وأسقطوا الشمامسة في البرطحة .(1/271)
وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية ، ولم يكن لبيت المقدس واسكندرية بترك فلعنوا من تقدم من القديسين الذي خالفوهم وسموهم واحداً واحداً وهم جماعة ولعنوا أصحاب المشيئة الواحدة ولما لعنوا هؤلاء جلسوا فلخصوا الأمانة المستقيمة بزعمهم ، فقالوا : نؤمن بأن الواحد من اللاهوت الابن الوحيد الذي هوالكلمة الأزلية الدائم المستوي مع الأب الإله في الجوهر الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين ، وفعلين ومشيئتين في أقنوم واحد ووجه واحد يعرف تاماً بلاهوته تاما بناسوته وشهدت كما شهد مجمع الخيلقدونية وعلى ما سبق أن افله الابن في آخر الأيام اتحد مع العذراء السيدة مريم القديسة جسداً أنساناً بنفسين وذلك برحمة الله تعالى محب البشر ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فص لولكن هو واحد يعمل بما يشبه الانسان أن يعمله في طبيعته وما يشبه الإله أن يعمل في طبيعته الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة إلى أن صارت في الحقيقة لحماً كما يقول الأنجيل المقدس من غير أن تنتقل عن محلها الأزلي وليست بمتغيرة ولكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين : إلهي ، وإنسي الذي بهما يكون القول الحق وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين غير متضادتين ولا متضارعتين ، ولكن مع المشيئة الإنسية الإلهية القادرة على كل شئ.
هذه شهادتهم وأمانة المجمع السادس من المجتمع الخيلقدوني وثبتوا ما ثبته الخمس مجامع التي كانت قبلهم ولعنوا من لعنوه وبين المجمع الخامس إلى هذا المجمع مائة سنة.
المجمع العاشر
ثم كان لهم مجمع عاشر لما مات الملك وولي بعده ابنه واجتمع فريق المجمع السادس وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفاً فثبتوا قول المجمع السادس ولعنوا من لعنهم وخالفهم وثبتوا قول المجامع الخمسة ولعنوا من لعنوا وانصرفوا.(1/272)
فانقرضت هذه المجامع والحشود وهم علماء النصارى وقدماؤهم وناقفوا الدين إلى المتأخرين وإليهم يستند من بعدهم.
وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاء أربعة عشر ألفاً من الأساقفة والبتاركة والرهبان كلهم يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً فدينهم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض وكل منهم لاعن ملعون.
فإذا كانت هذه حال المتقدمين مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخبارهم فيهم والدولة دولتهم ولاكلمة لهم وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا واحتفالهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لاعن وملعون لا يثبت لهم قدم ولا يتحصل لهم قول في معرفة معبودهم بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه وباح باللعن الوبراءة ممن اتبع سواه فما الظن بحثالة الماضين ونفاية الغابرين وزبالة الحائرين وذرية الضالين وقد طال عليهم الأمد وبعد عليهم العهد وصار دينهم ما يتلقونه عن الرهبان.
وقوم إذا كشفت عنهم وجدتهم أشبه شئ بالأنعام وإن كانوا في صور النام ، بل هم كما قال تعالى ومن أصدق من الله قيلاً؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ومن أضل من أمة الضلال بشهادة الله ورسوله ؟ وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم؟ وقد لعنهم الله سبحانه على لسان رسوله في قوله صلى الله عليه وسلم : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما فعلوه(1/273)
هذا والكتاب واحد ، والرب واحد ، والنبي واحد ، والدعوى واحدة ، وكلهم يتمسك بالمسيح وإنجيله وتلاميذه ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين : فمنهم من يقول : إنه الإله ومنهم من يقول : ابن الإله ومنهم من يقول انه اقنوم وطبيعة ومنهم من يقول طبيعتان إلى غير ذلك من المقالات التي حكوها عن أسلافهم ، وكل منهم يكفر صاحبه.
لو عرض دين النصرانية
فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلهاً ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا لتوقفوا عنه وامتنعوا من قبوله فوازن بين هذا وبين ما جاء به خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه تعلمه علماً يضارع المحسوسات أو يزيد عليها : إن الدين عند الله الإسلام .
فصل
في أنه لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء أصلاً مع جحود نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحداً ... وهذا يتبين بوجود.
)الوجه الأول) : أن الأنبياء المتقدمين بشروا بنبوته وأمروا أممهم بالإيمان به فمن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به من الإيمان به ، والتصديق به لازماً من لوازم التصديق بهم وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعاً وبيان الملازمة ما تقدم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القطع على أنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر في الكتب الإلهية على ألسن الأنبياء وإذا ثبتت الملازمة فانتفاء اللازم موجب لانتفاء ملزومه.
)الوجه الثاني) : أن دعوة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه هي دعوة جميع المرسلين قبله من أولهم إلى آخرهم فالمكذب بدعوته مكذب فقد زعم أن ما جاء به باطل ، وفي لك تكذيب كل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله ولا يمكن أن يعتقد أن ما جاء به صدق وأنه كاذب مفتر على الله.(1/274)
وهذا في غاية الوضوح وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحق فصدقهم الخصم قال : هؤلاء كلهم شهود عدول صادقون ثم شهد آخر على شهادتهم سواء فقال الخصم : هذه الشهادة باطلة وكذب لا أصل لها عن ذلك تكذيب بشهادة قطعاً ولا ينجيه من تكذيبهم اعترافه بصحة شهادتهم وإنها شهادة حق مع قوله إن الشاهد بها كاذب فيما شهد.
فكما أنه لو لم يظهر محمد صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوات الأنبياء قبله فكذل إن لم يصدق لم يمكن تصديق نبي من الأنبياء قبله.
معجزات محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم وأدل
(الوجه الثالث) : أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل فليس لنبي منالأنبياء آية توجب افيمان به إلا ولمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها وإن لم يكن من جنسها فآيات نبوته أعظم وأكبر وأبهر وأدل ، والعلم بنقلها قطعى لقرب العهد وكثر النقلة واختلاف أمصارهم وأعصارهم واستحالة تواطئهم على الكذب.
فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره وبلده ، بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك والمكابر فيه في غاية الوقاحة والبهت كالمكابرة في وجود ما يشهده الناس ولم يشاهده هو من البلاد والأقاليم والجبال والأنهار.
فإن جاز القدح في ذلك كله فالقدح في وجود عيسى وميسر وآيات نبوتهما أجوز وأجوز ، وإن امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد صلى الله عليه وسلم وآيات نبوته أشد.
ولذلك لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبداً كفر بالجميع وقال : ما أنزل الله على بشر من شئ كما قال تعالى : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون(1/275)
قال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوارة أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبراً سميناً فغضب عدواً الله وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شئ فقال له أصحابه الذين معه ويحك ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ فأنزل الله عز وجل وما قدروا الله حق قدره الآية ، وهذا قول عكرمة.
وقال محمد بن كعب جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب فقالوا : يا أبا القاسم ، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحاً يحملها من عند الله عز وجل ؟ فأنزل الله عز وجل : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك و جاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك و لا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئاً ما أنزل الله على بشر من شئ فحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته وجعل يقول ولا على أحد وذهب جماعة منهم مجاهد إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش ، فهم الذين جحدوا أصل الرسالة وكذبوا بالرسل وأما أهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى.
وهذا اختيار ابن جرير قال : وهو أولى القاويل بالصواب لأن ذلك في سياق الخبر عنهم فهو أشبه من أن يكون خبراً عن اليهود ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلاً مع ما في الخبر عن من أخبر الله عنه من هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً من الكتب ، وليس ذلك مما تدين به اليهود بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف ابراهيم وموسى وزبور داود والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الأوثان وقوله وما قدروا الله حق قدره موصول به غير مفصول عنه قلت : ويقوى قوله أن السورة مكية فهي خبر عن زنادقة العرب المنكرين لأصل النبوة .(1/276)
ولكن بقي أن يقال فكيف يحسن الرد عليهم بما لا يقرون به من إنزال الكتاب الذي جاء به موسى؟ وكيف يقال لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ؟ ولا سيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب وهل ذلك صالح لغير اليهود؟ فإنهم كانوا يخفون من الكتاب ما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم ويبدون منه ما سواه فاحتج عيهم بما يقرون به من كتاب موسى ثم وبخهم بأنهم خانوا الله ورسوله فيه فأخفوا بعضه وأظهروا بعضه وهذا استطراد من ذكر جحدهم النبوة بالكلية وذلك إخفاء لها وكتمان إلى جحد ما أقروا به كتابهم بإخفائه وكتمانه ، فتلك سجية لهم معروفة لا تنكر إذ من أخفى بعض كتابه الذي يقر بأنه من عند الله كيف لا يجحد أصل النبوة؟ ثم احتج عليهم بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ولولا الوحي لاذي أنزله على أنبيائه ورسله لم يصلوا إليه ثم أمر رسوله أن يجيب عن هذا السؤال وهو قوله : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فقال قل الله أي الله الذي أنزله أي إن كفروا به وجحدوه فصدق به أنت وأقر به ثم ذرهم في خوضهم يلعبون .(1/277)
وجواب هذا السؤال أن يقال : إن الله سبحانه احتج عليهم بما يقر به أهل الكتابين وهم أولو العلم دون الأمم التي لا كتاب لها أي إن جحدتم أصل النبوة وأن يكون الله أنزل على بشر شيئاً فهذا كتب موسى يقر به أهل الكتاب وهم اعلم منكم فاسألوهم عنه ونظائر هذا في القرآن كثيرة يستشهد سبحانه بأهل الكتاب على منكري النبوات والتوحيد والمعنى إنكم إن أنكرتم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً فمن أنزل كتاب موسى؟ فإن لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب وأما قوله تعالى تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا فمن قرأها بالياء فهو إخبار عن اليهود بلفظ الغيبة ومن قرأها بلفظ التاء للخطاب فهو خطاب لهذا الجنس الذي فعلوا ذلك أن تجعلونه يا من أنزل عليه كذلك وهذا من أعلام نبوته أن يخبر أهل الكتاب بما اعتمدوه في كتابهم وأنهم جعلوه قراطيس وأبدوا بعضه وأخفوا كثيراً منه وهذا لا يعلم من غير جهتهم إلا بوحي من الله ولا يلزم أن يكون قوله تجعلونه قراطيس خطاباً لمن حشى عنهم أنهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء بل هذا استطراد من الشئ إلى نظيره وشبهه ولازمه وله نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلى آخر الآية.
فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين وهو آدم إلى النوع المخلوق من النطفة وهم أولاده وأوقع الضمير على الجميع بلفظ واحد ومثله قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون إلى آخر الآيات.(1/278)
ويشبه هذا قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم * الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون * والذي خلق الأزواج كلها إلى آخر الآيات.
وعلى التقديرين فهؤلاء لم يتم لهم إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومكابرتهم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام ورأوا أنهم إن أقروا ببعض النبوات وجحدوا نبوته ظهر تناقضهم وتفريقهم بين المتماثلين وأنهم لا يمكنهم الإيمان بنبي وجحد نبوة من نبوته أظهر وآبائها أكثر وأعظم ممن أقروا به.
وأخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله وأنزل كتبه لم يقدره حق قدره وأنه نسبه إلى ما لا يليق به بل يتعالى ويتنزه عنه فإن في ذلك إنكار دينه وإلهيته وملكه وحكمته ورحمته ، والظن السئ به أنه خلق خلقه عبثاً باطلاً وأنه خلاهم سداً مهملاً وهذا ينافي كماله المقدس وهو متعال عن كل ما ينافي كماله.
فمن أنكر كلامه وتكليمه وأرساله الرسل إلى خلقه فما قدره حق قدره ، ولا عرفه حق ، ولا عظمه حق عظمته.
ولذلك كان جحد نبوة خاتم أنبيائه ورسله وإنزال كتبه وتكذيبه إنكاراً للرب تعالى في الحقيقة وجحوداً له فلا يمكن الإقرار بربوبيته وإلهيته وملكه بل ولا بوجوده مع تكذيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدمت فلا يجمع الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم الإقرار بالرب تعالى وصفاته أصلاً كما لا يجامع الكفر بالمعاد واليوم الآخر والإقرار بوجود الصانع أصلا.
وقد ذكر سبحانه ذلك في موضعين من كتابه في سورة الرعد في قوله : وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم .(1/279)
والثاني في سورة الكهف في قوله تعالى ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما جاء بتعرف الرب تعالى بأسمائه وأفعاله والتعريف بحقوقه على عباده فمن أنكر رسالاته فقد نكر الرب الذي دعا إليه وحقوقه التي أمر بها بل نقول : لا يمكن الاعتراف بالحقائق على ما هي عليه مع تكذيب رسوله ، وهذا ظاهر جداً لمن تأمل مقالات أهل الأرض وأديانهم.
إنكار النبوات شيمة الفلاسفة والمجوس وعباد الأصنام
فإن الفلاسفة لم يمكنهم الاعتراف بالملائة والجن والمبدأ والمعاد وافاصيل صفات الرب تعالى وأفعاله مع إنكار النبوات ، بل والحقائق المشاهدة التي لا يمكن إنكارها لم يثبتوها على ما هي عليه ولا أثبتوا حقيقة واحدة على ما هي عليه البتة وهذا ثمرة أنكارهم النبوات فسلبهم الله إدراك الحقائق التي زعموا أن عقولهم كافية في إدراكها فلم يدركوا منها شيئاً على ما هو عليه حتى ولا الماء ولا الهواء ولا الشمس ولا غيرها فمن تأمل مذاهبهم فيها علم أنهم لم يدركوها وإن عرفوا من ذلك بعض ما خفي على غيرهم.
وأما المجوس فأضل واضل.
وأما عباد الأصنام فلا عرفوا الخالق ولا عرفوا حقيقة المخلوقات ولا ميزوا بين الشياطين والملائكة وبين الأرواح الطيبة والخبيثة ، وبين أحسن الحسن وأقبح القبيح ولا عرفوا كمال النفس وما تسعد به ونقصها وما تشقى به.(1/280)
وأما النصارى فقد عرفت ما الذي أدركوه من معبودهم وما وصفوه به وما الذي قالوه في نبيهم وكيف لم يدركوا حقيقته البتة ووصفوا الله بما هو من أعظم العيوب والنقائص ووصفوا عبده ورسوله بما ليس له بوجه من الوجوه وما عرفوا الله ولا رسوله والمعاد الذي أقروا به لم يدركوا حقيقته ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل من حقيقته إذ لا أكل عندهم في الجنة ولا شراب ولا زوجة هناك ولا حور عين يلذ بهن الرجال كلذاتهم في الدنيا ولا عرفوا حقيقة أنفسهم وما تعسد به وتشقى ومن لم يعرف ذلك فهو أجدر أن لا يعرف حققه شئ كما ينبغي البتة فلا لأنفسهم عرفوا ولا لفاطرها وبارئها ولا لمن جعله الله سبباً في فرحها وسعادتها ولا للموجودات وأنها جميعها فقيرة مربوبة مصنوعة ناطقها وصامتها وأدميها وجنيها وملكها فكل من في السوات عبده وملكه وهو مخلوق مصنوع مربوب فقير من كل وجه ومن لم يعرف هذا لم يعرف شيئاً.
غباوة اليهود(1/281)
وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل سلافهم ووغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي سنعته أيديهم من ذهب ومن عبادتهم أن جعلوه على صورةأبلد الحيوان وأقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد كيف عبدوا مع اله إلهاً آخر وقد شاهدوا من أدل التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم؟! وإذ عزموا على اتخاذ غله دون الله اتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته ! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الملائكة المقربين ولا من الأحياء الناطقين بل اتخذوه من الجمادات! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم بل من الجواهر الأرضيية! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض علاية عليها كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار عالية عليها! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوهاً مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه!
إذا قد فعلوا لم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان ارضي.
وإذا قد فعلوا لم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعاً من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه الأرض ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير.
فأي معرفة هؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات؟ وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلهاً فيعبد إلهاً مجعولاً بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماؤه وصفاته ونعوته ودينه ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقه.(1/282)
ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، ولا قالوا له اذهب أنت وربك فقاتلا ولا قتلوا نفساً وطرحوا المقتول علىأبواب البراء من قتله نيهم حي بين أظهرهم وخبر السماء والوحي يأتيه صباحاً ومساءً فكأنهم جوزوا أن يخفي هذا على الله كما يخفى على الناس؟! ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له يا ابانا انتبه من رقدتك ، كم تنام.
ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم ولما تحيلوا على تحليل محارمه واسقاط فرائضه بأنواع الحيل.
ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة أن يأمر بالشئ في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة وتبدله بما هو خير منه وينتهي عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد كما هو مشاهد في احكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبديلها واختلافها بحسب الحوال والأوقات والأماكن فلو اعتمد طبب أن لا يغير الأدوية والأغذية بحسب اختلاف الزمان والأماكن والحوال لأهلك الحرث والنسل وعد من الجهال فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟!
وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه؟ ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجداً ويقولوا حطة ، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم فدخلوا يزحفون على أستاههم بدل السجود لله، ويقولون : هنطا سقمانا أي حنطة سمراء فذلك سجودهم وخشوعهم وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم.(1/283)
ومن جهلهم وغباوتهم أن الله سبحانه أراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا ميد عليه ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد إليهم فيه عهده وأمرهم أن يأخذوه بقوة فيعيدوه بما فيه كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط فأتوا أن يقبلوا ذلك وامتنعوا منه فتنق الجبل العظيم فوق رؤوسهم على قدرهم وقيل لهم إن لم تقبلوا أطبقته عليهم فقبلوه من تحت الجبل.
قال ابن عباس : رفع الله الجبل فوق رؤوسهم وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر من تحتهم وتودوا إن لم تقبلوا أرضختكم بهذا وأحرقتكم بهذا وأغرقتكم بهذا فقبلوه وقالوا سمعنا وأطعنا وللولا الحبل ما اطعناك ولما أمنوا بعد ذلك قالوا سمعنا وعصينا .
ومن جهلهم انهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن بعلى بعضها البشر ثم قالوا بعد ذلك: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .
وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلاً لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل فلما دنى موسى من الجبل وقععليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل وقال للقوم ادنوا ودنى القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سجداً فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى ويأمره وينهاه ويعهد إليه فلما انكشف الغمام قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .
ومن جهلهم أن هارون لما مات ودفنه موسى قالت بنو اسرائيل لموسى انت قتلته حسدته على خلقه ولينه ومحبة بني أسرائيل له قال فاختاروا سبعين رجلاً فوقفوا على قبر هارون فقال موسى يا هارون أقتلت أم مت؟ قال بل مت وما قتلني أحد.
فحسبك من جهالة أمة جفائهم أنهم اتهموا نبيهم وسبوه إلى قتل أخيه فقال موسى ما قتلته فلم يصدقوه حتى أسمعهم كلامه وبراءة أخيه مما رموه به.
ومن جهلهم أن الله سبحانه شبههم في حملهم التوراة وعدم الفقه فيها والعمل بها بالحمار يحمل أسفاراً وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة : (منها) أن الحمار من ابلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلادة.(1/284)
)ومنها) أنه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علف أو ماء لكان له به شعور بخلاف الأسفار.
)ومنها) أنهم حملوها لا أنهم حملوها طوعاً واختياراً بل كانوا كالمكلفين لما حملوه لم يرفعوا به رأساً.
(ومنها) أنهم حيث حملوهاتكليفاً وقهراً لم يرضوا بهاولم يحملوها رضا واختياراً وقد علموا أنهم لا بد لهم منها وأنهم إن حملوها اختياراً كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
(ومنها) أنها مشتملة على مصالح معاشهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة فإعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم وفلاحهم إلى ضده منغاي الجهل والغباوة وعدم الفطانة.
ومن جهلهم وقلة معرفتهم أنهم طلبوا عوض المن والسلوى اللذين هما أطيب الأطعمة وأنفعها وأوفقها للغذاء الصالح : البقل والقثاء الثوم العدس والبصل ، ومن رضي باستبدال هذه الأغذية عوضاً عن المن والسلوى لم يكر عليه أن يستبدل الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى والغضب بالرضى والعقوبة بالرحمة وهذه حال ن لم يعرف ربه ولا كتابه ولا رسوله ولا نفسه.
وأما نقضهم ميثاقهم وتبديلهم أحكام التوراة وتحريفهم الكلم عن مواضعه وأكلهم الراب وقد نهوا عنه وأكلهم الرشا واعتدائهم في السبت حتى مسخوا قردة وقتلهم الأنبياء بغير حق وتكذيبهم عيسى ابن مريم رسول الله ورميهم له ولأمه بالعظائم وحرصهم على قتله وتفردهم دون الأمم بالخبث والبهت وشدة تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها وقسوة قلوبهم وحسدهم وكثرة سخرهم فإليه النهاية.
وهذا وأضعافه من الجهل وفساد العقل قليل على من كذب رسل الله وجاهر بمعاداته ومعاداة ملائكته وأنبياءه وأهل ولايته فأي شئ عرف من لم يعرف الله ورسله؟ وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة ؟ وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق المولة اليه ومآله بعد الوصول اليه.(1/285)
فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغير إلا من أشرف عليه نور النبوة كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله خلق خلقه في ظلمة ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله .
إشراقة الأرض بالنبوة
ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور والضياء ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها فهذه جملتها ظلمات خلق فيها العبد فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى العلم والمعرفةوالأيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البتة فمن أخطاه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض فما دخله ظلمة ومخرجه ظلمه وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله وقلبه مظلم ووجهه مظلم لأنه يبقى على الظلمة الأصلي ولا ينابه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها فلو أشرق له شئ من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش.
بصائر أغشاها النهار بضوئه ولاءمها قطع من الليل مظلم
يكاد نور النبوة يعمى تلك البصائر وخطفها لشدته وضعفها فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها وملاءمتها إياها.
والمؤمن عمله نور وقوله نور ومدخله نور ومخرجه نور وقده نور فهو يتقلب في النور في جميع أحواله.
قال الله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .(1/286)
ثم ذكر حال الكفار وأعمالهم وتقلتهم في الظلمات فقال : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً صلى الله علي سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
تم كتاب
(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)
الفهرس
مقدمة الكتاب …
الأديان قبل البعثة
أسباب تصنيف هذا الكتاب …
القسم الاول في أجوبة المسائل وعددها سبعة أسئلة
الاسباب المانعة من قبول الحق …
فصل اعتراف أبي جهل بنبوة محمد
فصل معرفة اليهود لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق المعرفة …
لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله
صلاة النصارى إستهزاء بالمعبود …
فصل السؤال الثاني
نبذة عن النجاشي ملك الحبشة ووفد مشركي قريش إليه …
خبر وفد نصارى نجران
خبر عدي بن حاتم الطائي …
خبر سلمان الفارسي
اعتراف هرقل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم …
إسلام النجاشي ملك نصارى الحبشة
اعتراف المقوقس ملك النصارى بمصر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- …
إسلام حيفر وعبيد ابني الجلندي من ملوك النصارى
خبر هوذة بن علي الحنفي …
خبر الحارث بن أبي شمر
خبر إسلام عبد الله بن سلام من علماء اليهود …
السؤال الثالث
ذكر وفد أصحاب النجاشي …
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران
مجمل الأدلة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب القديمة …
فصل نص بعض النبوءات عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة
فصل نصوص من التوراة …
فصل نصوص من الإنجيل
فصل نصوص خاصة بكلمة فارقليط …
فصل ما عرض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق(1/287)
نصوص من مزامير داود - أمة التسبيح والتكبير - …
فصل نصوص من سفر أشعياء
نصوص من كتاب حبقوق …
فصل نصوص من كتاب حزقيال
وصف الرسول في التوراة كما رواه كعب …
فصل نصوص من إنجيل متى
نصوص من سفر أرمياء …
من صحف أشعياء
ذكر مناظرة للمصنف مع اليهود …
خبر المباهلة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين النصارى في زمنه
أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي …
خبر بحيرا الراهب
خبر آخر عن هرقل …
نماذج من التحريفات التي في التوراة والإنجيل
اليهود كذبوا مسيح الهدى، وينظرون مسيح الضلال، المسيح وأصحابه يقتلونهم شر قتلة
المناقضات في الإنجيل
تواطؤ اليهود والنصارى …
السؤال الرابع
السؤال الخامس …
السؤال السادس
الصحابة كانوا أعلم أهل الأرض …
السؤال السابع
ذنوب الموحدين من المسلمين في جنب عظائم اليهود …
دين اليهود
من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار !! …
دين النصارى
مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها …
تابع مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها
جميع الأنبياء دعوا إلى توحيد الله …
فصل لو لم يظهر محمد بن عبد المطلب
إخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق …
النصارى أشد الأمم افتراقاً في دينهم
اختلاف فرق النصارى في شخصية المسيح …
فصل تاريخ المجامع النصرانية
ذكر ماني الكذاب …
أول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح هو بولس
المجمع الأول …
المجمع الثاني
المجمع الثالث …
المجمع الرابع
المجمع الخامس …
المجمع السادس
المجمع السابع …
المجمع الثامن
المجمع التاسع …
المجمع العاشر
لو عرض دين النصرانية …
فصل
معجزات محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم وأدل …
إنكار النبوات شيمة الفلاسفة والمجوس وعباد الأصنام
غباوة اليهود
إشراقة الأرض بالنبوة
تم تحميل هذا الكتاب من موقع هداية الحيارى
http://www.islam.ms
??
??
??
??
(19)(1/288)