نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية
د / محمد أحمد مفتي
( يؤكد " موريس دوفرجيه " أن الدميقراطية الليبرالية تعمل ضمن إطار الرأسمالية التي تعني أن السلطة لا ترتبط فقط بالانتخابات ـ كما يدعي الإجرائيون ـ وإنما برجال المال والأعمال المسيطرين على الواقع السياسي والاقتصادي في الدولة ، مما يؤكد كون الديمقراطيات الليبرالية هى " بلوتو ديمقراطيات " قائمة على سيطرة الأغنياء ، وقدرتهم على توجيه دفة المجتمع ، والتحكم في الانتخابات ونتائجها) .
(ويبدو أن المدرسة الإجرائية ـ بافتراضها العقلانية و الرشد في الأفراد ـ قد وقعت في الخطأ ذاته الذي عابته على النظرية الكلاسيكية ، كما أنها بافتراضها خلو الديمقراطية من القيم ، سعت نحو تعميم النظام الديمقراطي وإضفاء صبغة العالمية عليه ، دون النظر إلى العوامل والظروف المرتبطة بنشأة الديمقراطية وقيامها واستمرارها في المجتمعات الغربية . أضف إلى ذلك ، أن قصر قيام الديمقراطية على توفر الانتخابات ، واختزالها في حق التصويت والاختيار للمرشحين الذين يعتلون سدة الحكم ، يفرغ الديمقراطية من محتواها ، فهناك الكثير من الأنظمة التي يقوم فيها الأفراد بانتخاب الحكام دون أن تقوم فيها ديمقراطية ، بل إن بعضها أنظمة استبدادية قمعية) .
((1/1)
الديمقراطية الغربية تقوم على قيم اجتماعية محددة ، فالديمقراطية نظام قائم على نظرة معينة للكون والحياة والإنسان ، وهي تحمل بعداً " عقيدياً " وترتبط بمفهومات محددة ، ومعتقدات مشتركة بين الجماعة . والديمقراطية بهذا المعنى تمثل نسقاً فلسفياً ، أو قاعدة تبنى عليها النظرة إلى المجتمع ، تستمد هذه النظرة جذورها من أفكار المدرسة الليبرالية التي يعد من أبرز مفكريها : جون لوك ، وجون ستيوارت مل ، وآدم سميث ، وديفد هيوم . ورغم اختلاف وجهات النظر بين هؤلاء المفكرين ، فإن هناك عدداً من الأمور المشتركة بينهم ، منها : النظرة ( الفردية ) للإنسان التي تجعل الفرد وحدة مستقلة قائمة بذاتها ، تتصل بغيرها لتحقيق مصالحها الذاتية ، ومن ثم فالفرد يمثل غاية البناء الاجتماعي
كما أن الإنسان ـ وفقاً لهذه النظرية ـ يمتلك حقوقاً ( طبيعية ) منحت له لطبيعته الإنسانية ، بمعنى أن الإنسان لكونه إنساناً ، فإنه يمتلك حقوقاً طبيعية بمعزل عن الدولة أو المجتمع . أضف إلى ذلك أن النظرة الليبرالية للإنسان تبنى على ما يسمى بانعدام القيم المشتركة ، فلا توجد وحدة اجتماعية تحدد القيم الاجتماعية أو السلوك المقبول اجتماعياً من قبل الأفراد ، فالنظرة إلى المجتمع غائبة في الفكر الليبرالي(1/2)
والديمقراطية ـ وفقاً للتعريف الإيديولوجي ـ طراز معين للعيش ينبثق من إطار ذهني يبنى على عدة افتراضات ، منها : الإحساس الدائم بالرغبة في التغيير التى تحرك الأغلبية ، وتدفعهم نحو تعديل أوضاعهم الاجتماعية لتتناسب مع التغييرات الحياتية المتعددة . فالديمقراطي هو ذلك الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره ومبادئه وقيمه وفقاً للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به . وينبع التغيير من الإيمان بأن البنى الاجتماعية لا تبنى على قواعد ثابتة ، بل هي نتاج لتفاعل الأفراد وخبراتهم واتفاقهم ، ولذلك ، فما يراه الأفراد ممثلاً للحق والعدل فهو الحق والعدل ، فالإطار الذهني الديمقراطي يبنى على الثقة المتناهية في ( العقل ) الذي يمكن الإنسان من الحياة في إطار المجتمع ( التعددي ) بتقبله لنمط حياة الآخرين ، مما يعكس قدراً كبيراً من العقلانية . أضف إلى ذلك أن ( التعددية ) تضفي على الديمقراطية الرأسمالية طابعاً خاصاً يجعلها تختلف كلية عن المجتمعات التقليدية والاشتراكية التي يفرض المجتمع فيها منظوراً جماعياً للخير العام ، كما يشير نوفاك ، هذا في حين يمتاز المجتمع التعددي بعدم وجود منظور جماعي واحد للخير والفضيلة . ولذلك ، فوجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعددي ، ومن ثم فأولئك الذين يرغبون في رؤية قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود في المجتمع لابد أن ينتهي بهم المطاف إلى معارضة التعددية . وبناءً عليه ، فالمجتمع الديمقراطي غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة الاجتماعية ، وحين يسود أو يسعى أي منظور عقائدي أخلاقي لفرض رؤيته على المجتمع ، فإنه يصبح من المتعذر بناء مجتمع ديمقراطي ، وذلك لأن الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني التعددي للمجتمع) .
((1/3)
وبناء عليه ، فالتعددية وإمكانية الاختلاف العقيدي يعدان شرطين مسبقين لقيام مجتمع ديمقراطي ، فالمجتمع الذي لا يقر بحق أو حرية العبادة للجميع كيفما شاؤوا لا يصلح أن يكون ديمقراطياً .
وقد أكد " كرن شيلدز " أن الديمقراطية نظام سياسي علماني ، فالدين لا علاقة له بالديمقراطية ، فهو يعد مسألة فردية خاصة لا علاقة لها بالتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي :
" فالديمقراطي يمكن أن يكون بروتستانتياً أو يهودياً ، ملحداً ، أو مؤمناً ففيما يتعلق بالدين يمكن القول إن الديمقراطية مذهب محايد يتمثل في مجموعة من المعتقدات العلمانية الصرفة . فالمفهومات الديمقراطية لا ترتبط بالبواعث الدينية أو المضادة للدين . وأي نزاع بين الدين والسياسة الديمقراطية يمكن أن يحدث فقط عند إقحام التعاليم الدينية في الشؤون السياسية ... والديمقراطي ـ نظراً لمعتقداته السياسية ـ لا يقبل ولا يرفض أي تعاليم دينية " ) .
( إن قيام الديمقراطية يرتبط بتوفر شروط أساسية أهمها " العلمانية " فالديمقراطية نظام للحياة قائم على حيادية الدولة تجاه القيم الدينية والأخلاقية انطلاقاً من قاعدة أساسية للبناء الديمقراطي تتمثل في " حرية العقيدة " أي حق الأفراد المطلق في تبني ما يشاؤون من عقائد دون تدخل من أحد ، ودونما تأثير على مسار المجتمع والدولة ، وذلك لاندراج العقيدة ضمن الخيارات الفردية التي لا يجوز للدولة التدخل فيها بحال من الأحوال .
وبناءً عليه ، فالديمقراطية نظام لاديني منبثق عن تصور عن الحياة قائم على فصل الدين عن الدنيا ، ويسعى على بناء النظام السياسي على قاعدتين : قاعدة حيادية الدولة تجاه العقيدة ، وقاعدة سيادة الأمة المترتبة عليها والتي تعني حق الأمة المطلق في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسباً) .
((1/4)
إن القول بأن الأمة هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات في النظام الديمقراطي ، يؤكد كون الديمقراطية نظاماً " لادينياً " للحياة قائماُ على حق الأمة في تبني نظام الحياة الذي تختاره أيا كان ، على أساس أنها تمثل المرجعية العليا للأنظمة والقوانين في الدولة . ونظراً لانعدام القواعد العقيدية أو الفكرية التي تعول عليها لمعرفة الحق من الباطل ، فإن الفكر الديمقراطي الغربي لا يحدد ثوابت منطقية عقلانية للغايات الاجتماعية خارج إطار الاختيار الفردي . فالعقلانية هي انعكاس لرغبات الفرد ومصالحة الذاتية ، وليست محددات خارجية " موضوعي " للسلوك الاجتماعي للأفراد ) .
( إن سيادة الشعب التي تعد القاعدة الأساسية لأي نظام حكم ديمقراطي ، تعبر بالضرورة عن إرادة الأغلبية وسيادتها " إذ إنه من غير الممكن أن تجتمع إرادات الأمة كلها على غاية واحدة " وإذا كان بالإمكان حصول ذلك في بعض الأمور فإن تحققها في كل الأمور أمر في غاية الصعوبة
وبنا عليه ، فالسيادة في النظام الديمقراطي هي للأغلبية . يشير " سميث وليندمان " إلى أنه إذا كان لا بد لفئة ما أن تحكم الدولة فلم لا تكون الأغلبية هي تلك الفئة ؟ فالأغلبية لها حق الحكم ، ببساطة لأنها الأكثر عدداً ، فالكثرة هي التي يعتد بها عند الحديث عن حق الحكم المنوط بالأغلبية) .
(ومن ثم ، فإن أي قرار أو قانون لا تقره الأغلبية يعد لا أخلاقياً . كما أن ذلك يعني ـ من ناحية أخرى ـ أن القانون أو القرار يصبح صحيحاً من اللحظة التي تدعم فيها الأغلبية القرار ، ويفقد صحته وأخلاقيته حين لا يكون للأغلبية الحق في الحكم على القانون أو القرار) .
((1/5)
أضف إلى ذلك أن ربط التشريع بالأغلبية ـ لافتراض العصمة فيها ـ يؤدي إلى تنازل الأفراد للأغلبية المسيطرة ـ حيث يجد المرء نفسه مضطراً للخضوع لقانون آخر اتفقت عليه الأغلبية رغم مناقضة القانون لمعتقداته . وهذا التنازل للأغلبية لا يصلح كمفهوم قابل للتطبيق في المجتمعات المرتكزة على العقيدة ، وذلك لأن المرء الذي يحمل اعتقاداً دينياً راسخاً يستحيل عليه أن يتنازل عنه ، خاصة إن اعتقد صحته ، في سبيل ترجيح كفة الأغلبية . ولذلك يصعب تماماً تطبيق الأسس الديمقراطية في الدول التي يعتنق أهلها ديناً عملياً مسيطراً ، فلو افترضنا أن " مجلس الأمة " قرر بناءً على قاعدة " الأغلبية " إباحة الربا ، أو إسقاط حد الرجم عن الزاني المحصن ، فهل تؤدي موافقة الأغلبية على هذه التشريعات إلى جعلها حقاً واجب التطبيق في الدولة ؟ وماذا لو وقفت الأقلية في وجه القوانين التي ترغب أكثرية المجلس في إصدارها ، أيسقط حقها لمجرد كونها أقلية ؟ إن الادعاء بعصمة الأغلبية وصحة آرائها لا يصلح مقياساً في الدول التي تحمل عقيدة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، فالمسلم ملزم باتباع الشرع وليس بقبول رأى الأغلبية . فلو اتفق أعضاء مجلس الأمة أو الشورى على تبني رأي مخالف للشرع ، فأن هذا الرأي ـ بميزان الشرع ـ يعد رأياًَ باطلاَ ، حيث إن العبرة ليست في عدد المصوتين للقانون بل العبرة بانبثاق التشريع من الشرع الإسلامي واتفاقه معه ).
((1/6)
إذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها حكم الأغلبية فمن المعروف أنه في أي نظام سياسي لا يمكن اعتبار الأغلبية أغلبية سكان الدول ، وذلك من يقطن أراضي الدولة يعد مواطناً . كما أن عدد أولئك الذين يسمح لهم القانون بالتصويت أقل بكثير من عدد مواطني الدولة . كما أن عدد أولئك الذين يشاركون في التصويت بالفعل دائماً أقل من عدد الذين يسمح لهم بالتصويت ، فقيود المواطنة تحد بشكل ملحوظ من عدد الأغلبية ، فقد كانت المواطنة , وما يرتبط بها من حق الانتخاب في معظم الدول الأوربية ، مرتبط بالرجال أصحاب الأملاك . حتى حين حصلت المرأة على حق الانتخاب في القرن العشرين ، فإنه لا تزال هناك شريحة كبيرة من المواطنين لا تشارك في الانتخابات ، إما بحكم السن أو التعليم أو عدم الاهتمام ، هذا غير الأجانب الذين لا تسمح لهم الأنظمة بالمشاركة في الانتخابات .
كل ذلك يعني أن السيطرة على شئون الدولة تصبح بيد " الأقلية " وليست " الأغلبية " التي تفترضها النظرية الديمقراطية . ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية ، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى " النخبة " . ومن ثم ، ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة ، وبحكم بعض المزيا الموروثة وغيرها من العوامل . ويؤدي التوزيع غير المتساوي للموارد إلى تحكم فئات اجتماعية معينة في الموارد وإلى السعي ـ عن طريق المؤسسات الاجتماعية . إلى ترسيخ مصالحها ومزاياها الاجتماعية لتصبح جزءاً لا يتجزأ من النظام حتى يألفها الناس ، ويعتقدون مع مرور الأيام بحق النخبة المسيطرة في الحكم .
ولذلك ، إذا أردنا تطبيق المعنى الحرفي للديمقراطية الذي هو حكم الشعب ، فإنه لن يكون هناك مكان للنخب في النظام ، ولكن ذلك يعني من ناحية أخرى أنه لن تكون هناك ديمقراطية في أي مكان في العالم) .
((1/7)
إن ربط السيادة بالأمة في النظام الديمقراطي ـ وهو ما يميزه عن الأنظمة الاستبدادية التي تجعل السيادة في يد الحاكم ـ يجعل للأمة حق تبني نظام الحياة السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، مما يجعل النظام الديمقراطي يقف على طرفي نقيض مع النظام الإسلامي القائم على سيادة الشرع الإسلامي في واقع الحياة . فالشرع ـ وليس الشعب ـ هو المرجع الأعلى في النظام السياسي الإسلامي ، ومن ثم فجعل الشعب المرجع الأعلى لأنظمة الحياة يعد تعطيلاً صريحاً لسيادة الشرع وهيمنة أحكام الإسلام في الدول ، مما يؤدي إلى ظهور الكفر البواح ، وتحول الدولة إلى دار الكفر .
وقد تواترت الأدلة الشرعية المؤكدة أن السيادة للشرع وحده في الدولة الإسلامية . قال - تعالى - : (( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق )) وقال – تعالى - : (( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )) ) .
( إن النظام الديمقراطي قائم على تبني نظرة محددة للظاهرة والممارسة السياسية وللعلاقات الاجتماعية ـ تنطلق من العلمانية كقاعدة للحياة السياسية تتمثل في بعدها السياسي في أمرين :
1 - في إقرار سيادة الأمة وحقها في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسباً لها .
2 - وفي حيادية الدولة تجاه القيم الفردية ، أو ما يسمى بالأخلاق الخاصة . وذلك يعنى أن المجال الخاص للأفراد لا بد أن يبقى بمنأى عن التدخل الخارجي من قبل أي سلطة أخرى ، وذلك من أجل الحفاظ على الحرية الفردية التي تمثل قاعدة البناء الاجتماعي في الدولة . ولقد أدى التزام الديمقراطية ـ الليبرالية بحيادية الدولة تجاه الأخلاق والقيم إلى المناداة بتبني التعددية السياسية والفكرية في المجتمع من منطلق حرية الأفراد.(1/8)
لقد كان هدف الفكر الليبرالي الديمقراطي من إعلان حيادية الدولة تجاه الأخلاق الخاصة وإقرار التعددية هو التصدي لمفهوم الدولة " الغائية " أو الحركات السياسية الغائية ، من المنطلق الديمقراطي القائم على أن وجود منظور أخلاقي واحد للقيم يتعارض مع الفكر التعددي . ومن ثم ، فالدولة الديمقراطية ملزمة بعدم فرض أو السماح بفرض منظور قيمي مشترك للجماعة ؛ وذلك لأن تبني منظورأحادي للقيم ينافي الديمقراطية) .
( فالدولة الديمقراطية لا علاقة لها " بهوية الإنسان وإيمانه وكفره ونوعية القيم التي يحملها ، فالكل سواء : عالم الدين والبغي ، والمسلم النصراني !!
يقول حيدر علي في معرض نقده للديمقراطية الإجرائية التي يرى أن الإسلاميين يقبلونها مع رفضهم للفلسفة التي تقوم عليها كنظام للحياة : " فالديمقراطية توجد ضمن شروط ومكونات معينة ، وقد تكون الإطار الذي تتفاعل فيه عمليات مثل التحديث ، وأفكار مثل الليبرالية والعلمانية " ومن ثم فاختزال الديمقراطية في انتخابات ومشاركة يقدم نظرة ناقصة لها ، وذلك لأن السؤال الذي يطرح نفسه عند بحث ظاهرة ما يسمى " الديمقراطية الإسلامية " التي ينادي بها بعضهم هو : هل الاختلاف أو التعارض حول ما يؤخذ وما يترك جوهري يؤثر على جوهرها أو أنه اختلاف ثانوي ؟
ويجيب حيدر علي على ذلك بقوله إن " الصيغة الإسلامية للديمقراطية ... مطالبة بتكييف نفسها مع ثوابت عقدية وتحريمات ونواه دينية قد تكون عقبات أمام الديمقراطية الصحيحة ... فهناك قضايا تتقاطع مع أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان ، مثل : عقوبة الردة ، ووضعية غير المسلمين ( أهل الذمة ) ، والمرأة ، والحريات الشخصية ، وحرية الرأي والتعبير ، وطاعة ولي الأمر ، والفتنة ومخالفة الجماعة "(1/9)
وبناء عليه ، فالمطالبة بإقامة نظام ديمقراطي في بلاد المسلمين تقتضي بالضرورة جعل الحرية الفردية والتعددية قواعد تبنى عليها الحياة السياسية في الدولة ، مما يؤدي إلى تناقض بين الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في واقع الحياة وإقامة القواعد الديمقراطية . وأسوق مثالاً يوضح الأمر وهو الذي أشار إليه حيدر علي ، وهو المتعلق بحد الردة ، فالردة حدها القتل لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم ) : " من بدل دينه فاقتلوه " ولكن قتل المرتد يعارض حرية العقيدة والرأي التي يقوم عليها النظام الديمقراطي ، لأن الدين ينظر إليه على أنه مسألة شخصية فردية خاصة ، والنظام الديمقراطي قائم على حيادية الدولة تجاه العقائد والأخلاق .
وهنا يكون المسلم أمام خيارين : فإما أن يطبق حد الردة على المرتد عن دينه من العلمانيين والشيوعيين وغيرهم ممن ينكر أحكام الإسلام ، أو يدعو إلى ما يناقضها ويخرج بذلك عن كونه ديمقراطياً يؤمن بالحرية . أو يتبنى الديمقراطية كقاعدة ، ويطوع أو يلغي الأحكام الشرعية المعارضة في نظر الآخرين لأحكام الحرية والتعددية الفكرية ؛ فيجعل الردة حقاً من حقوق الإنسان وحرية يجب صيانتها ؟!
فهذا كاتب معروف يقول : " فأنا لست مع إقامة حد الردة على من يرتد عن الإسلام " ويجعل - كذلك - اختيار الدين نوعاً من الاختيار الفردي بقوله : " أيضاً إذا بدا لإنسان أن يعتنق النصرانية مثلاُ ، فهذا لون من الاختيار يستوجب منا الحوار مع هذا الإنسان " !(1/10)
ومن ثم ، فقيام الديمقراطية ـ كما يشير داريوش شايغان ـ يتطلب علمنة العقول والمؤسسات ، أي أن من شروط قيام الديمقراطية تبني العلمانية التي تعني الاعتراف بحرية العقائد والأيدلوجيات ، والسماح لها بالدعوة إلى ما تؤمن به ، من منطلق حقها المطلق في الوجود ، وفي الإيمان والدعوة إلى ما تؤمن به . وقد أشار منصور الكيخيا إلى أن قيام الديمقراطية ونجاحها يتوقف على تبني العلمانية ، " أي الاعتراف بحرية جميع العقائد والأيدلوجيات والتعايش السلمي بينها ، وإحلال الحوار بينها بدلاً من قمعها " .
كما أن قيام الديمقراطية يقتضي علمنة المؤسسات السياسية في الدولة ، فقد أكد حيدر علي أن هناك مؤسسات وأجهزة يؤدي وجودها واستمرارها إلى إعاقة الديمقراطية ؛ مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحسبة التي تقوم بمراقبة الشارع الإسلامي ، والتأكد من التزام الأفراد بأداء الصلاة أو عدم الإفطار في رمضان ، والالتزام بالزي الإسلامي ، والسلوك الإسلامي . ويضيف الكاتب قائلاً : " هذه نماذج لمؤسسات ضرورية تعمل عمل الدولة على المستوى الشعبي وبالتالي تصدر عقوبات وتتسب في مضايقات للمواطنين . وهي غالباً ما تصطدم بالحريات الشخصية وتتدخل في شؤون الآخرين " !!
ومن ثم ، فبقاء مثل هذه المؤسسات يشكل عقبة في وجه بناء مجتمع ديمقراطي تعددي ، فالديمقراطية تقتضي ليس فقط علمنة العقول بقبول الآخرين والاعتراف بهم ، وإنما تقتضي أيضاً إلغا المؤسسات الدعوية والأخلاقية التي تصطدم مع الحرية الفردية وتتدخل في حياة الأفراد الخاصة .(1/11)
يتضح مما سبق أن الديمقراطية ليست إجراءات عملية شكلية تختزل صورة انتخابات دورية وتداول للسلطة وغيرها ، وإنما هي نظام للحياة قائم على شروط موضوعية جوهرها قائم على النظرة الفردية للإنسان المستمدة من الفكر الليبرالي الذي يجعل الفرد غاية البناء الاجتماعي ، والذي يؤكد انعدام " القيم المشتركة " أو الجماعية كما سبق أن بينا ، ونظام الحياة قائم على الحرية الفردية التي تعني حق المرء في اختيار ما يراه مناسباً من أفكار ، وقيم ، وأخلاق ، ودين ، وطريقة للعيش دون تدخل أي قوى خارجية ، فالمرء سيد نفسه ) .
((1/12)
سعى كثير من الكتاب والمفكرين ، من باب تقليد الثقافة الغربية ، إلى المناداة بإقرار الحرية والتعددية كقواعد للعمل السياسي في بلاد المسلمين . وقد دافع هؤلاء عن حرية الرأي ، وشرعية الاختلاف التي تقوم عليها التعددية ، وشرعية وجود تعددية حزبية . وهذه الأفكار والمعالجات التي صدرت مجاراة للفكر الغربي ، لم تبن على شرعية ولم تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما انطلقت من واقع سياسي قائم وواقع سياسي مأمول . فعندما ابتليت بلاد المسلمين بالاستبداد السياسي ظن هؤلاء أن لا مخرج لهم ولا منجى إلا بالديمقراطية الغربية ، فحاولوا تطويع أحكام الإسلام ومبادئه لتوافق ما أقروه صراحة من الحاجة إلى الديمقراطية ، لكي لا يحبط عمل الأمة !! ولتسويغ تبني مفهومات الغرب وأحكامه ادعى بعضهم أن الشورى هي عين الديمقراطية ، ومزجها آخرون وجعلوها " شوروقراطية " وانطلق عديد من الكتاب من الادعاء بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد ، وأن التنظيم السياسي متروك للاجتهاد البشري ، وذلك لأن الإسلام ـ في رأيهم ـ اكتفى في مجال الظاهرة السياسية بالتعميم ، حيث أتى بقواعد عامة وترك التفصيلات ولم يبينها للناس . وقد دفعهم هذا التصور إلى المناداة بتبني الديمقراطية والدعوة إليها من منطلق اندراجها تحت التفصيلات التي تركها الشرع للاجتهاد البشري .(1/13)
يقترب هذا الرأي الذي يتبناه بعضهم ، كما يؤكد غودرون كريمر : " بشكل " خطر " من اتجاه علي عبد الرازق الذي عارضوه بشدة . فهم بخلافه يقولون إن الإسلام دين ودولة ، ولكنهم يعودون مثله للقول إن مسائل التنظيم السياسي متروكة للعقل البشري . إن هذه الطريقة في الفهم والتعليل أدت إلى بروز تناقض أساسي داخل الفكر الإسلامي الإصلاحي مؤداه أنه في الوقت الذي تعتبر فيه الدولة مهمة جداً لتطبيق الشريعة ، لأنها هي التي يفترض أن تقوم بذلك ، فإن أشكال التنظيم السياسي اعتبرت أموراً تقنية غير جوهرية "
ورغم هذا التناقض البين إلا أن كثيراً من الكتاب رأوا في حجة " مرونة الشريعة " فرصة للمناداة بتطبيق الديمقراطية التي تبنوها ، وجعلوها قاعدة الانطلاق لبناء الدولة الإسلامية ، بحجة أن الإسلام ترك مجال الأنظمة مفتوحاً للاجتهاد البشري ، ولأن الديمقراطية ـ في رأيهم ـ أقرب الأنظمة المعاصرة للإسلام .
لقد أدى تبني هذا الاتجاه إلى إهمال الإسلام ومعالجته للواقع في خضم اللهث وراء مفهومات الغرب ومعالجاته . كما أدى ـ كذلك إلى إغفال حقيقة ثابتة وهي أن المفهومات الغربية والمعالجات المنبثقة عنها إنما تنطلق من قاعدة فكرية محددة ، وتهدف إلى تحقيق غايات ترتبط بنظام للحياة لا يصلح للتطبيق في بلاد المسلمين .
فالتعددية السياسية التي ينادي بها بعضهم ، مثلاً ، تمثل : " جزءاً من أجزاء منظومة مفاهيمية متكاملة نشأت وترعرعت داخل النسق الفكري الغربي الليبرالي ، ومن هذه المنظومة : المجتمع المدني ، الديمقراطية ، تداول السلطة ، المشاركة السياسية ، توازن القوى ، انتشار السلطة ، صيانة الحقوق ، حقوق الأقليات ، حقوق الإنسان .."(1/14)
ولقد دفع التقليد أبناء الأمة إلى استيراد قوالب فكرية جاهزة للعمل لها. ولترويجها تمت أسلمتها بأن أرجعت إلى أصول إسلامية ، أو أشير إلى أنها لا تعارض الشريعة الإسلامية ، أو أنها تتفق وروح الشريعة ، " وبعض الإسلاميين سارعوا ـ تحت ضغط أطروحات الآخرين ـ إلى إضفاء اللباس الشرعي من منطلق المقاربة أو توهم المماثلة ، وإجراء القياس مع إلغاء الفوارق الظاهرية أو عدم التنبه لها . ولكيلا تكتشف عقلية التقليد الكامنة وراء ذلك حشرت مجموعة من الآيات والأحاديث والأصول والفروع الفقهية الكامنة وراء ذلك ... وقطعت من سياقاتها لتصبح دليلاً على صحة " التعددية " بمفهومها السائد ، والإفتاء بمشروعيتها ، والموافقة على الأخذ بها " ) .
( والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل الدولة الإسلامية دولة قائمة على التعددية السياسية والفكرية ؟ بمعنى : هل نظام الدولة قائم على الحيادية الفكرية والعملية تجاه التيارات السياسية المختلفة ؟
الإجابة بالنفي قطعاً ، فالدولة الإسلامية دولة عقيدة ، تحمل مفهومات شرعية عن الحياة وتطبقها في الواقع ، فكيف يجوز لها أن تسمح بإقامة ما يخالف ما تدعو إليه ؟ أما فيما يتعلق بوجود جماعات في الدولة الإسلامية تدعو إلى الزندقة أو الفكر الباطني ، أو الشيوعي فهذا لا يعني إقرار شرعية وجودها أو الإذن لها بالدعوة إلى ما تدعو إليه .
وهناك فرق بين أن توجد في الدولة جماعة لا تحمل الإسلام عقيدة وشريعة ، وبين الإقرار بوجودها وإعطائها شرعية من قبل الدولة ، إما بالوقوف منها موقف المحايد ، أو السماح لها بالدعوة إلى المنكرات الفكرية التي تحملها ، وذلك لأن هذه الحيادية المزعومة لا تتفق أصلاً مع الدولة الشرعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
((1/15)
هذه النظرة الديمقراطية لا تصلح في مجتمع إسلامي قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فالعلمانية من أحكام الكفر سواء ما أطلقوا عليها المتصالحة مع الدين أو غير المتصالحة . والشيوعية تؤمن بأن الكون والإنسان والحياة مادة فلا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار؛ فالإيمان يها كفر بالله ، والسماح للحزب الشيوعي بالدعوة إلى ما يدعو إليه كفر بالله . وإقرار الأفراد من مفكرين سياسيين ، أو حزبيين إسلاميين بجواز قيام أحزاب مخالفة للشريعة الإسلامية لا يجعل وجود مثل تلك الأحزاب أمراً جائزاً في الدولة الإسلامية ، لأن الأمر الذي يعول عليه في الحكم على ما يخالف الشرع أو يوافقه إنما هو أحكام الشرع المعالجة للواقع وليس أقوال الرجال ).
( المرجع : كتاب " نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية – مواضع متفرقة منه - ) .(1/16)