|
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
نظرات شرعية في فكر منحرف
الفهرس
[ولتستبين سبيل المجرمين]
::::: المجموعة الأولى :::::
? المقدمة
? نظرة شرعية في فكر (أحمد لطفي السيد)
? نظرة شرعية في فكر (جبران خليل جبران )
? نظرة شرعية في أدب (أبي القاسم الشابي)
? نظرة شرعية في فكر (محمد سعيد العشماوي)
? نظرة شرعية في فكر الروائي (عبد الرحمن منيف)
? نظرة شرعية في فكر (عبد الله العروي)
::::: المجموعة الثانية :::::
??نظرة شرعية في أدب (إيليا أبو ماضي)
??نظرة شرعية في أدب (يوسف إدريس)
??نظرة شرعية في فكر (نوال السعداوي)
??نظرة شرعية في فكر (فرج فوده)
??نظرة شرعية في فكر (الدكتور فؤاد زكريا)
??نظرة شرعية في فكر (أمينة السعيد)
::::: المجموعة الثالثة :::::
? نظرة شرعية في فكر(محمد أحمد خلف الله)
? نظرة شرعية في فكر (محمد عابد الجابري)
? نظرة شرعية في فكر (الدكتور أحمد البغدادي)
? نظرة شرعية في فكر (فرح انطون)
? نظرة شرعية في فكر (شبلي شميّل)
? نظرة شرعية في فكر (سلامة موسى)
::::: المجموعة الرابعة :::::
??نظرة شرعية في فكر (علي عبد الرازق)
??نظرة شرعية في فكر (عبد الرزاق السنهوري)
??نظرة شرعية في فكر (زكي نجيب محمود)
??نظرات شرعية في فكر (جرجي زيدان)
??نظرة شرعية في فكر (طه حسين)
??نظرة شرعية في أدب (إحسان عبد القدوس)
::::: المجموعة الخامسة :::::
? نظرة شرعية في فكر (عبد الرحمن الشرقاوي)
? نظرة شرعية في فكر (الدكتور محمد أركون)
? نظرة شرعية في أدب الدكتورة سعاد الصباح
? انحرافات المفكر التونسي : هشام جعيّط
? نظرة شرعية في أدب فدوى طوقان
? نظرة شرعية في ثلاثية تركي الحمد
:::::المجموعة السادسة :::::
(الطائفة العصرانية)
??مقدمة
??نظرة شرعية في فكر (محمود شلتوت)
??نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد عمارة
??نظرة شرعية في فكر فهمي هويدي
??نظرة شرعية في فكر أحمد كمال أبو المجد
??نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد سليم العوا
??نظرة شرعية في فكر طارق البشري
(1/1)
(1/2)
::::: المجموعة الأولى :::::
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فهذه هي المجموعة الأولى لملخصات ومختصرات لانحرافات مشاهير الكتاب والمفكرين والأدباء ممن كان لهم تأثير كبير في صرف أمتنا عن الاستقامة على دين الله –عز وجل- ، كنت أجمعها لنفسي عند قراءتي لنتاجهم، لكي تكون مرجعاً لي لمعرفة فكر تلك الشخصيات عندما يأتي ذكرها، إلا أن بعض المحبين ألح عليَّ في نشرها، ليعم نفعها بين شباب الأمة الذين يتساءل بعضهم بين الحين والآخر عن حقيقة فكر الشخصيات الآنفة.
فليعلم بهذا أن هذه المجموعة التي ستعقبها –إن شاء الله- مجموعات أخرى، هي موجز لانحرافات مشاهير الشخصيات المؤثرة في تاريخ أمتنا –لا سيما المعاصر- ، مع تعليقات شرعية يقتضيها المقام، أما من أراد الزيادة والطول في التعقب فليست هذه المجموعات بغيته.
وهذه المجموعة المعروضة أمامك –أخي القارئ- هي بمثابة العرضة الأولى القابلة للزيادة والتعديل، فلا تبخل عليَّ بما عندك، وأفدني بملاحظاتك على بريد (522) الرياض، الرمز (11321).
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
(2/1)
::::: المجموعة الأولى :::::
نظرة شرعية في فكر (أحمد لطفي السيد)
ترجمته (1) :
هو أحمد لطفي بن السيد أبي علي، ولد سنة 1870م، كان رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة. وينعت بأستاذ الجيل! ولد في قرية "برقين" بمركز "السنبلاوين" بمصر، وتخرج بمدرسة الحقوق في القاهرة (1889) وعمل في المحاماة. وشارك في تأليف حزب "الأمة" سنة 1908 فكان أمينه، وحرر صحيفته "الجريدة" يومية إلى سنة 1914 وكان من أعضاء "الوفد المصري" وتحول إلى "الأحرار الدستوريين" وعين مديراً لدار الكتب المصرية فمديراً للجامعة عدة مرات، ثم وزيراً للمعارف، والداخلية والخارجية (1946) فعضواً بمجلس الشيوخ (1949) وكان تعيينه رئيساً لمجمع اللغة العربية سنة 1945 واستمر فيه إلى أن توفي بالقاهرة. تأثر بملازمة جمال الدين الأفغاني مدة في استنبول، وبقراءة كتب أرسطو، ونقل منها إلى العربية: "علم الطبيعة –ط" و"السياسة-ط" و"الكون والفساد-ط" و"الأخلاق-ط".
وجمع إسماعيل مظهر مقالاته في "صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية-ط" و"المنتخبات-ط" جزآن و"تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع- ط"
- يعد لطفي السيد أحد التلاميذ النجباء ! للمدرسة العصرانية الحديثة، التي أنشأها جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وهي المدرسة التي تقوم على تقديس العقل مقابل النقل، ومحاولة مزج المسلمين بغيرهم، والسير وراء الحضارة الغربية ونقلها إلى المجتمع المسلم، دون تفريق –للأسف- بين منافعها وأضرارها، ولهذا فقد انطبع لطفي السيد بسمات هذه المدرسة في تفكيره، بل زاد عليها شوطاً بعيداً في الانحراف.
يقول الدكتور حسين النجار عن لطفي السيد بأنه "تتلمذ على الشيخ محمد عبده في مدرسة الحقوق، واتصل به وعرفه بعد ذلك في سويسرا" [أحمد لطفي السيد: أستاذ الجيل 193]
(3/1)
ويقول ألبرت حوراني: "التقى لطفي السيد بمحمد عبده وأصبح صديقه وتلميذه، كذلك تعرف إلى الأفغاني في أثناء زيارة قام بها إلى استنبول، فأعجب به كثيراً" [الفكر العربي في عصر النهضة 210].
أما الأستاذ أنور الجندي فله رأي أخر في هذا؛ حيث يرى بأن لطفي السيد قد تنكر لمبادئ مدرسة محمد عبده –التي لا زال الجندي يثني للأسف عليها!- وأنه انحرف عنها إلى تأييد المستعمر الإنجليزي والسير في ركابه. يقول الجندي: "قد بدأ ظاهر الأمر أن سعد زغلول ولطفي السيد هما من تلاميذ جمال الدين ومحمد عبده، ولكن الأمور ما لبثت أن كشفت عن تحول واضح في خطتهما نحو منهج التغريب الذي قاده كرومر والذي وضع للصحافة والثقافة والتعليم منهجاً جديداً مفرغاً من الإسلام وهو المنهج الذي صنع ذلك الجيل الذي دخل الجامعة وكليه الآداب في أول افتتاح الجامعة المصرية 1925 (وقد قام بالدور الأكبر فيه الدكتور طه حسين) ومدرسة السياسة (هيكل وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي) وغيرهم.
ولا ريب أن كتابات لطفي السيد ومخططات سعد زغلول تكشف عن تجاوز كبير للنبع الذي صدرا منه . وعن مفاهيم جمال الدين ومحمد عبده ومهما كانت كتابات كرومر عن محمد عبده وحزبه فإنه ما كان يقر هذا التحول الذي وصل إليه الرجلان الذين أسلمهما كرومر مقادة الصحافة (لطفي السيد) والتربية (سعد زغلول) ومفاهيمهما هي مفاهيم كرومر وخطتهما هي خطته" [عقبات في طريق النهضة: ص 76-77].
قلت: والحق خلاف ما ذكره الجندي! الذي أحسن الظن كثيراً بمحمد عبده وشيخه، وتغافل أنهما -لا سيما الأخير– قد راهن عليهما المستعمر كثيراً، ومكن لمدرستهما، ورحب بها، لتكون خليفة له بعد رحيله عن مصر؛ نظراً لأنها تحقق له أهدافه.
(3/2)
نعم قد يكون لطفي السيد وسعد زغلول قد زادا في الانحراف عن الإسلام أكثر من شيخيهما، إلا أن هذا أمر متوقع لكل من تأثر بهذه المدرسة التي كانت تعاليمها أول ممهد لمثل هذا الانحراف، وهكذا البدع والانحرافات تبدأ صغيرة ثم لا تلبث أن تكبر وتتسع وتزداد، لأن القاعدة التي انطلقت منها تسمح بذلك.
انحرافاته :
1- أعظم انحراف له، بل هو من الكفريات –والعياذ بالله- أنه –كما يقول ألبرت حوراني- :" لم يكن مقتنعاً كأساتذته! بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي" !! [الفكر العربي في عصر النهضة، ص211] وتوضيح هذا كما يقول حوراني : أن "الدين –سواء كان الإسلام أو غيره- لا يعنيه إلا كأحد العوامل المكونة للمجتمع" .
كان يرى أن ليس باستطاعة بلد له تقاليد –كمصر- أن يقيم حياة الفرد وبناء الفضائل الاجتماعية إلا على أساس الإيمان الديني، وأن الإسلام-كدين لمصر- لا يمكن إلا أن يكون هذا الأساس. لكنه رأى أن أدياناً أخرى قد تصلح لبلدان أخرى، وبتعبير آخر، كان لطفي السيد مقتنعاً بأن المجتمع الديني خير من المجتمع اللاديني (على الأقل في مرحلة معينة من التطور)، لكنه لم يكن مقتنعاً كأساتذته بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي. وفي هذا يقول: "لست ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة. ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره. وهذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لا شك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن. فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام" [المرجع السابق :ص211-212نقلاً عن صفحات مطوية، لطفي السيد، (1/118)] .
(3/3)
قلت: فلطفي السيد إذاً لا يفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أو النِحل! فجميعها –في نظره سواء- ما دامت تجعل معتنقها يحب الخير ويفعله، ويكره الشر ويبتعد عنه! فنعوذ بالله من خلط الكفر بالإسلام،
2- دعوته إلى (العلمانية) وعزل الإسلام عن أن يكون مرجعاً لسلوك الفرد والمجتمع إلى كونه مجرد علاقة بين العبد وربه يحتفظ بها في ضميره!!.
يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :"إن تأكيد لطفي السيد على العلمانية وإحالة الدين إلى ضمير الفرد أثار النقاد الذين نددوا به واتهموه بالإلحاد" [ص 329].
3- إلحاده !! –إن صح النقل عنه- فقد قال مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :" أخبرني عبد الرحمن الرافعي المحامي المؤرخ مرة أن لطفي السيد كان شيخ الملحدين . ولكن عبد الرزاق السنهوري الذي سمع هذه الملاحظة قال: إن شيخ الملحدين هو شبلي شميّل وليس لطفي السيد، على الرغم من أن لطفي نفسه من الملحدين!! وقال الرافعي إن لطفي كمدير للجامعة المصرية دافع عن ملحدين آخرين ؛ كطه حسين ومنصور فهمي وحسين هيكل " [ص329] .
"وقال لي السنهوري –وهو صديق حميم للطفي السيد- إن لطفي أثار شكوكاً جدية في المعتقدات الدينية التقليدية" وأنه "أعرب عن شكوك خطيرة فيها، وقد ظل مشككاً حتى آخر حياته" !! [ص330].
4- طعنه في الشريعة الإسلامية بأنها غير صالحة لهذا العصر!! يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "قال لي -أي لطفي السيد- مرة في سياق الحديث: إن الشريعة الإسلامية وهي في حالة ركود منذ زمن بعيد لم تعد تتفق والأوضاع الجديدة للحياة"!! [ص330].
5- دعوته إلى الوطنية الضيقة التي رفعت شعار "مصر للمصريين" ! فأعادت النعرة الجاهلية من جديد، حيث استبدل لطفي السيد رباط الأخوة الإسلامية بهذا الرباط الجاهلي.
(3/4)
يقول ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) : "كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر" [ص216].
وأن "لمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي، ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني، لا للاعتزاز به فحسب! ، بل لأنه يلقنهم قوانين النمو الارتقاء" [ص 216-217] .
وقد ذهب لطفي السيد في غلوه الجاهلي إلى القول بأن "القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها" !! [ص 218].
ويقول –أيضاً- : "أما الأمة الإسلامية فكادت تقع خارج نطاق تفكيره" [ص 224] .
ويقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : "كانت فكرته –أي لطفي- في الأمة –كما استقاها من الفكرة الأوروبي ! إقليمية، لا إسلامية" [ص328]
ويقول –أيضاً- : "نادى بهوية مصرية وطنية تستند إلى تاريخها المتواصل، الذي لم يكن الحكم الإسلامي فيه إلا مجرد فصل واحد" [ص328].
6- "الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمنصرون قبله، وكان أبرز ما دعا إليه:
أ إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة.
ب تسكين أواخر الكلمات.
ج إحياء الكلمات العامية المتداولة، وإدخالها في صلب اللغة الفصحى" [انظر: رجال اختلف فيه الرأي، لأنور الجندي، ص 4، بتصرف].
قلت: وانظر للتدليل على ما سبق من كلام لطفي السيد، كتاب (قمم أدبية) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد.
7- دعوته إلى مذهب (المنفعة) دون ضوابط شرعية لهذه المنفعة، وقد استقى هذا المذهب كما يقول الدكتور حسين النجار من الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل) .
(3/5)
قال الدكتور: " فمذهب المنفعة هو القاعدة في تفكيره السياسي والاجتماعي، فالمنفعة هي الحافز الأصيل للعلاقة بين الدول بعضها ببعض، وبين الحكومة والأفراد، أو بين الأفراد فيما بينهم" [أحمد لطفي السيد، للنجار، ص202-203]
قلت: وتطبيقاً لهذا المذهب الغربي فقد عارض لطفي السيد "مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911، وكتب في هذا المعنى تحت عنوان (سياسة المنافع لا سياسة العواطف)! مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم" [رجال اختلف فيهم الرأي، للجندي، ص5]
8- دعوته للديمقراطية: ولم يعد يخفى على عاقل مخالفة هذا المذهب للإسلام، وأنه مذهب يحوي الكثير من الكفريات، بداية بتحكيم ما لم ينزل الله، وانتهاء بنقض مبدأ الولاء والبراء الشرعي ... الخ.
يقول الدكتور حسين النجار: "أما لطفي السيد وأضرابه من المثقفين فقد استهوتهم الديمقراطية كمذهب" [أحمد لطفي السيد، ص 82].
ويقول عنه بأنه : " بهرته الحياة السياسية للدولة القومية في الغرب، فكانت وحياً لفلسفته السياسية التي أخذ يبشر بها المصريين" [المرجع السابق، ص199]
9- دعوته لمذهب (الحرية) بالمفهوم الغربي، دون أي ضوابط شرعية لهذه الحرية!
يقول الدكتور النجار: "الفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها" [أحمد لطفي السيد، ص 331].
ويقول –أيضاً- : "أما مذهب الحرية الذي نادى به جون ستيوارت مل أساساً للنظام الاجتماعي فقد اتخذه لطفي السيد أساساً لما أسماه "مذهب الحريين" للدولة" [المرجع السابق، ص 203].
ويقول مجيد خدوري : "ازداد حب لطفي السيد للحرية بدراسته للفكر الأوروبي" [عرب معاصرون، ص 326].
(3/6)
ويقول ألبرت حوراني: "كان مفهوم لطفي السيد للحرية –كما يعترف هو نفسه باعتزاز – مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر" [الفكر العربي في عصر النهضة، ص 213].
10- أنه كان مهادناً للاستعمار الإنجليزي لمصر، بل كان صنيعة لهم؛ ليحقق هو وأضرابه أهدافهم بعد الرحيل عن مصر.
يقول الأستاذ أنور الجندي: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها، وكان أبرزها: لطفي السيد" [عقبات في طريق النهضة، ص 59].
ويقول –أيضاً-: "إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم أصحاب المصالح الحقيقية) وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب، وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء" [رجال اختلف فيهم الرأي ، ص 7].
ويقول مجيد خدوري :" وكان اللورد كرومر قبل مغادرته مصر بقليل، قد أعجب باعتدال هذه الكتلة –أي مدرسة محمد عبده- وراح يشجعها على تأسيس حزب الأمة، بغية مجابهة نفوذ أتباع مصطفى كامل من الوطنيين" [عرب معاصرون، ص315].
ويقول عنه –أيضاً- :" كثيراً ما لام الوطنيين لمعارضة بريطانيا" !! [المرجع السابق، ص 331].
ويقول فتحي رضوان: " إنك لتقرأ كل ما كتب لطفي السيد في الجريدة في موضوع علاقة مصر ببريطانيا، وفي موضوع علاقة مصر بتركيا، فإذا به في الموضوع الأول لطيفاً، كأنه مر النسيم، يخاف أن يخدش خد الاستعمار، أما في الموضوع الثاني فهو متحمس غضوب فما سر هذا، وما تفسيره؟ " [عصر ورجال، ص 443].
(3/7)
قلت: ولأجل هذا نفهم تمجيده ومدحه للورد كرومر الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن!! حيث قال يوم خروجه من مصر:" أمامنا الآن رجل عظيم، من أعظم عظماء الرجال، ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال" !! نشر هذا في "الجريدة" في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع، فسب المصريين جميعاً وقال لهم: إن الاحتلال البريطاني باقٍ إلى الأبد !! [انظر : رجال اختلف فيهم الرأي، لأنور الجندي، ص 5-6].
11- دعوته ومؤازرته لحركة تحرير المرأة التي قادها صاحبه قاسم أمين –عليه من الله ما يستحقه-
يقول الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر" [أحمد لطفي السيد، ص 243]
وقال –أيضاً- :" ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة" [المرجع السابق، ص248]
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حُسن تفكيره" [المنتخبات (1/11)]
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، [انظر:المنتخبات، (1/268 وما بعدها)]
وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجماعة المصرية) هو وأصحابه بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهم في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها"
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
12- دعوته إلى دراسة الفكر اليوناني، والاقتباس منه، وتشجيع تلاميذه على ذلك.
(3/8)
يقول الأستاذ مجيد خدوري: "رأى لطفي السيد من الضروري إعادة تعريف أبناء بلده بأرسطو الذي كان لطفي نفسه يدين إليه بكثير من آرائه في السلطة والحرية؛ مما جعله يشجع تلاميذه على دراسة الفكر اليوناني. لقد نشر خلال عشرين سنة ترجمات لكتاب "علم الأخلاق" في سنة 1924 وكتاب "الكون والفساد" في سنة 1932 وكتاب "علم الطبيعة" في سنة 1935 وكتاب "السياسة" في سنة 1940.
وهكذا فإن دراسة الفكر اليوناني لم يكن لها أثرها في تفكيره العلماني فحسب، بل في تفكير تلاميذه" [عرب معاصرون، ص 335-336].
قلت: ولكن بقي أن تعلم ما قاله الأستاذ أنور الجندي في هذه الترجمات التي قام بها لطفي السيد .
قال الأستاذ أنور: "تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) (السياسة. الكون والفساد. الأخلاق) وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية!! وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة" [رجال اختلف فيهم الرأي، ص6]
__________
(1) انظر للتوسع: (أحمد لطفي السيد: أستاذ الجيل !) للدكتور حسين فوزي النجار. والترجمة من أعلام الزركلي.
(3/9)
::::: المجموعة الأولى :::::
نظرة شرعية في فكر (جبران خليل جبران )
هو جبران بن خليل جبران بن ميخائيل بن سعد، نزح جده من دمشق إلى بعلبك ومنها إلى بشعلا ومنها نزح يوسف مع أخويه موسى وميخائيل إلى بشري.
حياته:
ولد في قرية لبنانية قرب نبع قاديشا هي بشري، عام 1883م، عائلته فقيرة وبيئته متأخرة. هاجر مع أمه وأخيه الأكبر بطرس وأختيه ماريانا وسلطانة عام 1895م إلى بوسطن في الولايات المتحدة الشمالية. ونزل حي الصينيين الفقير. وهو في سن الثانية عشرة ولما يكمل دروسه الابتدائية. فأرسله أخوه بطرس رب العائلة الصغيرة إلى المدرسة ليتعلم اللغة الإنجليزية ثم أعاده بعد ذلك إلى لبنان ليدرس العربية. فدرسها في مدرسة الحكمة مدة أربع سنوات. ثم عاد إلى بوسطن ليرى أن داء السل قد فشا في بيت العائلة وحصد أخته الصغيرة سلطانة في غيبته وبعد عام واحد انتزع من ذراعيه أمه ثم أخاه بطرس. وبقيت له أخته ماريانا تشتغل بالإبرة لكي توفر له القوت. وفي العشرين شرع جبران في الإنشاء والرسم. وتعرف على "ماري هاسكل" في معرض من معارض رسومه فغيرت مجرى حياته بعطفها عليه وعنايتها بمستقبله. وفي عام 1908م سافر إلى باريس على نفقة ماري هاسكل للتخصص في فن الرسم وتتلمذ على أشهر رسام معاصر هو "رودان" ثم عاد إلى بوسطن. وفي عام 1912م انتقل إلى نيويورك واستقر فيها. وأثرت الحرب العالمية الأولى على نفسه تأثيراً كبيراً إذ اجتمع عنده الفقر والمصيبة وقلة رواج كتبه التي ألفها باللغة العربية حتى ذلك الحين. ولكنه منذ عام 1920م وبعد أن تأسست الرابطة القلمية انصرف إلى التأليف باللغة الإنجليزية فأصدر ثمانية كتب في ثمانية أعوام درّت عليه أرباحاً طائلة .
مات جبران عام 1931 بأحد مشافي نيويورك ثم نقل جثمانه إلى لبنان في العام ذاته حيث دفن في بلدته "بشري"
آثاره : باللغة العربية:
(4/1)
1- كتاب " الموسيقى" صدر عام 1905م، وهو كتيب عبارة عن تأملات في الموسيقى وطاقاتها التعبيرية!
2- كتاب "عرائس المروج" صدر عام 1906م، يحتوي على ثلاث قصص: "رماد الأجيال والنار الخالدة" و "مرتا البانيّة" و "يوحنا المجنون" .
3- كتاب "الأرواح المتمردة" صدر عام 1908م، يحتوي على أربع قصص: "السيدة وردة الهاني" و"صراخ القبور" و"مضجع العروس" و"خليل الكافر"
أما الأولى فقصة فتاة أُكرهت على الاقتران برجل غنيّ متقدّم في السن فما لبثت أن كرهت الزوج يوم التقت بالفتى الذي أثار كوامن نفسها. والقصة شكوى وتظلُّم، وثورة على السلطة التي تُكره على الزواج إكراهاً، لأن الزواج زواج أرواح قبل أن يكون زواج أجساد.
وأما الثانية فقصة ثلاثة أشخاص –رجلين وامرأة- حكم عليهم الأمير بالقتل ظُلماً وطغياناً، وفيها ثورة على الشريعة والإقطاعية!
وأما الثالثة فقصة فتاة غشّها رجل غنيّ ففصلها عن حبيبها حتى يقترن بها، وفي ليلة الزفاف عرفت الحقيقة وقد طعنت حبيبها ونفسها بخنجر كانت تخبئه في ثيابها. وفي القصة ثورة على التقاليد وعلى الدين!!
وأما الرابعة فقصة رجل اختصم مع الرهبان، وهي ثورة على ظلم الحكّام وعلى الرهبان، ودعوة إلى الحرية الشاملة!
4- "الأجنحة المتكسّرة: "كتاب صدر سنة 1912م، واحتوى على قصة جبران في حبّه الأول وكيف حالت التقاليد وسلطه رجال الدين النصراني! دون اقتران الحبيبين، فاقترنت الفتاة بابن أخي المطران عن غير حبّ وكان في ذلك شقاؤها.
5- كتاب: "دمعة وابتسامة" صدر سنة 1914م وفيه مقالات في المحبة التي تشدّ الأكوان بعضها إلى بعض، وفي ألوهية الإنسان!! وغير ذلك من الموضوعات.
(4/2)
6- المواكب: قصيدة طويلة ظهرت سنة 1919م، وفيها نظرات فلسفية في أهم شؤون الحياة البشرية كالخير والشر والدين والحق والعدل وما إلى ذلك. قال ميخائيل نعيمة: "انجرف جبران بتيار نيتشه وما برحت معتقداته السابقة تشده إلى الوراء. فكانت "المواكب" نتيجة لتلك الحالة القلقة التي أحسها جبران ما بين قوتين تتجاذبانه: قوة الإيمان بحكمة الحياة وعدلها وجمالها في كل ما تأتيه، وقوة النقمة التي أثارها فيه نيتشه من جديد على ضعف الناس وخنوعهم وتواكلهم وكل ما في حياتهم الباطنية والخارجية من قذارة وبشاعة. وانتصر نيتشه في النهاية! ولكن إلى حين".
7- كتاب" العواصف": صدر سنة 1920م وفيه مقالات عنيفة على المقدسات، كمقالات "حفّار القبور" و"العبودية" و"يا بني أمي"، و"نحن وأنتم"، و"الأضراس المسوّسة" .
ب- المؤلفات الإنجليزية:
8- كتاب: "المجنون" صدر سنة 1918م، واحتوى على أمثال وتأملات في موضوعات شتى.
9- كتاب: "السابق" : صدر سنة 1920م، واتخذ فيه جبران أسلوب الأمثال أيضاً، وجعله تمهيداً لكتاب "النبي" .
10- كتاب: "النبي": صدر سنة 1923م، وهو كتاب جبران وهدف حياته احتوى على ضلالات وكفريات كما سيأتي –حيث جعل جبران من نفسه نبياً، وسمى نفسه في الكتاب "المصطفى" !! وهو يقع في 28 فصلاً في المحبة، والزواج، والأبناء، والعطاء، والغذاء، والعمل، والفرح والترح، والمساكن، والثياب، والبيع والشراء، وما إلى ذلك. وهكذا تناول جبران في كتابه علاقة البشر بعضهم ببعض، وكان يهدف في كتابه "حديقة النبي" الذي ظهر سنة 1933م، أن يعالج علاقة الإنسان بالطبيعة، كما كان ينوي أن يضع كتاباً في "موت النبي" ويعالج فيه علاقة الإنسان بالله!
والظاهر أن جبران كان يفكر في هذا الكتاب منذ حداثته، وأنه بدأه باللغة العربية ثم عدل عنها إلى الإنجليزية، وأنه ظل خمس سنوات يكتبه ويعيد كتابته إلى أن استقام له معنى ومبنى. وقد ترجم الكتاب إلى نحو عشرين لغة.
(4/3)
11- كتاب:"رمل وزبد" صدر سنة 1926م وفيه مجموعة من الآراء منثورة في غير نظام.
12- كتاب: "يسوع ابن الإنسان" صدر سنة 1928م، ويسوع جبران يختلف تماماً عن يسوع الإنجيل.
13- كتاب "آلهة الأرض" ، صدر عام 1931م، وهو آخر كتاب له صدر في حياته.
14- كتاب " التائه"، صدر بعد وفاته عام 1932م، ويحتوي على خمسين قصة من قصص التائه.
- من تمعن جيداً في حياة وآثار جبران خليل جبران علم بلا شك أن الرجل قد أعطي أكبر من حجمه الحقيقي، سواء في مجال الفكر أو الأدب ! فأعماله الكاملة يحتويها مجلد واحد !! وهي في معظمها قصص قصيرة وخلجات نفس حائرة مضطربة تنزع إلى التشاؤم والشكوى، ولكن لعل مبالغة البعض في هذا الرجل تنبع من أمرين:
1- رئاسته للرابطة القلمية في المهجر، وهذا لا يدل على إبداع، إنما يخضع لاعتبارات كثيرة –لا تخفى على أحد-.
2- ثورته العارمة الهادمة ضد المقدسات والتقاليد !! فهي التي تميز المبدعين عن غيرهم في نظر القوم ! ولو ترووا لعلموا أن ليس كل ثائر يكون مبدعاً –ولو على حسب نظرتهم.
- ذكر كثير من مترجمي سيرته أنه بعد حرمان الكنيسة له وهو في العشرين من عمره على إثر قصيدته التي هاجم بها الأديان، اندفع في طريق إحياء أمجاد (فينيقية) وحضارة ! الكلدانيين .
- ثم وجدناه في حياته بعد نبذه للشرائع (كلها) قد تأثر بالزرادشتية المجوسية، وأفكار الفليسوف نيتشه في تمجيده للإنسان وتصويره بصورة (السوبرمان) مدعياً جبران بأنه هو هذا (السوبرمان) ! وذلك في كتابه "النبي" حيث صور نفسه نبياً –كما سبق- ! وهكذا يفعل الكِبْر والغرور بصاحبه-والعياذ بالله-.
(4/4)
يقول الأستاذ أنور الجندي: "لقد حاول جبران كما حاولت مدرسة المهجريين إحياء الفينيقية الوثنية، ومهاجمة قيم العروبة والإسلام، فأعادت وأحيت كل ما رددته فلسفات زرادشت والمجوسية ووثنية اليونان والرومان، هرباً وراء فرويد ونيتشه وغيرهما، وكان هذا كله مصاغاً في إطار التوراة وأسلوبها" (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام ،ص 168).
ويقول الدكتور نذير العظمة: "جبران يحتفل بالعقائد الوثنية" (مجلة الموقف العربي، العددان 151-152، ص42).
انحرافاته:
1- أعظم انحراف له هو "نصرانيته" ! وليس بعد الكفر ذنب.
2- ثورته العنيفة ضد الأديان (ومن ضمنها الإسلام!) والتقاليد، ومحاولته هدم ما جاءت به، أو التقليل من شأنه. وهو في هذا لا ينبع من تصرف فردي، إنما يتابع أهداف مدرسة المهجر التي أنشأها مع مجموعة من النصارى؛ كميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهما.
يقول الأستاذ أنور الجندي: "الواقع أن الأدب المهجري قد اعتمد على مصدر أساسي، هو الحملة العنيفة على الدين واللغة، ومقومات المجتمع العربي الإسلامي، والثورة على كل القيم والعقائد والإفراط في الإباحية ومهاجمة القيم الأخلاقية في الحب والزواج من إدخال أسلوب جديد مستغرب يصادم الحس الإسلامي ويعارض مفاهيم البلاغة، ويعلي من صيغة التوراة والمجاز الغربي" .
قال: "ويمكن القول بأن المدرسة المهجرية الشمالية التي كونها جبران، ورأس ناديها كانت ثمرة من ثمار الإرساليات التبشيرية التي وردت لبنان وسيطرت على وحدة التعليم والثقافة فيه". (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص 166)
(4/5)
قلت: ولو كانت ثورة جبران على الخرافات والأغلال النصرانية لكنّا له من المؤيدين، لكنه كان يثور على الأديان جميعاً وينشر الإلحاد والإباحية والفوضوية، وهذا مكمن الخطر على قرائه من المسلمين الذين قد يتأثر بعضهم بانحرافاته، ويتابعه في ثورته الإلحادية تلك التي يقول عنها جبران نفسه في رسالة له لإميل زيدان :"إن فكري لم يثمر غير الحصرم" ! (المرجع السابق، ص167) .
وقد صدق فيما قال! فهل يثمر الإلحاد والفوضى غير الحيرة والشك والاضطراب؟! .
ومما يشهد لثورة الرجل على الأديان (جميعاً) وعلى التقاليد والمقدسات كتبه (الأجنحة المتكسرة) و(عرائس المروج) و(الأرواح المتمردة) و(المواكب) و(العواصف) .
يقول حنا الفاخوري :" وهكذا ترى جبران في كتبه "الأجنحة المتكسرة" و"الأرواح المتمردة" و"المواكب" و"العواصف" يحمل معول الهدم في ثورة انفعالية شديدة" (الجامع في تاريخ الأدب العربي-الأدب الحديث – ص236) .
ويقول جبران عن نفسه في رسالته لصديقه (نخله) : "إن القوم في سوريا يدعونني كافراً، والأدباء في مصر ينتقدونني قائلين: هذا عدو الشرائع القديمة، والروابط القديمة، والتقاليد القديمة، وهؤلاء الكتاب يا نخلة يقولون الحقيقة ! لأني بعد استفسار نفسي وجدتها تكره الشرائع" (إعادة النظر ... ، ص 167) .
فمن أقواله التي تعبر لك عن شيء من تمرده:
أ قوله: "كيف نستطيع أن نعبد الله، وهو الذي يثير البراكين ويتموج مع البحار، ويسير مع العاصفة" !! (عقيدة جبران ، لجان دايه، ص289).
ب قوله: "لكم فكرتكم ولي فكرتي، لكم من فكرتكم قواميسها الاجتماعية والدينية ومطالبها الفنية والسياسية، ولي من فكرتي أوليات قليلة بسيطة.
تقول فكرتكم: "امرأة حسناء قبيحة، فاضلة عاهرة، حاذقة بليدة"، أما فكرتي فتقول: "كل امرأة والدة كل رجل، كلُّ امرأة أخت كل رجل، كل امرأة ابنة كل رجل".
(4/6)
وتقول فكرتكم: "لصٌ، مجرم، قاتل، خبيث، عقوق". أما فكرتي فتقول: "إنما اللص صنيعة المحتكر، والمجرم خليقة الظالم، والقاتل حليف القتيل، والخبيث ثمرة العربيد، والعقوق نتيجة الصارم".
وتقول فكرتكم: "شرائع، محاكم، قضاة، عقوبات". إذا كان ثمَّ من شريعة وضعية فكلنا يخالفها أو كلنا يخضع لها. وإن كان من ناموس أساسي فكلنا واحد أمام ذلك الناموس، فمن يتأفف من الساقطين كان منهم، ومن يلمُّ أذياله كيلا تلامس المنطرحين على الأوحال كان مغموراً بالأوحال. أما الذي يفاخر بترفعه عن العثور والزلل فإنما يفاخر بترفع الإنسانية جمعاء، والذي يتبجح بعصمته إنما يتبجح بعصمة الحياة نفسها".
وتقول فكرتكم: "الماهر، المتفنن، الأستاذ، النابغة، العبقري، الفيلسوف، الإمام" أما فكرتي فتقول: "الودود، المحب، الحليف، الصادق، المستقيم، المضحي، المستشهد".
وتقول فكرتكم: "الموسوية، البرهمية، البوذية، المسيحية، الإسلام". أما فكرتي فتقول: "ليس هناك سوى دين واحد مجرّد مطلق تعدّدت مظاهره وظل مجرّداً، وتشعَّبت سبله ولكن مثلما تتفرّع الأصابع من الكف الواحدة".
وتقول فكرتكم: "الكافر، المشرك، الدهري، الخارجي، الزنديق" أما فكرتي فتقول: "الحائر، التائه، الضعيف، الضرير، اليتيم بعقله وروحه".
وتقول فكرتكم: "الغني، الفقير، الواهب، المستعطي". أما فكرتي فتقول: "كلنا فقيرٌ ولا غنيٌ سوى الحياة، كلنا مستعطٍ ولا واهبٌ إلا الحياة". (المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران، نصوص خارج المجموعة، ص88 وما بعدها).
ج قوله في (العواصف) : "أنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي قلبي كرهٌ لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة" ! (ص 394، ضمن الأعمال الكاملة له).
(4/7)
3- ومن انحرافاته : تصويره نفسه بصورة (النبي) كبراً وعلواً في الأرض حيث وضع كتاباً بهذا العنوان –كما سبق- مدعياً فيه أن هناك نبياً مختاراً اسمه (المصطفى) كان يُعلم أبناء مدينة "أورفليس" بعد أن مكث عندهم 12 سنة منتظراً عودة سفينته التي ستقله إلى جزيرته التي أتى منها .
فكانوا يسألونه وهو يجيب.
يقول حنا الفاخوري: "المصطفى هو جبران نفسه، والجزيرة هي وطنه لبنان " (الجامع في تاريخ الأدب العربي –الأدب الحديث، ص232).
4- ومن انحرافاته: دعوته إلى وحدة الأديان، فهو بعد نبذه لجميع الشرائع مدعياً بأنها تفرق البشر، دعا إلى فكرته الباطلة هذه –كما سبق-. يقول حنا الفاخوري مبيناً أن جبران وصحبه المهجريين اعتنقوا ما يُسمى (التيوصوفية) التي ظهرت في القرن الخامس عشر، قال: "والتيوصوفية ترفض من أجل ذلك التقاليد والأنظمة التي تتوارثها الأجيال، ولا تجد فرقاً بين الأديان، فهي جميعها في نظرها واحدة" (المرجع السابق، ص 238).
5- ومن انحرافاته : إيمانه بوحدة الوجود! الفكرة الصوفية الشهيرة! (انظر: المرجع السابق، ص 239).
6- ومن انحرافاته : إيمانه بتناسخ الأرواح! (انظر بحث الدكتور نذير العظمة: جبران خليل جبران وعقيدة التقمص، مجلة الموقف الأدبي، العددان 151-152، ص 39 وما بعدها).
يقول الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي عن جبران :"كان يؤمن بتناسخ الأرواح" وذلك تعليقاً على قول جبران: " قريباً ترونني ؛ لأن امرأة أخرى ستلدني" ! (قصة الأدب المهجري، ص 89).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
(4/8)
::::: المجموعة الأولى :::::
نظرة شرعية في أدب (أبي القاسم الشابي)
ترجمته :
هو أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي. وُلد في الشابيّة إحدى ضواحي توزر سنة 1909بتونس.
لم يمكث الشابي في مسقط رأسه إلا قليلاً، فقد اضطر أن ينتقل مع أبيه القاضي من مكان إلى مكان، وأن يضرب في الديار التونسية من بيئة إلى بيئة، وفي سنة 1920 التحق بجامع الزيتونة، فأتقن القرآن والعربية وتمرّس بالأدب، وكان له ميل شديد إلى المطالعة، فحصّل بها وبنشاطه ثقافة واسعة جمع فيها ما بين التراث العربي القديم ومعطيات الفكر الحديث والأدب الحديث، وغذّى مواهبه بأدب النهضة في مصر ولبنان والعراق وسورية والمهجر، كما نمى طاقاته الأدبية والشعرية بمطالعة ما تُرجم إلى العربية من آداب الغرب، ولا سيمّا أدب الرومنطيقية الفرنسية. وقد ظهر نبوغه الشعري وهو في الخامسة عشرة من عمره.
على أثر تخرّجه من جامع الزيتونة التحق بكلية الحقوق التونسية، وكان تخرجه منها سنة 1930. في هذه الأثناء توفّي والده وترك له عبء الحياة ثقيلاً، فحاول أن ينهض بالعبء ومسؤولية العيلة، ولكنه أصيب بداء تضخّم القلب وهو في الثانية والعشرين من عمره فنهاه الأطباء عن الإرهاق الفكري فلم ينتهِ، وواصل عمله وفي نفسه ثورة على الحياة، وفي قلبه تجهم قتّال.
وفي صيف 1934 جمع ديوانه "أغاني الحياة" ونوى أن يطبعه في مصر، ولكن الداء اشتدّ به وألزمه الفراش، فنُقل إلى المستشفى الإيطالي بالعاصمة حيث فارق الحياة في التاسع من شهر تشرين الأول سنة 1934. ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه ودُفن في الشابيّة".
(الموجز في الأدب العربي وتاريخه (4/699-700) لحنا فاخوري) و(الجامع في تاريخ الأدب العربي) (ص554 وما بعدها) لحنا فاخوري.
(5/1)
- يعد أبو القاسم الشابي –بحق- شاعر الاكتئاب والتشاؤم في العصر الحديث، فمعظم شعره يدور حول كرهه للحياة أو التحدث عن مآسيها، وكثرة الاعتراض على أقدار الله، إضافةً إلى تشاؤمه الواضح لكل مطلع على آثاره.
يقول الباحث أبو القاسم محمد كرو، وهو الخبير بالشابي- :"الشيء الذي يلاحظ في شعر أبي القاسم عامةً هو رفضه للحياة البشرية على أنها مظلمة مزيفة، يصيب الإنسان فيها الشقاء والألم" .(آثار الشابي ، ص 10) .
ولعل المرض الذي أصابه كان سبباً في هذه الظاهرة المقارنة لشعره. يقول الدكتور عمر فروخ: "كان للمرض الذي عاناه الشابي أثر بالغ في اتجاهه في الحياة وفي الشعر، وسنجد شعره مملوء بالتشاؤم وبالنقمة على الناس وعلى أحوالهم".
ويقول :"لا خلاف في أن الشابي كان متشائماً كئيب النفس، فقد قال هو عن نفسه :" إنني في كثير من الأحيان .. تطغى على نفسي كآبه الملل المبهم، فأصرف عن الكتب والناس، ويوصد قلبي عن جمال الوجود"
ويقول الدكتور عمر فروخ: "فالشابي متشائم ناقم على الناس، كاره للحياة". ( الشابي شاعر الحب والحياة ، ص : 116-117 ، 119 ، 124).
وقد قيل –أيضاً- بأن موت والده وتحمله أعباء الحياة مبكراً كان السبب الرئيس لهذا التشاؤم والاكتئاب والحزن.
ومهما قيل من أسباب فقد كان الواجب على الشاعر وهو مسلم أن يرضى بأقدار الله وأن يلتجئ إليه سبحانه في كشف ما يصيبه من ملمات وأن يسارع في التزام عبودية الله –سبحانه- واتباع أوامره وترك نواهيه لكي يعثر على السعادة والاطمئنان النفسي اللذين طالما بحث عنهما كما يتبين ذلك من أشعاره.
ولكن الشاعر اختار الطريق الآخر الذي لا يجدي شيئاً ولا يغير من أحوال الكون أو يرد أقدار الله، وهو طريق التشاؤم والنظرة السوداوية للحياة.
وإليك شيئاً من أشعاره التي تبين مدى إغراقه في الحزن والضجر من الحياة:
يقول في قصيدة (الكآبة المجهولة):( ديوانه ، ص 90-91) "
أنا كئيب
أنا غريب
(5/2)
كآبتي خالفت نظائرها
غريبة في عالم الحزن
كآبتي فكرة
مغردة مجهولة من مسامع الزمن"
ويقول ( 115):
"إن الحياة كئيبة مغمورة بدموعها"
ويقول (122):
"سئمت الحياة وما في الحياة"
ويقول (156):
"الاكتئاب الكافر"
أما اعتراضه على (القدر) فيكفيك منه قصيدته الرنانة(406):
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ويقول(340):
ولكن هو القدر المستبد
يلذ له نوحنا ، كالنشيد!
ويقول(478):
وقهقه القدر الجبار سخرية
بالكائنات تضاحك أيها القدر!
ويقول في أحد خطاباته( كرو ، 156):
(هاهي الأقدار العاتية تعبث بنا نحن البشر الضعاف، وترمينا بما لا نستطيع احتماله ... . الخ) .
انحرافاته :
1- تشككه في وجود الله !!
سبق أن علمنا أن الشابي قد أصابه المرض مبكراً، وتحمل أعباء الحياة بعد موت والده، ولكونه لم يلتجئ إلى الله –عز وجل- في محنته، إنما تبرم وتسخط الأقدار، وغاص قلبه في الاكتئاب والتشاؤم، كل هذا أداه إلى أن يشطح شطحة لا تصدر عن مسلم، وهي تشككه في وجود الله –سبحانه وتعالى- !! .
يقول الدكتور عمر فروخ(139):" لما أفاق الشابي من النوبة الشديدة التي انتابته، عام 1930، نظم قصيدته "إلى الله" (ديوانه 98-101 = 239-245) فشطح فيها شطحة هي الإلحاد قال:
خبّروني هل للورى من إلهٍ راحم-مثل زعمهم –أواه!
إنني لم أجده في هاته الدنيا فهل خلف أفقها من إله؟
ويدرك الشابي الزلق الخطر الذي وضع قدمه عليه، قبل أن يرتد نفَسه عن البيت الثاني فيقول بعده مباشرة:
ما الذي قد أتيت، ياقلبي الباكي، وماذا قد قلتِه، ياشفاهي؟
يا إلهي، قد أنطق الهم قلبي بالذي كان، فاغتفر، ياإلهي!"
2- امتهانه لاسم (الله) !
يقول في إحدى قصائده(78) :
إن هذي الحياة قيثارة الله
وأهل الحياة مثل اللحون
ويقول مخاطباً الله –تعالى- ! في قصيدة بعنوان (إلى الله) : يعترض على الله في أقداره
يا إله الوجود ! هذي جراح
في فؤادي تشكو إليك الدواهي
أنت أنزلتني إلى ظلمة الأرض
(5/3)
وقد كنتُ في صباحٍ زاه
أنت أوقفتني على لجة الحزن
وجرعتني مرارة " آه "
... . إلى آخر اعتراضاته.
3- إيمانه بوحدة الوجود:
يقول الدكتور عمر فروخ(124-125): "يمكن أن تلمح شيئاً من آراء محيي الدين بن عربي عند الشابي.
لابن عربي مقطوعة يرى فيها أن جميع مظاهر هذا الوجود تدل على هذا التجلي أو على ذلك التجلي من الألوهية.
يقول ابن عربي:
كلما أذكره من طلل أو ربوع أو مغان، كلما..
وكذا السحب إذا قلت: بكت وكذا الزهر إذا ما ابتسما،
أو بروقٍ أو رعود أو صبا أو رياح أو جنوب أو شما
أو نساءٍ كاعباتٍ نهد طالعات أو شموس أو دمى
صفة قدسية علوية أعلمت أن لمثلي قدما
فاصرف الخاطر عن ظاهرها واطلب الباطن حتى تعلما
ويغلب على الظن أن الشابي قد رأي هذه المقطوعة لمحيي الدين ابن عربي قبل أن يقول مقطوعته التالية:
كل ما هب وما دب وما قام أو حام على هذا الوجود:
من طيور وزهور وشذا وينابيع وأغصان تميد،
وبحار وكهوف وذرى وديار وبراكين وبيد،
وضياء وظلال ودجى وفصول وغيوم ورعود ،
وثلوج وضباب عابر وأعاصير وأمطار تجود،
وتعاليم ودين ورؤى وأحاسيس وصمت ونشيد،
كلها تحيا بقلبي حرة غضة السحر كأطفال الخلود "
4- ثورته على الدين !:
يقول الدكتور عمر فروخ(136-137): "إذا نحن تأملنا بيئة الشابي العامة في تونس ثم بيئته الخاصة –فهو ابن قاض شرعي وخريج الجامعة الزيتونية- عجبنا لإمحاء الأثر الإسلامي في ديوانه. ثم نزيد تعجباً إذا رأينا الأثر الوثني شديد البروز في شعره. إن أول ما نلاحظه أن الألفاظ الدينية قد خسرت في شعر الشابي قدسيتها ودلالاتها المألوفة، فالله والنبي والصلاة والجحيم أصبحت عند الشابي كلمات عامة كسائر الألفاظ القاموسية الدائرة في الاستعمال اليومي.
من ذلك كله قوله: لتعس الورى شاء الإله وجودهم، صانكن الإله من ظلمة الروح، وتشدو كما شاء وحي الإله، فالنور ظل الإله". ومثل ذلك قوله (ديوانه 25=137، 170=413):
(5/4)
أيها الليل : يا أبا البوس والهول ويا هيكل الزمان الرهيب
فيك تجثو عرائس الأمل العذب تصلي بصوتها المحبوب
ورن نشيد الحياة المقدس في هيكل حالم قد سحر
وأكثر ما يقف الشابي ألفاظ الدين ورهبة العبادة والمعبود على المرأة في سياق وثني (ديوانه 160 = 397):
في فؤادي الرحيب معبد للجمال
شيدته الحياة بالرؤى والخيال
فتلوت الصلاة في خشوع الظلال
وحرقت البخور وأضأت الشموع
وأشد إيغالاً في التحلل من الوحدانية الإسلامية ما نجده في قصيدته "صلوات في هيكل الحب". ديوانه 122-123=303-314)، قال يخاطب محبوبته ويقيمها مقام الالوهية في القدس والعبادة والقدرة والإرادة، وفي الشفاعة والزلفى!!
أنت أنشودة الأناشيد غناك إله الغناء رب القصيد
أنت قدسي ومعبدي وصباحي وربيعي ونشوتي وخلودي
يا ابنة النور ، إنني أنا وحدي من رأى فيك روعة المعبود
فدعيني أعيش في ظلك العذب وفي قرب حسنك المشهود
وارحميني فقد تهدمت في كون من اليأس والظلام مشيد
وحرام عليك أن تسحقي آمال نفسٍ تصبو لعيش رغيد
فالاله العظيم لا يرجم العب د إذا كان في جلال السجود"
5- سخريته من (أئمة) المسلمين:
يقول الشاعر في إحدى قصائده :
ملئ الدهر بالخداع، فكم قد
ضلل الناس من إمامٍ وقس !
( الشابي شعب وشاعر ، للدكتورة نعمات فؤاد ، 79 )
فهو يقارن بين (قساوسة) النصارى و(أئمة) المسلمين في أنهم جميعاً قد ضللوا الناس !! فإذا كان هذا صحيحاً في (قساوسة) النصارى الذين وصفهم الله بالضلال في كتابه العزيز، فهل يصح هذا ويصدق في (أئمة) المسلمين؟ !! الذين قال الله عنهم (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون) فهم أئمة يهدون الخلق إلى الصراط المستقيم الذي إن ساروا عليه أنجاهم في الدنيا والآخرة، فكيف يجعلهم الشابي من الضالين؟! ويقارن بينهم وبين النصارى؟!
ألا إنه الحقد الأعمى على أهل الإسلام الصادقين
(5/5)
وبعدُ، فهذا هو أبو القاسم الشابي شاعر الحزن والاكتئاب والتشاؤم وشاعر الاعتراض على أقدار الله –سبحانه-، وهذه شيء من انحرافاته التي وقعت في شعره، من طالعها وطالع ديوان الشاعر علم كذب ما فاه به أخو الشاعر (محمد الشابي) عندما قال في خاتمة ديوان أخيه( ص 554 ) : "كان رحمه الله صادق التقى، قوي العقيدة، لا يخشى في الحق لومة لائم، له غيرة على شئون المسلمين والإسلام" !!!
قلت : بل كان الشابي عكس هذا تماماً! فهو متشكك العقيدة، ضعيف التقوى، كثير الاعتراض على ما قدره الله.
ومثل هذا المدح الكاذب ما ذكرته الدكتورة نعمات فؤاد في كتابها السابق عن الشابي، عندما دافعت عنه دفاعاً حاراً ، وردت ما وجهه له الدكتور عمر فروخ من اتهامات موثقة، مؤولة ما صدر عنه من انحرافات بالتأويلات الباردة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(5/6)
::::: المجموعة الأولى :::::
نظرة شرعية في فكر (محمد سعيد العشماوي)
ترجمته:
- هو المستشار محمد سعيد العشماوي، رئيس محكمة الجنايات ومحكمة أمن الدولة العليا بمصر.
- تخرج من كلية الحقوق عام 1955، ثم عمل بالقضاء الوضعي بمحاكم القاهرة والإسكندرية .
- عمل بالتدريس محاضراً في أصول الدين والشريعة والقانون في عدة جامعات؛ منها : الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة توبنجن بألمانيا الغربية، وأوبسالا بالسويد، ومعهد الدراسات الشرفية بليننجراد بروسيا، والسوربون بفرنسا.
- يقول عن نفسه بأنه نشأ نشأة صوفية! حيث كان يرتاد مسجد السيدة زينب والسيدة نفيسة ومسجد الحسين! .
- بدأ التأليف بعد تخرجه من الحقوق بأربع سنوات بكتابات إنسانية عامة، مثل: (رسالة الوجود) عام 1959م، و(تاريخ الوجودية في الفكر البشري) عام 1961م، و(ضمير العصر) عام 1968م، و(حصاد العقل) عام 1973م.
- بدأت كتاباته الإسلامية بكتابه (أصول الشريعة) عام 1980م، ثم كتاب (الربا والفائدة في الإسلام) ، ثم توالت كتبه الأخرى: (الإسلام السياسي) (جوهر الإسلام) (الخلافة الإسلامية) (الشريعة الإسلامية والقانون المصرية) (شئون إسلامية) (معالم الإسلام) .
- يعد العشماوي من دعاة فصل الدين عن الدولة، وتحوي كتبه –كما سيأتي- التشنيع على نظام الحكم الإسلامي، والتهجم على دعاة تطبيق الشريعة. ولا غرابة أن يصدر هذا ممن يحكم بطاغوت القانون الوضعي منذ تخرجه –والعياذ بالله- .
- يزعم العشماوي أنه من المجتهدين !! يقول :" وأعتقد أنه يوجد الآن تياران إسلاميان وليس واحداً، التيار الأول: عقلي تنويري، بدأ بمحمد عبده، ويسير فيه بعض المجتهدين من أمثالي ... .." !! (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 199).
انحرافاته:
1- من أعظم انحرافاته: زعمه نجاة اليهود والنصارى في الآخرة وإن لم يؤمنوا بالإسلام !! وعدم تكفيره لهم! (1) .
(6/1)
يقول العشماوي: "وكل من آمن بالله إيماناً صحيحاً واستقام في خلقه فهو عند الله (وبلفظ القرآن) مسلم لا خوفٌ عليه ولا حزن (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة البقرة 62:2.
غير أن بعض الفقهاء يرون أن هذه الآية منسوخة (ملغاة) بالآية (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) ويرتبون على ذلك –وعلى الظن بأن الإسلام مقصور على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام- إن أي إيمان بالله لا يؤجر وأي عمل صالح لا يثاب إلا إذا كان فاعله من المؤمنين بدعوة النبي الكريم وبرسالته. والواقع أن من يرى هذا الرأي إنما يراه وقد غاب عنه المعنى الحقيقي للإسلام، وخفيت عليه خطة الله في البشر، واضطرب في ذهنه معنى النسخ في القرآن. فالإسلام هو الدين الذي أوحى به الله إلى الأنبياء جميعاً والرسل كلهم فدعوا إليه. وكما قالت الآية الكريمة فإن من آمن بالله وعمل صالحاً من المؤمنين أو اليهود أو النصارى فأجره عند الله، لا خوف عليه ولا حزن. وكل من كان صحيح العقيدة قويم الخلق فهو عند الله- وفي معنى القرآن- مسلم. والمقصود من آية (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) من يبتغ غير دين الإسلام الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل والذي اعتنقه أتباعهم. والقرآن يفرق بين المشركين والكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسل ولا يعملون صالحاً وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن هؤلاء من يؤمن بالله ويعمل الصالحات، وهو المقصود بالآية الكريمة التي تبشر بأن لا خوف عليه ولا حزن ... الخ هرائه " !! (جوهر الإسلام، ص 110) (وانظر أيضاً: ص 111،112، 124 من الكتاب السابق، وجريدة أخبار اليوم المصرية، 9 ديسمبر 1979: نقلاً عن : العصريون معتزلة اليوم، ليوسف كمال).
(6/2)
2- ومن انحرافاته: زعمه، أن الحكم بالقوانين الوضعية التي يحكم بها في بلاده لا يُعد كفراً، إنما هذه القوانين "متوافقة مع الشريعة الإسلامية" !!
يقول العشماوي: "والقول بأن القوانين المصرية كفر بواح، ومن يطبقها أو يخضع لها كافر، قول فيه تجاوز شديد، وتدنٍ أشد، فضلاً عن أنه دعوة سافرة للخروج على الأمة والمجتمع ... فالقوانين المصرية –كما سلف- وكما لابد أن يدرك كل دارس واعٍ متوافقة مع الشريعة الإسلامية" !!(الإسلام السياسي، ص51).
ويقول:" إن القانون المدني المصري مطابق كله! للتشريع وللفقه الإسلامي" (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 188)
3- ومن انحرافاته: إسقاطه حد شرب الخمر في كتابه (الإسلام السياسي) ! يقول العشماوي: "لا توجد أية عقوبة على شربها أو بيعها، لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية" ثم يقول هذا الفاجر مستدركاً على الحكم الشرعي: "إن العقوبات تزيد من عدد الجرائم، ولا تجتث الجريمة أصلاً" !! (الإسلام السياسي، ص51) ، (وانظر: حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص191).
4- ومن انحرافاته: زعمه "أن تطبيق الشريعة يهدف إلى تفتيت وحدة الشعب وإلى إظهار الإسلام بصورة سيئة" ثم يزعم "أن الشريعة تعني الطريق والسبيل، ولا يلزم الأخذ بنصوصها؛ لأن مبنى الشريعة يقوم على الخلق والروحانيات! وللناس أن يطبقوا ما يشاءون" ! (الشريعة والقانون المصري، مجلة أكتوبر، العدد 706، نقلاً عن : المجلة العربية مقال: العشماوي بين حرية الفكر وحرية الكفر، للأستاذ أحمد أبو عامر، شعبان 1412هـ).
5- ومن انحرافاته: ادعاؤه أن (الأحوال الشخصية) –وهي البقية الباقية من الأحكام الشرعية!- تهضم حقوق المرأة، وأن الزواج عقد مدني لا ديني!، وأنه لابد من تقييد الزواج بواحدة، (المرجع السابق) ، (وانظر: حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص190-191).
6- ومن انحرافاته: إسقاطه لحد الردة! (المرجع السابق) .
(6/3)
7- ومن انحرافاته: تخصيصه كتابه (الإسلام السياسي) للدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، مدعياً "أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ساس أمور الإسلام في عهده إنما كان ذلك بالوحي" بخلاف ما سيأتي بعده من الحكومات التي ينبغي أن لا تكون دينية!! (المرجع السابق) .
ومن دعاواه في هذا الكتاب : أن تاريخ الإسلام تاريخ دموي قمعي! وأن الفقه الإسلامي يخلو من أي نظرية سياسية أو نظام سياسي، وأن الغالب على اعتناق الناس الآن (إسلام البداوة) ! لا (إسلام الحضارة)!، إضافة إلى تهجمه المتكرر على دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية (انظر: العقلانية هداية أم غواية، لعبد السلام البسيوني، ص125) .
ولقد قام مجموعة من العلماء والكتاب الغيورين بنقد هذا الكتاب وتبيين زيفه؛ من أبرزهم: الدكتور صلاح الصاوي في كتابه (تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانيين) ، فليراجع.
8- ومن انحرافاته: تخصيصه كتابه (الخلافة الإسلامية) للنيل من الخلافة الإسلامية، وتصويرها للقارئ بأبشع صورة، هادفاً من ذلك إلى أن يتخلى المسلمون عن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ما دامت هذه صورة الخلافة التي ينشدونها ! .
فهو في هذا الكتاب:
أ يستنكر على من يدعي نقاوة الخلافة الإسلامية (المقدمة) .
ب يهون من شأن الخلافة، وأننا يمكن أن تسير أمورنا دون حاجة إليها (ص 25-27) (ص30).
ج يزعم "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم الناس كملك أو أمير أو رئيس أو سلطان وإنما حكمهم كنبي من الله" (ص 90) أي أن الحكومة ينبغي أن لا تكون دينية؛ لأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم !، ويؤكد هذا في (ص 102) بقوله: "فالخلافة الإسلامية من واقع نشأتها.. ظهرت كرياسة دنيوية وإمارة واقعية لا تؤسس على نص ديني ولا تقوم على حكم شرعي"!!.
(6/4)
د طعنه في أبي بكر –رضي الله عنه- بأنه اغتصب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلب من المرتدين أداء الزكاة (التي يسميها العشماوي الإتاوة أو الجزية !!ص 106) ، وأن طلب الزكاة من المسلمين –في زعم العشماوي- خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مقابل صلاته عليهم !! (ص 16-107)
وقد لمز وتهجم العشماوي لأجل هذا على أبي بكر –رضي الله عنه- متهماً إياه بالديكتاتورية والتسلط ... الخ (ص 107) بل قال هذا السفيه: "وقد سوَّغ تصرف الخليفة الأول أبي بكر الصديق لكل خليفة وأي حاكم أن يستقل بتفسيره الخاص لآيات القرآن، ثم يفرضه بالقوة والعنف على المؤمنين، ويجعل من رأيه الشخصي حكماً دينياً، ومن فهمه الفردي أمراً شرعياً" ! (ص 108). ثم قال –قبحه الله- : "لقد قنن الخليفة الأول بحروب الصدقة إشهار سيوف المسلمين على المسلمين" ! (ص 108).
هـ- ولم يقتصر العشماوي على الطعن في أبي بكر –رضي الله عنه- بل تعداه إلى الطعن في عثمان وعلي –رضي الله عنهما-، حيث قال: " ولم يقتصر الفساد على عهد عثمان وعلى الأمويين وحدهم، بل حدث كذلك في عهد علي بن أبي طالب" ! (ص 113). وقال: "وفي عهد عثمان بن عفان حدث فساد كثير" (ص 119) .
و زعمه أن الصحابة –رضي الله عنهم- كان هدفهم الملك والرياسة (ص 121).
ز- ذمه لمعاوية –رضي الله عنه- (ص 144).
هذه أبرز الانحرافات التي وردت في كتاب (الخلافة الإسلامية) للعشماوي، وقد رد عليه الشيخ الشعراوي في كتاب بعنوان (الأنوار الكاشفة لما في كتاب العشماوي من الخطأ والتضليل والمجازفة) فليراجع
9- ومن انحرافاته : زعمه " أن أحكام الشريعة في المعاملات مؤقتة، لا استمرار لها ولا خلود" ! يقول العشماوي : "إن المؤبد في أحكام القرآن ما تعلق منها بالعبادات، أما أحكام المعاملات فهي وقتيه" (حوار حول قضايا إسلامية إقبال بركة، ص190). (وقد رد عليه رأيه هذا الدكتور محمد عمارة في مجلة المنهل، صفر، 1417هـ فليراجع) .
(6/5)
10- ومن انحرافاته : إباحته للربا في كتابه (الربا والفائدة في الإسلام)، يقول العشماوي : "الفائدة ليست ربا" ! (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 188) (وانظر كتابه الآخر: على منصة القضاء، ص 178 وما بعدها)
قلت: وقد رد عليه رأيه هذا الدكتور علي السالوس في كتابه (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) فليراجع
قال الأستاذ أحمد أبو عامر في خاتمة نقده لآراء العشماوي: "من خلال إطلاعي على معظم ما كتبه المذكور تبين أن سمات فكرة ما يلي:
1- لنشأته الصوفية دور في ترسيخ التوجه العلماني الذي تنامى بدراساته وتخصصه القانوني.
2- ثقافته الغربية وإطلاعه على تراثها ولا سيما دور الكنيسة وتسلطها جعله يرى الإسلام كالنصرانية وهذا وهم وخطل .
3- تبنى الفكر العلماني والترويج له حتى صار من أبرز رموزه ممن يحاولون هدم الإسلام من الداخل.
4- يتظاهر بالفقه في العلوم الشرعية ويدعي أنه عالم مجتهد وهو في ذلك مدّع والدليل مصادمة آرائه للشرع وأدلته.
5- يهاجم مخالفيه في الفكر بأسلوب هابط ولا يتورع عن الطعن في الصحابة والعلماء واتهامهم بالجهل والغباء والخداع.
6- عدم موضوعيته وبعده عن المنهج العلمي في دراسته إذ جلُ آرائه بعيدة عن الصواب ومخالفة للصحيح وابتداع لا يعضده دليل معتبر.
7- يستغل معرفته وتجاربه في القضاء والمحاكم وما يقابله من صور اجتماعية للمسلمين ويزعم أنها تمثل الإسلام، ويدعو بكل صفاقة إلى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية ويتهم الدعاة لها بالإرهاب وأنهم دعاة فتنة.
(6/6)
8- يتبنى الطروحات الاستشراقية ضد الإسلام وشريعته ويلبسها ثوباً محلياً. ومن أخطر مزاعمه المنقولة عن غيره أن الشريعة الإسلامية متأثرة بالقانون الروماني، وهذا كذب صراح وادعاء باطل ناقشه العلماء المسلمون بل بعض المستشرقين وبينوا بطلانه، ويمكن الرجوع إلى كتاب (هل للقانون الروماني تأثير على الفقه الإسلامي؟) مجموعة دراسات نشرتها (المكتبة العلمية في بيروت)، بل إن الأبحاث العملية أشارت إلى تأثر الفقه الغربي بالإسلام، ويمكن الرجوع إلى بيان ذلك فيما كتبه د/ محمد يوسف موسى في كتابه (التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي) .
وفي الختام أرجو أن يثوب الرجل لرشده وأن يتقي الله في آرائه؛ لأنه باتجاهه العلماني المتطرف هذا إنما ينكر كمال الإسلام وينكر عالميته وينكر بقاءه إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا الردة بعينها فهل يهتدي ويتراجع ويعود للصواب أم تأخذه العزة بالإثم؟ ونذكره بأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل" (المجلة العربية، شعبان، 1412هـ)
__________
(1) وهو ما يدندن حوله كثير من العصرانيين في زماننا، اللهم سلم سلم!
(6/7)
::::: المجموعة الأولى :::::
نظرة شرعية في فكر الروائي (عبد الرحمن منيف)
ترجمته: (1)
- ولد في عمان (الأردن) عام 1933
- والده من نجد (السعودية) والأم عراقية .
- أنهى دراسته الثانوية في عَمّان .. وبعدها التحق بكلية الحقوق في بغداد عام 1952.
- في العراق، وخلال فترة الدراسة، خاض غمار النشاط السياسي خلال مرحلة هامة من تاريخ العراق.. وبعد توقيع "حلف بغداد" طُرد منيف من العراق مع عدد كبير من الطلاب العرب، عام 1955.
- واصل دراسته في جامعة القاهرة.
- عام 1958 سافر إلى يوغسلافيا حيث تابع الدراسة في جامعة بلغراد.
- أنهى دراسته عام 1961، وحاز دكتوراه في العلوم الاقتصادية، وفي اختصاص: اقتصاديات النفط/ الأسعار والأسواق.
- مارس النشاط السياسي الحزبي زمناً، ثم أنهى علاقته السياسية التنظيمية عام 1962، بعد "مؤتمر حمص" .
- عمل في مجال النفط: في الشركة السورية للنفط (دمشق) شركة توزيع المحروقات، مكتب توزيع النفط الخام.
- عام 1973 غادر سوريا إلى لبنان حيث عمل في مجلة "البلاغ" وكان قد بدأ الكتابة الروائية برواية (الأشجار واغتيال مرزوق) .
- عام 1975 سافر إلى العراق، وتولى تحرير مجلة "النفط والتنمية".. وظل هناك حتى العام 1981.
- عام 1981 غادر العراق إلى فرنسا، حيث تفرغ نهائياً لكتابة الرواية.
- عام 1986 عاد إلى دمشق، حيث يقيم فيها حتى الآن.
- متزوج وله ثلاثة أبناء وابنة .
مؤلفاته:
الروايات حسب تاريخ صدورها أول مرة:
1- الأشجار واغتيال مرزوق (بيروت) 1973.
2- قصة حب مجوسية (بيروت) 1974.
3- شرق المتوسط (بيروت) 1975.
4- حين تركنا الجسر (بيروت) 1976.
5- النهايات (بيروت) 1977.
6- سباق المسافات الطويلة (بيروت) 1979.
7- عالم بلا خرائط بالاشتراك مع : جبرا إبراهيم جبرا (بيروت) 1982.
8- مدن الملح – خماسية:
- التيه (بيروت) 1984.
- الأخدود (بيروت) 1985.
- تقاسيم الليل والنهار ( بيروت) 1989
- المنبت (بيروت) 1989
(7/1)
- بادية الظلمات (بيروت) 1989
9- الآن.. هنا أو : شرق المتوسط مرة أخرى (بيروت )1991.
مؤلفات في الاقتصاد والسياسة:
1- البترول العربي: مشاركة أو التأميم (بيروت) 1975.
2- تأميم البترول العربي (بغداد) 1976.
3- الديمقراطية أولاً .. الديمقراطية دائماً (بيروت) 1992.
4- بين الثقافة والسياسة ، بيروت 1998.
في فن الرواية:
1- الكتاب والمنفى
هموم وآفاق الرواية العربية (سلسلة الكتاب الجديد- بيروت) 1992.
يشارك حالياً في هيئة تحرير "قضايا وشهادات" (كتاب ثقافي دوري يصدر فصلياً) .
- أبرز أعماله هي خماسيته الطويلة ( مدن الملح) ، وهي تتمحور حول تغير البلاد العربية باكتشاف النفط فيها ، يقول منيف : "وهذا التغيير لا يزال مستمراً، ولم يقتصر على بلدان النفط وحدها، ولكنه امتد إلى البلدان الأخرى العربية غير النفطية" (الكتاب والمنفى، ص 149).
ويقول أيضاً: "مدن الملح تعالج مشكلة العلاقة بيننا وبين الآخر؛ بيننا كعرب وبين الغرب منذ بداية هذا القرن، فالاستعمار الغربي كان يحاول على الدوام الحصول على المواد الأولية، كما كان يحاول الهيمنة على الأسواق واستغلال الشعوب بشكل أو آخر..
... . عندما اكتشف النفط فقد أصبحت المنطقة هدفاً وأصبحت أرضاً مهمة " (المرجع السابق، ص335)
قلت: وانظر وصفاً لهذه الخماسية وفكرتها في : (مدار الصحراء، دراسة في أدب عبد الرحمن منيف، لشاكر النابلسي، ص59، 308) .
و(قراءة في أعمال الدكتور عبد الرحمن منيف، لمؤمنة بشير العوف، ص 390) .
- يعد عبد الرحمن منيف أحد أبرز الروائيين الماركسيين في عالمنا العربي، ولا زال يؤمن بهذه الفكرة البائدة !! وهو لا يخفي هذا، بل يجاهر به، فهو يقول مثلاً:
"أعتبر نفسي واحداً من الذين بدؤا التفتح على الماركسية في وقت مبكر نسبياً" (الكاتب والمنفى، ص 259) .
ويقول:
"إن الفكر الاشتراكي ما يزال هو فكر المستقبل" (المرجع السابق، ص349) .
ويقول :
(7/2)
"إنني واحد من الكثيرين أعتبر الاشتراكية أسلوباً للحياة أكثر ملاءمة، خاصة لبلداننا" ! (المرجع السابق، ص 394).
وانظر أيضاً: (مدار الصحراء) لشاكر النابلسي، ص 371 وما بعدها، و(القومية والهوية والثورة العربية) مقال لمنيف في مجلة المستقبل العربي، عدد 95، ص85.
- يقول منيف عن سقوط الاتحاد السوفيتي محضن الماركسيين في العالم العربي، والموجه الأول لهم:
"لا شك أن سقوط التجربة السوفيتية خسارة كبيرة للاتحاد السوفيتي وللمنظومة الاشتراكية أولاً، وخسارة للعالم الثالث الذي فقد حليفاً مهماً ثانياً، وخسارة للعالم بأسره" ! (بين الثقافية والسياسة ، ص97) .
ولكن برغم هذا السقوط المدوي للماركسية نظراً لتعارضها مع الفطرة، فإن عبد الرحمن منيف الذي تشبع بهذا الفكر لا يريد أن يصدق هذا !! بل يصر على أن الماركسية سيكون لها جولات وصولات في المستقبل ! فاعجب لهذا المفتون الواله الذي لم يصدق إلى الآن موت معشوقته !! .
يقول منيف :
"إن ما سقط أو فشل في التجربة الأولى لتطبيق الاشتراكية هو شكل محدد من أشكال التطبيق، ولم تسقط الفكرة أو احتمالات تطبيقات مختلفة لها" ! (المرجع السابق، ص103) .
ويقول عن المشروع الماركسي والقومي في البلاد العربية، الذي فشل بشهادة العقلاء ! فشلاً ذريعاً : "أياً كان وصف أو تقييم المرحلة السابقة- وهذا ما يجب أن يكون عنواناً أساسياً لحوار مفتوح وجاد بين جميع القوى والعناصر، ويفترض أن يتسم الحوار بالشجاعة والصراحة والمسؤولية، لتحديد أخطاء ونواقص المرحلة الماضية- فإن من جملة الظواهر والنتائج البارزة الآن:
(7/3)
أولاً: عجز المشروعين القومي والماركسي، بالصيغ والحيثيات والشعارات والأولويات، كما قدّما، منذ الاستقلال وحتى الآن. أي أن هذين المشروعين، نتيجة سوء التقديم والتطبيق، أو بسببهما، لم يعودا قادرين، بصيغتهما القديمة، على مواجهة تحديات المرحلة، وليسا مؤهلين، ضمن منطقهما وأسلوبهما السابقين، لكي يكونا أفقاً للمستقبل. لا يعني ذلك، بالضرورة، أن الأفكار القومية والماركسية عاجزة، ولا بد من البحث عن أفكار أخرى، ولكنه يعني بالتأكيد أن تلك الأفكار بالطريقة التي قدمت بها من حيث الصيغ والأشكال، أو من حيث الفهم، ومن ثم الترجمة في الواقع العملي، وأيضاً العلاقة بين القوى والمراحل والمفاهيم، كانت قاصرة وعاجزة، ويكمن السبب في ذلك، كما نعتقد، في الفهم الرومانسي أو الصنمي والحرفي الذي أُعطي لتلك المفاهيم، ولانعدام آلية تحقيقها، ولعجز القوى التي تبنتها عن تحقيق نتائج ملموسة، ولذلك ظلت هذه الأفكار أقرب إلى الشعارات العامة، أو اكتسبت دلالات ليست من طبيعتها، وظلت أسيرة نماذج طوباوية أو غير مقنعة.
يضاف إلى ذلك أن القوى التي تبنت تلك الشعارات والأفكار كانت عاجزة عن تحليل الواقع بموضوعية واستنباط المهمات والصيغ الملائمة لحركة هذا الواقع والتغيرات التي تفعل فيه. أكثر من ذلك، أن بعض القوى، حين وصلت إلى السلطة، أعطت بسلوكها وعلاقاتها مثلاً سلبياً، الأمر الذي انعكس على الفكر الذي تحمله أو تبشر به.
المأزق، إذن الذي وصل إليه المشروعان، القومي والماركسي، كل بطريقته، وبنسب متباينة، وأيضاً نتيجة أسباب تختلف من واحد لآخر، يجب ألا يقود إلى الاستنتاج أن المشروعين عاجزان بطبيعتهما، أو غير مؤهلين لدور في المستقبل. إن استنتاجاً من هذا النوع، بالإضافة إلى خطئه، هو ما يريد الخصم أن يوصلنا إليه، لقناعته أن الصيغ الأخرى أكثر عجزاً عن مواجهة المشاكل العملية أولاً. (بين الثقافة والسياسة، ص42-43) .
(7/4)
قلت: صدق الله إذ يقول (تلك أمانيهم) وصدق من قال: "إن المنى رأس أموال المفاليس" !
فهذا الماركسي العجوز لم يقتنع إلى الآن –رغم الحقائق- بفشل المشروعين اللذين آمن بهما منذ مراهقته، وهما الماركسية والقومية، وتمنى لو أن بيده بعثهما من جديد، ولكن هيهات ، فقد أفاقت الأمة وعرفت أن هذين الطريقين لم يؤدياها إلا إلى البوار .
فهل يفيق العجوز من سكرته قبل أن يفجأ الموت وهو على هذه الحال؟!
- يعتقد منيف أنه لم يبق أي شيء مقدّس لديه، والعياذ بالله!؛ لأنه كغيره من الماركسيين الماديين لا ينظرون إلى الإسلام كوحي إلهي، على البشر تقديس نصوصه والالتزام بها .
يقول منيف:
"أما موقفي من المقدّس الذي تسألني عنه، فأكاد أقول دون خشية كبيرة: لم يبق شيء مقدس! "! إلى أن يقول: "نحن الذين أعطينا للمقدس قدسيته" (الكاتب والمنفى، ص 382،383).
- كثيراً ما يتهجم عبد الرحمن منيف على الإسلام وأهله، واصفاً إياه بالأصولية، منتقصاً ثقافته وتعاليمه، كشأن غلاة الماركسيين العرب الذين تشبعوا بالفكر الشيوعي الماركسي المخاصم للدين، وإن قبله جعله أمراً (روحياً) بين العبد وربه. فهم قد جمعوا بين الماركسية والعلمانية، كما سيأتي في أقوال الماركسي عبد الرحمن منيف: فإليك شيئاً منها:
يقول منيف ساخراً من الكتب الإسلامية خالطاً بينها وبين كتب السحر والتنجيم والخرافات!
"ويجدر لفت النظر هنا إلى نوعية المواد التعليمية المقررة في المدارس، والتي من شأنها الحد من استعمال العقل، وتغليب النظرة الغيبية، ومراكمة المواد الحفظية، وعدم إفساح المجال أمام الأسئلة المختلفة، الأمر الذي يلغي المحاكمات العقلية والمقارنة، (فالخطان المستقيمان لا يلتقيان إلا بمشيئة الله) والأرض لا يمكن أن تكون كروية، كما يؤكد رجال الدين. وضمن الدروس التي تُعطى للأطفال، وهم دون سن العاشرة: كيفية غسل الموتى! .
(7/5)
إن مواداً تعليمية من هذا النوع، إضافة إلى المناخ المسيطر، يعطيان فكرة عن نوع الثقافة السائدة، وعما يمكن أن يواجهه أي فكر تنويري أو مختلف.." إلى أن يقول: "هذا في الوقت الذي يتقلص دعم الأنظمة الحاكمة للكتاب الجاد والمسرح والسينما الهادفين. إذ يضيق أو يمنع استيراد الكتب الجدية والعقلانية، ويفسح المجال واسعاً أمام الكتب الغيبية والاستهلاكية. ونظرة سريعة لمعرفة نوعية الكتب الأكثر انتشاراً تثير حالة مأساوية، فكتب السحر والتنجيم وقراءة الطالع، ثم الكتب الغيبية والدينية، هي الأكثر رواجاً لأنها تلاقي الدعم بأكثر من أسلوب ومن أكثر من جهة" . (بين الثقافة والسياسة ، ص 117، 123) .
- ويقول منتقصاً ومسفهاً ومثبطاً من يدعو الدول العربية إلى تحكيم الشريعة والعودة إلى الإسلام:
"أما الخيار الثاني الذي يطرح فهو الخيار الديني أي الرابطة الدينية، بالتحديد الأخوة الإسلامية التي تتجاوز الحدود القومية.
إن الرابطة الدينية حتى على فرض إمكانية قيامها، لا يمكن أن تتجاوز الرابطة القومية أو أن تكفيها؛ لأن الرابطة القومية هي الأساس في قيام المجتمعات، بخاصة في العصور الحديثة. إن الرابطة الدينية، إضافة إلى استحالة تحققها في الواقع الراهن إلا كرابطة معنوية، لا تتعدى التقارب والتعاطف. وهي تنطلق من معطيات متفاوتة ومن واقع مختلف، كما أنها غير قادرة، وغير مؤهلة للإجابة عن مشكلات العصر الحديث اعتماداً على تجارب ماضية وجزئية"
إلى أن يقول: "فالدين رابطة معنوية واعتقاد مبني على الاختيار الخاص، وهو أمر شخصي تماماً" ! (الديمقراطية أولاً، ص 134-137) .
قلت: يقول هذا بناءً على نظرته (العلمانية)، التي تجعل الإسلام منزوياً في الشعائر التعبدية فقط، أما شئون الحياة فلا دخل له بها، إنما الذي يفصل فيها وينظمها هو الفكر الماركسي!!
- ويدعي منيف أن من أسباب تأخرنا:
(7/6)
"تراجع العقلانية في الثقافة والعودة إلى الغيبية" (الديمقراطية أولاً،ص16) ونسي هذا الماركسي (المادي) أن الغيب نصف الدين !وأنه من شروط إيمان المؤمن، قال سبحانه في وصف المؤمنين بأنهم (الذين يؤمنون بالغيب) ، فلا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بما ورد من أمور الغيب الكثيرة الواردة في الكتاب والسنة، وعلى رأسها اليوم الآخر.
وأما بدون هذا الإيمان فإن العبد يكون كافراً، قد شابه إخوانه المشركين الدهريين الذين لا يؤمنون إلا بالماديات زعموا .
- ويزعم منيف كثيراً أن الحركات والتوجهات الإسلامية ما كان لها أن تنتشر لو كان الفكر الماركسي قائماً !! وإنما انتشرت بعد سقوط هذا الفكر الذي أخلى لها الساحة! فهو يحيل انتشار الالتزام بشرع الرحمن وعودة الكثيرين إلى الهداية إلى هذا السبب، لا أن الإسلام يحمل قوته في ذاته ؛ لأنه الدين الحق المستمر إلى قيام الساعة.
يقول منيف:
"إن الدول الغربية، في مراحل متعددة، ولا تزال إلى الآن، تتبنى وتدعم أنظمة واتجاهات أصولية في المنطقة العربية. فأنظمة الخليج العربي، وأنظمة أخرى أيضاً، تحظى برعاية وحماية الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، رغم ما تتصف به هذه الأنظمة من أصولية ورجعية، ورغم دعم هذه الأنظمة لمجموعة من الحركات الأصولية في أمكنة متعددة من العالم .
إن الأصولية بشكل عام، والأصولية الإسلامية تحديداً، رغم أنها موجودة منذ وقت مبكر، إلا أنها الآن أقوى من أي وقت مضى. ومن جملة ما يفسر ذلك: ضعف أو غياب التيارات الأخرى، والمصاعب والعراقيل التي وضعت في وجهها، وكان الغرب، خلال مراحل متعددة، يقود حرباً بشكل مباشر، أو من خلال دعم الحكومات الرجعية والديكتاتورية، لمحاربة التيارات الديمقراطية والتقدمية، مما أفسح المجال أمام التيارات الأصولية لأن تقوى وتسيطر، ومثَل السادات في مصر مثال ساطع.
(7/7)
ولقد تعززت هذه الحالة بسقوط الاتحاد السوفييتي، وما رافق هذا السقوط من حملة إعلامية غربية تقول باستحالة وجود فرص أو إمكانية للتيار الديمقراطي التقدمي كي يكون حلاً بديلاً للنظم الرجعية القائمة، مما يفسح المجال لأن يعتبر التيار الأصولي نفسه بديلاً وحيداً.
في مواجهة وضع مثل هذا وجدت الأصولية مناخاً ملائماً لأن تعمل وتؤثر وتزداد قوة، خاصة وأن سياسة الدول الغربية طوال عقود متواصلة، اتسمت بضيق الأفق والأنانية، وأيضاً مناوء ة الطموحات المشروعة لشعوب المنطقة، ولعل موقفها المتحيز والظالم تجاه القضايا الأساسية، كالنفط والقضية الفلسطينية والتحرر الاقتصادي، أفسح المجال واسعاً أمام الحركات الأصولية لأن تطرح نفسها كأفق واحتمال للتحرر السياسي والاقتصادي، بغض النظر عن إمكانية ذلك لاحقاً.
إن جزءاً كبيراً من الحرب الدائرة الآن في أنحاء متعددة من العالم حرب شعارات لكسب مواقع، ولو مؤقتاً، من أجل اصطفاف جديد. وهذه الحرب تمارسها، تقريباً كل الأطراف، بغض النظر عن وجود استراتيجية بعيدة الأمد أم لا. إذ المهم قهر الخصم الآن، أو تجريده من أهم الأدوات والوسائل التي يملكها أو يلجاً إليها، دون حساب للنتائج التي يمكن أن تترتب عليها في فترات لاحقة.
ومن جملة ما يعزز موقف التيار الأصولي في الوقت الحاضر، ويكسبه شعبية واسعة، السياسة والشعارات التي يرفعها في مواجهة الغرب، خاصة الولايات المتحدة، لأن هذه الأخيرة لم تكف عن اللجوء إلى القوة والقهر والاستغلال في التعامل مع شعوب المنطقة، كما لا يخفى تبنيها لسياسةٍ تجرح كبرياء وطموحات شعوبها، هذا عدا عن التمييز في الموقف والمعاملة بين العرب وإسرائيل. والذاكرة العربية، والإسلامية، مثقلة بكم الوقائع التي تُظهر التحيز والقسوة والعنف الغربي، خاصة الأميركي، تجاه القضايا التي تهم شعوب هذه المنطقة.
(7/8)
هذه إشارات ضرورية من أجل فهم الظاهرة الأصولية ووضعها في سياقها. أما إذا عزلت عن هذا السياق، وعن فهم الدوافع الكامنة وراء نهوضها وقوتها وعنفها، فسوف يؤدي ذلك إلى المزيد من الأخطاء" . (بين الثقافة والسياسة، ص 137-139) .
ويقول :
"إن الحركة الدينية قوية وموجودة كحركة سياسية بقدر عجز وغياب القوى الوطنية التقدمية" (الديمقراطية أولاً، ص44).
قلت : نسي هذا الماركسي أن أصحابه الشيوعيين قد أفسح لهم المجال في أماكن عديدة من العالم الإسلامي تحت نظر الغرب وسمعه ، ورعايته ، ولكنهم فشلوا في قيادة الأمة ، بل أورثوها النكبات ، مما لم يعد يخفى على عاقل يحترم نفسه .فهلا تنحوا قليلا ، وأفسحوا المجال لأهل الإسلام ؟! ( طلع الصباح فأطفئ القنديلا!) .
- كما سبق فإن عبد الرحمن منيف من غلاة الماركسيين الذين يعادون الدين فإن قبلوه بسبب ضغط الواقع فإنهم يحصرونه في الشعائر التعبدية فقط، وقد صرح منيف بهذا وأفصح عن علمانيته بقوله:
"إن الدين، أي دين، يفترض أن يبقى في إطار الاعتقاد الشخصي، أما إذا تحول إلى عمل سياسي فيصبح عندئذٍ ذريعة لسلب حرية الإنسان، ولإرغامه على الامتثال، كما يصبح وسيلة لقهر الآخر" . (بين الثقافة والسياسة ، 148 ).
- ويقول عن أسباب اختيار الماركسيين وغيرهم من أهل الضلال للعلمانية :
"العلمانية في البلاد العربية كانت بالدرجة الأولى في مواجهة الدولة القومية المتستترة بالدين " (الديمقراطية أولاً، ص 95) .
- يتأفف منيف كثيراً ما يسميه (رقابة المجتمع) ! ويتمنى لو أنه يستطيع البوح بما في نفسه دون خوف منها.
فهو باختصار يريد أن يكفر ويفوه بالمنكرات دون أن يحاسبه أحد، وهذا ما لا يُقره الإسلام لأبنائه؛ لأنه يربأ بهم عن الكفر .
(7/9)
يقول منيف: "أما كيف أتعامل مع رقابة المجتمع والدولة فإن الإشكالية الأساسية التي تثير حيرتي هي رقابة المجتمع. الدولة تدافع عن نفسها، تحصّن نفسها، ولذلك تلجأ إلى القسوة والتمويه والمخادعة، وربما هذا "حق" من حقوق الدفاع عن النفس، ضمن منطق الدولة وأسلوبها. ولكن ماذا بخصوص رقابة المجتمع المقموع، المضطهد، والذي يمارس أيضاً كل المحرمات سراً، ويتمتع بها إلى أقصى حد في الحياة اليومية، من خلال الشتائم والنميمة والصور العارية والفضائح، وفي نفس الوقت، يمنع أن يُكتب ذلك.
إن المجتمع العربي من أغرب المجتمعات قاطبة، لأنه يمارس كل شيء سرياً، ويخشى أن تقال كلمة، ولو غير مباشرة، عن هذه الحياة السرية.
الله كم تحت قشرة العفة والطهارة والتقوى المدّعاة من الفضائح والوساخات والزنى بالمحرمات ! مجتمع يمارس العادة السرية. يعمل كل شيء، وبشجاعة سرية فائقة، لكنه يخشى أي شيء، ولو كان بريئاً وسمحاً، أن يظهر إلى الخارج! ليس ذلك فقط. إنه يلاحق ويعاقب من يقول جزءاً من الحقيقة!" (الكاتب والمنفى، ص 380) .
قلت: كون أحد من الناس يمارس الأخطاء والمحرمات وسواء علناً أم سراً، هل يبيح هذا لنا أن نُقر هذه المحرمات والأخطاء ولا ننكرها؟! لا يقول هذا مسلم يعرف دينه.
ومن ارتكب المحرمات والأخطاء فحسابه على الله، وهو ليس حجة على شرع الله.
- ويرى منيف أن الإسلام يعوق بين الأديب وحريته! ويقصد بالحرية ما لا يقره الإسلام من التفوه بالكفريات والضلالات، فهو يريد –كما سيأتي- إسلاماً لا دخل له بالمجتمع كله، بل ينحصر في المسجد وبين المرء وربه، كما في النصرانية الآن.
يقول منيف: "الهم الرابع: المحرمات: ما أود أن أشير إليه هنا، ومجرد إشارة، هو موضوع المحرمات في السياسة والدين والجنس، وهذه عوائق أو تحديات أمام نمو الرواية وتطورها" (الكاتب والمنفى، ص51).
(7/10)
- دائماً ما يحمل منيف –كغيره من الماركسيين- على الدول النفطية وعلى رأسها السعودية ! بأنها قد استغلت النفط لنشر التخلف والرجعية!! ويعني بهما الإسلام السلفي، وهذه شنشة معهودة من غلاة الماركسيين في فترة مضت، فما بال منيف لا زال يرددها إلى اليوم ؟!
يقول منيف :
"إن ثروة النفط ظهرت سلبياتها أكثر من إيجابياتها في أحيان كثيرة، بما في ذلك تشجيع المد السلفي" (الديمقراطية أولاً، ص 220).
ويقول: "إن حجم التخريب الذي ولدته الفورة النفطية، في مجالات شتى، بما فيها الثقافة، والتي طالت عدداً من "المثقفين" في الغرب أيضاً، ترك تأثيرات سلبية مدمرة على الأفكار والقيم والعلاقات والمقاييس، وقد أبرزت أزمة الخليج بعضاً من ذلك، حيث حُشدت أعداد من الكتبة المستأجرين، واستخرجت الفتاوى لإدانة أية أصوات تعارض التدخل الأميركي أو الحرب الهمجية التي شُنّت على شعب العراق، وزيفت الوقائع أو أُخفيت، وساد جو قاسٍ من الإرهاب والتعبئة، بحيث لم يظهر إلا صوت واحد: الصوت الرسمي.
ومما زاد في خلق هذا المناخ حالة الضياع التي سادت بعد الزلزال الذي وقع في المعسكر الاشتراكي، إذ سقط الكثير من الأفكار والمقاييس، وطغت موجة سلفية جديدة في المنطقة، كما عمت حالة من القلق وعدم اليقين" . (الديمقراطية أولاً، ص 280-281) .
- من أطرف ما مر بي أثناء دراستي لفكر (الماركسي) عبد الرحمن منيف أنني وجدت له تصريحاً جديداً بأنه يؤمن بالليبرالية !! وهي نقيض الماركسية! لتعلم بعدها أن القوم أصحاب أهواء، مستعدون للتنقل بينها ولو كانت متعارضة ما دامت مخالفة للإسلام ولا تؤدي إليه ! ، يقول منيف:
" لا أخفي : في المرحلة الحالية أميل إلى الليبرالية " !! (الكاتب والمنفى، ص308) .
قلت : صدق من قال :
يوماً يمانٍ إذا لاقيتَ ذا يمنٍ
وإن لقيتَ معِّدياً فعدناني !
(7/11)
فأنتم لما هوى صنمكم القديم الماركسية، هرعتم إلى تمجيد صنمٍ آخر هو الليبرالية، ومن لم يرض بعبودية الرحمن رضي بعبودية النفس والشيطان.
فروا من الرِّق الذي خُلقوا له
وبُلوا برق النفس والشيطان.
- كلمات منيف عن المرأة قليلة جداً حتى في رواياته ، وهذا مما يستغرب على روائي ماركسي!؛ لأن أدباء الماركسية اشتهروا في الأدب بجنوحهم إلى نشر الرذيلة والدفاع عنها، وعذر أصحابها من المومسات ونحوهن، وتحميل الظروف الاقتصادية جميع خطاياهن ... الخ، وهذا تجده على سبيل المثال في روايات: نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما من رؤس الأدباء الماركسيين العرب .
فالله أعلم عن سبب قلة هذا الأمر عند منيف ، هل هو بسبب أسرته أم بيئته؟!
لكنه إذا تعرض في مقابلاته لسؤال حول المرأة فإنه لا يعدو نظرة المتحررين نحوها! يقول منيف :
" لا شك أن المرأة في الواقع، وفي مجتمعنا تحديداً ، خاصة في المرحلة الراهنة تعاني الكثير لكونها امرأة.
ففي مجتمع متخلف ويخضع إلى القمع المتدرج ، من الطبيعي أن يكون استعباد المرأة أو وضعها في مرتبة أدنى أمراً طبيعياً. هذه حالة وصفية، خاصة وأن هذا المجتمع يمتلك إرثاً من ناحية الدين والتقاليد يعزز مثل تلك النظرة، ويعطيها من المبررات الكثير" (بين الثقافة والسياسة ، ص 152-153).
فهذا الماركسي يرى أن الشرع قد جاء بانتقاص واستبعاد المرأة ! وهذا كفر لا شك فيه، والعياذ بالله، وهو ليس بغريب على من يدين بدين الماركسية.
أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم ، وأن ينصر الإسلام والمسلمين ، ويكبت المنافقين والكافرين ، والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
__________
(1) ترجمته مستفادة من كتاب "الكتاب والمنفى" (ص400-402)، ومن كتاب "أعلام الأدب العربي المعاصر" لكامبل (2/1273-1275) . وانظر للمزيد عنه : (قراءة في أعمال الدكتور عبد الرحمن منيف الروائية) لمؤمنه بشير العوف، ص419 .
(7/12)
::::: المجموعة الأولى :::::
نظرة شرعية في فكر (عبد الله العروي)
-قال الدكتور مفرح القوسي عن العروي: "كاتب مفكر مغربي معاصر، ومن أشهر الماركسيين العرب، مختص بالدراسات التاريخية"
وقال عن كتابه (العرب والفكر التاريخي): "الذي تبنى فيه الماركسية، واجتهد في الدعوة إلى الأخذ بها، بوصفها نظاماً فكرياً متكاملاً، يزود معتنقيه بمنطق العالم الحديث ! -على حد تعبيره- ويتناسب مع كل فئات المجتمع المسلم"!! (انظر: رسالة المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية –دراسة وتقويماً، لم تطبع بعد، ص161).
(8/1)
وقال عنه أيضاً: "عبد الله العروي: الذي تبنى الماركسية واجتهد في الدعوة إلى الأخذ بها، بوصفها نظاماً فكرياً، يزود معتنقيه بمنطق العالم الحديث –على حد تعبيره- ويلائم متطلبات الأمة العربية الإسلامية، واجتهد في بيان أفكار ماركس ونظرياته، والرد على الاعتراضات التي وجهت إليها، ودعا إلى تفسير أحداث التاريخ الإسلامي تفسيراً ماركسياً، ووقف من السلفية موقفاً معادياً. فنراه –على سبيل المثال- يقول ممجداً الماركسية ومؤكداً ضرورتها، وشاناً الهجوم على المنهج السلفي؛ متهماً إياه بالعقم والسلبية: "الماركسية –بالنسبة للعرب- مدرسة للفكر التاريخي، وهذا الأخير هو مقياس المعاصرة، بدونه تغرق كل فكرة في بحر الحاضر الدائم، أي ترجع إلى أرضية الفكر السلفي. إن السلفية والانتقائية –وهما المميزين لذهنيتنا الحاضرة –تسبحان في الحاضر الدائم، وهذا هو سبب عدم انتفاع المجتمع العربي بمثقفيه منذ عقود. إن المثقف عندنا لا يتحرر فعلاً، فلا يعين مجتمعه على التحرر، لأنه ينفصل دائماً عن المحيط الذي يعيش فيه، وينتقل إلى عالم ماض يجعل منه الحقيقة المطلقة . ورغم تبجحه بالعمل السياسي، فإنه لا يؤثر إطلاقاً في الأوضاع ويترك التأثير لدعاة الاستمرار. إن السلاح الوحيد ضد اللاتأثير هو كسب الفكر التاريخي الذي لا يُتعلم من دراسة التاريخ كما يتبادر إلى الذهن، بل يتطلب الاقتناع بنظرية في التاريخ، وهذه لا توجد اليوم بكيفية شاملة ومقنعة إلا في الماركسية ... إن الأمة العربية محتاجة في ظروفها الحالية إلى تلك الماركسية بالذات، لتُكَوّن نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويغذي نفسه بنفسه" (1) .
(8/2)
-ونراه يتهم الفكر السلفي بأنه فكر لا تاريخي عاجز عن إدراك الواقع وفهم التكنولوجية المعاصرة والأنظمة الاقتصادية والاتجاهات الفكرية والتيارات الاجتماعية، وبأنه يؤدي إلى تعميق واستمرار التأخر التاريخي وإلغاء الحرية الذاتية، حيث يقول تحت عنوان (الوضع الثقافي) ما نصه: "إن المثقفين يفكرون حسب منطقين: القسم الأكبر منهم حسب الفكر التقليدي السلفي، والقسم الباقي حسب الفكر الانتقائي، وإن الاتجاهين الاثنين يوصلان إلى حذف ونفي العمق التاريخي، لكن إذا لم يكن التاريخ في ذهن المثقف، هل يعني هذا أنه محذوف من الواقع؟ طبعاً لا ، التاريخ كماض وكحاضر يُكوّن واقع العرب اليومي، وواقع خصوم وأعداء العرب. كل ما يؤدي إليه الفكر اللاتاريخي هو العجز عن إدراك الواقع كما هو، إذ يمحو منه بُعداً من أبعاده المكونة له. وإذا ترجمنا هذه الجملة إلى الواقع السياسي نقول: نتيجة الفكر اللاتاريخي هي التبعية وعلى كل المستويات، فمن طبيعة الانتقائية أن تفتح الأبواب لكل المؤثرات الخارجية. والفكر التقليدي لا يقل عنها خضوعاً وتسامحاً، رغم ما يعتقد وما يدّعي، كيف يقف في وجه التكنولوجية المعاصرة والأنظمة الاقتصادية والاتجاهات الفكرية والتيارات الاجتماعية وهو غير قادر على فهمها، فضلاً عن إبداع تيارات وأنظمة مضادة بديلة لها. والتبعية الظاهرة والخفية لا تعني فقط عدم الاستقلال والاستغلال، أي: إنها لا تخدش فقط الكرامة القومية والمصالح المادية، بل تعني كذلك تعميق واستمرار التأخر التاريخي.
(8/3)
هذه نتيجة استخلصناها واستخلصها معنا المؤرخون الغربيون من تطور الاستعمار الحديث ومن تجارب الدول المتخلفة ... ورغم هذا الواقع المر ما زال أغلب المثقفين عندنا يميلون إلى السلفية أو الانتقائية، والغريب أن هذين الاتجاهين يخدعان المثقف ويغريانه بنوع من الحرية الذاتية، يظن أنه يملك حرية الاختيار، وأنه قادر على أن ينتخب من إنتاج الغير أحسنه، وهذه حرية شبيهة بحرية الرواقيين الذين كانوا يظنون أنهم إن حرروا القلب والذهن من تأثير الإنسان والكون جاز لهم أن يهملوا الأغلال التي تشد الأيدي وتقيد الأرجل" (2) ، ويصف طريق الخلاص من الفكر السلفي فيقول: "إن الطريق الوحيد للتخلص من الاتجاهين معاً هو الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته ... إن أحسن مدخل وأحسن مدرسة للفكر التاريخي يجدهما العرب اليوم في الماركسية في تأويلها التاريخاني. إن الكثير من المثقفين العرب يشعرون أنهم سيفقدون حريتهم إذا خضعوا لهذا الفكر؛ سيكونون مسيرين ويعلمون مسبقاً إلى أي هدف يسيرون؛ إنهم سيبقون دائماً في طور التلمذة؛ إذ لم يتعد عملهم تدارك التأخر، وأنهم سينسلخون عن شخصيتهم إذا اعترفوا أن التاريخ فيهم. والعجيب أن تأتي مثل هذه الانتقادات من السلفي الذي يعتقد بالقدر، وينحل في شخصيات السلف الصالح" (3) .
(8/4)
ويرفض العروي قيام المؤرخ المسلم في تفسيره للتاريخ بربط وقوع الحوادث بمشيئة الله وإرادته، ويصفه بأنه عمل فج وممل، فنراه يقول تحت عنوان (ماهية الأنماط التعليلية): "لا نتكلم هنا عن الفكرة التي نجدها في كثير من الكتب التاريخية الإسلامية وخاصة المتأخرة منها : أي تفسير كل حادثة بالإرادة الربانية، لأن التاريخ يصبح حينئذ قسماً من علم الكلام. الحقيقة هي أن لا فرق بين استعارة الإرادة الإلهية من علم الكلام واستعمالها في التاريخ وبين استعارة القانون الطبيعي من علوم الفيزياء أو الاجتماع أو الاقتصاد وتوظيفه لنفس الغرض، إلا أن الاستعمال الأول فج ومملّ إذا كان كل حادث يقع بمشيئة الله. ما الفائدة من سرد الحوادث في ظروفها الخاصة؟ . أما الاستعمال الثاني فإنه أكثر تنوعاً ودقة" (4) .
ويرى أنه لا يمكن للمسلمين أن يحققوا التقدم المنشود إلا بتخليهم عن معتقداتهم الدينية، ويستشهد بتركيا الكمالية التي يرى أنها أكثر استعداداً للحياة الحديثة من غالبية المجتمعات الإسلامية، وذلك لنبذها موروثاتها العقدية الإسلامية، فنراه يقول: "إن معظم البلاد العربية اليوم تتقدم قليلاً أو كثيراً على طريق التنمية والتصنيع، وهو تقدم لا يواكبه تغيير ملموس في اللغة والثقافة والأنظمة العائلية والعشائرية، وأحياناً حتى في النظام السياسي. تجري الأمور وكأنه من البديهي أن يفصل التغيير الاقتصادي عن الظروف الاجتماعية والسياسية، ثم تؤثر هذه الحالة حتى في الميدان السياسي، فينادي الكثيرون بضرورة تحقيق العدل والمساواة بدون اعتبار للأوضاع الثقافية، والسؤال هو: هل يصح تصور مجتمع عصري بدون أيديولوجيا عصرية؟ هل يمكن تصور تنظيم سياسي ثوري بدون ثقافة حديثة؟ .
(8/5)
والاعتراض التقليدي هو : واليابان؟ وإسرائيل؟ ألم نشاهد في كلتا الحالتين تقدماً اقتصادياً وتقنياً مع المحافظة على التقاليد العتيقة، وهناك اعتراض آخر وهو: ماذا نفعهما التغيير الثقافي حيث لم تواكبه ثورة اقتصادية واجتماعية؟ .
هذه الاعتراضات تبدو وجيهة لكنها غير مبنية على بحوث ودراسات مستفيضة إذا وجب الحكم من خلال ارتسامات عابرة، إني أعتقد أن المجتمع التركي رغم كل الظواهر أكثر استعداداً للحياة الحديثة من غالبية المجتمعات العربية، وإن الأيديولوجيات التقليدية في اليابان وإسرائيل لا تلعب دوراً حاسماً في الحياة الثقافية" (5) .
ويدَّعي "أن الفكر العربي أيام ابن خلدون كان أكثر علمانية مما كان عليه في القرون اللاحقة، ومما هو عليه اليوم في كثير من الأوساط" (6) .
ويضع العروي (الفكر السلفي) على رأس قائمة المشكلات والعقبات التي تعيق تطور المجتمعات العربية الإسلامية، والتي تستلزم من هذه المجتمعات وضع برنامج شامل لاجتثاثها والتخلص منها لكي يتحقق التقدم والرقي المنشودين (7) ،
ويَعُدُّ المنهج السلفي منافياً للموضوعية واستلاباً حقيقياً يضاهي الاستلاب الحاصل بالتغريب أو التفرنج، حيث يقول تحت عنوان (الاغتراب والاعتراب) ما نصه: "إن الاغتراب بمعنى التغريب أو التفرنج استلاب، لكن الاعتراب استلاب أكبر، والتركيز على الخطر الأول ما هو إلا تغطية لوضع ثقافي واجتماعي معين. إن السياسة الرسمية في الأغلبية الساحقة من البلاد العربية تحارب الاغتراب بوسيلتين:
- تقديس اللغة في أشكالها العتيقة.
- وإحياء التراث.
وفي هاتين النقطتين تتلخص السياسة الثقافية عندنا.
ومن الأمور الواضحة وضوح النهار أن تقديس اللغة، أي : تحجيرها في مستوى معين وأخذ الثقافة العتيقة كسمة تمييزية للقومية العربية، هما تشجيع
(8/6)
الاستمرار في الفكر الوسطوي (8) ونفي موضوعية التاريخ. إن السلفي يظن أنه حر في أفكاره، لكنه في الواقع لا يفكر إلا باللغة العتيقة وفي نطاق التراث، بل إن اللغة والتراث هما اللذان يفكران من خلال فكره. هذا واقع لا يعيه ولا يمكن أن يعترف به السلفي مُحَققٌ، ولم يعد في استطاعة أي شخص له أدنى اطلاع على العلوم اللسنية الحديثة أن ينكره .. على الملاحظ المنصف أن يعترف أن الاستلاب الحقيقي هو الضياع في تلك المطلقات التي ذكرناها: في اللغة، في التراث، في التاريخ القديم. يفنى فيها المثقف العربي بكل طواعية واعتزاز، ويعتبر الذوبان فيها منتهى حرية الاختيار والتعبير الصادق عن هويته القارة الدائمة. هذه هي الأوزار والسلاسل ولن نتحرر منها إلا بكسب وعي تاريخي" (9) .
ويصف الفكر السلفي بأنه فكر رجعي لمحافظته على الثوابت الإسلامية، ورفضه الانسياق خلف الأفكار الوافدة من الغرب، فنراه يقول –مؤكداً حقه في مواجهة هذا الفكر- :" كان من المنطقي أن أفتتح المواجهة مع الفكر المحافظ الرجعي السائد، خاصة وأن التقدميين (10) كانوا وما يزالون يخافون من النظرية والأيديولوجيا رضوخاً للضغط، وتأثراً بالذهنية التقليدية المحافظة التي تدعو إلى عدم أخذ أية فكرة من الخارج ... وهذا الفكر يطلع علينا من حين إلى حين بترديد اسطوانة واحدة لا تتجدد أبداً ضد الأفكار المستوردة، والغزو الفكري والروحي والاكتفاء بالأيديولوجيات التقليدية (التراث العربي الإسلامي) التي تُكَوّن نظاماً عقائدياً كافياً وشافياً قادراً على توزيدنا بكل ما نحتاج إليه من حلول لكل مشكلات العصر، مدنية، عائلية، سياسية، اقتصادية، ثقافية، فنية، فلسفية، الخ" (11) .
ويقول –مدعياً انقطاع ارتباط المسلمين بتراثهم -: "يرفض السلفي كل الأفكار المستوردة، لاقتناعه بأن الوفاء للتراث شرط لازم وكاف للحفاظ على الشخصية ... ،
(8/7)
ومن يدعو إلى رفض الأفكار المستوردة اليوم بعد مرور أكثر من قرن على (النهضة) وعجز جميع المصلحين عن السباحة في غير محيط الأفكار والنظريات الغربية، يفوه بكلام فارغ إذن، كلام لا معنى له إطلاقاً، لا يعود عليه بشيء ملموس، ومستحيل منطقياً وتاريخياً واختيارياً، لأن رباطنا بالتراث الإسلامي في واقع الأمر قد انقطع نهائياً وفي جميع الميادين. وإن الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا لأننا ما زلنا نقرأ المؤلفين القدامى ونؤلف فيهم إنما هو سراب، وسبب التخلف الفكري عندنا هو الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي، فيبقى حتماً الذهن العربي مفصولاً عن واقعه؛ متخلفاً عنه بسبب اعتبارنا الوفاء للأصل حقيقة واقعية، مع أنه أصبح حنيناً رومانسياً منذ أزمان متباعدة، ومن المحقق أن الفكر السلفي سينفي وجود الانفصام المذكور على أساس تجربته الوجدانية، لكن باستشهاده بالوجدان يعترف ضمنياً بصحة ما نقول، لأن التجربة الوجدانية لا تعمم نظرياً وتحليلياً، وإنما تتطلب اعتقاد الكشف" (12) . وعاد ليؤكد "أن الرجوع إلى نظريات الماضي والحفاظ على أصالة فارغة وهم يعوق التطور، وأن الماركسية هي ذلك النظام المنشود الذي يزودنا بمنطق العالم الحديث" (13) .
-يقول العروي: "الأفضل لنا نحن العرب في وضعنا الثقافي الحالي أن نأخذ من ماركس معلماً ومرشداً نحو العلم والثقافة ... " !! (محاورة فكر عبد الله العروي، ص19) .
ويقول هذا الماركسي : "المطلوب إذن هو أن نعيد ماركس نفسه، ماركس الهيجلي الشاب، لنبدأ أولاً بالنقد الأيدلوجي، لنصفي حسابنا مع الفكر السلفي مثلما صفى ماركس حساباته مع الأيدلوجية الألمانية" !! (المرجع السابق، ص106) .
فالرجل بينه وبين المسلمين (السلفيين) تصفية حسابات !! .
ويواصل قائلاً: "لابد إذن من أن نعود القهقرى لنسلك الطريق نفسه الذي سلكته الماركسية" ! (المرجع السابق).
(8/8)
-يقول الأستاذ بسام الكردي: "الحقيقة أن المشروع الأيدلوجي الذي يقترحه الأستاذ العروي موجه كله ضد الفكر السلفي:
فاستيعاب الفكر الليبرالي من أجل اجتثاث الفكر السلفي، والماركسية تميع عبر تاريخانية مثالية وبراجماتية مبتذلة من أجل محاربة الفكر السلفي، وأخيراً فإن المهمة الأساسية والمستعجلة معاً للنخبة المثقفة هي تحديد موقف قارّ من الفكر السلفي ... إلى أن يقول الأستاذ بسام -: هل صحيح أن الفكر السلفي خطير إلى هذه الدرجة ؟ هل صحيح أنه وحده العائق الوحيد أمام التقدم والتحديث؟ وهل موقف العروي من الفكر السلفي خاصة ومن التراث عامة موقف علمي؟" (محاورة فكر عبد الله العروي، ص122).
-ومن أساليب هجوم هذا الماركسي على الإسلام أنه كثيراً ما يردد بأن الإسلام لا يناسب العصر !! .
مثال ذلك قوله: "إن من يقول إن تطبيق الأيدلوجيا الإسلامية كما تفصل اليوم يؤدي إلى نظام ديمقراطي يعكس مضامين الكلمات، لكل واحد الحق أن يسمي النظام الذي يتمناه بأي اسم أراد، إلا أن ذلك النظام لا يمكن أن يكون، عصرياً" ! (محاورة فكر عبد الله العروي ، بسام الكردي ، ص 31 وانظر ص65).
__________
(1) العرب والفكر التاريخي ص 68.
(2) المرجع السابق ص 205 – 206.
(3) المرجع السابق ص 206 – 207.
(4) ثقافتنا في ضوء التاريخ ص 29-30، ط الثالثة 1992م، المركز الثقافي العربي –بيروت .
(5) العرب والفكر التاريخي ص 23.
(6) المرجع السابق هامش ص 54.
(7) راجع: المرجع السابق في الصفحات : 220 – 226.
(8/9)
(8) أي الفكر الإسلامي السلفي، وسماه بالوسطوي لأنه –كغيره من الماركسيين العرب- يعتمد في تأريخه للفكر العربي الإسلامي التقسيم الزمني الشائع لدى المؤرخين الأوروبيين، الذي يبدأ بالتاريخ القديم ثم الوسيط وينتهي بالحديث أو المعاصر. وهذا التقسيم مرتبط بتصورات أوروبية حول العصور الوسطى باعتبارها عصور الظلام والتخلف، أما بالنسبة لنا فهي عصور القوة والازدهار، حيث كانت بداية ظهور الإسلام وانتشاره والإبداع في التأليف فيه.
(9) المرجع السابق ص 207 – 208.
(10) ويعني بهم الماركسيين.
(11) المرجع السابق ص 58 – 59.
(12) المرجع السابق ص 60 – 61.
(13) المرجع السابق ص 63.
(8/10)
::::: المجموعة الثانية :::::
نظرة شرعية في أدب (إيليا أبو ماضي)
ترجمته (1) :
ولد إيليا أبو ماضي في قرية المحيدثة من قضاء المتن بلبنان، وكانت مدرسة القرية أول بيت علم دخله ونال من علمه ما استطاع نيله؛ وفي سنة 1902 حدثته نفسه بالمهاجرة إلى أمريكا، فترك قريته وتوجه أولاً إلى الإسكندرية حيث كان له عم يتعاطى بيع السجاير! قال أبو ماضي في ذلك: "وفي الإسكندرية تعاطيتُ بيع السجاير في النهار في متجر عمي، وفي الليل كنتُ أدرس النحو والصرف تارة على نفسي، وتارة في بعض الكتاتيب". وهكذا راح يحصّل من العلم ما استطاع التحصيل، إلى أن كانت سنة 1911 فأصدر ديوانه الأول بعنوان "تذكار الماضي" .
إلا أن الحياة في مصر لم تقدّم له كل ما كان يصبو إليه، وفي سنة 1912 يمم الولايات المتحدة التي جذبت الألوف من أبناء وطنه، واستقر في مدينة سنسناتي إلى جانب أخيه مراد يعمل في التجارة ويملأ أوقات فراغه بالدرس والمطالعة ونظم الشعر.
وفي سنة 1916 انتقل إلى نيويورك وإلى حياة الصحافة والأدب، فعُهد إليه في تحرير "المجلة العربية" .
وفي سنة 1918 عُهد إليه في تحرير مجلة "مرآة الغرب" لصاحبها نجيب دياب.
وفي سنة 1929 أنشأ مجلة "السمير" وقد حوّلها سنة 1936 إلى جريدة يومية.
وكان في سنة 1920 قد اشترك في تأسيس "الرابطة القلمية" .
توفي عام 1957م.
__________
(1) ... عن (الجامع في تاريخ الأدب العربي) لحنا الفاخوري (الأدب الحديث، ص 590 – 591) .
لمحة عنه :
(9/1)
-تميز إيليا أبو ماضي من بين شعراء عصره بأنه شاعر التفاؤل والأمل، يقول زهير ميرزا عنه: "التفاؤل نزعة إنسانية عميقة الجذور في نفس الشاعر" (إيليا أبو ماضي شاعر المهجر، ص:ب ،ص)، وألف عنه د. عبد المجيد الحر كتاباً سماه (إيليا أبو ماضي باعث الأمل ومفجر ينابيع التفاؤل)، وقال عنه خليل بوهومي :"لقد علمنا إيليا أبو ماضي كيف يكون الشباب المتجدد الطامح بالأمل، الطامح إلى نيل السؤدد والعلى" (إيليا أبو ماضي شاعر السؤال والجمال، ص4-5).
وقال أيضاً (ص78) :"شاعر الابتسامة والأمل والتفاؤل" .
وقال عنه طالب زكي طالب بأنه "ينظر إلى الحياة نظرة إيجابية، لا ترى إلا الجانب الجميل فيها" (إيليا أبو ماضي بين التجديد والتقليد، ص 151).
قلت: والقصائد التفاؤلية لإيليا أبو ماضي كثيرة، حبذا لو استثمرها المسلم واستفاد من معانيها الجميلة، وسخرها لمعانٍ إسلامية سامية .
فمن ذلك قصيدته الشهيرة:
فلسفة الحياة
أيهذا الشاكي وما بك داء ... كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
إن شر الجناة في الأرض نفسٌ ... تتوقى، قبل الرحيل، الرحيلا
وترى الشوك في الورود ، وتعمى ... أن ترى فوقها الندى إكليلا
هو عبءٌ على الحياة ثقيل ... من يظن الحياة عبئاً ثقيلاً
والذي نفسه بغير جمالٍ ... لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً
ليس أشقى ممن يرى العيش مراً ... ويظن اللذات فيه فضولا
أحكم الناس في الحياة أناسٌ ... عللوها فأحسنوا التعليلا
فتمتع بالصبح ما دمت فيه ... لا تخف أن يزول حتى يزولا
وإذا ما أظل رأسك هم ... قصِّر البحث فيه كيلا يطولا
أدركتْ كنهها طيور الروابي ... فمن العار أن تظل جهولا
ما تراها والحقل ملك سواها ... تخذت فيه مسرحاً ومقيلاً
تتغنى، والصقر قد ملك الجو ... عليها، والصائدون السبيلا
تتغنى، وقد رأت بعضها يؤ ... خذ حياً والبعض يقضي قتيلا
تتغنى، وعمرها بعض عام ... أفتبكي وقد تعيش طويلاً؟
فهي فوق الغصون في الفجر تتلو ... سور الوجد والهوى ترتيلا
(9/2)
وهي طوراً على الثرى واقعات ... تلقط الحب أو تجر الذيولا
كلما أمسك الغصون سكونٌ ... صفقت للغصون حتى تميلا
فإذا ذهب الأصيل الروابي ... وقفت فوقها تناجي الأصيلا
فاطلب اللهو مثلما تطلب الأطيار ... عند الهجير ظلا ظليلا
وتعلم حب الطبيعة منها ... واترك القال للورى والقيلا
فالذي يتقي العواذل يلقى ... كل حين في كل شخصٍ عذولا
أنت للأرض أولاً وأخيراً ... كنت ملكاً أو كنت عبداً ذليلاً
لا خلودٌ تحت السماء لحي ... فلماذا تراود المستحيلا؟
كل نجم إلى الأفول ولكن ... آفة النجم أن يخاف الأفولا
غاية الورد في الرياض ذبول ... كن حكيماً واسبق إليه الذبولا
وإذا ما وجدت في الأرض ظلاً ... فتفيأ به إلى أن يحولا
وتوقع، إذا السماء اكفهرت ... مطراً في السهول يحيي السهولا
قل لقوم يستنزفون المآقي ... هل شفيتم مع البكاء غليلا؟
ما أتينا إلى الحياة لنشقى ... فأريحوا، أهل العقول، العقولا
كل من يجمع الهموم عليه ... أخذته الهموم أخذاً وبيلاً
كن هزاراً في عشه يتغنى ... ومع الكبل لا يبالي الكبولا
لا غراباً يطارد الدود في الأرض ... ويوماً في الليل يبكي الطلولا
كن غديراً يسير في الأرض رقراقاً ... فيسقي من جانبيه الحقولا
تستحم النجوم فيه ويلقى ... كل شخص وكل شيء مثيلا
لا وعاء يقيد الماء حتى ... تستحيل المياه فيه وحولا
كن مع الفجر نسمة توسع الأزهار ... شمساً وتارة تقبيلا
لا سموماً من السوافي اللواتي ... تملأ الأرض في الظلام عويلا
ومع الليل كوكباً يؤنس الغابات ... والنهر والربى والسهولا
لا دجى يكره العوالم والناس ... فيلقي على الجميع سدولا
أيهذا الشاكي وما بك داء ... كن جميلاً تر الوجود جميلاً
وقصيدته الأخرى :
قال : "السماء كئيبة!" وتجهما ... قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما
قال: الصّبا ولى ! فقلت له: ابتسم ... لن يرجع الأسف الصبا المتصرّما
قال: الليالي جرعتني علقما ... قلت: ابتسم ولئن جرعت العلقما
(9/3)
فلعل غيرك إن رآك مرنّما ... طرح الكآبة جانباً وترنما
... . الخ القصيدة الجميلة : تجدها في ديوانه (الخمائل)
انحرافات أبو ماضي :
1- أول انحراف للشاعر أبو ماضي هو نصرانيته ! ؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب كما هو معلوم .
2- ورغم أن الكثيرين يعتقدون أن أبا ماضي لا يأبه بالأديان كلها، بل يدين بمذهب اللا أدرية –كما سيأتي- ومذهب اللذة الدنيوية، إلا أننا نجد تعصبه لنصرانيته لا يخفى في بعض قصائده !
فمن ذلك: قوله بعد احتلال الفرنسيين لسوريا مادحاً قائدهم (1) :
"ألا نبي"، لو طبعنا الشمس يوماً ... وقلدناكها سيفاً صفيحاً
ورصعناه بالشهب الدراري ... لما زدناك فخراً أو مديحاً
لأنك أشجع الأبطال طرأ ... وأعظم قادة الدنيا فتوحا
إذا ما مر ذكرك بين قوم ... رأيت أشدهم عياً فصيحا
فكم داويت سوريا مريضاً ... وكم أسقمت تركيا صحيحا
وكم قد صنت في بيروت عرضا ... وكم أمنت في الشهباء روحا
غضبت على "الهلال" فخر ذعراً ... ولحت له فحاذر أن يلوحا
عصفت بهم فأمسى كل حصن ... لخيل النصر ميداناً فسيحا
مشت بك همة فوق الثريا ... فزلزلت المعاقل والصروحا
من الوادي إلى صحراء سينا ... إلى أن زرت ذياك الضريحا
إلى بحر الجليل إلى دمشق ... تطارد دونك التركي القبيحا
فكان الجند كلهم يسوعا ... وكانت كل سوريا "أريحا"
فإن يكن المسيح فدى البرايا ... فإنك أنت أنقذت المسيحا!
قلت: فانظر إلى مدى حقد الشاعر على الإسلام وأهله !
ومن ذلك قوله عندما احتلوا القدس! :
لله ما أحلى البشير وقوله ... سقط الهلال إلى الحضيض ومالا!
ويرمز بالهلال إلى الإسلام !
3- ومن انحرافاته: اعتناقه لمذهب (اللا أدرية) الشكاك الذين لا يدرون للحياة معنى ولا هدف، ولأجل هذا قال قصيدته الشهيرة (الطلاسم) ، جاء فيها:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ... ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت ... كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي لست أدري!
(9/4)
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود ... هل أنا حر طليق أم أسير في القيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود ... أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري!
__________
(1) ... كما في (إيليا أبو ماضي شاعر المهجر الأكبر، لزهير ميرزا، ص 341-342).
إلى أن يقول ملمحاً إلى أنه لم يجد سعادته وبغيته في الدين (ويعني به الدين النصراني المحرّف! فلا تثريب عليه!):
قد دخلت الدير عن الفجر كالفجر الطروب ... وتركت الدير عند الليل كالليل الغضوب
كان في نفسي كرب، صارفي نفسي كروب ... أمن الدير أم الليل اكتئابي؟ لست أدري!
قد دخلت الدير أستنطق فيه الناسكينا ... فإذا القوم من الحيرة مثلي باهتونا
غلب اليأس عليهم، فهم مستسلمونا ... وإذا بالباب مكتوب عليه ... لست أدري!
4- ومن ذلك: تصريحه بأنه لا يؤمن بالبعث بعد الموت، وسخريته من ذلك! بقوله في الجداول (ص34):
فقلت: أينهض من في القبور ... وفوقهم التراب والجندل؟
أجاب الصدى ضاحكاً ساخراً ... إلى كم تحار وكم تسأل؟
فمن حسب العيش دنيا وأخرى ... فذا رجل عقله أحول!
وقوله (1) :
غلط القائلون إنا خالدون ... كلنا بعد الردى هيُّ بن بيّ
5- ومن انحرافاته إنكاره لجهنم ! كما في قوله في الخمائل (ص52):
عبدوا الإله لمغنمٍ يرجونه ... وعبدت ربك لست تطلب مغنما
كم روَّعوا بجهنمٍ أرواحنا ... فتألمت من قبل أن تتألما
زعموا الإله أعدها لعذابنا ... حاشا؛ وربك رحمة، أن يظلما
ليست جهنم غير فكرة تاجر ... الله لم يخلق لنا إلا السما !
6- ومن انحرافاته أنه شابه إخوانه من أدباء المهجر في اعتناقه لمبدأ التناسخ! ، يقول أبو ماضي:
لا تجزعي فالموت ليس يضيرنا ... فلنا أياب بعده ونشور
فسترجعين خميلة معطارة ... أنا في ذراها بلبل مسحور
أو جدولا مترقرقا مترنما ... أنا فيه موج ضاحك وخرير
أو ترجعين فراشة خطارة ... أنا في جناحيها الضحى الموشور
أو نسمة أنا همسها وحفيفها ... أبداً تطوف في الربى وتدور (2)
(9/5)
7- ومن انحرافاته: أخذه بمبدأ اللذة ، كما في قوله (3) :
قم بادر اللذات قبل فواتها ... ما كل يومٍ مثل هذا موسمُ
__________
(1) ... إيليا أبو ماضي شاعر السؤال والجمال، لخليل بوهومي، ص 85.
(2) ... الجداول ( ص 181)
(3) ... انظر: (إيليا أبو ماضي بين التجديد والتقليد) لطالب زكي طالب، ص 154.
أخيراً : فقد صرح أبو ماضي في مقابلته مع الأديب محمد قرة علي عندما زار لبنان عام 1947م بأنه "لم يؤمن يوماً واحداً " (1) !!
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
__________
(1) ... إيليا أبو ماضي شاعر السؤال والجمال ، ص 109 – 112
(9/6)
::::: المجموعة الثانية :::::
نظرة شرعية في أدب (يوسف إدريس)
ترجمته (2) :
هو: يوسف إدريس علي، كاتب قصص، مسرحي، وروائي.
ولادته: 1927 في البيروم (قرب دمياط)، مصر.
وفاته: 1/8/1991، عن 64 سنة .
ثقافته: حائز على بكالوريوس في الطب، 1947-1951؛ تخصص في الطب النفساني.
حياته في سطور: طبيب بالقصر العيني، القاهرة، 1951-1960؛ حاول ممارسة الطب النفساني سنة 1956، مفتش صحة، صحفي محرر بالجمهورية، 1960، كاتب بجريدة الأهرام، 1973 حتى عام 1982. حصل على كل من وسام الجزائر (1961) ووسام الجمهورية (1963 و 1967) ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (1980). سافر عدة مرات إلى جل العالم العربي وزار (بين 1953 و 1980) كلاً من فرنسا، إنجلترا، أمريكا واليابان وتايلندا وسنغافورة وبلاد جنوب شرق آسيا. عضو كل من نادي القصة وجمعية الأدباء واتحاد الكتاب ونادي القلم الدولي. متزوج وله ثلاثة أولاد.
السيرة:
ولد يوسف إدريس في 19 مايو 1927 وكان والده متخصصاً في استصلاح الأراضي ولذا كان متأثراً بكثرة تنقل والده وعاش بعيداً عن المدينة وقد أرسل ابنه الكبير (يوسف) ليعيش مع جدته في القرية.
__________
(2) ... نقلاً عن (أعلام الأدب العربي المعاصر) لروبرت كامبل (2/233-237)
ولما كانت الكيمياء والعلوم تجتذب يوسف فقد أراد أن يكون طبيباً. وفي سنوات دراسته بكلية الطب اشترك في مظاهرات كثيرة ضد المستعمرين البريطانيين ونظام الملك فاروق. وفي 1951 صار السكرتير التنفيذي للجنة الدفاع عند الطلبة، ثم سكرتيراً للجنة الطلبة. وبهذه الصفة نشر مجلات ثورية وسجن وأبعد عن الدراسة عدة أشهر. وكان أثناء دراسته للطب قد حاول كتابة قصته القصيرة الأولى، التي لاقت شهرة كبيرة بين زملائه.
(10/1)
ومنذ سنوات الدراسة الجامعية وهو يحاول نشر كتاباته. وبدأت قصصه القصيرة تظهر في المصري وروز اليوسف. وفي 1954 ظهرت مجموعته أرخص الليالي. وفي 1956 حاول ممارسة الطب النفسي ولكنه لم يلبث أن تخلى عن هذا الموضوع وواصل مهنة الطب حتى 1960 إلى أن انسحب منها وعين محرراً بجريدة الجمهورية وقام بأسفار في العالم العربي فيما بين 1956-1960.
وفي 1957 تزوج يوسف إدريس.
وفي 1961 انضم إلى المناضلين الجزائريين في الجبال وحارب معارك استقلالهم ستة أشهر وأصيب بجرح وأهداه الجزائريون وساماً إعراباً عن تقديرهم لجهوده في سبيلهم وعاد إلى مصر، وقد صار صحفياً معترفاً به حيث نشر روايات قصصية، وقصصاً قصيرة، ومسرحيات.
وفي 1963 حصل على وسام الجمهورية واعترف به ككاتب من أهم كتّاب عصره. إلا أن النجاح والتقدير أو الاعتراف لم يخلّصه من انشغاله بالقضايا السياسية، وظل مثابراً على التعبير عن رأيه بصراحة، ونشر في 1969 المخططين منتقداً فيها نظام عبد الناصر ومنعت المسرحية، وإن ظلت قصصه القصيرة ومسرحياته غير السياسية تنشر في القاهرة وفي بيروت. وفي 1972، اختفى من الساحة العامة، على أثر تعليقات له علنية ضد الوضع السياسي في عصر السادات ولم يعد للظهور إلا بعد حرب أكتوبر 1973 عندما أصبح من كبار كتّاب جريدة الأهرام.
مؤلفاته:
(أ ) قصص:
1- أرخص الليالي، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي"، روز اليوسف، ودار النشر القومي، 1954.
2- جمهورية فرحات، قصص ورواية قصة حب، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي" روز اليوسف، 1956. مع مقدمة لطه حسين. صدرت جمهورية فرحات بعد ذلك مستقلة، ثم مع ملك القطن، القاهرة، دار النشر القومية، 1957. وفي هذه المجموعة رواية: قصة حب التي نُشرت بعدها مستقلة في كتاب صادر عن دار الكاتب المصري بالقاهرة.
3- البطل، القاهرة، دار الفكر، 1957.
4- حادثة شرف، بيروت، دار الآداب، والقاهرة، عالم الكتب، 1958.
(10/2)
5- أليس كذلك؟، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، 1958. وصدرت بعدها تحت عنوان: قاع المدينة، عن الدار نفسها.
6- آخر الدنيا، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي" روز اليوسف، 1961.
7- العسكري الأسود، القاهرة، دار المعارف، 1962؛ وبيروت، دار الوطن العربي، 1975 مع رجال وثيران والسيدة فيينا.
8- قاع المدينة، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، 1964.
9- لغة الآي آي، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي" ، روز اليوسف، 1965.
10- النداهة، القاهرة، سلسلة "رواية الهلال"، دار الهلال، 1969؛ ط2 تحت عنوان مسحوق الهمس، بيروت، دار الطليعة، 1970.
11- بيت من لحم، القاهرة، عالم الكتب، 1971.
12- المؤلفات الكاملة، ج 1:القصص القصيرة، القاهرة، عالم الكتب، 1971.
13- ليلة صيف، بيروت، دار العودة، د.ت. والكتاب بمجمله مأخوذ من مجموعة: أليس كذلك؟
14- أنا سلطان قانون الوجود، القاهرة، مكتبة غريب، 1980.
15- أقتلها، القاهرة، مكتبة مصر، 1982.
16- العتب على النظر، القاهرة، مركز الأهرام، 1987.
(ب ) روايات:
1- الحرام، القاهرة، سلسلة "الكتاب الفضي"، دار الهلال، 1959.
2- العيب، القاهرة، سلسلة "الكتاب الذهبي"، دار الهلال، 1962.
3- رجال وثيران، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة، 1964.
4- البيضاء، بيروت، دار الطليعة، 1970.
5- السيدة فيينا، بيروت، دار العودة 1977. (انظر رقم 5 أعلاه) .
6- نيويورك 80، القاهرة، مكتبة مصر، 1980.
(ج) مسرحيات:
1- ملك القطن (و) جمهورية فرحات، القاهرة، المؤسسة القومية. 1957 مسرحيتان.
2- اللحظة الحرجة، القاهرة، سلسلة "الكتاب الفضي"، روز اليوسف، 1958.
3- الفرافير، القاهرة، دار التحرير، 1964. مع مقدمة عن المسرح المصري.
4- المهزلة الأرضية، القاهرة سلسلة "مجلة المسرح" 1966.
5- المخططين، القاهرة، مجلة المسرح، 1969. مسرحية باللهجة القاهرية.
6- الجنس الثالث، القاهرة، عالم الكتب، 1971.
(10/3)
7- نحو مسرح عربي، بيروت، دار الوطن العربي، 1974. ويضم الكتاب النصوص الكاملة لمسرحياته: جمهورية فرحات، ملك القطن، اللحظة الحرجة، الفرافير، المهزلة الأرضية، المخططين والجنس الثالث.
8- البهلوان، القاهرة، مكتبة مصر، 1983.
(د) مقالات:
1- بصراحة غير مطلقة، القاهرة، سلسلة "كتاب الهلال" ، 1968.
2- مفكرة يوسف إدريس، القاهرة، مكتبة غريب، 1971.
3- اكتشاف قارة، القاهرة، سلسلة "كتاب الهلال"، 1972.
4- الإرادة، القاهرة، مكتبة غريب، 1977.
5- عن عمد اسمع تسمع، القاهرة، مكتبة غريب، 1980.
6- شاهد عصره، القاهرة، مكتبة مصر، 1982.
7- "جبرتي" الستينات، القاهرة، مكتبة مصر، 1983.
8- البحث عن السادات، طرابلس (ليبيا)، المنشأة العامة. 1984.
9- أهمية أن نتثقف .. يا ناس، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1985.
10- فقر الفكر وفكر الفقر، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1985.
11- خلو البال، القاهرة، دار المعارف، 1986.
12- انطباعيات مستفزة، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1986.
13- الأب الغائب، القاهرة، مكتبة مصر، 1987.
14- عزف منفرد، القاهرة، دار الشروق، 1987.
15- الإسلام بلا ضفاف، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989.
16- مدينة الملائكة، القاهرة، الهيئة المصرية ... ، 1989.
17- الإيدز العربي، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1989.
18- على فوهة بركان، محمود فوزي، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1991. حوار.
19- ذكريات يوسف إدريس، القاهرة، المركز المصري العربي للنشر والصحافة والتوزيع، 1991.
لمحة عنه:
(10/4)
يعد يوسف إدريس أحد كتاب القصة من أصحاب التوجه (الشيوعي) (الاشتراكي)، من الذين يرون الحل الأمثل للبلاد الإسلامية أن تقوم بتطبيق (الشيوعية الاشتراكية)، ولهذا فقد سخر فنه لنشر هذا الكفر الخبيث، من خلال تركيزه في رواياته وقصصه على الجانب الاقتصادي، وأنه هو الأساس لما عداه، وشحن تلكم القصص والروايات بالجنس والترويج له، والتعاطف مع البغايا والمومسات والتماس الأعذار لهن، وفق فلسفته الاشتراكية.
يقول الدكتور عبد الحميد القط: "إن يوسف إدريس كان شيوعياً منذ التحق بالجامعة، وذاك قبل سنة 1952" (يوسف إدريس والفن القصصي، ص 129).
أما الدكتور أحمد هيكل فيصفه بأنه "اشتراكي يعالج هموم الطبقات الكادحة" (المرجع السابق، ص131).
ويقول صاحب كتاب "الإبداع القصصي عند يوسف إدريس" بأن إدريس "يؤمن بأن الهدف النهائي هو خلق المجتمع الاشتراكي" (ص 78).
ويقول الدكتور شاكر النابلسي عنه: "كان شيوعياً" (مباهج الحرية في الرواية العربية، ص237).
وبين أن انفصاله عن الشيوعيين بعد عام 1958 لا يعني تخليه عن الاشتراكية، بل "ظل يؤمن بالاشتراكية" (المرجع السابق، ص238).
وتقول الدكتور نادية فرج "نشأ يوسف إدريس في الفترة السابقة على ثورة عبد الناصر، ومثل معاصريه ثار إدريس ضد مظالم الإدارة الاستعمارية والأرستقراطية الفاسدة، وعلى رأسها الملك فاروق. وكما ذكرنا آنفاً، اشترك يوسف إدريس وهو طالب في المظاهرات، سنة 1951، وكان يومئذ سكرتير لجنة الطلبة. فأسهم بنصيب ملحوظ في ثورة الطلبة، ونشر بالمجلات مقالات تعبر عن آرائه. ولما نجحت ثورة عبد الناصر ابتهج بنجاحها ورحب بقيامها، ولكنه –كان شأنه شأن جميع الثوريين والمثقفين (بما فيهم عبد الناصر نفسه)- كان ينشد العثور على أيديولوجية جديدة تلائم احتياجات وطنه وتصلح المظالم التي يقاسي منها الشعب.
(10/5)
وبدت الاشتراكية الجواب الشافي من كل هذه الآلام والشرور التي سادت الفترة السابقة على الثورة. وفي مسرحية يوسف إدريس الأولى" ملك القطن" صور كفاح الفلاحين ضد مالك الأرض. ورسم العذاب الذي عاناه الفلاحون باحترام عميق، بحيث لا يسع المتفرج إلا المشاركة في هذا الألم الإنساني. وفي هذه المسرحية تبدو الاشتراكية الحل لما ابتلي به الفلاحون.
وفي سنة 1956 نجد دعوة أخرى إلى تحطيم الرأسمالية وانتصار الاشتراكية في مسرحية يوسف إدريس "جمهورية فرحات". وفيها يروي البطل "فرحات" حلمه بجمهورية كاملة يتشارك الجميع. تحت ظلالها في الصحة والصحة والثروة والتعليم، فهو حلم بيوتو بيار ومانسية.
وفي ذلك الحين بدأ معروفاً في مصر أن يوسف إدريس يبحث عن نظام جديد، وحلم باشتراكية يتسنى في إطارها الحصول بسرعة على المساواة والديموقراطية والحرية والازدهار واحترام الذات والكرامة. وذهب إلى حد الانخراط في الحزب الشيوعي، ظناً منه أن هذه أسرع وسيلة لتحقيق حلمه" (يوسف إدريس والمسرح المصري الحديث، ص 139-140) .
قلت: ولأجل هذا فقد اصطبغت روايات وقصص يوسف إدريس بالصبغة الاشتراكية (في معظمها) ؛ من حيث ادعاء الوقوف مع الطبقة الكادحة والمظلومين، والإغراق في قصص الجنس ومحاولة ترويجه، والتعاطف مع البغايا والمومسات والواقعين في الحرام بأنواعه.
-مما لاحظه المتابعون على يوسف إدريس (تلونه) و (تقلبه خلف المصلحة). ومما يشهد لهذا :
أنه "في الخمسينيات والستينيات كان أحد رموز اليسار ثم وجدناه في عهد السادات الذي عادى اليسار وقصص جوانحه وجدناه يغير اتجاهه فكان أقرب ما يكون للتأييد.. لكنه بعد موت السادات ألف كتابه المصادر: (البحث عن السادات) ولا أدري لماذا لم ينشره في عهد (الرئيس) حتى ولو خارج مصر إن كان يؤمن بما قاله في كتابه!، وبعد عودة الأحزاب وجدناه يعود إلى ركاب (حزب الوفد) مؤيداً! (المجلة العربية، العدد 149).
(10/6)
ومن ذلك: أنه حينما يزور السعودية يكيل المديح لها كيلاً، لكننا نفاجأ أحياناً بتهجمات منه عليها، بلا مبرر، كما في كتابه (فقر الفكر وفكر الفقر) وكتاب (عزف منفرد) وكتاب (جبرتي الستينات، ص124 وما بعدها)
وقد اعترف هو بهذا التلون؛ وإن كان قد ادعى أنه يدور مع الحق !!، فهو لما سئل عن ما يلاحظ عليه من تقلب بين اليسارية والرأسمالية قال :"أنا أدافع عن الحق، ولو أن الرأسمالية معها حق فأنا بالتالي معها، ولو أن الاشتراكيين معهم حق فأنا معهم" ! (مجلة أكتوبر، العدد 658، نقلاً عن المجلة العربية، العدد 149).
انحرافاته:
1-أعظم انحرافاته: أنه اتخذ من (الفكر الشيوعي الاشتراكي) أيدلوجية له في أعماله، ومعلومٌ الحكم الشرعي لهذه النحلة الخبيثة المعادية للإسلام وأهله، والداعية إلى أنواع كثيرة من المحرمات، على رأسها الكفر بالله، والاستهزاء بشرعه .
2-من انحرافاته: إغراقه الفاحش في الجنس وتصويره في قصصه ورواياته في صورة نظيفة أو مدافع عنها، مع التماس العذر للبغايا والمومسات والساقطات في قصصه.
يقول الدكتور عبد الحميد القط بأن إدريس :"يتخذ الجنس أداة لهدم كل قداسة تحيط بالقيم الاجتماعية السائدة التي يراها تتنافى مع روح العصر" ! (يوسف إدريس والفن القصصي، ص 154-155) .
ويقول :" نرى الكاتب كثيراً ما تصطبغ أعماله –وبخاصة القصصية- صبغة جنسية صارخة، حيث يتخذ من عنصر الجنس محوراً أساسياً تدور حوله القصة" (المرجع السابق، ص155) .
ويوسف إدريس يصور –كما سبق- سقوط البغايا والفاجرات بأنه سقوط حتمي نتيجة للظروف الاقتصادية ! مدافعاً عنه أشد الدفاع، ومتعاطفاً مع أصحابه.
(10/7)
يقول الدكتور القط: "إننا يجب أن نتوقف قليلاً عند موضوع "السقوط" عنده، لأنه موضوع متكرر، نراه في "قاع المدينة" 1958 وفي "الحرام" 1959، وفي "حادثة شرف" 1959 وفي "السيدة فينا" مجموعة "العسكري الأسود" 1962 وفي رواية "العيب،1962 وفي "الستارة" و"الغريب" مجموعة آخر الدنيا، و"في هذه المرة" في مجموعة "لغة الآي آي" وفي "النداهة"، و" العملية الكبرى"، و"دستور. . يا سيدة" مجموعة النداهة 1969، وفي "بيت من لحم" ، و"أكان لابد ياليلى أن تضيئي النور" ويلاحظ أن السقوط عنده يمثل حتمية طبيعية في بعض الأحيان مما يقربه من زولا ويبعده عن اتجاه الواقعيين إلى حد ما. وتتضح هذه الحتمية في قصة "النداهة" حيث تشعره المرأة أنها ستسقط لا محالة. فهي رغم تجنبها للأفندي تشعر بأن لحظة السقوط آتية لا ريب فيها. مما لا يتيح لها فرصة الحركة الحرة. ومما يجعلها تستسلم للأفندي، وإن كان ذلك الاستسلام يتم رغماً عنها. ولا تسقط المرأة عنده بإرادتها، إلا نادراً، بينما يغلب على السقوط أنه نوع من الاغتصاب. يظهر ذلك في قاع المدينة حيث تسقط "شهرت" مكرهة بعد أن حاول المستشار إغواءها: مراراً. ولكنها تحترف الدعارة بعد ذلك ، من تلقاء نفسها تحت وطأة الظروف الاقتصادية السيئة التي تمر بها.
(10/8)
وتسقط "عزيزة" في رواية "الحرام" مصادفة، ورغم إرادتها، بين أحضان محمد بن قمرين الذي تقاومه مقاومة عنيفة، عندما أراد العدوان عليها أول مرة، ولكنها تستسلم له في المرة الثانية. وتقاوم فاطمة في "حادثة شرف" غريب، ولكن المجتمع الفضولي المتطفل المحيط بها يهدر كرامتها، ويدفعها إلى السقوط. وتكون "سناء" في "العيب" شخصية متماسكة ومثالية. ولكن الظروف المحيطة بها تدفعها إلى السقوط دفعاً، أو بعبارة أدق تدفعها إلى الارتشاء دفعاً، فما تعيشه من أزمة اقتصادية، وعلاقة غير طبيعية في العمل مع زملائها، وزميلاتها، يدفعها في النهاية إلى الارتشاء ثم السقوط. لأنها تريد أن تتشبه بهم في فسادهم وسقوطهم وانحرافهم وتتضح الحتمية الطبيعية في سقوطها، وكأن المؤلف يقرر أن مثل تلك الظروف تؤدي حتماً إلى السقوط.
وفي "بيت من لحم" نلاحظ أن سقوط الفتاة "الوسطى" يعد سلوكاً طبيعياً في مثل ظروفها الاقتصادية والاجتماعية" (المرجع السابق، ص 152-153)
قلت: ومن ذلك أنه في رواية (الحرام) يهدف –كما يقول الدكتور القط- إلى أن "البشر جميعاً يرتكبون الحرام، فإن ظل سراً خفياً فلا جناح عليهم من ارتكابه، أما إذا ظهر فلا بد من تجريم مرتكبيه" (المرجع السابق، ص6).
ويقول أيضاً:" تتناول رواية (العيب) أثر العامل الاقتصادي على سلوك الأفراد بخاصة المرأة، فالبطلة "سناء" تتحول من إنسان نظيف له مبادئه وقيمه التي يعتز بها، إلى مجرد ساقطة. وقد كان موقفها من الرشوة يعتبر مؤشراً على مدى قبولها لمداعبات "الجندي" المبتذلة، والتي تمثل الجنس بكل وضوح، فعندما ترفض الرشوة، ترفض في الوقت نفسه محاولاته لإقامة علاقة عاطفية معها، وعندما تتورط في الارتشاء تعرض نفسها على الجندي عرضاً رخيصاً". (المرجع السابق، ص6)
أما رواية (قصة حب) فيصور فيها إدريس المرأة المتحررة من الشرع، بأجمل صورة وأبهاها، في شخصية (فوزية) المتحررة.
(10/9)
وكذلك فعل في روايته (البيضاء) عندما صور (سانتي) اليونانية الأصل مثالاً بهياً للمرأة العصرية المتحررة التي ينبغي على النساء محاكاتها في تصرفاتها العصرية مع صاحبها الطبيب (يحي)، حيث كانت وهي المتزوجة! "تذهب معه إلى شقته وتتحدث معه، وتشرب معه القهوة والسجائر، وتسمع منه ما يكتب لها من خطابات عاطفية، أو تقرأ هي ما كان يكتب لها من خطابات عاطفية، وتستمع معه إلى مقطوعات (موزارت) و(رحمانوف) وتناقشه في أمور كثيرة عامة، وهي واثقة من نفسها، دون خوف أو وجل، كأي صديق آخر" !! (مباهج الحرية في الرواية العربية، د. شاكر النابلسي، ص249).
ومع هذا كله –كما يزعم إدريس- حمت نفسها من السقوط مع صاحبها!!.
فهي دعوة إلى تهييج النساء على الاختلاط المحرم والتبذل مع الأجانب، بدعوى أن شخصية المرأة القوية وإرادتها هي التي تحميها من السقوط ومن أرادت عكس هذا، فلن تنفعها الاحتياطات التي يعملها المتشددون!!
وهو في روايته هذه –كما يقول شاكر النابلسي- :"يربط بين ضرورة الحرية الجنسية وبين الحرية العامة، كشرط من شروط الحرية الإنسانية العامة، ومنها حرية الوطن والمواطن في مختلف مجالات الحياة" (المرجع السابق، ص 252).
3-ومن انحرافاته: رده للأحاديث الصحيحة بعقله القاصر، فمن ذلك أنه رد حديث: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم" الذي رواه البخاري، وقال عنه: "هذا حديث غير علمي" !! (يوسف إدريس على فوهة بركان، محمود فوزي، ص44).
4-ومن انحرافاته: قوله "إنه لا يرى تطبيق الشريعة الإسلامية" ! ثم يقول معللاً "لكون من سيطبقها بشر، حتى ولو كانوا فقهاء فهم عرضة لأخطاء البشر وأهوائهم" !! (المجلة العربية، العدد 149).
(10/10)
5-ومن انحرافاته : قوله : في كتاب "جبرتي الستينات" :"أظننا جمعياً نعرف الأسطورة التي تقول إن سيدنا سليمان مات وهو واقف مرتكز على عصاه، ومع هذا بقيت الجن والإنس والحيوانات تعمل خوفاً منه واعتقاداً منها أنه لا يزال حياً" !! (ص 96).
وما يسميه أسطورة هو ما ذكره الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! قال تعالى عن سليمان عليه السلام (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
6-ومن انحرافاته : زيارته لما يسميه "العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكوفة" !! (المرجع السابق، ص 145). يفعل هذا مداهنة للرافضة، وتعاطفاً معهم. وسيأتي تعاطفه ومداهنته للنصارى! ، مما يشهد بخفه دين الرجل، وأنه لا يعرف ولاءً ولا براءً، إنما يسير خلف أهوائه وعقله.
7-ومن انحرافاته: ترحمه على النصراني (الكافر) سلامة موسى!! (كما في المرجع السابق، ص 68).
8-ومن انحرافاته: استجابته للنصراني "الأب!! ميخائيل زيادة" عندما كان يعالج في أمريكا، لما دعاه "للذهاب إلى الكنيسة المصرية يوم الأحد ... . لكي يدعو لي الرب أن يأخذ بيدي" !! (مفكرة د.يوسف إدريس: الإرادة، ص28). ثم اعترف بأنه صلى صلاتهم ! ولكنه قرأ فيها "قل هو الله أحد" !! –نعوذ بالله من حاله-.
9-ومن انحرافاته : تشنيعه وذمه للجماعات الإسلامية، (كما في كتابه السابق، ص 161-162).
10-ومن انحرافاته: حزنه الشديد على وفاة الشيوعي الصيني الشهير (ماوتسي تونج)، وقوله عنه :"إن ماوتسي تونج كان أستاذي، أعظم أساتذتي على الإطلاق" !! (المرجع السابق، ص 195) .
بل إنه من جنونه بهذا الشيوعي نشر مقالاً في جريدة الأهرام بتاريخ 17/9/1976م بعنوان "المسلم ... ماوتسي تونج" !! وقد ردت عليه مجلة المجتمع الكويتية -جزاهم الله خيراً- (انظر: المجتمع، عدد 320).
(10/11)
11-ومن انحرافاته : قوله :"التراث سخيف، وليس فيه شيء للقراءة" "يجب أن نحرق كتب التراث؛ لأنها كلها تخريفات وزخارف لغوية" !! (مقابلة مع مجلة البلاغ البيروتية، نقلاً عن مجلة المجتمع، العدد 183، وقد ردت عليه مشكورة).
12-ومن انحرافاته : قوله في المقابلة السابقة: "إن الكاتب هو نبي العصر الحديث، وكل الأنبياء كانوا كتاباً" !!
ملحق في رد البهنساوي عليه:
قال المستشار سالم البهنساوي في كتابه (تهافت العلمانية في الصحافة العربية) (ص 231-233): "نشرت جريدة الأهرام مقالاً للدكتور "يوسف إدريس" بعنوان "جولة في عقول القراء" وذلك بتاريخ 5/1/1985.
وهذا المقال ذكر فيه لب الخلاف حول تطبيق الشريعة الإسلامية فقال: (لب الموضوع أن أحداً لا ينادي أبداً بعدم تطبيق الشريعة الإلهية الإسلامية، إنه يكون مجنوناً لو فعل ذلك، فالشرائع السماوية كلها وعلى رأسها الإسلام؛ فوق أنها أمر الله سبحانه وتعالى، إلا أنها لم تأت إلا لتقيم العدل السياسي بمبدأ الشورى، والعدل الاقتصادي بمبدأ الزكاة، والعدل الاجتماعي بالمساواة التامة بين البشر. من هو المجنون الذي يعترض على شريعة الله؟ ).
ثم قال (إنما المشكلة أن الشريعة حقاً وصدقاً شريعة الله ولكن من يطبق تلك الشريعة؟ أليسوا هم البشر) وانتهى إلى أن نقد أقوال هؤلاء لا تعني الاعتراض على شريعة الله؛ لأن هؤلاء بشر يخطئون ويصيبون ليست لهم عصمة.
ولقد ضرب مثلاً لذلك بالخلاف في تطبيق مبدأ الشورى أو الديمقراطية، فقال الدكتور يوسف إدريس:
أ يرى الأستاذ "خالد محمد خالد" حتمية تطبيق الديمقراطية حتى تكون الأمة هي مصدر السلطات.
ب وقال: يجيء شيخنا الكبير الأستاذ "عمر التلمساني" ليعطي تفسيراً مختلفاً باعتبار أن فكرة الديمقراطية نفسها فكرة غير إسلامية.
ج ثم قال: إن الأستاذ "عمر عبد الرحمن" يرى شيئاً ثالثاً مختلفاً تماماً فيقول إن الأمة ليست مصدر السلطات.
(10/12)
وانتهى الدكتور يوسف من ضربه لهذه الأمثال ولما يعرض في البرامج الدينية في التلفزيون والإذاعة، انتهى إلى أنه اكتشف أن غسيلاً يجري للمخ العربي والمصري حول المفاهيم الشرعية، ونادى بعلاج هذه الظاهرة ونقدها لأن البشر الذين يطبقون الشريعة لا يتنزل عليهم الوحي من السماء حتى يكون رأيهم هو حكم الله الذي لا اعتراض عليه.
الخلاف الرفيع وتحديد المفاهيم (1) :
لهذا وإذا قمنا نساهم في هذا الحوار فيجب أن نحدد سبب الخلاف، وأن نقبل جميعاً الحوار العلمي ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول: رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
إن الخلاف القائم بين العلماء المعاصرين حول موقف الإسلام من النظام الديمقراطي، ليس نابعاً في حقيقته من عدم وضوح الحكم الإسلامي في هذه المسألة، بل نبع الخلاف من اختلاف هؤلاء في أمر الديمقراطية نفسها، ولهذا يُقرر فقهاء الأصول في الفقه الإسلامي قاعدة هامة هي أن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
__________
(1) ... نشر هذا المقال في جريدة اللواء الأردنية بتاريخ 26/5/1987 بعد أن ظل لدى الدكتور يوسف إدريس أكثر من عام وبعد أن رفضت بعض الصحف الكويتية نشره، ولكن الدكتور يوسف إدريس في مقاله المنشور بالأهرام يوم 8/2/1988 ذكر أنه كان يعترض على الآراء المؤدية إلى نبذ العلم والتكنولوجيا، وأن ما شاهده من أعمال شباب الجماعات الإسلامية يجعله يقول: اللهم إن كان التيار الإسلامي هكذا، فأنا أول المنضمين إليه، فإذا شئتم حزباً يبشر بهذا ويعمل به، يخاطب العقل فينا وينهرنا عن الغوغائية فخذوني معكم" .
(10/13)
أ لهذا فمن تصور الديمقراطية من جانب واحد هو أنها تخول أغلبية النواب الحق في إصدار التشريع الذي يرونه، حتى لو أباح الزنا والشذوذ كما هو كائن في بعض العواصم الأوروبية من تصور ذلك قال: إن الديمقراطية تتعارض مع الإسلام حيث أن أحكام الحلال والحرام وردت قطعية في القرآن والسنة ولا يحل التغيير والتبديل فيها حيث قال الله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (1) .
ب أما من تصور الديمقراطية من جانبها الآخر، وهو أنها تخول الشعب عن طريق نوابه حق تعيين الحاكم ومحاسبته وعزله وحق إصدار القوانين فيما لا يتعارض مع الدستور الإسلامي، فقال إن الديمقراطية نظام إسلامي واستند في ذلك إلى قول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) (2) وإلى قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم" (3)
وهذا الخلاف لا وجود له في ظل الدستور الذي ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؛ لأن من قواعد النظام الديمقراطي، قاعدة دستورية القوانين، ومن مقتضاها عدم جواز إصدار قانون يخالف الدستور، وعدم جواز إصدار لائحة أو قرار يخالف القانون ولا يخفى على أولي الفقه والرأي أن كل أمة وكل شعب يضع لنفسه مقومات أساسية، ليتضمنها دستور هذه الأمة الذي يلتزم به النواب والحكام والقضاة، فلا يجوز إصدار ما يخالفه، ولهذا فالدول التي اختارت الماركسية مذهباً اجتماعياً يحظر دستورها إصدار قانون يخالف هذا المذهب. والدول التي اختارت المذهب الرأسمالي، يتضمن دستورها نصاً يحظر إصدار قوانين تخالف هذا المذهب أي تغير المجتمع ليصبح شيوعياً.
__________
(1) ... الأحزاب (36).
(2) ... الشورى (38).
(3) ... سنن أبي داود الحديث 2608، 2609.
(10/14)
وعلى هذا الأساس فاختيار الديمقراطية في المجتمع الإسلامي يكون مسبوقاً بدستور ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ويحدد حقوق الأمة وحقوق الحاكم وواجباته بما لا يخرج عن القواعد المجمع عليها بين فقهاء المسلمين، ومن بينها أن المال في الإسلام وظيفة اجتماعية فليس لأصحابه الحق المخول لنظرائهم في النظم الرأسمالية ولهذا فرض الإسلام الزكاة وحرم الاحتكار، وحمى حقوق الفقراء والمستضعفين في المال العام، وهذا ما عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "لا حمى إلا لله ولرسوله"، كما جعل الإسلام في المال حقوقاً أخرى غير الزكاة حسبما فصله الفقهاء المسلمون.
ومن هذه القواعد أن تطبيق الإسلام لا يبدأ بالحدود وإنما يسبقه توفير المأكل والملبس والمسكن للمواطنين، وتوفير سبل تكوين الأسرة، ولهذا لم يقم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بإقامة الحد على اثنين من العمال سرقا من مال مخدومهما لأنه لم يوفر لهما سبل العيش مما اضطرهما للسرقة.
وأمير المؤمنين لم يوقف حد السرقة كما يفهم البعض خطأ، بل طبق الشروط والموانع الشرعية بالتالي إعمالاً لهذه الموانع لم يطبق الحد على هؤلاء" انتهى.
(10/15)
::::: المجموعة الثانية :::::
نظرة شرعية في فكر (نوال السعداوي)
- هي نوال السيد السعداوي: أبرز داعيات تحرير المرأة في عالمنا اليوم .
- ولدت عام 1931م بالقاهرة.
- تعلمت في مدرسة منوف الابتدائية 1939-1943م فمدرسة حلوان الثانوية 1943-1948م.
- دخلت كلية الطب في قصر العيني بالقاهرة 1949-1954م.
- ثم في جامعة كولومبيا، نيويورك، 1965-1966م.
أبرز مناصبها :
- طبيبة في مستشفيات القاهرة والريف المصري 1956-1967م.
- مديرة عامة للصحة العامة في وزارة الصحة بالقاهرة 1967-1972م.
- خبيرة في الأمم المتحدة في أفريقيا والمنطقة العربية 1978-1980م.
- عضو كل من نقابة الأطباء المصرية، واتحاد الأدباء في مصر، والجمعية الأدبية المصرية، وجمعية الثقافة الصحية بمصر، والاتحاد الدولي للدفاع عن حقوق المرأة، والاتحاد الدولي للثقافة الصحية، واتحاد خريجات الجامعة في مصر، والاتحاد الدولي لخريجات الجامعة.
- متزوجة ولها: ابن وابنة.
- مقيمة في المنفى حالياً . ومتفرغة للكتابة.
مؤلفاتها:
أ قصص:
1- تعلمت الحب، القاهرة ، مكتبة النهضة، 1961.
2- حنان قليل ، القاهرة، روز اليوسف، 1961.
3- لحظة صدق، القاهرة، روز اليوسف، 1962.
4- الخيط والجدار، وقصص أخرى، القاهرة، دار الشعب، 1972. مع مقدمة لعلي الراعي.
5- كانت هي أضعف، بيروت، دار الآداب، 1979؛ ط2، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1983.
6- موت معالي الوزير سابقاً، بيروت، دار الآداب، 1980، القاهرة مكتبة مدبولي؛ ط2،1983.
ب روايات:
1- مذكرات طبيبة، القاهرة دار المعارف، 1965.
2- الغائب، القاهرة، المؤسسة المصرية للكتاب، 1967؛ ط2، بيروت، دار الآداب، 1980.
3- الباحثة عن الحب، القاهرة، المؤسسة المصرية للكتاب، 1970. ونُشر أيضاً بعنوان امرأتان في امرأة، بيروت، دار الآداب، 1977.
4- موت الرجل الوحيد على الأرض، بيروت، دار الآداب، 1976.
5- امرأة عند نقطة الصفر، بيروت، دار الآداب، 1977
(11/1)
6- أغنية الأطفال الدائرية، بيروت، دار الآداب، 1978.
7- الخيط وعين الحياة: روايتان قصيرتان، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1983.
8- سقوط الإمام، القاهرة، دار المستقبل العربي. 1978.
9- مذكرات طفلة اسمها سُعاد، القاهرة، منشورات تضامن المرأة العربية، 1990.
10- الحب في زمن النفط: القاهرة، مكتبة مدبولي، 1992.
ج دراسات، مسرحيات، مذكرات:
1- المرأة والجنس، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1971.
2- الأنثى هي الأصل، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974.
3- المرأة والصراع النفسي، بيروت 1977. القاهرة مكتبة مدبولي، 1983.
4- الوجه العاري للمرأة العربية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1977.
5- قضية المرأة المصرية السياسية والجنسية، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1977.
6- الرجل والجنس، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1977.
7- الإنسان: اثني عشر امرأة في زنزانة واحدة، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1983. مسرحية.
8- مذكراتي في سجن النساء، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1984.
9- دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1986.
10- ايزيس، مسرحية من فصلين، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1986.
11- رحلاتي حول العالم، القاهرة، دار الهلال، 1986.
12- عن المرأة، القاهرة، دار المستقبل العربي، 1988.
13- عن تضامن المرأة العربية، القاهرة، منشورات تضامن المرأة العربية، 1989.
14- معركة جديدة في قضية المرأة، القاهر’ سينا للنشر، 1992.
عن المؤلفة:
1- الحوادث، 18/10/1985، ص 85-86 مقابلة.
2- الأدب من الداخل، لجورج طرابيشي، دار الطليعة، 1978. دراسات في أدب نوال السعداوي.
3- أنثى ضد الأنوثة، لطرابيشي أيضاً، بيروت، دار الطليعة، 1985(؟) دراسة نقدية في أعمال نوال السعداوي.
(11/2)
ملخص فكرها: تدور جميع كتبها وقصصها ومقالاتها على فكرة (تحرير) المرأة من حدود الشريعة، والدعوة إلى مساواتها (في جميع الأمور) بالرجل، بل إنها تغلو في ذلك غلواً عظيماً يستنكره عليها متحررو الرجال قبل غيرهم! .
وتلجأ في سبيل الوصول إلى فكرتها هذه إلى الكذب والتهويل والدعاوى العريضة . وخطواتها في ذلك كالتالي:
- تمجيد الفراعنة والإدعاء بأنهم قد سبقوا الأديان السماوية !! ولذلك فقد وصلت المرأة عندهم إلى أن تكون (إلهةً) (الوجه العاري. ص16-22) وأن الدين نشأ من عندهم ! (الوجه العاري. ص28)
- ثم جاءت الأديان السماوية –بزعمها- واستفادت مما قبلها ! إلا أنها حطت من شأن المرأة وأعلت من سلطة الذكور (ص 27).
وساعد على ذلك كما تقول السعداوي : (أن المرأة البدائية انشغلت بولادة الأطفال في تلك الفترات التي تطلبت زيادة كبيرة في النسل.. الخ) الهراء (الوجه العاري ص 33) .
- لهذا فإنه يكثر في كلامها تمجيد الفراعنة، والطعن في الأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام –كما سيأتي- مدعية بأن الأديان قد خفضت من مكانة المرأة -والعياذ بالله-.
كفريات نوال السعداوي:
وهي –قبحها الله- من أشد المنحرفين والمنحرفات تصريحاً بكفرها وزندقتها. فتجدها تطعن وتسخر من الله –عز وجل- بصراحة عجيبة، وتنتقد أحكام الإسلام المتعلقة بالمرأة وترفضها بوضوح. وإليك شيئاً من كفرياتها وبذاءاتها .
1-تقول في مقال لها (طويل) في مجلة (إبداع!) (عدد شعبان 1419هـ) تحت عنوان (رواية السيرة الذاتية) (1) :
(11/3)
"منذ علمتني أمي الحروف عرفت تكوين كلمة ذات معنى هي اسمي، بدأت أكتبها كل يوم، أربعة حروف متشابكة "نوال"، أحببت شكل الاسم ومعناه النوال أو العطاء، ارتبط بي أصبح جزءاً مني، عرفت اسم أمي "زينب" كتبته إلى جوار اسمي فوق كراستي الصغيرة، أحببت شكل الاسمين معاً ومعناهما كما أحببت نفسي وأمي. أكبر حب في حياتي منذ ولدت كان لنفسي ولأمي، بعد ذلك يأتي الآخرون، منهم أبي، شطب على اسم أمي، وضع اسمه إلى جوار اسمي، ثم وضع اسم أبيه "السعداوي"، رجل مات قبل أن أولد.
__________
(1) ... وأنا قد اخترت –عمداً- هذا المقال؛ لأنه يحتوي على كفريات كثيرة صريحة وقعت من الدكتورة لا يمكن لمسلم يفقه دينه أن يفوه بها. فأعتذر مسبقاً عن إزعاج أسماعكم وأبصاركم بهذه البذاءات والكفريات؛ فإن ناقل الكفر ليس بكافر؛ ولكي يفيق بعض من قد ينخدع بزخارفها من المسلمات اللواتي لا يعلمن كفرياتها عندما يرين ذلك، فيعلمن أيَّ مهوىً سحيق تهوي بهن فيه الدكتورة.
ودار في عقلي السؤال: لماذا يشطب أبي اسم أمي؟ ولدتني أرضعتني علمتني الكتابة ترعاني كل يوم؟! يضع مكانه اسم رجل غريب لم أره في حياتي مات قبل أن أولد؟ كرهت اسم الرجل "السعداوي" يلغي اسم أمي من الوجود، سألت أبي عن السبب فقال لي إنها إرادة الله.
كلمة "الله" سمعتها لأول مرة في حياتي من أبي، عرفت أنه يسكن السماء، هو المسئول عن شطب اسم أمي، لم يكن لي أن أحب من يشطب أمي واسمها زينب، أحبها باسمها، جسمها، شكلها، أصابعها الحانية الدافئة تداعب وجهي كشعاع الشمس، صوتها يناديني في الصبح، كل يوم جديد تعلمني كلمات جديدة.
كان لي أخ أكبر مني بعام واحد، كان بليداً في المدرسة وفي البيت، لا يفعل شيئاً إلا اللعب والصراخ والنوم والأكل، لا يرتب سريره ولا يغسل صحنه، أنا أصغر منه مع ذلك أرتب له سريره وأغسل صحنه، أتفوق عليه في واجبات المدرسة وأعمال البيت.
(11/4)
أبي كان يحبه أكثر مني، يدلله ويشتري له طيارة بزنبلك، وبسكليته. في العيد يعطيه ضعف ما آخذ من قروش أو ملاليم، حين أسأل أبي: لماذا؟ يقول: الله قال في كتابه الكريم "البنت نصف الولد" (1) .
أصبح الله هو المسئول عن التفرقة بيني وبين أخي دون وجه حق، كما أصبح المسئول عن شطب اسم أمي دون وجه حق أيضاً. قال أبي: إن الله هو الحق، لم أفهم هذه العبارة فكتبت رسالة إلى الله أسأله، كانت أول رسالة أكتبها في حياتي، بدأت كالآتي: يا ربي إذا كنت أنت الحق فلماذا تفرق بيني وبين أخي ولماذا تفرق بين أبي وأمي؟
__________
(1) ... تشير الفاجرة إلى قوله تعالى (للذكر مثل حظ الأنثيين)، وهو اعتراض على حكم الله الذي لم تفقه حكمته بأسلوب ساخر.
قالت أمي: إن الله لا يقرأ ولا يكتب، كنت أظن أنه كتب القرآن، أبي يسميه كتاب الله، لم أرسل إلى الله رسالة أخرى، أصبحت أوجه الرسائل إلى أبي، كنت أدرك الصلة بينه وبين الله. كانت رسائلي إلى أبي لا تصل إليه أحرقها قبل أن أرسلها، كما حرقت رسالتي الأولى إلى الله. بدأت أدرك أن الله يملك ناراً حمراء تحرق جلود الناس، تتجدد الجلود بعد الحرق لتحرق مرة أخرى، يستمر الحرق إلى مالا نهاية، عرفت أن مصيري النار لأني أسأل الله، المفروض أن الله لا يسأل عن شيء، فهو يفعل ما يشاء دون أن يحق لمخلوق أن يوجه إليه سؤالاً.
(11/5)
قال أبي: إن الله هو الخالق الكامل، جميع أعماله كاملة، خلق أجسادنا على أحسن تقويم، وجاءت الداية بالموس في ليلة مظلمة وأنا في السادسة من العمر، قطعت عضواً من جسدي قالت إنه أمر الله، لم أستطع أن أسأل الله كيف يأمر بقطع عضو خلقه في أجسادنا، سألت أبي فقال: إن عملية الختان سنة عن رسول الله وليست فرضاً لأنها لم ترد في كتاب الله، ولم أعرف ما الفرق بين السنة والفرض، ورقدت في الفراش أنزف بعد انصراف الداية صاحبة الموس، نزفت أكثر من أسبوعين، الألم كالنار التي تحرق بعد الموت، شفيت بعد ثلاثة أسابيع، نسيت الحادث ربع قرن من الزمان، حتى تخرجت في كلية الطب واشتغلت طبيبة في الريف، بدأت أرى الدايات بأمواسهن الملوثة تقطع في أجساد البنات الأطفال، ينزف الجرح حتى الموت أو ينز الدم والصديد، يترك في جسد كل طفلة عاهة مستديمة.
لم نتعلم في كلية الطب شيئاً عن الختان. لم تكن أعضاء المرأة الجنسية ضمن المقرر، فقط الأعضاء التناسلية والمجاري البولية، أما تلك الأعضاء التي تتعلق باللذة الجنسية أو الرذيلة فهي غير موجودة في كتب الطب الإنجليزية أو العربية.
في طفولتي المبكرة لم أعرف ما هي الرذيلة، قال أبي إن الشيطان مسئول عنها واسمه إبليس، أصبحت أراه في الحلم على شكل رجل يهمس في أذني باللذة المحرمة، التي تحولت إلى ألم يرتبط على نحو ما بالعضو المبتور بالموس في جسدي. كنت أرى الله أيضاً في أحلامي على شكل رجل يحذرني من إبليس، لم أعرف كيف أفرق بين الله وإبليس، كلاهما أراه في الحلم على شكل الرجل.
في التاسعة من عمري وقع لي حادث آخر مؤلم، نزيف دموي أصابني من حيث لا أدري، أشد خطراً من حادث الختان، لأنه يتكرر لمدة أربعة أيام كل شهر. لا ينقطع عني إلا بعد أن يبلغ عمري نصف قرن، ورد ذكره في كتاب الله إنه "أذى" بمعنى النجاسة، على الرجال أن يهجروا النساء في هذه الأيام حتى يطهرن .
(11/6)
كنت أنكمش في الركن بعيداً عن الناس أخفي الألم في ذاكرتي، لم يكن لي أن أسأل سؤالاً دون أن أمس المقدس، الله في سمائه العلياء، أما إبليس فقد قرأت قصته في المدرسة. أمره الله بالسجود لآدم فرفض، قصة لا علاقة لها بالختان أو المحيض أو آلامي الجسدية والنفسية. أدركت وأنا في العاشرة من العمر أن إبليس برئ على نحو ما)!
وتقول: (في الثالثة عشر من عمري كنت تلميذة بالمدرسة الثانوية في حلوان. طلب منا أحمد أفندي مدرس اللغة العربية أن نكتب شيئاً من الذاكرة في كراسة الإنشاء، كانت ذاكرتي الطفولية قد اندثرت تحت اسم المحرم، الجنس أو الدين، نسيتهما مع أحداث طفولتي بما فيها الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، ومفهوم الشرف يتعلق بغشاء خلقه الله في أجساد البنات فقط، لم يخلقه في أجساد الأولاد لأن الذكور ليس لهم شرف يتعلق بشيء في أجسادهم.
كتبت لأحمد أفندي في كراسة الإنشاء سيرة ذاتية لطفلة اسمها سعاد. غيرت اسمي واسم أبي وجدي السعداوي حتى لا يدرك أحمد أفندي أنني أكتب عن نفسي، تفاديت المحرمات الكبيرة التي تتعلق بالرءوس الكبيرة مثل أبي والله وجدي وعمي الشيخ محمد وخالي يحيي وزكريا وغيرهم من الذكور.
(11/7)
إلا أن ذاكرتي اللاإرادية كانت تتسرب من بين السطور، في المساحات الخالية بين السطر والسطر، كنت أكتب على سطر وأترك سطراً خالياً يتسع لأي شيء، وقد سألت سعاد أباها سؤالاً لم أسأله لأبي، وهو كيف ينفذ الله من خلال الجدران ويراها في دورة المياه؟ كانت سعاد تخجل من رفع ملابسها، تتصور أن الله رجل يطل عليها من السقف، قال لها أبوها إن الله ليس ذكراً أو أنثى وهو روح بلا جسد، كان أبوها يخاطب الروح بصيغة المؤنث فيقول الروح لا يعلمها أحد، وبدأت سعاد تخاطب الله بصيغة المؤنث باعتباره روحاً، غضب أبوها، أمرها أن تشطب على صيغة المؤنث، مع ذلك كان يؤكد لها أن الله روح فقط يختلف عن الإنسان الذي يملك الروح والجسد، تصورت سعاد أن الإنسان يملك أكثر مما يملكه الله، لأن عنده الجسد أيضاً بالإضافة إلى الروح) .
وتقول: (بدأت في تلك الفترة من شتاء 1059 أكتب سيرتي الذاتية تحت عنوان "مذكرات فتاة غير عادية". كنت أشتغل طبيبة جراحة في مستشفى الصدر بالجيزة، وعيادتي الطبية في ميدان الجيزة، أتحمل في البيت مسئولية لا يتحملها الرجال، في المستشفى والعيادة أعالج الرجال والنساء، أنقذ أرواحهم وأجسادهم من الموت، إلا أن القانون والشرع يراني نصف رجل، لا أستطيع أن أدلي بشهادة المحكمة كإنسانة كاملة، ليس لي حق الولاية على أخواتي القاصرات، لا يمكن لي السفر دون إذن مكتوب من زوجي، يملك حقوقاً لا أملكها منها الطلاق، تعدد الزوجات، ما يسمى "قوامة الرجل" على المرأة رغم أنني أتحمل مسئولية الإنفاق.
رفضت كل هذا كان معي المنطق والعدل والحق. إلا أن الشرع والدين لم يكن معي، هنا اصطدمت بالمقدس. بدأت أبحث كيف نشأ هذا المقدس في التاريخ. وصلت إلى الحضارة المصرية القديمة، كانت الإلهة الأنثى رمز المعرفة والعدل والصحة، الإلهة "سخمت" نقيبة الأطباء في مصر منذ سبعة آلاف عام، "معات" هي رئيسة القضاء وإلهة العدل، لا يمكن للمرأة أن تكون قاضية اليوم.
(11/8)
في طفولتي سمعت أبي يقول: الجنة تحت أقدام الأمهات، أحد النصوص المقدسة بعد موت أمي رأيتها في الحلم تعاني الوحدة والحزن في حياتها الجديدة بالجنة. كان أبي مخلصاً لها طوال حياته، في الجنة تخلى عن هذا الإخلاص تركها وحيدة وانشغل بالعذروات والحوريات، يشف بياضهن من تحت الساق، له منهن اثنين وسبعين حورية، تعود الواحدة منهن عذراء تمزق الغشاء، ليتمزق من جديد كالجلود المحروقة في النار تتجدد.
كان أبي رقيق الطبع فهل يتحول بعد الموت إلى آله ذكورية شديدة القسوة والغباء لا عمل لها إلا تمزيق أغشية العذروات؟ أمي حكت لي آلامها ليلة الزفاف، هذا الألم تعرفه كل امرأة فكيف تتكرر هذه المأساة كل ليلة؟
ألا تكون النار أفضل للنساء من الجنة؟ وكيف تتحول أمي إلى عذراء بعد أن ولدت تسعة من العيال؟)
ومن أقوالها الكفرية – أخزاها الله-:
(لتذهب وزارة الصحة إلى الجحيم، لا أريد أن أبقى فيها ولا أريد السفر، كل ما أريد هو أن أحاجج الرب كما حاججه سيدنا أيوب، عندي من الصبر ما كان عنده ويزيد ... ) (أوراقي حياتي 2/160).
(في الليل تحوطني أختي بذراعيها، تنشج بصوت مكتوم، وتحكي قصة أمها. زارها الله في الحلم وحملت منه مثل مريم العذراء..) (سقوط الإمام،23).
(لم يكن لجسد أمي عورة إلا الثدي الواحد، كالإله ذو الثدي الواحد..). ((السابق،166)
(أصحو من النوم والدنيا ظلام. جسمي مبلل بالعرق وله رائحة الله). (السابق، 23)
(أغمضت عيني لأنام، رائحة الله في أنفي). (السابق، 23-24).
وفي حوار لها مع صاحبها النصراني ! قال لها : (أتؤمنين بالله يا دكتورة نوال؟)
قالت: (منذ الطفولة يدور السؤال في رأسي، أخاف أن أقول: لا أؤمن، وإذا قلت: أؤمن، أخشى ألا أكون صادقة) (أوراقي حياتي 2/154).
طعونها في الإسلام وشرائعه:
(11/9)
تقول : (كان المجتمع العربي كغيره من المجتمعات الإنسانية يتحول تدريجياً من النظام الأموي إلى النظام الأبوي بازدياد سلطة الرجل واحتكاره للأنشطة الاقتصادية، وبانحسار دور المرأة خارج البيت أو في أعمال الإنتاج، وبمساندة الدين الإسلامي للنظام الأبوي). (الوجه العاري، 65).
(وقد ظهر الإسلام أيضاً في مجتمع أبوي قائم على الملكية الفردية، ونظام الطبقات والأسياد والعبيد؛ فأصبحت السلطة في الإسلام للرجل). (السابق،51).
(استمدت الأديان السماوية مبادئها الخاصة بالمرأة من الأنظمة الأبوية الطبقية القائمة على الأسياد والعبيد والجواري). (السابق، 47).
(إن قانون الزواج والطلاق والنسب والإرث والولاية لا زال يعطي الرجل السيادة على المرأة) . . (السابق، 211).
(إن قانون الزواج والطلاق في مجتمعنا العربي ليس إلا أحد بقايا قوانين الإقطاع الأبوية التي تجعل الزوجة كقطعة الأرض يمتلكها الرجل ملكية تامة، يفعل بها ما يشاء ... ) (السابق، 235).
(من أهم المشاكل التي لا تزال تعترض المرأة العربية بالنسبة للعمل هو قوانين الزواج المتخلفة، التي لا تزال تعطي الزوج حق منع زوجته من العمل أو السفر أو الخروج من البيت حينما يريد). (السابق، 194).
(يتضح لنا من هذا القانون أن الزوج أيضاً يستطيع ألا يعترف بشرعية طفله لمجرد استخدامه لكلمات اللعان، رغم صحة عقد الزواج وصحة مدة الحمل، ورغم أن زوجته تقسم بأنه هو الأب) (السابق، 297).
(إن الثقافة الإسلامية أو العربية ليست هي الثقافة الوحيدة التي حولت المرأة إلى سلعة أو عبدة) (السابق، 7).
(هكذا ظلت المرأة العربية المسلمة جزءً من ممتلكات الرجل، ولا زالت معظم البلاد العربية بما فيها مصر تحكم على نسائها بهذه القوانين الجائرة في الزواج حتى اليوم) (السابق، 57).
(الإسلام أعطى المرأة حقوقاً جديدة، وسلبها من حقوق قديمة) (السابق،8).
(11/10)
(تتضمن الأديان الكبرى في العالم مبادئ متشابهة من حيث تبعية المرأة للرجل، وتمتع الإله بصفات ذكورية، وتثبيت القيم الطبقية، وسلطة الذكر في البيت والمجتمع) (السابق، 7)
طعونها في الرسول صلى الله عليه وسلم :
تقول المجرمة: (لولا كتاب التوراة ما عاش النبي موسى أو اليهودية. لولا كتاب الإنجيل ما عاش المسيح أو المسيحية. لولا كتاب القرآن ما عاش النبي محمد أو الإسلام.
ألهذا السبب كانت الكتابة محرمة على النساء والعبيد؟!) (أوراقي حياتي 2/7).
(إن النبي نفسه محمد رسول الله لم يستطع أن يعدل بين زوجاته، إذ كان يقضي منه أن يقسم ليله بالتساوي بين زوجاته، بحيث لا تجور واحدة على ليلة الأخرى، إلا أن محمداً كان بشراً، ولم يكن في وسعه دائماً أن يحقق هذا التقسيم العادل، فقد كان يفضل زوجته عائشة) (الوجه العاري 219).
(لم يكن محمد يُرغم الزوجة أن تعيش مع زوجها إذا رغبت الانفصال عنه. وقد أعطى محمد زوجاته حرية البقاء معه أو الانفصال عنه بعد أن حالت ظروف حياته في فترة من الفترات أن يوفي حاجتهن الجنسية) (السابق 69).
قدحها في النبي (لوط) عليه السلام:
حيث تتابع أحبابها اليهود في اتهامه بالزنا !! والعياذ بالله:
تقول – قاتلها الله-:
(برغم القيود على المرأة فقد كان الرجل متعدد الزوجات يمارس الجنس مع زوجاته وإمائه، بل وبناته أحياناً ، فقد اضطجعت ابنتا "لوط" مع أبيهما نفسه، وحملتا منه)!! (السابق 48).
ت طعنها في الصحابي الجليل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-
تقول: (من هنا يتضح كيف ترك عمر بن الخطاب وأمثاله من رجال العرب من ذوي النزعة الأبوية المتسلطة بصماتهم على كثير من الأحكام التي تُفرض على النساء العربيات اليوم باسم الإسلام) (السابق 68).
(لا شك أن أغلبية الرجال العرب قد نهجوا منهج عمر بن الخطاب في التسلط على المرأة) (السابق 67).
ادعاؤها التناقض في شريعة الله !
(11/11)
تقول: (ولأن أحاديث وآيات القرآن لم تصدر كلها في يوم وليلة وإنما صدرت في ظروف ومناسبات متعددة ومختلفة، ومن أجل أن تتناسب مع المجتمع العربي في زمن معين، كل ذلك جعل هذه الأحاديث والآيات تشتمل أحياناً على أوامر متناقضة، وبالذات فما يختص بالمرأة). (السابق 216).
سخريتها من الشريعة:
تقول: (كل أربعاء كانت الندوة تنعقد في عيادتي بميدان الجيزة، يحضرها عدد من الأدباء والشعراء، كانت هناك نهضة أدبية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات مع النهضة السياسية، كنا في ربيع العمر نتغنى بمبادئ الاشتراكية) (أوراقي حياتي 2/174).
وتقول لصديقها: (لم نكن نؤمن بالمؤسسة الزوجية، نسخر معاً من قانون الزواج، العقد المكتوب يشبه عقود تأجير الدكاكين، كنا نعيش في مدينة القاهرة بدون ختم الدولة النسر لا يلتقي الرجل والمرأة إلا وثالثهما الشيطان) (السابق 2/9-10).
آدم وحواء أسطورة عند الدكتورة !!
تقول: (لا تختلف أسطورة آدم وحواء كثيراً عن أسطورة أزيس وزيوس، اللهم إلا أن أسطورة آدم وحواء جاءت في الكتب السماوية المقدسة، فاكتسبت بذلك قدسية تبعد الكثيرين عن مناقشتها مناقشة عقلية موضوعية) (الوجه العاري 18).
إيمانها بنظرية دارون !
تقول: (إن تاريخ الإنسان الأول الذي تطور عبر ملايين السنين من فصيلة معينة من القرود يحتوي على حقائق هامة ... .. الخ) (السابق 25).
دعوتها إلى تعدد الأزواج !!
تقول: ( إن فرض زوج واحد على المرأة لم يكن يُشبع حاجاتها الجنسية، بالإضافة إلى أن هذا الزوج لم يكن لها وحدها، وإنما كانت تشترك معها فيه رغبة نساء أخريات، فقد أصبح نصيب المرأة من الجنس ضئيلاً جداً، لا يزيد عن جزء من نصيب 44 رجل، وهو أمر كان يتعارض بطبيعة الحال مع إشباع رغبة المرأة البدائية القوية.
(11/12)
وقد قاومت المرأة بالضرورة هذا القيد لتمارس حياتها الطبيعية، قاوم الرجل بالطبع مقاومة المرأة بقوانين أشد صرامة منها القتل للخيانة الزوجية ... الخ) (السابق 44).
تهييجها النساء المسلمات على التمرد !
تقول : (لكن الحرية لها ثمن، تدفعه المرأة المتحررة من صحتها وراحتها، ونظرة المجتمع المعادية لها. لكن المرأة أيضاً تدفع ثمن العبودية والخضوع من صحتها وشخصيتها ومستقبلها، والأفضل للمرأة أن تدفع الثمن وتكون حرة، على أن تدفع الثمن وتظل عبدة) (السابق 250).
الفراعنة هم أول من اكتشف التوحيد !!
تقول: (الفراعنة المصريون هم أول من اكتشف الدين، هم سادة التوحيد والروحانية ... ) (أوراقي حياتي 2/12).
وهذا –كما هو معلوم- مناقض لقوله تعالى (كان الناس أمة واحدة) أي على التوحيد الخالص لله، كما هو حال أبويهم آدم وحواء، إلى أن حدث الشرك قال ابن عباس –رضي الله عنه- في تفسير الآية السابقة:
(كانوا من آدم إلى نوح على التوحيد) .
وكلام الدكتورة الكاذبة مناقض لحال الفراعنة الذين كانوا مشهورين بعبادة فرعون! كما في قصة موسى –عليه السلام- ، ومشهورين بالشرك كما في قصة يوسف –عليه السلام- ودعوته لهم إلى التوحيد.
ولكنه الكذب والتعصب من الدكتورة لأسلافها الفراعنة ! حشرها الله معهم !
الدكتورة تدعو إلى الاشتراكية:
تقول: (التاريخ يدلنا على أن الثورات الاشتراكية وحروب التحرير تُسرع بعملية تحرير المرأة في الشرق) . (الوجه العاري 8).
وتقول: (إن تحرير المرأة لن يتم إلا في ظل مجتمع اشتراكي) (السابق 181).
وانظر: (ص 158، 206،209، 253) من كتابها (الوجه العاري).
الخلاصة : أن الدكتورة:
1- من (غلاة) الداعيات إلى تحرير المرأة المسلمة من الشريعة .
2- أنها تسخر من الإسلام وشرائعه ولا تأخذ بها.
3- أنها تُصدر الكلمات القبيحة في حق الله –تعالى- وحق أنبيائه –عليهم السلام- .
4- أنها من الداعيات إلى الاشتراكية المعارضة للدين.
(11/13)
5- أنها تؤمن بنظرية دارون الباطلة .
6- أنها مهووسة جنسياً !! بدعوتها إلى تعدد الأزواج ، أو الاستخفاف بالزواج ومساواته بالزنا !
7- أنها تكذب وتغالط في سبيل دعوتها .
فالواجب على من ولاه الله أمر المسلمين أن تأخذه الحمية والغيرة له ولدينه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، بأن ينفذ في هذه (المرتدة) حكم الله، في أمثالها، وهو القتل.
وليتق الله أصحاب القنوات الفضائية من الترويج لفكرها المنحل المنحرف؛ لئلا يحملوا وزر من يضل من نساء المسلمين بسببها كما قال سبحانه (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون) وليتذكروا قوله تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار).
أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم ، وأن يُفرح قلوبنا بتنفيذ حكم الله في المرتدين والمرتدات ، وأن يُسلط عليهم ولاة أمور المسلمين .
(11/14)
::::: المجموعة الثانية :::::
نظرة شرعية في فكر (فرج فوده)
ترجمته (1) :
- هو : فرج بن علي فوده
- من مواليد الزرقاء –دمياط، في 20 أغسطس 1945م.
- حصل على بكالوريوس الزراعة عام 1967، ثم الماجستير عام 1975م.
- حصل على دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس عام 1981م.
- عمل مدرساً بزراعة بغداد، ثم خبيراً اقتصادياً في بعض بيوت الخبرة العالمية.
- ثم أصبح يملك ويدير (مجموعة فودة الاستثمارية)
- انضم إلى حزب الوفد ثم انفصل عنه –كما يأتي- فأصدر كتاباً بعنوان (الوفد والمستقبل) شنع فيه على الحزب ودعا قارئه إلى عدم الانضمام إليه!
- (اغتيل إثر مناقشة علنية بين طرفين: أحدهما إسلامي، والآخر علماني. وكان هو من الطرف العلماني.
__________
(1) ... انظر: تتمة الأعلام للزركلي، للأستاذ محمد خير يوسف ( 2/10-11).
وكانت البداية في صراعه مع الشيخ صلاح أبو إسماعيل، عندما كانا في حزب الوفد عام 1984، حيث أصر فرج فوده على علمانية –أي لا دينية- الوفد، بينما أصر الشيخ صلاح أبو إسماعيل على إسلامية الوفد. ولحسابات كثيرة أعلن رئيس حزب الوفد إسلامية الحزب. فخرج فوده من الحزب، وأسس مع أحد المارقين عن الإسلام حزباً جديداً أسماه"حزب المستقبل"، ووضع غالبية مؤسسيه من الأقباط، بالإضافة إلى الدكتور أحمد صبحي منصور، الأزهري الذي فصلته جامعة الأزهر لاتهامه بالاعتقاد بعدم ختم النبوة، وإنكار السنة النبوية الشريفة.
وقد رشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب عام 1987 بصفته مستقلاً، وفي دائرة شبرا التي يوجد فيها نسبة كبيرة من الأقباط، وبها أكثر من 150 ألف صوت، لم يحصل منهم إلا على 200 صوت فقط!
وكان يدعو إلى التعايش مع إسرائيل، وبدأ هو بنفسه في التعامل بالاستيراد والتصدير –حيث كان يملك شركة تعمل في هذا المجال- وكان يعترف بأن السفير الصهيوني في القاهرة صديقه.
(12/1)
وكان ضيفاً ثابتاً في التلفزيون والإذاعة التونسية. وفي أخريات مقالاته بمجلة أكتوبر المصرية وصف المجاهد التونسي علي العريض بالشذوذ الجنسي، كما تهجم على الشيخ الداعية عبد الفتاح مورو، ودعاة آخرين .
ووضع نفسه أمام الرأي العام أنه ضد إقامة الدولة الإسلامية، وضد تطبيق الشريعة الإسلامية.. وكان ذلك واضحاً في مناظرته الأخيرة التي عقدها والدكتور محمد أحمد خلف الله في معرض الكتاب (يناير 1992) في مواجهة الشيخ محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي والدكتور محمد عمارة، وهي المناظرة التي أثارت حنق الكثيرين وعامة الشعب، وأصحاب الاتجاه الإسلامي على وجه الخصوص . (انظر مجلة المجتمع، عدد 1005).
واستمعت المحكمة على مدى 34 جلسة إلى أقوال 30 شاهد إثبات.. بينهم اثنان اعتبرا صاحبي أخطر شهادة، هما الدكتور محمود مزروعة، والشيخ محمد الغزالي.
والأول رئيس لقسم العقائد والأديان بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر، ووكيل وعميد سابق لها، وأستاذ في جامعة بنغازي، وجامعة الملك سعود، والجامعة الإسلامية بإسلام آباد، وجامعة قطر.. وحاور مستشرقين في الهند والصين وإيطاليا. وأعلن أمام المحكمة أن "فرج فوده" مرتد، ويجب على آحاد الأمة تنفيذ حد الردة في القاتل إذا لم يقم ولي الأمر بتنفيذ ذلك.. واعتبر بذلك في نظر كثير من المفكرين والأدباء محرضاً على القتل.
(12/2)
وقال الشاهد: إن فرج فودة كان يحارب الإسلام في جبهتين.. وزعم أن التمسك بنصوص القرآن الواضحة قد يؤدي إلى الفساد إلا بالخروج على هذه النصوص وتعطيلها.. أعلن هذا في كتابه "الحقيقة الغائبة" . وأعلن رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نفسه وجندها داعية ومدافعاً ضد الحكم بما أنزل الله.. وكان يقول: لن أترك الشريعة تطبق ما دام فيَّ عرق ينبض! وكان يقول: على جثتي! ومثل هذا مرتد بإجماع المسلمين، ولا يحتاج الأمر إلى هيئة تحكمُ بارتداده. (لقاء مع الدكتور مزروعة في جريدة العالم الإسلامي ع 1370 تاريخ 15/3/1415هـ)
-وشهادة الشيخ محمد الغزالي في قضية الاغتيال هذه أثارت ردود فعل عنيفة، داخل مصر وخارجها.
واعتبرها العلمانيون المصريون بمثابة 100 قنبلة! في حين أكد المتهمون باغتياله أن شهادة الشيخ تكفيهم ولو وصل الأمر لإعدامهم بعد ذلك! (تنظر هذه الشهادة في جريدة العالم الإسلامي ع 1321 (21- 27/2/1414هـ). وانظر الرد في مجلة المصور ع 3586 (12/1/1414هـ)، وتنظر كذلك: الرسالة الإسلامية ع 131 ص 65).
وبعد إدلاء هاتين الشهادتين ثارت زوبعة حول حد الردة في الإسلام، حيث أنكر العلمانيون والشيوعيون أن تكون عقوبة المرتد هي القتل، وأعد الدكتور عبد العظيم المطعني –الأستاذ بجامعة الأزهر- دراسة للرد عليهم بعنوان: "عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين" نشرتها مكتبة وهبة بالقاهرة.
والكتاب الأكثر إثارة في القضية كان بعنوان "أحكام الردة والمرتدين من خلال شهادتي الغزالي ومزروعة" لمؤلفة الدكتور مزروعة نفسه.
(12/3)
ومما كُتب فيه أيضاً، كتاب "محاكمة سلمان رشدي المصري: علاء حامد: مسافة في عقل رجل أم طعنة في قلب أمة؟ مع نص شهادة فرج فودة في المحكمة للدفاع عن علاء حامد" حيث اعتبر فرج فودة زعيم العلمانيين في مصر (ص125)، ونقل قوله في المحكمة: "غير المسلمين مثل النصارى واليهود ينكرون بداهة الدين الإسلامي فهل إنكارهم يعد جريمة؟" (ص26). وقد وضع اسمه بين المدافعين عن علاء حامد مع أحمد صبحي منصور، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد فايق –أمين عام المنظمة المصرية لحقوق الإنسان-، وإسماعيل صبري عبد الله، ومحمد عودة، ونبيل الهلالي، وعبد الوارث الدسوقي، ويوسف القعيد، ونوال السعداوي. ورواية علاء حامد فيها "إلحاد وتطاول على الذات الإلهية، وسخرية من الأنبياء والرسل، واستهزاء بالجنة والنار، وتكذيب صريح للكتب المنزّلة وهجوم عليها" (ص61).
وقد صودر الكتاب، وأعدمت النسخ، وصدر الحكم عليه بالسجن ثماني سنوات، ورفض رئيس مصر إلغاء الحكم وقال: "لا أستطيع إلغاء حكم قضائي لشخص أهان الدين" وقال: "إن الحفاظ على العقيدة شيء مقدس" (ص71).
-كان اغتيال فرج فودة في شهر ذي الحجة، الموافق لشهر حزيران (يونيو)، أثناء خروجه من مكتبه بمدينة نصر.
مؤلفاته:
1- الملعوب: قصة شركات توظيف الأموال. القاهرة: دار مصر الجديدة.
2- قبل السقوط. 1405هـ وقد رد عليه في كتاب بعنوان: "تهافت قبل السقوط وسقوط صاحبه" تأليف عبد المجيد حامد صبح. –المنصورة، مصر: دار الوفاء، 1405هـ، ورد عليه أيضاً بكتاب "بين النهوض والسقوط: رد على كتاب فرج فودة" منير شفيق. –ط2- تونس: دار البراق، 1411هـ.
3- الحقيقة الغائبة، -ط3- القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر.
4- حتى لا يكون كلامنا في الهوا.
5- الطائفية إلى أين؟ (بالاشتراك مع آخرين).
6- النذير.
7- الإرهاب). (انتهى النقل من تتمة الأعلام للزركلي، للأستاذ محمد خير يوسف (2/10-11) بتصرف يسير
انحرافاته :
(12/4)
1- يعد كتابه (قبل السقوط) -الذي أثار الضجة عليه- شاهداً لانحرافه بل ردته –والعياذ بالله-، حيث دعا في هذا الكتاب إلى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، لأن ذلك لا يأتي بخير لمصر! ويطالب بفصل الدين عن الدولة.
ومن أقواله في هذا :"إن فصل الدين عن السياسة وأمور الحكم إنما يحقق صالح الدين وصالح السياسة معاً" (قبل السقوط،ص23) (وانظر أيضاً: كتابه (الحقيقة الغائبة) ص 133،142)
ويقول:"إن تطبيق الشريعة الإسلامية لابد أن يقود إلى دولة دينية، والدولة الدينية لابد أن تقود إلى حكم بالحق الإلهي" (قبل السقوط، ص52).
ويتهجم في كتابه (الحقيقة الغائبة) على فترة حكم الخلفاء الراشدين زاعماً أنها فترة حروب واغتيالات وعدم أمن !! مفضلاً العلمانية عليها ! (ص140-141).
قلت: وقد فند ما جاء من شبهات في هذا الكتاب حول تطبيق شرع الله، الأستاذ عبد المجيد صبح في كتابه (تهافت قبل السقوط وسقوط صاحبه)، فليراجع.
2- نتيجة لانحرافه السابق فإن فودة يدعو إلى موالاة ومحبة المصري للمصري دون نظر إلى دينه!
يقول :"خليق بمثلي أن يشعر بالحزن والأسى وهو يقرأ للدكتور أحمد عمر هاشم تلك العبارة العنصرية (الإسلام لا يمنع من التعامل مع غير المسلمين، ولكن يمنع المودة القلبية والموالاة ؛ لأن المودة القلبية لا تكون إلا بين المسلم وأخيه المسلم، لا يا سيادة الدكتور: المودة القلبية تكون بين المصري والمصري، مسلماً كان أو قبطياً لا فرق، والقول بغير هذا تمزيق للصفوف" (قبل السقوط، ص83)
3- يخصص كتاباً كاملاً (نكون أولا نكون) للنيل من كل ما هو إسلامي، لا سيما في بلاده مصر. بلهجة ساخرة.
(12/5)
4- قال الأستاذ أنور الجندي عن (حزب المستقبل) الذي أسسه فرج فودة في مصر: "أصدرت ندوة العلماء بالأزهر بياناً تضمن رأيها في تأسيس حزب المستقبل قالت: اعترضت لجنة العلماء في بيانها على تأسيس حزب المستقبل في أول سابقة من نوعها بعد قيام الأحزاب الستة في مصر والتي تتولى لجنة الأحزاب السياسة دون غيرها البت في قيامه من عدمه طبقاً للقانون.
حذر بيان لجنة العلماء من قيام حزب المستقبل الذي يؤسسه فرج فودة، وقال البيان: إن الحزب يمثل خطراً على أمن الأمة واستقرارها ووصف أعضاء الحزب بأنهم أعداء لكل ما هو إسلامي، وأن هدفهم المعلن هو عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى تفوق القانون الوضعي، إن أعضاء الحزب دأبوا على الهجوم على التاريخ الإسلامي والتطاول على بعض أصحاب النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الرموز الإسلامية وعلماء الأمة، كما دأبوا على الهجوم على التيار الإسلامي واستعداء النظام وتحريضه على ضرب الأمة.
وقال بيان ندوة العلماء : إن الدولة الثيوقراطية أو الدولة الدينية لا يعرفها الإسلام ولا يطالب بها، والعلمانية والإسلام نقيضان لا يجتمعان، ومحاورة الدولة الدينية والدولة المدنية فيه مغالطة فلا هي الدولة الدينية في الإسلام ولا هي الدولة العلمانية في الفكر الغربي.
وأشار بعض الباحثين إلى أن حزب المستقبل يعمل في هدفه المعلن:
أولاً: على منع تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى تفوق القانون الوضعي .
ثانياً: الدأب على الهجوم على التاريخ الإسلامي والتطاول على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الرموز الإسلامية وعلماء الأمة.
ثالثاً: الهجوم على التيار الإسلامي واستعداء النظام وتحريضه على ضرب الأمة.
والمعروف أن فرج فودة يستقي معلوماته عن التاريخ الإسلامي من "ألف ليلة" و "الأغاني" .
(12/6)
وكان فرج فودة قد أصدر كتاباً ضم إليه مجموعة أفكاره التي تتلخص في المناداة بتنحية الدين عن قيادة الحياة وتضمن مجموعة من الأفكار المسمومة أهمها:
1- إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة، الأمر الذي يخرجه من جماعة المجتهدين إلى جماعات أخرى.
2- رفضه المطلق لتطبيق الشريعة الإسلامية بما يدعو إليه جهاراً من محاصرة كافة مظاهر الدين في مختلف أجهزة الدولة.
3- تشويه أعلام الإسلام وتزييف تاريخه وتحريض الأمة بمختلف فعالياتها السياسية والفكرية على التنكر للإسلام (معتدلين ومتشددين).
4- ما قدم من أفكار نشرها في كتبه وبعض الصحف وعرضها من خلال وسائل الإعلام خرج بها على مقياس الاعتدال وخالف العرب وخالف القانون الذي حدد لمصر هويتها الإسلامية وضرورة المحافظة على القيم والأخلاق.
5- وأد الفكر المعارض له وتحريض الدولة على القضاء على أصحابه.
6- الدعوة إلى منع علماء الأمة من أداء واجبهم نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7- تشويه تاريخ الخلفاء الراشدين كبار الصحابة رضي الله عنهم واتهامهم بتهم لا يصح أن يتهم بها عامة الناس والتطاول على (ابن عباس) رضي الله عنهما واتهامه بالاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل، واتهامه للعشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ونقدهم نقداً لاذعاً.
فعل ذلك ليصل إلى إغلاق ملف الشريعة فيما يتصل بالدولة وسياسة الحكم.
8- وكان أخطر أعماله التركيز على موضوع الشريعة الإسلامية وتشويه صورة الإسلام ورموزه حتى إنه وصل إلى تأويل بعض آيات القرآن الكريم وإنكار الكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة والتأكيد على قصر العمل بكثير من أحكام الشريعة على عصر النبي صلى الله عليه وسلم بمقولة باطلة أن الأوامر التي كانت تصدر من خلال القرآن كانت أوامر شخصية لا يطالب بها إلا من نزلت في شأنهم أو قيلت في حقهم.
(12/7)
9- يعتمد في كتاباته على آراء وضعية روتها بعض كتب التاريخ وأثبت المتخصصون أنها من المدسوسات على تاريخنا الإسلامي وألفت فيها كتب تدلل على تلفيقها وكذبها إلى حد أنه كان يستخلص من هذه الآراء الضعيفة والمردودة ما يدفعه إلى الهجوم على كبار الصحابة كأبي بكر وعثمان وعلي وابن عباس وغيرهم من كبار الصحابة رضي الله عنهم جميعاً الذين اتهمهم في ذمتهم وشرفهم وأراد أن يمحو الحب والتقدير لأقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخاصة العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم جميعاً الذين كان يتهكم عليهم تهكماً شديداً.
وقد وصل فرج فودة في تشويه صورة الإسلام ورموزه إلى حد تأويل بعض آيات القرآن الكريم وإنكار الكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة والتأكيد على قصر العمل بكثير من أحكام الشريعة على عصر النبي صلى الله عليه وسلم .
10- كان يتهجم على الإسلام بصورة غاية في الابتذال والوقاحة ونحن نعلم أن أي مسلم يرد آية واحدة من القرآن فإن ذلك يخرجه من ملة الإسلام.
هذا إلى سفاهات تتعدى على مقدسات 50 مليون مصري ويصف عقيدتهم بالرجعية والظلامية والإرهاب ولا شك أن السخرية والتهكم والكلمات اللاذعة لا تكون أبداً في أسلوب كاتب يحترم نفسه.
ولم يكتف بمعارضة تطبيق الشريعة في مصر وإنما يعارض تطبيقها في أي بلد إسلامي.
11- يعلن فرج فودة تعاطفه مع المرتدين الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه ويخطئ أبا بكر رضي الله عنه في قتاله لمانعي الزكاة.
12- كان يجالد بآرائه في مقاومة تطبيق الشريعة وجعل هذا الاتجاه بضاعته بوضوح كامل مع الإخوة المسيحيين (1) ومع الصهيونية والماسونية وأنه ذهب للجمعية المصرية القبطية في كندا وأمريكا وأعطى ندوات في الكنائس هناك.
__________
(1) ... عفا الله عن الأستاذ أنور الجندي، فالنصارى ليسوا بإخوة للمسلمين، قال تعالى (إنما المؤمنون إخوة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم).
(12/8)
وكان يرى أن إسرائيل لابد أن تصبح جزءاً من نسيج المنطقة وعنصراً من عناصر تكاملها". (انتهى من: كتاب العصر تحت ضوء الإسلام، ص 273-275).
قال الدكتور مفرح القوسي في رسالته (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية).
"الدكتور فرج فودة: أحد أقطاب العلمانية المعاصرين ، اشتهر بحماسه الشديد لفصل الدين عن الدولة، وبمعاداته للاتجاهات الإسلامية المعاصرة عامة وللاتجاه السلفي خاصة، وبرفضه للشريعة الإسلامية ومنع تطبيقها في البلاد الإسلامية ولا سيما في بلده مصر. ويمكن تحديد أهم ملامح المنظومة الفكرية والسياسية التي يتبناها في النقاط التالية:
أولاً: فصل الدين عن الدولة وجعل الإسلام ديناً روحياً فقط، حيث يقول: "إن الإسلام كما شاء له الله دين وعقيدة وليس حكماً وسيفاً" (1) ، "وأن هناك فرقاً كبيراً بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، وأن انتقاد الثاني لا يعني الكفر بالأول أو الخروج عليه" (2) ، ويقول :"أنت هنا تملك أن تفصل بين الإسلام الدين والإسلام الدولة حفاظاً على الأول حين تستنكر أن يكون الثاني نموذجاً للاتباع، أو حين يعجزك أن تجد صلة واضحة بين هذا وذاك، فالأول رسالة، والثاني دنياً ... دع عنك إذن حديث الساسة عن الدين والدولة وسلم معهم بالدين، أما الدولة فأمر فيه نظر، وحديث له خبئ ، وقصد وراءه طمع، وقول ظاهره الرحمة وباطنه العذاب" (3) .
__________
(1) ... الحقيقة الغائبة (ص 139)، ط عام 1992م، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة.
(2) ... قبل السقوط ص 14. وانظر : حوار حول العلمانية ص 17.
(3) ... قبل السقوط ص 14 – 15.
(12/9)
وادعى تأكيداً لهذا الفصل أن "الخلافة الإسلامية" التي استمرت في عهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين ليست خلافة إسلامية بل خلافة عربية قرشية، وأنها لم تحمل من الإسلام إلا الاسم فقط، وأن الدولة الإسلامية كانت على مدى التاريخ الإسلامي كله عبئاً على الإسلام وانتقاصاً منه وليست إضافة إليه (1) ، وأن وقائع التاريخ الإسلامي تنهض دليلاً دامغاً على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، وعلى خطورة الجمع بينهما، وعلى سذاجة المنادين بعودة الحكم الإسلامي (2) . وادعى أيضاً أن هذا "الفصل هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوحدة الوطنية" (3) ، وأن فيه تحقيقاً لصالح الدين وصالح السياسة معاً، كما أن قصر رسالة المسجد على تعميق مفاهيم الدين وغرس القيم الدينية فيه تحقيق لقصد الذاهبين للصلاة، بل واحترام لحريتهم الفكرية (4) .
ثانياً: رفض تطبيق الشريعة الإسلامية رفضاً باتاً وبأي صورة من الصور، فهو يُعلن ذلك في كتبه ولقاءاته الفكرية بلا مواربة (5) ، ويصم المنادين بتطبيقها بالتطرف والجمود والتخلف؛ مدعياً ما يلي:
__________
(1) ... انظر كلاً من : الحقيقة الغائبة ص 133، وإقبال بركة –قضايا إسلامية ص 178.
(2) ... انظر: الحقيقة الغائبة ص 145.
(3) ... المرجع السابق.
(4) ... انظر: قبل السقوط ص 18، 35.
(5) ... راجع في هذا على سبيل المثال: حوارات حول الشريعة –لأحمد جودت ص 14.
(12/10)
1- أن تطبيق الشريعة يؤدي إلى قيام دولة دينية، وهذه تقود إلى الحكم بالحق الإلهي الذي لا يتم إلا من خلال رجال الدين؛ وتنقسم الدولة بسببه إلى حزبين هما: حزب الله –ويدخل فيه كل من وافقهم-، وحزب الشيطان –ويدخل فيه كل من خالفهم (1) -. وكثيراً ما يردد فودة هذه الدعوى ويُلح عليها، ومن ذلك على سبيل المثال قوله: "إن تطبيق الشريعة الإسلامية لابد أن يقود إلى دولة دينية، والدولة الدينية لابد أن تقود إلى حكم بالحق الإلهي لا يعرفه الإسلام، أو قل عرفه في عهد الرسول. والحكم بالحق الإلهي لا يمكن أن يقام إلا من خلال رجال دين إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة" (2) .
2- أن تطبيق الشريعة ينافي الحضارة والتطور ويهدد أمن الوطن ووحدته بإثارة الفتنة الطائفية، حيث يقول: "إنما أنا مواطن مصري يندب مصير مصره حين تنساق بحسن النوايا في اتجاه حاشا لله أن أسميه مستقبلاً، فما أبعد المستقبل عن دولة دينية لا أحسب أن العمر يتسع لها، أو أن الوطن يمكن أن يسعها دون أن تتهدد وحدته، وينهدم ما تعلق به من أهداب الحضارة أو درجاتها" (3) ، ويقول: إن تطبيق الشريعة يؤدي إلى قيام دولة دينية، "والدولة الدينية التي يحكمها رجال الدين بصورة مباشرة أو غير مباشرة ... سوف تكون مدخلاً مباشراً للفتنة الطائفية، بل ربما تمزيق الوطن الواحد" (4) .
3- أن المناداة بتطبيق الشريعة إنما هو رد فعل لمؤثرات خارجية، وأن هدف الداعين إلى تطبيقها هو الاستيلاء على الحكم بطريق مباشر –بتولي مناصبه- أو بطريق غير مباشر –بفرض الوصاية عليه (5) -.
__________
(1) ... راجع: قبل السقوط ص 51-58.
(2) ... المرجع السابق ص 42-43. وراجع ص 51-58-، 68 من المرجع نفسه. وحوارات حول الشريعة –لأحمد جودت ص 14-15، 80، 96.
(3) ... قبل السقوط ص 41 – 42.
(4) ... المرجع السابق ص 68، وراجع الصفحات : 41 – 50 من المرجع نفسه.
(5) ... راجع: المرجع السابق ص 42 – 48، 59-63.
(12/11)
4- تفوق القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، حيث يقول: "إن القانون الحالي يعاقب على جرائم يعسر على الشريعة أن تعاقب عليها، ويعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعل الشريعة" (1) . ويقول في حوار أجري معه: "إن حجم الانحلال الموجود في المجتمع المصري أقل بكثير اليوم على مدى التاريخ الإسلامي كله، ورأيي أن القانون الوضعي يحقق صالح المجتمع في قضايا الزنا مثلاً أكثر مما ستحققه الشريعة لو طبقت" (2) .
5- "أن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير لابد وأن يحدث جزء من المخالفة ، وذلك بأن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير، مستحيل، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بتغيير الثوابت الدينية" (3) .
ثالثاً: تشويه وتحطيم الصورة المثلى الراسخة في أذهان المسلمين لعصر الخلفاء الراشدين بخاصة والسلف بعامة ولحكوماتهم الإسلامية التي جمعوا فيها بين الدين والدولة، ليثبت في النهاية استحالة إقامة حكم إسلامي في الوقت الحاضر يجمع بين الدين والدولة، وعقم الدعوة إلى التأسي بالصحابة رضي الله عليهم واتباع منهجهم في ممارسة الإسلام وتطبيق شريعته في مناحي الحياة، فقد صوَّر هذا العصر بأنه عصر الاعتراض حيناً والانقسام أحياناً، والاقتتال غالباً، وماكان فيه من استقرار فمرده لانشغالهم بالفتح الخارجي (4) ، وبأنه عصر استبداد وظلم يُضطهد فيه الصحابة والعلماء، وتُستباح فيه الأموال وتُزهق فيه الأرواح بغير حق، فقد أطار السيف من رؤوس المسلمين أضعاف ما أطار من رؤوس أهل الشرك (5) .
__________
(1) ... الحقيقة الغائبة ص 121.
(2) ... قضايا إسلامية معاصرة ص 185.
(3) ... الحقيقة الغائبة ص 70.
(4) ... راجع: قبل السقوط ص 9 – 14.
(5) ... راجع: المرجع السابق ص 14-15، 19-21، 93. وللاطلاع على نص كلامه بهذا الخصوص راجع كتابه (الحقيقة الغائبة) في الصفحات : 22-31، 139-141.
(12/12)
ويتخذ فودة هذه الصورة الشوهاء لعصر الخلفاء الراشدين ذريعة لرفض الحكم الإسلامي، والأخذ بمبدأ الفصل بين الدين والسياسة، فيقول: "لعلك متسائل معي الآن، ولك الحق في كل تساؤلاتك: إذا كان هذا هو ما يحدث بين رجال الصدر الأول للإسلام والمبشرين بالجنة، فكيف يكون المصير على يد من هم أدنى منهم مرتبة وأقل منهم إيماناً وأضعف منهم عقيدة؟ " (1) .
هذا فيما يخص عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، أما العهود الإسلامية بعد عهدهم فيدعي فودة أن معظمها عهود فساد وطغيان وخروج على العقيدة، ولا صلة لها بالإسلام إلا بالاسم فقط، فنراه يقول مخاطباً علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تحزن يا أبا الحسن ولا تغضب فزمانك لا شك أعظم من زمن من يليك، وحسبك أن عهدك كان فيصلاً أو معبراً إلى زمان جديد، لا ترتبط فيه الخلافة بالإسلام إلا بالاسم، ولا نتلمس فيها هذه الصلة بين الإسلام والخلافة إلا كالبرق الخاطف، يومض عامين في عهد عمر بن عبد العزيز، وأحد عشر شهراً في عهد المهتدي، وخلا ذلك دنيا وسلطان، وملك وطغيان، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال، وربما لم تخطر للقارئ على بال، لأن ما نقلوه (2) إليه كان ابتساراً للحقيقة، وإهداراً للحقائق، وانتقاصاً من الحق" (3) .
رابعاً: التجني على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والتطاول عليهم بالتخطئة والسب الشتم والوقيعة في أعراضهم والقدح في أمانتهم وحسن إسلامهم، وذلك حطاً من قيمتهم وإقلالاً من شأنهم، وبالتالي منع الاقتداء بهم وابتاع منهجهم، وسنكتفي بإيراد نماذج من ذلك فيما يلي:
__________
(1) ... قيل السقوط ص 21.
(2) ... يعني المؤرخين كتّاب السير.
(3) ... الحقيقة الغائبة ص 57 – 58.
(12/13)
أ يذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بقتاله مانعي الزكاة قد شرع القتال بين أهل القبلة، وأن موقفه هذا يُعد البداية الحقيقية لقتال المسلمين للمسلمين، ويُعلن تعاطفه مع المرتدين، ويستشهد بمعارضة عمر لأبي بكر في البداية، ويضرب الذكر صفحاً عن إجماع الصحابة على هذا القتال؛ بل عن تأييد عمر نفسه لهذا القتال (1) .
ويعد أسلوب عهد أبي بكر بالخلافة لعمر رضي الله عنهما أسلوباً بعيداً عن الديمقراطية (2) .
ب يزعم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد مع وجود النص، وأن اجتهاده لم يكن قاصراً على التفسير، بل امتد إلى المخالفة والتعطيل، فأفتى بمخالفة نص قرآني مع علمه به، فألغى سهم المؤلفة قلوبهم الذي هو أحد مصارف الزكاة المنصوص عليها في سورة التوبة (3) ، وعطل حداً من الحدود الثابتة وهو حد السرقة، وعطل التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب، وخالف السنة في تقسيم الغنائم فلم يوزع الأرض الخصبة على الفاتحين، وقتل الجماعة بالواحد مخالفاً المساواة في القصاص (4) .
ج يرى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يعدل في حكمه، وأنه أقام نظام حكمه على ثلاث قواعد خاطئة هي:
- خلافة مؤبدة.
- لا مراجعة للحاكم ولا حساب أو عقاب إن أخطأ .
- لا يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة تعتبر مبايعة أبدية لا يجوز لأصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع بالاعتزال. ولأن أحداً لا يُقر ولا يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في الإسلام قتله المسلمون" (5) .
__________
(1) ... راجع: المرجع السابق ص 42 – 44.
(2) ... انظر: قبل السقوط ص 97.
(3) ... وذلك في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) التوبة 60.
(4) ... راجع: الحقيقة الغائبة ص 45 – 51.
(5) ... المرجع السابق ص 29.
(12/14)
د يتهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه بخيانة الأمانة، والتمرد والعصيان لخليفة المسلمين وولي أمرهم، والاستيلاء على أموال المسلمين وأكلها بالباطل والإصرار على ذلك. ويصفه بأنه: يأكل حراماً ويشرب حراماً (1) .
هـ- يتهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويدّعي أن عمر لم يقم الحد عليه رغم تيقنه من إقدامه عليه (2) .
و يتهم خمسة من كبار الصحابة ومن العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، يتهمهم بالتكالب على الدنيا والإقبال عليها وجمع الأموال الطائلة بعد هجرتهم إلى المدينة، وأنهم انصرفوا بذلك عن دينهم، وهجروا حياة الزهد والعبادة التي كانوا عليها قبل الهجرة" (3) انتهى النقل من رسالة الدكتور مفرح القوسي–وفقه الله-.
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
__________
(1) ... راجع: المرجع السابق ص 58 – 62.
(2) ... راجع المرجع السابق ص 117 – 119.
(3) ... راجع: المرجع السابق ص 53 – 56.
(12/15)
::::: المجموعة الثانية :::::
نظرة شرعية في فكر (الدكتور فؤاد زكريا)
مفكر عربي معاصر، انتقل من مصر إلى الكويت أستاذاً في جامعتها مدة طويلة (4)
مؤلفاته:
1- خطاب إلى العقل العربي.
2- الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية.
3- التفكير العلمي . (وقد رد عليه الدكتور عبد المجيد المحتسب في كتابه: 3كتب في ميزان الإسلام).
4- العرب والنموذج الأمريكي .
-يقول الأستاذ محمد أبو راس: "يعتبر الدكتور فؤاد زكريا أحد أقطاب الفكر العلماني وأحد التغريبيين في العصر الحديث الذين ركزوا جهودهم لضرب الحصون الفكرية للإسلام بشتى الأساليب وفي كل المناسبات" (مجلة منار الإسلام، السنة 17، العدد2)
__________
(4) ... لم أعثر إلى الآن على ترجمة مفصلة لحياته، فمن كان لديه مزيد علم في هذا فليبعثه إليَّ مشكوراً.
انحرافاته:
1 - أعظم انحراف له، وعليها تدور معظم أطروحاته، دعوته إلى (العلمانية) –الكفرية- التي تفصل الإسلام عن أمور الحياة، والتزامه ما يترتب على هذه الدعوة من اعتراض على تطبيق الشريعة الإسلامية، وسخريته بالمسلمين الداعين إلى ذلك، وتثبيطه لهم.
فمن أقواله في هذا: مقاله في جريدة الأهرام بتاريخ (7/8/1414هـ) بعنوان (الثقافتان) يشتكي فيه من عدم تقبل المسلمين للعلمانية التي يبشر بها، والتي يزعم بأنها (محايدة) ! . يقول الدكتور: "كيف تم بالتدريج، تحويل صفة العلمانية التي تطلق على الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة من صفة محايدة لا تدل على أكثر من الوضع القائم بالفعل في معظم البلاد الإسلامية –وضمنها مصر- طوال القرن الأخير على الأقل، إلى صفة قبيحة مخيفة، لا ينقص صاحبها سوى قرنين صغيرين على جانبي رأسه كي ما يصبح شيطاناً رجيماً".
وقد رد على مقاله هذا : الدكتور إبراهيم عوضين –جزاه الله خيراً- في مجلة (الأزهر)، (عدد ذي الحجة، 1414هـ).
(13/1)
وقد رد على دعوته إلى العلمانية كثير من الباحثين؛ من أشهرهم القرضاوي في كتابه (وجهاً لوجه ... الإسلام والعلمانية –رد علمي على د.فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين) وكذا رد عليه غيره. وسأدع المجال الآن لبعض الباحثين ليقولوا قولتهم في دعوة هذا (الخبيث):
-يقول الأستاذ محمد أبو راس: "فالفكرة المترسبة لدى جماعة العلمانيين تقضي بأن الحضارة الغربية هيكل متكامل من العلم والثقافة يفرضه الواقع المعاصر ومن ثم يلزم شعوب العالم الثالث تمثله والخضوع لسلطانه والسير في ركابه، بل من الضروري التجرد من كل إرث حضاري سابق. والجدير بالذكر أن هؤلاء العلمانيين –ومن ضمنهم فؤاد زكريا بالطبع- حين تأخذهم الحماسة في الدفاع عن الحضارة الغربية يكاد يغيب عنهم أن هذه الحضارة رغم ما تحمله من مقومات يكفلها لها تقدمها العلمي والتقني لا تملك الصلاحية الكافية لقيادة البشرية لكونها تفتقر إلى عناصر الامتداد والتوافق والشمول.
ولعل الخطأ الذي يقع فيه هؤلاء، أنهم يحاولون أن يجعلوا من أنفسهم قائداً ودليلاً للإسلاميين يرسم لهم المناهج ويضع لهم الخطط في سبيل تحقيق الأهداف التي يرمون إليها " (مجلة منار الإسلام، السنة 17، العدد 2)
ويقول الأستاذ أبو راس –أيضاً- : "والملاحظ أن العلمانيين يحاولون دائماً أن يوجدوا تعارضاً وصراعاً مختلفاً بين الإسلام والعلم، وبذلك يزعجهم وضع نظرية علمية ما في ميزان النصوص الدينية. وفي هذا الإطار نجد ما يتناول به الدكتور فؤاد زكريا مقالاً كان قد نشره الدكتور محمد عمارة بعنوان "الداروينية في ميزان الإسلام"، حيث يقول معبراً عن غيظه وحنقه: "إن عنوان المقال ذاته يثير إشكالاً: الداروينية في ميزان الإسلام، أي أن نظرية علمية نشأت أصلاً في ميدان البيولوجيا تتعرض للاختبار والنقد بمقياس دين سماوي.
(13/2)
ولا شك أن هذا العنوان وحده يوحي بوجود منافسة بين الاثنين ... " ويستمر في مناقشته المتعصبة ليصل في النهاية إلى خلاصة كان من المنتظر أن يشير إليها في أية لحظة مفادها: أن محاكمة الداروينية –أو أية نظرية أخرى- بميزان الإسلام ليست سوى صورة طبق الأصل لما حدث في أوربا في عصر نهضتها من الصراع بين "الدين" والعلم، حينما حاكمت الكنيسة نظرية "كبرنيكوس" بميزان الحقائق الأنجيلية !!!!
ولا يخفى على أحد أن هذا الأسلوب من المقارنة لا يهدف سوى لتبرير الدعوة العلمانية في البلاد الإسلامية. حيث يقول بجرأته المعهودة: " ... .ولكن ألسنا نرى الآن أن وضع الداروينية في مواجهة الإسلام، وقياسها بميزان لا يختلف عن قياس الكبرنيكية بميزان المسيحية، وما ترتب عليه من اضطهاد وتعسف؟ أليس المبدأ واحداً في الحالتين، وهو مواجهة نظرية علمية بدين سماوي؟ فكيف نصدق إذن أن العلمانية لم يكن لها ما يبررها إلا في ظروف أوربا وحدها، إذا كان الإسلاميون المعاصرون يكررون الأساليب نفسها التي قامت العلمانية من أجل تجنبها وتصحيحها".
(13/3)
وفي خضم هذه المداورة العجيبة والدفاع المكشوف نجد أن كاتب المقال يتغاضى عن الفارق الشاسع بين الإسلام والمسيحية من جهة، وبين الداروينية والكوبرنكية من جهة أخرى، فالإسلام دين دعا إلى العلم والبحث وشجع عليه منذ بداية عهده، فلا يعرف ذلك الصراع الذي كدسته المسيحية المحرفة على مدى تاريخها الدامي، وهذا بشهادة أبناء الغرب أنفسهم، حيث يقول "موريس بوكاي" –صاحب كتاب (القرآن والإنجيل والعلم)- :"إن الإسلام قد اعتبر دائماً أن الدين والعلم توأمان متلازمان" ... لذلك فلا دليل لمن يستغل ما يعرفه من تاريخ أوربا في عهودها المظلمة ليقوم بعملية إسقاطه بشكل عشوائي على الواقع الإسلامي دون مراعاة للفروق والاختلافات الواضحة في هذا المجال، إذ لا قياس مع وجود فارق –كما يقول المنطق الذي يدعي فؤاد زكريا انتسابه إلى أهله-، ومتى انتفى القياس كانت النتيجة باطلة، ومن ثم تتداعى الادعاءات العلمانية، هذه النحلة الغريبة التي يحاول أصحابها أن يجعلوها بدلاً للدين لأنها بزعمهم تعمل على تفادي الأخطاء التي يقع فيه حينما يقف في وجه النظريات العلمية!!.." (المرجع السابق).
(13/4)
ويقول الدكتور مفرح القوسي في رسالته (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية، دراسة وتقويماً) (ص 657-666): "الدكتور فؤاد زكريا: أحد رموز الاتجاه العلماني المتطرف، صاحب المقال المعروف (العلمانية هي الحل) رداً على دعوة (الإسلام هو الحل)، وصاحب النظرية القائلة: إن الغزو الثقافي الغربي خرافة لا وجود لها (1) ، وأحد أبرز المعادين للمنهج السلفي ومنتقديه، فقد سخر من الاتجاهات الإسلامية المعاصرة الملتزمة بهذا المنهج، وادعى أنها بالتزامها به تُركز على التمسك بشكل الإسلام دون مضمونه، فهي –كما يقول- : "تركز كفاحها على الجوانب الشكلية من العقيدة، أعني: تلك الجوانب التي تتعلق باستكمال الشروط الشعائرية للدين والاستجابة لبعض الأوامر والنواهي التي لا تمس في الأغلب الحياة العامة في المجتمع، فكلنا نرى من حولنا أولئك الشبان أو الشابات الذين يركزون كفاحهم الديني على ميدان الملابس وأداء الفروض ومنع كافة أشكال الاختلاط بين الجنسين، وهم يحاربون في هذا الميدان بلا هوادة، ويعتقدون أنهم أرضوا ضمائرهم وأرضوا ربهم لو نجحوا –مثلاً- في قطع اجتماع من أجل إقامة صلاة المغرب، أو في فصل الطلاب عن الطالبات في قاعة المحاضرات، أو في الدعوة إلى ملابس تُخفي كافة معالم جسم المرأة باستثناء العينين في قيظ الصيف، أو في إثارة ضجة إعلامية هائلة تدافع عن تربية اللحى لدى الرجال" (2) .
__________
(1) ... انظر: جمال سلطان –دفاع عن ثقافتنا ص 16، ط الأولى 1412هـ، دار الوطن للنشر- الرياض.
(2) ... الصحوة الإسلامية في ميزان العقل ص 15، ط الأولى 1989م، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع القاهرة.
(13/5)
كما ادعى أنها في ظل أيديولوجيتها السلفية تفتقر إلى برنامج اجتماعي محدد المعالم يقدم خطة نهضوية قابلة للتطبيق في المجتمع الحديث، وتغفل معالجة المشكلات الحقيقية التي – كما يقول- يتعرض لها الإنسان المسحوق في معظم أرجاء العالم الإسلامي، كمشكلة العدالة الاجتماعية أو نوع التحالفات الدولية التي تخدم قضايا المسلمين أو أسلوب الحكم في البلاد الإسلامية، وكل ما لديها إنما هو: عبارات إنشائية ومبادئ هلامية شديدة العمومية والغموض، واستشهاد بحكم ومبادئ تفصلنا عنها مئات السنين (1) .
-ويرى أن دعوة هذه الاتجاهات الإسلامية إلى التمسك بالمنهج السلفي والأخذ به ما هي إلا دعوة سلبية رجعية شديدة التخلف؛ تريد العودة بالمسلمين إلى الوراء وتثبيت الأوضاع المتخلفة التي تعاني منها البلاد الإسلامية، وأنه لا يجوز عد هذه الاتجاهات ضمن (اليقظة الإسلامية) أو (الصحوة الإسلامية) التي قامت مؤخراً في البلاد الإسلامية، لأن هذه الاتجاهات في دعوتها تلك ما هي إلا نوم لا يقظة، وموات لا بعث، ونكسة وغيبوبة تنسب إلى نفسها القدرة على البعث زوراً وبهتاناً، ولا هدف لها إلا إرجاع الزمان إلى الوراء والوصول بالمسلمين باسم (الصحوة) إلى حالة من التخدير؛ لن يصحوا منها إلا بعد فوات الأوان (2) .
__________
(1) ... انظر: المرجع السابق ص 16، 18، 25.
(2) ... انظر: المرجع السابق ص 14 – 15.
-ويدعي أن الاتجاه السلفي المعاصر إنما يمثل العودة إلى ما كان عليه العرب في عصر سالف حسب طريقتهم الخاصة في فهم ذلك العصر، وأنه يفتقر إلى القدرة على مسايرة العصر، ولم ينجح في تقديم التراث الإسلامي بصورة فيها حيوية أو تجديد أو قدرة على التحدث بلغة العصر ومخاطبة العقول بلغة قريبة إلى فهمها وحسها وذوقها، وأنه في طريقة عرضه للتراث الإسلامي إنما ينتقي منه ما يناسب أفكاره الجامدة –على حد تعبير زكريا- ويحجب كل ما يتعارض معها ويقدمه بوصفه الممثل للتراث (1) .
(13/6)
__________
(1) ... انظر: خطاب إلى العقل العربي 46 – 47 ، ط عام 1990م، مكتبة مصر – القاهرة .
-كما يزعم أن الاتجاه السلفي ينظر إلى التاريخ نظرة ارتدادية، وأن الاعتقاد السلفي في قضايا الدين والإيمان والقدر والرسالة والوحي هو الذي أدى بالعقل العربي الإسلامي إلى تجنب الاقتراب من منطقة المستقبل وتركيز كل جهوده فيما هو وقتي مباشر، وترك الميدان المستقبلي للظروف دون محاولة للتدخل المسبق فيه. ومما قاله بهذا الشأن قوله: "حين نتأمل جيداً موقع العقيدة الإسلامية والوحي القرآني في التاريخ العام للبشر كما تحدده وجهة النظر الدينية؛ يتكشف لنا أحد الأسباب الهامة التي تحول دون سيادة الاتجاه المستقبلي في الفكر الإسلامي، ذلك لأن الإسلام هو آخر الرسالات التي بعثت للبشر، ورسول الإسلام هو خاتم الأنبياء، والوحي الذي كان يهبط على البشرية منذ أقدم عهود الأنبياء قد اكتمل بنزول القرآن، وبمجيء الإسلام تكون البشرية قد بلغت سن الرشد واستُكمل كل ما كان ينقص الرسالات السابقة. وهكذا ينطوي الإسلام على عقيدة أساسية هي أنه دين البشرية التالية كلها، وتعاليمه هي أعلى قمة للتشريع والأخلاق والحكمة يمكن أن يهتدي بها الإنسان. في وضع كهذا كيف يمكن أن يوصف التاريخ التالي للبشرية، أعني: تاريخها الذي أعقب وصولها إلى تلك القمة؟ لن يكون هذا التاريخ في واقع الأمر سوى شروح على متن هو الوحي في صورته المكتملة ... وفي إطار وجهة نظر كهذه كيف يمكن أن يكون للمستقبل دور جوهري في فكر الإنسان المسلم؟ إن مسار التاريخ بعد الإسلام إما أن يكون تدهوراً، وإما أن يكون – على أحسن الفروض- محاولة دائمة للعودة إلى الإشعاع الأول، وفي كلتا الحالتين لا ينطوي المستقبل على جديد، ولا يمثل تطور البشرية خطاً صاعداً إلى أعلى.
(13/7)
وربما تصور المؤمن المتمسك بحرفية عقيدته أن الأمل في مستقبل أفضل من أي شيء عُرف في الماضي ينطوي على نوع من التجديف، إذ يتضمن الاعتقاد بأن التاريخ سيبلغ يوماً ما نقطة تعلو على المستوى الذي بلغه عند نزول الوحي، وهو أمر ممتنع بالنسبة إلى عقيدة اكتمل بها رشد الإنسان، أعني : عقيدة يستحيل –بحكم تعريفها ذاته- أن يتم تجاوزها في أية لحظة لاحقة من تاريخ البشر" (1) . وقوله: "لقد كان من الطبيعي أن تؤدي النظرية التي ترى في الوحي أعلى قمة بلغتها الحكمة والشريعة في أي عصر –تؤدي إلى فلسفة للتاريخ ترى في مسار البشرية بعد عصر الوحي الأول تدهوراً، وتُعلق أقصى الآمال على التشبه بهذا العصر الأول، أما تجاوزه فمحال. تلك هي الصورة التي اتخذتها فكرة "العصر الذهبي المجيد" في العالم الإسلامي، مع ملاحظة أن هذا العصر الذهبي ليس عصر أمجاد بشرية، بل هو ذلك الذي تحققت فيه أرقى صورة من اتصال الألوهية بالإنسانية، في وحي يمثل كلمة الله الحرفية والمباشرة.
__________
(1) ... الصحوة الإسلامية في ميزان العقل ص 85 – 86.
(13/8)
وعندما يكون المستقبل بالضرورة أدنى مستوى من الماضي، وعندما يكون قصارى الأمل هو أن نكرر في المستقبل لحظة معينة من لحظات الماضي، فعندئذ يفقد المستقبل قيمته بوصفه غاية يتجه إليها نشاط الإنسان، ومن ثم لا تعود هناك حاجة إلى جعله موضوعاً أساسياً للتفكير ... ولو قفزنا عبر الزمان قفزة كبرى لنصل إلى الوضع السائد في العصر الحاضر لوجدنا أن عدداً غير قليل من الجماعات الدينية المعاصرة في العالم العربي تلخص فلسفتها الإصلاحية في عبارة واحدة هي: (لقد كان المسلمون الأوائل منتصرين في جميع الميادين، وهزموا أعظم دول العالم في زمانهم عندما كانوا يتبعون تعاليم دينهم، ثم تدهورت أمورهم لما انصرفوا عن الدين، وإذن فلنعد إلى حظيرة الدين كيما نصبح مرة أخرى أعظم أمم العالم)، قد تختلف التعبيرات من جماعة إلى أخرى، ولكني أعتقد أن هذه العبارة تُلخّص الدعوة الفكرية لعدد من أهل الجماعات الإسلامية الحالية. وإذا لم يكن من مهمتنا أن ندخل في جدل يكشف عما في هذه (الوصفة) من سذاجة وقصور -يتمثل قبل كل شيء في تجاهل الفوارق النوعية الهائلة بين عصر الدعوة الإسلامية والعصر الحاضر وإسقاط كل التغيرات التي طرأت على العالم كله في الفترة الواقعة بين الحقبتين – فإننا نستطيع أن نكتشف بسهولة في هذه المعادلة المبسطة التي تقتنع بها أعداد هائلة من العرب المعاصرين نفس السمة التي كنا نشير إليها منذ قليل، وهي أن أقصى حلم يتمناه هذا الفكر للمستقبل هو أن يتخذ شكل الماضي البعيد، وأن الإحياء والتجديد هو الأمل الأكبر، أما التجاوز فمستحيل" (1) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 87 – 89.
(13/9)
-ويعدُّ فؤاد زكريا الاقتداء بالسلف الصالح والالتزام بمنهجهم اغتراباً زمانياً وقفزاً فوق الزمن، ويرى أنه لا يصح الربط بين الأصالة وذلك الاقتداء والالتزام، لانقطاع الخيط الذي يصلنا بزمن السلف الصالح، ولأن منهجهم لم يطبق –في نظره- إلا فترة زمنية محددة هي فترة صدر الإسلام. فنراه يقول –بعد أن تحدث عن دعوة البعض إلى محاكاة النموذجين الغربيين الرأسمالي والاشتراكي- :" ... غير أن هناك نوعاً آخر من المحاكاة يوصف بأنه لا يتضمن أي خروج عن الأصالة، بل يقال إنه هو نفسه التعبير الحقيقي عن الأصالة، وأعني به: محاكاة أسلافنا والعودة إلى نموذج الحياة الذي كان سائداً إبان انتشار دعوتهم وازدهار دولتهم، وقد يتخذ هذا النموذج شكلاً إسلامياً، فيقال: إن صيغة التقدم الوحيدة المتاحة لنا هي أن نعود إلى إسلام السلف الصالح، مادام هؤلاء قد تمكنوا بفضل إيمانهم من تثبيت دعائم دولة كبرى؛ وقهر أعظم امبراطوريات التاريخ القديم ... هذا النوع من محاكاة الأجداد، أو –حسب العبارة التقليدية- الاقتداء بالسلف الصالح يُعد في نظر الكثيرين الحل الأمثل لمشكلة الأصالة، فنحن في هذه الحالة نعود إلى جذورنا ونرتد إلى أصولنا، ومن ثم فإننا في واقع الأمر لا نحاكي أحداً، لأن المحاكاة إنما تكون بين طرفين متغايرين، وهو مالا ينطبق على العودة إلى الذات في منابعها الأصلية. ولكن هل تكمن الأصالة في مثل هذه العودة إلى الماضي بحق؟ ... إن أنصار الاقتداء بالسلف الصالح يركزون دعوتهم على فترة معينة من التاريخ، هي على وجه التحديد فترة صدر الإسلام، والنموذج الذي يدعون إلى الاقتداء به هو نموذج الإسلام الأول؛ إسلام الدعوة والكفاح والانتصار وبناء الحياة الجديدة، أي: عصر النبي والخلفاء الراشدين، وربما توسع بعضهم فامتد إلى نهاية القرن الأول والثاني من الهجرة، ولكن المهم في الأمر أن بؤرة الاهتمام ومركز الإشعاع هو أقدم عصور الإسلام.
(13/10)
ويعترف أنصار هذه الدعوة أنفسهم بأن الفترة التي تلت ذلك، أعني: الفترة التي تفصلنا عن عصر الانتصار الأول كانت في معظم الأحيان فترة تدهور وتراجع وخروج عن الخط القويم؛ وعن النموذج الرائع الذي ضربه لنا المسلمون الأوائل، وبعبارة أخرى: فإن معظم فترات التاريخ الإسلامي كانت –باعتراف أنصار هذا الرأي- انقطاعاً عن المسار الذي بدأ بداية مجيدة؛ وخروجاً أو انحرافاً عن الاتجاه القويم، أي أننا حين يراد منا أن نعود اليوم إلى هذا النموذج لابد أن نقفز قفزة هائلة فوق الجزء الأكبر من التاريخ العربي الإسلامي ونعود إلى أول فتراته، ونُسقط من حسابنا جزءاً كبيراً من الزمن الذي يفصل بيننا وبين هذا العصر الأول. هذا الانقطاع وهذه القفزة فوق فترة زمنية طويلة تُسقط شرطاً أساسياً من شروط الأصالة وهو "الاستمرار"، فصحيح أن العصر الذي يُراد منا أن نقتدي به ينتمي إلى جذور تاريخنا البعيد، ولكنه لم يظل ممتداً على نحو متصل حتى وقتنا الراهن، فنحن في حالة النموذج الإسلامي نعترف صراحة بالانقطاع؛ حتى نقول إننا تنكبنا طريق السلف الصالح منذ القرون الأولى، أي: أن معظم فترات تاريخنا كانت خروجاً على النمط الأول، ونحن نعلم أن الأصالة في نسب إنسان أو فرس إنما تعني أن يكون هذا النسب مستمراً أو متصلاً من فترة معينة في الماضي حتى الوقت الحاضر، ولو حدث أي انقطاع في النسب خلال هذا المسار لما عاد هذا أو ذاك أصيلاً.
(13/11)
وهكذا نجد لزاماً علينا أن نعيد النظر في موقف أولئك الذي يحددون الأصالة بأنها العودة إلى جذورنا الضاربة في أعماق الماضي، فحدوث انقطاع أساسي بين الحاضر وهذا الماضي البعيد يؤدي إلى الإحساس بنوع من "الاغتراب" بين الإنسان وجذوره البعيدة، وكما أننا في محاكاة النماذج الأجنبية المعاصرة نشعر باغتراب "مكاني" لأن هذا النماذج دخيلة علينا تنتمي إلى بقاع تفصلنا عنها مسافات مادية ومعنوية كبيرة، فكذلك نشعر باغتراب "زماني" حين يُطلب إلينا أن نقفز فوق الزمن قفزة هائلة ونتجاهل معظم فترات تاريخنا، ونقتدي بنموذج قديم في ظروف أصبحت مختلفة عنه كل الاختلاف، وفي عالم لا تربطه بعالم الأسلاف أية صلة، في الوقت الذي نعترف فيه صراحة بأن الخيط الذي كان مفروضاً أن نظل ممسكين به من ذلك العصر الذهبي القديم قد انقطع منذ أمد بعيد" (1) .
-ويصور فؤاد زكريا موقف أصحاب المنهج السلفي –الماثل الآن في الصحوة الإسلامية- من العلم المعاصر بصفة خاصة كما يلي:
أ أنهم يرون تضاداً وعداءً بين العلم الحديث ومتطلبات الإيمان كما يتصورونها هم (2) ، وأنهم لم يستطيعوا أن يقيموا التعايش بين العلم والإيمان، ولذا فهم يلجأون إلى جعل العلم ينبثق عن الدين، أو إعطائه مكانة بمقاييس دينية (3) .
ب أنهم ينكرون السببية ويطعنون في مبدأ الحتمية (4) ، لأن القول بها يعني –في نظرهم- الحد من القدرة الإلهية.
ج أنهم يُدينون العلم الحديث، لأنه –في نظرهم- مادي وغير يقيني ويتعارض مع روحانية الإسلام (5) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 99 – 100.
(2) ... انظر: خطاب إلى العقل العربي في الصفحات : 58،59، 64، 65،69.
(3) ... انظر: المرجع السابق ص 70.
(4) ... انظر: المرجع السابق في الصفحات: 59، 60، 64، 65.
(5) ... انظر: المرجع السابق ص 61، 65، 68.
(13/12)
د أنهم "يلجأون إلى استغلال أية ضعف في العلم سواء في منهجه أم في بنائه أم في نتائجه من أجل تأكيد ضرورة الاقتصار على الإيمان الديني الذي هو المصدر الوحيد لليقين أمام حقائق علمية مهتزة وغير مؤكدة" (1) .
هـ- أنهم يقعون –دون وعي- في موقف شديد التناقض، حيث يرفضون العلم الغربي الحديث، ثم لا يجدون أية غضاضة من استخدام أحدث منتجات هذا العلم في حياتهم اليومية (2) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 68.
(2) ... انظر: المرجع السابق ص 70.
-أما علاقة "السلفية" بالتاريخ وارتباطها بالواقع البشري، ففؤاد زكريا من "الذين يصفون (السلفية) باللاتاريخية من حيث مذهبيتها التي تتعالى على الواقع البشري تفاعلاً معه وانفعالاً به، بحكم كمالها وشمولها، أو من حيث وقوفها عند نمط تاريخي واحد تريد أن تفرضه على مسيرة التاريخ المغايرة لذلك النمط، مما يعني إنكار حركة الزمن وتغير الأحوال" (1) ، حيث نراه يصف الداعين إلى تطبيق الشريعة وإقامة حقوق الإنسان في العصر الحديث استمداداً من الشريعة التي وجدت قبل أربعة عشر قرناً بأنهم يقدمون "تصوراً يؤدي بالفعل إلى إلغاء التاريخ ... ، بل إن دعوة أن النصوص المقدسة المتعلقة بحقوق الإنسان صالحة لكل زمان ومكان هي في ذاتها فكرة تعبر عن اتخاذ موقف لا تاريخي منذ البداية" (2) . ويصف النظرة السلفية إلى التراث بأنها نظرة لا تاريخية، حيث يقول: "إن السمة التي تنفرد بها العلاقة بين الماضي والحاضر في الثقافة العربية هي أن الماضي ماثل دائماً أمام الحاضر، لا بوصفه مندمجاً في هذا الحاضر ومتداخلاً فيه، بل بوصفه قوة مستقلة عنه منافسة له، تدافع عن حقوقها إزاءه، وتحاول أن تحل محله إن استطاعت.
__________
(1) ... د. عبد الرحمن الزنيدي –السلفية وقضايا العصر ص109.
(2) ... الصحوة الإسلامية في ميزان العقل ص 112 – 113 بتصرف يسير.
(13/13)
ولو شئتُ أن أُلخص هذه السمة في كلمة واحدة لقلت: إن نظرتنا إلى الماضي لا تاريخية ... فالماضي في ثقافتنا العربية يقطع صلته بعصره بالتدريج ويفقد طابعه النسبي، ويخرج عن الإطار الزمني الذي كان مرتبطاً به ليصبح قوة دائمة الحضور، ولابد أن يتصادم ما هو دائم الحضور مع الحاضر، إن العلاقة بينهما بإيجاز علاقة قوتين متعارضتين، مع أن الماضي والحاضر ليسا سوى قوة واحدة يتغير طابعها خلال الامتداد الزمني بالتدريج، وفي اعتقادي أن هذه النظرة "اللاتاريخية" إلى الماضي هي المسئولة عن قدر كبير من التخلف الفكري الذي يعاني منه العالم العربي، وعن ذلك التخبط والاضطراب الثقافي الذي يظهر أوضح ما يكون في الطرق التي تُعالج بها مشكلة موقفنا من التراث ودوره في حياتنا الحاضرة، أو مشكلة الأصالة والمعاصرة كما يشيع تسميتها" (1) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 27 – 28. وانظر : ص 42 من المرجع نفسه.
(13/14)
-ويفترض فؤاد زكريا مأزقاً يقع فيه السلفيون نتيجة لإيمانهم المطلق بـ(صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان) وإمكانية تطبيقها بحذافيرها على الحياة البشرية المعاصرة، ذلك أن الشريعة ثابتة، بينما الحياة البشرية متغيرة متطورة، فإذا أُريد تطبيق الشريعة على الحياة فإما أن تتغير الشريعة تبعاً لتغير مجال تطبيقها فينتقض الحكم بثباتها وتكون متطورة مسايرة للزمن في تحولاته –وهذا ما يرفضه السلفيون- وإما أن تجمد الحياة عند صورة واحدة وتُرفض صورها المستجدة التي حدثت بعد اكتمال التشريع. حيث يقول ما نصه: "إن فكرة (الصلاحية لكل زمان ومكان) تبدو متعارضة مع التغير الذي لا يستطيع أن ينكره أحد في أحوال البشر، مما يجعل إطلاق هذا الوصف على الأمور المتعلقة بالظواهر الإنسانية أمراً شديد الصعوبة من الوجهة العقلية" (1) ، ويقول كذلك عن السلفيين: "هناك فئة من المفكرين الدينيين لا تدرك هذه المشكلة على حقيقتها وتتجاهلها إلى حد الإصرار على صيغة (الصلاحية لكل زمان ومكان) بلا قيد ولا شرط. والمأزق الذي تواجهه هذه الفئة هو أنها إذا تمسكت بحرفية النصوص دون تصرف- هذا إذا افترضنا أن هناك إنساناً قادراً على التمسك بحرفية النصوص- كان عليها أن تتجاهل أوضاع الواقع وظروف العصر، أما إذا أرادت أن تعمل حساباً لهذه الأوضاع- وهو أمر لا مفر منه في حياتنا المعاصرة- فلا بد لها من أن تقصر دور النصوص على المبادئ والتوجيهات العامة.
__________
(1) ... المرجع السابق ص 172.
(13/15)
ويُمكن التعبير عن هذا الإشكال من خلال مقارنته بصيغة أخرى تُتداول بدورها دون تحليل متعمق، وهي (الإسلام دين ودنيا)، ذلك لأن مفهوم (الدنيا) في هذه الصيغة يشمل السياسة وتنظيم المجتمع والمعاملات الخ، وكلها أمور يسري عليها التغير والتطور الذي يتسارع مُعدّله يوماً بعد يوم، فإذا شئنا أن نعمل حساباً لهذه (الدنيا) السريعة التغير التي تزداد المسافة تباعداً بينها وبين (الدنيا) التي نزل فيها الوحي؛ وجدنا تعارضاً لا مفر منه بين هذه الصيغة والصيغة السابقة (الصلاحية لكل زمان ومكان)، بحيث يبدو لنا أننا لو أخذنا بالأولى اضطررنا إلى التنازل عن الكثير مما في الثانية، والعكس بالعكس. أما حين يجمع الفكر الديني المعاصر بين الصيغتين معاً دون أية محاولة لفهم العلاقة العكسية بينهما، أو لبيان الطريقة التي يمكن بها الجمع بينهما دون تناقض في ظروف عصر دائم التغير، فإنه يتجاهل بذلك مشكلات كثيرة لا يملك العقل الحديث ترف الهروب منها" (1) .
-وينافح فؤاد زكريا كثيراً عن "العلمانية" محاولاً الرد على جميع الانتقادات الموجهة إليها، ومدعياً أنها ضرورة حضارية اجتماعية وسياسية ومبدأ أصيل تحتاج إليه جميع المجتمعات الإسلامية في مرحلتها التاريخية الراهنة (2) ، وأنها "مهما تعمقت في التراث تظل تضعه في إطاره التاريخي وتربطه بظروف الزمان والمكان التي حددت معالمه، ولا تقع أبداً في خطأ الاستعاضة عن الحاضر مهما كان هزيلاً بالماضي مهما كان مجيداً، ولذا كان موقفها من التراث جامعاً بين الحفاظ عليه وتجاوزه، بل إنها ترى أن التراث لا يُصان ولا يُحفظ إلا من خلال عملية النقد والتجاوز" (3) . انتهى كلام الدكتور القوسي –وفقه الله-.
__________
(1) ... المرجع السابق ص 173. وراجع كذلك : الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة ص 12-14.
(2) ... راجع: الصحوة الإسلامية في ميزان العقل في الصفحات : 63 – 80.
(3) ... المرجع السابق ص 74.
(13/16)
ويقول الدكتور نعمان السامرائي : (قرأت أخيراً كتاب (الصحوة الإسلامية في ميزان العقل) للدكتور فؤاد زكريا، الصادر عن دار الفكر المعاصر، وقد توقعت دراسة علمية، ولكني أصبت بخيبة أمل، فهو كالدكتور "أركون" يشن الغارة على الصحوة وأهلها، ويدافع عن اللبرالية وثمارها".
وسأحاول ذكر آراء الدكتور زكريا حرفياً، تاركاً للقارئ أن يقارن بينه وبين الذين ساهموا في الحديث عن "الصحوة" إبتداءً بالمرحوم حامد ربيع، وجاك شيراك، وفيليب روندو، وجيمس بيل، وغيرهم، وليصل إلى ما شاء من حكم على الأفكار وأصحابها من خلال النصوص.
موقف الدكتور زكريا من النص الإسلامي:
اختار الدكتور عدم مناقشة رأي الإسلام، وتوجه إلى مناقشة آراء المسلمين فيما يكتبون، وعلل هذا التوجه، بأنه غير مؤهل لذلك (1) .
وهو يرجو "أن لا يحاكم إلى النص" ثم يختم مقدمته بأن كتابه موجه إلى عقول الناس لا إلى عواطفهم (2) .
وفي الفصل الأول يقول: (3) (في الوقت الذي لا يكف فيه الدعاة الإسلاميون عن الزهو بأمجاد الإسلام والعروبة، نرى الدول الإسلامية –على الصعيد الدولي- في ذيل المجتمع العالمي. إنها وحدها التي تعيش بلا أمل). اهـ.
والسؤال : أين الإشكالية التي عنون بها للبحث؟؟.
لقد طبقنا الإسلام يوماً فتقدمنا، وهجرناه أو ابتعدنا عنه فتأخرنا، ونحن نريد أن نعود إليه على أمل أن نتقدم، فأين الإشكال؟
لقد اتسعت صدورنا لتطبيق جميع النظم، فلنطبق الإسلام –ولو مرة واحدة- فإن نهضنا ... وإلا أضفنا تجربة إلى عشرات التجارب التي مضت دون جدوى ولا فائدة، أم أن "السادة" يضعون "فيتو" على الإسلام وحده ؟؟!!.
__________
(1) ... الصحوة في المقدمة ص 4 –5.
(2) ... الصحوة في المقدمة ص 4 – 5 .
(3) ... الصحوة ص 9.
الدكتور زكريا وتعميماته:
(13/17)
يقول علماؤنا: ما من عامٍ إلا وخُصص. وما زلنا نلوم طلبتنا على التعميم. وأفاجأ بالدكتور يقول: (1) (الكل في بلاد العالم الثالث ينهضون، وإن لم ينهضوا يقاومون، وتنتفض قلوبهم بروح الثورة والسخط على الأوضاع، ويتملكهم الأمل في مستقبل يتغير فيه مجتمعهم وإنسانهم إلى الأفضل، إلا العالم الإسلامي. فكل شيء فيه هامد خامد، وكل شيء فيه مبعثر منقسم، وكل روح فيه منطفئة مكدودة، وأما الأمل فقصاراه أن يدوم الحال ولا يطرأ "مكروه" يقلب الأوضاع ويعكر الهادئ ويغير المستقر). اهـ.
والسؤال : هذه الأحكام العامة عقلية أم عاطفية؟؟.
لا صحوة ولا يحزنون:
__________
(1) ... الصحوة ص 9.
يشارك الدكتور زكريا "أركون" بأنه لا صحوة، ولا أمل، ولا حركة، ولا يحزنون (1) . بل تخلف في تخلف. فهو يقول: (2) ( ... ولكن الواقع أن كل ما يقال عن هذه الصحوة خارج البلاد الإسلامية وداخلها، يؤكد فكرة "التخلف" ولا ينفيها، والمسألة في رأيي هي: أن في العالم الإسلامي المعاصر موارد نفطية هائلة، ذات أهمية بالغة لاستمرار الحياة في العالم الصناعي الغربي المتقدم، وهو يمثل موقعاً استراتيجياً عظيم الأهمية في الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي (3) ،
__________
(1) ... تعبير شائع، للدلالة على عدم وجود ما يستحق الاهتمام.
(2) ... الصحوة ص 11.
(3) ... لقد سقط الصراع في يوم وليلة..
(13/18)
وهذا العالم كان يتم التعامل معه حتى الآن بأساليب يسيره، لا تتضمن تعقيدات كثيرة، ولكنها تحقق تدفقاً منتظماً للموارد النفطية، وتضمن وضعاً مريحاً للمعسكر الغربي بالذات في الصراع الاستراتيجي العالمي، ويكفي كأسلوب مضمون للتعامل مع هذا العالم، أن تُزرع فيه إسرائيل لكي تهدد أي نظام يسعى إلى تحقيق التقدم في بلاده، وأن يُنشر الخوف من الشيوعية لكي يرغم النظم الطبقية والعشائرية على الاستسلام الدائم لرغبات الغرب ... ولكن ظهور اتجاهات جديدة غير الاتجاهات التقليدية، يمكن أن يحدث خلخلة في الخطة بأكملها، ويدفع إلى السطح بعوامل غير منظورة وغير متوقعة، تقتضي تعديلات، قد تكون طفيفة أو أساسية في خطة التعامل، ولهذا السبب أعتقد أن كل ما يقال عن اهتمام العالم "باليقظة الإسلامية" إنما هو محاولة لاستيعاب أي اتجاه فكري أو سياسي جديدة في إطار أساليب التعامل التي أثبتت فعاليتها طوال العقود الثلاثة الماضية، ولامتصاص أي تغيير تفكر المجتمعات الإسلامية في إدخاله على حياتها ... هذا هو التفسير الحقيقي –في رأيي- لذلك الاهتمام المحموم الذي يبديه العالم "باليقظة الإسلامية" فهو ليس اهتماماً مقصوداً لذاته، ولا يعبر عن موقف اتجاه الإسلام ذاته، وإنما هو محاولة لإعادة وضع "النبيذ الجديد في الزجاجات القديمة" ... ) اهـ.
وأنا أسأل الدكتور زكريا أن يفسر لي لماذا غزا السوفيت أفغانستان وليس فيها نفط ولا دبس، وهي في يد عملائهم ؟؟!!.
ولماذا جمع "كارتر" حوله فريق عمل، لدراسة أمر الصحوة والمتطرفين؟ ولمذا يدعو شخص مثل "بريجنسكي" لاستعمال القوة ضد الصحوة ورموزها؟.
ولماذا يهتم يهودي مثل "كيسنجر" بهذه الصحوة ويقدم النصائح بالدس على رموزها وتفريق صفوفهم؟؟.
ولماذا يُزعج الغرب فوز بضعة نواب إسلاميين في بلد فقير؟؟.
وأخيراً كيف يفسر لي الدكتور زكريا تصريح رئيس جمهورية فرنسا إنه سيتدخل في الجزائر إذا فاز الأصوليون في الانتخاب؟؟.
(13/19)
ثم كيف يفسر لنا الدكتور ذلك التضامن الكامل بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، على إقامة إسرائيل والاعتراف بها لحظة ولادتها، ثم مدها بالرجال والمال، وحراستها "بالفيتو" وغيره؟؟.
وأخيراً ماذا سيقول الدكتور بعد "وفاة" الشيوعية واستجداء الروس المعونات من أعداء الأمس؟ .
نحن والله يسعدنا أكبر سعادة أن يكف الغرب عن حربنا، وأن يتركنا نختار الطريق كما تفعل شعوب الأرض أو الكثير منها.
إن الغرب هو الذي يشن الحرب ضدنا، ويحاول إذلالنا بكل ما يستطيع من حيلة، سواء في ذلك أن نصادقه، أو نعاديه، نحالفه ونحارب إلى جانبه، أو نقف على الحياد. فإذا كان الدكتور لا يعي ذلك أو لا يهتم به فتلك قضية أخرى.
لقد كره الغرب اليهود واضطهدهم، بل قتلهم أحياناً، ثم صالحهم، بل تحول نحوهم إلى عاشق، يعجبه حتى سفك اليهود لدماء جيرانهم، وراح يمدهم بالمال والتأييد والعتاد والرجال، وبكل ما يريدون، فلماذا بقي الإسلام والمسلمون وحدهم الأعداء الألدّاء ؟؟ ليتوسط الدكتور زكريا بيننا وبينهم عساه يقنعهم بفتح صفحة جديدة، كتلك التي فتحوها مع اليهود!!
الدكتور زكريا واللبرالية:
الدكتور زكريا عاشق للبرالية، يتحدث عنها كأي عاشق مُتيَّم، بل هي كحُمَّى شاعرنا التي وصفها بقوله:
عرضتُ لها المطارف والحشايا فعافتها ونامت في عظامي !
(13/20)
ولا اعتراض لدي على عشق الدكتور، ولكني أعترض على قوله: (1) (ذلك أن اللبرالية بمفهومها المعروف في الغرب، والذي طبق في بعض البلاد الإسلامية خلال فترات معينة من تاريخها، أصبحت في الوقت الراهن معرضة لحملات كاسحة من التشويه وسوء الفهم، ونجحت أجهزة الإعلام في البلاد التي تسيطر عليها نظم عسكرية أو عشائرية "أعني في مجموعة من أهم البلاد الإسلامية وأقواها تأثيراً" في تلطيخ سمعتها وإدانتها لأسباب لم تكن اللبرالية ذاتها في واقع الأمر، مسؤولة عنها في معظم الأحوال، وهكذا تتهم التجربة الحزبية المحدودة النطاق، القصيرة الأجل، التي مرت بها بعض البلاد الإسلامية بأنها كانت فاسدة، فاشلة، وتأخذ الأجيال الجديدة الشابة هذا الاتهام على أنه قضية مسلّم بصحتها ... ) اهـ.
لقد صارت بلاد المسلمين حقل تجارب لجميع النظم، ونحن حين نتكلم عن هذه النظم فكلامنا عن تجاربنا أولاً، ويشاركنا في ذلك بعض من تقدم ذكرهم: جاك شيراك، وفيليب روندو، وجيمس بيل، وغيرهم كثير.
وهذا فرنسوا شاتليه يذهب لأبعد من ذلك، فيقرر أن بعض المثقفين في البلدان ذات الثقافة الفرنسية، يسعون لتبني أفكار ومفاهيم قد تخلى عنها الفرنسيون أنفسهم وتخلصوا منها (2) !!!
الدكتور زكريا يمنعنا من الحديث عن أمجاد الإسلام، مع أنه طُبق في بلادنا، وفي الوقت نفسه لا يستهجن الحديث عن التجارب الفاشلة في بلادنا، لأنها لم تكن كذلك في موطنها. فهل هذا الموقف مقبول وعلمي؟؟!.
__________
(1) ... الصحوة ص 14.
(2) ... مجلة الفكر العربي العدد 41 ص 372 لعام 1986.
(13/21)
وأختم هذا الحديث بشهادة للدكتور علي الشامي، فقد يكون مقبولاً لدى الدكتور زكريا، إذ هو ليس من المعروفين "بالتخلف" ولا المعدودين على الصحوة الإسلامية! فهو يقول: (1) (انتقل الغرب، عبر الحضارة من الحالة الصليبية إلى الحالة الاستعمارية، ... ولم تكن الحضارة بشكل عام تطوراً في سياق تبديل العلاقة، بقدر ما كانت جهداً متواصلاً للحفاظ عليها، وِفق تراتيبة، أراد جهابذة الغرب أن يجعلوها أزلية، وهي: "غلبة الغرب ودونية الإسلام" .
وفي الحقيقة إن الذي تغير ليس إطلاقاً مبدأ السيطرة، وإنما تحديداً، تقنيتها، فلم يكن الانتقال من الصليبية إلى الاستعمار تجاوزاً لرغبة السيطرة على الشرق الإسلامي، كما لم تكن منتجات الحضارة الحديثة سوى عامل مساعد على تكرار المحاولة، لقد تغير الغرب ولم تتغير نظرته إلى الإسلام. أما الاختلاف في الزمن والفكر والبنية، فإنه لم يُدخل على الإطلاق تعديلاً في المنهج والأيديولوجية، رغم التنويعات الظاهرة في الشكل). اهـ.
هذه شهادة أرجو أن تكون مقبولة لدى الدكتور وتلاميذه. وللمرة الألف أرجو أن يراجع الغرب ضميره –إن كان قد بقي لديه ضمير- فيعلن انتهاء الحرب ضد الإسلام والمسلمين، ومن التشجيع على سفك دمائهم ونهب خيراتهم، والمساهمة في إذلالهم وإفقارهم، وإعانة عدوهم عليهم، وأن يتوقف من مطاردتهم في الهيئات والمحافل الدولية، ومن التآمر عليهم في الليل والنهار، والسر والعلن، وأن يتوقف عن الهمس في آذان حكامهم. والأخير مطلب مُلحٌ عاجل ... !) انتهى كلام الأستاذ السامرائي من كتابه (الصحوة الإسلامية في عيون مختلفة ص 63 – 69).
__________
(1) ... المرجع السابق ص 48.
(13/22)
ويقول المستشار سالم البهنساوي: (بتاريخ 18/7/86 نشرت الأهرام أقوالاً للدكتور فؤاد زكريا، تتعلق بالإسلام والعلمانية ورد فيها أنه لا يوجد تعارض بين الإسلام والعلمانية، فهي كتعبير تعرضت لسوء فهم شديد يسيء إلى سمعتها بإظهارها على أنها نقيض للإسلام، واستدل بأن مصر في الأربعينات كانت تسير في طريق علماني، وليس معنى ذلك أنه لم يكن زعماء مصر يؤدون فرائض الإسلام، وأن أوروبا اتجهت إلى العلمانية كرد فعل على التفكير الذي يتمسك بأقوال أرسطو ورجال الكنيسة، بينما كانت أوروبا تسعى للتوسع والسيطرة والتصنيع والعلوم وكان العائق هو التمسك بأفكار أرسطو والكنيسة، فلا يقال إن هذا التفكير الأوربي ليس عندنا فلا داعي إذاً للعلمانية.
لما كان ذلك وكانت هذه القضية تتردد بين الحين والآخر في كثير من المجتمعات العربية فتناولتها أقلام بهذا المفهوم الذي طرحه الدكتور "فؤاد زكريا" في ندوة نقابة الأطباء في مصر، من ذلك ما نشر في صحيفة الوطن بالكويت بتاريخ 19/11/82، 18/3/83، 23/5/84 وكذلك ما نشر بصحيفة الوفد بتاريخ 12/6/86 للدكتور وحيد رأفت، كل هذا كان يخلط بين الحكومة الإلهية في باريس وبين الإسلام، ثم استحدث الدكتور فؤاد زكريا تعريفاً للعلمانية لم ينسبه لأي مصدر من المصادر، وينطوي على إضفاء صفة العلم عليها، ومن ثم وجب أن نرد ما اختلف فيه إلى مصادره الأصلية وذلك على النحو التالي وبإيجاز شديد:
1- العلمانية هي ترجمة كلمة SECULARISM ومعناها كما جاء في المورد صـ 827 هو عدم المبالاة بالدين وبالاعتبارات الدينية، أي فيما يتعلق بالقواعد والنظم الاجتماعية فقد جاء في قاموس "وستر" ص 1444 أن العلمانية هي قواعد غير مرتبطة بالقواعد ذات العلاقة بالكنيسة أو الأنظمة الدينية.
(13/23)
وعلى هذا الأساس فالعلمانية تعني رفض القوانين التي يكون مصدرها الوحي الإلهي، فهي تحل الفواحش والربا ولحم الخنزير وسائر المحرمات الواردة بالقرآن الكريم، وفي الكتب السماوية الأخرى كالإنجيل والتوراة؛ لمجرد أن مصدرها الدين طبقاً لما استقر عليه النظام العلماني بقاعدة فصل الدين عن الدولة.
2- ليس صحيحاً أن العلمانية تعني التفكير العلمي أو تقتصر على التقدم الصناعي والمعماري، فالعالم قد أثبت أن أكل لحم الخنزير يضر بالإنسان ويكفي أنه يولد الدودة الشريطية التي يصل طولها بأمعاء الإنسان إلى ثمانية عشر متراً، كما أثبت العلم أضرار الفواحش وتمثل ذلك في أمراض الزهري والسيلان ثم أخيراً مرض الإيدز، ومع هذا فالتشريعات العلمانية في أوروبا تبيح هذه الأمور والعلم يوجب خطرها.
أما أن الفكر الديني يناهض العلوم والتصنيع ولهذا لجأت أوروبا إلى المذهب العلماني فإن ذلك قاصر على أوروبا وحدها ولا ينبغي أن نتبع أوربا في مشاكلها وأمراضها أو في علاج المشاكل والأمراض التي ليست في مجتمعاتنا، فالإسلام يطلق الحرية الكاملة في البحث العلمي وفي كل شيء يتعلق بالصناعة وغيرها مما يخضع للتجارب البشرية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "أنتم أعلم بشئون دنياكم" . والأحاديث والآيات القرآنية في هذا لا نكاد نحصيها.
(13/24)
3- إن ما عرف في أوروبا باسم الحكم الثيوقراطي أو الحكومة الإلهية، أمر لم يوجد في المجتمعات العربية ولن يوجد فيها، فإذا كان لرجال الدين في أوروبا في القرون الوسطى ما عرف باسم الحق الإلهي، الذي يخول لهم التصرف في الناس وفي التشريعات وفي أمور الحلال والحرام ثم يقولون إن هذا من الله، وبالتالي كانوا يملكون صكوك الغفران والحرمان، كما قاموا بسجن أو حرق من بحث في العلوم الطبية أو غيرها من العلوم التجريبية فإن كل ذلك لا وجود له في الإسلام فهو لا يخول أحداً من الناس في هذه الخصائص أو غيرها، كما أنه لا يفوض أشخاصاً بأعيانهم لتولي السلطة في الأرض أو لممارسة السلطة الدينية على الناس بل إن القرآن الكريم قد نزل لإبطال هذه المغالطات المنسوبة إلى الدين وإلى الله تبارك وتعالى، فقد أعلن ذلك إلى الناس جميعاً، قال الله:(تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).
4- إن تأدية بعض الزعماء للصوم والصلاة في النظم العلمانية ليس معناه أن هذه النظم لا تتعارض مع الدين، لأن التعارض بين الدين والعلمانية يكون فيما يتعلق بالتشريعات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية؛ لأن العلمانية لا تعني إنكار وجود الله والديانات كما هو الحال في الشيوعية، وقد سجل القرآن موقف أهل مدين في هذا الشأن من نبيهم شعيب في قوله عز وجل: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد)) انتهى كلام البهنساوي من كتابه (تهافت العلمانية في الصحافة العربية، ص229، 230).
(13/25)
وقال الأستاذ محمد إبراهيم مبروك في كتابه (علمانيون أم ملحدون؟) (ص112-119). (في كتاب الدكتور فؤاد زكريا (أستاذ الفلسفة الطبيعية) (نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان) يعدد مصادر المعرفة المختلفة (وطبعاً لا يذكر من بينها الوحي) ثم ينكرها جميعاً باستثناء الإدراك الحسي الذي يعتبره المصدر الوحيد للحقائق. ويرفض الدكتور فؤاد المنهج العقلي الذي يتخذ البرهان العقلي على وجود الأشياء رفضاً شديداً حيث يقول: "إن المعيار الحاسم لوجود الأشياء هو إدراكها (يقصد إدراكها بإحدى الحواس الخمس) لا البرهنة عليها".
وينقل قول لوك مؤكداً لموقفه: "إن معرفتنا بوجود الأشياء لا ينبغي أن ترد إلى الذهن لأن الوسيلة الوحيدة لهذه المعرفة هي الإحساس ولا يمكن عن طريق الأفكار الذهنية وحدها إثبات وجود موضوع لفكرة ما".
ومن هذا المنطلق فإنه ينتقد آراء ديكارت وباركلي في الإيمان بوجود أشياء ميتافيزيقية (غيبية) على البرهان العقلي.
ويقول عن الآثار العملية الضارة لهذه الطريقة في التفكير: "عندما كان الناس يؤمنون بأن محاصيلهم هبة من إله الزرع أو الخصب كانوا يركزون جهودهم في الصلاة لذلك الإله ويتركون زرعهم تحت رحمته أما عندما أصبحوا يؤمنون بأن جودة محاصيلهم تتوقف على ما يبذلونه فيها من جهد فإن نشاطهم تحول من الصلاة لإله الزرع إلى رعاية الأرض وتعهد النبات وهكذا يؤدي تغيير طريقة التفكير النظري في الأشياء إلى تغيير في طريقة التعامل مع هذه الأشياء".
وهذا الموقف الحاسم والمعروف عن الدكتور فؤاد زكريا (والذي نقدر له ثقافته العلمية الواسعة وقدرته الموضوعية الكبيرة وكذلك موقفه السياسي في رده على كتاب الأستاذ حسنين هيكل خريف الغضب) حيث أكد في كتابه (كم عمر الغضب) أن الأخطاء التي وقع فيها الرئيس السادات يجب أيضاً أن يتحملها بالتبعية الرئيس عبد الناصر الذي عينه في منصب النائب وهو يعلم من هو.
(13/26)
ونقدر له في كتابه (التفكير والمنهج العلمي) موقفه الموضوعي من الحضارة الإغريقية والتي اعتبرها ذات إنجازات علمية متواضعة وكذلك موقفه الموضوعي من الحضارة الإسلامية التي أشاد بإنجازاتها العلمية وقدرتها على تفجير الطاقات الفكرية النابغة وكذلك تفريقه بين الإسلام فإننا أمام دين يختلف كل الاختلاف عن الدين الذي كان يواجه رواد النهضة فالإسلام دين يدعو إلى العلم وإعمال العقل في التفكير بشكل قاطع وإن كان يؤخذ عليه في هذا الكتاب أنه أسقط هجومه على التفسيرات الغيبية بوجه عام.
إلا أن الموقف الفكري الحاسم والمعروف عن الدكتور فؤاد زكريا والذي أشرنا إليه في الحديث عن نظريته في المعرفة بدأ يأخذ شكلاً آخر في كتبه التي يتحدث فيها عن الصحوة الإسلامية وموقفه منها. فبدت آراؤه تأخذ طابعاً بعيداً عن الموضوعية وتتجه نحو التأويل والتعميم والمراوغة .
ويرى الدكتور فؤاد زكريا في كتابه: "الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية" أنه ما زالت تسيطر على الإسلاميين الفكرة الساذجة بمعاداة الغرب للإسلام بوجه خاص (ولا أعرف كيف يمكنه تأويل الأقوال الصريحة الدالة على ذلك لقادتهم السياسيين والمفكرين والتي أشرنا إليها في الباب السابق؟!).
ويرى أنه بالنسبة للمعتدلين الذي يؤمنون بالتطبيق التدريجي للشريعة الإسلامية (والتي يكاد يختزلها في الحدود!) ويشترطون لتطبيقها توفير حد أدنى من الكفاية الاجتماعية قد فاتهم أن يسألوا أنفسهم وكيف يمكننا أن نصل إلى تلك المرحلة إلا بتحقيق الإصلاح الاقتصادي والاستقلال السياسي والحياة الديمقراطية وعلى ذلك فعلينا أن تشغلنا هذه الأمور أولاً –وذلك بالترتيب السليم للأولويات –ثم تأتي بعد ذلك مسألة تطبيق الشريعة.
(13/27)
فهل فات الدكتور فؤاد وقد يكون السبب في ذلك هو بعده عن الحركة الإسلامية أو رؤيته لها بمنظوره الخاص أنه ليس هناك بين الإسلاميين (سواء المعتدلين أو غير المعتدلين) من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بمعناها المحدود بل إن المطالبة بتطبيق الشريعة عندهم تمثل رمزاً لقيام الدولة الإسلامية المنشودة بل إن تطبيق الشريعة يكاد يكون مرادفاً عندهم لقيام الدولة الإسلامية: وهذا أمر مبدئي لدى الحركة الإسلامية لا يمكن التشكيك فيه لأنه من البديهيات الإسلامية التي يعوقها أن الإسلام دين شمولي لا يقبل التجزيء وأن تجزيء الإسلام لا يعني شيئاً سوى تشويهه.
وليس باستطاعتي أن أقتنع أن الدكتور فؤاد زكريا –بكل ثقله الفكري- من الممكن أن يجهل ذلك مهما كان موقفه من الحركة الإسلامية.
أما ما يطرحه الدكتور فؤاد عن ترتيب الأولويات فإنه يدور حول الحلقة دون أن يحاول اقتحامها لأن المسألة تتعلق بالمنهج المطبق في كل المراحل وليست المسألة مجرد تطبيق الإسلام في مرحلة ما، لكن الدكتور فؤاد أراد بطرحه لفكرة تطبيق الشريعة والرد عليها بترتيب الأولويات التي تستوجب الخروج من الأزمة التي نعانيها أولاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ملتمسين النجاة داخل دائرة الحلول العلمانية، وطبعاً أقول أراد بذلك أن يؤجل نقاش فكرة تطبيق الإسلام لأجل غير مسمى ومحاولة تسويغ فرض التفكير في المشاكل المطروحة بالأساليب العلمانية في التفكير التي يريد أن يخلص إليها .
(13/28)
ولا أكاد أقتنع (مرة أخرى) أن الدكتور فؤاد لا يعي حكاية المنهج هذه، فأيا كانت المرحلة المطلوبة أولاً وأياً كانت المشكلة المطروحة فإن السؤال البديهي هو هل نلتمس الحل لها من داخل الإسلام أم من غيره؟ هل تعترفون بأن هناك حلاً إسلامياً لمشكلتنا الاقتصادية أم لا؟ وهل تعترفون بأن هناك حلاً إسلامياً لمشكلتنا السياسية أم لا ... ؟ إلخ. أي أن المسألة المطروحة هي هل أنتم ترون الحلول من داخل الإسلام أم لا ؟ وأكررها في أكثر من مناسبة المسألة هي إسلام أم لا إسلام.
وإذا كان جيب بموقفه الاستعماري يسخر من المفكرين الإسلاميين في أوائل القرن الماضي متسائلاً لأي جمع من الناس يوجهون حواراتهم (1) ؟ فإننا من دورنا نسأل الدكتور فؤاد بقدرته الموضوعية الكبيرة –ودون سخرية- لأي جمع من الناس توجه كلامك الذي يعني –ولو بشكل تمويهي- أنك تقبل تطبيق الشريعة بضماناتها الاجتماعية ولكن توفير هذه الضمانات يستوجب حلول مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل نطاق الحلول العلمانية أو في قول أقرب إلى أسلوبكم بالطرق الموضوعية المجردة التي لا شأن للإسلام بها.
ويقول إن الشريعة الإسلامية شديدة العمومية ولابد من تدخل بشري كبير لكي تصير واقعاً يمكن تطبيقه في ذلك العالم البالغ التعقيد.
ضع هذا القول نصب عينيك جيداً وضع أمامه قول إن النص الإلهي يفسر ويطبق بواسطة حكام بشر وأن التجارب المريرة التي خاضها عالمنا الإسلامي قد أثبتت أن أمثال هؤلاء الحكام الأكثر دموية والأشد استخفافاً بمصائر البشر. إنه يخلص من هذين القولين إلى أن الشريعة الإسلامية ليست قانوناً إلهياً له حق التفضيل على القوانين الموضوعية!
__________
(1) ... تحديد الفكر الإسلامي.
(13/29)
وفي هذا الكلام عدة تجاوزات لا أعتقد أبداً أنها تفوت الدكتور فؤاد زكريا، فكون الشريعة الإسلامية بكليات شديدة العمومية أمر لا يعيبها وإنما هو ما يمنحها المرونة اللازمة التي تكسبها صلاحية الملاءمة مع تطور الأزمان والظروف والأحوال وهو ما يقتضيه كونها الشريعة الخالدة خلود الزمان ولكن هذا لا يجعلنا نتغاضى كما فعل الدكتور زكريا عن أن هناك الكثير من الأحكام التفصيلية أيضاً التي جاء بها الإسلام في كل شئون الحياة
ولتناقض الادعاءات العلمانية والتي لا تعني في حقيقتها أي شيء له معنى موضوعي بل وليست إلا محاولات تمويهية لإخفاء الأفكار المعادية للدين وراءها فإن الجانب الأكبر من العلمانيين يستغلون هذه الأحكام في اتهام الإسلام بالتعقيد الشديد.
(13/30)
ولكن الدكتور فؤاد لم يفعل ذلك لأنه أراد أن يخلص نتيجة أخرى معادية للإسلام ومترتبة على هذا القول هي أن من يقوم بتفسير هذه الأحكام العمومية حكام بشر أثبتت التجارب المريرة مدى ظلمهم وفسادهم، وأظهر إدعاء باطل في هذا الكلام هو أن ما يفسر هذه الأحكام هم الحكام فمن المعلوم بالضرورة أن الذي يقوم بذلك هم العلماء وليس الحكام ولا يعيب بعض هؤلاء العلماء –من أمثال عمر وعلي- أن يكونوا حكاماً وكيف من الممكن أن تؤدي عملية التفسير إلى سحب الصفة الإلهية من هذه الأحكام وكأن هؤلاء المفسرين يعملون في الهواء الطلق دون الالتزام بأية قواعد أو مناهج، فعمومية الأحكام التي تكسبها الصلاحية والمرونة لمواجهة ما يقتضيه التطور الاجتماعي ومتغيرات السلوك الإنساني من أحكام لا يفقدها مقوماتها الخاصة بها لأن هذه العملية التوليدية المستمرة من الأحكام الإسلامية تخضع في تطورها لإطارات خاصة وأهداف محددة تعكس تصورات العقيدة الإسلامية للعالم والغايات الإسلامية من حركة تطور المجتمع ويخضع هؤلاء المفسرون لقواعد أصولية ثابتة في عملية التفسير واستخلاص الأحكام الجديدة وعلى قدر التزامهم بهذه القواعد على قدر ما ينسحب على آرائهم من شرعية إسلامية.
(13/31)
وحكاية عمومية أحكام الشريعة هذه واتخاذها ذريعة لتفريغ الإسلام من محتوياته تتردد كثيراً في كتابات الدكتور زكريا حتى تكاد تشك أن لديه إعوازاً شديداً في مواده الفكرية التي يستخدمها في محاولاته في إزاحة الإسلام وتثبيت دعائم الأنماط العلمانية في التفكير (والماركسية منها بالذات) على الساحة الفكرية مكانه وذلك في رده على كتاب الدكتور مصطفى محمود الماركسية والإسلام يقول (1) : "إذا كانت الأحكام الدينية تقتصر على العموميات وتترك التفاصيل والجزئيات لاجتهاد العقل البشري وفقاً لظروف الإنسان المتغيرة فمن أي مصدر نستمد هذه التفاصيل؟ لابد أن يكون ذلك من مصدر دنيوي ولابد أن يملأ الناس ذلك الإطار العام الذي تحدده الأحكام الدينية، بمضمون أو بمحتوى مستمد من واقع حياتهم المتغيرة ومستلهم من فكر إنساني واجتهاد بشري". ونعود لكي نسأل مرة أخرى: هل عملية الاجتهاد في التفاصيل هذه تحدث هناك في الهواء الطلق دون أي تأثير من القواعد العمومية؟ ثم يأخذ على الدكتور مصطفى محمود هجومه على الماركسية ويتهمه بأن ذلك يعني أنه يريد أن يملأ الفراغات التي تركتها الأحكام العمومية بالرأسمالية.
والحقيقة أن كلام الدكتور فؤاد هو الذي يريد أن يوحي للقارئ الساذج (لأني لا أعرف مَن مِن الممكن أن يقتنع بهذا لكي يوجه إليه الدكتور فؤاد كلامه) أن الأوفق أن تمتلئ هذه الفراغات بالماركسية بل إنه يصرح بهذه الفكرة في كتاب آخر حديث له فيذهب إلى أن عمومية الأحكام الدينية تترك للاجتهاد وللتفسير وبذلك لا يجد المفكر مفراً لسد هذا الفراغ إلا إلى الرجوع إلى الأيديولوجيات المعاصرة، بحيث يؤدي العداء للاشتراكية على نحو آلي إلى خدمة الرأسمالية ويرى أن الأوفق إلى الإسلام أن يرجع في ذلك إلى الاشتراكية وذلك لأن "جوهر القيم الاشتراكية، ومضمونها الفعلي متفق مع الجوهر الحقيقي للإسلام اتفاقاً أساسياً".
__________
(13/32)
(1) ... الصحوة الإسلامية في ميزان العقل.
وهكذا يتضح الآن السبب الخطير الذي يقف وراء إصرار الدكتور زكريا على ترديد حكاية عمومية الأحكام هذه في الكثير من كتاباته: إنه يريد أن يتخذها ذريعة لوضع الماركسية مكان الإسلام (على أساس أنها الأيديولوجية ذات الحلول المعاصرة) ولا يحتفظ من الإسلام إلا بغلاف للزينة فقط يعمل على تسويغ موقفه. ومازلت أردد يتخذ ذلك ذريعة عند من ؟! لمن يوجه الدكتور فؤاد كلامه ؟! إنه يريد أن ينتقل بمسألة عمومية الأحكام من حالة التميز بالمرونة والمعاصرة إلى حالة وصمها بالحياد والجدب والعجز بل واللا وجود تماماً، فهل بلغ الإسلام هذا الحد من الفراغ الذي يجعله في حاجة إلى ملئه تماماً إما بالماركسية أو الرأسمالية؟! إن مسألة مثل المسألة الاقتصادية والتي كثيراً ما يشار إليها في هذا الموضوع نرى أن الإسلام له مواقفه الخاصة الأصولية في مختلف فروعها تلك المواقف التي تميزه من ناحية الأيديولوجية الاقتصادية كمذهب مستقل يقف في موضوعية كاملة في مواجهة الماركسية والرأسمالية معاً. أليس للإسلام موقفه الخاص من الملكية الخاصة وملكية الدولة والربا والاحتكار واستزراع الأرض ومختلف العقود التجارية والاقتصادية واتجاه الإنتاج والضرائب وتحقيق الكفاية الاجتماعية وغير ذلك من المسائل . لكن الدكتور زكريا يدعي بهذه الأقوال أن الإسلام (خيال مآته) يشير إلى العدل ولكنه لا ينطق بشيء .
(13/33)
فهل يجهل الدكتور زكريا هذه المواقف الخاصة للإسلام؟! من السذاجة أن نعتقد ذلك. ولكن ماذا يفيد الدكتور زكريا إذن تجاهله لهذه الأمور؟! ومع هذا فإن أسوأ المنزلقات التي وقع فيها الدكتور فؤاد تحت ضغط أهدافه العلمانية هي محاولة تأويله لقول كارل ماركس "الدين أفيون الشعوب" فهو يندد بالذين يفهمون المعنى الظاهر لهذا القول ويستغلونه في ترويج مفهوم العداء بين الماركسية والدين فيذهب إلى أن ماركس لم يقصد بذلك "إبعاد الناس عن الدين مثلما يبتعدون عن مخدر ضار كالأفيون ولكنه كان يقصد "أن الدين مهم ما دامت المظالم الاجتماعية قائمة، وبرغم اعترافه أن آراء ماركس في الدين لن ترضي رجال الدين إلا أنه لم يذهب في موقفه إلى الدعوة إلى محاربة الأديان. وكل هذا الكلام يثير لديك الشفقة على محاولات الدكتور زكريا في التمرير وما يستتبعه ذلك من سقطات ما كان لكاتب مثله على علم كبير وقدرة موضوعية عالية أن يقع فيها؛ لأن كارل ماركس نفسه أتبع عبارته: "الدين أفيون الشعوب" مباشرة (تفصل بين العبارتين نقطة فقط) عبارته التالية: "إذن فنقد الدين هو الخطوة الأولى ضع ألف خط تحت كلمة الأولى"
إذن فماذا من الممكن بعد هذه العبارة أن تفيد محاولات الدكتور زكريا في تأويل عبارة ماركس الأولى!؟ وأعود لأكرر إلى من يتوجه الدكتور زكريا بهذا الكلام ؟!
هل للعلمانيين؟ لا أعتقد فهم يفهمون جيداً (خصوصاً الماركسيين منهم) مواقفك الفكرية في غير حاجة لمثل هذا الكلام .
هل للإسلاميين؟ لا أعتقد لأنهم يفهمون ما يفهمه العلمانيون
هل من الممكن أن يكون كل هذا المجهود موجهاً إلى السذج؟ نحن ننأى بمفكر يملك القدرات العلمية التي يملكها الدكتور زكريا عن أن يفعل ذلك) انتهى.
3-ومن انحرافات هذا الخبيث (الكفرية) –والعياذ بالله-: إنكاره للجن!! "زاعماً بأنه لا يؤمن إلا بما هو علمي"! (انظر مجلة المجتمع الكويتية، العدد 323).
(13/34)
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(13/35)
::::: المجموعة الثانية :::::
نظرة شرعية في فكر (أمينة السعيد)
ترجمتها:
قال الدكتور محمد فؤاد البرازي في كتابه (مؤامرات على الحجاب): (في أسرة ميسورة الحال من "المنصورة"، ولدت "أمينة السعيد" بـ"أسيوط" عام (1914)م (1) ، حيث كان والدها "أحمد السعيد" يعمل طبيباً في هذه البلدة، إلى أن عاد إلى "القاهرة" ليُلحق أبناءه بالمدارس الأجنبية، لأنه كان مُحباً للحضارة الأوربية.
وقد التحقت "أمينة" في طفولتها بـ"مدرسة الحلمية للبنات"، فكانت في غاية التمرد والشقاوة، حتى إنها رسبت في جميع مواد السنة الدراسية الأولى، لأنه وقتها كان للهو واللعب.
وتروي "مجلة حواء" على لسان "أمينة السعيد" أحد مواقفها في طفولتها الشقية، فتقول :"أغضبني مرة أحد المدرسين في الفصل، فشعرتُ بالظلم الفادح الذي وقع عليّ، فكان تركيزي طوال وقت الحصة في كيفية الانتقام منه، وردّ هذا الظلم. وعندما انتهى وقت الحصة، وغادر المدرس الفصل متوجهاً لحجرته، لاحقتُهُ وضربتُه بقبضة يدي الصغيرة في ظهره.. ثم أطلقتُ قدميّ للريح خوفاً منه" (2) .
وبعد إتمامها للمرحلة الثانوية، كانت ضمن أول دفعة من الفتيات ينتسبن إلى "كلية الآداب" التي كان عميدها المستغرب: "طه حسين"، فاختارت "قسم اللغة الإنجليزية"، واستمرت فيه حتى تخرجها.
وبعد تخرجها من الجامعة أصبحت من هُواة "الأدب الإنجليزي"، حتى إنها -في إحدى مراحل حياتها- ألفت كتاباً عن الشاعر الإنجليزي "بيرون"، وتزوجت في عام (1937)م من الدكتور "عبد الله زين العابدين"، الذي شجعها على العمل في الصحافة، ووقف إلى جانبها في جميع الأزمات والمحن التي نزلت بها من جراء ذلك.
__________
(1) ... وفي كتاب "مصريات رائدات ومبدعات !" (ص 65) أنها ولدت عام 1910م.
(2) ... انظر: مجلة "حواء" ، العدد (2030)، تاريخ 19 آب – أغسطس 1995م.
(14/1)
وحين كان الصحفي "مصطفى أمين" نائباً لرئيس تحرير مجلة "آخر ساعة"، عرض عليها أن تعمل معه في المجلة، فقبلت بذلك على أن تخفي اسمها حتى لا يعرف أبوها وأمها أنها تعمل في الصحافة، وهو عمل غير مستساغ في المجتمع آنذاك. لكنهما علما بذلك فيما بعد.
ثم انتقلت إلى مؤسسة صحفية متخصصة بنشر السموم ضد الإسلام ودعاته، تدعى: "دار الهلال" ، التي أسسها الصليبي الهالك: "جورجي زيدان" 1287-1332هـ = 1861-1914م، الذي وقف حياته على تشويه التاريخ الإسلامي، وخلفائه الميامين، بأكاذيب صاغ بها قصصه المتعددة، التي كتبها بدافع من الحقد الدفين على الإسلام والمسلمين. ومن "دار الهلال" بدأت "أمينة" تكتب عن شؤون المرأة في مجلة "المصور"، ومجلة "الاثنين" من وجهة نظر المستغربين، فلفتت نظر "أميل زيدان" أحد صاحبي "الهلال"، فاختارها "رئيسة تحرير" لإصدار مجلةٍ نسائيةٍ شهرية باسم: "حواء" . وصدر العدد الأول منها في أول كانون الثاني يناير عام (1954)م.
ومن خلال هذه المجلة انطلقت "أمينة السعيد" تكتب عن المرأة، وتطالب بما تعتبره حقوقاً لها.
وفي عام (1962)م اختيرت عضواً في مجلس إدارة "دار الهلال"، فكانت بذلك أول امرأة مصرية تُعيّنُ في مجلس إدارة مؤسسة صحفية.
ثم عينها "أنور السادات" رئيسة لمجلس الإدارة، واستمرت في هذا المنصب إلى أن أقالها "السادات" نفسه منه، ومن رئاسة تحرير مجلة "المصور" ((مؤامرات على الحجاب، للدكتور محمد فؤاد البرازي، ص 122-124).
وانظر ترجمتها –أيضاً- في "مصريات رائدات ومبدعات! "لمجموعة من الكاتبات (ص 65 وما بعدها).
-هلكت بعد إصابتها بمرض السرطان –والعياذ بالله- عام 1995م.
-تعد أمينة السعيد من أبرز داعيات تحرير المرأة في العالم العربي، فقد كانت ترأس تحرير مجلة (حواء) المصرية، ومن خلالها كانت تدعو إلى هذه الفكرة الخبيثة.
(14/2)
-يقول الشيخ محمد المقدم عنها : "تلميذة وفية لطه حسن، ترأس تحرير مجلة حواء، ومن خلالها تحرض نساءنا على النشوز، وفتياتنا على التهتك والانحلال، وقد تواتر لدى الجميع أنها تهاجم الحجاب الإسلامي بكل جرأة، وهي –وإن كانت تلقفت الراية من "الزعيمات" السابقات- إلا أنها تفوقت على كل اللاتي سبقنها في باب التجرد من الآداب والأخلاق الأساسية، إذ إنها لا تألو جهداً في الصد عن سبيل الله، والاستهزاء من شرعه عز وجل، حتى وصل بها الأمر إلى أن قالت: (كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟)، وقالت : (إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث) (عودة الحجاب 1/65).
ويقول الدكتور محمد فؤاد البرازي: (كانت "أمينة السعيد" تلميذة للمستغرب المأفون، وعميد الأدب المزعوم: "طه حسين"، فتأثرت به أشد التأثر، وترك فيها من بصمات التغريب، ونوازع التقليد، والافتتان بحضارة الغرب، ما سترى أثره في مقالاتها التي كانت تنشرها.
ولا شك أن نشأتها في أحضان أبٍ غير ملتزم، حريصٍ على تعليم أبنائه في المدارس الأجنبية، وتشجيعه إياها على لعب "التنس" بملعب "جامعة القاهرة" مع المدرب، إضافة إلى تشكيل عقلها على يد أستاذها "طه حسين" ، وترددها على "هدى شعراوي" وتأثرها بها، ثم استعدادها الخاص لذلك، كل ذلك قد صاغها صياغة "متحررة" ، جعلتها متمردة على أحكام الإسلام، وقيمه العليا) (مؤامرات على الحجاب ، ص125).
وقد ذكرت هي نفسها بأنها تلميذة لداعية التحرير الأولى (هدى شعراوي)، تقول أمينة السعيد: "قبل اشتغالي بالصحافة ودخولي الجامعة وتخرجي منها، كنت أقوم بتمثيل بعض المسرحيات في الحفلات الخيرية التي كانت تقيمها الزعيمة ! هدى شعراوي لصالح الأعمال الخيرية التابعة لجمعيتها" (انظر: مقابلتها مع مجلة الجديد، العدد 38).
(14/3)
وتقول تلميذتها ايفلين رياض : "اختارتها الزعيمة ! هدى شعراوي من بين مجموعة من الشابات الصغيرات! لتعدها للقيادة في مجال الخدمة الاجتماعية (1) عندما وجدت لديها الحماس والقدرة على العمل والكفاح" (مصريات رائدات ومبدعات! ص 66).
انحرافاتها:
1-من أعظمها : دعوتها إلى "تدمير" المرأة المسلمة، وتهييجها لكي لا تلتزم بشريعة ربها . حيث يصدق عليها قوله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة).
2-ومن انحرافاتها : أنها "اتخذت من مجلة "حواء" منبراً للتطاول على الأحكام الإسلامية الخاصة بقانون "الأحوال الشخصية" و"حجاب المرأة المسلمة"؛ بل راحت كما قال الأستاذ "محمود محمد الجوهري": "تحرضُ نساءنا على النشوز، وفتياتنا على الانحلال. وهي التي جعلت الفسق والبغاء الرسمي في شارع الهرم نوعاً من كرم الضيافة عندنا (!!!) في ردّها على "القذافي"، عندما ندد بمخازي "شارع الهرم" في أحد مواقفه العنترية، من خلال ندوة عقدت بالقاهرة، طالب فيها بنظافة "شارع الهرم"، وإغلاق محال الدعارة السياحية، وعُلبِ الليل" (2) .
وكتبت ذات يوم في مجلة "المصور" : "إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث"
فهل تعتبر هذه في عداد المسلمين، وهي تعارض قول الله رب العالمين: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء: 11)؟ !!
وقالت أيضاً: "كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام، ولدينا الميثاق" ؟ !!! أي الذي أصدره "جمال عبد الناصر" ! وفيه من المخالفات لدين الله عز وجل ما فيه ... " (انظر : مؤامرات على الحجاب ، ص 126).
__________
(1) ... بل مجال تحرير المرأة ! ولكنها عادتهم في إلباس الفساد لباس الصلاح .
(2) ... انظر: (الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية ، ص 98).
(14/4)
3-ومن انحرافاتها : أنها "بعد أن امتدت يد ثورة 23 تموز –يوليو 1952م إلى قانون "الأحوال الشخصية" بالتعديل، رضوخاً لرغبات دعاة "تحرير المرأة" !!! راحت تطالب بتعديلات أخرى؛ وكانت تريد بذلك إصدار تشريعٍ يمنعُ " تعدد الزوجات" ، و"مساواة المرأة بالرجل في الميراث" ، إلى غير ذلك من هذه المخالفات الصريحة لشريعة الله عز وجل" (المرجع السابق، ص 126-127)
4-ومن انحرافاتها: استهزاؤها بالحجاب الشرعي وقولها : "ما نراه اليوم شائعاً بين الفتيات والسيدات مما يسمونه "الزي الإسلامي" فالإسلام منه براء، لأنه تقليد حرفي لزي الراهبات المسيحيات" (مؤامرات على الحجاب، ص127).
وتقول أيضاً: "هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماماً، وتجعلهن كالعفاريت (!!!) وهل لابد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة، حتى لا يُرى منها شيء وهي تسير في الشارع" !! (مجلة حواء، 18، نوفمبر 1972).
وقالت : "إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة، أو اكتساب رضا الله. فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر، يزعمن أنها "زي إسلامي"، لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين، بزي هو والكفن سواء" (مجلة المصور، 22 يناير 1982).( وانظر: عودة الحجاب، للشيخ محمد المقدم، (1/65-67).
5-ومن انحرافاتها العجيبة : أن فتاة مسلمة ! أرسلت لها بأنها تحب شاباً غير مسلم، وتريد أن تتزوجه !! ولكن دينها يمنعها من ذلك.
فأجابتها أمينة السعيد بأن "تتزوجه زواجاً مدنياً" !!! (انظر: مجلة لواء الإسلام، عدد 8، ربيع الثاني 1384هـ).
(14/5)
6-ومن انحرافاتها : قولها "إن أمر الرجل لزوجته بارتداء الحجاب مرفوض؛ لأنه يدخل تحت قوله تعالى (لا إكراه في الدين) " !! (انظر: المجلة العربية، العدد 129). وهذه فتيا جريئة يعلم كل مسلم مخالفتها لدين الإسلام، ستبؤ بإثمها هذه العجوز الهالكة.
-يقول الدكتور السيد رزق الطويل عن أمينة السعيد: "كانت في وقت من الأوقات تتصدى للإفتاء في إحدى المجلات الأسبوعية حول قضايا البشر الاجتماعية والغرامية والنفسية، وكانت ترتكز في فتاواها على اجتهادات قائمة على قدر كبير من التجربة والتصور الشخصي والمزاجي، وعلى قدر قليل من العلم، وبمعزل تام عن هدي الدين الحق وهداه " (مجلة منبر الإسلام، 2 صفر 1411هـ).
7-ومن انحرافاتها: دعوتها للاختلاط المحرم، وادعاؤها بأن "حرية الاختلاط هي أقوى سياج لحماية الأخلاق"!! (مقابلتها مع مجلة الجديد، العدد 38).
وصدق الله (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) فهي ترى المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً.
ختاماً: يقول الدكتور محمد فؤاد البرازي في كتابه (مؤامرات على الحجاب) (ص 129) متحدثاً عن أمينة السعيد:
"استبدّت بها آلام نفسية نتيجة فشلها بدعوتها المتحررة بعد عودة النساء إلى الله، والتزام الكثيرات بالحجاب؛ بل بالنقاب، فعبّرت عن ذلك قبل موتها بأربعة أيام، حين قالت بحسرة وألم لصحفية من مجلة "المصور" (العدد 3697) وهي تجري معها مقابلة: "أمينة السعيد كانت ملكة الصحافة النسائية. لقد أفنيتُ عمري كله من أجلها. أما الآن فقد هدني المرض، وتنازلت النساء عن كثير من حقوقهن. المرأة المصرية صارت ضعيفة.. الإرهابيون وسَّخوا مخّهم ... " تعني بذلك: أن الإسلاميين قد أقنعوهن حتى التزمن بالإسلام. فالإسلاميون في نظرها: إرهابيون، وقيامهم بإقناع النساء بالالتزام بالحجاب "توسيخ" لعقولهن. (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) (الكهف:5).
(14/6)
اللهم جنبنا الردى، واكفنا شر العدا، ولا تضلنا بعد الهدى.
وحين سألتها الصحفية عن رؤيتها للحركة النسائية، أجابت : "هبطت كثيراً، بل انتهت ... لم تعد لدينا حركة نسائية".
وتفسر عودة المرأة المسلمة إلى دينها وحجابها تفسيراً غريباً (استكباراً في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (فاطر: 43) فتقول: "السيدات ملأهن الرعب من الإرهابيين والمتطرفين، وصمتن عن حقوقهن التي تُسحب منهن، وارتضين آراء بعض المتخلفين الذين يتمسحون في الدين ورجال الإرهاب، وكلاهما من أغبى الناس.
وضاعت الجهود التي بذلتها "هدى شعراوي" ثم جهودنا نحن طوال خمسين عاماً، وعاد الحجاب ثانية" ..
قلت: الحمد لله الذي لم يهلكك حتى أكمدك بعودته، (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(14/7)
::::: المجموعة الثالثة :::::
نظرة شرعية في فكر(محمد أحمد خلف الله)
يقول الأستاذ عبد السلام بسيوني عنه: "من أركان الفكر القومي المتطرف، الذي يعتمد المعايير الماركسية أسساً وضوابط له" (العقلانية هداية أم غواية؟ ص 134)
ويقول محمد إبراهيم مبروك عنه: "يهدف الدكتور خلف الله من كتاباته على نحو ما هو مطروح فيها إلى إقامة نهضة إصلاحية ماركسية لتطبيق الاشتراكية العلمية (الشيوعية الماركسية)، وعلى ذلك يجب تطويع بعض المفاهيم الإسلامية التي قد تتقارب في بعض أوجهها مع المفاهيم الماركسية في سبيل إقامة ذلك المشروع، أما المفاهيم الإسلامية الأخرى التي تتناقض تناقضاً بيناً مع المفاهيم الماركسية فإنها يجب تأويلها أياً كان شكل هذا التأويل أو تزيينها في صورة جديدة، أو اختزالها إلى مفاهيم أخرى بالطريقة التي يمكن بها إزاحتها من أمام مواصلة المضي في إقامة ذلك المشروع، فإذا لم ينفع معها أي مما سبق، فإنه يجب نقضها وهدمها تماماً"! (تزييف الإسلام وأكذوبة المفكر الإسلامي المستنير، ص 105-106).
قلت: وقد ابتدأت الضجة حول الدكتور خلف الله عندما أصدر أطروحته للدكتوراه عام 1947م عن "القصص الفني في القرآن" التي ادعى فيها أن قصص القرآن إنما جاءت للموعظة لا لتقرير الحقائق !! أي أنها قد تكون أساطير وخرافات !! وقد أحدث هذا موجة من الاستهجان والاستنكار من العلماء والكتاب .
ومنذ ذلك الحين والدكتور خلف الله يلقي بين الحين والآخر بآرائه المستهجنة – كما سيأتي-.
انحرافاته :
1- كما سبق فإن من أهم وأوائل انحرافاته المشينة زعمه في رسالته للدكتوراه التي أشرف عليها شيخه أمين الخولي (1) بأن الصدق التاريخي لم يكن من مقاصد القرآن الكريم فيما عرض من وقائع وقصص تاريخية !!
(15/1)
يقول خلف الله "إن الصنيع البلاغي للقرآن الذي يقوم على تخليص العناصر القصصية من أحداث وأشخاص وأخبار من معانيها التاريخية، وجعلها صالحة كل الصلاحية لاستثارة العواطف والانفعالات حتى تكون العظة والعبرة، وتكون البشارة والإنذار، وتكون الهداية والإرشاد، ويكون الدفاع عن الدعوة الإسلامية والتمكين لها حتى في نفوس المعارضة –إن هذا كله لهو الدليل القوي على أن القرآن الكريم لا يطلب الإيمان برأي معين في هذه المسائل التاريخية" (الفن القصصي، ص254).
ثم يقول : "ومن هنا يصبح من حقنا، أو من حق القرآن علينا، أن نفسح المجال أمام العقل البشري ليبحث ويدقق، وليس عليه من بأس في أن ينتهي من هذه البحوث إلى ما يخالف هذه المسائل –أي ما ذكر في القصص القرآني!-، ولن تكون مخالفة لما أراده الله أو لما قصد إليه القرآن، لأن الله لم يرد تعليمنا التاريخ، ولأن القصص القرآني لم يقصد إلا إلى الموعظة والعبرة وما شابههما من مقاصد وأغراض.
إن المخالفة هنا لن تكون إلا مخالفة لما تتصوره البيئة ولما تعرفه عن التاريخ. ولم يقل قائل بأن ما تعرفه البيئة العربية عن التاريخ هو الحق والصدق. ولم يقل بأن المخالفة لما في أدمغة العرب من صور عن التاريخ هي الكفر والإلحاد. بل لعل هذه المخالفة واجبة حتى يكون تصحيح التاريخ وخلوه من الخيالات والأوهام"!! (القصص القرآني، ص 254-255)
قلت: وهذا قول كفري –لاشك فيه- ؛ حيث نسب الكذب إلى القرآن الكريم –والعياذ بالله-.
__________
(1) ... انظر لبيان انحرافاته وتأثيره على تلاميذه؛ كخلف الله: رسالة الأستاذ أنور الجندي –رحمه الله-: (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص126-130).
(15/2)
ولهذا فقد استهجن واستنكر المسلمون صنيعه هذا –على مختلف مشاربهم- فرد عليه منهم : أحمد أمين وعبد المتعال الصعيدي وعبد الفتاح بدوي ومحمد الغمراوي ومحب الدين الخطيب، أما الشيخ شلتوت فقد حُولت له الرسالة لفحصها وإبداء رأيه فيها، فذكر في تقريره بأن هذه الرسالة: "قامت على أسس فاسدة، لأنها غارقة في تكذيب القرآن، ولأن كاتبها جاهل لا يفهم النصوص" وختم تقريره بأن تُطهر الجامعة من هذه الدراسة. كما أفتى أكثر من مائة عالم من الأزهر بأن هذه الرسالة "مفكرة يخرج بها صاحبها عن الدين الإسلامي"؛ (انظر: مؤلفات في الميزان لأنور الجندي ص72، والعقلانية هداية أم غواية لعبد السلام البسيوني، ص 135).
قلت: ومن أواخر من فنَّد ما جاء في هذه الأطروحة الكفرية –فقرة فقرة- الدكتور محمد بلتاجي في مقالته الطويلة حولها بعنوان "التفسير البياني للقصص القرآني بين الحق والمذهب الفني، دراسة وتقويم لمنهج باطل في التفسير" نشر في مجلة (أضواء الشريعة، مجلة تصدرها كلية الشريعة بالرياض، العدد السادس، جمادى الثانية، سنة 1395هـ الصفحات 99-182).
يقول الدكتور بلتاجي تعليقاً على مقولة خلف الله السابقة : "إذن فنظرية خلف الله التي ستحل –كما قال- مشكلات التفسير واعتراضات المستشرقين والمبشرين: هي أن القرآن الكريم استخدم الأساطير والأكاذيب التي كانت في أذهان العرب عن الوقائع التاريخية، فنزل بها، ولم يصححها أو ينص على كذبها، خدمة لأغراضه في العظة والاعتبار، ومجاراة لعقائد القوم الذين نزل فيهم"!! (ص 112). (ومن أراد الزيادة فليراجع مقالة الدكتور بلتاجي –أثابه الله-).
وهذا القول من خلف الله –كما سبق- قول كفري، يكفر به إن لم يتب إلى ربه، ويعتقد أن كلامه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب.
(15/3)
2- ومن انحرافاته: "الاقتصار على القرآن الكريم فقط في الاستدلال دون السنة؛ لكي يفلت من تحديدات السنة لمعاني القرآن وأغراضه وأحكامه وتعاليمه، ولكي يفلت من مقررات السنة نفسها، ولا يصطدم اصطداماً بيناً مع أحد نصوصها المتعددة" ، ومع هذا فإنه "لا يستند على أي مرجع من مراجع التفسير المعتمدة إلا (مفردات القرآن الكريم) للراغب الأصفهاني! وهو كتاب تفسير لغوي، وعلى بعض التفسيرات والأقوال التي يشتمل عليها تفسير المنار، التي يستخدمها استخدامه الخاص ويؤولها بالطريقة التي تخدم أهدافه. ليس هذا فقط؛ فإن الدكتور خلف لا يستند على مراجع من أي نوع وبذلك يتحرر تماماً من التفسيرات والمفاهيم والأفكار التي يجمع عليها المسلمون والتي من الطبيعي أن تعوق تقدمه في خطته التأويلية التحايلية التلفيقية التي يقوم بها. أما بعض الأفكار العامة التي تهدف إلى التجديد فلا بأس بها عنده فقد تكون مبرراً لادعائه بأن ما يقوم به هو تلبية لما نادى به مفكرو العالم الإسلامي من ضرورة التجديد" . (انظر: تزييف الإسلام، ص 106-108).
ومع هذا فإنه يقول "إن النص القرآني إن لم يكن قادراً على تحقيق المصلحة تركناه ولجأنا إلى الفكر البشري"!! (عن اليسار الإسلامي، ص 34).
3- ومن انحرافاته : أنه يذهب إلى "أن الإسلام دين عربي لا يعدو جنساً معيناً من البشر، ولا يجوز اعتباره رسالة للعالمين" (عن: العقلانية هداية أم غواية، ص 134).
4- ومن انحرافاته: أنه يرى أن المعايير الإسلامية قاصرة لا تصلح لهذا الزمان، يقول: "لقد فعل الزمان فعلته في المعايير القديمة فعلاها الصدأ وتآكلت منها الجوانب، وخفت موازينها إلى الحد الذي أصبحت فيه عاجزة عن أن تكون أداة من أدوات الحق والعدل" (مجلة الطليعة المصرية الماركسية، نوفمبر، 1975عن: غزو من الداخل، لجمال سلطان، ص 35).
(15/4)
ولذا يتعجب هذا (المستنير) ممن لا زالوا يتبعون النصوص الشرعية!، يقول: "ومن الغريب أن المسلمين اليوم لا يعنيهم أمر من هذه الأمور، بقدر ما يعنيهم الاستمساك بهذه القيم، ويكون استمساكهم أشد عندما يكون المعيار القديم نصاً من النصوص" !! (المصدر السابق).
5- ومن انحرافاته: قوله: "إن خروج المعاملات من نطاق الشرع إلى نطاق القانون، قد حقق لها ألوانا من الحرية والانطلاق لم يكن لها بهم عهد من قبل" !! (مجلة الطليعة الماركسية، فبراير 1976).
ويقول: "القرآن لكل العصور ولكل الأزمنة فيما يخص المعتقدات الدينية والعبادات، وليس فيما يخص المعاملات" !! (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص 102).
6- ومن انحرافاته: قوله بأن "شرع المتقدمين علينا حضارياً شرع لنا" !! (مجلة الطليعة، مايو، 1976).
7- ومن انحرافاته الخطيرة تطبيقاً لما سبق: ادعاؤه "أن هناك أشياء وردت في القرآن الكريم ولا نستطيع أن نعمل بها الآن؛ لأن العمل بها ضار بمصلحة المسلمين" !! ومن هذه الأشياء –في زعم الدكتور- :
تقسيم الغنائم، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر! (انظر مقابلته مع مجلة روز اليوسف، عدد 3177).
(وقد رد عليه تخاريفه هذه الأستاذ مصطفى علي محمود في المجلة العربية، العدد 159).
(15/5)
ويقول هذا الزائغ: "موقف القرآن الكريم من المرأة كان موقفاً في عصر معين ووضعت تلك القواعد لعصر معين، ومن الممكن جداً أن مثل هذه الأشياء قد لا يسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها. وأعطيك مثلاً: حد الزنا الذي يطالب البعض بتطبيقه، له شروط ولابد من أربعة شهود على واقعة الزنا.. اليوم في العصر الحديث توجد مبان ولا توجد خيام كما كان الحال وقت نزول الآية.. وبالتالي أصبح من المستحيل تحقيق الشروط، فالمساكن الحديثة في العمارات والشقق تجعل توافر الشروط مستحيلاً. كذلك لم يعد أحد يجرؤ على اقتحام بيوت الناس، والعلاقات الاجتماعية أصبحت مختلفة تماماً. فهل نترك الزنا بلا عقاب أم نفكر في عقاب جديد وفي شروط جديدة تتفق مع العصر!
صحيح أننا سنبتعد عن التطبيق الحرفي للنص القرآني الواضح، ولكننا نفعل ذلك إحياء للإسلام وليس العكس" !! (حوار حول قضايا إسلامية، إقبال بركة، ص102).
8- ومن انحرافاته: ادعاؤه "أنه لا مانع من تزويج المسلمة بالنصراني واليهودي! إذ لا يوجد نص قرآني مانع من ذلك –في رأيه-" !! (مجلة المسلمون، فبراير1991) (العقلانية هداية أم غواية، ص 134).
9- ومن انحرافاته : غلوه في العقل وتقديمه على النقل. يقول خلف الله :"إن البشرية لم تعد في حاجة إلى من يتولى قيادتها في الأرض باسم السماء، فلقد بلغت سن الرشد، وآن لها أن تباشر شئونها بنفسها" (مجلة الطليعة، نوفمبر 1975م) .
ويقول هذا العقلاني: "لقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان النبوة، من حيث إعلان انتهائها كلية وتخليص البشرية منها" !! (الأسس القرآنية للتقدم، ص 44).
10- ومن انحرافات هذا السفيه : قوله بأن :" الإسلام حرر الإنسان من سلطان الرسل والأنبياء" !! (مشكلات الحياة في القرآن الكريم، نقلاً عن : تزييف الإسلام، ص 114).
(15/6)
11- ومن انحرافاته: ادعاؤه أن "الإسلام دين فقط وليس ديناً ودولة" (تزييف الإسلام، ص 115). وهو يتابع في هذا رأي علي عبد الرزاق وأضرابه ممن أرادوا فصل الدين عن الدولة في الإسلام. (انظر للرد عليه: إعادة النظر، لأنور الجندي، ص 302-307).
12- ومن انحرافاته: دعوته الملحة للديمقراطية الغربية، التي يقول عنها بأنها: "وفدت إلينا كعنصر حضاري من عناصر الثقافة الأوربية" (مجلة اليقظة العربية، العدد الأول، السنة الأولى).
13- ومن انحرافاته: زعمه أن المسلمين "إذا أرادوا التنعم بمعطيات الحضارة الغربية المادية فعليهم أن يعطوا ولاءهم لهذه الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، صحيحها وسقيمها، حقها وباطلها" !! (انظر: كتاب: الذين يحرثون في البحر، للأستاذ عبد الرحمن علي فلاح، ص 26).
14- ومن انحرافاته: دعواه "أن القرآن الكريم لم يحرم –في أي نص من نصوصه- التزاوج بين الأديان السماوية الثلاثة التي تقول بالتوحيد! –اليهودية والمسيحية والإسلام" (تزييف الإسلام، ص 121). فهو من دعاة وحدة الأديان والتقارب والتعايش السلمي فيما بينها.
15- ومن انحرافاته: قوله "يجب الإيمان بأن القرآن والاشتراكية يلتقيان معاً في الأرض التي تمهد باسم العلم" (تزييف الإسلام، ص 122-123).
يقول الأستاذ محمد إبراهيم مبروك: "ينظر الدكتور خلف الله إلى الإسلام من منظور مادي صرف وهو يتعامل معه على أنه أحد المكونات الأساسية لتلك الأمة، وأنه مادة تراثية من نتاج شعوبها، وعلى هذا فإنه يكاد يكون من المستحيل تجاهله، بل يجب التعامل معه كفكر له تجاوبه العقلي والنفسي الراسخ في ضمير تلك الشعوب، ولكن لا يعني ذلك قبول مواد هذا الفكر كما هي وإنما هو يحاكمها إلى المعايير الغربية (الماركسية بوجه خاص) والذي يكون مقبولاً لدى تلك المعايير يكون مقبولاً عنده وما ترفضه يرفضه هو أيضاً" (تزييف الإسلام، ص105).
(15/7)
قلت: فثبت بما سبق أن الدكتور خلف الله: اشتراكي، علماني، ديمقراطي، قومي، لا يعتمد القرآن والسنة مصدراً للتشريعات، بل صدرت منه الآراء والأقوال التي لا يشك مسلم في كفر من قال بها –نعوذ بالله من حاله-.
ملحق فيه رد المستشار سالم البهسناوي عليه:
قال المستشار في كتابه (تهافت العلمانية في الصحافة العربية): وقفة موضوعية مع الدكتور محمد خلف الله:
في يوم الجمعة الماضي نشر للدكتور محمد أحمد خلف الله تصريحات خطيرة زعم فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تقم له حكومة أو حكم بل إدارة أعمال، وأن من يطالب بحكم الإسلام إنما يطالب بحكومة دينية لا وجود لها بعد النبي، وأن ما لم يرد في القرآن فلا نلتزم به، أي لا يلتزم المسلم بالسنة النبوية، ثم عاد وادعى أن السنة لا يعمل بها، إلا إن كانت مبينة للنصوص القرآنية، غير قطعية الدلالة.
إنه من التحريف البين لنصوص القرآن الكريم وأحداث السيرة النبوية ما زعمه الكاتب المجتهد في قوله:
"لا نستطيع أن نسمي ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكومة فما قام به هو شيء من إدارة الأعمال أكثر منه حكومة، ولو كان حكومة في ذلك الوقت لكان ملكاً وهذا مرفوض من وجهة نظر النبي ، ففي حياته عرض عليه الملأ من قريش أن يكف عن أعمال الرسالة ويعطوه الملك إن أراد حيث قالوا له: "إن كنت تريد ملكاً ملكناك، فأبى إلا أن يكون رسولاً".
هذا القول فيه تحريف ومغالطة وذلك على النحو التالي:
أولاً: صحيح أن الكفار قد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوه ملكاً أو حاكماً عليهم ورفض ذلك، ولكن سبب الرفض هو أنهم أرادوا أن يترك رسالة الإسلام مقابل الحكم، فليس صحيحاً أن الرفض سببه أن النبي ما جاء ليحكم، فقد قال الله تعالى لنبيه (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (1) وقال الله لنبيه داود (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (2) .
(15/8)
ثانياً: إن أحداث السيرة النبوية تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام دولة في المدينة المنورة، وليس صحيحاً أن ما قام به من هذا الشأن هو إدارة أعمال فقط، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام دولة وحكومة بكل المقومات الحديثة للدولة.
فإذا رجعنا إلى القواعد الدستورية الحديثة نجد أن الدولة لها مقومات ثلاثة:
الأول: شكل الحكومة ودعامتها: والإسلام حدد ذلك من قول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) (3) .
الثاني: السلطات ومصدرها ومن يتولاها: والإسلام يجعل التشريع هو القرآن والسنة .
الثالث: حقوق الأفراد وحرياتهم: والإسلام قد كفل هذه الحقوق، قال الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) (4) .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد ضمن حقوق الإنسان في إعلانه بحجة الوداع إذ قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا" .
__________
(1) ... المائدة (49).
(2) ... سورة ص (26).
(3) ... الشورى: (38).
(4) ... البقرة (188).
(15/9)
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم بصفته رئيساً للدولة وضع القانون الذي ينظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وهذا الكتاب قد جاء به "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط" كما جاء بهذا الدستور "وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين" إلى أن قال: "وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً (1) بينهم أن يعطوه المعروف في فداء وعقل ... وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن ... وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه ... وإنكم مهما اختلفتم فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم" (2) .
ثالثاً: المبادئ القانونية والتشريعية:
ففي نطاق القوانين المحلية بين المؤمنين وغيرهم. والتي لم تصل إليها الدول إلا بعد أربعة عشر قرناً. وتعرف باسم القانون الدولي الخاص. فإن الكتاب الذي وضعه النبي كدستور لحكومته بالمدينة تضمن أن المؤمنين أمة من دون الناس وأنهم متضامنون في الحياة الاجتماعية وفي أداء الديات. وأن هذه المعاهدة مفتوحة لمن أراد الانضمام إليها من غير المسلمين .
وفي مجال تنازع القوانين حسم النبي الأمر فقرر صلى الله عليه وسلم أنه عند اختلاف الديانات فالقانون الواجب التطبيق هو شريعة الإسلام إذا اختلف أصحاب هذه الديانة ولجأوا إلى محاكم المسلمين.
__________
(1) ... المفرح: المثقل بالدين الكثير العيال.
(2) ... البداية والنهاية 3/ 224.
(15/10)
أما في نطاق اتصال الدولة بغيرها من الدول وهو ما يعرف حالياً بالقانون الدولي فالإسلام نظام عالمي تضمن المعاهدات الداخلية والمعاهدات بين الدول في السلم والحرب. قال تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (1) وقال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) (2) وقال تعالى : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (3) .
رابعاً: وأخيراً تعلل الباحث بأمر آخر فقال "لقد نص القرآن الكريم على أن محمداً عليه السلام هو آخر النبيين والمرسلين، ومعنى ذلك أن استمداد الحاكم السلطة من الله لن يكون بعد وفاة النبي ، فكل من جاء بعده وتولى الخلافة كان يستمد سلطته من الناس وليس من الله" وقال: "ونستطيع أن ننظر في الخلافة فنرى الخليفة يستمد سلطته من الناس عن طريق البيعة، فإن كانت الحكومة الإسلامية التي تطالب بها الجماعات الدينية، هي الحكومة التي تستمد سلطتها من الناس فلا فرق كبير بينهما وبين ما تمارس به الحكومة اليوم من سلطات. وأما إذا كانوا يدعوننا إلى سلطة دينية فإن السلطة الدينية لا تكون إلا من الله، وقد أعلن القرآن الكريم أن محمداً عليه السلام آخر الأنبياء وخاتم المرسلين، أي آخر الناس الذين يستمدون سلطتهم في إدارة شؤون الحياة من الله".
إن هذا القول يخلط بين حكم الإسلام وبين الحكومة الدينية التي ظهرت في أوروبا وكانت تدعي أنها ظل الله في الأرض، وبالتالي فما يصدر عنها يكون تشريعاً من الله لأنها جاءت بسلطان من الله تعالى.
__________
(1) ... آل عمران (104).
(2) ... الحجرات (9).
(3) ... النساء (58).
(15/11)
وهذا الأمر يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً، والقاصي والداني يعلم ذلك، فالقرآن الكريم قد حذر من هذا السلطان الديني الكاذب وعده من أنواع الشرك بالله، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم عندما جاء يعلن إسلامه وكان يحمل صليباً من ذهب حيث قال له النبي : (ألق عنك هذا الوثن وقرأ عليه قول الله تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) قال عدي: ما عبدناهم . قال النبي : ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فتبعتموهم؟ قال عدي: بلى يا رسول الله . قال: فتلك عبادتكم إياهم" .
ولقد نص القرآن على أن الرسول هو خاتم النبيين وذلك ليمنع قيام مثل هذا السلطان الديني. فلا يملك أحد بعد النبي أن يشرع للناس بخلاف ما جاء في القرآن والسنة. وهذا هو الفيصل بين حكم الإسلام وبين ما يسمى بالحكومة الدينية، فحكم الإسلام هو تطبيق نصوص القرآن والسنة والتزام الحاكم والمحكوم بها، وليس إعطاء قدسية لبعض الحاكم يحلون ويحرمون من دون الله. فذلك هو الشرك مع الله كما جاء في القرآن وبينته السنة النبوية (1) .
وحسبنا ما كتبه الأستاذ الشيخ خالد محمد خالد في كتابه (الدولة في الإسلام) حيث اعترف بخطئه الفاحش فيما كتبه عن الحكم الإسلامي وأنه نوع من الحكومة الدينية في أوروبا وكان ذلك عام 1950 في كتابه "من هنا نبدأ" .
وقد بين أسباب انحرافه في هذا الفهم وساق الأدلة على أن الإسلام لا يعرف ما يسمى بالحكومة الوثنية وهذا ما نتناوله في المقال القادم إن شاء الله (2) .
وقفة أخوية مع الدكتور خلف الله
بين الإسلام وحكومة الكهنوت
بتاريخ 19/11/1982 نشرت جريدة الوطن حديثاً للأستاذ محمد خلف الله تضمن أموراً منها:
__________
(1) ... راجع السنة المفترى عليها، والحكم وقضية تكفير المسلم للمؤلف.
(2) ... نشر بالوطن في 26/11/1982.
(15/12)
أ-لا نستطيع أن نسمي ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكومة فما قام به هو شيء من إدارة الأعمال أكثر منه حكومة.
ب-إن كل ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل الله، فنحن نفكر ونتعامل بعقولنا مع كل ما هو ناجم عن الفكر البشري وليس له أساس من كتاب الله، أي أنه لم ينزل من عند الله.
ج-الحكم يجب أن يكون بما أنزل الله إذا كان ما أنزل الله قطعي الدلالة أو ما بينه الرسول كان من القرآن الكريم غير قطعي الدلالة.
لهذا .. وبتاريخ 20/11/1982 أرسلت إلى رئيس التحرير رداً من ثلاث مقالات :
الأولى : تضمنت أن النبي أقام دولة وحكومة شملت جميع مقومات الدولة والحكومة في الأنظمة الدستورية المعاصرة.
الثانية: تضمنت أن ما أنزل الله يشمل القرآن والسنة النبوية معاً وأن قصر ما أنزل الله على القرآن وحده إنكار للسنة النبوية. كما أن ما جاء في القرآن غير قطعي الدلالة لا يتوقف العمل به على ورود حديث نبوي قطعي الدلالة.
الثالثة: تضمنت بيان الحكومة والسلطة في الإسلام والفرق بينها وبين الحكومة الدينية التي ظهرت في أوروبا. وأوضحت أن الإسلام لا يعرف هذا المفهوم الكنسي للحكومة.
ولقد قامت الوطن بنشر المقالة الأولى في الصفحة الدينية يوم الجمعة 26/12/1982 مصحوباً بكلمة من الوطن بعنوان: الدكتور خلف الله لم ينكر السنة لأن ما ورد في حديث الدكتور يشير إلى أن الدين من عند الله ورسوله الكريم. وإن العبارة الواردة أن الدين لا يكون إلا من عند الله فالمغزى منها واضح إذ يتجه القصد إلى اجتهادات المجتهدين والفقهاء وليس إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي اليوم المحدد لنشر المقال الثالث الخاص بالحكومة الدينية نشر بدلاً منه رد للدكتور محمد خلف الله عن الموضوع الخاص بهذا المقال الذي لم ينشر. فإن كان هو حرية الدكتور خلف الله في الرد فإن ذلك يكون بعد انتهاء المقالات التي سيرد عليها أو نشر مقالي ورده معاً.
(15/13)
لما كان ذلك وكان الدكتور خلف الله في رده قد طلب مني أن أجيب على أسئلة طرحها وطلب مني أن أهتدي بهدي القرآن الكريم لأخرج من الظلمات إلى النور وأهتدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
فإنني أوضح الحقائق التالية:
أولاً: حقيقة أقوال الفقهاء:
إن جريدة الوطن ليست وكيلاً عن الدكتور خلف الله، ولا تملك أن تعبر عنه قصده، فعبارته "إن كل ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل الله" هذه العبارة في ظاهرها تفيد أن السنة النبوية ليست ما أنزل الله. وبالتالي تسري بشأنها القاعدة التي وضعها وهي أن نتعامل معها بعقولنا فنقبل منها ما تقبله هذه العقول التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والأفهام والتأثيرات اليمينية واليسارية.
وإذا كان الدكتور خلف الله يقصد أن أقوال ابن تيمية وابن القيم والمودودي وسائر الفقهاء ليست بذاتها من عند الله، وبالتالي لنا أن نجتهد فيها وأن نتعامل معها بعقولنا فهذا ما يقوله الصغير والكبير في الجماعات الإسلامية التي أشار إليها الدكتور. فأقوال الفقهاء تعرض على القرآن والسنة النبوية ولا تطاع إلا في حدود موافقتها لهما.
ولكن سياق عبارة الدكتور خلف الله تشمل السنة النبوية كما تشمل أقوال الفقهاء. فكان عليه الإيضاح إن كان ما يقصده هو ما أجابت به جريدة الوطن.
ثانياً: طبيعة الحكومة الإسلامية:
أورد الدكتور في رده أن الخلفاء لا يخلفون الله من حيث أن الله لم ينص على ذلك كما نص في خلافة داود. ومن حيث أن الخليفة يخلف غيره حين يغيب لمرض أو سفر أو وفاة وليس يصح شيء من ذلك بالنسبة إلى الله.
وتساءل الدكتور: هل أملك أن أعين خليفة لله في أرض الله من غير أن يأذن الله . وأين هو الإذن ؟ ولن أجيب على ذلك بما أوردته في المقال الثالث عن الحكومة الدينية التي كانت ظل الله في الأرض؛ لأن هذا قد أوقفت الوطن نشره.
(15/14)
وإنما أحيل الجميع إلى المقال الأول المنشور يوم 26/11/1982 حيث جاء به بالحرف "إن قول الدكتور خلف الله يخلط بين حكم الإسلام وبين الحكومة الدينية التي ظهرت في أوروبا وكانت تدعي أنها ظل الله في الأرض، وبالتالي فما يصدر عنها يكون تشريعاً من الله؛ لأنها جاءت بسلطان من الله تعالى. وهذا الأمر يرفضه الإسلام جملة وتفصيلاً، والقاصي والداني يعلم ذلك. فالقرآن الكريم قد حذر من هذا السلطان الديني الكاذب وعده من أنواع الشرك بالله، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين جاء يعلن إسلامه، فقد قرأ عليه النبي قول الله ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فقال عدي: ما عبدناهم: قال النبي ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فتبعتموهم؟ قال عدي: بلى يا رسول الله. قال فتلك عبادتكم إياهم". انتهى .
ثالثاً: بين النبوة والحكومة الدينية:
قال الدكتور: "لقد كان محمد -عليه الصلاة والسلام – يستمد سلطته من الله. فهل أمده الله بسلطة غير سلطة النبوة والرسالة. وهل أمد الله سبحانه وتعالى خلفاء محمد عليه السلام بمثل هذه السلطة؟ وطلب مني الدكتور أن أجيب.
وجوابي أشرت إليه في المقال الأول على النحو السالف ثم قلت "ولقد نص القرآن على أن الرسول هو خاتم النبيين وذلك ليمنع قيام مثل هذا السلطان الديني فلا يملك أحد بعد النبي أن يشرع للناس بخلاف ما جاء في القرآن والسنة. وهذا هو الفيصل بين حكم الإسلام وبين ما يسمى بالحكومة الدينية" وأما سلطة الحكم ففي البند التالي:
ثم قلت: "الإسلام لا يعرف ما يسمى بالحكومة الدينية وهذا ما نتناوله في المقال القادم إن شاء الله" ولكن المقال لم ينشر.
رابعاً: الحكم الإسلامي والحكومة الدينية:
(15/15)
يقول الدكتور خلف الله "أعتقد أن ما بيني وبين الأستاذ سالم البهنساوي قريب جداً وأن الاختلاف يمكن أن يقضى عليه عندما نقف عند المفاهيم القرآنية ولا نتجاوزها إلى مفاهيم أخرى عصرية، لم يقصدها القرآن الكريم أبداً. وأول هذه المفاهيم هو معنى الحكم الذي أشار إليه الأستاذ البهنساوي، وقدم الدليل عليه من القرآن الكريم حين أورد قول الله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (1) ووقوف الأستاذ البهنساوي عند هذا الحد من الآية الكريمة هو الذي حال بينه وبين مفهوم كلمة الحكم من حيث أن كل الآيات التي وردت في القرآن الكريم لا تعني من هذه الكلمة الحكومة أو السلطة وإنما تعني بها القضاء بالعدل" ثم أورد آيات الحكم بما أنزل الله وعلق عليها بقوله "إن الحكم في هذه الآيات جميعها وفي كل آية وردت فيها هذه الكلمة لا يعني أبدا غير الفصل في الخصومات بالأحكام الشرعية التي وردت في التوراة والإنجيل والقرآن، الحكم في القرآن الكريم كله لا يعني غير القضاء والفصل في المنازعات. والحكم في القرآن الكريم لا يعني أبداً الحاكم الذي يستمد سلطته من الناس وينشئ الحكومة التي تدير شئون الحياة في المجتمعات" .
جوابنا على ذلك هو:
أ-لقد تضمن مقالي الأول أن السلطان الديني والحكومة الدينية بالمفهوم الكهنوتي لا يقول به مسلم. وقلت في نهاية المقال "فحكم الإسلام هو تطبيق نصوص القرآن والسنة والتزام الحاكم والمحكوم بها. وليس إعطاء قدسية ما لبعض الحكام يحرمون ويحلون من دون الله. فذلك هو الشرك مع الله كما جاء في القرآن وبينته السنة النبوية" .
ب-لم يقل علماؤنا أن القرآن والسنة قد نصا على أشخاص يستمدون سلطتهم من الله في حكمهم للناس، فذلك هو المفهوم الكنسي للحكومة الدينية وهو ما يبطله الإسلام ويعده شركاً مع الله.
__________
(1) ... المائدة (49)
(15/16)
ولكن قيام الحكومة من الناس واستمدادها السلطة من الأمة لا يعني أن هذه الحكومة تملك أن تصدر التشريع الذي يخالف القرآن والسنة النبوية. فهذا أمر مقبول في المجتمعات الغربية وله قواعد دستورية أهمها نظرية السيادة التي تجعل الشعب هو صاحب السيادة في التشريع. وفي المجتمعات الشيوعية يتولى الحزب الشيوعي نصب الحكومة التي لا تملك الخروج على مبادئ ماركس ولينين.
أما الإسلام فالحكومة فيه تستمد سلطتها من الأمة ولكنها مقيدة في أعمالها وتصرفاتها، فلا تملك أن تخالف القرآن والسنة النبوية فإن فعلت كان قرارها باطلاً لا شرعية له. قال الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (1) .
خامساً: الإسلام والدين والدولة :
يقول الدكتور خلف الله: إن النبي لم تكن له وظيفة أخرى غير النبوة والرسالة، وإذا كان الأستاذ البهنساوي يريد أن يؤكد للناس أن الإسلام قد كان له دولة فإنه عليه أن يقدم الدليل من القرآن الكريم.
والجواب على ذلك هو:
أ-لماذا يقتصر الدليل على ما ورد في القرآن؟ فالدكتور لا ينكر السنة وعليه أن يطلب الدليل منها. وإلا كان منكراً لها حسب ظاهر أقواله.
__________
(1) ... الأحزاب (36)
(15/17)
ب-أوضحت في المقال الأول أن الدولة الحديثة لها مقومات ثلاثة هي: شكل الحكومة والسلطات الثلاثة وحقوق الأفراد. وكل ذلك قد جاء به القرآن. وقدمت الدليل عليه من كتاب الله. كقول الله (وأمرهم شورى بينهم) (1) وقوله عز وجل (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا) (2) وأود أن يعلم الجميع أن الآية 25 من سورة الحديد قد نصت على أن رسول الله كانت له مهمة رئيسة هي إقامة الدولة والحكم بين الناس بالقسط، قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) فهذا النص قد وضح أن الرسل جاءوا للبشرية لإقامة حكم فيه:
1-سلطة تشريعية هي الكتاب الذي دل على السنة.
2-سلطة قضائية رمز إليها بالميزان.
3-سلطة تنفيذية رمز إليها بالحديد.
وقدمت الدليل من السنة النبوية، ومن ذلك الدستور الذي وضعه النبي في أول حكمه بالمدينة ليحكم العلاقات بين المسلمين وبينهم وبين غير المسلمين، وأن هذا الدستور يتضمن القانون الدولي العام والخاص.
ج-إن لم يكن الرسول حاكماً، وأمر المسلمين بإقامة حكم إسلامي. فما معنى قول الله (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) وقوله سبحانه (ليقوم الناس بالقسط)؟
__________
(1) ... الشورى (38)
(2) ... الحجرات (9)
(15/18)
د-إن كانت وظيفة النبي هي النبوة والرسالة فقط –أي مجرد تبليغ الدين- فالحروب والغزوات التي قام بها لا تدخل ضمن ما حدده له بها ولا تدخل ضمن ما حدده له الدكتور من عمل الرسالة. وكذلك إعداده الجيوش والقواد لغزو الروم ثم التحرك بهم حتى وصل إلى تبوك وعقده صلحاً مع زعماء جرياء واذرج وأيلة. وهل تعيينه معاذا حاكماً على اليمن من أعمال النبوة؟ وهل غزوة مؤتة المتجهة نحو الروم من أعمال النبوة؟ وهل تعيينه أمراء لجمع الزكاة جبراً من أعمال النبوة؟ أم أن ذلك من أعمال الدولة فقام بها الخلفاء؟
سادساً: جعل الدكتور خلف الله رده بعنوان:
"هل يجوز أن يكون الدين من عند غير الله" وساهمت الوطن في نشر ذلك في صفحتها الأولى وهذا يوحي أنني أجيز ذلك ولا أحب أن أقول: أذلك قد ورد في مقالتي الأولى الذي نشرته الوطن يوم 26/11/1982 ومقالي الثاني المنشور يوم 3/12/82 وكلاهما تضمن أنه لا يحل لمسلم أن يقتصر على ما جاء في القرآن فالدين يشمل القرآن والسنة معاً. والنبي يقول: "إني أوتيت القرآن ومثله معه"، والله تعالى يقول عن النبي عليه الصلاة والسلام (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (1) .
أما ما ختم الدكتور به رده في قوله "بقي أن أهمس في أذن الأستاذ البهنساوي بأن الدين غير التشريع، وأن مصدر الدين هو الله سبحانه وتعالى، أما مصدر التشريع فيكون القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين والإجماع والقياس وما إلى ذلك مما عده علماء أصول الفقه من مصادر التشريع والتي وصلت إلى تسعة عشر مصدراً".
فالجواب عليه:
1-أنه لو صح أن الدين غير التشريع لكان مصدر الدين هو القرآن والسنة وليس القرآن فقط، فإن الله تعالى يقول (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (2) .
__________
(1) ... النجم (3،4).
(2) ... الحشر (7).
(15/19)
2-إن مصدر التشريع ينحصر في القرآن والسنة النبوية، لأن الإجماع والقياس وغيرهما مما عده علماء الأصول مصادر هي في حقيقتها ليست مصدراً مستقلاً. فلا حجة لها إلا إذا كان لها مستند من الكتاب والسنة. وهذا هو الذي يفرق بين الاجتهاد البشري وبين التشريع المنزل من عند الله والمتمثل في القرآن والسنة.
3-لقد ورد لفظ الدين في القرآن الكريم بمعنى التشريع والقانون في قول الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (1) .
وورد الدين بمعنى العقيدة في قول الله تعالى (لا إكراه في الدين) (2) وورد بمعنى المناسك التعبدية في قول الله (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيها) (3) .
وقد فصلت ذلك في كتابي "الحكم وقضية تكفير المسلم" المتضمن الرد على انحرافات بعض الشباب.
4-ولا يوجد أحد من المسلمين يقول: إن الإنسان أو الحاكم خليفة الله بمعنى أنه ينوب عن الله ويتولى سلطاته؛ لأن هذا ما أخبر النبي أنه شرك مع الله، في قوله لعدي بن حاتم عن الأحبار والرهبان (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
__________
(1) ... البقرة (193).
(2) ... البقرة (256).
(3) ... الشورى (13).
أما قول الله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) (1) فليس معناه خليفة عن الله بل يفسره قول الله (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) (2) أي يخلف بعضهم بعضاً. فقد جاء في معاجم اللغة: خلف فلان فلاناً أي جاء بعده. ومنه قول الله (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي) (3) كما قال الله : (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً) (4) فهذا خلف هذا أي جاء بعده. أما قول الله (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (5) أي أنفقوا من المال الذي أنتم عليه أمناء ويدكم عليه يد عارضة سيخلفكم فيه غيركم من الورثة وسيؤول إليهم .
(15/20)
وختاماً نرجو أن يدرك الجميع أن ما نقلناه وذكرناه ليس جدالاً ولا مراء (6) .
وقفة نهائية مع الدكتور محمد خلف الله
النبي والدولة.. والاجتهاد والنص
لقد نشر الدكتور محمد خلف الله كلاماً يتعلق بالحكم الإسلامي والسنة النبوية، تناولته بالحوار لكنه في 17-12-1982 ادعى أنني في حواري معه نقلت عنه غير الحقيقة بل أوهاماً توهمتها إذ لم أقرأ النصوص قراءة سليمة ولم أتفهمها فهماً دقيقاً، وانتهى إلى أن ما يقوله هو الحق وما قلته هو الباطل وطلب أن أهتدي معه إلى هذا الحق وأترك الجدال.
ولما كان دفاعي لا يتعلق بشخصي بل ينصب حول وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنزلة السنة النبوية مع الدين والتشريع وهذا أمر لا يملك أحد منا أن يبتدع فيه حكماً كما أن ما قاله كل منا ليس سراً لم يطلع عليه أحد بل قد نشرته الصحف اليومية ويمكن الاحتكام إليه دون تراشق بالألفاظ أو تحوير الكلمات.
فأضع صاحبي والقراء أمام الحقائق التالية:
أولاً: السنة وقيام دولة في عصر النبي :
لقد قال بالحرف في مقاله يوم 19 نوفمبر الماضي:
__________
(1) ... البقرة (30).
(2) ... الأنعام (165).
(3) ... الأعراف (142).
(4) ... الفرقان (62).
(5) ... الحديد (7).
(6) ... نشر بالوطن يوم 17/12/82.
"لا نستطيع أن نسمي ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحكومة، فما قام به هو شيء من إدارة الأعمال أكثر منه حكومة" .
وفي رده يوم 17 ديسمبر طلب مني:
أ-ألا أخلط بين شؤون الدولة والحكم، وبين شؤون النبوة والرسالة.
ب-أن يكون سندي في كل ما أرغب في الوصول إليه هو القرآن الكريم.
ج-الا أنكر ولا غيري صحة قوله "إن ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل الله" .
وأضاف أن القارئ قد فطن إلى أن قوله هذا لا يتصل بقريب أو بعيد بعنوان مقالي الثاني "السنة بين المستشرقين وعلماء السلطان" .
والجواب على ذلك هو:
(15/21)
1-أن تكرار طلبه أن يكون دليلي هو القرآن لهو أكبر دليل على عدم أخذه بالسنة النبوية.
2-أن عبارته التي يدعي أنني لم أفهمها وهي "أن ما لم يرد في القرآن يكون غير ما أنزل الله" لا تحتاج إلى إعمال نظر في الفهم، فهي صريحة أن كل ما لم يرد في القرآن ليس من عند الله، يدخل في ذلك السنة النبوية وهو حتى اليوم لم يصرح باحتكامه إلى هذه السنة.
3-إن المسلم لا يملك أن يقول: إن السنة النبوية غير ملزمة بدعوى أنها لم ترد في القرآن أو أن يقول أنه لا يأخذ من السنة إلا ما كان بياناً لما في القرآن، وهذا هو إجماع المسلمين لما يأتي:
الأول: لتبين أن القرآن أمرنا بطاعة الرسول فيما أمر به أو نهى عنه (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (1) .
وقطعاً فهذا أمر آخر غير القرآن، فمن قال: غير القرآن لا يكون من عند الله دون أن يستثني السنة النبوية، يدخل هذه السنة في الفكر البشري الخاضع للاجتهاد وهذا ما يحاوله صاحبنا.
__________
(1) ... الحشر (7).
الثاني: أن قول الله (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (1) يخول الرسول بيان ما جاء في القرآن، وهذا البيان يشمل أيضاً كل حكم جديد ليس في القرآن كتحريم لحم الحمر الأهلية وهذا ما فصلته في المقال الثاني مع مزيد من الأمثلة والأدلة من القرآن والسنة، وكذلك تحريم زواج العمات والخالات، وهذا ما عليه إجماع المسلمين، وصاحبنا يقول بخلافه، وهو ما يقول به المستشرقون وبعض الحكام سواء من غير المسلمين أو مسلمين نكسوا على رؤوسهم.
فهل ما أجمع عليه المسلمون بشأن السنة النبوية وهو ما نتمسك به هو الضلال، والبدعة التي ينادي بها الدكتور خلف الله هي الحق الذي يجب أن نهتدي إليه؟
ثانيا: النبي والدين والدولة:
(15/22)
كرر صاحبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينشئ حكماً ولا دولة بل قام بإصلاح إداري، ولم يبين الدولة والحكومة التي أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الإصلاح الإداري المزعوم، والغريب أن الإسلام في رسالته الخاتمة قد تميز بتنظيمه للدولة في شؤونها الداخلية والخارجية، وقد أوضحت في المقال الأول أن هذا من مهام الرسل استناداً إلى الآية 25 من سورة الحديد، التي أشارت إلى مقومات الدولة والسلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية.
ولكن صاحبنا قد تجاهل ذلك وادعى أن قول الله تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (2) أمر خاص بنبي الله داود ولا ينطبق على خاتم المرسلين، ويزعم أنه لم يرد في القرآن نص بذلك.
وبهذا المنطق المعكوس يستطيع كل جاهل أو محرف لدين الله يقول إن صلاة الصبح أو صلاة الظهر لم ترد في القرآن فلا نلزم بها أو إن زكاة المعادن لم ترد في القرآن فلا نلزم بها.
ومع عدم تسليمنا له أن يكون الدليل من القرآن فقط لأن في هذا إنكاراً للسنة النبوية.
__________
(1) ... النحل (44)
(2) ... ص (26).
فإن القرآن الكريم قد قال لنبيه والمؤمنين معه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) (1) وقال الله تعالى : (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) (2) كما قال الله لنبيه في شأن أسرى معركة بدر (وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) (3) فهذه الآيات وغيرها مما أوردته في المقال الأول متعلقة بأمور السلم والحرب، لا يمكن أن ينفذه النبي صلى الله عليه وسلم إلا من خلال حكومة ودولة.
فهل كانت المدينة المنورة تحت حكم اليهود أو الوثنيين من العرب ونفذوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات القرآنية لأنه قام بإصلاح إداري لحسابهم!
(15/23)
ثم كيف ينكر مسلم أن أول شيء فعله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو أن وضع وثيقة ودستوراً يحكم العلاقة بين أفراد الدولة التي أقامها سواء من المسلمين أو اليهود أو غيرهم، وقد جاء في ديباجة هذا الدستور أو هذه الوثيقة أو هذه الصحيفة "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم بالحق ولحق بهم"، وجاء بهذه الوثيقة عن اليهود أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وقد حدد هذا الكتاب حدود الدولة وسماها النبي بحرم المدينة.
وهذا الكتاب يقع في 47 مادة أو بنداً فما حكم من أنكره؟ لقد حصر الدكتور محمد حميد الله الوثائق السياسية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبلغت 244 وثيقة، منها هذا الدستور وصلح الحديبية، الذي تضمن وضع الحرب 10 سنين والذي جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة الفتح، فهل هذه ليست دليلاً على الدولة؟ وهل المشورة في الحروب التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم ليست إلا لجاناً من أولي الأمر ولا تدل على وجود دولة؟ ولم يقم بها الرسول الكريم، كما يدعي الدكتور خلف الله؟
__________
(1) ... الأنفال (39).
(2) ... الأنفال (41).
(3) ... الأنفال (67).
وإذا كانت مشورة النبي في الحروب "ليست دليلاً على الدولة وخصوصاً عندما تكون هذه اللجان من أولي الأمر إلى جانب النبي" ، وهو ما ادعاه الدكتور خلف الله. فمن هم أولو الأمر الذين شكلوا هذه اللجان بجانب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وإذا قلنا ذلك نكون محرفين للنصوص أو لم نفهمها فهماً دقيقاً ونكون قد قلنا الباطل؟
(15/24)
وإلى من يتوجه الخطاب في قول الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) (1) ، لقد نزل هذا على النبي في عصره فهل التحاكم في هذا النص وغيره موجه إلى أفراد ليس لهم سلطان الدولة التي تحتكم إليها وإلى مؤسساتها الدستورية؛ لأن القرآن لا يحكم هو بين الناس بل يحكم به الحكام ومن يسندون إليهم هذا الأمر من القضاة والأمراء؟ العالم في أي جانب من الجوانب الكونية إذا ما حمل بين جوانحه قلباً مؤمناً بالدين، يستحيل ألا يزداد إيمانه؛ لأن علمه بأسرار الكائنات هو في الوقت نفسه علم بعظمة من خلق تلك الكائنات، وبدأها وسواها وأجراها على سنن منظومة، هي التي يكشف عنها العلماء ويطلقون عليها اسم "القوانين العلمية" . "ومن أبرز الفوارق بينهما، أي الدين والعلم، مما لابد أن نكون على وعي شديد به. هو أن مبادئ الدين ثابتة عند المؤمنين بهذا الدين؛ لأنها معايير يقاس بها السلوك، ولابد للمعيار أن يحتفظ بمعنى واحد، وإلا فقد معياريته، وأما العلم فهو متغير مع تقدمه في تعاقب العصور..".
__________
(1) ... النساء (60).
ج-وفي مقاله المنشور في الأهرام والوطن يوم 5/4/88 يقول : العقيدة مدارها التوحيد والقيم الضابطة للسلوك، ويرجع في ذلك إلى الأصلين، القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا ما أشكل أمر لم يرد عنه نص في هذين الأصلين، فمرجع المسلم فيه العقل، ولا فرق بين أن نقول إنه العقل أو إنه إجماع الرأي عند الثقات. والنضج العقلي يكون بالقدرة على تمثيل المبادئ التي نزل بها دين الإسلام، والتزامها في استدلالاته العقلية بعد ذلك، كلما أراد لنفسه هداية في دنيا السلوك" .
لا ينكر أحد أن الرسل يحكمون؛ لقول الله تعالى:
(15/25)
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباد لي من دون الله) (1) ويقول الله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (2) وإن كان فهمي هذا باطلاً مع أنه إجماع فقهاء الأمة فمن من الفقهاء فهم مثل فهم الدكتور خلف الله وادعى أن مصلحة الناس تقدم على النص وهو القرآن أو السنة أم أن الإجماع أن المصلحة تقدم إذا لم تتعارض مع القرآن أو السنة (3) .
وأخيراً فأحيل القارئ إلى مقالي التالي والذي نشر بالأهرام حيث قد عرى الدكتور خلف الله من تمسحه بالقرآن الكريم .
القومية والقرآن العصري بين خلف الله وسيف الدولة
نشر الأستاذ الدكتور "محمد أحمد خلف الله" مقالاً في صفحة الحوار القومي تناول موضوع القومية العربية والإسلام، تطرق فيه إلى مقال للأستاذ "محمد حامد أبو النصر" ، ومقال للمرحوم الأستاذ "عمر التلمساني"..
وقد علل الدكتور "خلف الله" رده بقوله "مقال المرشد العام، قد أفسد الجو بين القومية العربية والإسلام إلى الحد الذي لا يصح معه السكوت أبداً".
__________
(1) ... آل عمران (79).
(2) ... النساء (105).
(3) ... نشر بالوطن في 24/12/82.
كما وصف مقال المرشد الراحل الأستاذ عمر التلمساني بقوله: "إنه الأقرب إلى مفهوم وحدة الأمة الذي جاء به القرآن الكريم" وبقوله "إنه يرفع التناقض بين العروبة والإسلام" وكما قدم الدكتور خلف الله نفسه للقراء في قوله: وعلاقة الإسلام بالعروبة إنما تتحدد بما حدده القرآن الكريم لهذه العلاقة وليس أبداً بما نفرضه نحن على هذه العلاقة، فهل جعل الدكتور خلف الله الإسلام هو الفيصل فيما اختلف فيه؟ إنه لم ينزل إلى حكم الإسلام في مقاله هذا، وفي فكره القومي بصفة عامة، في الوقت الذي يقول فيه إن القرآن هو الذي يحدد علاقة الإسلام بالعروبة لهذا ودفاعاً عن الإسلام نركز على الآتي:
علاقة الإسلام بالعروبة:
(15/26)
ذكر أن القرآن الكريم حين يحدد العلاقة بين العروبة والإسلام، يجعل العروبة هي الأصل ويجعل الإسلام هو الفرع، ثم يذكر أن الثقافة الإسلامية تؤكد ما جاء به القرآن من أن الإسلام مرتبط بالعروبة ارتباطاً عضوياً، وأن الأصل العروبة وليس الإسلام، وهذا الذي يذكره الدكتور خلف الله لا يوجد أي دليل عليه من القرآن الكريم الذي جعل العقيدة هي الأصل وليست العروبة أو غيرها.. قال تعالى : (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (1) .
__________
(1) ... التوبة (24) ، وهذا الرد قد نشر بتاريخ 10/6/1987.
وهاهو المفكر القومي الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه "عن العروبة والإسلام" يصحح هذا الخطأ فيقول: (لا مجال إذن للخلط بين علاقة الانتماء إلى العروبة وعلاقة الانتماء إلى الإسلام، لا في الأشخاص ولا في المضمون ... . إن الإسلام علاقة انتماء إلى دين خالد في الزمان بحكم أنه خاتم الرسالات والأديان وخالد في المكان بحكم أنه رسالة إلى كل البشر، أما العروبة فعلاقة انتماء مقصورة على شعب معين) (1) ويقول: (وإن من المنافقين من أبناء أمتنا العربية من يناهضون الإسلام باسم العروبة) كما يقول: (ولا نتتبع هنا كل صور النفاق الذي يخفي مناهضة الإسلام بالعروبة ومن أشكال هذا النفاق ما هو ظاهر السذاجة).
من ذلك الاستعلاء على الإسلام باسم العروبة، فالاستعلاء استئصال يمهد للاستغناء .
(15/27)
حيث يفاخر بعض العرب بأن الرسول قد كان منهم، وكان القرآن بلغتهم وبأن في ذلك آيتين على أن الإسلام دين العرب وفضلهم على الناس كافة، وأنهم استحقوا أن توضع الرسالة فيهم فوضعت. إنهم ينافقون الشعب العربي يبغون مرضاته، ربما ليقبلهم في موقع القيادة منه، ولكنهم يجعلون من الإسلام ثمرة من ثمار حضارة ينسبونها إلى أمة عربية لم توجد قط، كأن العروبة هي الأصل وما كان الإسلام إلا فرعاً، ونشهد أننا لم نقرأ ولم نسمع شيئاً أكثر جهالة من هذا الذي اختاره بعض العرب أسلوباً لمناهضة الإسلام باسم العروبة) (2) .
لا جدال أن الإسلام مثلما جاء للعرب وبلغتهم، فإنه جاء للناس كافة فكما قال الله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم) (3) ، قال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم..) (4) وقال الله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولاً) (5) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) (6) .
__________
(1) ... كتاب العروبة والإسلام ص 24.
(2) ... نفس المصدر ص 182.
(3) ... المزمل (15).
(4) ... المائدة (19).
(5) ... السناء (79).
(6) ... سبأ (28).
الإسلام والقومية:
يقول الدكتور: (يخطئ المرشد العام "أبو النصر" لأنه قد ذهب إلى أن العروبة هي اللسان واللغة وليست القومية).
والدكتور لا ينكر أن القومية مذهب يؤمن به الإنسان عند إدراكه، أما العروبة فهي انتساب إلى وطن والأصل فيه اللغة، ولهذا قال المفكر القومي الدكتور "عصمت سيف الدولة" (إن الإسلام علاقة انتماء تنشأ بالتمييز فالإدراك فالإيمان : أما العروبة فعلاقة انتماء إلى وضع تاريخي تدرك العربي منذ مولده وتصاحبه حتى وفاته ولو لم يكن مميزاً) (1) .
فإذا أريد بالقومية تفضيل العرب على غيرهم فالنبي صلى الله عليه وسلم قال "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" وقال : "يا فاطمة بنت محمد أعملي فإني لن أغني عنك من الله شيئاً" .
(15/28)
وإذا أريد بالقومية، رابطة تناهض الإسلام فالله يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (2) أما إذا كانت القومية أن يصبح العرب أمة واحدة تتفاعل فيما بينها للدفاع عن أرضها وشعبها وتعمل من أجلهم وتجاهد من أجل عقيدتهم المشتركة فهذا لا ينازع فيه أحد من العرب والمسلمين، -إن كانوا عرباً أو مسلمين- وهذا ما أوضحه الدكتور "عصمت سيف الدولة" الذي أشاد برأي الإمام "حسن البنا" مؤسس جماعة الإخوان في ذلك.
__________
(1) ... المصدر السابق ص 23.
(2) ... الأحزاب (36).
ويقول خلف الله : (حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم العرب إلى إفراد الله بالعبادة، كان يعتبر ذلك البديل للشرك العربي الممثل في اللات والعزى وما إلى ذلك.. ثم ترتبط الصلاة بالأرض العربية ويرتبط الحج بالأمكنة العربية والأزمنة العربية وكذلك الصوم يراه مرتبطاً بالشهور العربية، فهل يستطيع المسلم أن يؤدي فرائض دينه في غير مقوماتها العربية، وإن كل الذين دخلوا في الإسلام سواء تعربوا أم لا ، إنما يمارسون حياتهم الدينية من حيث الفروض والواجبات على أساس من العروبة وليس يصلح لغير العربية أن يقيم الدين الإسلامي إلا على أساسه العربي وإلا كان ما سيؤديه إسلاماً آخر).
ولسنا ندري ما هو النص سواء الآية القرآنية الكريمة، أو الحديث النبوي الشريف الذي يجعل إسلام الأوروبي إسلاماً آخر إذا صلى بغير اللغة العربية!
ثم ما هو النص الشرعي الذي يجعل إفراد الله بالعبادة بديلاً عن الشرك العربي، فعبادة الله وحده ليست بديلاً عن الشرك فهي أصل والشرك عارض وطارئ.
الهدف من الإسلام:
إن القرآن الكريم قد حدد الهدف من رسالة الإسلام في آيات لا نكاد نحصيها منها قول الله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) (1) .
(15/29)
ولكن الدكتور يقول : (إن الهدف من الرسالة الإسلامية أولاً وقبل كل شيء هو الارتفاع بالمستوى الحضاري للأمة العربية، وذلك عن طريق الرسول الذي يعلمهم الكتاب والحكمة).
__________
(1) ... المائدة (48).
وأين هذا من الآيات القرآنية التي تحدد رسالة الإسلام بإخراج الناس من الظلمات إلى النور عن طريق اتباع تشريع الله الممثل في القرآن والسنة، إذ قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ... ) (1) . وقال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ... ) (2) .
إقليمية الرسالة:
يحاول الدكتور "خلف الله" أن يجعل من العروبة رسالة يصبح الإسلام تابعاً لها كما جعل العروبة هي الأصل والإسلام هو الفرع، فيقول: (وعروبة القرآن أو اختيار المولى سبحانه وتعالى للغة العربية لتكون لغة الوحي إنما كان بسبب أن الرسالة الإلهية موجهة إلى الأمة العربية أولاً وقبل كل شيء).
وسبق أن ذكرت رد الدكتور "عصمت سيف الدولة" من أن الإسلام رسالة للناس كافة، أما العروبة فانتماء إلى شعب معين. وقد ختم هذه القضية بقوله: (كانت خلاصة ما تقدم من تخريب وتغريب أن نشأت في كل قطر عربي طبقة قومية الانتماء إقليمية الولاء، مادية الباطن إسلامية الظاهر فردية البواعث، نفعية الغايات، رأسمالية النشاط، اجتماعية الأرباح، يتعلق بها وتتغذى عليها شخوص من الفلاسفة والمفكرين والكتاب والأساتذة والتلاميذ ... وهي طبقة نشأت مع الاستعمار؛ لتؤدي بالنيابة عنه ولحسابه نقض الحضارة العربية من بناء شخصية الإنسان العربية) (3) . إنه لا يجهل أحد أن الإسلام جاء للعرب، ولكنه أيضاً جاء للناس كافة وهذا ما يدركه الدكتور خلف الله الذي لا نعنيه بالاقتباس الأخير .
حقيقة فكر الدكتور "خلف الله" :
(15/30)
إن الدكتور خلف الله يستشهد بالآيات القرآنية الكريمة؛ ليوهم القارئ أن العروبة هي الأصل والإسلام هو الفرع، ويرتب على ذلك نتائج خطيرة لم يذكرها صراحة في مقاله، ولكنه نشرها في مقالات وكتب وهذه أهمها:
__________
(1) ... النساء (60).
(2) ... النساء (65).
(3) ... المصدر السابق ص 429.
1-بحوث الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية المنشورة في كتاب باسم "القومية العربية الإسلام" والمنشور 1981. وفي هذه البحوث يرد الدكتور "محمد خلف الله" على المفكرين الذي يربطون بين الإسلام والقومية العربية فيقول: يطلب للربط بين الإسلام والقومية العربية التنازل عن العلمانية، وهو ما لا يمكن أن تتخلى عنه القومية العربية ؛ لأن ممارسة الحياة على أساس من العلمانية يمنح المجتمع حرية وانطلاقاً في تحقيق المصلحة العامة، على أساس من الحضارة العلمية أكثر مما يمنحه الإسلام (1) .
2-وكتابه الأسس القرآنية للتقدم، يصرح بأكثر من ذلك فيقول: (تبقى بعد ذلك عملية تحرير العقل البشري من السلطة الدينية المتمثلة في نظام النبوة) (2) .
ويقول : (لقد حرر الإسلام العقل البشري من سلطان الآلهة فيما عدا سلطان الله) (3) ولكنه يقول: (أرجو أن يطمئن القارئ إلى الأساس الذي بني عليه التوحيد وكيف كان تحرير العقل البشري من سلطان الآلهة بما فيهم سلطان الله) (4) .
لما كان ذلك كذلك فليس للدكتور "خلف الله" أن يلبس هذا الفكر اللاديني ثوب القرآن الكريم، وله إن شاء أن يكون علمانياً أو لا دينياً ولكن ليس له صلاحية تحويل نصوص القرآن الكريم، هذا ما نبه عليه الدكتور "عصمت سيف الدولة" في فصل النفاق وفصل العلمانية بكتابه سالف الذكر (5) .
__________
(1) ... كتاب القومية العربية والإسلام ص 55.
(2) ... الأسس القرآنية للتقدم ص 41.
(3) ... المصدر السابق ص 44.
(4) ... المصدر السابق ص 36.
(5) ... نشر بالأهرام بتاريخ 10/6/87 في صفحة الحوار القومي.
(15/31)
براءة القرآن من أركسة القوميين :
بتاريخ 17/6/1987 نشر الدكتور محمد خلف الله مقالاً عن عروبة الإسلام ذكر فيه أنني ممن يعيشون في الوهم الذي صنعته القومية الفارسية، وأن وهما آخر يرسخ في ذهني، وهو أن عروبة الإسلام ضد عالميته، وعالميته تقتضي فصله عن عروبته، وذلك على الرغم من أنني لم أكتب ذلك ولم أقله.
وكنا نود أن يذعن الدكتور "خلف الله" لحكم الإسلام في تحديد العلاقة بين الإسلام والعروبة والقومية، وخصوصاً وأنه يكرر أن الحقائق القرآنية لا يمكن أن تكون موطن الجدل ومحل الشك والارتياب.
غير أنه تعصب لفكره القومي العلماني، وحاول أن يجعل القرآن الكريم وسيلة لتأييد هذا الفكر مع مناهضته للإسلام حسبما فصله مقالي السابق.
فهاهو قد كتب في ذات الصفحة مقالين تناولا كلامي وكلام الدكتور عبد الصبور شاهين" نشر الأول في 17/6 بعنوان "عروبة الإسلام" والآخر في 24/6 بعنوان "القومية حقيقة قرآنية".
وقد وضح، أنه يحاول إيهام القارئ أن الحوار كان يدور حول مسمى المقالين، بينما القضية الرئيسة في الحوار تمثلت في سؤال صريح بدأت به مقالي السابق وهو (هل جعل الدكتور "خلف الله" الإسلام هو الفيصل فيما اختلف فيه)؟ ثم أجبت بقولي: (إنه لم ينزل على حكم الإسلام في مقاله هذا وفي فكره القومي بصفة عامة).
وقد استندت في إجابتي المذكورة إلى فقرات كاملة من أقواله، كما استشهدت على بعد فكره عن القرآن الكريم بآيات عديدة منه، وبفقرات من كلام الدكتور "عصمت سيف الدولة" .
فما كان من الدكتور "خلف الله" إلا أن أغفل هذه الحقيقة .
(15/32)
والحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان أن الدكتور "خلف الله" هو الذي حدد عقيدته لنفسه، وهي التي تباعد بينه وبين الدكتور "سيف الدولة" وغيره من الملتزمين بحكم الإسلام، بل ومن المنصفين من الباحثين غير المسلمين، وما كان دوري إلا أن أظهرت هذه الحقيقة، وما زال الأمر بيده إن شاء ترك فكره الذي يناهض الإسلام بالعروبة والقومية، وإن شاء أصر على موقفه السابق، غير أنه لا يوجد باحث منصف يقره على نسبه هذا الفكر إلى الإسلام.
أما أنه يوهم القارئ أن الحوار كان يدور حول مسمى مقاليه سالفي الذكر، يتضح من قوله (تلك هي القضية الأساسية التي لم تستوعبها الجماعات الدينية بعد، التي يثور بشأنها الجدل والحوار ويقع ذلك على الرغم من أن عروبة الإسلام حقيقة قرآنية..).
كما تتضح هذه المحاولة من عبارات أخرى له منها قوله: (إن القرآن الكريم لم يتخذ موقفاً معادياً للقومية) وبهذه المحاولات يتجاهل أن مقالي محل رده هذا، قد ورد به (إذا كانت القومية أن يصبح العرب أمة واحدة ... فهذا لا ينازع فيه أحد من العرب أو المسلمين).
كما تجاهل أن الدكتور "عصمت سيف الدولة" وهو من كبار المفكرين القوميين، قد حدد موقف كبرى الجماعات الإسلامية من العروبة والقومية بقوله: (إن الأمة العربية هي أمة الإسلام وإنجاز ثورته، وحاضنة حضارته، وحاملة رسالته إلى كل شعب يقبلها بدون إكراه، في أي دولة من دول الأرض، وهذا ما فطنته جماعة الإخوان المسلمين بإرشاد قائدها الشهيد "حسن البنا" (ص 165).
ولعل الدكتور محمد خلف الله قد اطلع على رسالة المؤتمر الخامس للشهيد حسن البنا الذي حدد الموقف من الوحدة القومية والعربية والإسلامية فقال (إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربياً ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: إذا ذل العرب ذل الإسلام..) ص 176.
(15/33)
ولعل الدكتور "خلف الله" لا ينكر أنه قد اقترن بالدعوة إلى القومية العربية تياران: أحدهما: عَلماني يحاول أن يجعل من القومية مذهباً يناهض الإسلام وهو ما قال عنه الدكتور "سيف الدولة" ((إن الاستعلاء على الإسلام بالعروبة مناهضة وأركسة) أي قلب للحقائق (ص 185) (ويجعلون من الإسلام ثمرة من ثمار حضارة ينسبونها إلى أمة عربية لم توجد قط، كأن العروبة هي الأصل وما كان الإسلام إلا فرعاً منها. ونشهد أننا لم نقرأ ولم نسمع شيئاً أكثر جهالة من هذا الذي اختاره بعض العرب أسلوباً لمناهضة الإسلام باسم العروبة) (ص182 من كتابه عن العروبة والإسلام).
أما التيار الآخر، فيضع القومية العربية في موضعها الطبيعي داخل النظام الإسلامي، ولهذا نادى "الكواكبي" بانتقال الخلافة إلى العرب وأن تتكون جامعة إسلامية يتم توزيع وظائفها وفقاً لأهليات وخصال الأقوام المسلمين.
وحقيقة فكر الدكتور خلف الله أنه يتبنى اتجاه التيار الأول، ولقد برهنت على ذلك في مقالي السابق فنقلت عنه إصراره على أن تظل القومية العربية إسلامية، لكن بشرط أن لا تتخلى عن العلمانية. كما نقلت عنه ادعاءه أن الأساس الذي بني عليه التوحيد هو تحرير العقل البشري من سلطان الآلهة بما فيهم سلطان الله) (1) .
ولقد حاول الدكتور "خلف الله" أن ينقل القارئ إلى موضوع آخر يبعدنا عن الحوار سالف الذكر فحشد الآيات القرآنية التي تدل على الصلة بين الإسلام والعربية والقومية، ثم قال: إن مصر تحركت بعد زوال الخلافة العثمانية وطالبت بالخلافة للملك "فؤاد" وقال: (إن المرحوم الأستاذ "حسن البنا" كان من الذين يتظاهرون من أجل عودة الخلافة في مصر "ولأحمد فؤاد" ).
__________
(1) ... كتاب الأسس القرآنية للتقدم ص 36 للدكتور خلف الله.
(15/34)
ولكن مذكرات "البنا" ورسائله لا تتضمن ذلك، ولم يسند الكاتب هذا إلى أي مصدر تاريخي، والمصادر تثبت أن "البنا" كان آنذاك طالباً بدار المعلمين بدمنهور، والملك "فؤاد" لا يجرؤ في التفكير بالخلافة الإسلامية فضلاً عن أن يرشح نفسه حتى تقوم مظاهرات بتأييده، فهذا الملك كان أحد أدوات بريطانيا التي أسقطت الخلافة الإسلامية وخدعت العرب بوعد ونفذت وعداً آخر لليهود، وفي سبيل ذلك قسمت بلاد العرب بينها وبين فرنسا طبقاً لاتفاق "سايكس بيكو".
وأخيراً يؤيد الكاتب فكره بأن كلمة الناس في أكثر آيات القرآن الكريم تعني العرب، أو المشركين منهم، من ذلك قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (1) وقال الناس هنا هم العرب فالقبائل توجد فيهم إلى اليوم ولا توجد بمصر مثلاً، وقد نسي أن أصول اللغة العربية تقتضي أن اللفظ العام يظل على عمومه ما لم تدل القرائن على أنه خاص، والعموم هنا لا دليل على تخصيصه بالعرب؛ لأنه إن كانت القبائل فيهم فهي توجد أيضاً في أفريقياً بل وأوروبا، كما أن الذكورة والأنوثة والشعوب ليست خاصة بالعرب بل للناس كافة.
__________
(1) ... الحجرات (13).
وفي الختام فإن لكل شخص أن يعتقد ما شاء من العقائد والأفكار، ولكن ليس له أن يفرض على القرآن الكريم مذهباً قد ظهر على أيدي غير المسلمين، ثم تبناه بعض من أعلنوا العلمانية التي تختلف مع الإسلام، والقرآن منها براء كل البراءة، ولكن "خلف الله" يريد أن يفرض على القراء مذهبه اللاديني، وينسب هذا الباطل إلى القرآن الكريم، وبهذا يستخف بعقول القراء ويستخدم أسلوباً من النفاق الذي حذر منه الدكتور عصمت سيف الدولة (1) ). انتهى رد الأستاذ سالم البهنساوي –وفقه الله للخير-.
__________
(15/35)
(1) ... أرسل هذا المقال في 28/6/1987 بالبريد المسجل إلى جريدة الأهرام كرد على مقالي خلف الله ولكن المسئول عن صفحة الحوار وهو الأستاذ لطفي الخولي، لم ينشر المقال، كما لم ينشر رد شيخ الأزهر!
(15/36)
::::: المجموعة الثالثة :::::
نظرة شرعية في فكر (محمد عابد الجابري)
ترجمته (2) :
- كاتب مفكر مغربي معاصر. ولد بالمغرب عام 1936م، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967، وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970م من كلية الآداب بالرباط.
- يعمل حالياً أستاذاً للفلسفة والفكر العربي الإسلامي في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط.
- له مجموعة مؤلفات، ومشاركات في الصحف والمجلات.
مؤلفاته :
1- أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب، 1973م.
2- مدخل إلى فلسفة العلوم –بيروت-دار الطليعة- 1982م.
3- من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، 1977م.
4- نحن والتراث –المغرب- المركز الثقافي العربي 1983م .
5- تكوين العقل العربي –بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية .
__________
(1) ... أرسل هذا المقال في 28/6/1987 بالبريد المسجل إلى جريدة الأهرام كرد على مقالي خلف الله ولكن المسئول عن صفحة الحوار وهو الأستاذ لطفي الخولي، لم ينشر المقال، كما لم ينشر رد شيخ الأزهر!
(2) ... انظر: مجلة الجديد في عالم المكتبات، العدد 17، وكتابه حفريات في الذاكرة، وغلاف كتابه (الخطاب العربي المعاصر) في طبعته الخامسة عام 1994م، مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت. ورسالة الدكتور مفرح القوسي (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية) (2/561).
6- المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي بيروت –دار الطليعة- 1982م.
7- فكر ابن خلدون، العصبية الدولة –المغرب- دار النشر المغربية – 1984م.
8- إشكاليات الفكر العربي المعاصر، 1986م.
9- وحدة المغرب العربي –بيروت – مركز دراسات الوحدة العربية –1987م.
10- التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، 1991م.
11- الخطاب العربي المعاصر –بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية – 1994م.
12- وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، 1992م.
13- المسألة الثقافية ، 1994م.
(16/1)
14- الديمقراطية وحقوق الإنسان ، 1994م.
15- مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، 1995م.
16- المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، 1995م.
17- الدين والدولة وتطبيق الشريعة، 1996م.
18- المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية، 1996م .
19- قضايا في الفكر المعاصر، 1997م.
-أصدر الجابري مجلة (نقد وفكر)، وهي شهرية.
تنبيه :
حيث أنه قد سبقني مجموعة من الباحثين الفضلاء في دراسة فكر هذا الرجل، فقد رأيت الاكتفاء بنقل دراساتهم للقارئ؛ نظراً لعمقها وتحقيقها للمراد، خشية أن تتكرر الجهود .
والدراسات هي :
1- مقال للأستاذ أحمد أبو عامر بعنوان (كتَّاب يجب أن نحذرهم: محمد عابد الجابري) نشره في المجلة العربية، العدد 165، بتاريخ شوال 1411هـ .
2- مقال للأستاذ عبد العزيز الوهيبي بعنوان (قراءة في فكر الدكتور محمد عابد الجابري) نشره في مجلة البيان (العدد71).
3- جزء من رسالة الدكتور مفرح القوسي (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية) (1) خصصه للحديث عن الجابري (2/561-569).
__________
(1) ... لم تُنشر بعد. وهي موجودة لدى مكتبة الملك فهد بالرياض.
-قال الأستاذ أحمد عبد العزيز أبو عامر في مقال له عن الجابري نشره في المجلة العربية (العدد 165): (تمهيد: تعاني جامعاتنا العربية ضمن ما تعانيه من الضعف أن جل أساتذتها الذين تخرجوا من الجامعات الأجنبية وبخاصة في العلوم الإنسانية عادوا بتصورات أجنبية فعلاً تتنكر غالباً للأصول الإسلامية لفقدانهم الأسس الإسلامية الصحيحة، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ولذا وجدناهم مختلفي المنطلقات الفكرية، ويمكن إجمالهم على النحو التالي:
1- الدعاة لمركسة الفكر العربي وأبرزهم عبد الله العروي .
2- الدعاة لعلمنة الفكر العربي وأبرزهم محمد أركون.
(16/2)
3- الدعاة لعقلنة الفكر العربي وأبرزهم محمد عابد الجابري، مدار المناقشة في هذه الحلقة وهو من المبشرين بما يسمى بالمذهب الانتقالي، والذين يزعمون أن العلم شيء والعقيدة شيء آخر.
ما حقيقة هؤلاء:
وهؤلاء الكتاب يزعمون أنهم يناقشون قضايا المجتمع العربي الإسلامي من منظور علمي مع أنهم في الحقيقة يحاولون عمداً هدم الإسلام من الداخل ويسمي الباحث القدير (د/يوسف نور عوض) هذا الاتجاه الجديد في علم الاجتماع. (اتجاه النقل المقصود به الهدم) ذلك أن معظم الكتاب العرب الذين بدأوا يستخدمون هذا المنهج، لم يحاولوا في الواقع نقد المنهج ذاته بل استخدموه بأقصى درجات التطرف من أجل تفتيت كيان الأمة الثقافي. تارة تحت اسم (سوسيولوجيا المعرفة) وأخرى تحت اسم (سوسيولوجيا النقد) (1) ومعظم الذين يعملون في هذه الاتجاهات الخطيرة قد عملوا في إطار التنظيمات الأيدلوجية المشبوهة وغرضهم إسقاط أفكارهم على الواقع الاجتماعي دون الدخول مباشرة في المواجهة، ونعود لصاحبنا الجابري.
نبذة عن حياته (2) :
__________
(1) ... الندوة العدد 8778
(2) ... الشرق الأوسط العدد 3395 بتصرف.
(16/3)
ولد عام 1936م في قرية (فكيك) المغربية على الحدود الجزائرية ودرس بها ثم غادرها إلى (الدار البيضاء) حيث انخرط في خلايا العمل الوطني في بداية الخمسينات، وفي عام 1958م انتقل إلى دمشق للحصول على الإجازة في الفلسفة. بعد أن حصل على البكالوريا كمرشح حر ولم يتم دراسته الجامعية وعاد للمغرب لينتسب إلى الجامعة المغربية الفتية. وفيها يكمل مشواره الأكاديمي، وفي 1964م يحصل على (الليسانس) في الفلسفة وفي عام 1967م نال الماجستير بعد مناقشة رسالته (منهجية الكتابات التاريخية المغربية) والتي عن طريقها اكتشف عالم الاجتماع المسلم (عبد الرحمن بن خلدون) حيث قرر أن يكون بحثه لنيل شهادة الدكتوراه عام 1971م (العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي). وهو الآن أستاذ الفلسفة والفكر العربي والإسلامي في كلية الآداب بجامعة الملك محمد الخامس بالرباط، وله العديد من الكتب من أشهرها: (نحن والتراث) و(نقد العقل العربي) وقد صدر في أجزاء ثلاثة هي (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) و(العقل السياسي العربي) و(الخطاب العربي المعاصر) وغيرها. وقد شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والثقافية وطرح بعض الآراء التي سيتم مناقشة بعض منها فيما بعد.
والملاحظ أن كثيراً من الكتاب المغاربة المشهورين اختطوا طريقاً فكرياً ينحو المنحى الفلسفي بما يسمونه (قراءات التراث) وهي اتجاهات شتى يمكن الرجوع لمعرفتها في كتاب (التراث والهوية) لعبد السلام بن عبد العالي الذي تطرق فيه إلى كل من العروي والخطيبي والجابري وغيرهم.
(16/4)
ومحمد عابد الجابري والحق يقال: إنه من أنزه هؤلاء الكتاب وإن كان عليه مآخذ سأوضحها فيما بعد، وهذا التعريف السريع به وبفكره ينطلق من عنوانه من ما يعرف بالبستمولوجيا وهي النظم المعرفية التي اشتهر في كتاباته عنها، في دراسته عن (نقد العقل العربي) وكيف انحدر إلى ما أسميه (بالهذرلوجيا) (1) وأعني به السقوط في الرأي، حينما عرض وجهة نظره في أزمة الخليج والتي هي أقرب ما تكون للهذر من التحليل العلمي الذي عرف به وكيف أنه ناقض نفسه في مفهومه للوحدة العربية والذي سبق أن أدلى به في عدة مقابلات صحفية كما سأوضحه إن شاء الله.
قراءات في التراث:
للجابري صلة قوية بدراسة التراث العربي الإسلامي ومن خلال قراءاته تلك يعرف بفكره وطروحاته حول التراث والتحديث، وقد وضع منطلقاته الفكرية هذه في مدخل كتابه (نحن والتراث).. فحينما ذكر اتجاهات الفكر العربي المعاصر في دراسة التراث وضعها في ثلاث فئات (السلفية الدينية) و(القراءة الاستشراقية) و(القراءة اليسارية) وقال: إن تلك القراءات كلها (سلفية) وإن اختلفت منطلقاتها. وإنما الفرق بينها هو نوع السلف الذي يتحصن به كل تيار، فالقراءة الاستشراقية سلفها مفكرو أوروبا واليسارية سلفها الماركسية.. ومن خلال إطلاعي على بعض من كتب عن الجابري وجدت أن ما ذكره المفكر المغربي (سعيد بن سعيد) عن ملامح منهجه الفكري هو أقرب ما يكون له، حيث وضع منهج الجابري متمثلاً في ثلاثة أبعاد.
1- بين درسين اثنين درس الفلسفة الهيجلية الماركسية ودرس الابستمولوجيا التكوينية كما نجدها عند (جان بياجي) من جهة ثانية.
2- الدرس البنيوي حيث يأخذ فيه من البنيويين وعلى وجه الخصوص من الفرنسيين (التوسر) و(فوكو) بصفة خاصة.
__________
(1) ... مع الاعتذار للأستاذ (سليمان الفليح) صاحب زاوية (هذرلوجيا).
(16/5)
3- البعد البستمولوجي الفرنسي ونجد تأثره بالمفكر الفرنسي (باشلار) أكثر من غيره (1) ، ولقد صاغ الجابري في هذه الأخلاط المتعددة قراءاته للتراث والتي سنرى نموذجاً لها، ومما يتميز به الجابري أنه لم يصادم الإسلام مباشرة، ولا يرى التغيير في ترك التراث كالعروي مثلاً لكن له آراء عجيبة وغريبة، ومما جاء في (بنية العقل العربي) قوله: (اللغة والشريعة والعقيدة والسياسة في الماضي والحاضر تلك هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية التي قلنا: إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي إلا بالتحرر منها) !!
ماذا قال في دراسته عن نقد العقل العربي:
هذه الدراسة صدرت في أجزاء ثلاثة سبق ذكرها وهي دراسة مركزة وتحليلية للثقافة العربية والإسلامية تحتاج إلى كبير تأمل ومراجعة حتى يستوعبها القارئ لها، وسأقف معك أخي القارئ في الجزء الأول منها وهو (تكوين العقل العربي) وقد ذكر في كتابه (الخطاب العربي المعاصر) والذي يعتبر تمهيداً لهذه الدراسة، ذكر أن الذاتية العربية الراهنة تفقد استقلالها لكونها تنطلق من مرجعيتين متعارضتين منفصلتين عنها إحداها (تنتمي إلى الماضي العربي الإسلامي) والأخرى تنتمي إلى (الحاضر والمستقبل الأوروبي). وسبيل تحقيق الذات العربية هو التحرر من ذلك النموذج (الإسلامي والغربي) !!
تكوين العقل العربي:
تتبع الجابري مراحل تكوين الثقافة الإسلامية التي دونت وصنفت وأعيد بناؤها خلال عصر التدوين وامتداداته فوجد نفسه أمام ممارسة نوع من التاريخ للثقافة العربية يقوم على إعادة ترتيب العلاقات بين أجزائها، فبدلاً من تصنيف ضروب المعرفة إلى علوم نقلية وأخرى عقلية.. أدى به رصد الأساس (البستمولوجي) لإنتاج المعرفة داخل الثقافة العربية إلى تصنيف آخر لا يؤخذ فيه بعين الاعتبار سوى البنية الداخلية للمعرفة (آلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية) حيث وضعها في ثلاث مجموعات:
__________
(16/6)
(1) ... الشرق الأوسط، العدد 4093
1- علوم البيان: من نحو وفقه وعلم كلام وبلاغة ويؤسسها نظام معرفي واحد يعتد قياس الغائب على الشاهد كمنهاج في إنتاج المعرفة سماه (المعقول الديني العربي).
2- علوم العرفان: تصوف وفلسفة وباطنية وسحر وتنجيم ويؤسسها نظام معرفي يقوم على (الكشف والوصال) و(التجاذب والتدافع) كمنهاج وسماه (اللامعقول العقلي).
3- علوم البرهان: من منطق ورياضيات وطبيعيات وإلهيات ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج وسماه (المعقول العقلي) وقال بأن العقل العربي إنما تكون من خلال تشييده لعلوم البيان التي أبدع فيها أيما إبداع، فإن كانت الفلسفة معجزة اليونان فإن العلوم العربية هي معجزة العرب!! وإذا كانت معجزة اليونان قد جعلتهم يتعاملون مع الكون لمحاولة فهمه فإن معجزة العرب قد جعلتهم يتعاملون مع النص وينغلقون من داخله بعد أن أغلقوا المعرفة التي تنتمي إليه. فماذا يا ترى يريد قوله بهذا الكلام الملفوف؟
وهكذا صار يحلل البقية على ذلك المنوال، ثم ذكر أن تأخر المسلمين راجع لكون العقل قدم استقالته استناداً إلى المشروعية الدينية، ففي حين بدأ الأوروبيون يتقدمون باستيقاظ العقل بينما المسلمون في صراع حول الخلافة وصراع الفرق وأن تقدم غير المسلمين حينما فصل الدين عن الدولة.
وهكذا يدس السم في الدسم بطريق غير مباشر ولذا صدق د/يوسف نور عوض (1) بقوله عن هذا الكتاب: إنه نوع من الكتب التي يوهم القارئ بأنه يتحدث في أمور خطيرة ويتناولها بطريق علمية وموضوعية ولكن المتأمل فيه يدرك أن الكتاب فارغ المضمون وأنه مليء بالمغالطات والآراء غير العلمية بعكس الدعاية الكبيرة له، ومن ملاحظاته ما يلي:
__________
(1) ... الندوة، العدد 9071
(16/7)
1- أن السياسة وحدها ليست هي السبب الجوهري في تخلف المسلمين لأنه ليس هناك مجتمع في العالم لا يهتم بالسياسة فضلاً عن أن علومنا الإسلامية هي الأساس للنهضة الأوروبية كما اعترف بذلك منصفو الغرب أنفسهم كجوستاف لوبون في (حضارة العرب) وأن الاختلاف في التفاوت بين أوروبا والعالم العربي ليس في طبيعة العقل ذاتها وإنما لكون أوروبا اكتشفت الطاقة قبلنا واستطاعت عن طريق استثمار ثرواتها أن تنمي نهضتها الصناعية، واستطاعت عن طريق الاستعمار أن تثبت أركان نفوذها وقوتها.
2- إن الجابري يموه بمفهومي النص والبيان وإن ما يعنيه هو القرآن الكريم إذ يريد أن يقول: إن الثقافة الإسلامية كلها قد انحصرت في معرفة النص القرآني وهكذا أصبحت من وجهة نظره معرفة مغلقة، ولم يدع أحد حتى الآن في الغرب أن دراسة اللغة مثلاً قد أصبحت غير مجدية، ودليلنا تطور علم اللغة الحديث لهم بطريقة مذهلة.
3- وحينما قال الجابري: إن العقل البياني العربي استقال من خلال ما يعرف بالتصوف السيئ أكد د. يوسف بأنه لا يعترف بأن التيار الصوفي كان في أي مرحلة من مراحله قوياً بحيث يحجب الشريعة ويكون بديلاً عنها بحيث نصف العقل الإسلامي بأنه عقل مستقيل.
(16/8)
4- دعواه أن العلم العربي ظل خارج الحياة ولم يدخل في احتكاك مع الدين كما هو الشأن في الغرب ولم يبرر ذلك بموقف الإسلام الإيجابي من العلم وإنما برره بسلبية العرب واهتمامهم بالسياسة أكثر من اهتمامهم بالعلم. وأقول: كيف تقدم العلم العربي الإسلامي في عصور ازدهاره مع الاهتمام الكبير بالسياسة آنذاك والصراع حولها؟ لكن الحقيقة أن العلم والعلماء لم تتح لهم من الإمكانات والدعم ما كان موجوداً آنذاك، وفي نظري أن تقسيمه الجديد عقد العلم وفروعه وجعله مستعصياً عن الفهم عند الآخرين، ثم كيف تقدم أسلافنا في التقسيم التقليدي وكانوا غرة في جبين الزمان؟! فنهضتنا وتقدمنا ليس في تقسيم للعلم جديد بدلاً للتقسيم القديم فحسب. بل لا بد من إعادة النظر في المناهج والتوجهات والخطط التنموية والعمل الجاد من كافة فئات الأمة بعد وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
من آرائه العجيبة:
أولاً: في الوقت الذي يقول فيه: إن تطبيق الشريعة مبدأ لا يحتمل النقاش كمبدأ يقول: إن الشريعة في الإسلام مجال مفتوح وأن هناك مبادئ وجوانب معينة وتطبيقها فيه مجال للاجتهاد، ثم يقول: إن (حد الزنا) كان من الممكن تطبيقه في مجتمع البادية أما المجتمع الجديد فلا يمكن تطبيقه كما اشترط الفقهاء (1) ولا شك فهذه الدعوى ساقطة من أساسها؛ لأن إجماع العلماء بأنه لا اجتهاد مع النص معروف ولا خلاف حوله، وتبقى الملابسات والظروف والتحديد العقلي، وهذا ما يقرره العلماء والجابري ليس منهم، والإسلام دين شامل لكل زمان ومكان وتعاليمه السماوية لم تكن مؤقتة كما يزعم هؤلاء بلا علم (أأنتم أعلم أم الله).
ثانياً: يقول في إحدى المقابلات معه (المستقبل العربي عدد 45/5): إن التمزق الذي يعيشه عالمنا العربي ليس في الحقيقة فشلاً لمفهوم القومية العربية كبديل عن المجتمع القديم، بل نتيجة لغياب الديمقراطية عن مشروع القومية العربية!!
__________
(1) ... الحوار القومي الديني
(16/9)
والحقيقة أن مأساة الأمة العربية في مشاريع الوحدة الكثيرة ليس لغياب الديمقراطية فحسب بل لكونها لم تتم على الأسس المفروضة المنطلقة من الإسلام ذاته، ولو آمن المتحدون بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة لما حصلت أي خلافات أو تعثر. لكن مشكلة المشاريع الوحدوية أنها قامت لمصالح ومن ورائها ذوو اتجاهات حزبية متناقضة لا يأمن بعضهم جانب بعض فما تلبث إلا أن تسقط بين عشية وضحاها، إن الأمة بحاجة إلى منطلقات إيمانية وإلى معالم شورية وحينها لن يحدث ما يحصل من تشرذم وسقوط، فهل نعي ذلك أم على قلوب أقفالها؟ وليس هناك أكبر دليل على سقوط (القومية) من واقعنا اليوم وكيف أصبحت المفاهيم القومية مصلحية ونفعية ولا تمت للمصالح العليا للأمة بصلة (1) .
__________
(1) ... للمزيد: انظر دراسة د. صالح العبود عن القومية العربية في ضوء الإسلام، ولمعرفة حقيقة الديمقراطية التي دائما ما يطنطن حولها انظر (نقض النظام الديمقراطي) د. محمود الخالدي.
(16/10)
ثالثاً: في حوار ثقافي بين الجابري وحسن حنفي على صفحات مجلة اليوم السابع (225/5) حول ما دعته المجلة (بالتخلي عن منطق الفرقة الناجية) تطرق الجابري إلى حديث (افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وذكر بأن حصر الفرق الضالة كما جاء في الحديث وكما يفعل علماء الشرع وتعيين الطائفة الناجية عمل فيه تحكم وتعسف لا يقبله العقل ولا الشرع مستنداً إلى ما ورد عن رأي لبعض علماء المغرب والأندلس.. والحقيقة أن الحديث صحيح كما أخرجه علماء الحديث قديماً وحديثاً وقد جمع الباحث (سليم الهلالي) طرق الحديث ورواياته وتقويم علماء الجرح والتعديل له وبيان صحته والرد على بعض المعاصرين في طعنهم فيه وتأويل معناه بدون فهم في رسالة له بعنوان (نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق الأمة) وختم الرسالة بست حقائق علمية في فقه الحديث جديرة بالإطلاع أكد فيها على وجود الطائفة المنصورة القائمة على نهج النبي صلى الله عليه وسلم متبعة سنته حتى يأتي أمر الله بالنصر والتأييد، وقد فصل الباحث الهلالي أوصاف هذه الطائفة في كتابه (اللآلئ المنثورة بأوصاف الطائفة المنصورة).
مقالته في الهذرلوجيا:
(16/11)
قلت: إن الهذرلوجيا أعني بها الكلام غير الموزون وغير القائم على أسس علمية وقد طرح الجابري رأيه حيال أزمة الخليج في (مجلة اليوم السابع) حيث يرى أن خلاف العقيدة (العراق) مع (الغنيمة) الكويت وضع عربي متسلسل عن صراع التكوينات العربية والاشتراكية في الستينات مع التقليدية والأمبريالية. انكمشت في الماضي زمن تطاول الاشتراكية ثم تجاسرت على الخروج فكان الصدام الذي جعل البترول الكويتي غنيمة يستحقها العراق نتيجة خوضه الحروب القومية!! فأدى تراكم الديون إلى بحثه عن حقه في الغنيمة.. وأتساءل مع الأستاذ (تركي السديري) (1) في تعليقه على الجابري فيما ذكر: أي أمل لنا في فكر من هذا النوع من الكتاب الذي يتجاهل تشريد شعب بكامله وسطو على حقوق غيره ثم يسمي ذلك بأنه رد فعل طبيعي، متحللاً تماماً من صفته كمفكر ليتحول إلى كاتب إعلامي.
والجابري ينطلق في توهمه هذا على ما بنى عليه كتابه (العقل السياسي العربي) حينما قال: إن القبيلة والغنيمة والعقيدة محدودات ثلاثة حكمت العقل السياسي العربي الماضي وما زالت تحكمه، وبعد أن احتككنا بالحضارة المعاصرة وظهرت الأيدلوجيات النهضوية من سلفية وعلمانية وليبرالية وقومية واشتراكية.. تعرضت تلك المحدودات إلى نوع من القمع والإبعاد فشكلت المكبوت وبعدما تعرضنا له من نكسات واحباطات فتحت الباب على مصراعيه لعودة المكبوت وأن المطلوب هو تجديد مهام الفكر العربي اليوم بتجديد العقل السياسي ويتمثل في رأيه فيما يلي:
1- تحويل القبيلة إلى مجتمع منظم مدنياً وسياسياً واجتماعياً.
2- تحويل الغنيمة إلى اقتصاد (ضريبة) أو اقتصاد منتج .
3- تحويل العقيدة إلى مجرد رأي.. ومن ثم التعامل بعقل اجتهادي ونقدي.
__________
(1) ... الرياض العدد 8224 زاوية لقاء .
(16/12)
والذي يعرفه الجميع أن تلك التحولات الجديدة حصلت في كثير من أنحاء العالم العربي بالفعل، لكن السؤال المهم على أي أساس ينظم المجتمع المنشود. وعلى أي أساس يقوم الاجتهاد النقدي؟! لقد جربت الأمة العديد من المناهج الكثيرة من قومية واشتراكية ورأسمالية وما زالت تدور في حلقة مفرغة ويبقى أن تجرب الإسلام الفعال الإسلام الحق القائم على الشورى. لا الإسلام الانتقالي الذي يريده (الجابري) وأمثاله.. ومما يؤسف له أن الجابري نسي أو تناسى جوابه عن الطريقة المعقولة للوحدة العربية في مقابلة معه في صحيفة القبس الكويتية العدد (5884) الصادر في 29/9/1988م حينما قال: (والوحدة في أية حال لا يمكن أن تتم أو تكون دون ديمقراطية، ودون تراضي الدول العربية المرشحة لأن تتحد إما كمجموعات إقليمية أو كوطن عربي ككل. لا طريق آخر للوحدة العربية إلا طريق التراضي الديمقراطي بين هذه الدول، إلى أن يقول.. وبالتالي ستكون الوحدة عبارة عن مراحل وتعاون متدرج وليس وحدة شاملة من خارج المحيط..) أي دعوى تلك التي زعمها في رأيه بأزمة الخليج وقد قال ما قال وناقض رأيه السابق في الموضوع بلا مبرر معقول؟
حقاً إن الجابري لم يقدم إضافة مفيدة ولكنه خسر نفسه كمفكر) انتهى كلام الأستاذ أحمد أبو عامر –وفقه الله-.
وقال الأستاذ عبد العزيز الوهيبي في مقال له بعنوان (قراءة في فكر الدكتور محمد عابد الجابري) نشره في مجلة البيان (العدد 71) : (هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض.. عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته، ومفاهيمه، وتصوراته ورؤآه ... ؟ !
ثم لماذا لم تتطور أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رؤى..) في الثقافة العربية (الإسلامية) خلال نهضتها في (القرون الوسطى) إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم، على غرار ما حدث في أوربا ابتداءً من القرن الخامس عشر (الميلادي)؟!
(16/13)
تلك هي الإشكالية التي شغلت ذهن المفكر المغربي د/ محمد عابد الجابري، ودفعته إلى إصدار دراساته المتنوعة حول كثير من قضايا الفكر الإسلامي التي منها : (نحن والتراث) صدر عام 1980هـ و(الخطاب العربي المعاصر) صدر عام 1982م و(نقد العقل العربي) الذي بدأ صدور أجزائه عام 1986م. ولعل أهم هذه الدراسات وأكثرها ثراءً: الدراسة الأخيرة التي جاءت في ثلاثة أجزاء، كان الأول منها عن (تكوين العقل العربي)، والجزء الثاني عن (بنية العقل العربي) والجزء الثالث عن (العقل السياسي) .
والجزء الأول والثاني، أكثر أهمية في نظري من الجزء الثالث الذي درس نشأة الدولة في الإسلام، وتطورها ... وحاول المؤلف فيه إبراز ما أسماه المحددات التي بقيت تحكم هذه الدولة في مختلف مراحل سيرتها الطويلة، هذه المحددات حصرها المؤلف من وجهة نظره في ثلاثة جوانب لا تتجاوزها وهي: العقيدة، والقبيلة، والغنيمة ... وأحسب أنه لا يزال في هذا الموضوع العقل السياسي زيادة لمستزيد ولم يكن تناول المؤلف لهذا الموضوع كافياً ولا شافياً.
لاحظ الجابري، عندما درس (بينة العقل العربي) أن التصنيف الشائع القديم للعلوم الإسلامية بتقسيمها إلى علوم نقلية وأخرى عقلية، أو علوم دين وعلوم لغة، أو علوم العرب وعلوم العجم، لاحظ أن هذه التصنيفات لا تقوم إلا على اعتبار المظاهر الخارجية وحدها، والتي تذكرنا بالتصنيف القديم للحيوانات حسب مظاهرها الخارجية وحدها: إلى حيوانات برية ومائية وبرمائية، لكننا بحاجة إلى تصنيف جديد للعلوم الإسلامية كما ظهر التصنيف الجديد للحيوانات إلى فقريات ولا فقريات؛ الأمر الذي فتح أمام علم البيولوجيا آفاقاً جديدة خصبة وعميقة.
(16/14)
لقد كان عمل الجابري في هذا البحث (نقد العقل العربي) محاولة للكشف عن هذا التصنيف الجديد، محاولة لدراسة البنية الداخلية للفكر الإسلامي، وإعادة التصنيف على أساس لا يؤخذ فيه بعين الاعتبار سوى البنية الداخلية للمعرفة: آلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية.
من هذا المنطلق جاء التقسيم الجديد عند المؤلف للعلوم الإسلامية وتيارات التفكير الإسلامي إلى ثلاثة علوم أساسية هي:
- علوم البيان: وتشمل الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلوم اللغة.
- علوم البرهان: وتشمل الفلسفة وخصوصاً فلسفة أرسطو !
- علوم العرفان: وتشمل التشيع والتصوف والفلسفة الإشراقية.
كان الإمام الشافعي هو المؤسس للمنهج في العلوم البيانية وكتابه (الرسالة) يعتبر (قواعد المنهج) للفكر الإسلامي، كما وضع ديكارت (قواعد المنهج) للفكر الفرنسي والأوروبي الحديث، وقد لخص رحمه الله تلك القواعد بقوله: (ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الخبر في الكتاب أو السنة، أو الإجماع، أو القياس (الرسالة: 39) فجهة العلم بناء على هذا النص محصورة في أحد سبيلين: النص (من كتاب أو سنة أو إجماع) أو القياس (الذي هو إلحاق فرع بأصل لاتحادهما في العلة) فقياس التمثيل إذن هو الآلية المفضلة عند الفقهاء، وهو الأسلوب الذي يحكم منهجهم في التفكير.. وعن الفقهاء انتقل المنهج إلى المتكلمين وعلوم النحو والبلاغة مُشكّلاً بذلك مدرسة البيانيين.
(16/15)
أما علوم العرفان وهي العلوم التي يقدم فيها العقل استقالته فتبدأ مع بداية الترجمة، عندما أمر خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ) بترجمة كتب الكيمياء، والتنجيم، وكتب الطب اليونانية والقبطية، تلك الكتب التي تقدم رؤية هرمسية غنوصية للكون والإنسان، ثم كان لجابر دور في نشر هذه النظرة الهرمسية، وشاركه في مثل هذا الدور الطبيب الرازي، أما في المجال العقائدي فقد كان الشيعة أول من تهرمس في الإسلام، ولم تسلم الجهمية هي الأخرى من هذا التلوث وكذا الصوفية، ثم جاء بعد ذلك دور التيارات الباطنية ممثلة في إخوان الصفا وفلسفة ابن سيناء، التي تزعمت التيارات الباطنية الإشراقية، ثم غدت بعد ذلك طابعاً عاماً لكثير من التيارات المنحرفة التي كان مدار التفكير فيها والمنهج المفضل للوصول إلى المعرفة قائماً على أساس الكشف والعرفان والإشراق الذوقي الباطني، وبخلاف كثير من الباحثين يرى المؤلف أن هذا الاتجاه لم يكن رد فعل ضد تشدد الفقهاء، ولا ضد جفاف الاتجاه العقلي عند المتكلمين، كلا، لقد ظهر هذا النظام قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء، ونظريات المتكلمين إلى ما يستوجب قيام رد فعل من هذا القبيل، لقد كان هذا التيار نتيجة لمحاولة عناصر معادية للفكر الإسلامي وللدولة الإسلامية قادته عناصر من الزنادقة وأتباع الديانات الوثنية؛ من أجل تقويض البناء الفكري والسياسي للدولة الإسلامية.
(16/16)
هذا عن البيان والعرفان ... أما عن البرهان فيذكر المؤلف تبعاً لما يراه المستشرق كارل بروكلمان أن المأمون (198-218هـ) إنما أمر بترجمة الفلسفة اليونانية لمواجهة العرفان المانوي الغنوصي الذي اعتمده الشيعة والزنادقة لمواجهة الدولة الإسلامية، لقد كان الكندي (185-252هـ) هو أول فيلسوف عربي حيث أكد على أن المعرفة إنما تكون حسية أو عقلية أو إلهية أداتها الرسل المبلغة عن الله، وهو بذلك يرفض العرفان الشيعي الصوفي، ثم جاء بعده الفارابي (260-339هـ) الذي حاول (الجمع بين الحكيمين)، أرسطو وأفلاطون محاولاً (التوفيق) بين تيارات الفلسفة اليونانية المختلفة، متوصلاً بذلك إلى أن العرفان إنما هو ثمرة للبرهان.
لقد بقيت مدرسة بغداد كما يرى المؤلف من المأمون وحتى الخليفة القادر (381-422هـ) مركزاً علمياً مخلصاً لاستراتيجية المأمون الثقافية القائمة على الارتكاز على أرسطو ومنطقه وعلومه في الحرب ضد الإسماعيلية العرفانية الهرمسية، ثم تسلم بعد ذلك ابن رشد الراية عنهم، وهو المفكر الذي احتفظ بصورة فلسفة أرسطو نقية كما جاءت عنه، رافضاً إضافات الفارابي وابن سينا إلى هذه الفلسفة. هكذا تشكلت الدوائر الثلاث البيانية والعرفانية والبرهانية في الفكر الإسلامي، لكنها لم تدم مستقلة بعضها عن بعض طوال الوقت، لقد حصل تدريجياً تداخل بين هذه التيارات ... فلقد حاول ابن سينا تأسيس (العرفان) على (البرهان)، وذلك بالبحث في الفلسفة عن أسانيد للرؤية الهرمسية للكون والإنسان وعلاقتهما بالإله.
كما حاول الغزالي تأسيس (البيان) على (العرفان)، وذلك بالتشكيك في كل قيمة للمعرفة الحسية والتجريبية والعقلية، متوصلاً بذلك إلى تفضيل طريقة (الكشف) والإلهام باعتبارها طريق اليقين الوحيد.
(16/17)
بينما حاول ابن حزم تأسيس (البيان) على (البرهان) وذلك برفض قياس الفقهاء التمثيلي، ومحاولة اعتقاد البرهان المنطقي الأرسطي المبني على مقدمتين ينتج عنهما نتيجة ضرورية يقينية، وتابعه على ذلك الشاطبي بعض المتابعة في محاولته لتأسيس فقه المقاصد.
أما ابن رشد، فقد سن محاولات الخلط بين هذه الحقول، ورأى أن الشريعة صنو الحكمة وأختها الرضيعة، وأن لا سبيل للبرهنة من أحدهما على الأخرى.. وهي نتيجة توصل إليها أبو سليمان المنطقي من قبل، لكن كان لابن رشد فضل بلورتها وتوضيحها.
المؤسف كما يرى الجابري أن محاولة ابن رشد جاءت متأخرة فلم تلق أذناً صاغية ممن جاء بعده من المفكرين، بل كان النصر (للعقل المستقيل) في الحركة الصوفية والشيعية، كما كان النصر حليفاً لاختلاط الأنهر عند المتكلمين الذي ظهر بظهور الرازي حيث قام تلميذه (الإيجي) بعد ذلك بوضع الصورة النهائية لعلم الكلام في كتابه (المواقف) حيث يختلط فيه (البيان) بـ(البرهان) بـ(العرفان) وبذلك ظهرت أزمة الأسس في الفكر الإسلامي، وتشقي الحقيقة ثم ساد بعد ذلك الجمود والتقليد، وتحريم الاجتهاد والنظر العقلي.
هذا عرض سريع لموضوع كتابي (بنية العقل العربي) و(تكوين العقل العربي) نأتي بعده إلى سؤال مهم: تُرى ما هي المدرسة التي يتبناها الجابري بين هذه المدارس المختلفة، والتي يبشر بها ويدعو إليها؟! ثم ما هو المقياس الذي اعتمده في قبول أو رفض هذه التيارات، وما هي الخلفيات الفكرية والاعتقادية التي كانت تحكم نظرته نحو مختلف المدارس الفكرية ... ؟!
(16/18)
قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة، لابد من الإشارة إلى ظاهرة لا تخفى على القارئ لمختلف الإصدارات التي كتبها الجابري؛ ألا وهي رغبته الدائمة في عدم الكشف عن توجهاته الفكرية بشكل سافر.. اتضح هذا جلياً في حواره مع (حسن حنفي) في كتاب (حوار المشرق والمغرب) حيث سود صفحات في بيان رغبة القراء في كشف القناع عن الخلفيات الأيديولوجية التي تحكم من يقرؤون له، ومع ذلك فلم يحدد توجهاته بوضوح..!!
الذي يظهر لي أن حرص الكاتب على عدم إظهار توجهه الفكري يرجع إلى أحد سببين هما:
- إما أنه لا يزال في مرحلة التأمل والبحث والنظر، فلم يحدد بعد توجهاته الفكرية.
- أو أن الباحث يرغب في نشر إنتاجه الفكري بين مختلف الأوساط دون عوائق تصنيفية تلحق به الضرر عند من لا يوافق على توجهه الفكري.
على أي حال، فإنه يمكن من خلال التتبع لمختلف دراساته تبين خطوط رئيسية في خياراته الفكرية نشير إلى شيء منها هاهنا :
بادئ ذي بدء، لا يخفي الكاتب انحيازه للعقلانية حيث يقول:
(نحن نصدر عن موقف نقدي ينشد التغيير، من التحرك من موقع أيديولوجي واعٍ، أي لابد من الصدور عن موقف تاريخاني؟ ، موقف يطمح ليس فقط في اكتساب معرفة صحيحة بما كان، بل أيضاً إلى المساهمة في صنع ما يتبقى أن يكون، وهو بالنسبة للمجال الذي نتحرك فيه: الدفع بالفكر العربي في اتجاه العقلنة، اتجاه تصفية الحساب مع ركام –ولا نقول رواسب- اللامعقول في بنيته.
(تكوين العقل العربي: 52).. (لأن موضوعنا هو العقل، ولأن قضيتنا التي ننحاز لها هي العقلانية) (التكوين: ص7).
تبني العقلانية، والدفاع عنها، والتنويه برموزها كان هدف الجابري الذي لا يخفيه في عامة دراساته التي أصدرها.. لكن العقلانية بأي معنى ... ؟!
(16/19)
إنه لا يوجد صراحة من يعلن الحرب على العقل والعقلانية (1) لكن الاختلاف يظهر عندما يتحدد المقصود بالعقلانية.. فما هي يا ترى العقلانية التي يدعو إليها الباحث، وينافح عنها..؟ من خلال الرموز الذين دافع عنهم الجابري يمكن تلمس ملامح تلك العقلانية، وسماتها الأساسية.
لقد عرض الباحث فكر أرسطو في (بنية العقل العربي) (ص 384) دون أن يتحفظ على شيء مما جاء فيه، كما اعتبر الفارابي الذي يسمى (المعلم الثاني) اعتبره هو الذي أعاد تأسيس العقلانية في الإسلام، نظراً لكونه أول من درس المنطق الصوري كاملاً، وقد تغافل الباحث عن الجوانب الغنوصية في فكره ولم يعطها وزنها الذي تستحقه، نظراً لأنه كما يقول جعل (العرفان) ينتج عن (البرهان)، كما تبنى هجوم ابن حزم على القياس باعتباره منهجاً في البحث لا يفضي إلى اليقين، واعتبر المنهجية الظاهرية الحزمية في الأصول أمتن من منهجية البيانيين وأقوم، وكذا أعجب بمنهجية الشاطبي في الموافقات، حيث بنى الأصول على المقاصد التي تعرف باستقراء أدلة الشرع..
__________
(1) ... مما يؤسف له حقاً أن من بين المتمسكين بالنص في الإسلام من يتصور أن الإسلام ضد العقلانية، وأن مقتضى الوفاء للنص يعني الحرب والعداء للعقل، ولذلك يصفون المخالفين لهم (بالعقلانيين). وهذا خطأ مركب، فعلماء السلف لم يكونوا يسمون أهل البدع إلا بأهل "الأهواء" لا أهل العقول، ولم يكونوا يحاربون العقل أبداً، كيف والله تعالى يبين في كتابه الكريم أن هلاك الهالكين إنما كان بسبب ترك النص والعقل (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)، وهذه العجالة لا تكفي لتوفية هذا الموضوع حقه.
(16/20)
لكن الشخصية الإسلامية التي تحتل قيمة لا منازع لها عند الجابري هي شخصية ابن رشد.. إن الخطاب الرشدي يبنى كله على النظر إلى الدين والفلسفة كبناءين مستقلين، يجب أن يبحث عن الصدق فيهما داخل كل منهما وليس خارجه، والصدق المطلوب هو صدق الاستدلال، وليس صدق المقدمات، ذلك أن المقدمات في الدين كما في الفلسفة، أصول موضوعة يجب التسليم بها دون برهان: فإذا كانت الصنائع البرهانية، في مبادئها المصادرات والأصول الموضوعة، فكم بالحري أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل. (تهافت التهافت 2/869)، ولذلك (فإن الحكماء من الفلاسفة لا يجوز عندهم التكلم ولا الجدال في مبادئ الشرائع، وذلك أنه لما كانت لكل صناعة مبادئ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم لمبادئها، ولا يتعرض لها بنفي ولا إبطال؛ كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك..) (التهافت 2/791).
علام تدل هذه الكلمات؟! اعتبار الشريعة نسقاً مغلقاً لا يمكن الاستدلال عليه من خارجه؛ ألا يعني هذا أن الدين تسليم دون استدلال؟! وإذا صح هذا فكيف يمكن التمييز بين الدين الصحيح والزائف؟! ألا تحمل هذه الكلمات بذوراً علمانية خطيرة؟!
-يعلق الجابري على منهج ابن رشد بقوله: (كانت الرشدية قادرة على طرق آفاق جديدة تماماً، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن في أوروبا حيث انتقلت وليس في العالم العربي حيث اختنقت في مهدها، ولم يتردد لصيحتها الأولى صيحة الميلاد أي صدى إلى اليوم..) (بنية العقل العربي: ص323) أي صدى تردد في أوروبا، إنه الصدى الذي تبنى العلمانية منهاجاً، وجعل من الدين مواضعات اجتماعية وأخلاقية خاصة، فمن تبنى العلمانية منهاجاً وجعل من الدين مواضعات اجتماعية وأخلاقية خاصة، فمن شاء أن يلتزم بها فله ذلك ومن لم يشأ فلا جناح عليه !! أما أن يتدخل الدين في صياغة المنهج السياسي أو الاقتصادي، أو العلاقات الخارجية، فكلا، ليس ذلك للدين وإنما هو للعقل البشري المجرد..!!
(16/21)
هل يريد الجابري هذه النتيجة..؟! من العدل أن نقول إنه لم يصرح بهذا في هذه الكتب ... لكن القارئ بسوء نية يمكنه أن يفهم ذلك..
ملاحظات ومراجعات:
رغم الجهد الضخم الذي بذله الجابري في إعداد هذا المشروع الفكري مستفيداً في ذلك ممن سبقه من الباحثين، مسلمين كانوا أو مستشرقين أو ماركسيين.. الخ؛ فإن المرء لا يسعه إلا أن يتبنى موقفاً مغايراً لما تبناه المؤلف في كثير من المواضع في تلك الكتابات، نقف في هذا العرض عند بعض منها:
من الملفت للنظر في هذا المشروع النقدي، أنه في غمرة حماسته للفلسفة الأرسطية، قد غض الطرف عن النقد الجوهري المتين الموجه قديماً وحديثاً لهذه الفلسفة، سواء أكان ذلك في المنطق الذي يحكمها أو في النتائج والرؤية التي تنتج عنها، حتى أن العلم الحديث لم يتمكن من تحقيق فتوحاته العظيمة حتى تحرر من أسرها، والمؤلف خبير بالمنهج العلمي الحديث في البحث والتفكير، حيث وضع فيه كتاباً في جزأين تحت عنوان (فلسفة العلوم)، ظهر له من خلالهما البون الشاسع بين التفكير العلمي الحديث والمنهج الأرسطي القاصر فلماذا يا تُرى جعل الباحث المنهج الأرسطي معياراً للحكم على فكر هذا العالم أو ذاك بالتقدم أو التخلف، بالعقلانية أو عدمها؟!
حقيقة.. لا يظهر لي سبب واضح وراء هذه الحماسة والاندفاع.
-رغم أن الجابري لم يبد عداءً نحو منهج البيانيين (فقهاء وأصوليين ولغويين) فهو في ذات الوقت لم يحدد موقفاً واضحاً من القضايا التي أثاروها ولم يبد انحيازاً مع تلك الطروحات أو ضدها، وهو موقف غريب غير مبرر. ومن المسائل ذات الدلالة في هذا الموضوع أن ابن تيمية رغم مساهمته الثرية والعميقة في كل القضايا التي أثارها المؤلف في كتاباته، لم يلق أي اهتمام يستحق الذكر مقارنة بغيره من الشخصيات التي برزت في علم الأصول أو علم الكلام أو الفلسفة ... الخ.
(16/22)
ورغم عدم تحيزنا للأشخاص، فإنه يمكن اعتبار هذه الظاهرة ذات دلالة لا تخفى، حيث أن ابن تيمية يشكل ربما الصورة الأخرى لابن رشد ... فرغم إطلاعه الواسع على الفلسفة بمختلف تياراتها، ودخوله في جدل عميق مع مختلف طروحاتها، إلا أنه ظل على إيمان عميق لا يتزعزع بأن العقل لا يعارض النقل ولا يُضادّه، وأن أكمل مناهج التفكير العقلي، إنما هي تلك التي دعى إليها النقل وحث عليها.
فهو بخلاف ابن رشد يؤمن بأن مبادئ الشرائع يمكن فحصها والاستدلال لها بالعقل، كما أن مقدمات الفلسفة هي الأخرى تخضع للفحص العقلي والنقلي؛ وذلك هو الموقف العلمي الصحيح، وإلا كيف لمسلم أن يتورط بالقول بأزلية العالم؟، وذلك مخالف لمسلمة قطعية من مسلمات الدين وهي الاعتقاد بأن هذا العالم مخلوق بعد أن لم يكن؟!
كيف لمفكر يحترم نفسه أن يسلم بالرؤية الفلكية الأرسطية، ويبقى في ذات الوقت محترماً للنص الشرعي مؤمناً بما فيه، بحجة أن هذه مقدمة فلسفية وتلك مقدمة كلامية شرعية؟!
أليس في ذلك تغييباً مقصوداً للوعي؟! وعودة لا تخفى إلى التناقض؟!
-أشار المؤلف إلى أن منهجية البيانيين المفضلة هي الاستدلال بالشاهد على الغائب، وهي دعوى غير مسلم بها، فلقد كان للأصوليين المتقدميين كلام في الاستحسان، والمصالح، والاستقراء، والاستنباط، وهي طرائق في الفهم والاستدلال مغايرة لقياس الشاهد على الغائب.
كما أن للعلماء المسلمين في مجال العلوم الطبيعية، منهجياً تجريبياً متقدماً حتى أن المسلمين يعتبرون بحق وبشهادة الباحثين الغربيين أنفسهم سباقين إلى اكتشاف المنهج التجريبي، وعنهم أخذته أوروبا في عصر النهضة، وهي قضية لم يعطها الكاتب حقها من الاهتمام والتقدير الكافيين.
(16/23)
هذه مسألة ... . والمسألة الأخرى في هذا الصدد حول قيمة المنهج في الوصول إلى الحقيقة ... إن التقدم العلمي الهائل الذي تشهده العلوم التجريبية المعاصرة، ليس في الحقيقة ناتجاً عن تقدم المنهج إطلاقاً ... إنما هو في الواقع ناتج عن الإمكانات الهائلة التي أودعها الله في هذا الكون ... إنها عظمة الله تتبدى في عظمة خلقه، وليس ذلك ناجماً عن عظمة المناهج البشرية. إن العلم يكشف الطبيعة (الخلق) وقوانينها (السنن) ولا يخلقها من عدم ... بل إن لبعض علماء الفيزياء المرموقين المعاصرين وهو بول ديفيس البريطاني كتاباً سماه "ضد الطريقة Against Method" يذكر فيه أن المنهج لم يكن في يوم من الأيام رائداً للبحث العلمي، بل كان دوماً متخلفاً وتابعاً للبحث العلمي!!
فالدور الضخم الذي يعطيه الجابري للمنهج يحتاج إلى مراجعة وتدقيق.
-في حديث المؤلف عن مرحلة التدوين في العصر العباسي، أشار إلى ما كتبه ابن المقفع في رسالته التي سماها "رسالة الصحابة" حيث يرى فيها كما يرى محمد أركون إنها ذات نفس علماني واضح ... ! وحجتهم الوحيدة على ذلك: هو أنه لم يستشهد في هذه الرسالة بالقرآن، ولا بالحديث ولا بأي عنصر آخر من الموروث الإسلامي ... ! والحقيقة أن القارئ لهذه الرسالة لا يجد ذلك النفس العلماني المزعوم، وإنما غرض ابن المقفع الدعوة لتنظيم الدولة، وتوحيد القضاء، منعاً للاختلاط والاضطراب، وذلك باستخدام سلطة الخليفة دون أي دعوة ظاهرة أو خفية إلى تنحية الشريعة، أو تقديم بديل عنها، وهو مطلب لا يوجد أي غبار عليه، ولا يعتبر مطعناً في صاحبه!
(16/24)
-يركز الجابري في دراساته المختلفة على البعد العربي لمناهج التفكير والمدارس التي يحلل إنتاجها، وهو بعد ليس له مبرر، ذلك أن هذا التراث شاركت في بنائه وتكوينه عقول مختلفة من شتى الشعوب الإسلامية، ولم ينفرد العرب في تكوينه ولا تدوينه، وإنما هو ثمرة لتضافر جهود آلاف من الباحثين المسلمين في شتى التخصصات، فلعل الكاتب خشي من سوء الفهم عند نقد العقل المسلم، إذ يفهم بعضهم ذلك بأنه نقد "للمنهج الإسلامي" وليس لمناهج "المفكرين المسلمين" والفرق بعيد بين الأمرين.
ورغم وجاهة هذا الاحتمال، فإنه لا يكفي مبرراً لإضفاء صفة "قومية" على التراث الإسلامي، ويمكن تلافي مثل هذه المخاطر بالتنبيه عليها في مطلع أو خاتمة مثل هذه الدراسة .
-وأخيراً ... رغم النجاح الواضح الذي حالف المؤلف في تعرية تيارات الغنوص، والعرفان الرافضي والباطني والفلسفي والصوفي، وكذلك في الكشف عن مناطق الضعف والخلل عند بعض التيارات الأخرى، إلا أنه في ذات الوقت لم يبلور للقارئ الملامح النهائية للمشروع النهضوي المنشود الذي تتبناه هذه الدراسة وتدعو إليه ... فظاهر أن المؤلف لا يقف موقف الموتور المعادي للموروث الإسلامي، لكنه في ذات الوقت لم يبشر به، ويعتبره المخرج مما نعانيه من أزمة على شتى الصُعُد.
-إن الحلول التي قدمها المؤلف في نهاية كتابه عن العقل السياسي وهي:
1- تحويل القبيلة إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي: لأحزاب أو نقابات..الخ، وفتح الباب لقيام مجال سياسي حقيقي، تمارس فيه السياسة ويصل بين سلطة الحاكم وامتثال المحكوم.
2- تحويل الغنيمة إلى اقتصاد ضريبة في إطار اقتصادي إقليمي جهدي وفي إطار سوق عربية مشتركة تفسح المجال لقيام وحدة اقتصادية عربية تنموية.
(16/25)
3- تحويل العقيدة إلى مجال يسمح بحرية التفكير وحق الاختلاف والتحرر من سلطة الجماعة المغلقة والتحرر من سلطة عقل الطائفة والتعامل مع عقل اجتهادي نقدي" (العقل السياسي: ص37) هذه الحلول لا تمثل برنامجاً كافياً مبلوراً للخروج من أزمة التخلف والتبعية والتشرذم ... ولذلك فإنني أدعو الباحث وغيره من الجادين في الرغبة بنهوض هذه الأمة، ومحاولة استئناف مسيرتها القيادية لذاتها وللناس أدعوهم إلى مراجعة موقفهم من الحل الإسلامي، واتخاذ موقف أكثر علمية من الموقف الهلامي الذي يتخذه كثير منهم.. لابد لهم لكي يكونوا واقعيين مع أنفسهم أن ينحازوا للخيار الذي لا تقبل الأمة عنه بديلاً ... ألا وهو رفع شعار الحل الإسلامي، والتبشير به والدعوة إليه والسير الحثيث والفعلي لإنجازه ... (عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) (المائدة:25) ... (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) (البقرة:138) ... (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس) (الحج:78) والحمد لله رب العالمين). انتهى كلام الأستاذ عبد العزيز الوهيبي –وفقه الله-.
(16/26)
وقال الدكتور مفرح بن سليمان القوسي في رسالته (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية) (2/561-569): (الدكتور محمد عابد الجابري : الذي قدم في كتبه ما يمكن أن يُسمى مشروعاً تحديثياً لتجديد الشريعة كي تبدو موافقة للتطور وموائمة لظروف العصر، والتجديد الذي يدعو إليه ليس هو التجديد بمفهومه السلفي الضيق –على حد تعبيره- بل تجديد بمفهوم عصري واسع يقوم على العقل وحده، فنراه يقول: "والتجديد بالنسبة للرؤية الإسلامية جزء من الحياة نفسها بدليل الحديث النبوي المشهور (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وبما أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا، بل بالعكس من ذلك يربط صلاح أمور الدين بصلاح أمور الدنيا، فإن تجديد أمور الدين يعني في ذات الوقت تجديد أمور الدنيا. وبما أن أمور الدنيا تتغير من زمان إلى آخر، فإن مفهوم التجديد ومتطلباته لابد أن يتغير حسب الظروف والأعصار. وهكذا فإذا كان بعض الفقهاء القدامى قد فسروا "التجديد" على أنه كسر للبدعة والعودة بالمسلمين إلى سيرة السلف الصالح، فينبغي ألا نقف عند حدود هذا المعنى تقليداً لهم وتقيداً بالتعريف الذي أعطوه للبدعة، والذي استمدوه من ظروف عصرهم ومعطيات واقعهم" (1) .
__________
(1) ... وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر ص40-41، ط الثانية 1994م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت –لبنان. وانظر: التراث والحداثة ص 10-11، ط الأولى 1991م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت –لبنان.
ويقول كذلك محدداً (التجديد) الذي يحتاج إليه المسلمون اليوم:"والحق أن ما يحتاج إليه المسلمون اليوم هو "التجديد" وليس مجرد "الصحوة"، إن التحديات التي تواجه العالم العربي والعالم الإسلامي تتطلب ليس فقط رد الفعل بل الفعل، والفعل في العصر الحاضر هو أولاً وأخيراً فعل العقل ... لأن العصر يقوم كل شيء فيه على الفعل العقلاني" (1) .
(16/27)
ويتمثل المشروع التحديثي الذي قدّمه الجابري لتجديد الشريعة فيما يلي:
__________
(1) ... وجهة نظر ص 40.
أولاً: إعادة تأصيل الأصول ولا سيما أصول الفقه، وإعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة، وفي هذا يقول: "إن المطلوب اليوم هو إعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة انطلاقاً من مقدمات جديدة ومقاصد معاصرة، وبعبارة أخرى: المطلوب اليوم تجديد ينطلق لا من مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع، بل من إعادة تأصيل الأصول؛ من إعادة بنائها" (1) ، ويقول أيضاً: "إنما نريد أن يتجه تفكير المجتهدين الراغبين في التجديد حقاً والشاعرين بضرورته فعلاً إلى القواعد الأصولية نفسها، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجية جديدة تواكب التطور الحاصل، سواء على صعيد المناهج وطرق التفكير والاستدلال أو على صعيد الحياة الاجتماعية والمعاملات الجارية فيها التي تفرضها مستجدات العصر وضروراته وحاجاته. إن القواعد الأصولية التي ينبني عليها الفقه الإسلامي لحد الآن ترجع إلى عصر التدوين (العصر العباسي الأول)، وكثير منها يرجع إلى ما بعده. أما قبل عصر التدوين هذا فلم تكن هناك قواعد مرسمة تؤطر التفكير الاجتهادي بمثل ما حدث بعد، والفقهاء الذين وضعوا تلك القواعد قد صدروا في عملهم الاجتهادي ذاك عن النظام المعرفي السائد في عصرهم، وعن الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسها في ذلك العصر، وبما أن عصرنا يختلف اختلافاً جذرياً عن عصر التدوين ذاك، سواء على مستوى المناهج أو المصالح، فإنه من الضروري مراعاة هذا الاختلاف والعمل على الاستجابة لما يطرحه ويفرضه" (2) ،
__________
(1) ... المرجع السابق ص 57. وانظر : التراث والحداثة ص 10-11.
(2) ... وجهة نظر ص 63..
(16/28)
ويقول كذلك: "إننا نريد أن نؤكد في هذا السياق أن الدعوة إلى تحقيق الأصالة والمعاصرة، وهي دعوة ما فتئت تتردد على ألسنتنا وفي كتاباتنا منذ أكثر من قرن ودون جدوى ستبقى مجرد دعوة تتقاذفها أمواج التغير والتبدل الذي يفرض نفسه على الحياة المعاصرة ما لم ترتفع تلك الدعوة إلى المستوى الذي يجعل منها دعوة إلى التكيف الواعي مع المستجدات قصد السيطرة عليها ارتكازاً على تأصيل جديد للأصول" (1) .
ويقول كذلك مبرراً دعوته إلى تغيير أصول الفقه :"القواعد الأصولية هذه ليست ما نص عليه الشرع لا الكتاب ولا السنة، إنها من وضع الأصوليين، إنها قواعد للتفكير، قواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل" (2) .
ومن القواعد الأصولية التي يريد الجابري تغييرها كي تبدو الشريعة مواكبة للعصر ومسايرة للتطور ما قرره معظم الفقهاء من دوران الحكم الشرعي مع علته في عملية الاجتهاد، ومعلوم أن العلة وصف منضبط في الشيء الذي صدر فيه الحكم؛ وبهذا الوصف يُعرف وجود الحكم فإذا وجد وُجد الحكم. ويريد الجابري تغيير ذلك بأن يكون دوران الحكم الشرعي مع الحكمة والمصلحة لا مع العلة، فإذا وُجدت الحكمة والمصلحة وُجد الحكم، وإذا عُدمت أُلغي الحكم، ويضرب لذلك مثالاً وهو : الحكم بإباحة الفوائد المترتبة على بعض المعاملات المالية التي هي نوع من شهادات الاستثمار وسندات البنوك وذلك لعدم وجود الاستغلال في هذا النوع من المعاملات، ويقول: "ومعلوم أن منع الاستغلال هو الحكمة من تحريم الربا" (3) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 66.
(2) ... المرجع السابق ص 62.
(3) ... المرجع السابق ص 61.
(16/29)
ويحتج الجابري على ما ذهب إليه من ضرورة أن يكون دوران الحكم مع الحكمة والمصلحة لا مع العلة بقوله: "وإذا كان عمر بن الخطاب قد عمل باجتهاده واجتهاد الصحابة الذي استشارهم في مسألة فيها نص، فوضع الخراج عن الأراضي المفتوحة عنوة بدل تقسيمها بين المقاتلين مراعياً في ذلك المصلحة؛ مصلحة الحاضر والمستقبل، وإذا كان قد عدل عن قسمة الغنائم بالسوية كما كان يفعل النبي وأبو بكر، وارتأى أن "العدل" يقتضي قسمتها على أساس السبق في الإسلام والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا كان عمر بن الخطاب –المشرع الأول في الإسلام بعد الكتاب والسنة- قد اعتبر المصلحة ومقاصد الشرع فوضعهما فوق كل اعتبار فلماذا لا يقتدي المجتهدون والمجددون اليوم بهذا النوع من الاجتهاد والتفكير بدل الاقتداء بفقهاء عصر التدوين والترسيم؟ لماذا نضيق على أنفسنا ونسجن اجتهادنا في قواعد كانت تفي بالمصلحة والمقاصد قليلاً أو كثيراً في زمان إذا لم تعد تفي بنفس الغرض اليوم على أكمل وجه، والحال أنها قواعد مبنية على ظن المجتهد، وليس فيها شيء من القطع واليقين باعتراف أصحابها أنفسهم؟. أما دوران الأحكام مع المصالح فشيء يفرض نفسه ما دمنا نقرر أن المصلحة هي الأصل في التشريع، وأعتقد أن هذا المبدأ هو الذي صدر عنه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، وإذن فالاجتهاد يجب أن يكون لا في قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله بل في نزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم الدوران، والعمل من أجل الارتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تتحدد من منظور الخلقية الإسلامية، إنه بدون هذا النوع من التجديد سيبقى كل اجتهاد في إطار القواعد الأصولية القديمة اجتهاد تقليد وليس اجتهاد تجديد حتى ولو أُتي بفتاوى جديدة" (1) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 63 – 64.
(16/30)
ثانياً: تأسيس معقولية الأحكام الشرعية، وذلك باتخاذ المقاصد والمصالح أساساً للتشريع، وربط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها، وفي هذا يقول الجابري: "عملية تأسيس معقولية الأحكام هي العملية التي بدونها لا يمكن تطبيق الشريعة على المستجدات، ولا على الظروف والأحوال المختلفة المتباينة، ولما كان مقصد الشارع الأول والأخير هو مصلحة الناس (فالله غني عن العالمين) (1) ، فإن اعتبار المصلحة هو الذي يؤسس معقولية الأحكام الشرعية، وبالتالي فهو أصل الأصول كلها، وواضح أن هذه الطريقة تتحرك في دائرة واسعة لا حدود لها؛ دائرة المصلحة وبالتالي فهي تجعل الاجتهاد ممكناً ولدى كل حالة" (2) .
__________
(1) ... لعله يقصد هنا الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) آل عمران 97.
(2) ... المرجع السابق ص 58.
ويقول أيضاً داعياً إلى ربط الأحكام بأسباب نزولها كي تبدو الشريعة أكثر طواعية وأشد مسايرة لظروف العصر وأحواله المتغيرة: "لا سبيل إلا باعتبار المقاصد والمصالح أساساً للتشريع، ذلك لأنه في هذه الحالة يتجه المجتهد بتفكيره لا إلى اللفظ (الحقيقة، المجاز، الاستعارة، الخصوص، العموم)، بل إلى (أسباب النزول)، وهذا باب عظيم واسع يفتح المجال لإضفاء المعقولية على الأحكام بصورة تجعل الاجتهاد في تطبيقها وتنويع التطبيق باختلاف الأحوال وتغير الأوضاع أمراً ميسوراً" (1) ، ويقول :"بناء معقولية الحكم الشرعي على (أسباب النزول) في إطار اعتبار المصلحة يُفسح المجال لبناء معقوليات أخرى عندما يتعلق الأمر بـ(أسباب نزول) أخرى، أي بوضعيات جديدة، وبذلك تتجدد الحياة في الفقه، وتتجدد الروح في الاجتهاد، وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان" (2) ،
__________
(1) ... المرجع السابق ص 59. وانظر: التراث والحداثة ص 10-11.
(2) ... وجهة نظر ص 61..
(16/31)
ويضرب الجابري لذلك مثالاً وهو: ضرورة ربط عقوبة القطع في السرقة في الشريعة الإسلامية بأسباب نزولها؛ وهي: ما كان عليه العرب قبل الإسلام وزمن البعثة النبوية من حيث إقامتهم في مجتمع بدوي صحراوي، واعتمادهم على التنقل والترحال طلباً للكلأ مما يلزم معه قطع يد السارق، وأما في وقتنا الحاضر وقت التطور العمراني والصناعي فقطع يد السارق غير ملائم لردعه عن تكرار السرقة، بل الملائم هو السجن بدل القطع، فنراه يقول ما نصه: "إذا تحررنا من سلطة القياس والانشداد إلى الألفاظ، وانصرفنا باهتمامنا بدلاً من ذلك إلى البحث عن (أسباب النزول)، وهي هنا الوضعية الاجتماعية التي اقتضت نوعاً ما من المصلحة وطريقة معينة في مراعاتها، فإننا سنجد أن قطع يد السارق تدبير مبرر ومعقول داخل تلك الوضعية، وهكذا فبالرجوع إلى زمن البعثة المحمدية والنظر إلى الأحكام الشرعية في إطار الوضعية التي كانت قائمة يومئذ سنهتدي إلى المعطيات التالية: أولاً: أن قطع يد السارق كان معمولاً به قبل الإسلام في جزيرة العرب. ثانياً: أنه في مجتمع بدوي ينتقل أهله بخيامهم وإبلهم من مكان إلى آخر طلباً للكلأ؛ لم يكن من الممكن عقاب السارق بالسجن، إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون وتمده بالضروري من المأكل والملبس ... . الخ، وإذن فالسبيل الوحيد هو العقاب البدني.
(16/32)
وبما أن انتشار السرقة في مثل هذا المجتمع سيؤدي حتماً إلى تقويض كيانه، إذ لا حدود ولا أسوار ولا خزائن، فلقد كان من الضروري جعل العقاب البدني يلبي هدفين: تعطيل إمكانية تكرار السرقة إلى ما لا نهاية، ووضع علامة على السارق حتى يُعرف ويحتاط الناس منه، ولا شك أن قطع اليد يلبي هذين الهدفين معاً، وإذن فقطع يد السارق تدبير معقول تماماً في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله على الحل والترحال، ولما جاء الإسلام وكان الوضع العمراني الاجتماعي زمن البعثة لا يختلف عما كان عليه من قبل احتُفظ بقطع اليد كحد للسرقة من جملة ما احتُفظ به من التدابير والأعراف والشعائر التي كانت جارية في المجتمع العربي قبل الإسلام، مع إدراجها في إطار خلقية الإسلام" (1) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 60 – 61.
(16/33)
ثالثاً: التوسع في تحديد مقاصد الشريعة، وعدم الاقتصار فيها على ما ذكره فقهاء الأمة واتفقوا عليه فيما يدخل ضمن الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، حيث يقول: "إن الأمور الخمسة التي حصر فيها فقهاؤنا القدامى (الضروريات) كانت وما تزال وستبقى أموراً ضرورية بالفعل، أي مقاصد أساسية لكل تشريع يستهدف فعلاً خدمة (مصالح العباد)، غير أن (مصالح العباد) اليوم لم تعد مقصورة على حفظ الدين والنفس العقل والنسل والمال، بل إنها تشمل بالإضافة إلى الأمور الخمسة المذكورة أموراً أخرى نعتقد أنه لابد من أن ندرج فيها: الحق في حرية التعبير وحرية الانتماء السياسي، والحق في انتخاب الحاكمين وتغييرهم، والحق في الشغل والخبز والمسكن والملبس، والحق في التعليم والعلاج.. إلى غير ذلك من الحقوق الأساسية للمواطن في المجتمع المعاصر. أما الحاجيات فبالإضافة إلى ما ذكره فقهاؤنا القدامى؛ هناك حاجيات جديدة مثل الحاجة إلى توفير الصحة والوقاية من الأمراض بإعداد ما يكفي من مستشفيات وغيرها، والحاجة إلى مالابد منه لتنشيط الإبداع الفكري في مختلف المجالات العلمية والفنية والنظرية، والحاجة إلى ما لابد منه لاكتساب معرفة صحيحة بالواقع والأحداث ... أما التحسينات التي يتطلبها عصرنا فحدّث ولا حرج" (1) . ويختم كلامه بهذا الخصوص بقوله: "إذا كانت هناك ضرورات عامة خالدة كتلك التي أحصاها فقهاؤنا بالأمس، فإن لكل عصر ضرورياته وحاجياته وتكميلياته، وهكذا فعندما ننجح في جعل ضروريات عصرنا جزءاً من مقاصد شريعتنا فإننا سنكون قد عملنا ليس فقط على فتح باب الاجتهاد في وقائع عصرنا المتجددة المتطورة؛ بل سنكون أيضاً قد بدأنا العمل في تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة تضمن الاستجابة الحية لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد" (2) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 67.
(2) ... المرجع السابق ص 68.
(16/34)
رابعاً: إسقاط الحد في جرائم السرقة والزنا وشرب الخمر والقذف، والاكتفاء فيها بالسجن، لأن الحدود –في نظره- ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لردع وزجر النوازع الذاتية الفردية الهدامة، أي التي تمس مصلحة الجماعة أو الأمة.
ويستدل الجابري على إسقاط الحدود بحديث (ادرأوا الحدود بالشبهات) مدعياً أن شبهات عصرنا كثيرة ومتفرعة بسبب تعقد الحياة المعاصرة وتنوع الحوافز فيها، بالإضافة إلى وجود الشبهات الراجعة إلى السياسة التي تجعل تنفيذ الحدود يلتبس بالأغراض والدوافع السياسية، وتلك –كما يقول- شبهة وأية شبهة (1) .
ويدّعي أن الشريعة الإسلامية لم تطبق تطبيقاً كاملاً في كل مراحل التاريخ الإسلامي بما فيها المرحلة الأولى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فنراه يعلنها صراحة في قوله: "أنا لا أجد حرجاً لا في ديني ولا في وجداني ولا في عقلي إذا قلتُ إن الشريعة الإسلامية لم تطبق قط كاملة في يوم من الأيام" (2) !!
__________
(1) ... انظر: وجهة نظر ص 68-72.
(2) ... المرجع السابق ص 73. وراجع ص 72-76 من المرجع نفسه.
(16/35)
ويرى الجابري أن "السلفية" التي تعني –كما يقول- استقامة السلوك والتجديد في الدين والعمل من أجل المستقبل من خلال الدعوة إلى الرجوع إلى سيرة السلف الصالح؛ لا تناسب الأمة الإسلامية في العصر الحاضر للحفاظ على وجودها واستمراريتها، لأن "السلفية" –في رأيه- "نوع من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ، وقد كانت كافية وناجعة عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة العالم لعصرها، أعني غير مزاحمة ولا مهددة بحضارة معاصرة لها على صعيد الزمن" (1) . ويرفض نموذج السلف، ويرى أن النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات تجربتان: أولاهما جماع التجربة التاريخية لأمتنا بغض النظر عمن صدرت عنهم هذه التجربة وعن موافقتها للحق والصواب من عدمه. والثانية: التجربة التاريخية لمختلف الأمم الأخرى، فنراه يقول ما نصه: "النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات؛ ذاتنا نحن وتحصينها وتلقيحها ضد الذوبان والاندثار والاستلاب ينبغي ألا يكون من نوع "النموذج –السلف" الذي يُقدّم نفسه كعالم يكفي ذاته بذاته، بل يجب أن يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم التي تناضل مثلنا من أجل الوجود والحفاظ على الوجود، وأيضاً من التجربة التاريخية للأمم التي أصبحت اليوم تفرض حضارتها كحضارة للعالم أجمع. لقد كانت السلفية كافية وفعالة وإجرائية يوم كنا وحدنا في بيت هو بيتنا وبيت لنا في نفس الوقت، أما وقد أصبحنا جزءاً في كل فإن الطريق الوحيد لإثبات وجودنا والحفاظ على خصوصيتنا داخل هذا الكل هو طريق التعامل معه بالمنطق الذي يؤثر فيه؛ منطقه هو ولكن من مواقعنا لا من مواقع غيرنا، ومنطق الكل الذي ننتمي إليه اليوم – أعني منطق الحضارة المعاصرة- يتلخص في مبدأين: العقلانية، والنظرة النقدية.
__________
(1) ... المرجع السابق ص 45.
(16/36)
العقلانية في الاقتصادي والسياسة والعلاقات الاجتماعية، والنظرة النقدية لكل شيء في الحياة؛ للطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر والثقافة والإيديولوجيا. هذا في حين أن منطق سيرة السلف الصالح –التي تُمثل "المدينة الفاضلة" في التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية- كان شيئاً آخر، كان منطقه يقوم على المبدأ التالي: الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة، وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط وليس عصر علم وتقنية وأيديولوجيات" (1) ). انتهى كلام الدكتور القوسي –سلمه الله-.
__________
(1) ... المرجع السابق ص 45 –46.
(16/37)
::::: المجموعة الثالثة :::::
نظرة شرعية في فكر (الدكتور أحمد البغدادي)
- دكتور كويتي معاصر، وأستاذ بجامعة الكويت .
- له مشاركات في صحف الكويت، إضافة إلى هذه المؤلفات :
1- تجديد الفكر الديني: نشر دار المدى بسوريا، الطبعة الأولى عام 1999م .
2- الدولة الإسلامية بين الواقع التاريخي والتنظير الفقهي، دار قرطاس بالكويت، الطبعة الأولى عام 1994م.
3- حزب التحرير ، دار قرطاس بالكويت، الطبعة الثانية عام 2001م.
لمحة عنه:
- يعد البغدادي أحد أبرز العلمانيين الكويتيين، وأكثرهم جرأة في الطرح، وفي مهاجمة الإسلام وأهله.
وقد ذاع صيت الرجل بالسوء! عندما أطلق مقولته الكفرية التي اتهم فيها الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه قد "فشل" في دعوته!!
وقد قام بعض الغيورين في الكويت برفع أمره للمحكمة التي حكمت عليه بالسجن، إلا أنه سرعان ما خرج أو أُخرج !!
- لهذا الكاتب كتاب بعنوان (تجديد الفكر الديني)! كشف فيه عن وجهه القبيح دون استحياء ، وعن دعوته للعلمانية بتصريح دون تلميح . وسيكون التركيز عليه في ذكر انحرافات الرجل
انحرافاته:
1- أول انحراف للبغدادي –كما علمنا- هو تصريحه بفشل الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ! وهذه عبارة كفرية يستتاب منها فإن تاب وإلا قُتل ردةً. (انظر مجلة المجتمع الكويتية، عدد 1373، ص 16-17).
__________
(1) ... المرجع السابق ص 45 –46.
(17/1)
2- ومنها: تهجمه على أحكام الشريعة الإسلامية بقوله –أخزاه الله- : "ما السبب الكامن وراء تبني المسلمين حكاماً ومحكومين المفاهيم العلمانية عملياً لا فكراً، دون حرج، أو لنقل دون تفكير؟ الإجابة بسيطة، لقد أصبحت هذه المفاهيم جزءً من متطلبات المجتمع المدني الذي أخذ المسلمون يقطفون خيراته من خلال دولة القانون. هذه الدولة التي ألغت –دون إعلان- معظم المفاهيم الدينية في العقوبات وأنواع العلاقات الجنسية غير العقلانية (ملك اليمين والتسري) وأبقت على الزواج فقط، وألغت الرق، وهجرت الزكاة مقابل تبني الاقتصاد الربوي الغربي، واستبدلت بكل ذلك العقل الذي أسس الدولة المعاصرة" ! (تجديد الفكر الديني، ص 40).
قلت: فهذا العلماني يُفضل حكم الكفر والطاغوت على حكم الإسلام، بل يتهم حكم الإسلام بأنه لا يناسب العصر، وهذه ردة عظيمة عن دين الإسلام –والعياذ بالله-.
3- ومن ذلك : قوله مصرحاً بعلمانيته: "من المعروف أن أسس الإيمان لا تتضمن السياسة" (المرجع السابق 46).
4- ومن ذلك: قوله : "إن من الطبيعي عجز رجل الدين عن اللحاق بإنجازات المجتمع المدني في المجال الفكري؛ لأن رجل الدين يعلم كل العلم أن ذلك يقتضي التخلي عن الكثير من آرائه البالية التي لم تعد صالحة للعصر الحديث وللمستقبل، وأنه ليس أمامه سوى أن يعترف بكونية العلمانية، وأن المستقبل لها" ! (المرجع السابق، ص47).
5- ومن ذلك : قوله ساخراً بمجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم : "لنبحث في العلاقة المزعومة بين الإسلام والتنمية التي يدعيها التيار الديني، ولكن لنعلم أولاً وقبل كل شيء حقيقة مهمة هي أن المدينة المنورة مركز الدين وانطلاق الدعوة كانت أكثر المناطق الإسلامية فقراً" !! (المرجع السابق، ص291).
(17/2)
قلت: فالرجل علماني ينظر إلى الأمور بنظرة (مادية) (دنيوية)، وعنده أن من كان أكثر رخاء ونعيماً فإنه الأفضل! دون نظرٍ إلى دينه، وهذه نظرة كثير من العلمانيين المعاصرين الذين ينظرون بهذه النظرة (الدهرية)، متناسين سنن الله التي قضت بأن يمد هؤلاء وهؤلاء من عطائه، وأنه قد يبتلي المؤمن بالضراء. قال سبحانه (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا) أي ليس الأمر كما تظنون، وليس إنعام الله على العبد بالنعم الدنيوية دليلاً على رضاه عنه، وهكذا ليس تضييقها عليه دليلاً على سخطه عليه.
والأدلة الشرعية كثيرة في توضيح هذا، ليس هذا موضعها.
6- ومن ذلك قوله: "من استعراض تاريخ دار الإسلام والخلفاء وكتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية يتبين فشل الدين في ضبط وتوجيه السياسة" !! (المرجع السابق، ص301).
فانظر إلى هذا العلماني الماكر كيف يستغل أخطاء البشر وانحرافاتهم عن الحق في تشويه صورة الإسلام وأنه غير قادر على سياسة الناس ! والإسلام كما هو معلوم حجة على الناس وليس الناس حجة عليه. وما مثل هذا الرجل إلا كمثل من رأى من يشرب الخمر فطعن في حكم الإسلام القاضي بتحريمها؛ لأنه لم يردع هذا الشارب !!
(17/3)
7- ومن ذلك : قوله "نعلم مسبقاً بالتعارض القائم بين مفاهيم الديمقراطية كحقوق الإنسان وبعض النصوص الدينية على سبيل المثال اختلاف الأديان يمنع التوارث، وعدم حق المرأة بتولي الإمارة، وعدم حقها في الزواج ممن يخالف دينها وما إلى ذلك من نصوص، وهذا يستدعي من الفقهاء جرأة جديدة وقوية وغير عادية، خاصة أن هناك بعض العلماء المعاصرين الذين يمتازون بهذه الروح، ونضرب على ذلك مثلين، الأول كتاب خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، والثاني كتاب العالم الإسلامي عبدالله العلايلي (1) : أين الخطأ: تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد، ويمكن أن نضيف إلى هذه الكتابات الإبداعية الجريئة كتاب إبراهيم فوزي: تدوين السنة، وهناك بعض المحاولات التي تتم على استحياء لكنها تتراجع في بعض الأوقات مثل كتابات الشيخ محمد الغزالي الذي يستشعر القارئ له ميوله الدفينة نحو الغرب، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه يحسد الغرب على ما وصل إليه في المجال السياسي وحقوق الإنسان" ! (المرجع السابق، ص408).
فهذا العلماني الأصل عنده أنه إذا تعارض الواقع العلماني الديمقراطي المزعوم مع نصوص الشريعة فإن الواجب أن تؤول هذه النصوص أو تُدفع وترد ويُقدم عليها هذا الواقع الكفري، -والعياذ بالله- !! ولا مانع عنده من تسمية هذا العمل اجتهاداً ! ما دام يوصل إلى مقصوده أخزاه الله.
8- ومن ذلك: سخريته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم المحذر من خروج المرأة من بيتها متعطرة ، وقوله: "نورد حديثاً نبوياً يردده معظم المتدينين، والقاضي بأن خروج المرأة من منزلها متعطرة حرام، والبعض يتشدد ويصف المرأة التي يُشتم منها الرجل رائحة عطرها بالزنا والعياذ بالله، لست مختصاً بعلم النفس، لكنني قرأت أن بعض الرجال تستثار غرائزهم عند شم رائحة العرق !!" ! (المرجع السابق، ص18-19)
__________
(17/4)
(1) ... سيأتي بيان انحرافات هذا (العالم الإسلامي)! ضمن إحدى مجموعات هذه السلسلة –إن شاء الله-.
9- ومن ذلك : زعمه أن الاقتصاد لا يقوم بدون ربا، وطعنه في حكم تحريم الربا، بقوله: "هل يمكن للاقتصاد المعاصر أن يستغني عن الأسلوب التجاري المستخدم في البنوك العادية والمرتبطة بالاقتصاد العالمي، وتعطيل مصالح الناس الاقتصادية بسبب مفهوم غير حاسم وهو الربا" ! (المرجع السابق، ص 19).
10- ومن ذلك : طعنه في حكم قتل المرتد وقوله: "هل يمكن تطبيق مفهوم الردة وهو تبديل الدين، والدعوة لقتل المسلم الذي يعتنق الديانة المسيحية أو اليهودية أو يرفض اعتناق أي دين؟ لا شك أنه من المستحيل تطبيق ذلك عملياً" (المرجع السابق، ص 19). (وانظر : ص 82، 123 وما بعدها، 345، 388).
وقال –قبحه الله- في (ص 105): "هناك أيضاً أحاديث خطرة على حياة الإنسان؛ مثل حديث : (من بدل دينه فاقتلوه) " !
11- ومن ذلك : زعمه "أن ليس هناك ما يسمى بالحقيقة الدينية المطلقة"! (المرجع السابق، ص7). ولا أدري هل يدخل في هذا: وجود الله سبحانه؟! أو اليوم الآخر؟! أو ... . الخ لأن الرجل يهرف بما لا يعرف.
12- ومن ذلك: دعوته الملحة إلى تطبيق الديمقراطية (المزعومة!)، وتفضيلها على حكم الشريعة الإسلامية! (انظر كتابه السابق، ص 120، 408).
13- ومن ذلك : تهجمه الدائم على أهل الإسلام، كقول هذا السفيه عنهم: "لقد قلت سابقاً وأكرر : إن التيار الديني لا عقل له" ! (المرجع السابق، ص345).
قلت: الخلاصة أن الرجل ليس ذا فكر، إنما هو مردد لما يقوله غيره من غلاة العلمانيين في بلادنا الإسلامية، مع جرأة في الطرح وعلو صوت. وأفكاره التي يجترها في مقالاته وكتبه هي: الدعوة إلى العلمانية ومحاربة حكم الله ومن يطالب به.
نسأل الله أن يهديه ، أو يُكمد قلبه ويُسِخْن عينه بتحكيم شرع الله في جميع بلاد المسلمين.
(17/5)
::::: المجموعة الثالثة :::::
نظرة شرعية في فكر (فرح انطون)
ترجمته (1) :
__________
(1) ... انظرها موسعة في كتاب الدكتور جورج نخل (أعلام من لبنان: فرح أنطون)، وفي (الجامع في تاريخ الأدب العربي) لحنا الفاخوري.
- هو فرح بن أنطون بن إلياس أنطون.
- نصراني لبناني.
- ولد في مدينة طرابلس بلبنان عام 1874م، ودرس في مدرسة (دير بكفتين) اشتغل بالتجارة، ثم تولى إدارة مدرسة (نصرانية) أهلية في طرابلس أنشأتها جمعية خيرية للروم الأرثوذكس.
- كان يراسل الصحف الصادرة بمصر لنشر أفكاره .
- سافر إلى الإسكندرية ليستقر في مصر عام 1897م، ويكتب في عدد من صحفها.
- وأنشأ فيها مجلة (الجامعة) سنة 1899م.
يقول الدكتور جورج نخل : (بقيت "الجامعة" المنبر الرئيس لنشر أفكار "أنطون" ومبادئه العلمية والعلمانية، وميوله الاشتراكية) (فرح أنطون، ص9).
- أنشأ مجلة أخرى بعنوان (السيدات) وجعل أمرها بيد أخته "روز أنطون".
- سافر "فرح" إلى أمريكا عام 1906م، وواصل إصدار المجلات هناك.
- عاد بعد سنتين إلى مصر ليتابع نشر مجلة "الجامعة" فترة قصيرة إلى أن احتجبت.
- لم يتوقف عن الكتابة في الصحف ، إضافة إلى كتابة المسرحيات .
- توفي عام 1922م عن عمر يناهز (48) سنة.
آثاره :
1-الجامعة : مجلة شهرية أصدرها لمدة سبع سنوات. ضمنها آراءه الاجتماعية والسياسية، وسير الرجال العظام والمفكرين والأدباء ... والمقالات العلمية والفلسفية، وهي مركز الثقل في كل كتاباته.
2-فلسفة ابن رشد: نشره على شكل مقالات في مجلته، ودار حوله جدال عنيف، بينه وبين الشيخ "محمد عبده" .
3-أورشليم الجديدة أو فَتحُ العرب بيت المقدس: وهي قصة فلسفية اجتماعية.
4-الحب حتى الموت: قصة يُظهرُ فيها الأمانة والإخلاص عند المرأة.
5-مريم قبل التوبة: قصة اجتماعية، مات ولم يُكملها.
6-الوحش، أو سياحة في أرز لبنان: قصة أخلاقية تدور أحداثها في لبنان.
(18/1)
7-الدين والعلم والمال أو المدن الثلاث: قصة مدن وهمية يُضمنِّها معظم ما جاء في العالم العربي الحديث من أفكار، كالطبقية وفوارقها، والرأسمالية والعمال، والملكية وزوالها، والصراع الاشتراكي، كما يبحث فيها قضية الدين ورجاله، ومسألة الحب، وتنازع البقاء، وفيها رجوع إلى آراء "روسّو" التربوية.
ترجماته:
1- بولس وفرجيني : لبرناردان دي سان بيار .
2- الكوخ الهندي: لبرناردان دي سان بيار.
3- أتلا: لشاتوبريان.
4- رواية ديماس عن الثورة الفرنسية وقد قسّمها إلى ثلاثة أقسام: "نهضة الأسد" ويقصد بهذا الاسم نهوض الشعب الفرنسي في ثورته الكبرى إلى طلب حقوقه، وتذكير الحكام بواجباتهم . "وثبة الأسد" ويريد بذلك وثوبه لاقتحام المظالم وكسر نير الاستعباد والاستبداد، عندما لم يجد في اللين والمسالمة نفعاً. "فريسة الأسد" ويقصد بذلك افتراس الثورة الفرنسية الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت قرينته مع جميع النبلاء.
5- تاريخ المسيح: لأرنست رينان، وقد لخصه تلخيصاً.
6- ولقد ألف وترجم روايات تمثيلية عديدة أهمها:
7- البرج الهائل .
8- ابن الشعب .
9- الساحرة .
10- أوديب الملك.
11- المتصرف في العباد.
12- صلاح الدين.
وقد مثّلها جميعها الممثل النصراني المشهور: جورج أبيض.
13- كرمن .
14- كرمنينا.
15- روزينا.
16- تاييس.
وقد مثّلت هذه الروايات الأربع المقتبسة، فرقةُ منيرة المهدية.
17- مصر الجديدة.
18- بنات الشوارع وبنات الخدور.
وهما روايتان غنائيتان مثلتهما فرقةٌ أخرى.
19- أبو الهول يتحرك: رواية غنائية.
20- رواية ذات الورد: لديماس.
انحرافاته:
1- نصرانيته، وليس بعد الكفر ذنبٌ!
(18/2)
2- يعد فرح أنطون أحد نصارى الشام (لبنان خصوصاً) الذين نزحوا إلى بلاد مصر في القرن الماضي لنشر أفكارهم المخالفة للإسلام، والمساهمة في تضليل المسلمين وصرفهم عن دينهم بشتى أنواع الانحرافات، فكرية كانت أو فنية (1) ، وكان من نصيب فرح أنطون الأمور الفكرية؛ حيث ساهم في الدعوة إلى الاشتراكية والعلمانية بين أبناء المسلمين، وتزهيدهم في دينهم، ومحاولة فصله عن أمور الحياة؛ ليسهل له ولأمثاله من الكفرة الانغماس بين صفوف المسلمين في مساواة وطنية تمكنهم من قيادة المجتمع المسلم إلى حيث يريدون، دون أن يشعر بمخططاتهم أحد؛ لغياب النظرة الإسلامية التي تمايز بين المسلم والكافر، وتضع الكافر في مكانه الذي أراده الله له ذلة ومهانة وعدم تمكين من أمور المسلمين.
-يقول الكاتب فتحي القاسمي في رسالته (العلمانية وطلائعها في مصر) (ص346) عن فرح أنطون وصاحبيه سلامة موسى وشبلي شميّل: (اعتبروا إقصاء الدين شرطاً أولياً وحيوياً لعلمنة الشرق).
ويؤكد بأن الذي كان يشغلهم هو : (الدعوة إلى جعل الدين ممارسة فردية، وعزله عن الحياة السياسية) (ص 311).
ومن أقواله المهمة الخاصة بفرح أنطون: (ظل متحمساً لمبادئ الاشتراكية ومعرفاً بها في مقالاته ورواياته؛ لأنه وجد فيها بديلاً) (ص 300).
-(ما انفك ينادي بضرورة الإقلاع عن كل مقدس ثابت ؛ لأنه تجديف ضد التيار. ويوجد في روايته "أورشليم الجديدة" ما يدل على إيمانه بتغير كل شيء وتحوله باطراد) (ص 202)
-(إنه من خلال عنوان روايته "أورشليم الجديدة" يبشر بقدسية العلم الجديدة، التي أرادها ناسخة لقدسية الدين القديمة، فكأن العلم سحب البساط من تحت الدين) (ص 210)
__________
(1) ... حيث كان هؤلاء النصارى أول من أسس الصحافة في بلاد مصر وأول من أسس الفن والمسرح في مصر، ومنها انتقلت إلى بلاد المسلمين. فليت أحد الباحثين يكتب رسالة في الجهود الخبيثة لهؤلاء النصارى المهاجرين إلى مصر.
(18/3)
-(إن المتتبع لفكر فرح أنطون يتبين شدة التعلق بالعلم إلى درجة التقديس) (ص 211)؛ مما جعله يقول (ليس لنا أمل بعد الله إلا فيك أيها العلم المقدس) (ابن رشد وفلسفته، فرح أنطون، ص 217).
قلت: وصاحب كتاب (العلمانية وطلائعها في مصر) (1) فتحي القاسمي متأثر بدعوة هؤلاء النصارى ! ومدافع عنهم ! ولكنه أفادنا بالكثير من أقوالهم وأفكارهم وتاريخهم بالتوثيق العلمي الدقيق، مما جعلني أكثر من النقل عنه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) ... ركز اطروحته على ثلاثة من رموز العلمانية ؛ وهم : فرح أنطون، وشبلي شميّل، وسلامة موسى
(18/4)
::::: المجموعة الثالثة :::::
نظرة شرعية في فكر (شبلي شميّل)
ترجمته (2) :
-هو شبلي بن إبراهيم شميّل، ولد في (كفر شيما) بالقرب من بيروت عام 1853م.
-أحد نصارى الشام.
-درس الطب في (الكلية السورية الإنجيلية) التي أسسها البروتستانت الأميركيون. وتخرج طبيباً عام 1871م.
-في عام 1875م سافر إلى باريس لمواصلة دراسته في الطب.
-عاد إلى مصر ليمارس فيها الطب، وأصدر مجلة اسمها (الشفاء) لينشر من خلالها أفكاره، لا سيما فكرة (التطور) لداروين، التي آمن بها شميّل إيماناً كاملاً، وتطرف في مناصرتها والدعوة إليها .
-كان يكتب في عشرات المجلات المصرية
-توفي في القاهرة عام 1917م عن عمر يناهز الرابعة والستين.
آثاره:
1-كتاب "فلسفة النشوء والارتقاء" طُبع لأول مرة في عام 1885، ثم أصدرت "المقتطف" الطبعة الثانية، في القاهرة عام 1910. وهو كتاب يشمل مقدمة الطبعة الثانية ومقدمة الطبعة الأولى، وكتاب "شرح بخنر على مذهب داروين" ، ورسالة "الحقيقة" التي يرد فيها على من انتقدوه، "وملحق في مباحث الحياة لتأييد الرأي المادي فيها" و"خاتمة الكتاب".
__________
(1) ... ركز اطروحته على ثلاثة من رموز العلمانية ؛ وهم : فرح أنطون، وشبلي شميّل، وسلامة موسى.
(2) ... انظرها موسعة في كتاب الدكتور جورج نخل: (أعلام من لبنان: شبلي شميّل)، وفي (الجامع في تاريخ الأدب العربي) لحنا الفاخوري.
2-"الجزء الثاني من مجموعة الدكتور شبلي شميّل" ويضم 69 مقالة، نشرها في صحف ومجلات عديدة. نُشر هذا الكتاب في عام 1909 في القاهرة.
3-رسالة بعنوان "شكوى وأمل"، وجّهها إلى السلطان "عبد الحميد"، يشرح فيها وجهة نظره في ما كانت تفتقر إليه الدولة العثمانية .
4-رسالة "المعاطس"، وهي صغيرة على نسق رسالة "الغفران" للمعرّي.
5-رسالة "آراء الدكتور شميّل".
6-رسالة "سورية ومستقبلها".
7-شروح وتعليقات على كتب طبّية قديمة، تولى نشرها؛ كفصول "أبقراط"، وأرجوزة "ابن سينا"
(19/1)
-له نظم وليس بشاعر.
-كان يُجيد الفرنسية، ويُعدّ من الكتّاب فيها.
انحرافاته:
1- نصرانيته.
2- هو أحد النصارى الشاميين القادمين إلى بلاد مصر لإفساد أبناء المسلمين، كشأن صاحبه فرح أنطون –كما سبق- وكان من نصيب هذا النصراني: الدعوة إلى العلمانية مع التركيز الشديد على نقل نظرية (دارون) الإلحادية ونشرها بين أبناء المسلمين، بواسطة الكتب والمقالات.
-يقول فتحي القاسمي: (لقد كان شبلي شميّل أول من بشر بالنظرية التطورية (أي نظرية دارون) في الشرق العربي منذ سنة 1876م غداة عودته من أوربا) (العلمانية وطلائعها في مصر، ص 158).
-ويقول : (لقد كان تعلق شبلي شميل بمذهب التطور شديداً إلى درجة أنه اعتبر مبادئه أوليات ينبغي أن لا تخفى عن كل متعلم) (ص 193).
-ويقول : (سعى إلى ترويج هذا المذهب بواسطة مقالات متتالية نشر بعضها في الجرائد وأكثرها في مجلة المقتطف) (ص 189)
-ثم واصل شميّل –بخبث- نقل فكرته عن التطور إلى مجال الدين !! هادفاً بذلك (تقويض الفكر الثبوتي في الشرق باسم الدين) (المرجع السابق، ص 194) أي أنه يدعو إلى عدم ثبات شيء باسم الدين؛ بل كل شيء فيه قابل للتطور !!
يقول الهالك: (اعلم أن مذهب داروين كما يصح على الأنواع يصح على الديانات أيضاً) !! (فلسفة النشوء والارتقاء (2/132) ) .
-إذاً فالهدف من الدعوة إلى نظرية دارون- سواء من شميّل أو غيره- هو سحبها إلى مجال الدين (الإسلام طبعاً!!) ليتم لهم إيهام الناس بأن لا شيء ثابت –بناء على نظريات العلم الحديث-، ولو كان من أمور الدين.
-لقد كان شميّل يريد استبدال الدين بالعلم زاعماً التناقض بينهما ! دون تفريق بين نصرانيته المحرفة والإسلام؛ ليسهل له العبث بعقول أبناء المسلمين هو وطائفة بعد أن (يتساووا) معهم في العلم إذا أقصيت الفروقات الدينية.
-يقول شميّل: (الدين الحق هو العلم الصحيح) (فلسفة النشوء والارتقاء، (2/9))
(19/2)
-ويقول القاسمي عنه: (إن تقديسه للعلم حمله على انتقاص شأن الديانات؛ لأنها في نظره ليست قادرة على الصمود أمام تحديات الحاضر والمستقبل) (العلمانية.. ص208).
-ويقول : (كان شبلي شميّل من أشد المثقفين المسيحيين العلمانيين تحمساً للحضارة الغربية، وقد اتصل إعجابه بذلك إلى آخر رمق في حياته) (المرجع السابق، ص 293)
-ويقول : (لقد حاول شبلي شميل أن يدعو الشرق إلى طرح كل ما يربطه بالقديم باعتبار ذلك جموداً) (المرجع السابق، ص 296).
أسأل الله أن يبصر المسلمين بكيد أعدائهم، وأن ينصرهم عليهم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
(19/3)
::::: المجموعة الثالثة :::::
نظرة شرعية في فكر (سلامة موسى)
ترجمته (1) :
__________
(1) ... نقلاً عن الأعلام للزركلي (بتصرف يسير)، والعلمانية وطلائعها في مصر، لفتحي القاسمي (ص 170 وما بعدها).
قال الزركلي في الأعلام عنه: سلامة موسى القبطي المصري: كاتب مضطرب الاتجاه والتفكير . ولد عام 1304هـ في قرية كفر العفي بقرب الزقازيق. وتعلم بالزقازيق وباريس ولندن. ودعا إلى الفرعونية. وشارك في تأسيس حزب اشتراكي، لم يلبث أن حله الإنجليز واعتقلوه وسجنوه مدة. وجحد الديانات في شبابه وعاد إلى الكنيسة في سن الأربعين، وأصدر مجلة "المستقبل" قبل الحرب العامة الأولى وتعطلت بسبب الحرب. وعمل في التدريس، ثم رأس تحرير مجلة الهلال وكل شيء، حتى عام 1927، وقام بحملة على الصحافة اللبنانية بمصر، فنشرت دار الهلال رسائل بخطه تثبت أنه كان عيناً عليها لحكومة صدقي .
وصنف وترجم ما يزيد على 40 كتاباً ، طبعت كلها. منها: "حرية الفكر وأبطالها في التاريخ" و"نظرية التطور وأصل الإنسان" و"غاندي والحركة الهندية" و"أشهر قصص الحب التاريخية" و"التجديد في الأدب الإنجليزي الحديث" و"اليوم والغد" مقالات من إنشائه. و"التثقيف الذاتي" و"فن الحياة" و"العقل الباطن أو مكنونات النفس" و"المرأة ليست لعبة الرجل" و"تاريخ الفنون وأشهر الصور".
وجمع الناشرون مقالات له، بعضها مترجم، في كتب منها "اليوم والغد" و"مختارات سلامة موسى" و"في الحياة والأدب" .
وكتب في مجلات وصحف متعددة لم يكن يستقر في الانقطاع إلى إحداها، إلى أن مات عام 1378هـ في أحد مستشفيات القاهرة. وكان كثير
التجني على كتب التراث العربي، يناصر بدعة الكتابة بالحرف اللاتيني (1) .
ملخص فكره:
(20/1)
تدور أفكار النصراني سلامة موسى حول نشر الاشتراكية والعلمانية في بلاد المسلمين؛ كشأن صاحبيه فرح أنطون وشبلي شميّل ، إلا أنه فاقهم في ذلك؛ بحكم كونه مصري النشأة، مما جعله أجرأ منهم في نشر انحرافاته، وأكثر إنتاجاً.
__________
(1) ... أحمد أبو كف، في مجلة الكتاب العربي : العدد 28 وإبراهيم التيوتي، في جريدة العلم بالرباط 15/8/1958 والعهد الجديد 13/8/58 والأهرام 10/8/58.
ولقد تميز سلامة موسى عن صاحبيه –أيضاً- بتطرفه في الدعوة إلى تحرير المرأة، وتسهيل السبل أمامها للسفور والتبرج.
انحرافاته:
1- نصرانيته؛ فهو أحد أقباط مصر.
2- بغضه للإسلام وأهله، ومحاولة تزهيد الشباب عن التمسك به، وتصويره بأقبح الصور
يقول الهالك عن أمنياته وهو في سن الستين :
(لن أكف عن تأليف الكتب المقلقة، مثل: نظرية التطور، أو حرية الفكر. خمائر صغيرة أبعثها في أنحاء الوادي وغيره إلى الأقطار العربية؛ كي أزعزع التقاليد السوداء، وأحرق العفن الذي تركته على العقول المطموسة) (تربية سلامة موسى، ص 291).
ويقول: (ربما كان الأزهر أكبر ما عاق تفكيري الحر) (المرجع السابق، ص 338).
و(نادى بأن تتكاتف الجمعيات الخيرية القبطية لمواجهة أعدائها)! (العلمانية وطلائعها.. ، ص175-176).
3-دعوته إلى العلمانية في بلاد المسلمين؛ فهو أحد طلائعها.
يقول: (إذا خرج الدين من دائرة علاقة الإنسان بالكون، وأخذ يقرر أصول المعاملة بين الناس، من تجارة وزواج وامتلاك وحكومة ونحو ذلك، فإنه عندئذٍ يقرر الموت لكل من يؤمن به) (مقدمة السبرمان، ضمن المؤلفات الكاملة لسلامة موسى 1/23).
ويقول : (الرابطة الدينية وقاحة. فإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا) (اليوم والغد، ضمن المؤلفات الكاملة لسلامة موسى، (1/661).
-يقول فتحي القاسمي: (ما انفك سلامة موسى يدافع عن مشروعه العلماني على امتداد خمسة عقود من الزمن) (العلمانية ..، ص305)
(20/2)
-ويقول : (كان كتابه "مقدمة السبرمان" 1910م دعوة مبكرة للعلمنة -التي تواتر ذكرها فيه مراراً- ) (السابق، ص178)
-ويقول عنه أيضاً-: (كان يطمح إلى بناء مجتمع علماني) (السابق، ص217-218).
4-دعوته إلى الاشتراكية:
حيث (كان طبعه لكتاب "الاشتراكية" بمصر 1913م دعوة ملحة من أجل قيام مجتمع اشتراكي فكراً وممارسة) (السابق، 178).
يقول سلامة: (إني أعتقد بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر، وأعمل له) (تربية سلامة، ص 319).
ويقول : (ليس في العالم من تأثرت به وتربيت عليه مثل كارل ماركس) (السابق، ص 313).
-ويقول عنه موسى صبري: (هو في مقدمة العقول التي دعت إلى الفكر الاشتراكي في مصر) (أبي، لرؤف سلامة موسى، ص25،26).
-ويقول القاسمي في كتابه (العلمانية وطلائعها في مصر):
(لقد استمر سلامة موسى يدعو إلى الاشتراكية على امتداد نصف قرن) (ص 253) .
وقال عنه –أيضاً-: (أُشْرب قلبه حب الاشتراكية والمبادئ التي نادى بها ماركس) (السابق، ص172)
وألف في ذلك كتاباً بعنوان (الاشتراكية) –كما سبق-.
5-دعوته إلى وحدة الأديان: وهذه الفكرة من أخطر الأفكار وأخبثها في صرف المسلمين عن دينهم، أو ترويج الكفر بينهم ورضاهم به، وخلط الحق بالباطل (1) .
وقد غلف الهالك دعوته تلك بالترويج لفكرة (الإنسانية) التي اقتبسها من إخوانه نصارى الغرب ؛ لتمرير فكرة (وحدة الأديان) بين المسلمين.
يقول فتحي القاسمي: (كان سلامة موسى قد تربى منذ شبابه على حب الإنسانية، وظل تعلقه شديداً بآراء "نيتشه" الذي مجَّد قوة الإنسان، واعتبر سلامة موسى ثاني من عرّف بآراء "نيتشه" في الشرق، وذلك منذ سنة 1909م. وقد كان إفراطه في الاعتداد بالإنسان، والإيمان بتفوقه شديداً لما كان طالباً بلندن، وهو ما حفزه على تأليف باكورة إنتاجه "مقدمة السبرمان" الذي بدا فيه نيتشياً إلى النخاع) (العلمانية.. ص239).
(20/3)
-ويقول سلامة عن نفسه: (إني أؤمن بالمسيحية والإسلام واليهودية) (تربية سلامة موسى، ص 317).
ويقول : (إن جميع الأديان سواء، حيث إنها تنشد الحياة الطيبة) (السابق، ص254).
__________
(1) ... انظر لمعرفة خطر هذه الفكرة الكفرية: كتاب (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان) للشيخ بكر أبو زيد –وفقه الله-.
وقال معلقاً على أبيات الملحد ابن عربي:
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلان ودَير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
(من الحسن أن تذاع مثل هذه الأبيات الذهبية وتُعلق في بيوتنا على الجدران)!! (السابق، ص 258).
6-دعوته إلى تحرير المرأة: (حيث كان من المعجبين بمظاهر تحرر المرأة الفرنسية، وخصوصاً الإنجليزية، وكان من المتأثرين بالحركة النسائية في العالم) (العلمانية..، ص 260).
و(كان متحمساً للاختلاط بين الجنسين، ومعتبراً التحرر الجنسي عند الفرنسيين –مثلاً- سعادة) (السابق، ص 263)
7-دعوته إلى (الدارونية) : ثم التدرج منها –كما فعل أصحابه- إلى تطور الأديان؛ لمحاولة صرف المسلمين عند دينهم.
-يقول سلامة موسى عن نظرية دارون بأنها : (غرست في نفسي مزاج الكفاح ؛ لأنها تصدت للعقائد والتقاليد) !! (تربية سلامة موسى، ص176)
-ويقول : (التطور ناموس عام يشمل جميع الجهود الإنسانية الأدبية والمادية والاجتماعية لا تستثني في ذلك الأديان والمذاهب) (مختارات سلامة موسى، ص59).
-بل وصل به تطرفه في الدعوة إلى نظرية دارون إلى أن قال بأن على : (أبناء الشعوب العربية أن يجعلوا من التطور عقيدة، بل عقيدة دينية، إذا كفر بها إنسان فإنه لن يعاقب على كفره بجهنم بعد الموت، ولكنه يعاقب بالموت أو الفقر والذل وهو حي في هذا العالم)! (الإنسان قمة التطور، سلامة موسى، ص 137).
(20/4)
-وقد (أصدر كتابه "نشوء فكرة الله" 1912م لبيان أن التوحيد سابق للأديان السماوية !! وقد اعتمد في ذلك على آراء "جرانت إلين") (العلمانية..، ص178).
8-دعوة المسلمين إلى الامتزاج بأوروبا والغرب، موهماً إياهم بأن ذلك السبيل الوحيد للنجاح والفلاح، يقول سلامة:
(الرابطة الحقيقية التي تثبت على قاعدة وترسخ ولا تتزعزع، هي رابطة الحضارة والثقافة، هي رابطتنا بأوربا التي أخذنا عنها حضارتنا الراهنة، ومنها تثقفنا ثقافتنا الجديدة) (اليوم والغد، ضمن المؤلفات الكاملة لسلامة موسى(1/662).
9-دعوته إلى محاربة اللغة العربية والانتقال عنها إلى اللاتينية!، يقول الهالك : (لن يكون في بلادنا نهضة علمية، ولن ترقى الصناعة إلا حين تتخذ الحروف اللاتينية أي لن تستعرب العلوم إلا إذا "استلتن" الهجاء العربي) (البلاغة العصرية واللغة العربية، سلامة موسى ، ص165).
هذه أبرز انحرافات النصراني القبطي سلامة موسى على عجل، تكشف مدى مساهمته في حمل لواء التغريب في بلاد المسلمين، حيث ضلل الكثيرين من أبناء الإسلام ممن رأوا فيه (طليعة) حضارية ! وعقلاً متقدماً ، فتربوا على أفكاره وتراثه ، فكان لهم المرشد إلى الشر، كما سيأتي مثال ذلك عند الحديث عن (نجيب محفوظ) –إن شاء الله-.
أسأل الله أن يبصر المسلمين بأعدائهم ، وأن يُحبط كيد اليهود والنصارى، وينصر دينه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(20/5)
::::: المجموعة الرابعة :::::
نظرة شرعية في فكر (علي عبد الرازق)
ترجمته (1) :
- هو : علي عبد الرازق.
- ولد في قرية "أبو جرج" بمحافظة "المنيا"، من صعيد مصر سنة 1305هـ 1887م.
- التحق –بعد أن حفظ القرآن الكريم- بالأزهر –في القاهرة- وكان من شيوخه الذي تلقى عنهم العلم الشيخ أحمد أبو خطوة [1268-1324هـ 1852-1906] والشيخ أبو عليان.
- في سنة 1008م نشأت الجامعة المصرية. لتنهج في التعليم مناهج الحضارة الغربية فالتحق بها علي عبد الرازق، وجمع بين الدراسة فيها والدراسة في الأزهر الشريف.
- في سنة 1912م تخرج من الأزهر، وحصل على شهادة "العالمية".
- وعقب تخرجه سافر إلى إنجلترا على نفقة أسرته، والتحق هناك بجامعة أكسفورد عازماً على دراسة الاقتصاد.. لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى جعله يعود إلى مصر سنة 1915م.
- في سنة 1915م عين قاضياً شرعياً.. واستمر في هذا العمل حتى أصدر كتابه [الإسلام وأصول الحكم] سنة 1925م –وكان قاضياً بمحكمة المنصورة الشرعية- فكان من تداعي أحداث المعركة السياسية التي أثارها هذا الكتاب أن فصل من عمله في 17 من سبتمبر سنة 1925م 29 من صفر سنة 1344هـ. تنفيذاً للحكم التأديبي الذي أصدرته "هيئة كبار العلماء" في 12 من أغسطس سنة 1925م 22 من محرم سنة 1344هـ ، والذي أخرجته بموجبه من "زمرة العلماء" !
- وبعد ذلك سافر إلى لندن، دارساً.. وإلى شمالي أفريقيا، سائحاً.. ومن هناك كتب عدداً من المقالات التي نشرتها له مجلة [السياسة] التي كان يصدرها، الأحرار الدستوريون".
__________
(1) ... انظرها موسعة في تقديم الدكتور محمد عمارة لكتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق.
- وبعد أن تولى أخوه الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا [1302-1366هـ 1885-1946م] مشيخة الأزهر سنة 1945م. أعاده إلى زمرة العلماء!
(21/1)
- دخل الوزارة، وزيراً للأوقاف، ما بين 28 من ديسمبر سنة 1948م و25 من يوليو سنة 1949م في الوزارة التي رأسها إبراهيم عبد الهادي باشا [1316-1401هـ] [1898-1981م].. كما شغل عضوية مجلس النواب، ومجلس الشيوخ.. وعين عضواً بمجمع اللغة العربية.
- توفي في جمادى الآخرة من عام 1386هـ الموافق 23 سبتمبر 1966م.
مؤلفاته :
1- الإسلام وأصول الحكم .
2- الإجماع في الشريعة الإسلامية.
3- أمالي علي عبد الرازق.
انحرافاته:
1-تأليفه كتاب (الإسلام وأصول الحكم) بعد سقوط الخلافة العثمانية! ليقول فيه بأن الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا علاقة لها بالحكومة والسياسة الدنيوية وعمارة الكون وتنظيم المجتمعات. وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة! ولم يرأس حكومة ! ولم يسس مجتمعاً !، ولم يدعُ إلى شيء من ذلك، بل كان رسولاً فقط، ما عليه إلا البلاغ.
فهو يسقط نظرة النصارى إلى دينهم على دين الإسلام، ويدعو إلى علمانية تفصل بين الدين والدولة، ومما يلفت النظر في فعله هذا أمران:
1- أنه أصدره بعد سقوط الخلافة العثمانية من قبل الصنم (كمال أتاتورك) عام (1924م).
2- أن هذا العمل جاء من شيخ أزهري !
-بعد صدور كتابه هذا قام العلماء في الأزهر بدارسته ثم محاكمة مؤلفه وإخراجه من زمرة العلماء .
وقد لخصوا في بيانهم وحكمهم أهم انحرافات الكتاب، وهي:
1- جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.
2- وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
3- وأن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجباً للحيرة.
4- وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ.
(21/2)
5- إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لابد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
6- إنكار أن القضاء وظيفة شرعية.
7- وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا دينية.
(انظر : حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإسلام وأصول الحكم، ص5،6)
ثم فند العلماء هذه الانحرافات في حكمهم السابق، فليراجع
-رد على هذا الكتاب مجموعة من العلماء، من أهم تلك الردود: كتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) للشيخ محمد الخضر حسين، الصادر سنة 1926م.
-يقول الأستاذ أنور الجندي: (كتاب الإسلام وأصول الحكم ليس من تأليف علي بعد الرازق بل من تأليف مرجليوث.
(21/3)
كان السؤال عن دعوى علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) التي لا تزال قوى التغريب والغزو الثقافي والماركسيون والشعوبيون تجدد نشرها.. لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد وإنكار حقيقة الإسلام.. بوصفه ديناً ومنهج حياة، ونظام مجتمع، ويقوم الادعاء الخبيث الذي يثيره الاستشراق والشعوبية على أن في الإسلام مذهبين.. أحدهما يقول: بأن الإسلام دين ودولة.. والآخر يقول: بأن الإسلام دين روحي.. ويضعون علي عبد الرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول. والواقع أن الإسلام ليس فيه غير رأي واحد.. هو الرأي الأول.. وأن ما ذهب إليه علي عبد الرازق عام 1925م لم يكن من الإسلام في شيء .. ولم يكن علي عبد الرازق نفسه إماماً مجتهداً.. وإنما كان قاضياً شرعياً تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم (التجديد) ودعي علي عبد الرازق إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروّج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وهدم مقوماته.. وأهدى هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجماً إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التي يستطيع اقتباسها من كتب الأدب. أما الكتاب نفسه فكان من تأليف قرم من أقرام الاستشراق، وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية.. هو (مرجليوث) الذي تقضي الصدف أن يكون صاحب الأصل الذي نقل عنه طه حسين بحثه عن (الشعر الجاهلي) والذي أطلق عليه محمود محمد شاكر (حاشية طه حسين على بحث مرجليوث)! ويمكن أن نطلق الآن اسم (حاشية علي عبد الرازق على بحث مرجليوث)، وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم (الإسلام والخلافة في العصر الحديث).
(21/4)
وهكذا نجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساساً من رجال التغريب.. ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها.. إيماناً بأن الاسم العربي أكثر تأثيراً، وأبعد أثراً في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب (الشعر الجاهلي) و(الإسلام وأصول الحكم) على أنهما دعامة النهضة في الفكر الحديث.. ونحن نرى أنهما دعامة التغريب التي حاولت خداع جماهير المسلمين عن حقائق الإسلام العظيم.
ومع أن حركة اليقظة الإسلامية واجهت كتاب علي عبد الرازق المنحول وفندت فساد وجهته وأخطائه.. فإن قوى التغريب لا تزال تعيد نشره وطبعه، مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم.. وهم يجدون في هذه الفترة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية. والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى.. ولن يجديهم ذلك نفعاً.. فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما تجمعوا له وقدموه في صفحات براقة مزخرفة، وأساليب خادعة كاذبة. إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ (محمد بخيت) الذي رد على الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) وهو واحد من الكتب التي صدرت في الرد عليه.. حيث قال:
(21/5)
(لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له منه إلا وضع اسمه عليه فقط.. فهو منسوب إليه فقط.. ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزي إلى يوم القيامة). قد علق الشيخ علي عبد الرازق على هذا المعنى حين قال للماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964 لإعادة طبع كتابه أن هذا الكتاب كان شؤماً عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات.. والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من (هيئة العلماء) ظل منسياً ومهجوراً وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة.. بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة.. فقد كان أشبه باللعنة على حياته كلها. ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة .. لأن بلاده (بريطانيا) كانت في حرب مع تركيا.. وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها.. والنصوص في الكتاب قاطعة بأنه كان موجهاً ضد الخلافة العثمانية.. فإنه يذكر بالاسم (السلطان محمد الخامس) الخليفة في ذلك الوقت الذي كان يسكن (قصر يلدز) وهناك نص آخر عن (جماعة الاتحاد والترقي) وهي التي كانت تحكم تركيا.. أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى.. ونقول: إن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين.. وكان السلطان عبد الحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم -أي الاتحاديون- أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد..
(21/6)
ورجح الدكتور ضياء الدين الريس أن مرجليوث اليهودي الذي كان أستاذاً للغة الغربية في أكسفورد بريطانيا هو كاتب الكتاب.. لأن آراء الكتاب هي آراؤه التي كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه (النظريات السياسية في الإسلام) وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية.. وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة، والقدرة على التمويه.. كما يتصف بالالتواء.. وهذه الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبد الرازق.. ومعروف أن الشيخ علي عبد الرازق ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين.. فلا بد أنه كان متصلاً بالمستر مرجليوث. أو تتلمذ عليه.. وكذلك توماس أرنولد الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة قد ألف كتاباً عن الخلافة هاجم فيه الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص .. وقد نقدناه (القول للدكتور الريس) في كتابنا (النظريات السياسية الإسلامية). والقصة تتلخص في أنه إبان الحرب العالمية الأولى والحروب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا .. أعلن الخليفة الجهاد الديني ضد بريطانيا ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها.. وكانت بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات أو ثورتهم عليها.. في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتاباً يهاجم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام، ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين .. وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها .. وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه.. هذا إن لم يفرض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذي اتصل به حينما كان في إنجلترا أو في بعض الجهات البريطانية التي كانت تعمل في الخفاء للقضاء على فكرة الخلافة، أو التي تحارب الإسلام..
(21/7)
فأخذ الكتاب إلى اللغة العربية، أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف إليه بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التي تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب، وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه.. ظناً منه أنه يكسبه شهرة، ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة.. غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة.. ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده.. وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب (السياسة) جريدة من أسموا أنفسهم (حزب الأحرار الدستوريين).. وهذا هو الذي فهمه (أمين الرافعي) فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ علي عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب.. لما عرف عنه من الضعف في تحصيل العلوم، والإلحاد في العقيدة.. ثم قال: هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين، وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين، وصار خليقاً باسم (الأستاذ المحقق) والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ عبد الرازق.. ولكن كلامه يكاد يكون إثباتاً لذلك.. وهناك قرائن أخرى:
أولاً: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة عام 1924.. بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918.. وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس.. وقيل في الهامش أنه كتب في عهده.. وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانياً: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون عنه.. فيذكرهم بضمير الغائب ولا يقول عندنا.. أو العرب.. أو نحو ذلك.. كما يقول المسلم عادة.
(21/8)
ثالثاً: يكرر الشيخ عبد الرازق عبارة: عيسى وقيصر (مرتين).. ويكرر هذه الجملة التي يسميها الكلمة البالغة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير.. وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.
رابعاً: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام. وشنوا الحرب على المسلمين.. فيدافع عنهم.. في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينكر خلافته.. ويقول إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حرباً من أجل الدين.. ولكن نزاعاً في ملوكية ملك ولأنهم (رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر) وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام.. أليست هي وحدة المسلمين..؟! ويقول (حكومة أبي بكر) أو ليست هي حكومة الإسلام والمسلمين..؟! ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل.. كأنه رجل عادي.. أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم.. فضلاً عن الشيخ.. في الكلام عن الصحابة.. وعن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عز وجل ؟!
خامساً: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب.. ليس مألوفاً في الكتب العربية.. فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء واللف والدوران.. فهو يوجه الطعنة أو يلقي بالشبهة.. ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها .. ثم ينتقل ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة (اضرب واهرب). وحين يهاجم يصوغ عباراته في غموض.. وهذا يدل على أسلوب رجل سياسي متمرن في المحاورة والمخادعة.. وهو أشبه بالأسلوب الإفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشرية.. وليس هو أبداً الأسلوب العربي الصريح.. فضلاً عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين في الأزهر.. وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
(21/9)
سادساً: لم يعرف عن الشيخ علي عبد الرازق –من قبل- أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومرن على التأليف.. فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظماء رجاله.
ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب (أي في السياسة والتاريخ) بل كل ما كتب من قبل كان (كتيباً) في اللغة أو في علم البيان وهذا كل إنتاجه في أربعة عشر عاماً بعد تخرجه من الأزهر. ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاماً لم يكتب كتاباً آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.
سابعاً: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذي رواه فضيلة المفتي الشيخ محمد بخيت نقلاً عن كثيرين من أصحاب الشيخ علي عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين.. وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين.. ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن .. الظاهر أنها محشورة .. مجموعات في مكان واحد، وأبيات الشعر التي استشهد بها. كما كتب المقدمة التي زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915.. وذلك ليغطي المفارقة الظاهرية بين وضع الكتاب ووقت صدوره.. فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة صفحة عشر سنوات.
ثامناً: كانت هناك أسباب ودوافع مختلفة دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب.. ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد.. كما فعل غيره من قبل.. ونحن نعرف أن مسألة انتحال الكتب أو عدم الأمانة نسبة الأمور والمعلقات مسألة مألوفة في الشرق. ولا سيما النقل من الكتب الأجنبية.
(21/10)
وفي مثل هذه المسائل بالذات.. فإن هذه الحالة أسهل.. لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول.. أو كانت المسألة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين، فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية والطرف الثاني له مأرب سياسي أيضاً.. ولكن الدافع الذاتي أنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور" ا.هـ كلام الأستاذ أنور الجندي –رحمه الله- من كتابه (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص55 –61).
(21/11)
::::: المجموعة الرابعة :::::
نظرة شرعية في فكر (عبد الرزاق السنهوري)
ترجمته (1) :
-هو عبد الرزاق بن أحمد السنهوري، ولد في 11 آب من عام 1895م في مدينة الإسكندرية. وكان والده موظفاً بمصلحة الصحة.
-دخل مدرسة راتب باشا الابتدائية، ثم مدرسة العباسية الثانوية، فتخرج فيها وكان ترتيبه الثاني في جميع القطر المصري. ثم انتقل إلى القاهرة ودخل مدرسة الحقوق سنة 1913م، ونجح إلى الصف الثاني، فتوفي والده عام 1914م، فاضطر إلى التوظف في مراقبة الحسابات في وزارة المالية، واستمر في دراسته (منتسباً)
-حصل على شهادة الليسانس عام 1917م، وكان ترتيبه الأول.
-تعين وكيلاً للنائب العام في المنصورة عام 1917م. ثم انتقل إلى مدرسة القضاء الشرعي لتدريس القانون فيها عام 1920م.
-سافر في بعثة إلى فرنسا، وتتلمذ على القانوني الفرنسي (لامبير)، وحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم القانونية سنة 1925م برسالته (القيود التعاقدية الواردة على حرية العمل)، ثم حصل على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية والسياسية، وكان موضوع رسالته (الخلافة الإسلامية)، ثم على الدبلوم من معهد القانون الدولي بجامعة باريس.
__________
(1) ... انظرها موسعة في : رجال فكر وقانون، لأحمد فوزي. وفي كتاب الدكتور محمد عمارة عنه: (الدكتور عبد الرزاق السنهوري: إسلامية الدولة والمدينة والقانون) فقد ذكر العديد من المراجع لترجمته. وانظر أيضاً: الأعلام للزركلي.
-عاد إلى القاهرة عام 1926م وعين مدرساً في كلية الحقوق، ثم اشتغل محامياً أمام محكمة النقض والإبرام، ثم عاد عام 1935م إلى كلية الحقوق.
-انتدبته حكومة العراق عام 1935 – 1936م ليكون عميداً لكلية الحقوق، فأصدر مجلة (القضاء)، ووضع قانوناً مدنياً للعراق –كما سيأتي-، ثم عاد إلى مصر.
(22/1)
-في عام 1938م انتقل من عمادة كلية الحقوق إلى وظيفة قاضي بالمحاكم المختلطة، ثم عُين وكيلاً لوزارة المعارف عام 1939م، ثم في عام 1942م اشتغل بالمحاماة.
-عُين عام 1944م وكيلاً لوزارة العدل، ثم وزيراً للمعارف عام 1945م ثم وزيراً للدولة، ثم وزيراً للمعارف مرة ثانية عام 1946م، وأيضاً مرة ثالثة عام 1948م.
-في عام 1949م عُين السنهوري رئيساً لمجلس الدولة .
-حصل بينه وبين جمال عبد الناصر ورفاقه خلاف حاد أدى إلى طرده من مجلس الدولة عام 1954م.
-اعتزل –بعد ذلك- الحياة العامة، ومنعته الحكومة من السفر إلى خارج مصر، واقتصر نشاطه على ندوة في منزله يقيمها مساء كل يوم أربعاء.
-توفي في 27/6/1391هـ بالقاهرة.
مؤلفاته :
1- (الأوراق الشخصية) -وهي مذكراته الشخصية- من 14 أغسطس سنة 1916م حتى 11 أغسطس سنة 1969م طبعت بالقاهرة سنة 1988م.
2- (القيود التعاقدية على حرية العمل في القضاء الإنجليزي – المعيار المرن والقاعدة الجامدة في القانون) –بالفرنسية- رسالة دكتوراه، من جامعة ليون –بفرنسا- سنة 1925م نشرت في فرنسا ضمن مجموعة معهد القانون المقارن بجامعة ليون.
3- (فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية) –بالفرنسية- رسالة دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ليون –بفرنسا- سنة 1926م -نشرت بفرنسا- ضمن مجموعة مكتبة معهد القانون المقارن بجامعة ليون، وترجم القسم النظري منها إلى العربية، ونشر بالقاهرة سنة 1989م.
4- (الدين والدولة في الإسلام) بحث في مجلة المحاماة الشرعية –السنة الأولى- القاهرة سنة 1929م.
5- (تطور لائحة المحاكم الشرعية) –بحث في مجلة المحاماة الشرعية- السنة الأولى- العدد الثاني سنة 1929م.
6- (عقد الإيجار) –دروس لطلبة الليسانس بكلية الحقوق- القاهرة سنة 1929م.
7- (الامتيازات الأجنبية) –بحث نشر في مجلة القانون والاقتصاد- القاهرة سنة 1930م.
(22/2)
8- (الشريعة الإسلامية) –بحث بالفرنسية- قدم إلى المؤتمر الدولي للقانون المقارن –بلاهاي- سنة 1932م.
9- (تقرير عن المؤتمر الدولي للقانون المقارن) –بلاهاي- سنة 1932م نشرت ترجمته ملخصة –مجلة القضاء العراقية- ببغداد.
10- (المسئولية التقصيرية) بحث بالفرنسية بالاشتراك مع الأستاذ حلمي بهجت بدوي – نشرته مجلة القانون والاقتصاد- القاهرة- سنة 1932م.
11- (الشرق والإسلام) دراسة نشرتها صحيفة السياسة الأسبوعية –ملحق العدد 2931 –القاهرة في 14 أكتوبر سنة 1932م.
12- (وجوب تنقيح القانون المدني، وعلى أي أساس يكون هذا التنقيح) –بحث نشرته مجلة القانون والاقتصاد –السنة السادسة- العدد الأول –القاهرة سنة 1933م.
13- (نظرية العقد) –دروس لطلبة الليسانس بكلية الحقوق- في ألف صفحة، القاهرة سنة 1934م.
14- (مقدمة كتاب الالتزامات الأجنبية) –بحث تحليلي للمقترحات البريطانية بشأن الامتيازات الأجنبية –نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة سنة 1936م.
15- (الإمبراطورية العربية التي نبشر بها) بيان، نشرته مجلة الرابطة العربية، السنة الأولى –العدد الثاني عشر- القاهرة 1936م.
16- (الوحدة العربية) –ثلاثة مقالات- نشرتها مجلة الرابطة العربية – القاهرة سنة 1936م.
17- (نبي المسلمين والعرب) –بحث نشرته مجلة الهداية العراقية- بغداد سنة 1936م.
18- (تقديم) مجلة القضاء العراقية –في عهدها الجديد-بغداد- سنة 1936م.
19- (عقد البيع في مشروع القانون المدني العراقي) –بغداد- سنة 1936م.
20- (عقد البيع في مشروع القانون العراقي) مجلة القضاء العراقية-بغداد سنة 1936م.
21- (من مجلة الأحكام العدلية إلى القانون المدني العراقي- حركة التقنين المدنية في العصور الحديثة) –بغداد- سنة 1936م.
22- (مقارنة المجلة بالقانون المدني العراقي) –بغداد سنة 1936م.
23- (علم أصول القانون) دروس لطلبة حقوق العراق –بغداد- سنة 1936م.
(22/3)
24- (واجبنا القانوني بعد معاهدة سنة 1936م) محاضرة ألقيت بالقاهرة في 31 ديسمبر سنة 1936م.
25- (المسئولية التقصيرية في الفقه الإسلامي) –بحث بالفرنسية- قدم إلى المؤتمر الدولي للقانون المقارن –بلاهاي- سنة 1937م ونشرته مجلة القانون والاقتصاد- بالقاهرة.
26- (المعيار في القانون) بحث –بالفرنسية- نشر في مجموع الأبحاث المهداة إلى الفقيه الفرنسي جيني – سنة 1937م.
27- (الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع المصري) –بحث بالفرنسية- نشر في مجموعة الفقيه الفرنسي إدوار لامبير سنة 1937م.
28- (الموجز في النظرية العامة للالتزامات) لطلاب الليسانس بكلية الحقوق- في 750 صفحة- القاهرة سنة 1938م.
29- (أصول القانون) لطلبة الليسانس بكلية الحقوق- القاهرة سنة 1938م بالاشتراك مع الأستاذ أحمد حشمت أبو ستيت.
30- (تطبيق نظرية الظروف الطارئة على عقود البيع المبرمة قبل قانون الإصلاح الزراعي) –مجلة المحاماة- القاهرة سنة 1941م.
31- (مشروع تنقيح القانون المدني المصري) –محاضرة ألقيت بالجمعية الجغرافية الملكية- بالقاهرة في 24 أبريل سنة 1942م ونشرتها مجلة القانون والاقتصاد- السنة الثانية عشرة.
32- (وصية غير المسلم وخضوعها للشريعة الإسلامية) –بحث كبير- قدم كمذكرة قانونية إلى محكمة النقض –القاهرة سنة 1942م.
33- (الروابط الثقافية والقانونية في البلاد العربية) –القاهرة سنة 1946م.
34- (التعاون الثقافي والتشريعي بين البلاد العربية) محاضرة ألقيت في الجمعية المصرية للقانون الدولي –بمؤتمرها الثاني- القاهرة في 24 مايو سنة 1946م.
35- (المفاوضات في المسألة المصرية) القاهرة سنة 1947م.
36- (تقارير مجلس الدولة) منذ ولايته سنة 1949م وحتى سنة 1954م.
37- (تقديم مجلة مجلس الدولة) منذ عددها الأول يناير سنة 1950م وحتى سنة 1954م.
38- (رثاء عبد العزيز باشا فهمي) العدد الثاني من مجلة مجلس الدولة سنة 1951م.
(22/4)
39- (علمتني الحياة) مجلة الهلال –القاهرة- سنة 1951م.
40- (مخالفة التشريع للدستور والانحراف في استعمال السلطة التشريعية) مجلة مجلس الدولة –السنة الثالثة- سنة 152م.
41- (القانون المدني العربي) بحث –نشر بمجموعة الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية –القاهرة- سنة 1953م.
42- (تصدير) للترجمة العربية لكتاب "تاريخ النظريات السياسية" ترجمة الأستاذ حسن جلال العروسي –القاهرة- سنة 1953م.
43- (الوسيط في شرح القانون المدني) –خمسة عشر ألف صفحة- في عشرة أجزاء. صدر الأول منها سنة 1954م والثاني سنة 1956م، والثالث سنة 1958م، والرابع سنة 1960م، والخامس سنة 1962م، والسادس سنة 1963م، والسابع سنة 1964م، والثامن 1967م، والتاسع سنة 1968م، والعاشر سنة 1970م.
44- (الوجيز) وهو تلخيص للوسيط فلقد أراد أن يلخص الوسيط عشرة أجزاء في ثلاثة أجزاء صدر منه الجزء الأول، وتعاقد مع عدد من رجال القانون على إكماله ولكنهم شُغلوا عنه.
45- (مصادر الحق في الفقه الإسلامي مقارنة بالفقه الغربي) –في ستة أجزاء- ألف وخمسمائة صفحة صدر الجزء الأول منه سنة 1954م، والثاني سنة 1955م، والثالث سنة 1956م، والرابع سنة 1957م، والخامس سنة 1958م، والسادس 1959م.
46- (التصرف القانوني والواقعة المادية القانونية) لطلبة الدكتوراه في كلية الحقوق –القاهرة- سنة 1954م.
لمحة عنه:
يعد عبد الرزاق السنهوري بحق (طاغوت القوانين الوضعية المعاصرة)!!؛ فقد سخر هذا الرجل جهوده وذكاءه وتفوقه في سبيل التمكين لهذه القوانين الكفرية في بلاد الإسلام، وتحسين صورتها أمام المسلمين بما يضفيه عليها من مسحات (إسلامية) يخلط من خلالها الحق بالباطل؛ ليكون ذلك أمكن في تثبيتها وأسرع لرواجها بعد أن أشرب قلبه حبها، وقصر عمره على دراستها ونشرها.
فالسنهوري قد قام بعمل القوانين الوضعية التالية:
(22/5)
1-القانون المدني المصري عام 1936، حيث عرضت الحكومة المصرية على السنهوري القيام بعمل قانون جديد لها بدل القانون المصري القديم الذي أنشئ زمن الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1883م، فقام بذلك متعاوناً مع أستاذه الفرنسي (إدور لامبير) !! الذي وضع الباب التمهيدي.
وقد صدر هذا المشروع في يوليو 1948م، وبدأ تنفيذه في أكتوبر عام 1949م (1) .
وقد قال السنهوري مفتخراً بقانونه الوضعي هذا (2) :
جهود منهكات مضنيات وصلت الليل فيها بالنهار
وكنت إذا استبد اليأس يوماً أسل عزيمة الأسد المثار
قلت: بئس الفخر فخرك ! حيث نازعت الله –عز وجل- في حكمه، ومكنت لهذه القوانين الكفرية في الإسلام.
ثم وضع السنهوري أو ساهم في وضع الدستور المصري بعد ثورة جمال عبد الناصر ورفاقه (3) .
2-عمل قانون العراق بطلب من رشيد عالي الكيلاني عام 1936م، وعندما عاد إلى بلاده (اصطحب معه العشرة الأوائل من أبناء كلية الحقوق ببغداد، وألحقهم بكلية الحقوق بالقاهرة، فكانوا نواة الأساتذة العراقيين الذين اضطلعوا بتدريس القانون هناك فيما بعد) (4) !
__________
(1) ... انظر: عبد الرزاق السنهوري.. للدكتور عمارة (ص 50،77).
(2) ... (عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية) (في 6/8/1942م)، و(الدكتور عبدالرزاق السنهوري..) للدكتور محمد عمارة (ص 50-51).
(3) ... عبد الرزاق السنهوري .. للدكتور عمارة (ص 82-83).
(4) ... رجال فكر وقانون، أحمد فوزي (ص 50).
أي أنه لم يكفه أن قام بعمل القانون الوضعي، حتى ربى تحت نظره من يواصل مسيرته في التمكين له! نسأل الله العافية
3-عمل قانون سوريا عام 1943م (1) .
4-عمل قانون ليبيا 1953م، بدعوة من الحكومة الليبية بعد استقلالها (2) .
5-عمل دستور دولة الكويت في عهد أميرها عبد الله السالم الصباح عام 1960 – 1961م (3) .
6-عمل دستور السودان (4) .
7-عمل دستور دولة الإمارات العربية المتحدة (5) .
(22/6)
8-قال الدكتور عبد الباسط الجميعي (وكذلك وضع السنهوري لإمارة البحرين مجموعة من القوانين العصرية) (6) . أي الكفرية!
هذه أهم القوانين التي وضعها السنهوري وهي –كما يقال- أبرز جهوده أثناء حياته!، أفلا يحق لنا بعدها أن نصفه بأنه (طاغوت القانون الوضعي)؟!
ولتوضيح خطورة ما قام به السنهوري:
اعلم أن البلاد الإسلامية قبل أن يضع السنهوري قوانينه الوضعية لكثير منها كانت تحكم بالآتي:
1- بعضها يحكم بالشريعة الإسلامية؛ وهي: المملكة العربية السعودية، واليمن (7) .
2- وبعضها الآخر يحكم بالقوانين العثمانية المستقاة من الشريعة الإسلامية (8) مع بعض التعديلات؛ كالعراق وسوريا وفلسطين والأردن وليبيا.
__________
(1) ... (عبد الرزاق السنهوري) لمحمد عمارة (ص 58).
(2) ... المرجع السابق (ص 83).
(3) ... المرجع السابق (ص 90).
(4) ... المرجع السابق (ص 90).
(5) ... المرجع السابق (ص 90).
(6) ... مجلة البحوث والدراسات العربية –القاهرة- العدد 25 – ص 41.
(7) ... وفق المذهب الزيدي! وهو على كل حال أفضل من الحكم بالطاغوت.
(8) ... وفق المذهب الحنفي، كما جاء في (مجلة الأحكام العدلية) التي كانت بمثابة تقنين للفقه الحنفي.
3- وبعضها يحكم بالقانون الفرنسي!؛ وهي الدول التي انسلخت من الدولة العثمانية، قبل صدور (مجلة الأحكام العدلية)، وهذه الدول: إما أن تكون قد تبنت القانون الفرنسي بمحض إرادتها كما كانت الحال بالنسبة لمصر بلاد السنهوري! (1) .
أو تكون قد تبنتها بسبب الاحتلال الفرنسي؛ كلبنان وتونس والمغرب والجزائر.
(22/7)
وقد كان المسلمون –رغم ضعفهم- يعلمون مخالفة هذه القوانين الفرنسية لشريعة الرحمن، ويتحرج الكثير منهم من التحاكم إليها أو الرضا بها، ويتمنون الخلاص منها، والتحاكم إلى شرع ربهم، وأعداء الإسلام من الذين لا يريدون أن تقوم للشرع قائمة لا يجهلهم ذلك (2) ، ولهذا فقد تفتقت أذهانهم عن خطة ماكرة تقوم على محاولة ترميم وتحسين هذه القوانين الكفرية بمزجها بشيء من الأحكام الشرعية (3) ليسهل هضمها وقبولها من المسلمين بعد خداعهم بهذا المزج الذي سموه (أسلمة) للقوانين، أو (تطويراً) للشريعة الإسلامية!، بشرط أن يقوم بهذه المهمة رجال يحملون الهوية الإسلامية زيادة في التضليل، وحبكاً للمخطط.
وقد وقع نظر القوم على السنهوري باشا! الذي لفت انتباههم بتفوقه وميوله الحقوقية.
__________
(1) ... وذلك بالجهود الخبيثة لمحمد علي باشا وأسرته من بعده، حيث تبنى حفيده إسماعيل هذه القوانين الكفرية، وجلبها لبلاده، بعد أن قام بترجمتها رفاعة الطهطاوي!!
(2) ... وهم يعلمون أنهم راحلون –لا محالة- عن ديار الإسلام، وخشية من أن ينبذ المسلمون قانونهم الكفري بعد الرحيل قرروا هذه المخطط؛ لضمان عدم عودة المسلمين إلى تحكيم الشريعة بعد أن يُلبس عليهم السنهوري وأحزابه بأن القانون الجديد ليس من صنع المستعمر، وأنه لا يتعارض مع شريعة رب العالمين! فانظر إلى هذا المكر الكبَّار ما أعظمه.
(3) ... لا سيما ما يُسمى بالأحوال الشخصية .
فتم ابتعاثه –كما سبق- إلى بلاد القانون الوضعي: فرنسا!، وأوكلت مهمة الإشراف عليه إلى من قيل فيه (علامة القانون المقارن)! (1) ؛ وهو أستاذه (إدوار لامبير) الذي كان يقول عن السنهوري: (لقد وجدت ضالتي المنشودة أخيراً على يد السنهوري، وهو من أنبغ تلاميذه الذين درست لهم خلال حياتي العملية كأستاذ) (2)
(22/8)
ولهذا وجدنا الحكومة الفرنسية تمنح السنهوري وسام (ليجيون دويز) نظراً لجهوده في الترويج لقوانينهم الكفرية بطريقة (إسلامية)!، ونظراً لتقريره اللغة الفرنسية على طلاب الثانوية أثناء وزارته للمعارف عام 1935م (3) .
ولقد قام السنهوري بمهمته كما أراد الأعداء، حيث تولى كِبْر صياغة القوانين الوضعية الكفرية الجديدة بعد أن خلط باطلها الكثير بحقٍ قليل زيادةً في التضليل، وبدهاء لا يجيده إلا أكابر المجرمين.
وأثمرت جهوده (4) كما قال الأستاذ مجيد خدوري : (في إدخال الإصلاح التشريعي وفق أسس علمانية) (5) .
وقال خدوري –أيضاً- : (يمكن أن يُعزى النجاح الملحوظ الذي أحرزه السنهوري إلى أنه بدأ بتطبيق أسلوبه في المواضيع التي تثير أقل قدر من معارضة العناصر المحافظة، أو التي لا تثير معارضة على الإطلاق، وبذلك تجنب عن حكمة (6) الخوض في قضايا مثيرة للجدل يمكن أن تورطه في نزاع مع العلماء ... ولهذا السبب نحج السنهوري حيث فشل الآخرون) (7) .
__________
(1) ... قالها محمد عمارة في كتابه عن السنهوري (ص 34).
(2) ... المرجع السابق (ص 35) نقلاً عن مقدمة لامبير لكتاب تلميذه السنهوري عن (فقه الخلافة وتطورها).
(3) ... المرجع السابق (ص 76).
(4) ... ثمراً مرّاً علقماً.
(5) ... الاتجاهات السياسية في العالم العربي، (ص 246 – 252).
(6) ... بل عن خبث.
(7) ... المرجع السابق.
وقال الدكتور محمد كامل ضاهر عن قوانين السنهوري: (إن المنحى الأساسي الذي ضمنه السنهوري في هذه الدساتير هو العلمنة؛ أي عدم جعل الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي من مصادرها الرئيسية ... ) (1)
وقال –أيضاً- : (لم يأخذ بهذا الفقه –أي الإسلامي- عندما أعد القانون المدني المصري عام 1948، وقاوم كل الاتجاهات التي طالبت باستنباط مبادئ هذا القانون من الشريعة الإسلامية، وأصر على اعتماد المناهج العلمانية الغربية ... ) (2)
(22/9)
قلت: ولابد لمن يريد التعرف على جهود السنهوري في سبيل التمكين لقوانين الكفر من بلاد الإسلام أن يعلم الفكرة التي كان يعدها بمثابة التمهيد لقبول هذه القوانين، وهي مما استقاه من أتباع المدرسة العصرانية التي سبقته (3) .
تقوم هذه الفكرة التي آمن بها السنهوري على خطوتين:
1- (وجوب) تطويع الشريعة الإسلامية لتتوافق مع متطلبات العصر -مهما كانت-، وليس العكس!
2- التفريق في الشريعة الإسلامية بين:
I- العبادات: وهذه لا تقبل –في نظره- الاجتهاد والتطور.
II- المعاملات: وهي ما تقبل الاجتهاد والتطور بين عصر وآخر.
ولتوثيق كل هذا سوف أنقل من كلام الرجل ما يشهد له؛ حتى لا يظن أحد أني أتجنى عليه:
__________
(1) ... الصراع بين التيارين الديني والعلماني (ص 296).
(2) ... السابق (ص 297). وانظر بعض مناقشات أنصار الشريعة الإسلامية للدكتور السنهوري عندما وضع قانونه العلماني هذا، في كتاب الدكتور عمر الأشقر (الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية، ص 138 وما بعدها).
(3) ... وهي مدرسة محمد عبدة وتلاميذة، وقد كان السنهوري –كما ذكر ذلك محمد عمارة- كثيراً ما يثني على أعضاء هذه المدرسة العصرانية.
-يقول السنهوري: (إن الشريعة الإسلامية هي شريعة الشرق (1) ووحي أحكامه، ومتى ألفنا بينها وبين الشرائع الغربية، فروح من الشرق وقبس من نوره يضئ طريقنا للمساهمة في نهضة الفقه العالمية) (2) فالهدف إذاً (التأليف) بين الشريعة وقوانين الكفر!
ويقول : (أمران وددت ألا أموت قبل أن تكون لي قدم في السعي إلى تحقيقهما: فتح باب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية حتى تعود شريعة حية يستقي منها الشرق قوانينه) (3)
وستعلم قريباً إن -شاء الله- حقيقة هذا الاجتهاد الذي يسعى إليه!
(22/10)
-ويقول السنهوري: (إن القرآن الكريم والحديث الشريف هما الجزء المجموع من القانون الإسلامي. وعندي أن لتفسيرهما يجب اتباع قاعدة أساسية وهي أن جزءاً من أحكامهما عام يصلح في عموميته لكل زمان ومكان، ولهذا وضع .
وجزءاً آخر خاص بالزمن والمكان اللذين وضع فيه فلا يتعدى إلى غيرهما إلا إذا اتحدت الظروف والأسباب.
وفي القرآن الكريم نفسه ناسخ ومنسوخ، والنسخ هو قصر بعض أحكام جاءت في ظروف خاصة على هذه الظروف، واستبدال أحكام أخرى بها، بعد زوال الظروف التي اقتضتها.
ومما يجب التنبيه عليه أن كل ما ورد في القرآن والحديث مما يتعلق بعلاقة الخالق بالمخلوق هو من الأحكام العامة التي لا تتغير؛ لأن ظروف علاقة الخالق بالمخلوق لا تتغير، وهذا معنى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) فعنى بالدين هذه العلاقات. وقد وردت في كتابه الكريم مستوفاة لا حاجة إلى إكمالها.
__________
(1) ... سيأتي مقصده من هذا اللفظ (الشرق).
(2) ... (السنهوري ... ) لعمارة (ص 208).
(3) ... عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية (ص 241).
أما ما عدا الدين من الأمور الدنيوية فلا تشمله الآية؛ والسبب في ذلك ظاهر وذلك أن الله تعالى ونبيه الكريم أمرنا أن نطيع العقل في أمور معاشنا وأن ننزل على قوانين العقل في ذلك، ومن قوانين العقل قانون التطور، وهذا القانون يقتضي ألا تثبت الحالات الاجتماعية على نسق واحد بل هي تسير دائماً في تطور وتقدم، (ومثل هذا يقال أيضاً في الحالات الطبيعية) وأن من مقتضى هذا التطور أن تتطور معه علاقات البشر بعضها بالبعض وتتغير تبعاً لذلك القوانين الاجتماعية، فأرادت حكمة الله تعالى ألا تغلق باب التطور الاجتماعي الذي يقتضيه العقل في وجه الناس) (1) .
(22/11)
فالسنهوري يقصر ما هو ثابت في دين الله ولا يقبل التطور بحال على العبادات بمفهومها الضيق؛ كالصلاة والصوم والحج.. الخ (2) ، أما غير ذلك من أمور الدين، فهو يقبل التطور (أو التغيير) ما بين عصر وآخر حسب ما تراه عقول البشر القاصرة.
فهي دعوة علمانية مستترة تريد أن تجعل من الإسلام الشامل لأمور الحياة مجرد عبادات يمارسها العبد بينه وبين ربه؛ كحال النصارى الذين تأثر السنهوري وأحزابه من العصرانيين بنظرتهم لدينهم؛ فأرادوا تعميم تلك النظرة على الإسلام.
__________
(1) ... عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية (ص 159).
(2) ... لم أقل(والزكاة)؛لأنني أظن أن السنهوري سيُخرجها من نطاق العبادة!لتعلقها بأمور مالية قابلة للتطور في زعمه.
ويقول السنهوري –أيضاً-: (الدين ينظر إلى العلاقة بين العبد وخالقه، وهذه لا تتغير، ولا يجب أن تتغير، فالخالق سبحانه وتعالى أبدي أزلي لا يجوز عليه التغيير ولا التبديل (1) ، فالعلاقة بينه وبين العبد ثابتة لا تتطور. أما مسائل الدولة فالنظر فيها لا يكون نظر مصلحة وتدبير) (2)
-ويقول : (إن الفقهاء أدركوا ضرورة هذا التمييز (3) فوضعوا أبواباً للعبادات وأبواباً للمعاملات، وبذلك فرقوا بين المسائل الدينية، والقانون بمعناه الحديث. لذلك يجب أن نقتصر من الفقه في أبحاثنا على أبواب المعاملات، فهذه هي الدائرة القانونية ... ) (4)
وانظر للمزيد: ص 142 – 145 من كتاب (عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية).
__________
(1) ... هذا من تعبيرات أهل الكلام. أما أهل السنة فيصفون الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الصفات الذاتية أو الفعلية، ولا يسمون ذلك تغييراً أو تبديلاً. وبهذا نعلم خطأ المقولة الشائعة عند البعض : (سبحان الذي يغير ولا يتغير).
(2) ... السنهوري.. لعمارة (ص 154).
(22/12)
(3) ... أي بين العبادات والمعاملات . وهذا من الكذب عليهم! لأنهم رحمهم الله يرون أن الجميع دين يجب الالتزام فيه بما ورد في الشرع، وتجنب ما نهى عنه. إنما هم قسموا الفقه إلى عبادات ومعاملات للتمييز بينهما للدارس، وليس كما يوهمه السنهوري من أنهم يرون العبادات لا تتطور ولا تتغير بخلاف المعاملات!
(4) ... المرجع السابق (ص 155).
قلت: والهدف من هذا التمييز (الموهوم) ما بين العبادات والمعاملات، وأن الثانية تقبل التغيير والتطور هو تطويع شريعة الرحمن لتتوافق مع قانون الشيطان وما يسميه العصرانيون : متطلبات العصر. وبدلاً من أن يدور السنهوري مع أحكام الشرع الحنيف ويقوّم بها سلوكه وسلوك الدول التي عمل قوانينها أراد للشريعة أن تدور مع أهوائه وانحرافاته هو وغيره من (العلمانيين) تلامذة النصارى مسمياً ذلك كله (تطوراً) و(تغييراً) تقبله الشريعة. وإنما هو تحليل لما حرّم الله تعالى وتملص وتخلص من أوامره ونواهيه بشتى الحيل.
ولكي يتضح ما سبق بمثالٍ واقعي يشهد على انحراف السنهوري، وأنه يعارض بقوانينه تلك شرع الله، ويحل ما حرَّمه: اسمع ما يقوله عن (الربا) المحرَّم بنص القرآن :
يقول السنهوري: (مهما كانت الحاجة الشديدة إلى النهوض بالشريعة الإسلامية وجعلها مطابقة لروج العصر الحاضر (1) فلا يغيب عمن يريد القيام بإصلاح من هذا القبيل أن يترك للشريعة مرونتها ويكتفي باستنباط أحكام منها تتفق مع العصر الذي هو فيه، دون أن يرتكب خطأ فيقول بصلاحية هذه الأحكام المستنبطة صلاحية مطلقة، فقد يجئ عصر آخر تتغير فيه المدنية والآراء السائدة في الوقت الحاضر، وقد يكون بعض من الآراء في فقه الشريعة لا يصلح في الوقت الذي نحن فيه ويجب تعديله في نظر البعض، ثم يأتي عصر آخر يكون فيه نفس الرأي صالحاً.
(22/13)
والمثل الذي أفكر فيه الآن هو الربا، ولا شك في أن من قواعد النظام الاقتصادي الآن رءوس الأموال وهذه لا تتهيأ إلا إذا تقرر مبدأ الفائدة المعتدلة، فيمكن أن يقول البعض إذن بتقييد الربا الممنوع في الشريعة على أنه الربا الفاحش وهذا تحرمه كل الشرائع ويحرمه العقل والمصلحة.
ولكن ليس من الأمانة العلمية ولا من المصلحة أن يدعي (من يريد إدخال هذا التغيير) أن هذا هو المعنى الذي فهمه المسلمون قبلا من الآيات التي تحرم الربا.
__________
(1) ... هذا المقصد الأول له –كما سبق-.
فالواقع أن المسلمين كانوا يحرمون الربا –كثيرة وقليله- ولم يكن في الأنظمة الاقتصادية في ذلك العهد ما لا يتألف مع هذا التحريم، فإذا جدت أنظمة اقتصادية في عصرنا تقتضي التمييز بين كثير الربا وقليله، وكانت المصلحة تقضي بهذا التغيير فيجب أن يؤخذ على أنه مقيد بالعصر الذي اقتضاه.
وقد يأتي زمن –وتوجد من البوادر ما يدعو لتوقع ذلك- ينتقض فيه النظام الاقتصادي الحاضر وتقل أهمية رءوس الأموال أو تنعدم ويصبح الربا الفائدة مهما قل لا يتفق مع روح العصر، فعند ذلك نرجع إلى ما فهمه المسلمون أولاً من وجوب تحريم الربا ويكون هذا صحيحاً وتتسع الشريعة الإسلامية بالتطور الجديد في الأفكار) (1) !!
أرأيت كيف أحل السنهوري الربا المحرم؟! مستخدماً بذلك خطته الماكرة من تقسيم الشريعة إلى عبادات لا تتطور، ومعاملات تتطور، ويعني بالتطور –كما في المثال السابق- أن ما كان حراماً في الماضي قد يكون حلالاً في عصرنا هذا! فما أشبه صنيع الرجل بما كان يصنعه أهل الجاهلية من تحليل الشهر الحرام عاماً وتحريمه عاماً آخر، حسب المصلحة! كما فعل السنهوري سواء بسواء. فقال سبحانه واصفاً صنيعهم بأنه (زيادة في الكفر) نعوذ بالله من الضلال.
(22/14)
ثم تأمل ذكاء الرجل حيث علم أن نصوص الشريعة تحرم الربا قليله، وكثيره، لا كما يزعم بعض أصحاب الأهواء من اقتصار ذلك التحريم على كثير الربا فقط، أما قليله فحلال، وهو ما ترده نصوص الشرع التي يعلمها السنهوري. فأراد أن يأتي بحيلة أكثر خفاءً لتحليل ما حرم الله.
وما يُقال عن الربا يقال عن غيره من المحرمات التي يريد السنهوري بقوانيه الكفرية تحليلها بعد أن وضع قاعدة (التطور) و(التغير) المزعومة.
__________
(1) ... عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية (ص 161).
وهو لا يقتصر في صنيعه ذلك على أمور الاقتصاد –كما قد يظن- بل يعمم قاعدته لتشمل كل ما يمكن أن يُدخله تحت مسمى (المعاملات)! ؛ كأمور تنظيم الدولة، والتعامل مع الكفار، وأمور المرأة من حجاب واختلاط ونحو ذلك.
ولك أن تقول باطمئنان : بأن السنهوري (1) يسعى من خلال خطته السابقة إلى أن يكون الإسلام كالنصرانية؛ يجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وينزوي من الواقع ليكون مجرد عبادة بين العبد وربه لا دخل له بتنظيم أمور الحياة وعلاقات الناس وأحوالهم المختلفة.
وإن شئت فقل بأن السنهوري يدعو إلى (العلمانية) ولكن بعد أن يلبسها ثوباً إسلامياً؛ وهو ما فتئ يحاوله أساطين العصرانية منذ نشأة تيارهم في بلاد الإسلام (2) .
والعجب بعد هذا كله –أن تجد من الفضلاء- كما حدثني بعضهم من لا زال يحسن الظن بالسنهوري أو يدافع عنه أو يصفه بما لا يستحقه، غافلاً عن جريمته النكراء في حق أمته؛ حيث صرفها عن شرع ربها بشتى الحيل، لترتمي في أحضان قوانينه الكفرية التي استفادها من أساتذته النصارى.
وقد تأكد عجبي هذا بعد أن رأيت الدكتور الفاضل علي السالوس (3) يصفه بـ (العلاَّمة) !
__________
(1) ... ومن خلفه: أساتذته النصارى!
(22/15)
(2) ... لا فرق بين (علمانية) العلمانيين الأقحاح المجاهرين بعلمانيتهم، وبين (علمانية) العصرانيين ؛ لأن الهدف واحد لمن أحسن التأمل، وإنما الاختلاف في الوسيلة فقط، حيث ستر العصرانيون وسائلهم باللباس الإسلامي –كما سبق- بخلاف الأولين . وفي ظني أن أهل العصرنة في زماننا هذا أخطر على الإسلام وأهله من أهل العلمنة ؛ لأسباب كثيرة ليس هذا موضعها.
(3) ... في مقاله عن ودائع البنوك، المنشور في مجلة الاقتصاد الإسلامي، العدد 16.
ثم رأيت الدكتور محمد زكي عبد البر المدرس بكلية الشريعة بالرياض يثني على جهوده في صنع قوانين الدول العربية !! (1)
ومثله؛ ما ذكره الشيخ عبد العزيز القاسم –وفقه الله– من أن السنهوري كان (متبنياً وجوب الرجوع إلى الشريعة عند مراجعة التشريع المصري) (2) !! وسيأتي –إن شاء الله- ماهية الشريعة التي يرى السنهوري وجوب الرجوع إليها!
هدى الله الجميع لما يحب ويرضى، وجنبهم كيد الأعداء.
انحرافاته:
1-أعظم انحراف له –كما علمنا- هو وضعه القوانين الكفرية دستوراً وحاكماً في كثير من الدول العربية، ومساهمته الجادة في تثبيتها وترويجها بين المسلمين، فعليه وزرها ووزر من افتتن وعمل بها. وقد قال الله تعالى فيه وفي أمثاله من الداعين إلى حكم القوانين (3) (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قلبك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً).
__________
(1) ... في مقاله عن كتاب السنهوري (مصادر الحق..)، منشور في مجلة كلية الشريعة بالرياض، العدد 8، جمادى الآخرة 1397هـ . والحق يقال –كما سيأتي- بأنه أجاد في الرد على بعض أخطاء السنهوري.
(2) ... مجلة البيان (العدد 169 – ص 24).
(22/16)
(3) ... ولمعرفة خطورة القوانين الوضعية على دين المسلم انظر: كتاب الشيخ عمر الأشقر (الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية)، والرسالة القيمة للشيخ إبراهيم السنيدي (دخول القوانين الوضعية إلى مصر) –لم تُنشر بعد حسب علمي-.
2-ومن انحرافاته المتعلقة بما سبق أنه إضافةً إلى عمله لقوانين الكفر قام بإفساد القوانين الإسلامية التي كانت تتحاكم إليها بعض الدول العربية ذاك الوقت (1) .
مثال ذلك ما صنعه في العراق، حيث كان هذا البلد يحكم بالشريعة الإسلامية، فجاء السنهوري كما يقول مجيد خدوري (فأدخل عناصر من القانون الغربي في القانون العراقي الذي كان إسلامياً) (2) !!
وقال الدكتور عبد الباسط الجميعي ؛ (هو الذي وضع للعراق قانونها المدني الذي جمع فيه بين أحكام القوانين الوضعية العصرية وأحكام الشريعة الإسلامية) (3) .
__________
(1) ... وهذا دليل على أن الرجل مؤمن بأن قوانينه الكفرية خير من حكم الإسلام، لا كما يدعي محمد عمارة -كما سيأتي- من أنه كان يحاول نقل المسلمين من حكم القانون الوضعي إلى الحكم الإسلامي بعد تطعيم الأول بالمواد الإسلامية، وهي خطوة أولى نحو الحكم الكامل للإسلام، فإذا كان هذا يصدق على الدول التي تحكم بالقانون الوضعي، فما يقول عمارة في صنيع السنهوري هذا، حيث عمد إلى البلاد التي لا زالت تحكم بالشريعة فأفسدها بقوانينه. فأين التدرج المزعوم إلى حكم الإسلام الكامل؟! وهلا قصر جهوده على البلاد التي تحكم بالقوانين الوضعية ؟ ولكن الأمر خلاف ما أوهمنا إياه عمارة.
(2) ... رجال فكر وقانون (ص 54).
(3) ... مجلة البحوث والدراسات العربية –القاهرة- العدد 25 – ص 40.
(22/17)
3-ومن انحرافاته : أن العالم في نظره ينقسم إلى (شرق) و (غرب) ، لا إلى (مسلمين) و (كفار). والشرق الذي يسعى السنهوري إلى رفع مكانته ليمتزج فيه (المسلم) (باليهودي) (بالنصراني) ... . الخ! وهذه تسمية وفكرة بثها أعداء الإسلام قديماً من خلال المستشرقين فتلقفها بعض المثقفين والكتاب من بني جلدتنا؛ كالسنهوري وغيره، وهدفها صرف المسلمين عن حقيقة الصراع الديني القائم بين الإسلام وأعدائه، وإماتة الحس الشرعي لدى أبناء الإسلام، الذي لا يحييه سوى الألفاظ الشرعية: (بلاد الإسلام، بلاد الكفر ... ) ، وتذويب ذلك كله في منافسة (دنيوية) بين شرق يحوي جميع الأجناس والأديان وغرب مقابل له (1) .
يقول السنهوري: (الشرق يتنبه ويريد الآن أن يقوم بقسطه من العمل على سعادة العالم ورفع شأن المدنية، بعد أن سكت عن ذلك مدة، ولكنه يريد أن يبذل مجهوداً جدياً وأن يختط لنفسه طريقاً لا أن يكون مقلداً للغرب، ويريد أن يميز مدنيته الجديدة شيئان:
1-أن تكون تلك المدنية ذات صبغة شرقية تصل الماضي بالمستقبل.
__________
(1) ... وهذا اللفظ يذكرني بلفظ آخر روجه أعداء الإسلام بيننا لإماتة الحس الشرعي لدينا؛ وهو قولهم (الشرق الأوسط)! بدلاً من بلاد الإسلام. وسرعان ما راج بين المغفلين من بني جلدتنا وساعدت وسائل الإعلام (المنافقة) في نشره على نطاق واسع. بل تسمت به!. فما أكثر الألفاظ التي بثها الأعداء بيننا. انظر للمزيد (معجم المناهي اللفظية) للشيخ بكر أبو زيد –سلمه الله ووفقه لمزيد من كشف مخططات الأعداء-.
2-أن تكون تلك المدنية بمثابة رد فعل للمادية المتغلبة اليوم على المدنية الغربية، فقد غالى الغربيون في ماديتهم وأصبح ضحايا هذه المدنية أضعاف المتنعمين بها، فالعالم ينتظر الآن من الشرق أن ينقذه من تلك الوهدة. ومن أكفأ من الشرق في القيام بهذه المهمة وهو الذي كان مبعث النور والخير ومهبط الحكمة والأديان؟) (1)
(22/18)
ويقول –أيضاً-: (يقول الشرق لأبنائه: إن نهضتي هي نهضة دين، وتقوم على سائر الأديان، في أني مقر الأديان الثلاثة، وكلها من عند الله) (2) !!
ويقول موضحاً فكرته ومؤكداً ما قلته: (ليس قيام الشرق معناه قيام دين على دين) (3) !!
فلا فرق بين الأديان عنده! ، ولا فرق بين المسلم والنصراني واليهودي! إنما الفرق أن هذا نشأ مسلماً وهذا نشأ نصرانياً والآخر يهودياً!
ويؤكد لك هذا قوله عن بلاده مصر: (لو أمكن مزج القبطي والمسلم مزجاً تاماً حتى تنعدم كل الفروق، لكان هذا خير ما يُرجى. ولكني أرى أنه يحسن الآن بذل كل مجهود لحصر هذه الفروق في دائرة ضيقة، وهي دائرة الاعتقاد الديني، ولا يكون لهذا أثره في الحياة المدنية للمصري) (4) !!
__________
(1) ... عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية (ص 139).
(2) ... المرجع السابق (ص 97-98)
(3) ... المرجع السابق (ص 98). وانظر أيضاً: الصفحات : 75، 97، 98، 99، 125، 127، 137، 139، 140 من المرجع السابق. وقد حاول المعلقان على أوراقه (ابنته والدكتور توفيق الشاوي) أن يلطفا هذه العبارة بزعمهم بأنه يعني بها (بلاد الإسلام)! ، ولكنه يريد أن ينفي عن نفسه تهمة التعصب الديني!! (انظر: ص 273). وما سيأتي من نقل عن السنهوري يرد هذا الفهم من المعلَقْين! وأنه مجرد دفاع بالباطل –والعياذ بالله-.
(4) ... المرجع السابق (ص 99).
فالهدف إذاً المزج (التام) بين المسلم والكافر بحيث لا يكون بينهما أي فرق! ولكن لعلم السنهوري بصعوبة هذا الأمر لجأ إلى المطالبة بأن تبقى الفروق محصورة في (دائرة الاعتقاد الديني)!
فالفكرة الأساسية للسنهوري هي أن يحل مذهب (الإنسانية) في ما يسميه الشرق محل الأديان. فإن لم يمكن ذلك الآن فلتكن (العلمانية) الخطوة الأولى نحوه! وهو يعبر عن هذا كله بقوله: (أحلم بعالم بشري موحد يقوم على سيادة العقل وعلى سيادة القانون) (1) !!
(22/19)
وهذه ظلمات وكفريات بعضها فوق بعض ، لا يشك فيها مسلم نعوذ بالله من الضلال.
__________
(1) ... المرجع السابق (ص 305).
4-ومن انحرافات السنهوري : محاولاته الحثيثة إفساد (الأزهر)، وهو البقية الباقية لأنصار شريعة الله في بلاد مصر، وذلك بتقليل مواده الشرعية ومزجها باللغات الأجنبية والقوانين الكفرية! يقول السنهوري شارحاً خطته الآثمة: (والجامع الأزهر يحتاج إلى كثير من الإصلاح (1)
__________
(1) ... والحق يقال: بأن الأزهر يحتاج إلى أن يعاد النظر في مواده ومقرراته؛ بحيث يتبنى تدريس مذهب السلف في العقيدة لطلابه، ويلغي كل ما يخالفها من عقائد المتكلمين المتأخرين؛ من أشاعرة ومعتزلة أفسدت على المسلمين دينهم. ويسعى بعد ذلك جاهداً في تعليم القرآن والسنة واللغة العربية وما يعين على دعوة الآخرين للإسلام، وأن تُرى لأبنائه جهود في إنكار البدع والمعاصي المنتشرة في بلاد المسلمين، وما ذلك على الله بعزيز ..
(22/20)
فلو جعل على ثلاثة أقسام: القسم الابتدائي وهذا ينتشر في كل البلاد، والقسم الثانوي منه ما يعد لقسم الدين والعقائد ويجعل مركزه في الأزهر الحالي وفي كل المديريات، ومنه ما يُعد لقسم الآداب، وهو القسم الثانوي بمدرسة دار العلوم، ومنه ما يُعد لقسم الفقه الإسلامي (القانون) وهو القسم الثانوي بمدرسة دار القضاء، ويجعل منهاج الدراسة في هذه الأقسام مناسباً لما يُعد الطالب نفسه لأجله من العلو، مع جعل المبادئ الأساسية للغة العربية والعقائد مشتركة في الجميع، ومع مراعاة إدخال لغة أجنبية شرقية (الفارسية أو التركية) ولغة أجنبية غربية (الفرنسية أو الإنجليزية) في منهاج دراسة القسم الثانوي بدار العلوم، ثم يأتي بعد ذلك الأقسام العالية، وهي قسم الدين والعقائد وهو القسم العالي بالأزهر الحالي (ويُراعى فيه دراسة تاريخ الأديان الكتابية وخلاصتها والمسيحية واليهودية) وقسم الآداب وهو القسم العالي بدار العلوم، ويراعى فيه دراسة اللغة العبرية عدا التوسع في اللغتين الأجنبيتين الأخريين، وقسم الفقه والقانون وهو القسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي، ويراعى فيه دراسة اللغة الفرنسية ومبادئ القانونين اللاتيني والإنجليزي) (1) .
فلماذا الإلحاح يا سنهوري على دراسة هذه القوانين الكفرية؟! ليته كان لتبيين عظمة التشريع الإسلامي مقارنة بها، لكن الهدف –كما علمنا- هو الاستفادة منها، وتطويع الشرع لها.
5-ومن انحرافاته: مطالبته (بتطوير) اللغة العربية! بعد أن طالب بل (طور) الشرع ليتناسب مع قوانينه .
يقول السنهوري: (قلت في كلمة مجمع اللغة أن اللغات المتطورة تتميز بأن تكون لغة الكتابة قريبة من لغة الكلام ولغة الحاضر بعيدة عن لغة الماضي.
__________
(1) ... المرجع السابق (ص 96 – 97) .
(22/21)
وأضيف إلى ما قلت أن اللغة العربية لغة الكتابة فيها بعيدة عن لغة الكلام ولغة الحاضر قريبة من لغة لماضي. وهذا إنما يدل على قليل من التطور، فاللغة كائن حي، لابد من أن يتطور، فإذا أعوز اللغة أن تتطور في الكتابة فلا مناص من أن تتطور في الكلام، فتبعد الشقة ما بين الكلام والكتابة، بينما يكون حاضر اللغة قريباً من ماضيها لبطء تطورها) (1)
وهذا الانحراف لم يستطع المعلقان على أوراقه الشخصية (2) أن يهضماه، فبينا بأن هذا الأمر فيه خطورة على اللغة العربية. وليتهما علقا بمثل هذا التعليق على انحرافاته الأخرى، وهي أخطر من هذا الأمر بكثير
6-ومن انحرافاته: تبنيه كتابة المادة الفقهية وفق المناهج والقوانين الحديثة ومصطلحاتها؛ مما سبب مشاكل عديدة.
وقد أطال الدكتور محمد زكي عبد البر في دفع هذا الانحراف وبيان ما فيه من زلات وجنايات على الفقه الإسلامي في مقاله المشار إليه سابقاً، وهو منشور في مجلة كلية الشريعة بالرياض، العدد 8، جمادى الآخرة 1397هـ
7-ومن انحرافاته: أنه أراد إنشاء (معهد الفقه الإسلامي المقارن)! عام 1946م، ليزاحم به الأزهر الذي لم يكن يقبل بأطروحات الرجل، ومحاولاته الحثيثة تطويع الشريعة الإسلامية لقوانينه الكفرية. ولهذا فقد هاجمه المصلحون وسفهوا رأيه هذا، ووزعت ضده المنشورات في المساجد تصف معهده –كما يقول الدكتور عمارة!- بأنه (أنشئ للإلحاد في دين الله) (3) !
8-ومن انحرافاته: دعوته لتحرير المرأة، ومن ذلك قوله: (لا أظن أن مطالبة الرجال بتحرير النساء تجدي ما دامت النساء لا تطلب ذلك لأنفسهن) (4)
رد الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- على السنهوري:
__________
(1) ... المرجع السابق (ص 280 – 281).
(2) ... وهما : ابنته والدكتور توفيق الشاوي.
(3) ... عبد الرزاق السنهوري ... للدكتور عمارة (ص 65).
(4) ... عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية (ص 91).
(22/22)
يعد الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- من أبرز من تصدى للمدرسة العصرانية الحديثة (مدرسة الأفغاني ومحمد عبده)، وبين خطورتها على الإسلام، وأنها مجرد قنطرة للعلمانية اللادينية، وذلك في كتبه الشهيرة الرائعة التي لا يستغني عنها طالب حق في هذا الباب:
1- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر.
2- حصوننا مهددة من داخلها.
3- الإسلام والحضارة الغربية.
ولم يفت الدكتور –رحمه الله- وهو المعاصر للسنهوري أن يتعرض لجهوده الخبيثة في التنصل من الشريعة الإسلامية وإقراره القوانين الوضعية بدلها تحت دعاوى ماكرة لم تنطل على الدكتور الحصيف –رحمه الله-.
وقد نشر رده على السنهوري في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) (ص111-118)، وكان تعقيباً على مقال للسنهوري بعنوان (القانون المدني العربي).
قال الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله-:
(يدعو السنهوري في مقاله هذا إلى توحيد القانون المدني في سائر البلاد العربية، فيستثني من ذلك الحجاز واليمن، لأنهما يلتزمان الشريعة الإسلامية، (إلى أن يحين الوقت الذي تتمكن فيه من المشاركة في حركة التقنين المدني العربي-ص8). ويقول بعد ذلك: إن التقنين العربي يتنازعه تياران، أحدهما ممثل في القانون المصري، وهو تيار غربي خالص أو يكاد، والآخر يمثله القانون العراقي الحديث، وهو يمزج بين الشريعة الإسلامية والقوانين الغربية. ويُدخل في القسم الأول الذي يصفه بأنه (ينتمي إلى الثقافة المدنية الغربية).. مصر وسوريا ولبنان وتونس والجزائر ومراكش، بينما يُدخِل في القسم الثاني العراق والأردن وفلسطين.
(22/23)
وهو يصف القانون المدني الجديد في مصر بأنه قد جعل للشريعة الإسلامية بعض الاعتبار. ولكنه يعترف بأن (المشرع المصري بالرغم من كل ذلك لم يخط خطوة حاسمة في جعل القانون المدني مشتقاً في مجموعة من الفقه الإسلامي). ويعتذر عن ذلك بأن المشرع المصري قد أخذ بأسباب الأناة والتبصر (وتربص حتى يأخذ الفقه الإسلامي بأسباب التطور –ص10) ثم يعود فيؤكد أن هذا القانون (يمثل أصدق تمثيل الثقافة المدنية الغربية في العصر الذي نعيش فيه-ص15).
أما القانون العراقي فهو يتميز عنده بأنه (أول قانون مدني حديث يتلاقى فيه الفقه الإسلامي والقوانين الغربية الحديثة جنباً إلى جنب بقدر متساوٍ في الكم والكيف-ص18) وهو يرى أن هذه التجربة (من أخطر التجارب في تاريخ التقنين الحديث) لأن وضع نصوص الشريعة الإسلامية إلى جانب النصوص الغربية قد (مكن لعوامل المقارنة والتقريب من أن تنتج أثرها، ومهد الطريق للمرحلة الثالثة والأخيرة في نهضة الفقه الإسلامي، يوم يصبح الفقه مصدراً لأحكام حديثة تجاري مدنية العصر وتساير أحدث القوانين وأكثرها تقدماً ورقياً.. ص19).
(22/24)
وهو يقدر (بعد أن أصبح الفقه الإسلامي والقانون المدني الغربي جنباً إلى جنب في صعيد واحد، أن يتكامل القانونان وأن يتفاعلا، هذا يؤثر في ذاك وقد يتأثر به. ومن ثم تقوم نهضة علمية حقة لدراسة الفقه الإسلامي في ضوء القانون المدني الغربي، وهذه الدراسة هي التي قصدت أن أصل إليها حتى إذا آتت ثمارها وتقدمت دراسة الفقه الإسلامي إلى الحد الذي يجعله مصدراً لقانون مدني يجاري مدنية العصر ويساير ثقافة الجيل، عند ذلك نكون قد بلغنا المرحلة الثالثة والأخيرة، ويتحقق ببلوغنا هذه المرحلة الهدف المنشود-ص20). والهدف المنشود عنده هو الذي أشار إليه قبل ذلك بسطور قليلة حين قال (والهدف الذي قصدت إليه هو أن يكون للبلاد العربية قانون واحد يشتق رأساً من الشريعة الإسلامية). ولكن كلامه الذي تلا ذلك –وهو كلام بالغ الخطورة- يكشف عن مبلغ ما في هذا الزعم من إخلاص، ويبين أنه ليس إلا خداعاً، وأن الشريعة الإسلامية التي بقصدها هي شيء آخر غير الشريعة التي أنزلها الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تمت نعمة الله علينا بإكمالها منذ نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
(22/25)
فهي شريعة تستهدي (مدنية العصر) الغربية و(ثقافة الجيل) الغربية أيضاً، وتروض نفسها على أن ترتفع إلى مستوى شرائع الغرب، لأنها في زعم المؤلف لم تبلغ هذا المستوى. وقصد الكاتب إلى تطوير الشريعة الإسلامية واضح في مقاله هذا كل الوضوح، وهو يقصد بتطوير الشريعة الإسلامية جعلها ملائمة لنظم حياتنا ولأنماطها المنقولة عن الغرب المسيحي، أو الغرب اللاديني على الأصح، فهو يريد أن يشكل الشريعة الإسلامية بشكل هذه الحياة، بدل أن يشكل الحياة بشكل الشريعة، أي أنه يحكم هذه الأنماط الغربية في الشريعة بدلاً من أن يحكم الشريعة في اختيار ما يلائمنا من هذه الأنماط، أو بعبارة أخرى هو يعرض الشريعة على واقع الحياة، ولا يعرض واقع الحياة على الشريعة، وهو مع ذلك لا يميز بين الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الله وبين القانون الغربي الذي صنعته المصالح والأهواء، بل الذي صنعته اليهودية العالمية في بعض الأحيان، كما هو الشأن في القانون الفرنسي الذي استمد منه القانون المصري بخاصة، لأن هذا القانون ثمرة من ثمار الثورة الفرنسية اليهودية التي أصبحت فرنسا من وقتها دولة لا دينية من الناحية الرسمية على الأقل، وما وجه المقارنة بين قانون صنعه الإنسان وبين قانون منزل من عند الله العليم الخبير؟ .
إن الذي يعتريه شك في أن الشريعة الإسلامية –كما هي في القرآن الكريم وكما بينتها السنة الشريفة- منزلة من عند الله هو كافر، والذي يؤمن بأنها منزلة من عند الله لا يعتريه شك في صلاحيتها لكل زمان ومكان، لأن الله سبحانه وتعالى يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، بذلك وصف نفسه –سبحانه- في محكم كتابه، وبذلك يؤمن المسلمون.
(22/26)
والذي يهدف إليه السنهوري هو شر الحلول، لأن الذي يفعله هو تبديل الشريعة الإسلامية، ولا شك أن تفاعل الشريعة الإسلامية السماوية مع شرائع الغرب الوضعية هو شر مما كان حادثاً من استعارة القانون الغربي كله أو بعضه؛ لأن من الممكن التخلص من الدخيل في هذه الحالة. أما في حالة الاندماج والتفاعل فإدراك الحدود بينهما صعب، وتخليص الشريعة الإسلامية مما دخلها من أسباب الزيغ والانحراف يكاد يتعذر بعد أن تتغلغل الروح الغربية في كيانها، ويصبح الناتج من تفاعلهما شيئاً جديداً معقد التركيب تختلف خصائصه وصفاته عن كل من العنصرين المكونين له.
ثم إن الناس في الحالة الأولى يدركون إدراكاً واضحاً أن القانون الذي يحكمهم قانون دخيل. أما في الحالة الثانية فقد يتوهمون أن القانون الذي يحتكمون إليه قانون إسلامي، بل إن كاتب المقال يزعم لهم ذلك منذ الآن.
(22/27)
والواقع أن هذا الذي يفعله السنهوري هو الذي يهدف إليه الاستعباد الغربي. يقول هـ.ا.ر. جب في كتابه "إلى أين يتجه الإسلام؟! (Whither Islam) (ص 328-329 من طبعة لندن 1932): (إن مستقبل التغريب والدور الذي سيلعبه في العالم الإسلامي لا يتوقف على هذه المظاهر الخارجية للتأثر والاقتباس، لأن الصورة الظاهرية ثانوية، وكلما كان التقليد في المظاهر أكمل كان امتزاج الشيء المنقول بنفس المقلدين أقل، لأن فهم الروح والأصول التي تنطوي عليها المظاهر الخارجية فهماً كاملاً لا بد أن يصحبه إدراك التعديلات التي تتطلبها الظروف المحلية. ويمكن أن يزول من العالم الإسلامي كثير من النظم الغربية التي نراها فيه الآن، ثم لا يكون مع ذلك أقل حظاً من الاستغراب، بل ربما كان أوفر حظاً، وإذا أردنا أن نعرف المقياس الصحيح للنفوذ الغربي ولمدى تغلغل الثقافة الغربية في الإسلام كان علينا أن ننظر إلى ما وراء المظاهر السطحية، علينا أن نبحث عن الآراء الجديدة والحركات المستحدثة التي ابتكرت بدافع من التأثر بالأساليب الغربية بعد أن تُهضم وتصبح جزءاً حقيقياً من كيان الدول الإسلامية، فتتخذ شكلاً يلائم ظروفها).
يعود كاتب مقال اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية فيؤكد أن هدفه هو تغريب الشريعة الإسلامية نفسها وفرنجتها، أو بعبارة أخرى إيجاد "إسلام غربي" إن صح هذا التعبير، وذلك حيث يقول: (فالنتيجة الحتمية إذن لوضع القانون المدني المصري ثم لوضع القانون المدني العراقي، مشتقاً منه ومن الفقه الإسلامي على السواء هي النهوض بدراسة الفقه الإسلامي في ضوء القانون المدني الغربي- ص21).
(22/28)
ومع ذلك فهذا القانوني الذي يظن بالتشريع الإسلامي التخلف عن القانون الغربي يعترف بأنه لم يدرس الشريعة الإسلامية إلا في وقت حديث متأخر جداً، حين اشترك في وضع القانون المدني العراقي، فأتيح له الاطلاع على بعض نصوص الفقه الإسلامي، وهو هنا يعترف اعترافاً صريحاً بأن اطلاعه على الفقه الإسلامي جديد تاريخاً، ومحدود موضوعاً، لا يتجاوز ما أتيح له أثناء اشتراكه في لجان وضع القانون العراقي، وأنه لم يمنحه من وقته سنة من عشرات السنين التي أفناها في دراسة القانون الفرنسي، والواقع أن هذا الجهل بالشريعة الإسلامية يعلل فتنته بالقوانين الغربي، التي حدت به إلى المجاهرة بأن تكون روح التقنين الغربي وأسلوبه هما قوام نهضة التشريع الإسلامي، وهو بذلك معذور لجهله حسب اعترافه، ومن جهل شيئاً عاداه، ولكن من الظلم للناس وللإسلام وللقانون أن يسلم زمام التشريع في البلاد الإسلامية إلى الذين يجهلون شريعتها، ومن الواضح أن الرجل حين رأس لجان القانون المدني الجديد في مصر لم يكن على معرفة بالشريعة الإسلامية، لأنه إنما اتصل بها حسب اعترافه أثناء اشتراكه في لجان القانون المدني العراقي، وقد كان ذلك بعد وضع القانون المدني المصري الجديد، واعترافه في هذا الصدد صريح، إذ يقول (وأكثر ما كان درسي للفقه الإسلامي عند وضع القانون المدني العراقي، فإن هذا القانون كما قدمت مزيج صالح من الفقه الإسلامي والقانون المصري الجديد، فأتاح لي اطلاعي على نصوص الفقه الإسلامي –سواء كانت مقننة في المجلة (1)
__________
(1) ... المقصود هو (مجلة الأحكام العدلية) التي أصدرتها الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر متضمنة صياغة الأحكام الإسلامية –على المذهب الحنفي- في شكل مواد على النمط الغربي..
(22/29)
ومرشد الحيران، أو كانت معروضة عرضاً فقهياً في أمهات الكتب وفي مختلف المذاهب- أن ألحظ مكانة هذا الفقه وحظه من الأصالة والابتداع، وما يكمن فيه من حيوية وقابلية للتطور –ص22).
ويرسم كاتب المقال منهجاً يقترحه لدراسة الفقه الإسلامي (لإحيائه والنهضة به نهضة علمية صحيحة) حسب زعمه، فيقرر في بدء كلامه أن (الأساس في هذه الدراسة أن تكون دراسة مقارنة، فيدرس الفقه الإسلامي في ضوء القانون المقارن)، ولست أدري ما حاجتنا إلى هذه المقارنة، ولماذا كل هذا الحرص على أن لا نخالف التشريع الغربي ولا نبتعد عن روحه؟ أليس في ذلك قتل لشخصيتنا وإفناء لها في الغرب، مما لا يخدم سوى مصالح الاستعباد والتبشير؟ ذلك إلى ما يتضمنه من تبديل شرع الله وتحريف الكلم فيه عن مواضعه، وهو كفر صريح، وليس بعد الكفر ذنب.
ويطالب الكاتب بدراسة مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، السني منها والشيعي والخارجي والظاهري: (وتُستكشف من وراء كل هذه قواعد الصناعة الفقهية الإسلامية، ثم تقارن هذه الصناعة بصناعة الفقه الغربي الحديث. حتى يتضح ما بينهما من الفروق ووجوه الشبه، حتى نرى أين وقف الفقه الإسلامي، لا في قواعده الأساسية ومبادئه، بل في أحكامه التفصيلية وفي تفريعاته، فتمتد يد التطور إلى هذه التفصيلات، على أسس تقوم على ذات الفقه الإسلامي وطرق صياغته وأساليب منطقه، وحيث يحتاج الفقه الإسلامي إلى التطور يتطور، وحيث يستطيع أن يجاري مدنية العصر يبقى على حاله دون تغيير، وهو في الحالين فقه إسلامي خالص (؟!) لم تداخله عوامل أجنبية فتخرجه عن أصله (؟!) –ص 23).
(22/30)
ألا تعجب معي لهذا الرجل الذي يزعم بعد كل ما قاله أن الفقه الإسلامي الذي يسعى إلى تطويره تحت وصاية التقنين الغربي وفي ولايته هو فقه إسلامي خالص؟ وكيف يكون خالصاً وهو يحكم فيه (روح العصر)، وهي روح غربية حسب اعترافه في كل موضع من مقاله؟ ومن الواضح أن (مدنية العصر) التي يطلب السنهوري إلى الفقه الإسلامي أن يجاريها، ويطلب إلى واضعي القانون أن يتخذوها مقياساً لصلاحية الفقه الإسلامي، هذه المدنية هي مدنية غربية فرضها الاستعباد الغربي ونجح في ترويجها وفي إرساء دعائمها وتنشئة الرجال الذين يسهرون عليها ورعاية هؤلاء الرجال ودفعهم إلى مناصب القيادة والزعامة، بما يسمح لهم أن يرعوا جيلاً جديداً من أتباعهم، ثم يرعى هذا الجيل جيلاً من بعده، وهكذا دواليك، فتصبح قيادة المسلمين الفكرية والسياسية دائماً في يد هذه العصابة، لا يسمع الناس إلا كلامها وكلام أذنابها، ولا يرون إلا صورها وصور أذنابها، ولا يرقى أحدهم إلى مرتبة من مراتب الشرف ولا يُفتح له باب من أبواب الرزق إلا إذا حصل على جواز المرور من هذه العصابة التي تسد كل منفذ وتتحكم في كل باب وتحتل كل معقل، ويظل المسلمون هكذا محكومين في حقيقة الأمر بالاستعباد الغربي وهم يظنون أن حكامهم هم إخوانهم وأبناء أمتهم.
(22/31)
ويقترح السنهوري بعد ذلك إنشاء معهد خاص يلحق بجامعة الدول العربية لدراسة الفقه الإسلامي حسب ذلك المنهج الذي يقترحه، وهنا يلتقي السنهوري بطه حسين، الذي اقترح في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر – الفقرة 49) إنشاء معهد للدراسات الإسلامية في كلية الآداب، كما يلتقي بمحمد خلف الله في اقتراحه الذي تقدم به إلى وزارة التربية والتعليم عن إعداد مدرس الدين، فاقترح فيه (أن يعاد النظر في تكوينه وإعداده وأن يُرسم لذلك منهج يحقق له عمق الثقافة وحرية الفكر). وبنى على ذلك اقتراحاً بإنشاء (قسم أو شعبة للدراسات الإسلامية في كلية للآداب بالجامعات المصرية) (تدرس فيما تدرسه "سيكولوجية الدين" و"النظم الدينية والأخلاقية المقارنة" ولغة أو لغتين شرقيتين كالفارسية والأردية، ولغة أو لغتين غربيتين، ليكونوا على اتصال بتيارات التفكير الثقافي في الشرق الإسلامي وفي الغرب) (1) .
ومع ذلك كله فليس للشريعة الإسلامية من الاعتبار عند كاتب هذا المقال أكثر مما للقانون الروماني، فالغاية عنده من إنشاء ذلك المعهد الذي اقترحه هي أن (تنتهي هذه الدراسة بعد عشرات من السنين إلى أن يتجدد شباب هذا الفقه، وتدب فيه عوامل التطور لروح العصر، وتكون نهضة الفقه الإسلامي هذه شبيهة بنهضة القانون الروماني في العصور الوسطى، ويُنبت الفقه الإسلامي قانوناً مدنياً متطوراً يجاري المدنية الحديثة، وينبثق هذا القانون الحديث من الشريعة الإسلامية كما انبثقت الشرائع اللاتينية والشرائع الجرمانية من الفقه الروماني –ص24).
مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن مسلم يعتقد أن الشريعة الإسلامية منزلة من عند الله، وأنها حدود الله، لا يتعداها إلا كافر ظالم لنفسه.
__________
(1) ... مجلة الأسرة –يصدرها قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالإسكندرية- العدد السادس سنة 1957ص 160-165.
(22/32)
ثم يأخذ الكاتب في بيان ما يتضمنه التقاء القانون الغربي بالفقه الإسلامي من وجوه واحتمالات، ويخرج القارئ من كلامه بأن ما يسميه (اشتقاق القانون من الشريعة الإسلامية) ليس في حقيقة الأمر إلا إخضاع الشريعة الإسلامية لأهواء العصر وشهواته وهو ما يسميه (مدنية العصر). وخلاصة ما يقوله هنا أنه لا يأخذ بحكم الشرع إلا حيث يتفق تماماً مع روح القوانين المدنية المستجلبة من أوروبا، ثم هو يُعدّل الحكم الشرعي أو يلغيه ويسقطه حسب مبلغ تعارضه مع هذه القوانين الغربية الأصول، التي هي في زعمه (أصلح للعصر) أو (تجاري مدنية العصر) أو (تساير روح العصر)، حسب تعبيره في مواضع مختلفة من هذا المقال.
وتطوير الفقه الإسلامي الذي يدعو إليه الكاتب، أو تبديله على الأصح، هو تطوير وتبديل لا يقف عند حد حسب اعترافه هو نفسه حيث يقول: (فالهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الإسلامي وفقاً لأصول صناعته، حتى نشتق منه قانوناً حديثاً يصلح للعصر الذي نعيش فيه، فإذا استخلصنا هذا القانون في نهاية الدرس وأبقيناه دائم التطور حتى يجاري مدنيات العصور المتعاقبة، فقد تكون أحكامه في جزء منها، قل أو كثر مطابقة لأحكام القانون المدني العراقي أو لأحكام القانون المدني المصري أو الأحكام كل من القانونين.. إلخ ص 28). والمهم في ذلك كله أن هذا التطور الدائم سوف ينتهي بذلك التشريع الإسلامي المزعوم في المدى القريب أو البعيد إلى أن يصبح شيئاً مختلفاً عن الإسلام الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام اختلافاً تاماً، بل إنه لكذلك منذ بدء وضعه أو التفكير فيه كما هو ظاهر في هذا البحث). انتهى كلام الأستاذ محمد محمد حسين -رحمه الله-.
لماذا يدافع الدكتور محمد عمارة عن السنهوري؟ !
(22/33)
لقد قام الدكتور محمد عمارة بتجنيد نفسه مدافعاً ومحامياً عن السنهوري باشا صانع قوانين الكفر من خلال نشر المقالات في الصحف والمجلات (1) وتأليف كتاب بعنوان (الدكتور عبد الرزاق السنهوري: إسلامية الدولة والمدنية والقانون) (2) !! زاعماً أن السنهوري لم يكن علمانياً أبداً (3) ، وإنما كان إسلامياً يسعى إلى قيام حكم الإسلام واتخذ من القوانين الوضعية المطعمة بمواد إسلامية قنطرة وسلماً لذلك الهدف العظيم!
وهذه مغالطة مكشوفة من الدكتور يعلمها كل باحث اطلع على تراث وجهود السنهوري، كان ينبغي على صاحبها أن يستحي من ادعائها، وأن يتذكر قوله تعالى (ولا تكن للخائنين خصيماً)، وقوله (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً)
وما سبق نقله من انحرافات وأقوال السنهوري نفسه تدحض هذا الإدعاء من الدكتور عمارة.
__________
(1) ... كمجلة المنهل (الأعداد: 561 – 564 – 566 – 569)، ومجلة المجتمع (الأعداد: 1369 إلى 1372).
(2) ... الصادر عن دار الرشاد بمصر عام 1420هـ.
(3) ... انظر: ص 50 من كتابه.
وفي ظني –والله أعلم- أن الذي حدا الدكتور عمارة لاقتحام هذا الأمر هو سعيه الدؤوب لإحياء تراث المدرسة العصرانية، ونشره بين أبناء المسلمين (1) . فلما رأى أن السنهوري معجب ببعض رموز هذه المدرسة؛ كالكواكبي وغيره، ورأى توافق فكر الرجل مع شيوخه العصرانيين تحمس للدفاع عنه وتلميع صورته (الكالحة) أمام أبناء الإسلام؛ ليُرَوج عليهم ضلالاته.
ومن أعجب مقالات الدكتور عمارة عن السنهوري قوله عنه : (جعل رسالة حياته منذ فجر شبابه إحياء الشريعة الإسلامية) (2) !!
وأنه (كان أسبق وأعمق من الإخوان المسلمين) (3) !
__________
(22/34)
(1) ... وذلك بعد توبته من الشيوعية!ليتحول بعدها إلى بعث تراث المعتزلة ومدرستهم الحديثة؛فأحيا لأجل هذا (مخلفات)رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين!وغيرهم من رموز هذه المدرسة،حتى قال الناصحون:ليته بقي على شيوعيته!وهذا مما يشهد بعدم صدق توبة الرجل،وإنما هو(تكتيك)تقتضيه المرحلة!خلافاً لما يظنه بعض المخلصين الذين انخدعوا بأطروحاته الجديدة ومساهمته في الرد على من يسميهم (غلاة العلمانيين)!فاستكتبوه لأجل هذا في مجلاتهم وصحفهم!،جاهلين أن فكر عمارة وأحزابه من العصرانيين أضر على الأمة من خُلص العلمانيين؛لأن هذا الفكر–كما سبق- يحقق الهدف العلماني(وفق الطريقة الإسلامية)!فهل يتنبه الغافلون وأصحاب الظن الحسن؟!ثم يطالبون الرجل إن كان صادقاً في توبته أن يتبرأ من هذا الفكر المخالف للكتاب والسنة.نسأل الله ذلك،ونسأله أن يهدي الدكتور محمد عمارة إلى الحق ويوفقه للتوبة النصوح،وأن يسخر جهوده وجَلَده على البحث لنصرة دعوة الكتاب والسنة. انظر لبيان حقيقة أفكار الدكتور عمارة:رسالة(محمد عمارة في ميزان أهل السنة)لكاتب هذا البحث.
(2) ... مجلة المنهل (العدد 561).
(3) ... عبد الرزاق السنهوري ... . (ص 106)، والإخوان المسلمون عليهم مؤاخذات عديدة، لكن لا مقارنة بينهم ألبتة وهذا الطاغوت.
وأنه كان مؤمناً أشد الإيمان بالله ! لقوله عنه تعالى: (أنت موجود لأنك خلقتني) (1) !!! أو قوله: (أدرك أن هناك قوة غير منظورة تحيطني وأؤمن بها، وإني من صُنْع هذه القوة) (2) !!
إلى آخر هذا الهراء..
(22/35)
ونسي عمارة أن هذا مما يشترك فيه الوثني باليهودي بالنصراني بالمسلم، وإنما الذي يُميز المسلم عن غيره من الكفرة هو إيمانه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحقيقه توحيد العبادة لربه، وعدم نقضه بأيٍ من نواقض الإسلام المعروفة، إضافة إلى كفره بالطاغوت. وهذا مما لم يحققه السنهوري لا سيما الأخير، بل كان (طاغوتاً) من ضمن الطواغيت –والعياذ بالله-
ولقد قام الدكتور الفاضل عباس حسني محمد عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض بالرد على ادعاءات الدكتور عمارة التي حاول فيها الدفاع عن السنهوري وتحسين صورته أمام المسلمين . فإليك مقاله الرائع، وقد أتى فيه ببعض الفوائد والزيادات التي لم يتطرق لها هذا البحث فيما سبق.
قال الدكتور عباس تحت عنوان : (هذا هو موقف السنهوري باشا من الشريعة):
(لقد أشاد الكاتب –أي محمد عمارة- بالسنهوري باشا باعتباره من الدعاة إلى إحياء الشريعة الإسلامية، والحق أن السنهوري كان على العكس من ذلك تماماً، وإني أسوق فيما يلي بعضاً من مظاهر موقف السنهوري من الشريعة الإسلامية الغراء وهي مظاهر واضحة وثابتة إما بصفة رسمية أو بقلمه:
1-من المعلوم أن السنهوري هو واضع القانون المدني المصري، وقد نصت المادة (1) من هذا القانون على ما يأتي:
(1-تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
2-فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة).
__________
(1) ... المرجع السابق (ص118).
(2) ... عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية (ص63).
(22/36)
فهذا النص يقدم أولاً نصوص القانون الوضعي وفحواها على العرف، ثم يقدم العرف على الشريعة، وواضح أن العرف هنا منفصل عن الشريعة فهو ما تعارف عليه الناس دون تقيد بالشريعة، ولذلك جاء هذا العرف الفاسد مقدماً على الشريعة.
ثم يفترض أن الشريعة ناقصة، فيأمر بالرجوع إلى قواعد القانون الطبيعي والعدالة، وهذا ازدراء بالشريعة، وهو أمر يتعارض مع ما أمر به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم باللجوء أولاً وآخراً إلى الشريعة في كل الأمور صغيرها وكبيرها، وفي كل حال سواء في المنشط أو المكره، قال تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً)
وهذا التعبير القرآني البليغ يشمل كل أحوال الإنسان إلى يوم القيامة، لأن الناس إما في أمن أو في خوف، وقد أمر تعالى المسلمين باللجوء بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العلماء الذي يستنبطون الأحكام من أدلتها الشرعية، وقال تعالى (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً* وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا)
2-زعم السنهوري أن الفقه الإسلامي لم يعرف الحوالة فهو يقول : "فلم يكن الفقه الإسلامي إذن بدعاً في تطوره كما قدمنا ولم يقر حوالة الدين دون أن يقر حوالة الحق، بل هو قد سار على السنن المألوفة في التطور، إذ هو قد بدأ بإقرار حوالة الحق بسبب الموت ثم بإقرار هذه الحوالة بين الأحياء، ولكن في مذهب واحد من مذاهبه، ثم وقف تطوره عند ذلك فلم يقر حوالة الحق بين الأحياء في المذاهب الأخرى ولم يقر حوالة الدين لا بسبب الموت ولا بين الأحياء" (الوسيط، للسنهوري: ج3 ص437).
(22/37)
فالسنهوري يعلن هنا أن الفقه الإسلامي شأنه شأن القوانين الوضعية لا يستطيع أن يعرف إلا ما يعرفه بالعقل عن طريق سنة التطور، وهذا نفي صريح للوحي؛ لأن الفقه الإسلامي هو بيان للشريعة الإسلامية التي ما هي إلا وحي يوحى.
ولقد عرف الفقه الإسلامي الحوالة بنوعيها عن طريق الوحي وليس عن طريق التطور، فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيل بحقه على مليء فليحتل" رواه البخاري، وفي رواية صحيحة أخرى: "وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع"، وهذه صريحة في إثبات كافة أحوال الحوالة سواء أكانت حوالة حق أم حوالة دين. هذا ويلاحظ أن السنهوري رتب هذه النتيجة وهي عدم جواز معرفة الفقه الإسلامي للحوالة، لأن هذا مخالف للتطور القانوني على مقدمة غير صحيحة تدل على عدم معرفته للفقه الإسلامي، فهو قد ظن أن الفقه الإسلامي لم يعرف انتقال الالتزام "الدين" بسبب الموت، لأن المبدأ السائد في مصر يقوم على أساس أنه لا تركة إلا بعد سداد الديون، أي لا يجوز نقل الدين بسبب الموت.
ولكنه لم يعلم أن الفقه الإسلامي يصرح بأن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن الالتزام ينتقل بالموت، وفي هذا يقول ابن قدامة: "حكى بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين: هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟ روايتان: إحداهما: لا يمنعه، للخبر: "من ترك حقاً أو مالاً فلورثته"، ولأن تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في حق الجاني والراهن والمفلس، فلم يمنع نقله، فإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين.
والرواية الثانية: منع نقل التركة إليهم "أي: لا تركة إلا بعد سداد الديون".
(22/38)
فالسنهوري رتب هذه النتيجة على مقدمة غير صحيحة، وهي أن الفقه الإسلامي لا يعرف إلا مبدأ "لا تركة إلا بعد سداد الديون"، وهذا غير صحيح، ثم أخضع الفقه الإسلامي لما يخضع له القانون الوضعي من سنة التطور، ونسي أن الفقه الإسلامي يعتمد أصلاً على الوحي، أي : المعجزة، وقد حصلت المعجزة الفقهية –فعلاً- في نزول الوحي بهذا الحديث الصحيح، وهو: "من أحيل بحقه على مليء فليحتل"، فالحوالة جاء بها الشرع، سواء أكان الفقه الإسلامي يرى انتقال الالتزام بسبب الموت أم لا يرى ذلك، والحق أن نزول الحوالة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي من معجزاته الفقهية، لأن القانون الروماني لم يعرف الحوالة أبدأ، كما لم يعرفها قانون نابليون الصادر في سنة 1804م.
3-اعتذر السنهوري عن عدم اعتبار الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول –الذي ينبني عليه القانون المدني- بعذرٍ واه، فقال: "أما جعل الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول الذي ينبني عليه تشريعنا المدني، فلا يزال أمنية من أعز الأماني التي تختلج بها الصدور، وتنطوي عليها الجوانح، ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة، ينبغي أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون" (الوسيط، للسنهوري: ج1 ص 48 هامش:1)
فالسنهوري يزعم أن الشريعة الإسلامية لا يمكن تطبيقها قبل دراستها دراسة قوية في ضوء القانون المقارن، فالشريعة الإسلامية غير قابلة –في نظره- للتطبيق قبل دراستها دراسة عميقة، لقد أنزل الله تعالى الشريعة الإسلامية ميسرة للتطبيق الفوري، وطبقت مئات السنين، وهي تطبق الآن في بعض الدول الإسلامية القليلة، هذا ولا يوجد في العالم تشريع سماوي أو وضعي درس دراسة عميقة مستفيضة مثل الشريعة الإسلامية، ولقد احتوى الفقه الإسلامي على آلاف الدراسات العميقة، ولا توجد أي فكرة تعرض لها الشراح في القوانين القديمة والحديثة إلا وتعرض لها فقهاء الإسلام إما بالقبول أو الرفض.
(22/39)
وإذا كان السنهوري يرى ذلك في الشريعة الإسلامية، فإن علماء القانون المقارن في الغرب أقروا بعظمة الشريعة الإسلامية مع أنهم ليسوا بمسلمين:
-ففي المؤتمر الدولي للقانون المقارن المنعقد في لاهاي سنة 1932م أعلن العالم القانوني الفرنسي لامبير تقديره العظيم للفقه الإسلامي.
-وفي مؤتمر المحامي الدولي المنعقد في لاهاي والذي اشترك فيه كبار علماء القانون من ثلاث وخمسين دولة جاءت قراراته تشيد بالشريعة الإسلامية.
-وفي يوليو سنة 1951م، عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمراً في كلية الحقوق بجامعة باريس للبحث في الفقه الإسلامي، وفي خلال مناقشة المؤتمر قال أحد نقباء المحامين في باريس، ما يأتي : "كيف أوفق بين ما كان يُحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحيته أساساً تشريعاً يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور وبين ما نسمعه الآن، مما يُثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادئ".
وقد ألف رجال القانون الدولي جمعية خاصة ببحث كتب محمد بن الحسن الشيباني –صاحب أبي حنيفة- واعتبروه أباً للقانون الدولي.
ولكن السنهوري يرى أن الشريعة الإسلامية لا يمكن تطبيقها الآن إلا بعد إعادة دراستها دراسة قوية في ضوء القانون المقارن، وهو يقدم –رسمياً- العرف عليها ويفترض نقصانها باللجوء إلى قواعد القانون الطبيعي والعدالة.
ولنا أن نتساءل: ما هذه الدراسات التي تحتاج إليها الشريعة الإسلامية؟
يرى السنهوري أنه لابد من تطوير الشريعة الإسلامية، فمثلاً الحدود الشرعية لم تعد تصلح في نظره للتطبيق الآن، ولابد من إحلال عقوبات السجن والغرامة بدلاً من الرجم والجلد والقطع، وهذا أمر مستحيل حصوله إلا من خلال التكذيب بآيات الله البينات، ومما هو معلوم من الدين بالضرورة (1) .
__________
(1) ... وهذا من انحرافات الرجل الكثيرة التي لم أذكرها، وهي تدخل ضمناً في تفضيله حكم القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية.
(22/40)
4-نصت المادة (492مدني مصري) على أن هبة الأموال المستقبلة باطلة، لأنه تبرع بمعدوم، وذلك رغم أن القانون نفسه يجيز التعامل بعوض في المال المستقبل، وبرغم أن الهبة الأصل فيها عدم وجود مقابل لها، فلا خطر من انعدامها وقت التعاقد، ولا خسارة تعود على الموهوب له إذا لم توجد عند التنفيذ، بعكس الحال في عقود المعاوضات المالية، كما هو واضح، فكان من الأليق وقد أجاز القانون التعامل في الأموال المستقبلة بعوض أن يجيزه من باب أولى في الأموال بغير عوض.
وقد ذكر السنهوري في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني المصري: أن بطلان هبة المال المستقبل تطبيق لأحكام الشريعة الإسلامية في مبدئها العام الذي يمنع التعامل في المعدوم (الوسيط، للسنهوري: ج5 المجلد الثاني)
لكن فقهاء الإسلام اختلفوا بالنسبة للتعامل في المعدوم: فالحنفية منعوه تماماً، وغيرهم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن نحا نحوهما ذهبوا إلى أن التعامل بالمعدوم صحيح إذا وصف وصفاً كافياً نافياً للجهالة، وحجتهم قوية، فأحاديث السلم ثابتة وصحيحة، وهي تُجيز ذلك صراحة، وفقهاء الإسلام بصفة عامة يتخففون في التبرعات فيجيزون فيها ما لا يجوز في المعاوضات، وهم يقسمون المعاوضات إلى مالية وغير مالية، ويذهبون إلى أن الغرر لا يؤثر إلا في المالية، ومن باب أولى لا يؤثر في التبرعات.
ومن هنا نعلم أن ما ذكره السنهوري ليس صحيحاً، بل هو يتعارض تماماً مع الفقه الإسلامي، وكان الأجدر أن يُقال هنا إن القانون المصري جرى وراء التشريع الفرنسي الذي يمنع هبة المال المستقبل (م943 مدني فرنسي).
5-ذهب السنهوري إلى أن الفقه الإسلامي يرفض فكرة الاشتراط لمصلحة الغير، وردده في كتبه، ولقد عرف الفقه الإسلامي الاشتراط لمصلحة الغير باسم: اشتراط نفع الأجنبي عن العقد، واختلف الفقهاء بشأنه، فمنهم من أجازه بإطلاق، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية.
(22/41)
وقد صدرت في عام 1977م رسالة دكتوراه بكلية الحقوق –جامعة القاهرة- قسم الشريعة، عنوانها: "الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الإسلامي والقانون المقارن"، وثبت فيها أن فكرة الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الإسلامي أوسع وأدق من نظيرتها في القانون.
6-إنه لمن العجيب حقاً أن د. محمد عمارة ساق لنا في مقاله عبارات للسنهوري تؤكد ما نقوله تماماً، فيقول: "ولذلك دعا السنهوري إلى إشراك غير المسلمين في حركة تجديد فقه المعاملات وتقنينه، وذلك بإحياء المبدأ الإسلامي: شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ".
فالسنهوري يرى ببساطة أنه من المستحسن أن يشترك في الاجتهاد في أحكام المعاملات في الفقه الإسلامي غير المسلمين، وهذا يبطل الاجتهاد، لأنه من أول شرائط الاجتهاد: أن يكون المجتهد مسلماً، فكيف يشترك الكفار في الاجتهاد الذي هو استنباط الحكم الشرعي من الأدلة من الكتاب والسنة؟!
ثم ما علاقة اجتهاد الكافر في الإسلام بقاعدة "شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ"؟ إن الاجتهاد لا يكون إلا فيما لم يرد فيه نص، وأما شريعة من قبلنا، فلا يمكن الأخذ بها إلا إذا ثبتت بنص من الكتاب أو السنة أولاً.
وبعد: فإن هذه بعض الأمثلة التي تدل على أن السنهوري لم يكن من أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية، وإنما على العكس من ذلك، كان يرى وجوب تطويع الشريعة للقوانين الوضعية، حتى يمكن تطبيقها، وأن يقوم الكفار بهذا العمل، وهذا أمر خطير ولا ريب) (1) .
__________
(1) ... مجلة المجتمع، العدد 1386 – 26 شوال 1420هـ
(22/42)
::::: المجموعة الرابعة :::::
نظرة شرعية في فكر (زكي نجيب محمود)
ترجمته (2) :
هو: زكي نجيب محمود.
ولادته: 1905 في ميت الخولي عبد الله، مصر .
وفاته: /10/1993.
__________
(2) ... الترجمة مقتبسة من (أعلام الأدب العربي المعاصر) لروبرت كامبل (2/1188-1191). وانظر: تتمة الأعلام، للأستاذ محمد خير رمضان يوسف.
ثقافته:
تعلم في مدرسة ميت الخولي الابتدائية ثم في القاهرة، دخل مدرسة كلية جوردن في الخرطوم، فمعهد المعلمين الأعلى، القاهرة، 1926 – 1930، ثم كلية الملك (King’s College)، جامعة لندن، 1944-1947.
وحصل على دكتوراه في الفلسفة.
حياته في سطور:
كاتب، أستاذ جامعي في الفلسفة، أستاذ زائر في كلية كولومبيا ولاية كارولينا الجنوبية وجامعة الدولة، واشنطن، الولايات المتحدة، 1953. مستشار ثقافي للسفارة المصرية في واشنطن العاصمة، أستاذ زائر في الجامعة العربية، بيروت، 1964، أستاذ في جامعة الكويت، 1968-1973؛ محرر مجلة الثقافة، 1949-1952، والفكر المعاصر، 1965-1968؛ ثم أصبح عضو المجلس الأعلى للثقافة عند إنشائه من جديد سنة 1980 كما هو عضو المجلس القومي للثقافة، 1979 وعضو المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا.
نال جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة، 1960؛ وظفر بجائزة الدولة التقديرية، في الأدب، 1975؛ وأنعم عليه بوسام الاستحقاق من الطبقة الأولى. لقد زار كلاً من الجزائر وسورية والعراق ولبنان والكويت وأبو ظبي والسودان كما زار فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية. وقد اقترن بلوغه الثمانين بفوزه بالجائزة التقديرية للثقافة العربية التي منحته إياها منظمة "الألكسو"
السيرة:
(23/1)
يقول عن نفسه: "ولدتُ في اليوم الأول من شهر فبراير سنة 1905 بقرية ميت الخولي عبد الله بمحافظة دمياط في الشمال الشرقي من دلتا النيل وقضيت في القرية نحو خمس سنوات من طفولتي الأولى بدأت من خلالها مرحلة التعليم الأولى في مدرسة القرية ثم انتقلت الأسرة إلى القاهرة وهناك استأنفت مرحلة التعليم الأولى حتى بلغت التاسعة من عمري وعندئذ نقل والدي إلى وظيفة في حكومة السودان بالخرطوم. وتنقلت معه بقية الأسرة لألتحق هناك بمدرسة كلية غوردون وهي في ذلك الحين المدرسة الوحيدة في السودان وتتألف من المرحلتين الابتدائية والثانوية وكانت على نظام المدارس الإنجليزية. فلما أوشكت على إتمام المرحلة الثانوية هناك عدت إلى القاهرة تكميلاً للمرحلة العليا.
(23/2)
وفي سنة 1926 التحقت بمدرسة المعلمين العليا القسم الأدبي وتخرجت منها سنة 1930 وعملت بالتدريس في مدارس التعليم العام بضع سنوات ولكن حدث في أول يناير سنة 1933 أن صدرت مجلة وبدأت إرسال المقالات لتلك المجلة فكان ذلك ابتداء السير خلال حياتي كلها في خطين متوازيين إحداهما العمل الذي أرتزق منه وهو التدريس والآخر هو المشاركة في حياتنا الثقافية بالكتابة في المجلات أو بتأليف الكتب وكانت المقالات التي بدأت أنشرها في مجلة الرسالة مقالات في موضوعات فلسفية فلما كان عام 1934 تصادف أن التقيت بالمرحوم الأستاذ أحمد أمين الذي رئيساً للجنة التأليف والترجمة النشر منذ بدأت 1914 وإلى آخر حياته. وكانت تلك اللجنة تضم بين أعضائها معظم نجوم الفكر والأدب في مصر عرضت على الأستاذ أحمد أمين المشاركة معاً في إصدار سلسلة كتب تعرض تاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب بأسلوب واضح سهل يتقبله المثقف العام. وهكذا كان فلم يمض عام حتى صدر الكتاب الأول قصة الفلسفة اليونانية سنة 1935 وفي العام الذي تلاه صدر الكتاب الثاني قصة الفلسفة الحديثة من جزءين وخلال الأربعينات صدر لنا معاً قصة الأدب في العالم في أربعة مجلدات على أنه قد حدث خلال تلك الفترة أن أصدرت اللجنة مجلة خاصة بها سنة 1937 هي مجلة الثقافة فاخترت أنشر مقالاتي بها منذ ذلك الحين بالإضافة إلى نشاط آخر قمت به من خلال خطة لمجلس التأليف تهدف إلى نقل عيون الأدب والفكر العربي فكان لي في ذلك المشروع كتاب عن هـ.جـ. ويلز وجعلت عنوانه الأغنياء والفقراء وذلك سنة 1937 ثم كان لي بعد ذلك كتاب فنون الأدب عربته عن شارلتون أستاذ الأدب الإنجليزي في إحدى جامعات بريطانيا.
(23/3)
وفي سنة 1944 سافرت إلى إنجلترا في بعثة دراسية للحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة فالتحقت بجامعة لندن في كلية الجامعة وحصلت في صيف العام التالي 1945 على بكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى في الفلسفة فكان هذا الامتياز يتيح لي في جامعة لندن التقدم إلى التسجيل لدرجة الدكتوراه فسجلت لها في كلية الملك بلندن تحت موضوع الجبر الذاتي (Self Determination) وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة سنة 1947 عدت بعدها إلى القاهرة لألتحق بهيئة التدريس بقسم الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة (وكان اسمها عندئذ جامعة فؤاد الأول) على أني استأنفت السير في الخطين المتوازيين الذي أشرف إليهما ففي إحداهما أباشر عملي الجامعي وفي الآخر أشارك في حياتنا الثقافية العامة، وكانت مؤلفاتي لعدة سنوات منصبة على إخراج كتب جامعية في الفلسفة وفي الخط الثاني ظللت أصدر الكتب الأدبية والنقدية من خلال لجنة التأليف والترجمة والنشر حتى كان عام 1965 بلغت سن التقاعد ولكني عينت بالجامعة أستاذاً غير متفرغ حيث ما أزال حتى اليوم.
خلال تلك الفترة حدث ما يأتي: ففي سنة 1953 سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية أستاذاً زائراً في جامعتين حيث قضيت في كل منهما فصلاً دراسياً الأولى منها كانت جامعة كولومبيا بولاية كارولينا الجنوبية والأخرى كانت في جامعة بوليمان بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي من الولايات. وبعد أن انتهى ذلك العام طلبت إلى مصر أن أكون مستشاراً ثقافياً في سفارتنا بواشنطن حيث قضيت عاماً واحداً ثم عدت بعده لأستأنف التدريس بقسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة. وفي سنة 1964 قضيت فصلاً دراسياً في بيروت بجامعة بيروت العربية ثم في سنة 1968 سافرت إلى الكويت أستاذاً بجامعتها لمدة خمس سنوات.
(23/4)
وأعود مرة أخرى إلى معالم حياتي منذ عدت من لندن 1947 فكان أبرزها زواجي 1956 من الدكتورة منيرة أحمد حلمي أستاذة علم النفس بجامعة عين شمس، وأما الأحداث الثقافية فكان من بينها الإشراف على مجلة الثقافة من سنة 1949-1952 وهي المجلة التي كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر 1958 شاركت بقسط كبير في الموسوعة العربية الميسرة التي أصدرتها مؤسسة فرانكلين بتمويل من مؤسسة فورد، وفي سنة 1965 أنشأت باسم وزارة الثقافة مجلة الفكر المعاصر وأشرفت على تحريرها حتى سافرت إلى الخارج سنة 1968"
-توفي في 22/3/1414هـ.
مؤلفاته :
(I) كتب جامعية في الفلسفة:
1- المنطق الوضعي، جزءان، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1951.
2- خرافة الميتافيزيقا، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1953؛ ط2، موقف من الميتافيزيقا، بيروت، دار الشروق، 1983.
3- برتراند راسل، القاهرة، سلسلة "نوابغ الفكر الغربي"، دار المعارف، 1956. عرض لفلسفة برتراند.
4- دافيد هويوم، القاهرة، دار المعارف، 1957.
5- حياة الفكر في العالم الجديد، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957؛ ط2، بيروت، دار الشروق، 1982.
6- نحو فلسفة علمية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960.
7- جابر بن حيان، القاهرة، هيئة الكتاب بوزارة الثقافة، 1961.
(II) كتب أدبية:
1- الأغنياء والفقراء، القاهرة، مجلس التأليف، 1937. مقالة عن H .G . wells.
2- جنة العبيط، القاهرة، دار الشرق، 1947.
3- شروق من الغرب، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1951.
4- والثورة على الأبواب، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957.
5- قشور ولباب، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957.
6- فلسفة وفن، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1957.
7- قصة نفس، بيروت، دار المعارف لبنان، 1965.
8- وجهة نظر، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1967.
9- مع الشعراء، بيروت –القاهرة، دار الشروق، 1976.
(23/5)
10- أرض الأحلام، القاهرة، دار الهلال، 1977.
11- موقف من الميتافيزيا، بيروت –القاهرة، دار الشروق، 1983.
12- في مفترق الطرق، بيروت، دار الشروق، 1985. مقالات.
13- رؤية إسلامية، القاهرة –بيروت، دار الشروق، 1987. مقالة.
14- عربي بين ثقافتين، القاهرة، دار الشروق، 1990.
15- بذور وجذور، القاهرة، دار الشروق، 1990.
16- حصاد السنين، القاهرة، دار الشروق، 1991. مذكرات.
(ج) ترجمات:
1- فنون الأدب، القاهرة، لجنة التأليف. والترجمة والنشر، 1938. The litirary arts, by prof. Charlton(?).
2- قصة الحضارة، القاهرة، م 1، لجنة التأليف والترجمة، 1950.
3- تاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل، القاهرة، لجنة التأليف ... ، 1950-1952. The history of westirn philosphy, by Bertrand Russel.
4- المنطق –نظرية البحث لجون ديوي، القاهرة، مؤسسة فرنكلين، 1959. Logic, The theory of inquiry, by john Dewey.
(د) كتب ثقافية:
1- الشرق الفتان القاهرة، هيئة الكتاب المصري، 1961.
2- تجديد الفكر العربي، بيروت-القاهرة، دار الشروق 1971.
3- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1972.
4- قصاصات الزجاج، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1976.
5- في فلسفة النقد، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1976.
6- في حياتنا العقلية، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1979. من زاوية فلسفية، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1979.
7- هذا العصر وثقافته، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1980.
8- مجتمع جديد أو الكارثة، بيروت-القاهرة، دار الشروق، (؟). 1980.
9- قصة عقل، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1983. سيرته الذاتية العقلية.
10- الكوميدية الأرضية، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1983.
11- أفكار ومواقف، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1983. مذكرات الكاتب.
12- قيم من التراث، بيروت-القاهرة، دار الشروق، 1984.
13- عن الحرية أتحدث، بيروت-القاهرة، دار الشروق 1986.
(23/6)
14- في تحديث الثقافة العربية، القاهرة، دار الشروق، 1987.
15- نافذة على فلسفة العصر، الكويت، سلسلة "الكتاب العربي"، 1990.
عن المؤلف:
1- الرأي (عمان، الأردن)، 9/10/1976. مقابلة. حوار عن أزمة الفكر العربي.
2- الحوادث، 24/5/1985، ص 67-69 و10/7/1987، ص 51-52؛ و1، 7، 1988، ص 52 – 53. مقابلات.
3- سدي، عبد الباسط: الوديعة المنطقية والتراث العربي: نموذج فكر زكي نجيب محمود، بيروت، دار الفارابي، 1990.
4- بعد الرحيل: مقالات مجموعة في رثائه بتقديم زوجته، 1417هـ.
لمحة عنه:
-يعد الدكتور زكي نجيب محمود أحد رواد "الفلسفة الوضعية"، والمروّج الأول لها بين المسلمين، وقد ألف لأجل هذا ثلاثة كتب، هي؛ (المنطق الوضعي)، (خرافة الميتافيزيقا)، (نحو فلسفة علمية) .
يقول الدكتور: "مذهبي الفلسفي هو فرع من فروع المذهب التجريبي، يمكن تسميته بالوضعية المنطقية" (المنطق الوضعي، المقدمة هـ).
ويقول –أيضاً- : "إنني في الفلسفة نصير الوضعية المنطقية التي ما فتئ أصحابها حتى اليوم يجاهدون في تبليغ دعواها، وإن دعواها تتطلب جهاداً شاقاً طويلاً لتبقى في عقول الناس" (مجلة الكتاب، ج3، 1952، ص197).
ويقول الدكتور محمود أمين العالم: "إن زكي نجيب محمود هو الصوت الوحيد الذي يعبر عن الفلسفة الوضعية في شرقنا العربي" (عن الغزو الفكري في المناهج الدراسية، للأستاذ علي لبن، ص19).
ولكي نفهم عقيدة الدكتور ومذهبه هذه نبذه عن (المذهب الوضعي):
(23/7)
-مر الدكتور زكي بثلاث مراحل –كما يزعم- : "المرحلة الميتافيزيقية، ومحورها الجبر الذاتي، والمرحلة الوضعية المنطقية، ومرحلة الاهتمام بالتراث" ولكنه مع هذا يوضح أنه لم يتخل عن مذهبه الوضعي حتى في مرحلته الثالثة، يقول الدكتور معقباً على الكلام السابق: "مع مراعاة أنني في هذه المرحلة الثالثة لم أتنكر للمرحلة الثانية، بل ما زلت حتى اللحظة أتمسك بالأسس العامة للوضعية المنطقية في مجال التفكير العلمي" (الوضعية المنطقية والتراث العربي، نموذج فكري زكي نجيب محمود الفلسفي، لعبد الباسط سيدا، ص 192).
-ويعترف الدكتور زكي بأن عودته للتراث كانت متأخرة جداً، يقول الدكتور عن نفسه في مقدمة كتابه (تجديد الفكر العربي):
"لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي –قديم أو جديد- حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه؛ ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواماً بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ؛ وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح الغامضة يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين.
ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة؛ فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد؛ إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، ... الخ" (ص5).
(23/8)
ولكن هذه الصحوة من الدكتور على التراث لم تقده إلى تبني الحق واتباع الصراط المستقيم –كما سيأتي- إنما قادته إلى مزيد من الاضطراب والصد عن سبيل الله؛ لأن الرجل عندما عاد –كما يزعم- إلى التراث، عاد بفكره القديم (الوضعي) فقبل من التراث ما يقبله مذهبه الفلسفي، وتخير ما يناسب عقله -كما سيأتي- فكان رائده عقله ومذهبه لا الحق.
وللعلم: فبعض الباحثين استنكر من الدكتور تبجحه بأنه لم يعرف التراث إلا متأخراً، ثم نجده يخوض في مسائله وقضاياه ويرد كثيراً منه بجرأة عجيبة.
يقول الأستاذ جمال سلطان :"كيف يحق لصاحب تلك (النظرات العجلى) أن يحكم على تراث يشمل دنياً، وحضارة، وأعلاماً، وأمة، وقادة، كانوا مثار إعجاب العالم الغربي ذاته قبلنا؟" (غزو من الداخل، ص45).
ويقول الأستاذ محمد إبراهيم مبروك: "هل من الممكن أن يكون من الموضوعية أن يحاكم الإسلام بمعايير غربية ترسخت في ذهن صاحبها على امتداد أربعين سنة؟!" (علمانيون أم ملحدون، ص105).
انحرافاته:
1-أعظم انحراف له هو إنكاره للغيب كله!! اتباعاً لمنهجه الوضعي –كما سبق-، وقد ألف كتاباً بعنوان (خرافة الميتافيزيقا) أي خرافة الغيب!، وهو يعترف بهذا . يقول الدكتور:
"ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة –والوضعي المنطقي الجديد بصفة خاصة- هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذي يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم؛ فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه؛ وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها –لنفسي- ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه.
(23/9)
وكالهرة التي أكلت بنيها، جعلت الميتافيزيقا أول صيدي –جعلتها أول ما أنظر إليه بمنظار الوضعية المنطقية، لأجدها كلاماً فارغاً لا يرتفع إلى أن يكون كذباً، لأن ما يوصف بالكذب كلام يتصوره العقل، ولكن تدحضه التجربة؛ أما هذه فكلامها كله هو من قبيل قولنا: إن المزاحلة مرتها خمالة أشكار –رموز سوداء تملأ الصفحات بغير مدلول- وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي ليكشف عن هذه الحقيقة فيها" !! (المنطق الوضعي، المقدمة م).
فالغيب عند الدكتور ليس كذباً فقط، بل هو (كلام فارغ) ! –والعياذ بالله-.
وهذا كفر بالله لا يشك فيه أدنى مسلم؛ لأن الإيمان بالغيب (ومن ضمنه: الإيمان بالله، وبملائكته، وبالجنة والنار ... ) من لوازم الإيمان، فلا يصح إيمان عبد وهو يكفر بالغيب.
هذا، وقد قام الدكتور محمد البهي –رحمه الله- بتفنيد شبهات الدكتور التي ملأ بها كتابه (خرافة الميتافيزيقا)، وذلك في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 239 وما بعدها فليراجعه من شاء).
وقد يتعجب البعض عندما يرى الدكتور في مرحلته الثالثة يهتم بالتراث، وهذا ما يناقض مذهبه الوضعي؛ لأن التراث يحتوي على غيبيات كثيرة، فكيف التوفيق؟
أقول: الدكتور لا يجعلنا نحتار في هذا التناقض الظاهري، فهو يعترف –كما سبق- بأنه باقٍ على مذهبه الوضعي حتى في مرحلته الثالثة، وأما عن اهتمامه بالتراث الغيبي ومدى تناقضه مع ما سبق، فيحل هذا الإشكال الأستاذ عبد الباسط سيدا بقوله: "لا يقبل زكي نجيب محمود الماورائية بأي معنى آخر، لأنها حينئذ ستكون بمثابة "أسطورة من أساطير الأولين"، لا تقدم إلى القارئ أي شيء، في الوقت الذي توهمه أن قضاياها قضايا تركيبية كقضايا باقي العلوم.
(23/10)
والأمر الذي لا جدال فيه، هو أن هذه النتيجة لا تعجب العديد من المعجبين بالمذاهب الفلسفية الضخمة –التي يعتبرها الوضعيون المنطقيون ما ورائية فارغة من المعنى- لأنهم يرون أن للقضايا الواردة "في الكتب الميتافيزيقية تأثيراً في القارئ وتأثيراً قوياً جداً في بعض الأحيان، وبناء على ذلك لابد من أنها تعبر عن شيء"
هنا ترى الوضعية المنطقية –ممثلة في زكي نجيب محمود- أن العبارات الماورائية مثلها مثل الشعر الغنائي، إنما تعبر عن مشاعر الإنسان ورغباته، ولا نستطيع أن نحكم عليها بالصدق أو بالكذب، لكنها مع ذلك تختلف عن الشعر الغنائي –في الوقت الذي تتفق معه- من حيث أنها توهم القارئ والسامع بأنها تعبر عن شيء من الأشياء الحسية، في الوقت الذي لا تعبر فيه عن أي شيء من ذلك القبيل، وإنما تعبر فقط "عن الميول الانفعالية أو الإرادية" لأصحابها.
وتنتهي مهمة زكي نجيب محمود الوضعي المنطقي بشأن الماورائية عند هذا الحد، حد إخراجها من دائرة العلم ووضعها في دائرة الفنون، وبعد هذا الحد تترك الماورائية وشأنها، لأن مشاعر الإنسان ورغباته هي من الأمور التي ينبغي أن تراعى.
لكنه يصر على وجوب الفصل بين تلك المشاعر والقضايا العلمية، ويقول في ذلك "إنني لست أقل حرصاً على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا من هؤلاء الذي يصيحون في وجهي دفاعاً عنها، لكنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور وهم لا يفرقون" (1) .
أمام هذه الوقائع نتساءل: ماذا نحن صانعون بهذه الكتب الضخمة التي كتبها الماورائيون على مر العصور!!؟
__________
(1) ... فلسفة وفن، ص 58.
(23/11)
ويجيبنا زكي نجيب محمود بسرعة وبساطة: "إنه لعزيز عليّ وعليك أن تلقى هذه الأسفار كما كان ينبغي لها طعاماً لألسنة النار، أو أثقالاً في قاع المحيط، وإذن فلنبق عليها، ليقرأها القارئ –إذا أخذه الحنين إلى الماضي- كما يقرأ أساطير الأولين" !! (أسطورة الميتافيزيقا، ص 304) (نقلاً عن: الوضعية المنطقية والتراث العربي، لعبد الباسط سيدا، ص 119-121).
قلت: فبان لنا أن الدكتور لا يزال –في مرحلته الثالثة الأخيرة- مصراً على إنكار الغيب وأنه مجرد خرافة، ولكن لا مانع أن نقرأه للتسلية والفن!! أما اهتمامه بالتراث فينصب –كما سيأتي- على المواقف العقلية فيه، التي لا دخل لها بالغيب!
2-من انحرافاته: أنه في مرحلته الثالثة: اهتم بالتراث –كما يزعم-، ولكنه انتقى منه ما يسميه المواقف العقلية، التي ينبغي أن نأخذها ونحييها، وألف في سبيل هذا كتابه (المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري)، فكانت النتيجة أن أحيا الدكتور تراث المعتزلة ونبذ تراث أهل السنة !!
يقول الدكتور عن تراثنا: "لم أجعل غايتي تقويم ذلك التراث، ومن أكون حتى أجيز لنفسي مثل هذا التقويم لتراث كان بالفعل أساساً لحضارة شهد لها التاريخ؟ لكني جعلت غايتي شيئاً آخر أظنه من حقي إذا أردته، وهو البحث في تراثنا الفكري عما يجوز لعصرنا الحاضر" (عن: الوضعية المنطقية والتراث العربي، ص 231).
فما الذي انتقاه الدكتور من تراثنا زاعماً أنه يناسب عصرنا؟
يقول الدكتور: "إذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا فليكن موقف المعتزلة" ! (تجديد الفكر العربي، ص 136).
فهو –كما يقال- (زاد الطين بلة) ! كان ينكر الغيب ولا يأبه بالتراث، فلما التفت للتراث –مع إنكاره للغيب!- لم يجد ما يشده ويعجبه إلا تراث أهل البدع !! نعوذ بالله من الخذلان : (ظلمات بعضها فوق بعض).
(23/12)
لأجل هذا وجدنا الدكتور ينصر رأي المعتزلة في قضايا كثيرة في كتابه (المعقول واللامعقول..)، كقضية مرتكب الكبيرة (ص68)، والقدر (ص 132).
ووجدناه يذم منهج الصحابة –رضي الله عنهم- والسلف الصالح، وأنهم -في نظره- :"يكذبون، ويكيدون المكايد، ويتآمرون، ويغتالون في سبيل الوصول إلى مواضع الرياسة والحكم"! (ص 100). ونجده يسخر من مذهب السلف في رؤية الله في الآخرة وفي قولهم في القدر (ص 294).
3-ومن انحرافاته : أنه يتبنى (المذهب النفعي) في المبادئ والأخلاق، فما كان نافعاً –في عقله القاصر- أخذ به، وما لم يكن اطرحه، دون نظر إلى حله وحرمته، فهذا لا يهمه.
يقول الدكتور: "إن المبادئ في شتى التيارات ليست حقائق تفرض نفسها على الإنسان بحيث لا يكون له قبل على تغييرها وتبديلها، بل هي بحكم طبيعتها (فروض) يفرضها الإنسان لنفسه حراً مختاراً، وهو يفرضها لنفسه لتخدم أغراضه، فإن هي أفلحت في خدمة تلك الأغراض كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها، حتى يقع على أنفع المبادئ لحياته العملية" (تجديد الفكر العربي، ص 197).
ثم يصرح أكثر بقوله: "ذلك أني أردت أساساً أن أقول: إن العرب في حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمراراً للعرب في ماضيهم، فلا يلزم من ذلك أن ينقل الحاضرون من الماضين كل ما اصطبغه هؤلاء الأسلاف من مبادئ! بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلما رأوا الفروض النظرية التي افترضها أسلافهم لم تعد تثمر في حياتهم الثمرة المرجوة، كانت مبادئهم فروضاً فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة، فلم يعد بد من تغير الفروض" (المرجع السابق، ص 198-199).
(23/13)
ويقول في كتابه (المعقول واللامعقول): "إننا لا نُجاوز حدود التراث إذا أخذنا بمذهب أخلاقي في عصرنا الراهن هذا، يجعل الأخلاق قائمة على أساس "المنفعة" وحدها، فليس من الأخلاق المحمودة ما تثبت تجارب الحياة على طول السنين أنه ضار؛ وبهذا المبدأ وحده تزول عن التقاليد قدسيتها أو ما يشبه القدسية عند كثير من مواطنينا المعاصرين، فليست أولوية القبول لما قد جرى به عرف الأقدمين، بل الأولوية هي لما يثبت أنه جالب للمنافع دافع للمضار؛ ولما كانت المنافع تتغير بتغير الظروف عصراً بعد عصر، وجب أن تُراجع مبادئ الأخلاق عصراً بعد عصر كذلك، أو قل تُراجعُ حضارة بعد حضارة؛ ولقد ذهب كاتب هذه الصفحات هذا المذهب النسبي في القيم على اختلافها، فقامت عليه القيامة كأنه خرج بهذا القول عن مبادئ تراثنا المجيد!" (ص 151).
4-ومن انحرافاته: أنه يفهم (الألوهية) كفهم مشركي العرب أو فهم الفلاسفة اليونانيين! لا كفهم المسلمين الموحدين (انظر: إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، لأنور الجندي، ص87-91).
5-ومن انحرافاته: سخريته من شريعة الإسلام، وتشكيكه في وجود منهج متكامل للاقتصاد الإسلامي، ووصفه للحدود الشرعية بأنها (دعوة غريبة معادية لتطور العصر) ! (المرجع السابق، ص 260).
6-ومن انحرافاته: إنكاره للسحر ! (المعقول واللامعقول، ص441).
7-ومن انحرافاته : سخريته بحجاب المرأة المسلمة، وأنه "ردة حضارية"!! وأنه "حجاب على الفكر"! (جريدة الأهرام 9/4/1984م، عن: غزو من الداخل، لجمال سلطان، ص55).
ويقول: "إن ظاهرة الحجاب دليل على أننا نمر بحالة مزرية من التخلف، وإنه لا يُعقل أن تنهض المرأة المصرية في الجيلين الماضيين، ثم تأتي اليوم وتتخلف مرة أخرى بوضعها تلك العمامة على رأسها"! (جريدة الأهالي 25/6/1986م، عن: الغزو الفكري في المناهج، لعلي لبن، ص22).
(23/14)
8-ومن انحرافاته: رده لبعض الأحاديث الصحيحة بعقله القاصر؛ كحديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم ... " الحديث رواه البخاري، وقد رده هذا العقلاني في كتابه (قيم من التراث، ص 155).
9-ومن انحرافاته: أنه يغلو في الغرب وحضارته، ويرى أنهم هم النموذج الأمثل لكل حضارة! متابعاً خطى شيخه طه حسين.
يقول الدكتور: "إنه لعزيز على نفسي أن أقولها صريحة، وإنه كذلك لعزيز على نفوس القراء أن يسمعوها، لكنه حق لا منجاة لنا عن مواجهته، وهو أن نموذج القياس إنما هو الحياة العصرية كما تعاش اليوم في بعض أجزاء أوروبا وأميركا، فقد شاء الله أن يكون هناك اليوم ينبوع الحضارة، كما كان ينبوعها في أرضنا ذات يوم!" (ثقافتنا في مواجهة العصر، ص 206، نقلاً عن: الوضعية المنطقية والتراث العربي، ص 266).
يقول الأستاذ عبد الباسط سيدا عن فكر الدكتور: "أما الحضارة الغربية فهي دائماً المثل الأعلى، وهي المقياس في دراسة التراث" (المرجع السابق، ص61).
10-ومن انحرافاته: أنه شارك في تأليف كتابي (الفلسفة) و(المنطق) لطلاب الشهادة الثانوية بمصر، وقد حشا هذين المؤلفين بكثير من الانحرافات التي نجملها في الآتي:
أ-تفضيله الفلسفة على الدين الذي يمزجه بالخرافات!
ب-ادعاؤه بأن الفكر اليوناني أصل الحضارات!
ج-محاولته بعث علم الكلام الذي ذمه السلف؛ لعدم فائدته.
د-مدح المعتزلة وذم أهل السنة.
هـ-تمجيد من يسمون فلاسفة الإسلام.
وللتفصيل، والرد على الكاتب، انظر: كتاب (الغزو الفكري في المناهج الدراسية، للأستاذ علي لبن).
11-ومن انحرافاته: تمجيده للملحدين في تاريخنا وتعاطفه معهم؛ كالحلاج وبشار بن برد وغيرهما (انظر: كتابه: تجديد الفكر العربي، ص 33 وما بعدها).
12-ومن انحرافاته: تحليله للتماثيل وصناعتها، وتشنيعه على من يحرمها! (انظر: كتابه: قيم من التراث، ص 17).
(23/15)
-ختاماً: يقول الدكتور أنور الجندي: "لقد عرف الدكتور زكي نجيب محمود بأنه يدير لحناً قديماً مسئماً قد ظل يردده حتى قال الناسك يا ليته يكف عنه، فقد أصبح كريهاً إلى النفوس من كثرة ترديده.
ولم يستطع الدكتور زكي نجيب محمود أن يقنع أحداً بأنه يقدم منهجاً جديداً أو منهجاً صالحاً؛ لأنه تاريخه القديم وكتاباته السابقة ما زالت تطغى على مفاهيم الناس فتحول دون الثقة به، وما تزال كتاباته عن القول: بأن الغيب خرافة في كتابه (خرافة الميتافيزيقا) أو أنه تابع لمذهب غربي مادي قد أشبعه الغربيون نقداً وتمزيقاً، وقد داسته خيول الفلسفات المتوالية وهو مذهب الوضعية المنطقية وشيخه (اوجست كونت) التي يدور في فلكها، والموصدة عليه حلقة حياته كلها بعد أن تجاوزتها الفلسفات والأحداث.
إن علماء الغرب التجريبيون اليوم يتحدثون عن آفاق جديدة في العلم تتصل بالإيمان بخالق الكون بينما لا يزال الدكتور زكي غارقاً في الواقع التجريبي المحسوس وإنكار الميتافيزيقا والغيب والإيمان بالجبر الذاتي، والاحتكام إلى العقل الذي لا يستطيع أن يكون مقياساً منفرداً للنفس الإنسانية الجامعة بين المادة والروح، كذلك فإن نظريته في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ساذجة، بل وزائفة، وقد تخطاها المفكرون المسلمون، ومن الأسف أن الدكتور زكي نجيب محمود يعالج الفكر الإسلامي بمفهوم الفكر الغربي ويتجاهل أن الفكر الإسلامي يختلف من ناحية تكامله ونظرته الجامعة، وأن له مقاييسه الخاصة في دراسته ومعالجاته بينما يقف الفكر الغربي عند الانشطارية والمادية. إن المناهج الغربية التي تحاول أن تستخدم العقل وحده وتنحي الجوانب الروحية والذاتية في تفسير الكون أو تفسير الإنسان تتعثر ولا تستطيع أن تصل إلى شيء" (إعادة النظر..، ص 262).
وقال الدكتور مفرح القوسي في رسالته (المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية) (2/640-647):
(23/16)
(1-الدكتور زكي نجيب محمود: أحد أبرز أعلام العلمانية المعاصرين، وأحد كبار دعاة التغريب في عالمنا الإسلامي المعاصر. سعى في عملية "التغريب" التي يدعو إليها إلى ضرورة اقتلاع الجذور الإسلامية واستبعادها وإحلال المبادئ العصرية الغربية محلها، مدعياً –على سبيل المغالطة- أنه بهذا الصنيع يكون متبعاً لمنهج الأسلاف، وأن مقصوده أن يكون خير خلف لخير سلف، فنراه يقول: "انتهيتُ إلى نظرات في التحول من قديمنا إلى الحديث بأنه لا تحول إلا إذا بدأناه من الجذور؛ من المبادئ نقتلعها لنضع مكانها مبادئ أخرى، فنستبدلُ مُثُلاً عليا جديدة بِمُثُلٍ كانت عليا في أوانها ولم تعُدْ كذلك، ولا ضير علينا في شيء من هذا، فأسلافنا قد صنعوا الصنيع نفسه؛ استبدلوا مبادئ بمبادئ وأفكاراً بأفكار ومثلاً بمثلٍ، ولا نريد سوى أن نكون خير خلف لخير سلف" (1) ، ويقول محدداً ما يجب على المسلم اتباعه :"إنما الوقفة الصحيحة للكاتب العربي أينما كان في طول الوطن العربي وعرضه هي : أن يفصل في ذهنه بين ما توحي به العاطفة من جهة، وما يوجبه العقل من جهة أخرى. والذي يوجبه العقل هو أن تجند الأقلام جهودها في التعبئة الثقافية التي تحمل جمهور الأمة العربية على التسلح بثقافة الغرب وأدواته الحضارية، وأقل ما نقوله في هذا التوجه هو أن نصبح به أقدر على مواجهة الغرب ذاته، ومع ذلك فمن ذا الذي أوهمنا بأن تشرب روح العلم الجديد بكل ما يستتبعه من مناهج يتنافى مع هويتنا الأصلية" (2) ، ويحسم طريق النهوض للأمة بأنه "ليس في الرجوع إلى تراث قديم، بل إن مصدره الوحيد أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا لنا بالعطاء" (3) .
__________
(1) ... تجديد الفكر العربي ص 204، ط التاسعة 1993، دار الشروق، القاهرة –بيروت.
(2) ... محمد إبراهيم مبروك –تزييف الإسلام ص 159، ط الأولى 1411هـ/ 1991م، دار ثابت-القاهرة.
(3) ... تجديد الفكر العربي ص 82.
(23/17)
وليس للنصوص الشرعية عند زكي محمود حاكمية على أي شيء في حياتنا، وإنما الحاكمية العليا والمقدسة هي حاجاتنا، التي تقرر ما يصح وما لا يصح من التراث (1) ، ولذا نجده يسخر كثيراً من قول الحافظ ابن كثير: "فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم، والأوامر بالانقياد، والنواهي بالتعظيم" (2) . ولذا أيضاً ينفي عن التراث الإسلامي أي مقوم حضاري من "القيم الرفيعة" التي جلبتها لنا –في نظره- الحضارة الغربية، حتى ما يظن البعض أنه تشابه بين الاثنين كقيم العدالة والحرية والعلم والمساواة، فهو مجرد تشابه أسماء أما المضمون فمتخلف عند السلف ومتحضر عند الغرب، فنراه يقول: "أنا على علم بمدى التحفز الذي يتحفز به كثيرون دفاعاً عن تراثنا الفكري، ظناً منهم أن هذا الدفاع لا تتم لهم قواعده وأركانه إلا إذا نبشوا في صحائف الأقدمين، فأخرجوا لفظاً من هنا ولفظاً من هناك، وجملة من هذا الكتاب وأخرى من ذلك، ليثبتوا أن قيم هذا العصر الجديد –وأعني القيم المحمودة الشريفة- قد وردت كلها في تراثنا، وليس بنا حاجة إلى لغو المحدثين، فإن قال المحدثون: حرية ومساواة وعلم وعدل، أجبناهم في انفعال: صح نومكم يا هؤلاء، لقد سبقناكم بكذا قرن من الزمان إلى الحرية والمساواة والعدل والعلم وغيرها من القيم الرفيعة، ويفوتنا دائماً أن نتروى حتى نستوثق من أن كؤوس هذه الألفاظ ما زالت تحمل شرابها القديم ولم تستبدل به شراباً جديداً، به وحده تسري في أجسادنا روح العصر، وبغيره نتخلف لنعيش مع الأقدمين لفظاً ومعنى، وشكلاً ومضموناً" (3) .
__________
(1) ... انظر: المرجع السابق ص 18-19.
(2) ... المرجع السابق ص 48.
(3) ... المرجع السابق ص 178 – 179.
(23/18)
ولما قرر زكي محمود أن الشبه بين الحضارتين الغربية والإسلامية هو فقط في الشكل وليس في المضمون، عاد فأكد –كي يمتنع اللبس- أنه يجب أن نأخذ من تراثنا الشكل فقط دون المضمون، فالمناداة بشعار "العدل" و"الحرية" و"الفضيلة" و"المساواة" إنما نأخذها "مضموناً" من الحضارة الغربية، أما الحضارة الإسلامية فلا بأس أن نأخذ منها "الشكل" فقط، فنراه يقول: "وأستطيع أن ألخص رأيي في ذلك بعبارة واحدة قصيرة؛ تفصيلها وارد في سائر فصول هذا الكتاب، وهي: أن ما نأخذه من تراثنا هو الشكل دون مضمونه" (1) .
ويحكم تارة على التراث الإسلامي بقوله: "إن هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته، لأنه يدور أساساً على محور العلاقة بين الإنسان والله، على حين أن ما نلتمسه اليوم في لهفة مؤرقة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان" (2) . ويدعو تارة أخرى إلى إيجاد تركيبة عضوية يمتزج فيها التراث الإسلامي مع عناصر الثقافة الغربية، ويتساءل: "كيف ننسج الخيوط التي استللناها من قماشة التراث مع الخيوط التي انتقيناها من قماشة الثقافة الأوروبية والأمريكية، كيف ننسج هذه الخيوط مع تلك في رقعة واحدة، لحمتها من هنا وسداها من هناك، فإذا هو نسيج عربي ومعاصر" (3) .
ويؤكد التباين بين الالتزام بالإسلام ومعايشة العصر بفكره ومشكلاته، واستحالة الجمع بينهما، فيقول: "إني لأقولها صريحة واضحة: إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته، وإما أن نرفضه ونوصد دونه الأبواب لنعيش تراثنا، نحن في ذلك أحرار، لكننا لا نملك الحرية في أن نوحد بين الفكرين" (4) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 102.
(2) ... المرجع السابق ص 110.
(3) ... المرجع السابق ص 14.
(4) ... المرجع السابق ص 189.
(23/19)
ويحكم –في دعوته إلى "التقدم" –على الماضي عامة حكماً كلياً؛ بأنه أقل صلاحية من الحاضر، حيث يقول: "إن الماضي دائماً وفي كل الظروف أقل صلاحية من الحاضر دائماً وفي كل الظروف" (1) ، ويرى "استحالة أن يكون الماضي أكثر رشداً من الحاضر وأخصب فكراً وأهدى سبيلاً" (2) ، ونتيجة لهذه النظرة يقرر أنه : لا حكم لماضٍ على آت بحجة "أننا في تحول، وإذن فنحن في تغير، وإذن فلا حكم لماضٍ على آت" (3) .
ويدعو زكي محمود إلى هدم العقيدة الراسخة في العقلية العربية الإسلامية؛ القائلة بأن من حق الله في السماء أن يحكم ومن واجب العباد في الأرض أن يذعنوا ويطيعوا، فيقول: " ... وأولى هذه الحلقات وأعمقها جذوراً وأكثرها فروعاً هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول، هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة. ونظرة العربي في صميمها هي: أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط، وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدي ثابت، وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا تعارض مع المعقول ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول. تلك هي وقفة العربي في صميمها، لك أن تقول: إنها وقفة أفلاطوينة أكثر منها أرسطية، إذ هي وقفة من يجعل الثبات للسماء والفناء للأرض، ففي السماء الأصول، وعلى الأرض الأشباح والظلال، إنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله، العلاقة بين الطرفين ليست هي التبادل بالأخذ والعطاء، بل هي علاقة الحاكم بالمحكوم" (4) .
__________
(1) ... ثقافتنا في مواجهة العصر ص 96، ط الثانية 1399هـ / 1979م، دار الشروق –بيروت.ة
(2) ... المرجع السابق ص 104.
(3) ... تجديد الفكر العربي ص 228.
(4) ... المرجع السابق ص 294.
(23/20)
ويرى أن "الديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تنبني على مبادئ، كل منها يضع كتابه أمام مبدأ يسير منه ويستنبط" (1) ، "والمبادئ في شتى البناءات الفكرية ليست حقائق تفرض نفسها على الإنسان؛ بحيث لا يكون له قبلٌ على تغييرها وتبديلها، بل هي –بحكم طبيعتها- (فروض) يفرضها الإنسان لنفسه حراً مختاراً، وهو يفرضها لتخدم أغراضه، فإن هي أفلحت في خدمة تلك الأغراض كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها؛ حتى يقع على أنفع المبادئ لحياته العلمية" (2) . وينتج من كلامه هذا أن الدين والوحي مجرد فروض بشرية تجريبية افترضها الأسلاف لتلائم واقعهم وبيئتهم، وليس من حق أحد أن يعطيها صفة الثبات والخلود، بل لنا أن نبدلها وننسفها نسفاً، وقد صرح بذلك بوضوح، فقال: "ذلك أني أردت أساساً أن أقول: إن العرب في حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمراراً للعرب في ماضيهم، فلا يلزم عن ذلك أن ينقل الحاضرون عن الماضين كل ما اصطنعه هؤلاء الأسلاف من مبادئ، بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلما رأوا الفروض النظرية التي افترضها أسلافهم لم تعد تُثمر لهم حياتهم الثمرة المرجوة. كانت مبادؤهم فروضاً فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة فلم يعد بدٌ من تغير الفروض" (3) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 194.
(2) ... المرجع السابق ص 197.
(3) ... المرجع السابق ص 198 – 199.
(23/21)
وليس هذا فحسب، بل كل شيء عند زكي محمود قابلٌ للهدم بما في ذلك الأخلاق والقيم، وليس هناك شيء أو فكرة –في نظره- لها حصانة من النقد والتجريح، فإن "حقيقة الكائنات أنها تتغير وبخاصة الإنسان، ولا يعيب الإنسان وهو في مرحلة التغير –مرحلة التحول، مرحلة السفر- أن تهتز القيم وترتج المعايير، بل العيب هو ألا ترتج هذه وألا تهتز تلك، فلا ينبغي أن تكون لشيء أو لفكرة أو لوضع أو لنظام حصانة تصونه عن النقد والتجريح" (1) ، وعلينا –في نظره- أن نُلقي بآدابنا وعقائدنا ومعارفنا الإسلامية التي تعرف عندنا باسم (الثقافة) علينا أن نلقي بها في النار، أو نجعلها على أحسن الظروف مادة التسلية في أوقات الفراغ، فنراه يقول بعد فاصل كبير من تقديس (التقنيات) و(الصناعة) و(الآلة): "وتسألني: ماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها، والتي تحتكر عندنا اسم (الثقافة)؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ، ولم أعد أقول –كما قلت مراراً مقلداً هيوم وجارياً مجراه- لم أعد أقول: إنها خليقة بأن يُقذف بها في النار، وحسبي هذا القدر من الاعتدال ابتغاء الوصل بين جديد وقديم" (2) .
وهكذا فالعقيدة ينبغي أن تكون –في نظره- عقيدة الآلة، وكذلك الأخلاق لا اعتبار لها البتة في بناء الأمم والحضارات، اللهم إلا إذا فهمنا أنها تعني كيفية الضغط على أزرار الآلة الصناعية وزمنه، وإليك نص عبارته: "ووالله لولا خشيتي سوء التأويل لعارضت شاعرنا أحمد شوقي في قوله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لأقول له: إنما الأمم في يومنا التقنيات ما اطردت وتغلغلت، فإن همو انعدمت علومهم وصناعتهم وتقنياتهم تخلفوا إلى حيث لا أمل ولا رجاء، اللهم إلا إذا فهمنا الأخلاق بمعنى يجعل منها أن أعرف كيف أضغط على الأزرار ومتى" (3) .
__________
(1) ... تجديد الفكر العربي ص 227.
(2) ... المرجع السابق ص 241.
(23/22)
(3) ... المرجع السابق ص 238 – 239.
ويصم زكي محمود أهل السنة وأتباع السلف بالتطرف (1) ، ويصور موقفهم من (العلم) بقوله: " ... لكن المتطرفين من أهل السنة وأتباع السلف لم يكونوا ينظرون نظرة الرضى إلى أي فكر دخيل؛ فـ(العلم) عندهم لفظة لا تنصرف إلا إلى معنى واحد؛ هو العلم الموروث عن النبي عليه السلام، أما ما عدا ذلك فهو إما خارج عن مجال العلم إطلاقاً، وإما هو معرفة لا تنفع ولا تستحق التحصيل" (2) ). انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي –وفقه الله-.
وقال الأستاذ محمد إبراهيم مبروك في كتابه (علمانيون أم ملحدون؟) (ص 105-112): (يصف الدكتور زكي نجيب محمود نفسه في مقدمة كتاب (تجديد الفكر العربي) فيقول إنه :"واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي –قديم أو جديد- حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه ولبثت هذه الحال مع الكاتب أعواماً بعد أعوام".
وبعد أكثر من أربعين عاماً من التشكيل الغربي للفائف عقله أراد لكي يوائم!؟ بين ذلك الفكر وبين التراث، لماذا؟ لكي لا تفلت منا عروبتنا ! (كما يقول). ولكن كيف حدث ذلك؟ يقول (3) . "استيقظ صاحبنا (يقصد نفسه) بعد أن فات أوانه أو أوشك فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة، التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه إزدراد العجلان، كأنه سائح يمر بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولابد له خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة يلقي بالنظرات العجلى هنا وهناك ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل".
__________
(1) ... انظر: المرجع السابق ص 135، 167.
(2) ... المرجع السابق ص 167.
(3) ... تجديد الفكر العربي.
(23/23)
فهل من الممكن أن يكون من الموضوعية أن يحاكم الإسلام بمعايير غربية ترسخت في ذهن صاحبها على امتداد أربعين سنة وأن تحدث هذه المحاكمة في عجالة سريعة سبعة أو ثمانية أعوام كل ذلك بغرض أخذ شيء منه (على أساس كونه تراثاً (1) ) يتواءم مع الفكر الغربي للحفاظ على عروبتنا ؟
فماذا للإسلام في كل هذا الكلام وما ذنبه أن فلاناً من الناس لا يقدره قدره فيعامله على عجالة بينما يقف من الفكر المعادى له موقف العبودية لعقود طويلة، وهل يحق لمن يكون هذا منهجه أن يضطلع بدور المجدد للفكر العربي؟!؟!.
__________
(1) ... تجديد الفكر العربي.
(23/24)
من البدء لابد أن نعرف الموقع الذي يتحرك منه هذا الكاتب وهو كما هو معروف للجميع ينتمي انتماء جذرياً للفلسفة المنطقية الوضعية فماذا تقول هذه الفلسفة؟ وما هو موقفها من الدين بوجه خاص؟ سنتركه هو يجاوب عن ذلك. يقول الدكتور زكي (1) : "يرى المذهب الوضعي على يدي (أوجست كونت) وجوب الوقوف بمحاولاتنا نحو معرفة العالم الخارجي عند حدود الظواهر التي يمكن مشاهدتها وإقامة التجارب عليها واستخراج قوانينها العلمية القائمة على علاقة السببية، أما أن نجاوز الطبيعة المتطورة إلى ما رواء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة ولا عناء فيها، إن جاز للأسبقين في مرحلة الطفولة البشرية أن يحاولوها فلا يجوز ذلك لنا نحن الذين نعيش في عصر العلم ودقته.. وللمذهب الوضعي شعبة حديثة معاصرة تسمى بالمذهب الوضعي المنطقي مؤداها أن ما يجاوز حدود الخبرة الحسية ليس هو كما ظن "أوجست كونت" وكما ظن "كانت" متعذر المعرفة على الإنسان لقصور أدوات المعرفة عند الإنسان، وأنه لو كان مزوداً بوسائل أخرى للمعرفة غير وسائله الحالية لجاز أن يكون في مستطاعه معرفة ذلك العالم الأسمى، بل هو مستحيل المعرفة بحكم تحليل اللغة نفسها التي يستخدمها من يتحدثون عن ذلك العالم الذي يجاوز حدود الخبرة الحسية الممكنة، إذ أن تحليل تلك العبارات تحليلاً منطقياً يبين أنها عبارات بغير معنى" ... أما "الوضعيون المنطقيون" إذا سئلوا عن رأيهم في عبارة كهذه، رفضوها لأن التحليل المنطقي لأجزائها وطريقة تركيبها يبين أنها بغير معنى، فلا يجوز قولها لا لأنها فوق مستوى العقل، بل لأنها عبارة فارغة" ...
__________
(1) ... نظرية المعرفة.
(23/25)
وبمثل هذا المنطق وبمثل هذه المعايير جاء يحاكم الإسلام على أساس أنه مجرد تراث لابد من الاحتفاظ ببعضه لكي نحفظ لعروبتنا شيئاً من الأصالة كما يقول: لقد نظر إلى خصائص شخصيتنا فوجد فيها ثلاث خصائص إذا سلمنا بالأولى كان لزاماً أن نسلم بما يليها، وأولى هذه الخصائص هي نظرتنا الثنائية الحادة إلى السماء والأرض إلى الروح والجسد إلى الغيب والواقع تلك النظرة التي تجعل الطرفين في انفصام تام ويكون للطرف الأول دائماً السيادة المطلقة وللطرف الثاني الانقياد والتسليم. والثانية أن قوانين الأشياء والظواهر في الطبيعة قد تطرد أو لا تطرد دون التقيد بقوانين العلم، والثالثة أن قوام الأخلاق عندنا هو الواجب لا السعادة، وهذا الكلام سليم تماماً إذا فهمنا أن الدين الذي يتحدث عنه الكاتب هو المسيحية الغربية التي لا يستطيع في سنواته العجلى أن ينزعها من مخيلته أما الإسلام فإذا كان لا يستطيع أن يراه فلنحيله إلى أحد أبناء الحضارة الغربية التي يعتز بها مثل جارودى في (وعود الإسلام) أو إلى الدكتورة زيغر يدهونكه في (العقيدة والمعرفة) والتي لم تسلم بعد –وكلاهما يتحدث عن الفرق بين الإسلام الذي ألغى هذه الثنائية والمسيحية (الأرسطو أفلاطونية) التي رسخت هذه الثنائية وعمقت المسافة بين طرفيها.
(23/26)
ونفس الأمر ينطبق على الخصيصة الثانية أما الثالثة فهو يرفض نفس المفهوم الديني للأخلاق ويضع بدلاً منه المفهوم البراجماتي لها الذي يجعل الهدف النهائي من الأفعال هو السعادة أو بقول أدق (لو أراد الدكتور) المنفعة، وهو ما يعني هنا إدخال القيم الأخلاقية نفسها في مجال المتغيرات (وأرجو من القارئ أن يحتفظ معي بهذه الملحوظة الهامة) لأن الواجب يحدد موقفاً أخلاقياً معيناً أما مفهوم تحقيق السعادة (المنفعة) فهو يقتضي تغير الموقف الخلاقي بحسب النتائج المتحققة والتي يجب أن تستهدف السعادة، سعادة من؟ لا أحد يعرف، وسوف نتعرض لهذا الأمر بالشرح في حديثنا عن الفلسفة البراجماتية.
ولهذا الموقف الذي يستدعي فيه الدكتور إلى ذهنه صورة أوروبا في القرون الوسطى يقول (1) : "إننا في حياتنا الثقافية مازلنا في مرحلة السحر التي تعالج الأمور بغير أسبابها الطبيعية وإننا لولا علم الغرب وعلماؤه لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها، فإذا هي حياة لا تختلف كثيراً عن حياة البدائي في بعض مراحلها الأولى" إنها يا سادة حالة حادة من الإنسلاب النفسي أمام معطيات الغرب.
هناك قصة مشهورة في التاريخ الإسلامي يسردها المؤرخون دائماً على أنها رمز للجهاد الفكري في الحضارة الإسلامية وعلى الاستماتة في الحفاظ على حقائق القرآن والسنة من عبث العابثين أو تدخلات الحكام تلك القصة هي مواجهة الإمام أحمد للقائلين بخلق القرآن وعلى رأسهم الخليفة المأمون وكيف كان إصراره الفريد على موقفه برغم الاضطهاد وقد يمثل هذا الموقف الذروة في جهاد أئمة المسلمين من أجل استقلال حقائق الدين عن آراء الحكام.
__________
(1) ... تجديد الفكر.
(23/27)
لكن الدكتور زكي نجيب محمود بعد سرد هذه القصة أراد أن يستدل بها على أشياء على النقيض التام من كل ما سبق ويقول الدكتور (1) معلقاً على تلك القصة: لا، لم يكن في ساحة الفكر عن الأسلاف "حوار" حر إلا في القليل النادر، وفي مواقف لم تكن بذات خطر كبير على سلطة الحاكم، وكيف يكون والحوار إنما يتم بين أنداد ذوي قامات متقاربة، وأوزان متكافئة؟ أما وساحتنا لا تعرف هذا التكافؤ ولا ذلك التقارب في الأوزان والقامات –اللهم إلا في المبادئ النظرية التي كادت لا تشهد العمل والتطبيق- وكل الذي تعرفه هو أن تعلو فيها نخلة واحدة، أو قلة من نخيل، ليحيط بها كلأ قصير فإذا ما دفعت حرارة التربة ذلك الكلأ أن يرتفع برؤوسه، جُذت رؤوسه لتظل قريبة من مواضع الأقدام.. هذه كانت ساحة الفكر، وتلك هي كائناتها، فهي بطبعها ترفض أن يدور على أرضها حوار إذ لا يكون حوار بين نخيل ونجيل.. وفيم العجب؟ ألسنا قوماً على الفطرة؟ تلك إذن هي سنة الفطرة: فهل ترى –في البحر- حوار الأنداد قائماً بين الحوت والبلم؟ أم هل ترى –في الفضاء- نقاش الأقران دائراً بين سباع الطير وبغاثها؟ وهل تجري مفاوضات في الغاب –إلا في الأساطير والحكايات- بين الليوث والغزلان؟
تلك هي فطرة الأحياء والأشياء وظواهر الطبيعة، ونحن قوم على الفطرة فأي عجب إذا سلكنا أنفسنا مع الفطرة فيما فطرها عليه فاطر الأرض والسماء؟"
__________
(1) ... تجديد الفكر.
(23/28)
وما يريد أن يقوله الدكتور هو أن تراثنا الفكري الإسلامي بالكامل كان من صنع الحكام المستبدين وهو بذلك ليس تراثاً مزيفاً فقط وإنما هو تراث معاد للإنسانية مسوغ لإستبداد من يحكمون ومن يملكون القوة والسلطان. وبالرغم من ندرة هذه المواقف فإن استدلال الدكتور قد تحتمل صحته لو أن الإمام أحمد وافق المأمون على ما يريد، لكن ما بالك وأن ما حدث هو على العكس تماماً فبرغم ما ذاقه الإمام أحمد من صنوف العذاب إلا أن ذلك لم يثنه عن موقفه المتصلب المستميت، إلا أنه في النفس شيء يجعلها تقلب الأمور رأساً على عقب وتحاول أن تحيل الليل نهاراً والنهار ليلاً. كما أن الخليفة المأمون عندما فعل ما فعل فإنه لم يكن يفعل هذا طمعاً في دنيا أو رغبة في سلطان يدعوه إلى الاستبداد والإصرار على رأيه وإنما كان يفعل ذلك من وجهة نظره هو دفاعاً عن حقائق الدين كما يراها، فلا داعي للغمز بالخلفاء في كل مناسبة واتهامهم بمجافاة الدين وتنحيه عن حياتهم.
وللدكتور زكي نجيب محمود طريقة ذكية في عرض أفكاره يخلص بها إلى الغرض المنوط منها، فهو عادة يفترض ثلاث وجهات نظر أمام القضية المحورية التي يطرحها يختار أوسطهما فيبدو ذلك أنه نموذج للفكر الوسطي وأنه يتمثل بذلك الرؤية الإسلامية إلى الكون، مع أن الحقيقة فيما يفعل أن وجهات النظر الثلاث التي يطرحها الأولى شبيهة لوجهة النظر الإسلامية والثانية معادية والثالثة متطرفة في معاداتها للإسلام وبذلك فإنه عندما يعطي للقارئ انطباعاً ما بوسطيته باختياره وجهة النظر الثالثة فإنه في الحقيقة قد استطاع بتلك الحيلة أن يوقع به في قبول وجهة النظر التي يبغيها والتي هي في نفس الوقت معادية للإسلام ومناقضة له تماماً.
(23/29)
ففي مقال له بعنوان (صورة جديدة لأفكار قديمة) (1) يذهب إلى أن هناك ثلاث أفكار تمثل كبرى القضايا بالنسبة للإنسان، وهي فكرته عن إله خلقه وفكرته عن نفسه وفكرته عن الكون الذي يعيش فيه، ثم يتساءل بأي الأفكار ينبغي لإنسان العصر أن يبدأ؟ هل يبدأ من فكرته عن الخالق ودراسة العقيدة الدينية أولاً أم يبدأ بدراسة نفسه والكون معاً وعندئذ فقط يكون أقدر ما يكون معرفة وفهماً لحقيقة الخالق الذي خلقه وخلق الكون جميعاً. ويقول "والحق أن ثمة فرقاً بعيداً بين الحالتين حالة تعرف بها نفسك والكون على ضوء ما ورد في تعاليم الدين ومبادئه؟ وحالة أخرى تعرف فيها تلك التعاليم والمبادئ على ضوء ما تدرسه دراسة متعمقة عن نفسك وعن ظواهر الكون معاً". ثم يعرض لوجهات النظر الثلاث في الإجابة عن ذلك، الأولى هي البدأ بدراسة الثقافة (لاحظ أنه يكاد يتأفف دائماً من ذكر التعبير الحقيقي أي الدين الإسلامي) التي استظل بظلها أسلافنا في التاريخ العربي الإسلامي على وجه التحديد واستنتاج الحلول منها، أما الثانية فهي أخذ ثقافتنا الآن بضاعة جاهزة من منتجات الغرب الحديث والمعاصر، تماماً كما نفعل عندما نستورد منه الطيارات والسيارات. ويصفها هنا أنها أضعف وجهات النظر حجة وأبعدها عن الصواب (لاحظ أن وجهة النظر الثالثة التي يهدف إلى إقناعنا بها لا تختلف شيئاً في مضمونها عن وجهة النظر هذه!). أما وجهة النظر الثالثة فهي تريد لنا حياة ثقافية تظل معها السحنة العربية بعامة –والمصرية بخاصة- سليمة من الأذى (ما كل هذا الكرم!) مع تعميق الثقافة الغربية لتشمل جوانب الحياة بأسرها وأبناء الشعب جميعاً في رؤيتهم العامة للدنيا وأهلها وأحداثها، وبهذه الثقافة العلمية نكون أقدر على فهم ديننا فهماً لا يتصادم مع أسس الحياة كما تفرضها ظروف واقعنا" ا.هـ.
__________
(1) ... نقلاً عن د. عبد الحميد الغزالي: تجديد الثقافة.
(23/30)
فهل من الممكن أن يتفق مع الإسلام أن يكون مجرد سحنة عربية من الثقافة لا ترتقي حتى لأن تصل إلى مستوى السحنة المصرية. وما دخل العلوم المعاصرة في اختيار هذا الموقف أو ذاك ولماذا الإصرار على وضع الإسلام وكأنه في صراع ومواجهة مع العلم؟! إذا كان يقصد بذلك العلوم الطبيعية فإن القرآن لم يقل مثلاً أن الغلاف الجوي على بعد 50 ميل وقال العلم إنه أقل من ذلك أو أكثر ولم يأت القرآن بقوانين في الميكانيكا تتناقض مع قوانين نيوتن وليس للقرآن آراء في الانشطار الذري تختلف عن آراء أينشتين. فلماذا الإصرار على هذه اللعبة المستهلكة التي يوضع فيها الإسلام في مواجهة العلم ويطلب منا اختيار أحدهما. أما إذا كان المقصود بهذه الثقافة العلمية علوم الغرب الإنسانية المستمدة من عمق ثقافة حضاراتهم العلمانية فكيف أبني ثقافتي على هذه العلوم التي ما هي إلا ركام من آراء البشر وأتطلع من خلالها إلى فهم الخالق والدين وأقول إنني سأكون بذلك أقدر على المعرفة والفهم؟ ما ذنب الإسلام أن يحاكم على معايير قوم تصدعت نفوسهم من الانحلال والحيرة والتيه ؟!
إن غاية هذه العلوم أنها تقدم رؤية ما للكون والحياة وحركة التاريخ وهي رؤية ظنية تتشتت فيها الآراء الغربية إلى فرق متباعدة يخطئ كل منها الأخرى، فهل لو نحن مؤمنون ينبغي علينا أن نحاكم ديننا الإسلامي المنزل من السماء إلى المعايير المستخلصة من هذه الآراء البشرية التي تتعرض كل يوم للنقد والتصحيح؟!
(23/31)
وهل ينبغي على الدين أن يقف موقفاً حيادياً من حيرة الإنسان في فهمه لأحداث الكون والحياة ويتركه دون هدى في هذه المتاهة من الفلسفات والمذاهب والآراء التي تتشتت بها عقول البشر في كل اتجاه وبأي معايير يمكن محاكمته وتفضيل وجهات النظر تلك عليه؟! لقد يستساغ ذلك لو أن الدين جاء بآراء تتناقض مع بديهيات الواقع المعقول، أما إن كان يقدم وجهات نظر تختلف مع وجهات النظر الأخرى للفلسفات والمذاهب فكيف يكون من المنطق أن نحاكمه على أساس معاييرها؟ هل أخطأ الدين حين قدم للإنسان رؤيته الهادية للكون والحياة؟!
من وجهة نظرهم نعم كان ينبغي على الدين أن يقف هذا الموقف الحيادي الذي يبغونه ولا يتدخل في حياة البشر وتوجيههم وإنما من له حق التدخل عندهم فقط هو عقل الإنسان مهما كان شطحه.
فهل هم وقفوا هذا الموقف من وجوب تنحية الدين عن التدخل في شئون البشر نتيجة دراسة فلسفية عميقة أتت لهم بهذه النتائج؟ لا وإنما غاية ما في الأمر أن الغربيين يفعلون ذلك فعليهم إذن أن يفعلوه. ولكن لماذا يقف الغربيون هذا الموقف؟ ببساطة جداً لأنهم لا ينظرون إلى الدين إلا على أنه وهم من الأوهام فمن أراد أن يحتفظ بهذا الوهم فليحتفظ به لنفسه ولا يقحمه في حياة الآخرين. ويتلقى الإنسلابيون عندنا هذه الآراء ثم يريدون أن يحاكموا ديننا بها). انتهى كلام الأستاذ محمد إبراهيم مبروك –وفقه الله-.
(23/32)
::::: المجموعة الرابعة :::::
نظرات شرعية في فكر (جرجي زيدان)
ترجمته (1) :
-ولد جرجي زيدان في بيروت عام 1861م، والبلاد تتخبط في الفتن والانقسامات والحزازات المذهبية.
-اضطر إلى ترك المدرسة صغيراً ليساعد أباه في تحصيل القوت، ثم تعلم في مدرسة ليلية اللغة الإنجليزية.
-التحق بالكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية) حيث تعلم الطب.
__________
(1) ... الموجز في الأدب العربي وتاريخه، لحنا الفاخوري (4/226 – 232). وانظر : أعلام العرب المبدعين! في القرن العشرين، للدكتور خليل أحمد خليل.
-هاجر إلى مصر كحال غيره من نصارى الشام.
-في مصر انصرف إلى العلم وتحرير جريدة (الزمان) والتأليف والترجمة، ثم عمل ترجماناً للمصريين والسودانيين عندما وجه الإنجليز حملتهم إلى السودان.
-في عام 1885م عاد إلى بيروت، فانتخب عضواً في المجمع العلمي الشرقي. ثم زار انجلترا.
-عاد إلى مصر منقطعاً إلى التأليف والصحافة.
-أسس في عام 1892م مجلة (الهلال) الشهيرة.
-توفي في سنة 1914م.
مؤلفاته:
-من مؤلفاته في التاريخ:
1- العرب قبل الإسلام –الجزء الأول، طُبع في مصر سنة 1908.
2- تاريخ التمدّن الإسلامي- خمسة أجزاء –طبع في مصر 1902-1906.
3- تاريخ مصر الحديث –جزآن- طُبع في مصر 1889.
-ومن مؤلفاته في اللغة وآدابها:
1- الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية –بيروت 1889.
2- تاريخ آداب اللغة العربية –أربعة أجزاء- مصر 1911.
-ومن مؤلفاته في القصص التاريخي: عشرون رواية تستعرض التاريخ الإسلامي في مختلف أطواره، هي: فتاة غسان – أرمانوسة المصرية- عذراء قريش- 17رمضان- غادة كربلاء- الحجاج بن يوسف- فتح الأندلس- شارل وعبدالرحمن- أبو مسلم الخراساني- العباسة أخت الرشيد –عروس فرغانة- أحمد بن طولون- عبد الرحمن الناصر- الانقلاب العثماني- صلاح الدين – شجرة الدر- أسير المتمهدي- المملوك الشارد- استبداد المماليك- جهاد المحبين.
انحرافاته :
(24/1)
1- نصرانيته، وليس بعد الكفر ذنب !
2- يصدق فيه ما قاله الدكتور محمد السيد الوكيل في تقديمه لرسالة (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) بأنه : "من أشهر من افترى وزيَّف التاريخ الإسلامي في العصر الحديث ... الذي استتر برداء العروبة وتوارى خلف شعارات القومية، ومهّد له الإعلام الغربي ليلعب دوره الطبيعي في كتابه التاريخ الإسلامي مشوَّهاً ومبتوراً يزينه بأسلوب رقيق ممتع، ويغلفه بعناوين زاهية براقة، ويقدمه في صورة قصة غرامية أخاذة" (ص6).
3- لقد توجهت كلمات العلماء والناصحين إلى كتب وروايات هذا النصراني، محذرةً منها، ومبينة انحرافاتها، ومن ذلك:
I- تحذير الشيخ الهندي شبلي النعماني من كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي) لزيدان، حيث فند أخطاءه، وكشف انحرافاته، وأبان عن تزويره وتلبيساته، وذلك في كتابه (انتقاد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي) الذي لخص في مقدمته أبرز انحرافات زيدان قائلاً:
"إني أيها الفاضل! المؤلف غير جاحد لمنبتك فإنك قد نوهت باسمي في تأليفك هذا وجعلتني موضع الثقة منك، واستشهدت بأقوالي ونصوصي، ووصفتني بكوني من أشهر علماء الهند، مع أني أقلهم بضاعة، وأقصرهم باعاً، وأخملهم ذكراً، ولكن مع كل ذلك هل كنت أرضى أن تمدحني وتهجو العرب، فتجعلهم غرضاً لسهامك، ودربة لرمحك، ترميهم بكل معيبة وشين، وتعزو إليهم كل دنية وشر، حتى تقطعهم إرباً إرباً، وتمزقهم كل ممزق؟ وهل كنت أرضى بأن تجعل بني أمية لكونهم عرباً بحتاً من أشر خلق الله وأسوئهم، يفتكون بالناس، ويسومونهم سوء العذاب، ويهلكون الحرث والنسل، ويقتلون الذرية وينهبون الأموال، وينتهكون الحرمات، ويهدمون الكعبة ويستخفون بالقرآن؟!
(24/2)
أو هل كنت أرضى بأن تنسب حريق الخزانة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب، الذي قامت بعدله الأرض والسماء، وهل كنت أرضى بأن تمدح بني العباس فتعد من مفاخرهم أنهم نزلوا العرب منزلة الكلب، حتى ضرب بذلك المثل، وأن المنصور بني القبة الخضراء إرغاماً للكعبة، وقطع الميرة عن الحرمين استهانة بهما، وأن المأمون كان ينكر نزول القرآن، وأن المعتصم بالله أنشأ كعبة في (سامرا) وجعل حولها مطافاً واتخذ منى وعرفات؟!
وهب أني عدمت الغيرة على الملة والدين، وافتخرت كصنيع بعض الأجانب بأني فلسفي بحت عادم لكل عاطفة ووجدان، فلا أرضى ولا أغضب ولا أسر ولا اغتاظ ولا أفرح ولا أتألم، وهب أني حملت نفسي على احتمال الضيم، وقبول المكروه، والصمم عن البذاء، ومجازاة السيئة بالحسنة، ومكافأة الخبيث بالطيب، فهل كنت أرضى بأن تشوه وجه التاريخ، وتدمغ الحق، وتروج الكذب، وتفسد الرواية، وتقلب الحقيقة، وتنفق الهم، وتعود الناس الخرافة؟ بئس ما زعمت أيها الفاضل، فإن في الناس بقايا وأن الحق لا يعدم أنصاراً.
إن الغاية التي توخاها المؤلف ليست إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها، ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة غير مجرى القول، ولبس الباطل بالحق.
بيان ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية، ودور بني العباس، مدح الدور الأول وكذلك الثالث (ظاهراً لا باطناً كما سيجيء) ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين، وبمدحه لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبهم فخارنا في بث التمدن وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع عنهم، تفرغ لهم، وحمل عليهم حملة شنعاء، فما ترك سيئة إلا وعزاها إليهم، وما خلى حسنة إلا وابتزها منهم ... الخ" (ص2 ،3)
(24/3)
II- أما انحرافاته في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) فقد أبان عنها الشيخ أحمد عمر الإسكندري –رحمه الله-. في مقالة له نشرت في ذيل رسالة النعماني السابقة. جاء فيها : "الأمور التي تؤخذ على الكتاب: "يكفي القارئ أن أذكر بغاية الاختصار بعض هذه الأمور فإذا شاء أو شاء المؤلف فضل إيضاح لبعض المباحث فصلته تفصيلاً ويمكن توزيع هذه الأمور إلى الأنواع الآتية:
1- الخطأ في الحكم الفني: أي تقرير غير الحقيقة العلمية سواء كان ذلك بقصد من المؤلف أم بغير قصد.
2- الخطأ في الاستنتاج: وهو ما يعذر فيه المؤلف لأنه اجتهاد من عند نفسه فإن أصاب فله الشكر وإن أخطأ فمن ذا الذي ما ساء قط.
3- الدعوى بلا دليل: وهو ما يقرره المؤلف من غير تدليل عليه وقد يكون في ذاته صحيحاً ولكن في سوقه ساذجاً مجالاً للشك.
4- الخطأ في النقل: وهو آت من تصرف المؤلف في عبارات المؤلفين بقصد اختصارها أو من تسرعه في الجمع وقلة مراجعة الأصول .
5- قلة تحري الحقيقة: بمراجعة الكتب المعتبرة والتواريخ الصادقة ووزن كل عبارة بميزان العقل والأنصاف وقياس الأمور بأشباهها بل كثيراً ما تروج عند المؤلف أقوال الخصوم في خصومهم وأقوال الكتب الموضوعة لأخبار المجان أو لذكر عجائب الأمور وغرائبها.
6- تناقض بعض أقوال الكتاب.
7- الاختصار في كثير من التراجم والمباحث وإهمال ما ليس من شأنه أن يهمل .
8- إدخال ما ليس من موضوع الفن فيه لغير مناسبة أو لمناسبة ضعيفة جداً.
9- الاستدلال بجزئية واحدة على الأمر الكلي وهو كثير الحصول في جميع كتب المؤلف وفي أكثر استنتاجاته ودعاواه .
10- تقليد المستشرقين في مزاعمهم أو نقلها عنهم من غير تمحيص .
11- اضطراب المباحث وصعوبة استخراج فائدة منها لاختلال عبارتها أو لعدم صفاء الموضوع للمؤلف.
(24/4)
12- اضطراب التقسيم والتبويب إما بذكر المباحث في غير موضعها وإما بعدّ رجال عصر في عداد رجال عصر آخر، وربما زاد المؤلف عن ذلك بعد رجال فن في رجال فن آخر.
13- التحريف واللحن وهما كثيرا الشيوع في جميع كتب المؤلف مع سهولة الاحتراز عنهما بمراجعة الأصول عند التأليف والطبع واستئجار أحد المصححين العالمين بقواعد العربية.
14- تهافت المؤلف على تطبيق قانون النشوء والارتقاء حتى في الأمور التي فيها تدن وانحطاط لا نشوء ولا ارتقاء" (ص 8-81).
V- أما كتابه (تاريخ مصر الحديث) فقد تولى كشف زيفه الشيخ أمين بن حسن الحلواني المدني في كتابه (نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان) خطّأ فيه زيدان في (101) موضع.
VIII- أما رواياته التاريخية فقد خصص الأستاذ شوقي أبو خليل كتابه (جرجي زيدان في الميزان) لبيان ما فيها من إفساد. ولخّص في خاتمته أبرز انحرافات زيدان في رواياته قائلاً:
(وهكذا.. قدمنا ملاحظاتنا حول روايات جرجي زيدان، التي تعمد فيها التخريب والكذب لأجل تحقير العرب، عن سوء قصد، لا عن جهل، فلا ينقص جرجي العلم بعد أن أوهم قرّاءه أنه عاد إلى مصادر ومراجع عربية.. لكنه تعمّد التحريف، وتعمد الدس والتشويه، وتعمد فساد الاستنباط مع الطعن المدروس.. لعمالته الأجنبية، ولتعصبه الديني، الذي جعله ينظر إلى تاريخنا العربي الإسلامي، وآداب اللغة العربية، بعين السخط والحقد.
ونحن في نقدنا الذي دوّناه فيما سبق.. لم نكن في موقف من يتصيد الأخطاء ويغمض عينه عن الصواب.. ولكننا كنا نبحث عن الصواب فلم نجده، فاخترنا من الأخطاء بعضها وأهمها.. ونحن لا نقول إن ما سجلناه هو كل ما يقال عن روايات جرجي، لا.. فمن يفتش يجد طعنات وأخطاء بقدر ما كتبناه وأكثر.. ولكننا أردناها لقيمات تتذوقها من "طبخة" كبيرة طبخها جرجي من تاريخنا، وقدمها للأجيال..
(24/5)
وخاتمة لدراستنا هذه .. يمكننا أن نستخلص من مجموع الروايات، ما أراده جرجي، وما هي الملاحظات الرئيسة التي توجه إلى هذه الروايات:
1-شوه جرجي سيرة أبطال الإسلام
ففي "فتاة غسان".. سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ورجالات الصدر الأول.. ووصفهم بالبطش، والفتك والنهب..
وفي "أرمانوسة المصرية" شوه حياة عمرو بن العاص.. وأظهر المسلمين سذجاً بسطاء أغبياء..
وفي "عذراء قريش" .. شوه سيرة عثمان وعلي وعائشة.. رضي الله عنهم.
وفي "17 رمضان" .. شوه سيرة خلفاء بني أمية.
وفي "فتح الأندلس" .. شوه سيرة طارق بن زياد وموسى بن نصير.
وفي "شارل وعبد الرحمن".. شوه سيرة عبد الرحمن الغافقي.
وفي "أبي مسلم الخراساني".. شوه سيرة المنصور.
وفي "العباسة أخت الرشيد".. شوه سيرة الرشيد.
وهكذا شوه جرجي أيضاً سيرة المعتصم، وأحمد بن طولون، وعبدالرحمن الناصر، والظاهر بيبرس وقطز، ومحمد أحمد المهدي.
2-طمس جرجي بطولات وفتوحات المسلمين، وأثار الشكوك حولها.. تارة بالنهب والسلب، وتارة بالبطش والفتك.. وتارة بالظلم "جزية خراج، أتاوة..".
3-جعل جرجي الجزئية كلية، واستدل بجزئية واحدة على الأمر الكلي.. وهذا حاصل في كل استنتاجاته ودعاواه، يجعل الواقعة الجزئية قضية كلية وقاعدة عامة.. يضاف إلى هذا.. إغفال الأحداث الرئيسة في تاريخ الإسلام..
مثال ذلك.. أشار جرجي إلى نكتة ذكرها صاحب الأغاني لحسين بن الضحاك، فأنزلها منزلة الأمور العمومية في ذلك العصر، فهذا ليس بتاريخ، بل مسخ التاريخ، وقال جرجي "ومن ثمار الحضارة في ذلك العصر تكاثر الغلمان، وصاروا يحجبونهم كما يحجبون النساء" .. هذا ما رآه جرجي من ثمار الحضارة، ومن مميزات عصر النهضة الذهبي في تاريخنا !!.
4-جعل مسرح أحداث رواياته في الأديرة والكنائس، وجعل للرهبان والقسس دور التوجيه حيث الأمن والأمان والاحترام والطمأنينة، والرأي القويم السليم .. عندهم.
(24/6)
كما أضفى هالات مثالية على كل ما هو (مسيحي).. وسلط الأضواء على صور الصلبان والقديسين ومياه المعمودية المقدس.. وزيت مصباح الدير.. "الشفاء التام ببركة الماء المقدس وزيت المصباح وبركة صاحب الدير".
5-تلاعب بالمصادر والمراجع .. وإن أشار إلى مرجع ونقل فقرة، نقلها مشوهة ودون ذكر الجزء أو الصفحة أو الطبعة.. وما ذلك إلا لإيهام القارئ بموضوعيته..
كما وأنه يضع كلاماً بين قوسين، وكأنه ينقل حرفياً بأمانة.. مع أنه كلام من أفكار جرجي.. يدسه ويرويه على ألسنة أعلام مشهورين. وبخاصة حوار كبار الصحابة مع بطلاته الوهميات !!
6-ركز جرجي على فترات القلق السياسي، فكانت له أحداث الفتنة الكبرى، وأبو مسلم الخراساني، الأمين والمأمون، وشجرة الدر.. مرتعاً خصباً للخوض في غمار هذه الأحداث مجسماً الخلاف، مظهراً العيوب..
7-كما أكثر جرجي من "الدعوى بلا دليل"..
كاستهانة عبد الملك بن مروان بالقرآن الكريم : "هذا فراق بيني وبينك!" وكقوله إن معاوية أرسل بسر بن أرطأة، وأرسل معه جيشاً، أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي، ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان !!
وكقول جرجي أن المنصور والمعتصم، بنيا كعبتين في بغداد وسامراء!!
وكقوله بكره المنصور للعرب.. وهو العربي وابن عم النبي العربي صلى الله عليه وسلم .
وقوله إن "دائرة للمنجمين" في قصر الخلافة العباسية في بغداد.
وقوله: ذبح الخليفة أهل الكرخ بسبب جارية.
وقوله: إن للبطل الفاتح عبد الرحمن الغافقي "خباء من النساء"!!
8-أظهر شعوبية وحقداً على العرب..
لقد حقر جرجي –في ذهنه فقط- أمتنا، وأظهر مساوئها.. بل ما ترك سيئة إلا وعزاها لأمتنا، وابتز منها كل مكرمة.. واستغل الطورانيون، أعداء العرب، مؤلفات جرجي، فترجمت إلى اللغة التركية، للاستعانة بما كتبه في تحقير العرب، وانتقاص مدنيتهم، وغمط حضارتهم، وتفضيل الأعاجم، عليهم، فكادوا يولدون بذم العرب عصبية جديدة..
(24/7)
لقد جعل جرجي العرب غرضاً لسهامه، ودربة لنباله.. يرميهم بكل نقيصة، ومعيبة وشر..
9-أثار الأحقاد التي يرجو كل عاقل إطفاء نيرانها بين السنة والشيعة.. وبخاصة في رواياته: عذراء قريش. 17 رمضان. غادة كربلاء. أبو مسلم الخراساني. العباسة أخت الرشيد. الأمين والمأمون. عروس فرغانة . فتاة القيروان..
جاء في "فتاة القيروان" : "إن شيعتنا في ضنك شديد، إن هؤلاء الظالمين يسومونهم سوء العذاب من الإهانة والضرب والحبس بسبب وبلا سبب".
"إن شيعتنا مغلوبون على أمرهم يذوقون العذاب ألواناً من الحبس والقتل.." .
"إنهم يسومون شيعتنا ذلك لأنها تجل أبناء الرسول، لو قصصت عليك بعض الخبر لبكيت على حالنا"..
10-أثار غريزة الشباب، وحرك شهوات المراهقين، مستغلاً ضعف ثقافة الكثيرين منهم، وحاول إيصالهم إلى الغاية التي يرمي إليها في كل رواية، مع لواعج الغرام، اصطكاك الركب، خفقان القلوب، رعشات الحب، سريان الكهرباء عند تلامس الأيدي..
11-كما جعل جرجي تاريخنا العربي (مع الغرام والحب).. دسائس، جواسيس، لصوص، ظالمين، قطاع طرق، ثارات، طاغين، وشايات.. ولقد ذكرنا في كل رواية ما ورد من مثل هذه العبارات..
12-وجعل جرجي وراء سير الأحداث غانيات فاتنات، ملكات جمال ممشوقات القوام، ممتلئات الجسم، مستديرات الوجه كالبدر.. جمعن بين لطف النساء وحزم الرجال وشجاعتهم، يتنقلن بخفة متناهية بين بلد وبلد، وبين فئة وأخرى ليسيرن الأحداث في تاريخنا العربي الإسلامي.
فقطام في "17 رمضان" فتاة الكوفة الفتانة، التي ذاع صيتها في الآفاق، وسمع بجمالها القاصي والداني، حتى أصبحت فتنة الكوفيين ومضرب أمثالهم، وشخصت إليها الأبصار، وحامت حولها القلوب، فباتت معجبة بجمالها.
(24/8)
وسلمى في "غادة كربلاء" عند النظر إليها أعجب الحبيب بها فلم ير جمالاً مثل جمالها في فتاة قبلها، طول عمره الذي قضاه في دمشق وضواحيها، مع كثرة ما شهد من بنات الروم والعرب والنبط والسريان واليهود، فلم تقع عيناه قبل تلك الساعة على فتاة في وجهها من الجمال والهيبة مثل ما في هذا الوجه، وقد أدهشه منها بنوع خاص جمال عينيها..
وجلنار في "أبي مسلم الخراساني" مضرب الأمثال بالجمال والتعقُّل والأنفة.. وهي على جانب عظيم من الجمال، مستديرة الوجه، ممتلئة الجسم، طويلة القامة معتدلتها، بيضاء البشرة مع حمرة تتلألأ تحت البياض، سوداء الشعر مسترسلته، نجلاء العينين كحلاءهما، تفيض جاذبية وحلاوة، وكان لها في مقدم الذقن فحص، وإذا ابتسمت ظهر على جانبي فمها فحصتان هما "الغمازتان" .
وهكذا .. في كل رواية .. كلما أزيح لثام، ظهر وجه كالبدر، ليكون وراء الأحداث بتعقل وحنكة.. وهذا تفسير فرويدي جنسي لتاريخنا العربي الإسلامي!!
13-عود الناس تصديق الخرافة والخيال.. فقصة الحب التي ينسجها بين حبيبين يباعد الفتح أو تباعد الأحداث بينهما، يعودان إلى اللقاء في نهاية القصة.. مع تنجيم، وسحر، وكهان، ورمل، ومندل وودع..
كل هذا في "روايات تاريخ الإسلام" !!
14-عدم استخراج فائدة، أو روح معنوية سامية من هذه الروايات.. مع أن الكاتب الكبير هو الذي يوجه قراءه إلى هدف كبير، وأول خطوة تجاه الهدف الكبير البعد عن الكذب والدس والتشويه والحذلقة والطعن والشعوبية.
الكاتب العظيم.. من يجعل فيما يكتبه مغزى عظيماً رفيعاً، ولن تكون العظمة فيما يُكتب إلا إذا التزم الكاتب الصدق، والأمانة، والموضوعية.. ولن يصل إلى المستوى الرفيع إلا إذا جعل ما يكتب للسمو بالجيل فكراً ونفساً وروحاً ومنهجاً.
(24/9)
15-كما قلد جرجي المستشرقين في شبهاتهم.. الرهبان علموا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، سطو العرب وحبهم للغنيمة، لا يشجع الإسلام حرية الفكر والفلسفة، إدانة الرشيد في نكبة البرامكة..
16-وكان جرجي يختصر في ما ينبغي الإطناب فيه، والإطناب فيما ينبغي الاختصار.. كوصف دير، أو بستان، أو غرفة، أو جارية.. صفحات ذكرناها فيما سبق.. بينما يذكر عين جالوت في سطرين دون ذكر اسمها، ولا يذكر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، حتى أنه في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" خصص اثنتي عشر صفحة لموضع أجنبي بعيد عن آداب اللغة العربية وهو آداب اللغة اليونانية وأطوارها، وتراجم مستقلة بصور كبيرة لفلاسفة اليونان، وآداب اللغة الفارسية وأطوارها، وآداب اللغة السريانية وأطوارها، وآداب اللغة الهندي.. نقل هذه المباحث من دوائر المعارف، نقلها هنا بلا مناسبة وكان الأولى به أن يحل محلها كتاب الدولة العباسية، وهم فحول البلاغة، وقادة الكلام.
ومما يذكر هنا.. التطويل والتكرار في موضوعين أو ثلاثة لغير موجب، مثل: وصف جمال الغانيات والجواري، والتهتك والخلاعة، وإثارة الأحقاد بين المسلمين، ثم إعادة ذلك بعينه في كل رواية!!
17-يتضح من مراجع (جرجي) أنه لم يطلع مطلقاً على "منهج البحث التاريخي".. ويتجلى ذلك في اعتماده على كتب شك المؤرخون بصحتها، بل وعرفوا كذبها ومجونها.. مثل الأغاني الذي جعله مرجعاً رئيساً في معظم رواياته..
18-كما دون جرجي في رواياته: تصورات أبطال هذه الروايات، وما قالوه في أنفسهم، وما سمعوه من هواتف، وما مر على خواطرهم من ذكريات.. حتى أحلامهم سجلها جرجي..
وليس بمثل هذه الخيالات يكتب تاريخ على وجه البسيطة!!) انتهى كلام الدكتور شوقي أبو خليل –وفقه الله-. (ص307-315).
(24/10)
أما الأستاذ أنور الجندي فقد قال عن روايات زيدان: (أما المجال الذي استطاع جرجي زيدان أن ينفث سمومه فيه بحرية؛ فهو مجال القصص، فقد ألف عدداً من القصص تحت اسم "روايات الإسلام"، دس فيها كثيراً من الدسائس والمؤامرات والأهواء، وحاول إفساد مفهوم الشخصية الإسلامية والبطولة الإسلامية، حيث أساء إساءة بالغة إلى أعلام من أمثال صلاح الدين الأيوبي، هارون الرشيد، السلطان عبد الحميد، عبد الرحمن الناصر، أحمد بن طولون، الأمين والمأمون، عبد الرحمن الداخل، شجرة الدر، وقد أقام تصوره على أساس خطير:
أولاً: تصوره للخلفاء والصحابة والتابعين بصورة الوصوليين الذي يريدون الوصول إلى الحكم بأي وسيلة، ولو كان على حساب الدين والخلق القويم مع تجريحهم واتهام بعضهم بالحقد وتدبير المؤامرات.
ثانياً: تزييف النصوص التي نقلها عن المؤرخين القدامى وحولها عن هدفها تحويلاً أراد به السخرية والاستخفاف بالمسلمين وبنى عليها قصصا غرامية باطلة.
ثالثاً: استهدف من حشد القصص الغرامية ذات المواقف المسفة داخل روايات "تاريخ الإسلام" إثارة غريزة الشباب وتحريك شهوة المراهقين، مستغلاً ضعف ثقافة الكثيرين منهم وجهلهم بالغاية التي يرمي إليها في الروايات، مع الاستشهاد بالأبيات الشعرية المكشوفة الساقطة التي تحرك الغرائز الدنيا.
رابعاً: تبين من البحث الذي قدمه عالم أزهري درس باستفاضة روايات جرجي زيدان أن معظم الأحداث التاريخية في رواياته قد حرفت وبنيت على أساس فاسد.
(24/11)
فقد ظل جرجي على حد تعبير الباحث الدكتور ... ينقب وينقر ويجهد نفسه في مزج الحق بالباطل، وتقديمه في أسلوب براق جذاب معتمداً على فن أدبي ذي أثر بالغ، وذلك هو فن القصة والرواية، حيث لم يكن حريصاً على تحري الحقائق التاريخية قدر حرصه على الحبكة القصصية وخلق الحوادث المثيرة خلقاً، وقد عمل جاهداً على طمس التاريخ الإسلامي وتشويه معالمه بغية تنفير أبناء العرب والمسلمين من ماضي آبائهم المجيد.
خامساً: من أخطر شبهاته أنه قال ببشرية القرآن وشك في مصادر العربية الأولى، ومدح بني العباس لأنهم أنزلوا العرب منزلة الكلب (على حد قوله)، ونسب إحراق مكتبة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد طبع اللبنانيون روايات جرجي زيدان مزدانة بالصور الملونة والألوان الصارخة بقصد استهواء الشباب وحملهم على قراءة هذه الكتب التي لا تعطيهم إلا صوراً مشوهة لتاريخ أمتهم وأخباراً ملفقة بغية التشكيك في ذلك التاريخ.
سادساً: أعطى نفسه الحرية المطلقة في تفسير أحداث التاريخ في معظم رواياته استناداً إلى موقف الأديب من التاريخ، وكانت تفسيراته متعسفة متكلفة في محاولة لإثارة مشاعر السخط في نفوس المسلمين.
سابعاً: تفسيره لتصرفات هارون الرشيد مع أخته العباسة وجعفر البرمكي بما لا يتفق مع ما عرف عن الرشيد من أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وبما لا يتفق مع أيسر قواعد التفكير والمنطق السليم، وفي رواية أرمانوسة المصرية حاول أن يقول: إن الحب بين أرمانوسة وأركاديوس قائد حصن الروم هو السبب في هزيمة الروم وانتصار المسلمين، واتهم المسلمين بأنهم دخلوا البيوت ينهبون ويسلبون عندما فتحوا بلبيس، وهو مناقض تماماً لما أورده المؤرخون المنصفون.
(24/12)
ثامناً: في رواية "فتاة غسان"؛ أورد شبهة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أخذ تعاليمه عن الرهبان، وتأثر بتوجيهات الراهب بحيرا، واتسمت كتابته بالسخرية والاستخفاف بوثائق العهد النبوي، ووصف حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالغرابة، وادعى أن هناك خصومة بين خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، وأخذ مصادره في هذا من كتب المستشرقين.
تاسعاً: في رواية "عذراء قريش"؛ أقام منطقه على تجريح الصحابة واتهام بعضهم بالحقد وتدبير المؤامرات، واتهم السيدة عائشة بالميل إلى سفك الدماء والنزوع إلى الشر، ووصف الخليفة عثمان بأنه رجل إمعة وذليل ومستسلم لابن عمه، وافترى على علي بن أبي طالب وفسر الفتنة تفسيراً مغرضاً، واتهم علياً بالتهاون في المطالبة بدم عثمان.
العاشر: وفي رواية "العباسة"؛ اتهم الرشيد بالاستهتار والمجون والاستبداد والظلم، وقدم تفسيراً خاطئاً ومغرضاً لقتل بني برمك، وشوه شخصية العباسة أخت الرشيد.
الحادي عشر: في روايات "شارل" و"عبدالرحمن"؛ زعم بأن القواد وأمراء الجند من المسلمين كانوا مشغولين بحب فتيات النصارى وقد فتنوا بجمالهن، وأن هذا الحب قد صرفهم عن أمر الفتح؛ فتركوا جنودهم في ساحة القتال وادعى أنهم كانوا يهتمون بالغنائم أكثر من اهتمامهم بما عداها، وجرى على تصوير حروب الإسلام على أنها حروب غنائم.
الثاني عشر: أجرى على لسان أبي مسلم الخراساني من الافتراء ما قال من أن العرب كانوا يحتقرون غير العرب ويسومونهم سوء العذاب، ثم يفتخرون عليهم بالنبوة، وطمس معالم التاريخ الإسلامي في هذه الرواية بالدس والافتراء، وقدم صوراً باهرة للكنيسة ورهبانها، وأشاد بالأديرة والرهبان حيث جعلها ملجأ الضعفاء وملاذ التائهين والخائفين.
وفي رواية "الأمين والمأمون"؛ كان واضح التحامل على العرب، واصفاً إياهم بالاستبداد وسوء التصرف مع الأجناس الأخرى التي تربطهم بهم رابطة الإسلام قبل كل شيء.
(24/13)
الثالث عشر: في رواية "فتاة القيروان"؛ حاول التشكيك في أنساب الكثيرين من حكام المسلمين، ... ، واعتمد في قصصه الغرامية على الخيال؛ إذ لا يوجد ذكر لكل هذه المواقف في جميع كتب التاريخ، وخاصة حاكم سلجماسة الأمير حمدون، بل أن صاحب سلجماسة في كتب التاريخ يختلف تماماً عما جاء في رواية زيدان مما يؤكد ميل زيدان إلى التزوير والتحريف.
بل إن صاحب سلجماسة هو محمد بن داسول وليس الأمير حمدان، ولم يقل ابن الأثير أن له بنتاً شغلت القائد جوهر؛ فخطبها لابنه، وقد أعطى زيدان اليهود في روايته دوراً إيجابياً وجعلهم أصحاب الفضل الأول في إزالة الدولة الإخشيدية وإقامة دولة الفاطميين (1) مقامها.
__________
(1) ... الصواب أن تسمى دولة العبيديين الرافضة الذين تستروا بمحبة آل البيت زوراً، وسموا دولتهم بالفاطمية.
الرابع عشر: في رواية "صلاح الدين" تلفيق وتزوير وإفساد للمجتمع؛ فقد ذهب إلى أن الخليفة العاضد لما ضعف أمره استدعى صلاح الدين وأوصاه بأهله خيراً، وأن صلاح الدين نقض هذا العهد بعد سويعات وحاصر قصر الخليفة وأخذ كل ما فيه ومن فيه، ولا ذكر في كتب التاريخ لتلك الوصية، ولا إشارة في كتب التاريخ إلى سيرة الملك هذه، وهذه الوصية التي ذكرها زيدان لم ترد في "الكامل" لابن الأثير ولا غيره؛ فهي ملفقة مزورة، كذلك؛ فقد زيف زيدان النصوص التي نقلها من ابن الأثير وحولها تحويلاً أراد به السخرية والاستخفاف بالمسلمين، وبنى عليها قصصاً غرامية باطلة.
ولم يعن المؤلف بالتصوير الحي لشخصية صلاح الدين ولم يسجل مواقفه الحاسمة، وصرف الشباب عن الحديث عن الدور المهم الذي قام به صلاح الدين بالحديث عن مكائد الحشاشين، وتهديدهم لصلاح الدين، واعتمد على روايات طائفة الحشاشين تلك الجماعة الضالة المنحرفة، وحاول أن ينسب إلى صلاح الدين قصصاً غرامية كاذبة.
(24/14)
الخامس عشر: وفي رواية "شجرة الدر"؛ حاول أن يصور نساء السلطان الصالح نجم الدين أيوب بصورة النساء اللاتي يتاجرن بأعراضهن في سبيل الحصول على ما يتطلعن إليه، وليس معه أي دليل من التاريخ، وهذه الدعاوى التي أوردها حول شجرة الدر تختلف عن الحقائق الواردة في الكتب التي أرخت لهذه الفترة.
السادس عشر: وخلاصة ما يصل إليه البحث حول روايات جرجي زيدان:
1- تحويل مواقف الشخصيات التاريخية .
2- إثارة الشكوك حول البطولات الإسلامية.
3- تعمد إغفال الحوادث التاريخية المهمة.
4- إضفاء هالات مثالية على الأديرة والرهبان.
5- التلاعب بالمصادر والمراجع). انتهى كلام الأستاذ أنور الجندي –رحمه الله- من كتابه (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص 174-178).
(24/15)
::::: المجموعة الرابعة :::::
نظرة شرعية في فكر (طه حسين)
ترجمته (1) :
-هو طه حسين، كان مولده سنة 1889 كما كتب طه ترجمته في سجلات المجمع اللغوي واعتمد عليه كتاب –المجمعيون- ومن جعل مولده 1891 فقد أخطأ .
كان السابع من إخوته وإخوانه الذين بلغوا 13 مولوداً وكان والده ذا مركز مرموق في الضاحية حرص على تعليم أولاده فبينهم طالب الطب والقضاء والمجاور في الأزهر وتلميذ الثانوية..
حرص الأب أن يعلمه فأدخله الكتاب وحفظ فيه القرآن الكريم وحفظ الصبي الكثير مما كان يسمع من أدعية وأشعار وأغانٍ! وقصص، وحفظ قواعد التجويد، وحين ترعرع راح أخوه الأزهري يحفظه الألفية ليعده للحياة الجديدة في الأزهر.
أوسع مرجع لصباه ولحياته في القرية وفي الأزهر كتابه "الأيام" الجزء الأول.
كما أن أفضل كتابين يرجع إليهما الباحث تتناول حياته العامة "أديب" و"مذكراته والجزء الثاني من الأيام".
- دخل الأزهر عام 1902.
- ما حفظه في القرية أهله أن يتفوق به على رفاقه في الأزهر ومكنّه أن يتابع دروس شيوخه بوعي وفهم.
- وحدته وعماه جعلتاه ينزع في تفكيره منزع التطرف والعنف وهذا ما جعله يصطدم بأساتذته الواحد بعد الآخر.
- تفتح ذهنه واتسعت آفاق تفكيره حين بدأ يحضر دروس الأدب على يد سيد علي المرصفي، والأستاذ ينحو في دروسه منحى اللغويين والنقاد مع ميل للتفقه وللتحليل ويعنى بمفردات اللغة وإظهار ما في البيت من بيان وبديع ومعانٍ.
- أرضت هذه الدروس نفس طه وتعلق بها وحفظ ما كان يعرض له من ديوان الحماسة وغيره.
- نمت فيه الكفايات ومكنته من القدرة على التمييز والتحليل، وبدأت ذاتيته وقابلياته تنضج نضجاً مبكراً وسريعاً، يتناسب مع حدة ذكائه وقوة مداركه.
- ظهرت في هذه الفترة في أقواله وتقريراته، ملكة النقد وكانت مجلبة لإتعابه مع رفاقه ومع مدرسيه.
__________
(25/1)
(1) ... مستفادة من كتاب (طه حسين بين أنصاره وخصومه) لجمال الدين الألوسي. ومراجع ترجمته كثيرة لا تخفى على الباحثين.
- كره طه بعد المرحلة الثانية من دراسته الأزهرية دروس الأزهر واجتوى حلقات الشيوخ ما عدا درس الأدب.
- حضر درسين اثنين للإمام محمد عبده فاستهواه حديثه ورغب أن يلازمه لكن الشيخ لم يعد لحلقته وإنما نقل إلى الإفتاء .
- كان عام 1908 عاماً فاصلاً بينه وبين حياة الأزهر وشيوخ الأزهر، في هذا العام فتحت الجامعة المصرية الأهلية فانتمى إليها وقضى فيها سنوات ثلاثاً يختلف إليها وإلى الأزهر. وقد وجد في دروس الجامعة اختلافاً كثيراً ووجد حرية البحث، فشغف بهذه الدروس حباً وتفتحت لها نفسه وكان أثر ذلك عميقاً فيها كما كون في نفسه نزعة التطرف والنقد وهو على استعداد لهذه الخصلة.
- وجد في الجامعة مبتغاه، وفي ظل البحث التحليلي أخرج رسالته عن أبي العلاء المعري "ذكرى أبي العلاء" التي نال بها درجة الدكتوراه بتفوق.
- فلما وزعت مطبوعة ثارت حولها ضجة ورمي بالإلحاد وقدم أحد النواب إلى الجمعية العامة استجواباً أثار به موضوع رسالة طه حسين وطالب بفصله ونزع الشهادة عنه ولولا تداركه رئيس المجلس (سعد زغلول) لتغير مجرى حياته.
- في 5 مارس 1914 سافر على نفقة الجامعة إلى فرنسا ليكمل دراسته فكان ذلك حدثاً لم يتيسر لغيره من أمثاله .
- في "مونبيليه التي يدرس فيها الأدب الفرنسي واللغة اللاتينية تعرف على "سوزان" التي كان لها الأثر الأكبر في وجهته القادمة.
- اجتاز امتحان الليسانس عام 1917 وفي هذا العام تم زواجه بها.
- وفي هذا العام كان طه يستعد للدكتوراه برسالة عن "ابن خلدون" وفلسفته الاجتماعية.
- وفي سنة 1919 قفل إلى مصر وتم تعيينه أستاذاً للتأريخ القديم.
- في عام 1925 ألحقت الجامعة بالحكومة فتم تعيين طه حسين أستاذاً دائماً للأدب العربي بكلية الآداب.
(25/2)
- في أثناء دروسه للتاريخ القديم كان يكتب في "السياسة" حديث الأربعاء على نمط حديث الاثنين الذي كان يكتبه "سان بيف".
- أثارت هذه الأحاديث نقداً وهجوماً من المؤرخين والكتاب لتشويهه فيها تاريخ المسلمين.
- في هذه الفترة كان طه حسين جم النشاط يكتب ويحاضر وينشر ويؤلف حتى فاضت شهرته وغطت سمعة الآخرين.
- أخرج محاضراته (في الظاهرة الدينية عند اليونان) في كتاب عام 1919 يحمل اسم "آلهة اليونان".
- وفي عام 1920 أخرج "صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان".
- وفي عام 1921 أصدرت له مطبعة الجريدة ترجمة لكتاب (الواجب) بالاشتراك مع محمد رمضان.
- وفي عام 1921 أيضاً ترجم كتاب "نظام الاثنين" لارسطو.
- وفي عام 1922 أعيد طبع كتاب "ذكرى أبي العلاء" بعد أن نفدت طبعته الأولى.
- وفي عام 1923 نقل (روح التربية) عن غوستاف لوبون ونشرته الهلال لمشتركيها.
- وفي عام 1924 كتب سلامة موسى مقالاً في الهلال رفع فيه طه حسين إلى زعامة الأدب الحديث .
- وفي عام 1924 نشر طه كتابه "قصص تمثيلية" من الفرنسية.
- وفي عام 1925 أخرج الجزء الأول من كتابه (حديث الأربعاء).
- وفي 1925 نشر كتاباً باسم "قادة الفكر".
- وفي 1926 نشر كتابه "حديث الأربعاء" الجزء الثاني.
- وفي 1926 نشر كتابه "الشعر الجاهلي" فأثار ظهوره ثورة عاصفة كادت تعصف بطه وكرسيه وأدبه، وانبرت أقلام الأدباء والمؤرخين وعلماء المسلمين يردون عليه بأعنف ما عرف النثر الأدبي من النقد والهجاء، وأخرجت المطابع كتباً عديدة في الرد عليه وربحت المكتبة العربية كتباً غاية في الجودة والنقد وأدب الحوار.
- أحيل طه حسين سنة 1926 إلى النيابة وحققت معه وانتهت من قرارها سنة 1927. وكان قرارها فيه تفنيد لمزالق متطرفة ارتكبها طه حسين في كتابه. وتفنيد آراء أخذها من المستشرقين أمثال رينان ومرغليوث وغيرهما، وصودر كتابه وجمع من الأسواق.
نشأته : القرية : الأزهر : باريس : العودة.
(25/3)
-في سنة 1928 عين الدكتور طه عميداً لكلية الآداب فأثار هذا التعيين أزمة حادة للجامعة وللدكتور طه، فقد كان علي الشمسي وزيراً للمعارف وكان وفدياً يحقد على طه فتدخل للحيلولة دون هذا التعيين ويريد أن ينتقم للوفد الذي لم ينس زعماؤه مقالات طه حسين ويعلمون صلاته بالأحرار الدستوريين، وأصر الوزير إلا أن يستقيل وأصر الدكتور طه إلا المباشرة في العمادة، وقبل أن يستقيل بشرط واحد هو أن يعين ويباشر وظيفته ولو ليوم واحد ويوقع بعض الأوراق ثم يقدم استقالته، وبذلك حسم النزاع واستمر أستاذاً للأدب العربي.
-وفي سنة 1930 انتهت مدة "ميشو" الفرنسي عميداً فاختارت الكلية الدكتور طه حسين عميداً، ووافق وزير المعارف "مراد سيد أحمد" وبعد حين طلب منه أن يستقيل ليصبح رئيساً لتحرير جريدة الشعب لسان حال حزب صدقي باشا فرفض الطلب وآثر البقاء في الجامعة وألحت عليه الجهات الرسمية على قبول رئاسة تحرير الجريدة فأصر على الرفض، وهذا ما جعل صدقي يضمر في نفسه الانتقام من الدكتور طه.
-وابتداءً من 29 مارس 1932 لزم الدكتور بيته وشرع يكتب في جريدة السياسة ويتولى رئاسة تحريرها حين يكون الدكتور هيكل غائباً عن القاهرة. وكان ائتلاف بين الأحرار والوفد فطلب من الدكتور طه أن يكتب في جريدة (كوكب الشرق)التي كان يصدرها حافظ عوض. واستقال من كوكب الشرق واشترى امتياز جريدة الوادي وتولى الإشراف على التحرير واستمر إلى تشرين الثاني 1934 يدير الوادي.
-أعيد في وزارة نسيم إلى الجامعة سنة 1934 وعين أستاذاً في كلية الآداب وفي مارس من سنة 1936 اختير عميداً للكلية واستمر في العمادة حتى مارس 1939 وأعيد انتخابه للعمادة لكن حكومة محمد محمود لم ترض إعادته عميداً فاستقال من العمادة وبقي أستاذاً في الكلية للأدب .
-وفي كانون الأول من عام 1939 عين مراقباً للثقافة في وزارة المعارف واستمر بعمله الرسمي إلى شباط 1942 مع بقائه يلقي محاضراته في كلية الآداب.
(25/4)
-وعاد الوفد سنة 1942 إلى الحكم فاختاره نجيب الهلالي وزير المعارف مستشاراً فنياً بوزارة المعارف ثم انتدب مديراً لجامعة الإسكندرية واستمر في هذين المنصبين إلى تشرين 1944.
-وفي 16 تشرين الأول سنة 1944 أحيل إلى التقاعد واستمر خارج المناصب الحكومية، وفي 13 كانون الثاني 1950 عين وزيراً للمعارف في الوزارة الوفدية .
-ومن سنة 1952 انصرف إلى الإنتاج الفكري وإلى النشاط في المجامع العلمية واللغوية، فهو عضو في مجمع اللغة في القاهرة، والمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، والمجمع المصري في دمشق، والمجمع العلمي العراقي، وعضو مراسل لعدة مجامع علمية في الخارج.
-حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة مدريد وجامعة كمبردج، ونال وسام الباشوية ووسام الليجون دونير مو طبقة كراند أوفيسية، ونال الدكتوراه الفخرية من جامعات ليون، ومونبيليه، ومدريد، وأكسفورد، وانتخب رئيساً للمجمع اللغوي بعد وفاة أحمد لطفي السيد سنة 1963.
-توفي طه حسين عام 1973م.
مؤلفاته:
1- ذكرى أبي العلاء المعري، وهو أول كتاب صدر له نال به رسالة الدكتوراه سنة 1914 وقد طبع لأول مرة بمطبعة الواعظ سنة 1334هـ-1915م في 410 صفحة. وطبع ثانية بمطبعة المعاهد بمصر سنة 1922 في 384 صفحة من غير حذف أو تغيير. وطبع ثالثة بعنوان تجديد ذكرى أبي العلاء في دار المعارف سنة 1937 في 311 صفحة. وطبع طبعة رابعة سنة 1950 ثم طبعة خامسة في دار المعارف سنة 1958.
2- فلسفة ابن خلدون الاجتماعية : وهو رسالة الدكتوراه التي قدمها إلى السوربون سنة 1917 ونال بها إجازة الدكتوراه من جامعة باريس وترجمها عبد الله عنان بعنوان (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) طبعت بمطبعة الاعتماد لأول مرة سنة 1343هـ-1925م.
3- آلهة اليونان: الظاهرة الدينية عند اليونان وأثرها في المدنية طبع في مطبعة المنار سنة 1919، في 96 صفحة.
(25/5)
4- دروس التأريخ القديم وهي الدروس التي كان يلقيها في الجامعة المصرية بين عام 1919 وعام 1924 شملت اليونان والرومان نشر بعضها في مجلة الجامعة.
5- صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان، مطبعة الهلال بمصر سنة 1920.
6- الواجب ترجمه عن الفرنسية لمؤلفه جول سيمون وطبع في مطبعة الجريدة سنة 1921 في أربعة أجزاء .
7- نظام الاثنين تأليف أرسطو طاليس ترجمه عن اليونانية وطبع بمطبعة الهلال وأعيد طبعه في دار المعارف في 192 صفحة.
8- روح التربية تأليف جوستاف لوبون عن الفرنسية طبع بمطبعة الهلال في 163 صفحة.
9- قصص تمثيلية لجماعة من أشهر الكتاب الفرنسيين طبع في المطبعة التجارية سنة 1924.
10- قادة الفكر طبع سنة 1925 بمطبعة الهلال بـ135 صفحة. وأعيد طبعه بمطبعة المعارف سنة 1929 ثم أعيد مرات عديدة كان آخرها سنة 1959.
11- حديث الأربعاء، سلسلة مقالات نشرها في السياسة وطبع منها المجلد الأول في المكتبة التجارية بالقاهرة سنة 1925 وطبع الجزء الثاني بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1926، وطبع الجزءان ثانية بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1937 وطبع هذان الجزءان في دار المعارف 1959 وطبع الجزء الثالث في دار المعارف سنة 1957 الأول بـ412ص، والثاني بـ347ص، والثالث بـ230 صفحة.
12- في الشعر الجاهلي طبع بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1926 ثم سحب الكتاب من الأسواق.
13- في الأدب الجاهلي وهو كتاب (في الشعر الجاهلي) بعد أن حذف منه فصل وأضيفت إليه فصول، طبع لأول مرة بمطبعة الاعتماد بالقاهرة سنة 1927 بـ375ص، وطبع ثانية في دار المعارف سنة 1958 بـ333ص.
14- في الصيف نشره سنة 1928 ولم يظهر في كتاب إلا سنة 1933 وطبع في بيروت للمرة الثانية مع رحلة الربيع والصيف بدار العلم للملايين سنة 1957.
(25/6)
15- الأيام، الجزء الأول نشر أولاً في الهلال المجلد 35 ج2 ص161-168 وتوالى نشره من سنة 1926-1927 ثم جمع بكتاب وطبع بمطبعة أمين عبد الرحمن في سنة 1929 وأعيد طبعه سنة 1942 ثم في سنة 1949. ثم في سنة 1958.
16- حافظ وشوقي طبع بمطبعة الاعتماد بـ121ص وذلك سنة 1933.
17- على هامش السيرة الجزء الأول المطبعة الرحمانية وقد أعيد مراراً سنة 1935، 1953.
18- نقد النثر لقدامة بن جعفر حققه بالاشتراك مع عبد الحميد العبادي، دار الكتب.
19- دعاء الكروان، وقد أعيد طبعه مراراً منها طبعة دار المعارف سنة 1959 بـ160 صفحة.
20- من بعيد طبع بمطبعة الرحمانية بـ311ص. وأعادت طبعه الشركة العربية للطباعة والنشر سنة 1958 بـ 305صفحة.
21- أديب، طبع بمطبعة الاعتماد سنة 1935 بـ251ص، وأعيد طبعه سنة 1944، وطبع ثالثة سنة 1953 بمطابع جريدة المصري من مجموع كتب للجميع.
22- الحياة الأدبية في جريدة العرب مكتب النشر وأعيد طبعه في كتاب "ألوان" سنة 1958.
23- مع أبي العلاء في سجنه مطبعة المعارف بـ 245ص وطبع مرة أخرى سنة 1956 بـ 336ص.
24- أندروماك لراسين، المطبعة الأميرية ببولاق.
25- من حديث الشعر والنثر، مطبعة الصاوي القاهرة بـ 312ص، وطبع ثانية سنة 1948 وثالثة بدار المعارف سنة 1957 بـ 184ص.
26- القصر المسحور بالاشتراك مع توفيق الحكيم، طبع بدار النشر الحديث سنة 1937.
27- مع المتنبي ظهر في شباط سنة 1937 في جزأين بـ 716 صفحة ضمن مطبوعات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأعادت طبعه دار المعارف سنة 1957 بمجلد واحد وأعيد طبعه سنة 1960.
28- الحب الضائع نشرته مجلة الراديو (مسلسلة)، عام 1937-1938 ثم نشر في العدد 100 من سلسلة "اقرأ" التي تصدرها دار المعارف شهرياً 1951.
29- مستقبل الثقافة في مصر جزءان طبعا بمطبعة المعارف سنة 1938 وأعيد طبعه سنة 1944.
30- من الأدب التمثيلي اليوناني، لجنة التأليف والترجمة والنشر. وأعيد في دار المعارف.
(25/7)
31- الأيام، الجزء الثاني طبع سنة 1939 ثم أعيد طبعه بدار المعارف سنة 1956.
32- لحظات، في جزئين طبعته دار المعارف سنة 1942.
33- على هامش السيرة، الجزء الثاني طبعته دار المعارف سنة 1942 وأعيد طبعه في دار المعارف سنة 1953.
34- على هامش السيرة، الجزء الثالث، طبعته دار المعارف سنة 1943 وأعادت طبعه 1955 وسنة 1958 وسنة 1961.
35- صوت باريس، مجموعة قصصية تمثيلية، طبعته دار المعارف 1943 وأعيد طبعه سنة 1956 ضمن كتب للجميع.
36- أحلام شهرزاد، العدد الأول من سلسلة اقرأ طبعته دار المعارف، سنة 1943.
37- شجرة البؤس، طبعته دار المعارف وصدر عن نادي القصة ثانية سنة 1953 ضمن سلسلة الكتاب الذهبي وطبع عن دار المعارف سنة 1958.
38- جنة الشوك عن دار المعارف سنة 1945.
39- فصول في الأدب والنقد. أصدرته دار المعارف سنة 1945.
40- صوت أبي العلاء، العدد 23 من مسلسلة اقرأ عن دار المعارف سنة 1945.
41- زاديج أو القدر مترجم من فولتير، صدر عن مطبعة الكاتب المصري وأعيد طبعه سنة 1960، من دار العلم للملايين، بيروت.
42- أندرية جيد: من أبطال الأساطير اليونانية أوديب أسيوس، صدرته مطبعة الكاتب المصري.
43- المعذبون في الأرض، نشرته مجلة الكاتب المصري سنة 1948، ثم طبع في صيدا سنة 1949 وطبع في سلسلة اقرأ وطبعته الشركة العربية سنة 1958.
44- مرآة الضمير الحديث، قامت بطبعه دار الملايين 1949، وطبع بعنوان نفوس للبيع ضمن مجموعة كتب للجميع سنة 1953.
45- الوعد الحق: طبع في دار المعارف في العدد 86 من سلسلة اقرأ وطبع سنة 1954 و 1954 و 1959 و 1960.
46- جنة الحيوان: طبع بمطابع جريدة المصري سنة 1950.
47- رحلة الربيع، العدد 69 من سلسلة اقرأ طبع دار المعارف سنة 1948، ثم أعيد نشرها مع رحلة الصيف طبعتهما دار العلم للملايين بيروت 1957.
48- ألوان: نشرته دار العلم للملايين بيروت سنة 1952. ثم أعادت طبعه مجدداً سنة 1958.
(25/8)
49- عليٌ وبنوه: الجزء الثاني دار المعارف وطبع مرة ثانية 1961.
50- بين بين : نشرته دار العلم للملايين سنة 1952.
51- شرح لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء بالاشتراك مع إبراهيم الأبياري العدد 13 من ذخائر العرب.
52- من هناك، مطبعة روز اليوسف من سلسلة الكتاب الذهبي، 1955، وضم صوت باريس.
53- خصام ونقد نشرته مطابع دار العلم للملايي، بيروت، سنة 1955.
54- نقد وإصلاح: نشرته مطابع دار العلم للملايين، بيروت، سنة 1956 وطبع ثانية سنة 1960.
55- رحلة الربيع والصيف دار الملايين أخرجته سنة 1957 ويضم رحلة الربيع وفي الصيف.
56- مرآة الإسلام، مطبعة المعارف بمصر سنة 1959 بـ 311ص .
57- من لغو الصيف، نشرته دار العلم للملايين، بيروت 1959.
58- من أدب التمثيل الغربي، نشرته دار العلم للملايين سنة 1959.
59- أحاديث نشرته دار العلم للملايين سنة 1959.
60- الشيخان أبو بكر وعمر نشرته دار المعارف بمصر سنة 1960.
61- المذكرات، دار الآداب بيروت شباط 1967.
62- الجزء الأول من الفتنة الكبرى (عثمان)، دار المعارف وكان الجزء الثاني من الفتنة قد صدر بعنوان علي وبنوه سنة 1952.
63- كلمات: في الأدب والنقد أصدرته دار العلم للملايين سنة 1967.
64- خواطر: في الأدب والنقد أصدرته دار العلم للملايين سنة 1967.
ترجمة كتبه وأعماله المجمعية:
ترجمت "الأيام" إلى الإنكليزية والفرنسية والعبرية والصينية والروسية والفارسية والإيطالية والألمانية والمجرية، وقد ترجم الأيام الجزء الثاني إلى الإنكليزية والفرنسية وترجمه كراتشكوفسكي إلى الروسية وظهرت ترجمته سنة 1960.
دعاء الكروان نقل إلى الفرنسية.
وأوديب ومستقبل الثقافة إلى الفرنسية.
والوعد الحق إلى الفارسية.
علي وبنوه إلى الفارسية والأوردية.
-وللدكتور طه حسين مقالات سياسية وأدبية ونقدية واجتماعية، وله مقدمات لكتب عديدة كان يكتبها لأصدقائه وطلابه لو جمعت لأربت على عشرات الكتب.
(25/9)
أما أعماله المجمعية: فقد ساهم ... . في لجانه الكثيرة ومنها:
1- لجنة المعجم الكبير وقد اختير مشرفاً عليها منذ إنشائها.
2- لجنة اللهجات.
3- لجنة الأدب.
4- لجنة الأصول.
5- لجنة التأريخ والجغرافيا.
6- لجنة الألفاظ والأساليب.
7- لجنة نشر التراث القديم.
وألقى في المجمع بحوثاً وكلمات منها:
1- كلمة في استقبال الدكتور عبد الحميد بدوي ونشر في المجلة، الجزء السادس ص 218.
2- بحث (فن من الشعر يتطور بأعين الناس)، المجلة، الجزء السابع ص 24.
3- كتاب الرد على النحاة، لابن مضاء، بحث عنه، نشر في المجلة، الجزء السابع ص 76.
4- كلمة في استقبال الأستاذ محمود تيمور، سنة 1950، الجزء الثامن ص 43.
5- كلمة في استقبال الأستاذ محمد توفيق دياب، المجلة، الجزء العاشر ص 151.
6- كلمة في استقبال الأستاذ توفيق الحكيم، سنة 1954، الجزء العاشر ص 175.
7- مشكلة الأعراب المحلية، الجزء الحادي عشر، ص 175.
8- كلمة في استقبال أحمد حسن الباقوري، المجلة ج 13 ص 241.
9- في تأبين الدكتور محمد حسين هيكل، سنة 1957، المجلة ج 13 ص 287.
10- كلمة في تأبين الأستاذ انوليتمان، المجلة، ج 14 ص 334، ألقاها بالنيابة عن الدكتور طه حسين الدكتور محمد عوض محمد، يوم 27 من ذي العقدة سنة 1383هـ 21 نيسان 1963.
11- كلمة في تأبين الدكتور عبد الوهاب عزام، المجلة، ج 14 ص 341.
12- تأبين الأستاذ أحمد لطفي السيد، مجلة المجمع، الجزء الثامن عشر، ص 113.
وقد اختير الدكتور طه حسين لتمثيل المجمع في عدة مؤتمرات مثل مؤتمر اللغويين السادس باريس، والمؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الذي عقد بباريس أيضاً، والمستشرقين في لندن، وأدار الإدارة العامة للثقافة العربية في الجامعة العربية، وحضر ورأس مهرجانات ومؤتمرات أدبية في أقطار عديدة. (انتهى ملخصاً بتصرف من كتاب (طه حسين بين أنصاره وخصومه) لجمال الدين الألوسي (12-16، 63-65، 69-76).
انحرافاته:
(25/10)
انحرافات هذا الرجل كثيرة جداً، فهو –بلا شك- رأس من رؤوس التغريب في زماننا المعاصر، وقد حاول طيلة حياته إلقاء الشبهات وإثارة الشكوك ومحاربة الإسلام بشتى الطرق، وفق خطة مدروسة صاغها له الغربيون الذين ربوه على أعينهم.
فإليك أخطر انحرافاته التي بثها بين المسلمين:
1- إحياؤه ودعوته إلى مذهب (الشك) الذي تلقاه عن (ديكارت).
يقول الأستاذ أنور الجندي: "يكاد المستشرقون والباحثون الغربيون يجمعون على أن هدف طه حسين الأول الذي أعد له، والذي عمل له خلال حياته كلها من خلال كتاباته سواء منها التي ألقيت في الجامعة كمحاضرات أو نشرت في صحف أو في كتب مطبوعة تجمع على شيء واحد هو: إرساء منهج الشك الفلسفي في حياة الفكر الإسلامي على نحو يسيطر تماماً على التاريخ والنقد الأدبي والمسرح والدراما، واتخاذ كل أساليب البيان للوصول إلى هذه الغاية فقد اتخذ ذلك أول الأمر أسلوبه في الجامعة حيث حمل لواء الدعوة إلى نقد القرآن بوصفه نص أدبي، وتشكيكه في وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام." (كتاب العصر تحت ضوء الإسلام، ص30)
وقد رد الأستاذ محمود شاكر –رحمه الله- على طه حسين مبطلاً مذهبه هذا بقوله "إن إدعاء طه حسين أن القاعدة الأساسية في منهج ديكارت أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن خلواً تماماً مما قبل، فإن هذا شيء لا أصل له وتكاد تكون هذه الصياغة كذباً مصفى، بل هو خارج عن طوق البشر.
(25/11)
هبه يستطيع أن يخلي ذهنه خلواً تاماً مما قبل، وأن يتجرد من كل شيء كان يعلمه من قبل، أفيستطيع هو أيضاً أن يتجرد من سلطان اللغة التي غذي بها صغيراً حتى صار إنساناً ناطقاً؟ أفيستطيع أن يتجرد من سطوة الثقافة التي جرت منه مجرى لبن الأم؟ أيستطيع أن يتجرد من بطشة الأهواء التي تستكين ضارعة في أغوار النفس وفي كهوفها كلام يجري على اللسان بلا زمام يضبطه، محصوله أن يتطلب إنساناً فارغاً خاوياً مكوناً من عظام كسيت جلداً؟." (المرجع السابق، ص32).
قلت: وليت طه حسين إذ دعا إلى هذا المذهب كان يهدف إلى أن يكون الشك مقدمة إلى اليقين، إذاً لهان الأمر، ولكنه كان يهدف إلى أن يكون الشك للشك !!
2-تدور فكرة كتابه (في الشعر الجاهلي) على "أن الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام، أي لا يمثل الحياة التي عاش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة بمالها من جوانب وأجواء، إذ هو شعر مصطنع مفتعل ولذا لا يعبر عن حقائقها ولا عن ما دار فيها، فهو في جملته يعبر عن حياة جاهلية فيها غلظة وخشونة، وبعيدة عن التمرس السياسي، والنهضة الاقتصادية أو الحياة الدينية الواضحة. مع أن حياة العرب في الجاهلية كانت حياة حضارية" (طه حسين في ميزان العلماء والأدباء، للأستاذ محمود الأستانبولي، ص 129).
"ومنطق المؤلف: بما أن الشعر الجاهلي لا يصح أن يكون مرآة صافية للحياة الجاهلية، وهي الحياة التي نشأ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وقام بدعوته، وكافح من أجل هذه الدعوة فيها، فالشيء الذي يعبر عن هذه الحياة تعبير صدق، وموثوق به كل الثقة، هو القرآن " (المرجع السابق، ص 130).
(25/12)
ثم ذكر ما يعتقده من صفات الحياة الجاهلية كما جاءت في القرآن قال الدكتور محمد البهي : (ومعنى هذا القول –كما يريد المؤلف أن يفهم قارئه –أن القرآن انطباع للحياة القائمة في وقت صاحبه، وهو النبي، ويمثل لذلك بيئة خاصة : في عقيدتها ولغتها وعاداتها واتجاهها في الحياة، وهي البيئة العربية في الجزيرة العربية) (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 186).
"وإذن: القرآن –بعبارة أخرى- دين محلي لا إنساني عالمي قيمته وخطره في هذه المحلية وحدها، قال به صاحبه! تحت التأثر بحياته التي عاشها وعاش فيها، ولذلك يعبر تعبيراً صادقاً عن هذه الحياة، أما أنه يمثل غير الحياة العربية، أو يرسم هدفاً عاماً للإنسانية في ذاتها، فليس ذلك الكتاب. إنه دين بشري وليس وحياً إلهياً" !! (المرجع السابق، ص 187).
-كان من أخطر وأعظم أقوال طه حسين في هذا الكتاب، قوله:
"للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة، ونحن مضطرون أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهود، والقرآن والتوراة من جهة أخرى" !!(نقلاً عن: طه حسين : حياته وفكره في ميزان الإسلام، للأستاذ أنور الجندي، ص 8).
3-أما في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) فقد دعا طه حسين إلى ثلاثة أمور:
1- الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلامها.
2- الدعوة إلى الوطنية وشؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين، أو بعبارة أصرح: دفع مصر إلى طريق ينتهي بها إلى أن تصبح حكومتها لا دينية.
(25/13)
3- الدعوة إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ودفعها إلى طريق ينتهي باللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم إلى أن تصبح لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية" (طه حسين في ميزان العلماء ، ص 146)
ومن أقواله الشنيعة في هذا الكتاب: دعوته إلى "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب" (مستقبل الثقافة في مصر، ص 41).
4-أما كتابه (على هامش السيرة) فقد حشاه بالأساطير والروايات الباطلة مبرراً موقفه هذه "بأن هذه الأساطير ترضي ميل الناس إلى السذاجة، وترفه عنهم حين تشق عليهم الحياة" !! (طه حسين في ميزان العلماء، ص 234).
يقول الأستاذ غازي التوبة : "ليس من شك في أن تناول السيرة بقصد الاستراحة من جهد الحياة وعنائها، والترفيه عن النفس، وإرضاء ميل الإنسان إلى السذاجة، وتنمية بعض عواطف الخير، ليس من شك أنها سابقة خطيرة، لا يحسد عليها طه حسين؛ لأن المسلمين كتبوا –دوما وكثيراً- في سيرة نبيهم صلوات الله عليه، ومحصوا أحداثها، وميزوا دقائقها، وبوبوا تفاصيلها، وكان نظرهم –خلال ذلك كله وبعده- يرمق في محمد (صلى الله عليه وسلم) مثلاً أعلى للإنسانية ويلتذ في ذلك، ويشتم منه الصفات العبقة ويلتذ في ذلك –ولم يقفوا عند حدود الرمق والشم والالتذاذ- ولكن سعت أقدامهم في لحظة الرمق والشم والتلذذ نفسها- ومشت على طريق محمد. فزكوا أنفسهم كما زكى محمد نفسه، وعبدوا ربهم كما عبد محمد ربه، وعاملوا الناس كما عامل محمد الناس، وجاهدوا الشرك والباطل كما جاهد محمد الشرك والباطل الخ ...
(25/14)
كتب المسلمون الذي كتبوه في سيرة نبيهم، ومحصوا الذي محصوه، وبوبوا الذي بوبوه، قاصدين الاقتداء به، والعمل مثل عمله. وشتان بين ما هدف إليه طه حسين، وما ذهب إليه رواة السيرة" (الفكر الإسلامي، لغازي التوبة، ص، 110).
قلت: وقد صدق محمد حسين هيكل صاحب طه حسين ! في تعليقه على كتاب طه هذا، حين قال: "الخطر ليس على الأدب وحده، ولكن على الفكر الإسلامي كله؛ لأنه يعيد غرس الأساطير والوثنيات والإسرائيليات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى بعد أن نقاها العلماء المسلمون منها، وحرروها من آثارها" (طه حسين في ميزان العلماء، ص 236).
5-أما كتابه (الشيخان) فقد مارس فيه ما أتقنه من مذهب (الشك) الذي ورثه من (ديكارت) ! حيث قال في مقدمة الكتاب: "وما أريد أن أفصل الأحداث الكثيرة الكبرى التي حدثت في أيامهما، فذلك شيء يطول، وهو مفصل أشد التفصيل فيما كتب عنهما القدماء والمحدثون. وأنا بعد ذلك أشك أعظم الشك فيما روي عن هذه الأحداث، وأكاد أقطع بأن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامين العظيمين، ومن تاريخ العصر القصير الذي وليا فيه أمور المسلمين، أشبه بالقصص منه بتسجيل الحقائق التي كانت في أيامهما" !! (نقلاً عن : طه حسين في ميزان العلماء، ص 214).
هكذا دون أدلة، ودون رجوع لأهل الشأن من علماء الحديث، إنما تحكيماً لعقله في أحداث الصحابة وما جرى منهم ولهم.
(25/15)
6-أما كتاب (الفتنة الكبرى) بجزأيه، فقد خاض فيه طه حسين في ما شجر بين الصحابة –رضوان الله عليهم- دون علم، وهو ما نهى عنه علماء أهل السنة –رحمهم الله-، وكان له هدف خبيث من هذا الخوض بينه الأستاذ غازي التوبة بعد أن فنَّد الكتاب بقوله: "إذن ينعي طه في ختام الجزء الأول الخلافة، ويوهِن من عزائم المسلمين الساعية إلى إعادتها، وينبههم إلى أن المسلمين الأوائل تنكبوا عن طريقها منذ أمد بعيد واتبعوا طريق الملك الذي يحل مشكلات الدنيا بالدنيا، فالخلافة تحتاج إلى أولي عزم من الناس، وأين أولو العزم الآن ؟؟!!
وكأن لسان حاله يخاطب مسلمي عصره ويقول لهم: عليكم أيها المسلمون أن تدعوا التفكير في الخلافة، وأن تبطلوا السعي إليها، وأن ترضوا بحكم الديمقراطية كما رضي أصحاب النبي بعد عثمان رضي الله عنه بحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ؟؟!!
هذه هي النتيجة التي يصل إليها طه حسين في ختام الجزء الأول، ويا لها من نتيجة مثبطة!!" (الفكر الإسلامي، للتوبة، ص122-123).
-أما الجزء الثاني من الكتاب (علي وبنوه)، فإنه أيضاً لم يخلُ من دسّ، معلناً فيه (انهزام) ! الخلافة على يد علي –رضي الله عنه- وموهماً القارئ أن الإسلام قد انسحب نهائياً من الحياة بهزيمة علي –رضي الله عنه-!! وأن المال قد استولى على النفوس!
الخلاصة كما يقول الأستاذ غازي التوبة: أن طه حسين "كتب (الفتنة الكبرى) مشككاً في حكم الخلافة الإسلامية الأول، وفي إمكانية استمراره، ناعياً على الإسلام افتقاره للنظام المكتوب، معلناً انبثاق مذهب جديد في السلطان يقوم على الجبر والقهر، مبيناً رضوخ المسلمين وارتضاءهم للمذهب الجديد، زاعماً انسحاب الإسلام من مختلف قطاعات الحياة وسيطرة المال والأثرة !!
(25/16)
كتب كل هذا : قاصداً أن يقنع المسلمين بأن الحكومة الإسلامية لا وجود لها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن طبقت فلأمد محدود لا يتجاوز حياة عمر، ويعود نجاح التطبيق إلى إمكانات عمر الفردية فقط !!
كتب كل هذا: هادفاً أن يُلطخ صورة الخلافة الوضاءة كي يصرف أنظار المسلمين عنها، وأن يثني عزائهم عن السعي إليها بتهويل الصعوبات، فالأمر يحتاج إلى أولي عزم. وأين أولو العزم من الناس ؟ !
ما هي الأسباب التي دفعته إلى الكتابة عن الإسلام؟
يكمن السبب في الوضع الداخلي لمصر، فقد بلغ المد الإسلامي فيها ذُروته العظمى في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات باغياً إعادة تطبيق الإسلام في مجال الحكم، وإرجاع الخلافة الإسلامية إلى الوجود. وقد كتب طه –في اللحظة نفسها أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينيات –كي يُشكك هذا المد بعدم جدوى محاولته بالاستناد إلى تاريخ المسلمين نفسه" (الفكر الإسلامي، ص 125-126).
7-أما كتاب (حديث الأربعاء) فقد حاول طه فيه أن يصور للقارئ أن العصر العباسي كان عصر شك ومجون ودعارة وإباحية !! معتمداً في ذلك على قصص أبي نواس وحماد عجرد والوليد بن يزيد ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك ووالبة بن الحباب وإبان بن مروان بن أبي حفصة وغيرهم من المجَّان!
وقد نقد هذا الكتاب (الماجن) كلٌ من:
1- الأديب إبراهيم المازني . (انظر: طه حسين في ميزان العلماء، ص 246)
2- والأستاذ رفيق العظم. (انظر: المرجع السابق، ص 245)
-أخيراً قام الأستاذ أنور الجندي بجمع أهم الانحرافات على هذا الرجل، ولخصها على شكل نقاط، فقال: "أهم الأخطار التي يروج لها فكر طه حسين والتي يجب الحيطة في النظر إليها هي:
(25/17)
أولاً: قوله بالتناقض بين نصوص الكتب الدينية وبما وصل إليه العلم، وقوله: (إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها) وهذه نظرية شاعت حيناً في الفكر الغربي تحت تأثير المدرسة الفرنسية التي يرأسها اليهودي (دوركايم).
ثانياً: إثارة الشبهات حول ما سماه القرآن المكي والقرآن المدني، وهي نظرية أعلنها اليهودي (جولد زيهر) وثبت فسادها.
ثالثاً: تأييده القائلين بتحريق العرب الفاتحين لمكتبة الإسكندرية وهي نظرية رددها المستشرق (جريفبني) في مؤتمر المستشرقين عام 1924.
رابعاً: عَمِلَ على إعادة طبع (رسائل إخوان الصفا) وتقديمها بمقدمة ضخمة في محاولة لإحياء الفكر الباطني المجوسي الذي كان يحمل المؤامرة على الإسلام والدولة الإسلامية.
خامساً: إحياؤه شعر المجون والغزل بالمذكر وكل شعر خارج عن الأخلاق سواء كان جنسياً أو هجاء، وقد أولى اهتمامه بأبي نواس، وبشار والضحاك في دراسات واسعة عرض فيها آراءهم وحلل حياتهم.
سادساً: ترجمة القصص الفرنسي المكشوف، وترجمة شعر بودلير وغيره من الأدب الأجنبي الإباحي الخليع.
سابعاً: إثارة شبهة خطيرة عن أن القرن الثاني الهجري كان عصر شك ومجون.
ثامناً: قدم فكرة فصل الأدب العربي عن الفكر الإسلامي كمقدمة لدفعه إلى ساحة الإباحيات والشك وغيرها وذلك باسم تحريره من التأثير الديني.
تاسعاً: إعلاء الفرعونية وإنكار الروابط العربية والإسلامية ومن ذلك قوله: إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين ولو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه.
العاشر: إشاعة دعوة البحر الأبيض لحساب بعض القوى الأجنبية والقول: بأن المصريين غريبوا العقل والثقافة، وأن الفكر الإسلامي قام على آثار الفكر اليوناني القديم ولذلك فلا مانع من تبعيته في العصر الحديث للفكر الغربي.
(25/18)
الحادي عشر: الادعاء بأن الشاعر أبا الطيب المتنبي (لقيط) وهي دعوى باطلة أقام عليها كتابه (مع المتنبي) متابعاً رأي الاستشراق وهادماً لبطولة شاعر عربي نابه (1) .
الثاني عشر: اتهامه الخطير لابن خلدون بالسذاجة والقصور وفساد المنهج وهو ما نقله عن أستاذه اليهودي (دوركايم).
الثالث عشر: إعادة خلط الإسرائيليات والأساطير إلى السيرة النبوية بعد أن نقاها المفكرون المسلمون منها والتزيد في هذه الإسرائيليات والتوسع فيها وذلك في كتابه (على هامش السيرة) وقد كشف هذا الاتجاه الدكتور محمد حسين هيكل ووصفه مصطفى صادق الرافعي بأنه (تهكم صريح).
الرابع عشر: حملته على الصحابة والرعيل الأول من الصفوة المسلمة وتشبيههم بالسياسيين المحترفين في كتابه (الفتنة الكبرى).
الخامس عشر: إثارة الشبهات حول (أصالة) الأدب العربي والفكر الإسلامي بما زعمه من أثر اليهود والوثنية والنصرانية في الشعر العربي.
السادس عشر: إنكار وجود سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام وإنكار رحلتهما إلى الجزيرة العربية وإعادة بناء الكعبة على نفس النحو الذي أورده العهد القديم وكتابات الصهيونية.
السابع عشر: دعوته إعلاء شأن الأدب اليوناني على الأدب العربي والقول: بأن لليونان فضلاً على العربية والفكر الإسلامي.
الثامن عشر: دعوته إلى الأخذ بالحضارة الغربية (حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب) في كتابه (مستقبل الثقافة).
التاسع عشر: وصف الفتح الإسلامي لمصر بأنه (استعمار عربي) وعبارته هي: (خضع المصريون لضروب من البغي والعدوان جاءتهم من الفرس والرومان والعرب).
__________
(1) ... المتنبي لا تخلو أشعاره من المؤاخذات، انظرها إن شئت في رسالة (نظرات شرعية في ديوان المتنبي) لكاتب هذا البحث.
(25/19)
العشرون: إنكار شخصية عبد الله بن سبأ اليهودية وتبرئته مما أورده الطبري ومؤرخو المسلمين من دور ضخم في فتنة مقتل عثمان في كتابه (الفتنة الكبرى) ) انتهى من كتاب: (إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، ص 149-151).
-لمن أراد الزيادة في معرفة انحرافات طه حسين، والرد عليها، فعليه بهذين الكتابين الجامعين:
1- طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام، للأستاذ أنور الجندي.
2- طه حسين في ميزان العلماء والأدباء، للأستاذ محمود مهدي الإستانبولي .
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(25/20)
::::: المجموعة الرابعة :::::
نظرة شرعية في أدب (إحسان عبد القدوس)
ترجمته (1) :
-الأديب المعروف، صاحب القصص المشهورة، ولد ليلة أول يناير سنة 1920م.
"نشأ في بيت جده لوالده الشيخ رضوان وكان من خريجي الجامع الأزهر ويعمل رئيس كتاب بالمحاكم الشرعية وهو بحكم ثقافته وتعليمه متدين جداً وكان يفرض على جميع العائلة الالتزام والتمسك بأوامر الدين وأداء فروضه والمحافظة على التقاليد، بحيث كان يُحرّم على جميع النساء في عائلته الخروج إلى الشرفة بدون حجاب.. (2) "
"وفي الوقت نفسه كانت والدته الفنانة والصحفية السيدة روز اليوسف سيدة متحررة تفتح بيتها لعقد ندوات ثقافية وسياسية يشترك فيها كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن (3) . "
"وكان ينتقل وهو طفل من ندوة جده حيث يلتقي بزملاك من علماء الأزهر ويأخذ الدروس الدينية التي ارتضاها له جده وقبل أن يهضمها. يجد نفسه في أحضان ندوة أخرى على النقيض تماماً لما كان عليه.. إنها ندوة روز اليوسف" (4)
__________
(1) ... أعلام الأدب العربي المعاصر، لروبرت كامبل (888-892)، وكتاب الأديبة سهيلة زين العابدين (إحسان عبد القدوس بين العلمانية والفرويدية)
(2) ... إحسان عبد القدوس يتذكر د. أميرة أبو الفتوح ص 11.
(3) ... المصدر السابق .
(4) ... المصدر السابق .
ويتحدث إحسان عن تأثير هذين الجانبين المتناقضين عليه فيقول: "كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفر منه" (1)
(26/1)
ووالده إحسان "روزاليوسف" اسمها الحقيقي فاطمة اليوسف وهي لبنانية الأصل، نشأت يتيمة إذ فقدت والديها منذ بداية حياتها واحتضنتها أسرة (نصرانية!!) صديقة لوالدها والتي قررت الهجرة إلى أمريكا وعند رسو الباخرة بالإسكندرية طلب أسكندر فرح صاحب فرقة مسرحية من الأسرة المهاجرة التنازل عن البنت اليتيمة فاطمة ليتولاها ويربيها فوافقت الأسرة. وبدأت حياتها في الفن!
وتعرفت فاطمة اليوسف على المهندس محمد عبد القدوس المهندس بالطرق والكباري في حفل أقامه النادي الأهلي وكان عبد القدوس عضواً بالنادي ومن هواة الفن فصعد على المسرح وقدم فاصلاً من المونولوجات المرحة، فأعجبت به فاطمة وتزوجته، فثار والده وتبرأ منه وطرده من بيته لزواجه من ممثلة، فترك الابن وظيفته الحكومية وتفرغ للفن ممثلاً ومؤلفاً مسرحياً (2) ".
درس إحسان في مدرسة خليل آغا بالقاهرة 1927-1931م، ثم في مدرسة فؤاد الأول بالقاهرة 1932م-1937م، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.
وتخرج إحسان من كلية الحقوق عام 1942م وفشل أن يكون محامياً ويتحدث عن فشله هذا فيقول: "كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أداري فشلي في المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامي في أن أكون محامياً لامعاً (3) .
__________
(1) ... المصدر السابق.
(2) ... المصدر السابق.
(3) ... المصدر السابق ص 20.
(26/2)
إنتاجه الأدبي: لقد كتب أكثر من ستمائة قصة وقدمت السينما عدداً كبيراً من قصصه، ويتحدث إحسان عن نفسه ككاتب عن الجنس فيقول: "لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس فهناك المازني في قصة "ثلاثة رجال وامرأة" وتوفيق الحكيم في قصة "الرباط المقدس" و ... .و ... . وكلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما عندما هوجمت فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيماني بمسؤوليتي ككاتب!! ونجيب محفوظ أيضاً يعالج الجنس بصراحة عني ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث الذي لا يقرأ أو لا يكتب أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم آخر غير عالمه ولا يحس أن القصة تمسه أو تعالج الواقع الذي يعيش فيه، لذلك لا ينتقد ولا يثور.. أما أنا فقد كنت واضحاً وصريحاً وجريئاً فكتبت عن الجنس حين أحسست أن عندي ما أكتبه عنه سواء عند الطبقة المتوسطة أو الطبقات الشعبية –دون أن أسعى لمجاملة طبقة على حساب طبقة أخرى".
-تولى إحسان رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف، وهي المجلة التي أسستها أمه وقد سلمته رئاسة تحريرها بعد ما نضج في حياته، وكانت لإحسان مقالات سياسية تعرض للسجن والمعتقلات بسببها، ومن أهم القضايا التي طرحها قضية الأسلحة الفاسدة التي نبهت الرأي العام إلى خطورة الوضع، وقد تعرض إحسان للاغتيال عدة مرات، كما سجن بعد الثورة مرتان في السجن الحربي وأصدرت مراكز القوى قراراً بإعدامه.
-بالرغم من موقفه تجاه اتفاقية كامب ديفيد إلا أنه في قصصه كان متعاطفاً مع اليهود كما في قصص: "كانت صعبة ومغرورة" و"لا تتركوني هنا وحدي"
-توفي في 11/1/1990م.
مؤلفاته:
(I) قصص:
1- صانع الحب، دار روز اليوسف، 1948.
2- بائع الحب، دار روز اليوسف، 1949.
3- النظارة السوداء ، دار روز اليوسف، 1952.
4- أنا حرة، دار روز اليوسف، 1954. قصة طويلة.
(26/3)
5- أين عمري، دار روز اليوسف، 1954.
6- الوسادة الخالية، دار روز اليوسف، 1955.
7- الطريق المسدود، دار روز اليوسف، 1955. قصة طويلة.
8- لا أنام، دار روز اليوسف، 1957. قصة طويلة.
9- في بيتنا رجل، دار روز اليوسف، 1957. قصة طويلة.
10- شيء في صدري، دار روز اليوسف، 1958. قصة طويلة.
11- عقلي وقلبي، دار روز اليوسف، 1959.
12- منتهى الحب، دار روز اليوسف، 1959.
13- البنات والصيف، دار روز اليوسف، 1959.
14- لا تطفئ الشمس، الشركة القومية للتوزيع، 1960. قصة طويلة.
15- زوجة أحمد، دار روز اليوسف، 1961. قصة طويلة.
16- شفتاه، الشركة العربية، 1961.
17- ثقوب في الثوب الأسود، كتبة مصر، 1962. قصة طويلة.
18- بئر الحرمان، الشركة العربية، 1962.
19- لا ليس جسدك، الشركة العربية، 1962.
20- لا شيء يهم، الشركة العربية، 1963. قصة طويلة.
21- أنف وثلاث عيون، جزءان، الشركة العربية، 1964. قصة طويلة.
22- بنت السلطان، مكتبة مصر، 1965.
23- سيدة في خدمتك، دار المعارف، 1967.
24- علبة من الصفيح الصدئ، دار المعارف، 1967.
25- النساء لهن أسنان بيضاء، أخبار اليوم، 1969.
26- دمي ودموعي وابتسامتي، دار الرائد العربي، 1972.
27- لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص، دار الشروق، 1973.
28- الهزيمة كان اسمها فاطمة، دار المعارف، 1975.
29- الرصاصة لا تزال في جيبي، دار الشروق، 1977.
30- العذراء والشعر الأبيض، دار المعارف، 1977.
31- خيوط في مسرح العرائس، أرجوك خذني في هذا البرميل وعاشت بين أصابعه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977.
32- حتى لا يطير الدخان، أقدام حافية فوق البحر، الهيئة المصرية ... ، 1977. مجموعة قصص.
33- ونسيت أني امرأة، دار المعارف، 1977. قصة طويلة.
34- الراقصة والسياسي وقصص أخرى، الهيئة المصرية ... ، 1978.
35- لا تتركوني هنا وحدي، روز اليوسف، 1979. قصة طويلة.
36- آسف لم أعد أستطيع، مكتبة مصر، 1980.
(26/4)
37- يا ابنتي لا تحيريني معك، روز اليوسف، 1981.
38- زوجات ضائعات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1981. قصص طويلة.
39- الحب في رحاب الله، مكتبة مصر، 1986. قصص.
(II) روايات:
1- لن أعيش في جلباب أبي، مكتبة غريب، 1982.
2- يا عزيزي كلنا لصوص، مكتبة غريب، 1982.
3- وغابت الشمس ولم يظهر القمر، مكتبة غريب، 1983.
4- رائحة الورد وأنف لا تشم، مكتبة غريب، 1984.
5- ومضت أيام اللؤلؤ، مكتبة غريب، 1984.
6- لون الآخر، مكتبة غريب، 1984.
7- الحياة فوق الضباب، مكتبة مصر، 1984.
(ج) مقالات :
1- على مقهى في الشارع السياسي، دار المعارف، 1979-1980.
2- خواطر سياسية، عبد المنعم منتصر، 1979.
3- أيام شبابي، المكتب المصري الحديث، 1980. خواطر
4- بعيداً عن الأرض، القاهرة، الهيئة المصرية ... .، 1980. من الأدب السينمائي.
عن المؤلف :
1- هدّارة، محمد مصطفى: "إحسان عبد القدوس وأزمة القصة"، مجلة دوحاً، تموز 1978، ص 36-42.
2- أبو الفتوح، أميرة: إحسان عبد القدوس، يتذكر، الهيئة المصرية ... ، 1982.
3- الشراع، 22/1/1990، ص 54-56، نعيات وتقدير وقائمة بأعماله.
لمحة عنه:
-يعد إحسان عبد القدوس أديب (الجنس) الأول في العالم العربي، فلا تكاد تجد قصة من قصصه لا تحتوي على أمور جنسية، وعلاقات غير شرعية بين أبطال قصصه.
يقول الأستاذ فتحي سلامة: "لقد أطلق على إحسان عبد القدوس روائي الجنس، ظل يكتب بطريقته الخاصة متحدياً التيار الأخلاقي (بل الإسلامي!) الذي طالب بتحريم كتب إحسان عبد القدوس)) (1)
ويقول الأستاذ أنور الجندي:
: "لقد استطاع إحسان عبد القدوس أن يغلف أفكاره ودعاواه وإباحيته بأن يديرها في إطار قصة سياسية أو وطنية ليخدع بها الشباب" (2)
__________
(1) ... إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام، لأنور الجندي (ص 220).
(2) ... المرجع السابق (ص 221).
(26/5)
-التناقض الذي عاشه إحسان في طفولته بين بيئتين متعارضتين : بيئة (جده أبو والده) وبيئة (أمة الفنانة !) أثر في فكرة السياسي والأدبي، ونلمح هذا كثيراً في قصته (فوق الحلال والحرام) إذ جمع بين النقيضين في آن واحد!.
-وفيما يلي نعرض لأبرز محتويات قصصه ملخصين لها من الدراسة القيمة التي كتبتها الأديبة المسلمة (سهيلة زين العابدين) في تعقب أدب إحسان عبد القدوس بعنوان (إحسان عبد القدوس بين العلمانية والفرويدية) (1) .
قصة (منتهى الحب) والدعوة إلى وحدة الأديان!
ملخص القصة أن فتاةً كانت تعيش في قرية وتحب الخير للناس (جميعاً)، لما ماتت ذهبوا بها إلى الجنة! ولكنها في الجنة سمعت أنين وعذاب أهل النار، فرفضت أن تعيش في الجنة حتى يلغي الله النار !! ويُدخل جميع الناس الجنة! وقد أثرت في كثير من أهل الجنة أن يؤيدوها على هذا، حتى (صدر قرار إلهي بإلغاء الجحيم) !!
ففي هذه القصة دعوة إلى (وحدة الأديان) وأنه لا فرق بين مسلم وكافر، فالجميع يستحقون الجنة –كما يزعم إحسان!- .
كما أن فيها اعتراضاً على أفعال الله تعالى، واستدراكاً عليها، واتهاماً له تعالى بالظلم لتعذيبه الكفار .
إضافة إلى سوء أدبه مع الله عز وجل، وملائكته، حيث تخاطب معهم وامتهن ذكرهم.
دفاعه عن اليهود ! واعتراضه على الشريعة
-في قصة (كانت صعبة ومغرورة) يتعاطف إحسان مع اليهود، متناسياً كل مكايدهم وعدائهم التاريخي للإسلام وأهله؛ وذلك بتزويجه المسلمة (ناهد) من اليهودي (شريف الهنداوي) بعد أعلن إسلامه نفاقاً ليتمكن من الزواج منها.
ومن خلال كلمات شريف عن اليهود تجد الدفاع الحار عنهم الذي يصوغه إحسان على لسانه .
__________
(1) ... ومن أراد توثيق النصوص فعليه برسالة الأستاذة سهيلة –أثابها الله-.
(26/6)
-ويقول إحسان في مقدمة قصته الثانية (لا تتركوني هنا وحدي) : "ليست هذه أول قصة أكتبها وأنشرها عن المجتمع اليهودي المصري.. ربما كانت ثالث أو رابع قصة، فقد عشت هذا المجتمع منذ كنت أعيش صباي وشبابي في حي العباسية الملاصق لحي الظاهر الذي كان يضم أغلبية من السكان اليهود.. وكان لي من بينهم أصدقاء وصديقات كثيرون" .
-وملخص هذه القصة (لا تتركوني هنا وحدي) هو زواج (لوس) اليهودية من المسلم (شوكت بك)، وعندما أخبرت شوكت بأنها ستسلم، قال لها: "لماذا؟ إننا نستطيع أن نتزوج دون أن تغيري دينك.. إنها أنانية الإسلام.. البنت المسلمة لا تستطيع أن تتزوج غير المسلم، ولكن الرجل المسلم يستطيع أن يتزوج من كل الأديان" !!
وفي هذا اعتراض على حكم الإسلام !
قصة (فوق الحلال والحرام) والدعوة إلى تحرير المرأة !
قصة (فوق الحلال والحرام) تدور حول الإسلام والعلمانية، وفيها يجمع إحسان بين عبد الرحمن (شاب متدين) وهاني (شاب علماني) ويدور بينهما الحوار.
ومن خلال هذا الحوار حاول إحسان أن يمرر ما يعتقده من أفكار تحريرية؛ كمهاجمته للحجاب، ودعوته للرقص والاختلاط، وتحليله للموسيقى، وغير ذلك. وإليك شيئاً من أقواله فيها:
-(إن أي شيء مخبأ أو مغطى هو أكثر إثارة للإغراء من أي شيء مكشوف..)
-(إني لم أحس بأني أدفع إلى الحرام، وأنا أستمع إلى الموسيقى الأجنبية، أو حتى وأنا أراقص هاني..)
-(المايوه ليس خطيئة ما دام لا يتعارض مع التصرفات الفاضلة، والنفوس الفاضلة)
-في قصة (خطاب إلى ابنتي) يقول إحسان :
-(قد كانت البنات قبل أن تولدي وأولد أنا يعشن وراء المشربيات، ولكن هذه المشربيات لم تحمهن من الخطيئة)
فهو يوحي للقارئ بأن الحشمة والحجاب لا تحمي من الخطيئة، فالحل - في نظره– في ترك ذلك ما دام لا نفع منه !! متناسياً أن الحجاب أمرٌ إلهي لا دخل للأهواء وحسابات الإنسان به.
الخمر في قصصه !
(26/7)
لا تكاد تخلو قصة لإحسان عبد القدوس من كؤوس الخمر، ووجود البار في كل منزل، وكأن جميع المصريين على اختلاف مستوياتهم وثقافاتهم وحِرَفهم يشربون الخمر.
وأما الحشيش –وهو أخبث من الخمر- فيقول عنه:
(ليس هناك نص في الإسلام يحرم الحشيش) !
سوء أدبه مع الله
يقول في قصة (البنات والصيف) عن رقية: (عندما أصبحت في الثامنة من عمرها علموها الصلاة، وضعوا في رأسها صورة مخيفة لإله المسلمين ! .. كانت تتصور الله شيئاً هائلاً ضخماً، يمسك في يده (مرزبة) وينظر إليها مقطب الحاجبين، غاضب العينين، وهو متربص بها، حتى إذا أخطأت خطأ صغيراً.. أقل هفوة .. زمجر الله وحملها بالمرزبة وألقى بها في النار.. كانت تخاف هذا الإله)
وفي هذا سوء أدب مع الله عز وجل، ومقدار قدره في نفس إحسان. وصدق الله (وما قدروا الله حق قدره) فإحسان عامله الله بما يستحق يحاول تشويه وتحطيم هيبة الله من نفوس المؤمنين.
الشخصيات المتدينة في قصص !
الشخصيات (المتدينة) في قصص إحسان ضعيفة مهزوزة، بل بعضها حائر بين الحلال والحرام؛ لأنه لا يعرف الحلال من الحرام، كما في قصة (حائر بين الحلال والحرام)، وبعضها ضعيف الشخصية لا يستطيع أن يقاوم الفاحشة، كما في قصة (البنات والصيف)، ومنهم من يرتكب الفاحشة –فعلاً- كما في قصة (وسقط قبل أن يصل إلى الجنة).
بل وصل به الحال أن يجعل (إمام المسجد) وسيطاً لتطليق امرأة من زوجها وتزويجها لحبيبها !! كما في قصة (الحب في رحاب الله) ! الذي صوَّر فيها الرجال والنساء يصلون جنباً إلى جنب في المسجد!
ثم زيادة في امتهان المسجد جعله مكاناً لالتقاء الحبيب بحبيبته! أو كما يقول: (لقد جمعه الحب داخل جامع، والجوامع لا ينطق فيها إلا حب الله)!
إحسان والغريزة الجنسية
(26/8)
تقول الباحثة سهيلة زين العابدين : (من خلال دراسة قصص الأستاذ إحسان عبد القدوس نجد ونلمس بوضوح مدى تركيز الأستاذ إحسان على الغريزة الجنسية لدرجة أنه جعل سلوك شخوص قصصه نساء أو رجالاً، فتياناً وفتيات يدور في تلك الغريزة الجنسية: لا أسرة، لا زواج، ولا احترام لرباط الزوجية، ولا أمومة، ولا أبوة، ولا بنوة ، ولا أخوة، ولا عمل، وسعي على طلب الرزق، ولا دين ولا عبادة، ولا صوم ولا صلاة، ولا قيم، ولا أخلاق، ولا مبادئ!، شيوعية إباحية حرية مطلقة، تحلل وانحلال، هذا ما نجده في قصص الأستاذ إحسان عبد القدوس، فالغريزة الجنسية هي كل ما في حياة الإنسان والمجتمعات ولا فرق بين مجتمع ومجتمع، وامرأة مسلمة محجبة تعيش في كنف الحجاب وامرأة أوربية متحللة مومس، كل النساء سواء، وكل المجتمعات سواء، بل إن المجتمعات التي تسير على نهج الله وتوجب الحجاب وتحرم الخمر وتمنع الاختلاط هي في نظره من أكثر المجتمعات تحللاً وفساداً)
قلت: ولا يخفى تأثر إحسان بفرويد اليهودي الذي يحيل جميع العلاقات البشرية إلى الغريزة الجنسية !
الرجل في قصصه:
-(لقد جرد الأستاذ إحسان عبد القدوس الرجل من كل شيء إلا من غريزته الجنسية، بل جعلها هي محور حياته ودوافع سلوكه)
-(الرجل في قصص الأستاذ إحسان عبد القدوس وحش كاسر يفترس النساء والفتيات والصغيرات والأرامل والمطلقات والحوامل والعذارى)
الرجل في قصص الأستاذ إحسان لا يقدس الحياة الزوجية، ولا يحترمها، فالخيانة تجري في عروقه مجرى الدم، ولا يوجد رجل في قصص الأستاذ إحسان إلا وله وكر يمارس فيه شهواته ونزواته) .
المرأة في قصصه:
(26/9)
(المرأة في نظر الأستاذ إحسان عبد القدوس عبدة لغريزتها الجنسية التي تسيرها وفق ما تشاء لا كابح يكبحها ولا ضابط يضبطها تسلم نفسها لكل الرجال وتجمع بين أكثر من رجل في آن واحد، عرى جسدها وجعله حقاً مباحاً لكل الرجال، لا قيمة البتة -في نظره– لعذريتها وشرفها، لقد جردها من زوجيتها وأمومتها وبنوتها وأخوتها كما جردها من شرفها وملابسها، دعاها إلى الحرية الوجودية المطلقة، وجعلها تتحرر من كل القيم والتعاليم الإسلامية بل سد أمامها كل أبواب الفضائل، وفتح لها كل أبواب الخطايا والرذائل، وجعل المجتمع مسؤولاً عن خطاياها، دعاها إلى التمرد على كل القيم والفضائل باسم الحرية والمساواة ومتعة الحياة ولذتها.
حلل المحرمات: الخمر والمخدرات والسفور والتبرج والاختلاط ومراقصة المرأة للرجل وتعريها أمامه وحلل القبلات والخلوات "خلوة المرأة بالرجل" ودعا إلى زواج المتعة وهاجم وعارض بشدة تعاليم الإسلام التي تدعو المرأة إلى الفضيلة والاحتشام وهاجم المجتمعات التي تلتزم بحجاب المرأة وتمنع الاختلاط.
والنساء كلهن في نظره سواء لا فرق بين متدينة متحجبة وبين سافرة متبرجة، أستاذة جامعية وخادمة، وامرأة مومس ساقطة، راقصة أو معلمة، فتاة عذراء أو زوجة، أرملة أو مطلقة، أماً أو ابنة، بل نجده أساء كثيراً إلى الأرامل والمطلقات واتهمهن أنهم أكثر النساء يرتكبن الفواحش.
فالنساء عنده جميعاً يسيطر عليهن "حيوان الجنس" بل المتحجبات المتدينات –في قصصه- أكثر نهماً ويسلمن أنفسهن لأي كان لأنهن –كما يدعي- يعانين من الكبت والحرمان).
نظرته إلى المجتمعات المحافظة:
(26/10)
يقول : "هناك مجتمعات عربية لا تزال تحرم الاختلاط بين الجنسين، فلا يستطيع الزوج –مثلاً- أن يصحب زوجته إلى زيارة عائلة صديق، ولا يستطيع أن يظهر بها أمام الناس في منتدى أو ملهى عام، أو يراقصها إذا كان من هواة الرقص، .. هذا الزوج وهذه الزوجة ينتظران في كبت، وضيق، وزهق إلى أن يسافرا إلى بلد آخر، حتى لو كان بلداً عربياً، وينطلقان.. الزوج يقدم زوجته إلى أصدقائه سواء كانوا من بلده، أو من البلد الآخر، ويطوف بها النوادي والملاهي ويراقصها ويعيشان كل حياة المجتمع الذي سافرا إليه إلى أن يعود إلى بلدهما.. وهناك يعودان إلى كل ما يفرضه المجتمع المحلي عليهما.. لا يصبح لأصدقائه من نفس بلده والذين كانوا في الخارج معه الحق في أن يروا زوجته، ولا هو يرى زوجاتهم.. ولا يصبح من حقه أن يخرج معها في الشوارع كما كان يخرج معها في شوارع القاهرة، أو يراقصها كما كان يراقصها في فندق سميراميس.."
-وفي قصة (خلف العباءة) يتحدث إحسان عن الفتيات في المجتمعات الملتزمة بالحجاب، التي لا يسودها الاختلاط، فيصور بيوتهن بالسجون ويصف حياتهن بالملل والضجر؛ لأنهن يخرجن سافرات، ولا يختلطن بالرجال؛ لذا فإنهن يتحايلن للوصل إلى الخطيئة .
دعوته إلى الزنا، وسخريته من عقد الزواج:
-في قصة (أنا حرة) يُبطل إحسان الزواج، ويشرع العلاقة غير الشرعية (الزنا)، بل يجعل المجتمع يقرها ويعترف بها، حيث تعاشر (أمينة) (عباس) بلا زواج ثمان سنوات !
-أما في قصة (أيام في الحلال) فعدلية ترفض أن تعيش مع مجدي بالحلال! وتطلب الطلاق لتعيش معه بالحرام كما كانت ! لأنها لا تريد أن تكون زوجة ثانية، بل تكون عشيقة !
-وفي قصة (خواطر فتاة متحررة) يسفه إحسان على لسان بطلة القصة الزواج الشرعي ويتهمه بأنه مجرد (بنت تتوظف عند رجل .. تشرف له على بيته ... الخ)
(26/11)
-تقول الأستاذة سهيلة: (إن دعوة الأستاذ إحسان المرأة للتمرد على الزواج واعتباره عبودية، مهّد لها الاستهانة بالشرف والفضيلة)
-وتقول (ما دام الأستاذ إحسان قد دعا إلى إبطال الزواج والإباحية الجنسية باسم التحرر والمدنية والتطور، فالأسرة في قصصه لا وجود لها)
نظرته للدين:
-(معظم أبطال وبطلات قصصه لا قيمة للدين لديهم، ولا يوجد شيء يشدهم إليه).
-(وبعد، فهذه نتائج بحث ودراسة أكثر من خمسين قصة للأستاذ إحسان عبد القدوس، وهي بلا شك تعكس مدى تأثر الأستاذ إحسان بالفكر الغربي وسيطرته عليه، حتى أضحى يردد نظريات وفلسفات تبتعد كل البعد عن الإسلام).
(26/12)
::::: المجموعة الخامسة :::::
نظرة شرعية في فكر (عبد الرحمن الشرقاوي)
قال الأستاذ محمد خير رمضان يوسف في كتابه (تتمة الأعلام للزركلي) (1/277-279) معرفاً بالشرقاوي: "شاعر، روائي، كاتب مسرحي، مفكر.
ولد في قرية الدلاتون في دلتا مصر عام 1339هـ وأتم دراسته للحقوق في جامعة فؤاد الأول. وتولى بعد قيام ثورة يوليو عدداً من المناصب والمراكز القيادية في مجالات الثقافة والنشر.
وتعتبر روايته "الأرض" التي صدرت عام 1374هـ من أشهر الروايات العربية التي صورت شقاء الفلاح المصري وحبه للأرض وقد ترجمت إلى لغات كثيرة.
وهو كشاعر وكاتب مسرحي عالج في قصائده ومسرحياته الشعرية قضايا سياسية واجتماعية معاصرة، ولو أن بعضها اتخذ الشكل التاريخي، وكذلك مسرحياته المستمدة من التراث الإسلامي.
وهو وإن كان تخصصه في القانون فإنه كان عاشقاً للأدب، ويبدو أنه لقي مقاومة من أسرته لاتجاهه هذا الاتجاه (1) .
قلت: أذكر أن رواياته والسير التي كان يكتبها عن الأئمة كانت تثير ضجة وعدم رضى بين علماء المسلمين، لانحيازه إلى الأفكار اليسارية (الاشتراكية).
ويقول رجاء النقاش في حديث عنه: "الشرقاوي كان صاحب فكر يساري، يدعو إلى التغيير ويؤمن به. وكان في الوقت نفسه من أصحاب الأسلوب الواقعي في معالجة المشكلات الدقيقة، ولذلك قرر أن يخوض محاولة، أو مغامرة كبرى للتوفيق بين الفكر اليساري والسلطة ...
كان من أعلام المدرسة الأولى في تاريخنا الثقافي والفكري، وهي المدرسة التي تعمل وتحرص على "التفاهم مع السلطة" وخلق الجذور معها، حتى لا يتعرض فكره للقمع المستمر الذي يؤدي به في النهاية إلى عدم القدرة على الإنتاج والإنجاز.
__________
(1) ... عالم الكتب مج 9 ع 2 (شوال 1408هـ)
على أنه لم يستطع أن ينجو بنفسه من كل العواصف، رغم جهوده الكبيرة التي بذلها للتوفيق بين الفكر اليساري والسلطة.
(27/1)
فهو لم يصطدم فقط بمشكلة "السلطة" التي حلها بطريقته، وهي التحالف والمهادنة، فقد اصطدم أيضاً بمشكلة أخرى خطيرة، هي مشكلة التوفيق بين الفكر اليساري والتراث العربي والإسلامي، وقد جاءته هذه الفكرة منذ وقت مبكر في أواخر الخمسينات، ولا شك في أنه كان يدرك أهمية هذه الفكرة بعمق موهبته وخصوبة شاعريته التي كانت تمتد بجذورها إلى الشعر العربي القديم، بما فيه من خطابة وقوة موسيقية ظاهرة وقدرة على الوصف والاستطراد..
كان يدرك بهذه المواهب كلها أن الفكر اليساري إذا انعزل عن التراث فسوف يبقى فكراً جافاً غريباً ضعيف التأثير، ولم يكن الشرقاوي يطيق لفنه وفكره أن يكون قطعة باردة معروضة في متحف يتفرج عليها الزائرون والسائحون، كان محباً لحرارة الحياة، عاشقاً لرؤية النتائج الفعلية للكلمة والفكرة واضحة جلية أمام عينيه في حياة الناس، وما كان شيء من ذلك يمكن أن تحقق إلا بالدخول القوي في عالم التراث، وأهم ما في هذا التراث هو التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي، وهنا دخل بأفكاره الجديدة إلى التاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي، وقدم في السنوات الأخيرة من حياته أعمالاً بارزة في هذا المجال بدأت بكتابه "محمد رسول الحرية"، وتوقفت عند آخر أعماله "الصديق أبو بكر". واستطاع بهذه الأعمال ... أن يصل إلى جماهير واسعة جداً من القراء، وأن يدخل بفكره إلى معظم بيوت العرب والمسلمين.
ولكن محاولته "التوفيقية" بين فكره اليساري والتراث الإسلامي جرت عليه الكثير من المعارك العنيفة التي مات وفي نفسه شيء منها ... ولم يستطع أبداً أن يجد لها حلاً نهائياً حاسماً..
لقد ثار عليه الكثيرون .. ولم يتقبلوا منهجه في دراسة الإسلام وتراثه.
(27/2)
وكان من مظاهر هذه المعارك العنيفة أن مسرحيته "الحسين ثائراً وشهيداً"، وهي من جزأين، لم تر النور حتى (الآن) رغم ظهورها منذ حوالي عشرين عاماً، وذلك بسبب اعتراض المحافظين على المسرحية ورفضهم لمنهج الشرقاوي في تصوير التاريخ الإسلامي والتعبير عنه.
وكان من مظاهر هذه المعارك أن كتابه "محمد رسول الحرية" ما زال مصادراً في عدد كبير من بلدان العالمين العربي والإسلامي.
وكان من مظهر هذه المعركة العنيفة، ما دب بينه وبين الشيخ عبد الحليم محمود في السبعينات من خلاف بالغ العنف والحدة.. وكان من ذلك أيضاً ما دب بينه وبين الشيخ محمد الغزالي من خلاف صاخب عندما كان الشرقاوي يكتب دراسته الواسعة عن "علي إمام المتقين".
وهكذا فقد أراد الشرقاوي أن يحقق منهجه في "التوفيق" بين أفكاره اليسارية وبين التراث الإسلامي فخاض معركة بالغة الشراسة، ولم يخرج منها بغير جراح تركت آثارها واضحة على نفسه وقلمه" (1) .
وفي آخر حوار معه في مجلة "المصور"، أجراه معه المحاور مصطفى عبد الغني، وضمنه كتابه "الشرقاوي متمرداً"، وبعد أن قرأه الشرقاوي مكتوباً، قال له إنه يفضل نشر الحديث بعد وفاته. والذي فهمته من الحوار أنه كانت له ميول شيوعية، وأفكار اشتراكية، مجسدة في المنهج اليساري. ولكنه كان ينفي انتماءه لأي حزب. ومع ذلك عندما سئل: أين تضع نفسك في خارطة التصنيفات المألوفة: يمين، يسار، تقدمي، ماركسي، وسط ... إلى غير ذلك؟
قال: أنا ضد مثل هذه التصنيفات، وأنا موقفي يتحدد في انحيازي للحق والحرية والشعب، ويتحدد أكثر بالانحياز الواضح والصريح إلى هذا المعسكر الأخير.. الشعب.
وإذا أردت التوقف عند التفكير الذي يتخذ سمة دينية فإنني أقول: إن الفكر الحقيقي يجب أن يكون دائماً لتحقيق الهدف الأسمى، وهذا الهدف الأسمى لا يخرج بأية حال عن تكوين (مجتمع فاضل) (2) .
__________
(1) ... المصور ع 3293 – 28/3/1408هـ ص 37 – 38.
(27/3)
(2) ... المصدر السابق، العدد نفسه، ص 60.
وفي الاحتفال بالذكرى الخامسة لرحيله تقرر إنشاء مدرسة وبيت ثقافة باسمة في قريته، وتنظيم مسابقة في القصة والرواية والشعر والمقال باسمه، كما أطلق اسمه على أحد الشوارع الهامة بمدينة شبين الكوم تخليداً لذكره (1) .
ومن أعماله المتنوعة:
-ابن تيمية: الفقيه المعذب- القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1408هـ، 257ص. (مؤلفات عبد الرحمن الشرقاوي؛ 12).
-الأرض. القاهرة: مكتبة غريب، 1404هـ 429ص.
-أئمة الفقه التسعة. ط3. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1407هـ، 2مج. (مؤلفات عبد الرحمن الشرقاوي؛ 14،15)
-الدراسات التاريخية؛ 4):
مج 1: الإمام زيد بن علي زين العابدين، الإمام جعفر الصادق، أبو حنيفة النعمان، مالك بن أنس، الليث بن سعد، الإمام الشافعي.
مج 2: الإمام أحمد بن حنبل.
مج 3: الإمام ابن حزم.
مج 4: العز بن عبد السلام.
-الحسين ثائراً: مسرحية في 13 منظراً. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
-الحسين شهيداً: مسرحية شعرية في 6 مناظر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
-خامس الخلفاء: عمر بن عبد العزيز القاهرة: مكتبة غريب.
-الشوارع الخلفية. القاهرة: دار الشعب.
-الصديق: أول الخلفاء. القاهرة: مكتبة غريب.
-صلاح الدين: النسر الأحمر. القاهرة: دار المعارف.
-عرابي: زعيم الفلاحين: مسرحية شعرية. القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1406هـ، 231ص.
-الفاروق عمر بن الخطاب. القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1407هـ، 302ص.
-الفتى مهران: مسرحية شعرية. القاهرة: الدار القومية، 1385هـ
-الفلاح . القاهرة: عالم الكتب .
__________
(27/4)
(1) ... الأهرام ع 38713 (8/6/1413هـ). وانظر مقال: "عبد الرحمن الشرقاوي يزور السيرة والتاريخ"/ أنور الجندي. المجتمع ع 873 (21/11/1408هـ) ص 36-37.وله ترجمة وقائمة بأعماله في : ببليوجرافيا الرواية في إقليم غرب ووسط الدلتا ص 231، وجيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام ص 203.
-قلوب خالية. القاهرة: الدار القومية.
-مأساة جميلة.
-محمد رسول الحرية. القاهرة دار الشعب. ط8 . القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
-وطني عكا". انتهى كلام الأستاذ محمد خير –وفقه الله-. (بتصرف يسير).
قلت: لقد تنبه العلماء لخطورة مسلك الشرقاوي في رواياته وكتبه، ومحاولته إسقاط فكره اليساري على الأحداث الإسلامية، فحذروا منها.
ومن ذلك: ما ذكره الأستاذ أنور الجندي في كتابه (جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام)(ص 223-252).، حيث قال متحدثاً عن الهجمة على الإسلام: "ولكن الذي يلفت النظر أن تتوالى الأحداث هكذا في مهاجمة الإسلام؛ فيكتب لويس عوض في (المصور) عن مصر العلمانية وعن مصر الفرعونية فيخوض أوحالاً شديد السواد والقتامة ولا يستطيع أن يصل إلى شيء، ثم نجد تلك الصفحات التي وسمت باسم (الإمام علي) في جريدة الأهرام والتي كتبها عبد الرحمن الشرقاوي وكيف جدد خصومته القديمة للإسلام تحت أسلوب براق من الانتماء للإسلام، وغفل عن أن تاريخه لا يزال معروفاً ومذكوراً، وأن كتابه (محمد رسول الحرية) وتقرير الإمام أبو زهره ما يزال بين أيدي الناس، والأمانة التاريخية والمسئولية التاريخية فإن تقرير الأمام أبو زهره أول من حصل عليه الأستاذ محمد نعيم ونشرته الاعتصام 1975.
(27/5)
فإذا تجاوزه قليلاً فرواية (الحسين شهيداً) قد دُمغت أيضاً من جماعة من العلماء، من بينهم الدكتور الطيب النجار بالظلم الشديد للمجتمع الإسلامي، على الذي افترى به طه حسين، على العصر الثاني للهجرة في كتابه (حديث الأربعاء) حين وصفه بأنه عصر شك ومجون وفيه جماعة التابعين والأعلام مثال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل والحسن البصري، وهو ما ذهب إليه عبد الرحمن الشرقاوي في رواية (الحسين شهيداً) الذي كشف عن أن كاتب الرواية كان حريصاً على تصوير المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بنصف قرن فقط في صورة بشعة، وكأن هذا المجتمع قد تدالى وتهاوى وصار مجتمع عربدة وفجور، ومجتمع شقاق ونفاق، ومجتمع جبن وضعف، ومجتمع خيانة ونكث للعهود! مع أن المجتمع كان لا يزال حافلاً بعدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان، وقد وسم علماء الأزهر المسرحية بأنها تشهر بجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم قدوة لنا، وقد ترددت في المسرحية عبارات الاتهام بالكفر والخروج عن الإسلام وعبارات اللعن والتعريض والتشنيع بالحرمان، كما صورت المسرحية العصر الأموي تصويراً يجافي الحقيقة في بعض النواحي فوصفته بأنه عهد الإقطاع والأطماع وجردت الأمويين من كل خير وقدمت القصة شخصيات لم يعيشوا في مرحلتها التاريخية أمثال وحشي بن حرب الذي مات سنة 25 هجرية في خلافة عثمان رضي الله عنه، وهناك نوع من القسوة في الحكم على معاوية مع أنه صحابي ومن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكرت المسرحية أنه عطل أصلاً من القرآن وزيف قاعدة الشورى وأهدر أحكام السنة، وتردد في المسرحية أكثر من مرة التعريض بنظام الجواري حيث تناولت لأشخاص عبارات الاتهام باللهو والتمتع بالجواري على سبيل التعرض والتهكم كما تناثرت في المسرحية عبارات مأخوذة من جو غير إسلامي كقوله (ما جئت لألقي سلاحاً، لأملأ كل بيت
(27/6)
بالمحبة، جئت لألقي موعظة الخ.
كتابات الشرقاوي:
فإذا أضفنا هذا التقرير إلى تقرير الشيخ أبو زهره حول كتاب (محمد رسول الحرية) أمكن أن تتكون لنا صورة ذات هدف واضح من كتابات عبد الرحمن الشرقاوي الذي قدم صلاح الدين الأيوبي في قصة (النسر الأحمر) في قالب غير كريم ومجاف لحقائق التاريخ، فهو يجعل منها دعوة مباشرة وصريحة للاستسلام والصلح مع الغرب وطلب السلام الخادع الكاذب، وما كان هكذا صلاح الدين يوماً في حياته ولكنها محاولة لاستغلال النصوص التاريخية لأهواء العصر، ولقد عاش صلاح الدين حتى آخر يوم من حياته مجاهداً مؤمناً يرفع راية الجهاد في سبيل الله، وهكذا تترابط أعمال عبد الرحمن الشرقاوي على طريق واحد وهدف واحد وهو يتابع مخطط طه حسين حول بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كتابه (محمد رسول الحرية) حلقة رابعة لكتاب (على هامش السيرة) كذلك فقد كان كتابه عن (علي) هو الحلقة الثالثة من كتاب (الفتنة الكبرى) إنها نفس الأفكار والطريقة والغاية التي رسمها الاستشراق لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمفاهيمه الباطنية والوثنية اعتماداً على مصدر غير مصادر أهل السنة والجماعة، والتوسع في الأساطير والخيال القصصي والاعتماد على كتاب الأغاني ومتابعة خصوم الشيخين أبي بكر وعمر، كل هذا لا يقدم عملاً تاريخياً أو أدبياً له قيمة ذاتية.
(27/7)
إن درجة الوعي الإسلامي اليوم في فهم تيارات التغريب في تحريف التاريخ الإسلامي وتفريغه من طوابعه الحقيقية بوصفه مصدراً من مصادر اليقظة الإسلامية قد أصبحت عالية، ودليل ذلك ما كتب في الرد على لويس عوض وما وصل الصحف من ردود على توفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي، نعتقد أن هذه الأقلام لا تستطيع أن تكسب ثقة قارئ واحد من الذين عرفوا خلفيات هذه التيارات، وليعلم هؤلاء جميعاً أن خطط التخريب والغزو الثقافي قد كشفت تماماً مهما حاولوا تغيير جلودهم ومهما خلطوا أوراقهم، أما الصحف فإن مسئوليتها التاريخية كبيرة وفي إخفاء كلمة الحق في الرد على الباطل خيانة للأمة، وما كانت هكذا تدار المساجلات الفكرية في الماضي حيث يسمح لكل صاحب رأي أن يدلي بأية حتى تتبلور النتائج وينكشف الرأي الصحيح للجماهير التي تحترم صحفها وتثق بها، أما أن تحجب الآراء كلها ويتبنى الرأي الواحد المصر على جهة نظره فها ما لا يتفق مع أدنى أصول الحوار الصحفي.
إنها محاولة لتحطيم الصحوة والقضاء على الأصالة ولطرح مزيد من الشبهات والشكوك والسموم على الطريق الذي عبده المصلحون .. ليسلك عليه المسلمون إلى إقامة المجتمع الإسلامي الذي رسمه القرآن الكريم .
كتاب (محمد رسول الحرية)
إن المناقشة التي قام بها الشيخ أبو زهرة ركزت على السموم الناقعة في الكتاب، قال:
"لم يسلم الكاتب من الخطأ، أو بالأحرى كان له اتجاه غير إسلامي من البداية، فهو ما درس محمداً صلى الله عليه وسلم على أنه رسول يوحى إليه، بل على أنه رجل عظيم له آراء اجتماعية فسرها الكاتب على هوى ما يريد، مدعياً أنه قصاص أديب يصوغ التاريخ في قالب قصصي فني.
(27/8)
وقد تكون هذه الكتابة مفيدة لقوم يصغرون من شأن محمد صلى الله عليه وسلم، ويهونون من أمره فتزيل عنه ما يتوهمون، وتبين أن له شأناً ومقاماً في تفكيره ومنحاه، وإذا لم تكن الكتابة صادقة من كل الوجوه فهي في ذاتها تصوير حسن في الجملة لغير المسلمين، وفي هذا الحال فقط، لكن يفسدها طمس الحقائق الكبرى أو تجاهلها.
مقام النبي الرسول صلى الله عليه وسلم:
أما نشر هذه الكتابة بين المسلمين الذين يعرفون مقام النبي صلى الله عليه سلم، عند الله، ومقام الرسالة الإلهية التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي مصدر علمه، فإنه لا فائدة فيها من جهة، وهي توهين للعقيدة الإسلامية من جهة ثانية، ثم هي غير صادقة من جهة ثالثة.
وإذا برر نشرها بين غير المسلمين لتقريب نفوسهم من مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، فنشرها بين المؤمنين باعث على الفتنة ومنفر للقلوب ومضعف للإيمان.
وإن أول ما يلمحه القارئ من الكتاب بعد استيعابه جملة وتفصيلاً:
أن الكاتب يقطع النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحي، فكل ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم: من مبادئ وجهاد في سبيل الله إنما هي عنده، لا بوحي من الله تعالى، وهي فيه بمقتضى بشريته لا بمقتضى رسالته.
ولعل العنوان الذي اختاره للكتاب –مع إردافه بعنوان آخر صغير- أراد أن يشير به إلى بشرية النبي صلى الله عليه وسلم مبتوته عن الوحي، وهذا العنوان: قوله تعالى معلماً نبيه صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر مثلكم" فقد اختار هذه الجملة القرآنية ليعلن أن ما وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من مبادئ جاهد لأجلها، إنما هو صادر من بشرية كاملة لا عن نبوة.
(27/9)
ولكي يتم له الاستشهاد، اقتطع الجملة اقتطاعاً عما قبلها وما بعدها، فإن هذه الجملة وردت في نصين من نصوص القرآن الكريم أولهما: في آخر سورة الكهف وهو قول الله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً).
وثانيهما: في سورة فصلت وهو قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين).
ونرى النص الذي اختاره شعاراً لكتابة مقطوعاً عما قبله وما بعده، فما قبله هو قوله تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "قل" وهو يصرح بخطاب الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، وما بعده هو قوله تعالى "يوحى إليّ"، قد أبعده ولم يأت به لأنه لا يتفق مع غرضه الذي يهدف إليه لأنه يريد نفي الوحي عن الحياة المحمدية.
وإن القارئ ليسير قليلاً في الكتاب، حتى يجد الكاتب ينفي الخطاب السماوي للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يذكر أن جبريل خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في العيان، فهو يقول في أول نزول الوحي بالقرآن ما نصه.
ولكن في تلك الليلة من رمضان، أغفى قليلاً ثم نام، فرأى من يعرض عليه كتاباً ويطلب منه أن يقرأ، فقال ما أنا بقارئ، ولكنه ألح عليه أن يقرأ، فسأله ماذا أقرأ فقال له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم): وعندما استيقظ من نومه يحفظ ما سمعه من النوم ويستوضح حلمه فيما بينه وبين نفسه، فإذا به وهو بين اليقظة والنوم كأنه يسمع صوتاً بعيداً يقول له: أنت رسول الله وأنا جبريل؟ (من68،69).
وإن تصوير الوحي في هذا المقام بالحلم في النوم، يخالف ما أجمع عليه المسلمون من أن جبريل عليه السلام كان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالعيان لا في المنام.
(27/10)
نعم قبل ذلك الخطاب بقوله –اقرأ- ونزول سورة القلم، كان إرهاص الوحي يجئ إليه فيما يجئ في رؤيا مناميه حتى إنه كان يرى الرؤيا تجئ في الصحو مثل فلق الصبح، كما صرح البخاري، ولكن لم تكن تعتبر خطاباً من السماء، حتى نزول الوحي ومخاطبة جبريل الأمين الذي تردد ذكره في القرآن على أنه رسول الله إلى الذين يصطفيهم من الأنبياء لتبليغ الرسالة الإلهية لأهل الأرض.
وإنه إذ يقطع الرسالة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقطع الوحي عنه، ويتجه إلى القرآن فيذكر عباراته أحياناً منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على أنها من تفكيره، ومن قوله، لا أنها قرآن موحى به وقائله هو الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك لمبثوث في الكتاب بكثرة ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة.
(1)إنذار عشيرته الأقربين:
ذكر في صفحة 80 ما نصه (رأى محمد أن يجمع أسرته من بني عبد الملطب إلى الإيمان بما جاء به فليس أحب إليه من عشيرته الأقربين) وتراه يذكر ذلك على أنه رأي إرتآه ويغفل الأمر القرآني الثابت وهو قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)، فتراه في هذا الكلام الذي قاله ينسب كل ما يكون بوحي قرآني إلى أنه رأي رآه النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)تبت يدا أبي لهب:
وفي هذا المقام اعترض أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكر الكاتب في ذلك ما نصه: "فاسمع يا أبا لهب اسمع إذن، سمعت الرعد، تباً لك أنت، تبا لك سائر يومك وسائر حياتك (تبت يدا أبي لهب وتب) (ص 83) فتراه في هذا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد).
(27/11)
وبهذا نرى أنه ينسب هذه السورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا إلى الله سبحانه وتعالى. ومثل ذلك جاء في (ص 87) من الكتاب، ففيها ما نصه: تباً لها (أي لامرأة أبي لهب) كما تبت يدا أبي لهب وتبت يدا أبي لهب وتب وامرأته حمالة الحطب.
(3)القتال في الشهر الحرام:
يذكر استنكار المشركين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قاتل في الأشهر الحرم فيقول في صفحة 183 (إنها لكبيرة أن يقتل عبد الله (أي ابن جحش) أحداً في الشهر الحرام، ولكن الفتنة أكبر من القتل وصد الناس عن البيت العتيق وإخراج أهله منه أكبر).
يذكر هذا الكلام منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من عنده، مع أنه في القرآن الكريم والله تعالى يقول: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل).
(4)أسرى بدر:
استشار النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر أصحابه في شأن الأسرى، فأشار عمر بقتلهم وأشار أبو بكر بالعفو، وتوسط النبي صلى الله عليه وسلم فاختار أن يفتدوا من أهلهم، وقد بين الله سبحانه لنبيه الحكم في أخذه أسرى، والمعركة دائمة مستمرة، لأنه لا أسرى إلا بعد أن يعجز العدو عن القتال، وقد نزل في ذلك قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم فيه عذاب عظيم).
(27/12)
هناك في القضية عمل من النبي صلى الله عليه وسلم ولوم وتوجيه من الله، لكن الكاتب يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد تأمل وتدبر قرر خطأ الفداء، وهذا نص كلامه فقد أطلق كثيراً من الأسرى ولم يعد –أي لم يبق- غير القليل، فانقطع يفكر وخرج على أصحابه يقول: إنه أخطأ هو وأبو بكر حين لم يسمعا لنصيحة عمر، فما كان له أن يترك لقريش أسراها لتستعين بهم على حربه مرة أخرى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). (ص 203/204).
وبهذا يتبين أنه يرى أن هذا ليس وحياً، ولكنه من تأملات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن من عند محمد لا من عند الله.
(5)إبطال التبني من النبي صلى الله عليه وسلم:
ينسب إبطال التبني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينسبه إلى الله، مع أن التبني حرم بأمر الله، فقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ادعوهم لآبائهم هو أقسط عن الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم، وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً).
ويقول سبحانه في نفس السورة: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) لكن المؤلف يذكر قصة زيد بن حارثة مع زوجه زينب بنت جحش، وشكواه منها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: أمسك عليك زوجك، ويبين أن الزوجين أصبحا لا يطيقان الاستمرار، ويذكر إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم طمع في جمالها، وما كان للنبي أن يتزوج زوجة متبناة لأنه ابنه، ثم يقول:
ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم خرج يقول أن المتبني ليس كالابن تماماً فالولد شيء آخر، وأنه إنما تزوج زينب لكي يدركوا هذا، وكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم، فلا حاجة له بجمال زينب، ولديه عائشة وحفصة (ص 216).
(27/13)
فهو في هذا يدعي أن التحريم للتبني من محمد صلى الله عليه وسلم ويدعي أن محمداً تزوج زينب من تلقاء نفسه، مع أنه فعل ذلك بأمر من الله تعالى في قوله من سورة الأحزاب (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً).
فتراه ينسب التحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينسب الزواج لرأى إرتآه الرسول عليه الصلاة والسلام مع أنه ثابت بالقرآن، ولكنه ينسب ما جاء بالقرآن دائماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنا لنحمد له أنه لم يسر وراء المستشرقين في إدعائهم أخذاً بما جاء في رواية ضعيفة عن بعض التابعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم فتن بجمال زينب وكان الطلاق لذلك فله منا التقدير لهذا.
-ذكر –بعد أن قص أخبار موقعة أحد- العبر فيها على أنها من قول محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنها من قول الله تعالى، فهو يقول: (وأقبل محمد صلى الله عليه وسلم- على الناس يحدثهم عن محنة أحد ويستخلص العبرة من أخطائهم عسى أن تضيئ التجربة القاسية طريق المستقبل).
(27/14)
وإن العبرة في أحد كانت بقول الله تعالى في آيات كثيرة من سورة آل عمران في مثل قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون) ولكنه دائماً ينسب ما جاء في القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنه يرى القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر في الصحيح من السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم بين العبر في أحد بغير تلاوة القرآن عليهم.
كذلك يذكر الكاتب أن تقسيم أموال بني النضير كان بقول النبي صلى الله عليه وسلم ويقول في ذلك، قال لهم (..إن إخوانكم المهاجرين ليس لهم مال فإن شئتم قسمت أموال بني النضير وأموالكم بينكم جميعاً وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة).
والحق أنه لا يوجد ذلك التخيير وأن النص القرآني في ذلك صريح يبين هذا، فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة الحشر (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
ولكنه كمنهاجه ينسب ما جاء في القرآن دائماً إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم! وزاد هنا حالة التخيير التي لا نعلم لها مصدراً تاريخياً (200).
(27/15)
وهكذا نجده يذكر كثيراً من معاني القرآن، وينسبها للنبي صلى الله عليه وسلم فهو يذكر سورة (الكافرون) (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ... ، على أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم (ص108).
وينسب تحريم الخمر على أنه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى تدرج التحريم في القرآن الكريم، ويترك الآيات المختلفة الدالة على ذلك.
ويذكر قصص القرآن على أنها نتيجة تجارب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول في ذلك.. (وقسم محمد لياليه بين زوجاته الثلاث: سودة وعائشة وحفصة، ولكنه مع ذلك كان يجمعهن عند صاحبة النوبة في الصباح ليعظهن وفي المساء ليسمر معهن، ويقص عليهن ما رآه في رحلاته، وكثيراً من الحكايات والأمثال).
وما كان قصص النبي صلى الله عليه وسلم إلا من القرآن، وما كانت له رحلات في بلاد العرب، بل إنه لم يخرج من الحجاز إلا مرتين إحداهما وهو في الثانية عشرة والثانية وهو في الخامسة والعشرين؛ الأولى مع عمه والثانية في تجارة بمال خديجة رضي الله عنها.
أخطر ما يقدم الكتاب: التشكيك في (القرآن):
هذه أمثلة سقناها وإنها لكثيرة في الكتاب، وهي تدل على أنه يرى –أي الكاتب- أن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة إنه لم يذكر قط أن الله سبحانه وتعالى منزل القرآن وباعث محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، بل إن ذكر الله تعالى يندر في الكتاب بل لا نجد له ذكراً قط (نسوا الله فأنساهم أنفسهم).
ولم يذكر القرآن إلا نادراً، بل إنك تقرأ الصفحات الكثيرة التي تبلغ مائتين أو أكثر فلا تجد ذكراً لكلمة القرآن الكريم، بل لكلمة القرآن قط، وإذا ذكر آية ذكر أنها همهمة نفس النبي صلى الله عليه وسلم، ولنضرب لذلك مثلاً:
(27/16)
لقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن لبعض الناس بالعودة من حيث خرجوا، وكان ذلك في بعض الغزوات، ثم يقول: فأذن لمن يريد أن يعود إلى بيته أن يعود، فهذا خير من أن يبقى في الصفوف ليشيع الانهزام، ويثبت في الصفوف من يجد في نفسه القدرة على مواجهة الخطر، والرغبة الصادقة في الاستشهاد دفاعاً عما يؤمن به، وهمهم لنفسه وهو يتقدم الصفوف: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ولكنه عاد فرأى الخير في تخليص صفوفه من العناصر الخائرة ثم أخذ يتلو عليهم: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً ... قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً) (ص 288).
وأكبر علامات التشكيك في آيات الله، أنه يذكر الهمهمة ثم يقرنها بآية على أنها من همهمته ثم يتلو آية أخرى غير ناسبها إلى الله تعالى ولا لأحد فهي بمنطقة من همهمة النبي أيضاً.
ثم يشير إلى نوع من التشكيك لأن الآيتين يبدو بينهما تعارض مع أن الآيتين مختلفتان من حيث موضع قولهما، فآية سورة التوبة (عفا الله عنك لم أذنت لهم) كانت في غزوة تبوك.
وقوله تعالى من سورة الأحزاب (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب) كانت في غزوة الأحزاب وهو لا يذكر كلمة القرآن على أنه منسوب لله في مقام يومئ بالتشكيك في صدقه.
(27/17)
واقرأ قوله في ص 354 (بالنسبة للمرتدين الذين قتلوا بعض المؤمنين غدراً الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، يقتلون ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وكان منهم رجل عهد إليه محمد صلى الله عليه وسلم، بكتابة القرآن، ولكن الرجل كان يغير في القرآن على هواه، يمليه محمد صلى الله عليه وسلم، (وهو السميع العليم) فيكتب وهو (الخبير الحكيم) ثم يذهب إلى المنافقين في المدينة، ويتندر بما يصنع، ظل يصنع هذا، حتى اكتشف محمد أمره فهرب إلى مكة، ويظل يهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن ويؤكد للناس أنه حرف كثيراً من آياته ولم يكشفها محمد صلى الله عليه وسلم بعد).
واقرأ قوله في صفحة 356 (أما الرجل الذي حرف في القرآن الكريم فيعلن توبته ويحرق النسخة المحرفة أمام الجميع)، وإن هذا البيان التاريخي يوهم بل يشير أن القرآن فيه تحريف وتبديل، بدليل أن أحد كتاب الوحي قال ذلك.
تلفيق الأخبار:
والخبر على هذا الوجه غير صحيح، ذلك أن الرجل كان يكتب الوحي أحياناً وليس دائماً، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب واحد، بل كان يكتب الوحي من يكون بحضرته عند نزوله ممن يحسنون الكتابة، وعندما يملي عليه النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه، يقرأه ويحفظه من يكون بحضرته من الصحابة فما كان الرجل ملازماً له، وما كان الاعتماد على ما يكتب بل على ما يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم وحفاظ الصحابة.
وما تكونت في عصر النبي صلى الله عليه سلم نسخة مجموعة جمعاً نهائياً، ولكن كان محفوظاً في صدور كثيرين من الصحابة كأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وعلي بن أبي طالب وغيرهم كثير رضي الله عنهم، فلا يقال: إن هناك نسخة كانت محرفة وحرقت، وما جاء ذلك في سياق تاريخي قط وما قاله أحد قط من علماء الإسلام.
(27/18)
وأخيراً فإن الردة التي وقع فيها ذلك الرجل، ما كانت نتيجة طرد النبي صلى الله عليه وسلم له، بل إنه ارتد من تلقاء نفسه ثم أخذ يشيع هذه الأكاذيب، فما كانت حقيقة ولكنها إدعاء منه هو كاذب فيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم، يحفظ ما ينزل عليه، وغيره يحفظ، وما كان من المعقول أن يستمر ذلك التحريف دقيقة واحدة وإنه عند جمع القرآن في مصحف، أي تكوين نسخة كاملة منه، في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وكان يُبحث عن المكتوب غير المجموع، إذ كانت الكتابة في قطع متناثرة عند الصحابة وفي بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فيبين أن المكتوب كما حفظوا، فيثبتونه في المصحف .
توهين لتواتر القرآن:
إن في السياق الذي ذكره الكاتب توهينا لتواتر القرآن، لا يصح أن ينشر بين المؤمنين فضلاً عن أنه في أصله كاذب في ذاته.
ثم إنه ليوهن من شأن النصوص سواء أكانت قرآناً أم أحاديث، عندما يقرر أن الحكم في الإسلام بالقرآن والسنة أو الرأي على أنها متساوية والمسلم مخير بينها إلا أنها مرتبة.
ويقول في ذلك ص 275 (وفي رأي كل منهم ترسخ نصيحة محمد صلى الله عليه وسلم فاحكم بالقرآن أو السنة أو اجتهد برأيك، والأمر شورى بينكم لا تختلفوا ولا تعلوا في الأرض مفسدين)
موقف الكتاب ومؤلفه من النبي صلى الله عليه وسلم :
هذا موقف الكتاب من القرآن ذكرناه مع ضرب الأمثلة من الكتاب، لا نكتب عنه ما لم يكتب بل إننا نستمد البينات من كتابته.
فلنتجه بعد ذلك إلى موقفه من النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث من عند الله تعالى، فإن الكلام الذي كتبه عنه غير قائم على أسس صادقة، بل على ما ينافي كل الحقائق التاريخية تماماً.
أولاً: إدعاء خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن:
ادعى المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر إلى اليمن مع عمه الزبير بن عبد المطلب فقد جاء في ص 42 ما نصه:
(27/19)
(وها هو ذا محمد يضطر إلى أن يشتغل أخيراً في هذه القوافل، ليعيش مما كان يملك بالدينارين أو الدينار، ويخرج إلى اليمن مع عمه الزبير في رحلة الشتاء).
وهذا القول لم يذكر في الصحاح تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يذكره المستشرقون من غير سند تاريخي، بل بفرض يفرضونه ليتم لهم ما يبتغون من توهين شأن الدعوة الإسلامية، بإدعاء أن محمد صلى الله عليه وسلم كان رحالة وأن ما جاء به نتيجة تجاربه لا بوحي من ربه.
ثانياً: يسترسل في إدعاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان رحالة معنياً بما عند الرومان والفرس.
فهو يقول في ص 62 (لم تكن الجزيرة العربية وحدها هي التي تعنيه، فقد طاف بالشمال والجنوب، وعرف كثيراً مما يحدث في بلاد الفرس والروم، وفكر في هذا كله، ففي كل مكان يهدد الإنسان، ويسيطر الغيظ أحياناً حتى لتمتد يد المرأة الحنون إلى قلب خصمها بعد أن يقتل، فتأكل منه القلب وتلعق الدم.
وما زال الملاك الكبار في بلاد الروم يصنعون بالرجال والنساء ما يصنعه المرابون الكبار في مكة، والرؤساء والدهاقين في بلاد الفرس، وهنا وهناك يقضى على الإنسان ما يقضى باسم قوى الخفاء التي لا تقاوم ولا ترد، وهي قوى لا تشبع من دم الضعفاء وتقتات بالهوان).
ولا يهمنا من هذا الكلام إلا ما فيه من إدعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد جاب البلاد العربية شمالاً وجنوباً، وأنه كان معنياً بمعرفة ما عند الرومان والفرس، مع أن ذلك كله لا يوجد ما يدل عليه في التاريخ الإسلامي والمصادر الصحيحة، بل لا يوجد شيء من هذا في أي مصدر عربي قديم، ولكنه خيال المستشرقين لحاجة في نفوسهم.
(27/20)
ثالثاً: ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم الكتابة من ملاحظته الحروف، وهذا نص قوله في ص 313 (فتناول محمد الصحيفة من علي ومحا ما كتبه علي، وكتب هو ديباجتها، كما أراد مندوب قريش، كانت هذه أول مرة يكتب فيها بعد أن تعود ملاحظة الحروف من طول ما أملى على كتبة القرآن).. وهذا تحريف للروايات، فإن الثابت أن علياً لما امتنع عن حذف كلمة الرسول أو محوها مد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومحاها بنفسه بعد أن استفسر من علي عن موضعها، وأتم علي بقية الكتاب ولم يكتب محمد صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً.
رابعاً: إن هناك نزعة نصرانية نجدها في مواضيع كثيرة، نذكر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم ينادى بياولدي، ولا يذكر من المنادي، فقد جاء في ص 49 ما نصه: (غريب أنت في هذا التيه الذي يتنفس باللعنة والأكذوبة والمنكر، شارد حزين لا تنفك تتأمل في السماوات والأرض ووجوه الرجال والنساء والأطفال.
ما تكاد تضحك مستمتعاً بحياتك الجديدة المطمئنة مع المرأة الجميلة التقية الحكيمة التي اختارتك للحياة).
ولا تدري من الذي يناديه ذلك النداء وقد تكرر ذلك في عدة مواضع فقد جاء في ص 134 ما نصه:
(طريد أنت يا ولدي، مسكين معذب كالمبشرين الأوائل) فمن ينادي هذا النداء، إن الذي يمكننا أن نفسر به ذلك هو أن هذه نزعة نصرانية، كما يجري على ألسنة النصارى (أبانا الذي في السماء) وأنه يصح أن يكون ذلك صوت الله يناديه في زعم الكاتب، ولكن لا أحد في الدنيا يصح أن يكون ولداً لله تعالى: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد).
هذا موقف الكتاب من القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى الخيال الروائي الذي يفتقر إلى الصدق التاريخي في بعض الروايات عن حمزة وغيره، والكتاب في الجملة يسيئ إلى الناس في دينهم".
(27/21)
حاشية: هذا التقرير الذي كتبه الشيخ محمد أبو زهرة عام 1962 وقد حصل عليه منه قبل وفاته الأستاذ محمد نعيم الصحفي الإسلامي وقد احتفظ به حتى أتيحت له فرصة نشره عام 1975م. وهذا الذي قام بتلخيصه على هذا النحو المنشور الآن.
(مسرحية الحسين شهيداً)
الأصابع الحمراء تشوه حقائق المعارك الإسلامية وتشهر بالصحابة الأجلاء (أحمد الشرباصي، محمد الطيب النجار، زكي البنهاوي) نشرت الاعتصام –مايو 1975 عن هذه الدراسة للمسرحية تحت عنوان: (مسرحية الحسين شهيداً).
1- المسرحية تظهر شخصية الحسين وشخصية السيدة زينب رضوان الله عليهما وهما من آل بيت الرسول الأعظم وقد تكررت الفتوى من العلماء المسئولين بمنع إظهار هذه الشخصيات الطاهرة.
2- تردد في المسرحية التشهير بجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم قدوة لنا وقد نوه الرسول بمكانة أصحابه في أكثر من حديث شريف ومن واجبنا أن نبرز مفاخرهم ونركز عليها ونهتم بها وألا نطيل الوقوف أمام ما نسب إليهم من خلاف أو أخطاء.
3- ترددت في المسرحية عبارات الاتهام بالكفر والخروج عن الإسلام وعبارات اللعنة والتعريض الشنيع بالحرمان، وهذا كله بين مجموعة تنتسب إلى الإسلام وجاءت فيها ألفاظ خارجة مثل (أبناء الأمهات الزانيات، يا ابن الفاعلة، يا ابن البرصاء، الدعي ابن الدعي).
4- صورت المسرحية العصر الأموي تصويراً يجافي الحقيقة في بعض النواحي فوصفه بأنه عهد الإقطاع والأطماع وجردت الأمويين من كل خير ونحن لا ننكر أن هذا العصر فيه عيوب ومآخذ ولكن هذا العصر شهد أيضاً فتوحات إسلامية كثيرة وكان فيه جهاد ونضال، فكيف نجرده من كل حسنة ونبالغ في تصوير فساده كل هذه المبالغة ؟!
(27/22)
5- المسرحية تعرض شخصية الصحابي (وحشي بن حرب) عرضاً مخالفاً للسيرة والتاريخ فهي تعرض هذه الشخصية المسلمة التائبة في صورة سكير مخمور، قد شرب (خمر الأرض) مع أنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه الحديث، وقد جاءت أحاديث مروية عنه في صحيح الإمام البخاري.
وتصور المسرحية مقابلته للرسول عند إسلامه تصويراً غير كريم وغير سليم لا تتفق مع التاريخ ولا يناسب المعروف عن مكارم الأخلاق التي تحلى بها سيد الإنسانية ورحمة الله للعالمين: رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فالرسول قد قبل إسلام وحشي وقال له (يا وحشي اخرج فجاهد في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله).
6- والعجب كل العجب أن يوجد "وحشي بن حرب" بين شخصيات هذه المسرحية لأن أحداثها تدور في سنة ستين للهجرة ووحشي بن حرب قد مات سنة خمس وعشرين للهجرة في خلافة عثمان رضي الله عنه!! فوحشي إذن لم يدرك شيئاً من أحداث هذه المسرحية فكيف يضاف إلى أشخاصها ؟!
7- هناك نوع من القسوة في الحكم على معاوية مع أنه صحابي ومن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكرت المسرحية أنه عطل أصلاً من القرآن وزيف قاعدة الشورى وأهدر أحكام السنة إلى غير ذلك من التهم الشديدة.
8- جاء على لسان الحسين رضي الله عنه وأرضاه أنه ذهب حينما اشتدت المحنة إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وقال يخاطب النبي: جدي، أنا لا أعرف ما أصنع فأعني "والحسين خير من يعرف أن العون إنما يلتمس من الله تبارك وتعالى، وجد الحسين هو نفسه القائل: إذا استعنت فاستعن بالله. فضلاً عن أن الواقعة لا نصيب لها من الصحة.
(27/23)
9- ذكرت المسرحية أن (يزيد) قد فرح بمقتل الحسين رضوان الله عليه وهذا يخالف الواقع؛ لأن التاريخ يذكر أن يزيد قد توجس شراً من قتل الحسين وأنه بكى حين رأى رأسه، ولسنا ندري لمصلحة من يظهر يزيد وهو حاكم المسلمين على أقل تقدير في مظهر حقير مثير لو كان أمراً واقعاً لما كان من الحكمة إبرازه.
فقد قدمته المسرحية عقب مقتل الحسين شخصاً يبدو مخموراً والجواري يمتطين ظهره وينخسنه فيسير بهن كالحمار، والتاريخ يذكر فيما يذكر أن يزيد كان متهماً بالانحراف عن الآداب الدينية قبل المبايعة له فلما تولى الحكم انصرف عن هذا الانحراف أو على الأقل لم يجاهر بمثل ما كان يجاهر به من قبل (1) .
10- أن المسرحية مع الأسف كأنها تحرص على تصوير المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بنصف قرن فقط في صورة بشعة وكأن هذا المجتمع قد تداعى وتهاوى، وصار مجتمع عربدة وفجور ومجتمع شقاق ونفاق ومجتمع جبن وضعف، ومجتمع خيانة نكث للعهود، مع أن المجتمع كان لا يزال فيه عدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان.
11- تردد في المسرحية أكثر من مرة التعريض بنظام الجواري حيث تناول الأشخاص عبارات الاتهام والتمتع بالجواري، على سبيل التعريض والتهكم مثل هذه العبارات (ما تجيد سوى مصاحبة الجواري)، (تمتع بجواريك الأبكار الخرد)، (سوق الإماء).
12- تناثرت عبارات مأخوذة من جو غير إسلامي مثل هذه العبارات (ماجئت لألقي سيفاً) (جئت لألقى موعظة) (لأملأ كل بيت بالمحبة، جموع الفقراء) (يا مطفئ نور الحضارة).
__________
(1) ... يحسن بالقارئ الرجوع إلى مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (4/381-488) حيث قال كلمة الفصل في يزيد بن معاوية وأثبت كذب كثير مما يُنقل عنه . (س)
(27/24)
13- اختير لون السواد لطائفة من الممثلين والممثلات وهذا السواد شعار طائفي مذهبي خاص (1) ، فهل من المصلحة إثارة مثل هذه الطائفية، وكذا بدأ من قام بدور الحسين في ثياب تشعر بأنها إيحاء بشخصية غير إسلامية وإن كانت شخصية لها مكانها في نظر المسلم.
وكان هناك في نص المسرحية نواح وندب وتعديد، وقد طال هذا وامتد فما مدى اتفاق ذلك مع تعاليم الدين ؟!
كذلك جاء على لسان الأشخاص من أتباع الحسين رضي الله عنه ما يفيد أن قتال المعارضين للحسين خير من قتال المشركين فهل يحكم على عقائد الناس بمثل هذه السهولة ؟!
مآخذ على كتابات الشرقاوي: (حول الإمام علي)
أولاً: إن مصادر الكتابة عن الإمام علي ومنهج البحث في سيرة الصحابة تختلف عن المصادر ومنهج البحث في التاريخ العام، وهو لم يلتزم بهذا المنهج بل عمد لكتب التاريخ وغير كتب التاريخ فاستقى منها مادته وأخباره، فرجع إلى كتاب (الأغاني) وهو مرجع لمؤرخي الأدب في العصر العباسي يجمع أخبار الشعراء والأدباء والمغنين والمغنيات ومجالس الشراب والطرب، فإذا وجدت فيه معلومة عن صحابي أو تابعي فيجب الوقوف أمامها طويلاً، للبحث عما إذا كانت قد وردت في مصدر تاريخي أصيل مما تتكفل به أصول البحث العلمي، ومصطلح علم الحديث وأصول الرواية في معرفة حال الرواة وصحة المتن وطريق التحمل ولكن الشرقاوي سرى بين المصادر القديمة لقدمها ولم يفرق بينها ومن هنا وقع اللبس.
ومن مصادر الشرقاوي (الطبري) والطبري لا يشك أحد في صدقه ولكنه اعترف في كتابه أن الكتاب لا يخلو من الوقائع المكذوبة والأخبار المنحولة، فلما هوجم الشرقاوي في هذا دافع عن مصدره وأهمل هذا التحذير الخطير الذي سجله الطبري في صدر كتابه.
وهكذا فإن المصادر التي رجع إليها الشرقاوي لم تكن كلها كفئا للموضوع فوقع في ورطة لم تستجب لنصح الناصحين فيها.
__________
(1) ... أي أنه شعار الرافضة –قبحهم الله- (س).
(27/25)
ثانياً : تناول أشخاصاً لهم بلاء وغناء وسبق إلى الإسلام والجهاد في سبيل الله ووصفهم بما لا يليق بأمثالهم، فهم تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم والشوامخ الذين هاجروا في الله بعد ما فتنوا وهاجروا وصبروا وقد قدم لنا الإمام علي في عماية فتنة وإعصار محنة، وقديماً قرر الفقهاء والعلماء والسلف الصالحون ممن أدركوا الفتنة وجاءوا بعدها الإمساك عن الخوض فيها، فإن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم ولكل منهم وجهة نظر واجتهاد، والمخطئ فيه له أجر والمصيب له أجران.
لم يتناول الكاتب دور اليهود في هذه الفتنة التي آثر الخوض فيها وما فعله عبد الله بن سبأ وأشياعه والمخدوعون به فهم أسبابها وما أشبه الليلة بالبارحة، ولم ينهج نهج المحدثين وأهل الأثر من نقدة الأخبار على مقتضى قوانين الرواية والجرح والتعديل الذي ميز الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وراح يسوق الأخبار ومنها الملفقة كأنها حقائق مسلمة، ويبني عليها اتهامات ويصدر أحكاماً قاسية وهي أخبار واهية لا تحل روايتها فضلاً عن اعتمادها في تقرير حكم أو توجيه لوم، خاصة إذا كانت تحمل في ثناياها دليل بطلانها ولم يشر إلى مرجع واحد من مراجعه التي اعتمد عليها، فإن كثيراً من أئمة المؤرخين قد ينقلون الشائعات والأخبار التي لا تصدق ولكن بأسانيدها اعتماداً على أن الناس سيبحثون الأسانيد فيقبلونها أو يرفضونها.
(27/26)
ثالثاً: إلحاحه في قوله: (ليس لبني إسماعيل فضل على بني إسحاق ولا لبني إسحاق فضل على بني إسماعيل) والحق أنني ألمح منها كيداً خفياً من عمل اليهود وإفكاً افتروه، بعد أن عزلهم الله عن قيادة البشر وجعلها في العرب من بني إسماعيل، فاليهود من يريدون إن يتساووا مع العرب والمسلمين ويستغلوا المبدأ ويقرروا أنهم يرتقون إلى مستوى المسلمين على ما بهم من بغي وكفر وقساوة قلب وعلى أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وقولهم (ليس علينا في الأميين سبيل) ونحن نقول: (بل لبني إسماعيل اليوم فضل على بني إسحاق) وللعرب فضل على اليهود بعد ما أثبت اليهود ببغيهم وعداوتهم أنهم على مدى التاريخ وراء كل فتنة وسبب كل محنة وأنهم كالمشركين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
رابعاً: غرق عبد الرحمن الشرقاوي في أباطيل الرواة وفي الروايات الضالة فأجرى على لسان (الإمام علي) عبارات ما كان أن تجري على لسانه وتقول عليه أخباراً كاذبة كمثل ما نسب إليه من أنه قال أنه كان أولى من أبي بكر وعمر بالخلافة.
خامساً: انزلق عبد الرحمن الشرقاوي في أعراض الصحابة واندفع بهدف ونية مبيتة وليس من باب الخطأ أو عدم الإحاطة بالمصادر، وكان الواجب أن ينشر ما يقوم على احترامهم ومعرفة قدرهم وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا حين قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (1) ويقول (لا تسبوا أصحابي، من سب أصحابي فقد سبني).
وقد بدأ القصد من سياق السرد وهو النيل من الآخرين ومن سابقته بالذات –أي علي- وهي نقطة مهمة كان لابد من إثارتها، وكانت عبارات الكاتب تستهدف التنقيص ممن قبله من الخلفاء رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) ... حديث ضعيف. انظر السلسلة الضعيفة للألباني –رحمه الله- (1/78). (س).
(27/27)
-وقد قصد الكاتب إلى إثارة خلاف في هذه الآونة بين طائفتين أو أكثر من المذاهب الإسلامية وإيجاد بلبلة وتباغض بين تلك الأمم والمذاهب ومن هنا دخل في الخطر الكبير الذي جاء عنه التحذير في بعض الآثار: (الفتنة قائمة لعن الله من أيقظها).
-الأخطاء كثيرة وكأني بالرجل يرمي إلى شيء وراء هذه المغالطات غير العلم فابتعد عن الحقائق، وماذا يقصد بأوصافه التي أتى بها خياله عن ليلة زواج ذي النوريين عثمان رضي الله عنه من نائلة، وهو الذي كانت تستحي منه ملائكة الرحمن، ومن أين له هذا الوصف البعيد كل البعد عن العلم وعن التاريخ وأقرب ما يكون إلى روايات الجنس؟ أم كتاباته عن أم المؤمنين عائشة وعن الصحابة طلحة والزبير وغيرهم عندما وصفهم بغير أوصاف المؤمنين؟ وهم المؤمنون حقاً.
سابعاً: بدأ الشرقاوي خطته بأن ألف كتابه محمد رسول الحرية على أساس أن الإسلام مظهر للصراع بين الطبقات وأن الأصنام تم صبها حول الكعبة لأسباب مادية وتم هدمها كذلك لأسباب اقتصادية، ومضى في طريقه يفسر الوقائع بمعايير الفكر اليساري ويقرأ كتب التاريخ غير مميز بين حقيقة وشائعة، وبين صحيح وموضوع وغير مدرك لمكانة الرجال الذين يتحدث عنهم؛ فجاءت كتاباته بعيدة كل البعد عن المنطق العلمي، كما جاءت بعيد الأثر في الإساءة إلى الإسلام والصحابة وإلى الآمال المرجوة في الصحوة الإسلامية وجمع الشمل وقد ردد الشبهات والتقط النقاط المشكوك فيها التي تعينه على باطله ومنها الخطبة المنسوبة إلى علي بأنه أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر وهي خطبة تعني أن الخلفاء الثلاثة كانوا مغتصبين حقاً ليس لهم وأنهم طلاب دنيا وعشاق رياسة، وأن جمهور الصحابة جبن عن مظاهرة صاحب الحق المقرر، وهذا النسق يرمي إلى فتح الباب للطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
(27/28)
-ودعواه أن بني النضير أسلموا باطل، فما أسلم بنو النضير يوماً، وأنهم حاولوا قتل النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان بينهم في بعض الشئون
وهناك قضية وهب لها الشرقاري فكره ونشاطه ويريد أن يجر الإسلام إليها جراً دون هوادة، هل للمسلم أن يدخر أو يكنز بعد أن يؤدي الحق المقرر عليه في ماله، أم يجب ألا يمسك عنده شيئاً فوق حاجته، وهو يؤكد أنه لا يجوز استبقاء شيء لصاحبه فوق نفقته العادية، إن هذا هو ميل إلى نظرية كارل ماركس (لكل حسب حاجته) ولكنه يصور الرأي الذي ارتآه على أنه من الكتاب والسنة، وهو يحاول أن يجعل علي بن أبي طالب ضد رأس المال مهما أدى ما عليه من حقوق وهو يحاول أن يجعل عثمان كأحد الباشوات أو اللوردات الذين يشبعون شهواتهم ويرهبون المجتمع بفضول أموالهم، ومن المقرر أن كتابات عبد الرحمن الشرقاوي لا تحكي تاريخاً إسلامياً، فهو يساري يريد أن يجعل الإسلام وتاريخه مصبوغين باللون الأحمر والتفكير المادي، ويسوق الحوادث سوقاً لخدمة هذا الغرض.
فهل صحيح أن الصراع بين التوحيد والوثنية كان صراعاً طبقياً كما يقول الأغنياء يدافعون عن وجودهم والفقراء عن حقهم في الحياة الكريمة وعن أحلامهم في عالم أفضل؟ أي أحلام هذه؟ وهل صحيح أن موسم الحج كان "يستثمر هؤلاء الأغنياء أموالهم في البيع والشراء والربا فيربحون ويربحون، وهذه الأصنام هي التي تمنحهم كل سلطاتهم على الأجراء والمعدومين والعبيد وأبناء السبيل، وواجه محمد هذا كله بأن الأصنام ضلال مبين فهو يلعن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ... هكذا يقول الشرقاوي في تصوير الرسالة الإسلامية: صراع بين الغنى والفقر لا وجود له إلا في دماغ المؤلف.
وآية عدم اكتناز الذهب والفضة نزلت بعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الرسالة ولا صلة لها بعبادة الأصنام أو الحرب التي شنها الإسلام على الوثنية من أول يوم.
(27/29)
حتى الهجرة إلى المدينة جعل لها الشرقاوي أسباباً اقتصادية، فإن المرابين في المدينة كان ضغطهم أقل، والهوان الذي يتعرض له المدنيون كان أخف، تأمل قوله: هنا مجتمع آخر أكثر تقدماً من مجتمع مكة، هنا علاقات اجتماعية أخرى أكثر قابلية لتعاليم محمد، فالمرابي اليهودي لم يكن قادراً على استعباد المدين العربي إذا عجز عن الوفاء كما كان يحدث في مكة، ولم يكن له الحق في أخذ امرأة المدين أو ابنته لإكراههما على البغاء كما كانت تفعل قريش، وأجير الأرض في المدينة أعلى درجة من عبيد مكة الذين كانوا يحرسون القوافل والمصارف الخ.
ليس في هذا الكلام كله ذرة من صدق والقول بأن العرب كانوا يسترقون المدين المعسر، ويستوفون ديونهم من استرقاق امرأته وابنته وإرغامهما على الزنى، كلام مكذوب، ما كان شائعاً لا في مكة ولا في المدينة وبالتالي فلا صلة للهجرة بهذه الأوضاع المختلفة.
إن هذا الكلام ليس تشويه تاريخ، بل هو تزوير تاريخ، أو كما يقال في مصر (سمك، لبن، تمر هندي) وليس في القرآن ولا في السنة المطهرة ولا في السير المؤلفة عن صاحب الرسالة ما يترك مثل هذا الانطباع الغريب عن الجو الذي بدأت منه (تعاليم محمد) كما يصف عبد الرحمن الشرقاوي الإسلام ونبيه وما نزل عليه من وحي وما تمحض عنه من حضارة.
أخطاء عبد الرحمن الشرقاوي
في كتابه السيرة والتاريخ
في كل كتاباته الإسلامية يظهر الغرض المبيت المدفون واضحاً:
(27/30)
(محمد رسول الحرية –مسرحية الحسين ثائراً- كتاباته عن الإمام علي) إن درجة الوعي الإسلامي الآن في فهم تيارات التغريب قد أصبحت عالية وما نعتقد أنها يمكن أن تخدع، وهذه الأسماء معروفة الهوية ولذلك فهي لا تستطيع أن تكسب ثقة قارئ واحد من المؤمنين باليقظة الإسلامية، ولعل هذا هو ما يزعج هؤلاء ومن ورائهم، إن خطط التغريب والغزو الثقافي قد كشفت تماماً فمهما حاولوا تغيير جلودهم ومهما خلطوا أوراقهم ومهما نشرت لهم الصحف الكبرى ومهما حالت بين مفترياتهم وبين تصحيحها، فلييأس هؤلاء تماماً وسيرتد الكيد إلى نحور أهله.
إنها محاولة لتحطيم الصحوة وللقضاء على الأصالة ولطرح مزيد من الشبهات والشكوك والسموم على الطريق الذي أصبح صالحاً ليسلك عليه المسلمون إلى إقامة المجتمع الرباني، إنها محاولات يائسة لإفساد الفكر ولتزييف التاريخ ولهدم القيم تحت أسماء إسلامية، ومن خلال صحف محتواه للتغريب والغزو الفكري.
في روايته الحسين شهيداً كان حريصاً على أن يصور المجتمع الإسلامي بعد أن اختار الرسول الرفيق الأعلى بنصف قرن في صورة بشعة، وكأن هذا المجتمع قد تداعى وتهاوى وصار مجتمع عربدة وفجور، ومجتمع شقاق ونفاق ومجتمع جبن وضعف خيانة ونكث للعود، مع أن المجتمع كان لا يزال يدخر بعدد كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان (وهذه متابعة لخطة طه حسين) التي جرى عليها في الهجوم على الصحابة وأتباعهم.
أما في دراسة عن الإمام علي فقد اعتمد على مراجع معنية أغلبها مشكوك في صحتها وفي مقدمتها الأغاني، وفي هذا تابع أهواء الدكتور طه وخطته حتى ليخيل إلي أنه امتداد حقيقي وتجديد استشراقي تغريبي لأفكار طه حسين المسمومة التي بثها في كتابه الفتنة الكبرى وعلي بنوه في الأربعينات يجددها الشرقاوي في الثمانينات.
(27/31)
فقد جرى وراء القصص البراق، واعتمد على المصادر المضلة وساير خصوم الباطنية للشيخين أبي بكر وعمر وحاول أن يلحق الإساءة بالسيدة عائشة على هوى بعض الفرق.
ويمكن أن نقول بوضوح إن عبد الرحمن الشرقاوي القصاص الذي يغلبه الخيال والبريق والرواية المثيرة لا يصلح مؤرخاً ولا يمكن أن يقبل منه كل ما كتب على أنه تاريخ، وهو يمضي في سلك واحد مع جورجي زيدان أولاً وطه حسين أخيراً، ومن العجيب أن أحداً ممن نقدوه لم يشر إلى متابعته لخطا طه حسين في هذا المجال.
وفي الوقت الذي يأتي كتاب غربيون يشيدون بعظمة الإسلام ورسوله ورجاله ينحرف كتاب عرب لهم أسماء إسلامية عن هذا الخط ويخوضون إلى ما تحت ركبهم في الأعراض والقبائح.
ولقد تأكد ما قاله الشيخ الشعراوي من أن الأهرام أصبحت وكراً لأعداء الإسلام وأن موقف الأهرام من إغلاق الصحيفة على كتابها دون أن تسمح بوجهة النظر الأخرى هو من الآثام التي سوف تحاسب عليها الأهرام عندما يكتب تاريخ الصحافة، وما كانت هكذا تجري المعارك الأدبية في القديم حيث كان يسمح لكل طرف أن يعرض آراءه، وهاهي الأهرام تستخدم من قبل توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود، والشرقاوي لخدمة أعداء الإسلام.
ولقد صدق الشيخ محمد الغزالي حين وصف الشرقاوي بأنه يجمع القمامات من كتب التاريخ ويصدق أيضاً ما وصف بأنها مؤامرة لضرب الإسلام لحساب المسيحية، ولضرب الصحوة التي أدخلت في الإسلام أعلاماً كباراً أمثال جارودي (1) وبوكاي.
__________
(1) ... ثم تبين أن جارودي هذا لم يسلم! إنما هو باقٍ على عقيدته النصرانية، ولكنه ضم إليها الإيمان باليهودية وبالإسلام! مدعيًا أنه (ابراهيمي) المذهب لا يفرق بين الأديان الثلاثة! وقد رد عليه العلماء في حينها؛ كالشيح ابن باز–رحمه الله-وغيره. انظر كتاب:"فكر جارودي بين المادية والإسلام" للأستاذ عادل التل.(س).
(27/32)
ولعل أسوأ صفحات الشرقاوي هو أسلوبه في الحوار وإدخاله الإقذاع والسخرية فهو كاتب يمكن أن يوضع في صف الشعراء القدامى الذين تخصصوا في الهجاء المقذع الذي يرفضه الإسلام أسلوباً للحوار، فما بالك وصاحب الحق في الرد لا يُمَكن من أن يقول كلمته في نفس المكان، أي ظلم هذا ؟!". انتهى النقل عن الأستاذ أنور الجندي –رحمه الله-، بتصرف يسير.
وقال الأستاذ إسماعيل الكيلاني في كتابه (لماذا يزيفون التاريخ) (ص117-119): "والشرقاوي هذا كاتب تدثر بدثار التقدمية الماركسية، فلما وجد أن بضاعته مزجاة، وكتبه كاسدة لجأ إلى التاريخ الإسلامي ليقرأ حوادثه من خلال "المادية التاريخية" يدغدغ عواطف العامة ويستثير أحقاد القرون.. وهو صاحب قصة "الأرض" التي يهاجم الإسلام فيها من خلال مهاجمته الشيخ الشناوي "رجل الدين" بتعبيره حيث يقول عنه:
"لو كان يملك قيراطاً واحداً على الأقل لآمن أن الحكومة هي التي تحرم الفلاحين من الماء، ولتأكد أن الحكومة وحدها هي التي تصنع المصائب" "لم يكن الشيخ الشناوي يملك في كل أرض القرية إلا المقبرة" "إن الذين يملكون أرضاً في القرية يضعون أيديهم في النار، أما سيدنا فهو كخضرة –المومس- يده في الماء".
وفي مسرحيته "جميلة" بمناسبة انتصار ثورة الجزائر المسلمة على الصليبية الفرنسية، يؤكد أن مأساة الجزائر مأساة جزائرية، ليست عربية ولا مسلمة، وأن هدف المقاتلين الجزائريين "الحرية والإخاء والأمن والحب وحياة أفضل" أما العروبة والإسلام والعودة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فليست هي أهدافهم بزعمه، أما لحنهم الحبيب عند الاستقلال:
مبروك يا محمد عليك الجزائر رجعت إليك
فهذا لا يستحق أن يذكر عند هذا التقدمي!
(27/33)
كما يؤكد على دور "سيمون" العاهرة الفرنسية في جيش التحرير الجزائري، ويجعل "جميلة" الجزائرية المسلمة تنطق بتقاليد "فرنسة" النبيلة، وبكرامة "فرنسة" التي يزري بها تعذيب الجلادين لها، ويشيد بمواقف فرنسيين يساريين تجاه ثورة الجزائر، والمعروف لكل ذي عينين أن اليسار الفرنسي لم يدافع عن الجزائر، بل غرق في عار الإستعمار، ولم يدافع عن "جميلة" العربية المسلمة إلا العرب المسلمون أبطال جيش التحرير الوطني الجزائري ... وفي الوقت الذي يؤكد فيه على نصرانية "جان" وأنها تدفعه للسلوك الطيب المتعاون مع الثوار الجزائريين لم يشر أية إشارة إلى الدور الذي أداه الإسلام في الحفاظ على عروبة الجزائر، وفي أنه هو الذي قهر فرنسا، بل على العكس من ذلك فالصلاة والإسلام لا يذكره إلا الخونة عملاء الاستعمار "فالجاسوس هارون يقول: لم لا تقوم لكي تصلي، هل سهوت عن الصلاة؟" ووردت عبارة "الله أكبر" مرتين على لسان الجاسوس، ومرة على لسان المحامي الخائن عميل "فرنسة"، ومرّات على لسان "هند" بعد أن فقدت عقلها ... ولا ينسى أن ينتقص المسلمين، فيقول في روايته هذه على لسان "هند" : "من يوم أن ذبح الحسين وأهله في كربلاء لم تأت غاشية كتلك" وكأنه يريد أن يعتذر عن المجازر الفرنسية، وأن المسلمين ارتكبوا أفظع منها ضد بعضهم بعضاً ... هذا في الوقت الذي يعلن فيه "عمار أوزيجان" الوزير الجزائري بعد الاستقلال أن "رفض الأيديولوجية الإسلامية في بلاد مستعمرة، يضطهد دين أكثرية سكانها الساحقة، علامة تجدد أخرق، تنادي به فئة منفصلة عن الشعب، غريبة الحياة والفكر، امتصتها أو شلتها أيديولوجية المستعمر" وهذا الوصف ينطبق على الشرقاوي".
(27/34)
وقال الكيلاني –أيضاً- متحدثاً عن الدراسات التاريخية القاصرة، أن منها كتاب "علي إمام المتقين، وكأنه يريد لتلك الفتنة التي ذرت قرنها بين المسلمين، وبعد أن أفضى الجميع إلى ربهم، وطويت صفحاتها نهائياً، أن تعود من جديد ببعث أشخاصها من قبورهم، وجعلها مادة يصول فيها ويجول لتقطيع كل رابط يمكن أن يشد المسلم إلى أخيه، يوقظ أحقاد القرون، ويستدر عواطف المقهورين، ويثير ريح الكراهية نحو الجيل القدوة، وما في ذلك من تحقيق لأهداف أعداء الأمة، وكأنه يريد أن يقول للناس: هذا هو سلفكم، وهذا سلوكه وتصرفاته!! معتمداً في ذلك كله على مفتريات وأكاذيب أشاعها أصحاب الأهواء ممن أسلموا قيادهم لابن سبأ اليهودي؛ تابعهم فيها ولم يكلف نفسه عناء نقدها وتمحيصها، فضلاً عن أنه لم يذكر أي مصدر لأية رواية احتج بها، وهو يتهجم على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكان من جملة مفترياته:
1- أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بغاة ( ... .جمع علي –رضي الله عنه على زعم الكاتب- كبار المهاجرين والأنصار وفتيان بني هاشم- في المدينة المنورة- وقال لهم: ويم الله ما زلت مبغياً عليّ منذ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
2- عثمان رضي الله عنه ألعوبة بيد بطانة السوء، ومخادع غاش ( ... وكنت كلما نصحته يا علي تاب إلى الله وأزمع عزل بطانة السوء، فتجيئه تلك البطانة فتغير رأيه ... لكم دافعت عنه، وهو يعدك ويستغشك).
3- عثمان رضي الله عنه أقطع بني أمية كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم إقطاعات من بيت مال المسلمين، وأعطاهم أموالاً كثيرة من بيت المسلمين لا يستحقونها (ألا وإن كل ما أقطعه عثمان من مال الله مردود إلى بيت مال المسلمين).
(27/35)
4- مأساة عثمان رضي الله عنه جاءت نتيجة الجمع بين ورع الإمامة وأبهة الملكية (صنع –عثمان- مأساته ونهايته الفاجعة بنفسه منذ أصبح إماماً لنفسه وملكاً على الآخرين، أخذ نفسه بورع الإمامة والخلافة والسنة الشريفة، وأخذ المسلمين بسياسة الملك العضوض ... وهو الذي نفى أبا ذر إلى الربذة لأنه جهر بتحريم الكنز، وأمر بالمعروف ونهى عنا المنكر!
5- عمر رضي الله عنه (ضرب أبا هريرة –رضي الله عنه- وقاسمه أمواله، واتهمه في صدقه، ومنعه من رواية الحديث الشريف، وأبدى عجبه كيف يروي أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أضعاف ما روى عنه أبو بكر وعمر نفسه وعلي، وما كان أحد ألصق برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أكثر صحبة من هؤلاء الثلاثة ... ).
6- التشكيك بنفر من الصحابة منهم: عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، وطلحة والزبير رضي الله عنهما المبشران بالجنة، ويصفهم بالنفر الذين (انتفخت أجوافهم، وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه.. هؤلاء الراغبون في أن تكون الولاية على الناس سطوة ملك عضوض..) واتهمهم بأنهم كانوا المحرضين على قتل عثمان رضي الله عنهم جميعاً.
7- بنو أمية أهل كيد وسوء (لا تعلمون أيها الناس كيد بني أمية ومكرهم السيئ، والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرماً إلا استحلوه، ولا عقداً إلا أحلوه ... )
8- صراع الطبقات وتفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً مادياً تبعاً لماركس (أيمكن لطلحة والزبير أن يعيدوا هذا المال إلى بيت المال، أم أن المصالح التي تربطهما بكبار بني أمية، كمعاوية وعصبته، هي الآن أقوى مما عسى أن يربطهما بالإمام.. سيلحق طلحة والزبير بمعاوية وعصبته بلا مراء ... ) لأن علياً رضي الله عنه (سيحرمهم من كل متاع ومن كل مآربهم في حياتهم الجديدة الرغيدة، وسينصر عليهم المساكين، ويظل حتى يفقدوا أبهة الملك وزخرف الغنى وسطوة الجاه ... )
(27/36)
وهو في جميع مفترياته هذه لم يعز أية رواية اعتمدها إلى مصدرها، ولم يذكر أي مصدر من المصادر التي رجع إليها واستقى منها ما سوّد من صفحات، وتعمد هكذا أن يلقي الكلام على عواهنه حتى لا يُفْتَضح هدفه، وتنكشف غايته، وأكبر الظن أنه تستر عليها ولم يذكرها لكونها جاءت وصدرت عن أهل الأهواء والفتن" انتهى كلام الأستاذ الكيلاني (ص 117 – 122).
ويقول المستشار سالم البهنساوي في رده على الشرقاوي في كتاب (تهافت العلمانية في الصحافة العربية) : "لو كان الشرقاوي كاتباً إسلامياً يخدم الإسلام في كتبه، فليعلن توبته عن كتابه (محمد رسول الحرية) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب ليس رسول الله بل رسول الحرية! كماركس عند الشيوعيين ... " (ص 173).
(27/37)
::::: المجموعة الخامسة :::::
نظرة شرعية في فكر (الدكتور محمد أركون)
قال الأستاذ عبد السلام بسيوني في كتابه (العقلانية: هداية أم غواية؟) عن أركون "جزائري من مواليد 1928، أتم دراسته بباريس 1955 وحصل على الدكتوراه من السربون 1969 حول الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري، وحاضر بالعديد من الجامعات الفرنسية والعربية.
معظم مؤلفاته بالفرنسية، وهو علماني يدعو إلى التعامل مع الإسلام –والقرآن والسنة بالذات- بالمقاييس الغربية وبالاستفادة من المعطيات التي خلفها ماركس ونيتشه وغيرهما، ويعتبر الدين الذي ينتهجه الناس مجموعة من المعطيات البطريركية التي خلفها الفقهاء وأسبغوا عليها صبغة القداسة.
ومن آرائه أيضاً أن مفهوم الدين لم يبلور بلورة كافية للقيام بقفزه نظرية لا نتردد معها أن نجزم بأن الأديان ما هي إلا أيديولوجيات (مجلة الوحدة: العدد 6-1985).
وأن المحتويات العلمانية التقديرية للفكر الإسلامي التقليدي ستبقى في غير متناولنا ما دمنا نريد البقاء متشبثين بإسلام لا يعدو أن يكون ديناً يأمر ويسجن العالم أجمع، ويرى الاتجاه إلى إقصاء جميع الخطب الأيديولوجية والتبريد الشرعي لمختلف إرادات القوة التي يشكل الاصطدام بها تاريخنا الماضي والحاضر(!!) الذي هو مجرد تاريخ أسطوري (!!) لا يزال يحكمنا إلى اليوم (المجتمع العالمي-1978) ويناقش –راداً- بعض نصوص القرآن المتعلقة بالمرأة معتبراً إياها شكلاً من أشكال التخسيس والزراية.
وننقل –للإيضاح- جزءاً من حوارٍ أجرته معه مجلة "لونوفيل أبسرفاتور" الفرنسية Nouvel Observateur فبراير 1986، يعكس جزءاً من طريقته في التفكير الذي يعتمد القفز والمغالطات واستغفال القارئ من خلال مصطلحات "خواجاتية" يحاول أن يخضع لها الفكر الإسلامي فيقول:
المجلة : باسم القرآن تقطع أياد، ترجم نساء، يفرض الحجاب، تقام حروب مقدسة.
أركون: هذه الأفعال تقام باسم القرآن ولكنها في الواقع خيانة له:
(28/1)
Ces acts sont commis au nom du Coran, mais ils en sont la trahison
وإن السلطات السياسية (!!) تفسر النص القرآني بمفهومها الخاص. أما النص نفسه فهو مغطى، محرف أو منسيّ.
مثلاً في تعدد الزوجات، ماذا يقول القرآن، يمكنك أن تنكح اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً من النساء.. نعم، لكن: ماذا تقول بقية الآية؟ على شرط أن تعدل بينهن، العدل هنا لا يعني أن يكون لديهن نفس المتاع، لكن كذلك نفس الحنان والحب بالضبط، وتقول السورة: إذا لم تستطع أن تكون عادلاً فلك واحدة فقط، لكن من المستحيل أن يكون الإنسان عادلاً، فإذا القراءة المتأنية للقرآن لا يمكن أن تؤدي إلا إلى منع تعدد الزوجات (!!).
نفس الشيء يمكن أن يقال بخصوص قضايا أخرى. رمضان مثلاً: في يوم من الأيام دعا الرئيس بورقيبة أصدقاءه إلى تناول الطعام في رمضان، كل الناس صدموا وقتها، لكن قال لهم: إن النبي نفسه دعا صحابته إلى الأكل والشراب في رمضان. نعم هذا الاستثناء كان وقت حرب، ولكن نحن كذلك في حرب ضد التخلف. فكما ترين: القرآن تتوجب إعادة قراءته.. والتفكير فيه بشيء مختلف (!!)
المجلة: لكن هناك أشياء النص فيه واضح.
أركون: بالعقل القرآن يقول: (للذكر مثل حظ الأنثيين) في مثل هذه الحالة الحسابية لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني. لا يمكننا أن نستمر في قبول ألا يكون للمرأة قسمة عادلة (!!)
فعندما يستحيل تكيف النص مع العالم الحالي.
عندما يكون علانيةً منبثقاً عن وضع اجتماعي لا يتناسب في شيء مع عالمنا الحاضر.
ينبغي العمل على تغييره.
إن التفسير يبقى دائماً جائزاً بشرط أن يعاد في مسألة التنزيل على ضوء التاريخانية.
الحجاب مثلاً –ككل ما يمت إلى الجنس وإلى وضع المرأة في الإسلام- ينتمي لقانون عربي سابق على الإسلام.
الإسلام صادق على تقاليد قديمة متعلقة بأسس قبلية، وأعطاها بعداً مقدساً (!!)
(28/2)
ويتعلق الأمر اليوم بإعادة التفكير في هذه المفاهيم على ضوء التاريخ.
وللأسف فإن هذا العمل في بدايته في الإسلام.. بحكم سيطرة الأيديولوجيا (انظر دراسة محمد بريش عن أركون، مجلة الهدى-1985)ومن آراء أركون رفضه للإسلام نظام حكم لأنه لم يكن كذلك لا تاريخياً ولا عقائدياً!!) ا.هـ كلام الأستاذ عبد السلام بسيوني (ص 126-128) (وانظر كتابه الآخر: اليسار الإسلامي خنجر في ظهر الإسلام، ص 38 وما بعدها)
وقال الدكتور مفرح القوسي عنه: "الدكتور محمد أركون (1) : أحد كبار العلمانيين الداعين إلى التعامل مع الإسلام –كتاباً وسنة بوجه خاص- بالمقاييس بالغربية، تجنى كثيراً في كتاباته واللقاءات العديدة التي أُجريت معه على السلف ومنهجهم. فهو –مثلاً- يتهم المنهج السلفي بأنه منهج أسطوري لا تاريخي مغرق في التجريد والمثالية، فنراه يقول تحت عنوان (الرؤية الإسلامية التقليدية): "إليكم كيف يلخص المفكر الحنبلي ابن تيمية هذه الرؤية كما فرضت نفسها انطلاقاً من القرن التاسع: (فهذه الطبقة –صحابة النبي- كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهماً خاصاً ... ، فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، وهي التي حفظت النصوص، فكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها) (2) ،
__________
(28/3)
(1) ... مفكر جزائري ولد عام 1928م بالجزائر، وبها بدأ دراسته، ثم أتمها بباريس عام 1955م، حصل على الدكتوراه من جامعة (السربون) سنة 1969م، حول (الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري)، نشأ نشأة استشراقية ألقت بظلالها على نشاطه وإنتاجه الفكري، حاضر في العديد من الجامعات الفرنسية والعربية، ويعمل حالياً أستاذاً بجامعة (السربون) بباريس، من مؤلفاته: (الفكر العربي) و(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد) و(تاريخية الفكر العربي الإسلامي) و(من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي).
(2) ... نقض المنطق ص 79..
ويعلق أركون على ذلك بقوله مباشرة: "يتضح أكثر ما يتضح كيف يحذف تمجيد الجيل –الصحابي- الذي شاهد الوحي، يحذف المنظور التاريخي من الناحية العملية، فكل الحقيقة التي يمكن معرفتها، وكل التعاليم السنية في الإسلام، وكل نماذج السلوك الديني المحتذاة، ونماذج العمل الإنساني والتنظيم السياسي الاجتماعي، كل ذلك يتركز ويتحدد غاية التحديد في عصر التأسيس؛ في النصوص، الينابيع، النماذج (القرآن، الأحاديث النبوية المسماة سنة)، وهي مفهومة فهماً مثالياً وتحظى بتفسير الصحابة البارع، ثم إنها قد جُمعت ونُقلت بأمانة دقيقة من قبل التابعين وأجيال الفقهاء الورعين اللاحقين. وهذه السلسلة المتصلة من الشاهدين الذين لا يطالهم لوم؛ تجعل من الجائز أن يكون هناك مفهوماً إسلامياً صحيحاً معروفاً منذ أصوله، ومستمراً بواسطة المؤمنين ضد الانحرافات والالتواءات والتشوهات التي أقحمتها الفرق المبتدعة عبر العصور. وبالاستناد إلى حديث يُذكر دائماً أن محمداً نفسه قد أعلن أن أمته ستُقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة ناجية؛ لأنها هي التي اتبعت سنته بحذافيرها، أي: كل تعاليمه وكل ممارساته، وهذه
(28/4)
الجماعة من المؤمنين الحقيقيين تسمى (أهل السنة والجماعة). ومثلما يحدث في جميع الحركات الأيديولوجية الكبرى نهضت عدة جماعات في وجه المسلمين السنيين؛ احتجاجاً على دعواهم الانفراد بالإسلام الحقيقي والعمل على استمراره، ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن كل فرقة تعلن عن نفسها أنها وحدها التي تستأثر بالسنة، ولكنها كلها تقيم الصلة ذاتها بعصر التأسيس، وذلك بوضع المصادرات التالية موضع التنفيذ:
أ أن الوحي القرآني يشتمل على كل ما ينبغي على الإنسان أن يعرفه حول مصيره الخاص وحول الآخرة والتاريخ والعالم والله.
ب لقد أبان محمد بقوله وعمله المعنى الدقيق للوحي، وأن حياته تؤلف على هذا النحو الأنموذج الكامل، الذي يترتب على كل مؤمن أن يسعى لمحاكاته.
ج أن حياة محمد وتعليمه يمكن أن يُعرفا عن طريق الرواية التي لا ينالها الشك، مما قام به الصحابة والتابعون والفقهاء. ومما يلاحظ أن الخلاف يتناول دروب الرواية والوضع الأخلاقي الديني للرواة، ولكنه لا يمس نماذج الرواية ولا تقنيتها (سلسلة الإسناد). وإن الفرق كافة تستعمل إذن النشاط الذي يضفي الأسطورية على الماضي، وتمارس عمل الإسقاط ذاته لمفاهيم شتى، وأوضاع تاريخية متغيرة على لائحة الدلالات المثالية التي أقيمت في ذلك الوقت.
د أن قيمة السلوك الإنساني، وبوجه أعم قيمة النمو التاريخي للشعوب بعد سنة 632 (سنة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) إنما تتبع بدقة وظيفة ترسخها في النصوص- الينابيع- النماذج، وفي الأشكال الرمزية المثالية (النبي، الصحابة، الأئمة)، وكل ابتعاد عن هذه النماذج لا يُعاش ولا يُطرح إلا بوصفه ضلالاً وانحطاطاً يصيب الأمة" (1) .
__________
(1) ... الفكر العربي ص 47 – 49 بتصرف يسير، ط الثالثة 1985م، دار عويدات، بيروت –باريس. وراجع كتابيه (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي) ص 97-98، ط الثانية 1993م، دار الساقي، بيروت- لبنان وهما بترجمة: هاشم صالح.
(28/5)
ويقول مؤكداً تهمة (اللا تاريخية) في المنهج السلفي: "إن الطريقة التي أجاب بها الإصلاحيون السلفيون عن الواقع التاريخي كانت تتضمن نظرة أسطورية تجاه أصول الإسلام أكثر من كونها نظرة تاريخية، وذلك لأن الإصلاحيين زعموا أن الإسلام الأولي بإمكانه أن يحل مشاكل القرن التاسع عشر، وأن يواجه تغلغل الحداثة الاقتصادية والسياسية التي سبقتها في أوروبا ثورات وتجارب ديمقراطية وبرلمانية، وأيضاً تغلغل الحداثة الفكرية التي سبقتها في أوروبا أيضاً وفي القرن نفسه حركات علمية ضخمة. هذا كان عبارة عن وقائع تاريخية إيجابية، ولمواجهتها أراد المسلمون أن يقدموا إجابات من نوع أسطوري وليس تاريخياً" (1) ، ويقول: "أعتبر الموقف السلفي موقفاً ميتولوجياً، وذلك لكونه يريد العودة إلى ماضٍ موصوف بالمثالية" (2) ، ويقول أيضاً: "إن صورة الإسلام في قرنه الأول للهجرة –وهي الصورة التي تناقلتها الحركات الإسلامية- ليست صورة تاريخية وإنما أسطورية" (3) ، ويقول كذلك: "إن المسلمين ظلوا متعلقين بتصور هو أقرب إلى الأسطورية فيما يتصل ببواكير الإسلام، وإن الأسطورة هي أحد طرق التعبير عن الحقائق الإسلامية لدى الجماعات الإسلامية" (4) .
ولذا نجده يدعو إلى إعادة قراءة وتشكيل الفكر والتاريخ الإسلامي مما يتعلق بالحوادث والأشخاص خلال القرنين الهجريين الأولين (5) .
ولما سُئل: هل يوجد إسلام واحد صحيح مصير أصحابه الجنة، وأن بقية الفرق الأخرى في النار؟ .
__________
(1) ... حوار البدايات مع محمد أركون، وهو حوار أجراه معه محمد رفرافي، منشور في مجلة (الفكر العربي المعاصر) في عددها الصادر في سبتمبر (أيلول) 1989م، ص 87.
(2) ... المرجع السابق ص 88.
(3) ... المرجع السابق ص 90.
(4) ... انظر: الفكر العربي ص 46.
(5) ... راجع : المرجع السابق ص 45 وما بعدها.
(28/6)
أجاب : "هذا التصور رسخته الأدبيات البدعية (أي كتب الفرق الإسلامية وكتب الملل والنحل)، ومعظم الجهد الذي أقوم به الآن يتمثل في تجاوز هذه الأدبيات والخروج من موقعها الإيديولوجي الذي يخلع على نفسه غطاء الشرعية التيولوجية (أي اللاهوتية الإسلامية) دون أي حق أو برهان.. إن القول أن هناك حقيقة إسلامية مثالية وجوهرية مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم ليس إلا وهماً أسطورياً لا علاقة له بالحقيقة والواقع ... وسوف تنزاح الغشاوات عن عيون الناس وتسقط الأوهام الكبرى الشائعة التي تملأ وعي المسلمين بخصوص تاريخهم، فهم يتوهمون أن الإسلام السني كان موجوداً منذ البداية وعلى مستوى لحظة القرآن والخطاب القرآني، ولكن ذلك ليس إلا وهماً وسراباً ... وأنا كمؤرخ نقدي يفتح عينيه جيداً لن أصدق هذا الزعم، لأني لو صدقته لما كنتُ مؤرخاً أو باحثاً، ولأصبحت عقائدياً متحيزاً" (1) .
وينظر أركون إلى "الوحي" و"الحقائق الإسلامية الغيبية" و"الأصول التشريعية" نظرة بُعْديّة؛ منفلتة من مشاعر الاحترام والتقدير التي يحملها المسلم بداهة لكل ما يمس دينه ومعتقده. من ذلك –على سبيل المثال- قوله : "إن الفكر الإسلامي لا يمكنه أن يتهرب طويلاً، إن فعل الإيمان "الأرثوذوكسي" الأصيل الذي يصلح دوماً؛ يقوم على التأكيد بأن الدين يرتكز على الوحي الذي أنزله الله على الناس بواسطة الأنبياء، وبالتالي فإن الدين فوق المجتمع، ولكن الواقع العلمي الحديث ينزع إلى فرض الفكرة بأن الدين كله في المجتمع ومن المجتمع. الله بذاته بحاجة إلى شهادة الإنسان له" (2) .
__________
(1) ... الفكر الإسلامي –نقد واجتهاد ص 246 –247 بتصرف يسير.
(2) ... الإسلام الأمس والغد ص 121 – 122، ط الأولى 1983م، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، ترجمة: علي المقلد. وراجع: الفكر العربي ص 153.
(28/7)
ومن ذلك: اعتقاده بأنه لكي نفهم ما سماه (الحادث القرآني) (1) وآثاره على الفكر العربي الإسلامي لابد –في نظره- من تحقيق "التاريخ الانتقادي للقرآن الكريم"، والذي –كما يقول- ليس "سوى إعادة بناء المجموع الصحيح لجميع النصوص التي نزلت على محمد باسم التنزيل والوحي" (2) .
ومن ذلك أيضاً: ادعاؤه أن الحديث النبوي لم يصبح مصدراً ثانياً للتشريع بعد القرآن إلا بعد وضع الإمام الشافعي أصول الفقه ودّون أسسه في القرن الثاني الهجري (3) .
ومن ذلك أيضاً: قوله عن تحديد الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) لمصادر التشريع الإسلامي بأنها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ قوله عن هذا التحديد بأنه: "الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم الكبير بأن الشريعة ذات أصل إلهي" (4) .
ومن ذلك كذلك : قوله عن قاعدة الإجماع في أصول الفقه الإسلامي بأنها: بمثابة وجه آخر للقهر الفكري في التراث الإسلامي (5) .
__________
(1) ... أي الظاهرة القرانية.
(2) ... الفكر العربي ص 30.
(3) ... انظر كلاً من : الفكر العربي ص 76، وتاريخية الفكر الإسلامي ص 75، ط الأولى 1986م، مركز الإنماء القومي –بيروت، ترجمة: هاشم صالح.
(4) ... تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 297.
(5) ... انظر: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ص 77 – 78.
(28/8)
ويصم أركون الحنابلة السلفيين –ولا سيما الإمامين أحمد بن حنبل وابن تيمية- بالتزمت واستعمال العقل استعمالاً أسطورياً (1) ، وبالإلحاف على وجوب الإقرار بأركان الإيمان دون التساؤل عن براهينها (2) . ويدعي أن الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) "قد أسهم في سجن العقل الإسلامي داخل أسوار منهجية معينة؛ سوف تمارس دورها على هيئة استراتيجية لإلغاء التاريخية" (3) ، ويقول عن الإمام الطبري: "الطبري عندما كان يقول: يقول الله، ثم يُعطي تفسيره وكأنه مطابق تماماً لقول الله أو لمقصد الله، فإنه لم يكن يعرف أنه يتلاعب من غير وعي منه بالأنظمة التيولوجية" (4) .
ويشن أركون هجوماً عنيفاً على الفقهاء والمفسرين، ويكيل لهم العديد من السباب والشتائم مما لا يتفق بحال مع الطابع التاريخي العلمي الموضوعي الذي يدّعي تقمصه في أبحاثه وكتاباته، ومن ذلك على سبيل المثال قوله: "الشيء الذي ينبغي أن يحظى باهتمامنا هنا وينبغي التركيز عليه هو ذلك الزعم المفرط والغرور المتبجح الذي يدّعيه الفقهاء بأنهم قادرون على التّماس المباشر بكلام الله (5) ، وقادرون على الفهم المطابق لمقاصده العليا ثم توضيحها وبلورتها في القانون الديني" (6) ، وقوله –واصماً إياهم بصفة (الانتهازية)-: "سوف نرى فيما بعد أن انتهازية المشرعين تصبح أكثر وضوحاً وجلاء عندما يتنطعون لتعيين الآيات
__________
(1) ... انظر: الفكر العربي في الصفحات: 90، 128، 131، 153.
(2) ... انظر: المرجع السابق ص 104.
(3) ... تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 74.
(4) ... الفكر الإسلامي – نقد واجتهد ص 219.
(5) ... يعني فهم كلام الله، وهذا مدخل أساسي من مداخله لعزل القرآن عن الواقع الإسلامي، لأنه طالما ظل القرآن "طلسماً" لا يمكن ادعاء فهمه لأحد، فليس له قيمة علمية في الحياة على أية صورة.
(6) ... من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ص 15 – 16.
(28/9)
الناسخة والمنسوخة" (1) . ويدعي أن الفقهاء كانوا يعتمدون في صدر الإسلام على آرائهم الشخصية في تقريرهم الأحكام الفقهية فيما يتعلق بالأحداث والوقائع المستجدة، ثم يُضفوا (يُسبغوا) عليها الصفة الشرعية (2) . ويتهمهم بالتلاعب بالآيات القرآنية، فيقول: "إن المشرعين من البشر (أي الفقهاء) قد سمحوا لأنفسهم بالتلاعب بالآيات القرآنية من أجل تشكيل علم للتوريث يتناسب مع الإكراهات والقيود الاجتماعية الاقتصادية الخاصة بالمجتمعات التي اشتغل فيها الفقهاء الأوائل" (3) .
ويُصرُّ في معظم كتبه على وصف منهجهم بـ (الأرثوذكسية) الذي يعني –في نظره- الجمود والانغلاق الفكري؛ وفرض تفسيرهم لنصوص الكتاب والسنة بالقسر والقوة وعده التفسير الوحيد الصحيح المستقيم، وما عداه هرطقة وضلالاً. ويدعي أنهم يمارسون رقابة أيديولوجية صارمة على كل الفئات الاجتماعية وعلى كل مستويات الثقافة في البلاد الإسلامية، مما حد كثيراً من حرية البحث والتعبير، وأدى بالتالي إلى تأخر الفكر الإسلامي (4) .
ويمتدح –في المقابل- المستشرقين، ويطري مناهجهم في دراسة الإسلام، ويدعي أن الاستشراق الآن "هو وحده الذي يؤدي إلى تقدم الدراسات في مجال الثقافة الإسلامية والفكر العربي، كما كان عليه الحال أيام غولدزيهر وجوزيف شاخت" (5) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 38.
(2) ... راجع: الفكر العربي في الصفحات : 57، 58، 76، 107.
(3) ... من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ص 67.
(4) ... انظر: المرجع السابق ص 27.
(5) ... المرجع السابق ص 30.
(28/10)
كما يمتدح علي عبد الرازق على ما أورده في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، ويدعي أنه لم يكن للخلافة الإسلامية أساس ديني، وأنها صنعت لنفسها وجهاً دينياً بواسطة الفقهاء (1) ، ويدعو إلى تطبيق العلمانية وممارستها في البلاد الإسلامية، بحجة أنها أصبحت ضرورة ملحة لهذه البلاد في وقتنا الراهن (2) ، وينكر على السلفيين قولهم أن "الإسلام دين ودولة"، واصفاً منهجهم بأنه منهج وثوقي (دوغمائي)، لأنه –في نظره- يفرض موقفاً من دون تحليله فكرياً وتبريره بدراسة تاريخية (3) ". انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي –وفقه الله-.
وقال الأستاذ محمد بن حامد الأحمري في مقال بعنوان ( محمد أركون ومعالم من أفكاره )
__________
(1) ... انظر: حوار البدايات مع محمد أركون ص 89.
(2) ... راجع كلاً من : تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 275 وما بعدها، والفكر الإسلامي –نقد واجتهاد ص 273 وما بعدها.
(3) ... انظر: حوار البدايات مع محمد أركون ص 89.
نشره في مجلة البيان ( عدد 35 ) :
(28/11)
"تطورت في عصرنا هذا وسائل الدعاية لكل شيء بمقدار لم يسبق له مثيل، هذه الدعاية في قضايا الكماليات ووسائل الراحة قد تكون معقولة إلى حد ما، لكن الغريب من أصناف هذه الدعاية، الدعاية الفكرية لعامة الكتاب والشعراء والروائيين إلى درجة تدفع إلى السأم وعدم الثقة بأي شيء يشتهر من كتاب أو كاتب أو صحيفة، فيجعلك هذا لا تثق بالشهرة لأي عمل، إذ قد يكون في غاية الرداءة والفساد لكن جيوش الإعلام والترويج تحاصرك حتى تفقد بصيرتك. وقد حاصرتنا الدعاية في زماننا ورفعت في وجوهنا مجموعة من الكتاب والمفكرين والأدباء، وألصقتهم في وجوه ثقافتنا كرها، وألزمتنا بهم وحاصرتنا كتبهم في كل زاوية، وليس هذا الحصار فقط بين العرب، بل لقد شكت إحدى المستشرقات وقالت : إن أدونيس لم يقل شيئاً ولكن اللوبي الأدونيسي هو الذي أعطاه الأهميةً! هذا الجيش الدعائي من وراء كتاب صغار أو مغالطين كبار هو الذي أعطاهم أهمية كبرى في عالم الكتاب العربي.
قال أحد القراء: لقد رأيت كتب أركون ولفت انتباهي الدعاية الكبيرة لها، فذهبت مع القوم واشتريت منها وقرأت الأول والثاني فما أحسست بفائدة ولا ساعدني الفهم، وقلت: كاتب متعب، ولكن زادت الدعاية للرجل فقلت في نفسي: النقص في قدرتي على الدراسة والفهم، وسكت وخشيت أن أقول لأحد: لا أفهمه، حتى إذا كان ذات يوم جلست إلى قارئ وكاتب قدير وتناول كتاب "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وقال: لقد حاولت أن أفهم هذا الكاتب أركون فما استطعت، فكأنما أفرج عني من سجن وقلت: رحمك الله أين أنت فقد كنت أبحث عن قارئ له يعطيني فيه رأياً، لا الذين أكثروا من الدعاية له دون دراية.
(28/12)
وحتى لا تضر بنا المبالغة في هذا إليك نموذجاً للدعاية الأركونية: علق هاشم صالح مترجم أركون إلى العربية في آخر كتاب "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد" يقول هاشم: بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر في حجم المعركة التي يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد أصبحت واضحة محصورة، كلما اكتشفت أنها متشابكة معقدة، شبه لانهائية. هناك شيء واحد مؤكد على أي حال: هو أن محمد أركون يخوض المعركة على جبهتين: جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أصوليي المسلمين، وجبهة أصوليي المستشرقين:
وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل (1) ؟
هذا مثل مما يفعل هذا المترجم، وقد يفاجئك مراراً بالمدح في وسط الكتاب أو في المقدمة أو في الهامش (2) أو في لقاءاته مع أركون التي تمثل جزءاً كبيراً من أعماله، فهذه طريقة في الكتابة جديدة إذ يجري المترجم حواراً حول أفكار أركون بعد كل فصل أو في آخر الكتاب كما في "الفكر الإسلامي قراءة علمية"، أو "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد".
__________
(1) ... الفكر الإسلامي فكر واجتهاد ص 335، "حقاً إن أركون أشد على الإسلام هجوماً من مفكري الروم وسيأتي بيان ذلك".
(2) ... انظر الكتاب السابق ص 245 ومواقع عديدة في "الفكر الإسلامي قراءة علمية".
(28/13)
أثناء قراءة أعمال أركون قد تصادفه ينقد مدرسة عقائدية أو فقهية، ويحاول أن يقول إنها خرافة، وأسطورة دغمائية كما يحلو له أن يكرر، وتقول: لعله ينصر المدرسة الأخرى، فهو إما شيعي أو خارجي، ثم يخرج عليك في صفحة أخرى وهو يعرض بعدم معقولية فكرة الإمامة لدى الشيعة (1) ، ثم في مكان آخر لايتفق مع الإسلام السني المتزمت في نظره (2) علماً أن السني عنده هم الأشاعرة، وأما أحمد وابن تيمية فيدعوهما حنابلة متزمتين. وتحاول جاهداً أن تقف تماماً على مايريد فإذا هو متناقض لا يؤمن بشيء ولا يرى أن لهذا العلم أو التراث الإسلامي أي مكانة إلا في عين المدارس النقدية الغربية، فما أقرته فهو الحق والمحترم –كنص للدراسة ليس أكثر من نص بشري قابل للأخذ والعطاء –وما لا تقره المكتشفات الأسلوبية اللغوية الاجتماعية والنفسية المعاصرة فإنه لا يرى إقراره والاهتمام به لقدمه وتخلفه عن العصر.
ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجل ما قال في الكتب الأخرى، وأشار فيه بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
عند أركون أهداف واضحة لمن يستقرئ أعماله ويصبر على التزوير والمراوغة واللعب بالكلمات في غير معانيها حتى يحصل على هدفه الكبير من كل مشروعه وسيأتي بيان الهدف بعد ذكر وسائله إليه.
__________
(1) ... أركون، مقابلة مع أدونيس، مجلة "مواقف"، عدد رقم 54 –ربيع عام 1988، ص 10.
(2) ... أركون، الفكر العربي، ترجمة عادل العوا، ص 128 والفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص9، ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجل ما قال بعد في الكتب الأخرى وفيه إشارة بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
الوسائل :
(28/14)
أول وسائله نقد الكتاب الإسلاميين الذين ليست لهم صلة بالمدارس الغربية في الفكر، والذين ليس لهم إلمام بعلوم اللسانيات والاجتماع والنفس والنظريات التي خرجت –فيما يرى –بعد الخمسينات من هذا القرن الميلادي، وبالتالي يطالبهم بالمشاركة والدراسة لمستجدات النظريات الإنسانية الغربية، ثم هو يستخدم نظريات ميشيل فوكوه في مسائل المعرفة والسلطة، ويرى تاريخية المعرفة وبكونها قابلة للتغيير والتطوير والشمول، وأهم جوانب المعرفة التي يتحدث عنها المعرفة الدينية بكل أبعادها، ويرى اعتبار المعرفة الإسلامية نموذجاً أسطورياً يزعج المسلمين ويهز إيمانهم، ولكن لابد –كما يرى –من بناء مفاهيم جديدة مستمدة من الاحتياجات الجديدة كما فعل السلف، ويرى أن هناك مناطق عديدة في الفكر الإسلامي لا تمس ولا يفكر فيها مثل مسألة عثمان –رضي الله عنه-وقضايا جمع القرآن، والتسليم بصحة أحاديث البخاري والموافقة على الأصول التي بناها الشافعي، ويرى أنه يضع أساساً للاجتهاد وعقلانية جديدة (1) ، وهو يرى أن الوعي الإسلامي قد انشق فيما بين السنة والشيعة، والوسيلة عنده ليست بالتوفيق بين الجانبين ولا الانتقاء منهما إنما الوسيلة نقد الطرفين وهو يعتنق "النقدية الجذرية" للطرفين وإسقاط كل الحجج التي بأيدي الجميع، وبالتالي فإن النص السني مغلوط ومزور والنص الشيعي نص العدالة والعصمة مغلوط ومزور وأسطوري، والمطلوب أن يتحرر كل من الفريقين من نصه فيتوحدان (2) .
__________
(1) ... عيسى بلاطة، توجهات وقضايا في الفكر العربي المعاصر، ص 89-90.
(2) ... رضوان السيد، الإسلام المعاصر، ص 190.
الأهداف :
(28/15)
من أهم ما يهدف له أركون في كتاباته المكررة والمملة نزع الثقة من القرآن الكريم وقداسته واعتباره نصاً اسطورياً (1) قابلاً للدراسة والأخذ والرد. وهو يغالط كثيراً في معنى كلمة "أسطورة" ويقول : إنه يعاني من صعوبة هذه الكلمة على أسماع العرب الذين يربطون بين هذه الكلمة وبين الأكذوبة أو الخرافة، لكن ما هي الكلمة التي يستخدمها أركون في تعبيره عن القرآن باللغة الفرنسية التي يكتب كل كتبه بها.
إنه استخدم كلمة MYTHE وبالإنجليزية MYTH وكلتا الكلمتين تعني الخرافة أو الحكاية والكلمتان جاءتا من الكلمة الإغريقية MUTHIOS وهي تعني في جميع اللغات الأوربية حكاية خرافية شعبية تتحدث عن كائنات تجسد –بصورة رمزية –قوى الطبيعة والوضع الإنساني (2) .
ثم إذا سلم بهذه الأسطورة –بزعمه –فإنها أولاً لم تصلنا بسند مقطوع الصحة، لأن القرآن –كما يقول –لم يكتب كله في حياة الرسول –صلى الله عليه وسلم –بل كتب بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن فيما بعد (3) وهذه من المغالطات التي يسوقها أركون بكل سهولة ويخلط فيها مابين قضية الجمع وقضية الكتابة، وبزعم أن الظروف السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون فقط على قرآن واحد ويتركون ماعداه (4) .
ومن أجل أن يمهد لما يريد من إنكار القرآن سنداً في أول الأمر يدخل بعد ذلك إلى نصوص القرآن فيشكك في القصص والأخبار ويرى أن التاريخ الواقعي المحسوس هو الذي يحاكم إليه القرآن، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة! ولنقرأ له هذا النص الذي يجد القارئ
__________
(1) ... محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص 202 وما بعدها.
(2) ... محمد العربي الخطابي، مقال بعنوان "الأسطورة الأصلية في رأي أستاذ جامعي"، جريدة الشرق الأوسط 26/2/1990.
(3) ... محمد أركون الفكر، الإسلامي نقد واجتهاد، ص 85-86.
(4) ... المصدر السابق، ص 86.
في كتبه كثيراً مثله يقول:
(28/16)
"ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس" (1)
ويرى أن القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلا من قبل ندرة أهمهم عنده "محمد أحمد خلف الله" عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن القصة القرآنية مفتعلة، ويتحسر على عدم استمرار "خلف الله" ويذكر أن الأسباب التي لم تمكن "خلف الله" في عمله أنه راعى الموقف الإسلامي الإيماني أولاً، وثانياً لنقص المعلومات. إذن فقد آل الأمر إلى أركون الذي سيهاجم القرآن، لأنه لا يراعي الموقف الإسلامي الإيماني لأنه مطلع على الأبحاث الجارية. ومع زعمه أنه يعرف الأبحاث الجارية التي كتبها فوكوه والحاخام دريدا، فإنه يظهر للقارئ بشكل يجعله لا يثق في قدرة أركون ولا أنه فهم ما زعم فهمه من قضايا المعرفة ونقد اللاهوت ونظريات البنيوية وما بعدها (2) ، ويعاني في عرضه للأقوال من عدم التوثيق أو القول الصحيح لما ينقل، إذ يقلب كل قضية قرآنية أو تفسيرية أو سياق لعلم حتى يفسد المعنى ويلويه إلى ما يريد كما مر معنا في مسألة كتابة القرآن، ومثال آخر يعرف الوحي بقوله: إنه يدعي بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت" (3) .
__________
(1) ... أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص 203.
(2) ... انظر مجلة الحوار، عدد 9، ص 117-118.
(3) ... الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 79.
معاني القرآن:
لو تجاوزنا قضية شكه في القرآن ورده للسنة من باب فماذا يفسر به القرآن وكيف يفهمه؟ إنه يقول: "إن القرآن –كما الأناجيل –ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً، أما الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس –اعتقاد الملايين –بإمكانية تحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون شغال وفعال ومبادئ محدودة تطبق على كل الحالات وفي كل الظروف" (1) .
ويقول في موضع آخر:
(28/17)
"إن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تتلقى بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير محورة عن مطامح ورؤى وعواطف حقيقية يمكن فقط للتحليل التاريخي السيولوجي والبسيكولوجي اللغوي –أن يعيها ويكشفهما" (2)
__________
(1) ... تاريخية الفكر الإسلامي، ص 299.
(2) ... الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص 191.
ويفصل أركون بين القرآن والشريعة، فالقرآن عنده خطاب مجازي يغذي التأمل والخيال والفكر والعمل ويغذي الرغبة في التصعيد والتجاوز، والمجتمعات البشرية لا تستطيع العيش طيلة حياتها على لغة المجاز" (1) ولكن هناك البشر المحسوسون العائشون –كما يقول –في مجتمع وهناك أمورهم الحياتية المختلفة التي تتطلب نوعاً من التنظيم والضبط وهكذا تم إنجاز الشريعة (2) ثم يعقب بأن هناك مجالاً أسطورياً مجازياً وهو مجال القرآن، ومجال آخر واقعي للناس هو مجال الشريعة ويقول: "إنه وهم كبير أن يتوقع الناس علاقة ما بين القرآن والشريعة التي هي القوانين الشرعية وأن المناخ الميثي (الأسطوري) الذي سيطر على الأجيال السابقة هو الذي أتاح تشييد ذلك الوهم الكبير، أي إمكانية المرور من إرادة الله المعبر عنها في الكتابات المقدسة إلى القوانين الفقهية (الشريعة) وحجته في ذلك ما يلي : في الواقع أن هناك أنواعاً مختلفة من الكلام (من الخطاب) وهناك فرق بين خطاب شعري أو ديني، وخطاب قانوني فقهي أو فلسفي، ولا يمكن لنا أن نمر من الخطابين الأولين إلى الخطابات الأخرى إلا بتعسف واعتباط" (3) ألا ترى أنك يا أركون قد استطعت أن تمرق من الخطابين ؟!
__________
(1) ... تاريخية الفكر الإسلامي، ص299.
(2) ... المصدر السابق، ص 299.
(3) ... المصدر السابق، ص 299.
مكانة السنة عنده:
(28/18)
ليس هذا مجالاً لمتابعة هذه الأقوال والرد عليها، فيكفي هنا التعريف بمعالم فكره بما فيها جرأته على الشك في ثبوت وصول القرآن إلينا، وجرأته على نفي الحديث والزعم بأن الظروف السياسية وأوضاع المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام احتاجت إلى أحاديث وقال: "إن السنة كتبت متأخرة بعد موت الرسول- صلى الله عليه وسلم –بزمن طويل وهذا ولد خلافات لم يتجاوزها المسلمون حتى اليوم بين الطوائف الثلاث السنية والشيعية والخارجية، وصراع هذه الفرق الثلاث جعلهم يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة" (1) . وهو يرى أن الحديث هو جزء من التراث جعلهم يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة". وهو يرى أن الحديث هو جزء من التراث الذي يجب أن يخضع للدراسة النقدية الصارمة لكل الوثائق والمواد الموروثة كما يسميها (2) ، ثم يقول:"وبالطبع فإن مسيرة التاريخ الأرضي وتنوع الشعوب التي اعتنقت الإسلام –قد خلقت حالات وأوضاعاً جديدة ومستحدثة لم تكن متوقعة أو منصوصاً عليها في القرآن ولا في الحديث، ولكي يتم دمجها وتمثلها في التراث فإنه لزم على المعنيين بالأمر أن يصدقوا عليها ويقدسوها إما بواسطة حديث للنبي، وإما بواسطة تقنيات المحاجة والقياس" (3) .
__________
(1) ... أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 103.
(2) ... أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص 108.
(3) ... أركون، الفكر العربي، ص 174 ترجمة عادل العوا.
(28/19)
تلك هي مكانة الشريعة عنده وهذه مكانة أحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم –إذ لا يرى أي تشريع جاء به القرآن، وأن القرآن خطاب أدبي عاطفي لا علاقة له بالحياة، والشريعة ضرورة اجتماعية أملتها ظروف المجتمع وحاجة الناس، وهي في مجموعها تراث إذا قابلت في الطريق ثقافة مجتمع آخر أو استجد شيء فإن هذا الجديد يدمج في هذا التراث بواسطة حديث أو قياس، وهو يناقض نفسه تماماً، إذ لو لم تكن الشريعة من غير هذين المصدرين كأساس لما سعى المعنيون بالأمر –كما يسميهم –لفعل ما كذبه عليهم. وهذا مثال واحد كبير من الغث والانحراف والكفر الذي يملأ به كتبه، كله يناقض بعضه بعضاً، وكفاه زوراً أو جرأة على كتاب الله قوله: "وليس في وسع الباحثين أن يكتفوا اليوم في الواقع بالتكرار الورع للحقائق الموحى بها في الجزيرة العربية في القرن السادس والتي طرحت منذئذ على أنها بآن واحد مما يمكن تعريفه واستخدامه وأنها متعالية (1) " وهو يرى أن الباحثين –يعني نفسه ومن تابعه –(إذ حتى كبار الكفار من المستشرقين لم يحملوا على القرآن والسنة والأمة كالحملة التي يقودها أركون ولم يستطيعوا القول بكل هذه الافتراءات في آن واحد)- لا يسعهم تطبيق القرآن لأنه نزل في الجزيرة في ذلك الزمن القديم، وهو لا يرى نفسه وهو يقدس ويستسلم لبقايا قوانين الرومان، بل ويحاسب الإسلام على أفكار فوكوه هل تتطابق معها أم لا، ويقول في نفس الوقت بأن القرآن حقائق، وقد سبق أن قال إنه مجازات عالية وقد أجمع القائلون بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر (2) ،
__________
(1) ... الشنقيطي، منع جواز المجاز، ص 8.
(2) ... الشنقيطي، منع جواز المجاز ، ص 51..
(28/20)
علماً بأن المجاز بالأسلوب الذي يريده أركون أبعد بكثير من المجاز الذي حدث فيه الخلاف بين المسلمين والذي قال فيه الشنقيطي إن وروده في القرآن غير صحيح ولا دليل يوجب الرجوع إليه من نقل ولا عقل، ونحن ننزه القرآن على أن نقول فيه مجاز بل نقول كله حقائق (1) .
ونقل الشنقيطي عن عدد من العلماء عدم جواز المجاز في اللغة أصلاً فضلاً عن القرآن، وهو –أي الشنقيطي –ممن يرى هذا، وأركون لا يرى أن آيات الأحكام هي المجاز، ولا آيات الصفات كما قال بعض السابقين المخالفين لأهل السنة، لكنه يرى كل القرآن مجازات عالية، ومرة يقول متعالية أي تكون بعيدة عن المجتمع سياسة واقتصاداً واجتماعاً، إنما تهذيب روحي لا علاقة له بالدنيا.
وليس هذا مكان الحديث عن المجاز ولا الخلاف فيه. لكن جاء بمناسبة خلط أركون وتناقضه، إذ يقول: القرآن حقائق نزلت قديماً ثم يرجع ويقول مجازات عالية. إن أركون يهدم كل شيء ولا يقيمك على سنن ولا يثق بأحد ولا بعلم أحد، فهو يسخر من كل من سبقه حتى يسخر من الطبري ومن طريقته في التفسير. ومادام قد اجترأ على كتاب الله وسنة رسوله كل هذه الجرأة فماذا يتوقع القارئ عن غيرها. وهناك جوانب عديدة يستنكرها كقضايا الثواب والعقاب والبعث بعد الموت (2) . ويرى في آيات القرآن التي تحدثت عن الجنة وثوابها سياقات شعرية، وأيضاً يرى رمزية العذاب.
__________
(1) ... للتوسع يراجع الفصل الأخير من كتابه "الإسلام أصالة وممارسة" ترجمة د.خليل أحمد، وأيضاً مواضع متعددة من "الفكر الإسلامي قراءة علمية".
(2) ... رضوان السيد، الإسلام المعاصر، ص 190.
خلاصة :
(28/21)
يرى أركون أن القرآن والكتب السابقة تعاني من سياق واحد، ويضع القرآن مع الأناجيل في مستوى من الثبوت والدراسة واحد، ويرى أهمية النقد والتجديد. وعمله هذا النقدي السلبي النافي –الذي يمسخ كل الحقائق وكل المعاني –لا يمكن بحال أن يكون مذهباً فكرياً بديلاً، بحيث يحل محل شيء من الفرق أو الجماعات التي وجدت على الساحة الإسلامية وليس بأسلوب يمكن قبوله من قبل السنة أو الشيعة، ذلك أنه يلغي الجميع ويرى العدمية (1) التي يقدمها هي البديل أو التجديد، فالشك والجحود بكل شيء لن يكون أبداً بديلاً للإيمان، إذ هذا العدم لا يكون ديناً ولا يبني خلقاً، وهو يرى –مع هذا –ضرورة النظام في حياة الناس ويرى أهمية القوانين وهذه القوانين عنده تنشئها الضرورة الاجتماعية، لكن أي مجتمع وأية قوانين؟ أما المجتمع فلا يرى أركون أن يكون للإسلام سلطة عليه؛ لذا فليس للإسلام أن يسن أي قانون في ذلك المجتمع إذ ليس للإسلام في نظره أي قانون ولا علاقة بالوجود، وهو قد بذل وعصر كل سمومه وآفات الملحدين في الغرب لينكر المصادر أولاً ثم لو افترض إثباتها فليس لها حقائق ولا معاني تمس الناس، ثم إذا فهم منها معاني فتلك المعاني جاءت للحاجة والضرورة؛ لأنه لم يكن هناك قوانين في المجتمع. وقد علق أحدهم على نمط تفكير أركون وأسلوب تعامله مع النصوص فقال: إن تجديدية أركون هي تجديدية عدمية ولا نحسب أن مسلماً عاقلاً يهتم لقراءة أركون النافية وهذا ملخص لبحث مطول يتناول كتب ومقالات أركون، ومع أن أعماله غير معقولة لكن –ويا للأسف!- إن الذي يتحكم في سلوك وأفكار العالم الإسلام اليوم هو (اللامعقول) لهذا يحتاج إلى بيان)) انتهى كلام الأستاذ الأحمري –وفقه الله-.
وقال الدكتور أحمد إبراهيم خضر في مقال له بعنوان: (أبعاد التخريب العلماني: محمد أركون أنموذجاً) نشره في مجلة البيان (عدد123):
__________
(1) ... رضوان السيد ، الإسلام المعاصر، ص 190.
(28/22)
"بالأمس طلب خالد بن عبد الله القسري، أمير العراق الجعد بن درهم حتى ظفر به، فخطب بالناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قاله في خطبته: أيها الناس ضحوا، تقبّل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، فكان ضحية، ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رُمي بها (1)
واليوم.. المرعى الإسلامي غداً بابه مفتوحاً لكل (عرجاء) و(عوراء) لا يجزئ لحمها في الأضحية (2)
__________
(1) ... الجعد بن درهم مبتدع ضال قال بخلق القرآن وكان مؤدب مراون بن محمد قتله خالد بن عبد الله القسري سنة 118هـ يوم النحر، انظر ابن قيم الجوزية الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة تحقيق د.علي بن محمد الدخيل الله ج3 دار العاصمة الرياض 1412هـ حتى 1071.
(2) ... سليمان بن صالح الخراشي، محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة دار الجواب الرياض 1413هـ-1993م ص 9.
(28/23)
إنهم أهل التخريب العقدي، يحاربون الإسلام من داخله بإثارة شكوك المسلمين بما يؤمنون به، يهدفون عبر زعزعة الترابط العقدي تفكيك المجتمع الإسلامي برمته (1) يصفون أنفسهم بأنهم علماء مجتهدون متفرغون لتطوير المعرفة (2) ولا تخرج مقولاتهم عند كونها لوناً من ألوان (الرقاعة الثقافية) (3) يميزون أنفسهم عن المسلمين الآخرين (المقلدين)، أما هم فإنهم باحثون تحرروا مما أطلقوا عليه (المعارف الخاطئة) التي تعارف عليها كل المسلمين عن الإسلام، يدعون إلى العقلانية ويطالبون باتساع العقل وحرية البحث حتى في القضايا الدينية الحساسة التي ترتبط بما هو مقدس ولا يمس (كالوحي والقرآن والسنة)، يشجعون الإبداع الفكري الذي يصل عندهم إلى حد القول بأن الاعتقاد بأن الشريعة ذات أصل إلهي (وهم كبير) (4) ومع كل هذا الانحراف والضلال يطالبون الآخرين بالتسامح معهم والإقبال على مناظرتهم، وعدم الخلط بين العرض العلمي للقضايا ومواقف العوام، والتقيد بما يفرضه البرهان العقلي، يتهمون ما يسمى (بالخطاب الإسلامي) بأن خطاب ملئ بالنقائض والرذائل والثالب، يحمّل المفكرين (أمثالهم) ما لم يفكروا فيه،وما لم يدّعوه، وما لم ينطقوا به (5)
__________
(1) ... أمين أبو عز الدين (نقلاً عن محمد وقيع الله أحمد) الدين والعلمنة في طروحات محمد أركون، الآداب عدد 5، مايو 1993م ص 29.
(2) ... محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، ترجمه هاشم صالح، دار الساقي ص 7.
(3) ... (الرقاعة الثقافية) تعبير استخدمه الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، الدار الذهبية، القاهرة ص 13.
(4) ... أمين أبو عز الدين مرجع سابق ص 24.
(5) ... محمد أركون مرجع سابق ص 3
ماذا يريدون بالضبط؟
(28/24)
همهم الأول القضاء على الإيمان العقدي ومحوه من الأفق البشري: حتى لا يبقى هناك إلا الأفق الاجتماعي، يريدون منا أن ندخل تجربة الغرب التاريخية التي خاضها منذ أكثر من قرنين فتخلص من الأفق الديني القروسطي (نسبة إلى القرون الوسطى) .
لا يجهلون الإسلام وإنما يصرون على تحليله في ضوء النصرانية الكنسية والقرون الوسطى التي ارتبطت في أذهان الغرب بالتصور المظلم والمرعب عن الدين، أفقهم المعرفي لا يخرج عن حدود الفكر الغربي والثقافة الأوروبية، يتزلفون للغربيين حتى القسس منهم على حساب دينهم، ولهذا يضيقون ذرعاً بمطالبة الإسلاميين بخصوصية إسلامية وأصالة عقلية وعلمية مطلقة جعلتهم في غنى عما أبدعته انحرافات الفكر الغربي والبحث العلمي خارج دائرة المعارف الإسلامية المتأصلة في القرآن والمنطلقة منه، فراحوا يتصورون أن الإسلاميين كآباء الكنيسة يقتلون في الإنسان حس المبادرة والحركة ويدعون إلى الاستكانة والاستسلام ورفض الانخراط في العالم (1) .
أهل السنة والجماعة في نظر أهل التخريب العقدي (أورثوذكسيون)
لأنهم يجمعون على عقيدة إسلامية صحيحة ومستقيمة، ويبرزون معايير التفرقة بينها وبين البدع والاعتقادات الطارئة المنحرفة عن الإسلام (والأورثوذكسية) أصلاً مصطلح غربي نقله أهل التخريب إلى العربية ولا يربطونه بالمذهب الأورثوذكسي في النصرانية، لأنه مصطلح سابق على ظهور هذا المذهب، لا يروق لهم المعنى الحرفي للكلمة (وهو الطريق المستقيم أو الطريق الصحيح) إنما يأخذون معناها الاصطلاحي وهو (النواة العقائدية الصلبة والمغلقة على ذاتها لدين ما، أو لإيديولوجية ما ، أو اتجاه سياسي ما، والتي ترفض كل ما يقع خارجها باعتبار أنه ضلال وهرطقة ) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 30، 66، ص 8.
(28/25)
يقول أهل التخريب إنهم لم يستطيعوا ترجمة مفهوم (الأورثوذكسية) بكل أبعاده الأيديولوجية بالسنة؛ لأن أهل السنة والجماعة قد احتكروا المفهوم لصالحهم وعدلوا به عن معناه في القرآن (1) ، ولم يعط أهل التخريب العقدي دليلاً واحداً مقنعاً يبين صحة تأويلاتهم الفاسدة الخارجة أصلاً عن حدود القرآن والسنة.
وحتى لا يتهم أهل التخريب العقدي بالكفر، سارعوا إلى وضع مفهوم جديد للإيمان والكفر فهموا من الإمام الغزالي أن الكفر هو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به، والإيمان هو تصديقه في جميع ما جاء به، فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما الرسول صلى الله عليه وسلم والبراهمي كافر بالطريقة الأولى لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين.
هذا الذي يتبنى مفهوم الغزالي عن الكفر ويطبقه على (العلماء المجتهدين) أمثالهم رجل مقلد بلغ درجة من العمي والتعصب في أحكامه؛ لأن الإيمان والكفر في فلسفة أهل التخريب العقدي مرتبطان بالبحوث النفسانية واللغوية عن تكوين البنية الشخصية والجماعية التي ينشأ فيها كل فرد. ولم يكتف أهل التخريب العقدي بذلك بل ألقوا مسائل الحلال والحرام والمقدس والقصص الديني في أحضان العلوم الحديثة (علوم الإنسان والمجتمع) (2) التي تعطي لها تفسيراً خاصاً يخرج بها كلية عن ارتباطاتها العقدية. ومن المسلّم به في العلوم الاجتماعية أن نظرياتها التقليدية ترى أن الأفكار الدينية زيف ووهم، أما نظرياتها الحديثة فتتجنب مسألة حقيقة الدين، لكنها تغذي هذه التحليلات التي تحقر من أي رؤية جدية للأفكار الدينية وتنظر إليها على أنها غير حقيقية (3)
__________
(1) ... المرجع السابق ص 16، 19.
(2) ... المرجع السابق ص 5،7،6.
(3) ... انظر: الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع في كتابنا: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، المنتدى الإسلامي، لندن، 1413هـ –1993، ص 177-193
موقفهم من خاصية ثبات الأصول:
(28/26)
واجهت أهل التخريب العقدي مشكلة النظرة العقلية المستمرة والمتكررة التي ترى وجود إسلام صحيح يتطابق مع مفهوم الدين الحق لمكافحة البدع والرد على أهل الأهواء والنحل، وإبطال الملل الضالة المضلة، وإبعاد أو إخضاع جميع المنحرفين عن الصراط المستقيم والحق المبين فقالوا إن الإجماع بأن هناك إسلاماً جوهرياً لا يقبل التغير ولا يخضع (للتاريخانية) (1) هو كالأقنوم الإلهي يؤثر في الأذهان والمجتمعات ولا يتأثر بها ليس إلا تحجراً عقلياً وتطرفاً وتعصباً وإرهاباً، ودعوا إلى العدول عن هذه النظرة التقليدية والإقرار بضرورة التعددية العقائدية، ويسوّغون دعواهم الضالة والمضلة بأن النصوص القرآنية قد ألهمت ولا تزال تلهم (تأويلات) بتغير الزمان والمكان (2) .
يؤمن أهل السنة والجماعة بأن التأويل الذي دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وما جاءت به هو التأويل الفاسد، وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المقبول وما خالفه فهو المردود، لكن أهل التخريب العقدي بعد أن طرحوا بعيداً ربط الكفر بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ردوا السنة برمتها إلى دائرة (البحث التاريخي) (3) وسعوا إلى إعادة قراءة النصوص الدينية تلك التي أسموها بالنصوص التأسيسية أو النص الأول (القرآن) والنصوص الثانية (السنة وغيرها) في ضوء العلوم الحديثة.
__________
(1) ... التاريخانية مصطلح طبقة أهل التخريب العقدي على الإسلام ويعنون به فهم الإسلام في حدود الحقبة الزمنية التي ظهر فيها وفي ضوء البيئة الاجتماعية والثقافية التي عمل عبرها مع التأكيد على نسبية وعدم اتساع قواعده ومفاهيمه لتطبق على حقب زمنية لاحقة.
(2) ... محمد أركون مرجع سابق ص 4-17.
(3) ... انظر التاريخانية .
(28/27)
والتأويل عند أهل التخريب العقدي لا يخرج عما يقوله عنهم (ابن القيم) من أنه (استخراج معاني النصوص وصرفها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات، فأدى بهم هذا الظن الفاسد إلى نبذ الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وراء ظهورهم، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. (والتأويل) إذا تضمن تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فحسبه ذلك بطلاناً) وتأويلات أهل التخريب العقدي من هذا الطراز (1) .
القطعية المعرفية ماذا تعني؟
خرج علينا أهل التخريب العقدي بمصطلح جديد أسموه (القطعية المعرفية) ومن المعروف عنهم أنهم لا يأتون بجديد، وإنما يستخرجون أفكارهم بعد أن يدخلوا جحر كل ضب دخله قبلهم المفكرون الغربيون ثم يلوكون هذه الأفكار ويطبقونها على الإسلام.
ومصطلح (القطعية المعرفية) طرحه أصلاً المفكر الإيطالي (فيكو) وكتب فيه الأمريكي (توماس كون) وعالم الرضيات الفرنسي (رينيه توم) تناول كل هؤلاء مسألة القطعية في تاريخ العلوم وكيفية تفسيرها متى تحدث القطعية في فكر ما؟ ما هي الشروط الموضوعية التي ينبغي توافرها لكي تحصل القطعية؟ أي : لكي يتوقف الناس فجأة عن التفكير بالطريقة التي كانوا يفكرون بها سابقاً منذ مئات السنين ولأن الحقد والغل يملأ قلوب أهل التخريب العقدي على الإسلام طبقوا هذا المفهوم على الإسلام، فدعوا إلى التوقف عن التفكير في الإسلام بالطريقة التي يؤمن بها الناس حالياً والتفكير فيه بطريقتهم التدميرية.
__________
(1) ... ابن القيم (بتصرف) مرجع سابق ج1، ص 163، 187، 192.
(28/28)
ويدعونا أهل التخريب العقدي إلى أن ندرك معنى القطعية المعرفية، أي أن نتخلى عن معارفنا التقليدية عن الإسلام التي يصفونها بأنها معارف (خاطئة أسطورية ذات معاني خيالية) وأن نفكر بالطريقة التي فكر بها الأوروبيون منذ القرن السادس عشر فنغير مثلهم نظرة العقل إلى المعرفة وطرق إدراكه للواقع وتعبيره عن تأويلاته لهذا الواقع.
هل نحن بحاجة إلى الفلسفة؟
وعبر إصرارهم المستميت على تخريب عقيدة الإسلام يزرعون الألغام الواحد تلو الآخر فتجدهم يدعون إلى الانفصال بين الحكمة والشريعة ويفسرون الحكمة بأنها (الفكر العلمي) ويسمون الشريعة (بالظاهرة الدينية) (1) مع أن الحكمة تعني العلم والفقه والمعرفة بالقرآن وخشية الله والفهم والبصر والعقل، كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن مسعود وزيد بن أسلم وذلك في تفسير قوله تعالى (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب) [البقرة: 269] وقوله تعالى (ولقد آتينا لقمان الحكمة) [لقمان: 12] (2) وتارة أخرى ينظرون إلى الحق على أنه خاضع (للتاريخانية) بمعنى أن وجوده ومظاهره تتغير بتغير نظرة العقل إليه كما يتغير العقل بدوره بتغير النتائج ووجوه الحق التي يستبينها ويتعقلها، كما يتبنون وظيفة الفلسفة لتسويغ الموجودات والأحكام إلى العقل في كل الممارسات والمعالجات بما في ذلك إثارة مسائل وقضايا ومواقف معرفية ما كان التفكير فيها ممكناً بل كان مستحيلاً، ولذلك تجدهم يرجعون انتشار المدّ الإسلامي إلى غياب الفلسفة إلا في غيبة نور الوحي الإلهي، أو في حالة خفوته أو في حالة جهل الناس بحقيقتها وجهلهم بالمنهج النبوي على وجهه الصحيح، وتملك الفلسفة القدرة على التلبيس بما تملكه من أدوات فهي تتزين بزي العقل حيناً وبزي العلم حيناً آخر، وتملأ الفراغ المخيف الذي تتركه غيبة الهداية الإلهية عن العقول (3) .
(28/29)
وبينما اشتهر أهل التخريب العقدي في مصر وسوريا باستخدام مصطلحات (نقد الخطاب الديني) و(نقد الفكر الديني)، استخدم نظراؤهم المستوطنون في دول الغرب مصطلح: (نقد العقل الإسلامي).
__________
(1) ... محمد أركون مرجع سابق ص 4،7،11.
(2) ... محمد رشاد خليل، الفلسفة وأثرها في أصول الدين، مجلة كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عدد 5، 1403-1404هـ ص 259.
(3) ... المرجع السابق ص 260
يُعَرّف أهل التخريب العقدي (العقل الإسلامي) بأنه هذا العقل المتقيد بالوحي أو المعطى المنزل ويقر بأولوية المعطى لأنه إلهي وأن دور العقل ينحصر في خدمة الوحي أي فهم وتفهيم ما ورد فيه من أحكام وتعاليم وإرشاد، ثم الاستنتاج والاستنباط منه، فالعقل تابع وليس بمتبوع اللهم إلا بالقدر الذي يسمح به اجتهاده المصيب بفهم وتفهيم الوحي.
لا يقر أهل التخريب العقدي بذلك ويصبون كل انتقاداتهم على علاقة العقل بالمعطى المنزل وعلى رضاه بأن يبقى دائماً في الدرجة الثانية أي في حدود الخادم دون أن يجرؤ أبداً على مبادرة أو سؤال أو تأويل لا يسمح به الوحي المحيط بكل شيء، بينما العقل لا يدرك شيئاً إدراكاً صحيحاً إلا إذا اعتمد على الوحي المبين (1) .
__________
(1) ... محمد أركون مرجع سابق ص 15.
(28/30)
إنه ما عصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه ومن أعظم معصية العقل إعراضه كتاب الله وروحيه فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟ إن علم الأنبياء وما جاؤوا به عن الله لا يمكن أن يدرك بالعقل ولا يكتسب وإنما هو وحي أوحاه الله إليهم بواسطة الملك أو كلام يكلم به رسوله منه إليه بغير واسطة كما كلم موسى وهذا متفق عليه بين جميع أهل الملل المقرين بالنبوة المصدقين الرسل ولا يخالفهم في ذلك إلا جهلة الفلاسفة وسفلتهم، ولكن أهل التخريب العقدي يريدون أن يعكسوا شرعة الله وحكمته فإن الله سبحانه جعل الوحي إماماً والعقل مؤتماً به وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه ورسولاً والعقل مرسلاً إليه وميزاناً والعقل موزوناً به وقائداً والعقل منقاداً له، فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي أو فكرة. الرسول يقول : معي كتاب الله وهم يقولون : معنا العقل. الرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدي وأهتدي ويقول قال الله كذا قال جبريل عن الله كذا وهم يقولون قال فيكو.. قال بيبر بورديو.. قال جاك دريدا.. قال فرانسوا إيوالد.. الخ .
بين العقل والوحي:
إن قضايا العقل تشتمل على العلم والظن والوهم، وقضايا الوحي كلها حق، فأي قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عاجز عرضة للخطأ من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته (1) (العقل هو المصدر والعامل في كل ما يعبر عن الإنسان ويبلغه بلغة من اللغات وهو المسئول عن عملية تركيب المعاني في إنتاج جميع المنظومات) هكذا يقول أهل التخريب العقدي في دفاعهم
__________
(1) ... ابن القيم (بتصرف) مرجع سابق ص 880، 891.
(28/31)
عن (فتنة خلق القرآن) وقد وصل بهم التبجح إلى القول بأنه (لو استمرت المناظرات بين العقل القائل بخلق القرآن والعقل الخادم الخاضع للقرآن غير المخلوق لكان الوضع المعرفي للعقل الإسلامي اليوم على غير ما هو عليه بمعنى أن الفسحة العقلية ما كانت لتصبح ضيقة محدودة تسودها الأرثوذكسية العقائدية المعروفة اليوم) (1) أي انتصار أهل السنة والجماعة الذين يقولون أن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ فنزل غير مخلوق ألفاظه ومعانيه عن كلام الله سمعه جبريل من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي وهو القرآن المكتوب بالمصاحف المحفوظ بالصدور المتلو بالألسنة القرآن عند أهل السنة والجماعة كلام الله تعالى بالحقيقة وليس بمخلوق ككلام البرية ومن سمعه وزعم أنه ككلام البشر فقد كفر وقد ذمه الله تعالى وعابه أو أوعده عذابه حيث قال (سأصليه سقر) [المدثر 26] التي أوعدها الله من قال (إن هذا إلا قول البشر) [المدثر: 25] (2) .
البؤس الفكري لدى بعض المفكرين العرب:
وقد اعترف أهل التخريب العقدي بأن التوجه الإسلامي الصحيح قد كشف أزمة المجتمع في العمق وكشف في الوقت نفسه عن البؤس الفكري لمعظم المثقفين العرب ومراهقتهم الفكرية، كما أنه كشف كذلك عن التخلف المنهجي والمعرفي للفكر العربي المعاصر فالواقع في واد وهم في وادٍ آخر، فبؤسهم الفكري عاجز عن طرح أي مشكلة بشكل صحيح بل عاجز حتى عن رؤية المشكلة ذاتها.
__________
(1) ... محمد أركون مرجع سابق ص 15.
(2) ... أبوجعفر الأزدي الطحاوي عقيدة أهل السنة والجماعة، تعليق محمد بن مانع، مكتبة المعارف الطائف ص8.
(28/32)
أقر أهل التخريب العقدي بأن زميلهم (المثقف العربي) يقف أمام نظيره الغربي (كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني الموسر) ويقولون في ذلك (يقف مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير اللائق ولغته غير الحضارية ودينه المتخلف ويستحسن المثقف الغربي منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى يكاد يلعن نفسه أو يخرج من جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً) (1)
لقد أحسن أهل التخريب العقدي وأجادوا في وصف حال المثقفين العرب الذين هم أيضاً من دعاة هذا التخريب، لكن حال أهل التخريب العقدي أمام المثقفين ليس بأفضل من حال المثقفين العرب الذين يهاجمونهم، هاهم يقفون خجلين أمامهم من الخطاب الإسلامي الذي يتحدث عن التوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج والحجاب والجهاد، إنهم يقدسون لغة الغرب ويكتبون بها ويرونها مؤيدة للنقد الفلسفي والتاريخي والعلمي وأن لها أرضية خصبة من الجهاز المفهومي الداعي إلى المزيد من الدقة والتعمق في النقد، أما لغتهم (اللغة العربية) فلا تتحمل اقتران النقد بالعقل الإسلامي، هاهم يعتذرون عن شكلهم غير اللائق ولغتهم غير الحضارية ودينهم المتخلف فيحذرون الإسلاميين من أن خطابهم المتردد على ألسنة الخواص والعوام يمجه جميع الناس في الغرب وأنه لا يتيح إلا المزيد من الرفض والاستبعاد وسوء التفاهم، ويحذرون أيضاً بأن على الخطاب الإسلامي أن يغير من طريقته التي تثير ردود فعل وتحريض للغرب على الإصرار في الهيمنة واستراتيجية الإخضاع والتسيير التحكمي للعالم (الإسلامي) المتخلف ثم يدافعون عن الغرب ويقولون "بأن للغرب حق الحماية لقيم مدنيته والدفاع عن أمانته أمام قوى العنف والتجاهل وعدم التسامح" (2) .
__________
(1) ... محمد أركون مرجع سابق ص 23-25.
(2) ... المرجع السابق ص 21.
(28/33)
يريد أهل التخريب العقدي خطاباً إسلامياً يتحدث للغرب بلغة ما وراء الحداثة (1) والديمقراطية ومفهومي الفرد والمواطن والتعاقد والتفاعل بين دولة القانون والمجتمع وأن يراعي الجانب الحقوقي والفلسفي للتجربة الديموقراطية وإلا فهو خطاب متخلف يستحق أن يمجه الغربيون ويرفضوه" انتهى كلام الدكتور أحمد خضر –وفقه الله-.
وقال الأستاذ نعمان السامرائي تحت عنوان (محمد أركون ينكر الصحوة الإسلامية):
__________
(1) ... في الوقت الذي يدعونا فيه أهل التخريب العقدي بالتعامل مع الغرب بعقل ما بعد الحداثة فإن هناك من المثقفين العرب من يؤجل دخول مجتمعاتنا الإسلامية هذه المرحلة على أساس أن ما بعد الحداثة نقد غربي يسوي حسابات غربية ولا يقدم لنا مشروعية تاريخية لأن مجتمعاتنا في نظرهم مجتمعات ما قبل الحداثة، وعلى كل فإن ما بعد الحداثة اتجاه ثقافي غربي يسدل الستار على الحداثة كمشهد عابر في العرض المسرحي الممتد للتقدم الثقافي ويرى أن الحداثة قد استنفدت أغراضها وأن قيمتها المعرفية بهتت أو ربما صارت أصباغاً على لوحة لم يعد لها ملامح أو هوية، وما بعد الحداثة مفهوم ينكر ثنائية الحداثة التقليدية ولا يقدم بالضرورة على القطيعة مع الماضي أو الميراث الثقافي ولا يقبل النموذج الارتقائي الذي يجعل المجتمع الأوروبي هو الصورة النموذجية للعالم المتخلف، انظر: محمد السعيد: ما بعد الحداثة ومصير التنوير، العربي عدد 413 إبريل 1993م ص 24-28 وهذا لا يعني أن أهل التخريب العقدي قد عدلوا بهذا المفهوم موقفهم من الإسلام ويكفينا لبيان ذلك أن نشير إلى أنهم أعطوا للوحي مفهوماً يخالف ما هو معروف عنه ونظروا إليه على أنه جملة من الإكراهات والقيود وتكرار الشعائر والطقوس والقيام والقعود وفرض القوالب النهائية الجامدة . (انظر: محمد أركون) مرجع سابق ص 75).
(28/34)
"محمد أركون ينكر الصحوة ويراها شعاراً سياسياً يتخفى الإسلام والدين خلفه، ويرسم للصحوة صورة، فإذا لم تتحقق فليس هناك صحوة، وباعتباره "علماني" حتى العظم أو مخ العظم، لذا فالإسلام عنده شيء، والسياسة والحكم شيء آخر. بل هو يدعي أن القرآن فيه علمانية والتراث الإسلامي كذلك. ومع ذلك لنقرأ ما يقول: (1) ( ... ... وما دامت العلوم الإسلامية الأصلية مجهولة، ولم تدرس على الطريقة التاريخية، والإنسانية، والأنتربولوجية الحديثة، فلا يمكننا أن نقول إن الإسلام "تجدد". طبعاً نرى ملايين من الناس يعيشون بالقيم الإسلامية، يعيشون بالإيمان، لكن هذا لا يدل على أننا قد تمكنا من المعاني الحقيقية الأصلية للدين بصفة عامة، وللدين الإسلامي بصفة خاصة).
الذين تحدثوا عن الصحوة لا حظوا جانب "الالتزام" فمن لم يكن ملتزماً بالإسلام راح "يلتزم" ومن كان لا يعنى ولا يهتم، صار يعنى، ويسأل، ويقرأ، ويهتم. وكما قال البعض : إن طلبة الطب والهندسة من الدار البيضاء إلى جاكرتا، صاروا أكثر تديناً والتزاماً، وهذا لا علاقة له بما يريده (أركون) من الدراسة على الطريقة التاريخية ...
فكل ما يطمح الرجل في نشره هو العلمانية، وقراءة القرآن قراءة جديدة غير مقيدة بقواعد اللغة (وقد ناقشت كل ذلك في كتابي: الفكر الاستشراقي والفكر العربي) وأرجو أن لا يُخدع القارئ بما يقوله هذا الرجل "ويغمغم" فيه.
__________
(1) ... كل العرب ص 7
(28/35)
والرجل بصفته "متغرب" أكثر من الغربيين، لا يريد مطلقاً أن يعترف بفشل الطروحات الغربية بشقيها اللبرالي والماركسي، ولذلك يظل يبحث عن أسباب أخرى للصحوة التي ينكرها، من ذلك كثرة المتعلمين (1) : (فالأجيال الطالعة عددها كبير جداً، ولا بد لها من أن تطالب بحقوقها في التعليم المدرسي وفي العمل وفي الحياة المادية التي يعيشها الناس في مجتمعاتنا العصرية، هذه المطالبة لا بد أن تعبر عن نفسها من طريق العمل السياسي ولكن النظام السياسي في المجتمعات الإسلامية لا يسمح باستعمال الخطاب السياسي المحض، لأن هذه المجتمعات وهذه الدول الإسلامية الحديثة تقوم على نظام الحزب الواحد، وأنبتت على زعامة واحدة ... ).
هناك دول مثل مصر، تونس، تركيا، إندونيسيا، السودان، باكستان، بنغلادش، وغيرها، تسمح بتعدد الأحزاب، وبعضها سمح للحزب الشيوعي بمزاولة النشاط الرسمي، ومع ذلك، فأمر الشباب في هذه البلاد لا يختلف عن سواها، حتى اضطر بعضها لمنع ومصادرة النشاط الإسلامي، فلو كانت القضية "سياسية صرفة" ... لتوجه الشباب إلى تلك الأحزاب ومارس من خلالها العمل السياسي.
وحتى في دولة "الحزب الطليعي الأوحد" بإمكان الشباب ممارسة العمل السياسي من خلاله، إذا كان المطلوب هو العمل السياسي لا غير.. وسيكون في أمان ورغد عيش، وأمل في تحقيق المطالب. لكن ذلك لم يحدث!..
__________
(1) ... كل العرب ص 7.
(28/36)
إن نظرة أركون "العلمانية" هي التي توحي له بهذا التفسير، لذا لا أتفق معه في قوله: (1) ( ... ولذلك نرى أن الظاهرة الدينية طغت على مجتمعاتنا (2) –وهذا اعتراف صريح- لأن هؤلاء الشباب أجبروا على استعمال الواسطة الدينية، المعجم الديني، للتعبير عن حاجاتهم السياسية. والحقيقة أننا نستمع إلى خطاب سياسي، بعبارات دينية، وهذه الظاهرة مهمة جداً خصوصاً في مجتمعاتنا الإسلامية، لأننا لا نجدها في المجتمعات الغربية، حيث يسمح تعدد الأحزاب بالتعبير السياسي المباشر، من دون الحاجة إلى استعمال واسطة الدين للنضال، أو للتعبير عن حاجات المواطن في مجتمعه، ولذلك نرى في تلك المجتمعات انفصالاً بين الدين والسياسة).
هذا الانفصال هو "العلمانية" التي باتت مستقرة في الغرب، والتي وجدت في الأجواء المسيحية، حيث جفت ينابيع المسيحية وتصلبت كما يقول الناقد البريطاني "كولن ولسن" والتي تخلو من التشريع، والتي مارست الكنيسة في عصور خلت ألواناً من الإرهاب، لا مثيل له، وكل هذا وغيره لا وجود له في الإسلام، ولكن "هوس" أركون "بالعلمانية"، وإعجابه بالغرب، يجعله لا يرى في الصحوة الإسلامية إلا واجهة سياسية، يرفضها من منطلقه العلماني الضيق. بينما يدرك أساتذته المستشرقون أن الإسلام دين شامل يهتم بالدولة كما يهتم بالصلاة، ولا تفريق بين الدنيوي والأخروي (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).
فالعلمانية إيمان ببعض الكتاب، وكفر بأكثره، وهي بعيدة عن الإسلام، وقد نبتت في غير أرضه، وبين قوم ليسوا بمسلمين.
قضية أخرى وهي أن مندوب المجلة علماني، ولذلك فهو يوجه الحديث كذلك.
__________
(1) ... كل العرب ص 7.
(2) ... الرجل مجاور في باريس من أيام الدراسة، وقد رفض العودة للجزائر قديماً وحديثاً.
(28/37)
قضية ثالثة يشكو منها أركون ويطالب بها بإلحاح: أن يُفسح له مجال التوجيه. والرجل يُستقبل عادة استقبال الفاتحين، ويوصف "بالمفكر العربي الكبير وصاحب النظريات" وتوضع في خدمته الإذاعات وغيرها، ومع ذلك فهو يشكو، ويشكو، ويطالب الحكومات، أن تشجع على "الفكر النقدي"، وهذا الفكر يقول: بأن القرآن كتب إملائياً في القرن الرابع عشر للميلاد، وأن السُنّة جرى عليها الحذف والاختيار، وأن الإمام الشافعي هو الذي جعل منها مرجعاً، وأن التفسير الصوفي الإشاري وعلم الجفر الشيعي يشكلان حقيقة مكتومة مموهة، وهما أفضل من التفسير السني الحرفي!! ...
هذا الفكر، أو "المراهقة الفكرية" يريد صاحبها نشرها اليوم، وهو يتصور نفسه "قائد عميان" !. لا يا أستاذ السوربون، ما كل بضاعة "نافقة" في السوربون، وفي مؤتمرات المستشرقين المظلمة العفنة، يمكن أو يجب أن تنشر في أوساط المسلمين، ولو منحتك السوربون ألف شهادة وألف لقب و"لمّعتك" بكل دهون العالم. ولقد حاول قبلك الدكتور طه حسين فلم ينجح، فلا تتعب نفسك! ...
هناك كذبة يروجها الكاتب قائلاً: (1) ( ... ونسبة إلى القوة العظيمة التي تعمل على المستوى الدولي لإضعاف القوى المجددة عندنا، وتشجيع القوى التي تؤيد المواقف الرجعية، وعندما أقول الرجعية، أقصد على وجه التحديد الرجعية العقلانية، لأن هناك رجعية ثقافية عقلانية ... )
أركون شيخ الرجعيين:
جلوس أركون على عرش السوربون، جعله يعتقد أن ذلك وحده يكفي لنفي صفة الرجعية عنه. والرجعية: صفة في العقل، ولوث في القلب، ومنهج في الفكر. وجلوس الإنسان في السوربون، أو الربع الخالي لا دخل له في ذلك. كما أن مدح "البعض" لا يعني أن الممدوح بعيداً عن الرجعية أو "الرجعة" الشيعية.
__________
(1) ... كل العرب ص 8.
فلنجرب قراءة هذه النصوص لشيخ الرجعية الأركونية ثم نحكم بعد ذلك:
(28/38)
1 - يقول شيخ السوربون وهو يتحدث عن الشيعة: (1) (إن حركة المطالبة بالشرعية، التي سينشأ عنها "حزب الشيعة" تحقق كذلك دلالة محتملة في القرآن، والتجربة النبوية. إن "الإمام" شأنه شأن النبي، يحظى بتأييد الله، لمتابعة مهمة شاقة، هي مهمة التجسد الإلهي في الإنسان، تجسد الروحي في الزمني، والمقدس في العادي، ولكن هذه النظرية ستزداد وضوحاً بالتدريج ... ).
فإذا لم تكن هذه الإفكار "الحلولية" من الرجعية فما الرجعية إذن؟؟.
2- نتيجة تلاقح الفكر الشيعي بالإشراق التصوفي، سنحصل على فكر تقدمي في نظر أستاذ السوربون: (2) (الإمامية أو الإثنا عشرية، تجعل سلسلة الأئمة المعصومين من سلالة النبي تقف عند اثني عشر، بدءاً من "علي" .. وإن تعاليم هؤلاء الأئمة –وقد أهملها أهل السنة المسلمون- تؤلف السنة الحية، التي جمعها ونظمها "الكليني وابن بابويه" خاصة ... وبالاتصال بالفلسفة الإشراقية، سيزدهر الفكر الإمامي بعد النهضة الصوفية في إيران ... ).
3- هناك أخبار تُسند إلى جعفر الصادق رضي الله عنه، بأن لديه علم اسمه "علم الجفر" مودع في كيس من جلد فيه، علم الأنبياء والأوصياء وعلم بني إسرائيل (3) . ولا يشك عاقل في كذب الخبر، ومع ذلك لنقرأ هذا النص: (4) (من العسير علينا إعادة بناء العالم العلمي لشخص مثل "جعفر
__________
(1) ... الفكر العربي محمد أركون ص 62.
(2) ... المرجع السابق ص 108.
(3) ... وهذا يقتضي أن يكون جلد فيل أو "ديناصور" خصوصاً إذا تذكرنا أدوات الكتابة في تلك العصور!..
(4) ... الفكر العربي ص 68.
الصادق" المتوفى سنة 765، وفيه يُرى التراث الإسلامي (1) بآنٍ واحد، وأنه رائد رمزي "علم الجفر" أو المعرفة الأخروية الخاصة بالأنبياء، ثم هي خاصة بورثة "علي" ... . فإن الثابت أن فكراً علمياً جديداً، قد نشأ في المدينة من حول "جعفر" وقد طبقت تقنيات تحقيق روحي، متصلة بالرمزية السيميائية، على تفسير القرآن ... ) ا هـ.
(28/39)
وحتى يفهم القارئ "علم الجفر" لا بد أن يقرأ خبره في كتب الشيعة أولاً، ثم ليحكم بعد ذلك من هو الرجعي؟ .
فقد نقل "الكليني" وهو عند أركون في مستوى البخاري ومسلم. نقل أن رجلاً من الشيعة سأل جعفر الصادق رضي الله عنه عن هذا العلم فكان جوابه (2) (إن عندنا "الجفر"، وما يدريهم ما الجفر؟ وعاء من أدم (3) ، فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذي مضوا من بني إسرائيل. وإن عندنا مصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ فيه مثل قرآنكم ثلاث مرات، والله ما فيه من قرانكم حرف واحد).
وإذا فهمنا علم الأنبياء وعلم الأوصياء، فما هي علوم بني إسرائيل؟؟.
والرسول عليه السلام وجد يوماً صحيفة من التوراة في يد عمر بن الخطاب، فغضب واحمر وجهه، وقال: "لو كان أخي موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني" . فماذا في جلد "الديناصور" الذي يعجب به شيخ السوربون؟؟!! ...
وما هو العلم الذي نشأ في المدينة حول "الصادق"؟ وما هي السيمياء التي يعشقها أستاذ السوربون؟ لماذا لا يُطلعنا عليها، فنزدد علماً أو جهلاً؟؟.
وأخيراً كان هناك جاسوس إسرائيلي، في بلد عربي اسمه "كوهين"، استلم الإذاعة، وكانت هوايته المفضلة شتم "الرجعية" صباح مساء، كما كان يؤمن بالفكر النقدي، ومارس هوايته سنوات ثم سقط، وله أخ في مصر كان يفعل الشيء نفسه، اسمه (ليفي)، واسمه العربي (وحيد السعداوي) كان يشرف على برامج إذاعية، وكان يسب الرجعية بلا انقطاع !
__________
(1) ... التراث أم شيخ الرجعية والحلولية ؟
(2) ... أصول الكليني ص 146.
(3) ... جلد.
أركون والعلمانية :
(28/40)
حينما يكون المتحاوران علمانيين يعجب الإنسان كيف تحوّر وتموّه الحقائق. لنستمع أولاً للمندوب العلماني وهو يسأل أركون: (1) (من منطلق تفسيرك لموضوع الصحوة الإسلامية هناك استنتاج رئيسي مفاده: أن الأجيال والقوى الناهضة تحاول استغلال الدين كغطاء لحركتها السياسية، ألا ترى في ذلك تحميلاً للدين فوق طاقته، وتجاوزاً لرسالته؟ .
جواب أركون: إن هذا تزييف للدين وابتعاد عن المقصود الأسمى منه، لأن المقصود الأسمى من الدين معرفة الله، والديانة تكون مناجاة العبد لربه، وهذه المناجاة تكون: في الصلاة، في الحج، تكون في الصيام، تكون في الفروض الخمسة ... أدافع عن التفريق بين مستوى الحياة الدينية –كما ذكرت- ومستوى الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو ما يمكن أن نسميه الاتجاه أو الوضع العلماني الدنيوي، يجب أن نفصل بين هذين المستويين. هناك تيار قوي يقول إن الإسلام: دين، ودولة، ودنيا. وعندي أن هذا خلط بين مستويات مختلفة من المعاني، والقيم، ومن الوظائف ... هناك –للأسف- خلط بين الدين والدنيا والدولة، مع أن الفكر المعاصر والنقد العلمي المعاصر يدلان على أن تلك الاتجاهات أو تلك الأوضاع بين الدين والدولة يجب أن تُميز ... ).
هذه هي العلمانية، والرجل يجاهر ويفاخر بها، ثم يعود ليصف نفسه بأنه المدافع عن الإسلام والمتحدث باسمه، والذي لا يفوت مؤتمر في مشرق الأرض أو مغربها إلا ويحضره، ثم يلوك مثل هذا الكلام، ويدعي بأن القرآن يحوي العلمانية ويشتمل عليها، لكنه لا يقول مطلقاً في أي آية من كتاب الله وجدها؟؟ !!.
وفي الختام يرفض الرجل أن يقر بأن تغيراً حدث في حال المسلمين، وعلى الناس أن يقنعوه بذلك، لأنه لا يتمنى ذلك ولا يريده، وهو عاجز عن التعليل)) ا.هـ كلام الدكتور السامرائي –وفقه الله- من كتاب: (الصحوة الإسلامية في عيون مختلفة، ص 49-56).
__________
(1) ... كل العرب ص 8-9.
(28/41)
قلت: ومن أراد الزيادة عن فكر (محمد أركون) فليرجع إلى الدراسة القيمة التي عملها الأستاذ محمد بريّش عن فكره ونشرها على حلقات في مجلة (الهدى) المغربية:
- الحلقة الأولى: مدخل الدراسة في العدد 13، جمادى الأولى، 1406هـ يناير فبراير 1986 (ص 28-33).
- الحلقة الثانية: من هو محمد أركون، في العدد 14، رمضان ذو العقدة، 1406هـ ، ماي- يوليو 1986، ص 23-43.
- الحلقة الثالثة: لماذا محمد أركون ؟ العدد 15، ربيع الثاني ، 1407هـ، 1986م، ص 42-64.
- الحلقة الرابعة: ماذا يريد محمد أركون؟ أو (علمنة الإسلام –الجزء الأول- على عتبة المشروع). العدد 16/17/18، صفر –ربيع الأول- رجب ، 1408هـ ، أكتوبر 1987- 1988م، ص 20-36.
وليرجع أيضاً إلى كتاب (حوار مع علي حرب، نصر حامد أبو زيد، محمد أركون) للأستاذ عمر عبد الله كامل.
وإلى كتاب (الفكر العربي والفكر الاستشراقي بين د. محمد أركون ود. أدوارد سعيد) للدكتور نعمان السامرائي.
وليرجع –أيضاً- إلى مقال بعنوان "محمد أركون ومشروعه النقدي" للأستاذ محمد بوراس، منشور في مجلة البيان، العدد 179.
وإلى مقال "تناقضات مشروع محمد أركون الفكري" للدكتور عاصم حمدان. مجلة "أهلاً وسهلاً"، عدد أكتوبر 2001م، ص 14-16.
(28/42)
::::: المجموعة الخامسة :::::
نظرة شرعية في أدب الدكتورة سعاد الصباح
تعريف بالدكتورة سعاد الصباح وبمؤلفاتها ونشاطاته
- هي الشاعرة الدكتورة سعاد بنت عبد الله المبارك الصباح من الأسرة الحاكمة بالكويت.
- ولدت عام 1942م في مدينة البصرة بالعراق.
- متزوجة من الشيخ عبد الله المبارك الصباح، الذي توفي بعد غزو العراق للكويت.
- حصلت على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة القاهرة عام 1972م.
- حصلت على الدكتوراه في التنمية والتخطيط من جامعة ساري ببريطانيا عام 1981م.
- عضوة في عدة مجالس ومراكز منها :
- عضو مجلس أمناء اللجنة التنفيذية في منتدى الفكر العربي (عمان).
- مؤسسة وعضو في مجلس أمناء اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، (القاهرة).
- عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة العالمية للنساء المسلمات!
- عضو الاتحاد العالمي لاقتصاديات الطاقة.
- عضو مؤازر لمركز دراسات الوحدة العربية (بيروت).
- عضو اللجنة التنفيذية لجمعية (أوليف بادن) الدولية.
- عضو في مركز الدراسات العبرية في جامعة اليرموك.
- عضو مجلس إدارة مشروع بحوث الشرق الأوسط والمعلومات –واشنطن.
- عضو اللجنة التنفيذية بالمجلس العربي للطفولة.
- عضو المجلس الاستشاري لمنظمة تخطيط السكان في الوطن العربي التابعة للأمم المتحدة – لندن.
- حاضرت في العديد من الجامعات العربية والأجنبية، وشاركت في المؤتمرات العربية والعالمية عن مشكلات الوطن العربي والشرق الأوسط.
- متخصصة في اقتصاديات التنمية والنفط وتخطيط الموارد البشرية، ولها العديد من الدراسات والأبحاث والكتب في هذه المجالات، منها :
1- التخطيط والتنمية في الاقتصاد الكويتي ودور المرأة (لندن 1983).
2- الكويت: أضواء على الاقتصاد الكويتي (لندن 1985).
3- أوبك بين تجارب الماضي وملامح المستقبل، (لندن1986).
4- السوق النفطي الجديد، السعودية تسترد زمام المبادرة (لندن، 1986).
(29/1)
5- المرأة الخليجية ومشاركتها في القوى العاملة، (لندن، 1987م).
6- أزمة الموارد في الوطن العربي (بيروت، 1989م).
- لها عدة دواوين شعرية منشورة أهمها:
1- أمنية: (القاهرة، 1971).
2- إليك يا ولدي: (القاهرة، 1982).
3- فتافيت امرأة: (بغداد، 1986).
4- في البدء كانت الأنثى: (لندن، 1988). (بيروت1994).
5- حوار الورد والبنادق: (لندن، 1988).
6- برقيات عاجلة إلى وطني.
7- قصائد حب: (القاهرة 1992).
8- امرأة بلا سواحل: (القاهرة 1994).
9- خذني إلى حدود الشمس: (القاهرة 1998 ط2).
10- القصيدة أنثى والأنثى قصيدة: (الكويت 1999).
-وقد صدر لها كتابان:
1- هل تسمحون لي أن أحب وطني (القاهرة 1992): وهو عبارة عن مقالات عن أزمة الخليج.
2- حقوق الإنسان في العالم المعاصر (الكويت 1999ط 3) (1) .
- نظراً لوجاهة الدكتورة وثرائها فإنها تملك داراً للنشر باسمها (دار سعاد الصباح) أقامتها في قصرها القديم بجاردن ستي بالقاهرة، وهي تنشر خلالها دواوينها ومؤلفاتها، إضافة إلى ما تستحسنه من مؤلفات الآخرين مما يوافق ميولها! (2) .
ظاهرة تهييج النساء في شعر الدكتور سعاد الصالح :
من يقرأ دواوين الدكتور لا شك سيلاحظ تلك النغمة المتكررة التي تظهر بوضوح في مقدمات وقصائد تلك الدواوين عن قضية المرأة واضطهادها وظلمها في عالمنا العربي، حيث لا يُسمح لها ببث مكنونات نفسها، وأحاسيسها وعواطفها أمام الآخرين، وأن الشاعرة لأجل هذا تود التمرد على هذا الكبت من خلال التصريح بحبها ونشرها لقصائد الغزل بمن تحبه، بعيداً عن تسلط (القبيلة)! التي لا ترتضي مثل هذا إلا من (الذكور)!
__________
(29/2)
(1) ... وهو كتاب يعرض بنود وثائق الإنسان في العالم، مع إحسان للظن بها! وقد وقعت الدكتورة في زلة عند عرضها (لحقوق الإنسان في الإسلام) عندما زعمت أن الإسلام يساوي بين الناس جميعاً: (دونما تفريق بينهم على أساس الانتماء الديني) (ص19) !! وهذا جهل بشريعة الله التي مايزت بين المسلمين والكفار في أحكام كثيرة – لا مجال لعرضها الآن، وهي مما لا تخفى على مسلم، قال تعالى (أم نجعل المتقين كالفجار) فدين الإسلام هو (دين العدل) الذي يضع كل إنسان في مكانه، لا (دين المساواة)، كما تزعم الدكتورة.
(2) ... استفدت الترجمة من: مجلة الفيصل (العدد 206 ص 118)، وكتاب "الدكتورة سعاد الصباح" للدكتور مكي محمد سرحان، وكتاب "قراءات في نقد اليسار العربي" لحسين معلوم، وديوانها "قصائد حب"، و"معجم البابطين" (2/436)، و"أدباء وأديبات من الخليج العربي" لعبد الله الشباط (ص 246).
وقد وقعت الدكتورة في الكثير من (التهويل) الذي لا يوافق الواقع، إضافة إلى أنها قد تجاوزت في عباراتها (الثورية) تلك إلى ما لا يجوز لها الوقوع فيه.
ولنستمع إلى شيء من أقوالها تبين ما قلته:
1-تقول الدكتور في مقدمة ديوانها (فتافيت امرأة) في قصيدة بعنوان (فيتو.. على نون النسوة)!
(يقولون: إن الكتابة إثم عظيم فلا تكتبي. وإن الصلاة أمام الحروف.. حرام فلا تقربي) (1) .
إلى أن تقول: (وها أنذا.. قد كتبتُ كثيراً، وأضرمت في كل نجم حريقاً كبيراً، فما غضب الله يوماً عليَّ، ولا استاء مني النبي) (2) .
وفي هذا النقل من الدكتورة تجاوزات كثيرة وانحرافات خطيرة:
(29/3)
أولاً: أنها اتهمت الآخرين بأنهم يقولون بأن الكتابة بالنسبة للمرأة (إثمٌ عظيم)، وفي هذا افتراء عليهم، حيث لم يقل بهذا القول، وهو منع النساء من الكتابة سوى أفراد من البشر ظنوا أن المرأة حين تتعلم الكتابة سينفتح أمامها باب عظيم من أبواب الفتنة، حيث ستقرأ وتكتب ما لا يجوز قراءته وكتابته، فلهذا قرروا منعها من الكتابة، واختاروا عدم جوازه لها، مخالفين بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتهر في الباب كتاب الشيخ نعمان الآلوسي المسمى (الإصابة في منع النساء من الكتابة) (3) !
ولكن هذا الرأي الشاذ مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعليم المرأة؛ وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للشفاء بنت عبد الله –رضي الله عنها- التي كانت ترقي من النملة (4) : "علميها حفصة، كما علمتيها الكتابة".
قال الشيخ الألباني –رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: (في هذا الحديث فوائد كثيرة، أهمها اثنتان:
الأولى: ...
__________
(1) ... فتافيت امرأة (16).
(2) ... فتافيت امرأة (16).
(3) ... مخطوط في مكتبة الأوقاف ببغداد (انظر فهرس مخطوطاتها 1/383).
(4) ... هي قروح تخرج في الجنب.
والأخرى: مشروعية تعليم المرأة الكتابة. ومن أبواب البخاري في (الأدب المفرد) (رقم 1118): (باب الكتابة إلى النساء وجوابهن). ثم روى بسنده الصحيح عن موسى بن عبد الله قال: (حدثتنا عائشة بنت طلحة قالت: قلت لعائشة –وأنا في حجرها، وكان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها، وكان الشباب يتأخوني فيهدون إلي، ويكتبون إليّ من الأمصار، فأقول لعائشة- يا خالة هذا كتاب فلان وهديته. فتقول لي عائشة: أي بنيّة! فأجيبيه وأثيبيه، فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك، قالت: فتعطيني).
(29/4)
قلت: وموسى هذا هو ابن عبد الله بن إسحاق بن طلحة القرشي، روى عن جماعة من التابعين، وعنه ثقتان، ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل (4/1/150) ومن قبله البخاري في (التاريخ الكبير (4/287) ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقد ذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال الحافظ في (التقريب): (مقبول). يعني عند المتابعة، وإلا فهو لين الحديث.
وقال المجد ابن تيمية في (منتقى الأخبار) عقب الحديث: (وهو دليل على جواز تعليم النساء الكتابة).
وتبعه على ذلك الشيخ عبد الرحمن بن محمود البعلبكي الحنبلي في (المطلع) (ق107/1)، ثم الشوكاني في (شرحه) (8/177)، وقال: (وأما حديث "لا تعلموهن الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، وعلموهن سورة النور" فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على من يخشى من تعليمها الفساد).
قلت (القائل الألباني رحمه الله): وهذا الكلام مردود من وجهين:
الأول: أن الجمع الذي ذكره يُشعر أن حديث النهي صحيح، وإلا لما تكلف التوفيق بينه وبين هذا الحديث الصحيح. وليس كذلك، فإن حديث النهي موضوع كما قال الذهبي. وطرقه كلها واهية جداً، وبيان ذلك في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) رقم (2017)، فإذا كان كذلك فلا حاجة للجمع المذكور، ونحو صنيع الشوكاني هذا قول السخاوي في هذا الحديث الصحيح (إنه أصح من حديث النهي)! فإنه يوهم أن حديث النهي صحيح أيضاً.
والآخر: لو كان المراد من حديث النهي من يخشى عليها الفساد من التعليم لم يكن هناك فائدة من تخصيص النساء بالنهي، لأن الخشية لا تختص بهن، فكم من رجل كانت الكتابة عليه ضرراً في دينه وخلقه، أفينهى أيضاً الرجال أن يتعلموا الكتابة؟! بل وعن تعلم القراءة أيضاً لأنها مثل الكتابة من حيث الخشية!
(29/5)
الحق أن الكتابة والقراءة نعمة من نعم الله تبارك وتعالى على البشر كما يشير إلى ذلك قوله عز وجل: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم) وهي كسائر النعم التي امتن الله بها عليهم، وأراد منهم استعمالها في طاعته، فإذا وجد فيهم من يستعملها في غير مرضاته، فليس ذلك بالذي يخرجها عن كونها نعمة من نعمة، كنعمة البصر والسمع والكلام والكلام وغيرها، فكذلك الكتابة والقراءة، فلا ينبغي للآباء أن يحرموا بناتهم من تعلمها شريطة العناية بتربيتهن على الأخلاق الإسلامية، كما هو الواجب عليهم بالنسبة لأولادهم الذكور أيضاً، فلا فرق في هذا بين الذكور والإناث.
والأصل في ذلك أن كل ما يجب للذكور وجب للإناث، وما يجوز لهم جاز لهن ولا فرق، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال"، رواه الدارمي وغيره، فلا يجوز التفريق إلا بنص يدل عليه، وهو مفقود فيما نحن فيه، بل النص على خلافه، وعلى وفق الأصل، وهو هذا الحديث الصحيح، فتشبث به ولا ترض به بديلاً، ولا تصغ إلى من قال:
ما للنساء وللكتابة ... . والعمالة والخطابة .
هذا لنا ولهن منا ... . أن يبتن على جنابة !
فإن فيه هضماً لحق النساء وتحقيراً لهن، وهن كما عرفت شقائق الرجال. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف والاعتدال في الأمور كلها) (1) . انتهى كلام الألباني –رحمه الله-.
__________
(1) ... سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني (1/295-297)، وللشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادي رسالة مطبوعة بعنوان (عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان).
ثانياً: من الملاحظات على الدكتورة: قولها بأنها قد كتبت كثيراً (فما غضب الله عليها، ولا استاء منها النبي صلى الله عليه وسلم).
وهذا تألٍ على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أدراها بأن الله لم يغضب عليها؟!
(29/6)
فالدكتورة قد شابهت بقولها هذا قول من قال: (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودةً) فرد الله عليهم بقوله: (قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون).
أفتقولين –يا دكتورة- على الله ما لا تعلمين ؟!
إن كنت ظننت أن الله لم يغضب عليك بسبب توالي نعمه الدنيوية عليك من مالٍ وجاه، فهذا –والله- ظن من لم يعرف سنن الله في خلقه، لأن الله قد يُنعم على أعدائه النعم المتواترة استدراجاً منه لهم، كما قال سبحانه: (أيحسبون أنما نمدهم به من مالٍ وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)، وقال تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى، أن رءاه استغنى).
فالحذر الحذر يا دكتورة من مكر الله، (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون). ولا تغتري بما أنت فيه من نعم دنيوية، وتنسبي ذلك إلى رضا الله عنك، وأنت ترتكبين التجاوزات في أشعارك. فإنه لا ارتباط بين الاثنين، كما سبق. بل على المرء أن يقيس أعماله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقتها فليحمد الله على فضله، وإن خالفتها فليراجع نفسه، ولينته عن ذنوبه.
2-تقول الدكتورة: (أنا الخليجية الهاربةُ من كتاب ألف ليله ووصايا القبيله وسُلطة الموتى) (1) .
قلت: أما كتاب (ألف ليلة وليلة) فهو كتاب في الأدب والقصص الشعبي، قد ألفه صاحبه –أو أصحابه على خلاف في ذلك- زمن المماليك، وفيه الكثير من الكذب والافتراءات على خلفاء المسلمين- لا سيما هارون الرشيد-، خلاف ما فيه من المواقف والعبارات البذيئة، والإغراق في قصص الجن والسحرة (2) .
__________
(1) ... ديوان فتافيت امرأة (51).
(2) ... انظر (كتب حذر منها العلماء) لمشهور حسن سلمان (2/57-62).
ولكن يهمنا منه ما تُلمح إليه الدكتورة، وهو موقفه من المرأة، حيث صورها في صورة الجارية التي تزف إلى الرجل ليستمتع بها ثم يقتلها، وذلك في
(29/7)
القصة الرئيسة لهذا الكتاب، وهي قصة الملك شهريار الذي يقتل كل جارية تُزفُ إليه بعد ما يستمتع بها، ما لم تنفذ شرطه.
فالدكتورة –هداها الله- قد اتخذت من شهريار رمزاً لكل الرجال في عصرها، وهذا مخالف للواقع، ومخالف لشرع الله الذي يعامل المرأة أكرم معاملة، ويحرص على أن تنال حقوقها كاملة، لأنها شقيقة الرجال كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم (1) .
فحديث الدكتورة قد يصدق على بعض الشواذ من الرجال الذين اتخذوا من المرأة مجرد لعبة وجارية يقضون منها وطرهم ثم يُلقون بها ويلفظونها لفظ النواة، ولكنه لا يصدق على عامة الرجال، لا سيما الذي يعاملون المرأة كما أمرهم الله –عز وجل-
أما قولها: (وصايا القبيلة وسلطة الموتى) فلم تبين ما تقصد منها؛ لأن المسلم عليه أن يتبع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله وأفعاله، لا أن يتبع (وصايا القبيلة) أو (سلطة الموتى)!
فليت الدكتورة بينت مرادها لكي لا تذهب بالقارئ الظنون، فيظن السوء بالدكتورة.
3-تقول الدكتورة: (أنا الخنجر البحريُ الأزرق الذي لن يستريح حتى يقتل الخرافة ... ) (2) !
ونحن مثل الدكتورة لن نستريح حتى نقتل الخرافة! فالخرافة عندنا هي أن يُعَبَّد البشر لغير خالقهم، فيعظمون لأجل ذلك الأحجار، والأصنام، أو المخلوقات، ويصرفون لهم شيئاً من الأقوال أو الأفعال التي لا تجوز إلا لله –عز وجل-
هذه هي الخرافة التي أُنزلت الكتب وأُرسلت الرسل لقتلها وتحرير الناس من أسرها، وإخراجهم من ظلماتها إلى نور التوحيد.
__________
(1) ... في قوله صلى الله عليه وسلم "إنما النساء شقائق الرجال". أخرجه أحمد (25796)، والترمذي (113)، وأبو داود (236) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2333).
(2) ... ديوان فتافيت امرأة (55).
فهل خرافة الدكتورة كخرافتنا ؟!
أم أن لها مفهوماً آخر عندها ؟!
المعنى في بطن (الشاعرة)!
(29/8)
4-وتقول: (أيها السيدُ.. إني امرأة نفطية تطلع كالخنجر من تحت الرمال تتحدى كتب التنجيم، والسحر..وإرهاب المماليك..) (1) .
قلت: نحن مثل الدكتورة نتحدى بل نحارب كتب التنجيم والسحر، لأنها من الشعوذة والخرافة التي جاء الإسلام بهدمها، بل كفَّر منتحليها (2) .
ولكن: هل تعني الدكتورة ما نعينه من هذه الدلالات ؟! أم أنها تعني أمراً آخر؟! العلم في (بطن الشاعرة) كما سبق، لأنها اتخذت المذهب الرمزي منهاجاً لها في كثير من أقوالها التي لا تود البوح بها.
5-وتقول: (أخرج من بطن الخرافة وأسنان شيخ القبيلة.. وفناجين القهوة العربية، وأخلع الحذاء الصيني الضيق. من عقلي .. ومن قدمي..وأذهب معك إلى آخر الحرية..) (3) .
قلت: قد سبق ترديد الدكتورة لمثل هذه الألفاظ (الخرافة) (القبيلة) ولكنها لا تبين ما تقصد بها، والمسلم يرفض أن يكون أسيراً (للخرافة) أو (شيخ القبيلة)، بل هو أسير التعاليم الإسلام؛ لأن الله قد أمره بذلك، وهو إنما يفعل هذا ابتغاء رضوان الله.
أما إن كانت الدكتورة تقصد (بالخرافة) و(شيخ القبيلة) تعاليم الشريعة الإسلامية فبئس ما أوحى به شيطانها حيث أوقعها في المهلكة، كما سبق.
ونحن لا نُلزم الدكتورة بما لم يصدر منها (تصريحاً).
6-وتقول : (هذي بلاد لا تريد امرأةً تمشي أمام القافلة..) (4) .
__________
(1) ... ديوان فتافيت امرأة (37) .
(2) ... انظر حكم هذه الأعمال في: كتاب (تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد) للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ –رحمه الله-. (ص333 وما بعدها)، ورسالة: (التنجيم والمنجمون وحكمهم في الإسلام) لعبد المجيد المشعبي.
(3) ... ديوان قصائد حب (105).
(4) ... ديوان خذني إلى حدود الشمس (7).
(29/9)
قلت: لا مانع أن تمشي المرأة أمام القافلة ما دامت ملتزمة بالحجاب الشرعي! أما إن عنت الدكتورة بأمام القافلة أن تكون رئيسة أو متصدرة لأهل القافلة، فقد قال صلى الله عليه وسلم "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (1) . (وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
7-وتقول الدكتورة: (قد كان بوسعي، -مثل جميع نساء الأرض- مغازلة المرأة.
قد كان بوسعي،
أن أحتسي القهوة في دفئ فراشي.
وأمارس ثرثرتي في الهاتف.
دون شعور بالأيام.. وبالساعات.
قد كان بوسعي أن أتجمل..
أن أتكحل.
أن أتدلل.
أن أتحمص تحت الشمس.
وأرقص فوق الموج.
ككل الحوريات .
قد كان بوسعي
أن أتشكل بالفيروز، وبالياقوت،
وأن أتثنى كالملكات.
قد كان بوسعي أن لا أفعل شيئاً
أن لا أقرأ شيئاً.
أن لا أكتب شيئاً
أن أتفرغ للأضواء .. وللأزياء.. وللرحلات..
قد كان بوسعي
أن أرفض
أن لا اغضب
أن لا أصرخ في وجه المأساة
قد كان بوسعي،
أن أبتلع القمع
وأن أتأقلم مثل جميع المسجونات
قد كان بوسعي
أن أتجنب أسئلة التاريخ
وأهرب من تعذيب الذات
قد كان بوسعي
أن أتجنب آهة كل المحزونين
وصرخة كل المسحوقين
وثورة آلاف الأموات
لكني خنت قوانين الأنثى
واخترت مواجهة الكلمات..) (2)
قلت: وهذا الكلام من الدكتورة لا يحتاج إلى تعليق، وقد سبق مثله مما يصب في موضوع تهييج النساء المسلمات بالكلمات العاطفية التي تضر ولا تنفع.
8-وتقول الشاعرة عن حبيبها (الرجعي)!
(يا هولاكو الأول.. يا هولاكو الثاني. يا هولاكو التاسع والتسعين.
لن تدخلني بيت الطاعة، فأنا امرأة .. تنفر من أفعال الأمر) (3) .
9-وتقول أيضاً:
__________
(1) ... أخرجه البخاري.
(2) ... ديوان في البدء كانت الأنثى (15-23).
(3) ... الديوان السابق (23).
(ليست الديمقراطية أن يقول الرجل رأيه في السياسة دون أن يعترضه أحد الديمقراطية أن تقول المرأة رأيها في الحب.. دون أن يقتلها أحد !!) (1)
(29/10)
10-وتقول –أيضاً-: (كل شيء من حولنا يتساقط.. الفرح.. والطفولة..
ودفاتر الشعر،
وشجر الأحلام.
كل شيء يضيق.
حتى مساحة البحر.
ومساحة الحرية
حتى الشمس في هذا العصر الظلامي
أخذوها من بيتها ..
وحكموا عليها بالسجن خمسة عشر عاماً
بتهمة توزيع رسائلها الضوئية
على نوافذ المواطنين..
حتى ضوء القمر
ألصقوا صوره على كل جدران المدينة
وطلبوا إلقاء القبض عليه
حيا.. أو ميتا ..
حتى سنابل القمح
وضعوها في الإقامة الجبرية
ومنعوا العصافير من زيارتها
حتى كلامنا في المقهى .. أو على الهاتف ..
مسجل على أشرطة
ومحفوظ في أرشيف المباحث العامة ..
إنهم يحاولون أن يغتالوا القصائد
ويحرقوا غابات الحب الخضراء
ويستأصلوا رجولة الرجال
وأنوثة النساء
ولكننا ..
سنتحداهم بكل طاقاتنا عن الحب
لأن الحب وحده ..
هو الذي سيطرد جحافل البرابرة
ويوقف هجمة عصور الإنحطاط.. ) (2) .
11-وتمارس الدكتورة في مقدمة ديوانها (خذني إلى حدود الشمس) مهمة تهييج النساء المسلمات ودعوتهن بالكلمات العاطفية الرنانة للتمرد على أوضاعهن لكي يتابعنها على ما هي فيه من تحرر مما تراه من قيود (الرجعية) التي تكبلها بالأوامر والنواهي، وقد صرحت الدكتورة –وهي قليلة التصريح!- بأن الحجاب الشرعي يعد من هذه القيود التي كبلت المرأة في زمان مضى !! –والعياذ بالله- إلى أن استطاعت التخلص منه بموجة التحرير التي هبت على معظم بلاد الإسلام في القرن الماضي.
__________
(1) ... الديوان السابق (53).
(2) ... الديوان السابق (139-142).
وهذا مما تباركه الدكتورة وتطالب بالمزيد منه! تقول الدكتورة المتحررة من الحجاب: (هذه قصائد حب لا حدود لها.. إنها محاولة لهدم كل الحيطان الحجرية التي تفصل بين الأنثى وأنوثتها.. بين المرأة وبين حقها الطبيعي في أن تتنفس.. وتتكلم.. وتعيش.
(29/11)
وإذا كان حق المرأة في الكلام العادي حقاً مرفوضاً، ومكروهاً، ومستهجنا في المجتمعات المتضخمة الذكورة.. فإن الكلام عن الحب في تلك المجتمعات يعتبر فضيحة كبرى، وجريمة موصوفة.
فالصوت الأنثوي، كان خلال مراحل تاريخية طويلة مرتبطاً بفكرة العار، والعرض، والشرف الرفيع، حتى وصل الأمر ببعض الغلاة والمتزمتين إلى اعتبار صوت المرأة عورة لا يجوز كشفها للسامعين.
ولقد قاتلت المرأة طويلاً لاستعادة صوتها المحجوز عليه، والخروج من مرحلة الخرس الطويلة، حتى تمكنت من إعادة تشغيل حنجرتها بعدما غطاها الصدأ.. نتيجة لعدم التدريب، وقلة الاستعمال.
إن الحجر على صوت المرأة.. ووضعه (تحت الحراسة).. جعل المجتمع العربي ينطق بصوت واحد.. هو صوت الرجل بكل خشونته، وملوحته، ونبرته المدنية.
وهكذا لم تعرف موسيقانا (نصف الصوت) أو (ربع الصوت) وظلت السمفونية التي عزفها كورس الرجال وحدهم، (سمفونية ناقصة).
في بدايات هذا القرن، بدأت المرأة تتخلص شيئاً فشيئاً من الحجاب المفروض على وجهها..
ولكن الحجاب المفروض على (صوتها).. لم يتزحزح سوى سنتمترات قليلة.. وظلت المرأة رغم انفتاح أبواب العلم والمعرفة أمامها، واتساع أفقها الثقافي، تعبر عما يدور بعالمها الداخلي بنصف لغة .. ونصف صوت.. ونصف حرية.
فالمجتمع العربي لا يزال، رغم التحولات التي طرأت على بنيته، يعتبر الصوت النسائي مؤامرة على دولة الرجال وسلطتهم.. ويعتبر المرأة (الفصيحة) ظاهرة شاذة أو مرضية.. لابد من معالجتها بالعقاقير والمضادات الحيوية.
وهكذا ظل فم المرأة مختوماً بالشمع الأحمر، وغير صالح إلا لارتشاف الماء، ومضغ الطعام.
ومثل هذا الامتياز تتمتع به جميع الحيوانات بشكل غريزي
إن لعبة الحب هي لعبة يقوم بها اثنان: رجل.. وامرأة.. فلماذا يلعب الرجل وحده بأوراق الحب.. دون أن يعطي الفرصة للمرأة لتشارك في اللعبة.. وتجرب حظها ؟..
(29/12)
لماذا يحق للرجل، حين تجتاحه عاصفة الحب أن يقول للمرأة: (أحبك).. ولا يحق لها، إذا بللتها أمطار الحب.. أن ترد عليه بلغة، ربما تكون أكثر حرارة وأعذب جرسا، وأشد صدقاً ؟؟
وإذا كانت المساواة البيلوجية غير ممكنة.. فلماذا لا نحقق المساواة (العاطفية) على الأقل، باعتبار الحب عاطفة إنسانية يشترك الذكر والأنثى.. ولا تحتمل الفصل العنصري أو الجنسي ؟
في هذه المجموعة الشعرية، أردت أن أحقق نوعا من (الاشتراكية العاطفية) بعيداً عن أي فكر إقطاعي.. أو قبلي.. أو احتكاري.. وأن استرد حقي الطبيعي كأنثى في نقل مشاعري إلى من أحبه.. تدون أي شعور بالنقص، أو بالاضطهاد، أو بالخروج على قواعد الأخلاق العامة (1) ..
فالحب الكبير، لم يكن في يوم من الأيام مناقضاً للقيم العليا، والأخلاق العامة.
إنه حق مشروع لا يختلف عن حق الأمواج في التكسر.. وحق الرعود في التفجر.. وحق العصافير في الغناء والزقزقة..
فلماذا لا يسمح لي أن أكون موجة.. أو رعداً أو عصفورة تغني على نافذة حبيبها.. دون أن تقتلها بواريد الصيادين؟
لقد تغزل الرجل بالمرأة منذ بدء التاريخ.. ولم يترك لها هامشاً صغيراً من الحرية يسمح لها بأن تتغزل به..
أي أن المبادة العاطفية كانت دائماً في يد الرجل.. بالإضافة إلى امتيازاته القانونية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية .
صحيح أن بعض النساء في تاريخنا الشعري قد كسرن هذا الاحتكار، كما فعلت الشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي، حين أعلنت أنها تعيش حالة عشق، وكشفت أوراقها الغرامية بكل شجاعة.
__________
(1) ... هذا لا يكفي يا دكتورة ! بل نريدك أن لا تخرجي عن شريعة الله!
إلا أن الغزل النسائي بشكل عام، ظل غزلاً خجولاً، ومتردداً وخائفاً من لعنة المجتمع.. وخناجر القبيلة.
(29/13)
فالمجتمع العربي، رغم كل مظاهر الحداثة والانفتاح الثقافي والحضاري على العالم، لا يزال يضع (الفيتو) على المرأة العاشقة، ويعتبرها امرأة ناشزة يشكل كلامها عن الحب، خادشاً للحياء العام وخطراً على الأمن القومي.
والسؤال الذي أود أن أطرحه هنا هو:
ما هي علاقة الأمن القومي بقلب المرأة، وأشواقها وأحلامها، وأحاسيسها الأنثوية الطبيعية والمشروعة؟
ثم أود أن أسأل:
لماذا لا يكون الرجل العاشق خطراً على الأمن القومي وقصائد الحب التي يكتبها تهديداً للسلام والأمن الاجتماعي؟
وإذا كنا نؤمن بالديمقراطية أساساً لأنظمتنا السياسية (1) ، فلماذا لا نطبق الديمقراطية على علاقتنا العاطفية أيضاً؟
ولماذا نطبق مبدأ التمييز الجنسي بين الرجل العاشق.. والمرأة العاشقة؟؟
وبعد، فهذه قصائد حب، أحاول بها أن أقيم (ديمقراطية عاطفية) يتساوى فيها الرجل والمرأة في حرية البوح، بحيث لا يحتكر الرجل وحده بلاغة الخطاب الأيروتيكي، ولا تبقى المرأة مجرد مستمعة لاسطوانة الحب التي يعزفها الرجل ليلاً ونهاراً.
إن لدى المرأة كلاماً عاطفياً مخزناً منذ آلاف السنين تريد أن تقوله ...
فاسمحوا لها أن تفجر ينابيعها الداخلية، وتطلق آلاف العصافير المحبوسة في صدرها.
اسمحوا لها أن تنزع الأقفال عن فمها، وتقول للرجل الذي تحبه: (أحبك).. دون أن تذبح كالدجاجة على قارعة الطريق.
اسمحوا لها، ولو لمرة واحدة في التاريخ أن تعرف معنى المساواة في الحب وتستنشق رائحة الحرية" (2) .
__________
(1) ... بل نؤمن بالإسلام! أما الديمقراطية فهي نظام جاهلي يقوم على تأليه البشر.
(2) ... ديوان قصائد حب (7-14).
المصطلحات (النصرانية) في دواوين الشاعرة :
(29/14)
من يطالع دواوين الشاعرة يجد أنها قد أكثرت من استخدام الرموز والمصطلحات المتعلقة بالنصارى، كألفاظ: (الصليب) و(الكنيسة) و(الناقوس) و(الأجراس) ونحو ذلك، وهذا مما يستغرب من شاعرة مسلمة أن تقع فيه وترضى لنفسها أن تتشبه بهؤلاء الكفرة في مصطلحات دينهم وعباداتهم، وهو أمر منكر ومحرم قد يهوي بفاعله في هاوية الكفر –والعياذ بالله- عندما يرتضي شيئاً من تلكم العبادات، أو يعتقدها –مع مخالفتها الصريحة للإسلام- كقضية صلب المسيح عيسى بن مريم –عليه السلام- مثلاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" (1) (2) .
فالنصارى لما زاغوا عن شريعتهم وحرفوها، اخترعوا بعض المظاهر الوثنية التي أقحمت في ديانتهم وحملوا الناس عليها.
(ومن مظاهر تحريف النصارى لعقيدتهم: أنهم يعتقدون أن المسيح عليه السلام قتل مصلوباً، لتخليص البشر من الخطيئة التي ارتكبها أبوهم آدم عليه السلام بأكله من الشجرة التي نهاه الله عنها، وزعموا أن هذه الخطيئة انتقلت من آدم إلى بنيه من بعده، فأصبح البشر كلهم مغضوباً عليهم ومبعدين من رحمة الله تعالى ! ولكن الله تعالى في المقابل، وبمقتضى رحمته، دبر للبشر طريقاً للخلاص من هذه الخطيئة، فتجسد في ابنه المسيح، فنزل وقُتل وصُلب فداء عن البشر! وتكفيراً لخطيئتهم) (3) .
ومن ها هنا انتشرت بين النصارى ألفاظ: (الخطيئة) و(التكفير) و(الصلب) و(الفداء) و(يسوع المخلص) وغيرها من الألفاظ المتعلقة بهذه العقيدة المحرفة.
__________
(1) ... أخرجه أبو داود وجود إسناده شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم) (1/236) وصححه الألباني في الإرواء (1269).
(2) ... لبيان تفاصيل أحكام التشبه بالكفار: انظر: رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) للشيخ ناصر العقل –حفظه الله-.
(3) ... رسالة (التدابير الواقية من التشبه بالكفار) للدكتور عثمان دوكوري (2/483).
(29/15)
ولكن: إن كان لأبناء النصارى عذر في التعلق بألفاظهم ومصطلحاتهم فما عذر الدكتورة (المسلمة) في تشبهها بهم، حتى وقعت فيما يعارض كتاب ربها معارضة صريحة –كما سيأتي- ؟!
في ظني –والله أعلم- أن الذي أوقع الشاعرة في هذا المضيق العفن هو متابعتها لأساطين الحداثة في البلاد العربية، الذين تتابعوا على هذا الأمر، لا سيما وكثير من متقدمي الحداثة هم ممن يدينون بالديانة النصرانية، كجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وجبرا إبراهيم جبرا، وغالي شكري، وخليل حاوي، وتوفيق صائغ، وغيرهم.
ولا شك بأن هؤلاء الحداثيين النصارى قد نشروا مصطلحات ديانتهم (المحرفة) في ثنايا أشعارهم (1) ، فجاء أغمار المسلمين كالدكتورة فتلقفوها عنهم دون تمحيص، ظانين بسذاجة وجهل أنها من شروط الحداثة!
ومن ذلك على سبيل المثال: قول الشاعر توفيق زياد: (على الصلبان منسية بلادي زهرة الدنيا وعود الند) (2)
وقول البياتي: (وكأن يسوع معكم يعود إلى الجليل بلا صليب) (3) .
وقول السياب: (غنيت تربتك الحبيبة وحملتها، فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه) (4) .
وقول صلاح عبد الصبور: (شعرت بأنني أصبحت قريباً وأن رسالتي هي أن أقدسكم) (5) .
والأمثلة على هذا كثيرة.
المصطلحات (النصرانية) في شعر الدكتورة:
فمن ذلك قولها: (يا زمان القبح.. من أين يجيئ المبدعون؟ في بلادي، وعلى أي صليب من دموع يولدون؟) (6) .
وقولها: (أصبح شاي الساعة الخامسة نعمتي .. ولعنتي..
بسمتي .. ودمعتي..
واحتي .. وورطتي..
أصبح الصليب الذي أنزف عليه
والكرباج الذي يلسعني على ظهري) (7) .
وقولها :
(فإن جرحوني
__________
(1) ... بعض الباحثين يرى أن هؤلاء أخذوا ذلك عن شعراء الحداثة الغربيين، كأليوت، الذي أولعوا بالنقل عنه.
(2) ... ديوانه (ص21).
(3) ... ديوانه (1/213).
(4) ... ديوانه (ص123).
(5) ... ديوانه (ص178).
(6) ... ديوان فتافيت امرأة (165).
(29/16)
(7) ... المصدر السابق (118).
فأجمل ما في الوجود غزال جريح
وإن صلبوني. فشكراً لهم
لقد جعلوني بصف المسيح) (1) .
قلت: وفي هذا المقطع وقعت الدكتورة في ماكنا نخشاه، وهو متابعة النصارى في عقيدتهم الباطلة التي ردها الله في كتابه، وهي قولهم بصلب المسيح –عليه السلام- وهو ما رده الله عليهم وكذبهم فيه، بقوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍ منه ما لهم به من علمٍ إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً) (2) .
وقولها :
(أنا قصيدتك المكتوبة بحبر الأنوثة
أنا عصفورتك
أنا جزيرتك
أنا كنيستك
فاسمع أجراس حنيني) (3) .
وقولها :
(أسميك .. حتى أغيظ النساء – "حبيبي"
وحتى أغيظ عقول الصفيح –
"حبيبي"
أعرف أن القبيلة تطلب رأسي وأن الذكور سيفتخرون بذبحي
وأن النساء سترقص تحت صليبي..) (4) .
وقولها :
(أصرخ: أحبك
فتخرج المدينة برجالها ونسائها ..
وشيوخها وأطفالها ..
لاستقبالك .
وتنطلق الحمائم
وتعزف موسيقى الجيش
وتمتلئ راحات الأولاد
بأكياس الحلوى ..
وتضيئ المآذن
وتقرع أجراس الكنائس.
معلنة تتويجك
ملكاً على قلبي) (5)
ومن ذلك قولها :
(أصبح شاي الساعة الخامسة
ناقوساً يضرب في ضلوعي
وعبادة يومية أثابر عليها
ويوم لا يبقى من العبادات سوى أنت ..
ولا يبقى من المعابد سوى صدرك ..) (6) .
والناقوس –كما نعلم- هو من شعارات النصارى الظاهرة، حيث يدقونه تنبيها للناس ليحضروا إلى الكنيسة.
__________
(1) ... المصدر السابق (20).
(2) ... النساء 175-158، وليت الدكتورة هداها الله تراجع تفسير ابن كثير للآية السابقة لتعلم عقيدة المسلمين في قضية صلب عيسى –عليه السلام- التي تسربت إليها من (النصارى).
(3) ... المصدر السابق (59).
(4) ... ديوان في البدء كانت الأنثى (28).
(5) ... ديوان في البدء كانت الأنثى (118).
(6) ... ديوان فتافيت امرأة (117).
(29/17)
ويؤكد هذا ما جاء في حديث ابن عمر –رضي الله عنه- في الصحيحين في حديث بدء الأذان قال: "كان المسلمون حينما قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر –رضي الله عنه-: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال فناد بالصلاة" (1) .
قلت: وقد وقعت الدكتورة في هذا المقطع في زلة عظيمة وانحراف فاحش حين زعمت أنها تعبد حبيبها! وأن صدره أصبح كالمعبد الذي لم يبق سواه!
والعبادة كما نعلم لا ينبغي أن تكون إلا الله وحده لا شريك له. ولكن الدكتورة كما سلف كثيراً تتابع في هذا شياطين الحداثة في بلادنا، الذين ابتذلوا مصطلح (العبادة) كثيراً، فعبدوا غير الله في قصائدهم.
فمن ذلك –مثلاً- قول نزار قباني الذي تأثرت به الشاعرة كثيراً! (2) :
إنني أعبد عينيك فلا تنبئي بهذا الخبر (3)
وقوله عن نفسه :
مارست كل عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي (4) !
ومن ذلك قولها :
(الأوربيون أحرار في اختيار قديسيهم
وأنا حرة في اختيار قديسي.
هم يمارسون عبادتهم على طريقتهم
__________
(1) ... أخرجه البخاري (597)، ومسلم (788).
(2) ... حاولت الشاعرة نفي هذا التأثر بنزار، كما في المجلة العربية (عدد 126) و(عدد 133) ثم عادت لتقول في (العدد (137): (إن نزار مدرسة، ونصف الشعراء العرب نزاريون)! وقد رد عليها هذا التذبذب في الرأي الأستاذ أيمن ميدان في (العدد 143) بقوله: (إن القراءة النقدية الواعية لشعرها ترفض هذه النظرة التوافقية، وتقرر أن الشاعرة الكويتية سعاد الصباح ليست إلا عازف كمان في تخت نزار قباني الشعري)!
... قلت: وهذا ما يوضح سبب كثرة الحديث عن العلاقة بين الرجل والمرأة في دواوينها! وإن كانت على استحياء لم يفعله نزار.
(3) ... الأعمال الشعرية له (1/266).
(29/18)
(4) ... المصدر السابق (1/423).
وأنا أمارس عبادتي على طريقتي
هم مقتنعون بكرامات أوليائهم
وأنا مقتنعة بكراماتك..
هذا يوم قديسي الحب .. فالنتاين (1)
وسأذهب إلى معبدك أنت
لأقدم نذوري..
وأحرق بخوري..) (2) .
وقولها :
(وتشهد روحي مصلوبة.. وذاتي مهيأة للفناء
فللحب عشت، وللحب مت، وللحب هان عليّ الفداء) (3) .
قولها :
(وإذا القلب كعصفور جريح في الضلوع
صلبت آماله الحيرى على مرأى الجموع .
فبدا من يأسه يحمل آلام يسوع) (4) .
وقولها على لسان حبيبها واصفاً ريق ثغرها! أو نافورتها كما تقول!:
(لو رنا الورد إلى أنفاسها الحرى تبخر
أو دنا الراهب منها .. نسي الَّدير ليسكر) (5) .
انحرافات متنوعة (6) :
1-من ذلك قول الدكتورة :
(لماذا كلما ذهبت إلى (خان الخليلي)
أشتري لك كل التعاويذ الفرعونية
وكل الحجابات الشعبية..
التي ترد عنك
زمهرير الشتاء
وصقيع الأعين الزرقاء؟..) (7)
قلت: لا يرد زمهرير الشتاء ولا صقيع الأعين الزرقاء! سوى الله جل جلاله القائل: (وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو) (8) .
__________
(1) ... وهو ما يُسمى (عيد الحب)، وقد افتتن به بعض المسلمين –هداهم الله-. انظر لمعرفة تاريخ هذا العيد وحكمه في الإسلام نشرة صادرة عن دار ابن خزيمة بالرياض (عام 1421هـ) عن هذا العيد من تأليف الأخ الفاضل الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل –وفقه الله-.
(2) ... ديوان قصائد حب (138).
(3) ... ديوان أمنية (74) .
(4) ... المصدر السابق (114).
(5) ... المصدر السابق (80).
(6) ... أما ديوانها (أمنية) فقد أجاد الكاتب حمد القاضي في بيان ما فيه من انحرافات كثيرة، وذلك في مقاله عن الشاعرة في المجلة العربية (عدد شهر صفر 1414هـ) فليراجع.
(7) ... ديوان قصائد حب (62).
(8) ... سورة الأنعام، الآية: 17.
(29/19)
أما (التعاويذ الفرعونية) و(الحاجابات الشعبية) فهي أفعال شركية ابتدعها من آثر الدنيا على الآخرة ليبتز بها أموال الجهلة من الذين لا يفرقون بين الأسباب الشرعية لدفع الشر، كتلاوة القرآن أو الرقية، وبين الأسباب الشركية؛ كهذه التعاويذ والتمائم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى والتمائم والتِوَلة (1) شرك" (2) .
2-ومن ذلك: قولها عن حبيبها :
و(تعاليمك –يا مولاي- أحلى ما قرأت كل أوراقي التي أحملها في سفري) (3) .
قلت: بل كتاب الله عز وجل، ثم ذكره، هو أحلى وألذ ما يقرأه المسلم، وقد أمر الله المسلمين بتلاوة كتابه بقوله: (ورتل القرآن ترتيلا) (4) .
وأثنى سبحانه على (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) (5) ، وأمر بذكره في أشد الساعات كربا، وهي ساعة الحرب فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً) (6) .
3-ومن ذلك: قولها :
(يا حبيبي :
إنني دائخة عشقاً
فلملمني بحق الأنبياء) (7) .
قلت: إن كانت الدكتورة تعني بقولها (بحق الأنبياء) الحلف، فهو لا يجوز، لأنه حلف بغير الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (8) .
وقال: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" (9) .
وإن كانت الدكتورة تقصد التوسل بحقهم وجاههم –عليهم السلام- عند الله تعالى فهو –أيضاً- لا يجوز.
__________
(1) ... قال ابن مسعود –رضي الله عنه- راوي الحديث –في آخره-: (التولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والزوج إلى امرأته).
(2) ... صحيح الترغيب والترهيب للألباني (3457).
(3) ... ديوان فتافيت امرأة (39).
(4) ... سورة المزمل، الآية: 4.
(5) ... سورة آل عمران، الآية: 191.
(6) ... سورة الأنفال، الآية: 45.
(7) ... ديوان فتافيت امرأة (125).
(8) ... أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2952).
(9) ... متفق عليه .
(29/20)
(فالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه الأنبياء، أو بحق النبي، أو بجاه فلان، أو بجاه علي، أو بجاه أهل البيت كل هذا من البدع، والواجب ترك ذلك لكن ليس بشرك، وإنما هو من وسائل الشرك فلا يكون صاحبه مشركاً، ولكن أتى بدعة تنقص الإيمان وتضعف الإيمان عند جمهور أهل العلم، لأن الوسائل في الدعاء توقيفية، فالمسلم يتوسل بأسماء الله وصفاته كما قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (1) . ويتوسل بالتوحيد والإيمان كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد". فهذا توسل بتوحيد الله. وهكذا التوسل بالأعمال الصالحات كما في حديث أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم صخرة لما دخلوا الغار من أجل المطر أو المبيت فانطبقت عليهم صخرة عظيمة فلم يستطيعوا دفعها، فقال بعضهم لبعض: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعوا الله بصالح أعمالهم، فتوسل أحدهم ببره لوالديه فانفرجت الصخرة بعض الشيء، ثم توسل الآخر بعفته عن الزنا وأنه كان له بنت عم يحبها كثيراً فأرادها لنفسه فأبت عليه ثم إنها ألمت بها سنة وحاجة، فجاءت إليه تطلبه العون فقال: إلا أن تمكنيني من نفسك فوافقت على أن يعطيها مائة وعشرين ديناراً من الذهب، فلما جلس بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فخاف من الله سبحانه وقام عنها ولم يأت الفاحشة وترك لها الذهب وقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة بعض الشيء ولكن لا يستطيعون الخروج.
__________
(1) ... سورة الأعراف، الآية: 180.
(29/21)
ثم توسل الثالث بأدائه الأمانة وقال: إنه كانت عنده أمانة لبعض العمال تركها عنده فنماها وعمل فيها حتى صارت مالاً كثيراً من الإبل والبقر والغنم والرقيق فلما جاء صاحبها أداها إليه كلها كاملة فقال: يا ربي إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا) وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحات من أسباب الإجابة.
أما التوسل بجاه محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه فلان، أو بجاه الصديق، أو بجاه عمر، أو بجاه علي، أو بجاه أهل البيت، أو ما أشبه ذلك فهذا ليس له أصل بل هو بدعة، وإنما التوسل الشرعي أن يتوسل المسلم بأسماء الله وصفاته أو بإيمانه بالله فيقول: اللهم إني أتوسل إليك بإيماني بلك أو بإيماني بنبيك، أو بمحبتي لك، أو بمحبتي لنبيك عليه الصلاة والسلام فهذا طيب وهذه وسيلة شرعية طيبة، أو يتوسل بالتوحيد بأن يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد. كل هذا طيب، أو يتوسل إلى الله ببره لوالديه، أو بمحافظته على الصلوات، أو بعفته عن الفواحش، كل هذه وسائل طيبة بأعمال صالحة، هذا هو الذي قرره أهل العلم وأهل التحقيق من أهل البصيرة، أما التوسل بجاه النبي، أو بجاه فلان، أو بحق فلان فهذا بدعة كما تقدم بيان ذلك والذي عليه جمهور أهل العلم أنه غير مشروع، والله ولي التوفيق) (1) .
4-ومن ذلك قولها :
(أعطني سيفا
وخذ مني دواوين جميع الشعراء
أعطني عدلا..
وخذ مني تعاليم جميع الأنبياء.
أعطني خبزا..
فما يشبعني خبز السماء) (2) .
قلت: نعوذ بالله من الضلال !
__________
(1) ... مجموع فتاوى الشيخ ابن باز –رحمه الله- (7/129-131). نشر دار القاسم بالرياض.
(2) ... ديوان فتافيت امرأة (158).
(29/22)
فالدكتورة تطالب محدثها بأن يعطيها (العدل) ويأخذ منها (تعاليم جميع الأنبياء)، أي أن الدكتورة حينما تحصل على (العدل) الذي تتصوره –ولو في غير تعاليم الأنبياء- سوف تأخذ وتستغني عن تلك التعاليم كلها!! لأنها حصلت على ما تريد، وهو (العدل).
وأي عدل يكون إن لم يكن مأخوذاً من تعاليم الأنبياء (1) –عليهم السلام- التي أوحى بها إليهم خالق البشر الذي يعلم ما يكون به صلاحهم!!
قال سبحانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس) (2) .
فهو سبحانه قد أرسل رسله وأنزل كتبه لينشروا العدل بين الناس، قال ابن كثير –رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات (وأنزلنا معهم الكتاب) وهو النقل الصادق (والميزان)، وهو العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما،
وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة) (3) .
وقد أخبر سبحانه بأن العدل يكون منه فهو تعالى: (لا يظلم الناس شيئاً) (4) ، وقد "حرم الظلم على نفسه" (5) .
5-ومن ذلك قول الدكتورة عن حبيبها :
(لست أفكر في تعليمك فن الحب
فأنت نبي الحب) (6) !
وفي هذا ابتذال وامتهان لكلمة (النبي) التي لا تطلق إلا على أنبياء الله عليهم السلام.
ولعل الدكتورة عندما رأت أن اليونان قد جعلوا إلها للحب أرادت هي أن تحاكيهم فتجعل للحب نبيا!
__________
(1) ... أقول (تعاليم الأنبياء) محاكاة لعبارة الدكتورة، وإلا فالمسلم يعلم أن تعاليم الأنبياء عليهم السلام إن هي إلا وحي يوحى من الله عز وجل.
(2) ... سورة الحديد، الآية: 25.
(3) ... تفسير ابن كثير (4/315).
(4) ... سورة يونس، الآية: 44.
(5) ... كما في قوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم" (أخرجه مسلم 6524).
(6) ... ديوان في البدء كانت الأنثى (37).
(29/23)
أو أنه أصابها شيء من لوثات الحداثيين الذين ابتذلوا لفظ (النبي) في أشعارهم، فصاروا يصفون به من يتميز بالشعر عندهم (1) .
6-ومن ذلك قولها لحبيبها :
(يا ملك الملوك..
يا أكثر من حبيبي) (2) !
وملك الملوك هو الله عز وجل؛ لأنه ملك الدنيا والآخرة، قال سبحانه عن نفسه في سورة الفاتحة: (ملك يوم الدين) (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أخنع (4) اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله" (5) .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ –رحمه الله-: (الذي تسمى ملك الأملاك أو ملك الملوك قد بلغ الغاية في الكفر والكذب) (6) .
7-ومن ذلك قولها عن حبيبها :
(وأنا أصلي كي تظل حبيبي
فاقبل صلاتي) (7) .
وقولها : (أعش للصلاة بين يديك) (8) .
قلت: بعد أن عبدت الدكتورة حبيبها ها هي تصلي له!
__________
(1) ... يقول أحد هؤلاء الحداثيين –وهو جمال باروت- واصفاً (مجلة الشعر 69) الحداثية بأنه (تحول معها الشاعر إلى نمط آخر من الأنبياء)! (الحداثة الأولى ص 222).
... ويقول كاهن الحداثة أدونيس عن ديوانه (أغاني مهيار الدمشقي): (أخاله نبوياً)! (انظر كتاب: رأيهم في الإسلام ص 33 طبع دار الساقي).
(2) ... ديوان في البدء كانت الأنثى (25).
(3) ... هي قراءة صحيحة –أيضاً- انظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص77).
(4) ... أخنع أي أوضع .
(5) ... أخرجه البخاري ومسلم .
(6) ... تيسير العزيز الحميد (ص 548).
(7) ... ديوان فتافيت امرأة (12).
(8) ... ديوان أمنية (110).
والصلاة لا تجوز إلا لله، وهذا لا أظنه يغيب عن ذهن الدكتورة، ولكنها تجاوزات الشعراء الذين لا يلقون بالاً للضوابط الشرعية في أشعارهم، إنما هم يهيمون في كل واد وبكل لفظ، متبعة بذلك أبالسة الحداثة الذين امتهنوا لفظ (الصلاة) حتى تعبدوا به للمخلوقين (1) .
8-ومن ذلك قولها في رثاء ولدها :
(إن هذا الحب لي أقرب من حبل الوتين
وله فيض حناني وله فرط يمني
(29/24)
وهو بعد الله ربي وهو بعد الدين ديني) (2) .
9-ومن ذلك:اعتراضها على تقدير الله –عز وجل- موت ولدها، بقولها:
(يا رب هذا قدر ظالم
يا ليتنا نملك رد القدر) (3) !
وكل مؤمن يعلم أن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) وقال: (ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيءٍ عليم).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط" (4) .
فكان الأولى بالدكتورة أن ترضى وتسلم لأقدار اله ولا تتسخطها فيكون جزاؤها عند الله السخط (5) .
10-ومن ذلك: قول الشاعرة مخاطبة (حبيبها):
(أمثقف؟؟
ويقول في وأد النساء..
فأي ثقافة هذي.. وأي مثقفين؟
__________
(1) ... من ذلك قول كاهن الحداثة: أدونيس: (أريد أن أصلي للكوكب المنشود)! (الأعمال الشعرية لأدونيس 1/97). وقول البياتي الهالك: (أكلت برتقالة الشمس وفي دمي توضأت وصليت إلى الصحراء)! (ديوانه 2/254).
(2) ... ديوان أمنية (55).
(3) ... ديوان أمنية (82).
(4) ... صحيح الترغيب والترهيب للألباني (3407).
(5) ... ليت الدكتورة تراجع (باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله) من كتاب (تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد) للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ –رحمه الله- لتعلم خطورة ما فاهت به –هداها الله-.
أمثقف ؟؟
ويريد أن يبقي حبيبته بسرداب السنين؟
أتقدمي في كتابته؟
ورجعي بنظراته إلى الأنثى
فإن ضحكت له امرأة .
يخاف عذاب رب العالمين !) (1) !!
فالشاعرة تريد من حبيبها أن يكون (تقدميا) في أفعاله، غير (رجعي).
والتقدمي في نظرها هو الذي لا يئد النساء ولا يخاف عذاب رب العالمين إذا ضحكت له امرأة!
والرجعي بخلاف هذا
(29/25)
قلت: أما وأد النساء فقد حرمه الإسلام منذ أن أشرقت بنوره أرض الجزيرة –ولله الحمد- بل عنف وأزرى بمن يفعله، وأنه موقوف يوم القيامة ومساءل عن فعلته الشنعاء هذه .
قال تعالى: (وإذا الموءدة سُئلت) (2) .
وقال سبحانه مزريا على أهل الجاهلية صنيع أحدهم عندما يبشر بالبنت: (وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتواريئ من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هونٍ أم يدسُهُ في التراب ألا ساء ما يحكمون) (3) .
فهذا حكم الله في وأد البنات (ساء ما يحكمون) فالمسلم الحق بريئ من هذا (الوأد).
وأما خوف الرجل من عذاب رب العالمين عندما تضحك له امرأة أجنبية لا تحل له، فهذا مما يحمد لا مما يذم! لأن هذا الفعل لا يحل لها ولا له، والله قد أمر النساء عندما يخاطبن الرجال أن لا يخضعن بالقول، قال سبحانه (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) (4) فما ظنك بالضحك؟!
الحاصل: أن خوف هذا الرجل من عذاب رب العالمين عندما تضحك له امرأة أجنبية هو مما يشكر عليه لا مما يقدح فيه، ولو سمته الدكتورة (رجعية)! فإن (الرجوع) إلى الحق خير من (التقدم) إلى الباطل. والله الموفق.
11-ومن ذلك قولها:
(لا أحد يعرف شيئاً عن قبر الحلاج فنصف القتلى في تاريخ الفكر،بلا أسماء) (5) .
__________
(1) ... ديوان فتافيت امرأة (73).
(2) ... سورة التكوير، الآية: 8.
(3) ... سورة النحل، الآيتان : 58، 59.
(4) ... سورة الأحزاب، الآية: 32.
(5) ... ديوان خذني إلى حدود الشمس (125).
قلت: (الحلاج) زنديق من كبار الزنادقة الذين مروا بعالمنا الإسلامي، وقد قتل على هذه الزندقة بعد أن كفره علماء عصره (1) ، وقالوا عن مقالته: (إنها محض الكفر) (2) .
فكيف ترضى الدكتورة لنفسها أن تجعله –بعد هذا- من أهل الفكر المظلوم؟!
(29/26)
أم تراها اغترت بصنيع أحد كهان الحداثة، وهو الشاعر صلاح عبد الصبور في مسرحيته (الحلاج) (3) ! حيث امتدح فيها أفكار الحلاج الزنديق وأنه كان يقف مواقف نضالية في صف الكادحين حتى تعرض للقتل (4) !
هذا ما أظنه! لأنني اعتقد أن الدكتورة مجرد متابع ومردد لما ينعق به أساطين الحداثة، لعلها تحظى بشرف الانضمام إليهم، ولو على حساب دينها! هداها الله.
12-ومن ذلك : قولها :
(مشكلتك الكبرى يا صديقي
أنك تختزن في ذاكرتك كل الأفكار السلفية
وكل الكلمات المأثورة
وكل ما ورثته عن أجدادك
من نزعات التملك ..
والسيادة ..
والتعددية النسائية..) (5) .
__________
(1) ... انظر هذا في ترجمته في: (تاريخ بغداد) (8/112) و(البداية والنهاية) (1/132) و(السير) للذهبي (14/313).
(2) ... (السير) للذهبي (14/351).
(3) ... أول من لفت النظر إلى (الحلاج) محاولاً بعثه: هو المستشرق (ماسنيون) في حديثه عن ما سماه (مأساة الحلاج)!
(4) ... انظر: ديوانه (445-609) وليعلم أن بعث الحركات والشخصيات المنحرفة في تراثنا هو من أهداف الحداثيين في بلادنا، لصرف الناس عن الحق وتلويثهم بالزيغ، وتوافقهم مع أولئك، كما قال سبحانه: (تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقومٍ يوقنون)، ومن أبرزهم في هذا المجال: الباطني الخبيث أدونيس الذي حاول بعث الملاحدة والزنادقة من أمثال ابن الراوندي ومهيار الديلمي وحركة الزنج وغيرها، كما في رسالته (الثابت والمتحول).
(5) ... ديوان في البدء كانت الأنثى (53).
وفي هذا المقطع أبانت الدكتورة عما يكنه صدرها تجاه من يتخذ الكتاب والسنة مرجعاً له في كل أموره، وهم (السلفيون)، فلمزت (حبيبها)! بأنه لا يزال منهم! يؤمن (بكل الكلمات المأثورة) و(كل ما ورثه عن أجداده) ولم تبين لنا ما هي هذه الكلمات المأثورة والميراث الذي ورثه (السلفي)، إن لم يكن هو قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم .
(29/27)
ويشهد لهذا انتقادها وتعريضها بجواز تعدد الزوجات الذي نزل به القرآن ولكنه لم يوافق هواها، وذلك بقولها: (والتعددية النسائية)، وفي هذا رد لحكم الله تعالى الذي أباح ذلك للرجال في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) (1) .
ولكنه الهوى وسوء الظن بحكم الله تعالى الذي لا زال يعشش في ذهن الدكتورة.
13-ومن ذلك قولها الشنيع :
(أريد أن أكتب لك..
أو لغيرك ..
أو لأي رجل في المطلق
ما لا أستطيع قوله للآخرين..
فالآخرون.
منذ خمسة عشر قرنا
يتآمرون ضد الأنوثة..) (2) !!
قلت: فمن تعني بالآخرين الذين يتآمرون على الأنوثة منذ خمسة عشر قرناً، إن لم تكن تعني بذلك الإسلام وشريعة الله عز وجل التي أنزلها في ذلك الزمان، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتنشر الحق والعدل بين الخافقين؟!
ومن –سوى الإسلام- أنصف المرأة وكرمها، بعد أن كانت مهانة في الديانات السماوية (المحرفة) أو الديانات والأفكار الأرضية؟!
فشريعة الله التي تلمزها الدكتورة زورا وبهتانا بأنها تآمرت ضد الأنوثة هي التي ساوت بين الذكر والأنثى المؤمنين في استحقاق الحياة الطيبة في الدنيا وفي الفلاح والفوز بالجنات عند الله سبحانه، فلم تفرق بين أي منهم لجنسه، إنما هو الإيمان والعمل الصالح، قال سبحانه: (من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (3) .
__________
(1) ... سورة النساء، الآية: 3.
(2) ... ديوان قصائد حب (28).
(3) ... سورة النحل، الآية : 97.
وقال سبحانه وتعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً) (1) .
وقال تعالى: (ومن عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يُرزقون فيها بغير حساب) (2) .
وقال سبحانه: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أُنثى بعضكم من بعضٍ) (3) .
(29/28)
فشريعة الرحمن ساوت بين الرجل والمرأة إذا تحقق منهم الإيمان والعمل الصالح في أمرين مهمين :
1- الحياة الطيبة الهنيئة في الدنيا .
2- الفوز بجنات النعيم في الآخرة.
أما الأحكام المتعلقة بجنس الرجل وجنس المرأة في الدنيا إنما تتفاوت لتفاوت ما بين الجنسين في الخَلق ولا دخل لهذا كله بالفضل عند الله تعالى –كما سبق-
فأين الامتهان المزعوم يا دكتورة ؟!!
أو أن المساواة في نظرك –وفي نظر المتحررات من أمثالك –لا تكون إلا بأن تتمرد المرأة على شريعة ربها وتشارك الرجل في خصائصه المتعلقة بجنسه، وتلهث جارية خلف زيف الغرب وسرابه الموهوم، ولو أداها إلى الحياة التعيسة في الدنيا وصِلى النار في الآخرة!
فهذه مساواة قاصري النظر، ممن لا يسيره سوى شهواته وأهوائه.
الحاصل: أن الدكتورة أساءت لنفسها بهذا القول، وهو قول (كفري) إن كانت تقصد به أن الإسلام امتهن المرأة، عليها التوبة منه والاستغفار، قبل أن تلاقي ربها بظن السوء. نسأل الله لها الهداية.
14-ومن ذلك : تأييدها للطاغوت الهالك جمال عبد الناصر الذي رفع من شأن القومية العربية على حساب الإسلام، وآذى عباد الله من الدعاة والصالحين في تجربة ثورية خاسرة، لم تجن منها الأمة سوى زيادة الانقسامات والتحزبات والبغضاء بين أفراد الأمة ودولها.
__________
(1) ... سورة النساء، الآية: 124.
(2) ... سورة غافر، الآية: 40.
(3) ... سورة آل عمران، الآية: 195.
تقول الدكتورة في قصيدة لها بعنوان: (من امرأة ناصرية إلى جمال عبد الناصر) ممجدة الطاغوت الهالك، ومنزلة له المحل الأسمى في قلبها وعواطفها، بلغة تكاد ترفعه عن مستوى البشر! تقول:
(كنا كباراً معه في كتب الزمان
كنا خيولاً تشعل الآفاق عنفوان
كان هو النسر الخرافي الذي يشيلنا
على جناحيه، إلى شواطئ الأمان.
كان كبيراً كالمسافات،
مضيئاً كالمنارات،
جديداً كالنبؤات،
عميق الصوت كالكهان.
وكان في عينيه برق دائم
(29/29)
يشبه ما تقوله النيران للنيران
كنا شموساً معه.
توزع الضوء على مساحة الأكوان.
كنا جبالاً معه. من حجر الصوان
وكان يحمينا من الركوع والهوان
كنا نسمى باسمه ..
إذا نسينا مرة أسماءنا ..
كنا نناديه جميعاً، يا أبي
إذا أضعنا مرةً آباءنا ..
فهو الذي أطلقنا من رقنا
وهو الذي حررنا من خوفنا
وهو الذي
أيقظ في أعماقنا الإنسان ..
كان هو الأجمل في تاريخنا
والنخلة الأطول في صحرائنا
كان هو الحلم الذي يورق في أهدابنا
كان هو الشعر الذي يولد مثل البرق في شفاهنا ..
كان بنا يطير.. فوق جغرافية المكان
مستهزئاً من هذه الحواجز المصطنعة ..
من هذه الممالك المخترعة
من هذه الملابس الضيقة، المضحكة..
المرقعة ..
من هذه البيارق الباهتة الألوان .
كان على صورتنا ..
كنا على صورته
كان يرى التاريخ في نظرتنا
كنا نرى المستقبل الجميل في نظرته..
جبهتنا مرفوعة
تستلهم الشموخ من جبهته
فبضتنا قوية
تستلهم القوة من قبضته
أولادنا قد رضعوا الحليب من ثورته
كان هو القوة في أعماقنا
واللهب الأزرق في أحداقنا
والريح، والإعصار، والطوفان.
كان هو المهدي في خيالنا
وكان في معطفه يخبئ الأمطار
وكان إذا ينفخ في مزماره ..
تتبعه الأشجار
وكان في جبينه سنابل وحنطة ..
وفي رنين صوته ما يشبه الأذان (1) .
وكان في قدرته أن يطلع السنابل
ويجمع القبائل
ويستثير نخوة الفرسان
ويرجع الملك إلى بيت بني عدنان..
كان هو النجمة في أسفارنا
__________
(1) ... !!
والجملة الخضراء في تراثنا
كان هو المسيح في اعتقادنا (1)
فهو الذي عَمَّدنا (2)
وهو الذي وحدنا
وهو الذي علمنا
أن الشعوب تسجن السجان
وأنها حين تجوع،
تأكل القضبان ..
يا ناصر البعيد قد أوجعنا الغياب
نمد أيدينا إليك لما ..
حاصرنا الصقيع والضباب ..
نبحث عن عينيك في الليل..
ولا نمسك إلا الوهم والسراب
يا ناصر العظيم ..
أين أنت .. أين أنت
بعدك لا شعر، ولا نثر، ولا فكر، ولا كتاب
بعدك نام السيف في قرابه
(29/30)
واستنسر الذباب ..
يا ناصر العظيم..
هل تقرأ في منفاك أخبار الوطن ؟
فبعضه مغتصب ..
وبعضه مؤجر ..
وبعضه مقطع ..
وبعضه مرقع..
وبعضه مطبع ..
وبعضه منغلق ..
وبعضه منفتح ..
وبعضه مسالم..
وبعضه مستسلم ..
وبعضه ليس له سقف .. ولا أبواب ..
يا ناصر العظيم،
لا تسأل عن الأعراب
فإنهم قد أتقنوا صناعة السباب
وواصلوا الحوار بالظفر والأنياب
وحاصروا شعوبهم بالنار والحراب .
يا ناصر العظيم..
سامحني .. فما لدي ما أقوله
في زمن الخراب) (3) .
15-ومن ذلك أيضاً: تمجيدها الطويل لطاغوت العراق صدام حسين الذي تأملت فيه أن يكون خير موحد للعرب بعد جمال الهالك، متغافلة عن كونه ينتمي إلى (حزب البعث) الكافر (4) ، ولكنها سرعان ما انقلبت عليه عندما (توحد) مع بلادها الكويت!!
تقول الدكتورة في مقدمة كتابها (هل تسمحون لي أن أحب وطني): (لم يغن أحد لمجد العراق كما غنيت أنا، ولم يسق أحد مياه دجلة بدموعه كما سقيتها أنا.
ولم يرشق أحد جنوده بالورود والريحان، كما رشقتهم أنا.
__________
(1) ... !!
(2) ... هذا مثال آخر على استخدام الشاعرة للمصطلحات النصرانية.
(3) ... ديوان فتافيت امرأة (135-144) ولها قصيدة أخرى شبيهة بها في ديوان أمنية (12014).
(4) ... لمعرفة شيء من كفريات هذا الحزب: انظر: (حزب البعث) للشيخ سعيد الغامدي، و(الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة) من إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي (1/474).
وأخيراً، لم تتمن امرأة عربية أن يكون جسدها (نخلة تشرب من شط العرب) إلا أنا..
لقد كنت دائماً متهمة بأنني عراقية الهوى، وأن كتاباتي، شعراً ونثراً، مبللة بأمطار العراق، ورطوبة أنهاره، ونضارة بساتينه.
وكنت دائماً أفاخر بهذه التهمة الجميلة، لأنني كنت أعتبر العراق الجناح العربي القومي الذي يغطينا، ويحمينا، ويدافع عن مستقبلنا ومستقبل أولادنا.
وبكلمة أخرى، فإن التزامي بالخط العراقي، كان التزاماً بالخط القومي الوحدوي.
(29/31)
كان العراق يمثل لي، تلك القوى الصاعدة، الواعدة، التي افتقدناها في السبعينات، كما كنت أرى فيه البديل القومي والاستراتيجي الذي سيصحح ميزان القوى بيننا وبين إسرائيل، وينهي حالة الهوان، والتخاذل والتشرذم والانفلات التي عصفت بدول المنطقة.. إلخ) (1) .
أسأل الله أن يهدي الشاعرة، وأن يوفقها للتوبة النصوح.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
__________
(1) ... هل تسمحون لي أن أحب وطني (9-10).
(29/32)
::::: المجموعة الخامسة :::::
انحرافات المفكر التونسي : هشام جعيّط
هو أحد المفكرين التونسيين المعاصرين المختصين بالدراسات التاريخية، ولد عام 1935م، يكتب أبحاثه باللغة الفرنسية!
أهم مؤلفاته :
1- أوروبا والإسلام: صدام الثقافة أو الحداثة، دار الطليعة، بيروت 1995م.
2- الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، 1992م.
3- الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية، دار الطليعة، ط2، 1993م.
4- الشخصية العربية والإسلامية والمصير العربي، دار الطليعة، ط2، 1990م.
انحرافاته :
يعد هشام جعيط من أنصار الفكر العلماني (الصريح) وعزل الإسلام عن شئون الحياة في بلاد المسلمين، ويجاهر بهذا في كتبه، وإليك شيئاً من أقواله (2) :
__________
(1) ... هل تسمحون لي أن أحب وطني (9-10).
(2) ... نقلاً عن كتاب "مدارس الفكر العربي الإسلامي المعاصر" للدكتور عبدالرزاق قسوم، مع إضافات من عندي.
1- يقول في كتابه (أوربا والإسلام): "إن الإسلام لم يصبح عالمياً إلا بعد أن امحت خصوصية السياسي فيه"! (ص86)
2- ويقول مطالباً الحد من سلطة الإسلام على المجتمع!: "إن تخليص المجتمع من سيطرة الدين، أو بالأحرى من المحتوى المؤسساتي الإسلامي المرتبط بعصر مضى وتحديد علمانيته جديدة في أسلوبها تلك هي المهمة العاجلة الفردية"، (الشخصية العربية .. ، ص 10).
3- ويقول مبيناً أن علمانية تحترم الإسلام كدين له تاريخه!: "يجب على الإسلام البقاء كدين للدولة، بمعنى أن الدولة تعترف به تاريخياً وتهبه حمايتها وضمانها؛ لأن الدولة أساساً هي وعي التاريخ تجاه قوى النسيان، فليس للدولة أن تكون علمانية؛ بمعنى أنها لا تهتم بمصير الدين، معتبرة إياه مسألة خاصة" (السابق، ص 118).
(30/1)
4- ويرى أن دولته العلمانية المنشودة ينبغي أن توفر الحماية والضمانات لمن يريد الارتداد عن دين الإسلام!، يقول : "ستسمح الدولة بحرية الضمير وتضمنها داخل المجموعة الإسلامية ذاتها، وتضمن الخروج من الإسلام [بمعنى الردة] من حيث المعتقد خروجًا حرًا ... " (السابق، ص 118).
5- بل إنه يذهب إلى أبعد من هذا ولا يمانع بسبب تجويزه للردة في دولته العلمانية المنشودة إلى أن "من الممكن أن يصبح الإسلام يوماً ما أقلية في مجتمعه" !! (السابق، ص118) ويستشهد بقوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ.. الحديث" !!
6- ويقول جعيط بصراحة: "نحن لا نقبل أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع، والمحرك الأساسي الفعلي للحياة الإجتماعية، فارضاً قواعده الدينية وما يرتبط بها من فروض في العادات والقضاء، كما كان الأمر في الدولة الخاضعة للحكم الإلهي ... "! (السابق، ص103)
7- ويزعم أن الإسلام : "ورث ... أغلب التقاليد اليهودية النصرانية، فيتضمن القرآن الملائكة، ورؤساهم، وإبليس وجيشه من الشياطين والجن، ويظهر أن هؤلاء اقتبسوا من الخرافات المحلية" ! (السابق، ص124). أي أن القرآن –والعياذ بالله- يحتوي على خرافات محلية لم يصدق بها عقل هذا العلماني.
8- ويقول لامزًا القرآن: "نجد في القرآن تصورًا معيناً للجنسين البشري قد لا يقبله العلم ... " (السابق، ص 124).
(30/2)
9- ويصرح الرجل بإلحاده! في قوله : "ولكن التفكير المتسلح يمكنه التقدم خطوات أخرى، فيتساءل: كيف يقبل العقل الناقد العذاب الأبدي فضلاً عن كونه جسدياً بالنسبة لغير المؤمنين؟ وكيف للنزعة الإنسانية الكونية لعصرنا أن تسمح بذلك؟ أين يكمن الحل للتناقض بين الحرية ومسؤلية الإنسان التي يتضمنها مفهوم الحساب، وبين قدرة الله وظلمه أو يكاد، التي يترجم عنها القضاء والقدر؟ وهذا الإله ذاته الشخصي والمتعالي، أي لعبة يلعب؟ لماذا كان متخفياً؟ أولا ينكشف مرة واحدة وبوضوح للإنسان؟" !! (السابق، ص124) –تعالى الله عن قوله علواً كبيرًا-
يقول الدكتور عبد الرزاق قسوم معلقاً: "إن من يقرأ مثل هذه الأحكام ويحلل مثل هذه الأفكار لا يخالجه شك في أن صاحبها يترجم بها عن قناعات علمانية إلحادية ... " (مدارس الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ص 232).
ويقول: "يذهب.. هشام جعيط إلى تبني العلمانية كمنهج وحيد لتجاوز ما يسميه بأزمة التدين وأزمة التخلف الناتجة عن ذلك" ! (المرجع السابق، ص 230).
قلت: لقد قامت تركيا –مثلاً- بتبني العلمانية قولاً وعملاً بما لا يحلم به جعيط وأمثاله من العلمانيين العرب، ومع هذا ارتكست في التخلف الدنيوي والتبعية الذليلة للغرب، فضلاً عن خسارتها لدينها. أفلا يكفي أن تكون تجربتها عبرة للعلمانيين العرب؟! أم أن الأمر لا يعدو أن يكون اتباعاً للشهوات والشبهات، وبغضاً لشرع الله ودينه الحنيف ؟!
10- ويقول جعيط –أخزاه الله-: "بما أن الدين مرتبط بالماضي، فإن عناصر كثيرة يتضمنها أو يتشكل منها لا يقبلها العقل إطلاقاً، ولا الفكر وحتى ذهنية الإنسان الحديث، فقد أبرز العلم والفلسفة والنقد التاريخي بديهيات تهاجم النواة الدينية ذاتها، أو على الأقل كساءها الأسطوري" (الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، ص 108)
(30/3)
11- ويقول –فُض فوه- طاعناً في رسول الله صلى الله عليه وسلم ! بكلام لا يشك مسلم في كفر قائله: "إن جريمة النبي لا تكمن فقط في استغلاله لسذاجة الجماهير، ولكنها تكمن أيضاً في تجسيده من خلال سيرته الذاتية مثالاً للشهوانية والعنف وعدم الأخلاق، هذه الخصائص التي طبع بها كل الشعوب التي اتبعته" !! (انظر: مدارس الفكر العربي الإسلامي المعاصر، ص238).
قلت: فتأمل بشاعة هذا القول الذي يُخرج صاحبه من الملة بلا شك ويُقتل صاحبه بلا استتابه؛ لطعنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم. (انظر: الصارم المسلول لشيخ الإسلام).
12- أما أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وصحابة رسول رب العالمين رضي الله عنهم فلم يسلموا –أيضاً- من طعن هذا المفكر العلماني. (انظر المرجع السابق، ص 239).
13- وكذا طعن في الأحكام الشرعية، وأنها لا تناسب العصر؛ كتعدد الزوجات (السابق، ص 240). يقول الفاجر: "ينبغي تركيز الجهد على ميدان قانون الأحوال الشخصية الشاسع والذي ما زال خاضعاً لطبقة عنيفة وتنصيعات قرآنية، فينبغي تخليص ما يُعرف بقانون الميراث وتشريع الزواج، وحتى التشريع الجنسي من عبء الفقه، وإخضاعه لمقولات العقل العالمي" !! (الشخصية العربية ... ، ص115) ولا أدري ما هو هذا (العقل العالمي) الذي يريد إخضاع أحكام الشريعة له؟! لعله عقل أسياده الفرنسيين والغربيين.
(30/4)
14- أما عن موقفه من بلاد التوحيد؛ فإليك ما يقوله فيها : "إن البلدان النفطية الصرف –وأعني بها بالتخصيص العربية السعودية وإمارات الخليج- هي هامشية في حياة المجموعة العربية بحيث إن ما أتيح لها من ثروات هائلة تبدو كأنها انتقام من القدر (1) . هي بلدان متأخرة وصمها عمق التأثير الديني، وهي قليلة التفتح على نداء الحداثة لأنها لم تعش استعماراً حقيقياً، ولا تملك وسائل ببشرية ولا قاعدة بيئية كافية لتحرير القوى المنتجة ولن تظهر ما تقدمه لإفادة التنمية العامة للعالم العربي إلا ضمن منظور مستقبل مدمج حيث تقوم بدور المناطق النفطية. أما حالياً فإنها في حاجة قبل كل شيء إلى تكوين الفنيين وتطوير التعليم والقيام بدفع قوي للزراعات السقوية على الصعيد الاقتصادي بفضل وسائلها المالية تحديداً. وتجتهد عدة دول نفطية حقيقية في مساعدة الدول الأخرى التي لم تجاملها الطبيعة(1). لكن الملاحظ بالخصوص أن أموالها مودعة في البنوك الغربية دون أي نفع لها أو لأشقائها العرب، علماً أن الطبقة المحظوظة تتجول بشهواتها في العالم الأجنبي، وترتع في النعيم واللذة فتمدد في بقاء صورة المشرق المحتقر الداعر. وعلى هذا فمن الضروري توزيع المداخيل من جديد باتجاه التخفيف من الفوارق. وبما أن الدولة هي التي تملك المنة النفطية فالواجب أن يقع إصلاحها قبل غيرها. لكن القاعدة العامة أنه على هذه الأقطار أن تخرج من العهد الوسيط القاتم والفاقد للثراء الفكري والبشري. أما على الصعيد المادي، وبسبب امتلاكها موارد استثنائية،
__________
(1) ... ! !
...
(30/5)
ولأنها بلدان قليلة السكان، فلا يوجد حقاً وضع يتطلب حلاً عاجلاً. بل يكفي لحكومة متبصرة أن تضع حداً للتبذيرات وتنشئ مؤسسات ذات أغراض اجتماعية (الضمان الاجتماعي والضمان على المرض، الخ)، وتنمي إلى أقصى حد التجهيزات الجماعية، وتحد من نشاط المضاربين ورجال الأعمال، لكي تتحسن الأمور في العشرية القادمة. فلا حاجة إذا القيام بدعوة للثورة الكلامية وألا يتم شيء في واقع الحال، بل الأحسن خلافاً لذلك أن تحقق إصلاحات محدودة تقدر عليها الدولة النفطية التي حبتها العناية الإلهية، حتى يخرج المجال الصحراوي العربي من سباته" (الشخصية العربية ... .، 191-192)
قلت: فهذا العلماني يقطر حقدًا على بلاد التوحيد "المتخلفة" في نظره! ويغيظه جدًا ما حباها الله به من ثروات –وله الحمد والمنة- معترضاً على قضاء الله وقدره.
والطريف هو قوله عنها –متأسفاً!-: "لم تعش استعمارًا حقيقياً" !! فأصبح الاستعمار الكافر لبلاد المسلمين في نظر هذا العلماني مما يُفرح به ويُتأسف على فقده! نعوذ بالله من الذل والهوان :
ولا يقيم على ذلٍ يراد به
إلا الأذلان عَيْر الحي والوتد !
وخلاصة القول –كما يقول الدكتور عبد الرزاق قسوم- (ص246) : "أن هشام جعيط.. أقرب في طروحاته هذه إلى العلمانية الملحدة" .
(30/6)
وقال الدكتور مفرح القوسي في رسالته: " المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية" (1) (2/654-656): "الدكتور هشام جعيط (2) : وهو من أبرز المعادين للمنهج السلفي، والمتحمسين لتطبيق المبادئ العلمانية في البلاد الإسلامية، قدم –في سبيل ذلك- أفكاراً وطروحات عديدة، فنراه يقول –كاشفاً عن حقيقة انتمائه الفكري العقدي-: "نحن ندعي العلمانية؛ بمعنى أننا نعتقد ضرورة الفصل الجذري بين التشريع الديني والمؤسسات الاجتماعية والقانون والأخلاقية الممارسة" (3) ، ويقول –داعياً إلى إقصاء الشريعة الإسلامية وإيقاف العمل بها في بلاد المسلمين-: "ينبغي على البلدان المتخلفة اللحاق في ميدان التشريع بالبلدان المتطورة، وأن يتوقف العمل بالتشريع غير الملائم القاسي المعروف بإقامة الحدود، والذي تخلى عنه الأمويون منذ ثلاثة عشر قرناً خلت ... ، وينبغي أن يُركز الجهد على ميدان قانون الأحوال الشخصية الشاسع، والذي ما زال خاضعاً لصبغة عتيقة وتنصيعات قرآنية، فينبغي تخليص ما يُعرف بقوانين الميراث وتشريع الزواج وحتى التشريع الجنسي من عبء الفقه وإخضاعه لمقولات العقل العالمي..
__________
(1) ... طُبعت أثناء إعدادي لهذا البحث المختصر عن دار الفضيلة بالرياض عام 1423هـ. وأنا أنقل من أصل الرسالة المحفوظ بمكتبة الملك فهد الوطنية.
(2) ... باحث ومفكر تونسي معاصر، مختص بالدراسات التاريخية، من مؤلفاته: (الكوفة –نشأة المدينة العربية الإسلامية) نشرته مؤسسة الكويت للتقدم العلمي سنة 1986م، وكتاب (الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي) نشرته دار الطليعة في بيروت سنة 1990م.
(3) ... الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي ص 112، ط الثانية 1990م، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان .
(30/7)
ويجب قبل كل شيء أن ينتهي العمل في كل مكان بطلاق المرأة حسب شهوة الرجل، وأن تُضمن لها المساواة في حقوق الإرث، وأن يقع العدول عن تعدد الزوجات، ويرتبط بهذه الأمور تدخل العقلنة في تشريع المواريث، حيث يجب القضاء على العناصر المتعلقة بالقبلية؛ بصفتها مخلفات للمجتمع العربي القديم" (1) .
ويقول –مبرراً الدعوة إلى الانفصال بين الدين والدولة في الإسلام-: "كان لنزعة الإسلام الماضية إلى التدخل في نسق الكائن البشري ما يبرره، وهو منطق ديني صارم وطموح مثالي عميق. وبما أن هذا العمل التربوي التوحيدي قد تم، وحيث أن على الطبقة التحتية الماورائية الدينية أيضاً أن تتخلى عن احتكار الحقيقة على الأقل، فإن هذا الانفصال ممكن وضروري في آن واحد. وبذا يحافظ التشريع الديني في مثل هذا الأفق على كامل قيمته الإمكانية، أما المجتمع فإنه سينمو طبق مقاييسه الخاصة في المرحلة الراهنة من مصيره، لا عملاً برؤية مسبقة لآخرة تكون هي الحياة الحق" (2) ، ليس هذا فحسب بل يرى أنه "ينبغي أن يشمل هذا الانفصال ميادين أخرى من الحياة الاجتماعية كالأخلاق ... فلابد من الوصول إلى تحرير الأخلاق الملموسة من وطأة الأخلاق الدينية؛ من حيث ضيقها وتشددها" (3) . ويرى "أن الرسول جمع في شخصه بين سلطة الرسالة وسلطة الدولة، لكن الخلافة الراشدة تطورت بعد موته إلى ملوكية عادية" (4) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 115.
(2) ... المرجع السابق ص 115 – 116.
(3) ... المرجع السابق ص 116.
(4) ... المرجع السابق ص 119.
(30/8)
ويدعي أن "السلفية" تحصر مفهوم "العلم" في العلم الشرعي فقط وتنكر ما عداه؛ ولا سيما العلم المادي الحديث الذي تُدينه وترفضه، لأنه –في نظرها- غير يقيني ويقود إلى الإلحاد، كما يدعي أنها ترى اشتمال القرآن على كل علم، وتقديم الدين إذا ما تعارض مع العلم. فنراه يقول مصوراً موقف السلفية –الماثل الآن في الصحوة الإسلامية- من العلم: "من منطلق إسلامي بما أن المتعالي وهو
الله تجلى في التاريخ، وبما أنه يعلو على العالم المادي الذي هو زائل وفان وليس بذي قيمة في ذاته، فإن العلم الوحيد الحقيقي هو العلم بالله وبكلام الله وبسنة نبيه التي تكمله وتتممه، وإذا كانت هناك قوانين تسير العالم المادي فالله وحده يعلمها، وهو الذي سطرها ويطبقها، ولا حاجة للمؤمن بأن يهتم إذن باستكشافها؛ إذ العالم ليس إلا مجالاً لنشاط الله المستمر ولنشاط الإنسان المتعبد والذي خُلق لكي يعبد الله، ويجب التأكيد على أن مفهوم (العلم) كان يعني في القرنين الأول والثاني العلم بصفة نقلية بالنصوص المقدسة؛ أي بالقرآن والسنة وأكثر فأكثر بالسنة خاصة، وهو مفهوم يتجابه مع مفهوم الفقه الذي كان يعني جانباً من ممارسة (الرأي)، فعندما يتكلم ابن سعد في (الطبقات) عن فلان واصفاً إياه بأنه (غزير العلم)، فقد كان قطعاً يريد إشعارنا بأنه غزير المعرفة بالحديث الصحيح. ثم تطور المفهوم إلى أن أصبح يستوعب العلم بكل جوانب الشريعة من قرآن وحديث وفقه، ولا يضم غيرها من فروع المعرفة" (1) .
__________
(1) ... بحث (الصحوة الإسلامية والثقافة المعاصرة) ص 286-287 بتصرف يسير، وهو بحث قدمه هشام جعيط إلى ندوة (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي) التي عقدها منتدى الفكر العربي بعمان بالأردن عام 1987م، ط الأولى 1988م.
(30/9)
ويقول أيضاً: "إن الإسلام الأولي الصافي لم يشأ أن يهتم لا بالحكمة ولا حتى بغيرها من أصناف المعرفة، وإن كان حقاً أن أصحاب الصحوة الإسلامية إنما مطمحهم الرجوع إلى إسلام القرن الأول، فمن حقهم أن يعتبروا أن لا وجود لعلم إسلامي غير علم الشريعة" (1) ، ويقول كذلك: "في خصوص العلم المادي الغربي الصحوة الإسلامية تدينه لكونه علماً مادياً يجسر إلى الإلحاد وأنه علم غير يقيني، وعلى كل حال فالقرآن يحوي كل علم، وإذا ما تغرب العلم والدين فكلام الله يعلو عليه" (2) .
__________
(1) ... المرجع السابق ص 287 بتصرف يسير.
(2) ... المرجع السابق ص 287.
(30/10)
::::: المجموعة الخامسة :::::
نظرة شرعية في أدب فدوى طوقان
ترجمتها (3) :
? ولدت في نابلس في فلسطين، عام 1917م.
? تلقت تعليمها الابتدائي في نابلس، لكنها لم تتم تعليمها الثانوي، ولم تدرس دراسة أكاديمية لظروف اجتماعية، فتعهدها شقيقها إبراهيم بالرعاية والتثقيف الذاتي.
? التحقت عام 1962-1963م بدورات تعليم اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي، في أكسفورد بإنجلترا.
? شاركت في عدد من المؤتمرات الأدبية، والمهرجانات الشعرية في الوطن العربي والخارج، مثل: مؤتمر السلام العالمي، ستوكهولم –السويد، مؤتمر الكتاب الإفريقيين الآسيويين، بيروت-لبنان.
? عضو مجلس أمناء جامعة النجاح في نابلس، وهي التي وضعت نشيدها الرسمي.
آثارها الشعرية:
1- ديوان "وحدي مع الأيام" دار النشر للجامعيين – القاهرة 1952م.
2- ديوان "وجدتها" –دار الآداب – بيروت 1957م .
3- ديوان "أعطنا حبًّا" –دار الآداب –بيروت 1960م .
__________
(3) ... مستفادة باختصار من : "أعلام الأدب العربي المعاصر" لكامبل (848-851). و" موسوعة أعلام المبدعين العرب" للدكتور خليل أحمد خليل (2/717-722). وكتاب "فدوى طوقان: شاعرة أم بركان" لهيام الدردنجي (ص 43 وما بعدها). وكتاب "فدوى طوقان: نقد الذات، قراءة السيرة" لريم العيساوي (ص 115-117).
4- ديوان "أمام الباب المغلق" –دار الآداب –بيروت 1967م.
5- ديوان "الليل والفرسان" –دار الآداب- بيروت 1969م.
6- ديوان "على قمة الدنيا وحيدًا" –دار الآداب –بيروت 1973م.
7- ديوان "تموز والشيء الآخر" –دار الشروق – عمّان 1989م.
(31/1)
-ترجمت منتخبات من شعرها إلى اللغات الأخرى، كالإنجليزية، والفارسية، فقد ترجم لها الدكتور "إبراهيم داود" إلى الإنجليزية تحت عنوان: Selected Poems of Fadwa Tuqan، منشورات جامعة اليرموك الأردنية، 1994م، وترجم "علي رضا نوري" بعض قصائدها إلى الفارسية في كتابه "حماسة فلسطين" –(طهران 1349هـ)، وترجم الدكتور "غلام حسين يوسفي"، والدكتور "يوسف بكّار" قصيدة "وجدتها" إلى الفارسية في كتاب "مزيده أي أثر شعر عربي معاصر"، (مختارات من الشعر العربي الحديث) –منشورات سبرك- طهران 1991م.
آثارها العلمية والنثرية:
1- أخي إبراهيم (نشرته أولاً بالمكتبة العصرية في يافا عام 1946م، ثم أعيد نشره كتصدير لديوان إبراهيم بطبعاته المختلفة) .
2- رحلة جبلية.. رحلة صعبة: سيرة ذاتية (نشر دار الأسوار –عكا، 1985م، ونشرته دار الشروق، عمّان 1985م)، وترجم إلى الإنجليزية.
3- الرحلة الأصعب: سيرة ذاتية –دار الشروق- عمّان، 1993م.
انحرافاتها :
تعد فدوى طوقان واحدة من رؤوس المتحررات في بلاد الشام؛ حيث سخرت قلمها في سبيل الثورة على أحكام الشريعة التي تسميها مخادعة "بالعادات والتقاليد" كشأن أمثالها من المتمردين والمتمردات .
فأبرز ما يطالعه القارئ في حياتها هو تململها من حال المرأة المسلمة، وتذمرها من الأحكام الشرعية المتعلقة بها، مع الخلط بينها وبين العادات الجائرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، حيث سلطت على الجميع نقدها وثورتها.
وليتها اكتفت بنقد العادات المخالفة لشريعة الإسلام مما كان يعج به العالم العربي زمن شبابها، لكانت أحسنت وأجادت، ولكنها لتشبعها بروح التمرد ثارت على الصالح والطالح، وأقحمت شرائع الإسلام بتقاليد وعادات أهل ذاك الزمان.
(31/2)
وحال فدوى طوقان ليس ببعيد عن حال أقرانها من الكتاب والأدباء الذين حين تفتحت أذهانهم بالعلم والثقافة وجدوا مَنْ حولهم غارقًا في الخرافة والجهل؛ حيث كان التصوف ضاربًا أطنابه في ديار الإسلام، صادًا للنبهاء والمثقفين عن الدين الحق، بما يمارسه أتباعه من شعوذات ودجل واستغلال لعامة الناس، فانصرفوا بسببهم عن كل ما يمت للدين بصلة، واستعاضوا عن ذلك بتبنيهم للأفكار القومية والثورية التحررية.
وأنا لا أقول هذا اعتذارًا لهم؛ لأن المسلم مطالب باتباع الكتاب والسنة أينما كان، لا يصرفه عن ذلك جهل من حوله وابتداعهم.
الحاصل: أن فدوى طوقان كانت من هذه الفئة التي انصرفت عن الدين لما رأت سلوك وجهل من يدعي التدين من أفراد أسرتها؛ كجدتها الصوفية! .
ولنستمع إلى شيء من أقوالها التي ذكرتها في سيرتها الذاتية "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" تشهد بما ذكرته من تذمرها من حال المرأة، وبغضها لمن تسبب في كبتها –كما تزعم- .
أقوالها عن أسرتها وحياتها الأولى :
-تقول عن أمها: "ليس لي مكان في ذاكرتها .. هنا كنت أشعر بشعور غير مريح، ولكنني لم أكن أستطيع توضيحه" (ص21).
وتقول عنها مدعية أنها تعيش حالة من الشقاء: "حين كبرت عرفت مصدر ذلك الشقاء الخفي؛ إنه الحصار والقهر الاجتماعي المفروض على المرأة" (ص 25).
وتقول عن جدتها: "كانت عندها مقاييس الحلال والحرام، اللائق وغير اللائق، عجيبة غريبة. لقد كانت تصرخ في وجهي إذا رأتني مرتدية ثوباً قصيرًا: هيا.. شمري عن فخذيك أكثر.. ستدخلين جهنم أنت وأمك التي خاطت لك هذه الملابس المشينة!
وكان هذا يشوش صفاء طفولتي وبساطتها. كما كان يبلبل عقلي الصغير.. أمن أجل ثوب قصير يدخلني الله جهنم مع أمي؟ وأتخيل الله ربًا قاسياً رهيبًا لا يرحم" !! (ص 37).
وتقول عن أبيها: "لم أكن أحمل لأبي عاطفة قوية، بل ظل شعوري تجاهه أقرب ما يكون إلى الحيادية ... الخ" (ص 135)
(31/3)
وتقول عن أخيها لما رآها تغازل !: "أصدر حكمه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي، كما هددني بالقتل إذا أنا تخطيت عتبة المنزل" (ص55) .
وتقول عن أبيها الذي اكتشفها وهي تدخن!: "العاصفة الغاضبة التي أثارها في وجهي ساعة دخل الغرفة ذات يوم ووجدني متلبسة بجرم تدخين السجائر" (ص 129).
أما تذمرها من حالها فتقول: "في الفترة ما بين الثلاثينات والأربعينات لم يكن يُسمح لي بالخروج من المنزل إلا بصحبة بعض أهلي –أمي مثلاً أو عمتي وأخواتي وبنات عمي- لم يكن هناك من متنفس غير الزيارات. ولم يكن هذا الجو يستهويني على الإطلاق" (ص 114).
"لقد كنت معزولة عزلة تامة عن الحياة الخارجية" (ص 132).
"كان والواقع المعاش في ذلك (القمقم الحريمي) مذلاً مهينًا، حيث تعيش الإناث وجودها الهزيل القاتم" (ص 129).
"في هذا البيت وبين جدرانه العالية التي تحجب كل العالم الخارجي عن جماعة (الحريم) المؤودة فيه انسحقت طفولتي وصباي وجزء غير قليل من شبابي" (ص 40).
"هذا العالم الذي كنت أعيش فيه ظل شديد الوطأة على نفسي، حتى لقد سيطر علي الشعور بالعبودية والقسر" (ص 95).
"إن المرأة القروية كانت تملك حرية الحركة بشكل أفضل وأكثر فعالية؛ بفضل سفورها ... "! (ص133)
"ظل العزف والغناء بالنسبة لي تعبيرًا ومخرجًا رمزيًا لحاجاتي العاطفية المكبوتة ... كنت أجد في الموسيقى والغناء –سواء في الاستماع إليها أو في ممارستها- تنفيسًا للتوتر الذي أعانيه" (ص 38).
"ظلت الموسيقى حتى اليوم تشعرني بالصفاء الروحي" (ص 67).
"عكفت على العزف على العود والغناء" (ص 81)، وفيها أيضاً أنها كانت تعزف العود بتشجيع من أخيها إبراهيم!
حياتها بعد التحرر:
تقول عن حياتها في القدس بعيدة عن أهلها: "كنت فرحة بعالمي الجديد، سعيدة ببعدي عن نظام الأسرة الصارم ... إلى جانب هذا كله كانت هناك المكتبات العامرة، ودور السينما، والحفلات الغنائية العامة.. الخ" (ص 122).
(31/4)
"كان المجتمع المحيط بي مجتمعًا متحررًا" (ص122)
"النادي الثقافي المختلط الذي أسسه الدكتور وليد قمحاوي مع بعض الشباب الواعي (!) ... كنت واحدة من أعضاء النادي" (ص 143).
مدحها للإنجليز وبلادهم :
ومما يحزن المسلم أن هؤلاء الإنجليز الذين تمدحهم فدوى هم من تولى كبر التمكين لليهود في بلادها !!
تقول فدوى: "ليس هناك أجمل من الشعور بالحرية والتحرر من المنغصات المحيطة، تلك المنغصات التي يستحيل الفكاك من براثنها إلا بالبعد الجغرافي. لقد عرفت في إنكلترا فرحة السجين بلحظة الخروج إلى الفضاء والنور"
وتقول (ص 194): "كان أكثر ما أحببته: ذلك الطابع الإنكليزي المتجسد في الصوت الخفيض في أثناء الحديث، وفي الصمت المخيم في الأماكن العامة؛ كالحافلات وصفوف الانتظار ... أما الحب فعلى قارعة الطريق، في الحدائق، في السينما، في كل مكان، والقبلة بين الجنسين سهلة التناول.." !! الخ مديحها لمن احتلوا ديارها وأهانوا أهلها وإخوانها، فالحمد لله على نعمة الإسلام والاعتزاز به.
نظرتها للدين وشيء من أفكارها :
-تقول الباحثة هيام الدردنجي: "ظلت فدوى تنظر إلى الدين كمجموعة من الطقوس، ولم نر أي أثر للإيمان الديني في أشعارها" (1)
وتقول فدوى عن نفسها : "لست متدينة، ولا أهتم بالطقوس. صلتي بأمور الدين وكتبه ليست متينة الروابط" (ص 219).
"إن قوى الشر؛ سواء أكانت غيبية أم اجتماعية أم سياسية تقف دائماً ضد الإنسان وتعمل على تحطيمه" (ص 10).
__________
(1) ... فدوى طوقان: شاعرة أم بركان؟، (ص 62).
"انجذبت بطبيعتي التشاؤمية إلى الشخصيات القلقة المتشككة"(ص 154).
"كان كتاب (العهد القديم) من الكتب التي أعود إليها بين حين وآخر" (ص155).
"كان سلامة موسى والعقاد والمازني من الكتاب الذين فتحوا ذهني وعلموني ما لم أعلم.." (ص 153).
(31/5)
"مع سقوط أنظمة الحكم الرجعية في مصر وسوريا تنامت الحركات الشعبية في مصر والعراق، وبدأ الفكر الاشتراكي والماركسي يوغل في ضمير الشعوب العربية موجهًا كفاح الإنسان العربي ضد السيطرة الاستعمارية من جهة، وضد مفاهيم المجتمع التقليدي من جهة أخرى" (ص 142).
"الرجعية العربية تزداد قوة يومًا بعد يوم بفضل انبثاق الثروة في بقع من الرمال ... والتقدمية العربية (!) لم تزل طفلة تفتقر للأسلوب والنظام" (ص232).
-وأخيرًا تقول فدوى : "أحس بعبث الحياة وانعدام غايتها" (ص217).
"بدت لي الحياة اعتباطية" (ص213).
"لم أكن يومًا راضية عن حياتي أو سعيدة بها" (ص 9) .
ولهذا فقد حاولت الإنتحار مرتين ! (انظر: ص 57 و135 من سيرتها).
وصدق الله القائل (ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور).
انحرافات متنوعة في ديوانها (1) :
1-اعتراضها على القدر:
تقول (ص32):
أرحمة الله بعليا سماه تقول أن يكتظ جوف الثرى؟
ويحرم المعوز قوت الحياة في عيشه المضطرب الأعسر
وتقول (ص33):
أليس في قدرته القادرة أن يمسح البؤس ويمحو الشقاء!
أليس في قوته القادرة أن يغمر الأرض بعدل السماء!
وتقول (ص 56):
النور أين النور هل قطرة تسيل منه في دجى يأسها
من أين والأقدار قد جففت منابع الأضواء من نفسها
وتقول (ص 261):
عام قريب، كانت حياتي قبله، شبحًا يدب على جديب، متعثرا بالصخر، بالأشواك، بالقدر الرهيب..
__________
(1) ... الصادر عن دار العودة ببيروت .
2-تأثرها بالمصطلحات النصرانية :وقد بينت في بحث سابق تأثر أدباء الحداثة بالرموز النصرانية؛ نظرًا للفراغ الروحي الذي يعيشونه بسبب انصرافهم عن الإسلام وضعف تأثيره في نفوسهم؛ إضافة إلى اتخاذهم من أدباء الغرب النصارى قدوة لهم.
تقول فدوى (ص173):
وراحت تعانق جرح الحمى حمانا المسمَّر فوق الصليب
وتقول (ص 359):
هناك وراء الوراء بأعماق ذاتي هنالك يرسب شيء خفي
يظل خفيًا ولا شكل له يظل قويًا ولا لون له
(31/6)
يوجه سيري يخط دروبي ويرفع بين يديّ صليبه
وتنشئ قصيدة تسميها (إلى السيد المسيح في عيده) (ص499-501) تتوسل فيها إلى المسيح عليه السلام أن يحل قضية فلسطين !!
3-التشاؤم :
تقول (ص 131):
ماذا أرى؟ هذاك بوم غريب منطلق، جهم المحيا، وقاح
يحوم في الروضة حومًا مريب غدوّه متهم .. والرواح
4-امتهانها للفظ العبادة:
تقول (ص460):
فمن أي الكهوف بزغتَ
يا وجهًا عبدناه ..
5-تأثرها بالقومية وبعرابها الهالك جمال (الخاسر) الذي دبجت في رثائه قصيدة طويلة سمتها: "مرثية الفارس" (ص 602-605).
ألفاظ وقصائد كفرية :
1-تقول فدوى في إحدى قصائدها (ص 589):
وتلعلع في طيات السحب الرعدية
ضحكات الرب !
2-وتقول عن ممدوحها (ص 361):
اسمك لي
يا كلمة ماتني
تجاور اسم الله في قلبي !
3-وتكتب قصيدة بعنوان: "الإله الذي مات" ! (ص391-394).
4-وتكتب قصيدة أخرى بعنوان "الباب المغلق" (ص 441-450) تملؤها بالألفاظ الشنيعة التي تخاطب بها الله عز وجل، موحية إلى القارئ بأنه تعالى لا يستجيب لها، وأنه "مغلق أبوابه" أمامها، فلا جدوى من عبادته حينئذٍ!! إن لم يكن في نظرها خرافة! وقد حق فيها قوله تعالى (نسوا الله فنسيهم) .
فتأمل بعض كلمات قصيدتها القبيحة لتعلم ما سبق: تقول:
يا ملك الدنيا والناس
فسّر لي معنى أفعالك
كنت حبيبي، ملكي الأوحد
لا ألزم إلاَّ أعتابكَ
لا غير رحابك لي معبد
كنت حبيبي في قلبي
أحضن وجهك كل مساء
فإذا رفَّ على عينيَّ جناح الصبحْ
ألفيتك تملأ في قلبي تجويف القلب
تغمره بالدهشة، بالفرحْ
لكن أنت تغيّرتْ
لكن أنت تغيّرتْ
فاهتزَّت أعمدة المعبد
وانهارت قبب الأجراس
مات الملك
هوى، هوى عرش الملك
ومات في أنقاضه الملك
ليسقط الملك
ليسقط الملك (!!)
إلى أن تقول:
هل تسمعُني يا ربَّ البيت
أنا بعد ضياعي في الفلوات
بعيداً عنك أعود إليك
لكنَّ رحابك مغلقةٌ
في وجهي، غارقة في الصمتْ
لكنَّ رحابك كاسية
بتراب الموت
إن كنت هنا فافتح لي بابك لا –
(31/7)
تحجب وجهك عني
وانظر يتمي وضياعي بين –
خرائب عالمي المنهار
وعلى كتفي أحزان الأرضِ –
وأهوال القدر الجبار
لا شيء هنا
عبثاً، لا رجع صدى لا صوت
عودي. لا شيء هنا غير الوحشة –
والصمتِ وظلّ الموت"
وبعد هذه الجولة في انحرافات هذه الشاعرة الحداثية المتحررة أيليق بإحدى الباحثات المسلمات أن تقول عنها :
"لقد أضاءت فدوى دروب الحياة للناس، وقدمت أنموذجًا كيف يمكن للذات أن تتجاوز العقبات والتحديات" (1) !!
لقد أساءت هذه الباحثة لنفسها، ولبست على الفتيات المسلمات وغررت بهن بترويج هذا النموذج المتحرر بينهن، وكان لها في الصالحات وعلى رأسهن أمهات المؤمنين غنية. وصدق الله تعالى (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)؟
أسأل الله الهداية والتوفيق لنساء المسلمين، وأن يصرف عنهن كيد الأشرار، وأن يسلك بهن سبيل الأبرار.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
__________
(1) ... "فدوى طوقان: نقد الذات، قراءة السيرة" للباحثة ريم العيساوي –هداها الله- طبع: أندية الفتيات بالشارقة!!
(31/8)
::::: المجموعة الخامسة :::::
نظرة شرعية في ثلاثية تركي الحمد
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده :
كنت قد كتبت قبل حوالي ثلاث سنوات رسالة مطولة عن فكر وأدب تركي الحمد، ولكن لم يتيسر طبعها في حينه، إنما وجدتْ الانتشار –ولله الحمد- على شبكة الإنترنت بناء على طلبٍ من إخوة كرام رأوا في ذلك حلاً مؤقتاً للتصدي لانحرافات هذا الرجل. ثم بعد ذلك اقترح البعض أن تُخْتصر تلك الدراسة ويُكتفى منها بما ذكرته عن "ثلاثيته" لسببين وجيهين؛ هما:
1- أن "ثلاثيته" هي سبب شهرته بين الناس، ولولاها لما راح ولا جاء.
2- أن تأثير القصص في الناس أشد من تأثير المقالات الفكرية التي يعسر فهمها على كثيرين.
لهذا قمت بالاقتصار في هذه الرسالة على الحديث عن "الثلاثية" وما فيها من مضامين خطيرة يُسْتغرب صدروها من رجل يدعي الإسلام.
أما فكر الرجل ففي ظني أنه لا يستحق مزيدًا من الاهتمام؛ لعدم ثباته على مبدأ واحد، بل هو يتقلب تقلب الليل والنهار! فبينا تراه بعثياً يعلي قيمة الفكر الاشتراكي، إذا بك تجده بعدها مفكرًا قومياً، ثم تفاجأ به عن قريب قد انقلب كاتباً ليبرالياً ! ثم رابعةً كاتباً نفعيًا يدور مع مصلحته الخاصة.. وهكذا؛ فهو كما قيل:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني!
والله يقول عن أصحاب هذا التلون والتردد: "مذبذبين" لا يثبتون على رأي بل يدورون مع أهوائهم.
والملاحظ في كتابات الدكتور تركي الحمد –هداه الله- استكباره عن الحق، ومراغمته لأهله، ورضاه بأن يتقلب بين تلك المذاهب والمبادئ دون أن يكون لدعوة الكتاب والسنة نصيب من ذلك.
ومن يتأمل تلك الكتابات يجدها تدور حول هذه الأفكار التي تتردد عنده كثيراً:
(32/1)
أولها: تشنيعه على العاملين للإسلام في هذا الزمان، وتسميتهم –ظلماً وزورًا- "بالإسلامويين"، ومحاولة إقامة الحاجز بينهم وبين عامة المسلمين. وتصويرهم بأنهم لا يمثلون الإسلام الصحيح. وكان الأولى به أن يعترف بفضلهم وبجهودهم ويشكرها لهم، ويقبل ما عندهم من الحق. أما ما خالفوا فيه الكتاب والسنة فيُرَدُّ عليهم.
ثانيها : ادعاؤه المتكرر بأن الحق المطلق لا يمتلكه أحد! وهذا –في ظني- من تأثير "الذبذبة" التي لازمت مواقفه. لأن هذا التنقل بين أهواء البشر أورثه شكاً فيها جميعاً، بعد أن خبرها وعرف المآخذ عليها. ثم نظر إلى دعوة الكتاب والسنة نظرته لتلك الأهواء (1) !
ثالثها: أنه يخلط بين أمر "الدين" وأمر "الدنيا"، فمن كان متقدمًا في أموره "الدنيوية" كان عند الحمد المقدَّم في جميع الأمور ! وأصبحت "ثقافته" أو "حضارته" أولى بأن تحتذى من الآخرين.
وهذا الخلط جعله يهوي في دركات الضلال عندما فضل الثقافات الأخرى على دين "الإسلام" وإن كان يستر هذا الأمر العظيم بعدم استعماله كلمة "الإسلام" عند المفاضلة !
معارضاً بهذا حكم الله تعالى في قوله (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وأنه تعالى قد ارتضى هذا الدين لعباده. وختم رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكتبه بالقرآن فمن ارتضى غير ذلك فهو لا شك من أكفر الكافرين.
أما تخلف المسلمين في أمر الدنيا فلا شأن للإسلام به، إنما هو من عند أنفسهم عندما انصرفوا عن الأخذ بأسباب العلم والقوة وغرقوا في الخرافات والخزعبلات؛ حتى فاتهم الدين الصحيح والدنيا المتقدمة، إلا من رحم الله.
فأمر الدنيا كلأٌ مباح لجميع البشر؛ كما قال تعالى: (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً). فمن بذل أسبابها حصّلها بإذن الله، ولهذا تجد المتقدمين دنيوياً في عالمنا أصحاب أديان ومشارب شتى لا يختص الأمر بدين أو ثقافة محددة.
__________
(32/2)
(1) ... مقولة "الحق المطلق لا يمتلكه أحد" هي من المقولات "الكفرية" المعاصرة التي تسربت إلى عقول بعض المسلمين من مفكري الغرب، وقد وضحت ذلك في بحث بعنوان "أفكار عصرانية" أسأل الله أن ييسر نشره قريباً.
وليعلم الحمد بعد هذا أن التقدم الدنيوي لا يغني عند الله شيئاً ما لم يقترن ذلك بالدين الصحيح، وقد أهلك سبحانه كثيرًا من الأمم السابقة التي أعرضت عن الحق وكفرت به مع إخباره عنها بأنها قد بلغت شأناً عظيماً في أمور الدنيا. قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم).
الخلاصة: أن من أراد دراسة فكر الرجل ورغب في الرد عليه فلعله لا يغفل عن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتها، وهي ما يمثل معالم فكره .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (أجمعين) .
تعريف بتركي الحمد (1)
...
... هو : تركي حمد التركي الحمد ، المشهور بـ( تركي الحمد ) من أسرة قصيمية انتقلت إلى المنطقة الشرقية ، وسكنت الدمام ، وكان والده يعمل في شركة (أرامكو ) .
ـ من مواليد 10 /3/1952م الأردن ، الكرك " العقيلات " .
ـ درس الإبتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الدمام .
ـ حصل على البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة الرياض عام 1975م .
ـ ثم سافر إلى الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات كاملة ! حصل منها على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ( كلورادو ) عام 1979م .
ـ ثم حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية ـ أيضاً ـ عام 1985م ، من جامعة جنوب كاليفورنيا .
__________
(32/3)
(1) نقلاً عن المقابلة التي أجرتها معه قناة اقرأ الفضائية في يوم 13/8/1419هـ ، ومجلة "فواصل "( العدد 50 ) وقد وصفته هذه المجلة ـ هدى الله القائمين عليها ـ بأنه " أحد الذين بنور أفكارهم تستضيئ العقول ، وأحد الذين بلمعان جواهرهم تنير الآفاق " !!! ومن كتب هذا الكلام حريّ به أن يقرأ هذا الكتاب الذي يبين له حقيقة هذا المفكر المنير للعقول ! لعله يتراجع عن مدحه السابق امتثالاً لقوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله }
ـ عمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة الملك سعود منذ عام 1985م إلى عام 1995م.
ـ ثم طلب التقاعد المبكر ليتفرغ للكتابة. ! (1)
مؤلفاته :
1- الحركات الثورية المقارنة عام 1986 م
2- دراسات أيدلوجية في الحالة العربية عام 1992م
3- الثقافة العربية أمام تحديات التغيير عام 1993م
4- عن الإنسان أتحدث 1995م
5- رواية ثلاثية بعنوان (أطياف الأزقة المهجورة )
... أ ـ العدامة .
... ب ـ الشميسي .
... ج ـ الكراديب .
6- كتاب ( الثقافة العربية في عصر العولمة ) .
7- رواية بعنوان ( شرق الوادي ) (3)
8- السياسة بين الحلال والحرام، (مجموعة مقالات).
( ) صدرت قريباً وهي رواية رمزية مغرقة في الغموض، ولأجل هذا لم يستطع الدكتور غازي القصيبي نفسه فهمها! كما صرح بذلك للمجلة العربية .- له العديد من المشاركات الصحفية عبر المقالات ، كمقالاته الأسبوعية في جريدة الشرق الأوسط ، أو مقالاته في جريدة الحياة ، أو مجلة الاتصال، وغيرها من المجلات السعودية وغير السعودية .
...
ثلاثية تركي الحمد
ثلاثية تر كي الحمد تسمى ( أطياف الأزقة المهجورة ) وهي من ثلاث حلقات متسلسلة تحكي قصة بطل واحد هو ( هشام العابر ) .
الحلقة الأولى : بعنوان ( العدامة ) (2)
__________
(32/4)
(1) سألت مجلة "فواصل " تركي الحمد عن سبب طلبه للتقاعد المبكر من الجامعة وتفرغه للكتابة ، فقال : "لأني شعرت أنني أستطيع أن أنتج فكرياً خارج الجامعة أكثر مما لو بقيت داخل الجامعة ، وأنا أقول لكم بصراحة شديدة جداً : إن الجامعات العربية بشكل عام تحولت إلى نوع من القيد على الفكر ... " !! فما هو هذا ( الفكر المقيد) الذي يريد تركي التفرغ له ونشره بين الناس !؟ هذا ما ستعرفه ـ إن شاء الله ـ.
(2) وسأعتمد على الطبعة الثانية الصادرة عام ( 1998م ) عن دار الساقي بلبنان . والعدامة حي مشهور من أحياء مدينة الدمام .
الحلقة الثانية : بعنوان ( الشميسي ) (1)
الحلقة الثالثة : بعنوان ( الكراديب ) (2)
1 ـ العدامة :
بطل هذه الثلاثية هو ( هشام بن إبراهيم العابر ) شاب صغير السن يعيش مع والديه في مدينة الدمام في فترة الثمانينات الهجرية . وأما اصلهم فيعود إلى القصيم! .
وكان هذا الفتى الصغير مولعًا بالقراءة ومتابعة مايدور حوله من أحداث وأفكار في تلك الفترة الصاخبة بالشعارات ، فاعتنق لأجل هذا الفكر القومي الماركسي الذي كان متوهجاً ساحراً لكل متفتح على الحياة ، لا سيما بعد نجاح هذا الفكر ( على اختلاف درجاته ) في الاستيلاء على البلاد العربية، مما زاد من رصيد معتنقيه الذين رأوا فيه خير موحد للأمة العربية التي مزقها الاستعمار .
... لهذا : اعتنق هشام هذا الفكر وآمن به ، ثم استطاع أفراد تنظيم ( حزب البعث بالسعودية !! ) أن يضموه إليهم كعضو جديد في الحزب بعدما أعجبوا به وبأفكاره .
... استمر هشام يحضر اجتماعات الحزب ( السرية ) ، ويشارك في نقاشاتهم وفي إعداد التقارير لهم عن الأحوال السياسية الجارية .
... كما أنه استطاع أن يضم صديقه ( عدنان العلي ) إلى هذا الحزب ، إلا أنه برغم كل هذا يود التخلص من الارتباط بعضوية الحزب ، مع البقاء على أفكاره دون أن يشعر بأي تقييد .
...
(32/5)
سافر هشام إلى الرياض لتقديم أوراقه إلى كلية التجارة مؤملاً أن يدرس شيئاً عن الأفكار والأنظمة السياسية المختلفة . فاضطر للسكن في بيت خاله (المتدين ) .
__________
(1) وسأعتمد على الطبعة الأولى ، الصادرة عام ( 1997م )عن دار الساقي بلبنان . والشميسي شارع وحي مشهور في مدينة الرياض .
(2) وسأعتمد على الطبعة الأولى ، الصادرة عام ( 1998م ) عن دار الساقي بلبنان ، والكراديب رمز للسجن .
... كان أولاد خاله يختلفون عنه كثيراً في أسلوب حياتهم وطريقة عيشهم ، حيث كانوا مقبلين على اللهو والتمتع بالحياة، ولم تكن الأفكار الفلسفية والأحداث السياسية تستهويهم لا سيما ( عبدالرحمن ) الذي تميز عنهم بحبه للمغامرات (النسائية) مع شربه للخمر ( أو العَرَق ) .
... تغيرت أحوال هشام بسبب ابن خاله عبدالرحمن الذي أغراه بالتمتع بشبابه ومعاقرة الخمر والنساء، فانساق هشام معه تدريجياً إلى أن سقطت جميع المثل التي كان يراها في السابق من عينيه بفضل رعاية والديه له في الدمام . فأقبل على حياته الجديدة بنهم شديد وبعلاقات نسائية متتالية .
... كان هشام قد سافر من قبل مع أهله إلى بلدهم الأصلي ( القصيم ) لزيارة جده وجدته .
... وهناك تعرف هشام على (عبد المحسن التغيري ) الذي عرَّف هشاماً على بقية زملائه من خلال ( كشتات ) البر . وهم ( محمد الغبيرة ) و( دعيس الدعيس ) و(سليم السنور ) و ( صالح الطرثوث ) و( مهنا الطعيري ) وكانوا جميعاً من المهووسين بجمال عبد الناصر وبقوميته لا سيما ( مهنا الطعيري ) .
... عاد هشام إلى الدمام مواصلاً ترقب أخبار الاعتقالات التي حدثت لأفراد الحزب والأحزاب والتنظيمات الأخرى المعارضة ( للحكومة السعودية ) ومواصلاً أيضاً غزله المتبادل مع بنت الجيران ( نورة ) .
... وبهذا انتهت الرواية الأولى من ثلاثية تركي الحمد .
... لتبدأ بعدها أحداث الرواية الثانية ( الشميسي ) .
2 ـ الشميسي :
...
(32/6)
تكاد تكون أحداث رواية الشميسي مخصصة لحال هشام في مدينة الرياض، وهذا مايوحي به اسمها ( الشميسي ) الذي هو اسم شارع شهير في مدينة الرياض .
... سجل هشام في كلية التجارة وانتقل إلى السكن عند خاله في الرياض ، وكثرت ملابسته للمحرمات من شراب ونساء بواسطة ( عبد الرحمن ) ابن خاله.
... ثم ارتبط بعلاقة غير شرعية مع جارة خاله ( سارة ) أو ( سوير) وأصبح يتردد عليها .
... تفاجأ هشام بالتزام صديقه عدنان ، الذي اختار سبيل الخير مسلكاً له وارتبط مع شباب صالحين أثناء قدومه للدراسة الجامعية في الرياض ـ أيضاً ـ.
... انتقل هشام للسكن في عزبة مع ( عبد المحسن التغيري ) الذي قدم الرياض من القصيم لكي يأخذ ـ أي هشام ـ حريته الكافية التي كانت مقيدة نوعاً ما في منزل خاله .
... انتهت امتحانات نصف العام فذهب هشام إلى الدمام لزيارة أهله مواصلاً علاقته العاطفية مع ( نورة ) بنت الجيران بعد أن علم بزواجها .
... رجع هشام إلى الرياض مواصلاً ـ أيضاً ـ مغامراته النسائية لا سيما مع (سوير ) التي حملت منه !
... جاء والده فجأة لزيارة الرياض لإخباره بأنه مطلوب من قبل رجال الأمن (المباحث ) .
... وبعد أخذ ورد قرر الوالد إخفاءه عن أعين الأمن عند أحد زملائه إلى حين استصدار جواز مزور له لكي يتمكن من الهرب إلى بيروت (1) عن طريق البحرين ، ولكن رجال الأمن كانوا له بالمرصاد حيث قبضوا عليه وحققوا معه ثم قرروا ترحيله إلى جدة لمواصلة التحقيق ( الجاد ! ) معه .
... بهذا الحدث انتهت رواية الشميسي وهي الحلقة الثانية من ثلاثية تركي الحمد ، لتبدأ بعدها أحداث الحلقة الأخيرة من الثلاثية وهي رواية ( الكراديب).
3ـ الكراديب :
(32/7)
هذه الرواية مخصصة لبيان أحوال هشام في السجن في جدة بعد أن حُقق معه ولكنه أبى الاعتراف بانتسابه إلى تنظيم ( حزب البعث ) ، فقرروا أن يلبث في السجن إلى حين ، حيث تعرف من خلال السجن على الشيوعي ( عارف)، فبدأت بينهما نقاشات حول أفكار بعضهما مع شد وجذب ، لأن كل واحد منهما يؤيد فكرته لتصحيح الأوضاع.
__________
(1) كانت ملجأ للمعارضين ذاك الزمان
... اعترف هشام بما يريده السجانون فنقلوه من مكانه إلى مكان آخر أفضل منه. حيث تعرف ـ أيضاً ـ على ( وليد ) الذي يؤمن بالقومية كحل لأفراد الأمة ، و (عبد الله ) الذي ينتمي إلى ( الجبهة الديمقراطية ) وهي جبهة منفصلة عن حزب البعث ، ( ولقمان ) الذي ينتسب إلى الإخوان المسلمين ! .
... استمرت النقاشات بين هؤلاء الأربعة ، وكلٌ منهم يحاول أن يبين صحة نظرة واختياره هذا المسلك الذي سلكه ، وارتضاه دون غيره .
... بعد مدة من الزمن تم الافراج عن هشام الذي عاد فوراً إلى الدمام ، ولكنه وجد كل شيء حوله قد تغير ولم يعد يحمل ذكرى الماضي لا سيما وأبوه قد انتقل إلى بيتٍ جديد بدل بيتهم القديم الذي عاش فيه سنيه الأولى .
... بعد أخذ ورد قرر أهله أن يعود إلى مواصلة دراسته في الرياض ، فعاد إليها مندهشاً لمدى تغيرها عن عهده القديم بها ، في مبانيها وفي أفرادها ( وهو ينظر بعينين فقدتا بريقهما ، إلى أزقة كانت مأهولة ، فلم تعد إلا أزقة مهجورة تجوبها أطياف لاحياة فيها ، ولكنها لا تريد أن تموت ) (1) ، وبهذا انتهت أحداث الحلقة الأخيرة من ثلاثية تركي الحمد .
ملامح بطل الثلاثية : هشام العابر :
لنتبين ملامح ( هشام العابر ـ أو تركي الحمد ) في هذه الرواية سأقتطف بعض العبارات من الثلاثية تُكون لنا صورة متكاملة لشخصيته (صفاته وطموحاته):
1ـ هو شاب يحب القراءة : لاسيما قراءة الكتب ( المحرَّمة ) الفلسفية والماركسية .
(32/8)
( لقد خرج إلى الدنيا وهو لا يعرف إلا هواية واحدة ، ولذة واحدة هي القراءة، ويقرأ أي شيء ، وكل شيء تقع عليه يده ) (2)
__________
(1) الكراديب ( ص288)
(2) العدامة ( ص9 ) .
( أخذت القراءات الفلسفية والسياسية تجذبه كثيراً منذ أن أهداه أحد أصدقاء والده كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد " لعبد الرحمن الكواكبي ، حتى أنه كان يقضي ليالي بطولها في قراءة النصوص الماركسية والقومية والوجودية وغيرها من التيارات الفلسفية والسياسية مما تقع عليه يده في المكتبات المحلية ، أو يحصل عليه مما هو غير متاح في المكتبات ) (1)
... ( في المرحلة الثانوية أهمل الدراسة إهمالاً تاماً ، ولولا خشيته من جرح كبرياء والده وقلب أمه لما درس إطلاقاً ، وتفرغ لعالمه الجديد من القراءة واكتشاف النصوص المحرمة ) (2)
... ( لم تعد الكتب المتوفرة في المكتبات المحلية ترضي شغفه بالعالم الجديد الذي اكتشف ، فكان في كل رحلة مع والديه إلى الدول المجاورة ، الأردن أو سوريا ولبنان يجلب معه بعضاً من تلك الكتب الممنوعة والمحرمة ، والتي تكون زاده المعرفي طوال الفترة اللاحقة ) (3) .
__________
(1) العدامة ( ص9 ).
(2) العدامة ( ص10) .
(3) العدامة (ص12)
...
(32/9)
( كان ينفق كل مصروفه على الكتب الماركسية غير المتاحة في بلده ، وخاصة مؤلفات آرنستوتشي غيفارا ، وريجس دوبريه ، وفرانز فانون ، بالإضافة إلى مؤلفات ماركس وانجلز وبليخانوف ولينين وترو تسكي وستالين ، التي تشكل الزاد الفكري الرئيسي .أما ما كان يهزه من الداخل فعلاً ، فقد كانت مؤلفات غيفارا التي كانت تدغدغ شيئاً ما داخل ذاته . كانت هذه الكتب ، بالإضافة إلى الأعمال الأدبية والروائية العالمية الخالدة ، تباع بأرخص الأسعار على أرصفة الشوراع في عمان ودمشق وبيروت ، وعلى عربات أشبه بعربات الخضار . التهم خلال رحلاته ، وبعد العودة ، كل روايات مكسيم غوركي خاصة ، وأهم الروايات الخالدة في الأدب الروسي عامة . قرأ " آنا كرنينا " و " البعث " لليو تولستوي ، " والجريمة والعقاب " "والأخوة كارامازوف " لفيدور دوستويفسكي ، و"الدون الهاديء" لميخائيل تشولوكوف . وقد أثارت فيه رواية " الأم " لغوركي أحاسيس وانفعالات عنيفة متداخلة ، من الغضب إلى الحماس إلى البكاء إلى العطف إلى القسوة إلى الرقة ، مما جعله يعيد قراءتها مرات ومرات. بكى عدة مرات مع العم توم في كوخه ، وعاش مع لانغ وزوجته في أرضهما الطيبة ، وتعاطف كثيراً مع مدام بوفاري بنفس القدر الذي حنق فيه على سكارليت أوهايرا . وكان يختلس لحظات طويلة يقرأ فيها ألبرتو مورافيا وبلزاك واميل زولا ، لا حباً في ذات هذه الأعمال دائماً ، ولكن بحثاً عن مشهد جنسي هنا ، أو وصف لعلاقة حميمة هناك ويتصور في لحظة حلم يقظة أنه البطل في كل هذه العلاقات. أما ذلك الوصف الأخاذ للحياة الاجتماعية في هذه الأعمال ، فلم يكن يهمه كثيراً ، إذ كان يعتقد أن الأدب الروسي لا يعلى عليه في هذا المجال كما قرأ بعض روايات تشارلز ديكنز ، وأعجبته خاصة " قصة مدينتين " ، التي اعتبراها ، مع " الأم" أفضل أعمال يمكن كتابتها . كان ينفق مصروفه على هذه الكتب ) (1) .
__________
(1) العدامة ( 12-13) .
(32/10)
2ـ هو يريد أن يكون مفكراً طليقاً ، لا يتقيد بأي دين أو مذهب سوى (العلم!) .
... ( يذكر ذات مرة أنه دخل في مجادلة مع مدرس الدين حول نظرية النشوء والإرتقاء لدارون ، حين شتم هذا المدرس النظرية واصفاً إياها بالفكر والإلحاد ، وشتم صاحبها واصفاً إياه باليهودية والمؤامرة اليهودية على الإسلام والمسلمين . يذكر يومها أنه قال للمدرس إن هذه النظرية إنتاج علمي ، والعلم هو سيد العصر شئنا أم أبينا . قد يخطىء دارون وقد يصيب بشأن أصل الإنسان وأصل الأنواع ولكن التطور حقيقة تفرض نفسها ، كما أن دارون ليس يهودياً لا أباً ولا أماً . يومها اتخذ منه مدرس الدين موقفاً عدائياً ، واصبح لا يناديه إلا بالفاسق . ولكن ذلك لم يكن يهمه كثيراً بل لم يكن يهمه على الإطلاق، مع ذلك الحماس وذلك الإنطلاق الذي وجده في عالمه الجديد ) (1) .
... ( أريد أن أكون مفكراً طليقاً ، لا مناضلاً سياسياً في تنظيم ) (2) .
3ـ هو ماركسي المذهب ، ليس كالماركسيين ، بل يحب المزج بين الماركسية والقومية العربية :
__________
(1) العدامة (ص 14-15)
(2) العدامة ( ص26) .
...
(32/11)
( أعجبته كتابات ياسين الحافظ وكذلك المنطلقات ، إذ وجد فيها مزيجاً أخاذاً ومثيراً من الماركسية والقومية . وجد فيها شيئاً كان يشعر أنه ينقص الكتابات الماركسية التي قرأ ، وكذلك الكتابات القومية على اختلافها . فقد سبق له أن قرأ " في سبيل البعث" لميشيل عفلق ، وبعض كتابات منيف الرزاز وصلاح البيطار ، والكتابات الناصرية القليلة مثل فلسفة الثورة ، لجمال عبد الناصر ، وكتابات أنور السادات حول ثورة يوليو وعبد الناصر ، وكذلك " بصراحة " محمد حسنين هيكل التي ينشرها في جريدة الأهرام كل يوم جمعة ، ويستمع إليها من خلال إذاعة "صوت العرب " من القاهرة ، فقد كانت الأهرام ممنوعة من الدخول في بلده . كانت الكتابات الماركسية تركز على المسألة الاجتماعية والأممية ، وبقدر ما كان متحمساً للمسألة الاجتماعية ومؤمناً بها ، بقدر ما كان متردداً بشأن المسألة الأممية .إنه يشعر أنه قومي حتى النخاع ، والقومية تسري في عروقه . وتهزه خطابات جمال عبد الناصر ، وتثمله الشعارات القومية التي يطلقها البعثيون والناصريون والقوميون العرب . لكن رغم ذلك ، كان يحس أن هنالك شيئأ ناقصاً ، كان يشعر أن هؤلاء لم يعطوا المسألة الاجتماعية حقها من الإهتمام، وخاصة قضايا مثل الصراع الطبقي والإشتراكية العلمية والحتمية التاريخية . ولذلك اعتقد أن الفكر الماركسي ، رغم بعض التحفظات ، هو الذي من الممكن أن ينير الطريق ويعطي فلسفة متكاملة للحياة . أعجبته كتابات الحافظ والمنطلقات لأنها تمزج المسألة القومية بالإجتماعية . جامعة ما يشعر بميل إليه في فلسفة واحدة ) (1)
... ( لا تعجبني أفكار عفلق والبيطار والرزاز . أعتقد أنها عاطفية أكثر من اللزوم ، رغم إيماني بإطارها العام . نحن بحاجة إلى فلسفة متكاملة . وأعتقد أن الماركسية هي الحل رغم النواقص التي من الممكن إكمالها ) (2)
__________
(1) العدامة ( 61-62) .
(2) العدامة ( 63 ).
...
(32/12)
( إذا كان ما في المنطلقات هو فكر البعث ، فإني أجد نفسي فيه ، فهو يمزج القومية بالماركسية . . . وهذه هي قناعاتي ) (1)
... ( أحس بالهلع والنفور من كل ما يمت إلى التنظيم وفكره بصلة . وبقيت علاقته الحميمية بالماركسية ) (2)
... هو يتبنى فكراً ماركسياً لا يعتقد بدور البطل في التاريخ ، بل هي التناقضات المادية والاجتماعية التحتية ، وانعكاساتها الفوقية السياسية والثقافية) (3)
( الماركسية . . . هي الفكر العلمي الشامل القادر على منحنا مفاتيح التاريخ والمجتمع والسياسة ، ومن لديه هذه المفاتيح لا خوف عليه ولا هو يحزن ) (4)
( الحقيقة أني ميال إلى الفكر الماركسي ) (5)
( سوف يتعلم الماركسية على أصولها ) (6)
( من قال لك إني شيوعي ؟ . . . أنا اشتراكي ) (7) .
( أنا أميل إلى الماركسية ، ولكني لست شيوعياً ) (8) .
... ولكن هشاماً برغم هذا الحسم (الماركسي) لتوجهه إلا أنه بقي متردداً متحيراً في أمره تصارعه أفكار شتى حول هذا الكون ، وخالقه ، وأحداثه ، مما لم يستطع أن يستوعبه فأصبح ينادي بتفاهة هذه الحياة وأهلها ، وعبثية أحداثها وأقدارها ، مع ترقب وتوجس لهجوم الموت (الغادر!) عليه :
... (ليست الحياة إلا حفلة ماجنة يُدخن فيها الحشيش ويؤكل الخبز مغموساً بالنبيذ والعرق الراشح من أجساد أدمنت الجنس ، وأدماها الهوى ، ومزقت نفسها بوحشة أخلاقية .نحاول أن نضفي المثال والجمال على هذه الحفلة العابثة ، ولكن كل شىء ينكشف ولو بعد حين ، وتقف الحقيقة عارية من جديد ، كما ولدت عارية من قديم ... العدم يقف بالمرصاد ، والمجهول يتربص من بعيد ، والعجز يقيد المجتمع ) (9)
__________
(1) العدامة ( ص64 ) .
(2) العدامة ( ص 224 )
(3) العدامة ( ص 278 )
(4) العدامة ( 283)
(5) العدامة (ص 57 )
(6) العدامة ( ص105)
(7) الشميسي (ص123) .
(8) الشميسي (ص24) .
(9) الكراديب (ص186)
...
(32/13)
(الموت قادم لا محالة .. إنه مصير ملموس ، وليس كمصير الأمة أو الطبقة، مشكوك فيه بقدر ما هو مشكوك في الأمة والطبقة ذاتهما . فلماذا الإحتياط ، ولماذا الخوف ؟ ... ولماذا هذه اللعبة السمجة ، لعبة القط والفأر ... ما نحن إلا ممثلون في مسرحية ، وسواء طال دور أحدنا في هذه المسرحية أم قصر ، فإنه لايلبث أن ينتهي ، وتنتهي كل المسرحية في النهاية ...
... ثم بعد تردد طفيف .
ـ ولو كان لي من الأمر شيئاً (1) في البداية ، لما اخترت الاشتراك في المسرحية من الأساس ) (2) .
... ( هل ما يجري هو حكمة خافية لاندريها ، أو أنه مجرد عبث اعتدنا عليه فأصبح نظاماً ، أم هو مزيج منهما ، أم لا هذا ولا ذاك ؟ أين المعنى في كل ذلك وما هو النظام ؟ لا أحد يدري ، ولن يدري أحد ) (3) .
... ( يالهذا الموت الجبان الغادر ... إنه يأخذ أجمل ما في الحياة ويضحك ويهجرنا حين نريده ، ويحل ضيفاً ثقيلاً حين لانريده ... ليت موسى لم يفقأ عين عزرائيل حين أتى لقبض روحه ، ولكنه قصم ظهره أو دق عنقه ... ولكن حتى لو مات عزرائيل ، هل يموت الموت ؟ ويقلع عن أفكاره هذه ويقتنع بأهمية الموت لا ستمرار الحياة ، ولكنه يكرهه ، ولا زال يعتقد بجبنه وغدره ) (4) .
... (عليك الرحمة ياابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة وأحقر من بعوضة، يا لك من معتوه يا ابن آدم ، أردت أن تكون إنساناً كما أراد لك من أنسنك ، ولكنك وجدت نفسك في عالم تداس فيه كصرصار تائه ، وتسحق فيه كذبابة وقحة ) (5) .
__________
(1) هكذا ! والصحيح : شيءٌ .
(2) الكراديب (ص193) .
(3) الكراديب (ص215) .
(4) الكراديب (242) . وسيأتي خطاً تسمية ملك الموت بعزرائيل .
(5) الكراديب ، (252) .
...
(32/14)
قلت : هذه أبرز ملامح (هشام العابر) : فهو يحب القراءة منذ صغره في الكتب (المحرّمة) الفلسفية والماركسية ، التي كانت ممنوعة ـ لضررها ـ في بلاده (السعودية) ولهذا كان يحرص على تحصيلها من عدة منافذ .
... ولأجل قراءته هذه فقد تعلق قلبه بالفكر الماركسي والفكر القومي الذي كان عالياً صوته شديداً هيجانه في تلك الفترة ، فحاول أن يمزج بين (القومية والماركسية) متأثراً ببعض قيادات ومنظري (حزب البعث) .
... ولأجل هذا انضم (هشام) ـ على كرهٍ وتمنع ـ إلى هذا الحزب ، لأنه يود أن يكون مفكراً طليقاً ، بدلاً من حصره في صرامة التنظيمات .
... وكانت نظرته إلى الحياة سوداوية تشاؤمية ، لأنه لم يعرف لها هدفاً ، ولم يفقه حكمة الله من خلقها ، وجعل الخلق يتوارثونها ، لم يعد يرى منها سوى أنها حياة لا قيمة لها ، تجري أحداثها وأقدارها بعبثٍ لا حكمة فيه .
ويتضح بعد هذا الموجز عن هشام العابر (أو تركي الحمد !) وأفكاره أن الحديث ـ دون تطويل ـ سيكون حول :
6 ـ بيان تنقص الحمد في ثلاثيته :
أ ـ لله .
ب ـ وملائكته .
جـ ـ وكتبه . ...
د ـ ورسله .
هـ ـ ودينه .
و ـ وعباده الصالحين .
7 ـ مباحث أخرى .
تركي الحمد يتنقص في ثلاثيته :
الله وملائكته وكتبه ورسله ودينه وعباده الصالحين
تنقص الحمد لله ـ عز وجل ـ :
... لم يقدر تركي الحمد الله ـ عز وجل ـ حق قدره ولم يعظمه كما يعظمه عباده المؤمنون ، بل تحدث عنه في روايته وكأنه يتحدث عن بشرٍ مثله حديث الند للند بعبارة مملوءة بالتحدي والسخرية ـ والعياذ بالله ـ ، وإن كان قد أخفى أشدها بالأسلوب الرمزي الذي عهدناه من هذا الصنف من البشر عندما يخوضون في مثل هذه الأمور .
... فالحمد جاء في روايته بلهجة غريبة شاذة عن أهل هذا المجتمع في حديثهم عن ربهم ـ سبحانه وتعالى ـ حيث تجرأ في ذلك بصورة وقحة فاجرة .
...
(32/15)
وهو مشابه في هذه الجرأة لتيار الحداثة في ديار المسلمين الذين كانوا أول من ترددت هذه الظاهرة ( الكفرية ) في أشعارهم وأحاديثهم ، حيث لم يتورعوا عن الحديث عن الله ـ عز وجل ـ بألفاظ سوقية بشرية ، فمن ذلك على سبيل المثال :
... قول صلاح عبد الصبور في قصيدته ( الناس في بلادي )
( يا أيها الإله ،
كم أنت قاسٍ موحش
يا أيها الإله ) (1) .
... وقول الشاعر (الماركسي) البياتي :
( الله في مدينتي يبيعه اليهود
الله في مدينتي مشرّد طريد ) (2) !!
... وقول معين بسيسو :
( وطرقت جميع الأبوا ب
أخفتني عاهرة
ووشى بي قديس
كان الله معي
لكن الله هناك
يدلي بشهادته .. في مركز بوليس ) (3) !!
... وقول توفيق زياد :
( ومداخن الأفران
... قائمة .. كآلهة المنايا ) (4) !!
... وقول محمود دريش :
( نرسم القدس
إلهً يتعرى فوق خطٍ داكن الخضرة
أشباه عصافير تهاجر ) (5) !!
... وهكذا .. في عبارات (كفرية) كثيرة تتناثر في أشعارهم القذرة (6)
... وفي ظني أن هذه الظاهرة السيئة قد وفدت إلى ديار المسلمين عبر شعراء اليهود والنصارى وكتابهم ، الذين تُرجمت أشعارهم وعباراتهم وكانت مصدراً رئيساً لشعراء المسلمين .
... وأولئك اليهود والنصارى ـ كما هو معلوم ـ لا يعظمون الله حق تعظيمه ، ولا ينزهون اسمه عن لغوهم وباطلهم .
__________
(1) ديوانه (ص30ـ31) .
(2) ديوانه ( ص 526 ).
(3) ديوان ( ص 440 ) .
(4) ديوانه (ص184) .
(5) ديوانه (ص398) .
(6) انظر لفضح شعراء الحداثة كتاب (الحداثة : مناقشة هادئة لقضية ساخنة ) للدكتور محمد خضر عريف . وكتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) للشيخ عوض القرني .
...
(32/16)
وسبب ذلك ـ والعلم عند الله ـ هو تأثرهم بما جاء في كتبهم الدينية المحرّفة (لا سيما التوراة) عند الحديث عن الله ـ عز وجل ـ وصفاته حيث تتحدث تلكم الكتب ( المقدسة !) عن الله وصفاته كحديثها عن الخلق وصفاتهم، فجعلوا ( المولى سبحانه وتعالى في صورة بشر حقود ، سريع الغضب، كثير الندم ) (1) .
... فمن ذلك قولهم في ( سفر التكوين ، الإصحاح الثاني ) عن الله ـ عز وجل ـ : ( وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله ... ) (2) !
... ومن ذلك إخبارهم عن الله ـ عز وجل ـ بأن اليهود عندما تاهوا نزل الله ـ عز وجل ـ فهداهم إلى طريق الخروج ! (جاء في سفر الخروج "وارتحلوا من سكوت ، ونزلوا في إيثام في طرف البرية . وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق ، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم ... ) (3) .
... ومن ذلك زعمهم أن الله يبكي ويلطم وجهه ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ (4) وأنه ـ تعالى ـ يصارع يعقوب عليه السلام ـ (5) !! وأنه ـ تعالى ـ اعترف بخطئه أمام كبير الأحبار (6) !! وأنه ـ تعالى ـ يندم ويحزن وينسى (7) !!
... إلى آخر تلك الصفات السيئة التي ألصقها اليهود ـ لعنهم الله ـ برب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ
... يقول الدكتور محمد البار بعد أن ذكر هذه الافتراءات :
(ومما تقدم نخلص إلى أن صفات الله سبحانه وتعالى في التوراة والتلمود ، لا يمكن أن تكون صفات الله خالق الأكوان ومدبرها .. بل لا يمكن أن تكون إلا من صفات أراذل البشر .
__________
(1) (( الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة والعهد القديم )) للدكتور محمد البار ، (ص5) .
(2) المصدر السابق (ص21) .
(3) المصدر السابق (ص23) .
(4) المصدر السابق (27) .
(5) المصدر السابق ( 30 ) .
(6) المصدر السابق (30)
(7) المصدر السابق ( 31) .
...
(32/17)
هذا قليل من كثير من هذه الافتراءات والغثاء والكذب ، والتجديف في وصف المولى سبحانه وتعالى .. والتوارة والعهد القديم والتلمود كلها مليئة بهذه الأوصاف المنكرة والسجايا الخبيثة التي لا يمكن أن يوصف بها إلا أحط البشر وأراذلهم ، فكيف يمكن أن يوصف بها المولى سبحانه وتعالى؟!) (1) .
... وقال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد أن أورد شيئاً من تلكم الأكاذيب :
... (فهذه الأمثلة من أوضح الأدلة على التحريف ، فإن الله عز وجل موصوف بصفات الكمال المطلق وكل ما يشعر بالنقص فالله عز وجل منزه عنه، فتضمين اليهود كتابهم صفات تشعر بوصف الله بصفات لا تليق بمقام الألوهية والربوبية والكمال المطلق ، دليل واضح على التحريف والتبديل إذ لا يمكن أن يتضمن الكتاب الذي نزل من عند الله ما يطعن فيه جل وعلا .
... وبأمثال هذه الافتراءات من قبل متقدميهم تجرأ متأخروهم على الافتراء على الله ، واعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله لا يعذبهم، وفي هذا يقول الله عز وجل: {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (2) ) (3) .
... قلت : فهذه العقيدة الفاسدة قد أخذها كتاب وشعراء أهل الكتاب من كتبهم ( المحرفة ) فأضحوا يرددونها في نثرهم وأشعارهم دون أي خوف أو خجل من رب العالمين ، لأن كتبهم ( المقدسة !) قد جرأتهم على نقل وترديد هذا الاستخفاف والطعن بربهم ـ عز وجل ـ وأسقطت هيبته من نفوسهم .
... ثم جاء من بعدهم ( نصارى ) العرب (4) فنقلوا تلك العقيدة في كتاباتهم ونظمهم .
__________
(1) المصدر السابق (41)
(2) سورة آل عمران ، الآية 24.
(3) دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية ( ص93 ) .
(4) كيوسف الخال ، وجورج شحاده ، وجبرا إبراهيم جبرا ، وإيليا حاوي وغيرهم .
...
(32/18)
وعن هؤلاء الكفرة أخذها كتابنا وشعراؤنا الذين ( يدعون ) الإسلام ، فخاضوا فيها تقليدا لأولئك دون أن يعصمهم عن هذا الخوض المنكر رهبة من الله ـ عز وجل ـ
... فأصبحنا نسمع ونقرأ عبارات لبعض الشعراء ( المسلمين ! ) تضاهي في كفرها عبارات اليهود والنصارى ، ويندى لها جبين المسلم الموحد ، ويأسى على حال إخوانه الذين تابعوا الكافرين في طعنهم برب العالمين ، مصداقاً لقول? في هذا الصنف " لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو القذة بالقذة . حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قيل : اليهود والنصارى ؟ قال ? " فمن ؟ " (1) أي ليس إلا هم .
... وقد دخل شرذمة من كتابنا وشعرائنا هذا الجحر الذي أخبر عنه الرسول? بل زادوا عليه بأن طعنوا في خالقهم ـ عز وجل ـ متابعة لمن هم شر البرية ـ كما سبق
... يقول الدكتور أنس داود في كتابه ( الاسطورة في الشعر العربي الحديث):
... (لجأ شعراؤنا إلى الكتب المقدسة وبخاصة التوراة والإنجيل وقلما استفادوا من القرآن في هذا السبيل ، ربما لأنهم يعيشون في أمة إسلامية لا تستسيغ مثل هذه النظرة الفنية إلى أقدس مقدساتها الدينية ، ولأن الكتاب المقدس كان مصدر استلهام فني في الشعر الأوربي بمثل ما استلهم هؤلاء الشعراء أساطير الأقدمين . ولأن ثمة نسباً ـ كما نرى ـ بين كتاب كالتوراة ومجموعات الأساطير المتوارثة في قوة تصويرها لنوازع الإنسان ، وتجسيدها للأهواء البشرية حتى حين تتحدث عن الأنبياء لا تتحدث عنهم هذا الحديث المتطهر الذي تجده في القرآن ، بل نجد لديهم فيضاً من الغرائز ، وغلبة للشهوات أحياناً ولجوءً إلى الحيل والخديعة ، وغير ذلك مما نجده في الحديث عن داود وعن سليمان وغيرهما من الأنبياء مما يقربهم من الشخصيات الأسطورية في نوازعها الجارفة وسلوكها كل مسلك)
... قلت : ثم جاء ( الحمد ) منضماً إلى هذا الركب ومتحدثاً في ثلاثيته عن ربه عز وجل بعبارات بشعه لا تصدر عن مؤمن فمن ذلك :
__________
(32/19)
(1) أخرجه البخاري ومسلم .
... قوله على لسان هشام : (أراد أن يتحدث مع عارف ، لكنه فقد الرغبة في الحديث . الله ، الحتمية ، الجبرية ، العلم .. كلها أشياء يتعلق بقشة منها . يريد الخروج ، فمن يوفر له ذلك ، فهو الله) (1) .
... وقوله عنه : (يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم) (2) .
وقوله : (دائماً المستقبل الذي لا يجئ ، والتاريخ الذي لا نعيه ، والله الذي لا نراه، يقفون وراء كل شيء ، ويبررون كل شيء) (3) .
__________
(1) الكراديب ( ص154) .
(2) الكراديب ( 213).
(3) الكراديب ( ص 130 ).
(32/20)
وقوله : (واستسلم لحلم يقظة جميل ... تصور نفسه من بني إسرائيل أو سام ، وود لو كان أسيره إلى الأبد . تصور أنه يوشع نفسه ، أو سوبرمان ذاته . قادر على إيقاف الزمن ذاته . لا شيخوخة ولا موت ولا ألم ولا ... تحقيق . تصور أنه الله ذاته ... ولم لا ... ما فرقه عن الحلاج والسهروردي وابن العربي ؟ (1) نحن الله والله نحن ... كانت تلك رسالة موسى والمسيح ومحمد ، ولكن أكثر الناس لا يدركون ، فجعلوه ابن الله إنه ذات الله الآن ، فماذا يفعل ؟ هل يجعل الكون أكثر راحه ، وينشر السعادة بين البشر ؟ ولكن ... ما هي السعادة ؟ ! سعادة سقراط أم أفلاطون أم أرسطوا أم ديوجين أم أبقور أم زينون أم كونفيشيوس أم بوذا أم وأم ، وأم ... جملة أمَّات لا نهاية لها . كالحياة ذاتها . ثم لو نشر السعادة وقضى على الألم ، فهل يكون للسعادة نقيض الشقاء أو نقيض الألم ، فكيف يمكن إدراك السعادة إذا ختفى الألم ؟ حتى الجنة بدت له عديمة اللذة في تلك اللحظة كما بدت جهنم عديمة الألم . الخمرة لا تسكر ذاتها ، والجمرة لا تحرق نفسها ... البراز لا يتأذى من رائحة نفسه ، والفل لا يستمتع بريح ذاته . لابد من البراز لاكتشاف لذة الفلة ، ولا بد من الفلة لاكتشاف قذارة البراز . ولذلك كان هناك جنة ونار معاً ، الله وشيطان ، نبي وفرعون ، وكل في قدر يسبحون ... تحقيق السعادة وحدها ، يعني توحيد الألوان . وعندما تتوحد الألوان ، تختفي ... المعنى في الاختلاف ، والعماء في التجانس . مشكلة ... وجود الحياة بشكلها الحالي مشكلة ... وجعلها أجمل وأحلى وأعدل مشكلة، لم لا تكون ذات الحياة هي المشكلة ؟ لو كان ذات الله ، لألغى الحياة ذاتها . لألغى هذه المسرحية المملة ، وصرف ممثليها وألغى تلك الأدوار المقررة المعروفة .
__________
(1) الصواب ( ابن عربي ) بدون ( أل ) وهو الصوفي الملحد المشهور ، أما ( ابن العربي ) فهو الفقيه المالكي صاحب كتاب " العواصم " .
(32/21)
لا حرية مع الوجود ، فكل الحرية في العدم ... ) (1) .
... وقوله : (الله أعلم ! مسكينٌ أنت يالله ... دائماً نُحَملك مانقوم به من أخطاء) (2) .
وقوله على لسان ( الشيوعي ) عارف : (إن الانتحار هو تحد للإله نفسه .
... ثم وهو يضحك بسرعة :
ـ هذا إن كان هناك إله ... الانتحار يا صديقي يعني أني قد اخترت الجحيم ورفضت النعيم بملء إرادتي ... فالنعيم الحق هو ما أختاره أنا ، لا ما يختاره لي ما ليس أنا ... الجحيم هو النعيم حين أختاره أنا ، والنعيم هو الجحيم حينما بختاره غيري لي أنا .
... ويضحك عارف مرة أخرى ، ثم يعتدل في جلسته ، وقد اتسعت عيناه ، وبرقت عينه السليمة ، وقال وهو ينظر إلى هشام وقد اكتسى وجهه بعلامات نصر ما :
ـ الانتحار نصر على الله . ففي الانتحار تفوت الفرصة على الله أن يختار لك مصيرك . فأنت تدخل النار بإرادتك حين تنتحر وتعلم أن مصيرك هو النار . ليس الله هو من أدخلك النار ، بل أنت من فعل ...
... وابتسم هشام وهو يقول :
ـ ولكن افرض أن الله أدخلك الجنة بالرغم من انتحارك ، ألا يكون قد فوت عليك الفرصة واختار لك بالرغم منك ؟
... وضحك عارف بحبور وهو يقول :
ـ كلا ... فإذا دخلت النار فبإرادتي ، وإذا أدخلني الله الجنة فأكون قد فرضت إرادتي عليه ... لقد توعدني بالنار فيما لو انتحرت ، ولكنه أدخلني الجنة برغم الوعيد . لقد فرضت إرادتي عليه ، وجعلته يغير وعيده ، لقد أصبحت نداً له . أبعد هذا الانتصار انتصارا؟ ...
ـ ولماذا لا يكون هو قَدَّر عليك الاختيار منذ البدء ؟
ـ أكون قد فضحت اللعبة كلها حينذاك .
... وعاد عارف إلى الاسترخاء وهو يردد :
ـ الانتحار هو النصر النهائي على كافة أشكال السلطة وأنواعها) (3) .
__________
(1) الكراديب ( ص137ـ 138) .
(2) الكراديب ( ص62 ) .
(3) الكراديب ( ص 78ـ 79 ) .
(32/22)
الحمد يصرف ( العبادة ) لغير الله :... ومن تنقصه لخالقه ـ عز وجل ـ أنه امتهن لفظ ( العبادة ) وجعلها في غير موضعها ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإنما جعلها في عبادة البشر بعضهم لبعض .
... حيث قال على لسان ( عشيقته !) سويّر :
... ( أنا أعبدك يا هشام ، والعبد لا يشرك مع معبوده شيئاً .
... وبدون هدف أو غاية أوقصد قال بشيء من المزاح ، وقد أحس بالزهو يسيطر عليه من الداخل :
... ـ ولكن الشرك لا يكون إلا بالله . هو المعبود الوحيد .
... وكنمرة متوحشة ، نظرت إليه بعينيها المبللتين ، وقد زادتا اتساعاً على اتساعهما ، وهي تقول :
... ـ إذا أنت ربي ... ترحمني وتعذبني .وكل شيء منك مقبول ومحمود .
... ولم يستطع الإحتمال فعلاً ، فقال بتلقائية :
... ـ أستغفر الله العظيم ... أستغفر الله العظيم .
ردّد ذلك وشعور من الزهو وشيء لا يعرفه ، أشبه ما يكون بالذنب ، يمتزجان في داخله . كانت يدها قابضة على يده ، فمدَّ يده الأخرى وأخذ يربت على خدها ويتحسسه بلذَّة ، فيما ارتمت هي في أحضانه بعنف ، وأخذت تشمه بصوت مسموع ، وهي تردد :
ـ أحبُّك ... أحبُّك يا هشام ... أعشقك ... أعبدك ) (1) .
تنقص عظيم :
... ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ
قوله متحدثاً عن هشام وهو يحلم في منامه :
__________
(1) الشميسي ( ص169) .
(32/23)
( وأخذ يسير على غير هدى في الصحراء ، وقشعريرة البرد تستولي عليه . كل شيء يوحي أنه لا يسير ، رغم أنه يسير . النجوم هي النجوم ، والصحراء والظلام عديمة الأبعاد لا يريد أن تنجلي ، واختفت البداية ، وتلاشت النهاية، فلا يدري أهو يسير أم يهيأ له أنه يسير . ولاح له بصيص نور من بعيد ، وأحس بالفرح الغامر رغم أنه يعلم أنه يحلم . وأخذ يغذ السير ، فيما النور يزداد سطوعاً وتتعدد ألونه ، أخضر وأحمر و أصفر ، ويتخللها لون أزرق باهت . وأخيراً وصل إلى حيث النور ، ثم فجأة أشرقت الشمس وهي تضحك بشكل هستيري لم تكن ذات الشمس التي يعرف ، فقد كانت شديدة الحرارة عديمة النور ، فرغم سطوعها ، إلا أن الظلام الحالك ما زال سائداً . وأخذ دماغه يغلي من الحرارة الشديدة ، إلا أن جسمه كان يرتعش برداً ، وأخذت النجوم ترسل سهاماً فضية في كل مكان ، حيث تتكسر بصوت أقرب إلى الرنين على صخور لا يراها ، ولكنه يعلم أنها هناك .
وفي خضم كل ذلك ، كانت نسمات هواء منعش تأتي من واحة وارفة الظلال تنبعث منها تلك الأضواء التي رآها من بعيد .كانت محاطة بأسلاك شائكة من كل جوانبها ، فلم يستطع الدخول . وأخذ يحوم حولها ، حتى تبين له الباب من بعيد .أتجه إليه ، وأراد الدخول بعجلة ، إلا أنه في اللحظة تلك ، برز له شخص من حيث لا يدري ، يحمل سوطاً طويلاً ، وملامح غريبة ، فقد كان له وجه ثور ، في رأس وجسم بشريين ، له مخالب في يديه ورجليه أشبه بمخالب الكلب ، وفي مؤخرته يبرز ذيل لولبي أشبه بذيل الخنزير ، استوقفه هذا الكائن وهو يخور قائلاً :
ـ إلى أين أيها الإنسان ؟
ـ أريد المأوى والطعام والسلام ... هل هذا كثير ؟
ـ وهل تعتقد أن الدخول بهذه البساطة ؟ ... الواحة واحتي ، ولا يدخلها إلا من يدفع الثمن . وثمنها بخس جداً ... قبول شروطي .
ـ واحتك ؟ ... شروطك ؟ ... من أعطاك إياها ؟
ـ قوتي هي من أعطاني إياها ... إنها لي وحدي .
ـ القوة لا تصنع حقاً.
(32/24)
ـ الحاجة أساس الحق .
ـ ونخر الكائن الغريب ، ثم قال بنفاد صبر :
ـ قوتي هي الحق هنا ، وإن كنت في شك من ذلك ، فحاول الدخول رغماً عني.
... ولم يجد بداً من الاستسلام ، فقد كانت الحرارة والبرودة والظلام والصحراء لا تطاق ، فقال :
ـ حسنا ... وما هي شروطك ؟
... وافتر وجه الكائن عن بسمة رضا واسعة ، وأخذ اللعاب اللزج يسيل من بين أسنانه الضخمة ، فيما تحول أنفه إلى اللون الأرجواني وهو يقول :
ـ الآن أصبحت عاقلاً وحكيماً .
... ثم استطرد :
ـ ليس لي إلا شرط واحد لا غير ... أن تطيعني في كل ما آمرك به ، ولك أن تتمتع بالماء والهواء والثمار والسلام .
ـ ياله من سعر باهظ !
ـ ويالها من ثمار طيبة !
ـ وإن رفضتُ؟
ـ ليس لك إلا الصحراء والجوع والعطش وكلاب الطريق .
ـ ولكني لا أستغني عن الحرية ...
ـ ونخر الكائن مرة أخرى وهو يقول :
ـ الحرية ... ماهي الحرية ؟ مجرد كلمة .
ـ ولكن في البدء كان الكلمة .
ـ وما نفع الكلمة مع الجوع والقلق .
ـ وما نفع الشبع والسكينة مع العبودية ؟
... وأخذ الكائن ينخر ويهز سوطه في الهواء ، وهو يقول :
ـ دعك من هرائك هذا ... أمامك خياران ، إما أن تقبل شرطي وتدخل واحتي ، أو أن تعود إلى الضياع في الصحراء .
... وأخذ يفكر في الخيارين وهو يختلس النظرات إلى داخل الواحة لقد كانت مظلمة مثل الصحراء حوله ، رغم الألوان التي كانت تحيط بها ، وتلك الأضواء التي يراها من هو بعيد ، ولكنها تختفي حالما يصلها أحدهم . ومن الداخل كانت تتراءى أشباح أهل الواحة رغم الظلام ... وجوه حمراء ، وكروش منتفخه ، وأعين فقدت بريق الحياة ، وهم يأكلون طوال الوقت . وهيئ له أن وجوههم قد بدأت تتحول إلى شيء أقرب إلى وجه الكائن الذي يقف أمامه .
ـ ولكن قل لي ...
... قال هشام موجها حديثه للكائن :
ـ لماذا الظلام دامس في الواحة رغم الألوان والأنوار التي تتراءى من بعيد ؟
... وضحك الكائن ، وهو يمتص بعض لعاب سال من جانب فمه ، قال :
(32/25)
ـ الظلام في كل مكان ، ولكن الطعام هنا فقط .
ـ ولكني أرى بصيص نور في الأفق يوحي بانبلاج الفجر في الصحراء ، ولا أرى ذلك البصيص في الواحة !
ـ النور مزعج للعين ، ونحن لا نحبه هنا فهو مفسد للسكينة والطمأنينه . ليس ألذ وأجمل من هدوء الليل ، وصمت الظلام .
ـ لم لا تقول إنك أنت من يكره النور ، كي لا يرى أحد وجهك المسخ .
وهناك ثار الكائن ، وأخذ ينخر بشدة ، ورفع السوط في الهواء يريد أن يهوي به على جسد هشام ، الذي فر من أمامه وهو يقول :
ـ سأضرب في الصحراء غير آبه بالشقاء ... فلابد للصحراء من نهاية ، ولا بد لليل من فجر ، ولا بد أني واجد واحتي مهما طال الزمان ... واحتي سوف تكون بلا سياج ولا ظلام ، ولا أمساخ بشر ... وإن مت قبل ذلك ، فسوف أموت وأنا حر .
... وتابع طريقه إلى عمق الصحراء فيما الشمس توقفت عن ضحكها ، وانكفأت على نفسها ، والكائن يضحك من بعيد ويقول بصوت كالرعد :
ـ لن تجد أفضل من واحتي هذه ، كل الواحات مثل واحتي ... سوف تعود إلي مهما طال بكل التجوال ، طالباً الصفح والغفران ، مستجدياً أن أقبلك عبداً من عبيدي ، وساعتئذ ... ستعرف من أنا .
... وصاح هشام من بعيد :
ـ كلا ... كلا لن أعود إلى واحتك إلا بعد أن يشرق فيها النور ويخلع السياج وتعود إلى الناس وجوههم .
... وابتلعته الصحراء ، وقهقهة الكائن تدوي وراءه كالرعد ، والشمس عادت إلى ضحكها وحرقتها ، ولكنه يسير وهو يرى خيوط الفجر من بعيد) (1) .
... قلت : تأمل ـ أخي المسلم ـ هذا الحلم الذي صاغه الحمد على لسان هشام جيداً ، ثم تساءل معي كما تساءلت :
ـ ماهي هذه الواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة ؟
ـ من هو هذا الشخص ( البشع !) الذي ساومه هشام على دخول الواحة ؟
__________
(1) الكراديب ( ص22ـ 26) .
...
(32/26)
لقد صاغ الحمد فكرته التي يريد إيصالها للقارئ بأسلوب رمزي شأنه في ذلك شأن أهل الرمزية الذين يروجون لفكرهم بتلك العبارات الغامضة خوفاً من عاقبة التصريح ( بالكفر) لا سيما في ديار التوحيد . وقد تابع الحمد هنا (شيخه) نجيب محفوظ في كفره عندما تحدث في روايته الشهيرة ( أولاد حارتنا ) عن الله ـ عز وجل ـ وعن أنبيائه بأسلوب رمزي (1) قاء من خلال بما يحمله قلبه من كفر وحقد تجاه رب العالمين ـ تبارك وتعالى ـ وتجاه أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
... فجاء الحمد يهرع من ورائه مستعرضاً قدراته في ( تمرير ) كفرياته في مثل هذا الحلم .
... فالشخص البشع في نظر الحمد ـ هو الله ـ عز وجل ، وتعالى عن قول الحمد علواً كبيراً ـ . !!
... والواحة المحاطة بالأسلاك الشائكة هي الجنة ومافيها من سعادة واطمئنان .
... فالحمد يريد أن يقول لنا بأن من أراد دخول الجنة فليلتزم بعبودية الله ـ عز وجل ـ وطاعة أوامره ، وأما من أنف من هذه العبودية واختار الحرية ! كما يزعم الحمد فلا بد أن يزهد في هذه الجنة ( أو الواحة ) ويضرب في أعماق الصحراء لعله يجد مصدراً آخر للسعادة لا تكون ضريبته فقدان الحرية !
__________
(1) حيث رمز إلى الله ـ عز وجل ـ بالجبلاوي ، وإلى آدم عليه السلام بأدهم ، وإلى موسى عليه السلام بجبل ، وإلى عيسى عليه السلام برفاعة ، وإلى محمد ? بقاسم ، إلى ( العلم ) الذي يدعو إليه نجيب محفوظ بديلاً عن الدين ! بعرفة . انظر : ( دراسة المضمون الروائي في أولاد حارتنا ) لعبد الله المهنا .
...
(32/27)
وقد اختار الحمد الطريق الثاني وهو الاستنكاف عن عبادته سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى في كتابه الحكيم عن هذا الصنف من البشر : {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (1) .
... فمن استنكف عن عبادة الله وفرَّ منها طالباً الحرية كما يزعم ! فإنه لن يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً ، فالمرد ـ وإن طال الزمان ـ إلى الله الذي : {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2) .
... ونحن نقول للحمد : من لم يرض بعبادة الله سبحانه وتعالى فإنه لا شك سيعبد غيره؛ لأن الإنسان لا يخرج عن العبودية بأي حال . فمن لم يعبد الرحمن عبد الهوى والشيطان ، ولذلك قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (3) .
... قال ابن كثير : ( أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسناً فعله ، وما رآه قبيحاً تركه ) – (4) .
... فهو وإن ادعى أنه قد ترفع عن ( عبودية ) الله المستحق لها فإنه قد جعل تلك العبودية في غير محلها باتخاذه إلهه هواه .
... وقال تعالى{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5) .
__________
(1) سورة النساء ، الآيات : 172-173 .
(2) سورة الأنعام ، الآية 72 .
(3) سورة الجاثية ، الآية 23 .
(4) تفسير ابن كثير ( 4/ 162 )
(5) سورة يس ، الآية : 60 .
(32/28)
فمن لم يعبد الله عبد الشيطان ، وعبادته ـ أي الشيطان ـ تكون باتخاذ الشيطان نفسه إلها (1) ، أو بعبادة ما يزين عبادته من الأصنام والأحجار والصور و ... الخ ، حتى وصل بأتباع الشيطان أن يعبدوا فرج المرأة ـ والعياذ بالله ـ
... الحاصل : أن من تكبر عن عبادة الله أذله الله بأن صيره عبداً لهوىً أو شيطان أو مخلوق مثله .
... قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وكذلك من رفه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله ، أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته ، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب .
... قال أبو حازم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقي الله من معالجة التقوى "
... واعتبر ذلك بحال إبليس . فإنه امتنع من السجود لآدم فراراً أن يخضع له ويذل ، وطلب إعزاز نفسه ، فصيره الله أذل الأذلين ، وجعله خادماً لأهل الفسوق والفجور من ذريته ، فلم يرض بالسجود له ، ورضي أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
... وكذلك عباد الأصنام ، أنفوا أن يتبعوا رسولاً من البشر ، وأن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه ، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار .
... وكذلك كل من امتنع أن يذل لله ، أو يبذل ماله في مرضاته ، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته ، لابد أن يذل لمن لا يسوى ، ويبذل له ماله ، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته ، عقوبة له ، كما قال بعض السلف " من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته") (2) .
... وقال ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية عبادة الله وحده للعبد :
__________
(1) كعبدة الشيطان الذين ظهر أمرهم قريباً .
(2) إغاثة اللهفان ( 2/ 194ـ 195) وقد قال ـ رحمه الله ـ في نونيته عن مدعي الحرية !
... ... فروا من الرق الذي خلقوا له
... ... ... وبلوا برق النفس والشيطان
...
(32/29)
( اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ، ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ، ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب؛ أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به ، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ، ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر ، وكثيراً ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك . وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه ، فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره ، وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة ، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب ، والعقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما ، والله الموفق المعين ، وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة) (1) .
... وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مفصلاً هذا المعنى :
__________
(1) طريق الهجرتين ( ص103ـ 104 ) .
...
(32/30)
( " العبادة " هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، فالصلاة والزكاة ، والصيام ، والحج ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم .والدعاء والذكر والقراءة ، وأمثال ذلك من العبادة .
... وكذلك حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضا بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف لعذابه ، وأمثال ذلك هي من العبادة لله .
... وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له ، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
... وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (1) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (2) وقال تعالى {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (3) كما قال في الآية الأخرى {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } (4) وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (5) .
__________
(1) سورة النحل ، والآية : 36.
(2) سورة يوسف ، الآية : 109
(3) سورة الأنبياء ، الآية : 92 .
(4) سورة المؤمنون : الآية 51
(32/31)
(5) سورة الحجر ، الآية 99
... وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (1) وقال {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (2) وذم المستكبرين عنها بقوله : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (3) ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى : {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (4) وقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} (5) الآيات ولما قال الشيطان {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قال الله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (6) .
__________
(1) سورة الأنبياء ، الآية 20 .
(2) سورة الأعراف ، الآية 206
(3) سورة غافر ، الآية 60 .
(4) سورة الأنسان ، الآية 6
(5) سورة الفرقان ، الآية 63
(6) سورة الحجر ، الآيتان ، 39، 40 .
...
(32/32)
وقال في وصف الملائكة بذلك : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (1) . وقال تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا(91)وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92)إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (2) .
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) ، ولهذا قال النبي ? في الحديث الصحيح : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله ) (4) .
__________
(1) سورة الحجر ، الآية 42 .
(2) سورة مريم ، الآيات 88ـ 95
(3) سورة الزخرف ، الآية : 59 .
(4) أخرجه البخاري ومسلم .
... وقد نعته الله " بالعبودية " في أكمل أحواله فقال في الإسراء : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} (1) قال في الإيحاء:{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (2) . وقال في الدعوة :{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (3) . وقال في التحدي :{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (4) . فالدين كله داخل في العبادة .
...
(32/33)
وقد ثبت في الصحيح (5) أن جبريل لما جاء إلى النبي ? في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". قال : فما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره " . قال : فما الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم قال في آخر الحديث " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " فجعل هذا كله من الدين .
... " والدين " يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان أي : ذللته فذل ويقال يدين الله ، ويدين لله أي : يعبد الله ويطيعه ويخشع له ، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له .
... و" العبادة " أصل معناها الذل أيضاً ، يقال طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
__________
(1) سورة الإسراء ، الآية ، 1.
(2) سورة النجم ، الآية : 10 .
(3) سورة الجن ، الآية : 19 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 23 .
(5) أخرجه البخاري ومسلم .
... لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو " التتيم " وأوله " العلاقة " لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم " الصبابة " لانصباب القلب إليه ، ثم " الغرام " وهو الحب اللازم للقلب ، ثم " العشق " وآخرها " التتيم " يقال : تيم الله أي : عبد الله ، فالمتيم المعبد لمحبوبه .
... ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله .
...
(32/34)
وكل ما أُحب لغير الله فمحبته فاسدة ، وما عُظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً ، قال الله تعالى : {قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (1) ، فجنس المحبة تكون لله ورسوله ، كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله ) (2) .
__________
(1) سورة التوبة ، الآية : 24 .
(2) الفتاوي (10/ 149ـ 153 ) .
... قلت : وأما ادعاء الحمد بأن عبودية الله وجنته ليس فيها نور ، وإنما النور والفجر ! في حريته ( المزعومة ) فهو من تلبيس الشيطان عليه ، ومن انتكاس قلبه حتى أصبح يبصر الأشياء على خلاف حقيقتها فغدا النور عنده ظلاماً ، والظلمة نوراً، وهذا حال أهل الباطل الذين يرون باطلهم حقاً والحق باطلاً منذ العهود القديمة . ولا أملك أن أقول للحمد في هذا المقام إلا ما قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والبغي إلا من أشرق عليه نور النبوة ، كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي ? قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " (1) فكذلك أقول : ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور ، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها ، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل والهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها .
...
(32/35)
فهذه كلها ظلمات ، خلق فيها العبد ، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البته . فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته ، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض ، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة، وهو متخبط في ظلمات طبعه وهواه وجهله ، ووجهه مظلم وقلبه مظلم، لأنه مبقى على الظلمة الأصلية ، ولايناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها ، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش .
بصائر غشاها النهار بضوئه
ولاء مها قطع من الليل مظلم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده : ( 2/176 ـ 197 ) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الإيمان : ( ص18) .
يكاد نور النبوة يلمع تلك الأبصار ، ويخطفها لشدته وضعفها ، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها ، وملاءمتها إياها .
... والمؤمن علمه نور وقوله نور ، ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور ، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) ) (2) .
الحلف بغير الله في روايته :
... ومن تنقصه لله ـ عز وجل ـ أنه استهان بالحلف بغيره ـ عز وجل ـ فذكره في روايته متغافلاً عن قدحه في عقيدة الإنسان وأنه من الشرك الأصغر (3) ، مصداقاً لقوله ?: "من حلف بغير الله فقد أشرك " (4) وقال ? : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" (5) .
...
(32/36)
قال الحمد على لسان عبد الرحمن مخاطباً ابن عمته هشام ( أخبره أن ما يشعر به شيء طبيعي لشخص يشرب لأول مرة ، وأنه سوف يعتاد الشراب ولن يفعل به شيئاً بعد ذلك .إلا أن هشام صاح : " أول وآخر مرة ورأس أبوك ... ") (6) .
__________
(1) سورة النور ، الآية : 35 .
(2) هداية الحيارى ( ص591ـ 593) .
(3) قال الشيخ ابن باز –رحمه الله-: "الحلف بغير الله من الشرك الأصغر .. ، وقد يكون شركاً أكبر إذا قام بقلب الحالف أن هذا المحلوف به يستحق التعظيم كما يستحقه الله" . ( فتاوى ابن باز ـ 2/ 727 ـ ط دار الوطن .
(4) أخرجه أبو داود والترمزي . قال الشيخ ابن باز في فتواه السابقة "بإسناد صحيح" .
(5) أخرجه البخاري ومسلم .
(6) الشميسي ( ص45 ) .
الحمد يعتقد أن الله في كل مكان !!!
.. ومن طوام تركي الحمد في روايتة أنه -وهو الذي درس عقيدة السلف في بلاد التوحيد- يعتقد عقيدة الأشاعرة في أن الله موجود في كل مكان ! ! ! وهذا من أغرب الأمور التي مرت علي أثناء دراستي لثلاثيته . مما جعلني أتفكر كثيراً في كيفية تسرب هذه البدعة الغريبة على بلادنا إلى ذهن الحمد وروايته ، ثم اكتشفت أنه قد نقلها ـ بغباء ـ من ثلاثية نجيب محفوظ ، دون أي تفكير بمدى صحتها !!! وهذا من الأدلة على أن الحمد مجرد ببغاء لنجيب محفوظ يردد ما يقوله في ثلاثيته ولو كان مخالفاً للنقل والعقل كهذه المسألة .
... قال الحمد متحدثاً عن والد هشام :
... ( وضحك أبوه إحدى ضحكاته النادرة ، ثم عاد إلى وقاره وهدوئه المعتادين وهو يقول بحزم : اسمع يا ولدي ... إن الله موجود في كل مكان ، والتقوى في النية الطيبة والسلوك الطيب مع الناس ، ... ) (1)
...
(32/37)
قلت :هذه عقيدة باطلة يدين بها متأخرو الأشاعرة ، والذي عليه سلف الأمة أن الله مستوٍ على عرشه فوق سماواته ، كما قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقال : {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (3) وقال:{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (4) ... والأدلة على هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع فيها . فانظرها في كتاب ( العلو ) للذهبي و (مختصره ) اللألباني ، و( علو الله على خلقه ) للدكتور موسى الدويش ، و(إثبات علو الله ... ) للشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ ، و ( الرحمن على العرش استوى ) للشيخ عبد الله السبت ، و( الرحمن على العرش استوى بين التنزيه والتشويه ) للدكتور عوض منصور.
__________
(1) الشميسي ( ص 136 ) .
(2) سورة طه ، الآية : 5 .
(3) سورة الملك ، الآية : 16 .
(4) سورة النحل ، الآية : 50 .
... أما أن الحمد قد أخذ هذه العقيدة البدعية من نجيب محفوظ فلأن هذا الآخر قد ذكرها في ثلاثيته ـ التي هي عمدة الحمد ـ على لسان أحمد عبد الجواد .
... حيث قال له الحمزاوي : ( ربنا موجود ) فرد عليه أحمد عبد الجواد : (نعم! -ومشيراً إلى الجهات الأربع- في كل مكان ) (1) .
الحمد يرى أن عبودية الله كالأغلال !!
... من تنقص الحمد لله عز وجل ، أنه لم يرض بعبوديته ، وإنما آثر عليها (الحرية) كما يدعي ! وهي في حقيقتها ليست ( حرية ) وإنما ( عبودية ) من نوع آخر ، إما للهوى أو الشيطان كما سبق .
__________
(1) بين القصرين ( ص448 ) .
...
(32/38)
يقول الحمد متحدثاً عن هشام : ( وطافت في ذهنه تجربته الدينية العميقة حين ذهب إلى المسجد مع ا لفجر ، وصلى بعمق غريب ولذيذ لأول مرة في حياته ، بعد تجربته الجسدية مع رقية فقد كانت صلواته السابقة مجرد حركات جسدية لا روح فيها ، ومجاملات اجتماعية بعض الأحيان . ورغم أنه يشعر بالضآلة حين يجامل في مثل هذه الأمور ، إلا أنه لا يستطيع إلا أن يجامل ، فالله غفور رحيم ، ولكن عباده لا يعرفون الرحمة والغفران ، لقد أحس بعد تلك التجربة العنيفة بتمزق لم يستطع إحتماله ، فكان بحاجة إلى أب رؤوف رؤوف يلقي بحمله عليه ... أب ليس ككل الآباء . أب يسامح على الخطأ والخطيئة ، ويأخذ بيده إلى الراحة بعد العذاب ، والصفاء بعد القلق وذاك الوخز المؤلم في الداخل ... ولكن شتان بين حاله مع رقية ، وهذا الإنقلاب العجيب في حال عدنان ... كل إنسان يبحث عن أب رحيم قادر ، وأم حنون في الأزمات والملمات، والكل يبحث عن كتف عطوف عطوف قوي يبكي عليه ويلقي عليه بأحماله ، ولكن القليل هو من يريد أن يبقى باكياً على ذلك الكتف ، فهو لذيذ حقاً ، ولكن الألذ منه أن تخطئ وتصيب، فاللذة في وجود نقيضها وليس في مجرد وجودها .شيء لذيذ وجميل أن تجد من يكون مسؤولاً عنك طوال الوقت ، ولكن السعر باهظ جداً ... إنه الحرية ذاتها . الطفل وحده من يدفع هذا السعر بالرغم منه ، ولكن من يريد أن يبقى طفلاً طوال الوقت ؟! الكل يجد الدفء في حضن الأم ، والقوة في الأب ، ولكن قلةً من يريدون البقاء في ذلك الحضن وعلى الكتف ... ويبدو أن عدنان واحد من هؤلاء ) (1) .
... قلت : ومقصوده واضح لا يحتاج إلى إعمال ذهن ، وهو دليل استكباره عن عبادة ربه ـ كما سبق ـ وقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (2) .
__________
(1) الشميسي ( ص70 ـ 71 ) .
(2) سورة غافر ، الآية : 60 .
تنقصه للملائكة الكرام :
...
(32/39)
أما تنقص الحمد واستخفافه بالملائكة المكرمين؛ فمن ذلك قوله متحدثاً عن هشام في السجن :
... ( ثم نظر إلى النافذة ، وتلك النجوم التي تتبدى من ورائها على استحياء ، وهو يتصور أن يأتي ملاك رحمة من هنا أو هناك فينقله على جناحيه إلى حيث نسمة هواء طليقة . ولكن حتى الملائكة اختفت في هذه اللحظة ، ويبدو أنها نفسها تخاف الدخول إلى هذا المكان ، وليس إلا الرعب والسكون والانتظار) (1) !!
... قلت : كيف تخاف الملائكة الدخول في هذا المكان أو غيره ، وهي معك أينما سرت . قال تعالى عن الإنسان : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (2) .
... وقال سبحانه : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (3) .
... وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (4) .
... فالملائكة المكرمون قد خُصََّ بعضهم بأنه لا يفارق الإنسان في جميع أحواله ـ كما سبق ـ ولكن الحمد لا يفقه هذا بعد أن اعتاد لسانه على الجرأة عند حديثه عن كل شيء مقدس، متأثراً بالكفرة الفجرة ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ .
تنقص الحمد للقرآن :
... أما سخريته بالقرآن ، وبآيات الله ، فهو أنه يضعها في غير موضعها ، بأسلوب هازل .
... فمن ذلك قوله :
... ( حانت التفاتة من عبد الرحمن نحو الكيس الذي يحمله هشام ويشد عليه بقوة ، فقال وهو يضحك : " ما تلك بيمينك يا هشام ؟ " وابتسم هشام ... ) (5) فهو يشير إلى قوله تعالى لموسى ـ عليه السلام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى) (6)
__________
(1) الكراديب ( ص19) .
(2) سورة ق ، الآية :18 .
(3) سورة الرعد ، الآية ، 11 .
(4) سورة الزخرف ، الآية : 80 .
(5) الشميسي ( ص39 ) .
(6) سورة طه ، الآية : 17 .
...
(32/40)
وقوله : ( وهز هشام رأسه وهو يبتسم محيياً ، فيما أخذ الآخرون يتضاحكون ويتغامزون فيما بينهم ويقولون : "شرَّفت الكراديب " "وما منكم إلا واردها " ) (1) .
... وهو يشير إلى قوله تعالى عن النار : ( وإن منكم إلا واردها ) (2) .
... قلت : لا يجوز أن يُنزل القرآن في غير منزله الذي أراده الله له ، وأن يُسْتدل به بهذه السخرية (3) .
... وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء عن ( استعمال بعض آيات القرآن في المزاح ما بين الأصدقاء ؟ ) فأجابت بأنه ( لا يجوز استعمال آيات القرآن في المزاح ) (4) .
...
بغضه للقرآن :
... يقول الحمد متحدثاً عن ذكريات هشام ، وصديقه عدنان : ( كانا في الصف الرابع الابتدائي ، وكانت مادتي القرآن الكريم والتجويد أصعب وأبغض المواد عند التلاميذ ) (5) !!
... قلت : أما ( أصعب ) فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (6) .
... وأما ( أبغض ) فهذه التي يريد الحمد ! والسؤال : لماذا كان كلام الله الذي فيه الهدى والنور أبغض المواد !؟ وكان الحب كله للكتب الفلسفية والماركسية و(المحرَّمة ) ؟!
... وصدق الله إذ يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) (7) .
__________
(1) الكراديب ( ص 37 ) .
(2) سورة مريم ، الآية : 71 .
(3) للسيوطي رسالتان حول هذا الموضوع بعنوان ( تنزيه الأغبياء عن تسفيه الأنبياء ) و( رفع البأس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس ) انظرها في ( الحاوي ) ( 1/309) و ( 1/344) . وهي في من اقتبس من القرآن جاداً لا هازلاً .
(4) فتاوى اللجنة ( 4/ 56) .
(5) الشميسي ( ص( 68) .
(6) سورة القمر ، الآية : 17 .
(7) سورة الإسراء : الآية ، 82 .
تنقصه للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ :
...
(32/41)
لقد أسرف الحمد على نفسه كثيراً واقتحم لجة الكفر والضلال عندما تعرض لأنبياء الله تعالى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ واصفاً إياهم بكل منقصة جرياً وراء أكاذيب اليهود والنصارى التي استولت على ذهنه عند حديثه عنهم ـ عليهم السلام ـ فقد نسخت قراءاته لكتب اليهود والنصارى والملاحدة كل تعظيم غرسه القرآن في صدره حول الأنبياء والرسل .
... ولنستمع إلى ( هرائه ) مع التعليق عليه بما تيسر .
... قال الحمد على لسان هشام :
... ( قتل قابيل هابيل من أجل المرأة ، وخرج آدم من الجنة من أجل المرأة ، وأذنب من أجل المرأة ، وسخر سليمان الجن من أجل المرأة ، وقال رسولنا الكريم (1) :" حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت الصلاة قرة عيني " ومزامير داود كلها عن المرأة ، وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ، وأبطل المسيح حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ، وكانت المرأة وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو ... ) (2) .
... قلت : لقد تضمن هذا النص من الحمد عدة فتراءات على أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ حيث لم يتورع ـ هداه الله ـ عن متابعة اليهود والنصارى في تلفيق التهم والنقائص لخير البشر ـ عليهم السلام ـ ولتفنيد ذلك أقول :
ـ أما قابيل وهابيل فإنهما لم يكونا من الأنبياء، هم بشر كغيرهم ، فلا شأن لنا بهما . ومع هذا فإن تركي الحمد لم يذكر إلا قولاً واحداً في قصتهما ولم يذكر القول الثاني .
... فهو ألمح إلى القول الأول الذي يفيد بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب المرأة فقررا أن يتقربا إلى الله بقربان فمن تقبل منه كانت المرأة من نصيبه فتقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل ، فقام قابيل بقتل هابيل .
__________
(1) لا لزوم لهذه المخادعة بعد الذي خطته يمينك !
(2) الكراديب ( ص122) .
...
(32/42)
والقول الثاني الذي لم يذكره الحمد هو أنهما قررا أن يقوما بتقديم قربان إلى الله ـ عز وجل ـ فعمد قابيل إلى أسوأ ماله فقدمه قرباناً ، وعمد هابيل إلى أحسن ماله فقدمه ، فتقبل منه ولم يتقبل من أخاه قابيل ، فحسده قابيل وقام بقتله .
... وفي هذا يقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ : ( عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قرباناً ! وكان الرجل إذا قرب قرباناً فرضيه الله عز وجل أرسل إليه ناراً فأكلته ، وإن لم يكن رضيه خبت النار ، فقربا قرباناً . وكان أحدهما راعياً وكان الآخر حراثاً ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها . وقرب الآخر أبغض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع . وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك ورد عليّ ؟ فلا والله لاتنظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني فقال : لأقتلنك ! فقال أخوه : ماذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين) (1) .
__________
(1) تفسير الطبري ( 10/ 203 شاكر ) .
...
(32/43)
قلت : فهذا القول الثاني لم يشر إليه الحمد هو الذي يشهد له القرآن العظيم عندما تحدث عن قصة ابني آدم حيث قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31) ) (1) .
... ولذا قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ بعد سياقه الأثر السابق عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : (فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لاعن سبب ولا عن تدارئ في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن ) (2) .
... فالحمد لم يسق إلا القول الذي يتماشى مع هواه ، علماً بأن هذه الروايات جميعها لم تصح مرفوعه إلى النبي ? ، وإنما هي تنقل عن أهل الكتاب الذين أمرنا بعدم تصديقهم أو تكذيبهم إلا ما عارض شرعنا فإننا نكذبهم فيه ـ ولا كرامةـ.
__________
(1) سورة المائدة ، الآيات : 27-31 .
(2) تفسير ابن كثير ( 2/ 45) .
...
(32/44)
بل إن القرآن والسنة الصحيحة لم تذكر ( قابيل وهابيل ) وإنما ذكرت بأن القصة حدثت لابني آدم فقط دون تفصيلات . كما في سورة المائدة ، وكما في قوله ? في الصحيحين : " لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ، لأنه أول من سنَّ القتل " .
ـ أما قول الحمد بأن آدم ـ عليه السلام ـ قد خرج من الجنة من أجل المرأة فالذي في القرآن أن ( الشيطان ) قد وسوس لآدم وحواء جميعاً بالأكل من الشجرة ، وفي آيات أخرى يخبر الله بأن الشيطان قد وسوس لآدم بذلك دون ذكر لحواء .
... قال تعالى : (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (1) .
... وقال سبحانه : (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين) (2) .
... وقال عز وجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى) (3) .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية 35، 36 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 18-19 .
(3) سورة طه 115، 116 .
...
(32/45)
فهذه الآيات فيها أن الشيطان وسوس لهما جميعاً (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ)؛ وفي سورة طه أنه وسوس لآدم أولاً (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ) .فهي تشهد لمن قال بأن الوسوسة كانت لهما جميعاً حيث أغراهما الشيطان بنيل الخلد في الجنة وأن يكونا كسائر الملائكة . ولم يذكر فيها أن حواء هي التي أغرت آدم على الأكل من الشجرة كما تقول ذلك الروايات الإسرائيلية. ولهذا قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ : ( دأب الكتاب والأدباء في عصرنا هذا على فرية أن آدم عليه السلام خدعته حواء حتى أكل من الشجرة ، يصطنعون قول الكاذبين المفترين من أهل الكتاب ، بما حرفوا وكذبوا) (1) .
__________
(1) عمدة التفسير ( 1/ 136) .
...
(32/46)
قلت : ولكن من يقول بأن حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ، أو أنها سهلت له الأكل منها يستشهد بحديث رواه البخاري في صحيحه ويحمله على هذه القصة ، وهو أنه ? قال : " لولا حواء لم تخن انثى زوجها " . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : ( وقوله " لم تخن انثى زوجها " فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك ، فمعنى خيانتها أنها قبلت ما زين لها ابليس حتى زينته لآدم ، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش حاشا وكلا ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة وحسنت ذلك لآدم عد ذلك خيانة له ، وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها ، وقريب من هذا الحديث " جحد آدم فجحدت ذريته " وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى ، وأن ذلك من طبعهن فلا يفرط في لوم من وقع منها شيء من غير قصد إليه أو على سبيل الندور ، وينبغي لهن أن لا يتمكن بهذا في الاسترسال في هذا النوع بل يضبطن أنفسهن ويجاهدن هواهن ، والله المستعان ) (1) .
... وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم وهي التي حدته على أكلها ، والله أعلم ، وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري ... ) ثم ذكر الحديث السابق (2) .
... قلت : ومع هذا فلا يحسن أن يقال بأن آدم خرج من الجنة بسبب المرأة ، وإنما يقال بأنه ـ عليه السلام ـ خرج من الجنة بسبب مخالفته لنهي الله ـ عز وجل ـ بوسوسة من الشيطان مما ترتب عليه ابتلاؤه وذريته من بعده . وكان هذا قبل أن يتوب الله عليه ، ويصطفيه كأول نبي على وجه الأرض .
__________
(1) فتح الباري ( 6/ 424) .
(2) البداية والنهاية ( 1/ 78) .
(32/47)
ـ أما قول الحمد بأن داود ـ عليه السلام ـ أذنب من أجل المرأة فهذا من افترائه متابعة لأشياخه اليهود الذين افتروا على داود ـ عليه السلام ـ في توراتهم المحرفة بأنه عليه السلام قتل أحد قواده بواسطة الخدعة حيث جعله في مقدمة الجيش لكي يتزوج بامرأته التي أُعجب بها داود ـ عليه السلام ـ بعد أن رآها عريانه !!! كما جاء في ( سفر صموئيل الثاني ، الاصحاح 11) .
... وقد تسللت هذه الكذبة الشنيعة من اليهود إلى تفاسير المسلمين عبر الاسرائيليات التي أخذوها منهم دون تمحيص لها .
... حيث تذكر هذه القصة المكذوبة في تفسير قوله تعالى : (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) (1) .
... وقد أجاد ابن كثير ـ رحمه الله ـ عندما قال عند هذه الآية : ( قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ) (2) ثم ضعف القصة السابقة بأن في سندها ( يزيداً الرقاشي ) أحد الضعفاء في الحديث عند الأئمة .
... وقبله قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ :
... ( قد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم ، كما قالوا في سليمان ما قالوا ، وفي داود ما قالوا ) (3) .
... وقال القاضي عياض: ( لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدلوا وغيروا ، ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه ، ولا ورد في حديث صحيح ) قال: ( وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ) (4) .
... وقال الشيخ محمد أبو شهبه في كتابه ( الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ) : ( والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي . قال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم ) (5) .
__________
(1) سورة ص ، الآية : 24 .
(2) تفسير ابن كثير ( 4/ 34 ) .
(3) الفتاوى ( 15/ 149 ) .
(4) الشفا ( 2/158)
(5) ص 268 .
...
(32/48)
وقال الدكتور البار بعد أن ذكر هذه القصة المكذوبة : ( يالها من جريمة بشعة حقيرة تزعم التوراة ( المحرفة ) أن داود عليه السلام ارتكبها ، وهو لاريب منها برئ) (1) .
... قلت : شتان بين هذه القصة التي تصف نبي الله داود ـ عليه السلام ـ بالقتل والمخادعة في سبيل امرأة ، وبين قول الله تعالى عنه (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ(18)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (2) .
فقد وصفه تعالى بالقوة في العلم والعمل وأبان ذلك ? بقوله عنه بأنه " كان يصوم يوماً ويفطر يومأ ، ولا يفر إذا لاقى " (3) . وقال عنه " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " (4)
... فأين هذا الوصف العالي من و صف التوراة المحرفة التي استساغ الحمد أن يتأثر بها وينقلها تشويهاً لصورة نبي الله ـ عليه السلام ـ !؟
ـ أما قول الحمد بأن سليمان ـ عليه السلام ـ قد سخَّر الجن من أجل المرأة ، فهذا من كذبه الذي يعرفه صغار المسلمين الذي يقرأون القرآن .
... فسليمان ـ عليه السلام ـ لم يسخر الجن بنفسه ، وإنما الذي سخرها الله ـ عز وجل ـ .
__________
(1) الله جل جلاله والأنبياء عليهم السلام في التوراة ( ص361) .
(2) سورة ص ، الآية : 17-20
(3) أخرجه البخاري ( 3419) .
(4) أخرجه البخاري ( 3420) .
...
(32/49)
قال تعالى عن سليمان : (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (1) .
... وأما قصته ـ عليه السلام ـ مع ( بلقيس ) ملكة اليمن التي يلمح إليها الحمد فهي أن سليمان غضب منها ومن قومها عندما أرسلوا له المال والهدايا لعله يكف عنهم . فأمر من حوله من الجن والإنس بأن يحضروا له عرش بلقيس الذي لا يكاد يوجد مثله في عظمته ، فقال : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ولكن سليمان لم يقنع بهذا ، فقال (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) وهو كاتبه آصف بن برخيا كما يُروى عن ابن عباس : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : أن تنظر مد بصرك فلا تكل إلا والعرش عندك : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ) أي سليمان : (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (2) .
... أما سبب احضار العرش فليس لأجل المرأة كما يزعم الحمد ـ كذباً وافتراءً ـ وإنما لأجل أن يظهر سليمان عظمة ملكه لها ، وأنه نبي من عند الله ، قد سخر له الإنس والجن فتستجيب لدعوته لها إلى دين التوحيد بعد أن كانت تسجد هي وقومها للشمس .
__________
(1) سورة ص ، الآيات : 35-40 .
(2) سورة النمل ، الآيتان : 39-40 .
...
(32/50)
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( إن سليمان أراد باحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا فارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه ) (1) .
... ـ أما قول الحمد بأن نبينا قد حُبب إليه النساء ، فهذا صحيح ، وقد ورد في هذا قوله : (( حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة )) (2) .
... وليس معنى هذا ما قد يظنه الحمد أو غيره من الجهلة أن هذه المحبة لأي امرأة ولو لم تحل له ـ والعياذ بالله ـ وإنما هذا خاص بزوجاته وما ملكت يمينه، وليس في هذا أي نقص لمرتبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل هو بيان لكمال رجولته .
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/376) .
(2) أخرجه أحمد والنسائي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124) .
...
(32/51)
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( أما محبة الزوجات فلا لوم فيها ، بل هي من كماله ، وقد امتن سبحانه على عباده فقال : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (1) .فجعل المرأة سكناً للرجل يسكن قلبه إليها ، وجعل بينهما خالص الحب ، وهو المودة المقرونه بالرحمة ) قال : ( ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حُبب إليه النساء ، كما في الصحيح عن أنس عن النبي : "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة" قال : ( فمحبة النساء من كمال الإنسان ، قال ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء ) قال : (فعشق النساء ثلاثة أقسام : قسم هو قُربة وطاعة ، وهو عشق امرأته وجاريته ، وهذا العشق عشق نافع ، فإنه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح ، وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ، ولهذا يُحمد هذا العاشق عند الله، وعند الناس ) (2) .
... ـ أما قول الحمد بأن مزامير داود ـ عليه السلام ـ كلها عن المرأة ، فهذا كذب منه ، يريد به التهويل. قال الدكتور محمد البار ـ حفظه الله ـ وهو ممن اعتنى بدراسة المزامير :
... ( تنسب المزامير إلى مجموعة من أنبياء بني اسرائيل وأدبائهم وشعرائهم ، وتشتمل على 150 مزموراً ، منها 73 منسوبة إلى داود عليه السلام ، والأخرى منسوبة إلى موسى وسليمان ـ عليهما السلام ـ وإلى آساف وبني قورع وراجح وهيمان وأتيان ويدوتون )
... وقال : ( رغم أنه لم تثبت نسبة أي من هذه المزامير الموجودة لداود أو غيره، إلا أنها أصبحت جزءً من الفولكلور الشعبي اليهودي ) (3) .
__________
(1) سورة الروم ، الآية : 21.
(2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ( ص393ـ395 ـ 399 ) .
(3) المصدر السابق (ص386) .
...
(32/52)
وقال : ( تُقسم المزامير إلى ثلاث مجموعات أساسية تندرج تحتها مجموعات أصغر . وهذه المجموعات الثلاث هي :
1 ـ مجموعة التسابيح .
2 ـ مجموعة صلوات الاستغاثة .
3 ـ مجموعة التعليم ) (1) .
... قلت : يتضح من هذا أن المزامير كلها عن دين اليهود وتسابيحهم وصلواتهم، وليست كما يزعم الحمد بأنها ( كلها عن المرأة ) !!!
... والذي نعتقده ـ كمسلمين ـ هو ماجاء في القرآن الكريم أن الله قد آتى داود ـ عليه السلام ـ كتاباً مقدساً هو ( الزبور ) قال تعالى : (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) (2) .
... ونعتقد أن داود ـ عليه السلام ـ قد وهبه الله صوتاً جميلاً يترنم به عند تسبيحه الله فتردد الجبال والطير معه .
... قال تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ) (3) ، وقال: (يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (4) ، وأما قوله لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ : "يا أبا موسى ، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود" (5) .
... فقد قال الخطابي : ( قوله (آل داود ) يريد داود نفسه ، لأنه لم ينقل أن أحداً من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي) (6) وقال الحافظ ابن حجر : ( المراد بالمزمار الصوت الحسن ، وأصله الآله ، أطلق اسمه على الصوت للمشابهة ) (7) .
... ـ أما قول الحمد ( وسكر لوط في التوراة من أجل المرأة ) !!
... فهذا من أقبح تشنيعاته على أنبياء الله ، والتعريض بهم بخُبثٍ وسوء طوية ، حيث لم يُعقب على هذا الكذب بما يبينه ، وإنما ساقه متأثرًا به متابعةً لأحفاد القردة .
__________
(1) المصدر السابق (ص388 ـ 392 ) .
(2) سورة الإسراء ، الآية : 55 .
(3) سورة ص ، الآية :18 .
(4) سورة سبأ ، الآية : 10 .
(5) أخرجه البخاري (5048) .
(6) فتح الباري (8/ 711) .
(7) فتح الباري ( 8/ 712) .
...
(32/53)
ثم أعاده في موضع آخر من روايته مبيناً قصده ، حيث قال على لسان هشام ـ كما سيأتي ـ ( وزنت بنات لوط مع أبيهم )!!
... وهذا الكذب الفاحش قد أخذه الحمد من التوراة ( المحرّفة ) حيث جاء فيها ـ كما في سفر التكوين ، الاصحاح 19: 30ـ 38 ـ أن ابنتي لوط ـ عليه السلام ـ قامتا بإسقائه خمراً حتى سكر ، ثم اضطجعتا معه ، فحبلتا منه !!!
... وهذه الكذبة لا يُستغرب صدورها من قوم قد قال الله ـ تعالى ـ عنهم: ((أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ )) (1) فمن كذب بعض الرسل وقتل بعضهم الآخر لا يستغرب عليه أن يفتري الكذب عليهم .
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر هذه القصة المفتراة: ( هذه فضائح الأبد، وتوليد الزنادقة والمبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام) (2)
... وقال ابن القيم رحمه الله ـ:
... ( ومن قدحهم (3) في الأنبياء : ما نسبوه إلى نص التوراة ، أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها ، ونجى لوطاً بابنتيه فقط ، ظن ابنتاه أن الأرض قد خلت ممن يستبقين منه تسلاً . فقالت الصغرى للكبرى : إن أبانا شيخ ، ولم يبق في الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر ، فهلمي نسقي أبانا خمراً ونضاجعه ، لنستبقي من أبينا نسلاً ، ففعلتا ـ بزعمهم ـ فنسبوا لوطاً النبي عليه السلام إلى أنه سكر حتى لم يعرف ابنتيه ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما ... ) (4) .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 87.
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 224 ) .
(3) أي اليهود عليهم لعنة الله .
(4) إغاثة اللهفان (2/ 342ـ 343 ) .
...
(32/54)
ـ أما قول الحمد بأن المسيح ـ عليه السلام ـ أبطل حد اليهود من أجل مريم المجدلية ، فلعله يشير إلى اتهام اليهود لمريم ـ رضي الله عنها ـ بالزنا من أجل حملها بعيسى ـ عليه السلام ـ دون زوج ، ومن ثمّ تكلم عيسى في المهد مبرئاً أمه من هذه التهمة الشنيعة التي وبخ الله اليهود لأجلها بقوله ـ تعالى ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (1) فما دخل هذه الحادثة بما يتحدث عنه الحمد ؟!
... ـ أما قول الحمد ( وخاف إبراهيم من فرعون مصر من أجل المرأة ) فيشير إلى ما ما أخرجه البخاري في صحيحه عن النبي ? متحدثاً عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ : (( بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى إلى جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه ؟ قال : أختي . فأتى سارة قال : ياسارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأُخذ : فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق . ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتوني بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي ، فأومأ بيده : مهيم ؟ قالت : رد كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ في نحره ، وأخدم هاجر )) (2)
... قلت : وفي هذا الحديث بيان عصمة الله لابراهيم وزوجه أن تمسهما يد ظالم ، حيث كف سبحانه كيد هذا الملك عنهما .
... ـ أما قول الحمد بأن المرأة كانت ( وراء مباركة يعقوب بدلاً من عيسو) فيشير إلى ما جاء في الإسرائيليات التي دخلت علينا من أهل الكتاب وقد ذكرها المؤرخون في قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ
__________
(1) سورة النساء ، الآية : 156 .
(2) أخرجه البخاري (3358) .
...
(32/55)
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية :( ذكر أهل الكتاب أن اسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة وأنها كانت عاقراً فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل .
... قالوا : وكان اسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لأنه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر .
... قالوا : فلما كبر اسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاماً وأمره أن يذهب فيصطاد له صيداً ويطحنه له ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاماً كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لأن العيص كان أشعر الجلد ويعقوب ليس كذلك ، فلما جاء به وقربه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . فضمه إلى وجهه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس والثياب فالعيص ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدراً وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده .
... فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له: ما هذا يا بني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلتُ منه ودعوتُ لك ؟ فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك) (1) .
... قلت : فهذه من أحاديث أهل الكتاب ، لاتصدق ولا تكذب ، وإن صحت ففيها بيان محبة الأم لابنها وحرصها على أن يكون محظياً عند والده ، ولاحرج في هذا.
تنقصات أخرى :
... وقال الحمد في موضع آخر من روايته : ( رحماك يارب الكون ... لماذا
__________
(1) البداية والنهاية (1/194) .
(32/56)
خلقت حام طالما أن سام هو الحبيب ؟ ولماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ، وزنت بنات لوط مع أبيهم ، في كتاب يقولون إنه كلماتك وإرادتك ؟ ) (1) .
... وفي قول الحمد مخاطباً ربه ( لماذا خلقت حام ؟ ) سوء أدب ، ووقاحة ، وعدم تعظيم له سبحانه ، حيث وجه إليه سؤاله تعنتاً واعراضاً ، وقد قال تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (2) .
... وهو يشير بقوله : ( لماذا فضلت سام وصببت اللعنة على حام ؟ ما ذنبه إذا سكر نوح ؟ ) إلى ما ورد في التوراة ( المحرّفة ) (3) التي هي عمدة الحمد في قدحه بأنبياء الله ! من أن نوحاً ـ عليه السلام ـ شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه ، فأبصره ابنه حام ( أبو كنعان ) ، وأخبر أخويه ( سام ويافث ) ، فأخذ ( سام ويافث ) الرداء وسترا عورة أبيهما دون أن ينظرا إليها ، فلما أفاق نوح وعلم بذلك لعن حاماً وابنه كنعان ، ودعا أن يكون عبداً لأخويه، ودعا لسامٍ بالبركة من الله .
... وهذه احدى كذبات اليهود وتشويههم لصورة الأنبياء في كتبهم المحرفة ، التي نقل منها الحمد دون تورع أو خجل ، ولكن بمكرٍ وخبث ، ومحاولة منه لا سقاط المثل والرموز ـ كما سبق ـ بأسلوب حقير يناسب طبعه وعقليته التي لا تقيم وزناً لأي شيء مقدس ـ كما يحاول أن يدّعي ـ !
... قال الدكتور سعود الخلف ـ حفظه الله ـ بعد إيراده هذه القصة المكذوبة على نوح ـ عليه السلام ـ : ( وهذا محض كذب وافتراء ، فإن الله عز وجل قد وصف عبده نوحاً في كتابه المهيمن بقوله : ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (4) ) (5) .
__________
(1) الكراديب (ص137) .
(2) سورة الأنبياء ، الآية : 23 .
(3) ( سفر التكوين ـ الإصحاح 9 : 20 ـ 27 ) ، وانظر ( الفِصَل ... ) لابن حزم ( 1/ 211 ) .
(4) سورة الإسراء ، الآية : 3 .
(5) دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية (ص94) .
...
(32/57)
ـ وأما قوله القبيح ( وزنت بنات لوطٍ مع أبيهم) فقد بينت كذبه ـ فيما سبق ـ وأنه مُتلقىً عن أبناء القردة ، من الذين جعلهم الحمد قدوته ، واتبع آثارهم في تعريضه بأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ دون خوف من الله ـ عز وجل ـ الذي قال عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (1) .
... ـ وقال الحمد على لسان هشام في السجن: ( يحس أنه هنا منذ أن حشر الإله الروح في جسد آدم . إنه يحس في داخله أنه كان معاصراً لقابيل وهو يقتل أخاه ، ولنوح وهو يصارع أمواج الطوفان ، وليونس وهو يصيح في بطن الحوت، ولأيوب والدود ينخره ، وليوسف في الجب ، والمسيح هو يصيح مصلوباً ، والنبي الأمي وهو يشكو ) (2) .
... قوله ( حشر الإله الروح في جسد آدم ) هو من سوء أدبه مع ربه، وفيه اعتراض خفي على خلق آدم _ عليه السلام _ وكان الأولى به أن يقول : (نفخ الإلة الروح في آدم ) كما أخبر القرآن : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (3) .
الحمد يعتقد صلب المسيح ـ عليه السلام ـ !!!
... وكل هذا يهون أمام الطامة العظمى التي فاه بها الحمد ، وهي قوله : (والمسيح وهو يصيح مصلوباً ) !!! فهو يخالف بقوله هذا نصوص الشريعة واجماع المسلمين من أن المسيح ـ عليه السلام ـ لم يصلب بل رفعه الله إليه وألقى شبهه على غيره ممن صلب ، قال تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (4) .
__________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 90 .
(2) الكراديب (ص213) .
(3) سورة ص : الآية : 71، 72 .
(4) سورة النساء ، الآية : 157 .
...
(32/58)
والذي دعا الحمد إلى هذه الزلة العظيمة هو ـ كما سبق ـ متابعته لليهود والنصارى الذين يزعمون أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد صلب ، وقد رد الله عليهم قولهم هذا في القرآن الذي يفترض أن يكون الحمد قد قرأه وآمن به! قال تعالى عن اليهود : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) (1) . وهذه العقيدة وهي عدم صلب المسيح ـ لا يخالف فيها أي مسلم ، عامياً كان او عالماً ، وإنما خلاف بعضهم في أنه هل رفع ـ عليه السلام ـ بجسده كما عليه الجمهور وهو الصحيح لأنه موافق لقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) (2) .
... أم أنه تعالى توفاه بالنوم ثم قبض روحه كما يقبض أرواح البشر ، كما يختاره بعض العقلانيين من أمثال محمد عبده ومدرسته (3) .
... أما أنه عليه السلام قد صلب فهذا لم يفه به سوى المغضوب عليهم والضالين (وأذنابهم ! ) لأنه مصادم لما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وهو تكذيب لله ـ عز وجل ـ
... فهل يعي الحمد خطورة قوله هذا ؟! أم يتمادى في تجاوزه كل ما هو قطعي تحت دعاوى ( الحرية ! )؟ عندها نقول له : (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (4) .
تنقص آخر لأنبياء الله :
... قال الحمد على لسان هشام :
( نحن نحاول أن نفهم سر ما يجري ، ولكننا ننتهي إلى صخرة سيزيف ، ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ، وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ... ) (5) .
__________
(1) سورة النساء ، الآية : 157 .
(2) سورة النساء ، الآية : 158 .
(3) انظر : تفسير المنار ( 6/ 18) .
(4) سورة المائدة ، الآية : 41 .
(5) الكراديب ( ص214 ).
(32/59)
قلت : أما صخرة سيزيف فهي أسطورة يونانية لا شأن لنا به ولا بصخرته التي يحاول الصعود بها .
ـ أما قوله : ( ويبقى السر طلسماً قاتلاً من طلاسم سليمان الحكيم ) ! فهو افتراء منه تابع فيه اليهود الذين اتخذهم قائده ودليله في روايته ، فالقول ما قالوا ، والرأي ما رأوا ، والرواية مارووا ، وإن كان فيها تنقص أو شتيمة لأنبياء الله ورسله ، فكل هذا لا يهم ( التوراتي ) تركي الحمد ! الذي شابه قلبه قلوبهم في حملها الغل على أكرم الخلق فأصبح يهذي بما تهذي به يهود .
... ومن ذلك متابعته لهم في اتهام سليمان ـ عليه السلام ـ بأنه ساحر !!! وقد رد الله هذا الكفر بقوله تعالى مدافعاً عن نبيه سليمان : (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (1) .
... قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : ( ان سحرة اليهود ـ فيما ذكر ـ كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك واخبر نبيه محمداً ? أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ـ عليه السلام ـ مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ) (2) .
ـ وأما قوله( وتعويذات وزيره آصف بن برخيا العابثة ) ! فلا أدري ما الداعي لكلمة ( العابثة ) ! أم أن الحمد أصبح لا يرى في كل شيء إلا العبث ؟
... والذي ورد في تفسير قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (3) ??أن آصف بن برخيا وكان يعلم اسم الله الأعظم دعا الله به فاستجاب دعاءه، وليس ذلك تعويذات عابثة كما يزعم (العابث) تركي الحمد .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 102 .
(2) تفسير ابن كثير ( 1/ 141) .
(3) سورة النمل ، الآية : 40 .
سخرية الحمد وتنقصه شعائر الإسلام :...
(32/60)
أما سخريته بشعائر الدين ، وتهوينه من أمرها؛ فمن ذلك أنه أخبر عن هشام بأنه ( صلى الفجر مع خاله دون اغتسال ) (1) !!
... وقوله مهوناً أمر الصلاة : ( حتى والده لم يكن يؤدي الفروض في المسجد أكثر الأحيان ، كأكثر أهل الدمام ، بل كان يؤديها في المنزل غالباً ، وذلك على عكس أهل الرياض والقصيم .. ) (2) .
... وقوله : ( وبقي هشام وحيداً لا يدري ما يفعل ، هل يلحق خاله إلى المسجد ، أم يواصل النوم مثل أبناء خاله .. وأخيراً عزم على مواصلة النوم ، فلا ريب أن الأبناء أدرى بحال الدار ، واستلقى على فراشه ، وأخذ النسيم البارد ورطوبة السحر يداعبان أجفانه . وعندما كان المؤذن ينادي : " الصلاة خير من النوم ... الصلاة خير من النوم " ، كان قد أغفى تماماً) (3) .
... وقوله : ( إنه لا يحب القصيم كثيراً . ففي الدمام أصحابه والأجواء التي اعتاد عليها والبحر ، وفي القصيم لا أصداء ولا بحر ، وفوق كل ذلك صلاة الفجر التي لا بد أن يؤديها جماعة في المسجد مع جده .عندما يلذ للعين الرقاد) (4) .
سخريته وتنقصه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم :
... فمن ذلك قوله على لسان وليد مخاطباً هشاماً :
... ( أنت تتحدث عن الموت وكأنه كائن مجسد ، وليس حادثه أو حالاً .
... وضحك هشام باقتضاب وهو يقول :
ـ وما أدراك أنه ليس كائناً ؟ .. ألا يقولون إن الملاك عزرائيل هو قابض الأرواح ؟ أوليس ذاك الهيكل العظمي الأسود هو الموت بعينه ؟ ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يوم القيامة يؤتى بالموت على شكل خروف فيذبح على الحدود بين الجنة والنار ؟
ثم وهو يضحك :
ـ لقد ذكرتني بنزار وقصائده المتوحشة .
... ثم وهو يعتدل في جلسته :
__________
(1) الشميسي ( ص 44 ) .
(2) الشميسي ( ص 136 ).
(3) العدامة ( ص93 ) .
(4) العدامة ( ص 252 ) .
(32/61)
ـ ولكن أتدري ما يحيرني يا وليد ... هل يمكن للموت أن يموت ؟ كيف يموت من هو ميت أصلاً ؟ وإذا كان الموت يميتنا ، فمن يميت الموت ؟ ... الله ؟ .. هو الحياة ذاتها فكيف يمكن للحياة أن تميت ؟ .. حقاً يا لها من حيرة ) (1) .
قلت : أما تسميته ملك الموت بعزرائيل فهو من جهله ، لأنه لم تصح هذه التسمية في أي من الأحاديث الصحيحة (2) ، و الله ـ عز وجل ـ سماه في القرآن ملك الموت ولم يذكر له اسماً غيره .
... قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (3) .
__________
(1) الكراديب ( ص192) .
(2) قال الشيخ الألباني في ( أحكام الجنائز ـ ص156) : "أما تسميته ـ أي ملك الموت ـ بعزرائيل فمما لا أصل له ، خلافاً لما هو المشهور عند الناس ، ولعله من الإسرائيليات !" وقال الشيخ بكر أبو زيد في ( معجم المناهي اللفظية ـ ص238) : "لا يصح في تسمية ملك الموت بعزرائيل حديث".
(3) سورة السجدة ، الآية : 11 .
... وأما قوله : ( ألا يقولون إنه بعد انتهاء الحساب يؤتى بالموت على شكل خروف ... الخ ) فهو من سخريته بأحاديث النبي ? ، وإلا فإنه يعلم أنهم لا يقولون ، وإنما القائل هو محمد ? (1) ، الذي قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : " يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت . ثم يقال : يا أهل النار ! هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت . قال : فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال :يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت " ثم قرأ رسول الله ? : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (2) .
...
(32/62)
أما تحيره : كيف يموت الموت ؟ فقد أجاب عنه العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله تعليقاً على الحديث السابق : ( وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل ، كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحاً وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلاً عن أن يذبح .
__________
(1) ومن جهله بحديث النبي ? أنه يعزو إليه حديثاً لا أصل له وهو قوله : " السلام سنة ورده واجب " !!! وهذا من أقوال ( بعض ) الفقهاء ، وليس هو من حديث النبي ? كما يتوهم الحمد !
(2) سورة مريم ، الآية : 39 .
... وهذا لا يصح ، فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح ، كما ينشئ من الأعمال صوراً معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله ينشئ من الأعراض أعراضاً ومن الأجسام أجساماً ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ، ولا يستلزم جمعاً بين النقيضين ولا شيئاً من المحال ، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت! فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل ، وسببه قلة الفهم لمراد الرسول ? من كلامه ، فظن هذا القائل أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح ، وظن غالط آخر أن العرض يعدم ويزول ويصير مكانه جسم يذبح ، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه ، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساماً ويجعلها مادة لها ، كما في الصحيح عنه ? " تجي البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان " الحديث ، فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه غمامتين ) (1) .
بغض الحمد لعباد الله الصالحين :
... كما أن الحمد أبغض ربه ـ عز وجل ـ وملائكته ، وأنبياءه وكتبه ، وشرائعه ، فإنه حتماً سيبغض عباده الصالحين ، وسيبغض ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات .
... وإليك ما يشهد لهذا :
... يقول الحمد متحدثاً عن هشام :
...
(32/63)
( أخذ يقلب الكتاب الذي أعطاه إياه عدنان ، " المنقذ من الضلال " للغزالي كان لا يحب هذا النوع من الكتب ) (2) .
__________
(1) حادي الأرواح ( ص344ـ 345) .
(2) الشميسي ( ص66 ) .
... وليعلم أن كتب الغزالي عليها مؤخذات كثيرة من إسراف في علم الكلام ، وترغيب في التصوف ، واستشهاد بالضعيف . وقد بين هذا العلماء المحققون ، ( انظر : أبو حامد الغزالي لعبد الرحمن دمشقية ، والعقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية للشيخ محمد المغراوي ) ،والحمد لا يفرق في بغضه للكتب الإسلامية بين الغث والسمين، فهو يعمم حكمه ذلك دون أي تفريق كما قد يفهم ( البعض ) .
... وهذا النوع من الكتب يعني به الكتب الإسلامية التي تقربه من الخير ، وتباعده من الشر فهو لا يطيقها ، ولا يحبها ، بل يهرع إلى كتب أحبابه من الفلاسفة والماركسيين الذين يجد عندهم ما يروي ظمأه ، ويوافق طبعه فالطيور على أشكالها تقع.
... ويقول الحمد على لسان مهنا :
... ( أرجو أن لا تتحدث عن البعثيين أو القوميين العرب أو حتى الدراويش من الاخوان المسلمين ... كل هؤلاء سذج ومزيفون ) (1) .
... ويقول على لسان والد هشام متحدثاً مع ابنه :
... ( ولكن ما لقيت إلا البعثيين كي تصبح منهم ... أطقع ناس ... ولا أخرط منهم إلا الشيوعيين والإخوان ) (2) !!
... ويقول عن ( الاخواني ) لقمان :
... ( يا لك من منافق يالقمان ... تخدم ألف إله وإله ، ثم تقول لا إله إلا الله ... قاتل الله الحياة ، فهي النفاق بعينه قاتل الله الحياة فهي التي تجعلنا عبيداً دون أن نريد ، وأسياداً ونحن نريد ولا نريد . قاتل الله حياة تذلنا فيها لقمة ، وتأسرنا كلمة ، وتستعبدنا شهوة ، ويموت فيها الطيبون .. ثم نقول لا إله إلا الله ) (3) .
...
(32/64)
قلت : جماعة الإخوان إحدى الجماعات الإسلامية الشهيرة التي يعرفها معظم الناس، نشأت في مصر ثم امتدت إلى معظم بلاد العالم . وهي جماعة عليها مؤاخذات كثيرة من عدم اهتمام بنشر العقيدة السلفية ، أو تعليم للعلم الشرعي النافع ، وإنما همها ( التجميع ) والوصول إلى الحكم بأي طريقة (4) .
... ومع هذا فلا نؤيد ( الماركسي ) ( البعثي ) تركي الحمد في طعنه بها ، فشتان بين جماعة إسلامية ( مقصرة ) وبين جماعات ومذاهب ( كافرة ) عدوة للإسلام والمسلمين .
__________
(1) العدامة ( ص283 ) .
(2) الشميسي ( ص385ـ 386 ) .
(3) الكراديب ( ص184 ) .
(4) انظر للزيادة : ( دعوة الإخوان المسلمين في ميزان الإسلام ) لفريد الثبيت ، و وقفات مع كتاب للدعاة فقط ) لمحمد العجمي و ( حوار هادئ مع إخواني ) لأحمد الشحي .
... هذا عن نقده واستهزائه بجماعة الإخوان المسلمين، أما غيرهم من عباد الله ( الملتزمين ) فقد نالهم ما نال أولئك من سخرية لاذعة بأسلوب مبطن . يقول الحمد عن ( عدنان العلي ) صديق هشام : ( لم يكن عدنان يأتي إلى المقصف وحده ، فغالباً ما كان يرافقه زميلان من ذوي اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ، وبعض الأحيان يزدادون إلى خمسة ، يشربون الشاي ويتحدثون بهمس لا يكاد يسمع ، وكان أكثر ما أثار استغراب هشام هو أنهم لا يبتسمون أبداً ، وإذا حدث ذلك من أحدهم ، غطى فمه بطرف غترته وكأنه يعتذر ، ثم يعود إلى تلك الملامح التي لا توحي بشيء ) (1) .
...
(32/65)
قلت : تأمل هذه السخرية المتكلفة التي أراد الحمد إيصالها إلى ذهن قارئه، بأن كل من التزم بدين الله ، فهو لا شك سيكون متجهماً لا يبتسم ، وإذا ابتسم فإنه سيعتذر من ابتسامته !! ونسي أن هؤلاء الملتزمين هم أول من يعمل بحديث النبي ? ، " تبسمك في وجه أخيك لك صدقه " (2) ولا يجدون غضاضة في هذا التبسم لأنه سنة نبيهم محمد ? ، فلماذا تعمد الحمد قلب الحقائق ، الأجل أنهم لم يبتسموا في وجه ( ماركسي ) ( بعثي ) !؟ أم أنه الحقد الذي يحمله في صدره على كل ( ملتزم ) فأراد تفريغ بعضه في روايته هذه عبر هذا الأسلوب المبطن ؟ ثم تأمل ـ أخي القارئ ـ سخريته بسنة محمد ? ( اللحية ) بهذا الأسلوب الحقير( اللحى المتروكة وشأنها دون تهذيب ) !! وهو تهويل منه ومبالغة ، لأن الجميع لا يكاد يجد مثل هذا الصنف المتخيل ، فلماذا تقليل الكثير وتكثير القليل يا تركي !؟ ولم يكتف الحمد بهذه السخرية السابقة باللحية لأنها لم تشف غيظه من أهل الإسلام ، فرددها مرة أخرى عندما قال متحدثاً عن هشام :
... ( ثم فتح الباب عن وجه أحد زملاء عدنان بلحيته الكثه ، ورأسه الحليقة تماماً) (3) .
__________
(1) الشميسي ( ص73) .
(2) أخرجه الترمذي ( 1/ 354) وصححه الألباني في الصحيحة ( 572) .
(3) الشميسي ( ص194 ) .
... فزاد على سخريته باللحية اتهام الصالحين بأنهم يرون السنة حلق الرأس ، ولهذا هم يحلقون رؤسهم اتباعاً لها ، وهذا كذب عليهم وهو اتهام قديم قال به أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ عندما اتهموه وأتباع دعوته بأنهم يحلقون رؤسهم ، ويأمرون من اتبعهم بحلق رأسه ! ، ولهذا فهم من الخوارج الذين قال فيهم النبي ? : "سيماهم التحليق " (1) ! ثم جاء الحمد مردداً هذه التهمة الباطلة متابعة منه لأعداء الدعوة التي شرق بها العلمانيون والملحدون.
...
(32/66)
وهذا الاتهام باطل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلماء الدعوة وأتباعها يتبعون في هذه المسألة أحاديث النبي ? التي تجعل أمر الشعر من أمور العادات التي يتبع فيها المرء عادة بلده في ابقاء الشعر أو حلقه . وإنما ينهى عن القزع ، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه لنهي النبي ? عن ذلك .
... قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ راداً على من ادعى بأن علماء الدعوة يكفرون من لم يحلق شعر رأسه !! : (إن هذا كذب وافتراء علينا ، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فإن والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام ، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم ، وليس عدم الحلق منها ، بل ولم نقل أن الحلق مسنون ، فضلاً عن أن يكون واجباً ، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام !
... والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع ، وهو : حلق بعض الرأس وترك بعضه ، وهذا الذي نهينا عنه ، ونؤدب فاعله) (2) .
مباحث أخرى
... ـ تنقص الحمد قبيلة النبي ?
... ـ حقده على حكومة المملكة العربية السعودية
... ـ محبته للرافضة .
... ـ المواقف الجنسية في ثلاثيته .
... ـ العبارات الوقحة .
__________
(1) أخرجه مسلم
(2) الدرر السنية ( 10/275ـ 276 ) ط 5.
تنقص الحمد قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم :
لم تسلم قبيلة قريش ـ وهي أفضل القبائل ـ من لمز الحمد في روايته حيث قال على لسان عارف:
( طز في قريش يا صاحبي ... ولماذا يجعل نزار قريشاً مثلاً أعلى ؟.. ألأنها قبيلة النبي ؟ ... والنعم بأبي القاسم ولكن قريشاً لا .. لقد جعلوا كل تاريخنا تاريخاً لقريش . ألم يكن هناك غير قريش في الساحة ؟ ) (1) .
(32/67)
قلت : قبحك الله وأخزاك ! فقبيلة قريش التي تطعن فيها هي قبيلة محمد? (الذي تدعي الفخربه !!) (2) هي القبيلة التي كان منها أفضل الخلق بعد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وهم صحابة رسول الله ? ، من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة وعبد الرحمن والزبير ... وغيرهم ـ رضوان الله عليهم ـ وهي القبيلة التي قال فيها ? : "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانه ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " (3) .
وأما ادعاؤك بأنهم جعلوا تاريخنا تاريخاً لقريش ، فكأنك تعرض بتوليهم أمر الأمة منذ الخلفاء الراشدين مروراً بالدولة الأموية وانتهاء بالعباسيين ، وهذا ليس مغمزاً فيهم وإنما فخر لهم أن قادوا الأمة ، ونشروا الإسلام ـ على تفاوت بينهم في ذلك ـ متبعين قول الرسول ? : " إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم إلا كبه الله على وجهه ، ما أقاموا الدين " (4) .
قال الإمام أبو عمرو الداني حاكياً أقوال أهل السنة :
( ومن قولهم إن الإمامة في قريش مقصورة عليهم دون غيرهم من سائر العرب والعجم ، لقوله ? : " الأئمة من قريش ، ولا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان " ولإجماع المسلمين بعده ? على أن ولوا قريشاً ) (5) .
... أي ما أقاموا الدين كما في الحديث الذي قبله .
__________
(1) الكراديب ( ص125 ).
(2) ولولا الخوف لطعن فيه !!!
(3) أخرجه مسلم ( 2276 ) .
(4) أخرجه البخاري ( 3500) .
(5) الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة .. ( ص 134 ) .
حقد الحمد على حكومة المملكة العربية السعودية :
...
(32/68)
لم يعد خافياً على أحد أن التيارات الماركسية والشيوعية وما سار في ركبها هي جميعها حاقدة على الدولة السعودية المسلمة ، حيث كانوا يعدونها ـ في زمن الشعارات ـ أم الدول المتخلفة الرجعية !! لأنها لا زالت تحكم بالإسلام. فكانوا يُسَخرون كل طاقاتهم في سبيل محاربتها أو تغيير حكومتها إن استطاعوا . ولذا فقد سخروا إعلامهم للنيل منها ، والسخرية بها وبحكامها ، وسخروا كوادرهم لمحاولة تجنيد عملاء لهم فيها ( كهشام العابر !! ) لعلهم يقومون بانقلاب فيها ويسقطون حكومتها ، كما فعلوا في بعض الدول العربية .
... كل هذا فعلوه لكن الله ـ عز وجل ـ رد كيدهم في نحرهم ، وأرجعهم خائبين خاسرين بفضله تعالى ثم بفضل جهود الملك فيصل ـ رحمه الله ـ وإخوانه الذين حاربوا ( شراذم ) الشيوعيين والبعثيين والقوميين ، وشردوهم ، ومزقوهم شرَّ ممزق ، واستماتوا في سبيل حماية دينهم وبلادهم من عبث العابثين وإن غلفوا ذلك بدعوى ( التقدم ) و ( والتحضر ) .
... ثم دار الزمان دورته ، فإذا بهذه الدولة ( الرجعية ) ـ عند هؤلاء المنحرفين ـ ـ أعني السعودية ـ تصبح أعز دولة في عالمنا ديناً ودنيا ، حيث جمعت بين الدين الصحيح وهو (الدعوة السلفية ) وبين التطور الدنيوي (المتواصل ) (1) .
__________
(1) ونسأل الله أن يستمر هذا الجمع بين ( الدين والدنيا ) وهو سهل على من اتقى الله . وأن نتخلص مما يخالف شرع الله ـ ولو كان قليلاً ـ ليستمر تألقنا.
... أما تلكم الدول ( التقدمية ) ! ـ في نظر الحمد ـ فإنها حين أفاقت من سكرة الشعارات ، وجدت نفسها بلادين ( صحيح ) ولا دنيا ( متقدمة ) ، فدينها التقليد والخرافة (1) ، ودنياها البؤس ، والشقاء . كما هو مشاهد لكل أحد. فبدأ الذين اساؤا للسعودية يعيدون النظر في حساباتهم ويتراجعون عن مواقفهم الخاطئة معها بعد أن انقشعت غشاوة الغوغاء والشعارات عنهم .
...
(32/69)
ولم يبق منهم على طريقته الأولى سوى ( حزب البعث ) الذي لا زال يعيش أسيراً لتلك الفترة السابقة ، ولا زال يحاول النيل بما استطاع من الدولة السعودية : (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (2) .
... كل هذا أقوله مقدمة لما جاء في ثلاثية الحمد من نيل من الدولة السعودية، حيث صاغ كيده بأسلوب غير مباشر لأنه يعلم أنه لا يستطيع (المواجهة!).
... يقول الحمد متحدثاً عن أحد اجتماعات ( حزب البعث ) في السعودية !
... ( ثم فجأة قال منصور بهدوء ودون أن ينظر إليه :
... ـ ما رأيك في الحكومة يا هشام ... ؟
... سؤال مباغت لم يكن يتوقعه ، مثل قنبلة ألقيت فجأة . لم يحر جواباً ، أحسّ بالاضطراب ، ولاذ بالصمت . غير أن منصور عاود إلقاء قنابله ، موجهاً عينيه الثاقبتين إلى عين هشام مباشرة وهو يقول :
... ـ لا داعي للإجابة . . . أنا أجيب عنك . . . إنها حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال ليس إلا . . . ) (3) .
... قلت : لا يستطيع الحمد أن يطعن في ( الحكومة السعودية ) صراحة ، ولذا فقد صاغ طعنه ـ بهدف إيصاله إلى القراء ـ على لسان منصور (البعثى) .
__________
(1) إلا بقية من المخلصين في تلك البلاد الذين ساروا على طريقة السلف الصالح في دينهم ، وهم الآن في ازدياد ـ بحمد الله ـ
(2) سورة البقرة ، الآية : 109 .
(3) العدامة (ص23) .
... فحكومتنا عند الحمد ( حكومة فاسدة لا هم لها إلا مصلحتها ، ونهب خيرات الشعب الذي لا حقوق له . . إن الشعب مجرد عبيد أو رعايا على أفضل الأحوال) !
... ولهذا فالمطلوب ليس مناصحتها، إنما إسقاطها واستلام ( حزب البعث ) للسلطة بدلاً منها، حيث سيقوم هذا الحزب ( العادل ! ) بإقامة حكومة (ديمقراطية ! ) تساوي بين الناس دون نظرٍ إلى ( أديانهم ! ) ، وتوزيع الثروة بينهم بالتساوي !!
...
(32/70)
وسوريا والعراق خير شاهد على هذا !!!
... وقال الحمد في روايته على لسان ( الرفيق حديجان ! )
... ( يا رفيق فهد . . . لقد تحدثنا عن الأمة كثيراً ، ولكن ماذا بشأن قطرنا هذا ، كيف السبيل إلى تحرره ؟ ) (1)
... فالهدف هو تحرير ( السعودية ) واسقاط راية التوحيد ، ورفع راية (البعث) بدلاً منها ! (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) (2) .
محبة الحمد للرافضة :
... من أغرب الأمور في ثلاثية الحمد أنه يدعي أن الشيعة ( الرافضة) كانوا على الحق ! ويوافق الروافض ـ الذين تربى في أحضانهم ـ في زعمهم أن أبا بكر وعمر عثمان ـ رضي الله عنهم ـ قد غصبوا الخلافة من على ـ رضي الله عنه ـ !! رغم أنه ـ كما يقول ـ لا يهتم بهذه المسألة التاريخية .
... يقول الحمد : ( قال منصور وهو يضحك بعصبية ، ثم أضاف : على فكرة ! ما رأيك في مسألة السنة والشيعة ؟
... وبدون تردد أجاب : الحقيقة لا تهمني المسألة كثيراً ، ولا حتى قليلاً ، أنا أعتقد أنها شيء من مخلفات الماضي . مالنا ولعلي وعثمان ومعاوية . نحن أبناء اليوم ، ولدينا من الهموم ما يكفي ) (3) .
... ويقول في موضع آخر : ( نظر إلى راشد قائلاً :
... ـ على فكرة يا أستاذ راشد . . . هل أنت شيعي ؟
... وانتفض راشد ، وكأن ماساً كهربائياً أصابه ، قائلاً بحدة :
... ـ كلا . كلا ، لماذا ؟
... ـ لاشيء .لا شيء . أرجو المعذرة ...
__________
(1) العدامة ( ص120) .
(2) سورة البقرة ، الآية : 111 .
(3) العدامة (ص37 ـ 38 ) .
... وندم على طرحه مثل هذا السؤال ، وحاول الاعتذار مرة أخرى قائلاً:
... ـ أرجو ألا تفهمني خطأ . لا فرق عندي بين هذا المذهب أو ذاك . بل إني لا أهتم بكل المذاهب الدينية ) (1) .
ويقول على لسان ( الشيوعي ) عارف :
( كان الشيعة مع الحق . كانوا مع علي بن أبي طالب ، في مواجهة عمر وأبي بكر وعبيدة ، أصحاب المؤامرة لنزع الحق من أهله . عليك بمناقشات السقيفة وأنت تعلم أين الحق
ـ معك حق .
(32/71)
قال هشام :
ـ معك حق من الناحية التاريخية ) (2) !!
فالحمد لا يهتم بمسألة الخلاف بين السنة والشيعة ، وإن تحدث فيها فإنه سيؤيد (الرافضة ) !
فما أجمل أن نقول له : ( الصمت حكمة ) !! (3) .
... وأنا لم أطل في دحض هذه المقولة من الحمد ، لأنه يكفي ذكرها للناس لبيان بطلانها ، وبيان ما يكنه الحمد نحونا ( أهل السنة ) من شنآن .
المواقف الجنسية :
... من الأمور التي تلفت الأنظار في ثلاثية تركي الحمد هو طغيان المواقف (الجنسية ) فيها ، فهي تزكم أنف القارئ بتكرارها وتتاليها ، بل وتكلفها الواضح من قبل الحمد ، ولهذا فقد أخذت حيزاً كبيراً من الثلاثية ! فمن ذلك :
1ـ إبراز موقف ( عبد الرحمن ) ابن خال ( هشام ) وكأنه لا هم له في الدنيا إلا شرب الخمر والزنا بالمومسات وعلى رأسهن المومس (رقية). حيث تكررت أحاديث عبد الرحمن مع هشام حول مغامراته معهن هادفاً استدراجه إلى الوقوع في شباكهن كما وقع هو ، وهذا ما حدث .
__________
(1) العدامة ( ص 51 ) .
(2) الكراديب ( ص125ـ 126) .
(3) الكتب التي تحدثت عن بطلان مذهب ( الرافضة ) كثيرة جداً . من أبرزها كتاب ( منهاج السنة ) لشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي فند شبهاتهم العقدية و( التاريخية ) المزعومة ، التي يرددها المعاصرون منهم وممن وافقهم !
2ـ قيام ( عبد المحسن التغيري ) رفيق هشام في العزبة بالزنا بإحدى جاراته واكتشاف هشام لهذا الحدث بعد مراقبته للعزبة حيث رأى إحدى النساء تخرج من عند عبد المحسن ، وتدخل ( أحد المنازل المقابلة ) (1) .
3ـ تصوير هشام في الرياض بعد وقوعه في المحرمات وكأنه ( زير) نساء ، فهو قد زنا برقية ، ثم أتبعها بإحدى جارات خاله وهي سارة أو سويَّر ! ثم مثلثاً ببنت جيرانهم في الدمام : نورة !! وهذه المواقف مع تفاصيلها الدقيقة ! قد استهلكت صفحات كثيرة من رواية الشميسي.
(32/72)
4ـ تصوير علاقة هشام ببنت خاله ( موضي ) بأنها علاقة إعجاب من جانبها ثم نفاجأ بأن موضي المتحجبة ، العاقلة ، الرصينة . . . . الخ الصفات المثالية تقوم بحركة (غريبة) مع ابن عمتها بعد أن علمت بعلاقته مع سويِّر ، بعد أن قرر الذهاب إلى الدمام ، فلنستمع إلى الحمد وهو يقول متحدثاً عن موضي :
... ( ثم نهضت وهي تمسح عينيها بطرف غدفتها ، واتجهت إلى الباب وهي تقول : " المهم أن تعود إلينا سالماً ... ليحفظك الله ... " ، وأسرعت في الخروج . ولكنها ما لبثت أن عادت مرة ثانية ، ووقفت عن الباب وهي تقول :
ـ هشام ... هل لو كشفت لك وجهي أكون قد تجاوزت حدودي ؟
ـ ليس بيننا حدود يا موضي ... ستبقين موضي العزيزة سواء تحجَّبت أو كشفت ...
... وبحركة مفاجئة ، أزالت موضي غدفتها كاشفة عن وجهها ، ثم تقدمت منه ، وطبعت قبلة سريعة على خدَّه ، ونظرت إليه بعينين حمراوين مبتلتين ، وغادرت بخطوات مرتبكة ) (2) .
... قلت : فحتى موضي التي صُورت في الثلاثية وكأنها محافظة وابنة عائلة تسقط في مقدمات الرذيلة مع ابن عمتها ، حيث كشفت له عن وجهها ، ثم تجرأت ـ ( لاحظ : هي لا هو !!) بتقبيله ! ولا نعلم ماذا سيحدث لو بقي هشام ... أو تبعها !! .
__________
(1) الشميسي ( ص34) .
(2) الشميسي ( ص202ـ 203 ) .
5ـ الوصف الدقيق منه للمواقف ( ا لجنسية ) السابقة بشكل مقزز ، كما في وصفه لزنا عبد الرحمن وهشام بالمومس ( رقية ) في طريق خريص !
... وكما في وصفه لرؤية هشام لعليان زوج سوير وهو يجامعها !
(32/73)
6ـ تصويره لأفراد شلته بأنهم أصحاب تمرس بالعلاقات النسائية ، يقول تركي عنهم: ( كانوا يتحدثون عن مزنة وبدرية وهيلة وعائشة وعواطف وابتسام ومنى، وهو لا يجد ما يقول ... كان يود الحديث عن نورة وعن رقية ، وقصص عن موضي يؤلفها ... ولكن شيئاً كانت يمنعه ، فكان يصمت ، ويغرق نفسه في مبادئ القانون والإقتصاد ، حتى أصبح يسمى بفأر الكتب ، أبو أربع عيون ... ورغم الوصف الذي كان يضايقه ، فقد كان محل ثقة الجميع وحبهم . كانوا يقصدونه لفهم ما استغلق عليهم فهمه من مواد ، أو في حل مشاكلهم العاطفية ، وكانوا يستشيرونه في جمال فتياتهم وهم يجلبون صورهن في الجيوب ... ) (1) .
7ـ وصفه لنساء شارع ( الحب ) في الدمام ، حيث يقول: ( ولفت نظره إحداهن ، كانت تسير الهوينا وقد التفت بعباءتها ، ووضعت حجاباً رقيقاً على وجهها لا يستر شيئاً منه .لم تكن جميلة الوجه ، ولكنها كانت ممتلئة إلى حد البدانة ، بردفين ضخمين يفرِّق بينهما فج واضح وعميق ، يجعلهما في حالة من التأرجح الدائم . وأثار منظر عجيزتها المترجرجة جوارح هشام ، وارتفعت حرارته وأخذ ينظر إليها بشبق ، وهو يدخن سيجارة بعمق ، وأحست المرأة بنظراته ، فنظرت إليه بدورها وابتسمت بإغراء ، ولكنه عدل عن مغازلتها في آخر لحظة ، وسار في طريقه على عجل . لكم غيرته الرياض ... لقد عاش في الدمام طوال حياته ، وجاء إلى شارع الحب أكثر من مرة ، ولكنه لم يلاحظ ما لا حظه اليوم ، ولم يدر في خلده ما دار ) (2) .
8ـ قوله في وصف رؤية هشام لموضي ابنة خاله :
__________
(1) الشميسي ( ص 72 ) .
(2) الشميسي ( ص 129 ) .
...
(32/74)
( وعادت موضي مرددة : " زين ... زين ... اتبعني " واخذت في صعود درجات السلم المقابل للمجلس وهو يتبعها ... لم يستطع إلا ملاحظة استدارة عجيزتها وهي تصعد الدرج أمامه ... أثاره المنظر ولكنه أشاح بوجهه عن ردفيها اللذين كانا في حالة اهتزاز شديد مع كل درجة تصعدها ، فحاول تشتيت ذهنه ) (1) .
... قلت : فهذه المواقف ( الجنسية ) الكثيرة ، مع محاولة تضخيمها وتكلفها (أحياناً ) توحي للقارئ بأحد أمرين متلازمين :
الأمر الأول : أن تركي الحمد يتكلم عن واقع عاشه أو رآه خلال حياته الماضية فانطبع في ذهنه ومخيلته فارتبط كل حديث عن الماضي بتلك الأحداث والمغامرات (الجنسية ) لأن الإنسان لا يستطيع مهما فعل أن ينفصل كلياً عن ماضيه بل تبقى صور كثيرة ( يراها مهمة ) تتخايل بين عينيه عند كل ذكرى ماضية .
... فإذا قلنا بهذا الأمر فإن الحمد لم يعد يرى أثناء دراسته في الرياض سوى هذه المواقف ( الجنسية ) التي أثرت فيه، واستهلكت منه وقتاً ( وجهداً ! ) .
الأمر الثاني : الذي يهدف إليه الحمد من خلال تضخيم هذه المواقف ، وإبرازها، وتكلف بعضها ـ كما سبق ـ هو محاولةٌ لا سقاط جميع المثل التي يعتقدها الناس ، وأن الإنسان مهما ادعى الصلاح أو المثالية فإنه مجرد حيوان يجري خلف شهواته مهما حاول اضفاء هالة الشرف والعفة على شخصيته ، وما هذه الهالات المفتعلة التي يعيشها الناس مع بعضهم إلا ستار وقناع يخفون وراءه ألواناً عديدة من الآثام والسقوط ، فلو تأملنا الثلاثية جيداً للمحنا فيها هذا الهدف الذي يسعى إليه الحمد، بل تجرأ فيه كثيراً .
... نلمح ذلك في التالي :
1ـ سقوط هشام في الإثم خلال عيشته بالرياض بعد أن كان يعيش مثاليات زائفة في الدمام مع والديه .
2ـ سقوط سوير زوجة عليان في الرذيلة مع هشام .
3ـ سقوط نورة ابنة جيرانهم في الدمام في الرذيلة معه .
4ـ سقوط موضي ابنة خاله في أول درجات الرذيلة .
__________
(1) العدامة ( ص107 ) .
(32/75)
5ـ عبارات كثيرة يطلقها الحمد في ثلاثيته تنبئ عن هذا الهدف ، ومن ذلك :
أ ـ قول الحمد على لسان عبد الرحمن ابن خال هشام بعد أن وصف له زناه بإحدى النساء : ( من قال لك إن كل من تسكن عند أهلها عذراء ) (1) .
ب ـ قوله واصفاً حال هشام في الرياض : ( وفي الرياض سقطت باقي المثل التي زرعتها أمه في ذاته) (2) .
ج ـ قوله واصفاً مدينة الرياض على لسان عبد الرحمن : (كل شيء ممكن في الرياض) (3) بعد أن قال هشام : ( كنت أظن أن الخمر غير موجود في الرياض).
د ـ قوله ـ على لسان عبد الرحمن موجهاً خطابه إلى هشام : ( سأجعلك تكتشف الرياض كما لم تكتشفها من قبل . ساريك رياضاً غير الرياض ) (4) .
هـ ـ قوله ـ أيضاً ـ : ( في الرياض كل شيء ممنوع ، وكل شيء مباح) (5) .
و ـ وقوله ـ أيضاً ـ على لسان عبد الرحمن : ( ديرة عجيبه فعلاً ... كل شيء حرام وممنوع . وكل شيء مباح بشكل لا يتصور ) (6) .
ز ـ قوله على لسان هشام متحدثاً مع نفسه : ( عليك الرحمة يا ابن آدم . ظننت نفسك أكرم الكائنات ، الذي طرد من أجله عابد الأزل من الرحمة والملكوت ، فاكتشفت أنك أتفه من ذبابة ، وأحقر من بعوضة ) (7) .
ح ـ قوله : ( لقد مات أبوك آدم ، ولم يبق إلا إبليس ذو الصولجان ، كلهم اليوم لإبليس ساجدون ، ومن أجله يسعون ) (8) .
... إذن فتركي الحمد يريد أن يقول لنا بأن جميع البشر سقطة منحرفون فاسدون فلا نغتر بالمثاليات الزائفة والأقنعة المخترعة يخفون وراءها حقيقتهم ، فهو يريد منا أن لا نتمسك بأي فضائل أو مثاليات .
__________
(1) العدامة ( ص79) .
(2) العدامة (ص167).
(3) العدامة ( ص88) .
(4) العدامة ( ص 100 ) .
(5) العدامة ( ص169) .
(6) الشميسي ( 39) .
(7) الكراديب ( ص252) .
(8) الكراديب ( ص253) .
... فهي فلسفة ( معرّية ) (1) شابه بها رهين المحبسين حينما يقول :
... ... ... وزهدني في الخلق معرفتي بهم
... ... ... ... وعلمي بأن العالمين هباء
(32/76)
فالفكرة واحدة وهي عدم الاغترار بأي فضيلة أو مثاليات يتنكر الناس وراءها ، لأننا إذا دققنا في الأمر لم نجد إلا شياطين وأبالسة في مسوح بشر ، مما ينتج عنه أن تسقط من أعيننا كل الصور الجميلة والمثالية والشريفة والعالية التي رسمناها في مخيلتنا عن أفضل البشر سواء أكانوا من الأنبياء أم من أفضل القرون بعدهم ، أي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأخزى من أبغضهم ! ـ
... فإذا سقطت صور الأفراد المثالية من أعيننا سقطت تبعاً لها مجتمعاتهم التي كنا نظنها فاضلة !! حتى جاء الدكتور الفيلسوف ليحذرنا من الاغترار بهذا الوهم ، ويبين لنا أن لا فضيلة ترجى من ( بني آدم ) ! فهم ما داموا من أبناء آدم لا شك مخادعون منافقون يخفون حقيقتهم خلف حجاب من الفضيلة والمثالية المزيفة .
... إذن : لا تطالبونا بأن نترسم خطى القرون الثلاثة المفضلة التي أثنى عليها رسول الله ? ولا تنخدعوا بمظاهر الصلاح التي يبديها بعض الناس لكم سواء أكانوا من العلماء أو الدعاة أو الصالحين ، فإنها قد تتكشف عن انحرافات ومفاسد لا تتخيلونها .
... ومما يثير العجب تركيزه على إظهار مدينة ( الرياض) وكانها من مدن الفجور والفاحشة أمثال: بانكوك أو .. أو .. من المدن التي يعرفها أهل الفساد ! وكأنه يقول لنا بأن هذه المدينة التي هي قاعدة بلادنا وعاصمتها ومنبع الخير فيها بما تضمه بين جنباتها من رجال ونساء صالحين إن هي إلا مدينة كغيرها من المدن ( الفاسدة ) التي يعرفها الناس ويزدرونها .
__________
(1) نسبة إلى أبي العلاء المعري أعمى القلب والبصر ! الذي ألح على هذه المسألة في أشعاره التشاؤمية .
... فكما أسقط الحمد الرموز البشرية من أفراد ومجتمعات من مخيلتنا فهو سيتبع ذلك باسقاط مثاليات المكان ... ليخبرنا بأن لا مكان مقدَّس أو مطهَّر . ويضرب لذلك مثلاً بمدينة الرياض، ... التي نحسن الظن فيها وفي أهلها .
...
(32/77)
قد يقول قائل بأن سياق الثلاثية هو الذي اضطر الحمد إلى ذلك ، لأن هشاماً لم يتعرف على حياة المعصية إلا في الرياض ، فهو في الدمام صغير ، وفي جدة في السجن ، فلم يبق إلا الرياض .
... قلت : قد: قال هذا فنعذر الحمد لو كان موقفاً واحداً أو عبارة واحدة ذم فيها الرياض. أما وهو قد كرر هذا الذم وألح عليه بشكل غريب ومفتعل فإن وراء الأكمه ما وراءها ، وحق لمدينة الرياض أن تقول له :
... ... ولو كان سهماً واحداً لا تقيته
... ... ... ولكنه سهمان ثانٍ وثالث
الحاصل : أن الحمد قد هوَّن جانب الانحراف ، والسقوط في الرذيلة ، وجعله يهيمن على أبرز شخصيات ثلاثيته ، شأنه في ذلك شأن نجيب محفوظ في ثلاثيته ـ كما سبق ـ (1) لأنهما جميعاً يصدران من مصدر واحد هو مصدر (الماركسية!) الذي لا يقيم معتنقوها أي وزن للأخلاق ، بل يسعون إلى هدمها في نفوس الناس ، حتى يتساوى ـ في نظرهم الزنا بالنكاح ـ ، والفضيلة بالرذيلة . يقول الشيخ عبد القادر شيبة الحمد : ( الخُلُق الوحيد الذي آمن به الشيوعيون هو وجوب مخالفة سائر الأنظمة الأخلاقية ، ومحاربة عموم أنواع الآداب المرعية في المجتمعات الإنسانية ، وبخاصة ما كان منها نتيجة للأوامر الإلهية، وقد قادهم هذا الشذوذ الخلقي إلى هتك الأسرة ، ومحاربة ناموس الزواج، ورأوا أن هدم ذلك من أقوى دعائم الشيوعية فتساوي الزواج والزنا في نظامهم ) (2) .
__________
(1) مع فارق واحد بينهما ، هو أن محفوظاً يتعذر عن مومساته ، بأن الظروف الاقتصادية أجبرتهم على ذلك ، فلا تلوموهنَّ ، شأنه في ذلك شأن الماركسيين الأقحاح !
(2) مقال بعنوان ( الشيوعية ) في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة السنة الثانية ( عدد3 ) .
...
(32/78)
نسأل الله العفو والعافية ، أن لا يجعلنا ممن قال فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1)
العبارات الوقحة :
... استخدم الحمد في ثلاثيته عبارات ( وقحة ) لم تتعود آذاننا على سماعها ممن تأدب بآدبنا .
... فمن ذلك أنه يتحدث عن مخلوقات الله ـ وهي الشمس ـ واصفاً إياها بالوقاحة ! وهو أولى بهذا الوصف ، لأن الشمس مخلوق مسخَّر في جو السماء يسير بانتظام ويدل على عظمة الخالق ـ سبحانه ـ فكان الأحرى بالحمد أن يتفكر في خلقها ، ويستدل به على عظمة ربه ، لا أن يتفاحش بهذا الكلام البذيء .
... يقول الحمد :
... ( عندما كانوا يهبطون طلعة ديراب على خط الحجاز ، كانت الشمس قد بدأت تبزغ على استحياء ، وعندما وصلوا إلى مرات كانت قد بدأت في ممارسة وقاحتها وإرسال تلك الأشعة النارية الرهيبة ) (2) !
... ويقول :
... ( وأخذت الشمس في ممارسة وقاحتها ، وتتحول إلى جحيم لا يُطاق) (3) !
__________
(1) سورة النور ، الآية : 19 .
(2) العدامة ( ص 254 ).
(3) العدامة ( ص258) .
...
(32/79)
ومن وقاحة الحمد أنه تحدث عن أمه ( أي أم هشام !) في روايته بحديث لا يصدر عن عاقل .. فتأمله وتعجب من سخافته حين يقول : ( وصب هشام ربع البيالة عَرَقاً ، ثم أضاف إليه الكولا ، وأخذ رشفة سريعة استطعمها في فمه ، ثم تجرع ربع البيالة تقريباً ، ولم يحس إلا وقد اشتعل حلقه بالنار انتقلت إلى جوفه ، وأخذ اللعاب ينساب بشدة في فمه ، والرغبة في التقيؤ ، ولكنه تمالك نفسه ، وازداد إفراز اللعاب في فمه ، ثم أحس ببعض الراحة في جوفه ، ودوار في غاية اللذة يغزو رأسه من الداخل . وشرب ربعاً آخر فأحس أن نهراً يجري في فمه ، لم يكن الحريق بالشدة الأولى . دفع البيالة إلى عبد الرحمن ، ولكنه رفض قائلاً : " السجائر أقصى ما يمكن أن أصل إليه " فتجرع هشام بقية البيالة ، دون أن يحس بأي حريق هذه المرة ، وأخذ ينظر إلى رقية . لقد كانت في غاية الجمال والفتنة ، بل كان كل شيء في غاية الجمال . ذهب الذنب وأحاسيسه المؤلمة ، وانتفى الخجل ، وكان وجه أمه يبدو له واضحاً ، ولكنه كان ينظر إليها ببلادة ولا مبالاة ، وكان يود لو كان قادراً علىصفعها ، لكنه يشعر بمغص في الداخل ، فيزيح صورتها ويغرق في رقية) (1) !!
... فهل يقول عاقل عن أمه ـ ولو كان على سبيل القصص ـ مثل هذا الكلام البذيء الذي يدل على تمردٍ دفين في نفس الكاتب على كل من يستحق (الطاعة ) ولو كان أمه !؟
... نسأل الله العافية .
أوجه التشابه بين ثلاثية تركي الحمد
و
ثلاثية نجيب محفوظ
عندما تطلق ( الثلاثية ) في الرواية العربية فإنها تنصرف حتماً إلى ثلاثية نجيب محفوظ المشهور ( بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية ) فقد أصبحت علماً عليها ، وهي ـ تقريباً ـ التي شهرته على مستوى العالم ، وعرفتهم به ، نظراً لتفردها وتميزها عن رواياته الأولى .
__________
(1) الشميسي ( ص42 ) .
...
(32/80)
وعندما أصدر تركي الحمد ثلاثيته انصرفت الأنظار والأذهان إلى المقارنة بين الثلاثيتين لمعرفة أوجه التشابه والتمايز بينهما . وكنت أحد هؤلاء الذين اهتموا بهذا الأمر عند دراستي لفكر تركي الحمد ، فعدت إلى أوراقي القديمة التي دونت فيها الخطوط الرئيسة لثلاثية نجيب محفوظ لمقارنتها بثلاثية الحمد ، لمعرفة هل جاء بجديد عليها ، أم أنه يقول مكرراً من القول ؟
... فاتضح لي بالمقارنة أن الحمد قد سار في ثلاثيته مقتفياً أثر نجيب محفوظ في أمور رئيسة وجزئية من الثلاثية ، نظراً لتشابه فكريهما ـ كما سيأتي ـ ومما أكد لي هذا أن الحمد قد أكثر من ذكر قصص نجيب محفوظ في ثلاثيته ، وجعلها جزءً من ثقافة هشام العابر .. فمن ذلك :
1ـ أنه ذكر ثلاثية نجيب محفوظ نفسها في قوله عن أحلام هشام : ( يأتيه صوت سي السيد أحمد عبد الجواد زاجراً وزبيدة تقهقه أمامه ، وكمال يرقص بينهما ، فيما ياسين يعض أرداف زنوبه ) (1) .
... ومعلوم أن هذه الأسماء هي الشخصيات الرئيسة لثلاثية محفوظ .
2ـ قوله عن هشام : ( هو الفتى المثقف الذي يقرأ لماركس وماوتسي تونع ودوستوفيسكي ونجيب محفوظ ... ) (2) .
3ـ قوله عن هشام : (كان يذاكر ذات يوم هو وعدنان كعادتهما كل عام قبل الامتحانات بفترة ، ويختلس بعض اللحظات ليقرأ فيها رواية نجيب محفوظ الجديدة " أولاد حارتنا " ) (3) .
4ـ قوله عن هشام عند سفره إلى الدمام : ( وعندما تحرك القطار أخيراً ، كان بدأ في قراءة " الطريق " لنجيب محفوظ ) (4) .
5ـ قوله عن هشام في السجن : ( أخذ ينظر إلى حركة الأشباح من حوله وهو يفكر ولا يفكر . وطاف بذهنه جحيم دانتي وأبي العلاء . وباربوس ، وغريب كامو ، وذباب سارتر ، وشحاذ محفوظ ) (5)
__________
(1) العدامة ( ص90) .
(2) العدامة ( ص106 ).
(3) العدامة ( ً224 ) .
(4) الشميسي ( ص122).
(5) الكراديب ( ص181 ) .
...
(32/81)
ولكي نعرف مدى التشابه بين الثلاثيتين وكيفية استفادة الحمد من محفوظ لابد من عرض موجز لأحداث ثلاثية نجيب محفوظ ، ثم ذكر نقاط التشابه بينهما، لكي يتضح أن الحمد قد صاغ ثلاثية محفوظ بنفس مناسب لبلادنا ـ كما سيأتي ـ .
أحداث ثلاثية نجيب محفوظ .
1ـ بين القصرين :
... -يعيش أحمد عبد الجواد في بيته بشخصية قوية متسلطة ـ كما سبق ـ أمام زوجته الضعيفة (أمينة) وأولاده ، ولكنه خارج البيت يمارس أنواع المحرمات من شرب خمر وزنا دون أن يعلم أولاده ، بحيث تبقى هيبته بينهم . يذهب أحمد عبدالجواد لدكانه الذي يشرف عليه وكيله (الحمزاوي) فيأتيه الشيخ الصوفي ! (متولي عبد الصمد ) صاحب الكرامات !! الذي يعمل الحجب والتمائم للناس ، لينصحه عن ولعه بالنساء .
ـ كمال يدرس ويحب درس ( الديانة ) الذي يشارك فيه لأنه يراجع الدروس مع أمه ، الذي يلتقي معها في حب ( الحسين ) .
ـ فهمي يحب بنت الجيران ( مريم )، يتفرج عليها من السطح .
ـ ياسين يدور في الشوارع ويلتهم النساء بنظراته الشهوانية يتفرج على العالمة زبيدة وربيبتها زنوبة ويتأمل محاسنها ويتذكر خيانة أمه لأبيه مع ( الفاكهاني ) !
ـ أحمد عبد الجواد يتأمل جسد ( زبيدة ) العالمة عندما جاءته إلى الدكان . يحاول استدراجها ،ثم لا يدعها تدفع ( الحساب ) وفي المساء ذهب لزيارتها مع رفاقه .
ـ أحمد عبد الجواد يخبر ابنه ياسين بأن أمه ـ أي أم ياسين ـ ستتزوج من صاحب مخبز صغير السن . يغضب ياسين ، لأنه يطمع في فلوسها ، ذهب ياسين إليها ولامها وغضب عليها .
ـ فهمي يريد الزواج من ( مريم ) لكن والده يرفض بشدة .
ـ عائشة تغازل أحد الضباط من النافذة فتراها خديجة ، فتطلب منها عائشة أن لا تخبر أحدًا .
ـ ( حسن أفندى ) ضابط الجمالية يخطب عائشة ، فيرفض الأب !
(32/82)
ـ سافر أحمد عبد الجواد إلى ( بور سعيد ) في مهمة عمل ، فاستغل أهل البيت الفرصة ليتمتعوا بالحرية قليلاً ، خرجوا بأمهم لزيارة ( الحسين ) الذي تهيم به ، صدمتها سيارة ، فعادوا بها .
ـ عندما عاد أحمد عبد الجواد اعترفت له زوجته بما حصل بعد أن ألح عليها فطردها من المنزل ، فذهبت لبيت أمها .
ـ أم مريم تقوم بزيارة العائلة لتتشفع في إرجاع ( أمينه ) ، فيشعر أحمد عبد الجواد بأنها تهواه وتستدرجه لإقامة علاقة معها .
ـ حرم ( شوكت ) تزور أحمد عبد الجواد وتخطب عائشة لابنها ، فيوافق .
ـ عادت ( أمينة ) إلى البيت بعد أن عفا عنها زوجها .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع ( زنوبة ) فلما دخل عندها أخبرته بأن هناك رجلاً مع ( زبيدة ) هو أحمد عبد الجواد ! فتفاجأ ياسين لهذا الخبر ، وقد كان عهده بأبيه أنه جاد وصارم .
ـ ذهبت العائلة إلى بيت ( آل شوكت ) لزواج عائشة. ( جليلة ) العالمة تحضر الحفل وتسلم على أحمد عبد الجواد مع تضايقه منها خشية انكشاف علاقته السابقة بها . ياسين يخبر فهمي بحال أبيه ، فيندهش فهمي .
ـ ياسين يحاول اغتصاب ( أم حنفي ) الشغالة وهو سكران، فيغضب أبوه عليه، ثم يقرر أن يزوجه .
ـ زواج ياسين من ( زينب )
ـ آل شوكت يخطبون ( خديجة ) لابنهم ( إبراهيم ) فيوافق أحمد عبد الجواد.
ـ مات ( محمد رضوان ) والد ( مريم ) فعزاهم أحمد عبد الجواد .
ـ أحمد عبد الجواد يتحدث مع رفاقه في الدكان عن ( سعد زغلول ) زعيم الأمة ! وجهوده ضد الاحتلال .
ـ ياسين يعود للخمر والنساء .
ـ أم مريم تزور أحمد عبد الجواد في الدكان لتستشيره .
ـ فهمي يشارك في ( المظاهرات ) ضد الانجليز المحتلين لمصر .
ـ ياسين يقيم علاقة ( غير شرعية ) مع الخادمة السوداء ( نور ) ! التي تعمل عند زوجته . فتكتشفهما الزوجة وتغضب وتهجره .
ـ أحمد عبد الجواد ينصح فهمي بعدم الاشتراك في المظاهرات ، أو توزيع المنشورات . خوفاً عليه .
ـ أم ياسين تتوفى .
(32/83)
ـ أحمد عبد الجواد يعود من بيت ( أم مريم ) فيوقفه جندي انجليزي فيجعله يساعد المصريين المسخرين لردم الحفر التي يحفرها المتظاهرون ، فتكون إهانة قاسية له .
ـ عائشة تنجب .
ـ فهمي يشارك في مظاهرة ( سلمية ) ، ولكنه يقتل برصاص الانجليز .
... بهذا الحدث ، وهو موت فهمي انتهت أحداث الحلقة الأولى من حلقات ثلاثية نجيب محفوظ .
2ـ قصر الشوق (1) :
ـ كمال يصاحب ( فؤاد الحمزاوي ) ابن وكيل والده ، مع شعوره بالاستعلاء عليه .
ـ كمال يقيم علاقة غيرشرعية مع ( قمر ) ابنة ( أبو سريع ) صاحب المقلى ! مع شعوره بتأنيب الضمير .
ـ أحمد عبد الجواد يعود إلى اللهو بعد موت ابنه ( فهمي ) ، ويقيم علاقة مع (زنوبة) التي تستعلي عليه .
ـ ياسين يقرر الزواج من ( مريم ) .
ياسين يقيم علاقة غير شرعية مع أم مريم !!
ـ الحمزاوي ينصح أحمد عبد الجواد بعدم تبذير أمواله على اللهو .
ـ كمال يحب ( عايدة ) أخت زميله ( حسين شداد ) وهي من طبقة عالية متحررة ، ويغلو في حبها إلى حد العبادة !
ـ ياسين يتزوج مريم .
ـ ( بهيجة ) تتزوج ( بيومي الشربتلي ) ، ثم تموت بعد أسبوع !
ـ خديجة تسبب مشاكل لأهل زوجها ، فيصلح بينهم أحمد عبد الجواد .
ـ عائشة تنساق مع حياة زوجها المتحررة ، فتدخن .
ـ ( عايدة ) يخطبها أحد زملاء أخيها ( حسين ) واسمه ( حسن ) فيتفاجأ كمال بهذا الخبر !
ـ ياسين يطلق ( مريم ) بعد أن اكتشفت علاقته بزنوبة .
ـ زنوبة تطلب الزواج من أحمد عبد الجواد ، فيرفض أن يتزوج من عاهرة !
ـ كمال يحضر حفل زواج عايدة .
ـ ياسين يتزوج زنوبة ، فيطلب منه أبوه أن يطلقها .
ـ كمال يغرق في الخمر والنساء .
ـ أحمد عبد الجواد يحاول اقناع ياسين بطلاق زنوبة فيخبره ياسين بأنها حامل منه .
ـ زوج عائشة وولدها يصيبهم المرض .
ـ موت سعد زغلول .
وبهذا الحدث انتهت الحلقة الثانية من ثلاثية نجيب محفوظ .
__________
(1) وهو اسم الشارع الذي يسكنه ياسين بعد زواجه .
(32/84)
3ـ السكرية (1) :
ـ كمال يحب القراءة في الفلسفة ، ومجتهد في دروسه .
ـ الحمزاوي يطلب اعفاءه من العمل مع أحمد عبد الجواد لأنه تعب .
ـ زبيدة تدمن الكوكايين ، وتفتقر بعد العز !
ـ متولي عبد الصمد يصبح شيخاً رثاً وسخاً يدور على الناس .
ـ فؤاد يرغب الزواج من نعيمة ابنة عائشة .
ـ أحمد عبد الجواد هجر الخمر بسبب نصيحة الطبيب .
ـ شداد أفلس ثم انتحر .
ـ ياسين مستمر على عادته في الخمر والنساء .
ـ احمد ابن خديجة يعتنق الماركسية، وأما أخوه عبد المنعم فهو من جماعة (الإخوان المسلمين ) ! وتحصل بينهما مناقشات ومشادات . برغم أنهما جميعاً لا يحبان (الطغاة!) .
ـ عبد المنعم ( الإخواني ! ) يقع في الزنا بجارته !!
ـ أحمد يشارك في تحرير مجلة ( الإنسان الجديد ) ، ويحب السكرتيرة في المجلة (سوسن حماد )
ـ أحمد يتعرف على الكاتب ( رياض قلدس ) الذي يوافقه في الميول .
ـ كمال مستمر في الشهوات .
ـ عبد المنعم يتزوج نعيمة ابنة عائشة .
ـ حوارات فكرية وسياسية بين أحمد وخاله كمال ، لتوافقهما في الهوى !
ـ أحمد عبد الجواد يبيع دكانه .
ـ حوارات فكرية بين كمال وقلدس .
ـ نعيمة تموت .
ـ احمد يخطب ( علوية صبري ) فتطالبة بمصروف يومي ، فيرفض مشروع الخطبة .
ـ رفاق أحمد عبد الجواد يموتون واحداً إثر الآخر ، وهو يتفكر في حال الدنيا .
ـ موت أحمد عبد الجواد .
ـ عبد المنعم يخطب كريمة ابنة ياسين مع معارضة والدته خديجة لأن كريمة تكون ابنة زنوبة .
ـ زبيدة تتحول إلى شحاذة ، بعد العز !
ـ أحمد يتزوج سكرتيرة المجلة ( سوسن حماد ) .
ـ عبد المنعم يتزوج كريمة ويجعل من بيته بيتاً إسلامياً .
ـ كمال يعلم بموت ( عايدة ) .
ـ القبض على أحمد ( الماركسي ) ، واخوه عبد المنعم ( الإخواني ) ووضعهم في السجن بتهمة المعارضة .
ـ أمينة تصاب بالشلل فتنتظر الوفاة .
... وبهذا الحدث انتهت الحقلة الثالثة من ثلاثية نجيب محفوظ .
__________
(32/85)
(1) وهو اسم الشارع الذي يسكنه آل شوكت .
شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ :
1ـ احمد عبد الجواد : أحد أفراد الطبقة المتوسطة يتميز بشخصية متسلطة داخل بيته ، ويد حديدية يحكم بها أسرته . مع تدين تقليدي يحافظ من خلاله على أداء الصلوات في ( البيت ! ) ، دون أن يؤثر هذا ( التدين !) على سلوكه الخارجي ، أو أن ينهى زوجته عن الانجراف وراء البدع والشركيات ـ كما سيأتي ـ .
... وهو في الجانب الآخر ، أي خارج بيته ، يتصف بصفة أوصفات أخرى تختلف عن تلك الأولى ، فهو يحب اللهو والشهوات ، والسهرة مع الغواني والمومسات ، في جلسات طرب وأنس .
... ولكن هذا التناقض وإخفاء الشخصية الأخرى عن أولاده سرعان ما انكشف ، ولكنه لم يؤثر في سقوط هيبته الأولى .
أسرة ( أحمد عبد الجواد ) تتكون من :
1ـ زوجته ( أمينه ) الخاضعة له ، التي هي على النقيض من زوجها ، حيث تتميز بالسماحة والطيبة مع أولادها ، ولكنها غارقة حتى أذنيها في البدع والشركيات التي تعتقدها ديناً ! ، حيث أدمنت على زيارة قبر الحسين (المزعوم!) في القاهرة (1) ودعائه من دون الله (2) ، بل والطواف بقبره (3) !!
... وقولها لابنتها عائشة : ( تعالي معي إلى الحسين ، ضعي يدك على الضريح واتلي الفاتحة ، تتحول نارك إلى برد وسلام كنار سيدنا إبراهيم ) (4) !!
... وكانت تلقن كل هذا ابنها الصغير ( كمال ) بطل الرواية .
وأما أبناؤه فهم :
1ـ ياسين : وهو الابن الأكبر من زوجة سابقة ، انتقل إلى العيش مع أبيه وزوجة أبيه ( أمينة ) ، وقد ورث عن أبيه ولعه بالملذات والشهوات ، ولكنه لم يستطع أن يكون كأبيه يعب من تلك الملذات ويحظى باحترام الناس !! مثلما كان أبوه .
__________
(1) بين القصرين ( ص36 ) .
(2) بين القصرين ( ص162 ) .
(3) السكرية ( ص11) .
(4) السكرية ( ص197 ).
(32/86)
2 ـ فهمي : الابن الأوسط لأحمد عبدالجواد ، وهو طالب بمدرسة الحقوق ، يجمع بين خصال أمه من رقة ومودة ورحمة لذويه ، إلى جانب وطنيته وثوريته ، التي انتهت به إلى الموت في مظاهرة وطنية .
3 ـ عائشة : الابنة الصغرى لأحمد عبدالجواد ، تتميز بجمال ورقة ومودة ، مما حببها إلى ذويها . بعد زواجها انساقت مع حياة زوجها المتحررة ، وبعد وفاة زوجها وابنيها ساءت أحوالها وأصبحت تُكثر من الاعتراض على القدر .
... فمن ذلك : قولها عند وفاة ابنتها ( نعيمة) : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ أريد أن أفهم ) (1) .
... أو قولها عندما تذكرت أولادها : ( الرحمة ! أين الرحمة أين؟) (2) .
4 ـ خديجة : الابنة الكبرى لأحمد عبدالجواد ، وكان حظها من الجمال ضئيلاً، وقد ورثت عن أبيها سلاطة لسانه وقوة شخصيته . كثيرة المتاعب مع زوجها ، وكان لأولادها نصيبهم الأكبر من أحداث الرواية .
5 ـ كمال : وهو ( بطل الثلاثية ) ، الابن الأصغر لأحمد عبدالجواد ، عاش في أحضان أمه ، التي لقنته البدع والخرافات والشركيات منذ صغره ، حيث لم يتعرف على الدين إلا من خلال أحاديثها وقصصها ، فانطبع الدين في ذهنه بتلك الخرافات .
... فهو ـ مثلاً ـ يقول عن ضريح الحسن : ( كم وقف حيال الضريح حالماً مفكراً ، ويود لو ينفذ ببصره إلى الأعماق ليطلع على الوجه الجميل الذي أكدت له أمه أنه قاوم غِيَر الدهر بسره الإلهي ، فاحتفظ بنضارته ورونقه ، حيث يضيء ظلمة المثوى بنور غرته ، ولما يجد إلى تحقيق أمنيته سبيلاً قنع بمناجاته في وقفات طويلة ، مفصحاً عن حبه ، شاكياً إليه متاعبه الناشئة من تصوراته عن العفاريت وخوفه من تهديد أبيه ، مستنجداً به على الامتحانات التي تلاحقه كل ثلاثة أشهر ، ثم خاتماً مناجاته عادة بالتوسل إليه أن يكرمه بالزيارة في منامه) (3) !!
__________
(1) السكرية (ص159) .
(2) السكرية (ص197) .
(3) بين القصرين (ص49) .
...
(32/87)
نشأ كمال متحيراً كثير الاضظراب الفكري ، لم يستقر على قرار ثابت ، كان وفدياً (1) ?ثم ما لبث أن مال ميلاً شديد إلى ( الماركسية ) التي تقتلع الطبقات التي أبغضها عندما أحب ( عايدة ) التي تنتمي إلى طبقة عليا .
... تكثر في أحاديثه الشكوك والطعن في الدين وعبارات الإلحاد والادعاء بأن (العلم ) سوف يحل مشاكلنا جميعاً . ولهذا كان من أقرب الناس إلى ابن أخته (أحمد ) الذي كان ( ماركسياً ) متحمساً .
... فمن أقواله ـ على سبيل المثال ـ :
... ـ ( إن مطلبي الأول الحقيقة : ما الله ؟ ما الإنسان ؟ ما الروح ؟ ما المادة؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيراً) (2) .
... قوله : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر وقانون الوراثة ونظام الطبقات ) (3) .
... ( طالما نازعته النفس إلى النقيضين وكر الشهوات والتصوف ، ولكنه لم يكن ليطيق حياة خالصة للدعة والشهوات ، ومن ناحية أخرى كان ثمة شيء في أعماقه ينفر من فكرة السلبية والهروب ) (4) .
6ـ عبد المنعم ابن خديجة :
من جماعة الإخوان المسلمين ، يحمل أفكارهم وينافح عنها أمام أخيه أحمد (الماركسي ) ولكنه يتسم بالعنف في الجدال !! وهكذا أراد له نجيب محفوظ أن يكون !! فمن ذلك أنه قال لأخيه : ( صه يازنديق ) (5) !! وقال له أيضاً ( يا عدو الله ) (6) .
__________
(1) حزب الوفد الذي أنشأه سعد زغلول ، حزب علماني لا يقوم على الإسلام ، يدعو إلى مساواة المسلم بالكافر، والدعوة إلى انسياق البلاد الإسلامية نحو تقليد الغرب الكافر (في كل شيء ) ، وخاصة في مجال ( تحرير المرأة)، انظر (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة ) للندوة العالمية للشباب الإسلامي (1/ 454 ) .
(2) قصر الشوق (ص242 ) .
(3) قصر الشوق ( ص369) .
(4) السكرية ( ص194) .
(5) السكرية ( ص32) .
(6) السكرية ( ص 76 ) .
(32/88)
ولكنه برغم هذا ( الإيمان ) و ( الحماس ) يقيم ـ كما سبق علاقة غير شرعية مع بنت الجيران !! وهذا من التناقض المفتعل لتشويه جماعة الإخوان المسلمين من نجيب محفوظ ـ هداه الله ـ .
7ـ أحمد ابن خديجة :
... شاب متحمس للماركسية ، يدخل مع أخوه ( الإخواني ) عبد المنعم في مجادلات متتالية دون نتيجه .
... من أقواله التي تدل على توجهه :
ـ أنه بعد أن تزوج سأله خاله كمال هازئاً : ( هل تزوجت على سنة الله ورسوله ؟) قال : ( طبعاً ، الزواج والدفن على سنن ديننا القديم ، أما الحياة فعلى دين ماركس) (1) !!
ـ قوله في التحقيق : ( إني اشتراكي ) (2) .
أوجه التشابه بين الثلاثيتين :
1ـ أن الثلاثيتين كلتيهما تتكونان من ثلاثة أجزاء أو حلقات بأسماء مختلفة (بين القصرين ـ قصر الشوق ـالسكرية ) ،( العدامة ـ الشميسي ـ الكراديب ).
2ـ أن البطل في الثلاثية شخص واحد تدور الأحداث من حوله .ففي ثلاثية محفوظ تدور الأحداث حول (كمال) وفي ثلاثية الحمد تدور حول ( هشام ) .
3ـ أن ( كمال عبد الجواد ) هو نفسه مؤلف الثلاثية ، أي هو نجيب محفوظ ، وهذا أمر لا ينكره نجيب محفوظ ، الذي يردد دائماً : "أنا كمال عبد الجواد في الثلاثية" (3) ويقول : "الأزمة الخاصة بكمال هي أزمتي" (4) .
... أما تركي الحمد فقد اعترف بهذا في مقابلة له مع جريدة اليوم (5) عندما قال عن ثلاثيته بأنها " فيها الكثير مني ... فالبطل أنا من صنعه وأنا من وضع له العواطف والتجارب " .
__________
(1) السكرية ( ص271).
(2) السكرية ( ص320 ) .
(3) المنتمي ، للنصراني ! غالي شكري ( ص17 ) .
(4) أتحدث إليكم ، نجيب محفوظ ( ص34) .
(5) بتاريخ 8/ 8/ 1419هـ.
...
(32/89)
وقد أكد الدكتور غازي القصيبي أستاذ الحمد في الجامعة ! هذه الحقيقة . فقال في كتابه ( حياة في الإدارة ) : ( كان المفكر السعودي البارز (!!) الدكتور تركي الحمد أحد طلبتي . وعلى الذين يرغبون أن يعرفوا رأي الطلبة فيَّ أن يعودوا إلى رواية تركي (الشميسي)، ماكتبه عن ( الدكتور محارب الخيزراني) (1)
... فهذا تأكيد من غازي أن هشام العابر لم يكن إلا تركي الحمد .
وليس معنى أن كمال عبد الجواد هو نجيب محفوظ وأن هشام العابر هو تركي الحمد أن يكون كلاً منهما قد نقل ( جميع ) تفاصيل حياته بجميع أشخاصها إلى القراء دون نقص أو زيادة ، فهذا مالا يقوله عاقل ، بل المقصود أن كلاً منهما كان يحكي عن ماضيه ، وتفكيره ، وتطلعاته ، وآماله ، وآلامه ، وبعضاً ممن عاصروه في اختلاف توجهاتهم . ولكن تبقى الفكرة الرئيسة التي تدور حولها الثلاثية هي ما كانت تقلق بال مؤلفها في فترة مضت ، أولا زالت!، كالحيرة والاضطراب ، أو اعلاء شأن الماركسية ، وهكذا .
4ـ أن كلاً من ( كمال عبد الجواد ) و ( هشام العابر ) ماركسي التوجه ، أو يميل إليها على أقل تقدير ـ .
5ـ أن كلاً منهما ـ برغم هذا الميل ـ متردد ، متحير ، مذبذب. يقول رياض قلدس أحد أصدقاء كمال في الثلاثية عن كمال بأنه : ( الذي دار حول نفسه كثيراً حتى أصابه الدوار ) (2) .
ويقول هشام العابر عن نفسه بعد أن ذكر توجهات زملاء السجن : ( أما هشام فلم يعد يدري ما هو ) (3) .
__________
(1) ص ( 53 ) من الطبعة الثانية : وعند عودتنا لكلام تركي في ( الدكتور محارب ) وجدناه يكيل له المديح ، فعلمنا سر هذه الإحالة !
(2) السكرية ( ص191) .
(3) الكراديب ( ص 180 ) .
(32/90)
6 ـ تكثر الطعون في الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين في كلا الثلاثيتين، ولعل للتوجه الماركسي لصاحبيها دوراً في ذلك ، حيث لا ترى الماركسية في الأديان والمقدسات إلا أفيوناً للشعوب يجب أن يهدم، وإن لم نستطع الهدم فلا أقل من اللمز والسخرية وإسقاط هيبة الدين ومحتوياته (أي الإسلام !) من نفوس الناس . ولا حول ولا قوة إلا بالله .
... أما طعون الحمد فقد قرأناها سابقاً ، وأما طعون نجيب محفوظ ، فإليك شيئاً منها بالأرقام ، لكي لا أطيل ولكي لا أتهم بالتجني عليه : ( بين القصرين : ص 122، 227) ( قصر الشوق : 90، 91، 119، 153، 216، 229، 236، 260، 294، 314، 428، 434 ) ( السكرية : 88 ،253 ، 260، 275، 280) .
7ـ تكثر في الثلاثيتين ألفاظ ومعاني الاعتراض على القدر ، واتهام الحياة والموت والقدر بالعبث .
... أما في ثلاثية الحمد فقد علمنا ذلك سابقاً ، وأما في ثلاثية نجيب محفوظ ، فهذه بعض المواقف والعبارات تؤكد هذا :
ـ اعتراض خديجة على زواج عائشة قبلها: ( إني أحافظ على الصلاة أما هي فلم تُطق المحافظة عليها ... ) (1) أي : لماذا تتزوج قبلي ؟
ـ اعتراض عائشة على وفاة زوجها وأبنائها . وقولها ـ مثلاً ـ : ( ما هذا يا ربي ؟ ما هذا الذي تفعله ؟ ) (2)
ـ قول كمال عن نفسه : ( لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر) (3) .
ـ قوله : ( هذا الموت عبث ) (4) .
8ـ تكثر في الثلاثيتين المواقف الجنسية بكافة أنواعها ! أما الحمد فقد علمنا شيئاً من مواقفه ( البطولية !! ).
... وأما نجيب محفوظ فيكفينا من ثلاثيته شخصية أحمد عبد الجود ، والغواني، وشخصية ياسين .
وهاهنا ملاحظة : هي أن تركي الحمد اقتصر في مواقفه الجنسية على ( الزنا) وتوابعه ، أما نجيب محفوظ فقد تجاوز ذلك إلى ( اللواط )!!
__________
(1) بين القصرين ( ص 230 ) .
(2) السكرية ( ص159).
(3) قصر الشوق ( ص369 ).
(4) قصر الشوق ( ص485).
...
(32/91)
كما في علاقة ( رضوان بن ياسين ) مع عبد الرحمن باشا عيسى (1) .
... وسبب ذلك ـ والله أعلم ـ أن محفوظاً تميز في ثلاثيته بالجرأة أكثر من الحمد ، الذي لا زال يحمل بقية من الحياء !
9ـ أن المتمسكين بأحكام الإسلام في الثلاثيتين :
... إما مخرف ساذج ، أو من الاخوان المسلمين ،ولا ثالث لهما .
... فالدين عند محفوظ : إما أن يتمثل في شخصية ( متولي عبد الصمد ) الصوفي ، المخرف ، الوسخ ! ، صاحب البدع والشركيات ، أو في شخصية (عبد المنعم ) الإخواني .
... والدين عند الحمد :
... إما أن يتمثل في شخصية خال هشام المتدين الساذج الذي يقول عنه ابنه :
... ( خالك لا يشك بوجود الخمر أصلاً في هذا البلد ، فكيف في بيته وابنه .. حتى لو رأى حمد مترنحاً فهو لن يشك بمثل هذه الأمور ) (2) .
... ويقول عنه هشام : ( ياله من رجل طيب تخدعه المظاهر ) (3) .
... ولم يجعله الحمد مخرفاً كمتولي عبدالصمد لأنه يعلم أن لامكان للخرافة في بلاد التوحيد ـ ولله الحمد ـ .
أو في شخصية ( لقمان ) الإخواني (4) .
فإن كان محفوظ معذوراً في تجسيد شخصية ( الإخواني ) التي كان يعج بها مجتمع مصر تلك الأيام ، فكانت آراؤهم مطروحة في الساحة المصرية ، ولم تكن خافية على أحد .
فالحمد لا يعذر في تجسيده لهذه الشخصية الغريبة على مجتمعنا ، إلا أن تكون ـ وهو ما أراه ـ تقليداً لمحفوظ ، كما تعودنا من الحمد !
قد تقول : ولكن الاخوان موجودون في السعودية ، وقد وفدوها بعد اضطهادهم في دولهم .
فأقول : نعم هم موجودون ، وقد يكون قلائل من السعوديين تأثروا بهم ، ولكن هذا لا يجيز للحمد أن يصور بلادنا بهذه الصورة الحزبية التي عرفتها مصر وغيرها من الدول العربية .
__________
(1) السكرية ( ص 66) .
(2) العدامة ( ص 99).
(3) الشميسي ( ص51 ).
(4) وزاد الحمد نوعية ثالثة للملتزمين وهي شخصية أصدقاء زميله عدنان ، حيث اللحى غير المسرحة والرؤس المحلوقة!!
(32/92)
ثم يجعل (الاخوان ) هم الممثلين للتيار الإسلامي ! وكأننا في بلد علماني النزعة لايمثلنا فيه سوى الإخوان !!
فهل نسي الحمد أننا ـ بحمد الله ـ نعيش في دولة إسلامية سلفية منذ نشأتها (1) ، لم تعرف الأحزاب يوماً ما ؟ وهل من العقل أن يُجْعل أفراد قلائل مستخفون هم الممثلين للتيار الإسلامي ؟! وننسى الكثرة الغالبة من أهل البلاد الذين لا يعرفون سوى الإسلام ديناً لهم ، على تفاوت بينهم في الالتزام به .
أقول: إن كان محفوظ معذوراً ، فالحمد لايعذر في هذا ، لأنه كثر القليل وقلل الكثير .
وأنا لا أقول هذا بخساً لجهود جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي والإسلامي ، فهي جماعة قد اجتهدت في الدعوة إلى الإسلام ، ولكن شاب جهودها شيء من الأخطاء ، منها :
1ـ أنها جماعة تعنى بالتجميع كيفما كان ، فتجد فيها البدعي والسني جنباً إلى جنب .
2ـ وهي جماعة لا تحرص على نشر عقيدة السلف الصالح بل تجد من أفرادها الكثير ممن يعتقد عقيدة الأشاعرة ، ويزعم انها عقيدة السلف !
3ـ وهي جماعة حرصت على الدولة أكثر من حرصها على التربية والدعوة .
4ـ وهي جماعة يقل فيها الالتزام بالسنن النبوية الظاهرة .
5ـ وهي جماعة لا تراجع نفسها ، بل ظلت مأسورة في شخصية ( حسن البنا ) ـ رحمه الله ـ الذي كانت شخصيته تطغى على غيره من الإخوان ، ولا زالت!
6ـ أخيراً : هي جماعة لا مبرر لقيامها في بلادنا ( السعودية ) لأننا ـ ولله الحمد ـ مسلمون قبل قيامها ، فالذي نحتاجه هو الجد في نشر الدعوة ، والالتزام الصادق بالإسلام (2) .
إذن : أخطأ الحمد خطأ فاحشاً عندما لم ير في الملتزمين بالإسلام سوى :
1ـ الرجل الساذج .
2ـ الاخواني .
3ـ المتشدد .
__________
(1) والكمال لله وحده ، وكل تقصير يزول بالتناصح .
(2) انظر لبيان هذا : ( الدعوة إلى الله في جزيرة العرب ) للشيخ الحصين و( حكم الانتماء ) للشيخ بكر أبو زيد .
...
(32/93)
وبقي صنف رابع لم يذكره ، أو لم يرد أن يذكره ! ، وهو الشاب المسلم الملتزم بدينه ، صاحب العقيدة السلفية ، والخلق الحسن في التعامل ، والمبرز في دراسته الشرعية أو العلمية ، قاصداً خدمة بلاده الإسلامية ورفعتها من هذا التخلف الذي تعيش فيه .
... فبالعقيدة السلفية نرفع التخلف ( الديني ) ـ بدعاً وشركيات ـ الذي يعج في أوطاننا ، ويفرق بيننا ويضيع كثيراً من طاقاتنا .
... وبالعلم الدنيوي النافع نرفع من شأن بلاد الإسلام ونجعلها تنافس الآخرين، بل تفوقهم ، وما ذلك على الله بعزيز .
... كنت أود للحمد لكي يكون عادلاً أن يذكر هذا الصنف في ثلاثيته ، ولكن (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (1) .
10 ـ يبرز في الثلاثيتين جانب خبيث؛ هو محاولة إفحام الدين ، أو التشكيك في بعض مسائله بأسلوب ماكر ، كما في تحير هشام في مسألة : كيف يموت الموت؟
... أما نجيب محفوظ فقد صاغ تشكيكه وتحيره على هيئة سؤال وجهه كمال إلى مدرسه ، حيث يقول عن الجن ( وسألت الشيخ : هل يدخل المسلمون منهم الجنة ؟ فقال : نعم . فسألته مرة أخرى : كيف يدخلونها بأجسام من نار !؟ فأجابني بحدة قائلاً : أن الله قادر على كل شيء ) (2) ولا حظ قوله ( بحدة )! تفهم مقصده . مع أن جواب شيخه مقنع ، وهو أن الذي خلقهم ـ سبحانه ـ قادر على أن يجعل مسلميهم يدخلون الجنة ،إما بطبيعتهم أو بطبيعة أخرى ، كما أنه سبحانه قد أخبر عن النار بأن فيها شجرة الزقوم ، فهل يقول : كيف لا تحرقها النار ؟ فهل هذا إلا سؤال متعنت، يحاكم ربه بعقله القاصر . كما كان مشركو الجاهلية يفعلون مع محمد? .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 148 .
(2) بين القصرين ( ص64 ) .
...
(32/94)
ولهذا جعل الله ـ سبحانه ـ الإيمان بالغيب أحد الصفات الرئيسة للمؤمنين فقال : (آلم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (1) .
... لأنه سبحانه يعلم أن مسائل الغيب قد لايستوعبها عقل الإنسان في الدنيا، فلهذا جعل الفارق بين المؤمنين والمذبذبين المرتابين هو الإيمان بالغيب، فعلى المسلم إذا جاءه الدليل من القرآن أوالسنة الصحيحة بأمر من أمور الغيب أن يؤمن ويسلم دون اعتراض أوتشكيك كما فعل ( تركي ) أو ( نجيب ) !
11ـ يكثر الحلف بغير الله في الروايتين ، أما في ثلاثية تركي فقد مضي التدليل عليه . وأما ثلاثية محفوظ فإليك المثال :
ـ ( ورسول الله ) ( بين القصرين ص 253 ) .
ـ ( ورأس أمي ) ( بين القصرين ص 257 ) .
ـ ( حلفتك بالحسين ) ( بين القصرين ص257 ) .
ـ ( وحياة أمك ) (بين القصرين ص 268 ) .
ـ ( وحياتك ) ( بين القصرين ص 435 ) .
ـ ( والنبي ) ( بين القصرين ص 439 ) .
... أخيراً : ما سبق هو أبرز المتشابهات في ثلاثيتي ( محفوظ والحمد ) وهي تبين أن الحمد قد بنى ثلاثيته على أعمدة سابقة كان قد أقامها نجيب محفوظ ، فلم يكن له في ثلاثيته سوى صياغتها لتناسب طبيعة وظروف الشاب السعودي بدلاً من المصري .
... وإلا فإنهما قد اجتمعا على :
ـ الماركسية .
ـ والاجتراء على الله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله وعباده الصالحين .
ـ والاعتراض على القدر ، وتصويره في صورة العدو المتربص أو العابث .
ـ والنظر إلى الحياة والموت بنظرة عباثة .
ـ والإغراق في الجنس .
ـ والشك والحيرة والاضطراب .
... فكلاهما ـ ثلاثية محفوظ والحمد ـ مجرد رواية ( هدم ) لا ( بناء )، و (تشكيك ) لا ( يقين ) ، فمن قرأها ثم فرغ منها لم يحصل سوى الحيرة التي لا تقود إلى ثبات واطمئنان .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية : 1-3.
...
(32/95)
ثم يكتشف أن راويها لم يقدم له أي بديل لما قد تم هدمه في هذه الثلاثية . فهي شبيهة بأدب الحداثيين الذين حملوا معاولهم لهدم الإسلام والمعاني السامية دون أن يقدموا لها بديلاً سوى الحيرة والشكوك والبؤس والشقاء ، زاعمين أنهم سوف يقدمون لبني قومهم كل جميل ، وكل مبهج، ولكن بعد أن يفرغوا من هدمهم !
... قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (1) ، وقال سبحانه : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (2) .
... وقد أصلح الله بلادنا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ التي ناصرها آل سعود ، فلا مستقر فيها لكل مفسد هادم مهما غلَّف هدمه ذاك بشعارات ( التطور) و( التحضر ) و( التقدم ) ... الخ زخارف الشيطان :
... وليتق الله ربه وليتب من ( هدمه ) ، وليشارك إخوانه في ( البناء ) فإن خير الخطآئين التوابون .
... (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (3) .
...
خاتمة موجزة
... بعد هذه الجولة العجلى في أبرز مؤلفات تركي الحمد وفي ثلاثيته يتبين لنا:
1 ـ أن الحمد يدعو إلى " الشك " و " الريبة " في كل شيء ، ولو كان نصاً من الكتاب أو السنة الصحيحة (4) ، وهو لم يبين لقرائه ما هو الميزان الذي سيحتكم إليه بعد أن " يشك " و " يرتاب " ليقضي لنا بصحة القضية المطروحة أو بطلانها ، هل هو " عقله " ام " عقلي " أم " عقل فلان من البشر " أم ماذا ؟ كما سبق .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية 11.
(2) سورة الأعراف ، الآية : 56 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 119 .
(4) وهو لا يستطيع التصريح بهذا ( بحرفية ) كما قد يتوهم حسنو النية ، فكتاباته الماضية خير شاهد لهذا عند عقلاء الناس.
(32/96)
2ـ أنه عندما " شك " و " ارتاب " ودعا المسلمين إلى هذا ، لم يقدم لهم أي بديل واقعي ( واضح ) يأخذون به بعد أن يهدموا ( كل شيء حولهم ) بالشك والريب . ففكر الحمد ( هدمي ) ليس ( بنائياً ) ـ كما سبق ـ لأنه يهدم ويهدم ويهدم تحت دعوى ( الشك ) و( الارتياب ) الذي يدعو إليه ، دون أن نجد عنده ما يبنى أو يشيد لنفع أمته (1) .
3ـ أن الحمد يتظاهر في كتبه ( بالعقلانية ) التي تخفي وراءها نفساً طافحة بالشهوات الحقيرة ـ كما رأينا ذلك في ثلاثيته التي تعبر عن شخصه (2) ـ
4 ـ أن شخصية الحمد ـ كما يظهر من مؤلفاته وثلاثيته ـ شخصية قلقة مضطربة لا تريد أن تركن إلى شيء يسندها في هذه الحياة ، وهي شخصية (شاكة) (مرتابه) تحقد على كل من لم يكن مثلها في شكها وحيرتها وارتيابها ، كما قد رأينا في حقده وحمله الظغينة على رسل الله ـ عليهم السلام ـ وعباده الصالحين ، وبلاد التوحيد (السعودية) . . . الخ .
5 ـ أن الحمد يدعو إلى عدم ثبات الحق ، فما كان بالأمس حقاً قد يصبح اليوم باطلاً، وما يحمله فلان من الحق قد ينقلب باطلاً في حق فلان . . . في دائرة لا تنتهي ، تهرباً من قيام الحجة عليه ، أو توهمه أنه بهذه الدعوى يُفحم أهل الحق .
6 ـ أن الحمد يدعو إلى مساواة ( الإسلام ) بغير من الأديان والثقافات الأخرى، بل هو يُفضلها عليه ـ والعياذ بالله ـ، وهذا من أعظم ( الكفر ) الذي يُستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه (3) .
__________
(1) بل لنفع نفسه التي أشرفت على الرحيل
(2) وراء ( الفكر ) و ( العقلنة ) .
(3) كما نص على ذلك علماء الإسلام فيمن لم يكفر الكافر أو شك في كفره أو فضل دينه على دين الإسلام، انظر : مجلة البحوث (العدد 49، ص126).
(32/97)
7 ـ أنه من دعاة ( تحرير ) (1) المرأة في بلادنا ، وذلك بدعوته إلى سفرها ، واختلاطها بالرجال في الدراسة والعمل ، وقيادتها للسيارة . . . الخ جزئيات هذه الدعوة التي تجرعت مرارتها المجتمعات الإسلامية الأخرى ، فنبتت عندنا نابتة ـ من ضمنهم الحمد ـ يرددون في بلادنا ما ردده شياطين هذه الفكرة الغربية في البلاد الأخرى في مقالات وكلمات متكررة بين الحين والآخر من دعاة وداعيات ( الشهوة ) و(نبذ حكم الإسلام ) .
... فنسأل الله أن يقضي على هذه الفتنة في مهدها ، كما قد قضى على غيرها ، وأن يسلط ولاة أمر هذه البلاد لا جتثاث عروق الفساد من وسائل إعلامنا لكي لا تتجذر هذه الدعوة المفسدة في بلاد التوحيد .
8 ـ أنه عدو لدود للحكم السعودي الذي قام على تحكيم شرع الله ، والدفاع عنه ضد أعدائه من أصحاب التيارات ( الكافرة ) من ديمقراطيين وشيوعيين ومنحلين . وقد سبق نقل ما يُكنه صدره ضد ولاة أمرنا .
9 ـ أنه يسرق جُلَّ أفكاره من كتابات وجهود الآخرين عرباً كانوا أم عجماً . كما في ثلاثيته التي بناها على ثلاثية نجيب محفوظ ، وكما في ( عقلانيته ) التي اكتسب أفكارها من الجابري والعروي .
10ـ أنه بعد هذا البيان عن الفكر ( الهدمي ) للدين والدولة من هذا الرجل ؛ فإنه لا يجوز شرعاً لوسائل إعلامنا أن تحتفي به ، أو أن تُسهل له مهمة بث هذا الهدم بين المسلمين ، عبر مقالات أو برامج مسموعة أو مرئية ؛ لأن الشريعة قد جاءت بالحجر على السفهاء، فكيف بمن يكيدون لدين الله وللفضائل ولهذه الدولة المسلمة !؟
__________
(1) بل تدمير المرأة ، وقد صرَّح بذلك ـ على حذر ـ في مقابلته مع قناة ( اقرأ )، وفي مقاله الشهير "وخلق الله المرأة".
...
(32/98)
ختاماً : أسأل الله أن يحمي بلادنا من شرور الحاسدين والحاقدين الذين لا يرتضون لها أن ترفع راية لا إلة إلا الله محمد رسول الله في هذا الزمان ، والذين يتربصون بها الدوائر ممن ارتضوا ما في زبالات الغرب بديلاً للهدى والنور الذي جاءهم به خير الرسل محمد ?، وأسأله تعالى أن يُعجل بكبتهم وتشريدهم وتمزيقهم كلَّ ممزق ، وأن يوفق ولاة أمرنا للقضاء عليهم كما هو دأب حكام المسلمين على مرّ الأزمان (1) ، فإن الله قال في هذه الشرذمة من رجال ونساء (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (2) .
... وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
__________
(1) اقرأ إن شئت سيرة من رفع الله ذكرهم من حكام المسلمين ؛ كهارون الرشيد أو المعتصم أو المتوكل أو محمود بن سبكتكين أو يوسف بن تاشفين وابنه أو المهدي العباسي الذي جعل رجلاً مسؤلاً عن أمر الزنادقة يتتبعهم ويقوم بتنفيذ حكم الله فيهم ، تعظيماً لشرع الله ، وحفاظاً على وحدة المسلمين و((أمنهم الفكري )) . . . لتعلم كيف كانت سيرة ولاة الأمور مع ( الزنادقة ) و ( مبغضي ) شرع الله .
(2) سورة المنافقون ، الآية : 4 .
(32/99)
::::: المجموعة السادسة :::::
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد :
فهذه هي المجموعة السادسة من سلسلة "نظرات شرعية في فكر منحرف"، خصصتها لبيان انحرافات عدد من المفكرين الذين يروجون في كتاباتهم ونشاطهم للفكر "العصراني" في زماننا، محاولين صرف الأمة إليه، وصدها عن دعوة الكتاب والسنة.
وقد كتب كثيرون من أهل السنة –ولله الحمد- عدة أبحاث في حقيقة العصرانية وتاريخها في بلاد المسلمين، والرد عليها، فبإمكان القارئ الكريم مراجعة ما كتبوه ليحيط علماً أوسع بهذه الِنحْلة(1). ولكني هنا كمقدمة لهذه الشخصيات أشير إلى أهم الأفكار التي يتفق عليها هؤلاء العصرانيون وتدور عليها معظم كتاباتهم ويسعون لتحقيقها على أرض الواقع؛ ليكون القارئ على بينة منها:
-تعود جذور الطائفة "العصرانية" قديماً إلى مدرسة "المعتزلة" التي بالغت في تعظيم "العقل" البشري على حساب النص الشرعي.
أما حديثاً فتعود جذورهم إلى مدرسة الأفغاني ومحمد عبده التي تابعت المعتزلة في تعظيمهم للعقل على حساب النص الشرعي، وفاقتهم –نتيجة للصدمة
الحضارية مع الغرب- في تأويل كثير من حقائق الإسلام لتتوافق مع العصر -زعموا!- فوقعوا لأجل هذا في انحرافات خطيرة، بل أمور لا يشك مسلم في كفرها –والعياذ بالله-.
(33/1)
-يكمن داء العصرانيين منذ نشأتهم في "الهزيمة النفسية" التي لازمتهم عند احتكاك المسلمين في هذا العصر بالغرب المتفوق دنيوياً. فهذه الصدمة التي هزتهم أدت بهم إلى التنازل عن كثير من الحقائق الإسلامية التي ظنوها –لقصور عقولهم- تنافر تلك الحضارة الدنيوية. جاهلين أو متجاهلين أن الإسلام الصحيح لا يعارض أبدًا الحضارة الدنيوية النافعة، ومن ظن خلاف هذا فإنما أتي إما من جهله بالإسلام الصحيح الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو من ضعف عقله. وأيضاً من ظن هذا الظن السيئ بدين الله عز وجل فهو في الحقيقة -يطعن شاء أم أبى- في الإسلام وفي من ارتضاه ديناً خاتماً للأديان –سبحانه وتعالى-.
-وهذه "الهزيمة" أو "التنازل" ورط العصرانيين في أمر خطير جدًا؛ هو كراهية بعض ما أنزل الله عز وجل أو جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم تقبله عقولهم السقيمة أو ظنوه محرجاً لهم أمام الغرب المتفوق دنيويًا؛ متابعة للكفرة من اليهود والنصارى.
وقد قال الله محذرًا من الوقوع في هذا المسلك المشين الذي يؤدي بصاحبه إلى الردة عن دين الإسلام: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم، ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم، فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم).
-يلتقي أفرد هذه الطائفة في المسائل الآتية:
1- تقديسهم للعقل وتقديمه في كثير من الأحيان على نصوص الكتاب والسنة؛ التي يتكلفون ادعاء تناقضها مع عقولهم.
2- تأويلهم المتكلف لآيات القرآن الكريم، وحملها على أهوائهم.
3- تقسيمهم السنة النبوية إلى: تشريعية وغير تشريعية؛ ليتنصلوا من كثير من أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم.
(33/2)
4- عدم قبولهم لحديث الآحاد في العقيدة؛ ليتسنى لهم رد كثير من الأحاديث النبوية التي لا تناسب عقولهم السقيمة؛ لاسيما في مجال الغيبيات.
5- دعوتهم إلى "الاجتهاد" غير المنضبط بضوابط الشرع، وما بينه علماء الإسلام في هذا الأمر. لاسيما دعوتهم المتكررة إلى التجديد في أصول الفقه، ومحاولتهم نسف كثير من قضاياه وقواعده –كما سيأتي-.
6- تهوينهم من شأن الحكم الإسلامي ووجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد المسلمين، والتقائهم مع العلمانيين دعاة فصل الدين عن الدولة.
7- ردهم –عن طريق التأويل أو ترجيح الشاذ- لكثير من الأحكام الشرعية المتعلقة بالحدود.
8- تهوينهم من أمر الربا المعاصر "ما يسمى الفائدة!". وبعضهم يبيحه صراحة.
9- دعوتهم إلى "تحرير" المرأة المسلمة؛ من الحجاب الشرعي ومن كثير من الأحكام الشرعية المتعلقة بها.
10- إلغاؤهم أحكام أهل الذمة؛ لأنها –عندهم- تفرق بين أبناء البلد الواحد!!، واستبدالها بحقوق "المواطنة"! التي تساوي بين المواطنين! –كما يقولون- ساء ما يحكمون. مما يؤدي بهم إلى مودة الكفار، وتوليهم.
11- غلوهم في تمجيد الديمقراطية الغربية، والإدعاء بأنها ضرورة للعالم الإسلامي في مقابل ما يسمونه الحكومات الدكتاتورية. مع جهلهم أو تجاهلهم لطبيعة الدولة في الإسلام؛ والخلط بينها وبين ما يسمى "الحكومة الدينية" التي وجدت في أوربا.
12- تمجيدهم للفرق والشخصيات المنحرفة في التاريخ الإسلامي؛ وعلى رأسها "المعتزلة".
13- دعوة بعضهم إلى "توحيد الأديان" ! وتغييب التقسيمات الشرعية "المسلمين، الكفار" أو مفهوم الولاء والبراء ونحوها مما يعارض فكرتهم الخبيثة. مع تصريحهم بعدم كفر اليهود والنصارى!! (2)
والبعض الآخر منهم لا يدعو إلى ذلك صراحة وإنما يتستر خلف تسميتهم "أهل الكتاب" ! ولا يسميهم "كفارًا"(3) ! كل هذا إرضاء لإخوان القردة والخنازير وعُبَّاد الصليب ممن قال الله عنهم (أولئك هم شر البرية).
(33/3)
14- إنكارهم بل محاربتهم لفريضة "الجهاد" لأنها تخالف أفكارهم السابقة من توحيد للأديان، أو عدم تكفير الكفار، أو الاندماج معهم وتغييب مبدأ الولاء والبراء.
وبعضهم يقصر مفهوم "الجهاد" على ما يسمى "جهاد الدفع" فقط؛ لأنه لا يتعارض مع أفكارهم السابقة، ثم يحاول جهده إثبات أن جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كان من هذا النوع!
15- دعوتهم إلى "الحرية الفكرية" أو ما يسمونه "التعددية" في المجتمع المسلم، ولو كانت تضم الكفار وأهل البدع! دون تمييز بين "حق" و"باطل"، مفترين على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهما "يريدان" أو "يرضيان" بهذه التعددية. خالطين بين "الإرادة الكونية" و"الإرادة الشرعية". فعندهم كل ما أراده الله "كوناً" فقد أراده "شرعاً"! وما دام أن هذه الفرق البدعية قد وجدت في تاريخ المسلمين فإنها –عندهم- مما يُحمد ولا يذم! ولهذا تجدهم يمدحون ذلك ولا ينكرونه، بل هذه الفرق البدعية –في نظرهم- طريق موصل إلى الله! وليس هذا مقام التفصيل.
16- أخيراً: سخريتهم ولمزهم أتباع دعوة الكتاب والسنة والتنفير منهم بشتى الأساليب، ولو أداهم ذلك إلى الكذب عليهم واختلاق القصص الخيالية!(4)
-من تأمل أهداف هذه الفئة العصرانية وجدها تلتقي مع أهداف "العلمانية" في عالمنا الإسلامي، وإنما الاختلاف هو في الواجهة فقط، فهما وجهان لعملة واحدة، وقد بينت هذا في رسالة "العصرانية قنطرة العلمانية" فراجعها إن شئت(5).
-من المهم ملاحظة أن كثيرًا من العصرانيين أصحاب سوابق "ماركسية" و"يسارية". فهم قد نزحوا إلى هذا الفكر بعد أن فشلت مشروعاتهم السابقة. ولهذا بقيت معهم رواسب من فكرهم السابق أثرت على اختياراتهم وأقوالهم. وكان الأولى بهم أن تكون توبتهم (توبة نصوحاً) تخلعهم من كل ما يخالف نصوص الكتاب والسنة.
___________________
(33/4)
(1) ... ينظر الرسائل التالية: "العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب" لمحمد حامد الناصر، "العصريون معتزلة اليوم" ليوسف كمال، "موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية" للأمين الصادق الأمين، "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي سعيد، "المعتزلة بين القديم والحديث" لمحمد العبدة وطارق عبد الحليم، "مفهوم التجديد بين السنة النبوية وبين أدعياء التجديد المعاصرين" لمحمود الطحان، "العصرانية في حياتنا الاجتماعية" لعبد الرحمن الزنيدي، "الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين" لسعيد الزهراني، "غزو من الداخل" لجمال سلطان، "دعوة التقريب بين الأديان" للدكتور أحمد القاضي (2/630-635)، "العصرانية قنطرة العلمانية" لكاتب هذا البحث، وغيرها من الرسائل التي ساهمت في كشف حقيقة هذه الطائفة.
(2) ... ألف الخبيث الهالك "محمود أبو رية" كتاباً سماه "دين الله واحد" صرح فيه بهذا؛ فأصبح مرجعاً لبعض العصرانيين في زماننا. وقد رد عليه الدكتور محمد بن سعد الشويعر بكتاب سماه "وقفات مع كتاب دين الله واحد"، طبع دار الفتح بالشارقة، 1417هـ.
(3) ... وعلى هذا: أحد رؤوس العصرانية في زماننا: الدكتور يوسف القرضاوي –هداه الله- في كتيبه "موقف الإسلام العقدي من كفر اليهود والنصارى". انظر: ص 60 وما بعدها. وهذا أمر خطير جدًا فيه ردٌ لحكم الله تعالى الذي صرح بكفرهم. قالت اللجنة الدائمة في جواب لها على من قال بأن اليهود والنصارى ليسوا كفارًا إنما هم أهل كتاب: "من قال ذلك فهو كافر بما جاء في القرآن والسنة من التصريح بكفرهم ... " (فتاوى اللجنة، 2/18).
(4) ... وأبرز من اشتهر بهذا الأمر منهم: محمد الغزالي، الذي لا يخلو كتاب من كتبه من المواقف والقصص المختلقة والتهويلية في التهجم على أهل الحق. وعلى منواله سار تلاميذه .
(5) ... وهي منشورة في موقع صيد الفوائد على شبكة الأنترنت. www. Saaid. Net .
(33/5)
::::: المجموعة السادسة :::::
نظرة شرعية في فكر (محمود شلتوت)
ترجمته(1) :
هو: "محمود شلتوت: فقيه مفسر مصري. ولد في منية بني منصور (بالبحيرة) وتخرج بالأزهر (1918م)، وتنقل في التدريس إلى أن نقل للقسم العالي بالقاهرة (1927م)، كان يقول بفتح باب الاجتهاد. وسعى إلى التغيير في الأزهر فعارضه بعض كبار الشيوخ وطرد هو ومناصروه، فعمل في المحاماة (1931-1935م) وأعيد إلى الأزهر، فعين وكيلاً لكلية الشريعة ثم كان من أعضاء كبار العلماء (1941م)، ومن أعضاء مجمع اللغة العربية (1946م) ثم شيخاً للأزهر (1958)! إلى وفاته.
وكان خطيباً موهوباً جهير الصوت.
له 26 مؤلفاً مطبوعاً، منها: "التفسير" أجزاء منه في مجلد، ولم يتم، و"حكم الشريعة في استبدال النقد بالهدي" و" القرآن والمرأة" رسالة، و"القرآن والقتال" و"هذا هو الإسلام" و"عنصر الخلود في الإسلام" و"الإسلام والتكافل الاجتماعي" و"فقه السنة" الأول منه، و"أحاديث الصباح في المذياع" و"فصول شرعية اجتماعية" و"حكم الشريعة الإسلامية في تنظيم النسل" محاضرة، و"الدعوة المحمدية" رسالة، و"فقه القرآن والسنة" الجزء الأول، و"الفتاوى" و"توجيهات الإسلام" و"الإسلام عقيدة وشريعة" و"الإسلام والوجود الدولي".
-كانت لشلتوت جهود غير مشكورة في مداهنة الرافضة والسعي للتقارب معهم. حيث قاموا بخداعه عندما كان شيخاً للأزهر بأن يصدر أمرًا بتدريس مذهب الرافضة في الأزهر! فوضع مشروعاً لذلك؛ إلا أن وقوف بعض شيوخ الأزهر ضد هذا المشروع حال دون إتمامه –ولله الحمد-(2).
ولكنه أصدر فتوى بجواز التعبد بالمذهب الإمامي سنة 1368هـ فطار الروافض بهذه الفتوى فرحاً، ونشروها في الآفاق، وكالوا المديح لشلتوت(3).
تنبيهات :
(34/1)
الأول: أنني أدخلت شلتوت ضمن الطائفة العصرانية لأنه –كما يعلم الباحثون- أحد شيوخ هذه المدرسة ممن تأثروا بأفكار مؤسسيها، فكان له أثر كبير فيمن بعده من العصرانيين اللاحقين، حيث أصبحوا يرددون أفكاره وآراءه التي ذكرها في كتبه؛ لا سيما كتابه الشهير "الإسلام عقيدة وشريعة" –كما سيأتي إن شاء الله-.
فمن تلك الأفكار والآراء التي رددها العصرانيون بعده :
1- غلوه في تعظيم العقل البشري على حساب النصوص الشرعية! لا سيما نصوص السنة.
2- جواز موالاة الكفار.
3- رده لأحاديث الآحاد.
4- دفاعه عن الفرق المنحرفة.
5- إنكار المعجزات.
6- تشكيكه في حجية الإجماع.
7- تشكيكه في حكم المرتد.
8- اختياره أن المسلم يُقتل بالكافر.
9- ادعاؤه أن الكفار إخوان للمسلمين في الإنسانية.
10- ادعاؤه أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط.
11- تقسيمه السنة إلى "تشريعية وغير تشريعية".
12- غلوه في باب المصلحة ولو أدى ذلك إلى التنصل من الحكم الشرعية.
13- اتكاؤه على قضية "الصحيفة" التي يروى أنه صلى الله عليه وسلم كتبها عند مقدمه للمدينة في إقرار أمور غير شرعية؛ كموادة الكفار أو استعمالهم أو غير ذلك مما يقوله العصرانيون كما سبق في الرد على هويدي وعمارة.
هذه بعض الأمور التي استفادها العصرانيون الجدد من شلتوت، ولعله قد استفاد أكثرها ممن سبقه.
الثاني: أنني قد اقتصرت في بيان انحرافات شلتوت على كتاب واحد له هو "الإسلام عقيدة وشريعة"؛ لأنه عمدة كتبه، وقد وضع فيه معظم آرائه واختياراته. وقد استفدت كثيرًا من كتاب الشيخ عبد الله بن يابس –رحمه الله- "إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام".
انحرافاته:
(34/2)
الأول: تهوينه من شأن النصوص الشرعية في مجال العقيدة وأنها لا تُحصل الإيمان للمسلم بخلاف ما يزعمه من الدليل العقلي يقول شلتوت: "أما الأدلة النقلية فقد ذهب كثير من العلماء (!) إلى أنها لا تفيد اليقين ولا تُحصل الإيمان، ولا تثبت بها وحدها عقيدة؛ لأنها مجال لاحتمالات كثيرة تحول دون هذا الإثبات" (ص53).
ولهذا: فقد رد شلتوت –كما سيأتي- كثيراً من العقائد الثابتة بنصوص الكتاب والسنة لأن عقله لم يقبلها!
الانحراف الثاني: زعمه أن الإسلام يتسع للأفكار والثقافات البعيدة عنه! يقول شلتوت (ص9): "الإسلام دين يتسع للحرية الفكرية العاقلة (!) ولا يقف فيما وراء عقائده وأصوله على لون واحد من التفكير أو منهج واحد من التشريع.." ففي هذا الكلام أن الإسلام يتسع لألوان الكفر والأهواء المختلفة، ويرضى بنشرها في سلطانه، ولا ينكر على أهلها! وهذا من الكذب والافتراء على دين الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى (لا يرضى لعباده الكفر) بل يأمرهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأي منكر أعظم من السماح بنشر الأديان المنحرفة والمذاهب الباطلة التي تحوي ألواناً من الشركيات والكفريات أو البدع والمخالفات ؟!
الانحراف الثالث: عدم تكفير اليهود والنصارى، ولو بلغتهم دعوة الإسلام ما لم يقتنعوا بها!! (ص 19-20).
وهذا قول ضال خالف به شلتوت نصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين في كفر اليهود والنصارى إذا بلغتهم دعوة الإسلام. كما قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم.
قالت اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز –رحمه الله-: "من أصول الإسلام: أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم" "ولهذا: فمن لم يكفِّر اليهود والنصارى فهو كافر"(4).
(34/3)
الانحراف الرابع: اقتصاره في معرفة العقائد على القرآن وحده! يقول شلتوت: "الطريق الوحيد لثبوت العقائد هو القرآن الكريم" (ص 57).
ويُقال له: فأين قوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه)، وقوله (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)؟! وغير ذلك من الآيات الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والسنة جميعاً؟! أم أن شلتوت متأثر بالمعتزلة وأضرابهم من معظمي العقل البشري القاصر؟!
الانحراف الخامس: موالاته للكفار وعدم بغضهم. يقول شلتوت (ص44): "الإسلام لا يرى أن مجرد المخالفة في الدين يبيح العداوة والبغضاء"! وهذا مخالف للنصوص الشرعية الكثيرة الآمرة ببغض الكفار وعدم موالاتهم(5)، وفي مقدمها قوله تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)، وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)، وقوله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) الآية.
الانحراف السادس: تشكيكه في كثير من مسائل العقيدة بدعوى أنها لم ترد بطريق قطعي! كرؤية الله عز وجل، وظهور المهدي، والدجال، والدابة، ونزول عيسى –عليه السلام- آخر الزمان.. إلى غير ذلك مما لم يقبله عقله القاصر. (انظر ص55 من كتابه).
الانحراف السابع: دفاعه عن الفرق المبتدعة التي انحرفت عن الحق وخالفت سبيل أهل السنة بأنه لا يجوز رميها بالضلال أو أنها حائدة عن الصواب!!
(34/4)
ومعنى هذا أن جميع الفرق التي تنتسب إلى الإسلام مصيبة في رأيها حيث إنها لم تحد عن الصواب، وأنها غير ضالة. ومن ضمن ذلك: الجهمية الذين سلبوا الله صفاته وقالوا بخلق القرآن وكفرهم السلف. والرافضة الذين يقدحون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولديهم من العقائد الكفرية الشيء الكثير وغيرهم. ويلزم من هذا تضليل علماء السلف بل الصحابة الذين أنكروا على المبتدعة وحذروا منهم وردوا عليهم.
الانحراف الثامن: ادعاؤه أن حديث الآحاد لا يفيد اليقين (ص59). فيلزم من هذا رد كثير من العقائد الواردة بطرق صحيحة ولكنها آحاد. وهذا مخالف لعمل الصحابة –رضي الله عنهم- والسلف الصالح الذين قبلوا خبر الآحاد إذا اكتملت شروط الصحة فيه. وللرد على هذه الشبهة بتفصيل انظر، رسالة: "حديث الآحاد" للشيخ الألباني –رحمه الله-.
الانحراف التاسع: إنكاره –كغيره من العقلانيين- لكثير من المعجزات التي لم يقبلها عقله؛ كانشقاق القمر، وحنين الجذع (ص 64). مع أنها ثابتة بطرق صحيحة.
الانحراف العاشر: تشكيكه في حجية الإجماع (ص 65 وما بعدها). وأدلة حجية الإجماع يعلمها كل طالب علم، فمن خالف ذلك فقد خالف الإسلام.
انظر رسالة : "حجية الإجماع" للدكتور محمد فرغلي
الانحراف الحادي عشر: تشكيكه في حكم المرتد، وأنه من الممكن تغييره؛ لأنه لم يثبت إلا بحديث الآحاد! (ص281)، وفي هذا مخالفة صريحة للنصوص الشرعية الواردة في قتل المرتد، ومخالفة لإجماع علماء المسلمين. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد"، (المغني 8/123).
الانحراف الثاني عشر: اختياره أن المسلم يُقتل بالكافر! (ص314،374) وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقتل مسلم بكافر" رواه البخاري.
الانحراف الثالث عشر: تصريحه بأن للكفار أن يدعو إلى دينهم في بلاد المسلمين! (ص453)، وفي هذا إقرار للكفر، وإقرار للطعن في دين الإسلام لمن تأمل.
(34/5)
الانحراف الرابع عشر: وصفه للكفار بأنهم "إخوان في الإنسانية" للمسلمين! (ص453)، ويكفي في رد هذا الهراء قوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة) فليس هناك أخوة بين مسلم وكافر(6).
الانحراف الخامس عشر: ادعاؤه أن الأسرى لا يجوز قتلهم! (ص 455). وفي هذا تكذيب لسنته الفعلية صلى الله عليه وسلم التي أجاز قتل الأسرى إذا اختار ذلك الإمام. كما فعل صلى الله عليه وسلم بأسرى يهود بني قريظة عندما أنزلهم على حكم سعد بن معاذ الذي أمر بقتل مقاتلتهم. وحوادث أخرى كثيرة. فالإمام مخير في الأسرى بين المن عليهم أو مفاداتهم أو قتلهم.
الانحراف السادس عشر: ادعاؤه أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط (ص453)، وانظر كتابه: (القرآن والقتال، ص126).
وللرد عليه: انظر: رسالة: "تسامح الغرب مع المسلمين" لعبد اللطيف الحسين، (ص327 وما بعدها)، ورسالة: "الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" للدكتور محمد هيكل (1/511 وما بعدها).
وللرد على هذه الفكرة الانهزامية راجع محاضرة الشيخ ابن باز –رحمه الله- "ليس الجهاد للدفاع فقط"، منشورة في مجموع فتاواه (3/171).
الانحراف السابع عشر: زعمه أن الواجب في آيات صفات الله عز وجل هو التأويل أو التفويض، وأن التفويض هو مذهب السلف! (ص432). وهذا غير صحيح وعدم فهم لمذهب السلف، فالتأويل والتفويض كلاهما مذهب مبتدع لم يقل به السلف. وإنما مذهب السلف هو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل من غير تمثيل ولا تأويل مع تفويض (كيفية) الصفة لا (معناها)؛ لأن معنى الصفة معلوم أما كيفيتها فعلمه عند الله، -عز وجل-.
(34/6)
الانحراف الثامن عشر: ادعاؤه تقسيم السنة إلى "تشريع وغير تشريع" وأدخل في السنة غير التشريعية أي التي لا يلزم اتباعها: سنن الأكل والشرب والنوم والتزاور والمشي .. الخ! وبهذا التقسيم المحدث أخرج كماً هائلاً من السنة النبوية من الشريعة! وسيأتي الرد على هذا أثناء بيان انحرافات أبي المجد والعوا -إن شاء الله-.
الانحراف التاسع عشر: قوله: "إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله" (ص475). والصواب أن شرع الله يؤخذ من القرآن والسنة؛ لأن المصلحة أمر غير منضبط. فما يكون مصلحة عند شخص قد يكون مضرة عند آخر. بل قد يتفق بعض الناس على تحليل ما حرم الله بدعوى المصلحة. كأن يحللوا الربا لأن فيه مصلحة، وكذا الخمر والزنا.. الخ.
الانحراف العشرون: اختياره أن دية المرأة كدية الرجل (ص236). وهذا مخالف لإجماع المسلمين. قال الشافعي –رحمه الله- في (الأم) (6/114): "لم أعلم مخالفاً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً في أن دية المرأة نصف دية الرجل".
هذه أبرز انحرافات شلتوت أحد شيوخ العصرانية من كتاب واحد له! قاده إليها نهجه الباطل في الغلو في العقل وتضخيمه على حساب النص الشرعي، إضافة إلى تأثره بمؤسسي المدرسة العصرانية الذين أرادوا تمييع الإسلام وأحكامه لعله يتماشى مع الحضارة الغربية الطاغية –زعموا-. فلا دنياً أقاموا، ولا ديناً أبقوا. والله المستعان.
___________________
(1) ... نقلاً عن الأعلام للزركلي (7/173) بتصرف.
(2) ... للتوسع: انظر رسالة الدكتور ناصر القفاري –وفقه الله- "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
(3) ... انظر على سبيل المثال : كتاب "مع رجال الفكر في القاهرة" للرافضي مرتضى الرضوي (ص24-63)، وكتاب "الوحدة العقائدية عند السنة والشيعة" للدكتور الرافضي عاطف سلام (ص36). وقد نشر نص فتوى شلتوت، وذكر أنها نشرت في مجلة "رسالة الإسلام" العدد الثالث، السنة الحادية عشرة.
(34/7)
... وانظر أيضاً: "مسألة التقريب بين المذاهب الإسلامية" لمجموعة من الباحثين، تقديم عبد الله العلايلي. حيث ذكروا جهود دعاة التقريب –ومن ضمنهم شلتوت- في هذا المجال. ولكنهم جميعًا باؤا بالفشل –ولله الحمد-.
(4) ... فتوى رقم (19402). وانظر للزيادة : "الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان" للشيخ بكر أبو زيد.
(5) ... انظرها في رسالة "الموالاة والمعادة في الشريعة الإسلامية" لمحماس الجلعود، و"الولاء والبراء" للدكتور محمد بن سعيد القحطاني.
(6) ... انظر للفائدة فتاوى الشيخ ابن باز –رحمه الله- (2/173)، مقالاً بعنوان "لا أخوة بين المسلمين والكافرين".
(34/8)
::::: المجموعة السادسة :::::
نظرة شرعية في فكر الدكتور محمد عمارة(1)
ترجمته :
- هو الدكتور محمد عمارة.
- ولد عام 1931م. حصل على الشهادة الابتدائية من معهد دسوق الديني عام 1949م، ثم الشهادة الثانوية من معهد طنطا (المعهد الأحمدي).
- التحق بدار العلوم وتأخر حصوله على شهادتها حتى عام 1965م بسبب سجنه بتهمة الانتماء إلى التنظيمات اليسارية.
- حصل على الماجستير عام 1970م وكانت رسالته حول "مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة".
- حصل على الدكتوراه عام 1975م وكانت رسالته حول "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة".
- عمل باحثاً في وزارة الأوقاف، ومستشاراً في الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- متفرغ للعمل الفكري والتأليف.
مؤلفاته:
كثيرة؛ منها :
1- القومية العربية ومؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب.
2- فجر اليقظة القومية.
3- العروبة في العصر الحديث.
4- الأمة العربية وقضية الوحدة.
5- إسرائيل.. هل هي سامية؟
6- مسلمون ثوار.
7- عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين.
8- الإسلام والوحدة الوطنية.
9- قاسم أمين وتحرير المرأة.
10- محمد عبده، مجدد الإسلام.
11- جمال الدين الأفغاني، موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام.
12- عبد الرحمن الكواكبي: شهيد الحرية ومجدد الإسلام.
13- علي مبارك، مؤرخ المجتمع ومهندس العمران.
14- رفاعة الطهطاوي. رائد التنوير في العصر الحديث.
15- المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية.
16- الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية.
17- المعتزلة وأصول الحكم.
18- المعتزلة والثورة.
19- نظرة جديدة إلى التراث.
20- عندما أصبحت مصر عربية.
21- الجامعة الإسلامية والفكرة القومية عند مصطفى كامل.
22- معارك العرب ضد الغزاة.
23- محمد عبده، سيرته وأعماله.
24- المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد.
25- العرب والتحدي.
26- الفكر الاجتماعي لعلي بن أبي طالب.
27- العدل الاجتماعي لعمر بن الخطاب.
28- نظرية الخلافة الإسلامية.
(35/1)
29- الإسلام والثورة.
30- الإسلام والسلطة الدينية.
31- الإسلام والحرب الدينية.
32- ثورة الزنج.
33- التراث في ضوء العقل.
34- الإسلام وقضايا العصر.
35- الإسلام والعروبة والعلمانية.
36- دراسات في الوعي بالتاريخ.
37- الإسلام وأصول الحكم.
38- تيارات الفكر الإسلامي.
39- تيارات اليقظة الإسلامية والتحدي الحضاري.
40- الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري.
41- الفريضة الغائبة، عرض وحوار وتقييم.
42- الفكر القائد للثورة الإيرانية.
43- الإسلام بين العلمانية والسلطة الدينية.
44- ماذا يعني الاستقلال الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية؟.
45- جمال الدين الأفغاني المفترى عليه.
46- الإسلام والمستقبل.
47- العلمانية ونهضتنا الحديثة.
48- الإسلام وحقوق الإنسان.
49- الاستقلال الحضاري.
50- معالم المنهج الإسلامي.
51- الإسلام والفنون الجميلة.
52- الشيخ محمد الغزالي.
-كان الدكتور محمد عمارة في شبابه يسارياً متطرفاً إبان فترة توهج الفكر الماركسي اليساري في بلاد المسلمين، ثم تحول عنه في بداية السبعينات لما رأى -كما يدعي!- "سلبيته القاتلة" وأنه مجرد وافد على بلاد المسلمين، ومن ثم توجه عمارة إلى ما يسميه "الفكر العربي الإسلامي العقلاني المستنير".
-بعد رجوعه عن الفكر اليساري اتجه محمد عمارة إلى إحياء تراث المعتزلة قديماً والمدرسة العقلية (مدرسة الأفغاني ومحمد عبده) حديثاً.
يقول عمارة عن توجهه الجديد: "لقد استطعت أن أنجح في خلق(!) قارئ جديد. قارئ إسلامي ليس هو اليساري التقليدي، وليس هو الإسلامي التقليدي"! (رحلة في عالم الدكتور محمد عمارة، ص 107).
أي أنه حاول في توجهه الجديد أن يمزج الإسلام باليسارية التي كان يدين بها! بعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في عالمنا الإسلامية –ولله الحمد-. وهذا دليل على بقاء تعلقه بذلك الفكر المنحرف واستنكافه وتكبره عن التراجع التام عنه -نسأل الله العافية وأن يرزقنا التوبة النصوح-.
انحرافاته :
(35/2)
1-غلوه في تعظيم العقل البشري القاصر:
يبالغ الدكتور عمارة –شأنه شأن أسلافه من المعتزلة وأتباعهم- في تمجيد العقل البشري القاصر وإنزاله محلاً رفيعاً يجعله حاكماً على النصوص الشرعية لا محكوماً لها؛ وهذا مما أداه إلى رد كثير من النصوص والأحكام الشرعية التي لا توافق عقله.
يقول عمارة متحدثاً عن شيوخه المعتزلة ومؤيداً لهم: "قالوا إن الأدلة أولها العقل؛ لأنه به يميز بين الحسن والقبيح" (الطريق..، ص100) ويقول: "إن مقام العقل في الإسلام مقام لا تخطئه البصيرة ولا البصر.." (التراث..، ص183)، ويقول: "إن الإسلام لا يمد نطاق علوم الوحي والشرع إلى كل الميادين الدنيوية التي ترك الفصل فيها والتغير لعلوم العقل والتجربة الإنسانية" (الدولة الإسلامية، ص172).
قلت: وللرد على شبهات العقلانيين –ومنهم محمد عمارة- في تعظيم العقل وتقديمه على النقل يراجع كتاب "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" (من ص140 إلى ص258).
(35/3)
وأكتفي هنا بنقل جميل عن الدكتور محمد رفعت زنجير ذكره في كتابه "اتجاهات تجديدية متطرفة" (ص57)، يرد به على معظمي العقل على حساب النقل: يقول الدكتور: "وقضية تقديم العقل على النقل مطروحة من أيام المعتزلة، ونحن لا نرى إقحام العقل في تفاصيل قضايا الإيمان بالغيب، وصفات الله، والمتشابهات، لأن العقل محدود العلم، وما يجهله أكثر مما يعرفه، فلا ينبغي له أن يتدخل فيما يجهله، لأنه سيقود إلى نتائج غير سليمة. ونضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً قبل عصر الطيران قال إن البشر سيطيرون من شرق الأرض إلى غربها في يوم واحد، لاتهمه الناس بعقله، فالعقل لا يقول بإمكانية ذلك آنذاك، أما اليوم فمن أنكر ذلك فهو الذي يتهم بالخبل، فإذا كان العقل عرضة لتغيير أحكامه في أمور الدنيا تبعاً لمتغيراتها بين الأمس واليوم، فهو أكثر عرضة لتغيير آرائه بالنسبة للدين، يؤكد هذا أن الله تعالى كلما بعث نبياً، وأصلح الناس، قام الناس بعد رحيل نبيهم بتغيير المنهج وتحريف الرسالة، وهم يعتمدون في ذلك على ما تكن به نفوسهم ويخطر في عقولهم، ولو أنهم التزموا بما أنزل الله إليهم ولم يحرفوا، أو يبدلوا، لبقي المنهج سليماً، وساد الإصلاح، فالعقل قد يضل، أو يتبع الهوى، وليست جميع العقول مستنيرة".
2-اعتناقه واحياؤه لمذهب "المعتزلة":
(35/4)
سبق لنا أن الدكتور بعد أن ادعى الانخلاع من الفكر الماركسي لجأ إلى إحياء تراث فرقة المعتزلة بعد أن لفظته الأمة منذ قرون، محاولاً بذلك صرف شباب الأمة إلى هذه البدعة من جديد. يقول الدكتور ممجداً المعتزلة: "كان التوحيد بمعناه النقي المبرأ من الشبهات هو الذي دعا المعتزلة لنفي القدم عن القرآن ... " (نظرة جديدة..، ص91)، ويخصص كتاباً كاملاً هو "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية" لينصر فيه قولهم في القدر. ويقول عن شيخهم عمرو بن عبيد: "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم، وعلم من الأعلام الذين صنعوا النشأة الأولى للتيار العقلاني في تراثنا". (مسلمون ثوار، ص161)
ولبيان انحرافات المعتزلة بإمكان القارئ الرجوع إلى رسالة "المعتزلة وأصولهم الخمسة" للشيخ عواد المعتق –وفقه الله-.
3-اعتناقه واحياؤه لتراث تيار المدرسة العصرانية الحديثة:
وكما أحيا محمد عمارة تراث المعتزلة لتوافقه معهم في الغلو في العقل البشري على حساب نصوص الوحي، فإنه كذلك أحيا تراث أتباعهم في هذا العصر؛ وأعني بهم مدرسة الأفغاني ومحمد عبده العصرانية، الذي يقول محمد عمارة، عن تيارهم: "أبرز تيارات التجديد في حركة اليقظة العربية في العصر الحديث" (العرب والتحدي، ص291) ويدعو الأمة إلى التزامه.
ولهذا أشرف الدكتور على طباعة ما سماه الأعمال الكاملة لكل واحدٍ منهم؛ نظرًا لتوافقه معهم في انحرافاتهم التي سبق في المقدمة ذكرها، ومن أبرزها: دعوتهم إلى الوطنية، والعلمانية، والاشتراكية، وتحرير المرأة، والتقريب بين الأديان والمذاهب.. الخ
وكما سبق في مقدمة هذه المجموعة –أيضاً- فقد رد العلماء والباحثون على هذه المدرسة، وبينوا انحرافاتها، وأنها في حقيقتها "علمانية" مستترة، وسلاح بيد الأعداء لتغريب ومسخ بلاد المسلمين. فبإمكان القارئ الرجوع إلى ما ذكرته من المصادر.
(35/5)
4-من أخطر انحرافات محمد عمارة أنه لا يرى كفر اليهود والنصارى!! بل هم في نظره مؤمنون مسلمون! كما ذكر ذلك في كتابه "الإسلام والوحدة، ص60،70،71،625". وفي هذا مخالفة لما علم من دين الإسلام بالضرورة؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة صريحة في تكفير من تدين بدين سوى الإسلام، وعلى هذا أجمع المسلمون. قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "إن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام"(2). وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: "واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا"(3).
وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: "إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى الإسلام فهو كافر لا شك في كفره". ومن أراد الأدلة التفصيلية فليراجعها في أصل الكتاب، وفي رسالة "الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام" إعداد علي أبو لوز.
5-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى "الوطنية" التي تجمع المسلم بالكافر، وتجعله يتخذه ولياً من دون المسلمين من غير أهل الوطن، وقد قال تعالى (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء). ومع هذا يقول عمارة: "إيمان هذه الأمة بالوحدة الوطنية والقومية إيمان راسخ لا شك فيه"! (التراث..، ص234).
6-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى القومية العربية التي تجعله يوالي العربي الكافر على حساب المسلم غير العربي –كما سبق-، وقد خصص –هداه الله- كتاباً يدعو فيه إلى هذا الأمر، سماه "الإسلام والوحدة القومية".
ولبيان انحرافات هذه الفكرة: راجع كتاب الشيخ ابن باز –رحمه الله- عن القومية، وكتاب "فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام" للشيخ صالح العبود.
7-ومن انحرافات عمارة دعوته إلى "العلمانية"! وقد يتعجب البعض من هذا وهم يقرأون ويتابعون أن محمد عمارة يرد كثيرًا على من يسميهم "غلاة العلمانيين"، وقد خصص لهذا بعض كتبه ككتابه "العلمانية ونهضتنا الحديثة".
(35/6)
وسيزول عجب هؤلاء إذا علموا أن محمد عمارة يقسم العلمانية قسمين:
1- علمانية الغلاة؛ وهذه يرفضها ويرد عليها؛ وهي ما يسميه "العلمانية الغربية" التي تفصل الدين عن الدولة –كما يزعم-. (راجع كتابه: الدولة الإسلامية، ص64).
2- علمانية إسلامية! أو مستنيرة! وهي التي تقرر –كما يقول- أن "ما قضاه وأبرمه الرسول في أمور الدين عقائد وعبادات لا يجوز نقضه أو تغييره حتى بعد وفاته؛ لأن سلطانه الديني كرسول ما زال قائماً فيه. وسيظل كذلك خالداً بخلود رسالته عليه الصلاة والسلام. على حين أن ما أبرمه من أمور الحرب والسياسة يجوز للمسلمين التغيير فيه بعد وفاته؛ لأن سلطانه هنا قد انقضى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى" !! (الدولة الإسلامية، ص76).
إذن فالدين عند عمارة لا دخل له في أمور السياسة والحرب؛ ومعلوم أن هذا يشمل: علاقة المسلمين بغيرهم، وأحكام الجهاد، وأحكام الخلافة والولاية، وأحكام الحسبة، وأحكام الاقتصاد.. الخ. وإنما يتدخل الدين في أمور العقائد والعبادات فقط! فإن لم تكن هذه هي العلمانية فلا ندري ما العلمانية؟! ولا فرق بينها وبين ما يسميه بعلمانية الغلاة، بل يستويان في حكم الشرع عليهما بالكفر.
8-ومن انحرافات الدكتور عمارة دعوته إلى الاشتراكية التي يسميها زورًا "بالعدل الاجتماعي"! كما في كتابه "الإسلام والثورة، ص53،54، 57،64،70،71".
وقد بين علماء الإسلام حكم الاشتراكية المستوردة من الشرق بما لا مزيد عليه؛ فليراجع مثلاً كتاب الشيخ عبد العزيز البدري –رحمه الله- "حكم الإسلام في الاشتراكية"، ورسالة الشيخ عبد الله بن حميد –رحمه الله- "الاشتراكية في الإسلام".
9-ومن انحرافات الدكتور: محاولته للتقريب بين أهل السنة والرافضة، كما في كتابه "عندما أصبحت مصر عربية، ص74، 113".
(35/7)
وقد بين العلماء عدم إمكانية مثل هذا التقارب الموهوم؛ لأنه لا توجد أرض مشتركة بين الطائفتين؛ طائفة الحق وطائفة الضلال، بل هما دينان مختلفان، إلا أن يكون ذلك على حساب أهل السنة بحملهم على التنازل عن كثير من عقائدهم إرضاء لأعداء الصحابة.
ومن أراد بيان استحالة مثل هذا الأمر وخطورته على أهل السنة؛ فليراجع رسالة الدكتور ناصر القفاري: "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
10-ومن انحرافات الدكتور: دعوته إلى تغريب المرأة المسلمة، متابعة منه للعصريين من أمثال قاسم أمين تلميذ الشيخ! محمد عبده. "انظر كتاب عمارة: الإسلام والمستقبل، ص99، 227، 237، 241" وكتابه الآخر عن المودودي (ص 371، 384، 385، 378، 380) حيث أباح سفورها واختلاطها وعملها في الفن والسياسة.. الخ.
وقد بين العلماء زيغ هذه الدعوة الماكرة وخطرها على نساء المسلمين ومجتمعاتهم في عدة رسائل ونصائح وتوجيهات. راجع منها: "عودة الحجاب" للشيخ محمد بن إسماعيل، و "حراسة الفضيلة" للشيخ بكر أبو زيد.
11-ومن انحرافات الدكتور: أنه يرى أن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط وليس للطلب! (انظر كتابه: الدولة الإسلامية؛ ص 136).
وهذا عين ما يردده المنهزمون الذين يريدون أن يُظهروا الإسلام أمام الناس بمظهر الوديع المسالم المتسامح! ولو أداهم ذلك إلى إلغاء شيء من أحكامه. ومن المحزن أن يتبنى هؤلاء فكرة قصر الجهاد في الإسلام على الدفاع فقط، رغم أن العدو لم يدعهم وشأنهم بل أصبح (يطلبهم) في ديارهم و"ما غزي قوم في دارهم إلا ذلوا".
ومن أراد الرد على هذه الفكرة المنهزمة فعليه بمحاضرة الشيخ ابن باز -رحمه الله- "ليس الجهاد في الإسلام للدفاع فقط"، وهي منشورة في فتاواه كما سبق.
(35/8)
12-ومن انحرافات الدكتور: عدم أخذه بحديث الآحاد الصحيح في مجال العقيدة (انظر كتابه: الإسلام وفلسفة الحكم، ص 118)، كما هو مذهب أهل البدع الذين ردوا كثيرًا من عقائد الإسلام بهذه الشبهة. وللرد عليهم راجع رسالة الشيخ الألباني –رحمه الله-: "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام.
13-ومن انحرافات الدكتور: لمزه لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بأنها أعادت الفلسفة وعلم الكلام! (انظر كتابه: الطريق..، ص160).
ومعلوم أن هذه صفة مدح لا ذم! لأن علم الكلام والفلسفة علم مبتدع يحوي صنوفاً من الضلال، ويتناقض مع الإسلام، مهما حاول أصحابه ودعاته أن ينفوا ذلك. وقد بين هذا كثير من علماء الإسلام. راجع كتاب "ذم الكلام" للهروي.
14-ومن انحرافات الدكتور: لمزه المتكرر للدعوة السلفية. يقول الدكتور: "نحن في مواجهة خطر السلفية النصوصية"! (المعتزلة..، ص5). (وانظر كتبه: نظرة جديدة..، ص13، والإسلام والمستقبل، ص249).
ثم يصيبك العجب عندما ترى الدكتور يدندن كثيرًا بأنه من دعاة "السلفية"! فهل السلفية الحقة إلا اتباع نصوص الكتاب والسنة؟!
والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
15-ومن انحرافات الدكتور: طعنه في بعض الصحابة –رضي الله عنهم-؛ كمعاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه-؛ (كما في كتابه: الإسلام وفلسفة الحكم، ص 158). وهذا ليس بمستغرب من رجل متشرب لتراث المعتزلة أعداء الصحابة. ومعلوم –كما قال شيخ الإسلام- أن "من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"(4).
16-ومن انحرافات الدكتور: مدحه للصوفية الملاحدة وأهل البدع . يقول عمارة عن ابن عربي الصوفي: "ابن عربي في التصوف الفلسفي قمة القمم"! (التراث..، ص 291).
ويقول عن رأس الاعتزال عمرو بن عبيد: "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم.."! (السابق، ص 27).
(35/9)
ويقول عن غيلان الدمشقي القدري المعتزلي: بأن حياته كانت "نموذجاً فريداً ... "! (مسلمون ثوار، ص 149). ولبيان حقيقة هذه الشخصيات المنحرفة وغيرها: راجع الأصل ( ص 653-670).
17-ومن انحرافات الدكتور: تمجيده وفخره "بالثورات" التي قامت بها الطوائف المنحرفة في تاريخنا الإسلامي؛ كثورة الزنج، والعبيديين. ولبيان الحقيقة راجع الأصل (ص 671-676).
ختاماً:
هذه أبرز انحرافات الدكتور محمد عمارة الذي اختار عند انخلاعه من اليسارية والاشتراكية أن يستبدل ذلك بما يسميه "التيار الإسلامي المستنير" ! الذي يلتقي أفراده على مجموعة من الانحرافات –سبق بيانها في مقدمة هذه المجموعة-، فأفسد ولم يُصلح؛ بل أشغل الساحة الإسلامية بخلافات ونزاعات كان في غنىً عنها لو ارتضى ما رضيه الله لعباده؛ من التزام شرعه واتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح. ولكن (لله الأمر من قبل ومن بعد). نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه.
_______________________
(1) ... اختصرت هذا المبحث من كتابي "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة"، وهو مطبوع فمن أراد تفصيل الرد على انحرافات الدكتور فليرجع إليه غير مأمور.
(2) ... الفتاوى (35/201).
(3) ... مراتب الإجماع (ص 119).
(4) ... الفتاوى (3/152) .
(35/10)
::::: المجموعة السادسة :::::
نظرة شرعية في فكر فهمي هويدي(1)
تعريف بهويدي :
هو: محمود فهمي عبد الرازق هويدي.
ولد في 30 أغسطس عام 1937م، بمدينة الصف محافظة الجيزة.
متزوج وله 3 أبناء .
حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة.
عمل محررًا بقسم الأبحاث بجريدة الأهرام عام 1958م.
ثم سكرتير تحرير سنة 1965م.
ثم مدير تحرير مجلة العربي الكويتية (1976-1982م).
ثم نائب رئيس تحرير مجلة أرابيا (1982-1984م).
ثم مساعد رئيس تحرير جريدة الأهرام 1984م.
يعمل حالياً بجريدة الأهرام.
مؤلفاته :
معظم مؤلفات فهمي هويدي مقالات صحفية سبق نشرها في عدة صحف ومجلات، يقوم هويدي بتصنيفها على هيئة موضوعات مختلفة، ثم تُطبع كل مجموعةٍ منها في كتاب مستقل أقرب إلى الصحيفة منه إلى الكتاب العميق المتأنى في كتابته.
وهذه قائمة بأسماء مؤلفاته :
1- القرآن والسلطان –ط2- 1402هـ –دار الشرق(2).
2- مواطنون لاذميون –ط2- 1410هـ –دار الشروق.
3- تزييف الوعي – دار الشروق.
4- حتى لا تكون فتنة – ط1- 1410هـ –دار الشروق.
5- إحقاق الحق –ط1 –1414هـ –دار الشروق.
6- التدين المنقوص.
7- المفترون –ط1 –1416هـ –دار الشروق.
8- مصر تريد حلاً –ط1- 1418هـ –دار الشروق.
9- إيران من الداخل –ط3 – 1408هـ –مركز الأهرام للترجمة والنشر.
10- الفتنة الكبرى –ط1991م –الفائز بجائزة علي وعثمان حافظ!
11- حدث في أفغانستان .
12- المسلمون في الصين.
13- أزمة الفكر الديني.
14- العرب وإيران .
15- أزمة الوعي الديني .
وهويدي –كما سبق- يكتب في عدة صحف ومجلات في آنٍ واحد؛ وهي على سبيل المثال:
1- جريدة الوطن الكويتية .
2- جريدة الشرق الأوسط .
3- جريدة الأهرام.
4- مجلة العربي الكويتية .
5- مجلة المجلة .
6- مجلة الحرس الوطني السعودية .
7- مجلة النور الكويتية .
8- مجلة المسلم المعاصر.
9- مجلة البنوك الإسلامية.
10- مجلة الموقف اللبنانية .
11- مجلة المختار الإسلامي.
(36/1)
تصريحه بانتمائه إلى المدرسة العصرانية:
يقول هويدي: "قد أزعم أنني أنتمي إلى مدرسة في الفكر الإسلامي تدين هذا الموقف وتخاصمه، وتعتبر أن الحرية هي أثمن ما جاء به الإسلام، وأن التوحيد قرين التحرير"(3).
ويقول: "إن أحد الأوجه المضيئة للظاهرة الإسلامية ظل غائباً أو مغيباً عن الخرائط السياسية المعتمدة، ومن ثَمَّ عن الوعي العام في جملته، وغاية ما ظهر معتبرًا عن ذلك الوجه هو عطاء نفر من الناس الذين قدموا كتابات وأبحاثاً جليلة في إثراء المشروع الحضاري الإسلامي بمختلف مجالاته"(4).
ويصرح هويدي بانتمائه إلى مذهب أفراد المدرسة العقلانية –ومن ضمنهم الكواكبي(5)- فيقول: "نحن –بالمناسبة- على مذهب شيخنا عبد الرحمن الكواكبي في قوله: إن أصل الداء، وأُس كل بلاء في الشرق هو الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية"(6).
وعلى صفحات جريدة "الأهرام" المصرية(7) يمدح هويدي وثيقة إسلامية طبعها د. أحمد كمال أبو المجد أحد رموز العصرانية بعنوان "رؤية إسلامية معاصرة"(8)، وهي –كما سيأتي إن شاء الله- ملخص للأفكار الرئيسة التي يلتقي عليها العصرانيون تكفل بصياغتها لهم أبو المجد، وأثنى عليها هويدي، وشيخهم القرضاوي(9)!
ويتأسف هويدي على كون أفراد هذا التيار ما زالوا مشتتين. يقول هويدي: "أما الذين حاولوا التجديد عن طريق تثبيت الدين واستهدفوا إعلاء كلمته، ورفع الحرج عن المسلمين، هؤلاء لا يزالون أفرادًا مشتتين، ترتفع أصواتهم هنا وهناك، وكثيرًا ما تضيع صيحاتهم وسط ضجيج العصر وهدير الأمة"(10).
ويقول مؤكدًا أهمية هذا التيار: "إن ساحة العمل الإسلامي ظلت تفتقر إلى التيار الناضج الذي يقود الجماهير المؤمنة"(11).
(36/2)
ويقول عن ارتباط هذا التيار بمدرسة محمد عبده: "لكن ما ينبغي أن يلفت انتباهنا حقاً هو أن هذا النهج في تناول الموضوع ليس الوحيد المطروح في الساحة، وإنما هناك آخرون كتبوا في الموضوع ذاته، وكانوا أفضل تعبيرًا عن تعاليم الإسلام الداعية إلى البر والتآلف، من الإمام محمد عبده في بداية القرن، إلى الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي"(12).
ويقول عن الغزالي والقرضاوي: "اثنين من أبرز فقهائنا وعلمائنا المعاصرين"(13).
ويسمي القرضاوي: "أحد أعلام الاجتهاد في زماننا"(14).
ويقول عنه: "لقد سمعت من الدكتور يوسف القرضاوي، وهو بالمناسبة من الأصوليين المنحازين إلى الديمقراطية والتعددية.." (15).
ويقول عنه: "الدكتور يوسف القرضاوي الفقيه الكبير"(16).
ويعرض في مقالاته كتابيه: "كيف نتعامل مع السنة النبوية" و"أولويات الحركة الإسلامية"(17).
وينقل عنه في نقد الدولة الدينية(18)، وفي مقال له بمجلة العربي الكويتية عرض هويدي كتاب القرضاوي "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" مثنيًا عليه، ومروجًا له(19).
ويقول عن كتاب الغزالي "السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث": "إن الكتاب صدرت منه 8 طبعات في مصر، كما صدر في طبعات خاصة ظهرت في الأردن والجزائر، وتُرجم إلى الإنجليزية، وطُبع ثلاث مرات في إنجلترا، وفي الوقت ذاته فقد صدرت له ترجمات بالإنجليزية في الهند وباكستان، وفي زيارتي الأخيرة لماليزيا وجدته مترجماً إلى اللغة الملاوية!
هذا الرواج يعني مباشرة أن هناك حالة من التعطش الشديد لاستجلاء الوجه الحقيقي للإسلام، الذي حاول الكتاب أن يقوم به"(20).
هذه بعض أقوال هويدي التي تبين للقارئ أنه مجرد (صحفي) (عصراني) يؤيد هذا التيار بما آتاه الله من حُسن بيان، ولكن عمدته ومرجعه في الأمور العلمية والفقهية هما الغزالي القرضاوي، فهو مجرد ناقل لأقوالهما واختياراتهما، وناشر لها على نطاق واسع، بسبب خبرته الصحفية، وكثرة مقالاته!
(36/3)
فهمي هويدي والكفار:
يقول هويدي: "وحدة الأصل الإنساني ثابتة في نصوص القرآن الكريم، والمساواة والأخوة بين بني البشر، والقداسة التي أحيطت بها كرامة الإنسان بصرف النظر عن دينه أو جنسه من الأمور الثابتة في نصوص القرآن والسنة، أما التفاضل بين الناس في الآخرة فله معايير أخرى"(21).
ويقول: "إن الأمر الهام هو أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والمساواة بين البشر جميعاً، هذا كله مقرر في الإسلام على أساس العقيدة، وليس من مسائل الاجتهاد والنظر"(22).
ويقول: "إن التفرقة بين البشر فيما هو دنيوي حسب اعتقادهم أو جنسهم أو لونهم ليس من منهج القرآن في شيء، إذ القاعدة هي المساواة، والجميع في ديار الإسلام أمة واحدة، والخلق كلهم (عيال الله) بالتعبير النبوي، فضلاً عن أن الناس خلقوا (من نفسٍ واحدةٍ) بالتعبير القرآني(23).
ويقول: "لابد من الاعتراف بأن هناك إحياءً دينيًا على الجانبين –الإسلامي والمسيحي- في مصر، الأمر الذي كان ينبغي أن يُقابل بما يستحقه من حفاوة مصحوبة بجهود جادة وحثيثة لاستثمار ذلك الإحياء، لكي يُصبح قاعدة لنهضة إيمانية تستهدف إشاعة المودة والتراحم بين الناس، وعمارة الدنيا مع عمارة الآخرة"(24).
ويقول أيضاً: "إن الذين قالوا بأن غير المسلم يعتبر مواطناً من الدرجة الثانية في المجتمع الإسلامي، لم يورد أحدهم نصًا شرعيًا يستند إليه في دعواه"(25)!
ويرى هويدي: "إن ديار المسلمين ينبغي أن تظل ملكًا للمسلمين وغير المسلمين، بغير تسلط ولا أفضلية من أحد على أحد، لأنه لا فضل لإنسان على إنسان إلا بتقواه وعمله الصالح"(26).
ويرى هويدي أن آية (أفنجعل المسلمين كالمجرمين)، "تتحدث عن الآخرة وليس الدنيا"(27).
فليس فيها دليل على عدم المساواة مع الكفار!
هويدي لا يرى كفر اليهود والنصارى!!
(36/4)
يقول هويدي: "إن المسلمين في لغة القرآن الكريم هم المؤمنون بالله الواحد، وليسوا أتباع دين خاص، كما يقرر الشيخ محمد دراز في كتابه الهام حول (الدين)" (28).
هويدي يرى أن للكفار الطعن في الإسلام!!
يقول هويدي عن أهل الذمة الذين يعيشون في ديار المسلمين: "سيكون لهم الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين لنقد مذاهبهم ونِحَلهم"(29).
هويدي يرى أن الجزية بدلٌ عن حماية الدولة الإسلامية للذمي، فإذا شارك معهم في الجهاد سقطت عنه !
يقول هويدي: "حقيقة الأمر هي أن الجزية بدل عن حماية الدولة الإسلامية للذميين لإعفائهم من واجب الدفاع عن دار الإسلام"(30).
هويدي يرى أن الحرب في الإسلام هي للدفاع فقط:
يقول هويدي: "إن طريق الدعوة لا يمر بساحة الحرب في أي موضع وتحت أي اعتبار، وينبغي أن لا يمر"(31).
ويقول: "قد خلق الله الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا –بنص القرآن- لا ليتعاركوا ويتنابذوا، كما يتوهم البعض. والاستثناء الوحيد الذي يرد على هذه القاعدة هو أن يقع على المسلمين ظلم أو عدوان من جانب الآخرين"(32).
هويدي ينكر وجود (دار الحرب):
يقول هويدي: "قد نشأ تعبير دار الإسلام منذ اعتبرت دار الهجرة –المدينة- في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هي دار الإسلام. (فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها هي بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها). وبالمقابل، ظهرت دار الحرب، وهو ما عبر عنه ابن حزم بقوله: (وكل موضع سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان ثغرًا، ودار حرب ومغزى جهاد).
وقد أدى شيوع هذا التعبير في كتب الفقه والسير والتاريخ، إلى تبني بعض الفقهاء والباحثين المعاصرين لفكرة أن معيار تحديد الآخرين ينبني على اعتقادهم، وكونهم مسلمين أم غير مسلمين.
(36/5)
وفي هذا الصدد كتب الأستاذ أبو الأعلى المودودي "أن الدولة الإسلامية تقسم القاطنين بين حدودها إلى قسمين: قسم يؤمن بالمبادئ التي قامت عليها الدولة، وهم المسلمون. وقسم لا يؤمن بتلك المبادئ، وهم غير المسلمين".
وفي الاتجاه ذاته كتب الدكتور عبد الكريم زيدان أن "الشريعة تقسم البشر على أساس قبولهم للإسلام أو رفضهم له، بغض النظر عن أي اختلاف بينهم".. ويستخرج من بعض آيات القرآن الكريم "أن الناس أحد اثنين: إما مؤمن برسالة الإسلام، وهو المسلم، وإما كافر بها، وهو غير المسلم".
غير أن هذا المعيار العقيدي لقسمة الناس ليس الأوحد المأخوذ به. فالأحناف والزيدية يرون أن القضية الفاصلة توفر عنصر "الأمان" بالنسبة للمقيمين فيها. فإذا كان الأمن فيها للمسلم على الإطلاق، فهي دار إسلام، وإن لم يأمنوا فيها فهي دار حرب. ومن الباحثين من يذهب إلى القول بأنه إذا تحقق الأمان للمسلمين، وإذا أقيمت الشعائر الإسلامية أو غالبها كانت البلاد دار إسلام، حتى ولو تغلب عليها حاكم كافر.
وأستاذنا الدكتور عبد الوهاب خلاف يؤيد الرأي القائل بأنه "ليس مناط الاختلاف الإسلام وعدمه، وإنما مناطه الأمن والفزع"، وهو ما يصفه "بانقطاع العصمة". وهو ما يؤيده أيضاً الدكتور صبحي محمصاني، في قوله: إن الإسلام "لم يميز بين المسلمين وغير المسلمين على اعتبار اختلاف الدين، كما لم يميز بين المواطنين والأجانب على أساس جنسيتهم أو تابعيتهم. فلذا، من الخطأ الناتج عن الجهل والتضليل، زعم بعض الكتاب أن صفة المواطن كانت للمسلمين وحدهم، وأن غير المسلمين كانوا جميعاً من الأجانب".
ويقول في موضع آخر، إن الإسلام "لم يتعرف إلى فكرة الجنسيات، بل صنف الناس على أساس صفة المسالمة والمحاربة، ووزعهم من ثم بين مسالمين وهم الأصل، وحربيين وهم المستثنى، ثم اعتبر الحربيين وحدهم أجانب بطبعهم، واعتبر بلادهم بلاد العدو أو دار الحرب".
(36/6)
وهذا المعيار الثاني هو الأقرب إلى المنطق الذي عالج به الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة الآخرين، فضلاً عن أنه المنطق الأكثر قبولاً حتى في لغة الواقع المعاصر.
ودليلنا الأول على ذلك من السيرة النبوية ذاتها. فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقع أول معاهدة مع "الآخرين"، من قبائل العرب الأخرى واليهود، نصت المعاهدة التي تعد أول دستور للدولة في الإسلام، على "أن يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".
هنا لم يوضع غير المسلمين في مربع دار الحرب، ولكنهم كانوا مع المسلمين "أمة واحدة"، ما داموا مسالمين.
وهنا لم يكن الدين هو الحد الفاصل بين دار الإسلام ودار الحرب، إنما كانت المسألة هي المعيار الذي أخذ به.." (33)
هويدي يرى جواز موالاة اليهود والنصارى:
يقول هويدي: "المستقر بين أهل الفقه أن النهي عن (الموالاة) مقصود به أعداء الإسلام الذين يكيدون له، وليس من أهل الكتاب"(34).
ويقول: "إن الموالاة المنهي عنها شرعًا –كما أفهمها- هي تلك التي تتم على حساب مصالح المسلمين أو عقيدتهم، وإن المسلم مدعو لأن يكون عونًا لكل جهد يستهدف الخير والبر والإصلاح، وقد أيد الرسول عليه الصلاة والسلام حلف الفضول الذي أقامه بعض مشركي قريش لنصرة أحد المظلومين، بينما كان النبي يوسف عليه السلام وزيرًا في حكومة فرعون مصر"(35).
هويدي يدعو إلى إقامة معابد الكفار في (جميع) بلاد المسلمين:
يقول هويدي: "إننا نستطيع القول في ثقة تامة بأنه لن ينتقص شيء من أعلام الإسلام، إذا ما أقيمت على أرض الإسلام معابد لغير المسلمين، تماماً كما لم ينتقص شيء من مسجد رسول الله حينما استضاف فيه وفد نصارى نجران وحاورهم في رحاب المسجد، وأذن لهم بالصلاة فيه جنبًا إلى جنب مع المسلمين"(36).
تعليق:
(36/7)
هذه –أخي المسلم- أبرز المسائل التي خالف هويدي فيها الصواب في قضية (أهل الذمة وحقوقهم) واختار جانب تقديم التنازلات الكثيرة على حساب النصوص الشرعية وإجماع الأمة بغية الظهور بمظهر المفكر (العقلاني) (الوسطي) (الحضاري) ... إلخ.
وليته –هداه الله- اكتفى بالجنوح لتبني هذه الآراء الشاذة دون أن يُعَرض لقرائه بأن قوله هو القول الذي يُمثل قول جمهور علماء الأمة قديمًا وحديثًا! إذاً لهان الخطب، لأننا لا نملك أن نردّ كل ضال عن أن يصرِّح بقناعاته التي تعلق بها.
فهويدي قد جمع بين اختيار القول الشاذ أو الباطل المخترع، وبين نسبة ذلك زورًا إلى الفئة العظمى من علماء الأمة.
فما الذي دعاه لذلك؟ وما هي شبهاته التي ساقته إلى المجاهرة بتلكم الآراء الغربية؟ هذا ما سنعرفه الآن من خلال تتبع كتاباته.
الشبهة الأولى:
احتجاجه بآيات تكريم الإنسان في القرآن.
تعقيب :
يخلط هويدي هنا خلطًا عجيباً، حيث يزعم أن آية تكريم الإنسان (ولقد كرّمنا بني آدم) (37) فيها دليل على مساواة المسلم بالكافر!!
ولا يعلم بأن هذه الآية واردة في الإنسان من حيث هو إنسان، حيث كرمه وفضله على غيره من المخلوقات، ويسرَّ له أسباب السير في البر والبحر، ورزقه من الطيبات.
فكان الواجب على هذا الإنسان أن يشكر ربه على هذا التكريم وهذه النعم الكثيرة، فيتبع رسله، ويطيع أوامره، ويجتنب نواهيه، ويوحده حق توحيده، ويقوم بعبادته –سبحانه وتعالى-.
فأما إذا لم يفعل هذا واختار الكفر على الإيمان والمعصية على الطاعة، فإن هذا التكريم للنوع الإنساني ليس بنافعه، لأنه سيكون من المهانين عند الله تعالى عندما بدل نعمته كفرًا.
(36/8)
ومثال هذا –ولله المثل الأعلى-: أن يقوم ملك من الملوك بتكريم بعض عبيدة وإعطائهم ما يحتاجونه في معيشتهم ويميزهم على غيرهم من عبيدة الآخرين ثم يطلب منهم أن يعملوا له عملاً من الأعمال جزاء هذا التكريم، فبعضهم لم يقم بهذا العمل بل عصى الملك وخالف أمره، فما ظنكم؟ هل يساوي الملك بين الطائفتين: العاملة والمقصرة!؟ أم يقول لمن عصاه بأنني نعم قد كرمتكم وفضلتكم على غيركم ولكنكم لم تراعوا هذه النعمة، بل استخدمتموها في معصيتي ومخالفة أمري، فلهذا ليس لكم عندي إلا الإهانة وعدم مساواتكم بالطائعين!؟
فهكذا الإنسان كرَّمه الله وفضله على كثير من خلقه، ثم طلب منه اتباع أمره واجتناب نهيه، فإن أجاب بقي على تكريمه السابق، وإن لم يجب انقلب ذاك التكريم إلى مهانة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في هذا (التكريم) ما هو؟ فقال ابن جرير الطبري: "(ولقد كرَّمنا بني آدم) بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم"(38)، "(وفضّلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً) ذُكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها، ورفعها بها إلى أقواهم، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق(39).
وقال ابن كثير في تفسير الآية: "يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها. كقوله (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) أن يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وجعل له سمعًا وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية"(40).
وقال الشوكاني: "هذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة، وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوانات مثله"(41).
(36/9)
وقال القرطبي: "الصحيح الذي يعوَّل عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف"(42).
وقال سيد قطب: "ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته؛ التي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان!" (43).
وقال ابن الجوزي: "فإن قيل: كيف أطلق ذكر الكرامة على الكل، وفيهم الكافر والمهان؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه عامل الكل معاملة المكرَم بالنعم الوافرة.
والثاني: أنه لما كان فيهم من هو بهذه الصفة، أجرى الصفة على جماعتهم، كقوله (كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس) (44)"(45).
قلت: والأولى أن يقال ما سبق أن ذكرته، وهو أن الإنسان مكرَّمٌ من حيث هو إنسان، ومفضل على غيره من المخلوقات، أما إذا كفر وأعرض فإنه يكون مهاناً عند الله، ولا ينفعه تكريمه السابق، فهذا التكريم كالولد والمال فإنها من نعم الله على الإنسان، ولكنها لا تقرِّب الإنسان زلفى عند الله، إلا من آمن واستغل ذلك كله في طاعة الله، كما قال سبحانه: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن) (46).
أقول هذا ليكون هناك عدم تعارض بين هذه الآية وآيات (إهانة) الكفار –كما سيأتي0.
(36/10)
أما هويدي فإنه عندما أحس بهذا التعارض الذي سيُبطل قوله أخفى آيات (الإهانة) ولم يتعرض لها! وهذا دأب أهل البدع يذكرون الذي يظنونه مؤيداً لبدعتهم، ويخفون ما ينقضها ولا يذكرونه، بخلاف أهل السنة الذين وفقهم الله –تعالى- للعمل بآياته كلها موفقين بينها.
أما الآية الثانية التي ظن هويدي أنها تشهد لبدعته فهي قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (47) فهي كالآية السابقة، يخبر فيها الله –عز وجل- بأنه قد خلق الإنسان في صورة حسنة، وهيئة كاملة.
قال ابن كثير: "في أحسن صورة، وشكل منتصب القامة، سوي الأعضاء، حسنها"(48).
وفي هذه الآية ردٌ بليغ على هويدي ولكنه لم ينتبه له، أو تعمد إغفاله! ولهذا حجب ما بعد هذه الآية ولم يذكره، لأنه يعود على قوله بالنقض، حيث قال الله بعد هذا الخلق الحسن (ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (49).
قال ابن كثير –رحمه الله-: "(ثم رددناه أسفل سافلين) أي إلى النار، قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد وغيرهم: ثم بعد هذا الحُسْن والنضارة مصيرهم إلى النار إن لم يطع الله ويَتَّبع الرسل، ولهذا قال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)" (50) .
أما من قال بأن قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) (51) أي إلى أرذل العمر فقد رده ابن كثير بقوله: "لو كان هذا المراد لما حَسُن استثناء المؤمنين من ذلك، لأن الهَرَم قد يصيب بعضهم، وإنما المراد ما ذكره، كقوله: (والعصر، إن الإنسان لفي خُسرٍ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (52)"(53).
قلت: فتأمل قوله ما أحسنه، وهو رد مفحم على هويدي بنفس الآية التي احتج بها على بدعته! ولكنه شابه اليهود بإخفاء آخرها.
(36/11)
أما احتجاج هويدي بقوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) (54)، وقوله (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (55)، وقوله (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)(56) فهو من أعجب العجب، لأن هذه الآيات واردة في آدم –عليه السلام- وأن الله قد كرمه باسجاد الملائكة له، فما دخل (تكريم) الكفار بهذا!؟ وهل يلزم من تكريم أبينا آدم –عليه السلام- أن يكون جميع أبنائه –مسلمهم وكافرهم- مكرَّمين!؟ لا يقول هذا عاقل، لأن ابن آدم لصلبه عندما قتل أخاه لحقه من الذم ما لحقه، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: "لا تُقْتل نفس ظُلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل"(57).
فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد قال هذا عن ابن آدم لصلبه، فما حال أبنائه الآخرين ممن بدَّل وأعرض عن الهدى؟
قلت: ما سبق كان ردًا على الشبهة الأولى التي احتج بها هويدي، وبقي في نقضها أن يقال:
1-ما قول هويدي في آيات (الإهانة) للكافرين والمعرضين، وكيف يوفق بينها وبين هذا (التكريم) المزعوم للجميع الذي يراه هويدي؟
فقد وردت عدة آيات تدل على أن الله قد أهان الكفار وأذلهم ولم يكرمهم سواء في الدنيا أم في الآخرة، فمن ذلك قوله تعالى: (ومن يُهن الله فما له من مُكرمٍ) (58)، فدل على أن هناك من يهينه الله، فإذا أهانه لم يكن من (المكرمين).
وقال تعالى عن بعض الكفار في الدنيا (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) (59).
(36/12)
وقال عنهم في الآخرة (اليوم تُجزن عذاب الهُون) (60)،(فاليوم تُجزون عذاب الهُون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون)(61)، (وللكافرين عذابٌ مُهين)(62)،(ولهم عذابٌ مُهين)(63)،(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مُهين)(64)،(والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا فأولئك لهم عذابٌ مهين)(65)،(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علمٍ ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مُهين)(66)،(وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين)(67)، (وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً)(68)،(إن الله أعدّ للكافرين عذاباً مهيناً)(69)، (وأعدّ لهم عذاباً مُهيناً)(70)،(يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً)(71)، وقال عن المنافقين (اتخذوا أيمانهم جُنَّة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذابٌ مُهين) (72)، فما قول هويدي في هذه الآيات!؟
2-وردت عدة آيات في التفريق بين المسلمين والكافرين، أو بين المؤمنين ومن يعمل السيئات، وذم من يسوِّي بينهم، وهذه الآيات لم يتعرض لها هويدي لأنها تهدم قوله بالمساواة بين المسلمين والكافرين، فلهذا اختار أن لا يقربها!
فمن ذلك قوله تعالى: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور) (73) أي المؤمن والكافر، وقال (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) (74)، وقال (قل لا يستوي الخبيث والطيب) (75)، وقال (وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور) (76)، وقال (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) (77)، وقال (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء) (78)، وقال (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) (79)، وقال (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً) (80).
(36/13)
وقال سبحانه (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) (81)، وقال (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) (82).
فإن تعنت هويدي وقال بأن هذه الآيات واقعة في الآخرة وليس في الدنيا!
قلنا له:
أولاً: لم يقل أحد من المسلمين بقولك هذا، وإنما فهموا من هذه الآيات أنها عامة في الدنيا والآخرة حيث لا يتساوى المسلم والكافر عند الله، كما لا يتساوى المؤمن ومن يعمل السيئات.
ثانياً: ورد من آيات الإهانة للكفار في الدنيا ما ينقض قولك هذا.
ثالثاً: قد وردت آية في كتاب الله تُلقمك الحجر، حيث بينت خطأ من ساوى بين الفريقين في الدنيا والآخرة.
قال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) (83).
قال ابن كثير –رحمه الله-: "يقول تعالى لا يستوي المؤمنون والكافرون كما قال عز وجل (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون)، وقال تبارك وتعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) أي عملوها، (أن نجعلهم كالذين أمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم) أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة (ساء ما يحكمون) أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار"(84).
فلهويدي نصيب من هذا الظن السيء بربه حيث ظن أن الله مساوٍ بين المسلمين والكافرين في هذه الدنيا، وفي الآخرة(85).
الشبهة الثانية :
احتجاجه بأن نفوس الكافرين كغيرها من النفوس، فلماذا التفرقة!؟
تعقيب:
أما قتل النفس الإنسانية (بغير حق) فهو من الظلم البيِّن الذي لا يجوز، ولكن ما دخل هذا بمساواة المسلمين بالكافرين!؟ إن قال هويدي بأنه لا يجوز قتلهم كما لا يجوز قتل المسلمين، وهذا دليل تساويهم.
(36/14)
نقول له: عدم قتلهم ليس لأجل كفرهم! بل إن كفرهم هو سبب قتلهم! وأنت عكست القضية. لأن المسلمين مطالبون بنشر الدعوة وقتال الكافرين وقتلهم –كما سيأتي- حتى يدينوا بالإسلام أو يرضوا بإعطاء الجزية والدخول تحت ذمة المسلمين فعندها يُكفُّ عنهم وتُصان أرواحهم وعندها يكون لهم نصيب من هذه الآية التي استشهد بها هويدي (من قتل نفسا ... )(86)، لأن من قتلهم بعد ذلك فقد اعتدى عليهم وظلمهم، لأنهم قد دخلوا في ذمة المسلمين، فكانت أرواحهم مصانةً لا يجوز التعدي عليها، وهذا من كمال عدل الإسلام.
فليس عدم قتلهم، أو تعظيم قتلهم، هو بسبب (كفرهم) كما يظنه هويدي، وإنما سبب ذلك أنهم بذلوا الجزية وخضعوا لسلطان الإسلام، فلم يعد لنا سبيل عليهم إلا بأن ينقضوا عهد الذمة –كما سيأتي-.
أما احتجاج هويدي بأنه صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودي وقال: "أليست نفسًا" فهذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: "أليست نفسًا"(87).
وليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم قام لها "تحيةً واحترامًا" كما يزعم هويدي!! بل هذا من تلبيسه على القراء.
وهذا الحديث الذي احتج به هويدي قد روي بعدة روايات تبين علة قيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأطال العلماء في شرحه توضيحًا لمعناه لكي لا يتأوله متأول على غير مراد النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل هويدي!
فقد رواه مسلم من طريق آخر أنه قيل له صلى الله عليه وسلم: إنها يهودية، فقال: "إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا"(88).
قال الحافظ ابن حجر: "قال القرطبي: معناه أن الموت يُفزع منه، إشارة إلى استعظامه. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، لما يُشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثَمَّ استوى فيه كون الميت مسلماً أو غير مسلم"(89).
(36/15)
قال الحافظ: "وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة"(90).
قال: "قوله "أليست نفسًا" هذا لا يعارض التعليل المتقدم حيث قال: "إن للموت فزعًا" على ما تقدم، وكذا ما أخرجه الحاكم من طريق قتادة عن أنس مرفوعاً فقال: "إنما قمنا للملائكة"، ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى، ولأحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا "إنما تقومون إعظاماً
للذي يقبض النفوس" ولفظ ابن حبان "إعظامًا لله الذي يقبض الأرواح" فإن ذلك أيضاً لا ينافي التعليل السابق، لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة.
وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي قال: "إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذيًا بريح اليهودي" زاد الطبراني من حديث عبد الله بن عياش بالتحتانية والمعجمة "فآذاه ريح بخورها" وللطبراني والبيهقي من وجه آخر عن الحسن "كراهية أن تعلو رأسه" فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة.
أما أولاً: فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانياً: فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه فعلل باجتهاده.
وقد روى ابن أبي شيبة من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلعت جنازة، فلما رآها قام وقام أصحابه حتى بعدت، والله ما أدري من شأنها أو من تضايق المكان، وما سألناه عن قيامه"(91).
قلت: فقيامه صلى الله عليه وسلم ليس "تحية واحترامًا" لجنازة اليهودي كما يدعي هويدي!! وإنما هو قيام لأجل الفزع من أمر الموت الذي لا ينبغي للمرء أن يتلهى عنه، وأن يعتبر به، ولو كان في جنازة يهودي، لأن عدم القيام يدل على عدم المبالاة بأمر الموت.
الشبهة الثالثة :
(36/16)
قوله: "وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام في صلاة آخر الليل: "اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن العباد كلهم إخوة" (أبو داود)".
والجواب: أن هذا الحديث الذي احتج به هويدي على أخوة الكفار للمسلمين! حديث ضعيف(92)، استفاده هويدي من شيخه القرضاوي الذي احتج به في هذا الموضوع في عدة كتب له(93)، ولو صح فإنه يحمل على أن "العباد" هم المسلمون المؤمنون؛ لكي لا يعارض النصوص الشرعية الصريحة في إبطال الأخوة بين المسلمين والكفار.
الشبهة الرابعة :
احتجاجه(94) بقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم) (95)، وقوله تعالى: (وإذا حُيّيتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها) (96)، وقوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام)(97)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام" رواه أبو داود، وحديث عبد الله بن عمر: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" متفق عليه.
تعقيب:
أما قوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم) (98)، فهي واردة في البر والقسط مع الكفار الذين لم يقاتلونا، وليست واردة في موالاتهم ومودتهم كما يدعي هويدي ومن شاكله.
قال ابن كثير في تفسيرها: "أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم (أن تبروهم) أي تحسنوا إليهم (وتقسطوا إليهم) أي تعدلوا (إن الله يحب المقسطين)" (99).
وقال الحافظ ابن حجر: "البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتودد المنهي عنه في قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) (100)، فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يُقاتل"(101).
(36/17)
وقال الشيخ ابن باز –رحمه الله- تعليقًا على الآية التي احتج بها هويدي: "إنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم الرخصة في الإحسان إلى الكفار والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي مشركة تريد الدنيا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تصل أمها وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عمر جبة من حرير فأهداها إلى أخ له بمكة مشرك. فهذا وأشباهه من الإحسان الذي قد يكون سببًا في الدخول إلى الإسلام والرغبة فيه وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجُوْد على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والبصيرة"(102).
أما احتجاج هويدي بقوله تعالى:(وإذا حُييّتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها)(103)، فهو من أعجب الاحتجاج، إذ معنى الآية كما قال ابن كثير –رحمه الله-: "أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة"(104)، أي إذا قال: السلام عليكم فيستحب أن تقول ردًا عليه: وعليكم السلام ورحمة الله، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله، فيُستحب أن تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فالزيادة مندوبة، والرد كما قال ابن كثير فرض.
أما من قال بأنها تدل على جواز رد السلام على الكفار فقد أخطأ في الاستدلال.
(36/18)
قال ابن كثير: "وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به فإن بلغ المسلم غاية ما شُرع في السلام رد عليه مثل ما قال، فأما أهل الذمة فلا يُبدؤن بالسلام، ولا يزادون، بل يرد عليهم ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: وعليك" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام.." (105).
أما احتجاج هويدي بقوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام) (106)، فهي أعجب من سابقتها! إذ هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُشرع الجهاد بأن لا يرد على الكافرين مثل قولهم السيئ بل يعفو ويصفح إلى أن يأتي أمر الله، ولهذا قال بعده (فسوف يعلمون) (107).
قال ابن كثير: "هذا تهديد من الله لهم، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يُرد، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب"(108).
أما احتجاج هويدي بحديث "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام"، وحديث: ".. تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" فهي أحاديث خاصة بالمسلمين، ولكنَّ هويدي يتغافل عن هذا ويضعها في غير موضعها لتدل –بزعمه- على السلام على الكفار! ناسيًا قوله صلى الله عليه وسلم السابق: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام".
الشبهة الخامسة:
احتجاجه بالصحيفة التي كتبها صلى الله عليه وسلم مع اليهود عندما قدم المدينة.
تعقيب:
هذه الصحيفة مما افتتن بها المعاصرون ترديدًا لها في كتبهم، متوهمين (صحتها) وأنها تشهد لما حَمَّلوها من جواز موالاة الكفار أو مساواتهم بالمسلمين –زعموا-!
وقد ذكر مجموعة ممن احتج بها الأستاذ محمد حميد الله في كتابه (مجموعة الوثائق السياسية) (109).
(36/19)
قال الأستاذ مشهور سلمان –حفظه الله-: "وهي متداولة في كتب السيرة وفي كتب النظم الإسلامية. وقد حكم عليها الأستاذ يوسف العش(110) بالوضع، والصحيح أنها ضعيفة فحسب، ولا مجال لسرد طرقها والكلام على أسانيدها، ومن أراد الاستزادة، فلينظر كتاب الأخ ضيدان بن عبد الرحمن اليامي (بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة)" (111).
حيث قال بعد أن ذكر أسانيد (الصحيفة) وضعفها جميعًا: "فعلى هذا يتضح لك ضعف هذه الصحيفة وما ورد فيها"(112).
قال: "ومن ثمَّ لا ينبغي الاحتجاج بها"(113).
وقال الشيخ ربيع المدخلي في كتابه "صد عدوان الملحدين" (ص 34) عن هذه الصحيفة –على فرض ثبوتها-: "معاذ الله أن تكون المعاهدة قامت على هذا الأساس الوطني، ولا ينبغي أن تحمل هذه المعاهدة ولا غيرها من النصوص الشرعية على المصطلحات السياسية المعاصرة".
قلت: وقد بينت في كتاب "محمد عمارة في ميزان أهل السنة" أن كثيراً من محتويات هذه الصحيفة تنقض دعاوى العصرانيين وتمايز بين المسلمين والكفار. (انظر: ص 431-432 من الكتاب السابق).
الشبهة السابعة:
احتجاجه بقول علي –رضي الله عنه- عن أهل الذمة: "أن دماءهم كدمائنا، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وزعمه أن هذا قول "كل فقهاء المسلمين من أولهم إلى آخرهم"(114) !!
تعقيب:
هذا الأثر عن علي –رضي الله عنه- ذكره الكاساني الحنفي في كتابه (بدائع الصنائع) (115) عند حديثه عن أهل الذمة دون إسناد، انتصارًا لقول الأحناف بأن دية الذمي كدية المسلم! وهي من مسائلهم المستشنعة التي تخالف الأحاديث الصحيحة.
(36/20)
ثم وجدت محمد بن الحسن الشيباني قد ذكر أثرًا مشابهاً له في (كتاب الحجة على أهل المدينة) (116) قال: "أخبرنا قيس بن الربيع عن أبان بن تغلب عن الحسن بن ميمون عن عبد الله بن عبد الله مولى بني هاشم عن أبي الجنوب الأسدي قال: أُتي علي ابن أبي طالب –رضي الله عنه- برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، قال: فقامت عليه البينة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: قد عفوت عنه. قال: فلعلهم هددوك أو فَرَقوك؟ قال: لا، ولكن قتله لا يرد عليَّ أخي وعوضوني فرضيتُ، قال: أنت أعلم، من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا".
قلت: وهذا الأثر –فضلاً عن مخالفته للأحاديث الصحيحة- فهو ضعيف، قال الألباني: "أخرجه الشافعي (1429) والدارقطني (350) وقال: وأبو الجنوب ضعيف. وأورده صاحب الهداية بلفظ: "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا" وهو مما لا أصل له كما ذكرته في "إرواء الغليل" (1251)"(117).
وقال الأستاذ علي رضا بن عبد الله(118) في رسالة بعثها إليَّ: "أثر علي رضي الله عنه: فيه الحسن بن ميمون مجهول كما قال الحسيني ووافقه الحافظ في "تعجيل المنفعة" (ج1/ص448) رقم (208)- ووهم المحقق فخلطه بالحسين بن ميمون وليس به على الراجح وإن اتفقا في الرواية عن أبي الجنوب الأسدي لكن الأول هو الذي يروي عنه أبان بن تغلب ويروي عن أبي الجنوب كما في "التعجيل" فالظاهر أنهما رجلان، وهذا مقتضى صنيع الحافظ ابن حجر في إقراره كلام الحسيني. وقد يكونان رجلاً واحداً كما يتضح من رواية الدارقطني الآتية.
وقيس بن الربيع: سيئ الحفظ كما في "الميزان" (3/393)، بل قال النسائي: متروك. وقال أحمد: يتشيع وكان كثير الخطأ، وله أحاديث منكرة.
وأبو الجنوب اسم عقبة بن علقمة الكوفي: قال أبو حاتم: ضعيف بين الضعف لا يشتغل به. وكذا ضعفه الدارقطني "الميزان" (3/87).
فالإسناد ظلمات بعضها فوق بعض !!!
(36/21)
والحديث : أخرجه الدارقطني في "السنن" (3/147) رقم (200) وابن المظفر في "غرائب شعبة" –مخطوط- (ورقة 18/أ)، والبيهقي في "الكبرى" (8/34) من هذا الوجه وضعفته في تحقيقي لـ"مسند علي" (ج1/ص290-291) برقم (1690،1691،1696) وقال البيهقي- كذا قال: حسن، وقال غيره: حسين بن ميمون- وعلى تقدير أنه الحسين فهو لين الحديث كما في "التقريب" (1366)" اهـ كلام الأستاذ علي رضا بن عبد الله –حفظه الله-.
قلت: وهم –أي فقهاء الأحناف إلا من رحم الله- ليسوا حجة في معرفة الأحاديث والآثار، وإنما يذكرون في كتبهم منها ما ليس له خطام ولا زمام، أو ما كان ضعيفاً لا يصلح للاحتجاج، كما فعلوا بهذا القول الشاذ (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) حيث عزوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم!! حتى قال الزيلعي -وهو أحدهم ولكنه عالم بالحديث- عند تخريجه لهذا القول (لهم ما لنا..) الذي ذكره صاحب الهداية: "قلت: لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف"(119).
وقال الشيخ المحدث الألباني –حفظه الله- عن هذا القول: (لهم ما لنا..): "باطل لا أصل له في شيء من كتب السنة، وإنما يذكره بعض الفقهاء المتأخرين ممن لا دراية لهم في الحديث".
قال: "وقد جاء ما يشهد ببطلان الحديث، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" ليس في أهل الذمة، وإنما في الذين أسلموا من أهل الكتاب والمشركين، كما جاء في حديث سلمان وغيره، رواه مسلم وغيره. وهو مخرج في (الإرواء) (1247) وغيره .
وإن مما يؤكد بطلانه مخالفته لنصوص أخرى قطعية كقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) (120)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقتَل مسلمٌ بكافر"، وقوله: "للمسلم على المسلم خمس: إذا لقيته فسلم
عليه.." الحديث، وقوله: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام..". وكل هذه الأحاديث مما اتفق العلماء على صحتها.
(36/22)
ومن هنا يظهر جليًّا صدق عنوان كتابنا هذا في الأحاديث الضعيفة: "وأثرها السيئ في الأمة"، فطالما صرفَتْ كثيرًا منهم على مر الدهور والعصور عن دينهم، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام والأخلاق والسلوك، وليس ذاك في العامة فقط، بل وفي بعض الخاصة، وهاهو المثال بين يديك، فإن هذا الحديث الباطل قد تلقاه بالقبول بعض الدعاة والكتّاب الإسلاميين، وأشاعوه بين الشباب المسلم في كتاباتهم ومحاضراتهم، وبنوا عليه من الأحكام ما لم يقل به عالم من قبل! فهذا هو كاتبهم الكبير الشيخ محمد الغزالي يقول فيما سماه بـ"السنة النبوية.." (ص18): "وقاعدة التعامل مع مخالفينا في الدين ومشاركينا في المجتمع: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. فكيف يهدر دم قتيلهم؟!".
وهو تابع في ذلك للأستاذ حسن البنا رحمه الله، فهو الذي أذاعه بين شباب الإخوان وغيرهم، وهذا هو سيد قطب عفا الله عنه يقول مثله، ولكن بجرأة بالغة على تصحيح الباطل: "وهؤلاء لهم ما لنا وعليهم ما علينا بنص الإسلام الصحيح"!! كذا في كتابه "السلام العالمي" (ص 135-طبع مكتبة وهبة الثانية).
وقد جرى على هذه الوتيرة من المخالفة للنصوص الصحيحة، اعتماداً على الأحاديث الضعيفة غير هؤلاء كثير من الكتاب المعاصرين، لجهلهم بالسنة، وتقليدهم لبعض الآراء المذهبية، ومن هؤلاء الأستاذ المودودي رحمه الله، وقد تقدم الرد عليه في تسويته بين المسلم والذمي في الحقوق العامة تحت الحديث المتقدم رقم (460) (121).
وإن مما يحسن لفت النظر إليه أن الأحناف الذين تفردوا بهذا الحديث الباطل، لم يأخذوا به إلا في المبايعات كما تقدم ذكره عن كتابهم "الهداية"، خلافاً لهؤلاء الكتّاب الذي توسعوا في تطبيقه توسعاً خالفوا به جميع العلماء. فاعتبروا يا أولي الألباب!" (122)اهـ. كلام الشيخ الألباني –حفظه الله-
(36/23)
وقال الدكتور عبد الله الطريقي: "وأما قول بعض الفقهاء "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" فليس فيه دلالة على المساواة في الحقوق والواجبات؛ بدليل الواقع، فإن حقوق المسلم كثيرة؛ منها: السلام، والنصح، وإجابة الدعوة، والعيادة في المرض، وتشييع الجنازة، وأهم من ذلك موالاته ومؤاخاته، وإعطاؤه من الزكاة، وغير ذلك"(123).
الشبهة الثامنة:
قوله: "وقد استحضر الإمام علي بن أبي طالب تلك المعاني في كتابه إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر، عندما قال: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم.. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"(124).
تعقيب:
هذا الأثر مما التقطه هويدي من كتاب (نهج البلاغة) المكذوب على علي –رضي الله عنه-(125).
فهو مما لا يُفرح به.
قال الذهبي في ترجمة المُرتْضَى أبي علي بن حسين ابن موسى الموسوي (المتوفى سنة 436هـ): "هو جامع كتاب "نهج البلاغة" المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضُها باطلٌ وفيه حقٌ، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن؛ أين المنصف؟ وقيل: بل جَمْعُ أخيه الشريف الرّضي"(126).
وقال أيضًا: "وفي تواليفه سبُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من علمٍ لا ينفع"(127).
وقال أيضاً في ترجمته: "وهو المتهم بوضع كتاب "نهج البلاغة"، وله مشاركة قويّة في العلوم، ومن طالع كتابه "نهج البلاغة"؛ جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السّبُّ الصّراح والحطُّ على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين؛ جزم بأن الكتاب أكثره باطل"(128).
(36/24)
وقد حكم بكذب كثير مما في هذا الكتاب على عليّ رضي الله عنه العلامة المقبلي؛ فقال رحمه الله: "أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه؛ أنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. قال: وكان ابن سيرين يرى عامة ما يروون عن علي رضي الله عنه كذبًا، وصدق ابن سيرين رحمه الله؛ فإن كل قلب سليم، وعقل غير زائغ عن الطريق القويم، ولب تدرب في مقاصد سالكي الصراط المستقيم؛ يشهد بكذب كثير مما في "نهج البلاغة" الذي صار عند الشيعة عديل كتاب الله بمجرد الهوى الذي أصاب كل عرق منهم ومفصل، وليتهم سلكوا مسلك جلاميد الناس، وأوصلوا ذلك إلى علي برواية تسوغ عند الناس، وجادلوا عن رواتها، ولكن؛ لم يبلغوا بها مصنفها، حتى لقد سألت في الزيدية إمامهم الأعظم وغيره؛ فلم يبلغوا بها الرضّي الرافضي، ولو بلغوه لم ينفعهم فإن مذهب الإمامية تكفير من لم يكن على مذهبهم كفرًا صريحًا لا تأويلاً"(129).
وقد أشار إلى الكذب الذي فيه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/161).
وقد قال محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة تعليقه عليه: "إنه يعتقد أن محمد عبده(130) كان مقتنعاً بأن الكتاب كله للإمام علي رضي الله عنه وإن لم يصرح بذلك، وحتى إنه ليجعل ما فيه حجة على معاجم اللغة"!
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمة في بيان كذب كثير مما في هذا الكتاب على عليّ رضي الله عنه، وهذا نص كلامه: " ... وأيضًا؛ فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب "نهج البلاغة" كذبٌ على عليّ، وعليّ رضي الله عنه أجلّ وأعلى قدرًا من أن يتكلّم بذلك الكلام، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح؛ فلا هي صدق ولا هي مدح، ومن قال: إن كلام عليّ وغيره من البشر فوق كلام المخلوق؛ فقد أخطأ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كلامه، وكلاهما مخلوق.
(36/25)
ولكن هذا من جنس كلام ابن سبعين الذي يقول: هذا كلام بشير(131) يشبه بوجهٍ ما كلام البشر، وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر وليس هذا من كلام المسلمين.
وأيضًا؛ فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام عليّ موجودة في كلام غيره، لكن صاحب "نهج البلاغة" وأمثاله أخذوا كثيرًا من كلام الناس فجعلوه من كلام عليّ، ومنه ما يُحكى عن عليّ على أنه تكلّم به، ومنه ما هو كلام حقٌ يليق به أن يتكلم به، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره.
ولهذا؛ يوجد في كلام "البيان والتبيين" للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول من غير عليّ، وصاحب "نهج البلاغة" يجعله عن عليّ.
وهذه الخطب المنقولة في كتاب "نهج البلاغة" لو كانت كلّها عن عليّ من كلامه؛ لكانت موجودة قبل هذا المصنّف، منقولة عن عليّ بالأسانيد وغيرها، فإذا عَرَف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرًا منها بل أكثرها لا يُعرف قبل هذا؛ عُلم أن هذا كذب، وإلا؛ فليبيّن الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك، ومن الذي نقله عن عليّ، وما إسناده؟ وإلا؛ فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد.
ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد، وتبيّن صدقها من كذبها؛ عَلِم أن هؤلاء الذي ينقلون مثل هذا عن عليّ من أبعد الناس عن المنقولات، والتمييز بين صدقها وكذبها"(132).(133)
قلت: بهذه الشبهة انتهت الشبهات التي احتج بها هويدي في كتبه ومقالاته انتصارًا لرأيه الشاذ في (مساواة) المسلمين بالكافرين، وما تفرع عنها من مسائل قبيحة لا يتلفظ بها من يخاف الله –عز وجل-.
تقسيم الناس حسب موقفهم من الإسلام :
الناس إما مسلمون أو غير مسلمين، وغير المسلمين قسمان:
1- أهل حرب.
2- أهل عهد.
كما قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: "كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. كانوا: مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه"(134).
(36/26)
وأهل العهد ينقسمون ثلاثة أقسام:
1- أهل ذمة (ذميون).
2- مستأمنون.
3- معاهَدون، من الموادعين والمحايدين: وهم من كان لهم عهد مؤقت بكف القتال عنهم.
هذا هو تقسيم الناس بالنسبة لموقفهم من الإسلام. ويهمنا
الفرق بين الذمي والمعاهد والحربي
عرفنا فيما سبق أن الذمي هو: "كل كافر حر بالغ قادر يجوز إقراره على دينه بالجزية".
أما المعاهد: فيراد به من كان له عهد مؤقت بكف القتال عنه وهو "من عقد مع المسلمين أو عقد معه المسلمون، من الكفار من أهل الحرب عهدًا بالكف عن القتال مدة معينة".
وعليه فإنه يمكن أن يُطلق على الذمي "معاهَداً" لأن أهل الذمة هم أهل عهدٍ دائم مقابل أداء الجزية.
أما المعاهَد عهدًا مؤقتًا –وهم أهل الهدنة- فلا يُطلق عليه لفظ الذمي، وعليه فلفظ الذمي أخص من لفظ المعاهَد مطلقًا، فكل ذمي معاهَد وليس كل معاهَد ذميا، لجواز أن يكون عهدُه عهدًا مؤقتًا.
وعليه فأهم الفروق بين الذمي والمعاهد هي:
أولاً: أن الذمي يقيم إقامة دائمة في بلاد المسلمين أو في بلادٍ يشرفون عليها. أما المعاهَد فإنه إن أقام في بلادهم فهو لحاجة ثم يغادرها.
ثانياً: الذمي يتمتع بحماية المسلمين له بمقتضى عقد الذمة ويلزمه أداء الجزية، أما المعاهَد: فليس عليهم حمايته ولا يُلزم بدفع جزية. ( ولكن ليس معنى هذا جواز الإعتداء عليه كما قد يفهم البعض ؛ فإن هذا محرم بالنصوص الشرعية الصريحة ) .
ثالثاً: مدة عقد الذمة مطلقة مؤبدة، ولا تُحَد بوقتٍ كما نص على ذلك الفقهاء، فسموها بـ"العقد المؤبد" أما مدة عقد الهدنة فالواجب فيها التحديد.
رابعاً: الذمي يلتزم بدفع الجزية وبسريان أحكام المسلمين عليه. أما المعاهَد فليس عليه شيء من ذلك . ( وضوابط ذلك تجدها في رسالة الدكتور الطريقي كما سيأتي إن شاء الله ) .
خامساً عقد الذمة: يجب أن يكون صاحبه كتابيًا أو مجوسيًا في الراجح من أقوال العلماء. أما عقد الهدنة فيُعْقد مع كل كافر.
(36/27)
تلك هي الفوارق بين الذمي والمعاهَد.
ويتفقان فيما يأتي:
أولاً: كلٌ من الذمي والمعاهَد يجب له الوفاء بعهده إذا التزم بأحكام وشروط هذا العهد.
ثانياً: وجوب نبذ العهد إلى كلٍ من الذمي والمعاهَد في حال ظهور بوادرَ للخيانة.
أما الفروق بين الذمي والحربي فهو كما يلي:
أولاً: الذمي محقون الدم بموجب عهد الذمة. أما الحربي فدمه هَدَر، حيث لا عهد له.
ثانيًا: في الراجح من أقوال العلماء أن الذمي لا يكون إلا من أهل الكتاب أو المجوس. أما الحربي: فيُطلق على من تهيأ لمحاربة المسلمين وناصبهم العداء: كتابيًا كان أو وثنيًا.
ثالثاً: لا يتعرض المسلمون لذراري الذمي لدخولهم في عقد الذمة ضمنًا. أما ذراري الحربي إذا ظفر بهم المسلمون فهم سبي ولا يُقَاتلون قصدًا.
رابعًا: مال الذمي له حُرمته فلا يُتَعرض له، ويحافظ عليه كمال المسلم. أما مال الحربي: فلا حرمة له وهو غنيمة للمسلمين.
أحكام الجزية
أما الجزية التي حاول هويدي أن يشكك فيه ويتمحل في سبيل إسقاطها عن "إخوانه اليهود والنصارى!" بشتى التمحلات، فهي ثابتة بالقرآن والسنة والإجماع.
أما ثبوتها في القرآن: فبالنص عليها في قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) (135).
وأما السنة: فقد ورد ذكرها في أحاديث كثيرة لا تُحصى وفي مقدمتها حديث بريدة المشهور الذي نص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الحكم وشرعه للأمة من بعده، دون تقييد بزمان أو مكان.
(36/28)
قال بريدة –رضي الله عنه-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليه حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" الحديث رواه مسلم وغيره(136) واللفظ له.
ففي هذا الحديث الصريح بيان أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه وغزواته، وفي وصاياه لقواده أن يخير الكفار بين الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وأن هذا دأبه دائمًا، يشهد لهذه قول بريدة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا.." فهو دليل على الاستمرار والعادة الدائمة.
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية بالجملة، قال ابن قدامة رحمه الله: "والأصل فيها –يعني الجزية- الكتاب والسنة والإجماع"(137). وقال ابن رشد: "فأما من يجوز أخذ الجزية منهم فإن العلماء مجمعون على أنه يجوز أخذها من أهل الكتاب العجم والمجوس"(138). وقال ابن القيم: "أجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس"(139).
تنبيه: من أراد الزيادة والفائدة في موضوع أحكام المعاهدين، والموقف الشرعي منهم؛ فعليه بالرسالة القيمة "فقه الإحتساب على غير المسلمين" للدكتور عبد الله الطريقي –وفقه الله-.
(36/29)
فهمي هويدي والرافضة :
مقالاته وأقواله –حسب علمي- تشهد بأنه متأثر بدعوة (الرافضة) عادًا إياهم أحد التيارات المؤثرة في الصحوة الإسلامية(140) وعادًا ثورتهم الأخيرة ثورةً إسلامية شجاعة، ومادحًا لرموزهم وأشخاصهم، وملمعًا لمذهبهم وبلادهم –والعياذ بالله-.
وإليك –شيئاً من مواقفه وأقواله- تشهد عليه بهذا كله:
فهو قد خصص كتاباً كاملاً سماه (إيران من الداخل) خصصه للحديث عن أحوال الثورة الخمينية، محاولاً تقريب السنة إليهم، كما في (ص9،11،205،306،313 وما بعدها).
واصفاً الخميني بأنه "كان زاهدًا عظيمًا"(141) !! ومادحاً (منتظري) بأنه "واحد من التابعين الذين كان همهم الزهد والورع"(142)!!
وتدليلاً على محبة هويدي وموالاته للروافض فقد تكلف عناء السفر لتهنئة الخميني بقيام دولته (الرافضية)! (143)
ويقول عن فقه الواقع: "الثورة الإسلامية في إيران أرست قاعدة عريضة لهذا الفقه"(144).
وفي تعليق له على تقرير عن (الحالة الإسلامية في الوطن العربي) الذي أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، يقول: "لسنا نعرف كيف غاب عن الباحثين رصد مظاهر الحالة الإسلامية في الخليج ومؤشرها في صعود مستمر على الأصعدة السياسية والاجتماعية، خصوصًا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وما ترتب على ذلك من أصداء بين شيعة الخليج"(145).
ويرى هويدي أن نجاح ثورة الرافضة في إيران أحد مظاهر نجاح الصحوة الإسلامية(146)!
ويقول عن الرافضي باقر الصدر(147): "العلامة السيد محمد باقر الصدر"(148)!
(36/30)
ويقول مدافعًا عن الروافض، ومبرزًا حسناتهم: "إن الشيعة الذي كان البعض يشكك في ولائهم، وأبدى نفر من الكاتبين تخوفاً منهم بعد الغزو خيبوا ظن هؤلاء الجميع، وأثبتوا أنهم جزء لا ينفصم من الصف الوطني، وكان صمودهم المشهود، وشبابهم الذين سيقوا إلى الإعدام، منهم ثلاثة من أسرة (دشتي) وحدها، كان ذلك إبراءً لذمتهم، وإعلاناً عن مصداقية انتمائهم، الذي ثار حوله بعض اللغط منذ قامت الثورة الإسلامية في إيران"(149).
ويخص الزيدية والإمامية الروافض بمزيد دفاع حارٍ، ويستثنيهم من بقية الشيعة المذمومين بكل لسان، فيقول: "فات بعض الكاتبين أن الشيعة فرق متعددة، بينهم المعتدلون والغلاة وصحيحو العقيدة وفاسدوها، وفي مقدمة المعتدلين وصحيحي العقيدة: الزيدية المنسوبة إلى الإمام زيد بن علي، ويتركزون في اليمن، وهم الأقرب إلى السنة، والإمامية الاثني عشرية!! وهم أكبر فرق الشيعة وأشهرها"(150).
وفي مقال له بعنوان (معركتنا ليست ضد الشيعة) يحاول هويدي أن يوهمنا بأن تصرفات النظام الإيراني لا يتحمل وزر أخطائها مذهب الروافض، فيقول: "لا أعرف كيف يمكن أن نكبح جماح عواطفنا وانفعالاتنا، بحيث نفرق بين ممارسات النظام السياسي الإيراني وبين تعاليم المذهب الشيعي"(151).
وهاهو ينتقد أحد الدعاة الذين بينوا خطر الرافضة، وحذروا منهم(152).
وعندما أنكر هويدي ظهور (المهدي المنتظر) آخر الزمان عَقَّب على ذلك بقوله: "إن ما عرضته بشأن وجهة نظر السنة في مسألة المهدي المنتظر ينبغي ألا يُحمل باعتباره إساءة أو تشهيرًا بما يعتقده الشيعة في هذا الصدد، فرأينا فيما يعرض علينا من معتقدات، لا ينبغي أن يخل باحترامنا لما يعتقده الآخرون، خاصةً وأن لديهم من الأسانيد والحجج ما يدعم اعتقادهم ويعززه"(153).
(36/31)
قال هذا الئلا يُغضب أعداء الصحابة، وأما أهل السنة من أتباع السلف الصالح فهم –في نظر هويدي- لا يستحقون الاعتذار، علمًا بأن "لديهم من الأسانيد والحجج ما يدعم اعتقادهم ويعززه" كما قال هويدي!
ويتابع هويدي الروافض في ذمهم للصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- قائلاً: "لعلنا نذكر ما جرى في موقعة صفين بين علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ومعاوية بن أبي سفيان والي الشام الطامع في الإمارة"(154).
ويكتب مقالاً بعنوان "معركتنا ليست ضد الشيعة"(155) يستغرب فيه أن تنشر الكتب ضد الشيعة في بلاد مصر "ذات الدور الرائد في التقريب بين المذاهب، والتي لم تصب بأي حساسية تجاه الشيعة، ولقد درج المؤرخون على وصف المصريين بأن لهم هوىً مع آل البيت"، كما يقول هويدي، ثم راح يدافع عن عقائدهم، ويُنكر أنهم يقولون بتحريف أو نقص القرآن الكريم أو أنهم يسبون الصحابة!!
فهمي هويدي والديمقراطية
يعد هويدي من أبرز الدعاة إلى الديمقراطية في عالمنا الإسلامي، حيث أبرز محاسنها وجَمَّلها في عدد كثير من مقالاته، متابعةً منه لشيخيه الغزالي، والقرضاوي، اللذين يعوِّل على كلامهما في الديمقراطية كثير من دعاة الاستنارة والعقلانية.
وإليك شيئًا من أقواله في هذا الموضوع:
يقول هويدي في مقال بعنوان (الإسلام والديمقراطية.. أو الطوفان!) مبالغاً في مدح الديمقراطية: "إننا نعتبر أن الديمقراطية هي أفضل صيغة ابتكرها العقل الإنساني حتى الآن لإدارة المجتمع على نحو كفء وصحي"(156).
ويقول: "سنصبح في مجرى التاريخ، ويصبح انتسابنا للعصر حقًا، فقط عندما نتعامل مع الديمقراطية بشروطها وجوهر وظيفتها، أعني عندما يسقط احتكار السلطة، وتصبح الأمة شريكة في صناعة القرار، وصياغة حاضرها ومستقبلها"(157).
ويقول معبرًا عن ماهية الديمقراطية التي يدعو إليها: "جوهر الديمقراطية هو مشاركة الأمة صناعة القرار السياسي من خلال وضع مؤسسي دائم وملتزم"(158).
(36/32)
ويقول: "لسنا نعرف لماذا يصر البعض على سوءات الديمقراطية وعوراتها، مع تغييب تام لإيجابياتها وإنجازاتها، وجملة المقاصد الجليلة التي تحققها"(159).
ونراه ينقل فتيا القرضاوي في تأييد (الديمقراطية) في مقالة له بعنوان "فتوى في الديمقراطية"(160).
فهمي هويدي والسلفية
يُكثر هويدي –شأن جميع العصرانيين- من الطعن في المتمسكين بعقيدة السلف الصالح ومنهجهم، ويلمزهم بشتى التهم، ساخرًا منهم لاتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يصل به الشيطان إلى الطعن والسخرية بالسنة ذاتها! –والعياذ بالله-.
وأنا سأنقل بعضًا من أقواله التي يوردها في هذا المقام متابعةً منه لأسلوب شيخه الهالك (الغزالي) ليتعرف القارئ على شيء مما تكنه صدور هؤلاء التنويريين على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والمتمسكين بها، مع تعرفه على رأيهم في انتشار عقيدة ومنهج السلف في العالم الإسلامي خلال السنوات الأخيرة –ولله الحمد-.
يقول هويدي: "تيارات تكفير المجتمع وجماعات الغلو والتشنج والهلوسة باسم الدين، هؤلاء جميعًا لم يظهروا إلى الوجود إلا في المرحلة التي صودرت فيها حرية العمل الإسلامي الشرعي"(161).
وينقل طعن الغزالي في السلفية مؤيدًا له(162).
ويسخر من كتاب الشيخ أبي إسحاق الحويني(163) "نهي الصحبة عن النزول بالركبة"(164) مدعيًا أنه لا فائدة من بحث هذه المواضيع الفقهية التي يسميها هويدي ومن هم على شاكلته (الجزئيات)، وأن الأولى أن تُصرف الجهود إلى الاهتمام بقضايا الأمة الكبرى، ومواجهة أعدائها الذين يكيدون لها.
ولكن: مما يثير الطرافة أننا علمنا –سابقاً- أن هويدي يرى أن اليهود والنصارى كالمسلمين، ويرى جواز قيام أحزاب علمانية وماركسية، فلا أدري بعد هذا من هم أعداء الأمة الذين يريد لنا هويدي أن نتصدى لهم، وهو لم يُبق عدوًا لنا!!؟
(36/33)
ويقول هويدي في ندوة عقدت بالأردن ساخرًا من مجموعة من الشعائر والسنن الإسلامية: "الأمر تجاوز المسواك والأكل بأصابع اليد والجلباب القصير، إلى حديث أصح وأجدى حول الارتقاء بالإنسان، والنهوض بالأمة، وصياغة المستقبل على نحول أفضل"(165).
ثم ينقل عن القرضاوي ذم من يُقَصر ثوبه اتباعًا لسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
فهويدي مشغول عن هذه السنن بـ"الارتقاء بالإنسان والنهوض بالأمة، وصياغة المستقبل على نحوٍ أفضل)!! إلى آخر عباراته التي لا ثمرة لها.
ويقول: "لا نعرف لماذا –عند ذكر الصحوة- يُهال التراب على روادها من جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا، وحسن البنا، فيُطمس فكرهم، ويُلغى وجودهم، بينما لا يُذكر سوى عمر عبدالرحمن، وعبود الزمر، وشكري مصطفى، وعلي بلحاج. أعني لماذا يُسقط الاصلاحيون والتحديثيون من الحسبان، وتُسلط الأضواء فقط على الانقلابيين والسلفيين"(166).
ويذم أصحاب (الكآبة والجهامة والجفاف)!! الذين يحرمون الغناء والموسيقى والتمثيل والنرد والشطرنج.
ويرى –بجهل أو بخبث- أن مصدر هذا الفقه الكئيب يعود إلى السعودية!! (167)
ويقول: "إن الخطاب الإسلامي أصبح يعنى بأمور لا حصر لها، ليس بينها بالضرورة قضايا الساعة وشواغل الناس، حتى يبدو أحياناً كما لو كان قادمًا من زمنٍ آخر وربما من كوكبٍ آخر، وما الجدل الدائر بين شبابنا حول الاختلاط والنقاب وإقامة الخلافة وصحة أحاديث المهدي سوى نموذج لما ندعيه"(168).
______________________
(1) ... اختصرتها من كتابي "فهمي هويدي في الميزان".
(2) ... وهي الدار التي تعتني –عناية خاصة- بطبع تراث العقلانيين! من أمثال: شلتوت والغزالي والقرضاوي ومحمد عمارة وأحمد كمال أبو المجد ومحمد سليم العوا وطارق البشري وهويدي وغيرهم. يقول صاحباها إبراهيم وعادل المعلم في مقدمة منشوراتها (ص3): "وتمضي دار الشروق منارةً للفكر الإسلامي المستنير"!
(36/34)
(3) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 27/9/1988م.
(4) ... 30/7/1991م.
(5) ... الكواكبي هو عبدالرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي، رحّالة متشبع بالفكر القومي، ولد وتعلم في حلب، ثم رحل إلى مصر، وساح في العالم الإسلامي. له كتاب "طبائع الاستبداد" يدعو فيه إلى الحرية، ولذا فالعقلانيون، كهويدي وغيره، معجبون بهذا الكتاب لأنه يمهد لهم الطريق نحو الديمقراطية؛ توفي الكواكبي عام (1320هـ). انظر: الأعلام للزركلي (3/298).
(6) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 9/10/1990م.
(7) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 8/10/1991م.
(8) ... الطريف أن أبا المجد قد مدح هويدي وشكره في مقدمة وثيقته! فالعصرانيون يتبادلون الثناء فيما بينهم، ويلمع بعضهم الآخر ترويجًا لأفكارهم. انظر: مقدمة الوثيقة.
(9) ... انظر: "ملامح المجتمع المسلم" للقرضاوي (ص 78).
(10) ... مجلة العربي، العدد: 232، ص 36.
(11) ... مجلة العربي، العدد: 232، ص 36.
(12) ... جريدة الأهرام، تاريخ : 17/3/1987م.
(13) ... مجلة العربي، العدد: 290، ص 82.
(14) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 11/11/1989م، وانظر أيضاً: جريدة الأهرام، تاريخ: 24/3/1987م.
(15) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 23/7/1991م.
(16) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 18/11/1986م.
(17) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 18/6/1991م.
(18) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 25/4/1989م.
(19) ... انظر: مجلة العربي، العدد: 291، ص 40.
(20) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 18/6/1991م.
(21) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 7/10/1986م.
(22) ... مواطنون لاذميون، ص 99.
(23) ... مواطنون لاذميون، ص 156.
(24) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 26/5/1992م.
(25) ... مواطنون لاذميون، ص 121.
(26) ... مواطنون لاذميون، ص 126.
(27) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 17/3/1987م.
(28) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 17/3/1987م.
(29) ... مواطنون لاذميون، ص 175، نقلاً عن المودودي الذي أساء لنفسه بهذا الرأي الشاذ –عفا الله عنه-.
(30) ... مواطنون لاذميون، ص 134.
(31) ... مواطنون لاذميون، ص 235.
(36/35)
(32) ... مواطنون لاذميون، ص 89.
(33) ... مواطنون لاذميون، ص 104 – 107 .
(34) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 17/3/1987م.
(35) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 18/8/1987م.
(36) ... مواطنون لاذميون، ص 200.
(37) ... سورة الإسراء، الآية: 70.
(38) ... تفسير الطبري (8/115).
(39) ... تفسير الطبري (8/115).
(40) ... تفسير ابن كثير (3/55).
(41) ... فتح القدير (3/350).
(42) ... تفسير القرطبي (10/294).
(43) ... في ظلال القرآن (4/2241).
(44) ... سورة آل عمران، الآية: 110.
(45) ... زاد المسير (5/63).
(46) ... سورة سبأ، الآية: 37.
(47) ... سورة التين، الآية: 4.
(48) ... تفسير ابن كثير (4/563).
(49) ... سورة التين، الآيتان: 5-6.
(50) ... تفسير ابن كثير (4/563).
(51) ... سورة التين، الآية: 5.
(52) ... سورة العصر، الآيات: 1-3.
(53) ... تفسير ابن كثير (4/563).
(54) ... سورة الأعراف، الآية: 11.
(55) ... سورة البقرة، الآية: 30.
(56) ... سورة الحجر، الآية: 29.
(57) ... أخرجه البخاري، ومسلم.
(58) ... سورة الحج، الآية: 18.
(59) ... سورة فصلت ، الآية: 17.
(60) ... سورة الأنعام، الآية: 93.
(61) ... سورة الأحقاف، الآية: 20.
(62) ... سورة البقرة، الآية: 90.
(63) ... سورة آل عمران، الآية: 178.
(64) ... سورة النساء، الآية: 14.
(65) ... سورة الحج، الآية: 57.
(66) ... سورة لقمان، الآية: 6.
(67) ... سورة الجاثية، الآية: 9.
(68) ... سورة النساء، الآية: 37.
(69) ... سورة النساء، الآية: 102.
(70) ... سورة الأحزاب، الآية: 57.
(71) ... سورة الفرقان، الآية: 69.
(72) ... سورة المجادلة، الآية: 16.
(73) ... سورة الرعد، الآية: 16.
(74) ... سورة السجدة، الآية: 18.
(75) ... سورة المائدة، الآية: 100.
(76) ... سورة فاطر، الآيتان: 19،20.
(77) ... سورة فاطر، الآية: 22.
(78) ... سورة غافر، الآية: 58.
(79) ... سورة الحشر، الآية: 20
(80) ... سورة هود، الآية: 24.
(81) ... سورة ص، الآية: 28.
(82) ... سورة القلم، الآيتان: 35،36.
(83) ... سورة الجاثية، الآية : 21.
(84) ... تفسير ابن كثير (4/162).
(36/36)
(85) ... لأنه لا يعتقد كفر بعض الكافرين، وهم اليهود والنصارى –كما سبق- !! والعياذ بالله.
(86) ... سورة المائدة، الآية: 32.
(87) ... أخرجه البخاري (1312)، ومسلم (7/29 نووي).
(88) ... أخرجه مسلم (7/28 نووي).
(89) ... فتح الباري (3/215).
(90) ... المرجع السابق.
(91) ... فتح الباري (3/215-216).
(92) ... أخرجه أحمد (4/369)، وأبو داود (1508)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (325) لأن في سنده (داود بن راشد الطفاوي) قال عنه ابن معين: ليس بشيء. وفيه أيضاً: (أبو مسلم البجلي) مجهول العين لم يرو عنه سوى الطفاوي الضعيف.
(93) ... كما في "ملامح المجتمع المسلم" (ص 139).
(94) ... مواطنون لاذميون، (ص113).
(95) ... سورة الممتحنة، الآية: 8.
(96) ... سورة السناء، الآية: 86.
(97) ... سورة الزخرف، الآية: 89.
(98) ... سورة الممتحنة، الآية: 8.
(99) ... تفسير ابن كثير (4/373).
(100) ... سورة المجادلة، الآية: 22.
(101) ... فتح الباري (5/233).
(102) ... نقد القومية العربية (ص 45-46).
(103) ... سورة النساء، الآية: 86.
(104) ... تفسير ابن كثير (1/544-545).
(105) ... تفسير ابن كثير (1/544-545).
(106) ... سورة الزخرف، الآية: 89.
(107) ... سورة الحجر، الآية: 3.
(108) ... تفسير ابن كثير (4/147-148).
(109) ... ص 39 – 41.
(110) ... في حاشية (9) من (ص20) من كتاب "الدولة العربية وسقوطها" لفلهوزن، ترجمة العش.
(111) ... كتب حذر منها العلماء، 2/247-248.
(112) ... بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة، ص 38.
(113) ... المرجع السابق، ص 39. وانظر أيضاً: "دفاع عن الحديث النبوي" للشيخ الألباني –رحمه الله-، ص25، حيث بين أن إسنادها منقطع.
(114) ... مواطنون لاذميون، ص 124، وص 153.
(115) ... (7/111) .
(116) ... (4/352-355) تعليق مهدي الكيلاني.
(117) ... السلسلة الضعيفة (3/224).
(118) ... أحد الأفاضل المختصين بعلم الحديث النبوي، له عدة مؤلفات في المكتبات، وفقنا الله وإياه.
(36/37)
(119) ... نصب الراية، 4/55. وأقره الحافظ في الدراية، 2/162.
(120) ... سورة القلم، الآيتان: 35، 36.
(121) ... ومنهم القرضاوي –هداه الله- في كتابه "فتاوى معاصرة 2/670".
(122) ... سلسلة الأحاديث الضعيفة، 5/195-197.
(123) ... فقه الإحتساب على غير المسلمين، ص 23.
(124) ... مواطنون لاذميون، ص 83.
(125) ... انظر: شرح نهج البلاغة، 5/24، تحقيق حسن تميم.
(126) ... وهذا هو المشهور.
(127) ... سير أعلام النبلاء، 17/589، 590.
(128) ... ميزان الاعتدال، 3/124. وانظر: لسان الميزان، 4/223.
(129) ... العلم الشامخ، ص 237.
(130) ... وهو شيخ مشايخ هويدي! فلا يُستغرب احتجاج هويدي بهذا الأثر الذي ارتضاه محمد عبده.
(131) ... كذا في الأصل !
(132) ... منهاج السنة النبوية، 7/55-56. وانظر في التحذير من هذا الكتاب وبيان أنه مكذوب على علي رضي الله عنه: فجر الإسلام، 148-149. وترجمة علي، لأحمد صفوت، ص 122. والبيان لأخطاء بعض الكتاب، ص 69-85، للشيخ صالح الفوزان، وتعليق محب الدين الخطيب على "المنتقى من منهاج السنة" للذهبي، ص 20،430،508، ومجلة المقتطف، جزء 42، ص 248-252، سنة 1331هـ.
(133) ... كتب حذر منها العلماء، 2/250-256، بتصرف يسير.
(134) ... أخرجه البخاري، 2586. فتح الباري، 9/417.
(135) ... سورة التوبة، الآية: 29.
(136) ... صحيح مسلم بشرح النووي، جـ12،ص 37. الأموال لأبي عبيد، ص 35.
(137) ... المغني لابن قدامة، جـ10، ص567.
(138) ... بداية المجتهد لابن رشد، جـ1، ص405.
(139) ... أحكام أهل الذمة لابن القيم، جـ1، ص1.
(140) ... بخلاف السلفيين الذين يراهم معوِّقين للصحوة!
(141) ... إيران من الداخل (ص 182).
(142) ... المرجع السابق (ص 116).
(143) ... إيران من الداخل (ص 9).
(144) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 2/1/1990م.
(145) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 11/10/1988م.
(146) ... جريدة الأهرام، تاريخ 11/10/1988م، مقال بعنوان "الإسلاميون في أحدث تقرير".
(147) ... رافضي جَلد، تميز بكتبه الاقتصادية.
(36/38)
(148) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 18/9/1990م.
(149) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 16/10/1990م.
(150) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 15/9/1987م.
(151) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 15/9/1987م.
(152) ... في مقالة على صفحات مجلة العربي، العدد 292، ص 45.
(153) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 21/1/1986م.
(154) ... مجلة العربي، العدد 234، ص 35.
(155) ... جريدة الأهرام، تاريخ 15/9/1987م.
(156) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 14/3/1992م.
(157) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 13/2/1990م.
(158) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 13/2/1990م.
(159) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 13/2/1990م.
(160) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 18/8/1992م.
(161) ... مجلة العربية، العدد 265، ص 25-26.
(162) ... مجلة العربية، العدد290، ص 82-86.
(163) ... أحد علماء الحديث البارزين في مصر –حفظه الله-.
(164) ... مجلة المجلة، العدد 503، ص 23.
(165) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 11/7/1989م.
(166) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 18/2/1992م. ومن ذكرهم هويدي ليسوا جميعاً من السلفيين، بل تجاوزوا السلفية إلى فكرٍ متأثر بالخوارج في استباحة الدماء والخروج –دون ضوابط- على الحكام ... إلخ. هدانا الله وإياهم للرجوع إلى الحق.
(167) ... كما في مقاله: "هذه الدعوة إلى الكآبة والجفاف"، جريدة الأهرام بتاريخ: 19/3/1988م.
(168) ... جريدة الأهرام، تاريخ: 17/6/1986م.
(36/39)
::::: المجموعة السادسة :::::
نظرة شرعية في فكر أحمد كمال أبو المجد
ترجمته (1):
- كاتب ومفكر مصري معاصر، من مواليد محافظة أسيوط بمصر سنة 1930م.
- تخرج في كلية الحقوق سنة 1950م.
- حصل على دبلوم في القانون العام سنة 1951م، ودبلوم في الشريعة الإسلامية سنة 1952م.
- حصل على درجة الماجستير في القانون المقارن من جامعة ميتشقن في الولايات المتحدة الأمريكية.
- وعلى درجة الدكتوراه في القانون من جامعة القاهرة.
- يعمل أستاذًا للقانون العام في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ويتولى رئاسة المحكمة الإدارية للبنك الدولي بواشنطن!
- يعمل –أيضاً- محامياً أمام محكمة النقض ومجلس الدولة، والمحكمة الدستورية العليا في مصر.
- عضو في: مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن، والجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع، ولجنة الخبراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للبنك الدولي، ولجنة الخبراء التابعة للوكالة الدولية للتنمية.
- كان وزيرًا للشباب في مصر بين عام 1971م-1973م.
- عمل وزيرًا للإعلام بين عام 1973م-1975م.
- عمل عميدًا لكلية الحقوق والشريعة في جامعة الكويت سنة 1977م، ثم مستشارًا لولي العهد بدولة الكويت من 1980م إلى 1986م.
له عدة مؤلفات؛ منها :
1- "حوار لا مواجهة" وهو أهم كتبه، عبارة عن مقالات متنوعة كان ينشرها في مجلة "العربي" بالكويت، صب فيها خلاصة أفكاره.
2- "رؤية إسلامية معاصرة إعلان مبادئ" ، وهو عبارة عن عدة مبادئ صاغها أبو المجد لتكون وثيقة جامعة للأفكار الكبرى التي ينادي بها العصرانيون، ويلتقون عليها. وقد راجعها وأثنى عليها غير واحد منهم(2).
فحبذا لو قام أحد طلبة العلم بتفنيد ما جاء في هذه الوثيقة العصرانية من انحرافات .
3- النظام الدستوري في دولة الإمارات العربية المتحدة.
4- دراسات في المجتمع العربي.
5- التطرف الديني وأبعاده.
(37/1)
قال رضوان السيد عن أبي المجد: "أذكر من المتحولين إلى الفكر الإسلامي، نماذج مشرفة مثل أحمد كمال أبو المجد، وطارق البشري، فالأول مع أنه بدأ إخوانيًا، لكنه صار في مرحلة من عمره ناصريًا اشتراكياً، ثم عاد إلى موقعه إسلاميًا"(3)
وذكر مثل هذا عنه الدكتور محمود الطناحي في كتابه "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي" (ص150).
انحرافاته :
يعد أحمد كمال أبو المجد أحد المنظرين للفكر العصراني في زماننا، حيث ارتضى هذا الفكر أخيرًا بعد أن تنقل يمينًا ويسارًا، وهو في مؤلفاته وكتاباته وندواته لا يخرج عن الدعوة للأهداف السابقة التي يلتقي عليها "العصرانيون".
وأبتدئ بدراسة قيمة للدكتور مفرح القوسي –وفقه الله- لفكر الرجل ثم أعقبها ببعض الإضافات التي لم ترد في دراسته .
(37/2)
يقول الدكتور القوسي:"الدكتور أحمد كمال أبو المجد(4) الذي دأب في كتاباته على التقليل من شأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وانتقاد منهجهم، والزهد بعلمهم، والتنصل من أقوالهم واجتهاداتهم. ومن ذلك على سبيل المثال قوله في الدعوة إلى التحديث والتوسع في الاجتهاد:"أما اجتهاد القدماء من السلف فإنه يظل تجربة غير ملزمة.. وتاريخ المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا تاريخ أمة من البشر عامر بالخير والشر معاً، فإلى جوار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، عاش أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف، وإلى جانب العدل الذي قام عليه الحكم في أيام الخلافة الراشدة وجدنا من يصف الحاكم بأنه ظل الله في الأرض ... وكما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشداء على الكفار رحماء بينهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، خلف من بعدهم خلف رجعوا كفارًا يضرب بعضهم رقاب بعض، وصار بأسهم بينهم أشد من بأسهم على عدوهم ... تلك إذن أمم قد خلت لها ما كسبت ولنا –اليوم- ما كسبنا، والتراث تجارب، واجتهاد السلف سوابق، والحاضر لا يصلح له إلا اجتهاد جديد"(5). وقوله أيضاً: "البشر كل البشر يُؤخذ من كلامهم ويُترك، ويُقبل من آرائهم ويُرفض، ويناقشون فيما يقولون ويفعلون، والتسليم لهم –بغير مناقشة- ذل وعبودية، وإهدار لنعمة العقل وملكة البحث"(6)، ويُدخل أبو المجد في هذه الآراء آراء فقهاء الأمة وأئمتها محتجاً في ذلك –على سبيل المغالطة- بأن الإمام أبا حنيفة كان إذا انتهى الأمر به إلى فقه التابعين وتابعيهم يجتهد كما اجتهدوا، ويقول: "هم رجال ونحن رجال"(7).
(37/3)
ويصنف أبو المجد عناصر الجمود التي أراد مواجهتها إلى أربعة تيارات معاصرة، ويجعل على رأسها: التيار المحافظ الذي –كما يقول-: "يفسر السلفية بأنها التزام ما انتهى إليه الأولون من السلف من آراء ومواقف وأحكام؛ لا يُنكر جواز الاختيار بينها ولكنه يرى في تجاوزها تجاوزاً للإسلام وابتداعاً فيه، وفتحاً لأبواب الهوى وتحكيماً للمعقول في الشريعة، وقد جاءت حاكمة للناس لا محكومة بعقولهم وأهوائهم"(8).
ويُطلق –وهو يتحدث عن الصحوة الإسلامية المعاصرة- على المحافظين على منهج السلف الصالح اسم "مدرسة الجمود على الموجود"، ويعدُّها إحدى المدرستين اللتين يموج بهما العالم الإسلامي المعاصر(9)، ويقول عن منهج هذه المدرسة: إنه "منهج خوفٍ مقيم على الإسلام، وهلع مذعور على المسلمين من كل نغمة جديدة أو اجتهاد جديد يجتاز به أصحابه السدود الكثيفة، ويخترقون حجب الجمود إلى أفئدة المسلمين وعقولهم، وكأنما استحفظ أفراد تلك المدرسة –وحدهم- على دين الله وعلى ضمائر العباد"(10).
وينكر أبو المجد –في عموم كتاباته- على الملتزمين بالمنهج السلفي محافظتهم على شريعة الإسلام من أن تنالها أيدي العبث والتغيير تحت مسمى (التحديث) و(التطور)، وتَمَسكَهم بالضوابط الشرعية للاجتهاد في الأحكام. ويصفهم –على سبيل الازدراء- ببعض الأوصاف البذيئة، كقوله: بأنهم "يرفضون أن ينظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ويتصورون أن من حقهم أن يضربوا بين المسلمين وبين سائر العالم بسور غير ذي باب، أو يتخيلوا أن المسلمين يستطيعون أن يقيموا مجتمعهم على صورة نماذج المجتمعات الإنسانية التي قامت منذ آلاف السنين، وأن يستغنوا بذلك عن الاجتهاد من جديد، أولئك يحرثون في البحر ويطلبون غير مطلب، ولن تتوقف الحياة لتناقش خيالهم المريض"(11). ويُرجع سوء تصرفهم وخطأ منهجهم –في نظره- وإشفاقهم من سوء فهم بعض التيارات الإسلامية للإسلام إلى أسباب عدة منها:
(37/4)
"أولاً: الاتجاه إلى اجترار الماضي واستعادة تجاربه الأولى، والذهول عن حقائق الحاضر وتغيرات المستقبل"(12).
"وثانياً: الاتجاه إلى التمسك بحرفية النصوص، وتعطيل دور العقل في عملية تغيير المجتمع"(13).
ويقول راداً عليهم تحذيرهم مما في الدعوة إلى تحديث الإسلام من مزالق ومحاذير: "إن خطر الجمود والعقم هو الخطر الأكبر الذي ينبغي أن نبدأ بالتنبيه إليه، وإن تحريك المسلمين عامتهم وعلمائهم إلى خوض معركة التجديد والاجتهاد وتحمل تبعاتها يحتاج من الشجاعة والصبر إلى أضعاف ما يحتاج التذكير بهذه المحاذير"(14).
ويقول أيضاً –منتقداً منهجهم في جعل ولاء المسلم لدينه وعقيدته لا لوطنه وقومه-: "ومن الناس من يرى أن الإسلام هو وحده مصدر القيم ومحدد مضمون الثقافة، وأنه وحده –عند المؤمن- أساس الارتباط بالأمة، وأن محاولة صرف المسلمين عن هذا الولاء إلى ولاءات عرقية يُعَدُّ رجعة إلى الوراء وتفتيتاً لوحدة المسلمين وتوهيناً لأخوة الإسلام، كما يرون فيما يصاحب الدعوة القومية –عند بعض دعاتها- من مناداة بالعلمانية؛ مناقضاً تماماً لطبيعة الإسلام ولا يسع مسلماً قبوله"(15). ويرى أن الصواب هو "أن يظل العربي المسلم عربي الثقافة واللسان، عربي التوجه السياسي، مدركاً لخصوصية الرابطة الثقافية والمصلحة التي تربطه بالعرب جميعاً مسلمين وغير مسلمين"(16).
(37/5)
ويقول أبو المجد كذلك منتقداً موقفهم من حق التشريع: "هناك من يرى أن التشريع في الجماعة المؤمنة لا يكون لغير الله، وأن التشريع من جانب البشر مشاركة لله تعالى في حاكميته، وهو لذلك يكاد –عملياً- يحصر دائرة التشريع في النصوص، ويخشى أشد الخشية من نداءات الأخذ بالمصالح واعتماد دور العقل في التشريع، وقد يضيف بعضهم إلى ذلك أن لا حاجة بالعرب والمسلمين إلى إقحام العقل في هذا الميدان، لأن الكتاب والسنة يغنيان، ولأن القرآن جاء كما يقول الحق سبحانه وتعالى: (تبياناً لكل شيء) (17)، ثم قد يضيف بعض العامة إلى ذلك تصوراً مؤداه أن التشريع الإسلامي قائم وموجود وكامن في أقوال السلف والعلماء، وأنه ما من مسألة تعرض لنا اليوم إلا ولها حكم في الكتاب والسنة، ولها شرح وتفصيل وتعليل في مؤلفات السلف من الفقهاء والأصوليين"(18).
(37/6)
والإسلام عند أبي المجد لا صلة له بتنظيم أمور الحياة وتقديم الحلول الثابتة للمشكلات، وليس من مقتضياته، حيث يقول: "إنه إن كان الإسلام نظاماً شموليا بحكم وحدة مصدره وترابط قيمه وأحكامه، وبحكم وحدة الكيان الإنساني الذي يتعامل معه، وإذا كانت هذه الشمولية تجعل منه ديناً ودولة وعقيدة ونظاماً كما يقال بحق، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه فصل أحكام بناء الدولة ودقائق نظام الاقتصاد"(19). ويرفض ما سماها "النظرة الدينية الشمولية التي تستغرق أحوال الفرد والجماعة على اختلافها، وتعالج أمورها من منظور ديني خالص يستمد شرعيته ومضمونه معاً من النصوص الدينية التي يُعتبر التسليم بها جزءاً أساسياً من أجزاء اليقين الديني"(20)، ويرى الصواب في "أن الدين –والإسلام بصفة خاصة- يمتد اختصاصه إلى جوانب الحياة الفردية والجماعية للمؤمنين به، ولكنه امتداد عناية ورعاية وتوجيه، وليس –بالضرورة- اختصاص تدخل مباشر بالتنظيم وتقديم الحلول النهائية الثابتة"(21). ويقول: "يُسرف البعض في تصوير تميز الإسلام عقيدة وشريعة عن كل ما عداه، ويتصور لذلك أن تطبيق الشريعة يعني أولاً سقوط كل التشريعات الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين، وإقامة نظام جديد تماماً على أسس اعتقادية وأخلاقية جديدة"(22).
ويرفض أبو المجد رفع شعار (حاكمية الله على خلقه) في البلاد الإسلامية، وكذا شعار (لا حكم إلا لله)، وذلك لأنهما –في نظره- من شعارات الخوارج ومبعث فتنة وتفرق بين المسلمين، فنراه يقول: "والحق أننا لا نستريح البتة لهذا التعبير –الحاكمية-"(23). ويقول أيضاً: "والحق أن شعار (لا حكم إلا لله) منذ رفعه الخوارج في وجه علي –رضي الله عنه- إلى يومنا هذا كان مبعث فتنة وباب فوضى ومدخل تشرذم وتفرقة بين المسلمين"(24).
(37/7)
ويعتقد أبو المجد بطلان قول العلماء: "إنه لا مدخل للعقل في التشريع، لأن الحكم لله وحده وحق التشريع لا يملكه أحد سواه؛ دخولاً في طاعته واعتزازاً بحاكميته"(25)، ويدعو –في اتجاهه التحديثي- إلى "توسيع دائرة العقل والإفساح له ليؤدي دوره في ميدان التشريع"(26)، وذلك على النحو التالي:
1- التوسع في فتح باب الاجتهاد، وعدم الاقتصار فيه على الفروع فحسب، بل والأصول أيضاً، حيث يقول: "والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون، ليس اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلباً لحكم الإسلام فيها أفضى بهم بحثهم إلى وقفة مع الأصول"(27).
2- الاعتماد على مقاصد الشريعة دون نصوصها، فهو ممن يرون "أن الشريعة مقاصد قبل أن تكون نصوصاً، وأن تكاليفها كلها ترجع إلى تحقيق مقاصدها، وأنها ليست إلا أمارات ودلائل على تحقيق تلك المقاصد في حالات جزئية هي ما جاءت به النصوص"(28)، وأن التعويل في الأحكام الشرعية إنما هو على تحقيق المصالح، فالمصالح –في نظره- غاية التشريع وأساس العلة التي يرتبط بها كل حكم شرعي، فإذا زال هذا الأساس أو تغيَّرت تلك الغاية معها الحكم الشرعي. ولذا نجده يعيب على المسلمين المحافظين على دينهم احتياطهم في الأخذ بالمصالح، وقيامهم بربطها بالنصوص الشرعية مما يؤدي –في نظره- إلى إلغاء دورها بوصفها مصدراً مستقلاً من مصادر الأحكام(29).
(37/8)
3- رَبْط الأحكام الشرعية بأسباب نزولها، ونَسْف قاعدة (أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، فنراه يقول: "والنصوص في تطبيقها على الوقائع لابد أن يُحدد معناها لغة واصطلاحاً، وأن يُعرف سبب نزولها وظروف تطبيقها، إذ هي لا تنفك عن ذلك كله أبداً. ومهما قال الأصوليون من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهذا أيضاً لا يؤخذ بغير مناقشة، فكم فعلٍ للنبي صلى الله عليه وسلم –وأفعاله صلى الله عليه وسلم نوع من السنن- جاء مرتبطاً بإطار موضوعي معين معالجاً لظروف قائمة وثابتة وعارضة، ومن هنا لا يستغني مجتهد عن معرفة ذلك كله والتأمل فيه"(30). ويقول أيضاً متحدثاً عن تغير الأحكام بتغير الزمان: "هذا أدق أبواب الاجتهاد وأصعبها وأقربها إلى مواطئ الزلل، والحجة الرئيسية التي يثيرها الرافضون لهذا الباب جملة أنه لا نسخ في الأحكام بعد انقطاع الوحي بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وأن التغيير –بعد عهد النبوة- لا يمكن إلا أن يكون تغييراً في الفتيا أو القضاء أي في الاجتهاد، والواقع أن الفارق بين الأمرين لا يظهر إلا حيث يكون في الأمر نص قرآني أو نبوي لا يحتمل التأويل، ولكن تقوم القرينة على ارتباطه بواقعه معينة هي سبب نزوله ووروده، فينفتح الباب عندئذ لمناقشة مدى الارتباط بين الحكم وسبب نزوله. ومن هذا الباب أيضاً ما نجده أحياناً من قول بعض المجتهدين عن حكم معين: إن ذلك كان والناس حديثو عهد بشرك أو جاهلية، بمعنى أنه إذا تباعد الزمن واستقر الإيمان وزالت مخاوف الشرك الجلي لم يعد للاحتياط الذي جاء به النص ضرورة ولا لزوم"(31).
(37/9)
ويضرب على ذلك مثالاً، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين وَفّروا اللحى واحفوا الشوارب"(32)، حيث يرى أن الحكم الشرعي المستفاد من هذا الحديث، وهو: وجوب إعفاء اللحى وحف الشوارب إنما هو تشريع زمني روعي فيه زي المشركين وقت نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وقُصد فيه مخالفتهم في هذا الزي! وأزياء الناس لا استقرار لها(33).
(37/10)
4- تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية، وذلك بالاعتماد على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته، في هذا يقول أبو المجد: "والنبي صلى الله عليه وسلم بشهادة القرآن وحكمه الذي لا يرده كلام فلاسفة ولا متكلمين "بشر مثلنا يوحى إليه"، والوحي إليه صلى الله عليه وسلم هو جميع القرآن وبعض ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وليس كل ما صدر عنه من هذه الأحوال الثلاثة وحياً يوحى، فهذا أيضاً باطل بالعقل وباطل بالنقل، فبشريته صلى الله عليه وسلم حاضرة في سيرته حضور نبوته، وهو باطل بالنقل لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم، فإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر"(34)، وهو الحديث الذي تقول فيه رواية مسلم: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"(35)، ومن الحق والإنصاف لعلماء الإسلام أن نُذكِّر كثيراً من الناسين أنهم فَرَّقوا –بعبارات مختلفة- بين ما هو تشريع من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وما هو دون ذلك، ذاهبين تارة إلى التفريق بين ما هو من العادات وما هو من العبادات، وذاهبين تارة أخرى إلى بيان ما فعله صلى الله عليه وسلم اجتهاداً منه تحقيقاً لمصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة"(36). ويقول أيضاً –محدداً المسائل التي ينبغي ضبطها عند التفريق بين التجديد في الإسلام والانفلات منه-: "الثانية: تحديد ما يُعد تشريعاً وما لا يُعد تشريعاً من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وأساس الحاجة إلى هذا التحديد ما قررناه وأجمع عليه المسلمون وشهد له القرآن الكريم من أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه، وأن بشريته حاضرة في حياته حضور نبوته، وأن كثيراً من أقواله وأفعاله قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده"(37).
(37/11)
وقد ضرب أبو المجد أمثلة عديدة للمسائل التي يرى ضرورة الاجتهاد وإعمال العقل فيها للخروج برأي يجيزها –بعد أن كانت محرمة- مواكبة لظروف العصر ومقتضيات التطور، ومن تلك المسائل:
أ التدرج في تطبيق أحكام الإسلام وشريعته في المجتمعات الإسلامية المعاصرة(38).
ب النظر في إباحة الفوائد الربوية عن طريق التعامل مع البنوك والمؤسسات المالية الاستثمارية بدل أن "يعيش المسلم المعاصر حياة تحكمها الحيرة والقلق، فإما أن يُمسك عليه ماله ويحبسه عن عالم تستثمر فيه الثروات بالفائدة، وإما أن يتعامل مع الواقع وفي قلبه منه شبهة"(39).
ج النظر في إباحة سماع الموسيقى والغناء والعزف على المعازف، سيما وأن الشباب "يتطلعون اليوم إلى ترويح قلوبهم المعناة في هذا الزمن الصعب الذي تثقل وطأته على الأعصاب"(40)!". انتهى كلام الدكتور مفرح القوسي.
رد الأستاذ جمال سلطان على أبي المجد :
يقول –وفقه الله-: "وعلى هامش الخلافة، يترفق الدكتور أحمد كمال أبو المجد، فيرى أن "مصطلح الخلافة نشأ على عهد أبي بكر، عندما أطلق عليه الناس لقب خليفة رسول الله"(41).
فلا اعتبار –إذن- بورود الأحاديث الصحيحة لإثبات الخلافة لفظاً ومعنى في مثل: "فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها" الحديث(42). "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً" الحديث(43). "..وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول" الحديث(44). "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ما شاء الله أن تكون.." الحديث(45) وغير ذلك من النصوص. بيد أن هدم شرعية "المصطلح"، هو مجرد تقدمة –عند الدكتور أبي المجد- لأمر آخر سيأتي بيانه"(46).
(37/12)
-"وعلى صعيد "الديمقراطية" أيضاً، يدهش الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وينزعج بشدة من هؤلاء الذين يرفضون الديمقراطية –مع اعترافه بمعايبها وخروقها- ويرى أن هؤلاء محجوجون بالنقل العقل، ونحن لا ندري –ولا إخاله هو يدري!- أي نقل وأي عقل؟ ولكن هكذا قال: "يدهشنا أشد الدهش أن يتساءل البعض من حولنا عن قيمة الديمقراطية، إذا كانت المجتمعات الديمقراطية لا تزال تعرف ألواناً من القهر والظلم، أو أن يقيم بعضهم الحجة عليها، بدعوى أن الأغلبية في ظلها تسن قوانين لا يقبلها عقل ولا شرع، وذلك –فيما نرى- خلط قبيح ينبغي أن يرد أصحابه إلى جادة العلم بالنقل والعقل، وألا يترك منطقهم "الأعرج" ليفسد على الناشئة عقولها وصدق توجهها"(47).
والدكتور –لا شك- يعلم جيداً من هو "صاحب المنطق الأعرج"، ونحن كذلك، نضم أصواتنا إلى صوته، وننادي بضرورة إبعاد هؤلاء، الذين أفسدوا على الناشئة عقولهم وتوجهاتهم وأخلاقهم ودينهم كذلك، والناس ما زالت تسمع أنباء البلد المنكود، وما أدارك ما البلد المنكود، والمستشار مؤتمن أيها "المستنير"، ولا حول ولا قوة إلا بالله"(48).
-"ونعرض لمثل آخر، ورؤية أخرى، لتقنية الشريعة، لا تختلف عما قدمنا إلا في أسلوب العرض وطريقة الطرح:
فالدكتور أحمد كمال أبو المجد يرفض رفضاً باتاً، تلك النظرة التي أسماها: "النظرة الدينية الشمولية، التي تستغرق شرعيته ومضمونه معاً من النصوص الدينية التي يعتبر التسليم بها جزءاً أساسياً من أجزاء اليقين الديني"(49).
أما ما يراه صواباً وهدى ورشاداً فهو:
"أن الدين –والإسلام بصفة خاصة- يمتد اختصاصه إلى جميع جوانب الحياة الفردية والجماعية للمؤمنين به، ولكنه امتداد عناية ورعاية وتوجيه، وليس –بالضرورة- اختصاص تدخل مباشر بالتنظيم، وتقديم الحلول النهائية الثابتة"(50).
ولذلك فهو يتعجب. ويتأفف من هؤلاء "المسرفين" الذين يرون ضرورة إسقاط القوانين الوضعية:
(37/13)
"ويسرف البعض في تصوير تميز الإسلام، عقيدة وشريعة، عن كل ما عداه، ويتصور لذلك أن تطبيق الشريعة يعني –أولا: سقوط كل التشريعات الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين، وإقامة نظام جديد تماماً، على أسس اعتقادية وأخلاقية جديدة"(51).
فالإسلام –عند الدكتور أبي المجد- لا صلة له بالتنظيم في الحياة، وتقديم الحلول الثابتة للمشكلات، وكذلك ليس من مقتضياته هدم القوانين الوضعية، لإقامة قوانين جديدة على أسس الإسلام الاعتقادية والأخلاقية. والذي أخشاه، أن يكون هذا الكلام مبرراً متهافتاً، لموقف شخصي، قام على تنفيذ هذه القوانين "الوضعية"، وفي الأخلاق بالدرجة الأولى.
ثم يأخذ الدكتور أبو المجد في "تأصيل" دعوته المستنيرة فيدعو إلى "زلزلة قواعد الشريعة" حيث لا يقصر الاجتهاد على الفروع فحسب، بل والأصول أيضاً:
"والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون، ليس اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلباً لحكم الإسلام فيها، أفضى بهم بحثهم إلى وقفة مع الأصول"(52).
ومن تلك الأصول "قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وهي قاعدة –كما قرر أهل العلم- قطعية في فهم الشريعة والعمل بها، وكذلك فمن المعروف أنها من "السهام القاتلة" لنظرية المستنيرين في قصرهم الشريعة على الأزمنة الأولى للإسلام.
ومن ثم فقد وجه الدكتور أبو المجد هجومه عليها، ويرى أنها لم تعد قابلة للتسليم بغير مناقشة:
"ومهما قال الأصوليون من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا أيضاً لا يؤخذ بغير مناقشة، فكم فعلٍ للنبي صلى الله عليه وسلم –وأفعاله صلى الله عليه وسلم نوع من السنن- جاء مرتبطاً بإطار موضوعي معين، معالجاً لظروف قائمة وثابتة وعارضه، ومن هنا لا يستغني مجتهد عن معرفة ذلك كله والتأمل فيه"(53).
(37/14)
وهذه –كما هو ظاهر- فلسفة ملتوية لمسألة عدم ملاءمة الشريعة لقضايا العصر الذي نعيشه اليوم، لارتباطها بعصر النبي صلى الله عليه وسلم ومشكلاته "الثابتة"، وهي ما عبر عنها صراحة الدكتور عمارة بقوله:
"فإن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما قرره نبي لعصره"(54).
والدكتور أبو المجد يفتح الباب على مصراعيه للتلاعب بالشريعة عن طريق "التفسير"، فهو من الأبواب الواسعة "للتجديد" التي تتيح لنا التحكم في النصوص القرآنية، وتوجيهها إلى حيث نريد ونميل ونهوى، حتى ولو كان هذا التوجيه غير مقصود منها أصلاً:
"وكثيراً ما يكون هذا الباب –باب التفسير- أوسع أبواب التجديد، لأنه يلتزم أساساً بالنص، ولا يحاول معارضته بدليل آخر، ولكنه يحمله مع ذلك، كل ما يريد، مما قد لا يكون مقصوداً به أصلاً!! أو يختار من معانيه المختلفة أكثرها اتفاقاً مع ميله واجتهاده واختياره، وما أصدق ما قرره أحد رؤساء المحكمة العليا الأمريكية في شرح موقف القاضي من نصوص الدستور حيث يقول: إننا نخضع للدستور، ولكن الدستور هو ما نقرر نحن أنه كذلك"(55).
وهكذا، فالقرآن المجيد –على نظرية الدكتور- هو ما نقرر نحن أنه قرآن أي "مراد الله من بيانه"، وقد يكون واضحاً أن الحكيم الخبير لا يقصد هذا الذي نذهب إليه البتة، ولكن لا مانع من أن نحمله كل ما نريد، وأن نطوع النصوص بحيث توافق "ميلنا واختيارنا".
وهذه –في الحقيقة- دعوة صريحة لهدم قواعد الإسلام، وزلزلة أصول الدين، ولقد كان من ثمار تلك النظرية "الشيطانية" أن وجدنا القرآن الكريم يوماً فلسفة اشتراكية، ويوماً فلسفة رأسمالية، ويوماً مؤيداً للنظم الديكتاتورية، ويوماً مؤيداً للنظم الليبرالية الديمقراطية.
(37/15)
بل لا يزال "الخاطر الحي" يذكر أن القرآن الكريم كان هو "الميثاق الناصري"، ثم أصبح "الكتاب الأخضر". وكذلك وجدنا –من ثمرات النظرية "المستنيرة"- كيف أن القرآن لا يعارض نظرية "داروين"، ولا يمنع من أن يكون أصل الإنسان قرداً؟(56) .
ولا جرم في ذلك، فالأمر –في مذهب الدكتور- باب متسع للتجديد والتنوير.
الطريف أن الدكتور يطلب بعد ذلك –في ملح الكلام- أن نضع ضوابط للتفسير الصحيح(57)، وهذا من العجب، فإذا كانت النصوص تتحمل كل ما نريد، وتميل حيث نميل، وتطاوعنا حيث ذهبنا، تماماً كالدستور الأمريكي، فأي ضوابط تريدها بعد ذلك يا صاحبي؟ ثم إذا كانت الضوابط التي وضعها الصحابة والأئمة الأعلام قد نسفتها نفساً، وطالبت بإعادة النظر فيها، فمن يا ترى الذي تنتظر أن يضع لنا الضوابط "الأهدى سبيلا"؟
ثم إذا كانت أصول الشريعة تحتاج إلى التجديد والتغيير، والنصوص تدور مع المصالح حيث دارت(58)، والقرآن يدور مع "هوانا" حيث دار، فأي دين بقي بعد؟ بل أي ضابط يمكن أن تضعه بعد ذلك لفهم أو دراسة أو تطبيق للإسلام؟ وهل يبقى الإسلام بعد ذلك إلا دين فلان وفلان، ممن تعرف وأعرف؟.
(فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) (59)" (60).
ويقول جمال سلطان –أيضاً- :
-"أما الدكتور أبو المجد، فهو يطرح "القضية" بأسلوب آخر، ومدخل مختلف، فهو يرى أن:
"الإسلام لم يفرض نظاماً سياسياً مفصلاً، والخلافة ليست نظاماً محدد المعالم"(61). وهو يؤكد رفضه لكل قول خلاف ذلك الذي قاله:
(37/16)
"ورأي آخر نرفضه كذلك، يرى أن للإسلام نظاماً في الحكم مفصل المعالم متميز القسمات، أقامه النبي صلى الله عليه وسلم وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه فعلاً أيام الخلافة الراشدة، وقبل أن تتحول إلى ملك عضوض، وأن على المسلمين كذلك أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة، وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة؛ ليضعوا نظامهم الإسلامي، على رأس دولتهم الجديدة"(62).
وهو كذلك يرفض "زعم" المودودي –رحمه الله- أن الدستور الإسلامي سرمدي لا تبديل فيه ولا تغير: "ولهذا لا يسعنا أن نوافق العلامة أبا الأعلى المودودي، رحمه الله، حيث يقول عن الدستور الإسلامي: إنه لا يقبل شيئاً من التبديل والتغيير، فإن شئت خرجت عليه وأعلنت عليه الحرب كما خرجت عليه تركيا وإيران –قبل الثورة- ولكن ليس لك أن تحدث فيه أدنى تغيير، فإنه دستور إلهي سرمدي لا تغيير فيه ولا تبديل"(63).
ومع أن الدكتور أبا المجد يرفض كلام صاحبه خلف الله الذي "يزعم أن العقل البشري هو الواضع لنظام الخلافة"(64)، فإنه في الواقع، يرفض هذه الحدة والصراحة، إذ أنه يقرر في موضع آخر:
"ما الذي بقي لنا اليوم من نظام الخلافة؟ إننا لا نجد في أصول الإسلام ونصوصه وإجماع علمائه المجتهدين ما يدعونا للتمسك بلفظ الخلافة، إذ العبرة كما يقول علماؤنا إنما هي بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني"(65).
ولنا أن نعجب –من حيث المبدأ- من داعي هذا التأفف البالغ الذي يصيب "كاتباً عربياً مسلماً" من لفظ "عربي إسلامي ذي جذور تبلغ عمق الحضارة الإسلامية"، حتى لو افترضنا موافقته على أنه ليس في "نصوص الإسلام" ما يدعونا للتمسك بلفظ "الخلافة"، في حين أنه يتمسك –بقوة- بمصطلح غريب "على العربية وعلى الإسلام وعلى الحضارة الإسلامية" وهو "الديمقراطية"، وهل تصل "الانهزامية الفكرية والنفسية" بكاتب إلى هذا الحد ؟!
(37/17)
ثم إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد سمى نظام الحكم الذي يخلفه "بالخلافة"، والحاكم المسلم بالخليفة في نصوص كثيرة، لا يضرها شيئاً جهل الدكتور بها، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" الحديث(66).
وقوله " ... الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" الحديث(67).
وقوله "لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر ... " الحديث(68).
وغير ذلك، فلماذا يحرص الدكتور على هدم هذا "المصطلح" الشرعي، حتى لو سلمنا معه أن العبرة بالمقاصد دون الألفاظ؟ وإلا، فإن "المصطلح" في الإسلام له قيمته البالغة في ذاته، وقد نبهت النصوص الشرعية إلى ذلك في غير موضع، وذلك أن "المصطلح" كما حدده الشارع، يرتبط به العديد من المسائل "المنصوصة" الخاصة به، فهدم "المصطلح" كفيل بإثارة الارتباك في فهم المسائل المتعلقة به، فضلاً عن أنه لا يحل العدول عن الاسم الذي سماه الله تعالى أو رسوله أي "الاسم الشرعي" إلى أي بديل له "وضعي"، حتى ولو ظننا موافقته لمعناه، فكما لا يجوز هدم مصطلح الصلاة، وإبداله "بالرياضة"، أو هدم مصطلح "الزكاة" وإبداله "بالتكافل الاجتماعي"، فكذلك لا يجوز هدم مصطلح "الخلافة" تحت أي شعار وضعي آخر.
ثم إذا كان الأمر يقف عند مجرد رفض "المصطلح" دون مضمونه، فأي قيمة تلك لهدم المصطلح إذن؟ ولماذا لا نعكس المسألة، ونسمي "رئيس فرنسا" "بالخليفة"؟ وفي اعتقادي –حسب عهدي بالمستنيرين- أن هدم المصطلح، هو تمهيد لهدم مضمونه، وقد سبق أن نبهنا إلى خطورة "لعبة المصطلحات" في ختام الفصل السابق.
-وكما قدمنا: الدكتور أبو المجد –يرى أن الإسلام لم يفصل نظاماً للحكم، وكذا فالإسلام- في نظره:
(37/18)
"يكتفي بتقرير المبادئ الأساسية التي تتصل اتصالاً مباشراً بالقيم العليا التي جاء لنشرها وتثبيتها بين الناس، كقيم العدل والحرية والمساواة بين الناس وتقديم الخير والإحسان، ومن هنا فإن الدفاع الأعمى مثلاً عن صورة من صور الحكم السياسي، حملت يوماً من الأيام أسماء إسلامية!!، ورفعت لافتات "الحكم الإسلامي"، إنما يدخل في باب التعصب ولا يدخل في باب الاعتصام"(69)، والدكتور لم يفصح لنا عن هذه الصورة التي رفعت يوماً ما لافتة الحكم الإسلامي، ولم يحدد لنا في أي يوم من الأيام كانت ترفع هذه اللافتة، ومتى سقطت؟
وذلك أنه يدري جيداً أن هذه الصورة هي "الخلافة الإسلامية"، وأن هذا "اليوم" هو ثلاثة عشر قرناً من الزمان، هي كل عمر الإسلام "كأمة واحدة" ذات سيادة، وتميز حضاري، وحاكمية ربانية، حتى ظهرت تلك الأجيال المنكودة، التي طارت وراء "بريق الحضارة الغربية" ونظمها وفلسفاتها، بما فيها فلسفة الحكم، فإذا هم "فرق" وأشتات ودويلات، وإذا الأمة تصبح "أمما"، وكلهم –مع الأسف- يرفعون شعارات الحرية والعدالة والمساواة والتقدمية والثورية ... الخ، وكلهم –مع الأسف أيضاً- يقولون: إنهم ديمقراطيون!
وكما يرفض الدكتور أبو المجد مصطلح "الخلافة"، فهو يرفض كذلك مصطلح "الحاكمية" وشعار "لا حكم إلا لله"، وذلك لأنها من شعارات الخوارج.
"والحق أننا لا نستريح البتة لهذا التعبير –الحاكمية- والحق أن شعار "لا حكم إلا لله" منذ رفعه الخوارج في وجه علي كرم الله وجهه، إلى يومنا هذا، كان مبعث فتنة، وباب فوضى ومدخل تشرذم وتفرقة بين المسلمين"(70).
وهكذا.. يستوي المنادون بتطبيق الشريعة اليوم مع الخارجين على أهل الشريعة أمس ويستوي الحاكمون بغير ما أنزل الله، بالحاكمين بما أنزل الله، وهذه هي الموضوعية، وتلك هي العلمية!! بل الأمر أوضح من ذلك عند الدكتور أبي المجد، فهو يعجب لمن يظن أن المجتمعات المعاصرة لا تسير على الإسلام فيقول:
(37/19)
"والمجتمعات المعاصرة –في زعمهم- لا تسير على الإسلام، فأعمالها وتصرفاتها ونظامها السياسي والاقتصادي ليست إسلامية"(71).
ونحن نطالب الدكتور، بمثال واحد فقط، ومن تجربته هو، يدلل: كيف كانت إسلامية؟!! والحقيقة أن المتتبع لأطروحات أبي المجد، يجده يدور مع نفسه في حلقة مفرغة، يزيدها تعقيداً عنده، حرصه الشديد، وعدم الجرأة على المصارحة، ونحن نرجو له –ولكافة أصحاب الفكر المستنير- الهدوء والاطمئنان، فإن ما يدعون إليه سوف يظل هو "الديمقراطية الغربية"، وإن ما ندعو إليه سيظل هو "الخلافة الإسلامية" وأبداً لن يخدعوا أحداً بمثل هذا التخليط إلا أنفسهم، وأبداً لن تتحطم صورة الخلافة الإسلامية في أذهان المسلمين وضمائرهم، ونقول لهم ما قال العربي الحكيم:
يا ناطح الجبل العالي لتوهنه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل"(72)
ويقول جمال سلطان –أيضاً-:
-"وهذا التفريغ للفكرة الإسلامية، وأولياتها، إن كان حاداً وصريحاً عند المنطق الكبير" فهو "ألطف" عرضا وأكثر التواء عند الدكتور أبي المجد.
(37/20)
فهو يقرر أن الإسلام إنما يعنى "بالمبادئ العامة" المتصلة بالقيم العليا، كالحرية والعدالة ونحوهما، ولكن الإسلام "لا يشغل نفسه" بالأمور التفصيلية التي يمكننا إدراكها بعقولنا، وهذا –في نظره- لا يخدش شمولية الإسلام: "إنه إذا كان الإسلام نظاماً شمولياً يحكم وحدة مصدره، وترابط قيمه وأحكامه، وبحكم وحدة الكيان الإنساني الذي يتعامل معه، وإذا كانت هذه الشمولية تجعل منه ديناً ودولة وعقيدة ونظاماً، كما يقال بحق، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه فصل أحكام بناء الدولة، ودقائق نظام الاقتصاد، ولن ينقص من هذه الشمولية بحال أن يكتفي بتقرير المبادئ الأساسية، التي تتصل اتصالاً مباشراً بالقيم العليا التي جاء لنشرها وتثبيتها بين الناس، كقيم العدل والحرية والمساواة بين الناس، وتقديم الخير والإحسان وإفشاء الود والسلام، وتعميق الروابط بين الإنسان والإنسان، وتربية العقول وتحريضها على التأمل في الكون، واستكشاف الجديد من خباياه، ولكن لا يشغل نفسه بتفاصيل يمكن أن تهتدي إليها العقول، وهي تطلب مصالحها، وتجتهد في هذا الطلب، أو بجزئيات تتساوى –وإن اختلفت- في مدى ارتباطها بالمبادئ الأساسية والقيم العليا للإسلام"(73).
فالحكم في الإسلام، ليس إعمال النصوص في الوقائع، وإنما هو-فحسب- الالتزام بالمبادئ والقيم العليا، وليس مهماً بعد ذلك التزام "جزئياتها" بالإسلام والنصوص الشرعية، ما دامت العقول قد تهتدي بنفسها إلى تحقيق هذه القيم العليا والمبادئ السامية.
ومعلوم أن هذه القيم العليا، قد يتفق فيها حتى الأديان المختلفة، كالحرية والعدالة والمساواة، ونحو ذلك، فبأي شيء إذن يتميز الإسلام "كدين وشريعة" عن غيره؟
(37/21)
ولقد انتبه الدكتور إلى هذه الحقيقة، ولذلك فهو ينعى على الذين "يسرفون" في القول بتميز الإسلام على غيره كاليهود والنصارى، فذلك –في نظره- مخالفة للقرآن الكريم ذاته، "والذين يسرفون في الإلحاح على تميز الإسلام والمسلمين تميزاً شاملاً مطلقاً، محجوجون بنصوص القرآن الكريم، التي تصف أنبياء الله قبل نبينا صلى الله عليه وسلم بوصف الإسلام" : (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلما) (74).
وهم محجوجون كذلك بحقيقة وحدة الإنسانية، ووحدة مصدر الأديان السماوية، وبأن العهد الذي أخذ بحمل الأمانة، إنما أخذ على آدم أبي البشرية، وعلى بنيه مسلمين وغير مسلمين.
(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (75)، والذين يلحون هذا الإلحاح الشديد على اختلاف الإسلام عن كل ما عداه، يمنحون فرصة نادرة للذين يصورون المسلمين كما لو كانوا غرباء على حضارة العصر كلها، وييسرون مهمة الإعلام الصهيوني الذي ملأ الدنيا صياحاً بما سماه "الميراث اليهودي المسيحي"؛ ليوهم العالم المسيحي كله أن المسلمين غرباء عن هذا التراث، وأن اليهودية والمسيحية وحدهما ميراث مشترك(76).
وهذا تخليط غريب، جمع عدة متناقضات وغرائب.
وبداية، كيف فهم الدكتور أن وحدة الدين بين النبيين تعني وحدة الشريعة؟ ثم كيف فهم أن "التراث الإسلامي" يتفق مع "اليهودية والنصرانية" اليوم، كما اتفق إبراهيم عليه السلام في وحدة الدين مع نبينا عليهما الصلاة والسلام؟ فأي ميراث هذا الذي يتحدث عنه الدكتور "المستنير"؟ ميراث تزوير الكتاب، وكتمان الحق، وإلباس الحق بالباطل؟ أم ميراث عبادة المسيح والأحبار والرهبان؟ أم ميراث عبادة يهوه وعزير؟ أم ميراث الكهنوت وصكوك الغفران؟
ثم أين هي في واقع الأرض الآن الشريعة المسيحية أو اليهودية التي يحكم بها الغرب على أساس الإنجيل والتوراة "والميراث المشترك"؟
(37/22)
أما بدعة التمسح في معاداة الصهيونية، فهي مرفوضة تماماً، وهي خدعة قديمة، دلفت تحت عباءتها الفضفاضة، ضلالات القومية والتقدمية والاشتراكية وسائر اللافتات المعروفة، وإذا كانت الصهيونية تصور للغرب "وحدة الميراث المسيحي واليهودي" فلها ذلك، ولا يضر الإسلام ذلك في شيء، كلا، بل يضره أشد الضرر، تلك الدعوات الهدامة، التي تريد أن تجعل منه تراثاً مشتركاً مع التراث "المزور" والمزعوم لليهودية والنصرانية.
وأخيراً، أين وجد الدكتور أبو المجد، أن الميثاق المذكور في آية الأعراف، قد أخذه الله على المسلمين وعلى غير المسلمين؟ وفي أي كتاب وجد هذا الفهم الغريب والشاذ؟ وقد حدثتنا جميع كتب التفسير والحديث، أن هذا العهد هو "الفطرة" التي فطر الله عليها بني آدم، وهي فطرة الإسلام والتوحيد، ومن ثم فكل مولود يولد على هذه الفطرة، وهي الإسلام، حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أو ينشئانه على "الفكر الديني المستنير"!
(فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (77)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ... "(78).
وفي حديث "كل مولود يولد على الفطرة –وفي رواية على هذه الملة- حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(79).
ففي أي مرجع أو فهم، وجد الدكتور أن الميثاق قد أخذ على "المسلمين وغير المسلمين"؟!(80)"(81)
إضافات :
1-تهوين أبو المجد من شأن الحكم بما أنزل الله:
(37/23)
في بحثه "النظام الدستوري لدولة الإمارات العربية المتحدة" يعلق أبو المجد على المادة القائلة: "الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع" فيقول: "أما إضافة أداة التعريف قبل كلمة (مصدر) فهي في الواقع استجابة لتيار تزايد تأثيره على امتداد العالم العربي خلال الفترة التي عاصرت وضع مشروع الدستور الدائم؛ وهو تيار تشدد في المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإنهاء العمل بالقوانين الوضعية المستمرة من نظم قانونية أجنبية"(82).
ثم يبين أن لا فرق كبير بين الأمرين !
ومعلوم لكل عاقل أن عبارة "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" تدل على أن الشريعة الإسلامية تكون حينئذٍ هي المصدر (الوحيد) الذي يُرجع إليه في ما تسنه الدولة من أنظمة وقوانين.
وأما "النص على أن الشريعة الإسلامية هي "مصدر رئيس للتشريع" لا يعني إلزام المُشَرع بالأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما كل ما يعنيه هذا النص هو إبراز دور الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع. فالمُشَرع يبقى حرًا يأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية أو بغيرها من شرائع البشر للبشر"(83).
فلماذا يخلط أبو المجد بين الأمرين؟! أم أن الشريعة الإسلامية هانت عنده حتى ساوى بها أفكار البشر وزبالاتهم –تأثرًا بما تلقاه عن شيوخه القانونيين-؟!
-ويقول أبو المجد منادياً بتطبيق الديمقراطية الغربية ونحوها من النظم الكافرة في بلاد المسلمين: "إن التيار الإسلامي الجديد (أي تياره العصراني!) يحرص على وضع حد لما هو سائد بين كثير من دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق شريعته من استخفاف بتجارب الأمم والشعوب في مجال النظم السياسية والاقتصادية، بدعوى أن المسلم لا يحتاج إليها، وأنه لا يجوز له أن يستورد ثمرات تجربة تمت خارج نطاق الإسلام.." (84)
(37/24)
قلت: كان الأولى بالدكتور أن يرضى بدين الله –عز وجل- وشرعه بعد أن ارتضاه سبحانه وأكمله لعباده الصالحين؛ (اليوم أكملت لكم دينكم..) فلا حاجة بنا إلى الأفكار البشرية القاصرة مهما ازّينت ما دامت تخالف في أصولها النصوص الشرعية، وأنا لست بصدد الحديث عن بيان مخالفة الديمقراطية الغربية لأحكام الإسلام، فقد بينها كثيرون –ولله الحمد-(85)، ولكني ألفت النظر إلى أن من ينادي بها في بلاد المسلمين هو أحد رجلين:
الأول: من يعلم النظام السياسي للإسلام، ومدى مخالفة هذه الديمقراطية له، ومع ذلك يفضلها عليه ويرى أنها تحقق العدل –لا سيما في موضوع الأقليات غير المسلمة، وموضوع المرأة، وموضوع حرية التعبير..الخ- ما لا يحققه الإسلام! وهذا كفر صريح مخرج من الملة.
الثاني: من يجهل حقيقة الحكم الإسلامي، ويخلط بينه وبين ما يسمى: "الحكومة الدينية" التي وجدت في أوربا في زمن سابق، وتسلط من خلالها الكهنة والقساوسة ورجال الكنيسة على رقاب الناس وأموالهم وحرياتهم. ويظن أن الحكم الإسلامي –في حال تطبيقه- سيكون كتلك الحكومة! وأن البديل للكهنة ورجال الكنيسة سيكونون "الفقهاء"!! الذين سيحكمون المسلمين بأهوائهم، وكل هذا خلط بين لا حقيقة له؛ لأن السلطة في الإسلام ستكون للنص الشرعي، وما لم يكن فيه نص شرعي صريح سيكون مجالاً للتشاور بين أهل الحل والعقد الذين يرتضيهم المسلمون.
والحكم في هذا الرجل أن يُعَلَّم حقيقة الحكم الإسلامي لكي يتبين له خطأه(86).
بقي صنف من الكتاب (ومن يسمون المفكرين) قد يقولون بأننا عندما نستقي النظام الديمقراطي ونستقدمه لبلاد المسلمين سوف نخضعه للشروط الإسلامية، فنلغي منه ما لا يتوافق مع الإسلام!
مثلاً: في النظام الديمقراطي: الأمة مصدر السلطات وهذا لا يتوافق مع الإسلام؛ لهذا سنضيف عليه قيدًا يؤسلمه؛ وهو: "الأمة مصدر السلطات فيما لا يناقض نصاً قطعياً"(87)
وقس على ذلك ..
(37/25)
فأقول: ما دمتم قد أجريتم هذه التعديلات الشرعية على النظام الديمقراطي، فإنه حتمًا سيصبح نظاماً آخر غير الديمقراطية الغربية! فلماذا لا تسمونه "الإسلام" وتريحون بالكم من هذا الاستلاب للغرب الكافر؟!
2-أبو المجد يدعو إلى حرية الكفر في بلاد المسلمين:
يقول أبو المجد تعليقاً على المادة (32) من دستور دولة الإمارات العربية المتحدة التي تنص على حرية الشعائر الدينية لأتباع الأديان السماوية ما دام ذلك لا يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب العامة!!
يقول أبو المجد: "إن هذا القيد لا ضرورة له؛ ما دام النص يشترط أن لا يخل ذلك بالنظام العام، أو ينافي الآداب العامة؛ إذ يمكن أن يكون معيار النظام العام أساساً لإسباغ الحماية الدستورية أو لانحسارها عن ممارسة شعائر العقائد غير السماوية"(88)
فلا مانع عنده أن يمارس الكفار –بجميع أديانهم ومذاهبهم- شعائرهم وعباداتهم دون قيد شرعي، إنما بشرط أن لا يتعارض ذلك مع النظام والآداب العامة! ولا أدري ما حقيقة هذا النظام العام وتلك الآداب العامة؟! هل هي نابعة من النصوص الشرعية، أم أنها تتبع ما رأته "العقول" القاصرة نظاماً أو أدباً ؟!
3-أبو المجد يطلب مساواة الكفار بالمسلمين مساواة "كاملة" !
كشأن إخوانه من العصرانيين في تقديم التنازلات لليهود والنصارى، ومحاولة إرضائهم، والظهور أمامهم بمظهر المتنورين كما يظنون، فإن أبا المجد قد طالب بالمساواة "الكاملة" بين من قال الله عنهم بأنهم (شر البرية) بمن أخبر أنهم (خير البرية)، ثم راح يلغي من أحكام الله ما يظنه ممايزًا بين الفريقين! –نعوذ بالله من حاله-.
يقول أبو المجد في رؤيته العصرانية التي أيدها أصحابه: "إن الموقف الإسلامي الصحيح (!) من الأقليات غير المسلمة داخل الأقطار الإسلامية موقف واضح.. وهو موقف يقوم على المحاور التالية:
أولاً: المساواة "الكاملة بين المسلمين وغير المسلمين.." (89) !!
(37/26)
قلت: فلم تعد المساواة –عند هؤلاء- تكتفي ببعض الحقوق، إنما أصبحت مساواة "كاملة" كما يقول. أي في أمور العبادات والمعاملات والسلوك، وغير ذلك من الأحكام. وفي هذا إلغاء لكثير من النصوص الشرعية التي تفرق بين المسلمين والكافرين، وتجعل لكلٍ منهما حكماً خاصاً به.
ولكن كل هذا لا يهم عند هؤلاء العصرانيين ما دام يحقق لهم –كما يتوهمون- الوحدة الوطنية !
وكل مسلم مهما كانت درجة ثقافته يعرف بطلان هذه المساواة؛ لما يعلمه من نصوص شرعية تناقضها .
وصدق الله القائل في الرد على من يساوي بين أوليائه وأعدائه: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) والقائل (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار)، والقائل (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)، والقائل (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم، ساء ما يحكمون).
4-أبو المجد يقول عن الكفار: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" !
كما في رؤيته المعاصرة (ص16). وقد سبق بيان بطلان هذه المقولة عند الحديث عن انحرافات صاحبه "فهمي هويدي".
5-أبو المجد يطالب بإلغاء "أحكام الذمة" !
متابعة منه لتحقيق الأهداف التي يلتقي فيها مع طائفته العصرانية. يقول أبو المجد: "إن فكرة أهل الذمة تحتاج إلى إعادة وتأمل ومراجعة من جانب الأطراف جميعاً، فالذمة ليست مواطنة من الدرجة الثانية ... "(90)
(37/27)