مُوجَز لتاريخ القدس حَتى الفتح الإسلاَمي
للدكتور شفيق جاسر أحمد محمود
أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
بنى اليبوسيون- وهم عرب كنعانيون- مدينة القدس قبل الميلاد بحوالي ثلاثة آلاف سنة، وأحاطوها بالأسوار مما زاد في منعتها 1. وقد كانت القدس في ذلك العهد على طريق تربط مصر ببلاد الشام، تبدأ من بحيرة التمساح، مارة بسيناء، وبئر السبع، والخليل، و بيت لحم، والقدس، والجيب، وبيتين، ونابلس، وتعنك، حيث تلتقي في مجدّو مع الطريق الرئيسية الساحلية، التي تصل بين مصر وبلاد الشام، وكانت تتصل مع ساحل البحر الأبيض المتوسط عن طريق الجيب، بيت عور التحتا، يالو، أبو شوشة، عاقر، وتتصل بالغور عن طريق مخماس، أريحا.
والقدس من أقدم مدن الأرض، وهى أقدم من بابل ونينوى، وليس أقدم منها إلا (اون) أو (ايوتو) 2 أولى عواصم مصر في فجر التاريخ و(منف) أو(ممفيس) ثاني عواصم مصر التي أنشئت حوالي سنة 3450 قبل الميلاد 3.
لقد بنيت منازل القدس من الحجارة، وكانت منازل صغيرة، يتألف المنزل منها من طبقة واحدة، له في وسطه باحة، وحولها الغرف.، والمدخل في صدر الباحة، وأحياناًَ يكون في وسطها بئر تتجمع فيه مياه الأمطار.
وكانوا يأخذون حجارة البناء من الأحجار الكلسية البيضاء لليونتها، وسهولة نحتها. ولوجود هذه الأحجار في أعماق الصخور 4، تمكن اليبوسيون من حفر الأحواض والأنفاق الكثيرة، مما كان له شأن في تاريخ المدينة. وقد قدرت مساحة المدينة آنذاك ما بين ستة عشر إلى ثمانية عشر فداناً 5.
كان أهل القدس في البداية يكتفون بمياه الأمطار، ولما كثر عددهم استفادوا من مياه عين أم الدراج. ولذلك بنوا حوالي عام ألفين قبل الميلاد نفقاًَ 6 يصل بين المدينة وهذه العين، يسهل وصول السقاة للعين، ويفيدهم أثناء الحصار. والنفق المذكور هو أقدم ما عثر عليه من ذكر لطريقة الحصول على المياه من العيون والآبار المجاورة للمدينة.(1/1)
…وكان ملكي صادق 7 ملك اليبوسيين ورئيسهم الديني من الموحدين، لذلك تكون مدينة القدس أقدم بقعة في الأرض آمنت بالله الواحد، ونبتت فيها فكرة التوحيد كما نسب إليه أنه مؤسس القدس 8 التي كانت قبل ذلك صحراء بين أودية،وجبال، فنزل ملكي صادق بكهف من جبالها للعبادة، واشتهر أمره، فجاءه ملوك الأرض الذين كانوا بالقرب من القدس، وكانوا اثني عشر ملكاً، فسمعوا منه، وساعدوه بالأموال على إقامة مدينة القدس، ثم عينوا ملكاً عليهم وسموه( أبا الملوك) 9.
وقال مؤلفوا قاموس الكتاب المقدس: " والظاهر أنه أي- ملكي صادق- كان محافظاً على سنة اللّه بين شعب وثني، ولذلك كانت له الأسبقية على إبراهيم وعلى الكهنة الذين تسلسلوا منه " 10.
وقد كان ملكي صادق قد اتخذ بقعة الحرم الشريف معبداً له يقدم ذبائحه على موضع الصخرة المشرفة11. وبذلك يكون العرب الكنعانيون أقدم من قدس هذه البقعة وتعبد فيها، وذلك قبل أن يقوم سليمان بن داود ببناء هيكله بما يقرب من ألف سنة 12.
وهذا يفسر لنا ما أثبتته الحفريات وذكره المحدثون من أن بناء سليمان كان على أساس قديم، فقال صاحب الأنسب:"وهذه الأقوال تدل على أن بناء داود وسليمان إياه إنما كان على أساس قديم، لا أنهما المؤسسان له بل مجددان " 13. كما ذكر كعب الأحبار- الذي كان من علماء اليهود ثم أسلم- " إن سليمان بنى هيكل بيت المقدس على أساس قديم " 14.(1/2)
هذا وقد خضعت القدس للمصرين في النصف الأول من القرن السادس عشر قبل الميلاد، عندما طردوا الهكسوس من بلادهم. وفى عهد امنحتب الثالث سنة 1411- 1375 ق. م تعرضت المدن الفلسطينية إلى غارات البدو( الخابيرى). وفى عهد امنحتب الرابع (أخناتون) 1375- 1358 ق. م، تمكن الخابير ومن بسط نفوذهم على معظم مدن فلسطين مما اضطر عبدي خيبا الوالي المصري على القدس أن يناشد أخناتون المساعدة على صدهم، ولكنه لم يتمكن، فزال الحكم المصري عنها، ولم يعد إلا في عهد سيتي الأول سنة 1317- 1301 ق. م 15.
لقد هاجم بنو إسرائيل فلسطين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأطلقوا اسم( يبوس) على مدينة القدس، نسبة لاسم زعيم القبيلة الكنعانية العربية التي كانت بها منذ القدم. وكان أصحابها اليبوسيون قد سموها أوروسالم أي مدينة إله السلام، وحرف المصريون اسمها إلى يوشامام. وقد دخل سيدنا داود مدينة القدس سنة 997 ق. م، وقيل سنة1000 ق. م وحاول إزالة طابعها اليبوسى، وسمى المدينة باسمه (مدينة داود)، وبنى بها قصراً وحصوناً، وقد بقي بها بعض سكانها الكنعانيون ولم يغادروها. ثم خلفه ابنه سليمان بن داود، الذي ولد ونشأ فيها، وكانت مدة ملكه أربعين سنة من سنة 963- 923 ق. م. وبنى فيها هيكله على المكان الذي كان يتعبد فيه ملكي صادق. ولكن هذا المعبد لم يكن لجميع بنى إسرائيل إلا في عهد سليمان، ثم أصبح بعده معبداً لأقلية منهم في عهد ولده وخليفته رحيعام، حيث انقسمت الدولة في عهده إلى مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها شكيم (نابلس) وقد عاشت قرنين حتى قضى عليها سرجون الثاني الأشوري وسبى 25 ألفاً من سكانها وهدم السامرة (شكيم، نابلس) وأحل السحرة الذين أتى بهم من العراق أحلهم محل سكانها، وهذا يؤكد على أن القدس لم تكن عاصمة للدولة الموحدة إلا لمدة ثلاثة وسبعين سنة فقط.(1/3)
وفى عهد رحيعام أطلق اسم أورشليم على القدس، بدلاً من (مدينة داود) وذكرت بهذا الإسم لأول مرة في سفر يشوع 16 في الإصحاح العاشر. وأصبحت القدس عاصمة للمملكة اليهودية التي حكمها عشرون ملكاً في 337 سنة، عم حكمهم الشر والثورات والحروب ومات أكثر من نصفهم قتلاً بأيدي قومهم أو كان ألعوبة بأيدي المصريين والعراقيين. وكانت هذه المملكة صغيرة المساحة حتى أن المسافر يستطيع أن يجتاز أي طرف منها في يوم واحد 17.
وفى نهاية عهدهم، في زمن (صدقيا بن يوشيا) 597- 586 ق. م تمرد صدقيا على سيده بختنصر، فحاصر بختنصر القدس واحتلها واخذ صدقيا أسيراً وأحرق الهيكل وأسر آلاف السكان، وقد جعل القدس أكواماً من الأنقاض وانتهت أسرة داود. ولكن كورشى الفارسى تمكن من الاستيلاء على بابل سنة 539 ق. م ثم فتح بلاد الشام، وأعاد بعض اليهود إلى القدس، بتأثير من زوجته استز التي كانت من أصل يهودي، فعاد بعضهم بقيادة زربابل 19 سنة 538، وأخذ اليهود في تعمير القدس وبناء هيكل جديد باسم هيكل زربابل سنة 515 ق. م وقد بقي هذا الهيكل حتى سنة 20 ق. م عندما بدأ هيرودوس الكبير في بناء الهيكل الجديد. وقد بقيت القدس تحت الحكم الفارسى حتى احتلها الإسكندر المكدوني20 سنة 332 ق. م.
القدس في العهد اليوناني 332-63 ق. م والروماني 63 ق. م- 638 م:(1/4)
استولى الإسكندر المكدوني على القدس سنة 332 ق. م. فاستقبله اليهود بالترحاب وتناسوا فضل الفرس عليهم كعادتهم في نكران الجميل. لذلك لم يصب الاسكندر المدينة بسوء، وبعد موته سنة 332 ق. م خضعت القدس للبطالسة في مصر ثم للسلوقيين في سوريا سنة 198 ق. م. وقد عمتها خلال حكم اليونان فتق وقلاقل حتى احتلها الرومان سنة 63 ق. م على يد بومبى، وأصبحت جزءا من الإمبراطورية الرومانية. وفي عام 40 ق. م استولى الفرس على القدس مرة أخرى؟ ولكن الرومان استردوها عام 38 ق. م وعينوا هيرودوس الأدومي ملكاً عليها سنة37 ق. م، ثم رجم هذا الهيكل في زمن اغريباس الثاني سنة 64 م. ثم هدم على يد تبطس الروماني سنة 70 م. الذي بنى القصر الملكي المعروف اليوم بالقلعة، كما بنى سوراًَ حول القدس، وفي أواخر أيامه أي هيرودس ولد السيد المسيح. ومن أشهر الولاة الرومان على القدر بيلاطس البنطى 26- 36 م. الذي حدثت في عهده حوادث السيد المسيح .
موقف اليهود من المسيحية:
عندما بلغ السيد المسيح الثلاثين من عمره، أخذ يتجول في فلسطين مبشراً برسالته، وأخذت تعاليمه بالإنتشار، فأغاظ ذلك زعماء اليهود، وكانت أن صب السيد المسيح غضبه على كهنة الهيكل. فقد جاء في إنجيل لوقا 19/45-47 (ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين يبيعون ويشترون فيه قائلاً لهم: مكتوب أي بيتي للصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص). لذلك قاومه الكهنة وسادة اليهود، وحرضوا عليه السلطة الرومانية وقررت مجالس اليهود الدينية الحكم عليه بالموت، وطالبوا الرومان بتنفيذ هذا الحكم. وجاءوا به إلى بيلاطس لمحاكمته، وبعد المحاكمة اعترف بيلاطس ببراءته، فقامت قيامة اليهود، ونادوا:" اصلبه، اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا " فاضطر بيلاطس للإستجابة لطلبهم.(1/5)
وفي زمن بيلاطس عبدت الطرق بين القدس وقيسارية وأريحا، وسحبت إليها مياه العروب. وفى سنة 66 م، حدث في القدس عصيان وشغب، فقام فاسبيانوس وابنه تيطس في محاربة اليهود، ودخل تيطس القدس عام 70 م، واعمل النهب والحرق والقتل، وأحرق المعبد الذي بناه هيرودوس، حتى لم يبق حجر على حجر، وبيع كثير من الأسرى عبيداًَ. وخلد الرومان نصرهم على اليهود بالعبارة اللاتينية المشهورة، التي ينادى بها عند إحراز نصر22، (هب: هب: هورا). وهى مختصر عبارة (هيروسوليما إست برديتا ) أي سقطت أورشليم، (الآن سقطت أورشليم) 23.
لقد جاء تدمير القدس على يد تيطس وفقاً لتحذير المسيح:"ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل، فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع: ما تنتظرون! الحق أقول لكم إنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض " 24.
وقد بقيت القدس خراباًَ مدة طويلة، ليس بها إلا حامية رومانية ولكن بقايا اليهود ثاروا سنة 115 م ثم ثاروا سنة 132 م. وتمكنوا من استرداد القدس، إلا أن الإمبراطور هيدريان تمكن سنة 135 م من إخماد ثورتهم، ونكل بهم، ودمر القدس، وحرق موقعها، وقتل وسبى عدداً كبيراً من اليهود، ومنعهم من السكن فيها والدنو منها. وسمح للمسيحيين- ممن ليسوا من أصل يهودي- بالإقامة بها. وسمى المدينة (إيليا كابيتولينا) 25 وهي مشتقة من اسم أسرة هدبيان المدعوة (إيليا).
وقد ذكر ابن البطريق 26 تدمير هيدريان للقدس، وأشار إلى أنه كان آخر خراب للقدس، فهرب اليهود إلى مصر، وإلى الجبال والغور، وتشتتوا في أنحاء العالم. وأمر هيدريان ألا يسكن القدس يهودي، وأن يقتل اليهود ويستأصل جنسهم، وأن يسكنها اليونانيون فقط.(1/6)
بهذا يكون الرومان قد دمروا القدس مرتين: الأولى سنة 70 م على يد تيطس، والثانية على يد هدريان سنة 135 م، وبعد ذلك انقطع تواجد اليهود في القدس لمدة ألف سنة، لم يسكنها يهودي واحد. وخلال خمسة قرون أخرى تلتها لم يكن بالقدس أكثر من خمسين يهودياً 27.
هذا وقد بنى هيدريان هيكلاً للمشتري على أنقاض هيكل هيرودوس، كما بنى سوراً للقدس 28، ولما اعتنق الإمبراطور قسطنطين 306- 337 م المسيحية، جعلها الديانة الرسمية للدولة. وجاءت والدته هيلانه إلى القدس للبحث عن مواقع الحوادث المهمة التي حدثت للمسيحيين، ولبناء كنائس تذكاراً لهذه الحوادث. فأمرت بهدم تمثال المشتري، وقامت ببناء كنيسة القيامة سنة 335 م 29. ومنذ ذلك التاريخ أخذ الحجاج المسيحيون يزورون القبر المقدس داخل كنيسة القيامة. وسمح قسطنطين لليهود بزيارة القدس مرة واحدة في السنة، و أعاد إليها اسم أورشليم سنة 332، إلا أن اسم إيليا بقي معروفاً.
وعندما انقسم الرومان سنة 395 م إلى قسمين، كانت فلسطين تابعة للدولة الشرقية، وكانت القدس ضمن محافظة فلسطين التي كانت عاصمتها قيسارية 30. وساد الهدوء القدس ما بين 135 م- 614 م، حين غزتها جيوش الفرس المؤيدة بخمسة وعشرين ألف يهودي ، فأحرقت كنيسة القيامة، ونهبت وهدمت الأديرة والكنائس في كل فلسطين، وكان لليهود اليد الطولى في النهب والدمار والفتن، وقدر عدد القتلى المسيحيين في القدس بأكثر من ستين ألفاً، ودفن خمسة آلاف منهم في ماملا 31.
ولكن هرقل الرومي انتصر على الفرس سنة 627 م. واحتفل في القدس في الرابع عشر من أيلول سنة 628 م برفع الصليب الذي كان قد استعاده من الفرس. ولا زال المسيحيون في مختلف أنحاء الشام يعيدون عيد الصليب في الرابع عشر من أيلول من كل عام 32.(1/7)
ولم يطل احتفاظ الروم هذه المرة بالمدينة المقدسة حيث فتحها المسلمون في السنة الخامسة عشرة للهجرة سنة 638 م فأصبحت منذ ذلك التاريخ مدينة إسلامية وطوال تاريخ القدس هذا لم ينقطع تواجد أحفاد اليبوسيين فيها وفي ما حولها سواء في العهد الوثني أو اليهودي أو النصراني، بل أنهم كانوا جلة سكانها لأن الآخرين كانوا محتلين طارئين عليها.
" المراجع "
1- أثبتت الحفريات الحديثة، وجود سور يمكن إرجاعه إلى سنة 1800 ق. م، وهو السور اليبوسي الذي وقف في وجه الغزو الإسرائيلي.
انظر الدباغ: بلادنا فلسطين ، جـ 9، قسم 2. والعابدي: مأساة بيت المقدس، ص 169 و 170.
2- موقعها اليوم يعرف باسم (هليوبوليس) شمال القاهرة، سماها العرب( عين شمس).
انظر الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ 9، قسم 2، ص 24.
3- موقعها اليوم(البدرشين) و( ميت رهينه )، على مسافة 22 كيلومتراً إلى الجنوب من القاهرة.
انظر الدباغ: بلادنا فلسطين، جـ 9، قسم 2، ص 24.
4- الدباغ، بلادنا فلسطين قسم 2، ص 24.
5- الفدان يساوى 4. ر. من الهكتار، ويساوى 4 دونمات، والدونم يساوى 1000 متر مربع.(1/8)