نهاية الأرب
في
شرح لامية العرب
تأليف
عطاء الله بن أحمد الأزهري
تحقيق
الدكتور
جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خصّ البلغاء بورود موارد الأدب ، والصلاة والسلام على سيد سادات العجم والعرب ، سيدنا محمد النبي المصطفى المهذب ، وعلى آله السادة الطيبين النُّخب وأصحابه السادة الأكرمين النُّجب ، ما ترنم طائر على غصن وأطرب ، واحترز جهد لحل عويصة وأطنب ، وبعد ...(1/1)
... فهذا تعليق لطيف ، وتنميق شريف ، على القصيدة الفريدة ، واللامية المجيدة ، المنظومة على البحر الطويل ، والأسلوب المثيل ، المشهورة بلامية العرب ، للفصيح الماهر والبليغ الساحر الشنفرى بن مالك الأزدي ، وسميته نهاية الأرب في شرح لامية العرب ، واللهَ أسأل أن ينفع به ، إنه قريب ، يسمع نداء مَن ناداه ، وكريم لا يُخيِّب رجاء مَن استعطاه ، ولعمري إنها لقصيدة عجيبة ، وفريدة نفيسة غريبة ، فلقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يحث (1) الناس عليها ، ويحثهم على المنافسة فيها ، إذ كان رضي الله عنه يقول ، وفي بيان فضلها يجول : علموا أولادكم قصيدة الشنفرى ، فإنها تُعلِّم مكارم الأخلاق ، وقيل إنّ عبد الملك بن قريب الأصمعي ممن أخذ القصيدة في جملة ديوان الشنفرى ، رواية ودراية عن إمامنا الشافعي ، رضي الله تعالى عنه ، ونفعنا به ، والمسلمين ، وقد ذُكر في بعض شروحها / ما لفظه : حدّثنا عمارة ابن عقيل ، قال : 2 ب حدّثنا مُساور الأزدي ، قال : حدثنا أبو صالح الأزدي ، قال : كان الشنفرى بن مالك رجلا من الأزد بن عامر ، وكانت أمّه سبية ، سباها مالك أبو الشنفرى ، فوقع عليها فحملت بالشنفرى ، فذكرت أنها أُتيت في منامها ، فقيل لها : أيتها الحامل أيما أحبّ إليك ليث صائل خطيب قائل مصيب نابل ، كرور حافل ، مُغير عامل ، ركاب للمهاول ، ولد فاضل ، جميل عاقل ، رزني كامل ، وليد حامل ، فقالت في نومها : أريد ذا نجدة سريعا في الهدة ، لا تثنيه الرعدة ، ولا تخيفه الشدّة ، كائد ذي لبدة ، فقيل لها تلدين ذكرا ذا باس ومراس ، وضرب ودعاس ، وأذى للناس ، فكان الأمر كما ذكر ، كما جرى في سابق علمه ، وماضي حكمه ، سبحانه وتعالى ، وها نحن نشرع في شرحها ، بعون الله تعاى فنقول :
... ... أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم فَإِنّي إِلى أَهْلٍ سِواكُم لَأَمَيلُ
__________
(1) كتبت : يبعث .(1/2)
أقيموا ... : أمر، من أقام الشيء ، جعله قائما معدولا ، ومنه : أقمت العود إذا أصلحت ما فيه من عوج ، وأقيموا الصلاة : أي ائتوا بها معدلة الأركان ، مستكملة سائر المعتبرات .
بني أمي ... : أي يا قومي ، وأضافهم إلى أمّه ، دون أبيه ؛ ليرميهم بالفضيح ، ويُسجل عليهم بالقبيح ؛ لأنّ الأم شأنها الحنوّ والشفقة ، وأولادها من شأنهم المحبة والتراحم ، وقد خرجوا معه من حيّز التصافي إلى حيز التنافي .
صدور مطيكم ... : جمع صدر ، وهو ما بين / العنق من مقدم الحيوان ، والمطي : 3 أ جمع مطية بمعنى الراحلة ، سميت بذلك لأن الرجل يمتطيها ، أي أفيقوا من غفلتكم عنّي ، ومناصرتكم لي ، وهذا مثلٌ يُضرب لكل مَن يُنبه على الخير بعد غفلته عنه ، وأصله أن ينام الراكب على مطيّته ؛ فيضل عن الطريق ، فيقال له : أقم صدر مطيتك ، أي انتبه ، واسلك الطريق .
فإني إلى أهل ... : ويروى إلى قوم .
سواكم ... : أي غيركم .
لأميل ... : أي مائل إليهم ، فالفاء سببية ، دلت على أنّ ما قبلها من غفلتهم عنه ، وترك مناصرته علة لما بعدها من مفارقتهم ، والميل إلى قوم آخرين ، ومن ثّمّ وقعت في جواب الشرط ؛ لتسبب الجزاء الواقع بعدها عن الشرط الواقع قبلها ، وسواكم صفة لأهل ، وأكثر ما يقع ظرفا ، وقد يقع غير ظرف ، كما هنا ، وكما في قول الآخر (1) :
ولم يبقَ سوى العدوا نِ دِنّاهم كما دانوا
__________
(1) من الهزج ، للفِند الزِمّاني? - 95 ق. هـ / ? - 530 م
سهل بن شيبان بن ربيعة، من بكر بن وائل. شاعر جاهلي، كان سيد بكر في زمانه وفارسها وقائدها، شهد حرب بكر وتغلب وقد ناهز عمره المئة. سمي الفند لعظم خلقته تشبيهاً بفند الجبل وهو القطعة منه.(1/3)
وأفعل بمعنى أميل الفعل (1) ، كما في قوله تعالى : [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ] (2) ، وليس المعنى أنّي أكثر منكم ميلا إلى مَنْ سواكم ، وإلى قوم يتعلق بأميل بعده ، ولا : يمنع منه الكلام ، لأنها مؤكدة لمعنى الفعل المقتضي للعمل ، كما في قوله تعالى : [وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ] (3) ومعنى البيت : أفيقوا يا قوم من غفلتكم عني ، وترك مناصرتكم لي ، فإن ذلك مما يوجب مفارقتي لكم ، والميل إلى مَنْ سواكم وإنْ كان من أعدائكم ، وهذا كما قال التميمي (4) :
... سَأَترُكُ مَنزِلي لِبَني تَميمٍ وَأَلحَقُ بِالحِجازِ فَأَستَريحا
/ فَقَد حُمَّت الحاجاتُ واللَيلُ مُقمِرٌ وَشُدَّت لِطِيّاتٍ مَطايا وَأَرُحلُ 3ب
فقد حمت الحاجات : أي قُدِّرت ، ومنه قولهم : وافاه الحِمام ، أي القدر ، والحاجات جمع حاجة ، وأراد الحاجات المقتضية لترحاله عنهم ، والميل إلى مَنْ سواهم والجملة استئنافية ، وإنْ كان وقوعها بعد الواو أكثر من الفاء .
__________
(1) يريد أن أميل على وزن أفعل ، وفي أعجب العجب في شرح لامية العجب للزمخشري، ص 39 : وأميل بمعنى مائل ، وأفعل بمعنى فاعل كثير ....... فليس المرادبأميل المبالغة .
(2) الأنعام 124
(3) الروم 8
(4) من الوافر ، للمغيرة بن حبناء :? - 91 هـ / ? - 710 م
المغيرة بن عمرو بن ربيعة الحنظلي التميمي. شاعر، إسلامي، كان من رجال المهلب بن أبي صفرة. يكنى أبا عيسى، اشتهر بنسبته إلى أمه، وقيل: حبناء لقب غلب على أبيه لجبنه، واسمه حُبين. وقال المرزباني: أنفد شعره في مدح المهلب وبنيه وذكرهم في حربهم مع الأزارقة. وكان هو وأخواه (صخر ويزيد) شعراءً فرساناً، وأبوهم شاعر وكان المغيرة يهاجي أخاه صخراً. ومات شهيداً في نسف (بين جيحون وسمرقند) على مقربة من بخارى وكان أبرص. الموسوعة الشعرية .(1/4)
والليل مقمر ... : أي مستنير بضوء القمر ، أي قد وضح الأمر بيني وبينكم ، كما تُكشف ظلمة الليل ، ومنه المثل : أسري عليه بليل (1) ،وجملة والليل مقمر إمَّا حال من الحاجات ، والرابط الواو ، فمحلها نصب ، وإمَّا معطوفة على جملة حُمّت ، فلا محل لها من الإعراب .
لطِيات ... : بكسر الطاء ، جمع طِيّة بكسر الطاء أيضا ، إمَّا بمعنى النية التي انتواها أو المنزل الذي قصده ، قال الخليل : الطية تكون منزلا ، وتكون مُنْتَوىً يقال منه : مَضَى لطِيَّته ، أي : لِنِيَّته التّي انتواها (2) ، وبعُدت طِيته ، أي المنزل الذي قصده .
مطايا ... : جمع مطيّة ، وتقدّم بيانها .
وأرحُل ... : بالعطف على مطايا ، جمع رحل ، وهو ما يوضع على ظهر البعير كالقتب وجملة شُدَّت عطف على جملة حُمَّت ، فلا محل لها من الإعراب ، والمقصود من هذا البيت توبيخ قومه على ما وقع منهم من التفريط .
... وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ
وفي الأرض منأى : أي بُعد ، على أنه مصدر ميمي ، أومكان ، بعيد على أنه اسم مكان، يقال : نأيت عنه إذا بعدتُ عنه .
عن الأذى ... : أي الذلّ والإهانة .
وفيها ... : أي الأرض أيضا .
لِمَنْ خاف ... :أي ظنّ أو علِم .
/ القِلى ... : أي البُغض ممن ساكنه من قومه ، ومن غيرهم . ... ... ... 4 أ
مُتحوَّل ... : أي مكان يُنتقل إليه ، وفي تعليق الحكم بمشتق دلالة على أنّ وصف الكرم مما ينبو على القعود في مقاعد الذل ، وينافيه ، وهذا ، كما قال الآخر (3) :
ولا يقيمُ على ضَيْمٍ يرادُ بهِ إلا الأذَلاَّنِ عَيْرُ الحي والْوَتِدُ
هذا على الخسف مربوطٌ برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد
__________
(1) انظر جمهرة الأمثال ـ لأبي هلال العسكري ، ص 13 / الموسوعة الشعرية .
(2) العين ( طوي )
(3) من البسيط ، للمتلمس ، وليس في المطبوع من ديوانه ، انظر : الراغب الأصفهاني ـ محاضرات الأدباء ، ص 4386(1/5)
َلعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ سَرى راغِباً أَو راهِباً وَهوَ يَعقِلُ
لعَمرك ... : اللام للقسم ، والعَمر بفتح العين المهملة الحياة ، ومنه العُمر بضمها ، بمعنى مرة الحياة ، أي أقسم بحياتك .
ما في الأرض ... : ويروى بالأرض .
ضيق ... : هو ضد السّعَة ، وأراد به موضع الذل منها ، أي ليس في جميع جهاتها ، بل في البعض القليل منها ، دون الكثير ، ذلك فهو من قبيل سلب العموم ، ونفي الشمول .
على امرئ ... : أي شخص ، أو المراد الذَّكر خاصة ؛ لأن الأنثى تابعة له غالبا في السفر والإقامة .
سرى ... : أي سار في ليل أو نهار ، مفارقا مكان الذل ، إلى مكان العز ، وأصل سرى للسير في أول الليل ، وأسري للسير في آخره ، ومنه : [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ] (1) ، وقيل : هما لغتان بمعنى السير في الليل مطلقا ، وقيل : سرى لازم ، وأسري متعدٍ بالباء ، ومعنى أُسري به : جعله ساريا .
راغبا ... : أي سار عن محبة واختيار .
أو راهبا ... : أي سار عن كراهةٍ واضطرار .
وهو يعقل ... : ذو فهم لما يرغب من الأمور الحسنة ، أو يرهب منه من الأمور القبيحة ، وأشار بهذا إلى أن الضيق لا يتقى عنه إلاّ إذا كان ذا عقل يميز به بين الحسن والقبيح ، وأمَّا الجاهل فالأرض كلها ضيِّقة بالنسبة إليه ، لأنه كثيرا ما يرى القبيح حسنا ، والحسن قبيحا / فيقع في الضِّيق والحرج 4ب ومن ثَمّ قيل : لا غربة لعاقل ، ولا وطن للجاهل ، وجملة سرى نعت لامرئ وراغبا أوراهبا (2) ، ثم أخذ يُبين القوم الذين اختارهم على قومه ، فقال :
... وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ
__________
(1) الإسراء 1
(2) ربما هنا سقط ، وهو كلمة حال .(1/6)
ولي دونكم أهلون : جمع أهل بمعنى قوم ، ودون في الأصل اسم لأدنى مكان من الشيء ، استُعير للتفاوت في الأحوال والرتب ، ثم اتُّسِع فيه ، فاستُعمِل في كلِّ تجاوز حَدٍّ إلى حّدّ ، وتخطي حكم إلى حكم ، فقوله : لي خبر مقدّم ، وأهلون مبتدأ مؤخر ، دونكم حال من الضمير في متعلق الجنس ، ويتخطرنكم في صفة الضرر الكامل ، ثم بيّنهم بما أبدله منهم في قوله :
سِيْد ... : هو بكسر السين المهملة ، وإسكان الياء المثناة تحت ، اسم للذئب ، وياؤه أصلية عند سيبويه ، وذهب بعض أهل العربية إلى أنها منقلبة عن الواو وأنه من ساد يسود .
عملّس : هو بفتح أوليه ، وتشديد ثالثه : الخفيف ، كذا ذكره ثعلب ، وأنشد : والشاة لا تمشي على العملّس
... أي لا تزيد وتكبر ، ومنه قوله تعالى حكاية [أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ] (1) ، أي دوموا على المشي ، واثبتوا على عبادتها .
وأرقط ... : قيل هي الحيّة التي فيها نَقْط بياض وسواد ، ومنه : حيَّة رقطاء .
زهلول ... : وهو بضم الزاي الأملس ، وقيل : الأرقط النمر ، والرَّقَط كلّ لونين مختلفين ، والزهلول : الخفيف ، وأنت خبير بأنّ هذا أنسب بسابقه ولاحقه.
وعرفاء ... : هو بكسر العين المهملة / وإسكان الراء الضبع الطويلة العرف ، 5 أ وليست بنعت لغلبة الإسمية عليها ، وإن كانت في الأصل صفة ، حتى أنه لا يُفهم من قولك :جاءتك العرفاء إلاّ الضبع ، ومثله أجدل بمعنى الصقر ، وإن كانت في الأصل وصفا من الجدالة ، بمعنى القوة .
جيأل ... : هو بجيم مفتوحة ، وتحتية ساكنة ، وهمزة مفتوحة : اسم للضبع لا ينصرف ؛ للعلمية ، ووزن الفعل ، ثم الضبع اسم للأنثى ، وتجمع على ضِباع ، والضبعان اسم للذكر ، ويُجمع على ضباعين ، وقد بالغ بذلك فيوصف قومه بكمال الضرر ، وشدة الإيذاء ، حيث اختار هذه الحيوانات الضارة عليهم ، وآثرها عليهم في الصحبة ، ثم شرع يُبيّن وجه اختيار هذه الحيوانات على قومه فقال :
__________
(1) سورة ص 6(1/7)
... هُمُ الأَهْلُ لا مُستَودَعُ السِرَّ ضائِعٌ لَدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ
هم ... : أي هؤلاء الحيوانات ... ، وعبر عنهم بضمير العقلاء ؛ لأنهم بمنزلتهم ، بل خير من كثير منهم .
الأهل ... : أي الناصحون ، المُعتدّ بهم ، الجديرون بالأهلية ، وبيّن ذلك بقوله :
لا مُستودع السر: أي مُخفيه ، والسر ما ينبغي كتمه ، وإضافة مستودع إليه من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والسرّ المستودع المطلوب إخفاؤه ، فكأنه جُعل وديعة عند مَنْ اطَّلع عليه ، وطُلِب منه إخفاؤه .
ضائع ... : اسم فاعل من الضياع ، ضدالحفظ ، ويروى شائع ، ويروى ذائع ، والكلّ بمعنى واحد .
لديهم ... : أي عندهم ، فلا يُطلِعون عليه من طُلِب عدم إطلاعه عليه ، وجملة لا مستودع السر ضائع لديهم حال (1) من أهل بالتأويل السابق / على أنه 5ب حال من الضمير في المشتق ، وليس حالا من المبتدأ ، حتى يكون مخرجا على الوجه المرجوح .
ولا الجاني ... : أي الفاعل للجناية من إتلاف نفس ، أوعضو ، أو مال .
بما جرّ ... : ما إمَّا الموصولة ، أونكرة موصوفة ، أومصدرية ، أي بالذي جرّه، أو بشيء جرّه ، أو بجريرته ، والباء فيه على التقديرات الثلاثة للسببية .
يخذل ... : أي يُعان عليه ، وتُترك نصرته لديهم ، فحذف من الثاني لدلالة الأول عليه وأعاد النفي في المعطوف تنصيصا على نفي كلّ واحد ، أي من الأمرين على حِدته ، ولو لم يُعده لأحتُمِل أن يكون نفيا للمجموع السابق بنفي البعض دون البعض ، وليس مُرادا .
... فكُلٌّ أَبِيٌّ باسِلٌ غَيرَ أَننَّي إِذا عَرَضَت أُولى الطَرائِدِ أَبسَلُ
__________
(1) جاء في أعجب العجب ، ص50 : العامل في الحال معنى الجملة ، لأن قوله : هم الأهل معناه هم المستأنس بهم القائمون مقام الأهل ، ومثل هذا يعمل في الحال .(1/8)
فكلٌّ ... : تفريع على معنى البيت قبله ، ومُسبب عنه ، والتنوين في كلّ عوض عن المضاف إليه ، والأصل فكلّ واحد من هذه الحيوانات الثلاثة ، فحذف المضاف إليه ، وهو يريده ، وبقي حكم الإضافة من تعريف كل ، ومن ثَمّ صحّ مجيء الحال عنه ، فتقول : مررت بكل قائما ، وبكلٍّ قاعدا ، ولهذا ذهب أكثر النحاة إلى أنّ كلاًّ لتقدير الإضافة فيه ، لا تدخل عليها أل .
أبِيٌّ ... : أي حميّ ، أو لا يقيم على الضيم ، بل يكرهه ويأباه ، فكلّ مبتدأ ، وأبيّ خبره ، وأُفرد حملاً على لفظ كل ، ويجوز جمعه حملا على معناه ، ومن الإفراد قوله تعالى : [وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا] (1) ، ومن الجمع قوله تعالى : [وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ] (2) .
باسل ... : أي شجاع ، والباسل في الأصل الكريم الوجه عند القتال ، ويقال له بسيل
/ ... أيضا ، وكلٌّ مشتق من البسالة ، وهو خبر ثان لكلّ . ... ... ... 6أ
غير أنني ... : هو استثناء منقطع ؛ لعدم تناول المستثنى منه للمستثنى ، وهمزة أنّ مفتوحة ؛ لكونها مع معمولها في محل جر بالإضافة إلى غير :
إذا عُرِضَت ... : ويروى اعترضت ، أي بدت وظهرت ، ويروى أيضا أعرضت ، أي بدى عُراضها ، بضم العين ، أي ناحيتها ، أنشد عمروبن كلثوم (3) :
وَأَعرَضتِ اليَمَامَةُ واشْمَخَرّتْ كَأَسيافٍ بِأَيدي مُصلِتينَا
__________
(1) مريم 95
(2) النمل 87
(3) من الوافر ، ديوانه / الموسوعة الشعرية .(1/9)
أُولى الطرائد ... : أُولى تأنيث أول ، مثل أُخر وأُخرى ، والطرائد جمع طريدة ، وهي الخيل التي تريد طرده ، على أنّ فعيلا بمعنى فاعل ، والخيل التي تطردها فرسان أُخر ، على أنّ فعيلا بمعنى مفعول ، والمعنى على الأول : إذا لقيني أوائل الخيل التي تريد طردي وقتلي امتنعت منها لفضل شجاعتي على شجاعتهم ، والمعنى على الثاني : إذا لقيني أوائل الخيل التي تطردها فرسان أُخر ، لم يطمع فيها غيري ، بل أستبدُّ بغنيمتها من غير منازع ؛ لزيادة شجاعتي على شجاعة غيري ، كما أشار إلى ذلك كله بقوله :
أبسل ... : أشجع ، وهو خبر إنّ ، وقد احترس بمعنى البيت عما يفهمه ما تقدم من اختياره لهذه الحيوانات على قومه ، ومحبته انتقاله عنهم إليهم ، إنما هو لفضلهم عليه في الشجاعة أيضا ، وإنما حُملت الطرائد في كلامه على الخيل لأن خير القتال ما كان عليها ، وإنْ كانوا قد يقاتلون على الإبل أيضا ، ثم أخذ يمدح نفسه بالعفّة وعدم الشَّرَه / في الأكل ، بعد أنْ مدح نفسه 6 ب بالأنفة ، وكمال الشجاعة ، فقال :
وَإِن مُدَّتِ الأَيدي إِلى الزادِ لَم أَكنُ بِأَعجَلِهِم إِذ أَجشَعُ القَومِ أَعجَلُ
وإن مُدّت الأيدي : أي بُسطت ، جمع يد بمعنى الجارحة ، وأمَّا اليد بمعنى النعمة مجازا فتجمع على أيادي ، إذ من علامة المجاز جمعه على خلاف جمع الحقيقة .
إلى الزاد ... : أي الطعام .(1/10)
لم أكن بأعجلهم: أي لم أكن سابقا عليهم في ذلك ، فأفعل التفضيل بمعنى أصل الفعل ،والباء زائدة في خبر أكون ، غير متعلقة بشيء ، وحسن زيادتها النفي بلم ، والفعل هاهنا مستقبل ؛ لكونه جوابا للشرط ، الذي لا يكون إلاّ مستقبلا ، وإن دخلت عليع لم التي من حكمها أن ترُدَّ المستقبل ماضيا ، وقيل : إنَّ الشرط إذا وقع قبل لم قرر الفعل مستقبلا ، ومنع لم من ردّ الفعل المضارع إلى المضي ، فكذلك جواب الشرط ؛ لتعلقه بالشرط ، وارتباطه به ، وقيل الجواب والشرط هاهنا لحكاية الحال ، فلا يُراد بهما الاستقبال في المعنى ؛ فلذلك وقعت في جواب الشرط .
إذ أجشع ... : أي أشدهم حرصا على الطعام ، وإذ (1) ظرف زمان ماض، والعامل فيه قوله
أعجل ... : أي أسبقهم ، بمعنى السابق عليهم ، فأفعل التفضيل هاهنا أيضا بمعنى أصل الفعل ، أي لا أسبقهم في ذلك الوقت الماضي ، وهذا مما يؤيد كون المراد حكاية الحال ، إذ لو أُريد الاستقبال لكان الموقع لإذا دون إذ ، وأجشع مبتدأ ، وأعجل خبره ، والجملة في محل جر بالإضافة إلى إذ .
وَما ذاكَ إِلاّ بَسطَةٌ عَن تَفَضُّلٍ ... عَلَيهِم وَكانَ الأَفضَلَ المُتَفَضَّلُ
وما ... ... : هي نافية .
ذاك ... : هو إشارة إلى أخلاقه التي شرحها فيما تقدم ، والكاف حرف خطاب ، وليست اسما ، وإلاّ لكان اسم / الإشارة مضاف إليها ، وأسماء الإشارة 7 أ لا تضاف أصلا .
إلاّ بسطة ... : أي سعة ، تقول : لي بسطة في الأمر ، أي سعة ، وهو بالرفع خبر ذا ، وأمَّا ما فملغاة ؛ لانها لا تعمل في مثبت .
عن تفضّل ... : أي ناشئة عن إحسان مني إليهم ، فالظرف متعلق بمحذوف صفة بسطة ، وليس المستثنى منه ذا ، لكونه أمرا واحدا ، لا تعدد فيه ، بل جمع مقدر والتقدير وما ذاك واقع في حالة إلاّ القيام .
وما كان إلاّ الأفضل : أي الزائد على غيره في التَّفضل ، وهو بالنصب خبر كان ، قُدِّم على اسمها .
__________
(1) كتبت : إذا .(1/11)
المتفضّل ... : أي على ذلك الغير بالإحسان إليه ، والإنعام عليه ، وقد أشار إلى صغرى الدليل أولا في قوله : وما ذاك إلاّ بسطة عن تفضل ، وأشار إلى كبراه ثانيا في قوله : وكان الأفضل المتفضل ؛ لتضمنه مُعيّن ، وكل متفضل على غيره أفضل منه، فينتج : أنا أفضل منهم ، فإن قلت : كيف حملت كلامه على ذلك والشاعر جاهلي ، صدر عنه هذا الكلام قبل تدوين علم المنطق ، قلت : لا يلزم من عدم تدوينه عدم معرفتهم بقواعده ، كالنحو والصرف ، وغير ذلك من العلوم التي حدث تدوينها ، ألا ترى أنّ القرآن ورد مشيرا إلى قواعد كل علم ، وكانوا يعلمون معانيه بمجرد النزول ، وهذا البيت يُفهم كسوابقه ، إنّ قومه كانوا يجازون حسناته بسيِّئات ، وسيُطرح بذلك أيضا في البيت الآتي .
وَإِنّي كَفانِي فَقْدَ مَن لَيسَ جازِياً بِحُسنى وَلا في قُربٍه مُتَعَلَّلُ
وإنّي كفاني ... : كفى يتعدى إلى مفعولين ، الأول الياء ، والثاني قوله :
فقد ... : والنون للوقاية / سُمِّيَت بذلك ؛ لأنها تقي الفعل الكسر الذي لا 7 ب يدخله ، والفاعل ما يأتي في البيت بعده ، من قوله : ثلاثة أصحاب ، ففي هذا البيت التضمين ، وهو أن يكون البيت مفتقرا إلى ما بعده افتقارا لازما ، وهو معيب في حق دون العرب العرباء ، والكلام هاهنا على حذف مضاف والتقدير : كفاني حزنا فقدَ .
من ليس جازيا بحسنى : أي اعتضت عن فقد من لا يجازي على الحسنة ، يعني قومه بالثلاثة المذكورين ، ولم أحزن عليه حزن الفاقد على المفقود ، وقوله : بحسنى يُحتمل أن تكون الباء فيه على أصلها ، والمعنى : لا يجازي بحسنى على حسنى ، ويحتمل أن تكون بمعنى على حسنى بحسنى ، والأول وهو أحسن ، إذ لا ضرورة تحوِج إلى إخراج الحرف عن معناه بعد اتّحاد المعنى على التقديرين ، والاحتياج إلى الحذف فيهما ، ومَنْ : نكرة موصوفة ، أي فقد إنسان ، أو قوم ، لا يكافئ على الحسنة ، وجملة ليس وما عملت فيه نعت لمَنْ ، واسم ليس ضمير يعود إلى مَنْ .(1/12)
ولا في قربه متعلل : بفتح اللام ، أي ما يقتنع ويكتفي به من النفع ، والجملة معطوفة على جملة ليس ، وأعاد حرف النفي في المعطوف لما تقدّم ، ويجوز عطف متعلل على اسم ليس ، وفي قربه على خبرها ، على أنه من عطف المفردات والعطف على معمولي عامل واحد ، وهو جائز اتّفاقا ، كما تقول ليس في الدار زيد ، ولا في المسجد عمرو .
ثَلاثَةُ أَصحابٍ فُؤادٌ مُشَيَّعٌ وَأَبيَضُ إِصليتٌ وَصَفراءُ عَيطَلُ
ثلاثة أصحاب ... : يُغنيني عن قومي في دفع الملمات ، ونفي المكاره عني ، وكأنه أضرب بهذا عما ذكره أولا / كأنه توهم أولا أنّ الحيوانات الثلاثة المذكورة 8 أ فيها نفع له بالنسبة إلى قومه ، فاختارها عليهم ، ثم حقق أنه لا نفع فيها ، فاختار على قومه ما ذكره هاهنا من قوله :
فؤاد ... : أي قلب ، وهو مع ما عُطف عليه بدل من ثلاثة أصحاب .
مُشيَّع ... : أي قويٌّ على المكاره ، كأنه جُعل شيعة وأتباع ، ومنه يُقال للمقدام متشيّع.
وأبيض ... : أي سيف أبيض لصفاء جوهره .
إصليت ... : بكسر الهمزة ، وإسكان الصاد المهملة ، أي مُجرّد عن غمدة .
وصفراء ... : أي قوس صفراء .
عيطل ... : أي طويلة ، يقال : امرأة عيطل ، وعنق عيطل إذا كان كل منهما تاما ، قال بعضهم : ولا نعلم أحدا وصف القوس بهذه الصفة غيره .
هَتوفٌ مِنَ المُلسِ المُتونِ يَزينُها رَصائِعُ قَد نيطَت إلَيها وَمِحمَلُ
هتوف ... : أي ذات صوت شديد ، كأنها رجل يهتف ، ويصيح ، والبلاغة تارة تؤخذ بحسب الكيف ، كما هنا ، وتارة بحسب الكم ، كما في ضروب ، بمعنى كثير الضرب ، وهو بالرفع صفة لصفراء.
من الملس ... : أي من الأعواد الملس ، التي لم تكثر أغصانها ، فتكثر عقدها ، والظرف صفة ثانية لصفراء.
المتون ... : أي الصلبة ، وهو نعت لملس ، وجمع متن .
يزينها ... : أي يُغيِّرها حُسنا وضياء زيادة على حسنها الذاتي .(1/13)
رصائع ... : قيل : هي خرزات تُعلّق عليها لئلا تصيبها العين ، ولمَّا كانت هذه الخرزات إنما تُعلّق على الرضيع غالبا ، سًمِّيَت بذلك تسمية لها باسم حاملها وقيل : هي سيور مضفورة ، تُزيَّن بها القوس ، وجملة يزينها رصائع صفة ثالثة لصفراء.
قد نيطت إليها ... : أي عُلٍّقت تلك الرصائع على تلك القوس ، فإلى بمعنى على ، ويروى كذلك أيضا .
ومحمل ... : بفتح الميم / الأولى ، وكسر الثانية ، وهوما تُحمل به كمحمل السيف 8ب وغيره ، وجملة قد نيطت صفة لرصائع ، ومحمل عطف على رصائع .
إِذا زَلَّ عَنها السَهمُ حَنَّت كَأَنَّها مُرَزَّأَةٌ عَجلى تُرِنُّ وَتُعوِلُ
إذا زلّ عنها ... : أي عن تلك القوس .
السهم ... : هو ما يُرمى به عن القوس ، أي إذا خرج عن وترها .
حنّتْ ... : أي صوتت تلك القوس ، بصوت وترها صوتا شديدا حتى
كأنها ... : أي تلك القوس ، في حنينها امرأة
مرزأة ... : بضم الميم ، وفتح الراء ، وفتح الزاي ، وتشديدها ، بعدها همزة مفتوحة أي كثيرة الرزايا والمحن .
ثكلى ... : أي حزينة على فقد ولدها .
ترنّ ... : تصيح .
ونعول ... : أي ترفع صوتها مما بها من الحزن ، وإذا ظرف زمان خافض لشرطه منصوب بجوابه ، وكأن وما عملت فيه حال من الضمير في حنّت ، أي حنّتْ مُشبهة مرزأة ثكلى ، وجملتا ترن ، وتعول صفتان لمرزأة ، ويجوز أن تكونا حالين من الضمير في مرزأة ، والبيت كله نعت لصفراء ، وهذا البيت كالتأكيد لقوله هتوف ، إلاّ أنّ المبالغة هناك تُستفاد من صيغة فعول ، وهنا من التشبيه بمرزأة ثكلى ترنُّ وتعول ، ولمَّا فرغ من مدح نفسه بالتحلِّي بالفضائل ، شرع في مدحها بالتخلي عن الرذائل ، فقال :
وَلَستُ بِمِهيافٍ يُعَشّي سَوامَهُ مُجَدَّعَةً سُقبانَها وَهيَ بُهَّلُ
ولست بمهياف ... : هو بكسر الميم ، الذي [ ينأى (1) ] بإبله طلبا للرعي على غير علم ، فيعطشها ، ويمسي
__________
(1) ينأى زيادة يقتضيها السياق .(1/14)
يُعشي سوامه ... : هو بالعين المهملة من يمشي بإبله ، ويلبسها ظلام الليل ،أو يعطيها العشى ليلا ، وقيل : هو بالغين المعجمة ، أي يجعل عليها غشاء ظلام الليل واللفظان معنياهما متقاربان ، والسوام بفتح السين المهملة : ما رعى من الإبل والشاء .
مجدّعة ... : أي سيئة / الغذاء ، والأصل في هذا أنْ يطرح الراعي ولد الناقة 9 أ على الضرع لتدر الناقة ، فإذا درّ اللبن نحّاه ، وتخلّى باللبن ، وهو بالنصب حال من سوامه ، ويجوز رفعه على أنه خبر مقدم لقوله :
سقبانها ... : والجملةحال من سوامه ، والسُّقبان بضم السين المهملة جمع سقب بفتحها وهو الصغير من الإبل ، قال الأصمعي : أول ما يقال لولد الناقة[ ساعة (1) ] يسقط من بطن أمه ، قبل أن يُعلم أذكر هو أم أنثى سليل ، ثم يُسمى إذا تبيّن سقبا ، وحواراً ، ويقال للأنثى سقبة ، وقيل : لا يُقال لها ذلك .
وهي ... : أي سوامه .
بُهّل ... : جمع باهلة ، أي سيئة الحال ، من قولهم بَهُل الرجل إذا مضى لا قيمة عليه ، ولا قدَر له ، أو من قولهم : أبهلت الرجل إذا تركته مُخلىً ، والباهلة التي لا صرار عليها ؛ لترضعها أولادها ، فتكون أسمن وأحسن ، وجملة وهي بُهّل حال من سوامه أيضا ، ومعنى البيت إني لا أًسيئ الرعية ، بأن أجعل إبلي وأولادها كما ذكر .
وَلا جَبأَ أَكهى مُرِبٍّ بِعِرسِهِ يُشاوِرُها في شَأنِهِ كَيفَ يَفعَلُ
ولا جُبأ ... : عطف على مهياف ، هو بضم الجيم ، وفتح الباء الموحدة ، وتشديد ، وهمزة في آخره مقصورة كسكرى ، أوممدودة كعُبأ : الجبان .
أكهى ... : وهوبفتح الهمزة ، وإسكان الكاف : كَدِر الأخلاق ، الذي لا خير فيه ، وقيل : البليد .
مُربٍّ ... : بضم الميم ، وفتح الراء : مقيم ، وهو نعت لجبأ .
بعرسه ... : أي مع زوجته ، وهومتعلق بمرب .
يشاورها ... : ويروى يطالعها .
__________
(1) ساعة زيادة يقتضيها السياق ، وبها ورد كلام الأصمعي في اللسان( سقب ) والذي كُتب : ما يقال لولد الناقة ما سقط ....(1/15)
في شأنه ... : أي في أمره ، كما يروى كذلك ، والجملة حال من الضمير في مرب ، وفي شأنه يتعلق بيشاورها ،لا بالفعل بعده ؛ لأنما بعدالاستفهام لايعمل فيماقبله ؛ لأن له الصدارة .
/ كيف يفعل ... : أي على أي حال يوقع فعله ،لأن ذلك دليل نقصان العقل ، وعدم 9 ب الرشد ، والمعنى أني لا أجبن ، ولا أُسيئ الأخلاق ، ولا أُقيم مع النساء وأشاورهن في أموري التي تعرض من حيث الإقدام عليها ، أو الإحجام عنها.
وَلا خَرِقٍ هَيقٍ كَأَنَّ فُؤادَهُ يَظَلُّ بِهِ المُكَّاءُ يَعلو وَيَسفِلُ
ولا خرق ... : وهو بفتح الخاء المعجمة ، وكسر الراء ، آخره قاف ، صفة مشبهة ، معناه الدهش من الخوف والحياء ، وقيل : الأحمق .
هيق ... : هو بفتح الهاء ،وإسكان آخر الحروف ، صفة مشبهة أيضا ، معناه الظلم وقوله : ولا خرق عطف على مهياف ، وهيق صفة أخرى.
كأن فؤاده ... : أي قلبه .
يظل ... : أي يستمر .
به المكاء ... : هوبضم الميم ، وتشديد الكاف : طائر لا يستقر على الأرض .
يعلو ويسفل ... : أي يرتفع تارة ، وينخفض أخرى ، والمعنى : كأن فؤاده لشدة اضطرابه من الخوف والحياء المكاء ، أوكأنّ حال فؤاده كحال المكاء من حيث الاضطراب ، وعدم الاستقرار .
وَلا خالِفٍ دارِيَّةٍ مُتَغَزَّلٍ يَروحُ وَيَغدو داهِناً يَتَكَحَّلُ
ولا خالف ... : يروى هو وما بعده ، وما قبله تارة بالنصب على محل مهياف ، وتارة بالجر على لفظه ، والخالف المتخلف عن الخير ، وأكثر ما يقال خالفة ، والخالفة في الأصل عمود البيت المتأخر ، والهاء فيه زائدة للمبالغة في الذم فحذفها كما يقال :راوٍ وراوية ، ونسَّاب ونسَّابة ، وغير ذلك .
دارية ... : هوبتشديد الياء آخر الحروف ، الذي يلازم الدور ، ولا يفارقها .
متغزل ... : وهو بالغين المعجمة ، والزاي : مَنْ يُحب محادثة النساء .
يروح ... : من الرواح ، وهو الذهاب في أول النهار .
ويغدو ... : من الغدو ، وهو الذهاب في آخر النهار .
/ داهنا ... : أي ذا دهن يستعمله وشعره . ... ... ... ... ... ... 10أ(1/16)
يتكحل ... : أي يستعمل الكحل في عينيه ، وجملة يروح ويغدو ـ لغتان أيضا ـ [ نعت ] (1) لمهياف ، إذ ينعت تارة بالمفرد ، وتارة بالجملة ، وتعطف الصفات تارة ، ويُترك فيها العطف تارة أخرى ، ويجوز أنْ يكون كل من جملتي يروح ويغدو حالاً من الضمير في متغزل ، وداهنا خبر يغدو ، وعلى أنها ناقصة من أخوات كان ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير يغدو ، وعلى أنها تامة ، وأما خبر يروح ، أو الحال من ضميره فمحذوف لدلالة ما بعده عليه ، أو بالعكس على الخلاف غي تنازع العاملين في معمول ، كما تقول أصبح زيد وأمسى مسرورا ، وجملة يتكحل كذا هنا في الاحتمالين السابقين ، ويجوز فيها أيضا أن تكون حالا من الضمير في داهنا ، والمعنى لست بمتخلف عن الخير ، ولا ملازما للبيوت ، ولا محبا لمغازلة النساء ، ولا أستعمل ما يستعملونه مما هو من شعارهم كالادهان ، والاكتحال ، ومحادثة النساء من أزواجه .
... وَلَستُ بِعَلٍّ شَرُّهُ دونَ خَيرِهِ أَلَفَّ إِذا ما رُعتَهُ اِهتاجَ أَعزَلُ
ولست بعل ... : هو بفتح العين المهملة واللام ، الرجل المسن الصغير الجثة ، الشبيه بالقراد في دقة جسمه ، وأنشد الأصمعي للمتنخل الهذلي (2) :
لَيْسَ بِعَلٍّ كَبِيرٍ لا شَبَابَ له
شرّه ... ... : يحول
دون خيره ... : أو شرّه قبل خيره ، يعني أنه شرّ محض ، لا خير فيه ، وشره مبتدأ ، ودون / خيره خبره ، والجملة نعت بعل بالجر على اللفظ ، أو بالنصب10ب على المحل .
__________
(1) ما بن القوسين زيادة يقتضيها السياق .
(2) الشعر والشعراء ، ص 756 / الموسوعة الشعرية . والبيت بتمامه :
لَيْسَ بِعَلٍّ كَبِيرٍ لا شَبَابَ له لكِنْ أُثَيْلَةُ صافي الوَجْهِ مُقْتَبَلُ(1/17)
أَّ لَفّ ... : هو بفتح الهمزة واللام ، وتشديد الفاء : الذي لا يقوم لحرب ، ولا ضيف بمعنى الجبان البخيل ، كأنه ليس إلاّ أنه يلتف وينام ، قالت امرأة من العرب لزوجها تذمه : والله إنّ أكلك لاقتفاف (1) ، وإنّ شربك لاشتفاف ، وإنّ ضجعتك لالتفاف ، والاقتقاف بقافين ، بينهما تاء مثناة فوقية ، أنْ يأخذ غداءه سرقة كيلا يشارك فيه ، من اقتف الصيرفي الدراهم إذا سرقها بين أصابعه، وقيل: هو الذي يأتي على آخر غدائه ، فلا يبقي منه شيئا ، من قولهم : اقتف ما في الإناء ، إذا استوفاه ، والاشتفاف هو اشتفاف الماء بالشرب بحيث لا يبقي منه بقية .
إذا ما رعته ... : أي أخفته ، فما بعد إذا زائدة .
اهتاج ... : افتعل ، من هاج ، إذا اضطرب اضطرابا شديدا كثيرا ، فالمبالغة فيه في الكم والكيف معا ، ورعته شرط إذا ، واهتاج جوابه .
أعزل ... : أي هو أعزل ، على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والأعزل الذي لا سلاح معه، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : إنْ كان معه عصا فليس بأعزل ، وجملة هو أعزل يجوز أن تكون نعتا لعلٍّ ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير في اهتاج ، منفردا عن السلاح .
وَلَستُ بِمِحيارِ الظَلامِ إِذا اِنتَحَت هُدى الهَوجِل العِسّيفِ يَهماءُ هَوجَلُ
ولست بمحيار الظلام : أي كثير التحيُّر ، والدهش ؛ لأن صيغة مِفعال للمبالغة ، والظلام ضد النور ، وإضافة محيار إليه إمَّا من إضافة الشيء إلى ظرفه / كمكر 11أ الليل والنهار ، وإمَّا من إضافة المسبب إلى السبب ؛ لأنّ التحيّر كما يقع في الظلام يتسبب عنه .
إذا ... : ظرف زمان منصوب بمحيار .
انتحت ... : أي اعترضت .
هدى ... : مصدر بمعنى الهداية ، ضد الضلال ، يُذكَّر ويُؤنَّث .
الهوجل ... : أي البليد .
العِسِّيف ... : وهو بكسر العين المهملة ، وكسر السين المهملة ، وتشديدها ، الذي يأخذ في السير على غير طريق .
__________
(1) كتبت : لاقتقاف ، وليس صحيحا ، وما ذكره انه بقافين لايصح ، وما أثبتناه من شرح المبرد على لامية الشنفرى .(1/18)
يهماء ... : هي المفازة التي لا عَلَم فيها يُهتدى به ، فيسوء فيها السير .
هوجل ... : أي صعبة المسلك ، وهدى مفعول مقدّم ، ويهماء هوجل فاعل مؤخر ، أي لست بمتحيّر في الظلام إذا اعترضت يهماء هوجل بين الرجل العسِّيف وهداه ، فيُسيء فيها السير ، ويمشي على غير بصيرة خابطا خبط عشواء أو راكبا متن عمياء ، تمنعه من الوصول إلى هداه ، أو عارض هداه فمنعته والإسناد على هذين حقيقي ، ويروى إذا انحنت أي قصدت ، وإسناد القصد إلى يهماء مجاز عقلي من باب الإسناد إلى المكان ، والأصل إذا قصد الهوجل العسيف الهدى في يهماء هوجل كمجرى النهر ، أي الماء فيه ، قال صاحب الكشاف : وأهل مكة يقولون : صلى المقام ، ومعنى البيت لا أَتحيّر في الوقت الذي يتحيّر فيه غيري ، يصف نفسه بالحذق والكياسة ، والوقوف على عواقب الأمور ، والتمييز على حسنها وقبيحها .
... إِذا الأَمَعزُ الصُوّانُ لاقى مَناسِمي تَطايَرَ مِنهُ قادِحٌ وَمُفَلَّلُ
إذا ... : اسم شرط جازم خافض لشرطه منصوب بجوابه .
الأمعز ... : هو بالعين المهملة ، والزاي ، المكان / الذي فيه حصى ، والبقعة 11ب معزاء وهو لكونه صفة غالبة جرت مجرى الأسماء ، جمعت على أماعز ، ولو كانت محضة لجمعت معز ، كأحمر وحُمر .
الصوان ... : هو بفتح الصاد المهملة ، الحجارة الصلبة الملس ، الواحدة صوانة ، والأمعز ليس هو الصوان في الحقيقة ، وإنما الصوان يحل فيه ، فالتقدير : الأمعز ذو الصوان ، كما في [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ] (1) أي أهلها ، بحذف المضاف ، ولا يجوز أن يجعل الأمعز نفسه الصوان مبالغة لكثرته فيه ، على حد قول الخنساء :
فَإِنَّما هِيَ إِقبالٌ وَإِدبارُ (2)
__________
(1) يوسف 82
(2) عجز بيت من البسيط ، ديوانها ، والبيت بتمامه :
... تَرتَعُ ما رَتَعَت حَتّى إِذا اِدَّكَرَت فَإِنَّما هِيَ إِقبالٌ وَإِدبارُ(1/19)
... جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر نفس الإقبال والإدبار ، قال الإمام عبد القاهر الجرجاني : ولو قدّرنا المضاف لخرجنا إلى شيء مفسول ، وكلام عام مرذول .
لاقى مناسمي ... : أي صدر أقدامي ، والمناسم وهي في الأصل من الإبل كالسنابك من الخيل فاستعمالها في الأقدام من الآدميين على طريق الاستعارة .
تطاير ... : أي تتصاعد .
منه قادح ... : هو بالقاف ما يخرج معه النار من الحصى .
ومفلل ... : بفاء ولامين ، المكسّر من ألحجار ، ولفظة منه يجوز أن تتعلّق بتطاير ، ويجوز أن تكون نعتا لقادح ، قُدِّم عليه ، فصار حالا ، والمعنى إذا أصابت أرجلي حجرا قدحت منه نارا ، و أطارت منه مفللا ؛ لشدة وطئي ، وكمال شدتي .
أُديم مطال الجوع : أي أجعل الجوع الطويل دائما .
حتى أُميته ... : أي إلى أن أُميته ، أو كي أُميته ، حتى يكون / حال خلو المعدة منه 12 أ
... كحال امتلائها منه ، لأن مَنْ اعتاد أمرا سهُل عليه جدا . ...
وأصرف عنه ... : أي عن الجوع ، ويروى وأضرب عنه .
الذكر صفحا ... : أي إعراضا أو مُعرِضا .
فأذهل عنه ... : أي أنساه ، وفي التنزيل [أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا] (1) أي أنهملكم فنضرب عنكم القرآن ، وما فيه من المواعظ إعراضا ، أو معرضين ، وأضرب مرفوع معطوف على أُديمُ ، وليس منصوبا عطفا على أميته ، إذ ليس الغرض إني أُديم الجوع حتى أضرب ، بل الغرض أنْ يُخبر عن نفسه بالأمر ، إذ المعنى أنّ ألم الجوع ينتفي عني إمَّا بإماتته بالإطالة ، وإمَّا بنسيانه بالإعراض عنه ، والقصد من هذا وصف نفسه بالعفة ، وعدم تكفف الناس عند الحاجة .
وَأَستَفُّ تُربَ الأَرضِ كَيلا يَرى لَهُ عَلَيَّ مِنَ الطَولِ اِمُرؤ مُتَطَوَّلُ
وأستف ... : أي أتناول بفمي .
ترب الأرض ... : أي ترابها ، أي أختاره بدلا عما في يد الناس من نفيس الطعام .
__________
(1) الزخرف 5(1/20)
كي لا يُرى ... : أي يُعلم ، أو يبصر ، وكي إمَّا مصدرية ، والفعل بعدها منصوب بها ولام التعليل مقدرة قبلها ، أو تعليلية بمعنى اللام ، والمضارع منصوب بكأنّ مضمرة بعدها .
له عليَّ ... : الظرفان متعلقان بيرى ، والضمير في له راجع إلى امرؤ بعده ؛ لتقدمه رتبة ، وإنْ تأخّر لفظا .
من الطول ... : أي المِنَّة والإحسان ، والظرف متعلق بمحذوف صفة لمحذوف ، أي شيئا كائنا من الطول ، كما ذهب إليه سيبويه ، أو من زائدة ، فلا تتعلق بشيء ، كما ذهب الأخفش .
امرؤ ... : أي شخص ، ذكرا كان أو أنثى ، أو أراد الذكر خاصة ؛ / لأنَّ 12ب الرجل إنما يتحمل لو تحمل مِنَن الرجال ، وهو فاعل يَرى .
متطول ... : أي مفيد للطول ، أو للإحسان والفضل لمن تطوَّل ، والمعنى : إني لا أرضى أن اتقلد سنن الرجال ، وإنْ أفضى بي إلى استفاف التراب الحالُ .
... وَلَولا اجتِنابُ الذَأم لَم يُلفَ مَشرَبٌ يُعاشُ بِهِ إِلّا لَدَيَّ وَمَأكَلُ
ولولا اجتناب الذأم : لو حرف يدل على امتناع الثاني لامتناع الأول ، كما في : لو جئتني أكرمتك ، على حين أنّ الإكرام منتف في الخارج لانتفاء المجيء ، فإذا ركبت مع لا حدث لها معنى آخر ، ودلت على انتفاء الثاني لوجود الأول ، وذلك لأنّ لو تدل على امتناع الشرط والجزاء معا ، فإذا وليتها لا ثبت ما بعدها ، أعني الشرط ، فصار وجوديا بعد أنْ كان عدميا ، وبقي الجزاء على حالة الانتفاء ؛ لأنَّ لا يُنفى بها أكثر من أمر واحد ، بخلاف لو ، واجتناب مرفوع ، واختُلِف في رافعه ، فذهب الجمهور إلى أنه مبتدأ حُذِف خبره وجوبا ، وقيل : هو فاعل بلولا إعمالا لها عمل الفعل ، وقيل : فاعل بفعل محذوف ، والذأم بالذال المعجمة ، ويقال : ذيْم ، وذمّ ، وذان ، وذين ، وذن ، الكل بمعنى العيب والعار .
لم يُلف ... : أي لم يوجد (1) .
مشرب ... : أي مشروب .
يُعاش به ... : أي يعيش به الإنسان .
إلاّ لدي ... : أي عندي دون غيري .
__________
(1) كتبت : يجد .(1/21)
ومأكل ... : أي مأكول يُعاش به إلاّ لدي ، فحذف من الثاني لدلالة الأول ، وجملة يُعاش به نعت لمشرب ، ولدي خبر لمبتدأ محذوف تقديره إلاّ هو لذي ، ومأكل معطوف على مشرب ، وقدّم المشرب على المأكل ، وإنْ كان / 13أ الشرب من توابع الأكل ، لداعي الروي ، يصف نفسه بعلو الهمة في تحصيل الأرزاق ، والتنزه عن العيب والعار والمعرِّة ، لولا خشية العيب والعار ، لكانت الدنيا كلها في قبضة يدي ، فلا يُساق رزق لمرزوق إلاّ على يديّ ، وبطريق تفضّلي وإحساني عليه ، وتقدير الكلام : امتنع عدم وجود مأكل ومشرب يُعاش به إلاّ لدي لوجود اجتناب العار والعيب .
... ... وَلَكِنَّ نَفساً حُرَّةً لا تُقيمُ بي عَلى الذَأمِ إِلّا رَيثما أَتَحَوَّلُ
ولكنّ نفسا حرة ... : أي أبية ، وهو استدراك يفيد أنّ اجتناب الذأم ، والتباعد عن العار طبيعة له ، ونفسا اسم ، لكنّ بتشديد النون (1) ، وحرة صفة نفسا .
لا تقيم بي على الذأم : أي لا تقيمني ، ولا تساعدني عليه ، أو لا تقيم وأنا معها عليه ، بل كلانا يتحوّل عنه ، فالباء على الأول زائدة في المفعول به ، أو بمعنى مع على الثاني ، والظرف عليه حال من الضمير في تقيم ، وجملة لا تقيم بي خبر لكنّ .
إلاّ ... : استثناء من عموم الأحوال المقدر .
ريثما أتحول ... : أي قدر تحولي عن العيب حتى يصيبني ، بحيث لا أدوم عليه ، ولا أتخذه مذهبا ، فريث ظرف ، وما بعدها مصدرية كما تقرر.
وَاَطوي عَلى الخُمصِ الحَوايا كَما اِنطَوَت خُيوطَةُ مارِيٍّ تُغارُ وَتُفتَلُ
وأطوي ... : أي أعصر ، والجملة معطوفة على جملة وأستفّ تُرب الأرض .
على الخمص ... : أي الجائعة ، وهو بضم الخاء المعجمة جمع أخمص ، وخُمص كحمر ، لا أحمر وحمراء ، ويجوز أن يكون بفتح الخاء بمعنى الجوع .
__________
(1) كتبت : الياء ، وهو خطأ واضح .(1/22)
الحوايا ... : جمع حوية كثنيّة وثنايا ، وركيّة وركايا ، وهو ما يحوى على البطن ويعصب عليه ، وبعض العرب يقولون حاوية وحوايا ، كراوية وروايا ، والحوايا مفعول أطوي .
كما انطوت ... : / أي كانطواء ، على أنّ ما مصدرية ، والمشبه به ليس مصدر 13ب طوى ؛ لأنه الطيّ ، لا الانطواء ، بل مصدر محذوف تقديره وأطوي على الخمص الحوايا ، فينطوي انطواء كما انطوت .
خيوطة ماري ... : والخيوطة جمع خيط ، والتاء فيه للمبالغة والكثرة ، كقولهم حجار وحجارة ، وقيل : الهاء للتأنيث على معنى إرادة الجماعة ، والماري الحائك.
تُغار ... : أي يُحكم فتل تلك الخيوطة .
وتُفتل ... : أي يحصل أصل فتلها ، وكان اللائق تفتل وتغار ؛ لأنّ إحكام الفتل صفة له فتتأخر عنه ، لكن ساغ ذلك مع الواو التي لا تقتضي ترتيبا بين المتعاطفين وإنما ارتكب خلاف الأولى ؛ لداعي رعاية الروي كما تقدم نظيره ، وجملة تغار صفة لخيوطة ، وجملة تفتل معطوفة عليها ، والمقصود من هذا وصف نفسه بالقناعة والزهد في ما في أيدي الناس ، والصبر على الجوع وإنْ اشتد ؛ خشية الوقوع في المعرة .
فائدة ... : ربط البطن بالحوايا عند المجاعة ، وأن المعدة حارة بالطبع ، فإذا كان فيها الطعام اشتغلت بالأعضاء ؛ فيحصل التألّم ، فإذا ربطت البطن ربطا شديدا انخفضت الحرارة ، وضعف فعل الألم ، وقد كان صلى الله عليه وسلم في حالة / المجاعة يربط على بطنه حتى بالحجارة . 14 أ
... وَأَعدو عَلى القوتِ الزَهيدِ كَما عَدَا أَزَلُّ تَهاداهُ التَنائِفُ أَطحَلُ
وأعدو ... : أي أجدّ ، والعدو في الأصل شدة السير .
على القوت الزهيد : أي الرزق اليسير ، الذي من شأنه أنْ يُزهد فيه ، ويُرغب عنه لقلته .
كما عدا أزل ... : أي عدوا كعدو أزل ، وهو الذئب الجائع ، ممنوع من الصرف للوصف ووزن الفعل .
تهاداه ... : أي ترامى به .
التنائف ... : وهو بتاء فوقية ثم نونين (1)
__________
(1) التنائف جمع تنوفة ، وليس تنانف ، قال ابن منظور ( تنف ) :
التَّنُوفةُ: القَفْرُ من الأَرض وأَصل بِنائها التَّنَفُ، وهي المَفازةُ، والجمع تَنائفُ؛ وقيل: التَّنُوفةُ من الأَرض المُتباعِدةُ ما بين الأَطْرافِ، وقيل: التنوفة التي لا ماء بها من الفَلواتِ ولا أَنِيسَ وإن كانت مُعْشِبةً، وقيل: التَّنُوفةُ البعيدة وفيها مُجْتَمَعُ كلإِ ولكن لا يُقدَرُ على رعْيِه لبُعْدِها. وفي الحديث: أَنه سافر رجل بأَرضٍ تَنُوفةٍ؛ التَنُوفةُ: الأَرضُ القَفْرُ، وقيل البعيدةُ الماء؛ قال الجوهري: التَّنُوفةُ المَفازةُ، وكذلك التَّنُوفِيّةُ .(1/23)
بينهما ألف ، ثم فاء : المفاوز والقفار ، كأنها لشدة سيره ترميه في بقعة منها إلى بقعة أخرى ، برفعه طورا ، وخفضه طورا آخر ، والجملة صفة لأزلّ .
أطحل ... : أي لونه أحمر ، يضرب إلى السواد كلون الطحال ، وهو صفة لأزل ، ومثله في منع الصرف ، وعلّته .
... غَدا طاوِياً يستعرض الريحَ هافِياً يَخوتُ بِأَذنابِ الشِعابِ وَيَعسَلُ
غدا ... : أي ذلك الأزل .
طاويا ... : أي صابرا على الجوع كأنه طوى أحشاءه على الجوع ، وهو خبر غدا إنْ جعلتها تامة ، وجملة غدا طاويا إمَّا مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب ، وإمَّا حال من الضمير في تهاداه في البيت قبله ، على تقدير قد ، فطاويا هاهنا اسم فاعل من طوى المتعدي كما تقرر ، لا من طوى اللازم بمعنى جاع ، لأن اسم الفاعل منه طوٍ ، مثل عجٍ وشجٍ ، والأول من باب ضرب ، ومصدره الطَّي ، والثاني من باب علِم ومصدره الطوي .
يستعرض الريح ... : أي يسير جهة هبوبها ، وهو أصعب السير ؛ لوجود العائق ، وروي يعارض ، والريح مؤنثة ، تقول : هبت الريح إذا ثارت ، وجملة يستعرض الريح في / موضع الحال ، إمَّا من الضمير في طاويا ، وإمَّا14ب من الضمير في غدا إنْ جعلتها تامة .
هافيا ... : أي شديد العدو من شدة الجوع ؛ كأنه يطير من هفى الطائر إذا طار ، وقيل من هفى إذا ذهب يمينا وشمالا ، وهو حال من الضمير في يستعرض
يخوت ... : بالخاء المعجمة ، والتاء المثناة فوق ، أي يسمع صوت انقضاضه ، من خات البازي إذا انقضّ على الصيد ليأخذه ، وقيل : من خات الذئب الشاة إذا اختلسها .
بأذناب الشعاب ... : أي أواخرها ، والشعاب مسائل صغار بين الجبال ، والباء هاهنا بمعنى في وهو ظرف ليخوت .
ويعسل ... : بالعين والسين المهملتين ، أي يمر مرّا سريعا ، ومن ذلك : رمحه عسّال إذا تتابع عند الهز في سهولة ، وجملة يعسل معطوفة على جملة يخوت .
... ... فَلَمّا لَواهُ القوتُ مِن حَيثُ أَمَّهُ دَعا فَأَجابَتهُ نَظائِرُ نُحَّلُ(1/24)
فلمَّا ... : ظرف بمعنى حين ، ضُمِّن معنى الشرط ، يليه فعل ماض لفظا أو معنى ، خافض لشرطه منصوب بجوابه ، وقيل : هو حرف .
لواه القوت ... : أي مطله ومنعه حصول نفسه ، من ( لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) (1) والضمير في لواه يعود إلى أزل .
من حيث أمّه ... : أي من المكان الذي قصده فيه ، هي صلة أمّه في محل جر بإضافته إلى حيث ، والظرف متعلق بلوى ، ومِنْ لابتداء الغاية ، وهذا من الأماكن التي خرجت فيها حيث عن الظرفية المكانية ، ومثله قوله تعالى : [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] (2) ، أي المكان / الذي يجعل رسالته ، أي المكان 15 أ الذي يجعل فيه الرسالة من الأنبياء ، وفاعل أمَّه ضمير يعود إلى أزل ، ومفعوله ضمير يعود إلى القوت .
دعا ... : أي صاح ذلك الأبزل تأسُّفا على فقد القوت من المكان الذي قصده فيه ، ولواه فعل الشرط ، ودعا جوابه .
فأجابته ... : أي صاحت ثانيا مثل ما صاح أولا ، فكان صياحه دعاء لها ، وكان صياحها إجابة له .
نظائر ... : أي ذئاب تماثله في صفته المشروطة ، والنظائر جمع نظير على أن يكون صفة لإناث الذئاب ، كعجيبة وعجائب ، لا لذكورهم ، لأن فعائل كفواعل لا يقع جمعا لصفة الذكور إلاّ في الضرورة .
نُحّل ... : أي ضوامر ، جمع ناحل ، يقال فلان ناحل الجسم ، أي منهوكه ، والفعل منه نحَل بالفتح لا غير .
... مُهَلَّلة شِيبُ الوُجوهِ كَأَنَّها قِداحٌ بِكَفَّي ياسِرٍ تَتَقَلقَلُ
مهللة (3) ... : أي رقيقة الجسم كأنها أهلة ، والمهللة في غير هذا الموضع الذين يجبنون عن القتال ، ومنه قول كعب بن زهير ، رضي الله عنه في مدح المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) :
__________
(1) حديث نبوي شريف ، انظر : كشف الخفاء 2/174/ المكتبة الشاملة ، وكنز العمال 6/122/ المكتبة الشاملة
(2) الأنعام 124
(3) كتبت مهلكة ، وما أثبتناه من الديوان ، ومن شرح المبرد للامية الشنفرى .
(4) من البسيط ، ديوانه بشرح السكري ، ص 25(1/25)
... ... لا يوقع الطعنُ إلاّ في نحورِهم ... ... وما لهم عن حياض الموت تحليل
... أي حين ، وتأخّر .
شيب الوجوه ... :ويروى شيب كأن وجوههم ، وشيب جمع أشيب وشيباء ، مثل حمر ، كأحمر وحمراء ، ووجوه الذئاب تُرى كأنها شيب ، وإضافة شيب إلى الوجوه من إضافة الصفة إلى مرفوعها إضافة لفظية ، فلذا صح جعله نعتا لنظائر .
كأنها ... : أي تلك النظائر في نحافتها / وضمرها . ... ... ... 15ب
قِداح ... : بكسر القاف ، وإسكان الدال ، جمع كثرة ، ويجمع في القلة على أقداح ، وأراد بها قداح الميسر ، وهي قداح صغار ، لا فصل فيها .
بكفي ياسر ... : وهو الذي يضرب بالقداح ، ويقال له يَسَر أيضا ، بفتح أوليه ، والأول جارٍ على لفظ فعلة دون الثاني ، والظرف نعت لقداح ، ويجوز أنْ يتعلق بقوله .
تتقلقل ... : أي تضطرب وتتحرك ، وجملته نعت لقداح .
... أَو الخَشرَمُ المَبعوثُ حَثحَثَ دَبرَهُ مَحابيضُ أَرداهُنَّ سامٍ مُعَسَّلُ
أو الخشرم ... : هو بالخاء والشين المعجمتين ، رئيس النحل ، وهو معطوف على قداح ، أي كأنها الخشرم .
المبعوث ... : اي المُهاج .
حثحث ... : أي حثَّ ، وليس المبنى عليه في اللفظ ، وإلاّ لقيل : حثّت ، لا حثحث .
دَبره ... : بفتح الدال ، وسكون الباء ، واحده دَبْرة ، والدبر جماعة النحل .
محابيض ... : جمع محبض ، والأصل محابض ، أُشبعت الكسرة فتولّدت الياء للضرورة وقيل : جمع مِحباض ، بقلب الألف ياء كمفتاح ومفاتيح ، والمحبض خشبة يُستخرج بها العسل من كوَّته ، وقيل عود يكون مع مشتار العسل ، يُشير به النحل ، وجملة حثحث حال من الضمير في المبعوث .
أرساهن ... :أي أثبتهن ، والجملة صفة لمحابيض ,
سام ... : أي مرتفع ؛ لأن من شأن النحل أن يعسِل بعالٍ ممتنع ، وهو فاعل أرساهن .
معسل ... : أي طالب للعسل ، وهو نعت لسامٍ .
... مُهَرَّتَهٌ فوهٌ كَأَنَّ شُدوقَها شُقوقُ العِصِيَّ كَالِحاتٌ وَبُسلُ
مُهرتة ... : بالتاء الفوقية ، أي مشقوقة الفم / شقا واسعا ، وهو نعت لنظائر 16 أ(1/26)
... أو خبر لمبتدأ محذوف ، ضمير يعودإلى النظائر ، أي هي مهرتة .
فوه ... : جمع أفواه ، بمعنى واسع الفم ، فاللفظان متقاربان في المعنى ، ويجوز في هذين الوجهان الجاريان فيما قبله من لإعراب .
كأنّ شدوقها ... : أي أفواهها ، وهو جمع شدق في الكثرة ، ويُجمع في القلة على أشداق .
شقوق ... : جمع شَقٍّ .
عصيٍّ ... : بكسر أوله ، وتشديد ثالثه ، جمع عصا ، وشقوق العصي في غاية الإتِّساع ، وجملة كأنَّ وما عملت فيه نعت أيضا لنظائر ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في فوه ، لأنّ معناه واسعات الأفواه كما مرّ ، أي مشبهة شدوقها شقوق العصي .
كالحات ... : أي عابسات .
وبُسّل ... : أي كريهات المنظر ، وهو جمع باسل ، كفُجَّر وفاجر ، وكالحات نعت لفوه وبُسّل معطوف عليه .
... فَضَجَّ وَضَجَّت بِالبَراح كَأَنَّها وَإِيّاه نوحٌ فَوقَ عَلياءَ ثُكَّلُ
فضجَّ ... : أي ضجر الأزل .
وضجت ... : أي النظائر .
بالبراح ... : وهو بفتح الموحدة : المفازة الواسعة ، وهو ظرف للفعلين قبله .
كأنها ... : أي النظائر .
وإياه ... : أي الأزل ، وهو منصوب بالعائد على الضمير في كأنها .
نوح ... : بفتح النون ، جمع نائح ونائحة ، مثل تاجر وتجر ، ويجوز أن يكون مصدرا وُصِف به للمبالغة ، كقولك : قوم صوم ، وقوم فطر ، والتناوح في الأصل تقابل الأشجار ، قال الأصمعي : ومنه سميت النائحة ؛ لأنها تقابل صاحبتها ، وجملة كأن وما عملت فيه في محل نصب على الحال من الضمير في ضجّ وضجت جميعا / كما تقول: جاء زيد وعمرو كأنهما 16 ب
... أسدان ، أي مشبهين للأسد ، أو مقاربين ، أي جريئين .
فوق ... : ظرف ، كنوح ، أي كأنها وإياه تنوح على
علياء ... : أي علِّيّة مرتفعة ، تأنيث الأعلى .
ثكل ... : جمع ثكلى ، وهي المرأة الحزينة على فقد ولدها ، وهو نعت لنوح .
... وَأَغضى وَأَغضَت وَاِتَّسى وَاِتَّسَت بِهِ مَراميلُ عَزّاها وَعَزَّتهُ مُرمِلُ
وأغضى ... : أي الأزل .(1/27)
وأغضت ... : أي النظائر ، أي صبر كل منهما على فقد العون صبرا جميلا ، بعد كمال الجدّ في تحصيله ، وأصل الإغضاء غمض العين عند حالة الصبر ، سمي به الصبر مجازا ، من باب تسمية الشيء باسم ما يقاربه .
واتّسى واتّست به : بتشديد الموحّدة ، يُقال : اتّسأت به ، واتّسيت ، أي اقتديت ، كسبأت به وسبيت ، ويروى واتّسى بها واتّسى به بالتاء المثناة فوق مع التشديد ، والأصل فيه الهمزة ، فأُبدلت ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها من همزة الوصل ، ثم أُبدلت الياء تاء وأُدغمت في تاء الافتعال ، ويروى بالهمز في الفعلين من غير تشديد ، وهو أجود مما قبله ؛ لأنّ همزة الوصل لمَّا حذفت لحرف العطف عادت الهمزة الأصلية إلى موضعها لزوال المانع .
مراميل ... : جمع مرملة بضم الميم ، وهي التي لا زاد معها ، وأراد بها تلك النظائر ، وهو فاعل اتّست .
عزّاها ... : أي عزّى الأزل المرمل تلك النظائر المراميل ، أي حملها على الصبر ,
وعزّته ... : كذلك .
مرمل ... : مذكر مرملة ، وتقدّم معناها ، فقوله مراميل فاعل اتّست ، وقوله مرمل فاعل اتّسى / وقد تنازع وعزَّاها في مرامل ، فكل منهما يطلبه فاعلا 17أ والمعنى أنّ كل واحد من الأزل والنظائر بعد أنْ ضج وضجت أغضى وصبر عند فقد القوت ، وكل منهما تأسّى بالآخر في الصبر على فقد القوت ، وكل منهما عزّى الآخر ، وحمله على الصبر على فقد القوت بعد كمال الاجتهاد في تحصيله .
شَكا وَشَكَت ثُمَّ اِرعَوى بَعدُ وَاِرعَوَت وَلَلصَّبرُ إِن لَم يَنفَع الشَكوُ أَجمَلُ
شكا ... : أي ذلك الأزل من الشكوى ، وهي الضجر ، وعدم الصبر كأنه يشكو إلى الخلق ما أًصابه من المكروه .
وشكت ... : كذلك تلك النظائر .
ثم أرعوى ... : أي رجع ذلك الأزل عن شكواه .
بعد ... : أي بعد الشكوى ، فكلمة بعد مؤكدة لما أفادته كلمة ثم من التركيب .(1/28)
وارعوت ... : أي رجعت تلك النظائر عن شكواها ، وما قيل ثم فهم من قوله قبل : فضج وضجت ، وما بعدها فهم من قوله : وأغضى وأغضت ، وإنما أعادهما ليفيد تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى بقوله :
وللصبر ... : اللام لام القسم .
إنْ لم ينفع الشكو : هو مصدر كالشكوى .
أجمل ... : أي جميل بالقياس إلى الشكوى الغير النافعة ، إذ لا جمال فيها حتى يكون أفعل على بابه ، نعم قد يقال على سبيل الحقيقة أنّ الصبر أنفع من الشكوى النافعة ، وهي الشكوى إلى ذي مروءة ، المُشار إليها في قول الشاعر (1) :
... وَلا بُدَّ مِن شَكوى إِلى ذي مُروءَةٍ يُواسيكَ أَو يُسليكَ أَو يَتَوَجَّعُ
... والأول أعلى المراتب ، والثاني أوسطها ، والثالث أدناها ، والصبر مبتدأ
... / وأجمل خبره ، وجملة وإن لم ينفع الشكو معترضة بينهما ، وأكثر 17 ب ما يقع مثل ذلك بعد الجملة ، كقولك : أنت ظالم إنْ فعلت ، ومن حكم لم أنْ ترد الفعل المضارع إلى الماضي ، فإذا دخل عليها إنْ الشرطية بطل ذلك ، وغلب معنى الشرط المقتضي لاستقباله ، كما لو وقع بعد الشرط لفظ الماضي ، وجواب الشرط معنى الجملة ، وينفع مجزوم بلم ، لا بإنْ ، لأنّ لم قد ثبت عملها قبل دخول إن ، ولا يجوز التفريق بينها وبين معمولها ، فهي ألزم .
... وَفاءَ وَفاءَت بادِراتٌ وَكُلُّهَا عَلى نَكَظٍ مِمّا يُكاتِمُ مُجمِلُ
وفاء ... : أي رجع ذلك الأزل إلى مأواه بعد أن لم يجد قوتا .
وفاءت ... : أي رجعت تلك النظائر كذلك .
بادرات ... ... : أي سريعات ، ويروى باديات ، أي ظاهرات ، وهو حال من الضمير في فاءت .
وكلها ... : أي كل فريق من فريقي الأزل والنظائر .
على نكظ ... : بنون وكاف وظاء مشالة أي شدة جوع، يقال : نكظته بشر إذا أصابه به وقد يطلق النكظ على العجلة والسرعة ، وليس مرادا هنا لفهمه من قوله بادرات ، وأيضا لا يناسب ما بعده كما لا يخفى .
__________
(1) من الطويل ، لبشار بن برد ، ديوانه / الموسوعة الشعرية .(1/29)
مما يكاتم ... : أي يكتم ، ويُخفي ، وعبّر بصيغة التفاعل مبالغة في كمال حصول الفعل ، وما إمَّا موصولة اسم ، أو نكرة موصوفة ، أو مصدرية ، أي من الذي يُكاتمه ، أو من شيء يُكاتمه ، أو من مكاتمته وإخفائه ، وعلى كل تقدير ، فالظرف متعلق بقوله
مجمل ... : أي آت بصبر جميل ، وكل مبتدأ ، ومجمل خبره ، وأفرده حملا على لفظ كل ، كما مرّ ، ثم أخذ يترقى في وصفه بكمال السرعة ، وتمام الجد في تحصيل الرزق / حيث شبه نفسه أولاً في ذلك ، بازل موصوف بما 18 أ تقدم في شبهها ثانيا في ذلك بالقطا الموصوف بما يأتي ، ولا شكّ أن القطا أسرع من الأزل بأضعاف ، فقال :
... وَتَشرِبُ أَسآرِيَ القَطا الكُدرُ بَعدَما سَرَت قَرَباً أَحناؤُها تَتَصَلصَلُ
وتشرب أسأري ... : جمع سؤر ، وهو ما بقي بعد شرب الحيوان ، يقال : أسأرت في الإناء إذا أبقيت فيه بعد شربك منه بقيّة .
القطا ... : اسم جنس من الطير ، واحده قطاة .
الكدر ... : جمع أكدر أو كدر ، أي المغبرة بلون التراب ، والقطا فاعل تشرب ، وأسآر مفعوله ، بتقدم المفعول وتأخير الفاعل ، والكدر بالنصب نعت لأسآري .
بعد ما سرتْ ... : أي سارت ليلاً لطلب الماء ، والظرف متعلق بتشرب .
قِربا ... : بفتح أوليه ، ورود الماء ، يقال : قربت الماء أقربه قربا ، إذا وردته ، وليلة القرب ليلة ورود الماء وهو إمَّا مغعول له ، فالعامل فيه سرت ، أو حال من القطا ، والعامل فيه تشرب .
أحشاؤها ... : جمع حشى ، وهو ما احتوت عليه البطن كالأمعاء والقلب والكبد والطحال ويروى أحناؤها جمع حنو ، أي جوانبها .
تتصلصل ... : أي تصوت ليبسها من شدة العطش ، ومنه الصلصال للفخار ؛ لأنه يصوت ليبسه ، ويقال حمار صلصال ، إذا صفي صوته تشبيها له بما ذكر ، وأحشاؤها مبتدأ ، وجملة تتصلصل خبره ، وجملة المبتدأ والخبر حال من الضمير في سَرَت ، ويجوز جعلها حالا من الضمير غي قِربا إن جعلتها حالا.
... هَمَمتُ وَهَمَّت وَاِبتَدَرنا وَأَسدَلَت وَشَمَّرَ مِنّي فارِطٌ مُتَمَهَّلُ(1/30)
هممت ... : أنا ، أي عزمت على ترك المسير إلى الورود .
وهمّت ... : أي القطا بذلك أيضا / لعجز عرض لكل واحد منا لطول المسافة 18ب
وابتدرنا ... : أي ابتدر كل واحد منا إلى المسير بعد ذلك ؛ لداعي شدة العطش .
وأسدلت ... : أي أرخت القطا أجنحتها ، وتراخت عني في السير ؛ لكمال عجزها بعد ابتدارنا له .
وشمَّر ... : أي أسرع واجتهد .
مني فارط ... : أي متقدم إلى الورود ، وفارط القوم في السفر ، ويقال له فرط أيضا مَنْ يتقدمهم ؛ ليصلح لهم المواضع التي يقصدونها ، ويُهيئوها لهم .
متمهل ... : أي متروٍ في طلب الورود ، وآخذ في السير إليه على بصيرة ، وما بعد هممت من الأفعال معطوفة عليه ، وفارط فاعل شمّر ، ومني حال منصوب ، متمهل نعت لفارط ، وفي قوله : شمر مني فارط تجريد ، وهو أن يُنتزع من شخص ذي صفة شخص آخر موصوفا بتلك الصفة ؛ لكمالها فيه ، وهاهنا قد انتزع من نفسه فارطا يتقدمه إلى الورود بكمال صفة السرعة إلى الورود فيه ، ثم التجريد قد يقع بمِنْ كما هنا ، وقد يقع بفي ، كما في قوله تعالى : [لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ] (1) ، وقد يقع بغير ذلك ، وتفصيل ذلك في فنِّ البيان ، والمعنى أنّ كلاًّ مني ومن القطا قصّر في الورود ، غير أني كنت أسبق إليه .
... فَوَلَّيتُ عَنها وَهَي تَكبو لِعَقرِهِ يُناشِرُهُ مِنها ذُقونٌ وَحَوصَلُ
فولّيت عنها ... : أي القطا بعد ورودي ، وقبل ورودها .
وهي تكبو ... : أي تتساقط .
لعقره ... : أي الحوض المعلوم من السياق ، كما في قوله : [حَتَّى تَوَارَتْ ـ أي الشمس ـ بِالْحِجَابِ] (2) ، واللام بمعنى إلى ، أو عند ، أي تتساقط إلى ما يقرب من عقره ، والعقر مقام الساقي من الحوض ، وقيل مؤخر الحوض .
يُناشره ... : / بالنون ، أي ينشر عليه ، ويروى يباشره بالباء ، أي يتصل به. 19أ
منها ... : أي من القطا .
ذقون ... : جمع ذقن ، بفتح أوليه ، وهو من الحيوان موضع اللحية من الإنسان .
__________
(1) فصلت 28
(2) سورة ص 32(1/31)
وحوصل ... : اسم جنس ، واحده حوصلة ، كجندل وجندلة ، وهي موضع الطعام والشراب من الطائر ، بمنزلة البطن من الإنسان ، وعنها متعلق بولّيت ، وجملة وهي تكبو إمَّا حال من الضمير في ولّيت ، والرابط الواو فقط ، وإمَّا حال من الضمير في عنها ، والرابط الواو والضمير معا ، ولعقره متعلق بتكبو ، وجملة يُناشره منها ذقون وحوصل حال من الضمير في تكبوا ومنها حال من ذقون وحوصل ، وسوّغ مجيء الحال من النكرة تقدم الحال عليها ، والضمائر في منها ، وعنها ، وهي ترجع إلى القطا ، ومعنى البيت أني صدرت قبل صدورها ، كما وردت قبل ورودها .
... كَأَنَ وَغاها حَجرَتَيهِ وَحَولَهُ أَضاميمُ مِن سِفرِ القَبائِلِ نُزَّلُ
كأنَّ ... : أداة تشبيه .
وغاها ... : بالواو والغين المعجمة ، ويقال : وحاها ، بواو وحاء مهملة ، أي أصواتها في العلوِّ والكثرة .
حجرتيه ... : أي في ناحية الحوض .
وحوله ... : أي في جميع جوانبه .
أضاميم ... : جمع إضمامة ، وهم القوم ينضم بعضهم إلى بعض في السفر ، كأنّ أصواتها أصوات أضاميم ، على حذف مضاف ؛ لأنه إنما يُشبه أصواتها بأصوات الأضاميم ، لا بنفس الأضاميم .
من سفر القبائل ... : السفر اسم جمع لسافر بمعنى مُسافر ، كركب ، والقبائل جمع قبيلة ، وهم طائفة من العرب / يجمعهم أصل واحد ، كهذيل ، وتميم ، والأسباط 19 ب في العجم كالقبائل في العرب ، ويروى سفل القبائل باللام ، أي مُؤخّرهم .
نزل ... : أي مقيمون ، جمع نازل بالنون ، كفاجر وفُجَّر ، وخصّهم بالنزول لأن الأصوات إنما تعلو وتكثر حالة النزول لداعي الحطِّ ، أو الترحال ، وحجرتيه منصوب على الظرفية ، والظرف متعلق بمحذوف حال من وغاها ، أو العامل فيه كأنّ لِما فيها من معنى التشبيه ، والحال كالظرف يكفيه رائحة الفعل ، أي كأنّ وغاها كائنا في جانبيه ، وقوله : وحوله ، معطوف عليه ، وإعرابه كإعرابه ، ومن سفر القبائل نعت لأضاميم ، وكذلك نزّل .(1/32)
... تَوافَينَ مِن شَتّى إِلَيهِ فَضَمَّها كَما ضَمَّ أَذوادَ الأَصاريمِ مَنهَلُ
توافين ... : أي أتين ، والضمير للقطا .
من شتى ... : أي من جهات متفرقة ، جمع شتيت .
إليه ... : أي الحوض .
فضمّها ... : أي جمع ذلك الحوض تلك القطا ، والمعنى اجتمعت من أجل وروده ، فإسناد الفعل إلى سببه .
كما ضم أذواد ... : جمع ذود ، وهو ما بين الثلاثة والعشرة من الإبل .
الأصاريم ... : جمع أصرام ، وهو جمع صرم ، وهو بكسر الصاد المهملة ، القطعة من الإبل .
منهل ... : وهو بفتح الميم ، وإسكان النون ، وفتح الهاء : عين ماء تُورَد ، وجملة توافين مستأنفة ، والكاف اسمية صفة لمصدر محذوف ، وما مصدرية ، والمعنى فضم ذلك الحوض تلك القطا ضما ، مثل ضم المنهل أذواد الأصاريم
... فَعَبَّت غِشاشاً ثُمَّ مَرَّت كَأَنَّها مَعَ الصُبحِ رَكبٌ مِن أُحاضَةَ مُجفِلُ
فعبّت ... : أي شربت القطا الماء بكثرة ، كأنها تصبه في حلوقها صبا ، وفي الحديث [ مصّوا الماء ولا تعبوه / عبا ، فإن الكِِباد من العبِّ ] (1) ، وقيل العبّ 20 أ المتابعة في الشرب كأنها تصبه في أجوافها ، والمعنيان متقاربان .
غشاشا ... : أي شيئا قليلا بالنسبة لما يقتضيه حالها ، وإن كان شربها كثيرا في نفسه فلا منافاة ، وقيل : غشاشا : على عجلة وفوضى ، والعبّ : الجرع ، وغشاشا على الأول مفعول به ، وعلى الثاني حال من الضمير في عبّت .
ثم مرت ... : أي صدرت القطا عن الورود .
كأنها ... : أي تلك القطا .
مع الصبح ... : أي طلوع الفجر .
ركب ... : اسم جمع لراكب ، وهو خاص بركب الإبل .
مِن أُحاظة ... : وهو بضم الهمزة ثم حاء مهملة ، ثم ظاء مشالة ، قبيلة من الأزد ، قال محمد بن يزيد : ولم أسمع باسمها إلاّ في الشِّعر ، وهذه القبيلة مشهورة بسرعة السير .
__________
(1) كشف الخفاء 15/295 ، والكِباد داء يصيب الكبد .(1/33)
مجفل ... : أي مسرع ، وجملة كأن وما عملت فيه حال من الضمير في مرّت ، أو من الضمير في غِشاشا على إرادة المعنى الثاني ، وقوله مع الصبح متعلّق بمرّت ، يريد أنها وردت على عجل ، وصدرت مع الفجر في بقايا من ظلمة.
... وَآلَفَ وَجهَ الأَرضِ عِندَ افتِراشِها بِأَهدَأ تُنبيهِ سَناسِنُ قُحَّلُ
وآلف وجه الأرض : هو مغعول آلف ، كما تقول : آلفت زيدا .
عند افتراشها ... : أي وقت افتراشي إياها ، على أنّ عند ظرف زمان ، لا مكان ، وإن كان الغالب مجيئها ظرف مكان ، وأنّ المصدر مضاف للمفعول بعد طي الفاعل ، يقال : افترش الشيء إذا جعله فراشا ، وقوله : وآلف من باب حكاية الحال الماضية ، والأصل وآلفت ، فنزل الأمر الواقع في الماضي منزلة الواقع في الحال ، يشاهده / السامعون ، ويقضون منه العجب ، كما في قوله 20 ب تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] (1) وإنما يفعل ذلك لما فيه غرابة ، أو فظاعة ، فلا تقول : هو الذباب يطير ، مكان طار ، حكاية للحال الماضية ، إذ لا غرابة في ذلك ، ولا فظاعة ، فإن قلت : المضارع في الآية السابقة على أصله من الاستقبال ؛ لأن هذه الحالة إنما هي في القيامة ، قلت : نزلت الرؤية الواقعة في المستقبل منزلة الماضي الحال استحضار للصورة .
بأهدأ ... : أي بمنكب أهدأ ، أتى مُنحنٍ ، أو شديد ، يقال به هدأ ، إذا كان فيه انحناء أو شدة ، والظرف حال من الضمير في آلف ، والتقدير : وآلف وجه الأرض حال كوني مُلقيا بمنكبي .
تثنيه ... : بثاء مثلثة ، ثم نون ، ثم مثناة تحتية ، أي ترفعه عن الأرض ، ويروى تثييه بيائين تحتيتين بعد المثلثة ، أي تكفه عن لزوم الأرض .
سناسن ... : جمع سنسٍ وهو بكسر السينين المهملتين ، مغارز الأضلاع ، وهو فاعل تثنيه ، والجملة نعت لأهدأ .
__________
(1) السجدة 12(1/34)
قحل ... : بضم القاف ، وفتح الحاء المهملة وتشديدها ، أي يابسات ، وهو جمع قاحل ، ونعت لسناسن ، يريد أنه حين ينام يفترش الأرض ، ويلقي منكبه ، وأنّ مفارز أضلاعه ترفعه عن الأرض ، وتكفّه عن لزومها ؛ لقلة لحمه ، والقصد من هذا وصف جسمه بالنحافة ، ونفسه بعلم الرفاهة .
... وَأَعدِلُ مَنحوضاً كَأَنَّ فُصوصَهُ كِعابٌ دَحاها لاعِبٌ فَهيَ مُثَّلُ
وأعدل ... : أي أنصب ، وهو معطوف على آلف ، قصد به / أيضا حكاية الحال 21أ
... الماضية .
منحوضا ... : أي ذراعا قليل اللحم ؛ فأتوسده ، مِن نحَضَه المرض إذا أنهك جسمه .
كأن فصوصه ... : أي مفاصل عظامه .
كعاب ... : جمع كعب ، وأراد بها ما يُلعب به من العظام .
دحاها ... ... : بسطها (1) ، شبه تلك الفصوص في ظهورها ، وقلة لحمها بكعاب ضُرب بها فمثلت ، وانتصب ، يريد من هذا أنّ له عظاما قليلة اللحم ، شديدة العصب ، قوية جدا ، ومنحوضا مفعول أعدل ، فكأنّ وما عملت فيه نعت لمنحوضا ، وجملة دحاها لاعب نعت لكعاب ، وجملة فهي مُثّل مستأنفة ، لأن الفاء يستأنف ما بعدها ، فلا محل لها من الإعراب .
فَإِن تَبتَئِس بِالشَنفَرى أُمُّ قَسطَلٍ لَما اِغتَبَطَت بِالشَنفَرى قَبلُ أَطوَلُ
فإن تبتئس ... : أي تلق بؤسا .
بالشنفرى ... : أي بسبب فراقه ، على أنّ الباء للسببية ، والمضاف محذوف ، وأراد نفسه ؛ لأن الشنفرى اسم للشاعر عُرِف ، فيه التفات على رأي السكاكي .
أمُّ قسطل ... : أي الحرب ، وهو فاعل تبتئس ، والقسطل الغبار ، كنيت بذلك لاشتمالها على ما تثيره الخيل من العَجاج ، وقيل : المراد من أم قسطل الفقيرة ، كأنه ليس عندها إلاّ التراب ، ومنه : [أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ] (2) ، أي ملصق يده بالتراب ، كناية عن فقدها للمال ، ويقال للرجل أغبر ، وللمرأة غبراء بهذا المعنى .
__________
(1) كتب : أي منتصاب جمع مائد ، وما أثبتناة من شرح المبرد للاميةالعرب .
(2) البلد 16 ، والذي كتب : أو فقير ذا متربة ، وما أثبتناه هو النص القرآني .(1/35)
لَمَا اغتبطت بالشنفرى قبل أطول : لما بفتح اللام ، وتخفيف الميم ، واللام جواب قسم محذوف ، وما إمَّا مصدرية ، والمصدر / مبتدأ وأطول خبره ، 21 ب والعائد محذوف ، واغتبطت فعل مبني للفاعل من الاغتباط ، وهو التبجح بالحالة الحسنة ، والتقدير على الأول : والله لاغتباطها بالشنفرى أطول ، وعلى الثاني : والله للذي اغتبطت به من أجل الشنفرى أطول ، وقوله : قبل أن تبتئس ، فحذف المضاف إليه ، ونوى ثبوت معناه ، فبنى قبل على الضم وهي إحدى حالات أربع لها ولأخواتها ، وقوله أطول أي أوسع زمنا ، والظرفان من قوله : بالشنفرى قيل متعلقان باغتبطت، وحُذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم المحذوف ، باللام كما هنا ، وكما في قوله تعالى :[ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ] (1) ، والبيت يتضمن وصفه بالشجاعة على إرادة المعنى الأول من أمّ قسطل ، ووصفه بالكرم على إرادة المعنى الثاني منه ، والأول مبني على تنزيل الحرب منزلة العاقل ، بحيث تلقى بؤسا بفراقه ، واغتباطا بوجوده ، حيث يقع فيها من آثار الشجاعة من القتل والضرب والهزم ما لا يقع من غيره في غيرها .
... طَريدُ جِناياتٍ تَياسَرنَ لَحمَهُ عَقيرَتُهُ لأَيَّها حُمَّ أَوَّلُ
طريد جنايات ... : أي مطرود ، جمع جناية ، وهي إتلاف ما للغير من نفس وعضوٍ ومال ، وغير ذلك بغير حق ، وإضافة طريد إلى الجنايات من إضافة المسبب إلى السبب ، لأن الجنايات سبب إلى الطرد .
تياسرن لحمه ... : أي اقتسمنه بسهام الميسر ، كأنّ الجنايات / ضربت عليه بقداح 22أ الميسر ، ويقال للضارب بها ياسر ، ويسر ، كما مرّ تحقيقه ، وجملة تياسرن لحمه نعت لجنايات ,
عقيرته ... : أي نفسه ، أو جثّته لأنهما اللذان يُعقران منه ، ففعيل بمعنى مفعول .
لأيّها ... : أي الجنايات ، والظرف خبر عقيرته .
__________
(1) الأنبياء 46(1/36)
حُمَّ ... : أي قُدّر ، والجملة نعت لأي ، وذكّر الضمير نظيرا للفظها .
أول ... : أي لأيها وقع أول شيء ، فحذف المضاف إليه ، ونوى ثبوت معناه ، وبناء المضاف على الضم كما تقدم تقريره في نظيره ، والمعنى أنّ له جنايات كثيرة ، لأقوام كثيرين ، وأنّهم يتنازعون قتله ، كأنهم يضربون على لحمه قداح الميسر ، ونسبة التياسر إلى الجنايات مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب ، على حدّ قوله تعالى : [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ] (1) .
... تَنامُ إِذا ما نامَ يَقظى عُيونُها حِثاثاً إِلى مَكروهِهِ تَتَغَلغَلُ
تنام ... : أي تلك الجنايات ، بمعنى أربابها ، ويروى تبيت .
إذا ما نام ... : بزيادة ما ، والضمير للشنفرى .
يقظى ... : مؤنث يقظان ، من اليقظة ضد النوم .
عيونها ... : فاعل يقظى ، والجملة حال من الضمير في تنام .
إلى مكروهة ... : أي ما يكرهه الشنفرى من القتل ، والظرف متعلق بقوله يتغلغل ، أي تدخل في طلب مكروهة بمبالغة ، والمعنى أنّ أهل الجنايات لا تقصّر في طلبه ، وإنْ قصّر غيرهم ، والمقصود من هذا كله نعته بكمال الشجاعة ، وتمام الجرأة .
... وَإِلفُ هُمومٍ ما تَزالُ تَعودُهُ عِياداً كَحُمّى الرَبعِ أَو هِيَ أَثقَلُ
وإلف هموم ... : جمع هم ، وهو ما يزعج النفس ، ويقلقها / من المكروه ، أي 22 ب مُعتادها ، فكأنها ألفته وأحبته ، أو ألِفها وأحبّها ، على أنّ فِعْل إمَّا بمعنى مفعول ، أو بمعنى فاعل .
ما تزال ... : الهموم .
تعوده ... : أي تَرِد عليه المرة بعد الأخرى ، كما يُعاد المريض .
عِيادا ... : هو اسم مصدر لعاد ، والمصدر العود ، ويجوز أن تكون مصدرا مثل القيام والصيام .
كحمى الربع ... : الكاف اسمية صفة لمصدر محذوف ، أي عيادا مثل عياد حمى الربع ، والحمى مرض يورث البدن سخونة وبرودة منشؤه تعفن الأخلاط ، وحمى الربع هي التي تأتي يوما ، وتقلع يومين ، وتأتي في الرابع ، وخصّها بالذكر لكثرة ورودها ، وبُطئ انتقالها بخلاف حُمى الوِرد والغبّ .
__________
(1) البقرة 16(1/37)
أو هي ... : أي بل تلك الهموم .
أثقل ... : أي أشد عنده من حمى الربع ، فأو للإضراب ، كما في قوله تعالى : [ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ] (1) ، أي بل يزيدون ، وقوله : وإلف هموم : معطوف على طريد جنايات ، وجملة ما تزال تعوده نعت لإلف ، أو الهموم ؛ لاشتمالها على ضمير كل منهما ، وعيادا مفعول مطلق مُبيّن للنوع لوصفه بما بعده .
... إِذا وَرَدت أَصدَرتُها ثُمَّ إِنَّها تَثوبُ فَتَأتي مِن تُحَيتٍ وَمِن عَلُ
إذا وردتْ ... : أي أتت تك الهموم عليّ كما ترد الماشية الماء ، وفيه أنّ ورودها عليه اضطراري .
أصدرتها ... : أي أبعدتها كما تصدر الماشية عن الماء ، وفيه أنّ إصدارها باختياره .
ثمّ إنّها ... : أي الهموم بعد إصدارها لا تستمر على البعد ، بل
تثوب ... : أي ترجع .
فتأتي من تُحيت ... : أي من تحتي على حذف المضاف ونية ثبوت معناه ، والتصغير هاهنا لتقريب / المسافة المكانية ، كآتيك بُعيد العصر ، لتقريب المسافة23أ الزمانية ، ومن علُ ، أي من فوقي ، مفعول به ما فُعِل بالظرف قبله ، والمراد أنها تأتيه من سائر الجوانب ، تسمية للكل باسم البعض ، واكتفى بذكره عن ذكر الباقي ، وإنّ بعد ثم مكسورة ؛ لأنها مستأنفة ، كما في قوله تعالى : [ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ] (2) ، والظرفان يتعلقان بتأتي ، وعل محذوفة اللام ؛ لأنها من العلو ، وهذا البيت كالتأكيد لمعنى البيت قبله . ...
... فَإِمّا تَرَيني كَاِبنَةِ الرَملِ ضاحِياً عَلى رِقَّةٍ أَحفى وَلا أَتَنَعَّلُ
__________
(1) الصافات 147
(2) الزمر 31(1/38)
فإمَّا تريني ... : ألنون للوقاية ، والياء مفعول به ، والفاعل ضمير المؤنثة ، كأنه يخاطب محبوبته ، وإنْ شرطية ، زيدت عليها ما للتأكيد ، والفعل مجزوم بإنْ ، وأكثر ما يأتي هذا الفعل مؤكدا بالنون خلاف ما هنا ، كقوله تعالى : [فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ] (1) ، بل لم يقع في القرآن إلاّ كذلك ؛ لأنّ الأنسب لزيادة ما أن يكون الفعل مؤكدا ؛ ليكون التأكيد والمبالغة في التقوية .
كابنة الرمل ... : أي مشبها لها ـ، فهو حال من الياء في تريني ، وابنة الرمل قيل : هي الحية ، وقيل البقرة الوحشية ، وقيل : بنات الرمل هي الحيَّات ، وما أشبهها من سواكن .
ضاحيا ... : أي بارزا للحر والقر ، وهو حال من الياء أيضا ، أو من الضمير في كابنة الرمل ، أو من الضمير في ضاحيا ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الفعل من قوله :
أحفى ... : أي أمشي حافيا ، لا نعل برجلي ، فقوله :
ولا أتنعل ... : أي ألبس نعلاً / برجلي ، توكيد، ويروى ولا أتسربل ، أي ألبس 23ب سربالا ، يصف نفسه بالحفى والعري ، وعليه فالعطف مغاير ، والمقصود من قوله : ضاحيا إلى آخر البيت بيان وجه الشبه بينه وبين ابنة الرمل ، أي مثلها في البروز للحر والقر ، والكون على رقة وحفىً ، أو معه عري ، وجواب الشرط هو مدخول الفاء في أول البيت الذي يليه ، ففي هذا البيت التضمين ، وقد تقدم معناه في بعض سوابقه .
... فَإِنّي لَمَولى الصَبرِ أَجتابُ بَرَّهُ عَلى مِثلِ قَلبِ السِمعِ وَالجَزمَ أَفعَلُ
فإني لمولى الصبر : أي وليُّه ، الحقيق به ، والصبر توطين النفس على المشاق ، وعدم الجزع عند إصابة المكروه ، وهو من الأوصاف الحميدة ، والخصال المجيدة.
أجتاب ... : من جببت القميص قطّعته .
بَرَّه ... : بفتح الباء الموحدة ، أي مفاوزه .
على ... : قلب .
__________
(1) مريم 26(1/39)
مثل قلب السِّمع ... : بكسر السِّين المهملة ، أي ولد الذئب من الضبع ، يُضرب به المثل في الجلادة وقوة القلب ، وذلك وجه الشبه ، وأمَّا ولد الضبع من الذئب فيسمى عِسبارة ، والظرف حال من الضمير في أجتاب الصبر حال كوني شديد العطش .
والجزم ... : أي الاحتياط في المرء .
أفعل ... : أي أبني أفعالى على الجزم والاحتياط ، فالجزم بالنصب مفعول أفعل قُدِّم عليه .
... وَأُعدِمُ أَحياناً وَأَغنى وَإِنَّما يَنالُ الغِنى ذو البُعَدةِ المُتَبَذَّل
وأُعدِم ... : أي أفتقر ، والعُدم ضد الوُجد ، وهو من أعدم الرجل إذا صار ذا عدم ، كأجرب الرجل إذا صارت إبله جربى ، وعدم متعدٍ ، وهذا من النادر ، إذ الغالب في أفعل التعدية ، وفي فعل اللزوم ، ونظيره كبَبْتُه فأكب ، وقيل عدم / الرجل وأعدم بمعنى واحد ، وعلى هذا فعدم تارة تستعمل لازما ، 24 أ وتارة متعديا .
أحيانا ... : أي في أوقات قليلة ، جمع حين ، وهو ظرف لأعدم .
وأغنى ... : أي أستغني في أوقات كثيرة .
وإنما ... : هي أداة حصر ، يليها المحصور ، ثم المحصور فيه ، فما بعدها بمنزلة ما قبل إلاّ ، وما بعده بمزلة ما بعد إلاّ ، واختلفوا فيها ، فقيل : تفيد الحصر بالمنطوق ، وقيل : بالمفهوم .
ينال الغنى ... : أي كثرة المال .
ذو البُعدة ... : بضم الباء الموحدة ، أي صاحب الهمة العالية ، يريد أنّ مَنْ كان عالي الهمة ، والبعدة روي بكسر الباء على أنه اسم للحالة التي هو فيها ، وروي بضمها على أنه مصدر للمرة .
المتبذل ... : اي الذي بذل نفسه للأسفار ، طلبا للغنى ، والمعنى أني أفتقر في أوقات قليلة ؛ لكرمي ، وأستغني في أوقات كثيرة ؛ لعلو همتي .
... فَلا جَزعٌ مِن خَلَّةٍ مُتَكَثَّفٌ وَلا مَرحٌ تَحتَ الغِنى أَتَخَيَّل
فلا ... : أنا .
جزع ... : بكسر الزاي ، أي متضجّر فاقد للصبر .
مِن ... : أجل عروض .
خلّة ... : أي فاقة .
متكشّف ... : أي مطلع الناس على خلتي ، ومظهر لهم خفي أمري .
ولا مرح ... : بكسر الراء ، أي معجب بنفسي .(1/40)
تحت الغنى ... : أي في حالة حصوله ، وهو ظرف لمرح .
أتخيّل ... : أي أتيه على الناس وأتكبَّر ، وفي الحديث : ( إنّ الله يبغض الزاني والغني المختال )، يري أنه لا تزعجه الضراء ، ولا تستخفه السراء ، بل حالة الفقر عنده كحالة الغنى في العفة والثبات ، ولعمري إنّ هذه لحالة الكمال من الرجال .
... وَلا تَزدَهي الأَجهالُ حِلمي وَلا أُرى سؤولاً بِأعقابِ الأَقاويلِ أَنمُلُ
ولا تزدهي ... : / أي تستخفف ، يقال : ازدهى الرجل إذا خفّ عقله من كِبَر ، أو 24ب كثرة مال .
الأجهال ... : جمع جهل بمعنى الحمق ، والمراد أربابها ، وجمعه كذلك ، لغة شاذة ، والقياس في جمعه جهول بضم أوليه ، كضرب وضُرَوب ، وقال بعضهم : هو جمع جاهل .
حلمي ... : بكسر الحاء المهملة ، أي عقلي ، ويجمع على أحلام ، أي لا تستخفني الأجهال ؛ لكمال عقلي ، على معنى أنه يأخذ بقضيّة عقله السليم ، ولا يعتبر بأقوال السفهاء الأحلام على خلاف ذلك .
ولا أُرى ... : بضم الهمزة ، وفتح الراء ، مبنيا للمجهول ، أي لا أُبصر ، أو لا أعلم .
سؤولا ... ... : أي كثير السؤال ، أي لا يمكن مني سؤال أصلاً ، ولا كثرته ، فالنفي للقيد والمقيّد جميعا ، كما في قوله تعالى : [وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ] (1) ، وقد أوضحنا ذلك في رسالتنا القول الشافي في بيان القيد والنافي ، وهو حال من الضمير في أُرى على التقدير الأول ، ومفعول ثاني لأُرى على التقدير الثاني.
بأعقاب الأقاويل : أي أطراف الأحاديث ، كما روي كذلك ، والظرف متعلق بقوله :
أَنمل ... : أي أنمُّ ، والنميمة نقل كلام الغير إلى الغير على وجه الفساد ، وهي صنعة ذميمة ، جاء الشرع بتحريمها ، بل بنظمها في لك الكبائر ، ففي الحديث : ( لا يدخل الجنة فتان ) أي نمام ، يقال : رجل نمام ، بضم النون وفتحها ، النميمة أيضا .
... وَلَيلَةِ نَحسٍ يَصطَلِيَ القَوسَ رَبُّها وَأَقطُعَهُ اللاتي بِها يَتَنَبَّلُ
__________
(1) فصلت 46(1/41)
وليلة نحس ... : أي برد ، والمضاف مجرور بربّ مضمرة ، وقيل بالواو .
يصطلي ... : / أي يتدثّر . ... ... ... ... ... ... ... ... 25أ
القوس ... : هي التي تُرمى بها السهام ، وهو مفعول يصطلي .
ربّها ... : أي صاحبها ، وهو فاعله .
وأقطعه ... : جمع قطع ، سهم عريض النصل ، وهو معطوف على القوس ، والضمير للرب ، والجملة نعت لليل .
اللاتي بها ... : أي بتلك الأقطع ، والظرف متعلق بقوله :
يتنبل ... : أي يختارها لرميه ، وإذا اصطلى الأعرابي قوسه ، فليس وراء ذلك في الشدة شيء ، وجملة يتنبل خبر عن اللاتي ، وجملة المبتدأ والخبر صفة لأقطعه ، وربّ متعلق بدعست في البيت بعده ، ففي هذا البيت التضمين ، وقد مرّ الكلام عليه .
... دَعَستُ عَلى غَطشٍ وَبَغشٍ وَصُحبَتي سُعارٌ وَإِرزيزٌ وَوَجرٌ وَأَفكُلُ
دعست ... : أي دفعت بشدة وإسراع ، وسرت كذلك للإغارة على أعدائي .
على غطش ... : وهو بفتح الغين المعجمة ، وإسكان الطاء المهملة ، وشين معجمة ، الظلمة (1)
وبغش ... : المطر الخفيف ، ومنه أرض مبغوشة ، إذا كانت ممطورة .
وصحبتي ... : أي أصحابي .
سعار ... : بضم العين المهملة ، وعين ، وراء مهملتين ، بينهما ألف : حرّ يجده الإنسان في جوفه من شدة البرد .
وإرزيز ... : بكسر الهمزة ، وإسكان الراء ، وكسر الزاء ، وإسكان المثناة التحتية ،هو إمَّا من الإرتزاز ، وهو الثبوت ، وطول القعود ، يريد أنْ يجمد في مكانه من شدة البرد ، وإمَّا من الرزيز ، براء مكسورة مشددة ، وزاي مشددة أيضا ، وهو صوت أحشائه من الشدة .
ووجر ... : وهو بواو مفتوحة ، ثم جيم ساكنة ، ثم راء ، شدة الخوف ، يقال : وجر فلان من فلان إذا خافه خوفا شديدا .
__________
(1) الظلمة غير موجودة ، وهي من شرح المبرد على لامية العجم ، والمصنف هنا خلط الغطش مع البغش فقال : .... وشين معجمة الطير [ هكذا ] الخفيف ومنه أرض مبغوشة ....(1/42)
وأَفكل ... : بهمزة مفتوحة / ثم فاء ساكنة ، ثم كاف مفتوحة ثم لام : الرعدة الشديدة وصحبتي مبتدأ ، وما بعده خبره ، والجملة حال من فاعل دعست ، والمعنى إني أسير للإغارة على أعدائي بسرعة وشدة ، حال لا يردني راد ، ولا يصدني عنه صاد ، يصف نفسه بكمال الشجاعة ، ونهاية الصبر ، وتمام علو الهمة .
... فَأَيَّمتُ نِسواناً وَأَيتَمتُ آلَدَةً وَعُدتُ كَما أَبدَأتُ وَاللَيلُ أَليَلُ
فأيمت نسوانا ... : أي أرملتهن بقتل أزواجهن ، والمرأة الأيم هي التي لا زوج لها ، يقال : فلانة أيِّمَة ، بيِّنةُ الأَيَمة ، وهو معطوف على دعست ، ومفرع عليه .
وأيتمت إلدة ... : أصلها ولدة ، بضم الواو وكسرها ، أي أولادا صغارا بقتل آبائهم ، وإِلدة بكسر الهمزة وضمها ، قلبت واوها همزة .
وعدتُ ... : أي رجعت .
كما أَبدأتُ ... : أي ذهبت لم يعرض لي شيء من المكروهات والكاف اسمية صفة لمصدر محذوف ، وما مصدرية ، أي عدت مثل إبدائي .
والليل أليل ... : أي ثابت الظلمة مُستحكمها ، لم يَشُبْه شيء من ضياء الصباح ، والجملة حال من التاء في عدت ، والمعنى عدت ليلا كما ذهبت ليلا ، وهذه الحال في الحقيقة لوجه الشبه ، والعرب إذا أرادت وصف الشيء بالتمام في معناه اشتقت من اسمه اسما آخر ، وشفعته به ، فيقولون ليل أليل ، ونهار أنهر ، وشهر أشهر ، ودهر أدهر ، وظل أظلل ، وغير ذلك .
... وَأَصبَحَ عني بِالغُمَيصاءِ جالِساً فَريقانِ مَسؤولٌ وَآخَرُ يَسأَلُ
وأصبح عني بالغميصاء : بالغين المعجمة ، والصاد المهملة ، مصغر ، اسم / موضع 26أ
... من نجد .
جالسا ... : أي آتيا الجلس، بفتح الجيم ، وإسكان اللام ، اسم لنجد ، يقال : جلس فلان : إذا أتى الجلس .
فريقان ... : من الناس ، أحدهما ممن له خبرة بي
مسؤول ... : عني
وآخر ... : ممن ليس كذلك(1/43)
يسأل ... : عني ، ففريقان اسم أصبح ، وجالسا خبرها ، وقيد بالصباح ؛ لأن السؤال المذكور إنما يقع غالبا في النهار ، أو أراد معنى صار ، فلا يتقيد بوقت من ليل أو نهار ، وعنّي متعلق بمحذوف يفسره مسؤول ويسأل على طريق التنازع ، وليس معمولا لمسؤول ويسأل المذكورين ؛ لأنه صفة لفريقان ، والصفة لا تتقدم على الموصوف ، فكذلك معمولها ، كقوله تعالى : [ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ] (1) ، وقُدِّر ذلك لئلا يلزم تقديم معمول الصلة على الموصول ، وبالغميصاء متعلق بجالس ، لا بيسأل ومسؤول ، لما تقدم ، ويجوز أن يكون بالغميصاء خبر أصبح ، وجالسا حالا من الضمير فيه جاءت لازمة لأنها لغميصاء ، كما تقدم موضع من نجد فالكائن فيه كائن بنجد لزوما ، وأفرد جالسا على التقديرين من إقامة المفرد مقام المثنى ، كما قال الآخر (2) :
... ... ... وَكَأَنَّما في العَينِ حَبَّ قَرَنفُلٍ أَو سُنبُلاً كُحِلَت بِهِ فَاِنهَلَّتِ
... مكان كحلتا به فانهلتا ، كما أقيم المثنى مقام المفرد في نحو قول الآخر :
فَإنْ تَزْجُراني يا ابنَ عَفَّان أَزْدَجِرْ (3)
... مكان : فإن تزجرني ، وخرّج بعضهم على ذلك قول امرئ القيس (4) :
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
__________
(1) يوسف 20
(2) من الكامل لعِلباء بن أرقم بن عوف بن سعد بن عجل بن عتيك بن يشكر بن بكر وائل. شاعر جاهلي كان معاصراً للنعمان بن المنذر. له شعر في الأصمعيات. ديوانه /الموسوعة الشعرية .
(3) صدر بيت من الطويل لسويد بن كراع العكلي ، والبيت بتمامه :
... ... فَإنْ تَزْجُراني يا ابنَ عَفَّان أَزْدَجِرْ وإنْ تَتْرُكاني أحْمِ عِرْضاً مُمنَّعا
(4) صدر بيت من الطويل ، والبيت بتمامه :
... ... قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ(1/44)
... / مكان قف ، وقيل : الألف للتثنية ، وقيل : بدل من نون التوكيد 26ب الخفيفة ، ولا يجوز أن يكون فريقان فاعل بالظرف ، أعني الغميصاء لاعند مَنْ يشترط الاعتماد ، ولا عند غيره ؛ لأن أصبح فعل ناقص ، يقتضي اسما له وخبرا ، فإذا جُعِل فريقان فاعلا بالظرف لم يبق اسم لأصبح ، وامتناع هذا موضع اتّفاق ، والمعنى أنه لكثرة جناياته أصبح الناس يتناشدون عنه ، ويسأل بعضهم بعضا بالغميصاء من نجد طلبا للثأر .
... فَقالوا لَقَد هَرَّت بِلَيلٍ كِلابُنَا فَقُلنا أَذِئُبٌ عَسَّ أَم عَسَّ فُرعُلُ
فقالوا ... : معطوف على محذوف ، معطوف على دعست تقديره عليهم ، فنبحت كلابهم فقالوا :
لقد هرّت ... : اللام للقسم ، أي والله لقد نبحت .
بليل ... : أي فيه .
كلابنا ... : جمع كلب ، وهو حيوان يتخذ للحراسة ، ونحوها .
فقلنا ... : هو من جملة مقول القول السابق ، أي فذكرنا هذا الكلام ، وفهمنا بهذا الحديث .
أذئب عسَّ ... : أي طاف ، ومنه سمي العسس عسسا ؛ لطوفانه بالليل .
أمْ عسّ فرعُل ... : هو بالراء والعين المهملة ولد الضبع من الضبعان ، والأنثى فرعلة ، والجمع فراعل ، أي فهرّت الكلاب من أجل ذلك ، واعلم أنّ السؤال بالهمزة وأنم كما هنا إنما يكون ممن اعتقد وقوع أحد الأمرين ، وشكّ في نفسه ، فيسأل كذلك طالبا للتعيين ، فيُجاب إمَّا به إنْ كان مصيبا في اعتقاده وقوع أحد الأمرين ، وإما بتعينهما جميعا / إن كان مخطئاً فيه ، ومن الثاني 27 أ قوله صلى الله عليه وسلم لذي اليدين لمَّا سأله (1) :
__________
(1) الحديث كما جار في الراية في تخريج أحاديث الهداية 3/65 :
عن أبي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ : إمَّا الظُّهْرَ وَإِمَّا الْعَصْرَ ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَتَى جِذْعًا فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ، فَاسْتَنَدَ إلَيْهَا مُغْضَبًا ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، فَهَابَا أَنْ يَتَكَلَّمَا ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ ، أَمْ نَسِيتَ ؟ فَقَالَ : مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ قَالُوا : صَدَقَ ، لَمْ تُصَلِّ إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَسَلَّمَ ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ، قَالَ : { لَمْ أَنْسَ ، وَلَمْ تُقْصَرْ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا ، قَالَ : { كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ، قَالَ : قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ } .(1/45)
أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله : ( كل ذلك لم يكن ) أي لم يقع شيء من القصر والنسيان ؛ تخطئة له في اعتقاده وقوع أحد الأمرين ، ومن ثم قال له ذو اليدين بعد ذلك : بل بعض ذلك قد كان مناقضا للسلب الكلي بالإيجاب الجزئي ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( أحقّ ما قال ذو اليدين ) فقالوا : نعم ، فقام وأتى بركعتين أُخريين بانيا على ما تقدم ، وسجد للسهو ،ولا يلزم حينئذ عدم مطابقته قوله صلى الله عليه وسلم : كل ذلك لم يكن للواقع لأن المراد كلّ ذلك لم يكن في ظني واعتقادي ، وهذا خبر مطابق للواقع ، وقد حققنا ذلك أكمل تحقيق في رسالتنا كشف الرين عن حديث ذي اليدين ، وهذا بخلاف السؤال بالهمزة وأو ، كما تقول : أزيد عندك أو عمرو ، فإنه إنما يكون ممن تردد بين وقوع أحد الأمرين ، وعدم وقوع شيء منهما ، فالجواب إمَّا بنفي وقوعهما ، أو بإثبات وقوع أحدهما من غير تعيين ، بلا تخطئة للسائل أصلا ، ولو قال في الجواب : زيد عندي بالتعيين كان الجواب خطأ ؛ لأن السائل لم يسأل عن ذلك ، فلا يلتقى به ، فاعرف ذلك الفرق ، فإنه مما دقّ على لأفهام ، وخفي على أقوام ، والباء في بليل / تتعلق 27ب بهرّت ، وقوله : أذئب مرفوع بفعل محذوف يفسره عسّ ، فلا موضع لعسّ المذكور من الإعراب لأنه مفسره المحذوف كذلك ، وأم هنا منفصلة ، ويقال لها منقطعة أيضا ، وهي التي تليها جملة ، سمّيت بذلك لانفصال ما بعدها عما قبلها ، وانقطاعه عنه ، بخلاف المتصلة ، فهي يليها مفرد ، نحو : أزيد عندك أم عمرو ، وسميت بذلك لاتصال ما بعدها بما قبلها ، وارتباطه به ، وموضع الجملتين نصب بقلنا ؛ لأنهما محكيتان به .
تنبيه : الاستفهام من الله لا يكون إلاّ للتقرير ، أو التوبيخ ، ولا يكون الاستفهام إلاّعلى طريق الحكاية عن الغير ؛ لأنه تعالى عالم بكل شيء ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ، ولا في السماء .(1/46)
... فَلَم تَكُ إِلّا نَبأَةً ثُمَّ هَوَّمَت فَقُلنا قَطاةٌ ريعَ أَم رِيَعَ أَجدَلُ
فلم تك ... : أي توجد ، على أنها تامة ، والأصل يكن بالنون ، فحذفت تخفيفا ؛ لكثرة استعمال هذه اللفظة ، وإثبات النون جائز ، قال تعالى : [ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا] (1) فلا يجوز الحذف في يصون ويهون ؛ لأن ذلك لم يكثر كثرة يكون فشرط حذف النون من يكون أن يكون الفعل مجزوما ، وأن لا يليه ساكن ، فلا حذف في نحو يكون زيد قائما ، ولا في نحو [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا] (2) .
إلاّ نبأة ... : أي صوت ، وإلاّ هاهنا لا تغير الإعراب ، بل المعنى من النفي إلى الإثبات.
ثم هوّمت ... : الكلاب ، أي نامت ، أو سكتت ، فلم تنبح ، وروي هوّموا ، تفريده / 28أ لهم منزلة العقلاء لتمييزهم بين ما يضر وما ينفع .
فقلنا ... : من أجل ذلك .
قطاة ريع ... : أي أُخيف .
أم ريع أجدل ... : أي صقر ، يُسمى أجدل ؛ لجدالته وقوته ، والهمزة قبل قطاة مقدرة ، دلّ عليها وجود أم قرينتها في المعادل ، وقطاة مبتدأ ، وريع خبره ، ولم يؤنث الفعل إمَّا حملا للقطاة على الجنس ، فكأنه قال : أطائر ريع ، وإمَّا حملا على شذوذ حذف التاء ؛ لتقدم الاسم على الفعل ، كقول الآخر (3) :
... ... ... ... فلا مزنةٌ ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
... مكان أبقلت ، وأم هنا منقطعة أيضا . ...
... فَإِن يَكُ مِن جِنٍّ لَأَبَرحُ طارِقاً وَإِن يَكُ أُنساً ماكَها الأُنسُ تَفعَلُ
فإن يك ... : أي ذلك الطارق المريع .
من جنٍّ ... : وهم أمّة خلقهم الله من عنصر النار ، قادرون على التشكل بالأشكال الغريبة ، والتصر في الصور العجيبة .
__________
(1) الإنسان 1
(2) البينة 1
(3) من المتقارب ، وقد نسبه المبرد في الكامل ، ص 1109 / الموسوعة الشعرية لعامر بن جوين الطائي(1/47)
لأبرح ... : اللام للقسم ، وأبرح أي آتي بالبرحاء ، وهي الداهية ، وقيل : آتي بالبرح بفتح الراء ، وقد تسكن في ضرورة الشعر ، وهي الشدة ، قال الخطفي (1) :
... ... ما كنتُ أولَ مُشتاقٍ أضرَّ به ... ... برح النوى وعذاب فيه تقتين والأول أعرف وأشهر .
طارقا ... : منصوب على التمييز ، أو على الحال من ضمير أبرح ، وهو مَنْ يأتي أهله ليلا .
وإنْ يك إنسا ... : إعرابه كالذي قبله ، والأنس أُمَّة خُلقت من عنصر الماء والطين .
ما كها الإنس ... : ما حرف نفي ، والكاف حرف جر معناه التشبيه ، والهاء ضمير يرجع إلى الفعلة المذكورة ، ودخول الكاف على الضمير شاذ ، والجار والمجرور / يتعلق بقوله : 28ب
يفعل ... : أي يقع منهم مثل هذا الفعل ، والبيت بتمامه من جملة مقول قوله : فقلنا.
... وَيَومٍ مِنَ الشِعرى يَذوبُ لُوابُهُ أَفاعيهِ في رَمضائِهِ تَتَمَلمَلُ
ويومٍ ... : بالجر برب مضمرة ، وهي متعلقة بنصبت في أول البيت الآتي ، ففي هذا البيت التضمين ، وقد مرّ الكلام عليه .
من الشِّعرى ... : أي من أيام طلوعها ، والشعرى ، ويقال لها : الشعرى العبور نجم في السماء ، يطلع زمن شدة الحر .
يذوب ... : أي ينماع .
لُوابه ... : بضم اللام ، أي لُعابه ، كما روي كذلك ، وأراد لعاب الشمس الذي يُرى في شدة الحر ، المُسمى بالسراب .
أفاعيه ... : جمع أفعى ، وهو الثعبان .
في رمضائه ... : أي في شدّة حرّ ذلك اليوم الشبيه برمضاء النار .
تتململ ... : أي يتقلّب من شدّة الحر ، وقوله : من الشعرى نعت ليوم ، وكذا جملة يذوب لُوابه ، وكذلك جملة أفاعيه في رمضائه تتململ ، وفي رمضائه يتعلق بيتململ .
نَصَبتُ لَهُ وَجهي وَلا كِنَّ دونَهُ وَلا سِترَ إِلّا الأَتُحَمِيَ المُرَعبَلُ
نصبت ... : أي أبرزت .
له ... : أي لذلك اليوم .
__________
(1) من البسيط أ والخطفي ، هو الشاعر المعروف جرير بن عطية الخطفي ، ولم أجده في المطبوع من ديوانه .(1/48)
وجهي ولكن دونه : أي والحال أنه لا مكان قريبا من وجهي يكتنُّ فيه ويقيه حرّ ذلك اليوم ، فالجملة حال من وجهي ، والعامل فيه نصبت .
ولا ستر ... : بكسر السين ، أي ساتر دونه ، فحذف من الثاني لدلالة الأول ، وأما السَّتر بالفتح فمصدر ستره ، فجملة ولا ستر معطوفة على جملى ولا كنّ .
إلاّ الأتحمي ... : بفتح الهمزة ، وإسكان المثناة الفوقية ، وفتح لحاء المهملة ، وكسرالميم، في آخره ياء مشددة ، ضرب من البرود .
المرعبل ... : أي المقطَّع ، يقال : رعبلت القميص / إذا قطَّعته ، والأتحمي بالرفع 29أ بدل من موضع لا مع اسمها ؛ لأنهما في محل رفع بالابتداء عند سيبويه ، كقولنا لا إله إلاّ الله ، والمرعبل نعت للأتحمي .
... وَضافٍ إِذا هَبَّت لَهُ الريحُ طَيَّرَت لَبائِدَ عَن أَعطافِهِ ما تَرَجَّلُ
وضافِ ... : مرفوع بالعطف على الأتحمي ، وهو صفة لمحذوف ، تقديره وشَعْرٍ ضافٍ أي طويل سابغ ، والمعنى : لا يمنع عنّي شدة ذلك اليوم إلاّ الأتحمي ، وشَعْري الضافي .
إذا هبت له الريح : أثار عليه الهواء .
طيَّرت ... : أي طرت .
لبابد ... : جمع لبد ، واحده لبدة ، يريد ما تلبّد من شَعره ، والتصق بعضع ببعض .
على أعطافه ... : أي جوانبه التي انعطف إليها ومال ، والظرف متعلق بطيّرتْ ، والضميران في له وأعطافه يرجعان إلى ضافٍ .
ما ترجَّل ... : أي لم تُسرَّح تلك اللبابد ، والجملة صفة للبابد .
... بَعيدٌ بِمَسَّ الدُهنِ وَالفَليُ عَهدُهُ لَهُ عَبَسٌ عافٍ مِنَ الغِسلِ مُحوِلُ
بعيد بمس الدهن والفلي : وهو استخراج القَمْل .
عهده ... : فبعيد مبتدأ ، خبره عهده ، والجملة صفة لضاف ، أو هو صفة لضاف ، وعهده مرفوع به ؛ لاعتماده على الموصوف ، وبمس الدهن يتعلق ببعيد ، والباء بمعنى عن ، والفلي معطوف على مس ، والمعنى : ذلك الشَّعر الضافي تقادم عهده عن مسِّ الدّهن والفَلْي .
له ... : أي لذلك الشَّعر الضَّافي .(1/49)
عبس ... : وهو بفتح العين المهملة ، والباء الموحّدة ، وبالسين المهملة : الوسخ ، وأصل العبس ما تعلّق بأذناب الشاء وألبانها من الأوضار ، وجملة له عبس نعت لضاف / أيضا . ... ... ... ... ... ... 29ب
عافٍ ... : أي كثير ، وهو نعت لعبس .
من الغِسل ... : بكسر الغين المعجمة : ما يغسل به ، وهو متعلق بعاف .
محول ... : أي أتى عليه حول ، وهو كذلك نعت لعبس ، والمعنى أنّ له من التراب والأوساخ ما يقوم مقام الغسل .
... وَخَرقٍ كَضَهرِ التِرسِ قَفرٍ قَطَعتُهُ بِعامِلَتَينِ ظَهرُهُ لَيسَ يُعمَلُ
وخرق ... : وهو بفتح الخاء المعجمة ، وإسكان الراء : المكان الواسع الذي تتخرق فه الرياح ، وتكثُر وتشتد ، وهو مجرور بربّ مضمرة .
كظهر الترس ... : في استوائه ، والترس آلة تتخذ للاتقاء من الأسلحة في الحرب ، والظرف نعت لخرق .
قفر ... : أي لا ماء فيه ، ولا نبات ، وهو نعت لخرق أيضا .
قطعته ... : أي أتيت عليه سيرا ، وربّ تتعلق به .
بعاملتين ... : أي رجلين ، سُمِّيتا بذلك لأنهما تعملان المشي ، والظرف يتعلق بقطعته .
ظهره ... : أي ذلك الخَرق .
ليس يعمل ... : أي يُسلك عادة لصعوبته ، وخطر أمره والجملة نعت لخَرق أيضا .
... فأَلحَقتُ أُخراه بِأُولاه موفِياً عَلى قُنَّةٍ أُقعي مِراراً وَأَمثِلُ
فألحقت أخراه بأولاه : أي أُخراه بأوَّله ، وأتيت عليه سيرا بتمامه قطعا ، وهذا توكيد لقوله قطعته ، رافع احتمال المجاز ، وإرادة قطع الأكثر دون الكلّ ، والضميران يرجعان إلى خَرق .
موفيا ... : أي مُشرفا .
على قُنَّة ... : وهو بضم القاف ، وفتح النون ، وتشديدها ، ويقال : قُلَّة باللام أيضا أعلى الجبل ، والظرف يتعلق بموفيا الذي هو حال من الضمير في ألحقتُ .
أُقعي ... : مضارع من الإقعاء ، وهو القعود على الركبتين وباطن الفخذين كقعدة الكلب والسبع .
/ مِرارا ... : أي في أوقات ، وهو ظرف لأقعي . ... ... ... ... ... 30أ(1/50)
وأمثل ... : بضم المثلثة ، أي أنتصب مرارا ، فحذف من الثاني لدلالة الأول ، وإنما يفعل ذلك لأنه يرتقب شيئا من الصيد يظهر ، فيغير عليه ويقتنصه .
... تَرودُ الأَراوِيَ الصُحمُ حَولِي كَأَنَّها عَذارى عَلَيهنَّ المُلاءُ المُذَيَّلُ
ترود ... : أي تجيء وتذهب ، ومنه [ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ] (1) .
الأراوي (2) ... : جمع أرويّة ، وهي العنز البريّة ، أُنثى الأروى ، وهو التيس البري . ...
الصحم ... : جمع أصحم ، وصحماء ، مثل حُمر وحمراء ، وهو بالحاء والصاد المهملتين ، من الصّحمة ، وهي حمرة تضرب إلى السواد ، وأمَّا السحمة بالسين المهملة فاسم للسواد الخالص ، وليس بمراد هاهنا ، إذ لون الأراوي على الأول ، دون الثاني .
حولي ... : أي في جوانبي .
كأنها ... : أي الأراوي في حسنها .
عذارى ... : جمع عذراء ، بالذال المعجمة ، البكر من النساء .
عليهن ... : أي العذارى .
المُلاء ... : بضم الميم ، بالمد ، اسم جنس ، واحده ملاءة كذلك ، وهي الملاحف.
__________
(1) يوسف 23
(2) الأُرْوِيَّةُ والإِرْوِيَّةُ؛ الأُنثى من الوُعول. وثلاثُ أَراويّ، على أَفاعيلَ، إِلى العشر، فإِذا كثرت فهي الأَرْوَى، على أَفْعَل على غير قياس، وقيل : أَراوِيَّ تكسير أُرْوِيَّةٍ كأُرْجُوحةٍ وأَراجِيحَ، والأَرْوَى اسم للجمع،. قال أَبو زيد: يقال للأُنثى أُرْوِيَّة وللذكر أُرْوِيَّة، وهي تُيُوس الجَبل، ويقال للأُنثى عَنْزٌ وللذكر وَعِلٌ، بكسر العين، وهو من الشاء لا من البقر. الجوهري: الأُرْوِيَّةُ الأُنثى من الوُعُول، قال: وبها سميت المرأَة، وهي أُفْعُولة في الأَصل إِلا أَنهم قلبوا الواو الثانية ياء وأَدغموها في التي بعدها وكسروا الأُولى لتسلم الياء، والأَرْوَى مؤنثة. اللسان ( روي )(1/51)
المذيّل ... : أي ذوات الأذيال الضاربة إلى الأرض ، وأفرد المذيل حملاً للملاء على الجنس كما تقدم في نظيره ، وجملة ترود حال من الضمير في ... أُقعي وأمثل والعائد الياء في حولي ، وهو ظرف لترود ، وهو في الأصل مصدر حال يحول ، ثم جُعل اسما لما أحاط بالشيء من جميع الجوانب ، وجملة كأن وما عملت فيه حال من الأراوي ، وجملة عليهن الملاء المذيل نعت لعذارى .
وَيَركُدنَ بالآصالِ حَولِي كَأَنَّني مِنَ العُصم أَدفى يَنتَحي الكِيحَ أَعقَلُ
ويركدن ... : أي يثبتن ، والضمير للأراوي ، من ركد الماء ، سكن جريه .
بالآصال ... : أي العشآن ، جمع أصل ، كعنق وأعناق ، وأصل / جمع أصيل ، 30 ب كرغيف ورُغُف .
حولي ... : أي في جميع جوانبي ، وإنما يركدن حوله لطول إلفهن به ، حتى كأنه صار واحدة منهن ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
كأنني من العصم : أي الأوعال ، جمع أعصم ، سمِّيت بذلك لأنها لا تعدم البياض في معاصمها .
أدفى ... : وهو بفتح الهمزة ، وإسكان الدال ، وفاء ، آخره ألف مقصورة ، مذكر دفواء ، الذي يطول قرنه ، ويميل إلى ظهره .
ينتحي ... : أي يقصد .
الكيح ... : وهو بكسر الكاف ، وإسكان الياء آخر الحروف ، ويقال له أيضا الكاح بألف بين الكاف والحاء : ناحية الجبل .
أعقل ... : أي في لونه بياض في موضع العِقال ، والظرفات يتعلقان بيركدن ، وجملة كأنّ وما عملت فيه حال من الياء في حولي ، وأدفى خبر كأنّ ، وجملة ينتحي نعت له ، وكذا أعقل .
... عقلنا الله عن الرذائل ، وحلاّنا بالفضائل ، بالنبي وآله السادة الكرام ، وأصحابه القادة العظام .(1/52)
... قال المصنف رحمه الله تعالى ، وقد تمّ كتابنا هذا محررا مهذبا ، ومقررا مرتبا ، سارا لكل ودود ، وضارا لكل حسود ، نهار السبت المبارك ، اليوم الرابع عشر ، من شهر صفر الخير ، من شهور سنة ألف ومائة وثلاثة وسبعين ، على يد مؤلفه ، فقير عفو ربه ، الملك الأوحد ، عطاء الله بن أحمد بن عطاء الله بن احمد الأزهري ، نزيل مكة المشرفة ، وقد تمّ بحمد الله وعونه ، وحسن توفيقه ، على يد الفقير إلى الله المنان ، محمد بن الدوني رمضان ، حفه الله بألطافه ، ووالديه والمسلمين ، آمين ، بجاه أشرف المرسلين ، آمين .
... ...
... ...
...(1/53)