نحو حضارة إسلامية مستقبلية
أساسها الدين والعلم
الدكتور عجيل جاسم النشمي
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة :
لقد آخى الإسلام بين العقيدة والشريعة من جانب, والعقل والعلم من جانب آخر, حتى لكأنهما شيء واحد, وبني حضارته على هذا المزج بتوازن فريد, فالعقيدة حامية الروح, والشريعة حامية النظام, والعقل مطلق الإبداع والتطوير, وهو محمي بالعقيدة والشريعة بل هو في عداد الضروريات الخمس التي لا قوام ولا حياة للناس إلا بها. ثم العلم نتاج ذلك كله. وتاج المجتمع, وعنوان تقدمه ورقيه.
لقد تميزت حضارة الإسلام بأنها حضارة دينية أساسها توحيد الله, وإفراده بالربوبية والألوهية. ولم تشارك الإسلام حضارة في صفاء العقيدة, فما من حضارة سلفت إلا وللوثنية والخرافات, والفلسفات المنحرفة نصيب منها, ولو كان أساسها دينيا كالنصرانية.
ولا ينكر أثر الدين في قيام الحضارات, والإسلام في أساسه حضارة دينية محضة, فالدين كما يقول مالك بن نبي: " ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته, كما تحكم الجاذبية المادة, وتتحكم في تطوره, والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني, قانونا خاصا بالفكر, الذي يطوف في مدارات مختلفة, من الإسلام الموحد إلى أحط الوثنيات".(1/1)
والدين أساس الحضارات القديمة, من معابده نشأت الحضارة وفي هذا يقول مالك بن نبي: " كلما أوغل المرء في الماضي التاريخي للإنسان, وفي الأحقاب الزاهرة الحضارية, أو في المراحل البدائية لتطوره الاجتماعي, فإنه يجد سطورا من الفكرة الدينية, ولقد أظهر علم الآثار دائما . من بين الأطلال التي كشف عنها . بقايا آثار خصصها الإنسان القديم لشعائره الدينية, أيا كانت تلك الشعائر ولقد سارت هندسة البناء من كهوف العبادة في العصر الحجري, إلى عهد المعابد الفخمة, جنبا إلى جنب مع الفكرة الدينية, التي طبعت قوانين الإنس ان, بل علومه, فولدت الحضارات في ظل المعابد كمعبد سليمان, أو الكعبة من هنالك كانت تشرق هذه الحضارات لكي تنير العلم, وتزدهر في جامعاته ومعامله.
فالتاريخ يشهد أن الدين ثابت من ثوابت الشخصية الإنسانية, ليس هذا فحسب. بل إن الدين كان من وراء كل المنجزات البشرية, ولهذا فابن نبي ينتقد نظرية (توينبي) في التحدي والاستجابة, لأنه وإن كانت تفسر قيام بعض الحضارات فإنها لا تفسر لنا قيام بعضها الآخر. كما ينتقد ما ذهب إليه (ماركس) ومدرسة المادية التاريخية. إذ أن من الحضارات ما لا يمكن أن تفسر قيامها بالعامل المادي, مثل الحضارة الإسلامية, وحتى الحضارة الغربية نفسها, كما ينتقد ما ذهب إليه دعاة التفوق العرقي, وقيام الحضارات على أساس العرق, ويقدم الدين بديلا تفسيريا لقيام الحضارات ومنجزتها عبر التاريخ.(1/2)
كلمة حق في الحضارة الإسلامية "إن الأمم التي فاقت العرب . أي المسلمين تمدنا قليلة إلى الغاية, وإن ما حققه العرب في وقت قصير من المبتكرات العظيمة لم تحققه أمة, وإن العرب أقاموا دينا من أقوى الأديان التي سادت العالم ولا يزال الناس يخضعون لها, وإنهم أنشأوا دولة تعد من أعظم الدول التي عرفها التاريخ, وإنهم مد نوا أوربة ثقافة وأخلاقا, وإن الأمم التي سمت سمو العرب وهبطت هبوطهم نادرة , وإنه لم يظهر كالعرب شعب يصلح ليكون مثالا بارزا لتأثير العوامل التي تهيمن على قيام الدول وعظمتها وانحطاطها. " الدكتور غوستاف لوبون.
المبحث الأول
حضارة الإنسانية والتسامح :
هناك تلازم تاريخي بين الإنسانية والتسامح وبين احترام العقل والعلم فحضارة الأنا أو الحضارة العرقية والعصبية التي تهين الإنسان فإنها تهين وتحتقر عقله في الوقت ذاته, ومتى أهانت العقل فقد أهانت في العلم, وحضارة الإسلام حضارة إنسانية النزعة, الناس فيها سواسية مهما اختلفت أجناسهم, وأنسابهم, ومواطنهم, بل وعقائدهم يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13).
ولقد ذاق الناس في ظل إنسانية الحضارة الإسلامية طعم المساواة, والحرية, والعدل, على اختلاف عقائدهم, كما لم تذق البشرية هذا الطعم في حضارة سابقة أو لاحقة.(1/3)
إن نجاح الحضارة بمقدار ما تحققه من سعادة للبشر, وهذا ما لم يتحقق في حضارات الأرض المصنوعة مبادؤها وأخلاقياتها من أربابه أو مقاييس البشر, لا تعدوا المادة, وقد تغلبها الأهواء بل تغلبها لاريب ولا أدل على ذلك من حضارة الناس اليوم, فقد بلغ شأن الإنسان فيها مبلغا عظيما, وتيسرت له وسائل العيش والترف والرفاه بما لم يتسير لغيره أو تبلغه حضارة من قبل, ومع هذا فإن السعادة بعيدة المنال, بل تكاد العلاقة عكسية, إذ كلما زاد الرخاء, والترف, وبلغ الإنسان من إنجاز المخترعات ما يحير العقول, ووصل إلى أعلا درجات الدقة, والإتقان زاد معه اضطراب النفس, والقلق حتى غدت هذه أمراضا مستعصية تقام لها المستشفيات المتخصصة, وتدرس من أجلها علوم خاصة بها. بل أصبحت الآلام النفسية, والأمراض السارية من أكبر ما يواجه الدول, وحسب كثير من الدول أن تتابع إحصائيات حوادث الانتحار, وانتشار الجرائم المنظمة, وما إلى ذلك.
وحينما نقول: إن الدين منقذ الحضارة, وأن الدين منقذ العلم والعقل بل حاميهما من الانحراف, وأنه نمير الحياة والسعادة الحقيقية ربما يستبعد البعض ذلك, وقد نعجز أن نبرهن له من وقائع الحضارة سوى الإسلام, فإن وقائع الأحوال دليل شاخص يصعب إنكاره. ولكن حضارة الإسلام خير شاهد على أن العلم بحاجة إلى الدين, بحاجة إلى أخلاق ربانية لا بشرية, تسمو بالعقل, وتمزج بين الدين والعلم لتحقق بهما سعادة الإنسان في دنياه وأخراه. وإن واقع الحضارة الإسلامية مما يجب الاطلاع عليه ودراسته, فالتاريخ خير معين على المستقبل تستدرك فيه الأخطاء, وتعزز فيه الفوائد والإنجازات.
وحضارة الإسلام مذ وجدت تعني بالإنسان, والحفاظ على جنسه, وحماية عقله وتطوير علمه غير ناظرة لجنس أو لون بل إنسانية شاملة.(1/4)
ذكر ابن عساكر في سيرة ابن فاتك الذي شهد فتح دمشق أنه تولى قسمة الأماكن بين أهلها بعد الفتح. فكان يترك الرومي في العلو, ويترك المسلم في أسفل لئلا يضر بالذمي. أهذا عمل من يسيء إلى من يخالفه? ولعل الشعوبيين يماحكون فيزعمون أن هذا من باب الضعف, وأين كانت قوة أهل الإسلام يوم عملوا هذا من قوة غيرهم من أهل الأديان الأخرى في الشرق والغرب.
ولما جمع هرقل صاحب الروم جموعه للمسلمين ردوا على أهل حمص من الروم ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم, والدفع عنكم فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغش, ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوارة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا إن غلب وجهد.
ويمر عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل. شيخ كبير ضرير البصر, فضرب عضده من خلفه, وقال: من أي أهل الكتاب أنت? فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى? قال: أسأل الجزية والحاج ة والسن. فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء مما في المنزل, ثم أرسل إلى خازن بيت المال. فقال: أنظر هذا وضرباءه, فوالله ما أنصفناه, أن أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين). والفقراء هم المسلمون, وهذا من المساكين من أهل الكتاب, ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.(1/5)
وكتب الأمام الأوزاعي إلى صالح بن علي بن عبد الله بن العباس, لما قتل مقاتلة أهل لبنان, وأجلى بعضهم لما خرجوا على الخليفة: " لقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئا لمن خرج على خروجه, ممن قتلت بعضهم, ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت, فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة, حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم, وحكم الله تعالى أن لا تزر وازرة وزرأخرى, وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به, وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصي ة رسول الله , فإنه قال: " من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه ", ونص القرافي وابن حزم على أن من حق حماية أهل ذمتنا إذا تعرض الحربيون لبلادنا, وقصدوهم في جوارنا أن نموت في الدفاع عنهم, وكل تفريط في ذلك يكون إهمالا لحقوق الذمة. ويقول القرافي: إن من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم, وسد خلة فقرائهم, وإطعام جائعهم, وإلباس عاريهم, ومخاطبتهم بلين القول, واحتمال أذى الجار منهم, مع القدرة على الدفع, رفقا بهم لا خوفا ولا تعظيما, وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم, ودفع من تعرض لإيذائهم, وصون أموالهم, وعيالهم, وأعراضهم, وجميع حقوقهم, ومصالحهم, وأن يفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله.
ولما تغلب المسلمون على التتر في الشام خاطب ابن تيمية قطلوا شاه في إطلاق الأسرى, فسمح له بالمسلمين وأبى ان يسمح له بأهل الذمة, فقال له شيخ الإسلام: لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا من أهل الملة, ولا من أهل الذمة. فأطلقهم له.(1/6)
ولا شك أن حسن الطباع, وروح التسامح, ونبل الأخلاق التي تحلى بها المسلمون في ريادتهم للحضارة الدينية كانت العون الأكبر على سمو الحضارة الإسلامية في كل البلاد التي فتحها المسلمون وعاش الناس حياتهم, سعادة وهناء. ففي الأندلس يقول المستشرق استانلي لين بول: لم تنعم الأندلس طوال تاريخها بحكم رحيم, عادل, كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب".
ويقول غوستاف لوبون: "كان العرب يفوقون النصارى كثيرا في الأخلاق والعلوم والصناعات, وكان من طبائع العرب الكرم, والإخلاص, والرحمة, مما لا نراه في غيرهم, وكان من طبائعهم النبل, والوقار والعزة مما كان يؤدي الإفراط فيه إلى المبارزة والشحناء.
ولم تكن أخلاق المسلمين الحضارية فترة عارضة, ولا حالة فردية بل كانت سيرة أصيلة عامة في عهد الخلافة الإسلامية, وما شذ عنها فحالات نادرة لا يقاس, ولا يحكم بناء عليها, وفي هذا يقول ول ديوراند. إن قيام الحضارة الإسلامية واضمحلالها لمن الظواهر الكبرى في التاريخ. لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700 إلى عام 1200 يتزعم العالم في القوة, والنظام, وبسطة الملك, وجميل الطباع والأخلاق, وفي ارتفاع مستوى الحياة, وفي التشريع الإنساني الرحيم, والتسامح الديني, والآداب والبحث العلمي, والعلوم, والطب, والفلسفة, وفي العمارة وأسلم مكانته الأولى في القرن الثاني عشر إلى الكنائس الكبرى الأوروبية.
وإن تاريخنا الذي اطلع عليه غيرنا, وكتبوا جزءا كبيرا منه, وهم شواهد على الحضارات, وأقرب الحضارة عهدا موثقا, وتاريخا مشاهدا مدونا, هو تاريخ الحضارة الإسلامية. وربما كانت تقارير أهل الحضارة الأوروبية من العلماء المحايدين علميا, الذين لم تستول عليهم العصبيات أقدر الناس على تقديم الصورة الصحيحة لتاريخ حضارة الإسلام. ومن خلال تقاريرهم وتحليلاتهم نستل الحقائق ونقرر الأصول التاريخية لحضارة الإسلام في مبادئها وتطبيقاتها الفريدة في التاريخ.(1/7)
وإن من أبرز سمات حضارتنا إنسانيتها وعدلها ومساواتها بين الناس, وحماية حرياتهم, وهذه سمات لم تملكها حضارة سلفت بل لم تتحقق في حضارة اليوم على إطلاقها, وشابها من الكدر ما لا يخفى على متابع ومعايش لأحداث الدول وعلاقاتها.
وسنعرض فيما يلي مواضع مختصرة غرضها التدليل والإشارة لا التفصيل والشرح مع الاعتماد في ذلك على أقوال غير المسلمين من علماء الغرب المصنفين منهم لحضارة الإسلام حضارة العقل والعلم والإنسانية.
التسامح مع الطوائف وخاصة المسيحيين واليهود
يقول ول ديورانت: ولقد كان أهل الذمة المسيحيون, والزردشتيون, واليهود, والصابئون, يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام. فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم, واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم.
ويقول الأستاذ برنارد لويس: ولقد نجح الإسلام, حيث فشلت المسيحية في مزج الإيمان العميق بالتسامح الديني, الذي لم يشمل فقط غير المسلمين من الأديان الأخرى بل شمل هذا التسامح حتى الهراطقة والكفار.
التسامح في حرية العبادة:
لقد كان أبرز صفات المسلمين فاتحين وشعوبا ترك الطوائف وما يدينون. بل حمايتهم أفرادا ومعابد, وهذا ما لا تطيقه طائفة تجاه أخرى سوى الإسلام, وقد كان ذلك من أوثق وأقوى لبنات الحضارة الإسلامية. وحضارة تحترم العبادة, تحترم عقل الإنسان وفكره وعقيدته.(1/8)
ففي بناء الكنائس يقول آدم متز: لم تكن الدولة الساسانية من قبل تسير على خطة ثابتة في ذلك, فكانت تسمح ببنائها أحيانا, على حين أن القانون الروماني في العهد الأخير كان يحرم على اليهود أن ينشئوا كنائس جديدة لهم, ولا يسمح لهم إلا بإصلاح ما تهدم منها. أما في الإسلام فنجد سياسة الدولة تجمع في أوقات متتابعة بين تسامح الفرس وتعصب الرومان, فكان يسمح للنصارى أحيانا ببناء كنائس جديدة, وأحيانا كانوا يمنعون حتى من إصلاح الكنائس القديمة; ففيما بين عامي 169, 171 هـ 785 و 787 م هدم على بن سليمان والي مصر من قبل الرشيد الكنائس المحدثة بمصر, وبذل له خمسون ألف دينار ليترك الهدم, فامتنع; ثم جاء بعده وال آخر, فأذن للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها على بن سليمان, فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة, وقالا: هو من عمارة البلاد, واحتجا بأن عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين. وفي عام 300 هـ . 913 م ثار المسلمون فهدموا كنيسة بناها النصارى في تنيس, فأعان السلطان النصارى حتى بنوا الكنيسة. وفي سنة 326 هـ . 938م انهدمت قطعة من كنيسة أبي شنودة بمصر, فبذل النصارى للإخشيد مالا ليطلق عمارتها, فقال: خذوا فتوى الفقهاء; فأما ابن الحداد فأفتى بألا تعمر, وأفتى بذلك أصحاب مالك, وأفتى محمد بن علي بأن لهم أن يرمموها ويعمروها, وفي سنة 200 هـ . 815 م أراد الخليفة المأمون أن يصدر كتابا لأهل الذمة يضمن لهم حرية الاعتقاد وحرية تدبير كنائسهم, بحيث يكون لكل فريق منهم مهما كانت عقيدتهم, ولو كانوا عشرة أنفس, أن يختاروا بطريقهم, ويعترف له بذلك, ولكن رؤساء الكنائس هاجوا وأحدثوا شغبا, فعدل المأمون عن إصدار الكتاب.
وقد سمح للأقباط بأن يستمروا على اختيار بطريركهم, ولم يمنع النصارى من إنشاء الكنائس في المدينة الإسلامية التي أسسها.(1/9)
ولم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة, بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم ويأمر بضيافتهم, وفي حالة انقطاع المطر كانت الحكومة تأمر بعمل مواكب " يسير فيها النصارى, وعلى رأسهم الأسقف, واليهود ومعهم النافخون في الأبواق "; وكذلك ازدهرت الأديرة في هدوء.
ولم يكن عمرو بن العاص في مصر أقل سخاء من عمرابن الخطاب في القدس حين عامل النصارى برفق وإنصاف, فهو قد شمل الديانة النصرانية بعطفه وحمايته بل إن من مظاهر التسامح الديني أن كانت المساجد تجاور الكنائس في ظل حضارتنا الخالدة, وكان رجال الدين في الكنائس يعطون السلطة التامة على رعايتهم في كل شؤونهم الدينية والكنسية, لا تتدخل الدولة في ذلك, بل إن الدولة كانت تتدخل في حل المشاكل الخلافية بين مذاهبهم وتنصف بعضهم من بعض, فقد كان الملكانيون يضطهدون أقباط مصر في عهد الروم ويسلبون كنائسهم, حتى إذا فتحت مصر رد المسلمون إلى الأقباط كنائسهم وأنصفوهم, وتطاول الأقباط بعد ذلك الملكانيين انتقاما مما فعلوه بهم قبل الفتح العربي, فشكوا ذلك إلى هارون الرشيد فأمر باسترداد الكنائس التي استولى عليها القبط بمصر وردها إلى الملكانيين بعد أن راجعه في ذلك بطريرك الملكانيين.
وقد بلغ حلم عرب إسبانية إزاء النصارى مبلغا كانوا يسمحون به لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية, كمؤتمر أشبيلية النصراني الذي عقد في سنة 782 م ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد في سنة 852 م. وتعد بيع النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم.
الخليفة يعتمد اختيار رؤساء النصارى واليهود :(1/10)
ولقد بلغ شأو التسامح وهو في الوقت ذاته دليل قوة, وسيطرة وعدل أن رؤساء الديانات من أهل الكتاب يعينهم الخليفة أو أمير المؤمنين, ولم يكن هذا الاعتماد, تعيينا دون رأيهم أو جبرا عنهم. بل كان يتم بعد اختيارهم لمن يرغبونه رئيسا ومرجعا دينيا لهم. إنها قمة التسامح. يقول: آدم متز فكان الجاثليق النسطوري, رئيس المسيحيين الشرقيين, بعد أن انتقل مركز الدولة الإسلامية إلى الشرق, وهو الرئيس الأكبر للنصرانية, وكانت تنتخبه الكنيسة ويصادق الخليفة على انتخابه, ويكتب له عهدا كما يكتب لكبار العمال والمتصرفين, وقد ورد في نسخة عهد الجاثليق عام 533 هـ .1139 م " ولما أنهيت حالك إلى أمير المؤمنين, وأنك أمثل أهل ملتك طريقة, وأقربهم إلى الصلاح مذهبا..وحضر جماعة من النصارى الذين يرجع إليهم في استعلام سيرة أمثالك...فاتفقوا باجتماع من آرائهم وأهوائهم على اختيارك لرياستهم ومراعاة شؤونهم, وتدبير وقوفهم, والتسوية في عدل الوساطة بينهم, قويهم وضعيفهم, وسألوا أيضا نصبك عليهم بالإذن الإمامي الأشرف لا زالت أوامره معضودة بالتوفيق بترتيبك جاثلقيا لنسطوري النصارى بمدينة السلام, ومن تضمنته ديار الإسلام, وزعيما لهم, ومن عداهم من الروم, واليعاقبة, والملكية في جميع البلاد, وكل حاضر في هذه الطوائف وباد وانفرادك عن كافة أهل ملتك بتقمص أهبة الجثلقة المتعارفة في أماكن صلواتكم, ومجامع عباداتكم غير مشارك في هذا لإنسان, ولا مفسح في التحلي به لمطران أو أسقف أو شماس حطا لهم عن رتبتك ووقوفا بهم دون محلك; وإن ولج أحد في باب المجادلة...وأبى النزول على حكمك..كانت العقوبة به حائقة حتى تعتدل قناته...وأمر بحملك على مقتضى الأمثلة الإمامية في حق من تقدمك من الجثالقة...والحياطة لك ولأهل ملتك في الأنفس, والأموال, والحراسة للكافة بصلاح الأحوال واتباع العادة المستمرة في مواراة أمواتكم وحماية بيعكم ودياراتكم...(1/11)
وأن يقتصر في استيفاء الجزية على تناولها من العقلاء والواجدين من رجالكم, دون النساء ومن لم يبلغ الحلم من أطفالكم, ويكون استيفاؤها نوبة واحدة في كل سنة من غيرعدول في قبضها عن قبضة الشرع المستحسنة, وفسح في أن تتوسط طوائف النصارى في محاكماتها فتأخذ النصف من القوي للمستضعف ".
وكذلك كان يكتب لبطريق اليعاقبة عهد, فكان لا بد له أن يذهب إلى قصر الخلافة عند تنصيب كل خليفة جديد. ولكن الخليفة منعه حوالي عام 300 هـ 913 م من أن يتخذ بغداد مقرا له. وكان للنصارى النوبيون دون سائر النصارى مركز خاص ممتاز في المملكة الإسلامية, فكانوا يدفعون الضرائب لملكهم, وكان للضرائب عامل من قبله في بلاد الإسلام, وقد حدث أن واحدا منهم اعتنق الإسلام, وكان ابن ملك النوبة ببغداد زائرا, فأمر باعتقاله وغله بالقيود.
ونجد في القاهرة رئيسا آخر يلقب سر هساريم (أي أمير الأمراء), وكان يعين أحبار اليهود في الشام ومصر, أي في حدود مملكة الفاطميين.
وفي أثناء القرن الرابع الهجري اعترف للمجوس بأنهم أهل ذمة, إلى جانب اليهود والنصارى; وكان لهم, كاليهود والنصارى. رئيس يمثلهم في قصر الخلافة وعند الحكومة.
ومهما يكن من شيء فقد تمتع أهل الذمة, وهم النصارى واليهود, بالحرية الدينية. فقد تركهم العرب يدينون بما رضوا لأنفسهم من دين على أن يدفعوا الجزية للمسلمين. ففي فارس نجد سكان المدن, وخاصة الصناع وأصحاب الحرف يرحبون بالدين الإسلامي. وقد عامل العرب من ظل من الفرس على مذهبه القديم معاملة حسنة, ولم يتعرضوا لأماكن عبادتهم.(1/12)
وكذلك كانت الحال في بلاد الشام ومصر: فقد خير العرب أهل الذمة بين الإسلام والبقاء على دينهم. فمن اسلم منهم تمتع بما يتمتع به المسلمون, ومن بقى على دينه فرضت عليه الجزية كفاء حمايته, وتأمينه على نفسه وعلى أولاده وأمواله. كما أحسن العرب معاملة أهل الذمة في بلاد الأندلس, فسمحوا لليهود الذين ذاقوا كثيرا من ألوان العسف في عهد القوط بمزاولة التجارة, وأمنوهم على أنفسهم, وأولادهم, وأموالهم, وأحسنوا معاملة المسيحيين الذين تمسكوا بدينهم. وكان لسياسة التسامح الديني التي أظهرها العرب نحو أهالي هذه البلاد وغيرها أثر كبير في تحول كثير منهم إلى الإسلام.
أما في مصر فإن العرب لما فتحوا هذه البلاد أصبح فيها ثلاثة عناصر من السكان القبط وهم أهل البلاد الأصليون, وكانوا يكونون السواد الأعظم من السكان, والروم, وهم بقايا الحكم الروماني الذي قضى عليه العرب, وكان الروم واليهود يكونون أقلية ضئيلة من السكان. أما العنصر الثالث وهو العنصر العربي, فكان يتألف بعد الفتح من الجند العربي ومن القبائل العربية التي سحرتها هذه البلاد.
التحاكم بما يدينون :
إن من أخص عناصر السيادة أن يتحاكم الناس في الدولة الواحدة إلى قانون واحد. ويتغاضى المسلمون عن ذلك لخصوصية الأديان في حرية التحاكم, فإن رفعوا أمرهم إلينا حكمنا بينهم بأحكام شريعة الإسلام, وإلا فإنهم يتركون وما يدينون.(1/13)
يقول آدم متز كان الشرع الإسلامي خاصا بالمسلمين, فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى, وبين محاكمهم الخاصة, والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم: أنها كانت محاكم كنسية, وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضا; وقد كتبوا كثيرا من كتب القانون. ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج, بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث, وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به. على أنه كان يجوز للذمي أن يلجأ للمحاكم الإسلامية; ولم تكن الكنائس بطبيعة الحال تنظر إلى ذلك بعين الرضا, ولذلك ألف الجاثليق تيموتيوس (Timotheus) حوالي عام 200 هـ . 800 م كتابا في الأحكام القضائية المسيحية "لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجأون إلى المحاكم غير النصرانية بدعوى نقصان القوانين المسيحية" وفي الفصلين الثاني عشر والثالث عشر من هذا الكتاب فرض تيموتيوس علي من يذهب طائعا إلى المحاكم أن يتوب ويتصدق, ويقوم على المسح والرماد.
كما ترك لنصارى صقلية كل ما لا يمس النظام العام, فكان للنصارى قوانينهم المدنية, والدينية, وحكام منهم للفصل في خصوماتهم, وجباية الجزية التي فرضها, العرب عليهم, وهي 48 دينارا عن كل غني و24 دينارا عن كل موسر و12 دينارا عن كل من كان يكسب عيشه بنفسه. وكانت هذه الجزية, التي هي دون ما كان يأخذه الروم, لا يؤخذ مثلها من رجل الدين والنساء والأولاد.
وقد جعل العرب كل ما له علاقة بالحقوق المدنية كالتملك والإرث وما إليها ملائما لعادات صقلية. فلم يرغب النورمان عنه حين استولوا عليها.
وقد سمح العرب, في أيام سلطانهم, للنصارى بالمحافظة على قوانينهم وعاداتهم وحريتهم الدينية.(1/14)
وكان لهم على الحكومة أن تحميهم, ولم تكن تقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية, ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم, وقضاتهم وقوانينهم, وقد أنشأ للمسلمين محاكم دائمة على درجتين تاركا للمحاكم القبطية أمر الفصل بين الأقباط, وقد احترم نظم المصريين وعاداتهم ومعتقداتهم.
وقد أصدر الخليفة المقتدر في سنة 311 هـ . 923 م كتابا في المواريث أمر فيه بأن " ترد تركة من مات من أهل الذمة, ولم يخلف وارثا, على أهل ملته, على حين أن تركة المسلم كانت ترد إلى بيت المال.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري صدر منشور كتب للصابئين عن أمير المؤمنين, أمر فيه, إلى جانب صيانتهم وحراستهم والذب عن حريمهم ورفع الظلم عنهم ونحو ذلك, بالتخلية بينهم وبين مواريثهم, وترك مداخلتهم ومشاركتهم فيها, لأن أمير المؤمنين يرى في مواريث الصابئين وغيرهم من المخالفين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ يقول في الأثر الثابت عنه: " لا يتوارث أهل ملتين ".
وقد صدر حوالي منتصف القرن الرابع الهجري منشور "كتب للصابئين المقيمين بحر ان والرقة وديار مضر أمر فيه الخليفة بصيانتهم وحراستهم.
المشاركة في الأعياد والصلوات :
وقد يبلغ التسامح حد المشاركة أو التعاطف في الأعياد الدينية ودخول المصلى فهذا وإن كان يحتمل الخلاف الفقهي, لكن بغض النظر عن هذا فإنه قد حدث فعلا, وسجل تاريخيا.
فمن مظاهر التسامح الديني في حضارتنا الاشتراك بالأعياد الدينية بمباهجها وزينتها. فمنذ العهد الأموي كانت للنصارى احتفالاتهم العامة في الشوارع تتقدمها الصلبان ورجال الدين بألبستهم الكهنوتية. وقد دخل البطريرك ميخائيل مدينة الإسكندرية في احتفال رائع وبين يديه الشموع والصلبان والأناجيل, والكهنة يصيحون: قد أرسل الرب إلينا الراعي المأمون الذي هو مرقص الجديد. وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك.(1/15)
وجرت العادة أيام الرشيد بأن يخرج النصارى في موكب كبير وبين أيديهم الصليب وكان ذلك في يوم عيد الفصح.
ويذكر لنا المقدسي في أحسن التقاسيم أن الأسواق في شيراز كانت تزين في أعياد النصارى, وأن المصريين كانوا يحتفلون ببدء زيادة النيل في وقت عيد الصليب.
ومن مظاهر التسامح الديني في حضارتنا أن كثيرا من الكنائس كان يصلي فيها المسلمون والمسيحيون في وقت واحد إبان الفتح الإسلامي ! فقد سمح النبي صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران أن يصلوا في مسجده بجانب المسلمين وهم يصلون صلاتهم. وفي كنيسة يوحنا الكبرى في دمشق التي أصبحت الجامع الأموي فيما بعد. رضي المسيحيون حين الفتح أن يأخذ المسلمون نصفها, ورضي المسلمون أن يصلوا فيها صلاتهم, فكنت ترى في وقت واحد أبناء الديانتين يصلون متجاورين. هؤلاء يتجهون إلى القبلة, وأولئك يتجهون إلى الشرق. وإنه لمظهر عجيب فريد في التاريخ له مغزى عميق في الدلالة على التسامح الديني الذي بلغته حضارتنا.
حرية العمل مكفولة للأكفاء :
ومن مظاهر التسامح الديني أن كانت الوظائف تعطى للمستحق الكفء, بقطع النظر عن عقيدته ومذهبه. وبذلك كان الأطباء المسيحيون في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء. وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمنا طويلا. كان ابن أثال الطبيب النصراني طبيب معاوية الخاص. وكان "سرجون" كاتبه. وقد عين مروان "اثناسيوس" مع آخر اسمه إسحاق في بعض مناصب الحكومة في مصر, ثم بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة, وكان عظيم الثراء واسع الجاه, حتى ملك أربعة آلاف عبد وكثيرا من الدور والقرى والبساتين والذهب والفضة, وقد شيد كنيسة في الرها من إيجار أربعمائة حانوت كان يملكها فيها, وبلغ من شهرته أن وكل إليه عبد الملك ابن مروان تعليم أخيه الصغير عبد العزيز الذي أصبح واليا على مصر فيما بعد وهو والد عمر بن عبد العزيز.(1/16)
ومن أشهر الأطباء الذين كانت لهم الحظوة عند الخلفاء جرجيس ابن بختيشوع, وكان مقربا من الخليفة المنصور واسع الحظوة عنده, يحرص على راحته وسروره, حتى كان لجرجيس زوجة عجوز, فأرسل إليه المنصور ثلاث جوار حسان فرفض قبولهن قائلا: إن ديني لا يسمح لي بأن أتزوج غير زوجتي ما دامت في الحياة, فسر منه المنصور وازداد له إكراما , وخرج إليه ما شيا يسأل عن حاله, فاستأذنه الطبيب في رجوعه إلى بلده ليدفن مع آبائه. فعرض عليه المنصور أن يسلم ليدخل الجنة فأبى وقال: رضيت أن أكون مع آبائي في جنة أو نار, فضحك المنصور وأمر بتجهيزه ووصله بعشرة آلاف دينار.
وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيب المعتصم. ولما مات جزع عليه المعتصم جزعا شديدا وأمر بأن يدفن بالبخور والشموع على طريقة ديانته.
وكان بخنيشوع بن جبرائيل طبيب المتوكل وصاحب الحظوة لديه, حتى أنه كان يضاهي الخليفة في اللباس, وحسن الحال, وكثرة المال, وكمال المروءة.
ولم يكن في التشيع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال; وكان قدمهم راسخا في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة, فكانوا صيارفة وتجارا وأصحاب ضيع وأطباء; بل إن أهل الذمة تظلموا أنفسهم بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في الشام مثلا يهودا, على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى, وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة, وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده. وكان أصغر دافعي الضرائب هم اليهود الخياطون والصباغون والأساكفة والخرازون ومن إليهم.
وكانوا يتقلدون مناصب الدولة كالمسلمين, وقد كانت إسبانية العربية البلد الأوربي الوحيد الذي كان اليهود يتمتعون فيه بحماية الدولة ورعايتها, وقد زاد عدد اليهود في إسبانية العربية كثيرا.(1/17)
وكانت طوائف الموظفين الرسميين في البلاد الإسلامية تضم مئات من المسيحيين, وقد بلغ عدد الذين رقوا منهم إلى المناصب العليا في الدولة من الكثرة درجة أثارت شكوى المسلمين في بعض العهود.
الأثر الإصلاحي للحضارة الإسلامية:
لولا هذا الخلق السامي الذي رسخته الحضارة الإسلامية في تعاملها مع الشعوب غير الإسلامية, لما ساد الإسلام قرونا متطاولة ولما دخلت تلك الشعوب في الإسلام أفواجا مؤمنة, ولما انقلبت خصومتها وعداؤها إلى حب وتمسك بالإسلام, وفدائه بأموالهم, وأنفسه م هكذا كان الحال مع المغول والبربر وغيرهم, ورغم ما حدث من معارك ضارية في فتوح بلاد الشام ودخول المسلمين منتصرين إلا أنه "بقيت الكثرة الغالبة من أهل بلاد الشام مسيحية حتى القرن الثالث الهجري, ويذكر المؤرخون أنه كان في بلاد الشام في عصر المأمون أحد عشر ألف كنيسة, كما كان فيها عدد كبير من هياكل اليهود, ومعابد النار" فلم يستعجل المسلمون إسلام شعوب البلاد المفتوحة, حتى دخلوا في الإسلام طواعية, فحملوا الدين في قلوبهم قبل أن يحملوا السيف دفاعا عنه, بل اتخذوا لغة القرآن العربية لغتهم.(1/18)
ولقد أدرك هذه الثمار بعض المؤرخين الغربيين, ونترك ول ديورانت يصف لنا هذه الحقيقة التاريخية الناصعة فيقول: إن التسامح الديني الذي كان ينتهجه المسلمون الأولون, أو بسبب هذه الخطة, اعتنق الدين الجديد معظم المسيحيين, وجميع الزردشتيين, والوثنيين إلا عددا قليلا جدا منهم, وكثيرون من اليهود في آسيا, ومصر وشمالي أفريقية. فقد كان من مصلحتهم المالية أن يكونوا على دين الطبقة الحاكمة, وكان في وسع أسرى الحرب أن ينجوا من الرق إذا نطقوا بالشهادتين ورضوا بالختان. واتخذ غير المسلمين على مر الزمن اللغة العربية لسانا لهم, ولبسوا الثياب العربية, وبعد ذلك يقول: ثم انتهى الأمر باتباعهم شريعة القرآن واعتناق الإسلام. وحيث عجزت الهلينية عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام, وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها, وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي, في هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد والعبادات الإسلامية, وآمن السكان بالدين الجديد وأخلصوا له, واستمسكوا بأصوله إخلاصا واستمساكا أنساهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى, ولم يكن هذا خاصة بدول وشعوب محددة فيقول: لقد استحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب ف ي البلاد الممتدة من الصين, وأندونيسيا, والهند, إلى فارس, والشام, وجزيرة العرب, ومصر وإلى مراكش, والأندلس; وتملك خيالهم, وسيطر على أخلاقهم, وصاغ حياتهم, وبعث فيهم آمالا تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها, وأوحى إليهم العزة والأنفة, ووحد هذا الدين بينهم, وألف قلوبهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسية.
المبحث الثاني
حضارة العلم والعقل(1/19)
حضارة الإسلام حضارة العلم والعقل, بل حضارته قامت على المزج بينهما, فلم يشهد تاريخه الطويل عداء مع العقل أو العلم, وقد ورث المسلمون حضارتي فارس والروم, فما أحرقوا كراسا واحدا رغم ضخامة الغث في تلك الموروثات, لكنهم احتفوا بعلومهم, واحترموا عقولهم, فترجموا الصالح من كتبهم, واستوعبوا ما فيها, وأثروها بالبحث والدرس والتطوير, فكان انتقال الحضارة الفارسية والرومية إلى الإسلام انتقال احتفاء, واحتضان, وتقدير للعقل والعلم, مع تصفية ونقد علمي رفيع.
ولا يشارك الإسلام في هذا السمو حضارة سلفت أو لحقت, بل التاريخ يفضح تلك الحضارات التي قامت على القوة, والظلم, والهمجية, وإهانة العقل. وما حضارة الغرب اليوم من هذه الهمجية ببعيد, فرغم أنهم بنوا حضارتهم على ما نقلوه, وترجموه من كتب المسلمين في آخر معاقلهم في الأندلس, وإبان الحركة الصليبية إلا أنهم لم يتنزهوا عن الهمجية, فأحرقوا على سبيل المثال في يوم واحد في غرناطة ما يقدر بمليون كتاب, وأحرقوا في بلاد الشام في طرابلس والمعرة, والقدس, وغزة, وعسقلان ما يزيد عن ثلاثة ملايين مجلد.(1/20)
فالإسلام دين العقل حقا , ولا يعني ذلك أن يجعل العقل حاكما, أو محسنا أو مقبحا في أمور الشريعة والعقيدة مستقلا الحكم, لا إنما المراد أن الإسلام لا يصدم العقل فيما ينبغي أن يدركه العقل في أمور المحسوسات وحكم العبادة, أن العقل يتقبل أحكام الشرع, فهي معللة بمصالح العباد. فالشرع حاكم على العقل لا ريب. فهو الذي يحدد له مسائل الغيب والحسن والقبح الشرعيين, فالحسن ما حسنه الشرع, والقبيح ما قبحه الشرع, والعقل يسلم بذلك. فمسائل غيب الآخرة, وعذاب القبر وما إلى ذلك لا شأن للعقل فيها; لأنه لا مدخل له إليها, إلا الوهم, والخيال, وهما ليسا مصدرا للعلم. وكذلك لا شأن للعقل في أمور الدين في المتشابه والمحكم, فالمتشابه يؤمن به ويكل أمره إلى الله. والمحتم محطه التسليم المطلق, وذلك قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب, وأخر متشابهات, فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (آل عمران: 7) وما وراء ذلك فالعقل مطلق النظر, ولذا حث القرآن الكريم العقل على التدبر والاعتبار, وأمره بقياس الأشباه والنظائر. فقال تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار وقد كثرت الآيات المختومة ب أفلا يعقلون وأفلا يتفكرون وأف لايتدبرون و وأفلا يبصرون .
وكان أول توجيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - التعلم قال تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 1ـ5).(1/21)
وأمر الله بطلب العلم فقال "وقل ربي زدني علما"(طه: 114), ونفى المساواة بين العلماء وغيرهم فقال:"أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب"(الزمر:9), وأعلا درجة العلماء فقال:" نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم"(يوسف:76).
وقال تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم"(آل عمران: 18). وقال "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.. ."
وقال "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة".
وقال "إن العلماء ورثة الأنبياء, إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما , إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر".
وقال أيضا "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة, إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له ".
والشواهد من الآيات والأحاديث في الحث على العلم واحترام العلماء كثيرة جدا.(1/22)
وفي كلمة جامعة يقول الشيخ أبو سليمان المنطقي: " إن الشريعة مأخوذة من الله, عز وجل, بوساطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي, وباب المناجاة, وشهادة الآيات, وظهور المعجزات, وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه, والغوص فيه, ولا بد من التسليم المدعو إليه, والمنبه عليه. وهناك يسقط: " لم?" ويبطل: " كيف?" ويزول: " هلا" وتذهب: " لو, وليت" في الريح. ولو كان العقل يكتفي به, لم يكن للوحي فائدة ولا غناء. على أن منازل الناس متفاوتة في العقل, وانصباءهم مختلفة فيه. فلو كنا نستغنى عن الوحي بالعقل. كيف كنا نصنع وليس العقل بأسره لواحد منا? فإنما هو لجميع الناس ولو استقل إنسان واحد بعقله في جميع حالاته, في دينه ودنياه, لاستقل أيضا بقوته في جميع حاجاته, في دينه ودنياه, ولكن وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف, وكان لا يحتاج إلى أحد من نوعه وجنسه. وهذا قول مردود, ورأى مخذول.
المبحث الثالث
نمو العلم في إطار الدين
لا تبنى حضارة تعمر الأرض إلا على دين, ولا تقوم الحضارة إلا بالعلم وقد جمعت الحضارة الإسلامية, بين العلم والدين, وكما قدرت للعلم مكانته فقد قدرت للعلماء شأنهم ومنزلتهم.
ولسنا بصدد ذكر الشواهد والأدلة على ذلك فقد امتلأت الكتب في الدلالة عليه, والاستشهاد من الكتاب والسنة ولكن ما نحتاج إلى تقريره هو الواقع الحضاري للعلوم الإسلامية وكيف كان الحوار, والترابط, والتلاقي بين العلم والإيمان, بين العلوم العلمية والنقلية, كيف نما العلم في حماية الدين, وخير شاهد على ذلك ما تناقلته كتب التاريخ, وبخاصة كتب المنصفين من المستشرقين عن واقع الحضارة الإسلامية يوم أن كانت قيادة الحضارة إيمانية دينية.(1/23)
ونذكر ذلك لأن التفكير بمستقبل للحضارة ينبغي أن يكون بمنظار الماضي القريب, منظار واقع الحضارة الإسلامية, واقع جربه الناس, وعاشوا في ظلاله, وهم اليوم يعيشون في ظلال حضارة العلم المجرد أو المعادي للدين. كيف كانت حياة تآلف العلم والدين, وما أثمرته من سعادة وهناء, وكيف أثمرت حضارة العلم, شقاء وتعاسة وقلقا.
يقول المستشرق غوستاف لوبون مبينا كيف انتقلت الحضارة الإسلامية إلى أحضان الغرب, مفصولة عن الدين. ونعلم من مقاله في الوقت ذاته مستقبل الحضارة الإسلامية بين الدين والعلم يقول: إن تأثير العرب في الغرب عظيم كتأثيرهم في الشرق, وإن أوربة مدينة للعرب بحضارتها. حقا, إن تأثير العرب في الغرب لم يكن أقل منه في الشرق, ولكن بمعنى آخر, فقد كان تأثير العرب في الشرق باديا في أمر الدين واللغة والفنون على الخصوص, ولم يكن لهم أي تأثير ديني في الغرب, وكان تأثيرهم اللغوي والفني في الغرب ضعيفا, وكان تأثيرهم العلمي والأدبي والخلقي فيه عظيما.
ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصور حال أوربة حينما أدخل العرب الحضارة إليها.
مضت مدة طويلة قبل شعور أوربة بهمجيتها, ولم يبد ميلها إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر من الميلاد, فلما ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل عنهم ولوا وجوههم شطر العرب.(1/24)
وأسلوب انتقال الحضارات يكاد يكون واحدا في بعض القضايا, وخاصة نقل العلوم, والمعارف, فمثلما نقل العرب حضارات اليونان عبر الترجمات حين دعا خالد بن يزيد بن معاوية جماعة من اليونانيين المقيمين في مصر, وطلب إليهم أن ينقلوا له كثيرا من الكتب اليونانية والقبطية التي تناولت البحث في صناعة الكيمياء, والطب وغيرها, ثم عر بت الدواوين المكتوبة بالفارسية في العراق واليونانية في مصر والشام إلى العربية في عهد الوليد بن عبد الملك. كذلك إنما كان الانتقال الفعلي للحضارة الإسلامية إلى أوروبا بواسطة الترجمات ففي سنة 1130 م أنشيء في طليطلة مكتب للترجمة تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون, فصار هذا المكتب ينقل إلى اللغة اللاتينية أهم كتب العرب.
وقد كللت أعمال ذلك المكتب بالنجاح فبدا للغرب عالم جديد, ولم يتوان الغرب في أمر تلك الترجمة في القرن الثاني عشر, والقرن الثالث عشر, والقرن الرابع عشر, والقرن الخامس عشر من الميلاد, ولم يقتصر في تلك القرون على ترجمة مؤلفات علماء العرب كالرازي, وأبي القاسم وابن سينا, وابن رشد إلخ وحدها إلى اللغة اللاتينية, بل نقلت إليها كتب علماء اليونان من ترجمتها العربية ككتب جالينوس, وبقراط, وأفلاطون, وأرسطو وأقليدس, وأخميدس, وبطليموس. وقد روى الدكتور لوكلير في كتابه الذي سماه " تاريخ الطب العربي " أن عدد ما ترجم من كتب العرب إلى اللغة اللاتينية يزيد عن ثلاثمائة كتاب, ولم تعرف القرون الوسطى كتب قدماء اليونان في الحقيقة, إلا من ترجماتها العربية, وبفضل هذه الترجمات أطلعنا على محتويات كتب اليونان التي ضاع أصلها, ككتاب أبولونيوس في المخروطات, وكتب جالينوس في الأمراض السارية وكتاب أرسطو في الحجارة إلخ.
وقد كانت ترجمات كتب العرب العلمية المصدر الوحيد للتدريس في جامعات أوربة نحو ستة قرون.
البحث العلمي :(1/25)
البحث العلمي أساس من أسس النهضة, ولا حضارة ترتجى للأمة الإسلامية إن هي خلت من الاهتمام بالبحث العلمي, وهو بضاعة المسلمين التي احتضنتها أوربا إبان نهضتها الحضارية, والمسلمون هم أرباب البحث العلمي, وهم من وضع أسسه, وبناءه, وهم من مهد له أدواته, وهم أول من عني بالتفرغ العلمي, ومن ذلك أن الخليفة العباسي المأمون أمر القراء (يحيى بن زياد الديلمي ت 207 هـ / 822 م), وهو إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والآداب, " أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب, وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار, ووكل به جواري وخدما يقمن بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه, ولا تنشرف نفسه إلى شيء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة, وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمثقفين, فكان يملي والوراقون يكتبون حتى صنف الحدود في سنتين.
ولقد عني المأمون البطائحي, الوزير الفاطمي, عناية خاصة بعلوم الطب, فعندما وصل الطبيب أبو جعفر يوسف بن حسداي الأندلسي نزل ضيفا على الدولة, وجعل له يومين في الجمعة يشتغل فيهما ويتوافر في بقية الأسبوع على التصنيف.
ومن الملاحظ أنه كان يقدم للعالم, خلال تفرغه للبحث العلمي, حاجته من ورق وأدوات كتابة, ونساخ, وخدم, وكل ما يوف له من وسائل الراحة لممارسة عمله في التصنيف والبحث.
وقضى ياقوت الجغرافي ثلاث سنوات في مكتبتي مرور وخوارزم يجمع معلومات لقاموسه الجغرافي.
وقد كانت المكتبات الشرعية والعلمية تزود العلماء بخبرة من سبقهم, ولم تكن المكتبات تعرف الفصل بين كتب الشريعة, وكتب سائر العلوم, وكانت المكتبات متعددة الأغراض البحثية, لا تقتصر على خزائن الكتب فحسب, بل تخدم العلماء, وطلبة العلم وهذا بخاصة في المكتبات العامة, فقد كانت على نوعين: عامة وخاصة:.
أما العامة: فقد كن ينشئها الخلفاء, والأمراء, والعلماء, والأغنياء, كانت تشيد لها أبنية خاصة, وأحيانا كانت تلحق بالمساجد والمدارس الكبرى.(1/26)
أما الأبنية الخاصة, فقد كانت تشتمل على حجرات متعددة تربط بينها أروقة فسيحة, وكانت الكتب تشتمل على رفوف مثبتة بالجدران تخصص كل غرفة لفرع من فروع العلم, فلكتب الفقه غرفة, ولكتب الطب غرفة, كالذي قيل في مكتبة على بن يحيى بن المنجم, فقد كان له قصر عظيم في قرية قريبة من بغداد, وفيه مكتبة عظيمة كان يسميها خزانة الحكمة, يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم. والكتب مبذولة في ذلك لهم, والأرزاق مغدقة عليهم, وكل ذلك من مال علي بن يحيى نفسه. بل هنالك ما هو أطرف من ذلك مما لا نعلم له مثيلا اليوم في أرقى عواصم الحضارة الغربية. فقد كان في الموصل دار أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي, وسماها دار العلم. وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم, وقفا على كل طالب علم, لا يمنع أحد من دخولها, وإذا جاءها غريب يطلب الأدب, وكان معسرا أعطاه ورقا, وورقا, (أي كتبا ونقودا ), كانت تفتح في كل يوم... فهل سمعتم حتى الآن بمكتبة في لندن أو واشنطن أو عاصمة من عواصم العالم الكبرى اليوم تمنح الأدب والأموال لطلبة العلم.?
وكان للمكتبات العامة موظفون يرأسهم خازن المكتبة. وهو دائما من أشهر علماء عصره, ومناولون يناولون الكتب للمطالعين, ومترجمون ينقلون الكتب من غير العربية إلى العربية, ونساخ يكتبون الكتب بخطوطهم الجميلة, ويجلدون الكتب لتحفظ من التمزق والضياع, هذا عدا عن الخدم وغيرهم ممن تقتضيهم حاجة المكتبات.
وكان لكل مكتبة صغيرة أو كبيرة فهارس يرجع إليها لسهولة استعمال الكتب, وهي مبوبة بحسب أبواب العلم, وبجانب هذا كانت توضع قائمة على كل دولاب تحتوي أسماء الكتب الموجود في الدولاب. وكان من المعروف في نظام المكتبات أن الاستعارة الخارجية مسموحة في أغلبها لقاء ضمان عن الكتاب من عامة الناس, أما العلماء وذوو الفضل فلا يؤخذ منهم ضمان.(1/27)
أما الموارد المالية التي كانت تقوم بنفقات المكتبات, فمنها ما كان من الأوقاف التي تنشأ من أجلها خاصة, وهذه حال أكثر المكتبات العامة, ومنها ما كان من عطايا الأمراء, والأغنياء, والعلماء الذين يؤسسون تلك المكتبات فقد قالوا إنه كان عطاء محمد بن عبد الملك الزيات للنقلة والنساخ في مكتبته ألفي دينار كل شهر, وكان المأمون يعطي حنين بن إسحاق من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلا بمثل.
ويقول ول ديورانت: إن الكتب التي كانت تحتوي عليها مكتبة الري العامة مسجلة في عشرة أجزاء من الفهارس, ولما دمر المغول بغداد كان فيها ست وثلاثون مكتبة عامة, وقد ذكر ول ديورانت: إنه كان في مطلع القرن العاشر في بغداد وحدها أكثر من مائة بائع للكتب.
ويذكر المستشرق الهولندي (R.Dozy) دوزي بأنه في الوقت الذي لم يكن يوجد أمي في الأندلس, كان لا يعرف القراءة والكتابة في أوربا معرفة أولية إلا الطبقة العليا من القسس.
وفي عاصمة الجناح الغربي للعالم الإسلامي, وهي قرطبة, التي سمتها الشاعرة الألمانية هيروسويثا (Hroswitha) ب"جوهرة العالم " كانت مكتبتها الرئيسية التي رعاها أهل الأندلس, علماء وأمراء, وأولاها الخليفة العالم الحكم الثاني المستنصر بالله (350 ـ 336 هـ = 961 ـ 976 م), تضم أروقتها زهاء نصف مليون كتاب. في وقت كانت تقوم فيه اليد مكان الطباعة. حتى ليذكر أبو محمد علي بن حزم الأندلسي (456هـ = 1063م), في كتابه جمهرة أنساب العرب, فهارس تلك المكتبة, حين الحديث عن الخليفة الحكم, المستنصر بالله (366 هـ = 976 م). الذي وصفه بالرفق بالرعية وحبه للعلم, بقوله: "إن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة, في كل فهرسة خمسون ورقة, ليس فيه إلا ذكر أسماء الدواوين فقط ".(1/28)
في حين أنه بعد هذا التاريخ بأربعة قرون, أي في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي), كانت أغنى مكتبة في أوبا مكتبة كنيسة كانتربيري (Canterbury) في مقاطعة كنت (kent) جنوب شرقي انجلترا, تضم 1800 مجلد.
كما كانت البلاد الأوربية المجاورة لبلاد الأندلس الإسلامية لا تكاد تعرف شيئا من هذا التحرك الإنساني والتيار العلمي النظيف, الذي ملأ الحياة في مجتمعه بكافة ميادينه بالعلم النافع والمعرفة الفاضلة.
وأما المكتبات الخاصة: فكانت كثيرة. فمكتبة الخلفاء الفاطميين في القاهرة. كانت مكتبة عجيبة بما حوت من نفائس المصاحف والكتب, بلغ مجموع كتبها كما يروي كثير من المؤرخين مليوني كتاب, وإن كان المقريزي يميل إلى أنها مليون وستمائة ألف كتاب.
ومنها مكتبة دار الحكمة بالقاهرة, أنشأها الحاكم بأمر الله, وافتتحت في 10 من جمادي الآخرة 395 هـ , بعد أن فرشت وزخرفت, وعلقت على جميع أبوابها وممراته الستور. وأقيم بها القوامون والمناولون والفراشون, وقد جمع فيها من الكتب ما لم يجتمع لأحد قط من الملوك. حتى كانت تضم أربعين خزانة, احتوت إحدى خزائنها على 18000 كتاب من العلوم القديمة. وكان الدخول إليها مباحا لجميع الناس, فمنهم من يحضر لقراءة الكتب, ومنهم من يحضر للنسخ, ومنهم من يحض للتعلم, وكان فيها كل ما يحتاج إليه الناس من الحبر والأقلام والورق والمحابر.(1/29)
ومنها بيت الحكمة في بغداد, أنشأها هارون الرشيد, وبلغت ذروة مجدها في عصر المأمون. كان ت أشبه بجامعة فيها رجال يتفاوضون, ويطالعون, وينسخون, وكان فيها نساخ ومترجمون يترجمون ما كان يحصل عليه الرشيد والمأمون في فتوحاتهم بأنقرة وعمورية وقبرص وكما يقول ول ديورانت عن بيت هو مجمع علمي, ومرصد فلكي, ومكتبة عامة وقد أنفق, في إنشائه مائتي ألف دينار ويقول ابن خلدون: إن الإسلام مدين لهذا المعهد العلمي باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت بها أرجاؤه ويحدثنا ابن النديم أن المأمون كانت بينه وبين ملك الروم مراسلات, وقد انتصر عليه المأمون في بعض المعارك, فجعل من شروط الصلح أن يسمح ملك الروم بترجمة ما في خزائنه من كتب بواسطة العلماء الذين يرسلهم المأمون, ففعل, وهذا أعظم ما يروى في التاريخ عن حاكم منتصر لا يرى ثمنا للنصر أغلى من كتب العلم ينقلها إلى أبناء أمته وبلاده.
ومنها مكتبة الحكم بالأندلس. كانت غاية في العظمة والاتساع, حتى قيل إنها بلغت أربعمائة ألف مجلد, وكانت لها فهارس غاية في الدقة والنظام, حتى إن الفهرست الخاص بدواوين الشعر الموجودة في تلك المكتبة بلغت أربعة وأربعين جزءا, وكان فيها الحذاق في صناعة النسخ, والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد, واجتمعت بالأندلس في عهده خزائن من الكتب لم تكن لأحد فيه ولا بعده.
ومنها مكتبة بني عمار في طرابلس. كانت آية من الآيات في العظمة والضخامة. كان فيها مائة وثمانون ناسخا ينسخون فيها الكتب, ويتبادلون العمل ليلا ونهارا بحيث لا ينقطع النسخ. وكان بنو عمار يحرصون على أن يزودوها بكل نادر, وكل جديد من الكتب, ووظفوا أخصائيين وتجارا ليجوبوا البلاد ويحرزوا لهم الكتب المفيدة من البلدان النائية, والأقطار الأجنبية. استفاد منها المعرى وذكرها في بعض كتبه, واختلف في مقدار ما كان فيها, وأعدل الأقوال أنها كانت تحوي مليون كتاب.(1/30)
ومن المكتبات الخاصة ما يتحدث التاريخ عنها بإعجاب, وقد كانت في كل بلد في شرق العالم الإسلامي وغربه, وقل أن تجد عالما وله مكتبة كانت تحوي آلافا من الكتب. وقد رفض أحد الأطباء دعوة سلطان بخارى للإقامة ببلاطه; لأنه يحتاج إلى أربعمائه بعير لنقل كتبه, وكان عند الصاحب بن عباد في القرن العاشر كمية من الكتب بقدر ما في دور الكتب الأوربية مجتمعة, ولما مات الواقدي ترك ستمائة صندوق مملوءة بالكتب يحتاج كل صندوق منها رجلين لينقلاه.
ومن عجيب الأمور أن ميدان البحث كان حرا, إلى درجة كبيرة, سواء في ذلك كتب ومصنفات المذاهب المختلفة, والاتجاهات المتباينة, ولم يكن ذلك الخلاف في بطون الكتب فحسب, بل كانت المجالس العلمية تجم ع بين المتخالفين من العلماء, كل يطرح ما عنده فيدور بينهم حوار علمي رفيع.
فكانت الحركة العلمية في العصر العباسي . كما يقول أحمد أمين . نتاج تعاون بين العقول العربية, والتركية, والفارسية, والرومية, والهندية التي "ألف بينها العلم بعدما مزقت بينها العصبيات الجنسية, والمذهبية, فيأخذ اليهودي والنصراني من العالم المسلم, ويأخذ المسلم من العالم اليهودي والنصراني, ويجلس الفارسي, والتركي, والهندي في حلقة العربي, ويتعاون الجميع في بناء الدولة العلمية غير آبهين بما كان من عمل الساسة في تهديم الدولة من ناحيتها السياسية.
ويقول الخطيب البغدادي: فهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول عنه يحيى بن معين: " ما رأيت خيرا منه قط, ما افتخر علينا قط بالعربية ولا ذكرها.(1/31)
ويصور لنا أبو حيان التوحيدي مجالس العلماء وموضوعات أبحاثهم وذلك من خلال كتبه حيث يقول: " كان ههنا من يتفلسف وهو نصراني كابن زرعة (مولده 331 هـ / 942 م) وابن الحمار (ت 331 هـ / 942 م) وأمثالهما, وههنا من يتفلسف وهو يهودي كابن الخير بن يعيش, وههنا من يتفلسف وهو مسلم كأبي سليمان (محمد بن طاهر بن بهرام المنطقي السجستاني توفى في السنوات العشر الأخيرة من القرن الرابع الهجري). والنوشجاني وغيرهم.
ولا شك أن العلوم التي يخوضون فيها ويأخذون عن بعضهم هي علوم الأوائل.
وكانت الحلقات العلمية في حضرة الخلفاء تجمع بين مختلف العلماء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. وكانت للمأمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات والمذاهب كلها, وكان يقول لهم: ابحثوا ما شئتم من العلم من غير أن يستدل كل واحد منكم بكتابه الديني, كيلا تثور بذلك مشاكل طائفية.
ومثل ذلك كانت الحلقات العلمية الشعبية. قال خلف بن المثنى: لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علما ونباهة, وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني), والحميري الشاعر (وهو شيعي), وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق وثني), وسفيان بن مجاشع (وهو خارجي صفري), وبشار بن برد (وهو شعوبي خليع ماجن), وحماد عجرد (وهو زنديق شعوبي), وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي), وابن نظير المتكلم (وهو نصراني). وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي), وابن سنان الحراني الشاعر (وهو صابئي), كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويناقلون الأحبار, ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم.
المبحث الرابع
العلوم في الحضارة الإسلامية(1/32)
تلك الحضارة الإسلامية الدينية, هي التي طورت ما ورثته من علوم وابتكرت علوما, ومخترعات مازالت حضارة اليوم تعترف, وتدين بكثير من العلوم, والابتكارات, والإبداع لها. ولسنا بصدد ذكر تفاصيل ذلك, فهذا ما يحتاج إلى كتاب متخصص في هذا الشأن, ويكفينا هنا الإشارة إلى الإشادات التاريخية بدور المسلمين في العلوم, ونماذج من جهودهم العلمية. وخاصة العلوم الأساسية الأربعة التي كان للمسلمين تميز ملحوظ, وآثار علمية هامة فيها, وهي علم الطب والفلك, والرياضيات, والكيمياء, وإنما تميز المسلمون بهذه العلوم لاعتمادهم على التجربة في تقرير القضايا.
وهذا ما ينبغي أن تعترف مدنية أوربا به للمسلمين اليوم, وهذه العلوم الإسلامية المقررة بالوسائل التجريبية هي التي أخرجت أوربا من جهالاتها وظلمتها, إلى ميادين العلم, والبحث, والنور, يقول غوستاف لوبون: يتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن تكون أوربة مدينة في خروجها من التوحش للعرب الكافرين, ولكن من الصعب أن يحجب مثل هذا العار الوهمي وجه الحقائق ثم يضيف قائلا: يقول الأوروبيون إن بيكن أول من قال بالتجربة والترصد اللذين هما ركن المباحث العلمية الحديثة, ولكن الإنصاف يقضي بأن نعترف بأن الفضل في ذلك للعرب وحدهم, وقد أبدى هذا الرأي, مع ذلك, جميع العلماء الذين درسوا مؤلفات العرب, ولا سيما العالم الشهير همبولد, فبعد أن ذكر أن ما قام على التجربة والترصد هو أفضل ما في العلوم قال: " إن العرب ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء ".
فمنهاج العرب قائم على التجربة والترصد, وأما درس الكتب والاقتصار على تكرار رأي المعلم فمما سارت عليه أوربة في القرون الوسطى, والفرق بين النهجين واضح, ولا يمكن تقدير قيمة العرب العلمية إلا بإظهار هذا الفرق.(1/33)
حقا, لقد اختبر العرب مسائل العلم وجربوها, وقد كانوا أول من أدرك أهمية هذا المنهج في العلم, وقد ظلوا عاملين به وحدهم زمنا طويلا. قال دولامير في كتاب: " تاريخ علم الفلك ": " إذا عددت بين الإغريق راصدين ثلاثة, ثم نظرت إلى العرب أمكنك أن ترى بينهم عددا كبيرا من الرصاد ".
وأما في الكيمياء فلا تجد عالما يونانيا استند في مباحثه إلى التجربة, مع أنك تعد مئات من علماء العرب الذين قامت مباحثهم الكيماوية على التجربة.
الطب والصيدلة :(1/34)
كان المسلمون أول من أنشأ مخازن الأدوية والصيدليات, وهم الذين أنشأوا أول مدرسة للصيدلة, وكتب والرسائل العظيمة في علم الأقرباذين. وكان الأطباء المسلمون عظيمي التحمس في دعوتهم إلى الاستحمام, وخاصة عند الإصابة بالحميات, وإلى استخدام حمام البخار; ولا يكاد الطب الحديث يزيد شيئا على ما وصفوه من العلاج للجدري والحصبة; وقد استخدموا التخدير بالاستنشاق في بعض العمليات الجراحية, واستعانوا بالحشيش وغيره من المخدرات على النوم العميق, ولدينا أسماء أربعة وثلاثين بيمارستانا كانت قائمة في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت; وأنشيء أول بيمارستان معروف لنا في بغ داد في أيام هارون الرشيد, ثم أنشئت فيها خمسة أخرى في القرن العاشر الميلادي, وكان أعظم بيمارستانات بلاد الإسلام على بكرة أبيها البيمارستان الذي أنشيء في دمشق عام 706 وفي عم 978 كان به أربعة وعشرون طبيبا. وكانت البيمارستانات أهم الأماكن التي يدرس فيها الطب ولم يكن القانون يجيزلإنسان أن يمارس هذه الصناعة إلا إذا تقدم إلى امتحان يعقد لهذا الغرض, ونال إجازة من الدولة. كذلك كان الصيادلة, والحلاقون والمجبرون يخضعون لأنظمة تضعها الدولة وللتفتيش على أعمالهم. وقد نظم علي بن عيسى الوزير . الطبيب . هيئة من الأطباء الموظفين يطوفون في مختلف البلاد ليعالجوا المرضى (931), وكان أطباء يذهبون في كل يوم إلى السجون ليعالجوا نزلاءها, وكان المصابون بأمراض عقلية يلقون عناية خاصة ويعالجون علاجا يمتاز بالرحمة والإنسانية.(1/35)
وتنوعت المستشفيات, فهناك مستشفيات للجيش يقوم عليها أطباء مخصصون, عدا أطباء الخليفة والقواد والأمراء, وهناك مستشفيات للمساجين, يطوف عليهم الأطباء في كل يوم فيعالجون مرضاهم بالأدوية اللازمة, ومما كتب به الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان ابن ثابت رئيس أطباء بغداد: " فكرت في أمر من في الحبوس, وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض, فينبغي أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم, وتحمل إليهم الأدوية والأشربة, ويطوفون في سائر الحبوس, ويعالجون المرضى ".
وهناك محطات للإسعاف كانت تقام بالقرب من الجوامع, والأماكن العامة التي يزدحم فيها الجمهور. ويحدثنا المقريزي أن ابن طولون حين بنى جامعه الشهير في مصر عمل في مؤخره ميضأة, وخزانة شراب (أي صيدلية أدوية) وفيها جميع الشرابات والأدوية, وعليها خدم, وفيها طبيب جالس يوم الجمعة, لمعالجة من يصابون بالأمراض من المصلين.(1/36)
وهناك المستشفيات العامة, التي كانت تفتح أبوابها لمعالجة الجمهور, وكانت تقسم إلى قسمين منفصلين بعضها من بعض: قسم للذكور, وقسم للإناث, وكل قسم فيه قاعات متعددة, كل واحدة منها لنوع من الأمراض: فمنها للأمراض الداخلية, ومنها للعيون, ومنها للجراحة, ومنها للكسور والتجبير, ومنها للأمراض العقلية, وقسم الأمراض الداخلية كان مقسما إلى غرف أيضا, فغرف منها للحميات, وغرف للإسهال, وغير ذلك, ولكل قسم أطباء عليهم رئيس, فرئيس للأمراض الباطنية, ورئيس للجراحين والمجبرين, ورئيس للكحالين (أي أطباء العيون), ولكل الأقسام رئيس عام يسمى (ساعور) وهو لقب لرئيس الأطباء في المستشفى, وكان الأطباء يشتغلون بالنوبة, ولكل طبيب وقت معين يلازم فيه قاعاته التي يعالج فيها المرضى. وفي كل مستشفى عدد من الفراشين من الرجال, والنساء, والممرضين والمساعدين, ولهم رواتب معلومة وافرة. وفي كل مستشفى صيدلية كانت تسمى " خزانة الشراب " فيها أنوع الأشربة والمعاجين النفسية, والمربيات الفاخرة, وأصناف الأدوية, والعطورات الفائقة التي لا توجد إلا فيها, وفيها من الآلات الجراحية والأواني الزجاجية والزبادي وغير ذلك, ما لا يوجد إلا في خزائن الملوك.
الرياضيات:
ويضيف غوستاف لبون فيقول: لقد اتسع البحث في الرياضيات, ولا سيما علم الجبر, عند العرب. وقد عزي إليهم اكتشاف علم الجبر, وإن كانت أصوله معروفة منذ زمن طويل.
والحق أن العرب حولوا علم الجبر تحويلا تاما, وإليهم يرجع الفضل في تطبيقه على علم الهندسة.
وقد بلغ علم الجبر من الانتشار بين العرب ما ألف معه محمد بن موسى كتابا موطئا له بأمر المأمون, ومن هذا الكتاب اقتبس الأوروبيون, بعد زمن طويل, معارفهم الأولى لعلم الجبر.
الفيزياء والكيمياء:(1/37)
الفيزياء . لقد ضاعت كتب العرب المهمة في الفيزياء, ولم يبق منها غير أسمائها, ومنها كتب الحسن بن الهيثم في الرؤية المستقيمة, والمنعكسة, والمنعطفة وفي المرايا المرحقة, ويمكننا أن نستدل, مع ذلك, على أهمية كتب العرب في الفيزياء من العدد القليل الذي وصل إلينا منها, ولا سيما كتب الخازن في البصريات الذي نقل إلى اللغة اللاتينية, واللغة الإيطالية والذي استعان به كيبلر كثيرا في كتابه عن البصريات. ويرى القاريء في كتاب الخازن فصولا ممتعة عن حرارة المرايا.
وقد درس أكثر علماء العرب الذين ألفوا في مختلف العلوم مسائل الكيمياء, وإذا استثنينا مؤلفات جابر والرازي, رأينا كتب الكيمياء العربية قد ضاعت, وإننا لنأسف على ذلك بعد أن تجلت لنا قيمة ما هو بين أيدينا منها.
وقد ظهرت لنا مدى اكتشافات العرب الكيماوية من كثرة ما كان مجهولا قبلهم من المركبات التي ذكروها في مؤلفاتهم, ومن ابتداعهم لفن الصيدلة, كما أننا علمنا مقدار معارفهم في الكيمياء من حذقهم لفن الصباغة واستخراج المعادن, وصنع الفولاذ, ودباغة الجلود. كما أنهم اكتشفوا (الحامض الكبريتي) وماء الفضة (الحامض النتري) وماء الذهب, وما إلى ذلك. وقد اكتشف العرب كذلك أهم أسس الكيمياء كالتقطير.
قال بعض المؤلفين: إن لا فوازية هو واضع علم الكيمياء, وقد نسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم, ومنها علم الكيمياء, صار ابتداعه دفعة واحدة, وأنه كان عند العرب من المختبرات ما وصلوا به إلى كثير من الاكتشافات التي لولاها ما استطاع لا فوازيه أن ينتهي إلى اكتشافاته.
الميكانيكا
يقول غوستاف لوبون: إن معارف العرب الميكانيكية واسعة جدا, ويستدل عليها من بقايا آلاتهم التي انتهت إلينا ومن وصفهم لها في مؤلفاتهم.(1/38)
وقد رأى الدكتور برنارد الأكسفوردي أن العرب اخترعوا رقاص الساعة, ولا يكفي ما أبداه من الأسباب لإسناد هذا الاختراع المهم إلى العرب, والذي نظنه هو أن الساعة الدقاقة التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان هي ساعة مائية تدق في كل ساعة بسقوط كراتها النحاسية على قرصها المعدني.
ولكن الذي لا ريب فيه هو أن العرب عرفوا الساعات ذات الأثقال التي تختلف كثيرا عن الساعات المائية, ودليلنا على ذلك ما وصفت به ساعة الجامع الأموي الشهيرة في كتب كثير من المؤلفين, ولا سيما بنيامين الت طي لي الذي زار فلسطين في القرن الثاني عشر من الميلاد.
المعارف الصناعية
لم يهمل العرب تطبيق المباحث النظرية على الصناعات, وقد كان لصناعات العرب تفوق عظيم بفضل معارفهم العلمية, وإننا نعلم ما أدت إليه صناعاتهم من النتائج المهمة مع جهلنا لأكثر طرقها. فترانا نعرف, مثلا أنهم كانوا يعلمون استغلال مناجم الكبريت, والنحاس, والزئبق, والحديد, والذهب, وأنه مكانوا ماهرين في الدباغة, وأنهم أتقنوا فن تسقية الفولاذ, كما تشهد بذلك نصال طليطلة, وأنه كان لنسائجهم, وأسلحتهم, وجلودهم, وورقهم شهرة عالمية, وأنه لم يسبقهم أحد في كثير من فروع الصناعة حتى الآن.
ونرى بين اختراعات العرب ما هو من الأهمية العظيمة بحيث لا يجوز الاكتفاء بذكر اسمه, كاختراعهم للبارود مثلا (30).
المبحث الخامس
ثوابت وضرورات حضارة المستقبل
1 ـ التعاون والوحدة
لا ريب أن نهضة المسلمين باتحادهم, فالاتحاد قوة, وهو قوة إذا اجتمع المسلمون على ما اجتمع عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم, كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, ومن نافلة القول أن انهيار حضارة الإسلام, إنما كانت الفرقة, وذهاب الريح, أحد أهم الأسباب, مصداقا لقوله تعالى:" ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ".(1/39)
ولقد تنازع المسلمون فيما بينهم, حتى أكل بعضهم لحم بعض وعرضه, وأصبحوا شيعا متنافسة متنابذة, فحل بهم وعيد الله عز وجل: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم, أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ". قال الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية, فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه, فناجى ربه عز وجل طويلا ثم قال: " سألت ربي ثلاثا, وسألته: أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها, وسألته: أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها, وسألته: أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها".
قال ابن كثير: في قوله تعالى أو يلبسكم شيعا يعني يجعلكم ملتبسين شيعا فرقا متخالفين: قال ابن عباس: يعني الأهواء, وكذا قال مجاه د وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة". وقوله تعالى: "ويذيق بعضكم بأس بعض" : قال ابن عباس وغير واحد: يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل, وقوله تعالى:"انظر كيف نصرف الآيات أي نبينها ونوضحها مرة, ونفسرها لعلهم يفقهون"أي يفهم ون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه.
وقال ابن عطية في الآية:" إنها إخبار يتضمن الوعيد, والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار, الذين تقدم ذكرهم, وهو مذهب الطبري, وقال أبي بن كعب, وأبو العالية, وجماعة معهما: هي للمؤمنين, وهم المراد, وظاهر الآية العموم, وظاهر الحديث تأكيد شمولها المؤمنين المسلمين.
ولا شك أن التعاون أصل من أصول الدين, وقد ورد لفظ التعاون في القرآن الكريم في آية واحدة هي قوله تبارك وتعالى "ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب " .(1/40)
والتعاون على البر والتقوى أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى, أي ليعن بعضكم بعضا, وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به, وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه, وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدال على الخير كفاعله" وقد قيل: الدال على الشر كصانعه, قال ابن عطية: والعرف في دلالة هذين اللفظين . البر والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر . كما يرى البعض . فيجوز, وقال الماوردي: ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر, وقرنه بالتقوى; لأن في التقوى رضا الله تعالى, وفي البر رضا الناس, ومن جمع بين رضا الله تعالى, ورضا الناس, فقد تمت سعادته, وعمت نعمته, وقال ابن خويز منداد: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه: فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمه م, ويعينهم, الغني بماله, والشجاع بشجاعته في سبيل الله, وأن يكون المسلمون متظاهرين باليد الواحدة: " المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم, وهم يد على من سواهم " ويجب الإعراض عن المعتدي, وترك النصرة له ورده عما هو عليه, ثم نهى الله تعالى فقال:" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان والإثم هو الحكم اللاحق عن الجرائم, والعدوان هو ظلم الناس, ثم أمر الله بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب ".(1/41)
لقد جاءت آية التعاون عامة للناس أجمعين, وهي في أصلها وفي خاصة سببها وخطابها للمؤمنين. جاءت الآية لتقر أصلا من أصول هذا الدين, وهو التعاون حتى مع الخصوم والأعداء, ما دامت الغاية نبيلة وشريفة, غاية البر بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى, والتعاون بهذا المعنى جزء من العدالة: ومفرد من مفرداتها, فالخصومة...والعداوة ولو كانت مع المخالفين في الدين فإنها لا تعدم العدل ولا تطيش بميزانه. وتقريرا لهذا الأصل, وتأكيدا عليه جاء قوله عز وجل: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ".
وتعتبر آية التعاون الكريمة أعظم آية وأنصع دليل على سمو مبدأ العدالة في الإسلام, وهو يحمل المسلمين مسئولية إيمانية, وأخلاقية, عظيمة تغاير ما كان عليه العرب في جاهليتهم, والآية الكريمة وهي تقرر بوضوح أن مبدأ التعاون على البر مع الأعداء منطقه العدالة والقسط, فإن في هذا إشارة قوية إلى أن التعاون بين المؤمنين مفترض, ومفروغ منه لأنه من الواجبات, ومن حق المسلمين بعضهم على بعض, ومجتمع مسلم لا يقوم على مبدأ التعاون بين أهله يفقد عنصر حياته وأساسا من أسس دينه, ولن يكون إلا الفشل والفرقة حليفه.(1/42)
وهذا المعنى من الآية يصحح مفهوما خاطئا استشرى حتى بين فئة من العلماء, وطلبة العلم, هو أن مفهوم التعاون أن يظل المسلمون فرقا, ومذاهب, وجماعات, وأحزابا, يتعاونون فيما يتفقون عليه مما يعود عليهم بالمصالح المتبادلة. وهذا المعنى وإن كان مقصودا ومرغوبا, لكنه خلاف الأصل المقصود في الآية الكريمة, وهو التعاون في ظل وحدة إسلامية فإن لم تكن وحدة, فالتعاون لإيجاد هذه الوحدة, لا التعاون فيما دونها مع بقاء التشرذم, والتحزب, والجماعات, وينتصر كل فريق لفئته, ويكرس ويؤكد فرقته. ويقبل التعاون فيما يسمى بفقه المصالح, ويترك الأصل وهو الوحدة, ويترك التعاون مع أجلها ولو كان مرحليا.
تعاون الدول مقصد لاتحادها فقوتها فحضارتها الأصل أن الأمة الإسلامية أمة واحدة, يجمعها كتاب واحد, وسنة مطهرة واحدة وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون : فلا يجوز شرعا أن تقر دولة إسلامية تفرق المسلمين دولا, فهذا خلاف الأصل, فإن الهدى الذي بينه الله واحد, وسبيل المؤمنين سبيل واحد, وسلطانهم ينبغي أن يكون كذلك, واحدا, ودولتهم واحدة ومن يؤمن بغير ذلك أو يسعى إلى غيره فهو مناقض ومصادم لهدي الله عز وجل, ومشاقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطريقه على كل حال غير طريق المؤمنين, قال الله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا .
إن الإسلام هو دين الوحدة كما هو دين التوحيد, ودين التعاون كما هو دين التكافل, ودين يتعامل مع الأمة باعتبارها جسدا واحدا إذا اشتكى جزؤه, اشتكى كله, ويتعاون الكل لشفاء الجزء.(1/43)
وحين يدعوا الإسلام إلى التعاون, إنما يدعو للقضاء على كل سبب يفضي بالمؤمنين إلى التنازع, والخلاف, والتباعد, والتقاطع, والتدابر. وقد بين الله عز وجل أن التفرق في الدين, واتباع الأهواء, نقيضان للتعاون والوحدة, موجبان لغضب الله, وكيف يفلح تعاون المغضوب عليهم. يقول الله تبارك وتعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " ويقول عز وجل:"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء . ويبين الله عز وجل منهج وأسلوب التعاون لنبذ الخلاف, والفرقة بالإيمان الحق, والدعوة والاستقامة على دين الله, إقامة العدل ومواجه الحجة بالحجة, ثم يبين حكمه العادل على من نبذ هذا المنهج القويم, فيقول الله عز وجل ضاربا المثل بفرقة أهل الكتاب: "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب, فلذ لك فادع واستقم كما أمرت, ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم, والله ربنا وربكم, لنا أعمالنا ولكم أعمالكم, لا حجة بيننا وبينكم, الله يجمع بيننا وإليه المصير, والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (الشورى 14ـ.16).
ويدعوا الله تبارك وتعالى المؤمنين حكاما ومحكومين, ويبين لهم أن الاعتصام بحبل لله نعمة وقوة. فيقول عز من قائل: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ".
تعاون العلماء لجمع الأمة وتوحيدها:
إن من أوجب الواجبات أن يكون أهل العلم هم من يجمعون, ويعينون, ويوحدون الأفراد والأمة, فإذا كان العلماء سبب الفرقة فهذه من الكبائر العظام.(1/44)
ومن الأسف أننا نشهد بعض أهل العلم يفرق, ولا يجمع ويفتت ولا يوحد. ويعتقد أن تجميع المخالفين لغيره معه دعوة ودين.
وإذا كان من علماء الأمة قديما من كان سببا في الفرقة فإنما كان محز خلافهم الكبائر من القضايا, وقد يكون لهم فيه مندوحة, لكن كثيرا من المنتسبين للعلم اليوم يفرقون طلبة لعلم, والعامة, ويشتتون صوت الأمة, وريحها, ومحز خلافهم الصغائر, صغائر الأمور وتفاهات المواضيع, التي يسع فيها الخلاف, أو ربما كان الخلاف فيها من طبائع الناس, لأن مرجعها إلى الفكر والعادات لا إلى النصوص المحكمات.
إن هذا الخلاف إذا ترك يستشري بين العلماء, وطلبة العلم لهم فيه تبع, فإن مستقبل أمة هذه سيرة علمائها ستلد رؤوسا في الفتن والفرقة, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن عجب أن كل رأس من هؤلاء العلماء, أو المنتسبين لهم يدعى أنه الفرقة الناجية, وأن من تبعه دخل الجنة, ومن عصاه وخالفه مع الفرقة الهالكة في النار ولا تعجب مع هذه الدعوة أن ترى مدعى زعامة الفرقة الناجية, واتباعه من طلبة العلم, وغيرهم, يصلون مع إخوانهم الفرق الهالكة في مسجد واحد, وقبلتهم واحدة, وقد يأتم بعضهم ببعض.
ويبلغ بك العجب منتهاه أن مدعي الفرقة الناجية, ينابزون الفرقة الهالكة ويحرصون على إبعادهم, والطعن فيهم, ويغفلون عن دعوتهم والنصح لهم, ومحاولة استيعابهم بالكلمة الطيبة والدعوة إلى سبيل الحق بروية وحكمة, والتعاون فيما بينهم لصد دعاوى وكيد خصوم الإسلام.(1/45)
وإن من المهلكات اللاتي يتحمل وزرها بعض العلماء, أو المنتسبين للعلم ويحملها عنهم طلبة العلم: السخرية والتنابز بالألقاب, وهي صفة قد تخرج صاحبها من دائرة المؤمنين إلى دائرة الفاسقين, وهذا تحذير القرآن العظيم لطائفة المؤمنين " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم, ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن, ولا تلمزوا أنفسكم, ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون * يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ", يقول الشيخ حسنين مخلوف: " هذه الآية إرشاد إلى أسمى التعاليم, وأشرف الآداب العامة بين أفراد الأمة وطوائفها, وهي تشير إلى معنى في البشر لا يكاد يخلو منه إنسان, وذلك هو اعتداد المرء بنفسه, وغفلته عن عيوبه, وميله إلى تحقير غيره, والسخرية منه, فهي تنهي عن هذه السخرية, وتعالج مبعثها في نفس فاعلها بإثارة الشك في مقاييسه وأحكامه, وبيان أنه قد يكون مخطئا فيحسب أنه خير من فلان, بينما الواقع أن فلانا خير منه, وهذا من شأنه أن يهذب النفوس, ويكفكف من غلوائها, ويقطع كثيرا من أسباب الحقد والضغائن, ولو طبقه أهل العلم, والرأي, وأصحاب المذاهب فيما بينهم, لما استطاع التعصب أن يطل برأسه, ولما تراشق المختلفون بسهام التجهيل, والتكفير, والتضليل, وأمثال ذلك مما هو منبعث عن الاعتداد بالنفس, والسخرية من الآخرين.(1/46)
كما أن هذه الآية تنهي عن اللمز والتنابز بالألقاب, وتعتبر من يلمز أخاه لامزا لنفسه, وهذا معنى يجب أن نتنبه إلى ما يوحي به, فإن المسلمين حين لمزت كل طائفة منهم أختها أصبحوا كلهم جرحى أمام خصومهم, وأعداء ملتهم, فهم يحكمون على طوائفهم بما يحكم به بعضهم على بعض, فيحتقرونهم جميعا, وبهذا كان الذي يلمز أخاه إنما يلمز نفسه.
ثم هي تجعل ذلك كله خروجا على الإيمان, وتسميه فسوقا, وتطلب التوبة منه والإقلاع عنه, وتحصر الظلم الكامل فيمن لم يتب منه بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون .
وإذا كان شأن هؤلاء العلماء والمنتسبين للعلم, وطلبة العلوم الشرعية هو التنابز والغيبة والبغضاء يزرعونها في نفوسهم, ويفيضون بها على من حولهم, فكيف تقوم لهم قائمة الدعوة إلى دين الله القويم, وكيف يكون لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة, وأنا لهم سبيل السلف الصالح رضوان الله عليهم الذين سمعوا وطبقوا قول رسولهم الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم, كل المسلم على المسلم حرام دمه, وماله وعرضه" وقوله صلوات الله وسلامه عليه: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
التعاون في ظل كل خلاف حاشا الخلاف في أصول الدين:
إن القول بأن نعمل فيما نتفق عليه, ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه, قول سديد, يصلح أن يكون قاعدة يجتمع عليها المختلفون من المسلمين حكاما, وعلماء, وطلبة علم, فإن الخلاف في أغلبه خلاف في اجتهادات, وإداريات, وأساليب, ومصالح, وقلما يكون الخلاف, بل لا يكون في أصول الدين, أو ما علم منه بالضرورة, وإذا كان ذلك كذلك فيسعنا ما وسع الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين.(1/47)
وإن مما لا شك معه أن الخلافات الموجودة في بلدان المسلمين بعامة هي من قبيل الخلافات المحتملة, التي يمكن الحوار فيها ولا تمنع التعاون في كل ما من شأنه تقريب المسلمين وتوحيد صفهم, سواء في ذلك الخلافات السياسية أو الفقهية أو المذهبية.
وإنما يصلح التعاون مع الخلاف إذا صلحت النيات, وابتغى وجه الله الكريم فإن العلاج حليفهم بلا ريب إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .
تعاون السياسة والدين:
إن مشكلة المسلمين العظمى التي تحول دون تعاونهم والاستفادة المتبادلة بين خبراتهم وعقولهم, هو الخلاف السياسي بينهم لأن مرجعه إلى مطامع وأهواء ومصالح دنيوية جعلت منه المقياس في التفاوض والتعاون, وما دخلت السياسة مجالا مجردا عن سياج الدين إلا خربته, وباعدت بين قلوب أهله, بل إنها تفرق الأسرة الواحدة وتقطع الرحم بين الناس.
وأما الخلاف الفقهي فما دام خارج الأصول والأركان والمعلوم من الدين بالضرورة فإنه لا يمكن أن يكون سببا للتفرق, فإن ديننا الحنيف قد أعطى للمجتهد مساحة كبيرة في الاجتهاد وإبداء الرأي فيما كان في دائرة النصوص ظنية الدلالة فيسوغ فيه الخلاف, وإن التراث الفقهي ومدارسه إنما هي من هذا القبيل.(1/48)
إن الخلاف السياسي هو المسئول عن فرقتنا بالدرجة القصوى وإننا المسئولون بتمكينه, وإحلاله في الفصل والتعاون محل الدين, ولا نقلل من شأن الخلاف في غي السياسة, فالخلاف كله فرقة وشر, ولكن الخلاف السياسي مادام خارج دائرة الدين, فإنه طامة عظمى, وسبب أساسي في حال الأمة اليوم من الضنك, والضيق, والتشرذم, والتخاذل, وكما يقول الشيخ محمد أبو زهرة: " لقد كنا معشر المسلمين في غمرة, حتى صرنا وقود الحروب نؤكل فيها ولا نأكل, ونستغل كل قوانا ولا ننتفع بشيء من أمورنا وتستنزف كل خبراتنا, ولا ننال منها إلا النزر اليسير الذي يجود به علينا المتحكمون فينا, فأرادونا زراعا وهم الحاصدون, وأرادونا صناعا وهم المثرون, حملونا على ترك مباديء ديننا مبدءا مبدءا, ونزعوا من قلوبنا حب الجهاد, وألقوا فيها الوهن, وحب الدنيا الضئيلة التابعة, وذلك بما كانوا يبثونه بيننا, وما يغمرون به كبرنا, حتى صار أمر هذه الأمة سددا, وصارت القيادة فيها إلى الجهلاء بأمر دينهم.
وإن مما ينبغي أن يعلم بوضوح أن الساسة والسياسة لا يصلحهما إلا الدين, ومن يقول: لا دين في السياسة, إنما يعطى للساسة رقاب الأمة ومصيرها, فالساسة ما فتئوا . إلا من رحم الله . يقدمون مصالحهم وأمرهم على مصلحة دينهم, ويفعلون ما يحفظ مناصبهم, وإن كان على حساب الدين ومصالح العباد, ولذا لزم أن يكون الدين سياج السياسة وحافظها من الانحراف عن أهداف سياسة الناس بما يحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية, ولذا كانت مهمة العلماء عظيمة, فهم القائمون على واجب النصيحة " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " وهم حملة الأمانة التي اعتذرت عن حملها السماوات والأرض والجبال, وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. وهم المعنيون بمواجهة الظلم والظالمين ولذا قال رسول الله صل وات الله وسلامه عليه: " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".(1/49)
ولك أن تتصور عظم الجرم إذا كان حماة الدين هم حماة لظلم الساسة وانحراف السياسة, يزينون لهم آراءهم, ويفصلون لهم الفتاوى وينمقون لهم الأقوال ويحسنونها, وإن شابها ما شابها, بل وإن هدمت من مباديء الشريعة حدودها, وإن أهدرت المصالح المعتبرة للإسلام عامة أو خاصة. إن هؤلاء هم الظلمة أنفسهم لا أعوان الظلمة, بل قد يكون السلطان والساسة عونا لهم, لأن أصل الأمر والنهي يأتي من سبيلهم في الحلال والحرام.
فإذا علم الساسة أن سياستهم للرعية ينبغي أن تكون بسياج الدين استحقوا أجرهم ووفوا ذمتهم, وكانت عاقبتهم عند الله الرضى والقبول, ومن يعلم الساسة ذلك إلا علماء النصح والصدق. ألا إنها مسئولية عظيمة على الساسة والعلماء, إما جمعتهم في جنة أو هوت بهم في نار. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مجتمع التعاون الدولي
إن الحضارة المعاصرة اليوم تنطلق من محورين وغاية. أما المحوران فهما: العلم والاقتصاد, وأما الغاية فهي تحقيق المصالح.
فمن حاز العلم والاقتصاد فقد حاز القوة, ومن حاز القوة حقق مصلحته, وهي السيادة والمتعة, وفي سبيل هذه الغاية يستخدم القوة وإن أهدر مصالح الغير, بل وإن كان في تحقيق مصلحته إهدار الأنفس والأموال والأعراض فغايته تبرر وسيلته, تماما كما كان شأن الأعراب في جاهليتهم يقولون:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدمومن لايظلم الناس يظلم
وفي سبيل هذه الغاية يشهد المجتمع الحضاري التعاون بين الدول الكبيرة لحيازة المحورين وتحقيق الغاية. ومن هذا المنطلق المصلحي يتعاون أعداء الأمس في صور من تحالف أو تعاون في سائر المجالات: العلمية, والثقافية والعسكرية, وغيرها والتعاون أو التحالف قوة, والعالم الإسلامي اليوم يحتاج إلى التعاون أو التحالف أكثر من أي وقت مضى, فينبغي أن يأخذ بأسبابه, وأسبابه تبدأ من تآلف وتكاتف شعوبه جماعات, وأحزابا فإن لم يتوحد المسلمون من داخل بلادهم فإن اتحادهم أو تعاونهم يصبح أمرا مستحيلا.(1/50)
ولا يمكن أن يلحق المسلمون بدول الحضارة, بله أن يبنوا حضارة إسلامية دون أن تتوحد كلمتهم, ثم تتوحد وجهتهم, فلعلها تتحد حينئذ دولتهم وتعود بعدئذ خلافتهم. وما ذلك على الله بعزيز, وما هو في دورة تاريخ الحضارة بمستبعد.
2 ـ الجامعة الإسلامية:
إذا كانت وحدة الأمة طريقها لحضارة إسلامية, فإن الجامعة الإسلامية ربما تكون أنجح سبيل إلى ذلك.(1/51)
والجامعة الإسلامية فكرة أخذت شكل حركة دينية, وربما سياسية حيث كانت ردة فعل مبكرة لمظاهر سقوط الخلافة, أو لسقوط الخلافة الإسلامية فعلا بعد ذلك وسبيلا وأسلوبا لإعادة الخلافة, وقد ظهر مصطلح الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو مصطلح " يتسع ليشمل مفاهي م عدة, فبعض المصلحين يرى فيها دعوة رجوع بالدين إلى ما كان عليه السلف الصالح, وآخرون فسروها على أنها دعوة لتحديث المفاهيم الإسلامية, وتطويرها, وتفسيرها بشكل يساير تطور الحياة الحديثة, ويتمشى مع المفاهيم الواردة من مدنية الغرب وثقافته. وقسم ثالث رأى في حركة الجامعة الإسلامية دعوة إلى إحياء الخلافة العربية القرشية من جديد, لكن من غير أن يكون لهذا الخليفة سلطة دنيوية, بل يكون مجرد رمز ديني لوحدة المسلمين" ولعل أقوى هذه المفاهيم, أو التيارات, التي أخذت أسلوب الحركة, حتى سميت حركة الجامعة الإسلامية, هو مفهوم الدعوة لمؤازرة الدولة العثمانية لتقوى على مقاومة مظاهر السقوط في أواخر أيامها. وهذا لا يمنع من أن الفكرة صحيحة وضرورية اليوم, فإن مظاهر الضعف والتفكك, وتوزع دول الإسلام كل ذلك مظاهر ومبررات تجعل فكرة الجامعة الإسلامية صالحة الإحياء اليوم فمقصود الجامعة الإسلامية هو إحياء تلك الروح الإسلامية للوحدة الإسلامية, وقد عبر عن هذا المعنى بوضوح أحد دعاة الجامعة الإسلامية . بعد الشيخ جمال الدين الأفغاني . أمير البيان شكيب أرسلان حين قال: الجامعة الإسلامية بمعناها الشامل ومفهومها العام إنما هي الشعور بالوحدة العامة, والعروة الوثقى لا انفصام لها بين جميع المؤمنين في المعمور الإسلامي. وهي قديمة بأصلها ومنشئها منذ عهد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم, أي منذ شرع الرسول يجاهد فالتف من حوله المهاجرون والأنصار معتصبين معه بعاصبة الإسلام لقتال المشركين.(1/52)
وقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم خطورة الجامعة وعلو منزلتها في المسلمين حق الإدراك وعلم كل العلم ما له من عظم الشأن وجلل المقام في قلوب المؤمنين, فغرس غريستها بيديه في نفوسهم فنمت وتغلغلت, وامتدت جذورها, وبسقت أغصانها وفروعها وينعت ثمارها. فقد كرعليها أكثر من ثلاثة عشر قرنا فما أوهن كرور هذه القرون من الجامعة الإسلامية جانبا ولا ضعضع لها كيانا.
وقال: " ومن أحب أن يقف حق الوقوف على ما أراده الإسلام من غرض الجامعة وغاياته فلينظر إلى حال المسلمين اليوم وإلى تيار هذا التعاطف والتشاكي يعلم سر الجامعة ومكانتها في نفوس المسلمين. وفي الواقع ليس من دين في الدنيا جامع لأبنائه بعضهم مع بعض موحد لشعورهم دافع بهم نحو الجامعة العامة والاستمساك بعروتها كدين الإسلام ".(1/53)
وينبغي أن تكون هذه الحركة دينية سياسية, لا يمكن الفصل بينهما ومحاولة ذلك مميتة للفكرة حتما, ولهذا فإن بدايتها ينبغي أن تكون على أيدي العلماء, يقودون الشعوب لإحياء الروح الإيمانية, حتى تقوم في إحدى ديار المسلمين دولة تتبنى الفكرة فتدعمها, وتتوسع بعد ذلك. وهذا ما لم يخف على دعاة الجامعة الإسلامية فهم لم يبتعدوا عن هذا المعنى, وإن كان ما ذكرناه توسع للفكرة. يقول شكيب أرسلان: " ولا يغربن عن البال أن الجامعة الإسلامية على مختلف حالتها وتطوراتها يجب ألا تعتبر أنها حركة سياسية دفاعية محمولة على الغرب ردا لاعتدائه ودفعا لجوره فحسب, بل إن منشأها الأصلي هو المشاعر النفسانية الوجدانية العميقة, في المسلمين لصيانة الوحدة, وتوثيق ع رى الجامعة العامة, تلك الجامعة " ثم يستشهد على ارتباط الدين بالسياسة, وأنه حضارة قبل أي شيء آخر بالسير موريسون, فينقل قوله: " إن الحق الذي لا يمارى فيه أن الإسلام أكثر من معتقد ودين. إنما هو نظام اجتماعي تام الجهاز, هو حضارة كاملة النسيج لها فلسفتها وتهذيبها وفنونها. وقد انقضى ما انقضى من العهد الذي ما برح فيه الإسلام والنصرانية على نضال ونزاع, فما عرى وهن جانبا من جوانب الإسلام قط, بل ما انفك على الدوام يشتد بعضه مع بعض متماسكا متعاضدا, حتى صار وحدة جامعة, نامية نمو الجسم العضوي, سائرا سيره بفعل نظامه الذاتي المستقر فيه".
ثم يعقب على هذا القول بأن المسلمين تربط بعضهم ببعض روابط هذه الحضارة ربطا وثيقا لا انفصام له. وباعتبار هذا المعنى, فإن الجامعة الإسلامية إنما هي عامة, قائمة البناء في جميع العالم الإسلامي زد على جميع هذا أن ساد اليوم في العالم الإسلامي سيادة عامة, الاعتقاد الذي يؤيده الأحرار, والغلاة, والمحافظون, وسائر الأحزاب معا, أن المسلمين اليوم هم في دور النهضة والانتقال, والتجدد, يستردون مجدهم الإسلامي الفائت, ويستعيدون عزهم التليد.(1/54)
ثم ينقل ثانية قولا للسير موريسون, وكأنه يعنى ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من محاولة النهوض, واستئناف الحياة الإسلامية الحضارية. لكنها ما زالت روح الشعوب, ولم تتبناها الدول بعد يقول السير موريسون: " ليس من مسلم يعتقد أن الحضارة الإسلامية فانية, وغير متجددة مترقية, إنما يعتقد أن قد عرتها قهقري قصيرة فحسب فقصر المسلمون أمرهم على التطوح في الإشادة بمجد الجدود, وتعصبوا في ذلك وغالوا شديدا, ولكن أمرهم هذا ما كان ليختلف في صفته عن الحال التي كانت سائدة في أوربة خلال القرون الوسطى, يوم كان ديجور الجهل مطبقا جميع البلاد النصرانية, يعتقد المسلم اليوم أن العالم الإسلامي سائر في طريق استئناف الارتقاء, يأخذ عن الغرب ما يزيد في استحثاثه ويبعث فيه عزما, وإقداما, ونشاطا, فتطورت الحياة تطورا تبدت دلائله في كل قطر إسلامي".
وأخيرا فإننا لا نريد من طرح فكرة الجامعة الإسلامية, كامتداد للجامعة الإسلامية تاريخيا طريقا واحدا قاطعا لاستئناف واستشراف حضارة الإسلام, وإنما نريد لفت النظر لقضية أغفلت من سجل, وكتابات الباحثين, وهي جديرة بالدرس والبحث الموسع, لعلها تكون من مخارج الغي والضنك, إلى رضا الله تبارك وتعالى, وثم هناك سعادتنا وحضارتنا.
هذا وإن من ثوابت وضرورات حضارة المستقبل على سبيل الإجمال الأمور التالية:
3 ـ التميز
فلا تبنى حضارة على التقليد المحض, وإنما تبنى على التميز, التميز في المعتقد, والفكر, والتصور, والنظم الأخلاقية, ومجموع ذلك يكون الهوية, هوية الأمة, وبغير ذلك تصبح الأمة جزءا من عجلة الحضارة الغربية, تدور برحاهم حيثما داروا, وإن دخلوا جحورهم المصادمة للفطرة والإنسانية, مع ما فيها من قذارة وآفات. وإذا كان بالإمكان أن يتفوق ويتقدم التلميذ على أستاذه, فمن المستحيل أن يتقدم التابع على متبوعه, فإن غاية الريادة والقيادة لا تجتمع بحال مع التقليد المحض.(1/55)
وما من حضارة إلا ولها هوية, ولو كانت عصبية لتاريخ أو جنس أو قومية وما إلى ذلك, حاشا حضارة الإسلام, فقد كانت هويتها في أسمى معاني المعتقد والأخلاق, والفكر, والتصور, إنها هوية تكونت, وانبثقت من نصوص كتاب الله العالم بما خلق: " وهو اللطيف الخبير " الملك: 14, ولولا هذا التميز ما قامت للإسلام حضارة, وكذا اليوم لن تقوم لنا قائمة إلا بما كنا به خير أمة حضارة كتاب الله, وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومع التميز, أو به لابد من إذكاء روح الحماسة الإيمانية, وبخاصة في طبقة الشباب, وعلماء الأمة, إذ عليهم المعول في البناء الحضاري, وهذه الحماسة هي الروح المحركة للفقيه, والطبيب, والمهندس, والكيميائي, والعامل, ومن إليهم, ليعبد الله كل في موقعه ويتنافس في حيازة الأجور بالتقوى, وحسن الأداء وإتقان العمل.
وأمة هذه روحها, والله إنها لغالبة, وخليقة بالخلافة, وهذا وعد الله, ولن يخلف الله وعده.
4 ـ الفصل بين النظم والعلم
أول ما ينبغي أن يعمل في منهج التلقي أن يفصل بين النظم الغربية في التربية والأخلاق, والسلوك والفكر, والتصور للكون والحياة, وبين العلوم التقنية, والدراسات الاجتماعية الجادة. فليس كالإسلام نظام تربية, وأخلاق, وتصور, وفكر, ومنهج حياة, فما من حاجة إلى نظمهم لاختلال الأسس التي بنيت عليها.(1/56)
أما العلوم, ونظم المعلومات, وآلة الصناعة فهي مصدر قوتهم, وأساس الحضارة الحقيقية, وهي التي نحن إليها فقراء, وهي سلعة وبضاعة الحضارة ولا ريب أن النظم الغربية في التربية والأخلاق, والسلوك هي اليوم نقطة ضعف في بنائهم الحضاري, وهو ما نبه عليه بعض النابهين من علمائهم, فإن التردي الأخلاقي المحمي بالقانون, قد بلغ شأنا عظيما, وانحدارا خطيرا, بلغ فيه الشذوذ مبلغه, وهذا نذير خير في انحسار حضارتهم المادية, فإن الانحلال الأخلاقي, والانحراف يكاد يكون عاملا مشتركا لسقوط الحضارات, وهذا الانحدار اليوم قد يبدوا بطيئا لما يستمده من قوة دفع حضاري, لكنه سريع في عمر الحضارات. وكلما أوغل المجتمع في الانحلال الأخلاقي والجسدي. كلما اقترب من حافة الانهيار, وانتظار الوريث حينئذ, ولن يكون غير الإسلام وريثا لأنه يملكك ما يفتقدون.
5 ـ ترجمة العلوم:
إن ترجمة العلوم والمعارف ونظم المعلومات وما إليها ضرورة لبدء النهضة, وتحتاج منا إلى حركة نشطة, بل ثورة علمية دائبة تشمر لترجمة المعلومات والعلوم, والتاريخ يشهد أن اللغة هي عنوان حضارة الأمم, ولم تنهض أمة بلغة غيرها, ولو كانت لغة الغالب القوي المتحضر, والعربية هي اللسان ايا كان المتكلم بها عربيا أو أعجميا.
فحركة الترجمات العلمية من طلائع الأساليب والأسباب الحضارية, هكذا فعل المسلمون أول نهضتهم, وكذلك فعل الأوربيون في بدء حضارتهم وهكذا تفعل الدول الرامية اليوم منافسة الحضارة الغربية. ولقد سبق تفصيل ذلك بما فيه الكفاية.
6 ـ التقليد الصناعي والاقتباس(1/57)
تقليد الصناعات, والاقتباس التجريبي مرحلة بداية هامة لا يمكن القفز عليها, أو تخطيها وصولا إلى التطوير, والتطور, فالمنافسة الحضارية. ويسبق ذلك لاريب إعداد الدراسات والبحوث, وتوجيه الأبحاث العلمية, وخاصة في مراحل الدراسات العليا, وجهة التقليد الصناعي, والاقتباس بغية التطوير والرقي الذاتي, وهذه سنة اليابان في نهضتها, بل سنة أمم الحضارات الجادة.
7 ـ التعامل مع العولمة
لا يستطيع بل لا يملك المسلمون خيارا سوى التعامل مع العولمة, وليس من العقل في شيء أن يبني المسلمون مستقبلهم الحضاري بعيدا عن هذا التعامل, باعتباره واقعا يفرضه رواد حضارة اليوم. إنه واقع ومستقبل رهيب لو استكمل خطواته, إنه استعمار من نوع جديد. لا يكتفي باستعمار الأرض, ومن عليها عبيد, كما كان الاستعمار الرأسمالي بالأمس القريب, بل هو اليوم استعمار يتغلغل إلى أعماق الهوية والتاريخ, وخصوصيات الأمم. إنه لا يكتفي بهيمنة الآلة, واحتكار أسرارها, وريادة التطور المادي, وفرض نمط سياسي موحد, بل إنه يعني ويرمي إلى هدف اختراق الأخلاق, والعقائد والثقافة, والسلوك, وإزالة الفوارق لينصهر الكل في بوتقة هيمنة الحضارة الأمريكية الغربية بفكرها وأسلوب معيشتها وأخلاقها, بل ملبسها, ومأكلها, ومشربها.
إن الإسلام المستهدف الأهم في العولمة, أو هكذا ينبغي أن تكون نفسية التعامل مع العولمة. وقادة الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا كفونا مؤنة التنقيب عن النوايا بتصريحاتهم المتكررة, والمصرة على أن الإسلام هو العدو الاستراتيجي الجديد بعد انهيار الشيوعية, ويقول نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق: " إنه لا يوجد فرق بين إسلام معتدل وآخر متطرف....والحضارة الغربية في تعاملها مع الإسلام كمن يتعامل مع مجموعة من الأفاعي السامة ".(1/58)
إنهم يقرأون التاريخ ويدركون حتما أن الإسلام الدين الحضاري الوحيد الذي يملك أدوات المعارضة, والمواجهة لعولمة الحضارة, يملك البدائل الأنسب لفطرة الإنسان, اعتقادا, وأخلاقيا, ونفسيا, وسلوكيا, واجتماعيا.
ينبغي أن نستوعب أسلوب التعامل, والتعايش مع العولمة, فأسلوب العداء والمبارزة لن يكون لنا فيه أدنى انتصار, فلا ضير, بل لا مندوحة من أسلوب التعامل والتعايش لكن في الإيجابيات, وصد تيارات وسائل الاتصال, والإعلام بأخلاقياته, وسلوكياته, ببدائل الإسلام المتطورة الراقية, وهذا لا يكفيه الإنشاء البياني, والتنظير, إنه يحتاج إلى رعاية دول إسلامية مجتمعة تؤمن بأنها مستهدفة, فتخطط لبناء استراتيجية التعامل والاستيعاب, والمواجهة لما يحتاج لذلك بفكر منفتح, وهوية عقائدية متميزة.
8 ـ القيادة المدنية للمجتمع:
ترتبط الحضارات المعمرة بصدارة أهل العلم والرأي والمشورة والكفاءة في تقدمها, فهم سدنة التقدم والحرية, والإبداع, والانفتاح العلمي, وحرية الرأي والبحث, ونماء الاقتصاد وازدهار الحياة. فالحياة واحترام الإنسان عنوان الفكر الخلاق, والإبداع, والتميز, وأمة تقودها الأوامر, تنغلق عليها منافذ النور والحرية ولا يرتجى منها أن تنهض أو تبدع.
9 ـ فتح باب الاجتهاد:
لابد من تمكين الفقهاء من توسيع أبواب الاجتهاد الجماعي, ليواكب التطور في القضايا المستجدة, فلقد كانت مهمة مجتهدي الأمة, وما قاموا به إبان النهضة, والتحضر من أهم موارد قوة الدفع للحضارة الإسلامية إرشادا وتوجيها, وإضفاء الأحكام الشرعية على المستجدات, ولم يكونوا يوما. حجرا , أو سدودا أو قيودا.
وإن التراث الضخم كما, ونوعا مما خلفه أولئك الأفذاذ ليبعث على الاعتزاز, فقد سبقوا عصرهم, وما زالت المجامع الفقهية اليوم تستمد من اجتهاداتهم في العديد من القضايا المعاصرة مع ما فيها من تعقيد وتشابك للمسائل.
والله ولي التوفيق,,,
المراجع(1/59)
1ـ الظاهرة القرآنية للأستاذ مالك بن نبي 300
2ـ الظاهرة القرآنية 75
3ـ الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري للأستاذ بدران بن مسعود بن الحسن95
4ـ أخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي عن الإسلام والعقل للشيخ الدكتور
عبد الحليم محمود 21 دار الكتب الحديثة بمصر
5ـ فتوح البلدان للبلاذري والخراج لأبي يوسف عن كتاب الإسلام والحضارة العربية للأستاذ محمد كرد علي 1 / 39 مطبعة لجنة التليف والنشر . الطبعة الثالثة 18
6ـ قصة الحضارة 13/292
7ـ حضارة العرب 299 ترجمة محمد عادل زعيتر . طبع درا إحياء الكتب العربية بمصر 1364 ـ 1945
8ـ قصة الحضارة 13/130 ترجمة محمد بدران . مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر . الطبعة الثانية 1964 بمصر
9ـ شريعة الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي 56 الطبعة الأولى . المكتب الإسلامي . بيروت.
10ـ الحضارة الإسلامية لآدم ميتز 90,92,88,234, 235 وقصة الحضارة 13/13211ـ الحضارة الإسلامية 81 وانظر تاريخ الإسلام 1/234 للدكتور حسن إبراهيم حس مطبعة . النهضة المصرية الطبعة السابعة 1964 بمصر
12ـ الحضارة الإسلامية 77,86, 234
13ـ من روائع حضارتنا 81
14ـ من روائع حضارتنا81
15ـ الخراج لآبي يوسف عن الحضارة الإسلامية لآدم متز 87 و 296
16ـ قصة الحضارة 13/131
17ـ قصة الحضارة 13/131
18ـ قصة الحضارة 13/132
19ـ حضارة العرب 589
20ـ متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 1/218
21ـ جامع الأصول 8/3
22ـ جامع الأصول 8/7
23ـ مختصر صحيح مسلم 259 رقم 1001
24ـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 14 / 149 عن كتاب العلماء عند المسلمين للدكتور محمد منير سعد الدين, وقصة الحضارة 13 / 170.
25ـ من روائع حضارتنا للسباعي 164 وقصة الحضارة 13 / 170 و 177
26ـ جمهرة أنساب العرب لابن حزم 100 والحلة السيراء لابن الأبار 2 / 203 والفكر السامي شريف 111 عن أضواء على الحضارة والتراث للدكتور عبد الرحمن على الحجي 104.(1/60)
27ـ ظهر الإسلام 1/254 وتاريخ بغداد 4/414 والامتناع والمؤانسة 2/14 عن العلماء عند المسلمين د. محمد منير سعد الدين 53. وحضارة الإسلام للسباعي 83 وقصة الحضارة 113 / 170.
28ـ انظر للتفصيل: قصة الحضارة /13/170 وحضارة الإسلام لغوستاف لوبون 462 ومن روائع حضارتنا للسباعي 145.
29ـ حض ارة الع رب لغوستاف لوبون 503 وقصة الحضارة لول ديورانت 13/171 وتاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم حسن /499
30ـ الأنفال: 46.
31ـ الأنعام: 65.
32ـ أخرجه مسلم في كتاب الفتن, ومعنى السنة: القحط والجدب.
33ـ مختصر تفسير ابن كثير للشيخ محمد علي الصابوني 1 / 586.
34ـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي 5 / 229 الطبعة الأولى . الدوحة 1983.
35ـ في مسلم: " من دل على خير فله مثله " مختصر صحيح مسلم 1101
36ـ المائدة: 2.
37ـ الجامع لأحكام القرآن للإمام محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 1365 هـ . 1946 م 4616 بتصرف يسير. مطبعة دار الكتب المصرية.
38ـ الممتحنة: 8.
39ـ المؤمنون: 52.
40ـ النساء: 115.
41ـ الأنعام: 159.
42ـ آل عمران: 105.
43ـ الأنعام: 159.
44ـ آل عمران: 103.
45ـ الحجرات: 11,12.
46ـ المرجع السابق رقم 1774.
47ـ حركة الجامعة الإسلامية للأستاذ أحمد فهد بركات الشوابكة الطبعة الأولى . مكتبة المنار الأردني
48ـ حاضر العالم الإسلامي شكيب أرسلان 1 / 319
49ـ حاضر العالم الإسلامي لشكيب أرسلان 1 / 287.(1/61)