نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
للشيخ محمد الخضرى { رحمه الله }
كتاب مختصر يبحث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة من الولادة إلى الوفاة وما بينهما من نشأة وبعثة ومحنة وتعذيب وإسراء وطلب نصرة وهجرة ومعارك وعهود ومواثيق وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بسيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم
مقدمة المؤلف
نحمدك يا من أوضحت لنا سُبُل الهداية، وأزحت عن بصائرنا غشاوة الغواية، ونصلّي ونسلِّم على مَن أرسلته شاهداً ومُبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى الأصحاب الذين هجروا الأوطان يبتغون من الله الفضل والرضوان، والأنصار الذين آوَوا ونصروا وبذلوا لإعزاز الدين ما جمعوا وما ادَّخروا.(1/1)
أما بعد، فيقول محمد الخضري ابن المرحوم الشيخ عفيفي الباجوري: كنت أجد من نفسي منذ النشأة الأولى ارتياحاً لقراءة تواريخ السالفين وقصص الغابرين، وأجدها لعقل الإنسان أحسن مهذِّب، وأنصح معلِّم، وكنت أرى في تاريخ نبيّنا ــــ عليه الصلاة والسلام ــــ وما لقيَهُ من أذى قومه حينما دعاهم إلى الحق، وعظيم صبره حتى هجر أوطانه وبلاده، أعظم مُربَ لأفكار المسلمين، فإنه يدلّهم على ما يجب اتباعه، وما يلزم اجتنابه، ليسودوا كما سادَ سابقوهم، وخصوصاً ما يتعلق بالحكام، من اجتذاب النفوس النافرة، والتأليف بين القلوب المختلفة، وما يتعلق بقواد الجيوش، من تأليف الرجال وإحكام المعدّات حتى يتم لهم النصر على أعدائهم، وما يتعلق بالعامّة، من اتحاد قلوبهم وصيرورتهم يداً على مَنْ سواهم. فكنتُ أجد من قراءتها ارتياحاً عظيماً، وكانت نفسي كثيراً ما تأسف على تركِ المسلمين لها، فقلّما أجد من يشتغل بها، ولكني كنت أُقدم لهم العذر بتطويل الكتب المؤلفة في هذا الموضوع. فلما قدمت مدينة المنصورة جمعتني النوادي مع محمود بك سالم، القاضي بمحكمة المنصورة المختلطة، فوجدت منه علماً بدينه تقف دونه فحول الرجال، وتتأخر عن مسابقته فيه الأبطال، فقلّما توضع مسألة دينية إلا وجدته مبرزاً فيها، مفصحاً عن الجواب عنها. أما علمه بسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم فعنده منها الخبر اليقين، وكنت كثيراً ما أسمعه يتشوّف لعمل سيرة خالية من الحشو والتعقيد تنتفع بها عامّة المسلمين، فقلت: يا لله لقد وافق هذا السيد الكريم ما في نفسي،(1/2)
ولكني كنت أرى في عزيمتي قصوراً عن تنفيذ رغبته وتتميم أمنيته، فإن المقام عظيم، وصعوباته أعظم. ولكن لم أرَ من الأمر بُدّاً تلقاء ما كنت أسمعه من كبار رجال المنصورة، فإنهم أكثروا من الأماني لعمل هذا الكتاب، العميم النفع، الجزيل الفائدة، فقمت معتمداً على الله راجياً منه أن يوفّقني لما فيه رضاه، وواصلت السَّيْرَ بالسُّرى حتى بلغت المنى، فجاء بحمد الله، سهل المنال، عذب المورد، تنتفع به العامّة، وترجع إليه الخاصّة. وقد كان مورِدي في تأليفه: القرآن الشريف، وصحيح السنّة مما رواه الإمامان البخاري ومسلم، ولم أخرج عنهما إلا فيما لا بدّ من تفيهم العبارات، فكان يساعدني "الشفا" للقاضي عياض و"السيرة الحلبية" و"المواهب اللدنية" للقسطلاني، و"إحياء علوم الدين" للغزالي. هذا، وأسأل الله من فيض فضله أن يوفّق أئمتنا وأمراءنا للاقتداء بسيّدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحياء معالِم دينه حتى يؤيَّدوا بروح من عند الله. وقد آن أن نشرع فيما قصدناه مستعينين بحول الله فنقول:(1/3)
السيد الأكرم الذي شرف الناس بوجوده هو: (محمد بن عبد الله) من زوجه آمنة بنت وَهْب الزُّهرية القرشية. (ابن عبد المطلب) من زوجه فاطمة بنت عمرو المخزومية القرشية. وكان عبد المطلب شيخاً معظماً في قريش يَصْدُرون عن رأيه في مشكلاتهم ويقدمونه في مهماتهم. (ابن هاشم) من زوجه سلمى بنت عمرو النجارية الخزرجية. (ابن عبد مناف) من زوجه عاتكة بنت مُرّة السلمية. (ابن قُصَيّ) من زوجه حُبَّى بنت حُلَيل الخزاعية، وكان إلى قصيّ في الجاهلية حجابة البيت، وسقاية الحاج، وإطعامه المسمى بالرفادة، والندوة وهي الشورى لا يتم أمر إلا في بيته، واللواء، لا تعقد راية لحرب إلا بيده. ولما أشرف على الموت جعلها في يد أحد أولاده عبد الدار، لكن بنو عبد مناف أجمعوا رأيهم على ألا يتركوا بني عمهم عبد الدار يستأثرون بهذه المفاخر، وكاد يفضي الأمر إلى القتال لولا أن تدارك الأمرَ عقلاءُ الفريقين، فأعطوا بني عبد المناف السقاية والرفادة فدامتا فيهم إلى أن انتهتا للعباس بن عبد المطلب، ثم لبنيه من بعده، أما الحجابة فبقيت بيد بني عبد الدار، وأَقَرَّها لهم الشرع فهي فيهم إلى الآن. وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار، وأما اللواء فدام فيهم حتى أبطله الإسلام، وجعله حقاً للخليفة على المسلمين يضعه فيمن يراه صالحاً له، وكذلك الندوة. وقصي (بن كلاب) من زوجه فاطمة بنت سعد، وهي يمانية من أزد شَنُوءَة. (ابن مرة) من زوجه هند بنت سرير من بني فهر بن مالك. (ابن كعب) من زوجه وحشية بنت شيبان من بني فهر أيضاً. (ابن لؤي) من زوجه أم كعب ماوِيَّة بنت كعب من قُضاعة. (ابن غالب) من زوجه أم لؤي سلمى بنت عمرو الخزاعي. (ابن فهر) من زوجه أم غالب ليلى بنت سعد من هُذيل. وفهر هو قريش ــــ في قول الأكثرين ـــــ وكانت قريش اثنتي عَشْرَة قبيلة: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، وبنو زهرة(1/4)
بن كلاب، وبنو مخزوم بن يقظة بن مُرَّة، وبنو تيم بن مرّة، وبنو عدي بن كعب، وبنو سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب، وبنو عامر بن لؤي، وبنو تيم بن غالب، وبنو الحارث بن فهر، وبنو مُحارب بن فهر، والمقيمون منهم بمكة يسمون قريش البطاح، والذين بضواحيها قريش الظواهر. (ابن مالك) من زوجه جندلة بنت الحارث من جرهم. (ابن النضر) من زوجه عاتكة بنت عَدْوان من قيس عَيْلان. (ابن كنانة) من زوجه بَرَّة بنت مُر بن أُدّ. (ابن خُزَيمة) من زوجه عَوانة بنت سعد بن قيس عيلان. (ابن مُدركة) من زوجه سلمى بنت أسلم من قُضاعة. (ابن إلياس) من زوجه خِنْدِف المضروب بها المثل في الشرف والمنعة. (ابن مُضر) من زوجه الرباب بنت حيدة بن معدّ. (ابن نزار) من زوجه سَودة بنت عَكّ. (ابن معد) من زوجه مُعَانة بنت جوشم من جُرهم. (ابن عدنان).
هذا هو النسب المتفق على صحته من علماء التاريخ والمحدثين، أما النسب فوق ذلك فلا يصح فيه طريق، غاية الأمر أنهم أجمعوا على أن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى إسماعيل بن إبراهيم أبي العرب المستعربة. نسب شريف كما ترى: آباء طاهرون وأمهات طاهرات، لم يزل عليه السلام ينتقل من أصلاب أولئك إلى أرحام هؤلاء حتى اختاره الله هادياً مهدياً من أوسط العرب نسباً. فهو من صميم قريش التي لها القدمُ الأولى في الشرف وعلو المكانة بين العرب، ولا تجد في سلسلة آبائه إلا كراماً ليس فيهم مسترذَل بل كلهم سادة قادة، وكذلك أُمهات آبائه من أرفع قبائلهنّ شأناً، ولا شك أن شرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة، وكل اجتماع بين آبائه وأمهاته كان شرعياً بحسب الأصول العربية، ولم ينل نسبه شيء من سفاح الجاهلية بل طهَّره الله من ذلك والحمد لله.
زواج عبد الله بآمنة وحملها(1/5)
كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب، وسنُّه ثماني عشرة سنة، وهي يومئذٍ من أفضل نساء قريش نسباً وموضعاً، ولما دخل عليها حملت بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث أبوه أن توفي بعد الحمل بشهرين، ودفن بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام، فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع، ولما تمّت مدة حمل آمنة وضعت ولدها، فاستبشر العالم بهذا المولود الكريم الذي بثّ في أرجائه روح الآداب وتمم مكارم الأخلاق. وقد حقق المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان صبيحة يوم الاثنين تاسع ربيع الأول الموافق لليوم العشرين من أبريل سنة (571) من الميلاد، وهو يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بِشِعْب بني هاشم، وكانت قابلته الشَّفَّاء أم عبد الرحمان بن عوف، ولما ولد أرسلت أمه لجده تبشِّره، فأقبل مسروراً وسمّاه محمداً، ولم يكن هذا الاسم شائعاً قبلُ عند العرب، ولكن أراد الله أن يحقق ما قدّره وذكره في الكتب التي جاءت بها الأنبياء كالتوراة والإنجيل، فألهم جدَّه أن يسمّيه بذلك إنفاذاً لأمره، وكانت حاضِنته أم أيمن بركة الحبشية، أَمَة أبيه عبدِ اللَّهِ، وأول مَنْ أرضعه ثُوَيْبَةُ أَمَةُ عمه أبي لهب.
الرضاع
وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي ليكون أنجبَ للولد، وكانوا يقولون: إن المربَّى في المدن يكون كليلَ الذهن فاتر العزيمة، فجاءت نِسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالاً يرضعنهم، فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، واسم زوجها أبو كبشة، وهو الذي كانت قريش تنسبُ له الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يريدون الاستهزاء به فيقولون: هذا ابن أبي كبشة يُكلَّم من السماء ودُرّت البركات على أهل ذاك البيت الذين أرضعوه مدة وجوده بينهم وكانت تربو عن أربع سنوات.
حادثة شق الصدر(1/6)
وحصل له وهو بينهم حادثة مهمة وهي شق صدره وإخراج حظ الشيطان منه، فأحدث ذلك عند حليمة خوفاً فردته إلى أمه وحدّثتها قائلة: بينما هو وإخوته في بَهْم لنا خلف بيوتنا إذ أتى أخوه يعدو، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشَقَّا بطنه فهما يَسُوطانه. فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه منتقعاً لونه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بنيّ؟ فقال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم. فأقبلا يبتدراني فأضجعاني فشقَّا بطني، فالتمسا فيه شيئاً، فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو.
وفاة آمنة وكفالة عبد المطلب ووفاته وكفالة أبي طالب
ثم إن أمه أخذته منها، وتوجهت به إلى المدينة لزيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وبينما هي عائدة أدركتها منيتها في الطريق فماتت بالأبواء فحضنته أُمُّ أيمن، وكفله جده عبد المطلب، ورقَّ له رِقَّةً لم تُعْهَد له في ولده، لما كان يظهر عليه مما يدلّ على أن له شأْناً عظيماً في المستقبل، وكان يكرمه غاية الإكرام، ولكن لم يلبث عبد المطلب أن تُوفي بعد ثماني سنوات من عمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفله شقيق أبيه أبو طالب فكان له رحيماً وعليه غيوراً، وكان أبو طالب مُقلاً من المال فبارك الله له في قليله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في مدة كفالة عمه مثالَ القناعة والبعد عن السفاسف التي يشتغل بها الأطفال عادة، كما روت ذلك أُم أيمن حاضنته، فكان إذا أقبل وقتُ الأكل جاء الأولاد يختطفون وهو قانع بما سييسرُهُ الله له.
السفر إلى الشام(1/7)
ولما بلغت سنُّه عليه الصلاة والسلام اثنتي عشرة سنة، أراد عمّه وكفيله السفر بتجارة إلى الشام، فاستعظم الرسول صلى الله عليه وسلم فراقه، فرقّ له، وأخذه معه، وهذه هي الرحلة الأولى، ولم يمكثوا فيها إلا قليلاً، وقد أشرف على رجال القافلة ــــ وهم بقرب بُصرى ــــ بحيرا الراهب، فسألهم عمّا رآه في كتبهم المقدسة من بعثة نبي من العرب في هذا الزمن، فقالوا: إنه لم يظهر للآن. وهذه العبارة كثيراً ما كان يلهج بها أهل الكتاب من يهود ونصارى قبل بعثة الرسول {فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89).
حرب الفِجار(1/8)
ولما بلغت سنّه عليه الصلاة والسلام عشرين سنة حضر حرب الفِجَارِ، وهي حرب كانت بين كِنانة ومعها قريش، وبين قيس. وسببها: أنه كانَ للنعمان بن المنذر ملكِ العرب بالحيرة تجارة يرسلها كل عام إلى سوق عُكاظ لتُباع له، وكان يرسلها في أمان رجل ذي منعةٍ وشرف في قومه ليجيزها فجلس يوماً وعنده البراض بن قيس الكناني ــــ وكان فاتكاً خليعاً خلعه قومه لكثرة شرّه ــــ وعروة بن عتبة الرحَّال فقال: مَنْ يُجيز لي تجارتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البرَّاض: أنا أُجيزها على بني كنانة، فقال النعمان: إنما أُريد مَنْ يُجيزُها على الناس كلهم. فقال عروة: أبيت اللعن أكلبٌ خليع يجيزها لك؟ أنا أجيزها على أهل الشيح والقَيْصوم من أهل نجد وتهامة. فقال البَرَّاض: أو تُجيزها على كنانة يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلهم، فأسرَّها في نفسه، وتربَّص له حتى إذا خرج بالتجارة، قتله غدراً، ثم أرسل رسولاً يخبر قومه كنانة بالخبر، ويحذرهم قيساً قوم عروة. وأما قيس فلم تلبث بعد أن بلغها الخبر أن همّت لتدرك ثأرها، حتى أدركوا قريشاً وكنانة بنخلة، فاقتتلوا، ولما اشتدّ البأس وحميت قيس، احتمت قريش بحرمها، وكان فيهم رسول الله. ثم إن قيساً قالوا لخصومهم: إنّا لا نترك دم عروة، فموعدنا عكاظ العام المقبل، وانصرفوا إلى بلادهم يحرض بعضهم بعضاً، فلما حالَ الحَوْلُ جمعت قيس جُمُوعها وكانت معها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها من كنانة والأحابيش ــــ وهم حلفاء قريش ــــ وكان رئيس بني هاشم الزبيرُبن عبد المطلب ومعه إخوته أبو طالب وحمزة والعباس وابن أخيه النبي الكريم، وكان على بني أميّة حرببن أميّة، وله القيادة العامة لمكانه في قريش شرفاً وسناً. وهكذا كان على كل بطن من بطون قريش رئيس، ثم تناجزوا الحرب، فكان يوماً من أشدّ أيام العرب هَولاً، ولما استُحِلَّ فيه مِنْ حُرُمات مكة التي كانت مقدسة عند العرب سُمي يوم الفِجار. وكادت الدائرة تدور على قيس(1/9)
حتى انهزم بعض قبائلها ولكن أدركهم مَنْ دَعَا المتحاربين للصلح على أن يُحصُوا قتلى الفريقين، فمَن وجد قَتلاه أكثر أخذ ديَة الزائد، فكانت لقيس زيادة أخذوا ديتها من قريش وتعهد بها حرببن أمية، ورهن لسَدَادها ولده أبا سفيان. وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيراً ما تشبه حروب العرب تبدؤها صغيرات الأمور حتى ألّفَ الله بين قلوبهم وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم.
حِلف الفضول
وعند رجوع قريش من حرب الفِجَار تداعوا لحلف الفُضُول فتم في دار عبد اللهبن جُدْعَان التَّيْمِي أحد رؤساء قريش، وكان المتحالفون: بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، وبني أسدبن عبد العزّى، وبني زهرةبن كلاب، وبني تَيْمبن مُرّة تحالفوا وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، حتى تردّ إليه مَظْلِمته، وقد حضر هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعمامه، وقال بعد أن شرّفه الله بالرسالة: "لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد اللهبن جُدعان ما أحبّ أن لي به حُمْر النَّعَمِ ولو دعيت به في الإسلام لأجبت" وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث بمكارم الأخلاق، وهذا منها، وقد أقر دينُ الإِسلام كثيراً منها، يرشدك إلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقد دعا بهذا الحلف كثيرون فأنصفوا.
رحلته إلى الشام المرة الثانية(1/10)
ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمساً وعشرين سنة سافر إلى الشام المرّة الثانية، وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية كانت سيدة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه، فلما سمعت عن السيد من الأمانة وصِدق الحديث ما لم تعرفه في غيره حتى سمّاه قومه الأمين، استأجرته ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ممّا كانت تعطي غيره، فسافر مع غلامها مَيْسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً، وظهر للسيد الكريم في هذه السفرة من البركات ما حبّبه في قلب ميسرة غلام خديجة.
زواجه خديجة
فلما قَدِما مكة ورأت خديجة ربحها العظيم سُرَّت من الأمين عليه الصلاة والسلام وأرسلت إليه تخْطُبُهُ لنفسها، وكانت سنها نحو الأربعين، وهي من أوسط قريش حسباً وأوسعهم مالاً، فقام الأمين عليه الصلاة والسلام مع أعمامه حتى دخل على عمّها عمروبن أسد، فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب، فزوّجها عمّها. وقد خطب أبو طالب في هذا اليوم فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضِئْضِىءِ معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسُوّاس حرمه، وجعله لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا حكّام الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمدبن عبد الله لا يُوزن به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً، وإن كان في المال قُلٌّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردّة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصَّدَاقِ كذا. وعلى ذلك تم الأمر. وقد كانت متزوجة قبله بأبي هالة، توفي عنها وله منها ولد اسمه هالة، وهو ربيب المصطفى عليه الصلاة والسلام.
بناء البيت(1/11)
ولما بلغت سنه عليه الصلاة والسلام خمساً وثلاثين سنة، جاء سيل جارف فصدَّع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها، فإنها كانت رضيمة فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك، ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم. فقال لهم الوليدبن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المُصلِحين، وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل، وهناك وجدوا صِحافاً نُقش فيها كثير من الحِكَم على عادة مَنْ يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين. ثم ابتدؤوا في البناء وأعدّوا لذلك نفقة ليس فيها مَهرُ بغيَ ولا بيعُ رِبا، وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله فيمن يحمل، وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم، وقد خصّص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل، فأخرجوا منها الحِجْرَ، وبنوا عليه جداراً قصيراً، علامة على أنه من الكعبة، ولما تم البناء ثمانية عشر ذراعاً بحيث زِيدَ فيه عن أصله تسعة أذرع ورفع الباب عن الأرض بحيث لا يُصعد إليه إلا بدرج أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه، وتنافسوا في ذلك حتى كادت تشبّ بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليالٍ، وكان أسنّ رجل في قريش إذ ذاك أبو أميةبن المغيرة المخزومي عمُّ خالدبن الوليد فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكِّموا بينكم من ترضون بحكمه. فقالوا: نَكِلُ الأمر لأوّل داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون عليه الصلاة والسلام، فاطمأن الجميع له لِمَا يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد؛ لأنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان لا يُداري ولا يُماري. فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية(1/12)
من الثوب، ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيراً ما يكون أمثالها سبباً في انتشار حروب هائلة بين العرب، لولا أن مَنَّ الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير، وحكيم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بما يُرضي جميعهم. ولا يُستغرب من قريش تنافسهم هذا، لأن البيت قِبلَة العرب وكعبتهم التي يحجّون إليها، فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة، وهو أول بيت وُضِع للعبادة بشهادة القرآن الكريم، قال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} (آل عمران: 96، 97) وكان يلي أمره بعد ولد إسماعيل قبيلة جُرهم فلما بَغوا وظلموا مَنْ دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلَوهم عن البيت، ووليته خزاعة حيناً من الدهر، ثم أخذته منهم في عهد قصيبن كلاب، وبسببه أمِنوا في بلادهم، فكانت قبائل العرب تهابهم، وإذا احتموا به كان حصناً أميناً من اعتداء العادين، وامتنّ الله عليهم بذلك في تنزيله، فقال في سورة العنكبوت: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67).
معيشته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة(1/13)
لم يَرث عليه الصلاة والسلام من والده شيئاً، بل ولد يتيماً عائلاً فاسترضع في بني سعد، ولما بلغ مبلغاً يمكِّنه أن يعمل عملاً كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية، وكذلك لمّا رجع إلى مكة كان يرعاها لأهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه. ووجود الأنبياء في حال التجرد عن الدنيا ومشاغلها أمر لا بدّ منه، لأنهم لو وجدوا أغنياء لألهتهم الدنيا وشغلوا بها عن السعادة الأبدية، ولذلك ترى جميع الشرائع الإلهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها، وحال الأنبياء السالِفين أعظمُ شاهد على ذلك، فكان عيسى عليه السلام أزهدَ الناس في الدنيا، وكذلك كان موسى، وإبراهيم. وكانت حالتهم في صغرهم ليست سَعَة بل كلهم سَواء؛ تلك حكمة بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجاً لمتبعيهم في الامتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها، وذلك سبب البلايا والمحن. وكذلك رعاية الغنم، فما من نبي إلا رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في حديث للبخاري. وهذه أيضاً من بالغ الحِكَم فإن الإنسان إذا استرعى الغنم ــــ وهي أضعف البهائم ــــ سكن قلبَه الرأفةُ واللطفُ تعطفاً، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان لما هُذِّب أولاً من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ولما شبّ عليه الصلاة والسلام كان يتجر، وكان شريكه السائببن أبي السائب. وذهب بالتجارة لخديجة ــــ رضي الله عنها ــــ إلى الشام على جُعْل يأخذه. ولما شرفت خديجة بزواجه، وكانت ذات يسار، عمل في مالها وكان يأكل من نتيجة عمله. وحقق الله ما امتنّ عليه به في سورة الضحى بقوله جلّ ذكره: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى(8) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ(1/14)
مَن نَّشَآء مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52).
سيرته في قومه قبل البعثة
كان عليه الصلاة والسلام أحسن قومه خُلقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدَهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان أفضلَ قومه مروءةً، وأكرمَهم مخالطة، وخيرهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدَقهم حديثاً، فسمّوه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة من الحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والتواضع، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء. حتى شهد له بذلك ألدُّ أعدائه النضربن الحارث من بني عبد الدار حيث يقول: قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثاً، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشَّيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر. قال ذلك في معرض الاتفاق على ما يقولونه للعرب الذين يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين على قول مقبول يقولونه. ولما سأل هِرَقْلُ ملك الروم أبا سفيان قائلاً: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدعَ الكذب على الناس ويكذبَ على الله، ورد ذلك في أول صحيح البخاري.(1/15)
وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها وبُغِّضَتْ إليه الأوثان بغضاً شديداً حتى ما كان يحضر لها احتفالاً أو عيداً مما يقوم به عُبَّادُها. وقال عليه الصلاة والسلام: "لما نشأتُ بُغِّضَتْ إليّ الأوثان، وبُغِّض إليّ الشعر، ولم أهمّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك. ثم ما هممتُ بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسْمُر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئتُ أول دارٍ من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك، فضرب الله على أذنيَّ فنمت فما أيقظني إلا مسّ الشمس ولم أقضِ شيئاً، ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك". وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل ما ذبح على النصب وحرّم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعاً عظيماً، وذلك كله من الصفات التي يُحَلِّي الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقّي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوّة وبعدها، أما قبل النبوة فليتأهلوا للأمر العظيم الذي سيُسند إليهم، وأمَّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم. عليهم من الله أفضل الصلوات وأتمّ التسليمات.
ما أكرمه الله به قبل النبوّة
أول منحة من الله ما حصل من البركات على آل حليمة الذين كان مسترضعاً فيهم، فقد كانوا قبل حلوله بناديهم مجدبين فلما صار بينهم صارت غُنَيماتهم تؤوب من مرعاها وإن أضراعها لتسيل لبناً، ويرحم الله البوصيري حيث يقول في همزيته:
وإذا سخَّر الإله أُناساًلسعيدٍ فإنَّهم سُعداءُ ثم أعقب ذلك ما حصل من شق صدره وإخراج حظِّ الشيطان منه، وليس هذا بالعجيب على قدرة الله تعالى، فمن استبعد ذلك كان قليل النظر، لا يعرف من قوة الله شيئاً، لأن خرق العادات للأنبياء ليس بالأمر المستحدث ولا المستغرب.(1/16)
ومن المكرمات الإلهية تسخير الغمامة له في سفره إلى الشام، حتى كانت تظله في اليوم الصائف لا يشترك معه أحد في القافلة، كما روى ذلك ميسرة غلام خديجة الذي كان مُشاركاً له في سفره، وهذا ما حبّبه إلى خديجة حتى خطبته لنفسها، وتيقنت أن له في المستقبل شأناً. ولذلك لما جاءته النبوّة كانت أسرع الناس إيماناً به، ولم تنتظر آيةً أخرى زيادة على ما علمته من مكارم الأخلاق، وما سمعته من خوارق العادات.
ومن منن الله عليه ما كان يسمعه من السلام عليه من الأحجار والأشجار، فكان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتى لا يرى بناء، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا سمع: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً، وقد حدَّث بذلك عن نفسه. وليس في ذلك كبير إشكال فقد سخّر الله الجمادات للأنبياء قبله، فعصا موسى التقمت ما صنع سَحَرَة فرعون بعد أن تحوّلت حيّة تسعى ثم رجعت كما كانت، ولما ضرب بها الحجر نبع منه الماء اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين. وكذلك غيره من الأنبياء سخّر الله لهم ما شاء من أنواع الجمادات لتدلّ العقلاء على عظيم قدرهم وخَطَارة شأنهم.
تبشير التوراة به(1/17)
أنزل الله التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن، ونوّه فيها بذكر كثيرٍ من الأنبياء الذين علم الله أنه سيرسلهم، فمما جاء فيها تبشيراً برسولنا الكريم خطاباً لسيّدنا موسى عليه السلام: "وسوف أُقيم لهم نبيّاً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلمهم بكل شيء آمره به، ومَنْ لم يُطِعْ كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم منه، فأما النبي الذي يجترىء عليّ بالكبرياء ويتكلم باسمي بما لم آمره به أو باسم آلهة أخرى فليقتل، وإذا أحببتَ أن تميز بين النبي الصادق والكاذب فهذه علامتك: إنّ ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه". ويقول اليهود إن هذه البشارة ليوشعبن نون خليفة موسى عليه السلام، مع أنهم كانوا ينتظرون في مدّة المسيح نبيّاً آخر غير المسيح، فإنهم أرسلوا ليوحنا المعمدان (يحيى) يسألونه عن نفسه فقالوا له: أنت إيليا؟ فقال: لا، فقالوا أنت المسيح؟ فقال: لا، فقالوا أنت النبي؟ فقال: لا، فقالوا ما بالك إذاً تُعَمدُ إذا كنت لست إيليا ولا المسيح ولا النبي؟ فهذه تدلّ على أن التوراة تبشر بإيليا والمسيح ونبي لم يأتِ حتى زمن المسيح، ثم إن التوراة تقول في صفة النبي إنه مثل موسى، وقد نصّت في آخر سفْر التثنية على أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى، وورد في هذه البشارة أن النبي الذي يفتري على الله يُقتل، ويُشْبهُ ذلك في القرآن قوله تعالى في سورة الحاقة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ(44) لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) أكان يعجز الله ــــ وهو القادر على كل شيء ــــ أن يعاقب من ينسب إليه ما لم يقله وهو الذي قال في سورة الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ(1/18)
وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)
وروى القاضي عياض في الشفا أن عطاءبن يسار سأل عبد اللهبن عمروبن العاص عن صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً(45)
وروي مثله عن عبد اللهبن سَلام رضي الله عنه وهو الذي كان رئيس اليهود فلم تُعْمِه الرياسة حتى يترك الدين القويم، وكذلك كعب الأحبار. وفي بعض طرق الحديث: "ولا صَخَّابٍ في الأسواق ولا قوَّال للخنا، أُسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملَّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلِّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأُسمي به بعد النكرة، وأُكثِّر به بعد القلّة، وأُغني به بعد العَيْلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأُؤلِّف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أُخرجت للناس". وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن صفته في التوراة فقال ــــ وهو الصادق الأمين ــــ: عبدي أحمد المختار مولده مكة ومهاجره المدينة ــــ أو قال: طَيْبة ــــ وأمته الحمَّادون الله على كل حال.
تبشير الإنجيل(1/19)
بشّر عيسى عليه السلام قومه في الإنجيل بالفارقليط ومعناه قريب من محمد أو أحمد ويصدّقه في القرآن قول الله تعالى في سورة الصف: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْراءيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) وقد وصف المسيح هذا الفارقليط بأوصاف لا تنطبق إلا على نبيّنا فقال: إنه يوبخ العالم على خطيئته، وإنه يعلِّمهم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع، وهذا ما ورد في القرآن الكريم في سورة النجم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى(4) } (النجم: 3 ــــ 4) وقد ورد في إنجيل برنابا ــــ الذي ظهر منذ زمن قريب وأخفته حجب الجهالة ــــ ذكرُ اسم الرسول عليه الصلاة والسلام صراحة.
حركة الأفكار قبل البعثة(1/20)
وهذا يسهل لك فهم الحركة العظيمة من الأحبار والرهبان قبيل البعثة فكان اليهود يستفتحون على عرب المدينة برسول منتظر. فقد حدَّث عاصمبن عمربن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إنما دعانا للإسلام ــــ مع رحمة الله تعالى لنا ــــ ما كنا نسمع من أحْبار يَهود، كنا أهل شِرك وأصحابَ أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يُبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكثيراً ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله محمداً أجَبْنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنّا وكفروا. وإنما قال لهم اليهود نقتلكم معه قتل عاد وإرم لأن من صفته عليه الصلاة والسلام في كتبهم أن هذا النبيَّ يستأصل المشركين بالقوة، ولم يكونوا يظنون أَنَّ الحسد والبغي سيتمكنان من أفئدتهم فينبذون الدين القيّم فيحقّ عليهم العذاب في الدنيا والآخرة. وكان أميّةبن أبي الصلت المتنصّر العربي كثيراً ما يقول: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا. وحدَّث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن نفسه أنه صحب قسيساً فكان يقول له: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد، يخرج من جبال تهامة، علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وهذا الحديث كان من أسباب إسلام سلمان. ولما راسل عليه الصلاة والسلام ملوك الأرض لم يُهِنْ كتابه إلا كسرى الذي ليس عنده علم من الكتاب، وأما جميع ملوك النصارى كالنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وقيصر ملك الروم، فأكرموا وِفَادَةَ رسله. ومنهم من آمن كالنجاشي، ومنهم من ردّ ردّاً لطيفاً وكاد يسلم لولا غلبة الملك كقيصر، ومنهم من هادى كالمقوقس، ولم يكن عليه الصلاة والسلام في قوّة يُرهِبُ بها هؤلاء الملوك اللهمَّ ما ذاك إلا لأنهم يعلمون أن المسيح عليه السلام بشّر برسول يأتي من بعده، ووافقت صفات رسولنا ما عندهم(1/21)
فأجابوا بالتي هي أحسن، وأما ما سُمع من الهواتف والكُهان قبيل زمنه فهو ما لا يدخل تحت حصر. وليس بعد ما ذكرته لك زيادة لمستكثر. ومع ذلك كله فالأعمال التي جاد الله بها على يديه والأقوال التي أتانا بها أعظم مقوَ لحجته ومؤيدٍ لدعوته. وسيأتي عليك بيان ذلك كله بأجلى بيان فتأمَّلْه ترشد هداك الله إلى الصراط السويّ.
بدء الوحي
لمّا بلغ عليه الصلاة والسلام سن الكمال وهي أربعون سنة أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً ليُخرجهم من ظُلمات الجهالة إلى نور العلم وكان ذلك في أول فبراير سنة 610 من الميلاد كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي، تبين بعد دقة البحث أَنَّ ذلك كان في 17 رمضان سنة 13 قبل الهجرة وذلك يوافق يوليو سنة 610. وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح، وذلك لما جرت به عادة الله في خلقه من التدريج في الأمور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال. ومن الصعب جداً على البشر تلقي الوحي من المَلَك لأول مرة، ثم حبّب إليه عليه الصلاة والسلام الخلاء، ليبتعد عن ظُلُمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى الله فإن في العزلة صفاءَ السريرة. وكان يخلو بغار حِراء فيتعبَّد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشراً، وتارة أكثر إلى شهر. وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم عليه السلام ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل إذْ ظهر له شخص، وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل، وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، فإنه عليه الصلاة والسلام أميّ لم يتعلم القراءة قبلاً. فأخذه فغطه بالنمط الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء. فأخذه فغطّه ثانية ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطّه الثالثة، ثم أرسله(1/22)
فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ(3) الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} (إبراهيم: 13) ولتمام تصديقِ ورقة برسالة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام قال: وإن يدْركْني يومك أَنْصُرْكَ نصراً مؤزّراً (معضداً). ثم لم يلبث ورقة أن توفي.
فترة الوحي
وَفَتَرَ الوحي مدّة لم يتفق عليها المؤرخون، وأرجح أقوالهم فيها أربعون يوماً، ليشتدّ شوق الرسول للوحي، وقد كان، فإن الحال اشتدّ به عليه الصلاة والسلام حتى صار كلما أتى ذروة جبل بدا له أن يرمي نفسه منها، حذراً من قطيعة الله له بعد أن أراهُ نعمته الكبرى، وهي اختياره لأن يكون واسطة بينه وبين خلقه، فيتبدّى له الملَك قائلاً: أنت رسول الله حَقاً، فيطمئن خاطره ويرجع عمّا عزم عليه، حتى أراد الله أن يظهر للوجود نور الدين فعاد إليه الوحي.
عود الوحي
فبينما هو يمشي إذ سمع صوتاً من السماء فرفع إليه بصره، فإذا المَلَك الذي جاءه بحِراء جالس بين السماء والأرض، فرُعب منه لتذكّر ما فعله في المرة الأولى فرجع وقال: دثروني، دثروني. فأنزل الله تعالى عليه: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ(1) قُمْ فَأَنذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ(4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ(6) وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ(7)
الدعوة سرّا(1/23)
فقام عليه الصلاة والسلام بالأمر ودعا لعبادة الله أقواماً جُفاة لا دين لهم، إلا أن يسجدوا لأصنام لا تنفع ولا تضر، ولا حجة لهم ألا أنهم متّبِعون لما كان يعبد آباؤهم، وليس عندهم من مكارم الأخلاق إلا ما كان مرتبطاً بالعزّة والأَنَفة، وهو الذي كثيراً ما كان سبباً في الغارات والحروب وإهراق الدماء، فجاءهم رسول الله بما لا يعرفونه. فذوو العقول السليمة بادروا إلى التصديق وخلع الأوثان، ومن أعْمَته الرياسة أدبر واستكبر كيلا تُسلَب منه عظمته. وكان أول من سَطَع عليه نور الإسلام خديجة بنت خويلد زَوجه، وعليبن أبي طالب ابن عمه، وكان مُقيماً عنده يُطعمه ويسقيه ويقوم بأمره، لأن قريشاً كانوا قد أصابتهم مجاعة، وكان أبو طالب مُقِلاًّ كثير الأولاد، فقال عليه الصلاة والسلام لعمّه العباسبن عبد المطلب "إن أخاك أبا طالب كثير العيال، والناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا إليه لنخفِّف من عياله، تأخذ واحداً، وأنا واحداً"، فانطلقا وعرضا عليه الأمر، فأخذ العباس جعفربن أبي طالب، وأخذ عليه الصلاة والسلام عليّاً، فكان في كفالته كأحد أولاده إلى أن جاءت النبوّة وقد ناهز الاحتلام، فكان تابعاً للنبي في كل أعماله، ولم يتدنس بدَنَس الجاهلية من عبادة الأوثان، واتّباع الهوى، وأجاب أيضاً زيدبن حارثةبن شرحبيل الكلبي، مولاه عليه الصلاة والسلام، وكان يُقال له زيدبن محمد، لأنه لما اشتراه أعتقه وتبنَّاه، وكان المتبنَّى معتبراً كابن حقيقي يرث ويورث، وأجابت أيضاً أُمُّ أيمن حاضنته التي زوّجها لمولاه زيد. وأول مَنْ أجابه من غير أهل بيته أبو بكربن أبي قحافةبن عامربن عمروبن كعببن سعدبن تَيْمبن مرّة التيمي القرشي، كان صديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوّة يعلم ما اتّصف به من مكارم الأخلاق ولم يَعْهد عليه كذباً منذ اصطحبا، فأوّل ما أخبره برسالة الله أسرع بالتصديق، وقال: بأبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد أن لا إله(1/24)
إلاّ الله وأنك رسول الله. وكان رضي الله عنه صدراً معظّماً في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق، وكان من أعفّ الناس، سخياً، يبذل المال، محبباً في قومه، حسن المجالسة، ولذلك كله كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوزير، فكان يستشيره في أموره كلها، وقال في حقه: "ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر". وكانت الدعوة إلى الإسلام سرّاً حذراً من مفاجأة العرب بأمر شديد كهذا، فيصعب استسلامهم، فكان عليه الصلاة والسلام لا يدعو إلا مَنْ يثق به. ودعا أبو بكر إلى الإسلام مَنْ يثق به من رجال قريش، فأجابه جمع منهم: عثمانبن عفانبن أبي العاصبن أميةبن عبد شمسبن عبد مناف الأموي القرشي، ولما علم عمه الحَكَمُ بإسلامه، أوثقه كتافاً وقال: ترغب عن دين آبائك إلى دين مستحدث؟ والله لا أحلّك حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه ولا أُفارقه. فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه، وكان كهلاً يناهز الثلاثين من عمره. ومنهم: الزبيربن العوّامبن خويلدبن أسدبن عبد العزىبن قصي القرشي، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وكان عمّ الزبير يرسل الدخان عليه وهو مقيد ليرجع إلى دين آبائه، فقوّاه الله بالثبات، وكان شاباً لا يتجاوز سن الاحتلام.
ومنهم: عبد الرحمانبن عوفبن عبد عوفبن الحارثبن زهرةبن كلاب القرشي الهاشمي، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو فسمّاه عليه الصلاة والسلام عبد الرحمان.(1/25)
ومنهم: سعدبن أبي وقاص مالكبن أُهيببن عبد منافبن زهرةبن كلاب الزهري القرشي. ولما علمت أمه حَمْنَةُ بنت أبي سفيانبن أمية بإسلامه قالت له: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فوالله لا يظلُّني سقف من الحر والبرد، وإنَّ الطعام والشراب عليَّ حرام حتى تكفر بمحمد. وبقيت كذلك ثلاثة أيام فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه أمر أمه فنزل في ذلك تعليماً قول الله تعالى في سورة العنكبوت: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(8) ـ ف } من آمن منكم ومَنْ أشرك، فأُجازيكم حقّ جزائكم. وفي ختام هذه الآية فائدتان: التنبيه على أن الجزاء إلى الله فلا تحدّث نفسك بجفوتهما لإشراكهما، والحضّ على الثبات في الدين لئلا ينال شرّ الجزاء في الأخرى.
ومنهم: طلحةبن عبيد اللهبن عثمانبن عمروبن كعببن سعدبن تيمبن مرّة التيمي القرشي وقد كان عَرَف من الرهبان ذكرَ الرسول وصفته، فلما دعاه أبو بكر وسمع من رسول الله ما نفعه الله به، ورأى الدين متيناً بعيداً عمّا العرب من المثالب، بادر إلى الإسلام.h
وممن سبقوا إلى الإسلام: صهيب الرومي وكان من الموالي، وعمّاربن ياسر العنسي وقد قال رضي الله عنه: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر وكذلك أسلم أبوه ياسر وأمه سميّة.
ومن السابقين الأولين: عبد اللهبن مسعود، كان يرعى الغنم لبعض مُشرِكي قريش، فلما رأى الآيات الباهرة وما يدعو إليه عليه السلام من مكارم الأخلاق، ترك عبادة الأوثان ولزم رسول الله، وكان رضي الله عنه كثير الدخول على الرسول لا يُحجب، ويمشي أمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويُلبسهُ نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه.(1/26)
ومن السابقين الأوّلين: أبو ذر الغِفاري وكان من أعراب البادية فصيحاً حلو الحديث، ولما بلغه مَبْعَث رسول الله قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدم مكة وسمع من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزوّدَ وحمل قِربة له فيها ماء، حتى قَدِمَ مكة فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكَرِه أن يسأل عنه لما يعرفه من كراهة قريش لكل مَنْ يخاطب رسول الله، حتى إذا أدركه الليل رآه عليّ فعرف أنه غريب فأضافه عنده، ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء (على قاعدة الضيافة عند العرب لا يُسأل الضيف عن سبب قدومه إلا بعد ثلاث) فلما أصبَحَ احتمل قِربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه الرسول حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرّ به عليّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله الذي أُضيف به بالأمس؟ فأقامه، فذهب معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث عاد عليّ مثل ذلك، ثم قال له علي: ألا تحدّثني ما الذي أقدمَكَ؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتبعني حتى ندخل مدخَلي ففعل. فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري"، قال: والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظَهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبَّ عليه وقال: ويلكم أوَلَستمُ تعلمون أنه من(1/27)
غِفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليه؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبَّ العباس عليه. رواه البخاري. وكان رضي الله عنه من أصدق الناس قولاً، وأزهدهم في الدنيا.
ومن السابقين: سعيدبن زيد العدوي القرشي، وزَوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، وأُم الفضل لُبابة بنت الحارث الهلالية، زوج العباسبن عبد المطلب، وعُبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سلمة عبد اللهبن عبد الأسد المخزومي القرشي ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجه أم سلمة، وعثمانبن مظعون الجمحي القرشي، وأخواه قُدامة، وعبد الله، والأرقمبن أبي الأرقم المخزومي القرشي.
ومن السابقين الأوّلين: خالدبن سعيدبن العاصبن أميةبن عبد شمس الأموي القرشي، كان أبوه سيد قريش إذا اعتمَّ لم يعتمّ قرشي إجلالاً له، وكان خالدبن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية، فأدركه رسول الله وخلّصه منها فجاء إليه وقال: إلامَ تدعو يا محمد؟ قال: "أدعوك إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع، والإحسان إلى والديك، وأن لا تقتل ولدك خشية الفقر، وأن لا تقرب الفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وأن لا تقتل نفساً حرّم الله إلا بالحق، وأن لا تقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه، وأن توفي الكيل والميزان بالقسط، وأن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك، وأن توفي لمن عاهدت" فأسلم رضي الله عنه، وحينئذٍ غضب عليه أبوه وآذاه حتى منعه القوت، فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في ضواحي مكة، وأسلم بعده أخوه عمروبن سعيد.(1/28)
وهكذا دخل هؤلاء الأشراف في دين الإسلام، ولم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه صاغرين، وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤلاء العظماء آباءهم، وذوي الثروة منهم، ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله، بل كان الكثير منهم واسع الثروة أكثر منه عليه الصلاة والسلام كأبي بكر وعثمان وخالدبن سعيد وغيرهم، والذين اتّبعوه من الموالي اختاروا الأذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول، بحيث لو اتبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ بالاً وأنعم عيشة، اللهمّ ليس ذلك إلا من هداية الله وسطوع أنوار الدين عليهم، حتى أدركوا ما هم عليه من الضلالة وما عليه رسول الله من الهدى.
الجهر بالتبليغ(1/29)
مضت كل هذه المدة والنبي عليه الصلاة والسلام لا يُظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية، ولم يكن المسلمون يتمكّنون من إظهار عبادتهم حذراً من تعصب قريش، فكان كلُّ من أراد العبادة ذهب إلى شِعاب مكة يصلّي مستخفياً، ولمّا دخل في الدين ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول بهم ليرشدهم ويعلّمهم، اختار لذلك دار الأرقمبن أبي الأرقم ــــ وهو ممّن ذكرنا إسلامهم ــــ ومكث عليه الصلاة والسلام يدعو سرّاً حتى نزل عليه قوله تعالى في سورة الحِجر: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ(94) (1) مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ(5) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ} (الشعراء: 215، 216) أي: العشيرة والأقربون {فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء: 216) فجمعهم عليه الصلاة والسلام وقال لهم: "إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبتُ الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررتُ الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتُحَاسبنّ بما تعملون، ولتجزوُنّ بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وإنّها لجنّة أبداً أو لنار أبداً". فتكلم القوم كلاماً ليّناً غير عمه أبي لهب الذي كان خصماً لدوداً فإنه قال: خذوا على يديه قبل أن تجتمع عليه العرب، فإن أسلمتموه إذاً ذللتم، وإن منعتموه قُتلتم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا، ثم انصرف الجمع.(1/30)
ولما جهر رسول الله عليه الصلاة والسلام بالدعوة سَخِرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم فكان إذا مرَّ عليهم يقولون: هذا ابن أبي كبشة يُكلَّم من السماء، وهذا غلام عبد المطلب يُكلم من السماء لا يزيدون على ذلك، فلما عاب آلهتهم، وسَفّهَ عقولهم وقال لهم: "والله يا قوم لقد خالفتم دين أبيكم إبراهيم"، ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية غَيْرَةً على تلك الآلهة التي كان يعبدها آباؤهم، فذهبوا إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه، فطلبوا منه أن يُخلي بينهم وبينه أو يكفّه عمّا يقول، فردّهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما يريده لا يصده عن مراده شيء، فتزايد الأمر، وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحث بعضهم بعضاً على ذلك. ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له: إن لك سناً وشرفاً ومنزلة منّا، وإنّا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تَنْهَهُ عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه عقولنا، وعيب آلهتنا. فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم اتّباع الحق ذمّهم لعدم استعمال عقولهم فيما خُلقت له. قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَآءنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ(170) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(104) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21) قَالَ مُتْرَفُوهَآ(1/31)
إِنَّا وَجَدْنَآ ءابَآءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23). ولما شبّههم بمن قبلهم من الأمم في هذه المقالة الدّالة على التعصب والعناد قال: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَآءكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(24)
الإيذاء
ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصاً إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذًى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين.(1/32)
فأوّلهم وأشدّهم: أبو جهل عمروبن هشامبن المغيرة المخزومي القرشي، قال يوماً: يا معشر قريش إِنَّ محمداً قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسبّ آبائكم، إني أُعاهد الله لأجلسنّ له غداً بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضَختُ به رأسه فأَسْلِمُوني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلما أصبح أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا عليه الصلاة والسلام كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعِل، فلما سجد عليه الصلاة والسلام احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه من الفزع ورمى حجره من يده. فقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما لكَ يا أبا الحَكَم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قطّ هَمَّ بي أن يأكلني، فلما ذُكر ذلك لرسول الله قال: ذاك جبريل ولو دنا لأخذه. وكان أبو جهل كثيراً ما ينهى الرسول عن صلاته في البيت فقال له مرة بعد أن رآه يصلي: ألم أنهك عن هذا؟ فأغلظ له رسول الله القول وهدده، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فأنزل الله تهديداً له في آخر سورة اقرأ: كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ(15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18) كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب نَادِيَهُ(19)(1/33)
ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فَرْث جزور بني فلان فيلقيه على محمد وهو ساجد؟ فقام عقبةبن أبي مُعَيطبن أبي عمروبن أميةبن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على إلقائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل عليه الصلاة والسلام ساجداً حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته. فلما قام دعا على مَنْ صنع هذا الصنع القبيح فقال: "اللهمّ عليك بالملأ من قريش" وسمّى أقواماً، قال ابن مسعود: فرأيتهم قُتلوا يوم بدر.
ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل أن هذا ابتاع أجمالاً من رجل يقال له الإراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله، فدلّوه على رسول الله ليُنصفه من أبي جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول، فتوجه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال: مَنْ هذا؟ قال: محمد، فخرج منتقعاً لونه فقال له الرسول: أعطِ هذا حقه، فقال أبو جهل: لا تبرحْ حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دَيْنه، فقالت قريش: ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليَّ بابي حتى سمعت صوته فملئت منه رعباً، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلاً من الإِبل ما رأيت مثله.
ومن جماعة المستهزئين: أبو لهببن عبد المطلب، عمّ رسول الله كان أشدّ عليه من الأباعد، فكان يرمي القذر على بابه لأنه كان جاراً له، فكان الرسول يطرحه ويقول: يا بني عبد مناف أيُّ جوار هذا؟ وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه أُمّ جميل بنت حرببن أمية، فكانت كثيراً ما تسبّ رسول الله، وتتكلم فيه بالنمائم، وخصوصاً بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.(1/34)
ومن المستهزئين: عُقبةبن أبي مُعيط كان الجار الثاني لرسول الله، وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: "والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله"، فتشهَّد فبلغ ذلك أُبيّبن خلف الجُمحي القرشي، وكان صديقاً له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يَطعم فشهدت له. قال أُبيّ: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله فيه في سورة الفرقان: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27) ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً(28) لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً(29) أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ} (غافر: 28).
ومن جماعة المستهزئين: العاصبن وائل السهمي القرشي والد عمروبن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله، وكان يقول: غرَّ محمد أصحابه أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر، فقال الله ردّاً عليه في دعواه في سورة الجاثية: {وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ(24) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً(77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً(78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً(79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً(80)(1/35)
ومن جماعة المستهزئين: الأسودبن عبد يغوث، الزهري، القرشي، من بني زهرة، أخوال رسول الله، كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول: قد جاءكم ملوك الأرض، استهزاءً بهم لأنهم كانوا متقشفين، ثيابهم رثّة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كُلِّمْتَ اليوم من السماء؟
ومنهم: الأسودبن عبد المطلب الأسدي، ابنُ عم خديجة، كان هو وشيعته إذا مرّ عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل في سورة المطفِّفِيْن: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ(29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ(31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَآلُّونَ(32)(1/36)
ومنهم: الوليدبن المغيرة، عم أبي جهل، كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش، سمع القرآن مرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لقومه بني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمُثمر، وإن أسفله لمُغدق، وإنه يعلو وما يُعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأنَّ قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فتوجه وقعد إليه حزيناً وكلّمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يُهوِّس؟ وتقولون: إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قطّ؟ وتزعمون أنه كذَّاب، فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك: اللهمّ لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكَّر قليلاً ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فارتجّ النادي فرحاً فأنزل الله في شأن الوليد في سورة المدّثر مخاطباً لرسوله: ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً(12) وَبَنِينَ شُهُوداً(13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15) كَلاَّ إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً(16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)(1/37)
وأنزل فيه أيضاً في سورة ن: ولا تطع كل حلاف} كثير الحلف وكفى بهذا زاجراً لمن اعتاد الحلف مَهِيْنٍ} حقير وأراد به الكذاب لأنه حقير في نفسه هَمَّازٍ} عيّاب طعان مَشَّاءٍ بنَمِيْمٍ} بنقل الأحاديث للإفساد بين الناس مَنَّاعٍ لِلخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثيْمٍ عُتُلَ} غليظ جاف بَعدَ ذَلك زَنِيْمٍ} دخيل أَنْ كانَ ذَا مَالٍ وَبَنينَ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آيَاتُنا قَالَ أَساطِيْرُ الأَوَّليْنَ، سَنَسِمُهُ على الخُرطُومِ} كناية عن الإذلال والتحقير لأن الوجه أكرم عضو والأنف أشرف ما فيه، ولذلك اشتقوا منه كلَّ ما يدل على العظمة، كالأنفة وهي: الحمية. فالوسم على أشرف عضو دليل الإذلال والإهانة.
ومن المستهزئين: النضربن الحارث العبدري من بني عبد الداربن قصي. كان إذا جلس رسول الله مجلساً للناس يحدّثهم ويذكرهم ما أصاب مَنْ قبلهم، قال النضر: هلمّوا يا معشر قريش فإني أَحْسَنُ منه حديثاً ثم يحدِّث عن ملوك فارس، وكان يعلم أحاديثهم، ويقول: ما أحاديث محمد إلا أساطير الأوّلين وفيه نزل في سورة لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(7) } الْمُسْتَهْزِءينَ(95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ(96)
إسلام حمزة(1/38)
وكان بعض إيذائهم هذا سبباً لإسلام عمّه حمزةبن عبد المطلب، فقد أدركته الحميّة عندما عيّرته بعض الجواري بإيذاء أبي جهل لابن أخيه، فتوجه إلى ذلك الشقي وغاضبه وسبّه، وقال: كيف تسبّ محمداً وأنا على دينه؟ ثُمَّ أنار الله بصيرته بنور اليقين حتى صار من أحسن الناس إسلاماً، وأشدّهم غيرة على المسلمين، وأقواهم شكيمة على أعداء الدين حتى سمي أسدَ الله.
وكما أُوذي الرسول عليه الصلاة والسلام، أُوذي أصحابه لاتّباعهم له، خصوصاً من ليس له عشيرة تحميه، وتردّ كيد عدوه عنه، وكل هذا الأذى كان حلواً في أعينهم ما دام فيه رضاء الله، فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبتهم الله حتى أتمّ أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها، كما قال جلّ ذكره في سورة القصص: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5)(1/39)
ومن الذين أُوذوا في الله: بلالبن رباح كان مملوكاً لأميّةبن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلاً ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به، وهو يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ. لم يَشْغَلْهُ ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء ــــ وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه قطعة لحم لَنَضجَتْ ــــ ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيقول: أحد أحد. مرَّ به أبو بكر يوماً فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذْه مما ترى. فاشتراه منه وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل: فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاْشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلاَّ ابْتِغَآء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21) } (الليل: 14 ــــ 21) بما يعطيه الله في الأخرى جزاء أعماله. وقد نبّه الله جلّ ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بلال وعتقه لم يكن إلا ابتغاء وجه ربه، وكفى بهذا شرفاً وفضلاً للصدّيق رضي الله عنه وأرضاه، وقد أعتق غير بلال جماعة من الأرقاء أسلموا فعذبهم مواليهم.
ومنهم: حَمَامَةُ أُم بلال، وعامربن فُهَيرة كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وأبو فُكَيهة، كان عبداً لصفوانبن أميةبن خلف.(1/40)
ومنهم امرأة تسمى زنيرة عذّبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلا إيماناً، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء وأتباعهم؟ لو كان ما أتى به محمد خيراً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟ فأنزل الله في سورة الأحقاف: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ(11)
وممّن عُذب في الله: عماربن ياسر، وأخوه، وأبوه، وأمه، كانوا يعذبون بالنار فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صبراً آل ياسر فموعدكم الجنة، اللهمّ اغفر لآل ياسر وقد فعلت". أما أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما الله، وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر، فإن أبا جهل كان يجعل له دروعاً من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه إيّاها، فقال المسلمون: كفر عمار، فقال عليه الصلاة والسلام: "عمارٌ ملىء إيماناً من فرقه إلى قدمه" وأنزل الله في شأنه استثناءً في حكم المرتد، فقال جلّ ذكره في سورة النحل: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)(1/41)
وممّن أوذي في الله: خبَّاببن الأرَتِّ، سُبي في الجاهلية فاشترته أُم أنمار، وكان حداداً وكان النبي يألفه قبل النبوّة، فلما شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة المحمّاة فتجعلها على ظهره ليكفر فلا يزيده ذلك إلا إيماناً. وجاء خباب مرة إلى رسول الله وهو متوسد بُرْدَة في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد عليه الصلاة والسلام محمرّاً وجهه فقال: "إنه كان مَنْ قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشقّ، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئبَ على غنمه". قال ذلك عليه الصلاة والسلام وهو في هذه الحال الشديدة التي لا يتصور فيها أعقل العقلاء، وأنبل النبلاء، قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة، اللهمّ إلا أن ذلك وحي يوحى إليه، ثم أنزل الله تعالى تثبيتاً للمؤمنين أول سورة العنكبوت: الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ :3 } (العنكبوت: 1 ــــ 3).(1/42)
وممّن أُوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتد عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برْكَ الغِماد فلقيه ابن الدُّغُنَّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القَارَةُ) فقالَ: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مِثْلُك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتَصِل الرَحم وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يُخْرَجُ مثله. أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تُكذِّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلِّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإِنّا نخشى أن يفتِن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بِفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلاً بكَّاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنّا قد أجَرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإِنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وإن أبي إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْه أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نُخْفِرَكَ ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: لقد علمتَ الذي عاقدتُ لك عليه. فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن تُرْجع إليّ ذمتي، فإني لا أُحب أن تسمع العرب(1/43)
أني أُخْفِرْتُ في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله. رواه البخاري. وكان ذلك سبباً لإيصال أذى عظيم إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أَذِيّةٍ لحقته، ولكن كل ذلك ضاع سدًى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل إرجاعهم، ولكن وفقهم الله لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلاً.
ولما رأى كفار قريش أن ذلك الأذى لم يُجْدِهم نفعاً، بل كلما زادوا المسلمين أذًى ازداد يقينهم، اجتمعوا للشورى فيما بينهم، فقال لهم عتبةبن ربيعة العبشمي من بني عبد شمسبن عبد مناف ــــ وكان سيداً مطاعاً في قومه ــــ: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد فأُكلِّمه وأعرضُ عليه أموراً علَّه يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكفَّ عنّا؟ فقالوا: يا أبا الوليد فقمْ إليه فكلمه. فذهب إلى رسول الله وهو يصلي في المسجد، وقال: يابن أخي إنك منّا حيث قد علمتَ من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفَّهتَ أحلامهم، وعِبتَ آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها، فقال عليه الصلاة والسلام: "قل يا أبا الوليد أسمع".
فقال: يا ابن أخي إن كنتَ تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تُريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمراً دونك، وإن كنتَ تُريد مُلكاً ملكناكَ علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئّياً من الجن لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى، فقال عليه الصلاة والسلام: "فقد فرغتَ يا أبا الوليد؟" قال: نعم، "قال: فاسمع مني" فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سورة فصِّلت:(1/44)
بسم الله الرحمان الرحيم} حم(1) تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصّلَتْ ءايَاتُهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(4) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5) قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله واحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ(6) الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7) إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(8) قُلْ أَءنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآء لّلسَّآئِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَآء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَآء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12) فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13) إِذْ جَآءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآء رَبُّنَا لاَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(14)(1/45)
فأمسك عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يَكُفَّ عن ذلك، فلما رجع عتبة سألوه فقال: والله لقد سمعت قولاً ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة ولا بالسحر، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلُّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لكلامه الذي سمعت نبأ، فَإِنْ تُصِبْهُ العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزّكم، فقالوا: لقد سحرك محمد، فقال: هذا رأيي.
ثم عرضوا عليه بعد ذلك أن يشاركهم في عبادتهم ويشاركوه في عبادته فأنزل الله تعالى في ذلك: قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(3) وَلا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ(4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ(6) قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَآء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} (يونس: 15).(1/46)
وقد حصل له مع كفار قريش نادرة تكون لمن استهان بالضعيف كمصباح يستضيء به، وهو أنه بينما الرسول عليه الصلاة والسلام مع كُبراء قريش وأشرافهم يتألفهم ويعرض عليهم القرآن وما جاء به من الدين إذ أقبل عليه عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى ــــ وهو ممّن أسلموا قديماً ــــ والنبي مشتغل بالقول، وقد لقي منهم مؤانسة حتى طمع في إسلامهم، فقال له عبد الله: يا رسول الله علِّمني مما علّمك الله وأكثر عليه القول، فشقّ ذلك على الرسول، وكره قطعه لكلامه، وخاف عليه الصلاة والسلام أن يكون التفاته لذلك المسكين ينفر عنه قلب أولئك الأشراف، فأعرض عنه فعاتبه الله على ذلك بقوله أوَّلَ سورة عبس: عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَن جَآءهُ الاْعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى(6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى(7) وَأَمَّا مَن جَآءكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى(9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)(1/47)
ولمّا رأى المشركون أن هذه المطالب التي يعرضونها لا تُقبل منهم أرادوا أن يدخلوا في باب آخر، وهو تعجيز الرسول بطلب الآيات، فاجتمعوا، وقالوا: يا محمد إن كنت صادقاً فأرِنا آيةً نطلبها منك وهي أن تشقّ لنا القمر فرقتين، فأعطاه الله هذه المعجزة، وانشقَّ القمر فرقتين فقال رسول الله: "اشهدوا" وهذه القصة رواها عبد اللهبن مسعود وهو من السابقين الأوّلين رُويت عنه من طرق كثيرة، ورواها عبد اللهبن عباس وغيره، ورواها عنهم جمع غزير حتى صار الحديث كالمتواتر وقد ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى في أول سورة القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ(1) وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ(2) لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} (الإسراء: 90 ــــ 93) ولم يجبهم الله إلا بقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (الإسراء: 93) لأن الله علم ما تُكِنُّه جوانحهم من التعصب والعناد، فلا يؤمنون مهما جاءهم من البينات كما قال جلّ ذكره في سورة الأنعام: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 109) وكيف يرجى الخير ممّن قالوا كما في سورة الأنفال: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السَّمَآء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، وهذه سّنة(1/48)
من سُنن الأنبياء إذا رأوا من طلاب الآيات عناداً، وأنهم يطلبونها تعجيزاً لا يسألون الله إنفاذ هذه الآيات كيلا يحلّ بقومهم الهلاك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم. وهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ} (الإسراء: 59).
وقد حصل للمسيح عليه السلام أنه لمّا وقفَ أمام هيرودس طلب منه آية فلم يُجِبْهُ إلى طلبه، فلما رأى ذلك سخر منه وردّه إلى عدوه بيلاطس بعد أن كان يأسف عليه ويتمنى لقاءه، وذلك مذكور في الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل لوقا.
هذا ولما رأى المشركون ضعفهم عن مقاومة المسلمين بالبرهان، تحولوا إلى سياسة القوة التي اختارها قوم إبراهيم عندما عجزوا عنه حيث قالوا: {حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 68) كما في سورة الأنبياء أما هؤلاء فازدادوا بالأذى على كل مَن أسلم رجاء صدّهم عن اتّباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يتركوا باباً إلا ولجوه، فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم"، فسألوه عن الوجه فأشار إلى الحبشة.
هجرة الحبشة الأولى(1/49)
فعند ذلك تجهزَ ناس للخروج من ديارهم وأموالهم فراراً بدينهم كما أشار عليه الصلاة والسلام، وهذه هي أول هجرة من مكة، وعدّة أصحابها عشرة رجال وخمس نسوة، وهم: عثمانبن عفان وزوجه رقيّة بنت رسول الله، وأبو سلمة وزوجه أُم سلمة، وأخوه لأمه أبو سَبْرةبن أبي رُهْم، وزوجه أم كلثوم، وعامربن ربيعة وزوجه ليلى، وأبو حذيفةبن عتبةبن ربيعة وزوجه سهلة بنت سُهَيل، وعبد الرحمانبن عوف، وعثمانبن مظعون، ومصعببن عمير، وسُهَيْلبن البيضاء، والزبيربن العوّام، وجُلّهم من قريش، وكان عليهم ــــ فيما روى ابن هشام ــــ عثمانبن مظعون، فساروا على بركة الله، ولما انتهوا إلى البحر، استأجروا سفينة أوصلتهم إلى مقصدهم، فأقاموا آمنين من أذًى يلحق بهم من المشركين، ولم يبق مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا القليل.
إسلام عمر(1/50)
وفي ذلك الوقت أسلم الشهم الهمام عمربن الخطاب العدوي القرشي بعد ما كان عليه من كراهية المسلمين وشدة أذاهم. قالت ليلى ــــ إحدى المهاجرات لأرض الحبشة مع زوجها ــــ: كان عمربن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبتُ بعيري أُريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا به، فقال لي: إلى أين يا أُم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهبُ في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال: صحبكم الله، فلما جاء زوجي عامر أخبرته بما رأيت من رِقَّةِ عمر، فقال: ترجين أن يُسْلم؟ والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب وذلك لما كان يراه من قسوته وشدته على المسلمين، ولكن حصلت له بركة دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه قال قبيل إسلامه: "اللهم أعِزّ الإسلام بعمر". وكان إسلامه في دار الأرقمبن أبي الأرقم التي كان المسلمون يجتمعون فيها وقد حقق الله بإسلامه ما رجاه عليه الصلاة والسلام، فقد قال عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر. فإنه طلب من رسول الله أن يعلن صلاته في المسجد ففعل وقد أدرك الكفارَ كآبةٌ شديدة حينما رأوا عمر أسلم، وكانوا قد أرادوا قتله حتى اجتمع جمع حول داره ينتظرونه، فجاء العاصبن وائل السَّهْمي وهو من بني سهم حلفاء بني عدي قوم عمر وعليه حُلَّة حِبَرَة، وقميص مكفوف بحرير، فقال لعمر: ما بالُكَ؟ فقال: زعم قومك أنهم سيقتلونني إنْ أسلمتُ. قال: لا سبيل إليك فأنا لك جار، فأمِنَ عمر، وخرج العاص فوجد الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فرجع الناس من حيث أتوا.
رجوع مهاجري الحبشة
وبعد ثلاثة أشهر من خروج مهاجري الحبشة رجعوا إلى مكة حيث لا تتيسر لهم الإقامة فيها لأنهم قليلو العدد ــــ وفي الكثرة بعض الأُنس ــــ وأَضِف إلى ذلك أنهم أشراف قريش ومعهم نساؤهم، وهؤلاء لا يطيب لهم عيش في دار غربة بهذه الحالة.(1/51)
وقد أُولع بعض المؤرخين بحكاية يجعلونها سبباً في رجوع مهاجري الحبشة، وهي أنه بلغهم إسلام قومهم حينما قرأ عليهم الرسول سورة النجم، وتكلم فيها كلاماً حسناً عن آلهتهم حيث قال بعد: أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19) وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى(20)
وهذا مما لا تجوز روايته إلا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته، وها نحن أُولاء نسوق لك أدلة النقل والعقل على بطلان ما ذكر، أما الحديث فسنده ومتنه قلقان، فالسند قال فيه القاضي عياض في الشفا: "لم يخرّجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم"، وأما المتن فليس أصحاب رسول الله ولا المشركون مجانين حتى يسمعوا مدحاً أثناء ذم ويجوز ذلك عليهم، فبعد ذكر الأصنام قال: إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (النجم: 23). فالكلام غير مُنْتَظم، ولو كان ذلك قد حصل لاتَّخذه الكفار عليه حجة يحاجّونه بها وقت الخصام، وهم من نعرفهم من العناد فيما ليس فيه أدنى حجة، فكيف بهذه؟ وليس ذلك القيل أقل من تحويل القبلة إلى الكعبة، وهذا قالوا فيه ما قالوا حتى سمَّاهم الله سفهاء وأنزل فيهم في سورة البقرة: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا} (البقرة: 142). ولكن لم يُسمع عن أي واحد من رجالاتهم والمتصدرين للعناد منهم أن قال: ما لك ذَممتَ آلهتنا بعد أن مدحتها؟ وكان ذلك أولى لهم من تجريد السيوف وبذل مُهج الرجال.(1/52)
على أن المؤرخين الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سبباً لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم: إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال، ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمّل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهّل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابةَ بعد ذلك إن قلنا إن هذه الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين، ولكن الحمد لله فقد منَّ علينا بحفظ كتابنا المجيد الذي يحكم بيننا وبين كل مُفترٍ كذاب ففي السورة نفسها: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)
والذي ورد في الصحيح في موضوع هذا السجود ما رواه عبد اللهبن مسعود: أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ والنجم فسجد، وسجد مَنْ كان معه إلا رجلاً أخذ كفاً من حصى وضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته قُتِلَ بعد كافراً. وليس في هذا الحديث أدنى دلالة على أن الذين سجدوا معه هم مشركون، بل الذي يفيده قوله: فرأيته قُتِل بعد كافراً أنه كان مسلماً ثم رأيته ارتدّ، وهذا ما حصل من بعض ضعاف القلوب الذين لم يتحملوا الأذى فكفروا، منهم: عليبن أميةبن خلف.
هذا، ولما رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة لم يتمكن من الدخول إليها إلا مَنْ وجد له مُجيراً، فدخل أبو سلمة في جوار خاله أبي طالب، ودخل عثمانبن مظعون في جوار الوليدبن المغيرة، وقد ردّ عليه جواره حينما رأى ما صنعه بالمسلمين، فلم يَرَ أن يكون مرتاحاً وإخوانه معذبون.
كتابة الصحيفة(1/53)
ولما ضاقت الحيلُ بكفار قريش، عرضوا على بني عبد مناف، الذين منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، دية مضاعفة، ويسلمونه، فأبوا عليهم ذلك، ثم عرضوا على أبي طالب أن يُعطوه سيداً من شبانهم يتبناه، ويسلم إليهم ابن أخيه، فقال: عجباً لكم تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ فلما رأوا ذلك أجمعوا أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب وَلَديْ عبد مناف وإخراجهم من مكة، والتضييق عليهم فلا يبيعونهم شيئاً، ولا يبتاعون منهم حتى يسلموا محمداً للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم ــــ بسبب ذلك ــــ في شِعْب أبي طالب، ودخل معهم بنو المطلب سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم ما عدا أبا لهب فإنه كان مع قريش، وانخذلَ عنهم بنو عَمَّيْهم عبد شمس ونوفل ابني عبد مناف، فجهد القوم حتى كانوا يأكلون ورق الشجر، وكان أعداؤهم يمنعون التجار من مبايعتهم وفي مقدمة المانعين أبو لهب.
هجرة الحبشة الثانية
وبعد دخول الرسول وقومِهِ الشِّعْبَ أمر جميع المسلمين أن يهاجروا للحبشة حتى يساعد بعضهم بعضاً على الاغتراب، فهاجر معظمهم وكانوا نحو ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة، وكان من الرجال جعفربن أبي طالب وزوجه أسماء بنت عُمَيْس، والمقدادبن الأسود، وعبد اللهبن مسعود، وعبيد اللهبن جحش، وامرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتوجه لهم الذين أسلموا من جهة اليمن وهم الأشعريون: أبو موسى وبنو عمه. ولما رأتْ قريش ذلك أرسلت في أثرهم عمروبن العاص وعُمارةبن الوليد بهدايا إلى النجاشي ليُسَلِّم المسلمين، فرجعا شَرَّ رجعة، ولم ينالا من النجاشي إلا إهانة لما خاطبوه به من إخفار ذمته في قوم لاذوا به، أما بنو هاشم فمكثوا في الشعب قريباً من ثلاث سنوات في شدة الجهد والبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلا خفية.
نقض الصحيفة(1/54)
وقد قام خمسة من أشراف قريش يطالبون بنقض هذه الصحيفة الظالمة، وهم: هشامبن عمروبن ربيعةبن الحارث العامري، وهو أعظمهم في ذلك بلاءً، وزهيربن أبي أمية المخزومي ابن عمة الرسول عاتكة، والمُطْعِمبن عديّ النوفلي، وأبو البَخْتَريّبن هشام الأسدي، وزمْعَةبن الأسود الأسدي، واتفقوا على ذلك ليلاً، فلما أصبحوا غدا زهير وعليه حلّة، فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونَلْبَسُ الثياب وبنو هاشم والمطلب هَلْكى لا يبيعون ولا يبتاعون؟ والله لا أقعد حتى تُشَق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقال أبو جهل: كذبتَ، فقال زَمْعة لأبي جهل: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، وقال المطعمبن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك. وصدّق على ما قيل هشامبن عمرو، فقام إليها المطعمبن عدي فشقّها، وكانت الأَرَضة قد أكلتها فلم يبقَ فيها إلا ما فيه اسم الله، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عمه أبا طالب بذلك قبل أن يفعل ما ذكر، فخرج القوم إلى مساكنهم بعد هذه الشدة.
وفود نجران(1/55)
وقد وفد على الرسول بعد الخروج من الشِّعب وفد من نصارى نجران بلغهم خبرُهُ من مهاجري الحبشة، فسارعوا بالقدوم عليه حتى يروا صفاته مع ما ذكر منها في كتبهم، وكانوا عشرين رجلاً أو قريباً من ذلك، فقرأ عليهم القرآن فآمنوا كلهم، فقال لهم أبو جهل: ما رأينا ركباً أحمق منكم، أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فصبأتم فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لكم ما أنتم عليه ولنا ما اخترناه، فأنزل الله في ذلك قوله في سورة القصص: الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ(52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53) أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(54) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ(55) اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السَّمَآء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32).
وفاة خديجة رضي الله عنها(1/56)
وبعد خروجه عليه الصلاة والسلام من الشعب بقليل وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يذكرها ويترحم عليها، ولا غرابة، فهي أول نفس زكية صدَّقت رسول الله فيما جاء به عن ربه، وقد جاء منها بأولاده كلهم ما عدا إبراهيم. فمنها زينب وهي أكبر بناته تزوجها في الجاهلية أبو العاصبن الربيع، وأعقب منها أمامة التي تزوجها عليبن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ومنها رقيّة وأُم كلثوم تزوجهما عثمان؛ الأولى بمكة قبل الهجرة وهاجر بها إلى الحبشة، والثانية بالمدينة بعد أَنْ ماتت أختها، ومنها فاطمة وهي أصغر بناته تزوجها عليبن أبي طالب، وقد جاءت خديجة بأولاد توفّوا صغاراً، ولم يعش بعد رسول الله من أولاده إلاّ فاطمة عاشت بعده قليلاً. ولما توفيت خديجة حزن عليها رسول الله حزناً شديداً لما كانت عليه من الرقة لرسول الله، ومحاجزة الكفار عنه لما لها من الجاه في عشيرتها بني أسد، ومنها القاسم وكان به يكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر.
زواج سودة
وعقد عليه الصلاة والسلام في الشهر الذي ماتت فيه خديجة على سَوْدة بنت زَمْعَة العامرية القرشية بعد أن توفي عنها زوجها وابن عمها السكرانبن عمرو، وقد كانت آمنت بالله وبرسوله وخالفت أقاربها وبني عمها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة في المرة الثانية خوف الفتنة، وعقب رجوعه من هجرته توفي عنها، فلم يكن ثم أجمل مما صنعه الرسول بزوج رجل آمن به، ولو تركت لقومها مع ما هم عليه من الغلظة وكراهة الإسلام لفتنوها، وكرمُ نسبها في قومها يمنعها من التزوّج برجل أقل منها نسباً وشرفاً.
زواج عائشة رضي الله عنها
وبعد ذلك بشهر عقد على عائشة بنت صديقه أبي بكر وهي لا تتجاوز السابعة من عمرها، ولم يتزوج عليه الصلاة والسلام بكراً غيرها، ودخل عليها بالمدينة، أما سَودةُ فدخل عليها بمكة.(1/57)
وبعد وفاة خديجة بنحو شهر، توفي عمه أبو طالب، الذي كان يمنعه من أذى أعدائه، ومع أنه كان لا يُكَذِّب رسول الله فيما جاء به بل يعتقد صدقه لم ينطق بالشهادتين حتى آخر لحظة من حياته، وفيه نزل في سورة القصص: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56)
وقد سمى رسول الله هذا العام الذي فقد فيه زوجه وعمه عام الحزن. ولما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله ما لم يمكنها نيله في حياة أبي طالب، واشتد الأمر عليه حتى كانوا ينثرون التراب على رأسه وهو سائر، ويضعون أوساخ الشاة عليه في صلاته، وتعلقت به كفار قريش مرة يتجاذبونه ويقولون له: أنت الذي تريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ فما تقدم أحد من المسلمين حتى يخلصه منهم لما هم عليه من الضعف إلا أبو بكر فإنه تقدم، وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ} (غافر: 28).
هجرة الطائف(1/58)
فلما رأى عليه الصلاة والسلام استهانة قريش به أراد أن يتوجه إلى ثقيف بالطائف يرجو منهم نصرته على قومه ومساعدته حتى يتمّم أمر ربه، لأنهم أقرب الناس إلى مكة وله فيهم خؤولة، فإن أم هاشمبن عبد مناف عاتكة السلمية من بني سُلَيمبن منصور وهم حلفاء ثقيف، فلما توجه إليهم ومعه مولاه زيدبن حارثة قابل رؤساءهم وكانوا ثلاثةً: عبد يالِيْل ومسعود وحَبيب أولاد عمروبن عمير الثقفي، فعرض عليهم نصرته حتى يؤدي دعوته، فردّوا عليه رداً قبيحاً، ولم يرَ منهم خيراً، وحينذاك طلب منهم أن لا يُشيعوا ذلك عنه كيلا تعلم قريش فيشتدّ أذاهم لأنه استعان عليهم بأعدائهم، فلم تفعل ثقيف ما رجاه منهم عليه الصلاة والسلام، بل أرسلوا سفهاءهم وغلمانهم يقفون في وجهه في الطريق ويرمونه بالحجارة، حتى أدموا عقبه، وكان زيدبن حارثة يدرأ عنه إلى أن انتهى إلى شجرة كرْم واستظلّ بها، وكانت بجوار بستان لعُتبة وشَيبة ابني ربيعة وهما من أعدائه وكانا في البستان، فكره رسول الله مكانهما فدعا الله قائلاً: "اللهمّ إني أشكو إليكَ ضعفَ قُوَّتي وقِلَّةَ حيلتي وهَواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهَّمني، أم إلى عدوَ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي" فلما رآه ابنا ربيعة رَقَّا له وأرسلا إليه بِقِطْفٍ من العنب مع مولى لهما نصراني اسمه عَدَّاس. فلما ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قال: "بسم الله الرحمان الرحيم" فقال عَدَّاس: هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له عليه الصلاة والسلام: "من أيّ البلاد أنت وما دينك؟" فقال: نصراني من نِيْنَوى، فقال له عليه الصلاة والسلام: "من قرية الرجل الصالح يُونُسبن متَّى؟" قال: وما علمك بيونس؟ فقرأ له من القرآن ما فيه قصة يونس، فلما سمع ذلك عداس أسلم، وأتى جبريل برسالة من الله جلّ ذكره، وقال: إن الله أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه(1/59)
معك، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" فقال جبريل: صدق من سمّاك الرؤوف الرحيم.
ولما كان بنَخْلَة وفد عليه نفر من الجن يستمعون القرآن وهم ممّن ينتمون إلى موسى صلوات الله عليه، فلما سمعوه أنصتوا له ورجعوا إلى قومهم منذرين وأبلغوهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ(29) قَالُواْ ياقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ(30) ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الاْرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآء أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ(32) قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً(1) يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَآ أَحَداً(2)
الاحتماء بالمُطْعِمِبن عَدِي
ولما رجع عليه الصلاة والسلام من الطائف هكذا لم يتمكن من دخوله مكة، لما علمه كفار قريش من أنه توجه إلى الطائف يستنصرُ بأهليها عليهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام إلى المُطْعِمبن عديبن نوفلبن عبد مناف يخبره أنه سيدخل مكة في جواره فأجاب إلى ذلك، وتسلح هو وبنوه وتوجهوا مع رسول الله إلى المطاف، فقال له بعض المشركين: أَمُجِيرٌ أنت أم تابع؟ فقال بل مجير، قالوا: إذاً لا تُخْفَرُ ذِمَّتُكَ.
وفد دَوْس(1/60)
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة الطُّفَيْلبن عمرو الدَّوسي، من قبيلة دوس، عشيرة أبي هريرة الصحابي الشهير، وكان الطفيل شريفاً في قومه شاعراً نبيلاً، فلما قرأ عليه القرآن أسلم، فقال له رسول الله: "اذهب إلى قومك فادعهم إلى الإسلام" ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهمّ اهدِ دَوْساً"، فتوجه إليهم الطفيل ودعاهم فآمن بدعوته كثير منهم. وستأتي وِفَادَتُهُ على الرسول مرة ثانية بقومه في المدينة.
الإسراء والمعراج
وقبل الهجرة أكرمه الله بالإسراء والمعراج، أما الإسراء فهو توجهه ليلاً إلى بيت المقدس بإِيْلياء ورجوعه من ليلته، وأما المعراج فهو صعوده إلى العالم العلوي، وقد قال جمهور أهل السنّة: إن ذلك كان بجسمه الشريف، وكانت عائشة رضي الله عنها تمنع رؤية رسول الله ربه، وتقول: من قال إن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، والإسراء مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى في أول سورة الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى ( ) ، :1} (الإسراء: 1).(1/61)
وأما المعراج فقد ورد في صحيح السنّة، وأصحّ أحاديثه ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في شفائه عن أنسبن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت بالبُراق ــــ وهو دابّة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طَرْفه ــــ قال: فركبته حتى أتيتُ بيتَ المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة. ثم عُرِجَ بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا ودَعَوا لي بخير. ثم عُرَج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول، ففتح لنا وإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أُعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير. ثم عُرِجَ بنا إلى السماء الرابعة فذكر مثله، فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. قال تعالى في سورة مريم: وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً(57)
وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلَّم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها، فيصلي ركعتين إذا ظهر الفجر، وأربع ركعات إذا زالت الشمس ومثلها إذا ضوعف ظل الشيء، وثلاثاً إذا غربت، وأربعاً إذا غاب الشفق الأحمر. وكان عليه الصلاة والسلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحاً، ومثلهما مساءً كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام.
العرض على القبائل(1/62)
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يجد من قريش مَنَعَهً من تأدية الرسالة وتَسَلُّط الكبر والعظمة على قلوبهم، أراد الله أن يظهر أمر الدين على أيدي غيرهم من العرب، فكان عليه الصلاة والسلام يخرج في المواسم العربية ــــ وهي أسواق كانت العرب تعقدها للتجارة والمفاخرة ــــ ويعرض نفسه على القبائل ليحموه حتى يؤدي رسالة ربه، فكان بعضهم يردُّ ردّاً جميلاً، وآخرون ردّاً قبيحاً. وكان من أقبح القبائل ردّاً بنو حنيفة رهط مُسَيْلمَة الكذاب، وطلب منه بنو عامر إنْ هم آمنوا به أن يجعل لهم أمر الرياسة من بعده، فقال لهم: "الأمر لله يضعه حيث يشاء". وكان من الذين يحجّون البيت عرب يثرب وهي مدينة بين مكة والشام يقطنها قبيلتان: إحداهما من ولد الأوس، والثانية من ولد الخزرج وهما أخوان وكان بين أولادهما من العداوة ما يجعل الحرب لا تضع أوزارها بين الفريقين، فكانوا دائماً في شقاق ونزاع، وكان يجاورهم في المدينة أقوام من اليهود وهم: بنو قَينُقاع، وبنو قُرَيظة وبنو النَّضيرِ وكان لهم الغلبة على يثرب أولاً، فحاربهم العرب حتى صاروا ذوي النفوذ فيها والقوة، وكان اليهود إذا خذلوا يستفتحون على أعدائهم باسم نبي يُبعث قد قرب زمانه. ولما اختلفت كلمة العرب فيما بينهم وشُقَّت عصا الألفة، حالفوا اليهود على أنفسهم، فحالف الأوس بني قريظة، وحالف الخزرج بني النضير وبني قينقاع، وآخر الأيام بينهم يوم بُعاث قتل فيه أكثر رؤسائهم ولم يبق إلا عبد اللهبن أُبَيّ ابن سلول من الخزرج، وأبو عامر الراهب من الأوس، ولذلك كانت عائشة تقول: كان يوم بُعاث يوماً قدَّمه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خطر ببال رؤساء الأوس أن يحالفوا قريشاً على الخزرج، فأرسلوا إياسَبن معاذ وأبا الحَيسر أنسَبن رافع مع جماعة يلتمسون ذلك الحلف في قريش، فلما جاؤوا مكة جاءهم رسول الله وقال: "هل لكم في خير مما جئتم له؟ أن تؤمنوا بالله وحده، ولا تشركوا(1/63)
به شيئاً، وقد أرسلني الله إلى الناس كافة" ثم تلا عليهم القرآن، فقال إياسبن معاذ: يا قوم هذا والله خير مما جئنا له، فحصبه أبو الحيسر وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا، فسكت.
بدء إسلام الأنصار
ولما جاء الموسم تعّرَض رسول الله لنفر منهم يبلغون الستة، وكلهم من الخزرج وهم: أسعدبن زرارة، وعوفبن الحارث من بني النجار، ورافعبن مالك من بني زريق، وقُطْبةبن عامر من بني سَلِمة، وعقبةبن عامر من بني حَرَام، وجابربن عبد الله من بني عبيدبن عدي، ودعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته في تبليغ رسالة ربه، فقال بعضهم لبعض: إنه للنبي الذي كانت تَعِدُكم به يهود فلا يَسْبِقُنَّكُمْ إليه، فآمنوا به وصدّقوه، وقالوا: إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك، ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل، وهذا هو بَدء الإسلام لعرب يثرب.
العقبة الأولى
فلما كان العام المقبل قدم اثنا عشر رجلاً، منهم عَشَرة من الخزرج، واثنان من الأوس، وهم: أسعدبن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، ورافعبن مالك، وذكوانبن قيس، وعُبادةبن الصامت، ويزيدبن ثعلبة، والعباسبن عبادة، وعقبةبن عامر وقطبةبن عامر، وهؤلاء من الخزرج، وأبو الهيثمبن التَّيِّهان، وعُوَيمبن ساعدة وهما من الأوس، فاجتمعوا به عند العقبة، وأسلموا وبايعوا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وَفَوا فلهم الجنة، وإن غَشوا من ذلك شيئاً فأمرهم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر وإن شاء عذب، وهذه هي العقبة الأولى.(1/64)
فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام مصعببن عمير العبدري وعبد الله ابن أُم مكتوم ــــ وهو ابن خالة خديجة ــــ يُقرآنهم القرآن، ويفقهانهم في الدين، ونزل مصعب على أحد المبايعين أبي أُمامة أسعدبن زرارة، وصار يدعو بقية الأوس والخزرج للإسلام. وبينما هو في بستان مع أسعدبن زرارة إذ قال سعدبن معاذ ــــ رئيس قبيلة الأوس ــــ لأُسَيْدبن حُضير ابن عم سعد: ألا تقوم إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يُسَفِّهان ضعفاءنا لتزجرهما؟ فقام لهما أسيد بحربته، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، فلما وقف عليهما قال: ما جاء بكما تُسَفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كان لكما بأنفسكما حاجة. فقال مصعب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، فقرأ عليه مصعب القرآن فاستحسن دينَ الإسلام، وهداه الله له فتشهد ورجع إلى سعد، فسأله عمّا فعل، فقال: والله ما رأيتُ بالرجلين بأساً، فغضب سعد وقام لهما مغيظاً، ففعل معه مصعب كسابقه فهداه الله للإسلام، ورجع لرجال بني عبد الأشهل، وهم بطن من الأوس، فقال لهم: ما تعدُّونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا. قال: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تُسلموا، فلم يبق بيت من بيوت بني عبد الأشهل إلا أجابه، وقد انتشر الإسلام في دور يثرب حتى لم يكن بينهم حديث إلا أمر الإسلام.
العقبة الثانية(1/65)
ولما كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى، قدم مكة كثيرون منهم يريدون الحج، وبينهم كثير من مُشركيهم، ولما قابل وفدهم رسول الله، واعدوه المقابلة ليلاً عند العقبة، فأمرهم أن لا يُنبِّهوا في ذلك الوقت نائماً، ولا ينتظروا غائباً، لأن كل هذه الأعمال كانت خفية من قريش كيلا يطّلعوا على الأمر، فيسعَوا في نقض ما أبرم، شأنهم مع رسول الله في أول أمره. ولما فرغ الأنصار من حجهم توجهوا إلى موعدهم كاتمين أمرهم عمّن معهم من المشركين، وكان ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، فكانوا يتسللون الرجل والرجلين حتى تم عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً، منهم اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر من الأوس، ومعهم امرأتان وهما: نُسَيبة بنت كعب من بني النجار، وأسماء بنت عمرو من بني سَلمة، ووافقهم رسول الله هناك وليس معه إلا عمه العباسبن عبد المطلب وهو على دين قومه، ولكن أراد أن يحضر أمر ابن أخيه ليكونَ متوثقاً له، فلما اجتمعوا عرَّفهم العباس بأن ابن أخيه لم يزل في مَنَعة من قومه حيث لم يمكِّنوا منه أحداً ممّن أظهر له العداوة والبغضاء، وتحملوا من ذلك أعظم الشدة، ثم قال لهم: إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممّن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإلا فدعوه بين عشيرته فإنه لبمكان عظيم. فقال كبيرهم المتكلم عنهم البَراءبن معرور: والله لو كان لنا في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مُهَجنا دون رسول الله، وعند ذلك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ لنفسك ولربك ما أحببت. فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمتُ عليكم". فقال له أبو الهيثمبن التَّيِّهانِ: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال عهوداً وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال:(1/66)
"بل الدَّمَ الدَّمَ والهَدْمَ الهَدْمَ"، أي: إن طالبتم بدم طالبت به وإن أهدرتموه أهدرته. وحينذاك ابتدأت المبايعة وهي العقبة الثانية، فبايعه الرجال على ما طلب، وأول من بايع أسعدبن زرارة، وقيل البراءبن معرور، ثم تخير منهم اثني عشر نقيباً، لكل عشيرة منهم واحد، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وهم: أبو الهيثمبن التَّيِّهان، وأسعدبن زرارة، وأسيدبن حضير، والبراءبن معرور، ورافعبن مالك، وسعدبن خيثمة، وسعدبن الربيع، وسعدبن عبادة، وعبد اللهبن رواحة، وعبداللهبن عمرو، وعبادةبن الصامت، والمنذربن عمرو، ثم قال لهم: "أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريِّين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي" ولأمر ما أراده الله بَلَغَ خبرُ هذه البيعة مشركي قريش، فجاؤوا ودخلوا شِعْبَ الأنصار، وقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم لصاحبنا تخرجونه من أرضنا وتبايعونه على حربنا؟ فأنكروا ذلك، وصار بعض المشركين الذين لم يحضروا المبايعة يحلفون لهم أنهم لم يَحْصُل منهم شيء في ليلتهم وعبد اللهبن أُبَيّ كبير الخزرج يقول: ما كان قومي ليفتاتوا عليَّ بشيء من ذلك.
هجرة المسلمين إلى المدينة(1/67)
ولما رجع الأنصار إلى المدينة ظهر بينهم الإسلام أكثر من المرة الأولى. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فازداد عليهم أذى المشركين لما سمعوا أنه حالف قوماً عليهم، فأمر عليه الصلاة والسلام جميع المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يتسلَّلون خيفة قريش أن تمنعهم. وأول من خرج أبو سلمة المخزومي زوجُ أم سلمة ومعه زوجه، وكان قومها منعوها منه ولكنهم أطلقوها بعد فَلحقت به. وتتابع المهاجرون فراراً بدينهم ليتمكنوا من عبادة الله الذي امتزج حبّه بلحمهم ودمهم، حتى صاروا لا يعبؤون بمفارقة أوطانهم والابتعاد عن آبائهم ما دام في ذلك رضا الله ورسوله. ولم يبق بمكة منهم إلا أبو بكر وعلي وصهيب وزيدبن حارثة، وقليلون من المستضعفين الذين لم تمكِّنهم حالُهم من الهجرة، وقد أراد أبو بكر الهجرة فقال له عليه الصلاة والسلام: "على رِسْلك فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر استعداداً لذلك.
دار الندوة(1/68)
أما قريش فكانوا كأنهم أصيبوا بمَسِّ الشيطان حينما طرق مسامعهم مبايعة الأنصار له على الذَّود عنه حتى الموت، فاجتمع رؤساؤهم وقادتهم في دار الندوة وهي دار قصيّبن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه، فقال قائل منهم: نخرجه من أرضنا كي نستريح منه، فرُفِض هذا الرأي لأنهم قالوا: إذا خرج اجتمعت حوله الجموع لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال آخر: نُوْثقه ونحبسه حتى يدركه ما أدرك الشعراء قبله من الموت، فرُفِض هذا الرأي كسابقه، لأنهم قالوا: إن الخبر لا يلبث أن يبلغ أنصاره، ونحن أدرى الناس بمن دخل في دينه حيث يُفَضِّلونه على الآباء والأبناء، فإذا سمعوا ذلك جاؤوا لتخليصه وربما جرّ هذا من الحرب علينا ما نحن في غِنى عنه. وقال لهم طاغيتهم: بل نقتله، ولنمنع بني أبيه من الأخذ بثأره، نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً يجتمعون أمام داره، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قريش كلهم بل يرضون بالدية، فأقرّوا هذا الرأي. هذا مكرهم، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30) فأعلم نبيه بما دبره الأعداء في سرّهم، وأمره باللحاق بدار هجرته، بدار فيها ينشر الإسلام، ويكون فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم العزة والمنعة. وهذا من الحكمة بمكان عظيم فإنه لو انتشر الإسلام بمكة لقال المبغضون: إن قريشاً أرادوا مُلْكَ العرب، فعمَدوا إلى شخص منهم، وأوعزوا إليه أنْ يدَّعي هذه الدعوى حتى تكون وسيلة لنيل مآربهم، ولكنهم كانوا له أعداء ألدَّاء، آذوه شديد الأذى حتى اختار الله له مفارقة بلادهم والبعد عنهم.
هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم(1/69)
فتوجه من ساعته إلى صديقه أبي بكر، وأعلمه أن الله قد أذِنَ له في الهجرة فسأله أبو بكر الصحبةَ، فقال: نعم، ثم عرض عليه إحدى راحلتيه اللتين كانتا معدَّتين لذلك، فجهزهما أحثّ الجهاز، وصُنعت لهما سُفْرَة في جِرَاب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر نِطاقها، وربطت به على فم الجراب، واستأجرا عبد اللهبن أُرَيقط من بني الدِّيلبن بكر، وكان هادياً ماهراً، وهو على دين كفار قريش فأمِنَاه ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ. ثم فارق الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وواعده المقابلة ليلاً خارج مكة، وكانت هذه الليلة هي ليلة استعداد قريش لتنفيذ ما أقرّوا عليه، فاجتمعوا حول باب الدار، ورسول الله داخله، فلما جاء ميعاد الخروج، أمر ابن عمه عليّاً بالمبيت مكانه كيلا يقع الشك في وجوده أثناء الليل، فإنهم كانوا يرددون النظر من شقوق الباب ليعلموا وجوده، ثم سجَّى عليَّاً ببرده، وخرج على القوم وهو يقرأ: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ(9)(1/70)
أما المشركون فلما علموا بفساد مكرهم وأنهم إنما باتوا يحرسون عليبن أبي طالب لا محمدبن عبد الله، هاجت عواطفهم، فأرسلوا الطلب من كل جهة، وجعلوا الجوائز لمن يأتي بمحمد أو يدل عليه، وقد وصلوا في طلبهم إلى ذلك الغار الذي فيه طِلْبَتُهم بحيث لو نظر أحدهم تحت قدميه لنظرهما، حتى أبكى ذلك أبا بكر، فقال له عليه الصلاة والسلام: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) فأعمى الله أبصار المشركين حتى لم يَحِنْ لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار بل صار أعدى الأعداء أميةبن خلف يبعد لهم اختفاء المطلوبين في مثل هذا الغار. فأقاما فيه ثلاث ليال حتى ينقطع الطلب. وكان يبيتُ عندهم عبد اللهبن أبي بكر وهو شاب ثقفٌ ولَقِنٌ فَيُدْلِج من عندهما بسَحَر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت بها، فلا يسمع أمراً يكتادون به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وكان عامربن فُهَيرة يروح عليهما بقطعة من غنم يرعاها حين تذهب ساعة من العشاء، ويغدو بها عليهما، فإذا خرج من عندهما عبد الله تَبع أثره عامر بالغنم كيلا يظهر لقدميه أثر. ولما انقطع الطلب خرجا بعد أن جاءهما الدليل بالراحلتين صبح ثلاث، وسارا متبعين طريق الساحل.(1/71)
وفي الطريق لحقهم طالباً، سُراقةبن مالك المُدْلِجي، وكان قد رأى رُسُلَ مشركي قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما مئة ناقة لمن قتله أو أسره. فبينما هو في مجلس من مجالس قومهبن مُدلِج إذ أقبل رجل منهم حتى قام عليهم وهم جلوس فقال: يا سُراقة إني رأيت آنفاً أَسْودَةً بالساحل أراها محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هم، ولكنه أراد أن يثني عزم مُخبره عن طلبهم، فقال: إنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا يبتغون ضَالَّةً لهم، ثم لبث في المجلس ساعة، وقام وركب فرسه، ثم سار، حتى دنا من الرسول ومن معه، فعثرت به فرسه فخرّ عنها، ثم ركبها ثانياً وسار حتى صار يسمع قراءة المصطفى وهو لا يلتفت، وأبو بكر يُكثِر الالتفات فساخت قائمتا فرس سراقة في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخرّ عنها، ثم زجرها حتى نهضت، فلم تكد تُخرج يديها حتى سَطَع لأثرهما غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فعلِمَ سراقة أن عمله ضائع سُدًى، وداخله رعب عظيم، فناداهما بالأمان فوقف عليه الصلاة والسلام ومَنْ معه حتى جاءهم، ويقول سُراقة: وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله، فقلت: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرهما بما يريد بهما الناس، وعرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئاً بل قالا له: أخفِ عنّا، فسأله سراقة أن يكتب له كتابَ أمنٍ، فأمر أبا بكر فكتب. وبذلك انقضت هذه المشكلة التي أظهر الله فيها عنايته برسوله.(1/72)
وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول الله وقدومه عليهم يخرجون إلى الحَرَّة حتى يردّهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد أن طال انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه يزول بهم السراب يظهرهم تارة ويخفيهم أخرى، فقال اليهودي بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جَدُّكُم ــــ أي حظكم ــــ الذي تنتظرون، فثاروا إلى السلاح فتلقَّوا رسول الله بظهر الحَرَّة.
النزول بقُباء
فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمروبن عوف بقباء. والذي حققه المرحوم محمود باشا الفلكي أن ذلك كان في اليوم الثاني من ربيع الأول الذي يوافق 20 سبتمبر سنة 622، وهذا أول تاريخ جديد لظهور الإسلام بعد أن مضى عليه ثلاث عشرة سنة، وهو مضيق عليه من مشركي قريش، ورسول الله ممنوع من الجهر بعبادة ربه، أما الآن فقد آواه الله هو وصحابته رضوان الله عليهم بعد أن كانوا قليلاً يتخطفهم الناس.
هجرة الأنبياء(1/73)
وبهذه الهجرة تمّت لرسولنا صلى الله عليه وسلم سُنَّةُ إخوانه من الأنبياء من قبله، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته، فهاجر عنها، من إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متّبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في طاعة الله. فَسَلْ مصر وتاريخها تُنبئك عن إسرائيل (يعقوب) وبنيه أنهم هاجروا إليها حينما رأوا من بَنِيها ترحيباً بهم، وتركهم وما يعبدون إكراماً ليوسف وحكمته. ولما مضت سنون، نسي فيها المصريون تدبير يوسف وفضله عليهم، فاضطهدوا بني إسرائيل وآذوهم، خرج بهم موسى وهارون ليتمكنوا من إعطاء الله حقه في عبادته، وهرب المسيح عليه السلام من اليهود حينما كذَّبوه، فأرادوا الفتك به حتى كان من ضمن تعاليمه لتلاميذه: طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموات ثم قال بعد: افرحوا وتهلّلوا لأن أجركم عظيم في السموات فإنهم طردوا الأنبياء الذين قبلكم. وسَل القرى التي حلّت بها نقمة الله بكفر أهلها كديار لوط وعاد وثمود تنبئك عن مُهَاجَرة الأنبياء منها قبل حلول النقمة، فلا غرابة أن هاجر عليه الصلاة والسلام من بلاد منعه أهلها من تتميم ما أراده الله {سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً(62)
أعمال مكة
هذا، ولنبيّن لك مجمل ما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام بمكة من أصول الدين وذلك أمران:(1/74)
الأول: الاعتقاد بوحدانية الله وأن لا يُشرك معه في العبادة غيره، سواء كان ذلك الغير صنماً كما يفعل مُشرِكو مكة، أو أباً أو زوجةً أو بنتاً كما عليه بعض الطوائف الأخرى كالنصارى، ولولا الاعتقاد بوحدانية الله ما كَلَّف أحد نفسه تكاليف الحياة من آداب الأخلاق بل كان يسير فيما تأمره به نفسه من شهواتها وملذاتها ما دام ذلك خافياً عن الناس.
الثاني: الاعتقاد بالبعث والنشور وأن هناك يوماً ثانياً للإنسان يُجازى فيه على ما صنعه في الدنيا إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر، وعلى هذين الأمرين جاء غالب الآي المكيّة، فقلّما نرى سورة من سور مكة إلا مشحونة بالاستدلال عليهما وتوبيخ من تركهما، وكل ذلك بأساليب تأخذ بالعقل، وبراهين لا تحتاج لفلسفة الذين يشغلون أنفسهم بما لا طائل تحته ممّا يضيع الوقت سدًى. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من القرآن معظمه، وهو ما عدا ثلاثاً وعشرين سورة منه، وهي: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، الحج، النور، الأحزاب، القتال، الفتح، الحجرات، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الصف، الجمعة، المنافقون، التغابن، الطلاق، التحريم، النصر، هذه كلها مدنية وباقي القرآن مكّي.
ولما نزل عليه الصلاة والسلام بقُباء، نزل على شيخ بني عمرو كُلثومبن الهدم، وكان يجلس للناس ويتحدث لهم في بيت سعدبن خَيثمة لأَنَه كان عزباً. ونزل أبو بكر بالسُّنْح (محلة بالمدينة) على خارجةبن زيد من بني حارث من الخزرج.
مسجد قُباء(1/75)
وأقام رسول الله بقباء ليالي أسّس فيها مسجد قباء الذي وصفه الله بأنه مسجد أُسس على التقوى من أول يوم، وصلَّى فيه عليه الصلاة والسلام بمن معه من الأنصار والمهاجرين، وهم آمنون مطمئنون، وكانت المساجد على عهد رسول الله في غاية من البساطة ليس فيها شيء مما اعتاده بُناة المساجد في القرون الأخيرة، لأن الرسول وأصحابه لم يكن جُلُّ همّهم إلا منصرفاً لتزيين القلوب، وتنظيفها من حظ الشيطان، فكان سور المسجد لا يتجاوز القامة وفوقه مظلة يُتَّقى بها حرّ الشمس.
الوصول إلى المدينة
ثم تحوَّل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة والأنصار محيطون به متقلدي سيوفهم، وهنا حدّث ولا حَرَج عن سرور أهل المدينة، فكان يومُ تحوله إليهم يوماً سعيداً لم يُروا فرحين بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البَدرُ علينامن ثَنِيَّاتِ الوداعوجب الشكر عليناما دعا لله داعأيُّها المبعوثُ فيناجئت بالأمرِ المُطاع وكان الناس يسيرون وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين ماشٍ وراكب يتنازعون زمام ناقته، كلٌّ يريد أن يكون نزيله.
أول جمعة(1/76)
وأدركته عليه الصلاة والسلام صلاة الجمعة في بني سالمبن عوف، فنزل وصلاّها وهذه أول جمعة له عليه الصلاة والسلام، وأول خطبة خطبها عليه الصلاة والسلام حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تَعْلُمنَّ والله ليُصْعَقَنَّ أحدُكم، ثم ليَدَعَنَّ غَنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولَنَّ له ربه ــــ ليس له تَرجمان ولا حاجب يحجبه دونه ــــ: ألم يأتك رسولي فبلَّغك، وآتيتك مالاً، وأفضَلتُ عليك؟ فما قدَّمْتَ لنفسك؟ فَلَينظُرنَّ يميناً وشِمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ليَنظرنَّ قُدَّامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يَقِيَ وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة؛ فإنّ بها تُجْزَى الحسنةُ عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
النزول على أبي أيوب
ثم ساروا وكلما مرّوا على دار من دور الأنصار يتضرّعُ إليه أهلها بأن ينزل عندهم، ويأخذون بزمام الناقة، فيقول: "دعوها فإنها مأمورة"، ولم تَزَل سائرةً حتى أتت بِفنَاء بني عديبن النجار (وهم أخواله الذين تزوج منهم هاشم جده) فبركت بمحلة من محلاتهم أمام دار أبي أيوب الأنصاري، واسمه خالدبن زيد، وذلك مَحل مسجده الشريف، فقال عليه الصلاة والسلام: "ههنا المنزل إن شاء الله" رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} (المؤمنون: 29) فاحتمل أبو أيوب رَحْله ووضعه في منزله، وجاء أسعدبن زرارة فأخذ بزمام ناقته فكانت عنده، وخرجت ولائد بني النجار يقلن:(1/77)
نَحْنُ جَوارٍ من بني النَّجَّارِيا حبّذا محمدٌ مِنْ جَارِ فخرج إليهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتحببنني؟" فقلن: نعم، فقال: "الله يعلم أن قلبي يحبكن" واختار عليه الصلاة والسلام النزول في الدَّوْرِ الأسفل من دار أبي أيوب ليكون أريح لزائريه، ولكن لم يرضَ رضي الله عنه ذلك كرامة لرسول الله لما يمكن أن يصيبه من التراب الذي يُحدِثه وطء الأقدام أو الماء الذي يهراق، فقد اتفق أن كُسرت من زوجته جرّة ماء بالليل، فقام هو وهي بقطيفتهما التي ليس لهما غيرُها، يمسحان الماء خوفاً على رسول الله، ولذلك لم يَزَلْ أبو أيوب يستعطفه حتى كان في العِلْو، وكانت تأتيه الجِفَانُ كل ليلة من سرَاة الأنصار كسعدبن عبادة وأسعدبن زرارة وأُم زيدبن ثَابت، فما من ليلة إلا وعلى بابه الثلاث أو الأربع من جفان الثريد.
نزول المهاجرين
ولما تحول مع رسول الله أغلب المهاجرين تنافس فيهم الأنصار، فحكَّموا القرعة بينهم، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقُرعة.
أُخُوَّةُ الإسلام
ومن يتأمل إلى هذه المحبة التي يستحيل أن تكون بتأثير بشر، بل بفضل من الله ورحمته، يفهم كيف انتصر هؤلاء الأقوام على معانديهم من المشركين وأهل الكتاب مع قلّة العَدد والعُدد.(1/78)
وكان الأنصار يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، قال تعالى في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9). وهذا أعلى درجات الأخوة، وكل ذلك كانوا يرونه قليلاً بالنسبة لما وجب عليهم لإخوانهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُمَكِّنَ بينهم الإخاء، آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان كل أنصاري ونزيلُه أخوين في الله. ومن العبث أن نكلف القلم أن يوضّح للقارىء أن هذه الأخوة كانت أرقى بكثير من الأخوة العصبية، بل نَكِلُ ذلك للإحساس الإسلامي فإنه أفصح منطقاً من القلم. وعلى الإجمال فتلك قلوب أَلَّفَ الله بينها حتى صارت شيئاً واحداً في أجسام متفرقة، وعسى الله أن يوفّق مسلمي عصرنا إلى هذا الإخاء حتى يسودوا كما ساد المتحدون، وكان هذا الإخاء على المواساة والحق، وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لكل اثنين: "تآخيا في الله أخَوين أخوين" ودام هذا الميراث إلى أن أنزل الله سبحانه قوله في سورة الأحزاب: {وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ} (الأحزاب: 6).
هجرة أهل البيت(1/79)
ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة أرسل زيدبن حارثة وأبا رافع إلى مكة ليأتيا بمن تخلّف من أهله، وأرسل معهما عبد اللهبن أُرَيقط يدلهما على الطريق، فقَدِما بفاطمة وأُم كلثوم ابنتيه عليه الصلاة والسلام، وسَودة زوجه، وأُم أيمن زوج زيد وابنهما أسامة، وأما زينب فمنعها زوجها أبو العاصبن الربيع، وخرج من الجميع عبد اللهبن أبي بكر بأُمّ رومان، زوج أبيه، وعائشة أخته، وأسماء زوج الزبيربن العوّام، وكانت حاملاً بابنها عبد الله، وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة.
حُمَّى المدينة
ولم يكن هواء المدينة في البدء موافقاً للمهاجرين من أهل مكة، فأصاب كثيراً منهم الحُمَّى، وكان رسول الله يعُودهم، فلما شَكوا إليه الأمر قال: "اللهمّ حبب إلينا المدينة كما حببتَ إلينا مكة وأشد، وبارك لنا في مُدِّها وفي صاعها، وانقل وباءها إلى الجُحْفَة". فاستجاب الله جَلَّ وعلا دعوته، وعاش المهاجرون في المدينة بسلام.
منع المستضعفين من الهجرة
ومنع مشركو مكة بعضاً من المسلمين عن الهجرة، وحبسوهم وعذبوهم، منهم: الوليدبن الوليد، وعيَّاشبن أبي ربيعة، وهشامبن العاص، فكان عليه الصلاة والسلام يدعو لهم في صلاته، وهذا أصل القنوت، وقد حصل في أوقات مختلفة وَمحالّ في الصلاة مختلفة، فكان في وتر العشاء، وصلاة الصبح بعد الركوع وقبله، فروى كل صحابي ما رآه، وهذا سبب اختلاف الأئمة في مكان القنوت.
السَّنة الأولى
بناء المسجد(1/80)
ثم شرع عليه الصلاة والسلام في بناء مسجده في مَبْرك ناقته أمام محلّة بني مالكبن النجار، وكان محله مِرْبَداً للتمر يملكه غلامان يتيمان في حِجر أسعدبن زرارة، فدعا الغلامين، وساومهما بالمِربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نَهَبُهُ لك يا رسول الله، فأبى عليه الصلاة والسلام أن يقبله منهما هبة بل ابتاعه منهما، وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل، فأمر بالقبور فنُبشتْ، وبالحفر فَسُويت، وبالنَّخل فقُطع، ثم أمر باتخاذ اللبِن فاتخذ وشرعوا في البناء به، وجعلوا عضادتي الباب من الحجارة، وسقفوه بالجريد، وجعلت عمده من جذوع النخل، ولا يزيد ارتفاعه عن القامة إلا قليلاً، وقد عمل فيه رسول الله بنفسه ليرغِّب المسلمين في العمل، وصاروا يرتجزون وهو يقول معهم:
اللهم لا خيرَ إلا خيرُ الآخرهفارحم الأنصارَ والمُهاجرهْ وجُعلت قبلة المسجد في شماله إلى بيت المقدس، وجُعل له ثلاثة أبواب، ثم حصبت أرضه لأن المطر كان قد أثَّر فيه، فأمر عليه الصلاة والسلام بحصبه، ولم يزين المسجد بِفُرُشٍ حتى ولا بالحصر، وبُني بجانبه حجرتان، إحداهما لسَودة بنت زمعة، والأخرى لعائشة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام متزوجاً غيرهما إذ ذاك، وكانت الحجرتان متجاورتين وملاصقتين للمسجد على شكل بنائه، وصارت الحجرات تبنى كلما جاءت زوج.
بدء الأذان(1/81)
أوجب الله الصلاة على المسلمين ليكونوا دائماً متذكرين عظمة العليّ الأعلى، فيتبعون أوامره، ويجتنبون نواهيه، ولذلك قال في مُحكم كتابه في سورة العنكبوت: إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآء وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45). وجعل أفضل الصلاة ما كان جماعة ليذاكر المسلمون بعضهم بعضاً في شؤونهم واحتياجاتهم، ويقوّوا روابط الألفة والاتحاد بينهم، ومتى حان وقت الصلاة فلا بدّ من عمل ينبه الغافل، ويذكّر الساهي حتى يكون الاجتماع عامّاً، فائتمر النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة فيما يفعل لذلك، فقال بعضهم: نرفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فلم يرضوا ذلك لأنها لا تفيد النائم ولا الغافل، وقال آخرون: نُشعل ناراً على مرتفع من الهضاب فلم يقبل أيضاً، وأشار آخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم فكرهه رسول الله، لأنه لم يكن يحب تقليد اليهود في عمل ما، وأشار بعضهم بالناقوس وهو ما يستعمله النصارى فكرهه الرسول أيضاً، وأشار بعضهم بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فقُبِل هذا الرأي، وكان أحد المنادين عبد اللهبن زيد الأنصاري، فبينما هو بين النائم واليقظان إذ عرض له شخص وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال: بلى، فقال له: قل: الله أكبر الله أكبر مرتين، وتشهَّد مرتين، ثم قل: حيَّ على الصلاة مرتين، ثم قل: حيَّ على الفلاح مرتين، ثم كبر ربك مرتين، ثم قل لا إله إلا الله. فلما استيقظ توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر رؤياه، فقال: "إنها لرؤيا حق"، ثم قال له: "لقِّن ذلك بلالاً فإنه أندى صوتاً منك"، وبينما بلال يؤذن إذ جاء عمر يجر رداءه، فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله، وكان بلال أحد مؤذنيه بالمدينة، والآخر عبد الله ابن أُم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حيّ على الفلاح: "الصلاة خير من النوم" مرتين، وأقرّه الرسول على ذلك، وكان عليه(1/82)
الصلاة والسلام يأمر في فجر رمضان بأذانين: أولهما يوقظ به الغافلون حتى يَنْتَبِهوا للسحور، والثاني للصلاة. وأما الأذان للجمعة، فكان أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد نداء آخر على الزوراء. رواه البخاري.
ولما تولى هشامبن عبد الملك أخذ الأذان الذي زاده عثمان بالزوراء وجعله على المنار، ثم نقل الأذان الذي كان على المنار حين صعود الإمام على المنبر في العهد الأول بين يديه.
فعلم بذلك أن الأذان في المسجد بين يدي الخطيب بدعة أحدثها هشامبن عبد الملك، ولا معنى لهذا الأذان، لأنه هو نداء إلى الصلاة، ومن هو في المسجد لا معنى لندائه ومن هو خارج المسجد لا يسمع النداء إذا كان النداء في المسجد. ذكر ذلك الشيخ محمد ابن الحاج في "المدخل".
قال الحافظ في فتح الباري: "وأما ما أحدث الناس قبل الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى". ا هـ.
فعلم من ذلك كله أن سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذان الجمعة أنه كان إذا جلس على المنبر أذّن مؤذنه على المنار فإذا انتهت الخطبة أُقيمت الصلاة وما عدا ذلك فكله ابتداع.
أما الإقامة وهي الدعوة للصلاة في المسجد، فقد اختلفت الروايات في نصها فرواها محمدبن إدريس الشافعي مفردة إلاّ لفظ "قد قامت الصلاة" فمَثْنَى، ورواها مالكبن أنس مفردة كلها، ورواها أبو حنيفة النعمان مَثْنَى كلها.
يهود المدينة(1/83)
هذا، وكما ابتلى الله المسلمين في مكة بمُشركي قريش ابتلاهم في المدينة بيهودها وهم: بنو قينقاع، وقريظة، والنضير، فإنهم أظهروا العداوة والبغضاء حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق، وكانوا قبل مجيء الرسول يستفتحون على المشركين من العرب إذا شبّت الحرب بين الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه، فلما جاءهم ما عرفوا استعظم رؤساؤهم أن تكون النبوّة في ولد إسماعيل، فكفروا بما أنزل الله بغياً، مع أنهم يرون أن رسول الله محمداً لم يأتِ إلاّ مصدقاً لما بين يديه من كتب الله التي أنزلها على من سبقه من المرسلين، مبيّناً ما أفسده التأويل منها، ولكنهم نبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. ومما عابوه على الإسلام نسخ الأحكام، وما دَرَوا أن القادر العليم يعلم ما يحتاج إليه الإنسان أكثر منهم، فإنه ميال بطبعه للترقّي، والرسول عليه الصلاة والسلام وجد بادىء بدء بين جماعة من العرب أُميين ليسوا على شيء من الاعتقادات الإلهية، فكانت الحكمة داعية لأن يكون التشريع لهم على التدريج، لأنه لو حرَّم الله عليهم شرب الخمر وأكل الربا، وأمرهم بالصلاة والزكاة، وهكذا إلى آخر الأوامر والمناهي التي جاء بها الشرع الإسلامي لما أجابه أحد من هؤلاء النافرة قلوبهم، المختلفة أهواؤهم، الذين كانوا منغمسين في كثير من الأضاليل، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر شيئاً فشيئاً حتى رُوضت عقولهم، وهُذِّبت نفوسهم، وكانت الأحكام لا ينزلها الله عليه إلا عقب الحوادث التي تقتضيها، ليكون التأثير في النفوس أشد، ولكن اليهود أرادوا غَلَّ يد القدرة عن أن تفعل إلا ما يشتهون، وقد حجِّهم القرآن الشريف بما يدل على أنهم يعلمون من نفوسهم البُعد عن الحق، فقال في سورة البقرة: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 94) ثم حتَّم جلّ ذكره(1/84)
عدم إجابتهم بقوله: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (البقرة: 95). فلو كانوا يعلمون من أنفسهم أنهم على الحق لما تأخروا عمّا طُلب منهم مع سهولته، وحرصهم على تكذيب الصادق الأمين، ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه تمنى ذلك ولو نُطْقاً باللسان. وقد تبّين الهدى لأحد رؤساء بني قينقاع وهو عبد اللهبن سَلام، فترك هواه وأسلم بعد أن سمع القرآن، وبعد أن كان اليهود يعدّونه من رؤسائهم، عدّوه من سفهائهم حينما بلغهم إسلامه، فـ{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ} (البقرة: 90)، ولما استحكمت في قلوبهم عداوة الإسلام صاروا يجهدون أنفسهم في إطفاء نوره: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32).
المنافقون(1/85)
وكان يُساعِدُهُم على مقاصدهم جماعة من عرب المدينة أعمى الله بصائرهم، فأخفوا كفرهم خوفاً على حياتهم، وكان يرأس هذه الجماعة عبد اللهبن أبيّ ابن سَلول الخزرجي، الذي كان مرشحاً لرياسة أهل المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أن ضررَ المنافقين أشدُّ على المسلمين من ضرر الكفار، لأن أولئك يدخلون بين المسلمين فيعلمون أسرارهم، ويشيعونها بين الأعداء من اليهود وغيرهم كما حصل ذلك مراراً، والأساس الذي كان عليه رسول الله أن يقبل ما ظهر ويترك لله ما بطن، ولكنه عليه الصلاة والسلام مع ذلك كان لا يأمنهم في عمل ما. فكثيراً ما كان يتغيب عن المدينة، ويولي عليها بعض الأنصار، ولكن لم يُعْهَد أنه وَلَّى رجلاً ممّن عُهِدَ عليه النفاق، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم ما يكون منهم لو وُلُّوا عملاً، فإنهم بلا شك يتخذون ذلك فرصة لإضرار المسلمين، وهذا درس مهم لرؤساء الإسلام، يعلِّمهم أَلاّ يثقوا في الأعمال المهمة إلا بمن لم تظهر عليهم شبهة النفاق أو إظهار ما يخالف ما في الفؤاد.
معاهدة اليهود
هذا، وقد علمتَ أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان: اليهود، والمنافقون، ولكن الرسول قَبِلَ من هؤلاء ظواهرهم، وعقد مع أولئك عهداً مقتضاه ترك الحرب والأذى، فلا يُحَارِبهم ولا يؤذيهم، ولا يعينون عليه أحداً، وإن دهمه بالمدينة عدو ينصرونه، وأقرّهم على دينهم.
مشروعية القتال(1/86)
قد عُلم مما تقدم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يقاتل أحداً على الدخول في الدين، بل كان الأمر قاصراً على التبشير والإنذار، وكان الله سبحانه ينزل عليه من الآي ما يقوّيه على الصبر أمام ما كان يلاقيه من أذى قريش، ومن ذلك قوله في سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 35). وكان كثيراً ما يقصّ الله عليه أنباء إخوانه من المرسلين قبله ليثبت به فؤاده، ولما ازداد طغيان أهل مكة ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على قتله، فكانوا هم البادئين بالعِداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق، فبعد الهجرة أذِن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) 2 3 4 5 6 7 8 9 : ؛ } (الحج: 39، 40). ثم أمرهم بذلك في قوله في سورة البقرة: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذالِكَ جَزَآء الْكَافِرِينَ(191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ(193)(1/87)
وبذلك لم يكن الرسول يتعرض إلا لقريش دون سائر العرب فلما تمالأ على المسلمين غيرُ أهل مكة من مشركي العرب، واتحدوا عليهم مع الأعداء، أمر الله بقتال المشركين كافة، بقوله في سورة التوبة: وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} (التوبة: 36) وبذلك صار الجهاد عامّاً لكل مَنْ ليس له كتاب من الوثنيين وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: "أمرتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ اللهِ، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهُم وأموالهم إلا بحق الإسلامِ، وحسابهم على الله". ولما وجد المسلمون من اليهود خيانة للعهود حيث أنهم ساعدوا المشركين في حروبهم، أمر الله بقتالهم بقوله في سورة الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (الأنفال: 58) وقتالهم واجب حتى يدينوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ليأمن المسلمون جانبهم، وصار قتال رسول الله للأعداء على هذه المبادىء الآتية:
1 ــــ اعتبار مُشرِكي قريش محاربين لأنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين قتالهم ومصادرة تجارتهم حتى يأذن الله بفتح مكة أو تعقد هدنة وقتية بين الطرفين.
2 ــــ متى رُئِيَ من اليهود خيانة وتحيّز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم بالنفي أو القتل.
3 ــــ متى تعدّت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشاً قوتلت حتى تدين بالإسلام.
4 ــــ كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن بالإسلام أو يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر.
5 ــــ كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إلا بحقه، والإسلام يقطع ما قبله.(1/88)
وقد أنزل الله في القرآن الكريم كثيراً من الآي تحريضاً على الإقدام في قتال الأعداء وتبعيداً عن الفرار من الزحف، فقال في الموضوع الأول في سورة النساء: {فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 74). وقال في الموضوع الثاني في سورة الأنفال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ(15) وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)
بدء القتال
كانت عادة قريش أن تذهَب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاع، ويُسمى الركبُ السائر بهذه التجارة عِيْراً، وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم وسَرَاتِهم، ولا بد لوصولهم إلى الشام من المرور على دار الهجرة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصادِرَ تجارتهم ذاهبةً وآيبة، ليكون في ذلك عقاب لمشركي مكة، حتى تضعف قوتهم المالية، فيكون ذلك أدعى لخذلانهم في ميدان القتال الذي لا بدّ أن يكون، لأن قريشاً لم تكن لتسكت عمّن سفَّه أحلامهم وعاب عبادتهم خصوصاً وهم قدوة العرب في الدين.
سرية
ففي شهر رمضان أرسل عمَّه حمزةبن عبد المطلب في ثلاثين رجلاً من المهاجرين، وعقد لهم لواء أبيض حمله أبو مَرْثَد حليف حمزة، ليعترض عِيراً لقريش آيبة من الشام، فيها أبو جهل وثلاثمائة من أصحابه المشركين، فسار حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية العِيص فصادف العير هناك، فلما تصافّوا للقتال حجز بين الفريقين مَجدِيُّبن عمرو الجُهني فأطاعوه وانصرفوا، وشكر عليه الصلاة والسلام مجدياً على عمله لما كان من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم.(1/89)
وفي شوال أرسل عُبيدةبن الحارث ابن عم حمزة في ثمانين راكباً من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله مِسْطَحبن أُثَاثة ليعترض عيراً لقريش، فيها مِئَتا رجل، فوافوا العير ببطن رابغ فكان بينهما الرمي بالنبل، ثم خاف المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقدادبن الأسود وعتبةبن غَزْوان وكانا قد أسلما وخرجا ليلحقا بالمسلمين.
وفيات
وفي هذه السنة توفي من المهاجرين عثمانبن مظعون أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، ولما دفن أمر عليه الصلاة والسلام بأن يُرَشَّ قبره بالماء، ووضعَ على قبره حجراً، وقال: "أَتَعَلَّمُ به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي"، وهذا كان القصد من وضع الأحجار على المقابر، لا ما يقصده أهل العصور الأخيرة من تشييد الهياكل على القبور، وتصويرها بصور تُرَى في عين الناظر كالأصنام، ليأتي أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفالات كثيرة، تشبه ما كان يفعله مشركو مكة عند معابدهم، ومن العبث فعل شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بأمور الآخرة.
ومات من الأنصار أسعدُبن زُرارة أحد النقباء الاثني عشر، كان رضي الله عنه نقيب بني النجار، ولما مات اختار رسول الله نفسه للنقابة عليهم لأن "ابن أخت القوم منهم" ومات أيضاً البراءبن معرور أحد النقباء، وهو الذي كان يتكلم عن القوم في العقبة الثانية. ومات من مشركي مكة في هذه السنة الوليدبن المغيرة، ولما احتُضر جزع فقال له أبو جهل: ما جزعك يا عم؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت، ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان: لا تخفْ إني ضامن ألاّ يظهر. وفيها أيضاً مات العاصبن وائل السهمي. وقد كفى الله المسلمين شر هذين الشقيّين.
السنَّة الثانية
غزوة وَدَّان(1/90)
ولاثنتي عشرة ليلة خَلَت من السنة الثانية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد أن استخلف عليها سعدبن عبادة، ليعترض عيراً لقريش، فسار حتى بلغ وَدّان، وكان يحمل لواءه عمّه حمزة، ولم يلق هناك حرباً لأن العير كانت قد سبقته، وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم آمنون على أنفسهم ولهم النصر على من رامَهم، وأن عليهم نُصْرَةَ المسلمين إذا دُعوا، ثم رجع إلى المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة.
غزوة بُواط
ولم يمض على رجوعِه غير قليل حتى بلغه أن عيراً لقريش آيبة من الشام فيها أميةبن خلف ومائة من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فسار إليها في مائتين من المهاجرين، وذلك في ربيع الأول، وكان يحمل لواءه سعدُبن أبي وقاص، فسار حتى بلغ بُواط، فوجد العير قد فاتته فرجع ولم يلقَ كيداً، وذلك كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على أنفسهم والاجتهاد في تعمية أخبارهم عن أهل المدينة.
غزوة العُشَيرة
وأعقب رجوعه عليه الصلاة والسلام خروج قريش بأعظم عيرٍ لها فقد جمعوا فيها أموالهم حتى لم يبق بمكة قرشي أو قرشية لها مثقالٌ فصاعداً إلا بعث به في تلك العير، وكان يرأسها أبو سفيانبن حرب ومعه بضعة وعشرون رجلاً، فخرج لها الرسول في جمادى الأولى ومعه مائة وخمسون من المهاجرين، واستخلف على المدينة أبا سلمَةبن عبد الأسد، وحمل لواءه عمه حمزة، ولم يزل سائراً حتى بلغ العُشَيْرة فوجد العير قد مضتْ، وحالفَ عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة بني مُدلِج وحلفاءهم، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع.
غزوة بدر الأولى
وبعد رجوعه عليه الصلاة والسلام بقليل جاء كُرْزُبن جابر الفِهري، وأغار على سَرْح المدينة وهرب، فخرج الرسول في طلبه، واستخلف على المدينة زيدَبن حارثة الأنصاري، وحمل لواءه عليبن أبي طالب، فسار حتى بلغ سَفَوان وفاته كُرزٌ فلم يلق حرباً، وتُسمى هذه الغزوة بدراً الأولى.
سرية(1/91)
وفي رجب من هذه السنة أرسل سرية عدّتها ثمانية رجال، يرأسها عبد اللهبن جحش، وأعطاه كتاباً مختوماً لا يَفُضُّه إلا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه، فسار عبدُ الله يومين، ثم فتح الكتاب فإذا فيه: "إذا نظرت كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نَخْلَةَ، فترصُدَ بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم" وإنما لم يخبرهم عليه الصلاة والسلام بمقصدهم وهم بالمدينة حذراً من شيوع الخبر، فيدل عليهم أحد الأعداء من المنافقين أو اليهود فترصد لهم قريش. ولا يخفى أن عدد السرية قليل لا يمكنه المقاومة، ثم سار عبد الله رضي الله عنه، وفي أثناء السير تخلَّف سعدبن أبي وقّاص وعُتبةبن غَزوان لأنهما أضلا بعيرهما الذي كانا يعتقبانه، وسار الباقون حتى وصلوا نخلة فمرّت بهم عِير قرشية تريد مكة فيها عمروبن الحَضرمي، وعثمانبن عبد اللهبن المغيرة وأخوه نوفل، والحَكمبن كَيسان، فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب، فقتلوا عمروبن الحضرمي، وأسروا عثمان والحكم، وهرب نوفل، واستاقوا العِير وهي أولُ غنيمة غنمها المسلمون من أعدائهم قريش ثم رجعوا، ولم يتمكن المشركون من اللحاق بهم، فلما قدموا المدينة وشاع أنهم قاتلوا في الأشهر الحرم، وعابتهم قريش واليهود بذلك، عَنَّفَهم المسلمون، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: "ما أمرتُكم بقتال في الأشهر الحُرم" فندموا، فأنزل الله في سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 217) فَسُرِّي عنهم وقد طلب المشركون فداء أسيريهما، فقال عليه الصلاة والسلام "حتى يرجعَ سعد وعتبة"، فلما رجعا قَبِلَ عليه الصلاة والسلام الفدية في الأسيرين، فأما الحكمبن كيسان(1/92)
فأسلم وحسن إسلامه وبقي مع المسلمين، وأما عثمان فلحق بمكة كافراً.
تحويل القبلة
مكث عليه الصلاة والسلام بالمدينة ستة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس في صلاته، وكان يحبّ أن تكون قبلته الكعبة ويقلِّبُ وجهه في السماء داعياً الله بذلك. فبينما هو في صلاته إذ أوحى الله إليه بتحويل القبلة إلى الكعبة فتحوّل، وتحوَّلَ مَنْ وراءه. وكانت هذه الحادثة سبباً لافتتان بعض المسلمين الذين ضعفت قلوبهم فارتدوا على أعقابهم. وقد أكثر اليهود من التنديد على الإسلام بهذا التحويل. وما دَرَوا أن لله المشرق والمغرب يهدي مَنْ يشاءُ إلى صراط مستقيم.
صوم رمضان
وفي شعبان من هذه السنة أوجب الله صوم شهر رمضان على الأمة الإسلامية، وكان عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. والصيام من دعائم هذا الدين، والفرائض التي بها يتمّ النظام، فإن الإنسان مجبول على حبّ نفسه، والسعي فيما يعود عليها بالنفع الخاص، تاركاً ما وراء ذلك من حاجات الضعفاء والمساكين، فلا بدّ من وازِع يزعه لحاجات قوم أقعدتهم قواهم عن إدراك حاجاتهم، ولا أقوى من ذوق قوارص الجوع والعطش، إذ بهما تلين نفسه ويتهذب خلقه، فيسهل عليه بذل الصدقات.
صدقة الفطر
ولذلك أوجب الشّارِع الحكيم عقب الصوم زكاة الفطر فترى الإنسان يبذلها بسخاء نفس ومحبة خالصة.
زكاة المال(1/93)
وفي هذا العام فُرضت زكاة الأموال، وهذه هي النظام الوحيد الذي به يأكل الفقراء والمساكين من إخوانهم الأغنياء بلا ضرر على هؤلاء، فإذا بلغت الدنانير عشرين أو الدراهم مائتين، وحال عليها الحول، وجب عليك أن تؤدي ربع عشرها، أي اثنين ونصفاً في كل مائة، وما زاد فبحسابه، وإذا بلغت الشياه أربعين، والبقر ثلاثين، والإبل خمساً، وحال عليها الحول وجب عليك كذلك أن تؤدي منها جرءاً مخصوصاً حدده الشّارِع، ومثلها عروض التجارة، ومحصولات الزراعة كل هذا يقبضه الإمام، ويوزعه على مستحقيه من الفقراء والمساكين وبقية المذكورين في آية الصدقة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(60)
غزوة بدر الكبرى(1/94)
لم يطل العهد بتلك العِير العظيمة التي خرج لها عليه السلام وهي متوجهة إلى الشام، فلم يدركها ولم يزل مترقباً رجوعها، فلما سمع برجوعها نَدَبَ إليها أصحابَهُ، وقال: "هذه عيرُ قريش فاخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموها"، فأجاب قوم، وثَقُلَ آخرون، لظنهم أن الرسول عليه السلام لم يُرِدْ حرباً، فإنه لم يحتفل بها بل قال: "من كان ظهره حاضراً فليركبْ معنا". ولم ينتظر من كان ظهره غائباً. فخرج لثلاثِ ليالٍ خَلَوْنَ من رمضان بعد أن ولَّى على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً: مئتان ونيف وأربعون من الأنصار، والباقون من المهاجرين، ومعهم فَرَسان، وسبعون بعيراً يعتقبونها، والحامل للواء مصعببن عمير العَبْدري. ولما علم أبو سفيان بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم استأجر راكباً ليأتي قريشاً ويخبرهم الخبر، فلما علموا بذلك أدركتهم حميتهم، وخافوا على تجارتهم، فنفروا سِراعاً ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهببن عبد المطلب، فإنه أرسل بدله العاصبن هشامبن المغيرة. وأراد أميةبن خلف أن يتخلَّف لحديث حدَّثه إياه سعدبن معاذ حينما كان معتمراً بعد الهجرة بقليل، حيث قال ــــ كما رواه البخاري ــــ سمعتُ من رسول الله يقول: "إنهم قاتلوك" قال: بمكة؟ قال: لا أدري. ففزع لذلك وحلف ألاَّ يخرج، فعابه أبو جهل ولم يزل به حتى خرج قاصداً الرجوع بعد قليل ولكن إرادة الله فوق كل إرادة، فإن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه. وكذلك عَزَمَ جماعةٌ من الأشراف على القعود فَعِيْبَ عليهم ذلك، وبهذا أجمعتْ رجالُ قريش على الخروج، فخرجوا على الصعب والذلول، أمامهم القَيْنات يغنين بهجاء المسلمين: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} (الأنفال: 48). وقد ضرب الله عمل الشيطان هذا مثلاً يعتبر به ذوو الرأي من بعدهم، فقال في سورة الحشر:(1/95)
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(16) فَلَمَّا تَرَآءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ ( ) ، . } (الأنفال: 48). وكان عدة من خرج من المشركين تسعمائة وخمسين رجلاً معهم مائة فرس وسبعمائة بعير.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يعرف شيئاً مما فعله المشركون، ولم يكن خروجه إلا للعير، فعسكر ببيوت السُّقْيا خارج المدينة، واستعرض الجيش فردَّ مَنْ ليس له قدرة على الحرب، ثم أرسل اثنين يتجسسان الأخبار عن العير. ولما بلغ الرَّوْحاء جاءه الخبر بمسير قريش لمنع عيرهم، وجاءه مخبراه بأن العير ستصل بدراً غداً أو بعد غد، فجمع عليه الصلاة والسلام كبراء الجيش وقال لهم: "أيّها الناس إنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين أنها لكم: العير أو النفير" فتبين له عليه الصلاة والسلام أن بعضهم يريدون غير ذات الشوكة وهي العير ليستعينوا بما فيها من الأموال، فقد قالوا: هلاّ ذكرت لنا القتال فنستعد وجاء مصداق ذلك قوله في سورة الأنفال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال: 7). ثم قام المقدادبن الأسود رضي الله عنه فقالَ: يا رسول الله امضِ لما أمرك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، والله لو سرت بنا إلى بَرْكَ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فدعا له بخير، ثم قال عليه السلام: "أشيروا عليّ أيّها الناس" وهو يريد الأنصار لأن بيعة العقبة ربما يفهم منها أنه لا تَجِب عليهم نصرته إلا ما دام بين أظهرهم. فإن فيها: يا رسول الله إنَّا(1/96)
بُرآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فقال سعدبن معاذ، سيد الأوس: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: "أجل" فقال سعد: قد آمنا بك وصدّقناك، وأعطيناك على ذلك عهودنا، فامضِ لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً، إنّا لصُبُر عند الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعلّ الله يُريك منّا ما تقرّ به عَيْنُك، فسر على بركة الله. فأشرق وجهه عليه السلام، وسُرّ بذلك، وقال كما في رواية البخاري: "أبشروا والله كأني أنظر إلى مصارع القوم" فَعلم القومُ من هذه الجملة أن الحرب لا بدّ حاصلة، وحقيقةً حصلت، فإن أبا سفيان لما علم بخروج المسلمين له ترك الطريق المسلوكة، وسار متّبعاً ساحل البحر فنجا، وأرسل إلى قريش يُعلِمهم بذلك، ويشير عليهم بالرجوع، فقال أبو جهل: لا نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم فيه ثلاثاً: ننحر الجَزور، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. فقال الأخنسبن شريق الثقفي لبني زهرة ــــ وكان حليفاً لهم ــــ: ارجعوا يا قوم فقد نجَّى الله أموالكم فرجعوا، ولم يشهد بدراً زهري ولا عدوي، ثم سار الجيش حتى وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في أرض سهلة لينة.(1/97)
أما جيش المسلمين، فإنه لمّا قارب بدراً أرسل عليه السلام عليّبن أبي طالب والزبيربن العوّام ليعرفا الأخبار، فصادفا سُقاةً لقريش فيهم غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص السهميين، فأتيا بهما، والرسول عليه السلام قائم يصلي، ثم سألاهما عن أنفسهما، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم الماء، فضرباهما لأنهما ظنا أن الغلامين لأبي سفيان. فقال الغلامان: نحن لأبي سفيان فتركاهما. ولما أتمَّ الرسول عليه السلام صلاته، قال: "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟ صدقا والله إنهما لقريش". ثم قال لهما: "أخبراني عن قريش؟" قالا: هم وراء هذا الكَثيب، فقال لهما: "كم هم؟" فقالا: لا ندري. قال: "كم ينحرون كل يوم؟". قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً. قال: "القوم ما بين التسعمائة والألف"، ثم سألهما عمّن في النفير من أشراف قريش فذكرا له عدداً عظيماً، فقال عليه السلام لأصحابه: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها"، ثم ساروا حتى نزلوا بعُدْوَةِ الوادي الدنيا من المدينة بعيداً عن الماء في أرض سبخة، فأصبح المسلمون عطاشاً بعضهم جُنب وبعضهم مُحْدِث، فحدَّثهم الشيطان بوسوسته، ولولا فضل الله عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم، فإنه قال لهم: ما ينتظر المشركون منكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويُذهِب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤوا.(1/98)
فأرسل الله لهم الغيث حتى سال الوادي، فشربوا واتخذوا الحِياض على عُدْوَةِ الوادي، واغتسلوا وتوضؤوا وملؤوا الأسقية، ولبدت الأرض، حتى ثبتت عليها الأقدام، على حين أن كان هذا المطر مصيبة على المشركين فإنه وَحَّل الأرض حتى لم يعودوا يقدرون على الارتحال. ومصداق هذا قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَآء مَآء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ} (الأنفال: 11) وقد أرى الله رسوله في منامه الأعداء كما أراهموه وقت اللقاء قليلي العدد كيلا يفشل المسلمون، وليقضي الله أمراً كان مفعولاً. قال تعالى في سورة الأنفال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ(44)(1/99)
ونُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُونَذْهَلَ عَنْ أَبنائِنا والحَلائِلِ وبعد انقضاء هذه المبارزة، وقف عليه الصلاة والسلام بين الصفوف يعدِلها بقضيب في يده، فمرّ بسوادبن غَزِية حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فضربه بالقضيب في بطنه وقالَ: "استقم يا سواد"، فقال أوجعتني يا رسول الله وقد بُعثت بالحق والعدل فَأَقِدْني من نفسك. فكشف الرسول عليه الصلاة والسلام عن بطنه، وقال: "استقد يا سواد"، فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه. فقال عليه الصلاة والسلام: "ما حملك على ذلك؟" فقال يا رسول الله قد حضر ما ترى فأردتُ أن يكون آخر العهد أن يمسّ جلدي جلدَك، فدعا له بخير، ثم ابتدأ عليه السلام يوصي الجيش فقال: "لا تحملوا حتى آمركم، وإن اكتَنَفكم القوم فانضحوهم بالنبل ولا تَسُلُّوا السيوف حتى يَغْشَوكم" ثم حضّهم على الصبر والثبات، ثم رجع إلى عريشه ومعه رفيقه أبو بكر، وحارسه سعدبن معاذ واقف على باب العريش متوشح سيفه، وكان من دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام ذاك الوقت كما جاء في صحيح البخاري: "اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك، اللهمّ إن شئت لم تُعبد" فقال أبو بكر: حَسْبُك فإن الله سينجز لك وعده. فخرج عليه الصلاة والسلام من العريش وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45)(1/100)
واشتد القتال، وحمي الوطيس، وأيد الله المسلمين بالملائكة بُشرى لهم ولتطمئن به قلوبهم. فلم تكن إلا ساعة حتى هُزم الجمع، وولّوا الدُّبُرَ، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فقتل من المشركين نحوُ السبعين، منهم من قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليدبن عتبة، قُتلوا مبارزة أول القتال، وأبو البَخْتريبن هشام، والجراح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم يزدجر، وقُتل أُميةبن خلف وابنه علي، اشترك في قتلهما جماعة من الأنصار مع بلالبن رباح وعمّاربن ياسر، وقد سعيا في ذلك لما كان يفعله بهما أُمَيّةُ في مكة. ومن القتلى حنظلةبن أبي سفيان، وأبو جهلبن هشام، أثخنه فَتيان صغيران من الأنصار، لما كانا يسمعانه من أنه كان شديدَ الإيذاء لرسول الله، وأجهز عليه عبد اللهبن مسعود، وقُتل نوفلبن خويلد قتله عليبن أبي طالب، وقتل عبيدة والعاصي ولدا أبي أُحَيْحَةَ سعيدِ بنِ العاصِ بنِ أمية، وقُتِل كثيرون غيرهم. أما الأسرى فكانوا سبعين أيضاً، قتلَ منهم عليه السلام وهو راجع عقبةَبن أبي مُعيط، والنضرَبن الحارث اللذين كانا بمكة من أشد المستهزئين. وكانت هذه الواقعة في (17) رمضان، وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القرآن وبين التاريخين (14) سنة قمرية كاملة.(1/101)
وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقتلى فنُقلوا من مصارعهم التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بها قبل حصول الموقعة إلى قليب بدر، لأنه عليه السلام كان من سُننه في مغازيه إذا مرّ بجيفة إنسان أمر بها فدفنت، لا يسأل عنه مؤمناً أو كافراً. ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة أحد السابقين إلى الإسلام تغير وجه ابنه ففطن الرسول عليه السلام لذلك، فقال: "لعلّك دخلك من شأن أبيك شيء؟" فقال: لا والله ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له الرسول عليه السلام بخير، ثم أمر عليه السلام براحِلته فشُدَّ عليها حتى قام على شَفَةِ القليب الذي رمي فيه المشركون، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلانبن فلان ويا فلانبن فلان أيسرّكم أنكم كنتم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟" فقال عمر: يا رسول الله ما تُكَلِّمُ من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال: "والذي نفسُ محمد بيده ما أنتم بأسمَعَ لما أقولُ منهم". وتقول عائشة رضي الله عنها إنما قال: "إنهم الآن ليعلمون أَنَّ ما كنتُ أقول لهم حق"، ثم قرأت: إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (النمل: 80) {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} (فاطر: 22)، يقول: "يعلمون ذلك حينما تبوّؤوا مقاعدهم من النار". رواه البخاري. ثم أرسل عليه السلام المبشرين، فأرسل عبد اللهبن رواحة لأهل العالية، وأرسل زيدبن حارثة لأهل السافلة راكباً على ناقة رسول الله، وكان المنافقون والكفار من اليهود قد أرجفوا بالرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، عادة الأعداء في إذاعة الضرّاء، يقصدون بذلك فتنة المسلمين، فجاء أولئك المبشرون بما سرّ أهل المدينة، وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت رسول الله وزوج عثمان. ثم قفل رسول الله راجعاً، وهنا وقع خُلف بين بعض المسلمين في قسمة(1/102)
الغنائم، فالشبان يقولون: باشرنا القتال، فهي لنا خالصة، والشيوخ يقولون: كنا ردءاً لكم فنشارككم. ولما كان هذا الاختلاف مما يدعو إلى الضعف، ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى تشتت الشمل أنزل الله حسماً لهذا الخلاف أول سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ ( ) :1} (الأنفال: 1) فسطع على أفئدتهم نور القرآن، فتألّفت بعد أن كادت تفترق، وتركوا أمر الغنائم لرسول الله يضعها كيف شاء ــــ كما حكم القرآن ــــ فقسمها عليه الصلاة والسلام على السواء الراجل مع الراجل، والفارس مع الفارس، وأدخل في الأسهام بعض مَنْ لم يحضر لأمر كُلف به وهم: أبو لُبابة الأنصاري لأنه كان مخلَّفاً على أهل المدينة، والحارثبن حاطب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خلفه على بني عمروبن عوف ليحقّق أمراً بلغه، والحارثبن الصمَّة وخَوَّاتبن جبير لأنهما كُسِرا بالرَّوْحَاءِ فلم يتمكنا من السير، وطلحةبن عبيد الله، وسعيدبن زيد لأنهما أُرسِلا يتجسسان الأخبار، فلم يرجعا إلا بعد انتهاء الحرب، وعثمانبن عفان لأن الرسول عليه السلام خلَّفه على ابنته رقيّة يمرضها، وعاصمبن عدي لأنه خلفه على أهل قُباء والعالية، وكذلك أسهم لمن قتل ببدر وهم أربعة عشر منهم عُبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم الذي جُرح في المبارزة الأولى، فإنه رضي الله عنه مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بالصَّفراء. ولما قارب عليه السلام المدينة تلقته الولائد بالدفوف يقلن:
طلع البدر علينامن ثنيّات الوداعوجب الشكر عليناما دعا لله داعأيّها المبعوث فيناجئت بالأمر المُطاع
أسرى بدر(1/103)
ولما دخلوا المدينة استشار عليه الصلاة والسلام أصحابه فيما يفعل بالأسرى، فقال عمربن الخطاب: يا رسول الله قد كذّبوك وقاتلوك وأخرجوك فأرى أن تمكِّنني من فلان ــــ لقريب له ــــ فأضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه العباس، وعليّاً من أخيه عقيل. وهكذا حتى يعلم الناس أنه ليس في قلوبنا مودّة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى، فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. ووافقه على ذلك سعدبن معاذ وعبد اللهبن رواحة، وقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء أهلك وقومك قد أعطاك الله الظفر والنصر عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونوا لك عضداً. فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله ليُلِّين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب أقوام حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم: 36) وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} (نوح: 26)" ورأى عليه الصلاة والسلام رأي أبي بكر بعد أن مدح كلاًّ من الصاحبين لأن الوجهة واحدة وهي إعزاز الدين، وخذلان المشركين، ثم قال لأصحابه: "أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد من أسراكم إلا بفداء" وقد بلغ قريشاً ما عزم عليه رسول الله في أمر الأسرى، فناحت على القتلى شهراً، ثم أشير عليهم من كبارهم ألاّ يفعلوا كيلا يبلغ محمداً وأصحابه جزعهم فيشمتوا بهم، فسكتوا وصمّموا على ألا يبكوا قتلاهم حتى يأخذوا بثأرهم، وتواصوا فيما بينهم ألاّ يعجلوا في طلب الفداء لئلا يتغالى المسلمون فيه.
الفداء(1/104)
فلم يلتفت إلى ذلك المطَّلببن أبي وَدَاعة السهمي، وكان أبوه من الأسرى، فخرج خفية حتى أتى المدينة وفدى أباه بأربعة آلاف درهم، وعند ذلك بعثت قريش في فداء أسراها، وكان أربعة آلاف إلى ألف درهم، ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن القراءة والكتابة أعطوه عشرة من غلمان المدينة يُعلِّمهم، وكان ذلك فداءَه.
ومن الأسرى عمروبن أبي سفيان، ولما طُلب من أبيه فداؤه أبى، وقال: والله لا يجمع محمد بين ابني ومالي، دعوه يمسكوه في أيديهم ما بدا لهم. فبينما أبو سفيان بمكة إذ وجد سعدبن النعمان الأنصاري معتمراً، فعدا عليه فحبسه بابنه عمرو، فمضى قوم سعد إلى رسول الله وأخبروه فأعطاهم عَمْراً ففكّوا به سعداً.
ومن الأسرى أبو العاصبن الربيع زوج زينب بنت الرسول، وكان عليه الصلاة والسلام قد أثنى عليه خيراً في مصاهرته، فإنه لما استحكمت العداوة بين قريش ورسول الله بمكة، طلبوا من أبي العاص أن يطلِّق زينب كما فعل ابنا أبي لهب بابنتي الرسول، فامتنع وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بها امرأة من قريش، ولما أُسر أرسلت زينب في فدائه قِلادة لها كانت حلَّتها بها أمها خديجة ليلة عرسها. فلما رأى عليه الصلاة والسلام تلك القلادة رَقَّ لها رقّة شديدة، وقال لأصحابه: "إنْ رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا لها قلادتها فافعلوا" فرضي الأصحابُ بذلك، فأطلقه عليه الصلاة والسلام بشرط أن يترك زينب تهاجر إلى المدينة. فلما وصل إلى مكة أمرها باللحاق بأبيها، وكان الرسول أرسل لها من يأتي بها فاحتملوها. هذا، ولما أسلم أبو العاصبن الربيع قبيل الفتح ردّ عليه امرأته بالنكاح الأول.(1/105)
ومن الأسرى: سُهيلبن عمرو، وكان من خطباء قريش وفصحائها وطالما آذى المسلمين بلسانه، فقال عمربن الخطاب: دَعْني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل، يَدْلع لسانُهُ، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا أُمثِّل فيُمَثِّل الله بي وإن كنت نبيّاً، وعسى أن يقوم مقاماً لا تذمّه" وقدم بفدائه مكرزبن حفص، ولما ارتضى معهم على مقدارٍ حبس نفسه بدله حتى جاء بالفداء. هذا، وقد حقّق الله خبر الرسول في سهيل، فإنه لما مات عليه الصلاة والسلام أراد أهل مكة الارتداد كما فعل غيرهم من الأعراب، فقام سهيل هذا خطيباً وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله: أيها الناس مَنْ كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت ألم تعلموا أن الله قال: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ(30) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) ثم قال: والله إني أعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها فلا يغرّنكم هذا ــــ يريد أبا سفيان ــــ من أنفسكم، فإنه يعلم من هذا الأمر ما أعلم لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربّكم، فإن دين الله قائم، وكلمته تامّة، وإن الله ناصِر من نصره ومقوَ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم ــــ يريد أبا بكر ــــ وإن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه. فتراجع الناس عمّا كانوا عزموا عليه، وكان هذا الخبر من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومن الأسرى: الوليدبن الوليد افتكَّه أخواه خالد وهشام، فلما افْتُدِيَ ورجع إلى مكة أسلم فقيل له: هلاّ أسلمت قبل الفِداء؟ فقال خفت أن يعدّوا إسلامي خوفاً. ولما أراد الهجرة منعه أخواه ففرّ إلى النبي في عمرة القضاء.(1/106)
ومن الأسرى: السائببن يزيد، وكان صاحب الراية في تلك الحرب، فدى نفسه. وهو الجد الخامس للإمام محمدبن إدريس الشافعي.
ومنهم: وهببن عُمَيْرٍ الجُمَحِيّ كان أبوه عمير شيطاناً من شياطين قريش كثير الإيذاء لرسول الله، جلس يوماً بعد انتهاء هذه الحرب مع صفوانبن أمية يتذاكران مُصاب بدر، فقال عمير: والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس عندي قضاؤه وعِيال أخشى عليهم الفقر بعدي، كنت آتي محمداً فأقتله، فإن ابني أسير في أيديهم، فقال صفوان: دَينك عليّ وعيالك مع عيالي، فأخذ عُمير سيفه وشحذه وسمّه، وانطلق حتى قَدِم المدينة، فبينا عمر مع نفر من المسلمين إذ نظر إلى عمير متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو لله ما جاء إلا بشرَ، ثم قال للنبي عليه الصلاة والسلام: هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، فقال: "أدخله عليّ". فأخذ عمر بحمائل سيفه وأدخله. فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: "أطلقه يا عمر ادن يا عمير" فدنا، وقال: أنعِموا صباحاً، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد أبدلنا الله تحية خيراً من تحيتك وهي: السلام"، ثم قال: "ما جاء بك يا عمير؟" قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، فقال: "فما بالُ السيف؟" قال: قبَّحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال عليه الصلاة والسلام: "اصدُقني ما الذي جئتَ له؟" قال: ما جئت إلا لذلك. قال عليه الصلاة والسلام: "كلا بل قعدتَ أنت وصفوان في الحِجْرِ وقلتما كيت وكيت"، فأسلم عُمير وقال: كنّا نكذّبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فقال عليه الصلاة والسلام: "فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا أسيره"، فعاد عمير إلى مكة وأظهر إسلامه.(1/107)
ومن الأسرى: أبو عزيزبن عمير، أخو مصعببن عمير. مرّ به أخوه فقال للذي أسره: شُدَّ يدك به، فإن أمه ذات متاع لعلّها تفديه منك. فقال له: يا أخي هذه وصايتك بي؟ ثم بعثت أمه بفدائه أربعة آلاف درهم.
ومن الأسرى: العباسبن عبد المطلب عَمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قد خرج لهذه الحرب مكرهاً، ولما وقع في الأسر طُلب منه فداء نفسه وابن أخيه عقيلبن أبي طالب، فقال: علامَ ندفع وقد استكرهنا على الخروج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد كنت في الظاهر علينا"، فأُخذت منه فديه نفسه وابن أخيه، ثم قال للرسول: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت، قال: "كيف وقد تركت لأُم الفضل أموالاً؟ وقلتَ لها: إن متُّ فقد تركتك غنية" فقال العباس: والله ما اطلّع على ذلك أحد. وهذا العمل غاية ما يفعل من العدل والمساواة فإنه عليه الصلاة والسلام لم يُعفِ عمَّه مع علمه بأنه إنما خرج مُكرهاً، وقد أعفى غيره جماعة تحقق له فقرهم فهكذا العدل، ولا غرابة، فذلك أدب قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ} (النساء: 135).
ومن الأسرى: أبو عَزَّة الجُمَحي الشاعر، كان شديد الإيذاء لرسول الله بمكة فلما أُسر قال: يا محمد إني فقير، وذو عيال، وذو حاجة قد عرفتها فامْنُنْ، فمنَّ عليه فضلاً منه.
العتاب في الفداء
ولما تَمَّ الفداءُ أنزل الله في شأنه: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(68)(1/108)
نهى سبحانه عن اتخاذ الأسرى قبل الإثخان في قتل الذين يصدّون عن سبيل الله ويمنعون دين الله من الانتشار، وعابَ بعضَ المسلمين على إرادة عَرَضِ الدنيا وهو الفدية، ولولا حكم سابق من الله ألا يُعَاقِبَ مجتهداً على اجتهاده ما دام المقصد خيراً لكان العذاب، ثم أَباح لهم الأكل من تلك الفدية المبني أخذها على النظر الصحيح. وهذا من أقوى الأدلة على صدق نبيّنا عليه الصلاة والسلام فيما جاء به، لأنه لو كان من عنده ما كان يعاتب نفسه على عمل عمله بناءً على رأي كثير من الصحابة. وقد وعد الله الأسرى الذين يعلم في قلوبهم خيراً بأن يؤتيهم خيراً مما أُخِذَ منهم ويغفر لهم فقال: يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(70)
وهذه الغزوة هي التي أعزّ الله بها الإسلام وقوّى أهله، ودمغ فيه الشرك وخرّب محله، مع قلّة المسلمين وكثرة عدوهم، فهي آية ظاهرة على عناية الله تعالى بالإسلام وأهله مع ما كان عليه العدو من القوة بسوابغ الحديد والعدّة الكاملة، والخيل المسوَّمة، والخيلاء الزائدة، ولذلك قال الله ممتناً على عباده بهذا النصر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} (آل عمران: 123) أي: قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، فهي أعظم غزوات الإسلام، إذ بها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، فقد قتل فيها من صناديد قريش من كانوا الأعداء الألدّاء للإسلام، ودخل الرعب في قلوب العرب الآخرين، فكانت للمسلمين هيبة بها يكسرون الجيوش، ويهزمون الرجال، فلا جَرَمَ أن شكرنا العليَّ الأعلى على هذه العناية، واتخذنا يوم النصر في بدر وهو السابع عشر من شهر رمضان عيداً نتذكر فيه نعمة الله على رسوله وعلى المسلمين.
غزوة بني قَينُقاع(1/109)
هذا، وإذا كان للشخص عدوَّان فانتصر على أحدهما حَرَّك ذلك شجو الآخر، وهاج فؤاده، فتبدو بغضاؤه غير مكترث بعاقبة عدائه، وهذا ما حصل من يهود بني قينقاع عند تمام الظفر في بدر، فإنهم نبذوا ما عاهدوا المسلمين عليه، وأظهروا مكنون ضمائرهم، فبدت البغضاء من أفواههم، وانتهكوا حرمة سيدة من نساء الأنصار، وهذا ما يدعو المسلمين للتحرّز منهم وعدم ائتمانهم في المستقبل إذا شبّت الحرب في المدينة بين المسلمين وغيرهم، فأنزل الله في سورة الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْإِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (الأنفال: 58) فدعا عليه الصلاة والسلام رؤساءهم وحذّرهم عاقبة البغي ونكث العهد، فقالوا: يا محمد لا يغرنّك ما لقيت من قومك فإنهم لا علم لهم بالحرب ولو لقيتنا لَتعلمَن أنّا نحن الناس، وكانوا أشجع يهود، فأنزل الله في سورة آل عمران: قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12) قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى الاْبْصَارِ(13) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (المائدة: 51 ــــ 52).(1/110)
وعندما تظاهر يهود قينقاع بالعداوة وتحصنوا بحصونهم، سار إليهم عليه الصلاة والسلام في نصف شوال من هذه السنة، يحمل لواءه عمه حمزة، وخلَّف على المدينة أبا لبابة الأنصاري، فحاصرهم خمس عشرة ليلة.
جلاء بني قينقاع
ولما رأوا من أنفسهم العجز عن مقاومة المسلمين، وأدركهم الرعب، سألوا رسول الله أن يخلي سبيلهم، فيخرجوا من المدينة ولهم النساء والذريّة، وللمسلمين الأموال. فقَبِل ذلك عليه الصلاة والسلام، ووكَّل بجلائهم عبادةبن الصامت وأمهلهم ثلاث ليالٍ، فذهبوا إلى أَذْرعات، ولم يحل عليهم الحَوْل حتى هلكوا، وخمَّس عليه الصلاة والسلام أموالهم، وأعطى سهم ذوي القربى لبني هاشم ولبني المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل، ولما سُئِل عن ذلك قال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد في الجاهلية والإسلام هكذا"، وشبك بين أصابعه.
غزوة السَّويق
كان أبو سفيان متهيجاً، لأنه لم يشهد بدراً التي قتل فيها ابنه وذوو قرباه فحلف ألاّ يمسّ رأسه الماء حتى يغزو محمداً، وليبرّ بقسمه خرج بمائتين من أصحابه يريد المدينة، ولما قارَبها، أراد أن يقابل اليهود من بني النضير ليهيجهم، ويستعين بهم على حرب المسلمين، فأتى سيدهم حُيَيَّبن أَخْطَب فلم يرضَ مقابلته، فأتى سَلاّمبن مِشْكم فأذن له واجتمع به، ثم خرج من عنده، وأرسل رجالاً من قريش إلى المدينة، فحرَّقوا في بعض نخلها، ووجدوا أنصارياً فقتلوه، ولما علم بذلك رسول الله، خرج في أثرهم في مائتين من أصحابه، لخمس خَلَون من ذي الحجة، بعد أن ولّى على المدينة بَشِيربن عبد المنذر، ولكن لم يلحقهم، لأنهم هربوا وجعلوا يخفّفون ما يحملونه ليكونوا أقدر على الإسراع، فألقوا ما معهم من جربِ السَّوِيق، فأخذه المسلمون، ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة السَّوِيق.
صلاة العيد(1/111)
وفي هذا العام سنّ الله للعالم الإسلامي سنّة عظيمة، بها يتمكن أبناء البلد الواحد من المسلمين أن يجددوا عهود الإِخاء، ويقووا عُروة الدين الوثقى، وهي الاجتماع في يومي عيد الفطر وعيد الأضحى. وكان عليه الصلاة والسلام يجمع المسلمين في صعيد واحد، ويصلي بهم ركعتين تضرعاً إلى الله أن لا يَفْصِم عروتهم، وأن ينصرهم على عدوهم، ثم يخطبهم حاضَّاً لهم على الائتلاف، ومذكراً لهم ما يجب عليهم لأنفسهم، ثم يصافح المسلمون بعضهم بعضاً، وبعد ذلك يخرجون لأداء الصدقات للفقراء والمساكين، حتّى يكون السرور عامّاً لجميع المسلمين، فبعد الفطر زكاته، وبعد الأضحى تضحيته، نسأله تعالى أن يؤلّف بين قلوبنا، ويوفّقنا لأعمال سلفنا.
زواج علي بفاطمة عليهما السلام
وفي هذه السنة تزوج عليبن أبي طالب وعمره إحدى وعشرون سنة بفاطمة بنت رسول الله، وسنها خمس عشرة سنة، وكان منها عقب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوه: الحسن والحسين وزينب. وفيها دخل عليه الصلاة والسلام بعائشة بنت أبي بكر وسِنُّها إذ ذاك تسع سنوات.
السَّنة الثّالِثَة
يا لله يُقضى على الشقي بالشقاوة حتى لا يسمع ولا يبصر، فيتخذ الغدر رداءً، والخيانة شعاراً، فلا ينجح معه إلا إراحة العالم من شرّه. هذا كعببن الأشرف اليهودي عظيم بني النضير، أعمته عداوة المسلمين حتى خلعَ بُرقُع الحياء، وصار يحرض قريشاً على حرب رسول الله، ويهجوه بالشعر، ويجتهد في إثارة الشحناء بين المسلمين، فكلما جبر عليه الصلاة والسلام كسراً هاضه هذا الشقيُّ بما ينفثه من سموم لسانه.
قتل كعببن الأشرف(1/112)
ولما انتصر المسلمون ببدر، ورأى الأسرى مقرَّنينَ في الحبال خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرِّضهُم على حرب المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام: "من لكعببن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟" فقال محمدبن مسلمة الأنصاري الأوسي: أتحِبُّ أن أقتله؟ قال: "نعم"، قال: أنا لك به، وائذنْ لي أقول شيئاً أتمكن به، فأذن له، ثم خرج ومعه أربعة من قومه حتى أتى كعباً فقال له: إن هذا الرجل ــــ يريد رسول الله ــــ قد سألنا صدقة وإنه قد عَنَّانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضاً والله لتملّنهُ، قال: إنا قد اتّبعناه، فلا نحبُّ أن ندعه حتى ننظر إلى أيّ شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تُسْلِفنا وسْقاً أو وسقين. قال: نعم ولكن ارْهَنُوني. قالوا: أي شيء تُريد؟ قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نَرْهَنُك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فَيُسَبُّ أحدهم، فيقال: رُهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأْمَةَ ــــ يعني: السلاح ــــ فرضي، فواعده ليلاً أن يأتيه فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة أخو كعب من الرضاع وعبَّادبن بِشر، والحارثبن أوس، وأبو عبس ابنُ جَبْر ــــ وكلهم أوسيّون ــــ فناداه محمدبن مسلمة، فأراد أن ينزلَ، فقالت له امرأته: أين تخرج الساعة وإنك امرؤ مُحارب؟ فقال: إنما هو ابن أخي محمدبن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب. ثم قال محمد لمن معه: إذا جاءني فإني آخذ بشعره فأشَمُّهُ، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فاضربوه، فنزل إليهم كعب متوشِّحاً سيفه، وهو يَنْفَحُ منه ريح المسك. فقال محمد: ما رأيت كاليوم ريحاً أطيب، أتأذن لي أن أَشمَّ رأسك؟ قال: نعم فشمَّه، فلما استمكن منه قال: دونكم فاقتلوه ففعلوا، وأراح الله المسلمين من شر أعماله التي كان يقصدها بهم، ثم أتوا النبي فأخبروه، وكان قتل هذا الشقي في ربيع الأول من هذا العام، وكان عليه الصلاة(1/113)
والسلام إذا رأى من رئيس غدراً، ومقاصد سوء، ومحبة لإثارة الحرب، أرسل له من يُريحه من شرّه. وقد فعل كذلك مع أبي عَفَك اليهودي وكان مثل كعب في الشر.
غزوة غَطَفَان
بلغ رسول الله أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برياسة رئيس منهم اسمه دُعْثُور، يريدون الغارة على المدينة، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يَغُلَّ أيديهم كيلا يتمكنوا من هذا الاعتداء، فخرج إليهم من المدينة في أربعمائة وخمسين رجلاً لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وخلف على المدينة عثمانبن عفان. ولما سمعوا بسير رسول الله هربوا إلى رؤوس الجبال، ولم يَزَل المسلمون سائرين حتى وصلوا ماء يُسمى ذا أَمَرَّ، فعسكروا به، وحدث أنه عليه الصلاة والسلام نزع ثوبه يجفِّفه من مطر بلَّله وارتاح تحت شجرة والمسلمون متفرقون، فأبصره دُعثور فأقبل إليه بسيفه حتى وقف على رأسه، وقال: مَنْ يمنعك مني يا محمد؟ فقال: "الله"، فأدركت الرجل هيبةٌ ورعبٌ أسقطا السيف من يده، فتناوله عليه الصلاة والسلام، وقال لدعثور: "مَنْ يمنعك مني"؟ قال: لا أحد. فعفا عنه فأسلم الرجل، ودعا قومه للإسلام، وحوّل الله قلبه من عداوة رسول الله، وَجمْع الناس لحربه إلى محبته وجمع الناس له، {ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآء} (المائدة: 54) وهذا ما ينتجه حسن المعاملة، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159).
غزوة بُحْران
بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من بني سُليم يريدون الغارة على المدينة، فسار إليهم في ثلاثمائة من أصحابه لِسِتَ خَلَون من جمادى الأولى، وخلَّف على المدينة ابن أم مكتوم، ولما وصل بُحران تفرقوا، ولم يلق كيداً فرجع.
سرية(1/114)
لما تيقنت قريش أن طريق الشام من جهة المدينة أُغلق في وجه تجارتهم، ولا يمكنهم الصبر عنها لأن بها حياتهم، أرسلوا عِيراً إلى الشام من طريق العراق، وكان فيها جمع من قريش منهم أبو سفيانبن حرب، وصفوانبن أمية، وحويطببن عبد العزى، فجاءت أخبارهم لرسول الله، فأرسل لهم زيدبن حارثة في مائة راكب يترقبونهم، وكان ذلك في جمادى الآخرة، فسارت السرية حتى لقيت العِير على ماء اسمه القَرْدَة بناحية نجد فأخذت العِير وما فيها، وهرب الرجال، وقد خمَّس الرسول عليه الصلاة والسلام هذه حينما وصلت له.
غزوة أُحُد(1/115)
ولما أصابَ قريشاً ما أصابها ببدر، وأُغْلِقت في وجوههم طرق التجارة، اجتمع مَنْ بقي من أشرافهم إلى أبي سفيان رئيس تلك العير التي جلبت عليهم المصائب، وكانت موقوفة بدار الندوة، ولم تكن سُلِّمت لأصحابها بعد، فقالوا: إن محمداً قد وَتَرنا، وقتل خيارنا، وإنّا رضينا أن نتركَ ربح أموالنا فيها، استعداداً لحرب محمد وأصحابه، وقد رضي بذلك كلُّ من له فيها نصيب، وكانَ ربحها نحواً من خمسين ألف دينار، فجمعوا لذلك الرجال، فاجتمع من قريش ثلاثة آلاف رجل ومعهم الأحابيش ــــ وهم حلفاؤهم من بني المصْطَلق وبني الهونبن خزيمة، ومعهم أبو عامر الراهب الأوسي، وكان قد فارق المدينة كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عدد ممّن هم على شاكلته، وخرج معهم جماعات من أعراب كِنانة وتهامة، وقال صفوانبن أمية لأبي عَزّةَ الشاعر ــــ الذي لا ينسى القارىء أن الرسول مَنَّ عليه ببدر وأطلقه من غير فداء ــــ: إنك رجل شاعر فأعِنّا بلسانك، فقال: إني عاهدت محمداً ألاّ أعِين عليه، وأخاف إن وقعتُ في يده مرة ثانية ألا أنجو، فلم يزل به صفوان حتى أطاعه، وذهب يستنفر الناس لحرب المسلمين، ودعا جُبيربن مُطْعِمٍ غلاماً حبشياً له، اسمه وَحشي، وكان رامياً قلّما يُخطىء، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة بعمِّي طُعَيْمة فأنت حر. ثم خرج الجيش، ومعهم القِيانُ والدفوف والمعازف والخمور، واصطحب الأشرافُ منهم نساءهم كيلا ينهزموا، ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحُلَيفة.(1/116)
أما رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان قد بلغه الخبر من كتاب بعث به إليه عمه العباسبن عبد المطلب، الذي لم يخرج مع المشركين في هذه الحرب، محتجّاً بما أصابه يوم بدر. ولما وصلت الأخبار باقتراب المشركين، جمع عليه الصلاة والسلام أصحابه وأخبرهم الخبر، وقال: "إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن هم أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم" فكان مع رأيه شيوخ المهاجرين والأنصار ورأى ذلك أيضاً عبد اللهبن أُبيّ، أما الأحداث وخصوصاً مَنْ لم يشهد بدراً منهم فأشاروا عليه بالخروج، وكان مع رأيهم حمزةبن عبد المطلب، وما زال هؤلاء بالرسول حتى تبع رأيهم، لأنهم الأكثرون عدداً والأقوون جلداً، فصلى الجمعة بالناس في يومها لعشر خَلَون من شوال، وحضّهم في خطبتها على الثبات والصبر وقال لهم: "لكم النصر ما صبرتم" ثم دخل حجرته، ولبس عدّته، فظاهر بين درعين، وتقلد السيف، وألقى الترس وراء ظهره. ولما رأى ذوو الرأي من الأنصار أن الأحداث استكرهوا الرسول على الخروج لاموهم، وقالوا: ردّوا الأمر لرسول الله، فما أمر ائتمرنا، فلما خرج عليه الصلاة والسلام، قالوا: يا رسول الله نَتَّبعُ رأيك، فقال: "ما كان لنبي لَبِسَ سلاحه أن يضعه حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه" ثم عقد الألوية فأعطى لواء المهاجرين لمصعببن عمير، ولواء الخزرج للحُباببن المنذر، ولواء الأوس لأُسيدبن الحضير، وخرج من المدينة بألف رجل. فلما وصلوا رأس الثنية، نظر عليه الصلاة والسلام إلى كتيبة كبيرة، فسأل عنها، فقيل: هؤلاء حلفاء عبد اللهبن أُبيّ من اليهود، فقال: "إنّا لا نستعين بكافر على مشرك" وأمر بردّهم لأنه لا يأمن جانبهم من حيث لهم اليد الطُولى في الخيانة.g ثم استعرض الجيش فردَّ من استصغر، وكان فيمن ردّ: رافعبن خديج، وسَمُرَةبن جُندب، ثم أجاز رافعاً لما قيل له إنه رامٍ، فبكى سَمُرة، وقال لزوج أمه: أجاز رسول الله رافعاً وردّني مع(1/117)
أني أصرعه، فبلغ رسول الله الخبر، فأمرهما بالمصارعة، فكان الغالب سمرة، فأجازه. ثم بات عليه الصلاة والسلام محله ليلة السبت، واستعمل على حرس الجيش محمدبن مسلمة، وعلى حرسه الخاص ذكوانبن عبد قيس. وفي السَّحَر سار الجيش حتى إذا كان بالشَّوْطِ ــــ وهو بستان بين أُحُد والمدينة ــــ رجع عبد اللهبن أُبَيَ بثلاثمائة من أصحابه وقال: عصاني وأطاع الوِلْدان فعلام نقتل أنفسنا؟ فتبعهم عبد اللهبن عمرو والد جابر، وقال: يا قوم أُذَكِّركُمُ الله ألا تخذلوا قومكم ونبيّكم، {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} (آل عمران: 167) فقال لهم: أَبْعَدَكُم الله، فسيغني الله عنكم نبيّه. ولما فعل ذلك عبد اللهبن أُبَيّ، همَّت طائفتان من المؤمنين أن تفشلا: بنو حارثة من الأوس، وبنو سَلِمة من الخزرج، فعصمهما الله. وقد افترق المسلمون فرقتين فيما يفعلون بالمنخذلين، فقوم يقولون: نقاتلهم، وقوم يقولون: نتركهم، فأنزل الله في سورة النساء: {فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(88)(1/118)
هذا، ولما قُتل حَمَلةُ اللواء من المشركين، ولم يقدر أحدٌ على الدنو منه ولَّوا الأدبار ونساؤهم يبكين ويُولولن، وتبعهم المسلمون يجمعون الغنائم والأسلاب، فلما رأى ذلك الرماة الذين يحمون ظهور المسلمين فوق الجبل، قالوا: ما لنا في الوقوف من حاجة، ونسوا أمر السيد الحكيم صلى الله عليه وسلم، فذكرّهم رئيسهم به فلم يلتفتوا وانطلقوا ينتهبون. أما رئيسُهم فثبت وثبت معه قليل منهم، فلما رأى خالدُبن الوليد ــــ أحدُ رؤساء المشركين ــــ خُلُوَّ الجبل من الرماة، انطلق ببعض الجيش، فقتل من ثبت من الرماة، وأتى المسلمين من ورائهم وهم مشتغلون بدنياهم، فلما رأوا ذلك البلاء دهشوا وتركوا ما بأيديهم، وانتقضتْ صفوفهم، واختلطوا من غير شعار، حتى صار يضرب بعضُهم بعضاً، ورفعت إحدى نساء المشركين اللواء فاجتمعوا حوله، وكان من المشركين رجل يقال له ابن قَمِئَةَ قتل مُصعَببن عمير صاحب اللواء، وأشاع أن محمداً قد قتل، فدخل الفشلُ في المسلمين حتى قال بعضُهم: علامَ نقاتل إذا كان محمد قد قُتل؟ فارجعوا إلى قومكم يؤَمِّنُوكم. وقال جماعة: إذا كان محمد قد قُتل فقاتلوا عن دينكم. وكان من نتيجة هذا الفشل أن انهزم جماعةٌ من المسلمين، من بينهم: الوليدبن عقبة، وخارجةبن زيد، ورِفاعةبن المعلى، وعثمانبن عفان، وتوجهوا إلى المدينة، ولكنهم استحيوا أن يدخلوها، فرجعوا بعد ثلاث، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه جماعة، منهم أبو طلحة الأنصاري استمر بين يديه يمنع عنه بحَجَفَتِهِ، وكان رامياً شديد الرمي. فنثر كِنانته بين يدي رسول الله، وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقَاء. وكل من كان يمر ومعه كنانة يقول له عليه الصلاة والسلام: "انثرها لأبي طلحة"، وكان ينظر إلى القوم ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، لا تنظر يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك.(1/119)
وممّن ثبتَ سعدبن أبي وقاص، فكان عليه الصلاة والسلام يقول له: "ارمِ سعد فداك أبي وأمي". ومنهم سهلبن حُنَيف وكان من مشاهير الرماة نضحَ عن رسول الله بالنبل حتى انفرج عنه الناس. ومنهم أبو دُجانة سِمَاكُبن خَرَشَة الأنصاري تترس على رسول الله، فصار النبلُ يقع على ظهره وهو منحنٍ حتى كثر فيه. وكان يقاتل عن الرسول زيادةبن الحارث حتى أصابت الجراحُ مقاتله، فأمر به فأُدني منه ووسده قدمه حتى مات. وقد أصابه عليه الصلاة والسلام شدائد عظيمة تحمَّلها بما أعطاه الله من الثبات، فقد أقبل أُبيُّبن خلف يريد قتله فأخذ عليه الصلاة والسلام الحربة ممّن كانوا معه، وقال: "خلّوا طريقه"، فلمّا قَرُب منه ضربه ضربةً كانت سببَ هلاكه وهو راجع، ولم يقتل رسول الله غيره لا في هذه الغزوة ولا في غيرها.
وكان أبو عامر الراهب قد حفر حُفراً وغطّاها ليقَع فيها المسلمون، فوقعَ الرسول في حفرة منها، فأُغمي عليه، وخُدشت ركبتاه، فأخذ عليّ بيده، ورفعه طلحةبن عبيد الله ــــ وهما ممّن ثبت ــــ حتى استوى قائماً، فرماه عتبةبن أبي وقاص بحجر كسر رباعيته فتبعه حاطببن أبي بلتعة فقتله، وشَجَّ وجهه عليه الصلاة والسلام عبد اللهبن شهاب الزهري، وجرحت وجنتاه بسبب دخول حلقتي المغفر فيهما من ضربة ضربه بها ابن قَمِئَةَ غضب الله عليه، فجاء أبو عبيدة وعالج الحلقتين حتى نزعهما، فكُسرت في ذلك ثنيتاه، وقال حينئذٍ عليه الصلاة والسلام: "كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيّهم؟" فأنزل الله في سورة آل عمران: لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)(1/120)
وقد أصاب المسلمين الذين كانوا يحوطون رسول الله كثير من الجراحات، لأن الشخص منهم كان يتلقى السهم، خوفاً أن يصل للرسول، فوجد بطلحة نيفٌ وسبعون جراحة، وشلَّت يده، وأصاب كعببن مالك سبع عشرة جراحة. أما القتلى فكانوا نيفاً وسبعين منهم ستة من المهاجرين، والباقون من الأنصار. ومن المهاجرين: حمزةبن عبد المطلب، ومصعببن عمير، ومن الأنصار حنظلةبن أبي عامر، وعمروبن الجموح، وابنه خلاَّدبن عمرو، وأخو زوجه والدُ جابربن عبد الله، فأتت زوج عمرو هندُ بنت عمروبن حرام وحملتهم: زوجها وابنها وأخاها على بعير لتدفنهم بالمدينة، فنهى عليه الصلاة والسلام عن الدفن خارج أحد، فرجعوا. وقتل سعدبن الربيع، وأرسل عليه الصلاة والسلام مَن يأتيه بخبره فوجده بين القتلى، وبه رمق، فقيل له: إن رسول الله يسأل عنك، فقال لمُبِلغه: قُل لقومي: يقولُ لكم سعدُبن الربيع: الله الله وما عاهدتم عليه رسوله ليلة العقبة، فوالله ما لكم عند الله عذر. وقتل أنسبن النضر عمّ أنسبن مالك، فإنه لما سمع بقتل رسول الله قال: يا قوم ما تصنعون بالبقاء بعده؟ موتوا على ما مات عليه إخوانكم، فلم يزل يقاتل حتى قُتل رضي الله عنه.(1/121)
ومَثَّلتْ قريش بقتلى أُحُد حتى إن هنداً زوج أبي سفيان بقرت بطن حمزة، وأخذت كبده لتأكلها، فلاكتها ثم أرسلتها، وفعلوا قريباً من ذلك بإخوانه الشهداء. ثم إن أبا سفيان صعد الجبل ونادى بأعلى صوته: نِعْمَتْ فعالِ، إن الحربَ سِجالٌ، يومٌ بيوم بدر، وموعدكم بدر العام المقبل، ثم قال: إنكم ستجدون في قتلاكم مُثْلَةً لم آمر بها ولم تَسُؤْني. ثم إن المشركين رجعوا إلى مكة ولم يعرجوا على المدينة، وهذا مما يدل على أن المسلمين لم ينهزموا في ذلكَ اليوم، وإلا لم يكن بدٌّ من تعقب المشركين لهم حتى يُغِيروا على مدينتهم. ثم تفقَّد عليه الصلاة والسلام القتلى وحزن على عمه حمزة حزناً شديداً، ودفن الشهداء كلهم بأُحُد، كل شهيد بثوبه الذي قتل فيه. وكانوا يدفنون الرجلين والثلاثة في لحد واحد لما كان عليه المسلمون من تعب، فكان يشقّ عليهم أن يحفروا لكل شهيد حفرة. ولما رجع المسلمون إلى المدينة سخر منهم اليهود والمنافقون، وأظهروا ما في قلوبهم من البغضاء، وقالوا لإخوانهم: لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} (آل عمران: 156).
وهذا الذي ابتلي به المسلمون درس مهم لهم، يذكِّرهم بأمرين عظيمين تركهما المسلمون فأُصيبوا، أولهما: طاعة الرسول في أمره، فقد قال للرماة: لا تبرحوا مكانكم إن نحن نُصرنا أو قُهرنا، فعصوا أمره ونزلوا. والثاني: أن تكون الأعمال كلها لله غير منظورة فيها لهذه الدنيا التي كثيراً ما تكون سبباً في مصائب عظيمة، وهؤلاء أرادوا عَرض الدنيا، والتهَوا بالغنائم حتى عُوقبوا، وفي ذلك أنزل الله في سورة آل عمران التي فَصَّلَتْ غزوة أُحُد: ّ ْ ا لله ـ " " صلى الله عليه وسلم } مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152)(1/122)
غزوة حمراء الأسد
لما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصبح حَذِراً من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمموا انتصارهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو، وألاّ يخرج إلا من كان معه بالأمس، فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرح، فضمَّدوا جراحاتهم وخرجوا واللواء معقود لم يُحَلَّ، فأعطاه عليبن أبي طالب، وولى على المدينة ابن أم مكتوم، ثم سار الجيش حتى وصلوا حمراء الأسد وقد كان ما ظنه الرسول حقاً، فإن المشركين تلاوموا على ترك المسلمين من غير شن الغارة على المدينة حتى يتم لهم النصر، فأصرّوا على الرجوع، ولكن لما بلغهم خروج الرسول في أثرهم ظنوا أنه قد حضر معه مَنْ لم يحضر بالأمس، وألقى الله الرعب في قلوبهم، فتمادوا في سيرهم إلى مكة، وظفر عليه الصلاة والسلام وهم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر، الذي مَنَّ عليه ببدر بعد أن تعهد ألاّ يكون على المسلمين، فأمر بقتله، فقال: يا محمد أقلْني، وامنُن عليّ، ودعني لبناتي، وأعطيك عهداً ألاّ أعود لمثل ما فعلت، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعتُ محمداً مرتين، لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ مرتين، اضرب عنقه يا زبير" فضرب عنقه، وفي هذا تأديب عظيم من صاحب الشرع الشريف، فإن الرجل الذي لا يحترز مما أُصيب منه ليس بعاقل، فلا بدّ من الحزم لإقامة دعائم المُلْك.
حوادث(1/123)
وفي هذه السنة زوَّج عليه الصلاة والسلام بنته أُم كلثوم لعثمانبن عفان بعد أن ماتت رقية عنده، ولذلك كان يُسَمَّى ذا النورين. وفيها تزوَّج عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمربن الخطاب، وأُمُّها أخت عثمانبن مظعون، وكانت قبله تحت خُنيسبن حذافة السهمي رضي الله عنه، فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر، وفيها تزوج عليه الصلاة والسلام زينبَ بنت خزيمة الهلالية من بني هلالبن عامر، كانت تدعى في الجاهلية أُم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم، وكانت قبله تحت عبد اللهبن جحش، فقُتل عنها بأُحُد وهي أخت ميمونة بنت الحارث لأمها، وفيها ولد الحسنبن علي رضي الله عنهما. وفيها حُرمت الخمر، وكان تحريمها بالتدريج، لما كان عليه العرب من المحبة الشديدة لها، فيصعب إذاً تحريمها دفعة واحدة، وكان ذلك التحريم تابعاً لحوادث تُنَفِّر عنها، لأن المنكر إذا أُسند تحريمه لحادثة أقرّ الجميع على تقبيحها كان ذلك أشدّ تأثيراً في النفس. فأولُ ما بُيِّن فيها قوله تعالى في سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة: 219). فمنفعة الميسر التصدق بربحه على الفقراء كما كانت عادة العرب، ومنفعة الخمر تقوية الجسم، ولما شربها بعض المسلمين وخلَّط في القراءة حُرِّمت الصَّلاة على السكران، فقال تعالى في سورة النساء: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43) ولما حدثَ من شربها اعتداء بعض المسلمين على إخوانهم حُرِّمت قطعياً بقوله تعالى في سورة المائدة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاْنصَابُ وَالاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآء(1/124)
فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ(91)
السَّنة الرَّابعة
سرية
في بدء السنة الرابعة بلغ رسول الله أن طُليحة وسلمة ابني خويلد الأسديين يدعوان قومهما بني أسد لحربه عليه الصلاة والسلام، فدعا أبا سلمةبن عبد الأسد المخزومي، وعقد له لواءً وقال له: "سِرْ حتى تنزل أرض بني أسدبن خزيمة فَأَغِرْ عليهم"، وأرسل معه رجالاً، فسار في هلال المحرم حتى بلغ قَطَناً فأغار عليهم، فهربوا من منازلهم، ووجد أبو سلمة إبلاً وشاءً فأخذها، ولم يلق حرباً، ورجع بعد عشرة أيام من خروجه.
سرية
وفي بدئها أيضاً بلغه عليه الصلاة والسلام أن سفيانبن خالدبن نُبَيْح الهُذلي المقيم بعُرَنَة يجمع الجموعَ لحربه، فأرسل له عبد اللهبن أُنَيْس الجهني وحده ليقتله، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَتَقَوَّلَ حتى يتمكن، فأذن له، وقال: "انتسب لخزاعة"، فخرج لخمس خَلَون من المحرم، ولما وصل إليه قال له سفيان: ممّن الرجل؟ قال: من خُزاعة، سمعتُ بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك، فقال له: أجل، إني لفي الجمع له، فمشى عبد الله معه وحدَّثه وسفيان يستحلي حديثه، فلما انتهى إلى خِبائه تفرق الناس عنه فجلس معه عبد الله حتى نام، فقام وقتله، ثم ارتحل حتى أتى المدينة، ولم يلحقه الطلب وكفى الله المؤمنين القتال.
سرية(1/125)
وفي صَفَر أرسل عليه الصلاة والسلام عشرة رجال عيوناً على قريش، مع رهط عَضَل والقَارَةِ، الذين جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون من يفقِّههم في الدين، وأمَّر عليهم عاصمبن ثابت الأنصاري، فخرجوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى إذا كانوا بالرَّجيع غدر بهم أولئك الرهط، ودلُّوا عليهم هذيلاً قوم سفيانبن خالد الهذلي الذي كان قتله عبد اللهبن أنيس، فنفروا إليهم فيما يقرب من مائتي رامٍ، واقتفوا آثارهم حتى قربوا منهم، فلما أحسَّ بهم رجال السرية لجؤوا إلى جبل هناك، فقال لهم الأعداء: انزلوا ولكم العهد ألاّ نقتلكم، فنزل إليهم ثلاثة اغتروا بعهدهم، وقاتلهم الباقون، ومعهم عاصم غير راضين بالنزول في ذمة مشرك. ولما رأى الثلاثة الذين سلَّموا عينَ الغدر امتنع أحدهم فقتلوه، وأما الاثنان فباعوهما بمكة ممّن كان له ثأر عند المسلمين، وهناك قُتِلا. وقد قال أحدهما وهو خُبيببن عدي حين أرادوا قتله:
وَلَسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِماًعلى أَيِّ جَنْبٍ كان في الله مَصْرَعيوذلكَ في ذاتِ الإلهِ وَإِنْ يَشَأْيُبَاركْ على أَوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
سرية(1/126)
وفي صَفَر وفد على رسول الله أبو براء عامربن مالك مُلاعِبُ الأسنّة، وهو من رؤوس بني عامر، فدعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، بل قال: إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً ولو بعثتَ معي رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوتُ أن يستجيبوا لك، فقال عليه الصلاة والسلام: "إني أخشى عليهم أهل نجد". فقال أبو براء عامر: أنا لهم جار، فأرسل معه المنذربن عمرو في سبعين من أصحابه كانوا يُسَمَّون القرَّاء لكثرة ما كانوا يحفظون من القرآن، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا حَرَامبن مِلحان بكتاب إلى عامربن الطفيل سيدِ بني عامر، فلما وصل إليه لم يلتفت إلى الكتاب بل عدا على حَرَام فقتله، ثم استصرخ على بقية البعثة أصحابه من بني عامر فلم يرضوا أن يخفروا جوار ملاعب الأسنة، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُليم، وهم رِعْلٌ وذَكوان وعُصَيَّة فأجابوا وذهبوا معه، حتى إذا التقوا بالقرَّاء أحاطوا بهم، وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم، بعد دفاع شديد لم يُجْدِهم نفعاً لقلّة عددهم وكثرة عدوهم، ولم ينجُ إلا كعببن زيد، وقع بين القتلى حتى ظُنَّ أنه منهم، وعمروبن أمية كان في سَرْح القوم. وَأُبْلِغَ عليه الصلاة والسلام خبر القراء فخطب في أصحابه، وكان فيما قال: "إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم، وإنهم قالوا: ربنا بلِّغ قومنا أنّا قد لقينا ربنا فرضينا عنه ورضي عنّا"، وكان وصول خبر هذه السرية وسرية الرجيع في يوم واحد، فحزن عليهم صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً، وأقام يدعو على الغادرين بهم شهراً في الصلاة.
غزوة بني النَّضِير(1/127)
يا لله، ما أسوأ عاقبة الطيش فقد تكون الأمة مرتاحة البال، هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر، يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم، وهذا ما حصل ليهود بني النضير حلفاء الخزرج، الذين كانوا يجاورون المدينة، فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كلٌّ منهم الآخر، ولكن بنو النضير لم يوفوا بهذه العهود حسداًمنهم وبغياً. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض من أصحابه في ديار بني النضير إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يأخذ واحدٌ منهم صخرةً ويلقيها عليه من علو، فأُطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع وتبعه أصحابه، ثم أرسل لهم محمدبن مسلمة يقول لهم: "اخرجوا من بلادي فقد هممتم بما هممتم من الغدر". إذ الحزم كل الحزم ألا يتهاون الإنسان مع مَنْ عُرف منه الغدر، فتهيأ القوم للرحيل، فأرسل لهم إخوانهم المنافقون يقولون: لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(11) لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ(12) أَشَدُّ الْكِتَابِ فِى أَبَداً إِنَّكَ نَافَقُواْ تَرَ جَآءوا خَصَاصَةٌ خَصَاصَةٌ عَلَى خَصَاصَةٌ وَمَن أُخْرِجْتُمْ وَاللَّهُ أَبَداً أَحَداً قُوتِلْتُمْ فِى أَبَداً إِنَّهُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ رَّحِيمٌ الَّذِينَ وَإِن مِنْ وَاللَّهُ فِى قُلُوبِنَا لَنَنصُرَنَّكُمْ أَلَمْ فِى فِى أَبَداً وَاللَّهُ مِنْ رَّحِيمٌ عَلَى وَاللَّهُ لّلَّذِينَ سَبَقُونَا رَءوفٌ تَرَ وَاللَّهُ فِى مِنْ قُوتِلْتُمْ فِى أَبَداً رَبَّنَآ وَلإِخْوانِنَا عَلَى نُطِيعُ سَبَقُونَا وَإِن تَرَ مِنْ أَبَداً(1/128)
إِنَّهُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ فِى أَبَداً يَقُولُونَ غِلاًّ وَاللَّهُ فِى أَبَداً الَّذِينَ وَإِن قُلُوبِنَا فِى أَبَداً لّلَّذِينَ لَنَنصُرَنَّكُمْ إِنَّهُمْ بِالإَيمَانِ أَبَداً فيكُمْ لّلَّذِينَ فِى أَبَداً لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى نُطِيعُ أَبَداً وَإِن فِى فِى رَبَّنَآ لّلَّذِينَ وَإِن مِنْ فِى أَبَداً قُوتِلْتُمْ فِى الَّذِينَ عَلَى رَءوفٌ تَرَ رَبَّنَآ قُلُوبِنَا
لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى وَاللَّهُ فِى الَّذِينَ لّلَّذِينَ مِنْ وَإِن أَبَداً مِنْ أَبَداً يَشْهَدُ فِى أَبَداً وَإِن رَّحِيمٌ إِنَّهُمْ قُوتِلْتُمْ غِلاًّ فِى قُلُوبِنَا قُوتِلْتُمْ سَبَقُونَا يَخْرُجُونَ وَإِن وَإِن أَحَداً لّلَّذِينَ وَاللَّهُ وَإِن عَلَى وَاللَّهُ سَبَقُونَا مِنْ الَّذِينَ يَشْهَدُ تَرَ فِى إِنَّهُمْ لّلَّذِينَ لَنَنصُرَنَّكُمْ مِنْ أَبَداً إِنَّهُمْ وَلَئِن فِى لَكَاذِبُونَ وَلَوْ سَبَقُونَا وَإِن فِى قُلُوبِنَا قُوتِلْتُمْ وَاللَّهُ فِى أَبَداً قُوتِلْتُمْ لإِخْوَانِهِمُ إِنَّهُمْ تَرَ نُطِيعُ لّلَّذِينَ إِنَّكَ يَقُولُونَ وَلَئِن لاَ قُوتِلْتُمْ وَاللَّهُ فِى نُطِيعُ إِنَّهُمْ إِنَّكَ يَقُولُونَ وَاللَّهُ قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن وَاللَّهُ كَفَرُواْ قُوتِلْتُمْ وَاللَّهُ فِى سَبَقُونَا قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن وَإِن فِى قُوتِلْتُمْ مِنْ لّلَّذِينَ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن وَإِن قُوتِلْتُمْ فِى وَلَئِن عَلَى نُطِيعُ إِنَّكَ فِى يَقُولُونَ تَرَ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن مِنْ أَبَداً إِنَّهُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ فِى أَبَداً يَقُولُونَ غِلاًّ وَاللَّهُ فِى أَبَداً الَّذِينَ وَإِن الَّذِينَ لّلَّذِينَ أَبَداً إِنَّهُمْ فِى أَبَداً أُخْرِجُواْ عَلَى ءامَنُواْ وَإِن سَبَقُونَا وَإِن تَرَ قُلُوبِنَا فيكُمْ الَّذِينَ مِنْ قُوتِلْتُمْ رَءوفٌ إِنَّهُمْ(1/129)
أَبَداً لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن أَبَداً إِنَّهُمْ أَحَداً وَاللَّهُ قُوتِلْتُمْ سَبَقُونَا رَّحِيمٌ مِنْ يَشْهَدُ وَلاَ أَبَداً يَشْهَدُ لّلَّذِينَ الَّذِينَ أَبَداً إِنَّهُمْ وَإِن لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى نُطِيعُ فيكُمْ أَلَمْ نُطِيعُ فِى وَلَئِن نُطِيعُ إِنَّهُمْ فيكُمْ أَبَداً وَاللَّهُ قُلُوبِنَا لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن فِى أَبَداً تَرَ مِنْ قُلُوبِنَا وَاللَّهُ أَبَداً وَإِن إِنَّهُمْ تَرَ وَاللَّهُ فِى وَإِن قُوتِلْتُمْ مِنْ قُلُوبِنَا رَّحِيمٌ فِى وَلَئِن قُلُوبِنَا قُوتِلْتُمْ سَبَقُونَا يَخْرُجُونَ قُلُوبِنَا لاَ إِنَّهُمْ وَلَئِن أُخْرِجُواْ وَإِن الَّذِينَ فِى مِنْ رَّحِيمٌ غِلاًّ عَلَى قُلُوبِنَا أَبَداً رَءوفٌ أَلَمْ أَبَداً لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى أَحَداً وَإِن فِى رَءوفٌ أَلَمْ أَبَداً قُلُوبِنَا قُوتِلْتُمْ إِنَّهُمْ فيكُمْ إِنَّهُمْ قُوتِلْتُمْ فيكُمْ فِى مِنْ وَإِن قُوتِلْتُمْ فيكُمْ قُلُوبِنَا أَبَداً لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى نُطِيعُ الَّذِينَ سَبَقُونَا أَبَداً وَاللَّهُ فِى تَرَ الَّذِينَ وَاللَّهُ أَبَداً فِى وَلَئِن سَبَقُونَا قُوتِلْتُمْ إِنَّهُمْ رَبَّنَآ أَبَداً إِنَّهُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى وَاللَّهُ إِنَّهُمْ أَحَداً نُطِيعُ وَلَئِن مِنْ قُوتِلْتُمْ رَّحِيمٌ وَإِن فِى تَجْعَلْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى وَاللَّهُ سَبَقُونَا قُوتِلْتُمْ أَبَداً لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن وَإِن فِى إِنَّكَ وَإِن أَبَداً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِنَا أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ سَبَقُونَا وَإِن وَاللَّهُ فِى أَبَداً لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن عَلَى وَلاَ الَّذِينَ أَبَداً غِلاًّ فِى أَبَداً إِنَّكَ تَرَ قُلُوبِنَا نُطِيعُ نُطِيعُ مِنْ أَبَداً عَلَى وَاللَّهُ يَقُولُونَ فِى تَرَ فِى أَبَداً إِنَّهُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ رَّحِيمٌ إِنَّهُمْ رَءوفٌ تَرَ(1/130)
قُلُوبِنَا وَاللَّهُ قُوتِلْتُمْ قُلُوبِنَا إِنَّهُمْ وَاللَّهُ لّلَّذِينَ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن قُلُوبِنَا سَبَقُونَا إِنَّهُمْ رَّحِيمٌ إِنَّهُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَإِن أَحَداً إِنَّهُمْ إِنَّهُمْ الَّذِينَ أَحَداً قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ فِى فِى أَبَداً وَإِن الَّذِينَ أَبَداً وَإِن وَاللَّهُ قُوتِلْتُمْ وَلَوْ
ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر، ومنهم أكابرهم حُيَيُّبن أخطب، وسلاّمبن أبي الحُقَيْق، ومنهم من سار إلى أَذْرعَات بالشام، وأسلم منهم اثنان: يامينبن عمرو وأبو سعدبن وهب، ولم يخمِّس رسولُ الله ما أخذ من بني النضير، فإنه فيءٌ لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ومثل هذا يكون لمعدّات الحرب، وللرسول، يطعم منه أهله، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كما قال تعالى في سورة الحشر: مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَآء مِنكُمْ} (الحشر: 7) فأعطى عليه الصلاة والسلام من هذا الفيء فقراء المهاجرين، الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، وردّوا لإخوانهم من الأنصار ما كانوا قد أخذوه منهم أيام هجرتهم، وأخذ عليه الصلاة والسلام أرضاً يزرعها ويدّخِر منها قُوت أهله عاماً.
غزوة ذات الرقاع(1/131)
وفي ربيع الآخر بلغه عليه الصلاة والسلام أن قبائل من نجد يتهيؤون لحربه، وهم: بنو محارب وبنو ثعلبة، فتجهَّز لهم، وخرج في سبعمائة مقاتل، وولّى على المدينة عثمانبن عفان، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ديار القوم، فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة فأخذهنّ، فبلغ الخبر رجالهم، فخافوا وتفرقوا في رؤوس الجبال، ثم اجتمع جمع منهم وجاؤوا للحرب، فتقارب الناسُ، وأخافَ بعضهم بعضاً. ولما حانت صلاة العصر وخاف عليه الصلاة والسلام أن يغدر بهم الأعداء وهم يصلّون، صلى بالمسلمين صلاة الخوف، فألقى الله الرعب في قلوب الأعداء، وتفرقت جموعهم خائفين منه صلى الله عليه وسلم.
ومال الإمام البخاري إلى أن هذه الغزوة كانت في السنة السابعة وأجمعَ أهلُ السِّيَرِ على خلافه.
غزوة بدر الآخرة(1/132)
لما أهلّ شعبانُ هذا العام كان موعد أبي سفيان، فإنه بعد انقضاء غزوة أُحُد قال للمسلمين: موعدنا بدر العام المقبل، فأجابه الرسول إلى ذلك، وكان بدر محل سوق تُعقد كل عام للتجارة في شعبان يقيم التجار فيه ثمانياً، فلما حَلَّ الأجلُ وقريش مُجدبون، لم يتمكن أبو سفيان من الإيفاء بوعده، فأراد أن يخذل المسلمين عن الخروج كيلا يُوسم بخلف الوعد، فاستأجر نُعيمبن مسعود الأشجعي، ليأتي المدينة ويُرجفَ بما جمعه أبو سفيان من الجموع العظيمة، فقدم نُعيم المدينة وقال للمسلمين: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) ولم يلتفت عليه الصلاة والسلام لهذا الإرجاف اتِّكالاً على ربه، بل خرج بألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد اللهبن عبد اللهبن أُبَيَ. ولم يزالوا سائرين حتى أتوا بدراً، فلم يجدوا بها أحداً لأن أبا سفيان أشار على قريش بالخروج على نيّة الرجوع بعد مسير ليلة أو ليلتين ظانّاً أن إرجاف نُعيم يفيد، فيكون المخلف هم المسلمون، فسار حتى أتى مجنَّة ــــ وهي سوق معروفة من ناحية مَرّ الظهران ــــ فقال لقومه: إن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب فارجعوا، أما المسلمون فأقاموا ببدر لا يشاركهم في تجارته أحد {فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)
حوادث
وفي هذا العام ولد الحسينبن علي، وفيه توفيت زينب بنت خزيمة أُم المؤمنين، وفيه توفي أبو سَلَمة رضي الله عنه ابن عمة رسول الله، وأخوه من الرضاعة، وأولُ من هاجر إلى الحبشة، وفيه تزوج عليه الصلاة والسلام أُمَّ سَلَمَةَ هنداً زوج أبي سلمة بعد وفاته.
السَّنة الخامِسَة
غزوة دومة الجندل(1/133)
وفي ربيع الأول من هذا العام بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعاً من الأعراب بدُومة الجندل يظلمون من مَرَّ بهم، وأنهم يريدون الدنو من المدينة فتجهز لغزوهم، وخرج في ألف من أصحابه، بعد أن وَلَّى على المدينة سِبَاعبن عُرْفُطة الغِفاري، ولم يزل يسير الليل ويكمُن النهار حتى قرب منهم، فلما بلغهم الخبر تفرقوا، فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم، فأُصيب مَنْ أُصيبَ، وهرب من هرب، ثم نزل بساحتهم فلم يلقَ أحداً، وبثّ السرايا فلم يجد منهم أحداً، فرجع عليه الصلاة والسلام غانماً، وصالح وهو عائد عيينةَبن حِصْنٍ الفَزاري، وهو الذي كان يسمّيه عليه الصلاة والسلام الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه ألف قَنَاة، وأقطعه عليه الصلاة والسلام أرضاً يرعى فيها بهمه على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة لأن أرضه كانت قد أجدبت.
غزوةبن المُصْطَلِق(1/134)
في شعبان، بلغه عليه الصلاة والسلام أن الحارثبن أبي ضرار، سيدَ بني المصطلق الذين ساعدوا قريشاً على حرب المسلمين في أُحُد، يجمع الجموع لحربه، فخرج له عليه الصلاة والسلام في جمع كثير، وولَّى على المدينة زيدَبن حارثة، وخرج معه من نسائه عائشةُ وأُم سلمة. وخرج معه ناس من المنافقين لم يخرجوا قطُّ في غزوة مثلها، يرجون أن يصيبوا من عَرَضِ الدنيا، وفي أثناء مسيره عليه الصلاة والسلام التقى بعَيْنِ بني المصطلق، فسأله عن أحوال العدو فلم يجبْ فأمر بقتله. ولما بلغ الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه، وأنهم قتلوا جاسوسه، خاف هو وجيشه خوفاً شدياً حتى تفرق عنه بعضهم، ولما وصل المسلمون إلى الْمُرَيْسِيع تَصَافَّ الفريقان للقتال، بعد أن عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا، فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالاً للهرب، بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذرية، واستاقوا الإبل والشياه، وكانت الإبل ألفي بعير، والشياه خمسة آلاف، واستعمل الرسول على ضبطها مولاه شُقران، وعلى الأسرى بُرَيدة. وكان في نساء المشركين بَرَّة بنت الحارث سيد القوم، وقد أخذ من قومها مئتا بيتٍ أسرى وُزِّعَتْ على المسلمين، وهنا يظهر حُسْن السياسة ومنتهى الكرم، فإن بني المصطلق من أعزِّ العرب داراً فأسْرُ نسائهم بهذه الحال صعب جداً، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمين يَمُنُّونَ على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم، فتزوج برّة بنت الحارث التي سمّاها جُوَيْرِيَةَ، فقال المسلمون: أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم في أيدينا فمنّوا عليهم بالعتق، فكانت جويريةُ أيمنَ امرأةٍ على قومها كما قالت عائشة رضي الله عنها، وتسبَّب عن هذا الكرم العظيم وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم، وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم.(1/135)
وقد حصل في هذه الغزوة نادرتان، لولا أنْ صاحَبَتْهُما حكمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعادتا بالتفريق على المسلمين.
فأولاهما: أن أجيراً لعمربن الخطاب اختصم مع حليف للخزرج، فضرب الأجيرُ الحليف حتى سال دمه، فاستصرخ بقومه الخزرج، واستصرخ الأجير بالمهاجرين، فأقبل الذعر من الفريقين، وكادوا يقتتلون لولا أن خرج عليهم رسول الله فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟" وهي ما يقال في الاستغاثة: يا لَفُلان. فأخبر الخبر، فقال: "دَعُوا هذه الكلمة فإنها منتنة"، ثم كلم المضروبَ حتى أسقط حقه وبذلك سكنت الفتنة، فلما بلغ عبد اللهبن أُبَيَ هذا الخصام غضبَ، وكان عنده رهط من الخزرج، فقال: ما رأيت كاليوم مذّلة أو قد فعلوها؟ نافرونا في ديارنا، والله ما نحن والمهاجرون إلا كما قال الأوَّل: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله: لَئِن } (المنافقون: 8)، ثم التفت إلى مَنْ معه، وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم غرضاً للمنايا دون محمد فأيتمتم أولادكم، وَقَلَلْتُم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى يَنْفَضُّوا من عنده، وكان في مجلسه شاب حديثُ السن، قوي الإسلام، اسمه زيدبن أرقم، فأخبر رسول الله الخبر فتغير وجهه، وقال: "يا غلام لعلك غضبت عليه فقلت ما قلت؟" فقال: والله يا رسول الله لقد سمعته. قال: "لعلّه أخطأ سمعك"، فاستأذن عمر الرسول في قتل ابن أُبَيّ أو أن يأمر أحداً غيره بقتله فنهاه عن ذلك. وقال: "كيف يا عمر إذا تحدث الناسُ أن محمداً يقتل أصحابه؟" ثم أذن بالرحيل في وقت لم يكن يرتحل فيه حين اشتد الحر يقصد بذلك عليه الصلاة والسلام شَغْلَ الناس عن التكلم في هذا الموضوع، فجاءه أسيدبن حُضير وسأله عن سبب الارتحال في هذا الوقت، فقال: "أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجعَ إلى(1/136)
المدينة ليخرجنَّ الأعزّ منها الأذل". قال: أنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئتَ، هو والله الذليلُ وأنت العزيزُ، ثم سارَ عليه الصلاة والسلام بالناس سيراً حثيثاً حتى آذتهم الشمس، فنزل بالناس فلم يلبثوا أن وجودا مَسَّ الأرض حتى وقعوا نياماً.
وكلّم رجالٌ من الأنصار عبدَ اللهبن أُبيّ في أن يطلب من الرسول الاستغفار فلوى رأسه واستكبر. وهنا نزل على الرسول سورةُ المنافقين التي فضحت عبد اللهبن أُبيّ وإخوانه وصدَّقت زيدبن أرقم. ولما بلغَ ذلك عبد اللهبن عبد اللهبن أُبيّ، استأذن رسول الله في قتل أبيه حذراً من أن يُكَلِّف بذلك غيره، فيكون عنده من ذلك أضغان وأحقاد، فأمره عليه الصلاة والسلام بالإحسان إلى أبيه.
حديث الإفك(1/137)
النادرة الثانية: وهي أفظعُ من الأولى وأجلبُ منها للمصائب، وهي رميُ عائشة الصدّيقة، زوج رسول الله بالإفك، فاتَّهموها بصفوانبن المعَطَّل السلمي، وذلك أنهم لما دنوا من المدينة أذن عليه الصلاة والسلام ليلة بالرحيل، وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رَحْلها، فلمست صدرها فإذا عِقْدٌ لها من جزْع ظَفَارِ قد انقطع فرجعت تلتمس عقدها، فحبسها ابتغاؤه، فأقبل الرهط الذين كانوا يَرْحلُونَها، فاحتملوا هودجها ظانِّين أنها فيه، لأن النساء كنَّ إذ ذاك خفافاً لم يَغْشَهُنَّ اللحم، فلم يستنكر القوم خِفَّةَ الهودج، وكانت عائشة جارية حديثة السن، فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها، وليس بالمنزل داعٍ ولا مُجيب، فغلبتها عيناها فنامتْ، وكان الذي يسيرُ وراء الجيش يفتقد ضائعه صفوانبن المُعَطَّل، فأصبح عند منزلها فعرفها لأنه كان رآها قبل الحجاب، فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها، فأناخ راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل للراحة، فقامت قيامة أهل الإفك، وقالوا ما قالوا في عائشة وصفوان، والذي تَوَلى كبر الإفك عبد اللهبن أُبيّ.(1/138)
ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهراً، والناس يفيضون في قول الإفك، وهي لا تشعر بشيء، وكانت تعرف في رسول الله رقة إذا مرضت، فلم يعطها نصيباً منها في هذا المرض، بل كان يمر على باب الحجرة لا يزيد على قوله: "كيف حالكم؟" مما جعلها في ريب عظيم. فلما نَقِهَتْ خرجت هي وأُم مِسطحبن أثاثة ــــ أحد أهل الإفك ــــ للتبرّز خارج البيوت، فعثرت أُم مسطح في مِرْطها فقالت: تعس مِسطح فقالت عائشة: بئس ما قلتِ أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت يا هَنْتاهُ أو لم تسمعي ما قالوا؟ فسألتها عائشة عن ذلك فأخبرتها الخبر، فازدادت مرضاً على مرضها. ولما جاءها عليه الصلاة والسلام كعادته، استأذنته أن تمرّض في بيت أبيها، فأذن لها، فسألتْ أمها عمّا يقول الناس، فقالت: يا بنيّة هوِّني عليك، فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئه عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقالت عائشة: سبحان الله أوَ قد تحدث الناس بهذا؟ وبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وفي خلال ذلك كان عليه الصلاة والسلام يستشير كبارَ أهل بيته فيما يفعل، فقال له أسامة لما يعلمه من براءة عائشة: أهلك أهلك ولا نعلم عليهم إلا خيراً. وقال عليبن أبي طالب: لم يُضَيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلِ الجاريةَ تَصْدُقْكَ. فدعا عليه الصلاة والسلام بَريرة جارية عائشة، وقال لها: هل رأيت من شيء يَرِيْبُكِ؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قطّ أغمِصه غير أنها جارية حديثة السِّنِّ، تنام عن عجينها، فتأتي الداجن فتأكله.(1/139)
فقام عليه الصلاة والسلام من يومه وصعد المنبر والمسلمون مجتمعون وقال: "مَنْ يَعْذرُني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي". فقال سعدبن معاذ: أنا يا رسول الله أَعذِرُك منه، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعدُبن عبادة الخزرجي وقال: كذبتَ لعَمْرُ الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببتَ أنه يُقتل، فقام أُسيدبن حُضير، وقال لسعدبن عبادة: كذبتَ لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادلُ عن المنافقين. وكادت تكون فتنة بين الأوس والخزرج لولا أن رسول الله نزل من فوق المنبر وخَفَّضَهم حتى سكتوا. أما عائشة فبقيت ليلتين لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وبينما هي مع أبويها إذ دخل النبي عليه الصلاة والسلام فسلّم ثم جلس فقال: "أما بعد، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف وتاب، تاب الله عليه"، فتقلص دمعُ عائشة، وقالت لأبويها: أجيبا رسول الله، فقالا: والله ما ندري ما نقول، فقالت: إني والله لقد علمتُ أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلتُ لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر ــــ والله يعلم أني منه بريئة ــــ لتُصَدِّقُنِّي فوالله لا أجدُ لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حيث قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18).(1/140)
ثم تحولتْ واضطجعت على فراشها، ولم يزاولْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى نزلت عليه الآيات من سورة النور ببراءة السيدة المطهرة عائشة الصدّيقة: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ(12) لَّوْلاَ جَآءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15) وَلَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ(17) وَيُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ(20) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآء(1/141)
وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَآء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22) فقال أبو بكر: بل نحب ذلك يا رسول الله، وأعاد النفقة على مِسطح. فهذه مضار المنافقين الذين يدخلون بين الأمم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقداً يتربصون الفتن، فمتى رأوا باباً لها وَلَجوه فنعوذ بالله منهم.
غزوة الخندق(1/142)
لم يقرّ لعظماء بني النضير قرار بعد جلائهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها، بل كان في نفوسهم دائماً أن يأخذوا ثأرهم ويستردّوا بلادهم، فذهب جمع منهم إلى مكة، وقابلوا رؤساء قريش، وحرّضوهم على حرب رسول الله ومنّوهم المساعدة، فوجدوا منهم قبولاً لما طلبوه، ثم جاؤوا إلى قبيلة غطفان وحرّضوا رجالها كذلك، وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب، فوجدوا منهم ارتياحاً، فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان، ويحمل لواءهم عثمانبن طلحةبن أبي طلحة العبدري، وعددهم أربعة آلاف، معهم ثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة بعير. وتجهزت غطفان يرأسهم عُيَيْنَةُبن حِصن الذي جازى إحسان رسول الله كفراً، فإنه كما قدّمنا أقطعه أرضاً يرعى فيها سوائمه، حتى إذا سمن خفُّه وحافره، قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه، وكان معه ألف فارس. وتجهزت بنو مرّة يرأسهم الحارثبن عوف المري وهم أربعمائة، وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعودبن رُخَيلَةَ، وتجهزت بنو سليم يرأسهم سفيانبن عبد شمس، وهم سبعمائة، وتجهزت بنو أسد يرأسهم طليحةبن خويلد الأسدي، وعدة الجميع عشرة آلاف محارب قائدهم العام أبو سفيان. ولما بلغه عليه الصلاة والسلام أخبار هاتِه التجهيزات، استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرّار؟ فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمالي المدينة من الحرّه الشرقية إلى الحرّة الغربية وهذه هي الجهة التي كانت عورة تُؤتى المدينة من قبلها. أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل، لا يتمكن العدو من الحرب جهتها، وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفر الخندق، لأنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم عليه الصلاة والسلام، فكان ينقل التراب متمثلاً بشعر ابن رواحة:(1/143)
اللهمَّ لولا أنت ما اهتديناولا تصدَّقْنا ولا صلّينافَأَنْزِلَنْ سكينةً عليناوثبِّتِ الأقدامَ إن لاقيناوالمشركون قد بَغَوا عليناوإن أرادوا فتنةً أبينا وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسنداً ظهره إلى سَلْع وهو جبل مطل على المدينة وعدّتهم ثلاثة آلاف، وكان لواء المهاجرين مع زيدبن حارثة، ولواء الأنصار مع سعدبن عبادة. أما قريش فنزلت بمَجْمع الأسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أُحُد. وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليهم أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق، منهم: عكرمةبن أبي جهل، وعمروبن عَبْدِ وَدَ وآخرون، وقد برز عليبن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لعمروبن عبد ود فقتله وهرب إخوانه، وهوى في الخندق نوفلبن عبد الله، فاندقت عنقه، ورُمي سعدبن معاذ رضي الله عنه بسهم قطع أَكْحله، وهو شريان الذراع، واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كاملاً حتى فاتت المسلمين صلاة ذاك اليوم وقضوها بعد، وجعل عليه الصلاة والسلام على الخندق حُرَّاساً حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثُلمة فيه مع شدة البرد، وكان عليه الصلاة والسلام يبشّر أصحابه بالنصر والظفر ويَعِدهم الخير.(1/144)
أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنُّه ضمائرهم حتى قالوا: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} (الأحزاب: 12) وانسحبوا قائلين: إن بيوتنا عورة نخاف أن يُغير عليها العدو {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} (الأحزاب: 13) واشتدت الحال بالمسلمين، فإن هذا الحصار صاحَبَه ضيق على فقراء المدينة، والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني قريظة الذين يُساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود، وسبب ذلك أن حُيَيَّبن أَخْطَب سيد بني النضير المجلين توجه إلى كعببن أسد القرظي سيد بني قريظة، وكان له كالشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فحسَّن له نقض العهد، ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين.(1/145)
ولما بلغت هذه الأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل مسلمةبن أسلم في مائتين، وزيدبن حارثة في ثلاثمائةٍ لحراسة المدينة، خوفاً على النساء والذراري، وأرسل الزبيربن العوّام يستجلي له الخبر، فلما وصلهم وجدهم حانقين، يظهر على وجوههم الشر، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول بذلك. وهناك اشتد وَجَلُ المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً، لأن العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون، وتكلم المنافقون بما بَدا لهم، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسل لعُيَيْنَةَبن حِصْنٍ، ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان، فأبى الأنصار ذلك قائلين: إنهم لم يكونوا ينالون منّا قليلاً من ثمارنا ونحن كفار، أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها؟ وإذا أراد الله العناية بقوم هيأ لهم أسباب الظفر من حيث لا يعلمون. فانظر إلى هذه العناية من الله للمتمسكين بدينه القويم. جاء نُعيمبن مسعود الأشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي فمُرني بأمرك حتى أُساعدك. فقال: "أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خَذِّل عنّا ما استطعت فإن الحرب خدْعه".
الخدعة في الحرب(1/146)
فخرج من عنده وتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين، فلما رأوه أكرموه لصداقته معهم، فقال: يا بني قريظة تعرفون ودّي لكم وخوفي عليكم، وإني محدِّثكم حديثاً فاكتموه عنّي، قالوا: نعم، فقال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجلائهم وأخذ أموالهم وديارهم، وإن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا لبلادهم. وأما أنتم فتساكنون الرجل ــــ يريد الرسول ــــ ولا طاقة لكم بحربه وحدكم، فأرى ألاّ تدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفاً منهم، فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك.
ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم، وقال: أنتم تعرفون ودّي لكم، ومحبتي إيّاكم، وإني محدّثكم حديثاً فاكتموه عني، قالوا: نفعل، فقال لهم: إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوه مع محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم معه فقالوا له: أيُرضيك أن نأخذ جمعاً من أشرافهم ونعطيهم لك، وتردّ جناحنا الذي كسرت ــــ يريد بني النضير ــــ فرضي بذلك منهم. وها هم مرسلون إليكم فاحذروهم ولا تذكروا مما قلت لكم حرفاً.(1/147)
ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشاً، فأرسل أبو سفيان وفداً لقريظة يدعوهم للقتال غداً فأجابوا: إنّا لا يمكننا أن نقاتل في السبت ــــ وكان إرساله لهم ليلة السبت ــــ ولم يُصِبنا ما أصابنا إلا من التعدّي فيه، ومع ذلك فلا نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم، فتحققت قريش وغطفان كلام نُعيمبن مسعود، وتفرقت القلوب فخاف بعضهم بعضاً، وكان عليه الصلاة والسلام قد ابتهل إلى الله الذي لا ملجأ إلا إليه ودعاه بقوله: "اللهمّ مُنْزِلَ الكتاب، سريعَ الحساب اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم وانصرنا عليهم" وقد أجابَ الله دعاءه عليه الصلاة والسلام، فأرسل على الأعداء ريحاً باردة في ليلة مظلمة، فخاف العرب أن تتفق اليهود مع المسلمين ويهجموا عليهم في الليلة المدلهمَّة فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح. ولما سمع عليه الصلاة والسلام الضوضاء في جيش العدو، قال لأصحابه: "لا بدّ من حادث، فمَن منكم ينظر لنا خبر القوم؟" فسكتوا حتى كرر ذلك ثلاثاً. وكان فيهم حُذيفةبن اليمان، فقال عليه الصلاة والسلام: "تسمع صوتي منذ الليلة ولا تجيب" فقال: يا رسول الله البرد شديد، فقال: "اذهب في حاجة رسول الله واكشف لنا خبر القوم" فخاطر رضي الله عنه بنفسه في خدمة نبيِّه، حتى اطّلع على جليّة الخبر، وأن الأعداء عازمون على الرحلة.
هزيمة الأحزاب(1/148)
وقد بلغ من خوفهم، أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم: ليتعرَّف كلٌّ منكم أخاه، وليمسك بيده حذراً من أن يدخل بينكم عدو، وقد حلّ عقَالَ بعيره يريد أن يبدأ بالرحيل، فقال له صفوانبن أمية: إنَّك رئيس القوم فلا تتركهم وتمضي، فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل، وترك خالدبن الوليد في جماعة ليحموا ظهور المرتحلين حتى لا يدهموا من ورائهم، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي تحزّب فيها الأحزاب من عرب ويهود على المسلمين، ولولا لطف الله وعنايته بهذا الدين مِنَّةً منه وفضلاً لساءت الحال.
وكان جلاء الأحزاب في ذي القعدة، وكان حقّاً على الله أن يسمّيه نعمة بقوله في سورة الأحزاب: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً(9) إِذْ جَآءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ(10) هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً(11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً(12) وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ .يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً(13)
غزوة بني قُرَيْظة(1/149)
ولما رجع عليه الصلاة والسلام بأصحابه، وأراد أن يخلع لباس الحرب، أمره الله باللحوق ببني قريظة، حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود، ولا تربطهم المواثيق، ولا يأمن المسلمون جانبهم في شدة، فقال لأصحابه: "لا يُصَلِّيَنَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فساروا مسرعين، وتبعهم عليه الصلاة والسلام راكباً على حماره، ولواؤه بيد عليبن أبي طالب، وخليفته على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، وقد أدرك جماعة من الأصحاب صلاة العصر في الطريق فصلاّها بعضهم حاملين أمر الرسول بعدم صلاتها على قصد السرعة، ولم يصلِّها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضي وقتها حاملين الأمر على حقيقته فلم يُعنِّف فريقاً منهم.(1/150)
ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم، وأرادوا التنصّل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم وقت الشغل بعدو آخر، ولكن أنَّى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟ فلما رأوا ذلك تحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً وعشرين ليلة، فلما رأوا أن لا مناص من الحرب، وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً، طلبوا من المسلمين أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم من غير مال ولا سلاح فلم يرض أيضاً، بل قال: لا بدّ من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً، فقالوا له: أرسل لنا أبا لُبابة نستشيره، وكان أوسياً من حُلفاء بني قريظة، له بينهم أولاد وأموال، فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول. فقال لهم: انزلوا، وأومأ بيده إلى حلقه، يريد: أن الحكم الذبح، ويقول أبو لبابة: لم أبارح موقفي حتى علمتُ أني خنت الله ورسوله، فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجلاً من مقابلة رسول الله، وربط نفسه في سارية من سواري المسجد حتى يقضي الله فيه أمره. ولما سأل عنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما فعل، فقال: أما لو جاءني لاستغفرت له، أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه. ثم إن بني قريظة لما لم يروا بدّاً من النزول على حكم رسول الله فعلوا، فأمر برجالهم فكُتِّفوا، فجاءه رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا: نعم. واختاروا سيدهم سعدبن معاذ الذي كان جريحاً من السهم الذي أُصيب به في الخندق، وكان مقيماً بخيمة في المسجد معدّة لمعالجة الجرحى، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يأتي به، فحملوه على حماره، والتفّ عليه جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبَيّ في مواليه؟ فقال رضي الله عنه: لقد(1/151)
آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومةُ لائم.
ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس، قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه"، ففعلوا، وقالوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له الرسول: "احكم فيهم يا سعد". فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله وقال: عليكم عهدُ الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال: وعلى مَنْ هنا كذلك؟ وهو غاضٌّ طرفه إجلالاً، فقالوا: نعم، فقال: فإني أحكم أن تقتلوا الرجال، وتسبوا النساء والذرية، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد حكمتَ فيهم بحكم الله يا سعد" لأن هذا جزاء الخائن الغادر. ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم، وجمعت غنائمهم، فكانت ألفاً وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة ترس وحَجَفَةٍ، ووجد أثاثاً كثيراً، وآنية، وأَجمالاً نواضِحَ، وشياهاً، فخمَّس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس، وأعطى النساء اللاتي يُمرضن الجرحى، ووجد في الغنيمة جِرار خمر فأُريقت. وبعد تمام هذا الأمر انفجر جرح سعدبن معاذ فمات رضي الله عنه وأرضاه. كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين. وقد كان له العزم الثابت في جميع المشاهد التي تقدمت الخندق، وكان عليه الصلاة والسلام يحبه كثيراً وبشّره بالجنة على عظيم أعماله.
وعقب رجوع المسلمين إلى المدينة تاب الله على أبي لُبابة بقوله: وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(102)
وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبقَ إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. وسيأتي للقارىء قريباً اليوم الذي يعاقبون فيه.
زواج زينب بنت جحش(1/152)
وفي هذا العام تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش ــــ وأمها أميمة عمته ــــ بعد أن طلقها مولاه زيدبن حارثة. وكان من أمر زواجها لزيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطبها له فتأففَ أهلها من ذلك لمكانها في الشرف العظيم، فإن العرب كانوا يكرهون تزويج بناتهم من الموالي، ويعتقدون أن لا كفؤ مِنْ سواهم لبناتهم، وزيد ــــ وإن كان الرسول تبناه ــــ ولكن هذا لا يُلْحِقه بالأشراف، فلما نزل قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً(36) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب: 37). وأخفى في نفسه ما أبداه الله، فَبَتَّ الله حكمه بإبطال هذه القاعدة وهي: تحريم زوج المتبنَّى بقوله في سورة الأحزاب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: 37). ثم إن الله حرم التبني على المسلمين لما فيه من الأضرار، وأنزل فيه في سورة الأحزاب: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً(40)(1/153)
يقول المؤرخون وذوو المقاصد السافلة منهم في هذه القصة أقوالاً لا تجوز إلا ممّن ضاع رشده، ولم يفْقَه حقيقة ما يقول، فإنهم يذكرون أن الرسول توجه يوماً لزيارة زيد فرأى زوجه مصادفة لأن الريح رفعت الستر عنها فوقعت في قلبه، فقال: سبحان الله فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فرأى من الواجب عليه فراقها، فتوجه وأخبر الرسول بعزمه فنهاه عن ذلك... إلخ. وهذا مما يكذبه أن نساء العرب لم تكن قبل ذلك تعرف ستر الوجوه، وزينب بنت عمته أسلمت قديماً ورسول الله بمكة، فكيف لم يرها، وقد مضى على إسلامها نحو عشر سنوات وهي بنت عمته، إلا حينما رفعت الريح الستر مصادفة، ورسول الله هو الذي زوجها زيداً؟ فلو كان له فيها رغبة حب أو عشق لتزوجها هو ولا مانع يمنعه من ذلك. ومن منّا يتصور السيد الأكرم يقول لقومه إنه مرسل من ربه، ويتلو عليهم صباح مساء أمر الله له بقوله في سورة الحِجْرِ المكية: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ} (الحجر: 88). وفي سورة طه المكية أيضاً: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا} (طه: 131). ثم هو بعد ذلك يدخل بيت رجل من متَّبعيه، وينظر إلى زوجه مصادفة ثم يشتهي زواجها؟ إن هذا لأمر عظيم تشعر بذلك صدورنا. ولو حدث أمر مثل ذلك من أقل الناس لعيب عليه، فكيف بمن اجتمعت كلمة المؤرخين على أنه أحسن الناس خُلُقاً، وأبعدهم عن الدنايا، وأشدّهم ذكاء وفراسة حتى مدحه الله بقوله في سورة ن: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى(1/154)
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: 37). والذي أبداه الله هو زواجه بها، ولم يبدِ غير ذلك وهذا القرآن أعظم شاهد.
الحجاب
وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمربن الخطاب قبل نزول آيته يحبّه ويذكره كثيراً، ويودّ أن ينزل فيه قرآن، وكان يقول: لو أُطَاع فيكن ما رأتكنَّ عين، فنزل في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب: 53). فقال بعضهم: أَنُنْهى أن نكلم بنات عمّنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لأتزوجن عائشة فنزل بعد الآية المتقدمة: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب: 53). أما غير أزواجه عليه الصلاة والسلام من المؤمنات، فأمرن بغضّ الأبصار، وحفظ الفروج، كما أمر بذلك الرجال، وأُمرن ألاّ يبدين زينتهنّ للأجانب إلا ما ظهر منها كالخاتم في الإصبع، والخضاب في اليد، والكحل في العين، أما ما خَفي منها فلا يحلّ إبداؤه كالسوار للذراع، والدُّمْلُج للعضد، والخلخال للرجل، والقِلادة للعنق، والإكليل للرأس، والوشاح للصدر، والقرط للأذن. والمراد بالزينة الظاهرة والخفية موضعها، وأُمرن أيضاً بأن يضربن بخمرهنّ على الجيوب كيلا تبقى صدورهنَّ مكشوفة، فإن النساء إذ ذاك كانت جيوبهنّ واسعة تبدو منها نحورهنّ وصدورهنّ وما حواليها، وكنّ يسدلن الخُمُر من ورائهنّ، ونُهين عن أن يضربن بأرجلهنّ ليعلم أنهنّ ذوات خلخال. وإذا كان النهي عن إظهار صوت الحلي بعدما نهين عن إظهار الحلي، عُلِمَ بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ، قال تعالى في(1/155)
سورة النور: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَآئِهِنَّ أَوْ ءابَآء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31). وكان النساء في أول الإِسلام كما كنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في دِرْع وخمار، لا فرق بين الحُرّة والأَمَة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ في النخيل والغيطان، وربما تعرضوا للحُرّة بعلَّة الأَمَة يقولون: حسبناها أَمَةً، فأُمرنَ أن يخالفن بزيهنّ زِيّ الإماء بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ليغطي الوجه والأعطاف ليحتشمن، ويُهَبْن فلا يطمع فيهنّ طامع، قال تعالى في سورة الأحزاب: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(59)(1/156)
أما حَجْبُ المرأة عمّن يريد خطبتها فهو أمر لم يكن يُفعل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد السلف الصالح، فإن الشّارع الحكيم سنّ ذلك ليكون الرجل على علم مما يُقدِم عليه، حتى يتم الوفاق والوئام بين الزوجين في أمر أجمع عليه أئمة الدين.
قال حجة الإسلام الغزالي في "الإحياء": وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الألفة ولذلك استحبّ النظر، فقال: "إذا أوقع الله في نفس أحدكم من امرأة، فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما" ــــ أي: يؤلف بينهما ــــ من وقوع الأَدَمَة على الأَدَمة، وهي الجلدة الباطنة، والبشرة: الجلدة الظاهرة، وإنما ذكر ذلك للمبالغة في الائتلاف، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن في أعين الأنصار شيئاً فإِذا أراد أحدكم أن يتزوج منهنّ فلينظر إليهنّ" قيل: كان في أعينهنَّ عمش. وقيل: صغر. وكان بعض الصالحين لا ينكحون كرائمهم إلا بعد النظر احترازاً من الغرور، وقال الأعمش: كل تزويج يقع على غير نظر فآخره هم وغم.
ولا يبعد أن يكون فساد الزمن والابتعاد عن التربية الدينية التي تسوق إلى مكارم الأخلاق قد حَسَّنا عند عامة المسلمين في العصور الأولى حجب المرأة مطلقاً حسماً للمفاسد ودَرْءاً للفتنة.
فرض الحج
وفي هذا العام ــــ على ما عليه الأكثرون ــــ فرض الله على الأمة الإسلامية حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ليجتمع المسلمون من جميع الأقطار، فيتجهوا إلى الله ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ويُعينهم على اتباع دينه القويم. وفي ذلك من تقوية الرابطة واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى.
السَّنة السَّادسَة
سرية(1/157)
ولعشر خلون من محرم السنة السادسة، أرسل عليه الصلاة والسلام محمدبن مَسلمة في ثلاثين راكباً لشن الغارة على بني بكربن كلاب الذين كانوا نازلين بناحية ضَرِيَّة، فسار إليهم يكمن النهار ويسير الليل حتى دهمهم فقتل منهم عشرة، وهرب باقيهم، فاستاقت السرية النَّعَمَ والشياه، وعادوا راجعين إلى المدينة، وقد التقوا وهو عائدون بثُمامةبن أُثال الحنفي، من عظماء بني حنيفة، فأسروه وهم لا يعرفونه، فلما أتَوا به رسول الله عرفه وعامله بمنتهى مكارم الأخلاق، فإنه أطلق إساره بعد ثلاث أبي فيها الانقياد للإسلام بعد أن عرض عليه. ولما رأى ثمامة هذه المعاملة، وهذه المكارم، رأى من العبث أن يتبع هواه ويترك ديناً عماده المحامد، فرجع إلى رسول الله وأسلم غير مكره وخاطب الرسول بقوله: يا محمد والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الدين كله إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح أحبّ البلاد إليّ.% فسرّ عليه الصلاة والسلام كثيراً بإسلامه لأن من ورائه قوماً يطيعونه. ولما رجع ثُمامة إلى بلاده مَرَّ بمكة معتمراً وأظهر فيها إسلامه، فأرادت قريش إيذاءه، فذكروا احتياجهم لحبوب اليمامة التي منها ثُمامة فتركوه، ومع ذلك فقد حلف هو ألا يرسل إليهم من اليمامة حبوباً حتى يؤمنوا، فجهدوا جداً، ولم يرَوا بدّاً من الاستغاثة برسول الله، فعاملهم عليه الصلاة والسلام بما جُبِل عليه من الشفقة والمرحمة، وأرسل لثمامة أن يُعيد عليهم ما كان يأتيهم من أقوات اليمامة ففعل. وقد كان لهذا الرجل الكريم الأصل قدم راسخة في الإِسلام عقب وفاة الرسول حينما ارتدّ أكثر أهل بلاده، فكان ينهى قومه عن اتباع مُسيلمة، ويقول لهم: إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله على من اتبعه، فثبت معه كثير من قومه رضي الله عنه.
غزوة بني لِحيان(1/158)
بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصمبن ثابت وإخوانه، ولم يزل رسول الله حزيناً عليهم متشوقاً للقصاص من عدوهم حتى ربيع الأول من هذه السنة، فأمر أصحابه بالتجهّز، ولم يُظهر مقصده كما هي عادته عليه الصلاة والسلام في غالب الغزوات، لتعمى الأخبار عن الأعداء، وولى على المدينة ابن أُم مكتوم، وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرساً، ولم يزل سائراً حتى مقتل أصحاب الرجيع، فترحم عليهم ودعا لهم، ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في الجبال، فأقام عليه الصلاة والسلام بديارهم يومين يبعث السرايا فلا يجدون أحداً، ثم أرسل بعضاً من أصحابه ليأتوا عُسْفَان حتى يعلم بهم أهل مكة فُيداخلهم الرعب، فذهبوا إلى كُرَاع الغميم، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهو يقول: "آيبون، تائبون، لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال".
غزوة الغابة(1/159)
كان للنبي عليه الصلاة والسلام عشرون لِقْحَة ترعى بالغابة، فأغار عليها عُيينةبن حصن في أربعين فارساً واستلبها من راعيها، فجاءت الأخبار رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي بلَّغه هو سَلَمَةُبن الأكوع، أحد رماة الأنصار، وكان عَدّاءً فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى يدركهم المسلمون، فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم، وجعل يرميهم بالنبل، فإذا وجّهت الخيل نحوه رجع هارباً، فلا يُلحق، فإذا دخلت الخيل بعض المضايق علا الجبل، فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا كثيراً مما بأيديهم من الرماح والأبراد ليخفّفوا عن أنفسهم، حتى لا يلحقهم الجيش، ولم يزل سلمة على ذلك حتى تلاحق به الجيش، فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه، وأول من انتهى إليه المقدادبن عمرو، فقال له: "اخرج في طلب القوم حتى ألحقك" وأعطاه اللواء فخرج، وتبعته الفرسان حتى أدركوا أواخر العدو، فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان، واستنقذ المسلمون غالبَ اللقاح، وهرب أوائل القوم بالبقية، وطلب سلمةبن الأكوع من رسول الله أن يرسله مع جماعة في أثر القوم، ليأخذهم على غرّة، وهم نازلون على أحد مياههم، فقال له عليه الصلاة والسلام: "مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ" ثم رجع بعد خمس ليال.
سرية
كان بنو أسد الذين مَرّ ذكرهم كثيراً ما يؤذون مَنْ يمرّ بهم من المسلمين، فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام عُكَّاشةبن مِحْصَن في أربعين راكباً ليُغير عليهم، ولما قارب بلادهم علموا به فهربوا، وهناك وجدوا رجلاً نائماً فأمّنوه ليدلّهم على نَعَم القوم، فدلّهم عليها فاستاقوها، وكانت مائة بعير ثم قدموا المدينة ولم يلقوا كيداً.
سرية(1/160)
وفي ربيع الأول بلغه عليه الصلاة والسلام أن من بذي القَصّة يريدون الإغارة على نَعَم المسلمين التي ترعى بالهيفاء، فأرسل لهم محمدبن مسلمة في عشرة من المسلمين، فبلغ ديارهم ليلاً، وقد كَمَن المشركون حينما علموا بهم، فنام المسلمون، ولم يشعروا إلا والنبل قد خالطهم، فتواثبوا على أسلحتهم ولكن تغلب عليهم الأعداء فقتلوهم، غير محمدبن مسلمة تركوه لظنهم أنه قُتِل، فعاد إلى المدينة، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرسل أبا عبيدة عامربن الجراح في ربيع الآخر ليقتصَّ من الأعداء، فلما وصل ديارهم وجدهم تشتتوا هاربين فاستاق نَعَمَهم ورجع.
سرية
عاكَسَ بنو سُليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في سيرهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام زيدَبن حارثة في ربيع الآخر ليُغير عليهم في الجَمُوم فلما بلغوا ديارهم وجدوهم تفرقوا، ووجدوا هناك امرأة من مُزينة دلّتهم على منازل بني سُليم، أصابوا بها نَعَماً وشاءً، ووجدوا رجالاً أسروهم، وفيهم زوج تلك المرأة، فرجعوا بذلك إلى المدينة، فوهب الرسول لهذه المرأة نفسها وزوجها.
سرية
بلغ الرسول أن عِيراً لقريش أقبلت من الشام تريد مكة، فأرسل لها زيدبن حارثة في مائة وسبعين راكباً ليعترضها، فأخذها وما فيها وأسر مَن معها من الرجال، وفيهم أبو العاصبن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله، وكان من رجال مكة المعدودين تجارة ومالاً وأمانةً، فاستجار بزوجه زينب فأجارته، ونادت بذلك في مجمع قريش، فقال عليه الصلاة والسلام: "المسلمون يد واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجرتِ" وهذا أبلغ ما قيل في المساواة بين أفراد المسلمين وردّ عليه الرسول ماله بأسره لا يفقد منه شيء، فذهب إلى مكة. فأدى لكل ذي حقَ حقَّه، ورجع إلى المدينة مسلماً، فردّ عليه رسول الله زوجه.
سرية(1/161)
وفي جمادى الآخرة أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَبن حارثة في خمسة عشر رجلاً، للإغارة على بني ثعلبة، الذين قتلوا أصحاب محمدبن مسلمة وهم مقيمون بالطَّرَفِ. فتوجهت السرية لذلك، ولما رآهم الأعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول الله، فهربوا وتركوا نَعَمهم وشاءهم، فاستاقها المسلمون ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ليالٍ.
سرية
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَبن حارثة، ليُغيرَ على بني فَزَارة لأنهم تعرضوا لزيد وهو راجع بتجارة من الشام، فسلبوا ما معه، وكادوا يقتلونه، فلما جاء المدينة، وأخبر الرسول الخبر، أرسله مع رجاله للقصاص من فَزارة المقيمين في وادي القُرى. فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا بهم، وقتلوا منهم جمعاً كثيراً، وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة، فاستوهبها عليه الصلاة والسلام ممّن أسرها وفدى بها أسيراً كان بمكة.
سرية
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عبد الرحمانبن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني كلب في دُومة الجَنْدل، وقد وصّاهم عليه الصلاة والسلام قبل السفر بقوله: "اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيّه فيكم" ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة الله حتى حلّوا بديار العدو، فدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم الأَصْبَغبن عمرو النصراني، وأسلم معه جمع من قومه، وبقي آخرون راضين بإعطاء الجزية، فتزوج عبد الرحمان بنت رئيسهم، كما أمره بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذه أقرب واسطة لتمكين صلات الودّ بين الأمراء بحيث يهمّ كلاًّ ما يهمّ الآخر، فنِعما هي سياسة السلم والمحبة.
سرية(1/162)
وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عليبن أبي طالب في مائة لغزو بني سعدبن بكر بفَدَك لأنه بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر يُعطَونه من تمر خيبر، فسارت السرية، وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس للعدوّ، وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد المعاهدة مع يهودها، فطلبوا منه أن يدلّهم على القوم وهو آمنٌ، فدلهم على موضعهم، فاستاق منه المسلمون نَعَم القوم، وهرب الرعاةُ، فحذَّروا قومهم، فدَاخَلَهم الرعب، وتفرقوا، فرجع المسلمون ومعهم خمسمائة بَعير وألفا شاةٍ، وردّ الله كيدَ المشركين فلم يمدُّوا اليهود بشيء.
قتل أبي رافع(1/163)
وكان المحرّك لأهل خيبر على حرب المسلمين، وهو سيدهم، أبو رافع سَلاّمبن أبي الحُقيق الملقب بتاجر أهل الحجاز، لما كان له من المهارة في التجارة، وكان ذا ثروة طائلة يُقَلِّبُ بها قلوبَ اليهود كما يريد، فانتدب له عليه الصلاة والسلام مَنْ يقتله، فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم عبد اللهبن عَتِيْك، ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعبَبن الأشرف، فإن من نِعم الله على رسوله أن كان الأوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول الله، فلا تعمل الأوسُ عملاً إلا اجتهد الخزرجُ في مثله، فأمرهم الرسول بذلك بعد أن وصَّاهم ألاّ يقتلوا وليداً ولا امرأة، فساروا حتى أتوا خيبر، فقال عبد الله لأصحابه: مكانَكم، فإني منطلقٌ للبوّاب ومتلطِّف له لعلّي أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنَّع بثوب كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البوّاب: ادخل يا عبد الله إن كنت تريد الدخول، فإني أُريد أن أُغلق الباب، فدخل وكَمَن حتى نام البوَّاب، فأخذ المفاتيح، وفتح ليسهُل له الهرب، ثم توجه إلى بيت أبي رافع، وصار يفتح الأبواب التي تُوصل إليه، وكلما فتح باباً أغلقه من الداخل حتى انتهى إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، فلم يمكنه تمييزه، فنادى يا أبا رافع قال: من؟ فأهوى بالسيف نحو الصوت فلم يغن شيئاً، وعند ذلك قالت امرأته: هذا صوت ابن عتيك، فقال لها: ثكلتك أُمُّكِ وأين ابن عتيك الآن؟ فعاد عبد الله للنداء مُغيِّراً صوته، قائلاً: ما هذا الصوت الذي نسمعه يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف، فعمد إليه فضربه أخرى لم تُغنِ شيئاً، فتوارى ثم جاءه كالمُغيث وغَيَّر صوته، فوجده مستلقياً على ظهره، فوضع السيف في بطنه، وتحامل عليه حتى سمع صوت العظم، ثم خرج من البيت، وكان نظره ضعيفاً فوقع من فوق السُلَّم فكسرت رجله، فعصَبها بعمامته، ثم انطلق إلى أصحابه، وقال: النجاة، قتِل(1/164)
والله أبو رافع، فانتهوا إلى الرسول، فحدَّثوه ثم قال لعبد الله: "ابسط رجلك" فمسحها علْيه الصلاة والسلام فكأنه لم يشتَكِها قطّ، وعادت أحسن ما كانت فانظر ــــ رعاك الله ــــ إلى ما كان عليه المسلمون من استسهال المصاعب ما دامت في إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
سرية
ولما قُتل كعبٌ ولّى اليهود مكانه أُسَيربن رِزام، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يستعلم له خبره، فجاءته الأخبار بأنه قال لقومه: سأصنع بمحمد ما لم يصنعه أحدٌ قبلي، أسير إلى غطفان فأجمعهم لحربه، وسعى في ذلك. فأرسل عليه الصلاة والسلام عبد اللهبن رواحة الخزرجي في ثلاثين من الأنصار لاستمالته، فخرجوا حتى قدموا خيبر، وقالوا لأسير: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي مثل ذلك، فأجابوه، ثم عرضوا عليه أن يقدم على رسول الله ويترك ما عزم عليه من الحرب فيولِّيه الرسول على خيبر، فيعيش أهلها بسلام، فأجاب إلى ذلك وخرج في ثلاثين يهودياً كلُّ يهودي رديفٌ لمسلم، وبينما هم في الطريق ندم أُسَير على مجيئه، وأراد التخلّص مما فعل بالغدر بمن أمَّنوه فأهوى بيده إلى سيف عبد اللهبن رواحة، فقال له: أغدراً يا عدو الله؟ ثم نزل وضربه بالسيف فأطاح عامّة فخذه، ولم يلبث أن هلك، فقام المسلمون على مَن معه من اليهود فقتلوهم عن آخرهم. وهذه عاقبة الغدر.
قصة عُكْل وعُرَيْنَة(1/165)
قدِمَ على رسول الله في شوّال جماعة من عُكْل وعُرَيْنَة، فأظهروا الإسلام وبايعوا رسول الله. وكانوا سِقاماً، مصفرةً ألوانهم، عظيمةً بطونهم، فلم يوافقهم هواء المدينة، فأمر لهم عليه الصلاة والسلام بذَوْد من الإبل معها راعٍ، وأمرهم باللحوق بها في مرعاها ليشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، ولما تم شفاؤهم جازوا الإحسان كفراً، فقتلوا الراعي ومَثَّلُوا به، واستاقوا الإبل، فلما بلغ ذلك رسول الله أرسل وراءهم كُرزبن جابر الفِهري في عشرين فارساً فلحقوا بهم، وقبضوا على جميعهم، ولما جيء بهم إلى المدينة أمر عليه الصلاة والسلام أن يمثل بهم كما مَثَّلُوا بالراعي، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وسُمِّرَتْ أعينُهم وألقوا بالحرّة حتى ماتوا، فهكذا يكون جزاءُ الخائن الذين لا يُنتظر منه صلاح، وعَمَلُ هؤلاء الشريرين مما يدل على فساد الأصل، ولؤم العشيرة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن المُثْلَة.
سرية(1/166)
جلس أبو سفيانبن حرب يوماً في نادي قومه، فقال: ألا رجل يذهب لمحمد فيقتله غدراً فإنه يمشي بالأسواق لنستريحَ منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما أراد، فأعطاه راحلةً ونفقةً وجهّزه لذلك. فخرج الرجل حتى وصل إلى المدينة صُبْحَ سادسةٍ من خروجه، فسأل عن رسول الله فَدُلَّ عليه وهو بمسجد بني عبد الأشهل، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: "إن هذا الرجل ليريد غدراً، وإن الله مانعي منه" فذهب لينحني على الرسول، فجذبه أُسيدبن حضير من إزاره، وهنالك سقط الخنجر، فندم الرجلُ على فعلته، ثم سأله عليه الصلاة والسلام عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثّق من حفظ دمه، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيله. فقال الرجل: والله يا محمد ما كنت أخافُ الرجال، فما هو إلا أَنْ رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم إنك اطّلعت على ما هَممتُ به مما لم يعلمه أحد، فعرفتُ أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزبُ الشيطان، ثم أسلم. وعند ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام عمروبن أمية الضَّمْرِي، وكان رجلاً جريئاً فاتكاً في الجاهلية، وأصحبه برفيق، ليقتلا أبا سفيان غيلة جزاء اعتدائه، فلما قدما مكة توجها ليطوفا بالبيت قبل أن يؤديا ما أرسلا له، فعرف عَمْراً أحدُ رجال مكة، فقال: هذا عمروبن أُميّة ما جاء إلا بشر، فلما رآهم علموا به لم يجد مناصاً من الهرب، فاصطحب معه رفيقه، ورجعا إلى المدينة، وكأَنَّ الله سبحانه أراد أن يعيش أبو سفيان حتى يُسَلِّمَ بيده مفاتيحَ الكعبة للمسلمين، ويعتنق الدين الحنيفي القويم.
غزوة الحُدَيْبيَة(1/167)
رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلِّقين رؤوسَهم ومقصِّرين، فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذراً من أن تردّهم قريش عن عمرتهم، ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألاّ ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، وتخلَّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدّتهم ألفاً وخمسمائة، وولى على المدينة ابن أُم مكتوم، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهَدْيَ ليعلم الناس أنه لم يأت محارباً، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلا السيوف في القُرُب، لأن الرسول لم يرضَ أن يحملوا السيوف مجردة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عُسْفان فجاءه عينه يخبره أن قريشاً أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكة وألاّ يدخلوها عليهم عَنْوةً أبداً. وتجهزوا للحرب، وأعدّوا خالدبن الوليد في مائتي فارس طليعة لهم ليصدّوا المسلمين عن التقدم، فقال عليه الصلاة والسلام: "هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم؟" فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستوٍ سهل يملك مكة من أسفلها، فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المُرَار بركت ناقته. فزجروها فلم تقم، فقالوا: خلأَتِ القَصْوَاء، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما خلأت وما ذلك لها بخُلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل. والذي نفسُ محمد بيده لا تدعوني قريش لِخَصْلَة فيها تعظيمُ حرمات الله إلا أجبتهم إليها" مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم، ولكن كَفَّ الله أيدي المسلمين عن قريش، وكَفَّ أيدي قريش عن المسلمين كيلا تُنتهك حُرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرماً آمناً، ويوطد المسلمون من جميع الأقطار دعائمَ أخوتهم(1/168)
فيه. ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء بُدَيلبن وَرْقَاء الخُزاعي رسولاً من قريش، يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلما رجع بُديل إلى قريش وأخبرهم بذلك، لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله كما كانت كذلك لأجداده، وقالوا: أيريد محمدٌ أن يدخل علينا في جنوده معتمراً تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبداً ومنا عَيْن تَطْرف. ثم أرسلوا حُلَيْسَبن علقمة سَيِّد الأحابيش وهم حلفاء قريش، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: "هذا مِنْ قوم يعظّمون الهدْي، ابعثوه في وجهه حتى يراه"، ففعلوا، واستقبله الناس يُلَبُّون، فلما رأى ذلك حُلَيْس رجع، وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا. أتحجُّ لخم وجذام وحمير، ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكْت قريش، وربِّ البيت إن القوم أَتَوا معتمرين.
فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلسْ إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عُرْوَةَبن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول الله، وقال: يا محمد قد جمعتَ أوباشَ الناس، ثم جئت إلى أهلك وعشيرتك لِتَفُضَّها بهم إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألا تدخلها عليهم عَنْوة أبداً. وايمُ الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فنال منه أبو بكر، وقال: نحن ننكشف عنه؟ ويحك(1/169)
وكان عروة يتكلم وهو يمسّ لحية رسول الله، فكان المغيرةبن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك، ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه، لا يتوضأ وضُوءاً إلا كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به، وإذا تكلموا خَفَضوا أصواتهم عنده، ولا يُحِدُّون النظر إليه. فقال: والله يا معشر قريش جئتُ كسرى في ملكه وقيصرَ في عظمته، فما رأيتُ مَلِكاً في قومه مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونه لشيء أبداً، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشداً فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه. فقالت قريش: لا تتكلم بهذا، ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل. ثم إن الرسول اختار عثمانبن عفان رسولاً من عنده إلى قريش حتى يعلمهم مَقْصِده، فتوجَّه وتوجَّه معه عشرة استأذنوا الرسول في زيارة أقاربهم، وأمر عليه الصلاة والسلام عثمان أن يأتي المستضعفين من المؤمنين بمكة فيبشرهم بقرب الفتح وأنَّ اللّه مُظِهر دينه، فدخل عثمان مكة في جوار أبَانبن سعيد الأموي فَبَلَّغ ما حمل، فقالوا: إن محمداً لا يدخلها علينا عَنْوة أبداً. ثم طلبوا منه أن يطوف بالبيت، فقال: لا أطوف ورسول الله ممنوع، ثم إنهم حبسوه، فشاعَ عند المسلمين أن عثمان قُتِلَ، فقال عليه الصلاة والسلام حينما سمع ذلك: "لا نبرح حتى نُناجزهم الحرب".
بيعة الرضوان
ودعا الناسَ للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك ــــ سميت بعد بشجرة الرضوان ــــ على الموت، فشاعَ أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم، وكانوا قد أرسلوا خمسين رجلاً عليهم مكرزُبن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم غِرَّة، فأسرهم حارس الجيش محمدبن مسلمة وهرب رئيسهم، ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين حتى أسر منهم اثنا عشر رجلاً وقُتل من المسلمين واحد.
صلح الحُدَيبية(1/170)
وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بنَ عَمْرو للمكالمة في الصلح، فلما جاء قال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منّا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا مَنْ عندكم. وعندئذٍ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي:
1 ــــ وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات.
2 ــــ من جاء المسلمين من قريش يردّونه، ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يلزمون بردّه.
3 ــــ أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش، فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلا السيف في القراب والقوس.
4 ــــ من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط. أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم وقالوا: سبحان الله كيف نَرُدُّ إليهم من جاءنا مسلماً، ولا يردّون مَنْ جاءهم مُرْتداً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً".Y
أما الأمر الثالث: وهو صدُّ المسلمين عن الطواف بالبيت فكان أشد تأثيراً في قلوبهم، لأن الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه أنهم دخلوا البيت آمنين، وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال رضي الله عنه: وهل ذكر أنه في هذا العام؟ ثم كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب عليبن أبي طالب، فأملاه عليه الصلاة والسلام: "بسم الله الرحمان الرحيم". فقال سُهيل: اكتب باسمك اللهمّ، فأمره الرسول بذلك، ثم قال: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك، اكتب محمدبن عبد الله. فأمر عليه الصلاة والسلام عليّاً بمحو ذلك وكتابة محمدبن عبد الله، فامتنع، فمحاها النبي بيده، وكتبت نسختان نسخة لقريش ونسخة للمسلمين.(1/171)
وبعد كتابة الشروط جاءهم أبو جَنْدلبن سُهيل يَحْجِلُ في قيوده، وكان من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فهرب للمسلمين هذه المرة ليحموه، فقال عليه الصلاة والسلام: "اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرَجاً ومخرجاً، إنَّا قد عقدنا بين القوم صُلحاً وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً فلا نغدر بهم".
هذا، وقد دخلت قبيلة خُزاعة في عهد رسول الله ودخل بنو بكر في عهد قريش.
ولما انتهى الأمر، أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، وينحروا الهدْي ليتحلَّلوا من عمرتهم، فاحتمل المسلمون من ذلك همَّاً عظيماً، حتى إنهم لم يبادروا بالامتثال، فدخل عليه الصلاة والسلام على أُم المؤمنين، أُم سلمة، وقال لها: "هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا"، فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فقد حمَّلت نفسك أمراً عظيماً في الصلح، ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مكروبون، ولكن اخرجْ يا رسول الله وابدأهم بما تريد فإذا رأوْكَ فعلت تبعوك، فتقدم عليه الصلاة والسلام إلى هَدْيِهِ فنحره ودعا بالحلاّق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة، وقد أمن كلّ فريق الآخر. ولما قرَّ قرارهم جاءتهم مهاجرة أُم كلثوم بنت عقبةبن أبي معيط، أخت عثمان لأمه، فطلبها المشركون فقالت: يا رسول الله إني امرأة، وإن رجعت إليهم فتنوني في ديني، فأنزل الله في سورة الممتحنة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَآءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْئَلُواْ مَآ(1/172)
أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(10)
وقد تمكن أبو بصير عتبةبن أسيد الثقفي ــــ رضي الله عنه ــــ من الفرار إلى رسول الله، فأرسلت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فأمره عليه الصلاة والسلام بالرجوع معهما، فقال: يا رسول الله أتردّني إلى الكفار يفتنوني في ديني بعد أن خلّصني الله منهم؟ فقال: "إن الله جاعل لك ولإخوانك فرجاً"، فلم يجد بداً من اتّباعه، فرجع مع صاحبيه، ولما كان بذي الحُلَيفة عدا على أحدهما فقتله، وهرب منه الآخر، فرجع إلى المدينة وقال: يا رسول الله وفَتْ ذمتك، أما أنا فنجوت، فقال له: "اذهب حيث شئت ولا تُقِمْ بالمدينة" فذهب إلى محل بطريق الشام تمرّ به تجارة قريش، فأقام به واجتمع معه جمع ممّن كانوا مسلمين بمكة ونَجوا، وسار إليه أبو جندلبن سهيل، واجتمع إليه جمع من الأعراب، وقطعوا الطريق على تجارة قريش حتى قطعوا عنهم الأمداد، فأرسل رجال قريش لرسول الله يستغيثون به في إبطال هذا الشرط ويعطونه الحق في إمسَاك من جاءه مسلماً، فقبل منهم ذلك، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي لم يتمكنوا من تحمّلها في الحديبية حينما أمرهم عليه الصلاة والسلام بردّ أبي جندل، وعلموا أن رأي رسول الله أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه أمن تسبب عنه اختلاط الكفار بالمسلمين، فخالطت بشاشة الإسلام قلوبهم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظمَ من فتح الحديبية ولكن الناس قصر رأيهم عمّا كان بين محمد وربِّه، والعبادُ يَعْجَلُون، والله لا يَعْجَلُ لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وفي رجوعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح، وقال سبحانه في أولها: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} (الفتح:1) وفي تسمية هذه الغزوة بالفتح المبين تصديق لما قدّمنا لك عن الصدِّيق.
مكاتبة الملوك(1/173)
بعد رجوع المسلمين من الحديبية في أواخر سنة ست وأمن الطريق من قريش، كاتب عليه الصلاة والسلام ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، واتخذ إذ ذاك خاتماً من فضة يختم به خطاباته، وكان نقشه: محمد رسول الله، فوجَّه دِحْيَة الكلبي بكتاب إلى قيصر ملك الروم، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بُصرى ليوصله إلى الملك.
كتاب قيصر
وكان في الكتاب: "بسم الله الرحمان الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هِرَقْل عظيم الروم، سلام على من اتّبع الهُدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلَم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين: وقُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)
حديث أبي سفيان(1/174)
ولما وصل هذا الكتاب قيصر، قال: انظروا لنا من قومه أحداً نسأله عنه، وكان أبو سفيانبن حرب بالشام مع رجال من قريش في تجارة، فجاءت رُسُل قيصر لأبي سفيان ودَعَوه لمقابلة الملك فأجاب، ولما قدموا عليه في القدس قال لترْجُمانه: سَلْهُمْ أيّهم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان: أنا، لأنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره، فقال قيصر: ادنُ مني، ثم أمر أصحابه فجعلوا خلف ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إنما قدّمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وقد جعلتكم خلفه كيلا تخجلوا من ردّ كذبه عليه إذا كذب، ثم سأله كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: هل تكلَّم بهذا القول أحدٌ منكم قبله؟ قال: لا. قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا. قال: فأشراف الناس يَتَّبِعُونه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. قال: فهل يزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون. قال: هل يرتدّ أحد منهم سَخْطة لدينه؟ قال: لا. قال: هل يغدر إذا عاهد؟ قال: لا، ونحن الآن منه في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سِجَال مرة لنا ومرة علينا. قال: فَبِمَ يأمُركم؟ قال: يقول: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، وينهى عمّا كان يعبد آباؤنا ويأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة".(1/175)
فقال الملك: إني سألتك عن نسبه فزعمتَ أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تُبْعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فزعمتَ أنْ لا، فلو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلتُ: رجلٌ يأْتَمُّ بقولٍ قيل قبله، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمتَ أنْ لا، فقلت: ما كان ليذرَ الكذبَ على الناس ويكذب على الله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فقلت: لا، فلو كان من آبائه ملك لقلت: رجل يطلب مُلك أبيه، وسألتك أأشرافُ الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلتَ: بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلت: بل يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك هل يرتدّ أحد منهم سَخْطة لدينه؟ فقلت: لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وإن الحرب بينكم وبين سِجَال، وكذلك الرُّسُل تُبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك: بماذا يأمر؟ فزعمتَ أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، فعلمتُ أنه نبيٌّ، وقد علمتُ أنه مبعوث، ولم أظن أنه فيكم، وإن كان ما كلّمتني به حقاً فسيملك موضعَ قدميَّ هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتكلفت ذلك، قال أبو سفيان: فَعَلَتْ أصواتُ الذين عنده وكثر لَغَطُهم فلا أدري ما قالوا وأُمر بنا فأخرجنا.
فلما خرج أبو سفيان مع أصحابه قال: لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر(1/176)
ولما سار قيصر إلى حمص أَذِن لعظماء الروم في دَسْكَرة له، ثم أمر بأبوابها فأُغلقت ثم قال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت مُلككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فلما رأى قيصر نفرتهم، قال: ردّوهم عليَّ، فقال لهم: إني قلت مقالتي أختبر بها شدّتكم على دينكم، فسكتوا له، ورضوا عنه. فغلبه حُبُّ مُلكه على الإسلام، فذهب بإثمه وإثم رعيته كما قال عليه الصلاة والسلام ولكنه ردّ دحيةَ ردَّاً جميلاً.
كتاب أمير بُصرى
وأرسل عليه الصلاة والسلام الحارثبن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بُصرى، فلما بلغ مؤتة، وهي قرية من عمل البلقاء بالشام، تعرّض له شرحبيلبن عمرو الغساني، فقال له: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلّك من رُسُل محمد؟ قال: نعم، فأمر به، فضُربَتْ عنقه. ولم يُقتل لرسول الله عليه الصلاة والسلام رسول غيره، وقد وَجَدَ لذلك وَجْداً شديداً.
كتاب الحارثبن أبي شَمِر
ووجّه عليه الصلاة والسلام شجاعَبن وهب إلى أمير دمشق ــــ من قِبَلَ هِرَقْل ــــ الحارثبن أبي شَمِر، وكان يقيم بغوطتها وفيه: "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارثبن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله، وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك" فلما قرأ الكتاب رمى به، وقال: من ينزعُ مُلكي منّي. واستعدّ ليرسلَ جيشاً لحرب المسلمين، وقال لشجاع: أخبر صاحبك بما ترى، ثم أرسل إلى قيصر يستأذنه في ذلك، وصادف أن كان عنده دحية فكتب قيصرُ إليه يثنيه عن هذا العزم ويأمره أن يُهيِّىء بإيلياء ما يلزم لزيارته، فإنه بعد أن قهر الفرس نذر زيارتها، فلما رأى الحارثُ كتاب قيصر صرفَ شجاعَبن وهب بالحسنى، ووصَلَهُ بنفقة وكسوة.
كتاب المُقَوْقِس(1/177)
ووجّه عليه الصلاة والسلام حاطبَبن أبي بَلْتعة بكتاب إلى المقوقس أمير مصر من جهة قيصر، وكان فيه: "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على مَن اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلمْ تَسْلَم يُؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليتَ فإنما عليك إثم القبط"، وياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ الْمُمْتَرِينَ الْمُمْتَرِينَ الْمُمْتَرِينَ} الآية (آل عمران: 64) فأوصله له حاطب بإسكندرية، فلما قرأه قال: ما منعه إن كان نبيّاً أن يدعو على مَن خالفه وأخرجه من بلده؟ فقال حاطب: ألستَ تشهدُ أن عيسى ابن مريم رسولُ الله، فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه ألاّ يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله حتى رفعه الله إليه؟ قال: أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم. ثم قال: إني قد نظرتُ في أمر هذا النبي فوجدتُ أنه لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضّالّ، ولا الكاهن الكذاب، ووجدتُ معه آلة النبوّة: إخراج الغائب المستور، والإخبار بالنجوى، وسأنظر.
ثم كتب ردّ الجواب يقول فيه: بسم الله الرحمان الرحيم: لمحمدبن عبد الله من المقوقس عظيمِ القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمتُ ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمتُ أن نبياً قد بقي وكنتُ أظن أنه يخرجُ بالشام، وقد أكرمتُ رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط، وبثياب، وأهديت إليك بغلة تركبها والسلام. وإحدى الجاريتين مارية التي تسرّى بها عليه الصلاة والسلام، وجاء منها بولده إبراهيم، والأخرى أعطاها لحسانبن ثابت. ولم يسلم المقوقس.
كتاب النّجاشي(1/178)
ووجه عليه الصلاة والسلام عمروبن أمية الضّمْرِي بكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة وفيه: "بسم الله الرحمان الرحيم من محمد رسول الله، إلى النجاشي عظيم الحبشة سلام. أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ، وقد بلّغتُ ونصحتُ، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى" ولما وصله الكتاب احترمه غاية الاحترام، وقال لعمرو: إني أعلم والله أن عيسى بشَّرَ به، ولكنَّ أعواني بالحبشة قليل فأنظرني حتى أُكَثِّر الأعوانَ وألين القلوب.
وقد عرض عمرو على مَنْ بقي من مهاجري الحبشة الرجوع إلى رسول الله بالمدينة، وكان من المهاجرين أُم حبيبة بنت أبي سفيان زوج عبيد اللهبن جحش الذي كان أسلم وهاجر بها، ولكن قد غلبت عليه الشقاوة فتنصّر، فتزوج عليه الصلاة والسلام أُمّ حبيبة وهي بالحبشة، والذي زوّجها له النجاشي بتوكيل منه عليه الصلاة والسلام.
كتاب كسرى(1/179)
ووجّه عليه الصلاة والسلام عبد اللهبن حذافة السهمي بكتاب إلى كسرى، ملك الفرس، وفيه: "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتَّبَعَ الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيّاً، ويحقّ القول على الكافرين، أسلم تسلم فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس" فلما وصله الكتاب مَزَّقَهُ استكباراً، ولما بلغه عليه الصلاة والسلام ذلك، قال: "مزَّق الله مُلكه كل ممزّق" وقد فعل، فكانت مملكته أقرب الممالك سقوطاً وقد بدأ هذا الشقي بالعدوان، فأرسل لعامِله باليمن أن يوجّه إلى الرسول مَن يأتي به إليه فعاجله الله بقيام ابنه شيرويه عليه وقَتْلِهِ له، ثم أرسل لعامله في اليمن ينهاه عمّا أمره به أبوه.
كتاب المنذربن ساوى(1/180)
ووجّه عليه الصلاة والسلام العلاءَبن الحضرمي بكتاب إلى المنذربن ساوى ملك البحرين يدعوه إلى الإسلام وفيه: "بسم الله الرحمان الرحيم، سلام أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أما بعد: فإنّ منْ صلى صلاتنا، واستقبل قِبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ذمة الله وذمّة الرسول، مَنْ أحبّ ذلك من المجوس فإنه آمن، ومن أبى فإن عليه الجزية" فأسلم وكتب في رد الجواب: أما بعد، يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم مَنْ كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إليّ في ذلك أمرك. فكتب إليه عليه الصلاة والسلام: "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذربن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإني أذكرك الله عزّ وجلّ فإنه مَنْ ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يُطعْ رُسُلي، ويتّبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رُسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفَّعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نَعْزِلَكَ عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية".
كتاب مَلِكَيْ عُمَان(1/181)
ووجّه عليه الصلاة والسلام عمروبن العاص بكتاب إلى جَيْفَر وعبد ابني الجُلندَى ملكي عُمَانَ وفيه: "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد رسول الله إلى جَيْفَر وعبد ابني الجُلَنْدَى، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلماً، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما، وإن أبيتما أَن تقرّا بالإسلام فإن ملككما زائل، وخيلي تحلّ بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما" فلما دخل بناديهما عمرو سأله عبدبن الجُلَنْدى عمّا يأمر به الرسول وينهى عنه، فقال: يأمر بطاعة الله عزّ وجلّ، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبرّ، وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان والزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب، فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدّق به، ولكن أخي أضنّ بمُلْكه من أن يدعه ويصير تابعاً. قال عمرو: إن أسلم أخوك مَلَّكُه رسول الله على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردّها على فقيرهم، فقال عبد: إن هذا لخُلقٌ حسن. وما الصدقة؟ فأخبره بما فرض الله من الصدقات في الأموال، ولما ذكر المواشي، قال: يا عمرو يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه؟ قال: نعم، فقال عبد: والله ما أرى قومي على بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. ثم إن عبداً أوصل عَمْراً لأخيه جيفر فتكلم معه عمرو بما ألانَ قلبه حتى أسلم هو وأخوه، ومَكَّناهُ من الصدقات.
كتاب هَوْذَةبن علي(1/182)
ووجّه عليه الصلاة والسلام سَلِيْطبن عمرو العامري بكتاب إلى هَوْذةبن علي ملك اليمامة، وفيه: "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد رسول الله إلى هَوْذةبن علي، سلام على من اتبع الهدى، وأعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخُفِّ والحافرِ، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك" فلما جاءه الكتاب كتب في ردّه: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك.
ولما بلغ ذلك رسول الله قال: "لو سألني قطعة من الأرض ما فعلتُ، بادَ وباد ما في يديه". فلم يلبث أن مات مُنصَرَف الرسول صلى الله عليه وسلم من فتح مكة. وكان عليه الصلاة والسلام يولّي على كل قوم قبلوا الإسلام كبيرهم.
السَّنَة السَّابعة
غزوة خَيبر
وفي محرم السنة السابعة أمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز لغزو يهود خيبر، الذين كانوا أعظم مُهَيِّجٍ للأحزاب ضد رسول الله في غزوة الخندق، والذين لا يزالون مجتهدين في محالفة الأعراب ضد رسول الله كما قدّمنا ذلك في قصة كعببن الأشرف. وقد استنفر رسولُ الله لذلك مَنْ حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية، وجاء المخلَّفون عنها ليؤذَن لهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تخرجوا معي إلا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئاً"، وأمر منادياً ينادي بذلك، ثم خرج عليه الصلاة والسلام بعد أن ولَّى على المدينة سِبَاعَبن عُرْفُطَةَ الغفاري. وكان معه من أزواجه أُمّ سلمة، ولما وصل جيش المسلمين إلى خيبر التي تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي، رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام: "ارفقوا بأنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم".(1/183)
وكانت حصون خيبر ثلاثة، منفصلاً بعضها عن بعض، وهي: حصون النَّطَاة، وحصون الكَتيبة، وحصون الشَّق، والأولى ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصَّعْب، وحصن قُلَّةٍ، والثانية حصنان: حصن أُبيّ، وحسن البريء، والثالثة ثلاثة حصون: حصن القَمُوص، وحصن الوَطِيْح، وحصن السُّلاِلم، فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النَّطاة، وعسكر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل، وأمر عليه الصلاة والسلام أن يقطع نخلهم ليرهبهم حتى يسلموا، فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة. ولما رأى عليه الصلاة والسلام تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع، ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة، وكان لواء المسلمين بيد أحد المهاجرين فلم يصنع في ذلك اليوم شيئاً، وفيه مات محمودبن مسلمة أخو محمدبن مسلمة، وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة، ويخلّف على العسكر أحد المسلمين، حتى إذا كانوا في الليلة السادسة، ظفر حارس الجيش، وهو عمربن الخطاب، بيهودي خارج في جوف الليل، فأتى به رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما أدرك الرجل الرعب قال: إن أمَّنْتُموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم.d فقالوا: دُلَّنَا فقد أَمَّنَّاك، فقال: إن أهل هذا الحصن أدركهم الملال والتعب، وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشَّق، وسيخرجون لقتالكم غداً، فإذا فتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلكم على بيت فيه منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون، فإنكم تنصبون المنجنيق، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فينقبون الحصن فتفتحه من يومك، فقال عليه الصلاة والسلام لمحمدبن مسلمة: "سأُعطي الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّانه" فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنّونها، حتى قال عمربن الخطاب: ما تمنيت الإمارة إلا ليلتئذ.(1/184)
فلما كان الغد سأل عليه الصلاة والسلام عن عليبن أبي طالب فقيل له: إنه أرمد، فأرسل مَنْ يأتيه به، ولما جاء تَفَلَ في عينيه فشفاهما الله كأن لم يكن بهما شيء، ثم أعطاه الراية، فتوجه مع المسلمين للقتال، وهناك وجدوا اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البِرَاز فقتله عليٌّ، ثم خرج مَرْحَبٌ، وهو أشجع القوم، فألحقه برفيقه، فخرج أخوه ياسر، فقتله الزبيربن العوّام، ثم حملَ المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقفهم، وتبعوهم حتى دخلوا الحصن بالقوة وانهزم الأعداء إلى الحصن الذي يليه وهو حصن الصَّعْبِ، وغنم المسلمون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر، ثم تتبعوا اليهود إلى حصن الصَّعْب، فقاتل عنه اليهود قتالاً شديداً حتى رد عنه المسلمون، ولكن ثبت الحباببن المنذر ومن معه وقاتلوا قتالاً شديداً حتى هزموا اليهود، فتبعوهم حتى افتتحوا عليهم الحصن، فوجدوا فيه غنائم كثيرة من الطعام فأمر عليه الصلاة والسلام منادياً يقول: "كلوا واعلفوا دوابكم ولا تأخذوا شيئاً".(1/185)
ثم إن الذين انهزموا من هذا الحصن ساروا إلى حسن قُلَّةٍ، فتبعهم المسلمون، وحاصروهم ثلاثة أيام حتى استصعب عليهم فتحه، وفي اليوم الرابع دلَّهم يهودي على جداول الماء التي يستقي منها اليهود، فمنعوها عنهم، فخرجوا، وقاتلوا قتالاً شديداً انتهى بهزيمتهم إلى حصون الشَّقِّ، فتبعهم المسلمون وبدؤوا بحصن أُبَيّ، فخرج أهله، وقاتلوا قتالاً شديداً أبلى فيه أبو دجانة الأنصاري بلاءً حسناً حتى تمكن من دخول الحصن عَنْوةً، ووجد المسلمون فيه أثاثاً كثيراً ومتاعاً وغنماً وطعاماً، وهرب المنهزمون منه إلى حصن البريء، فتمنعوا به أشد التمنّع، وكان أهله أشدّ اليهود رمياً بالنبل والحجارة حتى أصاب رسول الله بعض منه، فنصب المسلمون عليه المنجنيق فوقع في قلب أهله الرعب، وهربوا منه من غير عناء شديد، فوجد فيه المسلمون أواني لليهود من نحاس وفخار، فقال عليه الصلاة والسلام: "اغسلوها واطبخوا فيها".
ثم تتبّع المسلمون بقايا العدو إلى حصون الكتيبة، وبدأوا بحصن القَموص، فحاصروه عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد عليبن أبي طالب، ومنه سُبيت صفية بنت حُييّبن أخطب، ثم سار المسلمون لحصار حصني الوطيح والسُّلالِم، فلم يقاوم أهلهما بل سلّموا طالبين حقن دمائهم، وأن يخرجوا من أرض خيبر بذراريهم لا يصطحب الواحد منهم إلا ثوباً واحداً على ظهره، فأجابهم رسول الله إلى ذلك، وغنم المسلمون من هذين الحصنين مائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية، ووجدوا صحفاً من التوراة فسلّموها لطالِبيها.
وقد أمر عليه الصلاة والسلام بقتل كنانةبن الربيعبن أبي الحُقَيق لأنه أنكر حُلِيَّ حُيَيّبن أخطب، وقد عثر عليها المسلمون، فوجدوا فيها أساور ودمالج وخلاخيل وقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجواهر والزمرد وغير ذلك.(1/186)
هذا، والذين استشهدوا من المسلمين بخيبر خمسة عشر رجلاً، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً، وفي هذه الغزوة أهدت إحدى نساء اليهود كُرَاع شاة مسمومة لرسول الله، فأخذ منها مضغة، ثم لَفَظَها حيث أُعلم أنها مسمومة، وأكل منها بِشْربن البراء فمات لوقته، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجيء له بالمرأة التي فعلت هذه الفعلة، فسألها عن سبب ذلك فأجابت: قلت إن كان نبيّاً لن يضرّه، وإن كان كاذباً أراحنا الله منه، فعفا عنها عليه الصلاة والسلام.
زواج صفية
وبعد تمام الظفر والنصر تزوج عليه الصلاة والسلام صفية بنت حييّ، سيد بني النضير، وأصدقها عِتْقَهَا، وقد أسلمت رضي الله عنها، فشرفت بأُمومة المؤمنين.
النهي عن نكاح المتعة
ونهى عليه الصلاة والسلام ــــ وهو بخيبر ــــ عن نكاح المتعة، وهي: النكاح لأجلٍ وقد كان حلالاً في الجاهلية، واستعمل في بدء الإسلام حتى حرّمه الشرع في هذه السنة، ونهى كذلك عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية فأكفأ المسلمون قدورها بعد أن نضجت ولم يطعموها.
رجوع مهاجري الحبشة
وحين رجوع المسلمين من خيبر قدِم من الحبشة جعفربن أبي طالب ومعه الأشعريون: أبو موسى وقومه، بعد أن أقاموا فيها نحواً من عشر سنين آمنين مطمئنين، وفرح عليه الصلاة والسلام بمقدمهم فرحاً عظيماً، وأعطى للأشعريين من مغانم الحصون المفتوحة صلحاً، وكان مع جعفر أُمُّ حَبيبة بنت أبي سُفيان أُمّ المؤمنين. وقدم في هذا الوقت على النبي عليه الصلاة والسلام الدوسيون إخوان أبي هريرة رضي الله عنه وهو معهم، فأعطاهم أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتح فَدَك
وبعد تمام الفتح، أرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يطلب من يهود فَدَك الانقياد والطاعة، فصالحوا رسول الله على أن يحقن دماءهم، ويتركوا الأموال. وكانت أرض فدك هذه لرسول الله خاصّة يُنفق منها على نفسه، ويعول منها صغيربن هاشم ويزوج منها أَيِّمَهُمْ.
صلح تيماء(1/187)
ولما بلغ يهود تيماء ما فعله المسلمون بيهود خيبر صالحوا على دفع الجزية، ومكثوا في بلادهم آمنين مطمئنين.
فتح وادي القُرى
ثم دعا عليه الصلاة والسلام يهودَ وادي القرى إلى الاستسلام فأبوا وقاتلوا، فقاتلهم المسلمون، وأصابوا منهم أحد عشر رجلاً، وغنموا منهم مغانم كثيرة، خَمَّسها عليه الصلاة والسلام، وترك الأرض في أيدي أهلها يزرعونها بشطر ما يُخرجون منها، وكذلك صنع بأرض خيبر، وكان يرسل إليهم عبد اللهبن رواحة لتقدير الثمر، وكان تقديره شديداً عليهم، فأرادوا أن يرشوه، فقال لهم: يا أعداء الله تعطوني السُّحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحبّ الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إيّاكم وحبيّ إياه على ألاّ أعدل.
هذا وبانقياد جميع اليهود المجاورين للمدينة ارتاح المسلمون من شر عدو كان يتربص بهم الدوائر، مهما كان بين الفريقين من العهود والمواثيق. ورجع المسلمون مؤيدين ظافرين.
إسلام خالد ورفيقيه
وأعقب هذه الغزوة وهذا الفتح المبين إسلام ثلاثة طالما كانت لهم اليد الطولى في قيادة الجيوش لحرب المسلمين وهم: خالدبن الوليد المخزومي، وعمروبن العاص السهمي، وعثمانبن طلحة العبدري، فسُرّ بهم عليه الصلاة والسلام سروراً عظيماً، وقال لخالد: "الحمد لله الذي هداك، قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوت ألاّ يسلمك إلا إلى خير" فقال: يا رسول الله ادعُ الله لي أن يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال عليه الصلاة والسلام: "الإسلام يقطع ما قبله".
سرية
وفي شعبان بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من هوازن بتُربَة يظهرون العداوة للمسلمين، فأرسل لهم عمربن الخطاب في ثلاثين رجلاً، فسار إليهم. ولما بلغهم الخبر تفرقوا فلم يجد بها عمر أحداً، فرجع.
سرية(1/188)
ثم أرسل بشيربن سعد الأنصاري لقتال بني مرّة بناحية فَدَاك، فلما ورد بلادهم لم يرَ منهم أحداً، فأخذ نَعَمَهم وانحدر إلى المدينة، أما القوم فكانوا في الوادي، فجاءهم الصريخ فأدركوا بشيراً ليلاً وهو راجع فتراموا بالنبل، ولما أصبح اقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى قُتِل غالبُ المسلمين، وجُرِحَ بشير جرحاً شديداً حتى ظن أنه مات، ولما انصرف عنه العدو تحامل حتى جاء إلى رسول الله وأخبره الخبر.
سرية
وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام غالببن عبد الله الليثي إلى أهل المِيْفَعَة في مائة وثلاثين رجلاً، فساروا حتى هجموا على القوم فقتلوا بعضاً وأسروا آخرين، وفي أثناء الحرب طارد أُسامةبن زيد رجلاً من المشركين، ولما رأى المشرك الموت في يد أُسامة تشهَّد فظن أُسامة أن عدوه إنما قال ذلك تخلصاً فقتله.
ولما رجع المسلمون إلى المدينة، وأُخبر رسول الله بفعلة أُسامة قال: "أقتلته بعد أن قال: لا إله إلاّ الله، فكيف تصنع بلا إله إلاّ الله؟" قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل، قال عليه الصلاة والسلام: "فهلاّ شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟" فقال: يا رسول الله استغفر لي. قال عليه الصلاة والسلام: "فكيف بلا إله إلاّ الله؟" فما زال يكررها حتى تمنى أُسامة أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم، وأنزل الله في ذلك في سورة النساء: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( } (النساء: 94)، ثم أمر عليه الصلاة والسلام أُسامة أن يعتق رقبة كفارة لأنه قتل خطأ.
سرية(1/189)
وفي شوال بلغه عليه الصلاة والسلام أن عُيينةبن حصن واعدَ جماعة من غطفان كانوا مقيمين قريباً من خيبر بأرض اسمها يُمْن وجُبَار للإغارة على المدينة، فأرسل لهم بشيربن سعد في ثلاثمائة رجل، فساروا إليهم يكمنون النهار، ويسيرون الليل حتى أتوا محلتهم، فأصابوا نَعَماً كثيرة، وتفرق الرِّعاء فأخبروا قومهم ففزعوا ولحقوا بعُلْيا بلادهم، ولم يظفر المسلمون إلا برجلين أسلما، ثم رجعوا بالغنائم إلى المدينة.
عمرة القضاء(1/190)
لما حالَ الحول على عمرة الحديبية خرج عليه الصلاة والسلام بمن صُدّ معه فيها ليقضي عمرته، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري، وساق معه الهدي ستين بَدَنَةً، وأخرج معه السلاح حذراً من غدر قريش، وكان معه مائة فرس عليها محمدبن مسلمة، وعلى السلاح بشيربن سعد، وأحرم عليه الصلاة والسلام من باب المسجد المدني، ولما انتهى إلى ذي الحُلَيفة قدَّم الخيل أمامه، فقيل: يا رسول الله حملت السلاح، وقد شرطوا ألاّ تحمله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لا ندخل الحرم به ولكن يكون قريباً منّا، فإن هاجَنا هائج فزعنا له" فلما كان بمرِّ الظَّهران قابله نفرٌ من قريش، ففزعوا من هذه العدّة، وأسرعوا إلى قومهم فأخبروهم فجاءه فتيان منهم وقالوا: والله يا محمد ما عُرفت بالغدر صغيراً ولا كبيراً، وإنّا لم نحدث حَدَثاً فقال: "إنّا لا ندخل الحرم بالسلاح" ولما حان وقت دخوله مكة خرج أهلوها كارهين رؤية المسلمين يطوفون بالبيت، فدخل عليه الصلاة والسلام وأصحابه متوشحين سيوفهم من ثَنيَّة كَدَاء وأمامه عبد اللهبن رواحة يقول: لا إله إلاّ الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. وطاف عليه الصلاة والسلام بالبيت وهو على راحلته، واستلم الحجر بِمِحْجَنِهِ، وأمر أصحابه أن يسرعوا ثلاثة أشواط إظهاراً للقوة لأن المشركين قالوا: سيطوف اليوم بالكعبة قوم نهكتهم حُمَّى يثرب، فقال عليه الصلاة والسلام: "رحم الله امرءاً أراهم من نفسه قوة" واضطبعَ عليه الصلاة والصلام بردائه، وكشف عضده اليمنى شأن الفتوّة، وفعل مثله المسلمون، وقد أتم المسلمون طوافهم بالبيت آمنين محلِّقين رؤوسهم ومقصِّرِين كما رأى عليه الصلاة والسلام في منامه.
زواج ميمونة(1/191)
وتزوج صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج عمه حمزةبن عبد المطلب شهيد أُحُد، وخالة عبد اللهبن العباس ــــ وهي آخر نسائه زواجاً ــــ ولم يدخل بها إلا بعد الخروج من مكة حيث كان بِسَرِف. ولما خرج عليه الصلاة والسلام أمر الذين كان تركهم لحراسة الخَيل بالذهاب ليطوفوا ففعلوا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فرحاً مسروراً بما حَبَاه الله من تصديق رؤياه.
السَّنَة الثامِنَة
سرية
وفي صَفَر أرسل عليه الصلاة والسلام غالببن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوِّح، وهم قوم من العرب يسكنون بالكَدِيد، فسار القوم حتى إذا كانوا بقُدَيدٍ التقوا بالحارثبن مالك الليثي المعروف بابن البرصاء، وكان خصماً لدوداً فأسروه، فقال لهم: ما جئت إلا للإسلام، فقالوا له: إن تكن مسلماً لن يضرك رباط ليلة وإلا استوثقنا منك، ثم ساروا حتى وصلوا محلة بني الملوّح فاستاقوا النَّعَم والشاء، وخرج الصريخ إلى القوم فجاءهم ما لا قبل لهم به، ولكن منّ الله على المسلمين، فأرسل سيلاً شديداً حالَ بينهم وبين عدوهم حتى صار المشركون يرون نَعَمَهم تُساق وهم لا يقدرون على ردّها.
سرية(1/192)
ولما رجع غالب إلى المدينة ظافراً أرسله عليه الصلاة والسلام في مائتي رجل ليقتصّ من بني مرّة بفدك ــــ وهم الذين أصابوا سرية بشيربن سعد ــــ فساروا حتى إذا كانوا قريباً من القوم خطب غالب فيمن معه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أُوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمراً فإنه لا رأي لمن لا يُطاع. ثم آخى بين الجند، فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق أحد منكم زميله، وإيّاكم أن يرجع الرجل منكم فأقولَ له: أين صاحبك؟ فيقول: لا أدري، فإذا كبَّرت فكبّروا، فلما أحاطوا بالعدو، وكبّر كبّروا، وجرّدوا السيوف فلم يفلت من عدوهم أحد، واستاقوا نَعَمَهُمْ، فكان لكل واحد من الغزاة عشرة أبعِرة.
سرية
وفي ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام كعببن عُمير الغفاري إلى ذات أطلاح ــــ من أرض الشام ــــ في خمسة عشر رجلاً، فوجدوا جمعاً كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا وقاتلوا، وكانوا أكثر عدداً، فاستشهد المسلمون عن آخرهم إلا رئيسهم كعببن عمير فإنه نجا، وأتى بالخبر إلى رسول الله، فَشَقَّ عليه، وأراد أن يبعث إليهم من يقتص منهم، فبلغه أنهم تحوَّلوا من منزلهم فعدل عن ذلك.
غزوة مُؤْتَة
جهَّز عليه الصلاة والسلام في جمادى الأولى جيشاً للقصاص ممن قتلوا الحارثبن عمير الأزدي، رسوله إلى أمير بُصرى، وأمَّر عليهم زيدَبن حارثة، وقال لهم: "إن أُصيب فالأمير جعفربن أبي طالب، فإن أُصيب فعبد اللهبن رواحة". وكان عدّة الجيش ثلاثة آلاف، فساروا وشيَّعهم عليه الصلاة والسلام، وكان فيما وصّاهم به: "اغزوا باسم الله فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة ولا صغيراً ولا بصيراً فانياً، ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناءً".(1/193)
ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا مُؤْتة مقتل الحارثبن عمير، وهناك وجدوا الروم قد جمعوا لهم جمعاً عظيماً، منهم ومن العرب المتنصِّرة. فتفاوض رجال الجيش فيما يفعلونه: أيرسلون لرسول الله يطلبون منه مَدداً أم يقدمون على الحرب؟ فقال عبد اللهبن رواحة: يا قوم والله إن الذي تكرهون هو ما خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل بعدد ولا بقوة ولا بكثرة، ما نقاتل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما الظهور وإما الشهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. ومضوا للقتال، فلقوا هذه الجموع المتكاثرة، فقاتل زيدبن حارثة رضي الله عنه حتى استشهد، فأخذ الراية جعفرُبن أبي طالب وهو يقول:
يا حبَّذا الجَنَّةُ واقْتِرَابُهاطيِّبَةٌ وباردٌ شَرابُهاوالرومُ روم قد دَنا عذابُهاكافرةٌ بعيدةٌ أنسابُهاعليَّ إذ لاقيتُها ضرابُها ولم يزل يقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، فأخذ الراية عبد اللهبن رواحة فتقدم ثم تردد بعض التردّد، فقال يخاطب نفسه:
أقسمتُ يا نفسُ لتنزِلنَّهطائعةً أو لَتكْرَهِنَّهْإن أجلبَ الناسُ وشدّوا الرَّنَّهما لي أراكِ تكرهين الجنَّهْ؟قد طال ما قد كنتِ مُطمئنَّههل أنتِ إلا نُطفة في شَنَّه؟ ثم اقتحم بفرسه المعمعة، ولم يزل يقاتل ــــ رضي الله عنه ــــ حتى استشهد، فهمَّ بعض المسلمين بالرجوع إلى الوراء، فقال لهم عقبةبن عامر: يا قوم يُقتل الإنسان مقبلاً خير من أن يقتل مدبراً، فتراجعوا واتفقوا على تأمير الشهم الباسل خالدبن الوليد، وبهمَّته ومَهارته الحربية حمى هذا الجيش من الضياع، إذ ما تفعل ثلاثة آلاف بمائة وخمسين ألفاً؟ فإنه لما أخذ الراية قاتل يومه قتالاً شديداً، وفي غده خالف ترتيب العسكر، فجعل الساقة مقدمة، والمقدمة ساقة، والميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، فظنَّ الروم أن المَدَد جاء للمسلمين فرعبوا.(1/194)
ثم أخذ خالد الجيش وصار يرجع إلى الوراء حتى انحاز إلى مُؤتة، ثم مكث يناوش الأعداء سبعة أيام ثم تحاجز الفريقان لأن الكفار ظنوا أن الأمداد تتوالى للمسلمين، وخافوا أن يجرّوهم إلى وسط الصحارى حيث لا يمكنهم التخلّص وبذلك انقطع القتال، وقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ــــ وكانت عينا رسول الله تذرفان ــــ ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم" وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر يبكين، فأمره أن ينهاهنّ، فذهب الرجل ثم أتى فقالت: قد نهيتهنّ فلم يُطِعْنَ، فأمره فذهب ثانياً، ثم جاء فقال: والله لقد غلبننا، فقال له عليه الصلاة والسلام: "احْثُ في أفواههنّ التراب".
ولما أقبل الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون يقولون لهم: يا فُرّار، فقال عليه الصلاة والسلام: "بل هم الكُرَّار". ظن المقيمون بالمدينة أن انحياز خالد بالجيش هزيمة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراهم أن ذلك من مكايد الحرب، وأثنى على خالد في مهارته.
سرية
وفي جمادى الآخرة بلغه عليه الصلاة والسلام أن جمعاً من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القُرى ليُغيروا على المدينة، فأرسل لهم عمروبن العاص في ثلاثمائة رجل من سَراة المهاجرين والأنصار، ثم أمدّه بأبي عبيدةبن الجراح في مائتين من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، فلحقوا عَمْراً قبل أن يصل إلى القوم، وقد أراد رجال من الجيش إيقاد نار فمنعهم عمرو، فأنكر عليه عمربن الخطاب، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله علينا رئيساً لمعرفته بالحرب أكثر منّا فلا تعصه، فامتثل.(1/195)
ولما حلُّوا بساحة القوم حملوا عليهم فلم يكن أكثر من ساعة حتى تفرق الأعداء منهزمين، فجمعوا غنائمهم وأرادوا اتباع أثرهم فمنعهم قائدهم، ثم رجعوا إلى المدينة ظافرين، وبينما هم في الطريق أدركت عمروبن العاص جنابة في ليلة باردة، فلما أصبح قال: إن أنا اغتسلت هلكت والله يقول: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) ثم تيمم وصلى، ثم أمر بالسير حتى إذا وصلوا إلى المدينة قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يسأل عن أنباء سفرهم كما هي عادته، فأخبروه بما نقموه من عمروبن العاص من نهيهم عن إيقاد النار، ونهيهم عن اتباع العدو، وصلاته جنباً، فسأله عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقال: منعتهم من إيقاد النار لئلا يرى العدو قلّتهم فيطمع فيهم، ونهيتهم عن اتباع العدو لئلا يكون له كمين، وصلّيت جنباً لأن الله يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) وإن أنا اغتسلت هلكت، فتبسم عليه الصلاة والسلام وأثنى على عمرو خيراً.
سرية(1/196)
وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام أبا عبيدة عامربن الجراح في ثلاثمائة فارس لغزو قبيلة جُهَينة التي تسكن ساحل البحر، وزوّد عليه الصلاة والسلام هذا الجيش جراباً من التمر، فساروا حتى إذا وصلوا الساحل أقاموا فيه نحو نصف شهر ينتظرون العدو، وقد فني زادهم حتى أكلوا الخَبَط، وهو ورق السَّمُر، يبلُّونه بالماء ويأكلونه إلى أن تقرّحت أشداقهم، وكان في القوم الكريم ابن الكريم قيسبن سعدبن عبادة فنحر لهم ثلاث جزر في كل يوم جزور. وفي اليوم الرابع أراد أن ينحر فنهاه رئيسه أبو عبيدة، لأن قيساً كان أخذ تلك الجزر بدين على أبيه، فخاف أبو عبيدة ألاّ يفي له أبوه بما استدان، فقال قيس: أترى سعداً يقضي ديون الناس، ويطعم في المجاعة، ولا يقضي ديناً استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ ولما يئسوا من لقاء عدوهم رجعوا إلى المدينة، فقال قيسبن سعد لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نُهيت.x
غزوة الفتح الأعظم(1/197)
إذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه وأزال موانعه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لا تذلّ العرب حتى تذل قريش، ولا تَنقاد البلاد حتى تنقاد مكة، فكان يتشوف لفتحها، ولكن كان يمنعه من ذلك العهود التي أعطاها قريشاً في الحديبية وهو سيد من وَفَّى. ولكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، فقد علمتَ أن قبيلة خُزاعة دخلت في عهد رسول الله، وقبيلة بني بكر دخلت في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر دماء في الجاهلية كمنت نارها بظهور الإسلام، فلما حصلت الهدنة وقف رجل من بني بكر يتغنى بهجاء الرسول صلى الله عليه وسلم على مسمع من رجل خزاعي، فقام هذا وضربه، فحرّك ذلك كامن الأحقاد، وتذكر بنو بكر ثأرهم فشدّوا العزيمة لحرب خصومهم، واستعانوا بأوليائهم من قريش، فأعانوهم سرّاً بالعدّة والرجال، ثم توجهوا إلى خزاعة وهم آمنون فقتلوا منهم ما يربو على العشرين، ولما رأى ذلك حلفاء السيد الأمين أرسلوا منهم وفداً برياسة عمروبن سالم الخزاعي ليخبر رسول الله بما فعل بهم بنو بكر وقريش، فلما حَلُّوا بين يديه، وأخبروه، قال: "والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه".(1/198)
أما قريش فإنهم لما رأوا أن ما عملوه نقض للعهود التي أخذت عليهم ندموا على ما فعلوا، وأرادوا مداواة هذا الجرح، فأرسلوا قائدهم أبا سفيانبن حرب إلى المدينة ليشدّ العقد، ويزيد في المدة، فركب راحلته، وهو يظن أنه لم يسبقه أحد، حتى إذا جاء المدينة نزل على أم المؤمنين أم حبيبة بنته وقد أراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته عنه فقال: يا بنيّة أرغبتِ به عني أم رغبت بي عنه؟ فقالت: ما كان لك أن تجلس على فراش رسول الله وأنت مشرك نجس، فقال: لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج من عندها، وأتى النبي في المسجد، وعرض عليه ما جاء له، فقال له عليه الصلاة والسلام: "هل كان من حَدَث؟" قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: "فنحن على مدتنا وصلحنا". ولم يزد عن ذلك. فقام أبو سفيان، ومشى إلى أكابر المهاجرين من قريش لعلّهم يساعدونه على مقصده، فلم يجد منهم مُعيناً، وكلهم قالوا: جِوارنا في جِوار رسول الله، فرجع إلى قومه ولم يصنع شيئاً، فاتهموه بأنه خانهم واتَّبع الإسلام، فتنسّك عند الأوثان لينفي عن نفسه هذه التهمة.(1/199)
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتجهز للسفر، وأمر أصحابه بذلك، وأخبر الصدّيق بالوجهة، فقال له: يا رسول الله أوَ ليس بينك وبين قريش عهد؟ قال: "نعم، ولكن غدروا ونقضوا". ثم استنفر عليه الصلاة والسلام الأعراب الذين حول المدينة، وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة". فقدم جمع من قبائل أسلم وغِفار ومُزَينة وأشجع وجُهينة، وطوى عليه الصلاة والسلام الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر، فتعلم قريش فتستعد للحرب، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يُقيم حرباً بمكة بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بحُرمتها، فدعا مولاه جلّ ذكره وقال: "اللهمّ خُذِ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها" فقام حاطببن أبي بلتعة أحد الذين شهدوا بدراً، وكتب كتاباً لقريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسله مع جارية لتوصله إلى قريش على جُعْلٍ، فأعلم الله رسوله ذلك، فأرسل في أثرها عليّاً والزبير والمقداد وقال: "انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب فخذوه منها". فانطلَقوا حتى أتوا الروضة، فوجدوا بها المرأة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب فقالوا: لتخرِجنّ الكتاب أو لنُلقينّ الثياب، فأخرجته من عِقَاصِها، فأتوا به رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "يا حاطب ما هذا؟" قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت حليفاً لقريش ولم أكن من أَنْفُسِها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إنه قد صدقكم". فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله اطَّلع على من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وفي ذلك أنزل(1/200)
الله في سورة الممتحنة: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ(1)
ثم سار عليه الصلاة والسلام بهذا الجيش العظيم في منتصف رمضان بعد أن ولّى على المدينة ابنَ أُم مكتوم، وكانت عدّة الجيش عشرة آلاف مجاهد، ولما وصل الأبواء لقيه اثنان كانا من أشدّ أعدائه وهما: ابن عمه أبو سفيانبن الحارثبن عبد المطلب شقيق عبيدةبن الحارث شهيد بدر، وصهره عبد اللهبن أبي أميةبن المغيرة شقيق زوجه أُم سلمة، وكانا يريدان الإسلام، فقبلهما عليه الصلاة والسلام، وفرح بهما شديد الفرح، وقال: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ} (يوسف: 92). ولما وصل عليه الصلاة والسلام الكَدِيد رأى أن الصوم شق على المسلمين، فأمرهم بالفطر، وأفطر هو أيضاً، وقد قابل عليه الصلاة والسلام في الطريق عمه العباسبن عبد المطلب مهاجراً بأهله وعياله، فأمره أن يعود معه إلى مكة ويرسل عياله إلى المدينة.(1/201)
ولما وصل عليه الصلاة والسلام مرّ الظهران أمر بإيقاد عشرة آلاف نار، وكانت قريش قد بلغهم أن محمداً زاحف بجيش عظيم لا تدرى وجهته، فأرسلوا أبا سفيانبن حرب وحكيمبن حزام وبُدَيلبن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مَرَّ الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عَرَفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عَرَفة فقال بديلبن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله، فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: "احبس أبا سفيان عند خَطْم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين"، فحبسه العباس فجعلت القبائل تمرّ كتيبةً كتيبة على أبي سفيان وهو يسأل عنها ويقول: ما لي ولها، حتى إذا مرّت به قبيلة الأنصار وحامِل رايتها سعدبن عبادة فقال سعد: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليومَ تُستَحلُّ الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يومُ الذِّمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيها رسول الله وأصحابه، وحامل الراية الزبيربن العوام، فأخبر أبو سفيان رسول الله بمقالة سعد. فقال عليه الصلاة والسلام: "كذبَ سعد، ولكن هذا يوم يُعظِّم الله فيه الكعبة ويوم تُكسى فيه الكعبة". ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن تركز رايته بالحَجُون، وأمر خالدبن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من كُدًى، ودخل هو من أعلاها من كَدَاء ونادى مناديه: "مَن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن". وهذه أعظم منّة له، واستثنى من ذلك جماعة عظمت ذنوبهم، وآذوا الإسلام وأهله عظيم الأذى، فأهدر دمهم ــــ وإن تعلقوا بأستار الكعبة ــــ منهم: عبد اللهبن سعدبن أبي سَرْح الذي أسلم، وكتب لرسول الله الوحي، ثم ارتدّ، وافترى الكذب على الأمين المأمون، فكان يقول: إن محمداً كان يأمرني أن أكتب عليم حكيم فأكتب غفور رحيم، فيقول كل جيد ومنهم عِكرمةبن(1/202)
أبي جهل وصفوانبن أمية، وهبَّاربن الأسود، والحارثبن هشام، وزهيربن أبي أمية، وكعببن زهير، ووحشي قاتل حمزة، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان، وقليل غيرهم، ونهى عن قتل أحد سوى هؤلاء إلا من قاتل، فأما جيش خالدبن الوليد فقابله الذُّعرُ من قريش يريدون صدّه، فقاتلهم وقتل منهم أربعة وعشرين، وقُتل من جيشه اثنان، ودخلها عَنْوة من هذه الجهة، وأما جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصادف مانعاً وهو عليه الصلاة والسلام راكب راحلته منحنٍ على الرحل تواضعاً لله وشكراً له على هذه النعمة حتى تكاد جبهته تَمَسُّ الرَّحْل، وأسامةبن زيد رديفه، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان حتى وصل الحَجُون موضع رايته، وقد نصبتْ له هناك قبة فيها أُمّ سلمة وميمونة، فاستراح قليلاً ثم سار وبجانبه أبو بكر يحادثه، وهو يقرأ سورة الفتح، حتى بلغ البيت، وطاف سبعاً على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه، وكان حول الكعبة إذا ذاك ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل عليه الصلاة والسلام يطعنها بعود في يده، ويقول: "جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطِلُ وما يُبْدِىءُ الباطِلُ وما يُعيدُ" ثم أمر بالآلهة فأخرجت من البيت وفيها صورة إسماعيل وإبراهيم في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: "قاتلهم الله، لقد علموا ما استقسما بها قطّ". وهذا أول يوم طهّرت فيه الكعبة من هذه المعبودات الباطلة. وبطهارة الكعبة المقدسة عند جميع العرب باديها وحاضرها من هذه الأدناس سقطت عبادة الأوثان من جميع بلاد العرب إلا قليلاً. ويوشك أن نذكر للقارىء اختفاء آثارها ومحو عبادتها بالكلية.
العفو عند المقدرة(1/203)
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وكبَّر في نواحيها، ثم خرج إلى مقام إبراهيم، وصلّى فيه ركعتين، ثم شرب من زمزم، وجلس في المسجد، والناس حوله، والعيون شاخصة إليه، ينتظرون ما هو فاعل بمشركي قريش الذين آذوه، وأخرجوه من بلاده وقاتلوه، ولكن هنا تظهر مكارم الأخلاق التي يلزم أن يتعلم منها المسلم، أن يكون رضاه وغضبه لله لا لهوى النفس، فقال عليه الصلاة والسلام: "يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: "اذهبوا فأنتم الطُّلقاء". ويرحم الله الإمام البوصيري حيث قال:
وإذا كان القَطْعُ والوصلُ للهتساوى التَّقريبُ والإقصاءولو أنَّ انتقامه لهوى النفسِ لدامتْ قطيعةٌ وجفاءُقام لله في الأمور فأرضى اللهمنه تباينٌ ووفاءُفعُله كله جميل وهل ينضحُ إلا بما حواهُ الإناءُ؟ ثم خطب عليه الصلاة والسلام خطبةً أبان فيها كثيراً من الأحكام الإسلامية، منها: ألاّ يُقتَل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملَّتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، والبينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر، ولا تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد الصبح والعصر، ولا يصام يوم الأضحى ويوم الفطر، ثم قال: "يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نَخْوة الجاهلية وتَعَظُّمَهَا بالآباء، والناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)(1/204)
أما الذين أهدر رسول الله دمهم فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فمنهم من حقّت عليه كلمة العذاب فقتل، ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم، فعبد اللهبن سعدبن أبي سرح لجأ إلى أخيه من الرضاع عثمانبن عفان، وطلب منه أن يستأمن له رسول الله، فغيبه عثمان حتى هدأ الناس، ثم أتى به وقال: يا رسول الله قد أمنته فبايعه، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام مراراً ثم بايعه، فلما خرج عثمان وعبد الله قال عليه الصلاة والسلام: "أعرضتُ عنه ليقومَ إليه أحدكم فيضرب عنقه"، فقالوا: هلاّ أشرتَ إلينا؟ فقال: "لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".
وأما عكرمةبن أبي جهل فهربَ، فخرجتْ وراءه زوجته وبنتُ عمه أُمّ حكيم بنت الحارثبن هشام، وكانت قد أسلمت يوم الفتح، وقد أخذت له أماناً من رسول الله فلحقته، وقد أراد أن يركب البحر، فقالت: جئتك من عند أبرّ الناس، وخيرهم، لا تهلك نفسك، وإني قد استأمنته لك فرجع، ولما رآه عليه الصلاة والسلام وثب قائماً فرحاً به، وقال: "مرحباً بمن جاءنا مهاجراً مسلماً" ثم أسلم رضي الله عنه، وطلب من رسول الله أن يستغفر له كل عداوة عاداه إيّاها فاستغفر له، وكان رضي الله عنه بعد ذلك من خيرة المسلمين وأغيرهم على الإسلام.
وأما هبَّاربن الأسود فهرب، واختفى، حتى إذا كان رسول الله بالجِعِرَّانة جاءه مسلماً، وقال: يا رسول الله هربتُ منك وأردتُ اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمّن جهل عليك، وكنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا من الهلكة فاصفح الصفح الجميل، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد عفوتُ عنك".
وأما الحارثبن هشام، وزهيربن أبي أمية المخزومي، فأجارتهما أم هانىء بنت أبي طالب، فأجاز عليه الصلاة والسلام جِوارها، ولما قابل رسولُ الله الحارثَبن هشام مسلماً قال له: "الحمد لله الذي هداك ما كان مثلك يجهل الإسلام" وقد كان بعد ذلك من فُضَلاء الصحابة.(1/205)
وأما صفوانبن أمية فاختفى وأراد أن يذهب ويلقي نفسه في البحر، فجاء ابن عمه عُميربن وهب الجُمحي وقال: با نبي الله إن صفوانَ سيد قومه، هرب ليقذف نفسه في البحر فَأَمِّنْهُ فإنك قد أمّنت الأحمر والأسود، فقال عليه الصلاة والسلام: "أدرك ابن عمك فهو آمن" فقال: أعطني علامة، فأعطاه عِمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان، قال له: فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس، وأَحلم الناس، وخير الناس، وهو ابن عمك، وعزُّه عزُّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه العمامة علامة الأمان، فرجع إلى رسول الله، وقال له: إن هذا يزعم أنك أمَّنتني؟ قال: "صدق" قال: أمهلني بالخيار فيه شهرين، قال: "أنت بالخيار فيه أربعة أشهر" ثم أسلم رضي الله عنه وحسن إسلامه.
وأما هند بنت عتبة فاختفت ثم أَسلمت، وجاءت إلى رسول الله فرحبَ بها وقالت له: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أَصبح اليوم أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزوا من أهل خبائك.
وفود كعببن زهير
وأما كعبُبن زهير فلما ضاقت به الأرض، ولم يجد له مجيراً، جاء المدينة بعد أن قدمها رسولُ الله من مكة فأسلم وأنشد قصيدته التي يقول فيها:
وقالَ كلُّ صديقٍ كنتُ آملُهُلا أُلْهَيَنَّكَ إني عنكَ مشغولُفقلتُ: خَلُّوا سبيلي لا أبا لكمُفكلُّ ما قَدَّر الرحمانُ مفعولُكلُّ ابن أنثى وإن طالتْ سلامتُهُيوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُنُبِّئتُ أَن رسولَ اللهِ أوعدنيوالعفو عند رسولِ الله مأمولُمهلاً هداكَ الذي أعطاك نافلةَ القرآن فيها مواعيظٌ وتفصيلُ وقال فيها مادحاً:
إنَّ الرسولَ لسيفٌ يُستضاءُ بهمُهنَّدٌ من سيوفِ اللهِ مسلولُ ولما قال هذا البيت خلع عليه الرسول بردته.(1/206)
وأما وحشي قاتل حمزة فكذلك أسلم، وحسن إسلامه، وقبله عليه الصلاة والسلام، وقد جاءه ابنا أبي لهب عتبة ومعتب فأسلما وفرح بهما عليه الصلاة والسلام.
وكان من الذين اختفوا سهيلبن عمرو، فاستأمن له ابنه عبد الله فأمنه عليه الصلاة والسلام، وقال: "إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهلُ الإسلام". فلما بلغت هذه المقالة سُهيلاً قال: كان والله بَرّاً صغيراً، برّاً كبيراً، ثم أسلم بعد ذلك.
بيعة النساء
هذا، ولما تمت بيعة الرجال بايعه النساء، وكنّ يبايعن على ألاّ يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين بيهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجهلنّ، ولا يعصين الرسول في معروف.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام بلالاً أن يؤَذِّنَ على ظهر الكعبة، وهذا بدء ظهور الإسلام على ظهر البيت الكريم، فلا عجب أن اتخذ المسلمون هذا اليوم عيداً يحمدون فيه الله حَقَّ حمده على هذه النعمة الكبرى والنصر العظيم.
وأقام عليه الصلاة والسلام بمكة بعد فتحها تسعة عشر يوماً يقصر فيها الصلاة، وولى عليها عَتَّاب بنَ أَسيد، وجعل رزقه كل يوم درهماً، فكان عَتَّابٌ رضي الله عنه يقول: لا أشبعَ الله بطناً جاع على درهم كُلَّ يوم.
هدم العُزَّى
وفي الخامس من مُقامه عليه الصلاة والسلام بمكة أرسل خالدبن الوليد في ثلاثين فارساً لهدم هيكل العُزّى ــــ وهي أكبر صنم لقريش، وكان هيكلها ببطن نَخْلة ــــ فتوجه إليها خالد وهدمها.
هدم سُوَاع
وأرسل عليه الصلاة والسلام عمروبن العاص لهدم سواع ــــ وهو أعظم صنم لهذيل ــــ وهيكله على ثلاثة أميال من مكة، فذهب إليه وهدمه.
هدم مناة
وبعث سعدَبن زيد الأشهلي في عشرين فارساً لهدم مناة، وهي صنم لكلب وخزاعة. وهيكلها بالمُشَلَّلِ، وهو جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قُدَيْد. فتوجهوا إليها وهدموها.
غزوة حُنين(1/207)
بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة الأوثان، دانت للإسلام جموعُ العرب ودخلوا فيه أفواجاً. أما قبيلتا هوازن وثقيف فأدركتهما حَمِيَّةُ الجاهلية، واجتمع الأشرافُ منهم للشورى، وقالوا: قد فرغَ محمد من قتال قومه ولا ناهية له عنّا، فَلْنَغْزُه قبل أن يغزونا. فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولّوا رياستهم مالكَبن عوف النَّصْري، فاجتمع له من القبائل جموعٌ كثيرة، فيهم بنو سعدِبن بكر، الذي كان رسول الله مسترضعاً فيهم، وكان في القوم دُرَيْدبن الصِّمَّة المشهور بأصالة الرأي، وشدة البأس في الحرب، ولتقدم سنِّه لم يكن له في هذه الحرب إلا الرأي، ثم إن مالكبن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءَهم وذراريهم وأموالهم، فلما علم ذلك دُريد سأل مالكاً عن السبب، فقال: سقتُ مع الناس أموالهم وذراريهم ونساءهم لأجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم، فقال دريد: وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورُمحه، وإن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك، فلم يقبلْ مالك مشورته، وجعل النساءَ صفوفاً وراء المقاتلة، ووراءهم الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، كيلا يفر أحد من المقاتلين.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف يستعدون لحربه أجمع رأيه على المسير إليهم، وخرج معه اثنا عشر ألف غازٍ، منهم ألفان من أهل مكة، والباقون هم الذين أتوا معه من المدينة، وخرج أهلُ مكة ركباناً ومشاة حتى النساء يمشين من غير ضعفٍ يرجون الغنائم، وخرج في الجيش ثمانون من المشركين، منهم صفوانُبن أمية، وسُهيلبن عمرو، ولما قرب الجيش من معسكر العدو صَفَّ عليه الصلاة والسلام الغزاةَ، وعقد الألوية، فأعطى لواء المهاجرين لعليّبن أبي طالب، ولواء الخزرج للحُبَاببن المنذر، ولواء الأوس لأسيدبن حضير، وكذلك أعطى ألوية لقبائل العرب الأخرى. ثم ركب عليه الصلاة والسلام بغلته ولبس درعين والبيضة والمِغفر.(1/208)
هذا، وقد أُعْجب المسلمون بكثرتهم فلم تُغْنِ عنهم شيئاً، فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو، فخرج لهم كمين كان مستتراً في شِعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنّة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتَ على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، منهم: أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيانبن الحارث وأخوه ربيعةبن الحارث ومعتبُبن أبي لهب، وكان العباس آخذاً بلجام البغلة، وأبو سفيان آخذاً بالركاب، وكان عليه الصلاة والسلام ينادي: "إليَّ أيّها الناس" ولا يلوي عليه أحد، وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت. أما رجال مكة الذين هم حديثو عهد بالإسلام والذين لم ينزعوا عنهم رِبْقَةَ الشرك فمنهم من فرح، ومنهم من ساءه هذا الإدبار، فقال أبو سفيانبن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وقال أخ لصفوانبن أمية: الآن بطل السحر. فقال له صفوان ــــ وهو على شركه ــــ: اسكت فَضَّ الله فاك، والله لأَنْ يَرُبَّني رجل من قريش خير من أن يَرُبَّني رجل من هوازن. ومرّ عليه رجل من قريش وهو يقول: أبشر بهزيمة محمدٍ وأصحابه فوالله لا يجبرونها أبداً، فغضب صفوانُ وقال: ويلك أتبشرني بظهور الأعراب؟ وقال عكرمةبن أبي جهل لذاك الرجل: كونهم لا يجبرونها أبداً ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء، إن أُديل عليه اليوم فإن العاقبة له غداً، فقال سهيلبن عمرو: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنّا كنا على غير شيء، وعقولنا ذاهبة، نعبد حجراً لا يضرّ ولا ينفع.H وبلغت هزيمة بعض الفارّين مكة، كل هذا ورسول واقف مكانه يقول:(1/209)
أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْأَنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ثم قال للعباس: ــــ وكان جَهْوَرِيَّ الصوت ــــ "نادِ بالأنصار يا عباس" فنادى: يا معشر الأنصار يا أصحاب بيعة الرضوان فأسمعَ مَنْ في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبَّيك لبَّيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عِنان بعيره فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين. فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤمُّ الصوتَ حتى اجتمع حولَ رسول الله جمع عظيم منهم. وأنزل الله سكينته على رسوله، وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم يروها، فكرَّ المسلمون على عدوهم يداً واحدة فانتكث فتل المشركين. وتفرقوا في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيراً من المحاربين، وهرب من هرب، وجُرح في هذا اليوم خالدبن الوليد جراحاتٍ بالغة، وأسلمَ ناس كثيرون من مشركي مكة لما رأوهُ من عناية الله بالمسلمين.
هذا، والذي حصل في هذه الغزوة درس مهم من دروس الحرب، فإن هذا الجيش دخله أخلاط كثيرون من مشركين وأعراب وحديثي عهد بالإسلام، هؤلاء سِيَّان عندهم نصرُ الإسلام وخذلانه، ولذلك بادروا لأول صدمة إلى الهزيمة، وكادت تتم الكلمة على المسلمين لولا فضل الله، فلا ينبغي أن يكون في الجيش إلا من يقاتل خالصاً مخلصاً من قلبه ليكون مدافعاً حقاً عن دينه، فلا تميل نفسه إلى الفرار خشية مما أعدّه الله للفارّين من أليم العقاب.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام بجمع السبي والغنائم، وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، فجمع ذلك كله بالجِعرَّانة. أما المشركون فتفرقوا ثلاث فرق: فرقة لحقت بالطائف، وفرقة لحقت بنخلة، وفرقة عسكرت بأوطاس.
سرية(1/210)
فأرسل عليه الصلاة والسلام لهذه الفرقة أبا عامر الأشعري في جماعة منهم أبو موسى الأشعري، فسار إليهم وبدَّدهم وظفر بما بقي معهم من الغنائم. وقد استشهد أبو عامر في هذه الغزوة وخلَّف على الغزاة ابن أخيه أبا موسى، فرجع ظافراً منصوراً.
غزوة الطائف
وسار عليه الصلاة والسلام بمن معه إلى الطائف ليجهز على بقية حياة ثقيف ومن تجمع معهم من هوازن، وجعل على مقدمته خالدبن الوليد، ومرّ عليه الصلاة والسلام بحصن لمالكبن عوف النَّصري فأمر بهدمه. ومرَّ ببستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه، فأرسل إليه أن اخرج وإلا حَرَّقنا عليك بستانك، فامتنع الرجل فأمر عليه الصلاة والسلام بحرقه. ولما وصل المسلمون إلى الطائف وجدوا الأعداء قد تحصَّنوا به وأدخلوا معهم قوتَ سنتهم، فعسكر المسلمون قريب الحصن. فرماهم المشركون بالنَّبل رمياً شديداً حتى أُصيب منهم كثيرون بجراحات منهم عبد اللهبن أبي بكر، وقد طاوله جرحه حتى أماته في خلافة أبيه، ومنهم أبو سفيانبن حرب فُقئت عينه. وقد مات بالجراحات اثنا عشر رجلاً من المسلمين. ولما رأى رسول الله أن العدو متمكّن من رميهم ارتفع إلى محل مسجد الطائف الآن، وضربَ لأُمّ سلمة وزينب قبتين هناك، واستمر الحصارُ ثمانية عشر يوماً، كان فيها يُنادي خالدبن الوليد بالبِراز فلم يجبه أحد، وناداه عبد ياليل ــــ عظيم ثقيف ــــ لا ينزل إليك منّا أحد، ولكن نقيم في حصننا، فإن فيه من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يفنى هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعاً حتى نموت عن آخرنا، فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يُنْصَب عليهم المنجنيق فَنُصِبَ. ودخل جمع من الأصحاب تحت دبابتين لينقبوا الحصن، فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار حتى أرجعوهم. فأمر عليه الصلاة والسلام أن تقطع أعنابهم ونخيلهم، فقطع المسلمون فيها قطعاً ذريعاً، فناداه أهل الحصن، أن دعها لله وللرحم، فقال: "أدعها لله(1/211)
وللرحم" ثم أمر مَنْ ينادي بأن كلَّ من ترك الحصن ونزل فهو آمن، فخرج إليه بضعة عشر رجلاً. ولما رأى عليه الصلاة والسلام أن تمنُّع ثقيف شديد، وأن الفتح لم يؤذن فيه استشار نوفلبن معاوية الديلي في الذهاب أو المقام، فقال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته، وإن تركته لم يضرّك. فأمر عليه الصلاة والسلام بالرحيل، وطلب منه بعض الصحابة أن يدعو على ثقيف، فقال: "اللهمّ اهدِ ثقيفاً وائت بهم مسلمين".
تقسيم السبي(1/212)
ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى الجِعِرَّانة حيث ترك السبي فأحصاه، وخمَّسه، وأعطى منه شيئاً كثيراً لأُناس ضعف إسلامهم يتألَّفُهم بذلك. وأعطى أُناساً لم يسلموا ليُحَبِّبَ إليهم الإسلام، ومن الأولين: أبو سفيان أعطاه أربعين أُوقية من الذهب ومائة من الإبل، وكذلك ابناه معاوية ويزيد، فقال له: بأبي أنت وأمي لأنت كريم في السلم والحرب. ومنهم حكيمبن حزام أعطاه كأبي سفيان فاستزاده فأعطاه، ثم استزاده فأعطاه مثلها، وقال: "يا حكيم إنّ هذا المال خَضِرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبَع، واليدُ العُليا خير من اليدِ السُّفلى" فأخذَ حكيم المائة الأولى وتركَ ما عداها، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أَرْزَأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أُفارق الدنيا، فكان الخلفاء بعد رسول الله يعرضون عليه العطاء الذي يستحقه من بيت المال فلا يأخذه. وأعطى عليه الصلاة والسلام عُيَيْنَةَبن حصن مائة من الإبل، وكذلك الأقرعَبن حابس، والعباسبن مِرداس، وأعطى صفوانَبن أمية شِعْباً مملوءاً نَعَماً وشاءً كان رآه يرمقه، فقال له: "هل يعجبك هذا؟" قال: نعم، قال: "هُوَ لك" فقال صفوان: ما طابت بمثل هذا نفسُ أحد، وكان سبب إسلامه. وكان عليه الصلاة والسلام يقصد من هذه العطايا تأليف القلوب وجمعها على الدين القويم، وهذا ضرب من ضروب السياسة الدينية حتى جَعل من الصدقات قسماً للمؤلفة قلوبهم، وقد عاد ذلك بفائدة عظمى، فإن كثيرين ممّن أعطوا في هذا اليوم ولم يكونوا أُشربوا في قلوبهم حُبَّ الإسلام صاروا بعدُ من أجلاّء المسلمين، وأعظمهم نفعاً، كصفوانبن أمية، ومعاويةبن أبي سفيان، والحارثبن هشام وغيرهم.(1/213)
ثم أمر عليه الصلاة والسلام زيدبن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم وقسّمه على الغزاة بعد أن اجتمع إليه الأعراب، وصاروا يقولون له: اقسم علينا، حتى ألجؤوه إلى شجرة، فتعلق رداؤه، فقال: "ردّوا ردائي أيها الناس، فوالله إن كان لي شجر تهامة نَعَماً لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذوباً" ثم قام إلى بعيره، وأخذ وَبرةً من سَنَامِه، وقال: "أيّها الناس والله ما لي من غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلا الخُمُس، والخُمُسُ مردود عليكم، فأدّوا الخِياطَ والمِخْيَطَ، فإن الغُلول يكون على أهله عاراً وشناراً وناراً يوم القيامة" فصار كل من أخذ شيئاً من الغنائم خِلسة يردُّه ولو كان زهيداً، ثم شرَع يقسم فأصابَ الرجلَ أربعة من الإبل وأربعون شاة، والفارس ثلاثةُ أمثال ذلك، فقال رجل من المنافقين: هذه قسمة ما أُريد بها وجهُ الله، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمرّ وجهه، وقال: "ويحك مَنْ يعدلُ إذا لم أعدل؟" فلم يؤدّه غضبه أن ينتقم لنفسه، حاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك، بل لم يزدْ على أن نصحَ وحذَّر، وقال له عمر وخالدبن الوليد: دعنا يا رسول الله نضربْ عنقه، فقال: "لا لعلّه أن يكون يُصلي" فقال خالد: وكم من مصُلَ يقولُ بلسانه ما ليس في قلبه فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُومر أن أُنَقِّبَ عن قلوب الناس، ولا أَشُقَّ عن بطونهم".(1/214)
ولما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا لقريش وقبائل العرب، وتركَ الأنصار غضب بعضُهم حتى قالوا: إن هذا لهو العجبُ يُعطي قريشاً، ويتركنا وسيوفنا تقطرُ من دمائهم فبلغه ذلك، فأمر بجمعهم وليس معهم غيرهُم. فلما اجتمعوا قال: "يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ وأعداءً فألّفَ الله بين قلوبكم بي؟ إن قريشاً حديثو عهد بكفر ومصيبة، وإني أردتُ أن أخْبُرهم وأتأَلَّفَهم، أغضبتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لشيء قليل من الدنيا ألَّفْتُ به قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يُزَلْزَل؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهبَ الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناسُ شِعْباً وسلك الأنصار شِعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهمّ ارحم الأنصارَ، وأبناءَ الأنصار". فبكى القوم حتى اخْضَلَّتْ لحاهم، وقالوا: رضينا برسولِ الله قسماً وحظاً، ثم انصرفَ عليه الصلاة والسلام وتفرقوا.
وفود هوازن
وبعد بضع عشرة ليلة جاءه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن يرأسهم زهيربن صرد وقالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمّات والخالات، وهنّ مَخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله وقال زهير: إن في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك، ثم قال أبياتاً يستعطفه بها:(1/215)
امننْ علينا رسولَ الله في كرمفإنك المرءُ نرجوه وننتظرُامننْ على نسوةٍ كنت تَرْضَعُهاإذ فوك مملوءة من مَخْضِها الدِّرَرُإنا لنشكر للنعماء إن كفرتوعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخرإنّا نؤمِّل عفواً منك نلبسههدى البرية أن تعفو وتنتصرفألبس العفو من قد كنت تَرْضَعُهُمن أُمهاتك إن العفوَ مشتهر فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أحبّ الحديث إليَّ أَصْدَقُهُ، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال. وقد كنت انتظرتكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون". فقالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئاً، اردُدْ علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحبّ إلينا ولا نتكلم في شارة ولا بعير، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فإذا أنا صلّيت الظهر فقوموا، وقولوا: نحن نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله بعد أن تظهروا إسلامكم، وتقولوا: نحن إخوانكم في الدين" ففعلوا. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيتُ أن أردّ عليهم سبيهم، فمن أحبّ أن يُطِّيبَ بذلك فليفعل، ومن أحبّ منكم أن يكون على حَظِّه حتى نعطيَه إياه من أول ما يُفِيءُ الله علينا فليفعل"، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وامتنعَ من ذلك جماعة من الأعراب، كالأقرعبن حابس، وعيينةبن حصن، والعباسبن مِرداس، فأخذه الرسولُ منهم قرضاً، وأمر صلى الله عليه وسلم بأن تُحْبَس عائلةُ مالكبن عوف النصري رئيس تلك الحرب بمكة عند عمتهم أُمّ عبد اللهبن أمية. فقال له الوفد: أولئك ساداتنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أُريد بهم الخير" ثم سأل عن مالك فقالوا: هرب مع ثقيف، فقال: "أخبروه أنه إن جاءني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل" فلما بلغ ذلك مالكاً نزل من الحصن خُفْية حتى أتى رسول الله بالجِعِرَّانة، فأسلم وأحرز ماله، واستعمله عليه الصلاة والسلام على مَنْ أسلم من(1/216)
هوازن.
عمرة الجعِرَّانة
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر فأحرم من الجعرانة، ودخل مكة بليل، فطاف، واستلم الحجر، ثم رجع من ليلته، وكانت إقامته بالجعرانة ثلاثَ عشرة ليلة، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بالرحيل، فسار الجيش آمناً مطمئناً حتى دخل المدينة لثلاثٍ بقين من ذي القعدة.
وغزوة حنين هي التي فرّق الله بها جموعَ الشرك، وأدالَ دولته، وأفقد سَراةَ أهله، فإن هوازن لم تترك وراءها رجلاً تمكِّنه الحرب إلا ساقته، ولم تترك لها بعيراً ولا شاة إلا جاءت به معها، فأراد الله إعزاز الإسلام بخذلان أعدائه وأخذ أموالهم، فانكسرت حِدّة المشركين، ولم يبق فيهم مَنْ يمانع أو يدافع، ولذلك يمكننا أن نقول: إن انكسار هوازن كان خاتمة لحروب العرب، فلم يبقَ فيهم إلا فئات قليلة يسوقهم الطيش إلى شهر السلاح، ثم لا يلبثون أن يغمدوا السيوف حينما تظهر لهم قوة الحق الساطعة.
سرية
ولما رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أرسل قيسبن سعد في أربعمائة ليدعو صُداء ــــ قبيلة تسكن اليمن ــــ إلى الإسلام، فجاء إلى رسول الله رجل منهم، فقال: يا رسول الله إني جئتك وافداً عمّن ورائي، فاردد الجيشَ وأنا لك بقومي، فأمر عليه الصلاة والسلام بردّ الجيش.
وفود صُدَاء
وخرج الرجل إلى قومه فقدم بخمسة عشر رجلاً منهم، فنزلوا ضيوفاً على سعدبن عبادة، ثم بايعوا رسول الله على الإسلام، وقالوا: نحن لك على من وراءنا من قومنا، ولما رجعوا فشا فيهم الإسلام، وقدم على رسول الله منهم مائة في حجة الوداع.
سرية(1/217)
ثم أرسل عليه الصلاة والسلام بشربن سفيان العدوي إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقات أموالهم، فمنعهم بنو تميم المجاورون لهم من أداء ما فُرِضَ عليهم، فلما علم بذلك رسول الله أرسل إليهم عيينةبن حصن في خمسين فارساً من الأعراب، فجاءهم وحاربهم، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً، وإحدى وعشرين امرأة، وثلاثين صبياً، وتوجه بالكل إلى المدينة، فأمر عليه الصلاة والسلام بجعلهم في دار رَمْلَة بنت الحارث.
وفود تميم
فجاء في أثرهم وفد تميم، وفيه عُطاردبن حاجب، والزّبرقانبن بدر، وعمروبن الأهتم، فجلسوا ينتظرون الرسول، فلما أبطأ عليهم نادَوا من وراء الحجرات بصوت جَافٍ: يا محمد اخرج إلينا نفاخرك، فإن مدحنا زَيْن، وإن ذمَّنا شَيْن، فخرج إليهم عليه الصلاة والسلام، وقد تأذى من صياحهم، وفيهم نزل في أوائل سورة الحجرات: إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(5)
سرية(1/218)
ثم بعث عليه الصلاة والسلام الوليدبن عقبةبن أبي مُعَيط لأخذ صدقات بني المصطلق، فلما علموا بقدومه خرج منهم عشرون رجلاً متقلدين سلاحهم احتفالاً بقدومه ومعهم إبل الصدقة، فلما نظرهم ظنهم يريدون حربه لما كان بينه وبينهم من العداوة في الجاهلية، فرجع مسرعاً إلى المدينة، وأخبر الرسول أن القوم ارتدّوا ومنعوا الزكاة، فأرسل لهم خالدبن الوليد لاستكشاف الخبر، فسار إليهم في عسكره خفية حتى إذا كان بناديهم سمع مؤذّنهم يؤذّن بالصبح، فأتاهم خالد فلم يرَ منهم إلا طاعة، فرجع وأخبر الرسول، فأرسل عليه الصلاة والسلام لهم غير الوليد لأخذ الصدقات، وفي الوليد نزل في أوائل الحجرات: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَآءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)
سرية
ثم بلغ رسول الله أن جمعاً من الحبشة رآهم أهل جُدَّةَ في مراكبهم يريدون الإغارة عليها، فأرسل لهم علقمةبن مُجَزِّز في ثلاثمائة، فذهب حتى وصل جُدَّةَ، ونزل في المراكب ليدركهم، وكان الأحباش متحصنين في جزيرة هناك، فلما رأوا المسلمين يريدونهم هربوا، ولم يلقَ المسلمون كيداً، فرجع علقمة بمن معه. ولما كان بالطريق أذن لِسَرعان القوم أن يتعجلوا، وأمر عليهم عبد اللهبن حُذافة السَّهْمي، وكان فيه دعابة، فأوقد لهم في الطريق ناراً، وقال لهم: ألستم مأمورين بطاعتي؟ قالوا: نعم، قال: عزمت عليكم إلا ما تواثبتم في هذه النار، فقال بعضهم: ما أسلمنا إلا فراراً من النار، وهمَّ بذلك بعضهم، فمنعهم عبد الله، وقال: كنت مازحاً. فلما ذكروا ذلك لرسول الله، قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
السَّنَة التّاسِعَة
سرية(1/219)
في ربيع الأول أرسل عليه الصلاة والسلام عليبن أبي طالب في مائة راكب وخمسين فارساً لهدم الفُلُس ــــ صنمٍ لطيىء ــــ فسار إليه وهدمه وأحرقه، ولما حارب عُبَّاده هزمهم واستاق نَعَمهم وشاءهم وسبيهم، وكان فيه سَفَّانةُ بنت حاتم طيّىء. ولما رجع علي إلى المدينة طلبت سفَّانة من رسول الله أن يَمُنَّ عليها، فأجابها لأنه كان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يكرم الكرام، فدعت له، وكان من دعائها: شكرتْكَ يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتكَ يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة كريم إلا وجعلك سبباً لردّها عليه. وكانت هذه المعاملة من رسول الله سبباً في إسلام أخيها عديبن حاتم الطائي الذي كان فرّ إلى الشام عندما رأى الرايات الإسلامية قاصدة بلاده، وكان من حديث مجيئه أن أخته توجهت إليه بالشام، وأخبرته بما عُوملت به من الكرم، فقال لها: ما ترين في أمر هذا الرجل؟ فقالت: أرى أن تلحق به سريعاً، فإن يكن نبياً فللسابق إليه فضل، وإن يكن ملكاً فأنت أنت. قال: والله هذا هو الرأي.
وفود عديبن حاتم(1/220)
فخرج حتى جاء المدينة، ولقي رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "من الرجل؟" قال: عديبن حاتم، فأخذه إلى بيته، وبينما هما يمشيان إذ لقيت رسول الله امرأة عجوز، فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تُكَلمه في حاجتها، فقال عدي: والله ما هو بملك. ثم مضى رسول الله حتى إذا دخل بيته تناول وِسادة من جلد محشوّة ليفاً فقدّمها إلى عدي، وقال: "اجلسْ على هذه". فقال: بل أنت تجلس عليها، فامتنع عليه الصلاة والسلام وأعطاها له، وجلس هو على الأرض، ثم قال: "يا عدي أسلم، تسلمْ" قالها ثلاثاً، فقال عدي: إني على دين، وكان نصرانياً. فقال له عليه الصلاة والسلام: "أنا أعلم بدينك منك" فقال عدي: أأنت أعلم بديني منّي؟ قال: "نعم". ثم عدّد له أشياء كان يفعلها اتباعاً لقواعد العرب وليست من دين المسيح في شيء، كأخذه الرباع وهو ربع الغنائم. ثم قال: "يا عدي إنما يمنعك من الدخول في الدين ما ترى، تقول: إنما اتَّبعه ضَعَفةُ الناس ومن لا قدرة لهم، وقد رمتهم العرب مع حاجتهم، فوالله ليُوشكَنَّ المالُ أن يفيض فيهم حتى لا يُوجد مَنْ يأخذه، ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، أتعرف الحِيْرة؟" قال: لم أرها وقد سمعت بها، قال: "فوالله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى تخرج المرأة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكنَّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم". فأسلم عدي رضي الله عنه وعاش حتى رأى كل ذلك.
غزوة تَبُوك(1/221)
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بلاده، وكان ذلك في زمن عُسْرة الناس، وجدب البلاد، وشدة الحرّ حين طابت الثمار، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتجهز، وكان قلّما يخرج في غزوة إلا ورّى بغيرها، ليُعَمِّي الأخبار على العدو إلا في هذه الغزوة، فإنه أخبر بمقصده لبُعد الشّقةِ ولشدة العدوِّ، ليأخذ الناس عدّتهم لذلك، وبعث إلى مكة وقبائل الأعراب يستنفرهم لذلك، وحثَّ الموسرين على تجهيز المعسرين، فأنفق عثمانبن عفان عَشَرةَ آلاف دينار، وأعطى ثلاثمائة بعير بعير بأحلاسها وأقتابها، وخمسين فرساً، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ ارضَ عن عثمان فإني راضٍ عنه". وجاء أبو بكر بكل ماله وهو أربعة آلاف درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت لأهلك شيئاً؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمربن الخطاب بنصف ماله، وجاء عبد الرحمانبن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس وطلحة بمال كثير. وتصدّق عاصمبن عدي بسبعين وسْقاً من تمر، وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حيلهن، وجاءه صلى الله عليه وسلم سبعةُ أنفس من فقراء الصحابة يطلبون إليه أن يحملهم. فقال: "لا أجد ما أحملكم عليه". فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَناً ألاّ يجدوا ما يُنفقون. فجهز عثمان ثلاثة منهم، وجهز العباسُ اثنين، وجهز يامينبن عمرو اثنين.(1/222)
ولما اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله وهم ثلاثون ألفاً، وولّى على المدينة محمدبن مسلمة، وعلى أهله عليبن أبي طالب، وتخلَّفَ كثير من المنافقين يرأسهم عبد اللهبن أُبَيّ، وقال: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد أيحسبُ محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب؟ والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرّنين في الحبال. واجتمع جماعة منهم، فقالوا في حق رسول الله وأصحابه ما يريدون من الإرجاف، فبلغه ذلك، فأرسل إليهم عمّاربن ياسر يسألهم عمّا قالوا، فقالوا: إنما كنّا نخوض ونلعب.
وجاء إليه جماعة منهم الجدبن قيس يعتذرون عن الخروج، فقالوا: يا رسول الله ائذن لنا ولا تفتنّا لأنّا لا نأمن من نساء بني الأصفر، وجاء إليه المعذِّرون من الأعراب ــــ وهم أصحاب الأعذار من ضعف أو قلّة ــــ ليؤذن لهم فأذن لهم، وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم، وقد عتب الله عليه في ذلك الإذن بقوله في سورة براءة: عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(43) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ(45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ(46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(47)(1/223)
g ولما استراح الجيش لحقه أبو خيثمة، وكان من خبر مجيئه أن دخل على أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في بستان، قد رشت كلٌّ منهما عريشها، وبرَّدت فيها ماء، وهيأتْ طعاماً، وكان يوماً شديد الحر، فلما نظر ذلك قال: يكون رسول الله في الحر وأبو خيثمة في ظل بارد وماء مهيأ وامرأة حسناء ما هذا بالنَّصَف. ثم قال: والله لا أدخل عريشَ واحدة منكما حتى ألحق برسول الله فهيّئا لي زاداً ففعلتا، ثم ركب بعيره، وأخذ سيفه ورمحه، وخرج يريد رسول الله فصادفه حين نزل بتبوك.
وفود صاحب أَيْلة
هذا ولم يرَ صلى الله عليه وسلم بتبوك جيشاً كما كان قد سمع، فأقام هناك أياماً جاءه في أثنائها يُحَنَّة، صاحب أيلة، وصحبته أهلُ جَرْباء، وأهل أَذْرُح، وأهل مَقْنا، فصالح يُحَنَّة رسول الله على إعطاء الجزية، ولم يسلم. وكتب له الرسول كتاباً هذه صورته:
كتاب صاحب أيلة
"بسم الله الرحمان الرحيم، هذا أَمَنَةٌ من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنَّةبن رؤبة وأهل أيلة: سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه لَطيبةٌ لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحلّ أن يُمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر".
كتاب أهل أَذْرُح وجَرْبَاء
وكتب لأهل أذرح وجرباء كتاباً صورته: "بسم الله الرحمان الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي لأهل أذرح وجرباء، إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل بالنصح والإحسان للمسلمين".
وصالَح أهل مَقْنا على ربع ثمارها.(1/224)
ثم إن الرسول استشار أصحابه في مجاوزة تبوك إلى ما هو أبعد منها من ديار الشام، فقال له عمر: إن كنت أُمرت بالسير فسِرْ. فقال عليه الصلاة والسلام: "لو كنت أُمرت بالسير لم أَسْتَشِرْ". فقال: يا رسول الله إن للروم جموعاً كثيرة، وليس بالشام أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا، وقد أفزعهم دنوُّك، فلو رجعنا في هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمراً، فتبع عليه الصلاة والسلام مشورته، وأمر بالقفول فرجع الجيش إلى المدينة.
مسجد الضِّرار
ولما كان على مقربة منها، بلغه خبر مسجد الضِّرار وهو مسجد أسَّسه جماعةٌ من المنافقين معارضة لمسجد قُباء، ليفرقوا جماعة المسلمين. وجاء جماعة منهم إلى الرسول طالبين منه أن يصلِّي لهم فيه، فسألهم عن سبب بنائه، فحلفوا بالله إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون، فأمر عليه الصلاة والسلام جماعة من أصحابه لينطلقوا إليه، ويهدموه، ففعلوا. هذا، ولما استقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة جاءه جماعات من الذين تخلفوا يعتذرون كذباً، فقبل منهم عليه الصلاة والسلام علانيتهم، ووكل ضمائرهم إلى الله، واستغفر لهم.
حديث الثلاثة الذين خُلِّفوا(1/225)
وجاءه كعبُبن مالك الخزرجي، ومُرارةبن الرّبيع، وهلالبن أميَّة الأوسيّان مقرِّين بذنوبهم، فلما دخل عليه كعب تَبَسَّم تَبَسُّمَ الغَضب، وقال: "ما خلَّفك؟" فقال: يا رسول الله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُوتيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكَنَّ الله أن يسخط عليَّ فيه، ولئن حدثتك حديث صِدق تغضب عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذر. فقال عليه الصلاة والسلام: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك". وقال صاحباه مثل قوله، فقال لهما عليه الصلاة والسلام كما قال لكعب، ونهى المسلمين عن كلامهم، فاجتنبهم الناس، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، واستأذنت زوجُ هلالبن أمية في خدمة زوجها لأنه شيخ ضائع ليس له خادم فأذن لها، ولم يزالوا كذلك حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم، فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام من يبشرهم بهذه النعمة الكبرى، فتلقاهم الناس أفواجاً يهنئونهم بتوبة الله. فلما دخل كعب المسجد تلقاه رسول الله مسروراً، فقال: "أبشر يا كعب بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك"، فقال: من عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "بل من عند الله". فقال كعب: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقة لله ولرسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أمسكْ عليك بعض مالك فهو خير لك". ثم قرأ عليه الصلاة والسلام الآيات التي فيها توبته هو وصاحباه في سورة براءة: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)
وفود ثقيف(1/226)
وعقب مقدمه عليه الصلاة والسلام من تبوك وفد عليه وفد ثقيف، وكان من خبرهم، أنه لما انصرف رسول الله من محاصرتهم، تبع أثره عروةبن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل المدينة، فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه ويدعوهم إلى الإسلام، فقال له: "إنهم قاتلوك". فقال: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم، فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لمرتبته فيهم، لأنه كان فيهم محبباً مطاعاً، فلما جاء الطائف وأظهر لهم ما جاء به رموه بالنبل فقتلوه، وبعد شهر من مقتله ائتمروا فيما بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، فأجمعوا أمرهم على أن يرسلوا لرسول الله رجلاً منهم يكلِّمه، وطلبوا من عبد ياليلبن عمرو أن يكون ذلك الرجل فأبى، وقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فبعثوا معه خمسة من أشرافهم، فخرجوا متوجهين إلى المدينة، ولما قابلوا رسول الله ضرب لهم قبة في ناحية المسجد ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلّوا. وكانوا يَغْدون إلى رسول الله كل يوم ويخلِّفون في رحالهم أصغرهم سنّاً عثمانبن أبي العاص. فكان إذا رجعوا ذهب للنبي واستقرأه القرآن، وإذا رآه نائماً استقرأ أبا بكر حتى حفظ شيئاً كثيراً من القرآن، وهو يكتم ذلك عن أصحابه، ثم أسلم القوم، وطلبوا أن يُعَيِّن لهم من يؤمُّهم، فأمَّرَ عليهم عثمانبن أبي العاص لما رآه من حرصه على الإسلام وقراءة القرآن وتعلم الدين.
كتاب أهل الطائف(1/227)
ثم كتب لهم كتاباً من جملته: "بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين، إن عِضَاهَ وَجَ وَصَيْدَهُ حَرَامٌ، لا يُعْضَدُ شجره، ومن وُجد يفعل شيئاً من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه". ثم سألوا رسول الله أن يؤَجِّل هدم صنمهم شهراً حتى يدخل الإسلام في قلوب القوم، ولا يرتاع السفهاء من النساء من هدمه، فرضي بذلك عليه الصلاة والسلام، ولما خرجوا من عنده قال لهم رئيسهم: أنا أعلمكم بثقيف، اكتموا عنهم إسلامكم وخوِّفوهم الحرب والقتال، وأخبروهم أن محمداً طلب أموراً عظيمة أبيناها عليه. سألنا أن نهدم الطاغية، وأن نترك الزنا، وشرب الخمر والربا، فلما حلّوا بلادهم جاءتهم ثقيف، فقال الوفد: جئنا رجلاً فظّاً غليظاً قد ظهر بالسيف، ودان الناس له، فعرض علينا أموراً شديدة، وذكروا ما تقدم. فقالوا: والله لا نطيعه أبداً، فقالوا لهم: أصلحوا سلاحكم، ورمُّوا حصونكم، واستعدوا للقتال، فأجابوا، واستمروا على ذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله الرعب في قلوبهم، فقالوا: والله ما لنا بحربه من طاقة، ارجعوا إليه وأعطوه ما سأل، فقال الوفد: قد قاضيناه وأسلمنا، فقالوا لِمَ كتمتم علينا ذلك؟ قالوا: حتى تذهب عنكم نخوة الشيطان فأسلموا.
هدم اللات
ولما بلغ رسولَ الله إسلام ثقيف أرسل أبا سفيان، والمغيرةبن شعبة الثقفي، لهدم اللات: صنم ثقيف بالطائف، فتوجهوا وهدموه حتى سوَّوْهُ بالأرض.
حج أبي بكر(1/228)
وفي أُخريات ذي القعدة، أرسل عليه الصلاة والسلام أبا بكر ليحجّ بالناس، فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة، ومعه الهَدْي: عشرون بَدَنَةً أهداها رسول الله، وساق أبو بكر خمس بَدَنات، ولما سافر نزل على رسول الله أوائل سورة براءة، فأرسل بها عليّاً ليبلغها الناس في يوم الحج الأكبر، وقال: "لا يبلغُ عني إلا رجل منّي" فلحق أبا بكر في الطريق، فقال الصديق: هل استعملك رسول الله على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ أو أتلو "براءة" على الناس. فلما اجتمعوا بمنى، يوم النحر، قرأ عليهم عليٌّ ثلاث عشرة آية من أول سورة براءة، تتضمن نبذ العهود لجميع المشركين الذين لم يوفّوا عهودهم، وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض كيف شاؤوا، وإتمام عهد المشركين الذين لم يُظاهروا على المسلمين، ولم يغدروا بهم إلى مدتهم، ثم نادى: لا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وكان علي يصلي في هذا السفر وراء أبي بكر رضي الله عنهما.
وفاة ابن أبيّ
وفي ذي القعدة مات عبد اللهبن أُبَيَ، وقد صلَّى عليه رسول الله صلاة لم يطل مثلها، وشَيَّعَ جنازته حتى وقف على قبره، وإنما فعل ذلك تطييباً لقلب ولده عبد اللهبن عبد الله، وتأليفاً لقلوب الخزرج لمكانة عبد اللهبن أبيّ فيهم، وقد نزع ربقة النفاق كثير من المنافقين بعد هذا اليوم، لما رأوه من أعمال السيد الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد نهى الله رسوله عن الصلاة على المنافقين، فقال جلّ شأنه في سورة براءة: وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84).
وفاة أُمّ كلثوم
وفي هذه السنة توفيت أُمّ كلثوم بنت رسول الله وزوج عثمان رضي الله عنهما.
السَّنَة العاشرة
سرية(1/229)
في ربيع الآخر أرسل عليه الصلاة والسلام خالدبن الوليد في جمع لبني عبد المَدَان بنجران من أرض اليمن، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاث مرات فإن أبوا قاتلهم، فلما قدم إليهم بعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإسلام ويقولون: أسلموا، تسلموا، فأسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً، فأقام خالد بينهم يعلمهم الإسلام والقرآن، وكتب إلى رسول الله بذلك، فأرسل إليه أن يقدم بوفدهم ففعل. وحين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم قال لهم: "بِمَ كنتم تغلبون مَنْ قاتلكم في الجاهلية؟" قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: "صدقتم" وأمَّر عليهم زيدبن حصين.
سرية
وفي رمضان أرسل عليه الصلاة والسلام علياً في جمع إلى بني مذْحِج ــــ قبيلة يمانية ــــ وعَمَّمه بيده، وقال: "سر حتى تنزل بساحتهم، فادعهم إلى قول: لا إله إلاّ الله، فإن قالوا: نعم، فَمُرْهُمْ بالصلاة ولا تبغِ منهم غير ذلك، وَلأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس، ولا تقاتلهم حتى يقاتلوك" فلما انتهى إليهم لقي جموعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، ورموا المسلمين بالنبل فصفَّ عليٌّ أصحابه وأمرهم بالقتال، فقاتلوا حتى هزموا عدوهم فكفَّ عن طلبهم، ثم لحقهم ودعاهم إلى الإسلام فأجابوا، وبايعه رؤساؤهم، وقالوا: نحن على مَنْ وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله، ففعل. ثم رجع إلى رسول الله فوافاه بمكة في حجة الوداع.
بعث العمال إلى اليمن(1/230)
ثم بعث عليه الصلاة والسلام إلى اليمن عمالاً من قبله، فبعث معاذبن جبل على الكورة العليا من جهة عدن، وبعث أبا موسى الأشعري على الكورة السفلى، ووصّاهما صلى الله عليه وسلم بقوله: "يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا" وقال لمعاذ: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأَنَّ محمداً رسول الله، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول الله، أما أبو موسى فقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
خطبة الوداع
وفي السنة العاشرة حج صلى الله عليه وسلم بالناس حجة ودّع فيها المسلمين، ولم يحج غيرها. وخرج لها يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وولّى على المدينة أبا دجانة الأنصاري، وكان مع الرسول جمع عظيم يبلغ تسعين ألفاً، وأحرم للحج حيث انبعثت به راحلته ثم لبّى، فقال: "لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شرك لك لبّيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك لا شريك لك". ولم يَزَل صلى الله عليه وسلم سائراً حتى دخل مكة ضحى من الثنية العليا وهي ثنية كَدَاء. ولما رأى البيت قال: "اللهمّ زدْه تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وبراً". ثم طاف بالبيت سبعاً، واستلم الحجر الأسود، وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم، ثم شرب من ماء زمزم، ثم سعى بين الصفا والمروة سبعاً راكباً على راحلته، وكان إذا صعد الصفا يقول: "لا إله إلا الله، الله أكبر، لا إله إلاّ الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". وفي الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى فبات بها.
حجة الوداع(1/231)
وفي التاسع منه توجه إلى عَرَفة، وهناك خطب خطبته الشريفة التي بيَّن فيها الدين كله أُسَّهُ وفرعه، وهاكَ نصها:
"الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. مَنْ يهدِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضْلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: أُوصيكم عباد الله بتقوى الله وأَحُثُّكُم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير، أما بعد: أيها الناس اسمعوا منّي أُبَيِّن لكم فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيّها الناس إن دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم إلى أن تلقَوا ربَّكم، كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهمّ فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.
إن ربا الجاهلية موضوع، وإنَّ أول رباً أبدأ به ربا عمي العباسبن عبد المطلب، وإن دماءَ الجاهلية موضوعة وأوَّلُ دم أبدأ به دم عامربن ربيعةبن الحارث، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ، وَشِبْهُ العَمْد ما قُتِل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرِون من أعمالكم.
أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يحلّونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرّم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عِدَّةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض، منها أربعة حُرُمٌ، ثلاث متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جُمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.(1/232)
أيُها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهنّ حقٌّ إلاّ يوطئن فرشَكُم غيركم، ولا يُدخلنَ أحداً تكرهونه بيوتَكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن، فإن الله أذن لكم أن تَعْضُلُوهُنَّ، وتهجروهُنَّ في المضاجع، وتضربوهنّ ضرباً غير مُبَرِّح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وإنما النساء عندكم عَوَان، لا يملكن لأنفسهنّ شيئاً، أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهنّ خيراً، ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيّها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحِلُّ لامرىء مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلّغت؟ اللهمّ اشهد، فلا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّاراً يضرب بعضكم رقابَ بعضٍ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضِلوا بعده: كتاب الله، ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد.
أيها الناس إن ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضلٌ على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهمّ اشهد، فليبلغ الشاهدُ منكم الغائب.(1/233)
أيُّها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارثٍ وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش، وللعاهر الحَجَرُ، من ادّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله" وفي هذا اليوم امتنَّ الله على المؤمنين بقوله في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً} (المائدة: 3) فلا غرابة أن اتخذه المسلمون عيداً، ويوماً سعيداً، يُظهرون فيه شكر الله على هذه النعمة الكبرى. ثم إنه عليه الصلاة والسلام أدَّى مناسك الحج من رمي الجمار، والنحر، والحلق، والطواف. وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قَفَلَ إلى المدينة ولما رآها كبَّر ثلاثاً وقال: "لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
الوفود
في هذه السنة والتي قبلها كان وُفود العرب إلى رسول الله ليبايعوه على الإسلام، وكانوا يَقْدُمون أفواجاً، ولما في أخبار هذه الوفود من التعاليم الحميدة التي يحتاج ذو الأدب أن يعرفها، رأينا أن نذكر لك منها ما يزيدك يقيناً ويُنير بصيرتك فنقول:
وفود نَجْران
ومن الوفود وفد نصارى نجران، وكانوا ستين راكباً، دخلوا المسجد وعليهم ثياب الحِبَرَةِ وأردية الحرير، مختمين بالذهب، ومعهم بسط فيها تماثيل، ومُسُوحٌ جاؤوا بها هدية للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل البسط وقبل المُسُوح. ولما جاء وقت صلاتهم صلّوا في المسجد مستقبلين بيت المقدس.(1/234)
ولما أتموا صلاتهم دعاهم عليه الصلاة والسلام للإسلام فأبوا وقالوا: كنّا مسلمين قبلكم، فقال عليه الصلاة والسلام: "يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولداً"، قالوا: فمن مثل عيسى خلق من غير أب؟ فأنزل الله في ذلك في سورة آل عمران: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(59) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءنَا وَأَبْنَآءكُمْ وَنِسَآءنَا وَنِسَآءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)
وفود ضِمَامبن ثعلبة
ومن الوفود ضمامبن ثعلبة، بينما رسول الله بين أصحابه متكئاً جاء رجل من أهل البادية، ثائر الرأس، يُسمع دوي صوته، ولا يُفْقَه ما يقول، فأناخ جمله في المسجد، ثم قال: أيّكم ابنُ عبد المطلب؟ فدلّوه عليه، فدنا منه وقال: إني سائلُكَ فمشدّدٌ عليك في المسألة، فلا تَجِدْ عليّ في نفسك. فقال: "سَلْ ما بدا لك"، فقال: أَنْشُدُك بالله، آلله أرسَلك إلى الناس كلِّهم؟ فقال: "نعم"، فقال: أَنْشُدُكَ بالله، آلله أمرك أن نصلّي خمسَ صلوات في اليوم والليلة؟ قال: "اللهمّ نعم"، فقال: أَنْشُدُكَ بالله، آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فتردَّه على فقرائنا؟ قال: "اللهمّ نعم"، فقال: أَنْشُدُكَ بالله، آلله أمرك أن نحجَّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلاً؟ قال: "اللهمّ نعم"، قال: فإني قد آمنتُ وصدقتُ وأنا ضِمَامُبن ثعلبة.
ولما ولَّى، قال عليه الصلاة والسلام: "فَقُهَ الرجل"، ثم ذهب ضمام إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام، وتركِ عبادة الأوثان فأسلموا كلهم.
وفود عبد القيس(1/235)
ومن الوفود عبد القيس، وكان من خبرهم أن الرسول كان جالساً بين أصحابه يوماً، فقال لهم: "سيطلع عليكم من هنا ركبٌ هم خير أهل المشرق، لم يُكرهوا على الإسلام، قد أنضَوا الركائب، وأفنوا الزاد، اللهمّ اغفر لعبد القيس". فلما أتوا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم رَمَوا بأنفسهم عن الركائب بباب المسجد، وتبادروا إلى رسول الله، يسلمون عليه، وكان فيهم عبد اللهبن عوف الأَشَجّ، وكان أصغرهم سنَّاً، فتخلَّفَ عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع، وأخرج ثوبين أبيضين فلبسهما، ثم جاء يمشي هَوْناً حتى سلَّم على رسول الله، وكان رجلاً دميماً، فَفَطِن لنظر الرسول إلى دَمَامته، فقال: يا رسول الله إنه لا يُستقى في مسوك ــــ أي: جلود ــــ الرجال، وإنما الرجل بأصغريه: قلبه ولسانه، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن فيك خلتين يحبُّهما الله ورسوله: الحِلم والأناة".v وقد قال صلى الله عليه وسلم لهذا الوفد: "مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى"، فقالوا: يا رسول الله إنّا نأتيك من شُقَّةٍ بعيدة، وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحيّ من كفار مُضر، وإنّا لا نصلُ إلاّ في شهر حرام، فمُرنا بأمرٍ فصل، فقال: "آمركم بالإيمان بالله. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تُعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن الدُّبَّاء، والحَنتَمِ، والنَّقِير، والمزفَّت" والمراد بذلك: ما ينبذ في هذه الأواني. فقال الأشج: يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة، وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا، فَرَخِّص لنا في مثل هذه، وأشار إلى يده، فأومأ عليه الصلاة والسلام بكفّيه، وقال: "يا أشج إن رخصتُ لك في مثل هذه شربته في مثل هذه ــــ وفرج بين يديه وبسطه ــــ حتى إذا ثَمِلَ أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه فضربَ ساقه بالسيف". وإنما خَصَّ عليه الصلاة والسلام نهيهم بما ذكر لكثرة الأشربة(1/236)
بينهم.
وفود بني حَنيفة
ومن الوفود بنو حنيفة وكان معهم مُسَيلمة الكذاب، وكان مسيلمة يقول: إن جعل لي الأمر من بعده اتبعته، فأقبل عليه الصلاة والسلام ومعه ثابتبن قَيْسبن شَمَّاس، وفي يد رسول الله قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال: "إنْ سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، وإني لأُراك الذي منه رأيت". وكان عليه الصلاة والسلام قد رأى في منامه أن في يده سوارين من ذهب، فأهمَّه شأنهما، فأوحى الله إليه أن انفخهما فنفخهما فطارا، فأوّلهما صلى الله عليه وسلم كذابَيْن يخرجان من بعده، فكان مسيلمة أحدهما، والثاني: الأسود العنسي صاحب صنعاء. وقد أسلم بنو حنيفة.
وفود طَيِّىء
ومن الوفود وفد طيِّىء، وفيهم زيد الخيل رئيسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حقه: "ما ذُكرَ لي رجل من العرب إلا رأيته دون ما قيل فيه إلا زيد الخيل" وسمّاه صلى الله عليه وسلم زيد الخير.
وفود كِنْدة
ومنهم وفد كندة وفيهم الأشعثبن قيس، وكانَ وجيهاً مطاعاً في قومه. ولما دخلوا على رسول الله خبأوا له شيئاً، وقالوا: أخبرنا عمّا خَبأناه لك؟ فقال: "سبحان الله إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإنَّ الكاهن والمتكهن في النار". ثم قال: "إن الله بعثني بالحق، وأنزل عليّ كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، فقالوا: أسمعنا منه، فتلا عليه الصلاة والسلام: وَالصَّافَّاتِ صَفَّا(1) فَالزجِراتِ زَجْراً(2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً(3) إِنَّ الهكُمْ لَوَاحِدٌ(4) رَّبُّ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ(5) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً(86) إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا(87)
وفود أَزْدِ شنوءَة(1/237)
ومنهم وفد أزد شنوءة، ورئيسهم صُرَدُبن عبد الله الأزدي، فأسلموا وأمَّره عليهم، وأمره بأن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك.
وفود رسول ملوك حِمْيَر
ومنهم وفد رسول ملوك حمير وهم: الحارثبن عبد كُلال، ونعيمبن عبد كُلال، والنُّعمان قَيْلُ ذي رُعين، ومَعَافِرَ، وهَمْدان، وكانوا قد أسلموا وأرسلوا رسولهم بذلك فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
كتاب ملوك حِمْيَر
بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارثبن عبد كُلال وإلى نُعيمبن عبد كُلال، وإلى النعمان قَيلِ ذي رُعَيْن، ومَعافر، وهَمْدان. أما بعد: فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم، فلقيناه بالمدينة فبلَّغ ما أرسلتم به، وخبَّر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم، وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم خُمُس الله، وسهمَ النبي وصَفِيَّهُ، وما كُتب على المؤمنين من الصَّدقة. أما بعد: فإن محمداً النبي أرسل إلى زُرْعَةَبن ذي يزن إذا أتاكم رُسُلي فأوصيكم بهم خيراً: مُعاذبن جبل، وعبد اللهبن زيد، ومالكبن عُبادة، وعُقبةبن نمر، ومالكبن مُرّة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم، وأبلغوها رسُلي، وإن أميرهم معاذُبن جبل فلا يَنقَلِبَنَّ إلا راضياً، أما بعد: فإن محمداً يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالكبن مرّة الرَّهاوي قد حدّثني أنك قد أسلمت من أوّل حِمْيَر، وقتلت المشركين، فأبشر بخير وآمرك بحِمْيَر خيراً، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تَحِلُّ لمحمد ولا أهل بيته، إنما هي زكاة يُزَكى بها على فُقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكاً قد بلَّغ الخبر، وحفِظ الغَيب، وآمركم به خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/238)
وفود هَمْدان
ومنها وفد هَمْدان، وفيهم مالكبن نَمَط، وكان شاعراً مجيداً، فلقوا رسول الله مَرْجِعَهُ من تبوك، عليهم مُقَطَّعَات من الحِبَرات اليمنية، والعمائم العدنية، وقد أنشد مالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
حلفتُ بربّ الراقصاتِ إلى مِنًىصَوادرَ بالركبانِ من هَضْب قَرْدَدِبأَن رسولَ اللهِ فينا مُصَدَّقٌرسولٌ أتى من عند ذي العرش مهتدِفما حملتْ من ناقةٍ فوقَ رحلهاأشدَّ على أعدائِهِ من محمدِ وقد أمَّره صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وقد قال الرسول في حق هَمْدان: "نعم الحيّ هَمْدَان، ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد، وفيهم أبدال وفيهم أوتاد".
وفود تُجِيْب(1/239)
ومنها وفد تُجيْب، قبيلة من كِنْدة، وفد على رسول الله ثلاثة عشر رجلاً منهم، ومعهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرّ بهم عليه الصلاة والسلام وأكرم مثواهم، وقالوا: يا رسول الله إنّا سُقْنَا إليك حق الله في أموالنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "ردّوها فاقسموها على فقرائكم". فقالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، قال أبو بكر: يا رسول الله ما قدم علينا من وفد من العرب مثل هذا. فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الهدى بيد الله، فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان"، وجعلوا يسألونه عن القرآن، فازداد صلى الله عليه وسلم رغبة فيهم، ثم أرادوا الرجوع إلى أهليهم فقيل لهم: ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى مَنْ وراءنا فنخبرهم برؤية رسول الله ولقائنا إيّاه وما ردّ علينا، ثم جاؤوا إلى رسول الله فودعوه، فأجازهم بأفضل ما كان يُجيز به الوفود، ثم قال لهم: "هل بقي منكم أحد؟" قالوا: غُلام خَلّفْناه في رحالنا وهو أحدثنا سِنّاً، قال: "فأرسلوه إلينا" فأرسلوه، فأقبل الغلام، وقال: يا رسول الله أنا من الرهط الذين أتوك آنفاً فقضيت حاجتهم فاقضِ حاجتي، قال: "وما حاجتك؟" قال: تسأل الله أن يغفرَ لي ويرحمني ويجعلَ غناي في قلبي. فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهمّ اغفر له، وارحمه، واجعل غناه في قلبه"، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.
وفود ثعلبة
ومنها وفد ثَعْلَبة، وفد على رسول الله أربعة منهم مقرّين بالإسلام، فسلَّموا عليه وقالوا: يا رسول الله إنّا رُسل مَنْ خلفنا من قومنا ونحن مقرُّون بالإسلام، وقد قيل لنا: إنك تقول: لا إسلام لمن لا هجرة له، فقال عليه الصلاة والسلام: "حيثما كنتم واتَّقَيْتُم الله فلا يَضُرُّكم"، ثم قال لهم: "كيف بلادكم؟" فقالوا: مخصبون، فقال: "الحمد لله". ثم أقاموا في ضيافته أياماً، وحين إرادتهم الانصراف أجاز كل واحد منهم بخمس أواق من فضة.
وفود بني سعدبن هُذَيم(1/240)
ومنها وفد بني سعدبن هذيم من قُضَاعةَ، قال النعمان منهم: قدِمت على رسول الله وافداً في نفر من قومي، وقد أوطأ رسول الله البلاد، وأزاح العرب، والناس صنفان: إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نَؤُمُّ المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فوجدنا رسول الله يصلي على جَنازة في المسجد، فقمنا خلفه ناحية، ولم ندخل مع الناس في صلاتهم، وقلنا حتى يصلي رسول الله ونُبايعه. ثم انصرف رسول الله فنظر إلينا فدعا بنا فقال: "ممّن أنتم؟" فقلنا من بني سعدبن هذيم، فقال: "أمسلمون أنتم؟" قلنا: نعم، فقال: "هَلاَّ صلّيتم على أخيكم؟" قلنا: يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز حتى نبايعك، فقال عليه الصلاة والسلام: "أينما أسلمتم فأنتم مسلمون". قال: فأسلمنا وبايعنا رسول الله بأيدينا، ثم انصرفنا إلى رِحَالنا، وقد كُنَّا خَلَّفْنَا عليها أصغرنا فبعث عليه الصلاة والسلام في طلبنا، فأتى بنا إليه فتقدم صاحبنا فبايعه صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله إنه أصغرنا وإنه خادمنا، فقال: "سيد القوم خادمهم، بارك الله عليه". قال النعمان: فكان خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أجازهم وانصرفوا.
وفودبن فَزَارة(1/241)
ومنها وفد بني فزارة، وفَدَ على رسول الله جماعة منهم مقرّين بالإسلام وهم مُسْنِتون، فسألهم عليه الصلاة والسلام عن بلادهم، فقال رجل منهم: يا رسول الله أَسْنَتَتْ بلادُنا، وهلكت مواشينا، وأجدَب جَنَابُنا، وجاعت عيالنا. فادعُ لنا ربك يُغثْنا. واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك، فقال عليه الصلاة والسلام: "سبحان الله ويلك هذا أنا أشفع إلى ربي، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العليّ العظيم، وسِعَ كرسيّه السموات والأرض، فهي تَئِطُّ من عظمته وجلاله كما يئط الرَّحْل الحديث". أي من ثقل الحمل. ثم صعد عليه الصلاة والسلام المنبر، ودعا الله عزّ وجلّ حتى أغاث بلاد هذا الوفد بالمطر الغزير، والرحمة التامة.
وفود بني أَسَد
ومنها وفد بني أسد، وفيهم: ضِرَارُبن الأزوَر وطُليحةبن خويلد الذي ادّعى النبوّة بعد ذلك، فأسلموا، وقالوا: يا رسول الله أتيناك نتدرَّع الليل البهيم في سنة شهباء ولم تبعث إلينا بعثاً، فأنزل الله في ذلك: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ(17)
وفود بني عُذْرَة
ومنها وفد بني عذرة، ووفد بني بَلِيّ، ووفد بني مُرَّة، ووفد خوْلان ــــ وهي قبائل باليمن ــــ وقد أمرهم عليه الصلاة والسلام بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وحسن الجوار لمن جاوروا، وأن لا يظلموا أحداً فإن الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة.
وفود بني مُحارب
ومنها وفد بني محارب، وكانوا من الذينَ ردُّوا الرد القبيح حينما كان رسول الله بعكاظ يدعو القبائل إلى الله، فما أعظم منّة الله الذي أتى بهؤلاء ــــ وكانوا ألدّ الأعداء ــــ مسلمين مُنقادين
وفود غَسَّان
ومنها وفد غسان، ووفد بني عَبْس، ووفد النخع.(1/242)
وكان عليه الصلاة والسلام يقابل هذه الوفود بما جَبَلَهُ الله عليه من البشاشة، وكرم الأخلاق، ويُجيزهم بما يرضيهم، ويعلمهم الإيمان والشرائع، ليعلِّمُوا من وراءهم، وكانت هذه الوفود أعظم وصلة لإظهار الدين بين الأعراب في البوادي.
وفاة إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام
وفي هذه السنة توفي إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السَّنَة الحادية عشرة
سرية
لأربع بقينَ من صفر، جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً برياسة أُسامةبن زيد إلى أُبْنى حيث قتل زيدبن حارثة، والد أُسامة، وقال له: "سر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش، فأَغِرْ صباحاً على أهل أُبْنى، وحرِّق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله فأقلَّ اللبث فيهم، وخذ الأدلاَّء، وقدِّم العيون والطلائع معك". وكان مع أُسامة في هذا الجيش كبار المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد.
ثم عقد عليه الصلاة والسلام لأُسامة اللواء، وقال له: "اغزُ باسم الله، في سبيل الله، وقاتل من كفر بالله".
وقد انتقد جماعة على تأمير أُسامة وهو شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره على جيش فيه كبار المهاجرين، فأُبلغ الرسول هذه المقالة فغضب غضباً شديداً، وخرج، فقال: "أما بعد، أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟ ولئن طعنتم في تأميري أُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وايمُ الله إنه كان لخليقاً بالإِمارة، وان ابنه من بعده لخليقٌ بها، وإن كان لمن أحبّ الناس إليَّ، وإنهما لمظنّة لكل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم".
ولم يتم لهذا الجيش الخروج في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم لأن المرض بدأة فاختاره الله للرفيق الأعلى. وسيرى القارىء إن شاء الله خروج هذا الجيش متمّماً في كتابنا "إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء".
مرض الرسول صلى الله عليه وسلم(1/243)
لما تمّم عليه الصلاة والسلام ما كُلِّفَ به، وأدى ما اؤتمن عليه، وهدى الله به أمته، اختاره الله للرفيق الأعلى، فجلس على المنبر مرة، وكان فيما قال: "إن عبداً خيَّره الله بين أَنْ يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده". فبكى أبو بكر، وقال: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن أمَنَّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، لو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر، ولكن أُخوة الإسلام، لا يبقى في المسجد خَوخة إلا سُدَّت إلا خَوْخة أبي بكر".
وقد بدأه عليه الصلاة والسلام مرضُه في أواخر صَفَر من السنة الحادية عشرة من الهجرة في بيت ميمونة، واستمر مريضاً ثلاثة عشر يوماً، كان في خلالها ينتقل إلى بيوت أزواجه، ولما اشتد عليه المرض استأذن منهنّ أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة الصدّيقة فأَذِنَّ له، ولما دخل بيتها واشتد عليه وجعه، قال: "هَريقوا علي من سبع قِرَب لم تُحْلَلْ أوكيتُهُنّ لعلّي أعهد إلى الناس". فأُجلس في مِخضَب، وصبّ عليه الماء حتى أشار بيده أن قد فعلتن، وكان هذا الماء لتخفيف حرارة الحمى التي كانت تصيب مَن يضع يده فوق ثيابه.
صلاة أبي بكر بالناس(1/244)
ولما تعذَّر عليه الخروج إلى الصلاة قال: "مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" فرضيه عليه الصلاة والسلام خليفةً له في حياته. ولما رأت الأنصارُ اشتدادَ وجع الرسول طافوا بالمسجد، فدخلَ العباس، وأعلمه بمكانهم وإشفاقهم، فخرج صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عليّ والفضل، وتقدم العباس أمامهم والنبي معصوبُ الرأس يَخُطُّ برجليه، حتى جلس في أسفل مِرقاة المنبر، وثار الناس إليه فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيّكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث الله فَأُخلَّد فيكم؟ ألا إني لاحق بربي، وإنكم لاحقون بي، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيراً، وأوصي المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ(2) إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ(3) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ(22)
وبينما المسلمون في صلاة الفجر، من يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول، وأبو بكر يصلي بهم، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف سِجْفَ حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر رضي الله عنه على عقبه ليصلَ الصَّفَّ، وظن أن رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله، فأشار إليهم بيده: أن أتّموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/245)
ولم تأت ضحوة هذا اليوم حتى فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم دنياه، ولحق بمولاه، وكان ذلك في يوم الاثنين 13 ربيع أول سنة 11 (8 يونيو سنة 633) فيكون عمره عليه الصلاة والسلام 63 سنة قمرية كاملة، وثلاثة أيام، وإحدى وستين شمسية، وأربعة وثمانين يوماً، وكان أبو بكر غائباً بالسُّنْح ــــ وهي منازل بني الحارثبن الخزرج ــــ عند زوجه حبيبة بنت خارجةبن زيد، فسلَّ عمر سيفه، وتوعَّد مَنْ يقول: مات رسول الله، وقال: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فلبثَ عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يُقَطِّع أيدي رجالٍ وأرجلَهم.
فلما أقبل أبو بكر وأُخبر الخبر دخل بيت عائشة، وكشف عن وجه رسول الله، فجثا يُقَبِّلُه، ويبكي، ويقول: توفي والذي نفسي بيده صلوات الله عليك يا رسول الله ما أطيبك حيّاً وميتاً، بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين. ثم خرج فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبدُ محمداً، فإنّ محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، وتلا قوله تعالى: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ(30) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144)(1/246)
ثم مكث عليه الصلاة والسلام في بيته بقية يوم الاثنين، وليلة الثلاثاء ويومه وليلة الأربعاء، حتى انتهى المسلمون من إقامة خليفة عليهم، فَغُسِّلَ ودُفِنَ، وكان الذي يغسله عليُّبن أبي طالب، ويساعده العباسُ، وابناه الفضل وَقُثَم، وأُسامةبن زيد، وشُقْران مولى رسول الله، وكُفِّنَ في ثلاثة أثواب بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة. ولما فرغوا من تجهيزه وُضع على سريره في بيته، ودخل الناس عليه أرسالاً متتابعين يُصَلُّون عليه، ولم يؤمّهم أحد، ثم حُفِرَ له لحد في حجرة عائشة حيث توفي، وأنزله القبرَ عليّ والعباس وولداه الفضل وَقُثَم، وَرَشَّ قبره بلال بالماء، ورُفع قبره عن الأرض قدر شبر. توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك للمسلمين ما إن اتبعوه لم يضرّهم شيء: كتابَ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وترك أصحابه البررة الكِرام، يوضِّحون الدين، ويتمّمون فتح البلاد، ويُظهرون في الدنيا شمس الدين الإسلامي القويم، حتى يتمّم الله كلمته، ويحقّ وعده، وقد فعل، فنسأل الله أن يقدّرنا على أداء شكره على هذه المنّة العظمى، والنعمة الكبرى.
شمائله عليه الصَّلاة والسَّلام
منح الله سبحانه نبيّنا صلى الله عليه وسلم من كمالات الدنيا والآخرة ما لم يمنحه غيره ممّن قبله أو بعده، ولا بدّ أن نأتي لك في هذا الباب بنبذة يسيرة من محاسن صفاته، وأحاسن آدابه، لتكون لك أنموذجاً تسير عليه، حتى تكون على قدم نبيّك صلى الله عليه وسلم، فتستحق الحمد في الدنيا والذخر في الأخرى.
فاعلم ــــ أرشدني الله وإياك، وهدانا للصراط السوي ــــ أن خصال الجلال والكمال في البشر نوعان: ضروري دنيوي: اقتضته الجِبلَّة، وضرورة الحياة، ومكتسبٌ ديني: وهو ما يُحمد فاعله ويُقَرِّبُ إلى الله زلفى.(1/247)
فأما الضروري: فما ليس للمرء فيه اختيار ولا اكتساب مثل ما كان في جبلَّته عليه الصلاة والسلام من كمال الخِلْقة، وجمال الصورة، وقوة العقل، وصحة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، والأعضاء، واعتدال الحركات، وشرف النسب، وعزّة القوم، وكرم الأرض، ويلحق به ما تدعو ضرورة الحياة إليه من الغذاء والنوم والملبس والمسكن والمال والجاه.
أما المكتسبة الأخروية: فسائر الأخلاق العليّة والآداب الشرعية من الدين، والعلم، والحِلم، والصبر، والشكر، والعدل، والزهد، والتواضع، والعفو، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحُسن الأدب، والمعاشرة، وأخواتها وهي التي يجمعها حُسن الخُلق.(1/248)
فإذا نظرت ــــ رعاك الله ــــ إلى خصال الكمال التي هي غير مكتسبة، وفي جبلَّة الخِلقة، وجدته عليه الصلاة والسلام حائزاً لجميعها، محيطاً بشتات محاسنها. فأما الصورة وجمالها وتناسب أعضائه في حُسنها، فقد جاءت الآثار الصحيحة والمشهورة الكثيرة بذلك من أنه صلى الله عليه وسلم كان: أزهر اللون، أدعج، أنجل، أشكَل، أهدب الأشفار، أبلج أزج أقنى أفلج مدور الوجه واسع الجبين كث اللحية تملأ صدره، سواءَ البطن عظيم الصدر، عظيم المنكبين، ضخم العِظام، عَبْل العضدين والذراعين والأسافل، رَحْب الكفَّين والقدمين، سائل الأطراف، أنورَ المُتَجَرَّد، دقيق المسرُبة، رَبْعة القدِّ، ليس بالطويل البائِن، ولا القصير المتردِّد، ومع ذلك فلم يكن يُماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طالَه صلى الله عليه وسلم، رَجِل الشعر، إذا افترَّ ضاحكاً افتر عن مثل سَنا البرق، وعن مثل حبِّ الغمام، وإذا تكلم رُئِي كالنُّور يخرجُ من بين ثناياه، أحسن الناس عُنُقاً، ليس بِمُطَهَّمٍ، ولا مُكَلْثَمٍ، متماسِك البدن، ضرب اللَّحم.c قال البراءبن عازب: ما رأيتُ من ذي لِمَّةِ سوداء، في حلّة حمراء، أحسن من رسُول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة: ما رأيتُ شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وإذا ضحك يتلألأ في الجُدُر. وفي حديث ابن أبي هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر. وقال علي في آخر وصفه له: من رآه بَديهة هَابَهُ، ومن خالطهُ معرِفةً أحبَّه، يقول ناعِتُهُ: لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.(1/249)
وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرَقه، ونزاهته عن الأقذار، وعورات الجسد، فكان قد خصَّه الله تعالى في ذلك بخصائص لم توجد في غيره، ثم تممها بنظافة الشرع. قال عليه الصلاة والسلام: "بُنِي الدين على النظافة". وقال أنس: ما شَممت عنبراً قط، ولا مسكاً، ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن جابربن سمرة، أنه عليه الصلاة والسلام مسح خَدَّه، قال: فوجدت ليده بَرداً وريحاً كأنما أخرجها من جُؤنة عطار. قال غيره: مَسَّها بطيب أو لم يمسَّها. يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، يضع يده على رأس الصبي، فيُعرف من بين الصِّبيان بريحها، وروى البخاري في تاريخه الكبير عن جابر: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ في طريق فيتبعه أحد إلا عُرِف أنه سلكه من طيبه. وأما وفُور عقلهِ صلى الله عليه وسلم، وذكاء لُبِّه، وقوةُ حواسه، وفصاحةُ لسانه، واعتدالُ حركاته، وحسن شمائله، فلا مِرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمَّل تدبيره أمْرَ بواطن الخلق، وظواهرهم، وسياسته للعامة والخاصة، مع عجيب شمائله وبديع سِيَره فضلاً عمّا أفاده من العلم، وقرّره من الشرع، دون تعلّم سابق، ولا ممارسة تقدَّمتْ، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتَرِ في رُجْحان عقله، وثُقُوب فهمه لأول بديهة.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام في الصلاة يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وبذلك فُسِّر قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ(219)(1/250)
وأما فصاحةُ اللسان، وبلاغة القول، فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحلِّ الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أُوتي جوامِع الكَلِم، وخُصَّ ببدائعِ الحكم، وعُلِّم ألسنةَ العرب، فكان يُخاطِب كل أمةٍ منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويُباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله. من تأمل حديثه وسيرَه علم ذلك وتحقَّقه. وليس كلامه مع قريش ككلامه مع أقيال حضرموت، وملوك اليمن، وعظماء نجد. بل يستعمل لكل قبيلة ما استحسنته من الألفاظ، وما انتهجته من طرق البلاغة ليُبَيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وليحدِّث الناس بما يعلمون.(1/251)
وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وجوامع كلمه، وحكمه المأثورة، فقد ألَّفَ النَّاسُ فيها الدواوين، وجُمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها ما لا يُوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة، كقوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". وقوله: "الناس كأسنان المشط"، و"المرء مع من أحَبّ"، و"لا خير في صُحبة مَنْ لا يرى لك ما ترى له"، و"الناس معادن"، و"ما هلك امرؤ عرف قدره"، و"المستَشَار مؤتمن"، و"رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم". وقوله: "أسلِم تَسلم، وأسلم يُؤتِك الله أجرك مرتين"، و"إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسِنُكُم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يَألفون ويُؤلفون". وقوله: "لعلّه كان يتكلم بما لا يعنيه، أو يبخل بما لا يغنيه"، وقوله: "ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً". ونهيه عن "قيل وقال، وكثرة السُّؤال، وإضاعة المال، ومَنْعٍ وهاتِ، وعقوق الأمهات، ووأد البنات"، وقوله: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بِخُلق حسن"، و"خير الأمور أوساطها". وقوله: "أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما"، وقوله: "الظلم ظلمات يوم القيامة". وقوله في بعض دعائه: "اللهمّ إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شَعْثي، وتُصلح بها غائبي، وتُزكي بها عملي، وتُلهمني بها رُشدي، وتردّ بها أُلْفَتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهمّ إني أسألك الفوز في القضاء، ونُزُل الشهداء، وعيشَ السعداء، والنصر على الأعداء". إلى غير ذلك مما رَوَتهُ الكافّة عن الكافّة عن مقاماته، ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته، ومخاطباته، وعهوده، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يُقاس بها غيره، وحاز فيها سَبْقاً لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ. وقد قال أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: "وما يمنعني؟ وإنما أُنْزل القرآن بلساني، لسانٍ عربي مُبين". وقال(1/252)
مرة أخرى: "أنا أفصح العرب بيدَ أني من قريش، ونشأت في بني سعد". فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإِلهي الذي مددُهُ الوحي الذي لا يُحيط بعلمه بشر.
وأما سروّ نسبه، وكرم بلده، ومنشئه، فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، ولا بيان مُشكلٍ، ولا خفي منه. فإنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصميمها، وأشرف العرب، وأعزّهم نفراً من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة، أكرم بلاد الله على الله وعلى عباده. وقد قدّمنا لك في أول الكتاب ما فيه الكفاية في هذا المقام.
أما ما تدعو إليه ضرورة الحياة، فمنه ما الفضل في قلته، ومنه ما الفضل في كثرته، ومنه ما تختلف الأحوال فيه، فالأول: كالغذاء والنوم، ولم تَزَل العرب والحكماء قديماً تتمادح بقلتهما، وتذم بكثرتهما، لأن كثرة الأكل والشرب دليلٌ على النَّهَم والحرصِ، والشَّرَهِ وغلبةِ الشهوةِ، مسببٌ لمضار الدنيا والآخرة، جالبٌ لأدواء الجسد، وخُثارة النفس، وامتلاء الدماغ. وقلته دليلٌ على القناعة، وملك النفس. وقمع الشهوة، مُسَبِّبٌ للصحة، وصفاء الخاطر، وحدّة الذهن، كما أن النوم دليل على الفسولة والضعف، وعدم الذكاء والفطنة، مسبّبٌ للكسل، وعادة العجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب وغفلته وموته. وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ من الأكل والنوم بالأقل، وحضَّ عليه قال صلى الله عليه وسلم: "ما ملأَ ابنُ آدمَ وعاءً شَرّاً من بطنهِ، حسبُ ابن آدمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كان لا محالةَ، فَثُلُثٌ لطعامهِ، وثلثٌ لشرابهِ، وثلثٌ لِنَفَسِهِ". ولأن كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب.(1/253)
وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يمتلىء جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعاً قطّ، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاماً ولا يتشهَّاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قَبلَ، وما سقوه شرب. وفي صحيح الحديث: "أما أنا فلا آكل متكئاً" والاتِّكَاء: هو التَّمكنُ للأكل، والتقعدُدُ في الجلوس له، كالمتربّع وشبهه، من تمكُّن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفِزِ مُقْعِياً، ويقول: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبدُ"، وكذلك نومه كان قليلاً، ومع ذلك فقد قال: "إِنَّ عَيْنَيَّ تنامانِ ولا ينامُ قلبي".
وأما ما الفضل في كثرته، فكالجاه، وهو محمودٌ عند العقلاء عادة، وبقَدْرِ جاهه عِظَمُهُ في القلوب، وقد قال تعالى في صفة عيسى عليه السلام: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ} (آل عمران: 45).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رُزِق من الحشمة، والمكانة في القلوب، والعظمة قبل النبوّة عند الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته، كما ذكرنا ذلك مِراراً، وقد كان يبهتُ ويفرق لرؤيته مَنْ لم يره، كما روي عن قَيْلَةَ أنها لما رأته أُرْعِدَتْ من الفَرَق فقال: "يا مسكينة عليكِ السكينة". وفي حديث أبي مسعود، أن رجلاً قام بين يديه فأُرْعِدَ، فقال له عليه الصلاة والسلام: "هوِّن عليك فإني لست بملك".
وأما عظيم قدره بالنبوّة، وشريف منزلته بالرسالة، وإنافة رتبته بالاصطفاء والكرامة في الدنيا، فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم.(1/254)
وأما ما تختلف فيه الحالات في التمدح به، والتفاخر بسببه والتفضيل لأجله، ككثرة المال، فصاحبه على الجملة معظَّم عند العامّة لاعتقادها تَوَصُّلَهُ به إلى حاجته، وتمكّنه في أغراضه، وإلا فليس فضيلة في نفسه، فمتى كان بهذه الصورة، وصاحبه مُنفقاً له في مهماته، ومهمات من قصده وأَمَّلَهُ، يصرفه في مواضعه، مشترياً به المعالي والثناء الحسن، والمنزلة في القلوب. كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البرّ، وأنفقه في سبل الخير، وقَصد بذلك الله تعالى والدار الآخرة، كان فضيلة عند الكل بكل حال، ومتى كان صاحبه مُمْسكاً له، غير موجهه وجوهه، حريصاً على جمعه، عادت كثرته كالعدم، وَكان مَنْقَصَة في صاحبه، ولم يقفْ به على جَدَدِ السلامة، بل أوقعه في وَهْدة رذيلة البخل، ومذمّة النذالة، فالتمدح بالمال ليس لذاته بل للتوصّل به إلى غيره، وتصريفه في مُتَصَرَّفاته، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم أُوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد، وأُحِلَّت له الغنائم، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجُلب إليه كثير من أخماسها وَجِزْيَتِها وصدقاتها، وهاداه جماعة من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهماً بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: "ما يسرني أن لي أُحُداً ذهباً يبيت عندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لِدَيْني".
وأتته دنانير مرة فقسَّمها، وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه، فلم يأخذه نوم حتى قام فقسمها، وقال: "الآن استرحت".(1/255)
ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله، واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشَّمْلَة، والكساء الخشن، والبُرْد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب، ويرفعُ لمن لم يحضر، فأنت ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاز فضيلة المال بالزهد فيه، وإنفاقه على مستحقيه.
وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة والآداب الشريفة وهي المسماة بحسن الخُلق فجميعها قد كانت خلق نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على الانتهاء في كمالها، والاعتدال إلى غايتها حتى أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)(1/256)
فأصل فروعها، وعنصُر ينابيعها، ونقطة دائرتها: العقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة، ويتفرّع عن هذا ثقوب الرأي، وجودة الفطنة، والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب، ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحُسن السياسة والتدبير، واقتناء الفضائل، وتجنُّب الرذائل، وقد بلغ عليه الصلاة والسلام منه ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، يعلمُ ذلك من تَتَبَّعَ مجاري أحواله، واطّراد سيره، وطالعَ جوامع كَلِمه، وحُسن شمائله، وبدائع سِيَره، وحكم حديثه، وعلمه بما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة، وحكم الحكماء، وسِيَر الأمم الخالية وأيامها، وضرب الأمثال، وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع، وتأصيل الآداب النفيسة، والشيم الحميدة، إلى فنون العلوم التي اتَّخذ أهلها كلامه فيها قدوة وإشاراته حجة، كالطب والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك دون تعليم ولا مدارسة، ولا مطالعة كتب من تقدم، ولا الجلوس إلى علمائهم، بل نبي أميّ لا يعرف شيئاً من ذلك، حتى شرح الله صدره، وأبان أمره وعلَّمه. وبحَسَب عقله كانت معارفه عليه الصلاة والسلام إلى سائر ما علَّمه الله، وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان، وعجائب قدرته، وعظيم ملكوته قال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113).
وأما الحلم والاحتمال والعفو مع القدرة، والصبر على ما يكرهه، فمما أدّب الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ(199) وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ} (لقمان: 17). وقال: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22). وقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ(43)(1/257)
قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر عليه الصلاة والسلام في أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تُنْتَهك حرمة الله، فينتقم لله".
ولما فعل به المشركون ما فعلوا في أُحُد، وطُلب منه أن يدعو عليهم قال: "اللهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين آذوه، واستهزؤوا به، وأخرجوه من دياره هو وأصحابه، ثم قاتلوه، وحرّضوا عليه غيرهم من مشركي العرب، حتى تمالأَ عليه جمعهم، ثم لما فتح الله عليه مكة ما زاد على أن عفا وصفح، وقال: "ما تقولون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيراً أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم، فقال: "اذهبوا فأنتم الطُّلقاء". وعن أنس: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام وعليه بُرد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيريَّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي ثم قال: "المال مال الله وأنا عبده". ثم قال: "ويُقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي" قال: لا، قال: "لِمَ؟" قال: لأنك لا تكافىء بالسيئةِ السيئةَ، فضحك عليه الصلاة والسلام، ثم أمر أن يُحمل له على بعير شعيرٌ، وعلى الآخر تمرٌ.
قالت عائشة: ما رأيت رسول الله منتصراً من مَظْلمَةٍ ظلمها قطُّ، ما لم تكن حُرْمَةً من محارم الله تعالى، وما ضربَ بيده شيئاً قطُّ إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضربَ خادماً ولا امرأة، فصلى الله تعالى عليه، وأقرَّ عينه باتباع المسلمين سنّته.(1/258)
وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يُوازى في هذه الأخلاق الكريمة، ولا يُبارى. وصَفَهُ بهذا كل من عرفه، قال جابر رضي الله عنه: ما سُئل عليه الصلاة والسلام عن شيء فقال: لا. وقال ابن عباس: كان عليه الصلاة والسلام أجودَ الناس بالخير، وأجودَ ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الريح المرسلة. وقالت خديجة في صفته عليه الصلاة والسلام مخاطبة له: إنك تحمل الكَلَّ، وتكْسِبُ المعدوم.
وحَسْبُك شاهداً في هذا الباب ما فعله مع هوازن من ردِّ السبي إليها، وما فعله يوم تقسيم السبي من إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم الأعطية. وقد استوفينا ذلك في موضعه.
وحُمل إليه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفاً، فوضعها على حصير وأخذ يقسمها فما قام حتى فرغ منها.
وجاءه رجل فسأله فقال: "ما عندي شيء، ولكن ابتعْ عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه" فقال له عمر: ما كلَّفَكَ الله ما لا تقدرُ عليه، فكره ذلك عليه الصلاة والسلام، فقال له رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخفْ من ذي العرش إقلالاً، فتبسم عليه الصلاة والسلام وعُرِفَ البشرُ في وجهه وقال: "بهذا أُمِرتُ".
والأخبار بجوده وكرمه عليه الصلاة والسلام كثيرة يكفي منها لتعليمك ما ذكرناه.
ومنها الشجاعة والنجدة، فكان عليه الصلاة والسلام منهما بالمكان الذي لا يُجهل، قد حضر المواقف الصعبة، وفرّ الكُمَاةُ والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يَبْرَح، ومُقْبل لا يُدبر، ولا يتزحزح، وما من شجاع إلا أُحصيت له فرّة، وحفظت عنه جولة، سواه. وحسبك ما فعله في حُنَيْنٍ وأُحُد مما ذكرناه مستوفى.(1/259)
وقال ابن عمر: ما رأيتُ أشجعَ ولا أنجدَ ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليٌّ: إنّا كنّا إذا اشتد البأسُ، واحْمرَّت الحَدَقُ اتقينا برسول الله، فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدو منه، ولقد رأيتُني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً. وقال أنس: كان عليه الصلاة والسلام أشجعَ الناس، وأحسنَ الناس، وأجودَ الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلةً، فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت، فتلقاهم عليه الصلاة والسلام راجعاً، قد سبقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ، والسيف في عنقه، وهو يقول: "لن تُراعوا".
وأما الحياء والإغضاء، فكان عليه الصلاة والسلام أشدَّ الناس حياءً، وأكثرهم عن العورات إغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان عليه الصلاة والسلام أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها. وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه.
وكان عليه الصلاة والسلام لطيفَ البَشَرة، رقيقَ الظاهر، لا يُشَافِهُ أحداً بما يكرهه، حياءً وكرمَ نفس. قالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام إذا بلغه عن أحدٍ ما يكرهه لم يقلْ: ما بال فلان يقول كذا وكذا؟ بل يقول: "ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا؟". ينهى عنه ولا يُسَمِّي فاعِله، وقالت رضي الله عنها: لم يكن عليه الصلاة والسلام فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.(1/260)
وأما حسن عشرته وأدبه، وبسط خلقه مع أصناف الخلق، فمما انتشرت به الأخبار الصحيحة، قال علي رضي الله عنه: كان عليه الصلاة والسلام أوسعَ الناس صدراً، وأصدقَ الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. وكان عليه الصلاة والسلام يؤلِّفهم، ولا ينفِّرهم، ويكرم كريم كلِ قوم ويولِّيه عليهم، ويحْذَر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي على أحد منهم بشره، ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه. من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكونَ هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخُلُقه، فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق سواء، بهذا وصفه ابن أبي هالة. وكان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظَ ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّاب، ولا مدَّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يؤيس منه، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159). وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34).
وكان عليه الصلاة والسلام يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كُراعاً، ويكافىء عليها، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم، ويحادثهم، ويلاعب صبيانهم، ويجلسهم في حِجره، ويجيب دعوة الحر والعبد، والأمة والمسكين، ويعُود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر. وقال أنس: ما التقم أحد أُذن النبي يحادثه فنحَّى رأسه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحِّي رأسه، وما أخذ أحدٌ بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر.(1/261)
وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يُرَ قطّ مادّاً رجليه بين أصحابه حتى يُضَيِّقَ بهما على أحد، يُكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويُكَنِّي أصحابه، ويدعوهم بأحبِّ أسمائهم تكرمةً لهم، ولا يقطعُ على أحد حديثه، حتى يتجوَّزَ فيقطعه بنهي أو قيام، وكان أكثرَ الناس تبسماً، وأطيبهم نفساً، ما لم يُنزل عليه قرآن، أو يعظ، أو يخطب.
وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد وصفه الله بها في قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128). وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ(107)(1/262)
روي أن أعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً فأعطاه، ثم قال: "أأحسنت إليك؟" قال الأعرابي: لا، ولا أجملتَ. فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كُفُّوا، ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه، وزاده شيئاً، ثم قال: "أأحسنت إليك؟" فقال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنك قلتَ ما قُلتَ، وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببتَ فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ، حتى يذهبَ ما في صدورهم عليك" قال: نعم، فلما كان الغد ــــ أو العشي ــــ جاء فقال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه فزعمَ أنه رضي أكذلك؟" قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام: "مثلي ومثلُ هذا مثل رجل له ناقة شردتْ عليه، فاتَّبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردّها، حتى جاءتْ واستناختْ، وشدَّ عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيثُ قال الرجلُ ما قال فقتلتموه دخل النار". وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يُبَلِّغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر". وكان يسمعُ بكاء الصبي فيتجوَّزُ في صلاته. وعن ابن مسعود كان عليه الصلاة والسلام يتخوّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.(1/263)
وأما خلقه عليه الصلاة والسلام في الوفاء، وحسن العهد، وصلة الرحم، فروي عن عبد اللهبن أبي الحمساء قال: بايعت النبي عليه الصلاة والسلام ببيع قبل أن يُبعث، وبقيتْ له بقية، فوعدته أن آتِيَهُ بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت، فإذا هو في مكانه، فقال: "يا فتى، لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك". وكان إذا أُتيَ بهدية، قال: "اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة". وكان عليه الصلاة والسلام يَصِل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم. ووفدَ عليه وفد، فقامَ يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: "إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم". وفي حديث خديجة: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسِبُ المعدوم، وتقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق.(1/264)
وأما تواضعه عليه الصلاة والسلام، على علو منصبه ورفعة رتبته، فكان أشدَّ الناس تواضعاً، وأقلّهم كِبراً، وحسبك أنه خيِّر بين أن يكون نبيّاً ملكاً، أو نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وخرج عليه الصلاة والسلام مرة على أصحابه متوكئاً على عصا، فقاموا، فقال: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعَظِّم بعضهم بعضاً". وقال: "إنما أنا عبدٌ، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد". وكان يركب الحمار ويُرْدِفُ خلفه، ويعود المساكين، ويُجالس الفقراء، ويُجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطاً بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس. وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تُطْروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" وحج عليه الصلاة والسلام على رَحْلٍ رثِّ، وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم فقال: "اللهمّ اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة" هذا وقد فتحت عليه الأرض، وأهدى في حجه ذلك مائة بَدَنة. ولما فُتحت عليه مكة، ودخلها بجيوش المسلمين طأطأ على رحله رأسه حتى كادَ يَمَسُّ قادمته تواضعاً لله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: دخلتُ السوق مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوازن: "زن وأرجح"، ثم قال: فوثب إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلها، فجذب يده، وقال: "هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم"، ثم أخذ السراويلَ فذهبتُ لأحمله قال: "صاحبُ الشيء أحقُّ بشيئه أن يحمله".(1/265)
وأما عدله عليه الصلاة والسلام، وأمانته، وعفّته، وصدق لهجته، فكان آمنَ الناس، وأعدل الناس، وأعفّ الناس، وأصدقهم لهجة منذ كان، اعترف له بذلك محادُّوه وأعداؤه، وكان يُسَمَّى قبل نبوّته الأمين، وقد قدّمنا ذلك في سيرته عليه الصلاة والسلام قبل النبوّة. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ما لمست يدُهُ يدَ أمرأة قطّ لا يملك رقّها. قال أبو العباس المُبَرِّد: قسَّم كسرى أيامه، فقال: يوم الريح يَصْلح للنوم، ويومُ الغيم للصيد، ويوم المطر للهو والشرب، ويومُ الشمس للحوائج. ولكن نبيّنا عليه الصلاة والسلام جزَّأ نهاره ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فكان يستعين بالخاصّة على العامّة، ويقول: "أبلغوا حاجة مَنْ لا يستطيعُ إبلاغي، فإن من أبلغ حاجة مَنْ لا يستطيعُ إبلاغها آمنهُ الله يوم الفزع الأكبر". وكان عليه الصلاة والسلام لا يأخذ أحداً بذنب أحد، ولا يصدق أحداً على أحد.(1/266)
وأما وقاره عليه الصلاة والسلام وصمته، وتؤدته، ومروءته، وحسن هديه. فكان عليه الصلاة والسلام أوقرَ الناس في مجلسه، لا يكادُ يُخرِج شيئاً من أطرافه، وكان إذا جلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه محتبياً. وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة. يُعرض عمّن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسماً، وكلامه فَصْلاً، لا فضول ولا تقصير، وكان ضَحِكُ أصحابه عنده التبسم توقيراً له، واقتداء به. مجلسه مجلسُ حلم وحياء وخير وأمانة، لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تُؤْبنُ فيه الحُرَمُ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير. وقال ابن أبي هالة: كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكّر. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم يُحَدّثُ حديثاً لو عدّه العاد لأحصاه، وكان يُحِبّ الطِّيب، والرائحة الحسنة، ويستعملهما كثيراً، ويحضّ عليهما. ومن مروءته صلى الله عليه وسلم نهيه عن النفخ في الطعام والشراب والأمر بالأكل مما يلي، والأمر بالسِّواك وإنقاء البراجم والرواجب (مفاصل الأصابع من ظاهر الكف وباطنها).(1/267)
وأما زهده عليه الصلاة والسلام في الدنيا فقد قدّمنا لك فيه ما فيه الكفاية، وحسبك شاهداً على تقلُّلِهِ من الدنيا، وإعراضه عن زهرتها، وقد سيقت إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها، أنه توفي عليه الصلاة والسلام، ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله. وهو يدعو ويقول: "اللهمّ اجعلْ رزقَ آل محمد قوتاً". وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام تباعاً من خبز حتى مضى لسبيله. وقالت: ما ترك عليه الصلاة والسلام ديناراً، ولا درهماً، ولا شاة، ولا بعيراً، ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي. وقال: "إني عُرض عليّ أن تُجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: لا يا ربّ أجوعُ يوماً، وأشبع يوماً. فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك"، وقالت عائشة: إن كنّا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً، إن هو إلا التمر والماء. وعن أنس: ما أكل عليه الصلاة والسلام على خُوانٍ، ولا في سُكُرُّجَةٍ، ولا خُبِزَ له مُرَقَّق، ولا أرى شاة سميطاً قطّ.
وفي حديث حفصة: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته مِسْحاً نثنيه ثنيتين، فينام عليه، فثنيناه ليلة بأربع، فلما أصبح، قال: "ما فرشتم لي؟" فذكرنا له ذلك فقال: "ردّوه بحاله فإن وَطَاءَتَهُ منعتني الليلة صلاتي".(1/268)
وقالت عَائشة: لم يمتلىء جوف النبي عليه الصلاة والسلام شبعاً، ولم يبثّ شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى. وإن كان ليظلُّ جائعاً يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه. ولو شاء ربّه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغدَ عيشها. ولقد كنتُ أبكي رحمة له مما أرى به، وأمسحُ بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلَّغْتَ من الدنيا بما يقوتُك، فيقول: "يا عائشة ما لي وللدنيا، إخواني من أُولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فَقَدِمُوا على ربهم فأكرم مآبهم، وأجزلَ ثوابهم. فأجدني أستحي إن ترفَّهْتُ في معيشتي أن يُقَصَّرَ بي غداً دونهم، وما من شيء هو أحبُّ إليّ من اللحوق بإخواني وأخلاّئي". قالت: فما أقام بعدُ إلا شهراً حتى توفي صلواتُ الله عليه وسلامه.
وأما خوفه ربه، وطاعته له، وشدّة عبادته، فعلى قدر علمه بربه. ولذلك قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكَيتم كثيراً" "أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أَطَّتْ ــــ صَوَّتت ــــ السماءُ وحُقَّ لها أن تَئِطَّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكَيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى. لوددت أني شجرة تعضد".(1/269)
وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حتى تَرِمَ قدماه، فقيل له: أَتَكَلَّفُ هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً". وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم دِيمةً، وأيُّكُم يطيق ما كان يطيق؟ وقالت: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم. وقال عوفبن مالك: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فاستاكَ، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه فاستفتح البقرة، فلا يمرّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع فمكث بقدر قيامه، يقول: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة"، ثم سجد، وقال مثل ذلك. ثم قرأ (آل عمران) ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك. وقال بعضهم: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، وفي وصف ابن أبي هالة: كان متواصلَ الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة.
وعن علي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنّته فقال: "المعرفةُ رأس مالي، والعقلُ أصل ديني، والحبُّ أساسي، والشوقُ مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزنُ رفيقي، والعلمُ سلاحي، والصبرُ ردائي، والرضا غنيمتي، والعجزُ فخري، والزهدُ حِرفتي، واليقينُ قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرّة عيني في الصلاة، وثمرة فؤادي في ذكره، وغمِّي لأجل أمتي، وشوقي إلى ربي" فجزاه الله من نبي عن أمته خيراً، ورحم الله عبداً تأمل في هذه الشمائل الكريمة والخصال الجميلة فتمسك بها، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر، ويرضى الله عنه، فنسألك اللهمّ التوفيق لما فيه الخير بمنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
مُعْجزاتُهُ عليه السلام(1/270)
إذا تأمل المتأمل ما قدّمناه من جميل أثر هذا السيد الكريم، وحميد سيره، وبراعة علمه، ورجاحة عقله وحلمه، وجملة كماله، وجميع خصاله، وشَاهد حاله، وصواب مقاله. لم يمتر في صحة نبوّته، وصدق دعوته، وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه والإيمان به كعبد اللهبن سلام. فإنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جئته لأنظر إليه فلما استَبَنْتُ وجهه عرفت أَنَّ وجهه ليس بوجه كذاب.
وروى مسلم أنَّ ضِماداً لما وفد عليه قال له صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله" فقال له ضِماد: أعِدْ عليّ كلماتِك هؤلاء، فلقد بلغن قاموس البحر، هاتِ يدك أُبايعك.
ولما بلغ ملكَ عُمان أن رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعوه إلى الإِسلام، قال: والله لقد دلّني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يَغْلبُ فلا يبطر، ويُغلب فلا يَضْجَر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي. وقال ابن رواحة:
لو لم تكنْ فيه آيات مبيِّنةلكانَ منظرُهُ يُنبيكَ بالخَبَر كيف وقد أظهر الله على يده تصديقاً لدعوته من المعجزات ما لا يفي به العدّ، فهو أكثر الأنبياء آيةً، وأظهرهم برهاناً، وسنذكر لك في هذا الفصل من الآيات ما تقرُّ به عينكَ، ويزداد به يقينك، مما رواه الجمّ الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، وأثبته المحدّثون في صحاحهم، ونبدأ منها بأظهرها شأناً، وأوضحها بياناً، وهو القرآن الشريف وإعجازه.
اعلم أن كتاب الله العزيز مُنْطوٍ على وجوه من الإعجاز كثيرة، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة:(1/271)
أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أربابَ هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خُصُّوا من البلاغة والحكم بما لم يُخَصَّ به غيرهم من الأمم، وأُوتوا من ذَرابة اللسان ما لم يُؤتَ إنسان، ومن فصل الخطاب ما يُقَيِّد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخِلْقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويُدْلُون به إلى كل سبب، يخطبون بديهاً في المقامات، وشديد الخَطْب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويقدحون ويمدحون، ويتوسلون ويتوصلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسِّحر الحلال، ويُطَوِّقون من أوصافهم أَجْمَلَ من سِمْط اللآل، فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويُذْهبون الإِحن، ويُهيجون الدِّمَن، ويجرِّئون الجبان، ويصيرون الناقص كاملاً، ويتركون النبيه خاملاً، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل، والقول الفَصْل، والكلام الفخم، والطبع الجوهري، والمنزع القوي، ومنهم الحضري، ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرونق، الرقيق الحاشية، وكلاهما له في البلاغة الحجة البالغة، والقوة الدامغة، والقِدحُ الفالج، والمَهْيعُ الناهج، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حَووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوا صرحاً لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القُّل والكُثْر، وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعَهم إلا رسول كريم، بكتاب عزيز: لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42) (38) وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ(1/272)
صَادِقِينَ(23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 23 ــــ 24)، {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)
فلم يزل يقرعهم أشدّ التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحُط أعلامَهم، ويشتِّتُ نظامهم، ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والاغترار بالافتراء، وقولهم: إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 2). و{إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4). و{أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ} (الأنعام: 25). والمباهتة، والرضا بالدنية. كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88)، و{فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت: 5)، و{لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ} (فصلت: 26)، والادعاء مع العجز، كقولهم: {لَوْ نَشَآء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَآ} (الأنفال: 31) وقد قال لهم: {وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) فما فعلوا ولا قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلِمة، كُشِفَ عواره لجميعهم. وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا لم يَخْفَ على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم، بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا إليه مذعنين، وأنت إذا تأملت قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ} (البقرة: 179) وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ(51) ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) وقوله: {وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى(1/273)
مَآءكِ وَياسَمَآء أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآء وَقُضِىَ الاْمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(44) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40)
الوجه الثاني من إعجاز القرآن: صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفتْ عليه مقاطع آيِه وانتهتْ فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحدٌ مماثلة شيء منه، بل حارَت فيه عقولهم، وتدَلَّهتْ دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر، أو نظم، أو سجع، أو رجز، أو شعر.
والإِعجاز بكل واحد من النوعين، والإِيجاز والبلاغة بذاتها، أو الأسلوب الغريب بذاته، كل واحد منهما نوع إعجاز، لم تقدر العرب على الإِتيان بواحد منهما، إذ كل واحد منهما خارج عن قدرتها مباينٌ لفصاحتها وكلامها.(1/274)
الوجه الثالث من الإعجاز: ما انطوى عليه من الإخبار بالمُغَيباتِ، وما لم يكن ولم يقع فوقع، فوجد كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآء اللَّهُ ءامِنِينَ} (الفتح: 27)، وقوله عن الروم: {وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 3 ــــ 4)، وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ} (الصف: 9) وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور: 55) وقوله: {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً(2) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45) قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة: 14) فكان كذلك مما اطّلع عليه قارىء هذه السيرة، وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود، ومقالهم وكذبهم في حَلفِهِم كقوله: {وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: 8) وقوله: {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} (آل عمران: 154) وقوله: {مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ} (النساء: 46) إلى غير ذلك من الآيات البيّنات.(1/275)
الوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة، والأمم البائدة، والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلّم ذلك، فيورده عليه الصلاة والسلام على وجهه، ويأتي به على نصه، فيقرُّ العالم بذلك بصحته وصدقه، وأن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أُميّ، لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة ولا مجالسة، لم يغب عنهم، ولا جَهِلَ حالَه أحد منهم، وكثيراً ما كان يسأله كثير من أهل الكتاب عن هذا، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكراً، كقصص الأنبياء، وبدء الخلق، وما في الكتب السابقة مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذُكر منها، ولم يؤثر أن واحداً منهم أظهر خلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحاً، ولا سقيماً من صحفه، بعد أن قرّعهم ووبَّخهم بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93).
ومما يدلّ على أن أهل الكتاب يعلمون صدقه ما تحدّاهم فيه الله بقوله: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ(94)
ومما يدل على أن هذا القرآن ليس من كلام البشر: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، لقوّة حاله، وإنافة خطره، حتى كانوا يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفوراً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن صعب مستصعَب على مَن كرهه، وهو الحكم".(1/276)
وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه إقبالاً، وتَكْسِبُهُ هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23). وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: 21).f
ومن وجوه إعجاز القرآن: كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفل الله بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) وسائر معجزات الأنبياء لم يبق إلا خبرها، والقرآن إلى وقتنا هذا حجة قاهرة، ومعارضة ممتنعة، والأعصار كلها طافحة بأهل البيان، وحملة علم اللسان، وأئمة البلاغة، وفرسان الكلام، وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد، فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته، ولا ألّف كلمتين في مناقضته، ولا قدر فيه على مطعن صحيح، ولا قدح المتكلفُ من ذهنه في ذلك إلا بِزَنْد شحيح، بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاءه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه.(1/277)
ولنختم لك هذا الباب بحديثه عليه الصلاة والسلام في القرآن قال: "إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً، وسنّة خالية، ومثلاً مضروباً، فيه نبؤكم وخبر من كان قبلكم ونبأ ما بعدكم وحُكْم ما بينكم، لا يخلقه طول الرَّدِّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الحق ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فَلَجَ، ومن حكم به أقسط، ومن عمل به أُجِرَ، ومن تمسك به هُديَ إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضلّه الله، ومن حَكَمَ بغيره قَصَمه الله، هو الذكرُ الحكيم، والنورُ المبين، والصراطُ المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاءُ النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاةٌ لمن اتّبعه، لا يعوج فيقَوَّم، ولا يزيغ فَيُسْتَعْتَبَ".
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر وقد قدّمنا حديثه مستوفى.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيرُه ببركته، وقد روى هذا الجمُّ الغفير من الصحابة، منهم أنس وجابر وابن مسعود.
قال أنس: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حانتْ صلاة العصر، فالتمسَ الناس ماءً للوضوء، فلم يجدوه، فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِوَضوء، فوضع في الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال: فرأيتُ الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناسُ حتى توضؤوا عن آخرهم، فقيل: كم كنتم؟ قال زهاء ثلاثمائة.
وقال ابن مسعود: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معنا ماء، فقالَ لنا: "اطلبوا من معه فضلُ ماءٍ"، فأُتي بماء، فصبّه في إناء، ثم وضَع كفّه فيه فجعل الماءُ ينبع من بين أصابعه.
وقال جابر: عطش الناسُ يوم الحُدَيبية ورسول الله بين يديه رِكوةٌ فتوضأ منها، وأقبل الناس نحوه، وقالوا ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك، فوضع يده في الرِّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قيل كم كنتم؟ قال: لو كنّا مائة ألف لكفانا، كنّا خمس عشرة مائة.(1/278)
وروى هذه القصة جمع عظيم من الصحابة، ومثل هذا في هذه المواطن الحفيلة، والجموع الكثيرة، لا تتطرق التهمة إلى المحدّث به، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه، لما جُبلت عليه نفوسُهم من ذلك، ولأنهم كانوا ممّن لا يسكتُ على باطل، فهؤلاء قد رووا هذا، وأشاعوه ونسبوا حضور الجم الغفير له، ولم ينكر عليهم أحد من الناس ما حدَّثوا به عنهم أنهم فعلوه وشاهدوه، فصار كتصديق جميعهم لهم.
ومما يشبه هذا تفجير الماء ببركته، وانبعاثه بمسّه ودعوته، كما ورد عن معاذبن جبل في قصة غزوة تبوك، وأنهم وردوا العين وهي تلمعُ بشيء من ماء مثل الشِّراك، فغرفُوا من العين بأيديهم حتى اجتمع فيه شيء، ثم غسل عليه الصلاة والسلام فيه وجهه ويديه، وأعاده فيها فجرت بماء كثير، فاستقى الناس ــــ وفي رواية ابن إسحاق فانخرق من الماء ما له حس كحسِّ الصواعق ــــ ثم قال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما هنا قد ملىء جناناً". وقد قدّمنا ذلك في غزوة تبوك. وروي عن البرَاء وسلمةبن الأكوع تكثير عين الحدَيبية بدعوته عليه الصلاة والسلام. وروى أبو قتادة أن الناس شَكَوا إلى رسول الله العطش في بعض أسفاره فدعا بالمِيْضَأَةِ فجعلها في ضِبْنه (ما بين الكشح إلى الإبط) ثم التقم فمها، فالله أعلم، أنفث فيها أم لا؛ فشرب الناس حتى رووا وملؤوا كل إناء معهم، فخيّل لي أنها كما أخذها مني. وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.
ورويت قصص مشابهة لهذه عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم في محالَّ مختلفة، بحيث لا يشك أحد في صدقها بعد تضافر الثقات على روايتها.
ومن ذلك تكثير الطعام ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم، روى أبو طلحة أنه عليه الصلاة والسلام أطعم ثمانين أو سبعين رجلاً من أقراص من شعير جاء بها أنس تحت إبطه، فأمر بها عليها الصلاة والسلام ففُتِّتت، وقال فيها ما شاء الله أن يقول.(1/279)
وروى جابر أنه عليه الصلاة والسلام أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع شعير وعَنَاق، وقال جابر: فأُقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن بُرْمَتنا لَتَغِطُّ كما هي، وإن عجيننا ليخبز. وكان عليه الصلاة والسلام قد بصق في العجين والبرمة وبارك. وروى أبو أيوب أنه صنع لرسول الله وأبي بكر طعاماً يكفيهما، فأطعم منه عليه الصلاة والسلام مائة وثمانين رجلاً. وروى مثل ذلك كثير من الصحابة كعبد الرحمانبن أبي بكر، وسلمةبن الأكوع، وأبي هريرة، وعمربن الخطاب، وأنسبن مالك، رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام قصة حنين الجذع، قال جابربن عبد الله: كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العِشَار. وفي رواية أنس: حتى ارتجَّ المسجد لخواره. وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوه به. وفي رواية المطلب: وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت. زاد غيره: فقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ هذا بكى لما فقد من الذكر". وزاد غيره: "والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأمر به فدفن تحت المنبر. وهذا الحديث خرَّجه أهل الصحة، ورواه من الصحابة كثيرون، ورواه عنهم من التابعين ضِعفُهم، وبمن دون عدّتهم يقع العلم لمن عُنِيَ بهذا الباب، والله المثبِّت على الصواب.(1/280)
ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام إبراء المرضى، وذوي العاهات، فقد أُصيبت يوم أُحُد عينُ قتادةبن النعمان حتى وقعت على وجنتيه، فردّها عليه الصلاة والسلام، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما، وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قَرد، فما ضرب عليه ولا قَاحَ، وأصاب ابن ملاعب الأَسِنَّةِ استسقاء، فبعث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذ بيده حَثْوَةً من الأرض، فتفل عليها، ثم أعطاها رسوله، فأخذها يرى أنه قد هُزىءَ به، فأتاه بها وهو على شَفًى، فشربها فشفاه الله. وتقدم حديث علي ورمده في غزوة خيبر، وغير ذلك كثير مما يعجز قلمنا عن عدّه، ورواه ثقات المسلمين الأعلام.
أما ما منحه الله إياه من إجابة دعواته، فروي عن أنسبن مالك، قال: قالت أمي أُمُّ سُلَيْمٍ: يا رسول الله خادمك أنس ادعُ الله له، فقال: "اللهمّ أكثر ماله وولده، وبارك له فيما آتيته". قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير، وإنَّ ولدي وولد ولدي ليُعادّون اليوم نحو المائة.
ودعا لعبد الرحمانبن عوف بالبركة، فكان نصيب كل زوجة من زوجاته الأربع من تركته ثمانين ألفاً، وتصدق مرّة بعِير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل من كل شيء، فتصدّق بها، وبما عليها، وبأقتابها، وأحلاسها.
ودعا لمعاوية بالتمكين في الأرض فنال الخلافة، ودعا لسعد بإجابة الدعوة، فما دعا على أحد إلا استجيب له، وتقدم دعاؤه لعمربن الخطاب أن يعزّ الإسلام به، وقال لأبي قتادة: "أفلحَ وجهك، اللهمّ بارك في شعره وبشره"، فمات وهو ابن سبعين سنة، كأنه ابن خمس عشرة، ودعواته عليه الصلاة والسلام المستجابة أكثر من أن تُحصى يطّلع عليها قارىء سيرتنا هذه.(1/281)
أما ما أطلعه الله عليه من علم ما لم يكن فمما سارت به الركبان، فعن حذيفة رضي الله عنه، قال: قام فينا رسولُ الله مقاماً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاّ حدّثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، وما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ والله ما ترك عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سمَّاه لنا باسمه، واسم أبيه، واسم قبيلته. وقد خرَّج أهل الصحيح والأئمة ما أعلم به أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه، وفتح مكة، وبيت المقدس، واليمن، والشام، والعراق، وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة، لا تخاف إلا الله، وأنّ المدينة ستُغزى، وتُفتح خيبر على يد علي في غد يومه، وما يفتح الله على أمّته من الدنيا، ويُؤْتَون من زهرتها، وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر، وقد قدمنا كثيراً من ذلك في هذه السيرة، وقدّمنا ما في القرآن من ذلك، وهذا يُغنينا عن الإطالة في هذا المقام فحسبك ما سمعت.(1/282)
ومما ينير بصيرتك ــــ أيها القارىء ــــ ما مَنّ الله به على رسولنا من عصمته له من الناس، وكفايته من آذاه، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48)، وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36)، وقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ(95) وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) صرف حُجَّابه، وقال: "انصرفوا فقد عصمني الله". وقدّمنا حديث دُعثور وإرادته قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وعصمة الله لنبيّنا، وذكرنا كثيراً مما حصل من أبي جهل لما أراد بالرسول المكايد، فكفاه الله شرّه، وما منّ الله به عليه ليلة الهجرة، وحديث سُراقة في الطريق، وعلى الجملة فيكفينا من هذا الباب أنه عليه الصلاة والسلام مكث بين أعداء ألدّاء بمكة ثلاث عشرة سنة، وبين مشابهيهم من المنافقين واليهود عشر سنين. فما تمكن أحد من إيصال أذى إليه صلى الله عليه وسلم، بل كفاه مولاه شرّ أعدائه حتى أظهر الدين وتمّمه.
??
??
??
??
نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين مكتبة مشكاة الإسلامية(1/283)