الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم الكلام في الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، قليلاً كان الكلام أو كثيراً، وأن الكلام مبطل لها لتحريمه ومنافاته لمقصودها، فإن الصلاة صلة بين العبد وربه، فلا ينبغي أن يتشاغل المصلي بغير مناجاة الله تعالى والذل بين يديه.
قال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً لكلامه، وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة)[(1015)].
وعلى هذا فلا خلاف بين أهل العلم في أن من تعمد الكلام في الصلاة لغير مصلحتها وهو عالم بالتحريم أن صلاته باطلة.
وإنما وقع الخلاف فيمن تكلم ناسياً أنه في صلاة، أو يظن أن صلاته تمت، أو تكلم لمصلحتها، ففي ذلك قولان:
الأول: أن صلاته باطلة، إلا أنهم يفرقون فيما كان لمصلحة الصلاة بين اليسير فلا تبطل والكثير فتبطل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد[(1016)]، أخذاً بعموم (ونهينا عن الكلام) لأن المصلي قد فعل ما ينافي الصلاة، فتبطل لأنه ليس من جنس ما هو مشروع في الصلاة.
الثاني: أن صلاته صحيحة، وهذا قول مالك، والشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من المحققين[(1017)]؛ لما يلي:
1 ـ قصة ذي اليدين، وهي مذكورة في أحاديث «سجود السهو».
2 ـ قصة معاوية بن الحكم، كما تقدم.
3 ـ قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}}، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال إجابة لهذا الدعاء: «قد فعلت» ، وفي رواية: قال: «نعم» [(1018)].
4 ـ عموم حديث ابن عباس: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» [(1019)]، والله تعالى أعلم.
ما يفعله من نابه شيء في صلاته
222/18 ـ وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلِمٌ: «في الصَّلاَةِ».(1/294)
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» باب «التصفيق للنساء»، ومسلم (422) من طريق سفيان بن عيينة، حدثنا الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم من طرق، عن أبي هريرة، فأخرجه من طريق الأعمش، عن أبي صالح ـ وهو ذكوان السمان ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه ـ أيضاً ـ من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثله، وزاد: (في الصلاة).
وأخرجه البيهقي (2/247) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي فإذنها التصفيق» ، قال الألباني: (هذا إسناد صحيح على شرط البخاري)[(1020)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الرجل إذا نابه شيء وهو يصلي كتنبيه إمام، أو تنبيه مارٍّ، أو من يريد منه أمراً وهو لا يدري أنه يصلي فإنه يسبِّح، فيقول: سبحان الله، وأن المرأة إذا نابها شيء وهي تصلي فإنها تصفق، وهذا من فضل الله تعالى على عباده، فإنه لما نسخ الله الكلام في الصلاة أبقى ما يُنتفع به ويحصل به المقصود كالتسبيح، وقد ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء» ، وفي لفظ: «من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان الله، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان الله إلا التفت» ، وفي رواية: «إنما التصفيق للنساء» [(1021)]، وهذا أسلوب من أساليب القصر.
وصفته: إما أن تضرب ببطن كفها على ظهر الأخرى، أو تضرب بظهر كفها على بطن الأخرى، أو ببطن كفها على بطن الأخرى، كما هو المعروف عند النساء الآن[(1022)]، والأمر في ذلك واسع؛ لأن الشرع لم يحدد صفة معينة.(1/295)
وإذا انتبه المنبَّه بالتسبيح مرة واحدة لم يعده المصلي مرة أخرى؛ لأنه ذكرٌ مشروع لسبب، فيزول بزوال سببه، وإن لم ينتبه كرره حتى يحصل المقصود.
وحكمة التفريق يبن الرجال والنساء في موضوع التنبيه أثناء الصلاة ظاهرة، فإن المرأة مأمورة بخفض صوتها في الصلاة مطلقاً خشية الافتتان بها، ولهذا نهيت عن رفع صوتها في القراءة والتلبية ونحو ذلك من مسائل العبادات، وكذا في غير العبادة لا ترفع صوتها إذا كان بحضرتها أجانب.
لكن إن كانت المرأة بحضرة نساء فقط فهل تسبح ـ لأن التسبيح ذكر مشروع في الصلاة بخلاف التصفيق ـ أو أنها تصفق مطلقاً؟ المسألة محتملة[(1023)] فمن أخذ بعموم الحديث وأن النساء لهن التصفيق قال بالثاني، ومن أخذ بالتعليل المذكور والمعنى المتقدم قال: تسبح، وقد يؤيد ذلك ظاهر الحديث، فإن قوله: «فليسبح الرجال ولتصفق النساء» ، قد يفهم منه أن المراد مع اجتماع الرجال والنساء؛ لأنه أعطى كل صنف حكمه، فإذا انفردن سبَّحن.
الوجه الثالث: إذا أخذنا برواية الحصر: «إنما التصفيق للنساء» ، فهي دليل على أن التصفيق من خصائص النساء، وأنه لا مدخل للرجال في ذلك بحال من الأحوال.
وبهذا يتبين أن ما يفعله كثير من الناس من التصفيق في المحافل عند رؤيتهم ما يعجبهم أن هذا سخف ودليل على قلة العقل، والله تعالى ذم المشركين بقوله: {{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}} [الأنفال: 35] والمكاء: هو الصفير، والتصدية: التصفيق، كما قال بذلك جمهور المفسرين.
ثم إنه لم يكن من هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه ولا سلف هذه الأمة إذا رأوا ما يعجبهم أو سمعوا الخطب والأشعار أنهم يصفقون، وإنما حدث ذلك عن طريق التشبه بأعداء الله تعالى، وقد قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة واستقبله المهاجرون والأنصار ولم ينقل أنهم صفقوا.(1/296)
فالمسلم إذا أعجبه شيء يقول: ما شاء الله، أو يقول: الله أكبر، ونحو ذلك مما له أصل في الشرع في مثل هذه الأحوال، والله تعالى أعلم.
البكاء في الصلاة لا يبطلها
223/19 ـ وعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَال: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، وَفي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرجَلِ، مِنَ الْبُكَاءِ. أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، إِلاَّ ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو مُطَرِّفُ ـ بضم الميم وفتح الطاء فراء مشددة مكسورة ثم فاء ـ بن عبد الله بن الشخير ـ بكسر الشين المعجمة وكسر الخاء المعجمة المشددة ـ العامري البصري، قال ابن سعد: (كان ثقةً، له فضل وورع ورواية وعقل وأدب)[(1024)]، وقال في «التقريب»: (ثقة عابد فاضل)، مات سنة خمس وتسعين.
ووالده عبد الله بن الشخير، له صحبة ورواية، يُعَدُّ في البصريين روى عنه أبناؤه: الأول: مطرف، والثاني: يزيد أبو العلاء، وهو أصغر من مطرف بعشر سنوات، كما روى البخاري ذلك في «تاريخه»، وهو ثقة، وله أحاديث صالحة، والثالث: هانئ، وقد ذكره ابن حبان في «الثقات»[(1025)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «البكاء في الصلاة» (904)، والترمذي في «الشمائل» «المختصر» (276)، والنسائي (3/13)، وأحمد (26/238)، وابن خزيمة (665، 753)، وابن حبان (753)، والحاكم (1/264) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف، عن أبيه.
وإسناده صحيح على شرط مسلم، صححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وصححه ابن حبان، وابن خزيمة، والألباني في تعليقه على «الشمائل»، وقال الحافظ: (إسناده قوي)[(1026)].
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (وفي صدره أزيز) بفتح الهمزة بعدها زاي معجمة مكسورة ثم ياء ثم زاي، أي: صوت وغليان بالبكاء.(1/297)
قوله: (كأزيز المرجل) بكسر الميم، وهو القدر، فإنه عند غليان الماء فيه بالنار يخرج منه صوت.
وقوله: (من البكاء) بيان لما قبله، والبكاء: بالمد، خروج الدمع مع الصوت.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن البكاء في الصلاة من خشية الله تعالى أو النشيج لا يبطلها، ولا يؤثر فيها؛ لأن هذا ليس من الكلام، وإنما هو من آثار الخشوع والانطراح فيها بين يدي الله تعالى عند قراءة الآيات أو سماعها، قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر بن الخطاب في صلاة الصبح وهو يقرأ من سورة يوسف، وأنا في آخر الصفوف، يقرأ: {{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}} [يوسف: 86] [(1027)].
فإن كان البكاء في الصلاة لغير خشية الله تعالى بل لعارض آخر كأن يأتيه خبر وهو يصلي بأن فلاناً قد مات فيبكي، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه يبطل الصلاة إن ظهر منه حرفان، وهو قول مالك، وأبي حنيفة[(1028)]، لكن إن غلبه البكاء ولم يستطع دفعه فالصواب أن صلاته لا تبطل؛ لأن هذا بغير اختياره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما ما يغلب على المصلي من عطاس وبكاء وتأوهٍ، فالصحيح عند جمهور العلماء أنه لا يبطل، وهو منصوص أحمد وغيره)[(1029)]، والله أعلم.
التنحنح في الصلاة لا يبطلها
224/20 ـ وعَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم مَدْخَلاَنِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي تَنحْنَحَ لِي. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه النسائي (3/12) في كتاب «السهو» باب «التنحنح في الصلاة»، وابن ماجه (3708)، وأحمد (2/43) من طريق أبي بكر بن عياش، عن مغيرة، عن الحارث العُكْلي، عن ابن نُجَيٍّ قال: قال علي: كان لي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدخلان: مدخل بالليل ومدخل بالنهار، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي.(1/298)
وهذا لفظ ابن ماجه، وهو لفظ «البلوغ»، وليس عند النسائي من هذا الطريق (وهو يصلي) وإنما هو عنده من طريق آخر، وهذا إسناد ضعيف لثلاثة أمور:
الأول: الكلام في بعض رواته، وهو أبو بكر بن عياش[(1030)]، فإنه وإن كان ثقة وهو من رجال البخاري، لكنه كبر وساء حفظه، كما في «التقريب»، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: (ثقة وربما غلط)، فَيُرَدُّ من حديثه ما يعلم أنه أخطأ فيه كما قال ابن حبان[(1031)]، ووصف الألباني كلمة ابن حبان هذه بأنها من أحسن ما قرأت فيه.
وهذا الحديث قد أخطأ فيه، فإنه قد خولف في إسناده ومتنه، كما سيأتي.
وعبد الله بن نُجيّ متكلم فيه، فقد وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(1032)]، وقال البخاري وابن عدي: (فيه نظر)[(1033)]، وقال الدارقطني: (ليس بقوي في الحديث)[(1034)] وقال الحافظ: (صدوق)، فمثله لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، لكن اختلف في سماعه من علي رضي الله عنه فقد نفى سماعه منه ابن معين فقال: (لم يسمع من علي، بينه وبين علي: أبوه)[(1035)] ومثله قال الدارقطني[(1036)] واختاره المزي[(1037)]، وقال البزار: (سمع هو وأبوه من علي[(1038)])، وهذا يدل عليه ما ورد عند الطحاوي في الطريق الآتي، وكذا عند النسائي كما في «الخصائص»[(1039)].(1/299)
الأمر الثاني: الاختلاف في إسناده، فقد جاء الحديث من طريق جرير ـ وهو ابن عبد الحميد الضبي ـ عن مغيرة بن مِقْسم، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عبد الله بن نجي به، أخرجه النسائي (3/12)، وابن خزيمة (904)، وأبو يعلى (592) فخالف جرير أبا بكر بن عياش فزاد في الإسناد بين الحارث وعبد الله بن نجي أبا زرعة بن عمرو، والحارث وأبو زرعة كلاهما له رواية عن ابن نُجي، وجاء من طريق عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا عمارة بن القعقاع، عن الحارث العكلي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن عبد الله بن نجي قال: قال علي.. فذكره، أخرجه أحمد (2/13)، والطحاوي في «المشكل» (5/7)، بلفظ (قال: قال لي علي...) وابن خزيمة (904)، ومن الاختلاف في سنده أنه جاء من طريق شرحبيل بن مدرك الجعفي، عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عند أحمد (2/77)، والنسائي (3/12)، وابن خزيمة (902).
وهذا إسناد ضعيف لجهالة نجي والد عبد الله، فإنه لم يرو عنه غير ابنه، ولم يوثقه إلا ابن حبان وقال: (لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد)[(1040)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (مقبول)، وفي هذا الإسناد انفرد شرحبيل بذكره، كما نص على ذلك ابن خزيمة.
الأمر الثالث: الاختلاف في المتن، فقد جاء من طريق جرير وعبد الواحد بلفظ: (فإن كان في صلاة سبح) مكان قوله: (تنحنح) وجرير وعبد الواحد أوثق من ابن عياش.
وعلى هذا فالحديث لا يثبت بلفظ: (تنحنح) فقد تفرد به ابن عياش، على ما ذكر ابن خزيمة، فإنه قد ترجم على هذا الحديث بقوله: «باب الرخصة في التنحنح في الصلاة عند الاستئذان على المصلي إن صحت هذه اللفظة، فقد اختلفوا فيها»، وممن ضعفه البيهقي (2/247)، والطحاوي كما سيأتي، والنووي فإنه قال: (وضعفه ظاهر)[(1041)]، وضعَّفه الألباني[(1042)]، وقد نقل الحافظ أن ابن السكن قد صححه[(1043)].(1/300)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن التنحنح في الصلاة غير مبطل لها، لكن الأفضل للمصلي أن يسبِّح؛ لأن الأحاديث الواردة في التسبيح أقوى، يقول الطحاوي لما ذكر الاختلاف في متن هذا الحديث: (فوقفنا بذلك على أن رواته بالمعنى الأول من التنحنح قد خالفوا فيه، وأن مكان التنحنح المذكور فيه التسبيح في الحديث الثاني، وكان ذلك هو أولى عندنا؛ لأن الآثار التي روتها العامة من أهل العلم فيما ينوب الرجل في الصلاة مما يستعملونه فيه هو التسبيح، وأن ما يستعمله النساء في مثل ذلك هو التصفيق)[(1044)].
والتنحنح والنحنحة: هو تردد الصوت في الجوف، يقال: نحَّ نحيحاً: تردد صوته في جوفه، والنحيح: هو الصوت يُردد في الجوف[(1045)]، والله تعالى أعلم.
المصلي يرد السلام بالإشارة
225/21 ـ وعَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ لِبِلاَلٍ: كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَرُدُّ عَلَيُهِمْ حِيْنَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُولُ هكَذا، وَبَسَطَ كَفَّهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «ردِّ السلام في الصلاة» (927)، والترمذي (368) من طريق جعفر بن عون، ثنا هشام بن سعد، ثنا نافع قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: خرج رسول الله إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق.(1/301)
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الكتاب هو لفظ الترمذي، فقد أخرجه هو وأحمد (39/320) من طريق وكيع، حدثنا هشام به، إلا أن في آخره: (قال: كان يشير بيده)، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، والحديث صححه الألباني[(1046)]، مع أن هشام بن سعد متكلم فيه من قبل حفظه، قال الحافظ في «التقريب»: (صدوق له أوهام)، وقال الألباني: (الذي استقر عليه رأي المحققين أنه حسن الحديث إذا لم يخالف، ومع المخالفة فلا يحتج به)[(1047)].
وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث، فقال إسحاق بن منصور: (قلت لأبي عبد الله: هل يسلم على القوم وهم في صلاة؟ قال: نعم، وذكر هذا الحديث)[(1048)].
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بجواز السلام على المصلي وأنه لا كراهة في ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينكر عليهم سلامهم بل أقرهم عليه، وهذا قول ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مذهب الحنابلة والشافعية، ونقل ابن القاسم عن مالك أنه قال: لم يكن مالك يكره السلام على المصلين، وحكى عنه ابن وهب أنه لم يكن يعجبه أن يسلم الرجل على المصلي[(1049)]، واختار هذا القول ابن المنذر[(1050)].
والقول الثاني: أنه يكره السلام على المصلي، وهذا مروي عن جابر رضي الله عنه، وبه قال عطاء والشعبي وإسحاق، وهو قول الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد؛ لأنه يُشغل قلب المصلي؛ ولأنه ربما غلط فردَّ بالكلام[(1051)].
الوجه الثالث: استدلّ بهذا الحديث من قال بأن المصلي يرد السلام بالإشارة، وأن الإشارة لا تبطل الصلاة ولو كانت إشارة مفهومة؛ لأنها قليلة لحاجة، وإنما الذي يبطلها الرد بالكلام؛ لأنه خطاب، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة[(1052)].(1/302)
والقول الثاني: أنه يكره للمصلي ردُّ السلام ولو بالإشارة، وهذا قول الحنفية[(1053)]، واستدلوا بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو في الصلاة ـ فيردّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلِّم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: «إن في الصلاة شغلاً»[(1054)].
قالوا: فيتناول هذا الحديث جميع أنواع الردّ، ولأن في الإشارة ترك سنة وضع اليدين.
والقول الثالث: أن المصلي يرد السلام إذا فرغ من صلاته، وهذا مروي عن أبي ذر رضي الله عنه، وبه قال عطاء والنخعي، بل قال النخعي وسفيان الثوري إذا انصرفت، فإن كان قريباً فاردد عليه، وإلا فاتبعه السلام[(1055)].
والقول الأول أظهر، فإن الأحاديث الواردة في هذا الباب صالحة للاستدلال بها، وقد احتج بها الإمام أحمد وعمل بها، أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فهو محمول على نفي الرد بالكلام دون الإشارة، جمعاً بين الأدلة[(1056)].
وعلى القول بأن المصلي يرد بالإشارة، فقد ورد أن الإشارة تكون بالكف على ما تقدم في سياق الحديث، وورد في السنّة صفات أخرى ومنها: الرد بالإشارة بالإصبع، والأظهر أنها السّبّاحة؛ لأنها أيسر؛ ولأن العادة جرت برفعها.
وقد وردت هذه الصفة في حديث ابن عمر ـ أيضاً ـ عن صهيب قال: مررت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي فسلمت عليه، فردَّ عليَّ إشارة، وقال الليث بن سعد أحد رواته: لا أعلم إلا أنه قال: إشارة بإصبعه[(1057)].
قال الشوكاني: (ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون أشار بإصبعه مرة، ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الإصبع حملاً للمطلق على المقيد)[(1058)].
كما ورد الرد إيماءً بالرأس، وذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه: (فأومأ برأسه)، وفي رواية: (فقال برأسه، يعني: الرد)[(1059)].(1/303)
وفي ثبوت هذه الصفة نظر، لضعف الحديث، والأولى الاقتصار على الصفتين الأوليين.
قال الشوكاني: (ويجمع بين الروايات أنه صلّى الله عليه وسلّم فعل هذا مرة، وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزاً)[(1060)]، والله أعلم.
حكم حمل الصبي ووضعه في الصلاة
226/22 ـ وَعَنْ أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَها، وإذَا قَامَ حَمَلَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي المَسْجِدِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «إذا حمل جارية على عنقه في الصلاة» (516)، ومسلم (543) من طريق مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم من طريق سفيان، عن عثمان بن أبي سليمان وابن عجلان سمعا عامر بن عبد الله بن الزبير به، وفيه: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص ـ وهي ابنة زينب بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ على عاتقه..
وأخرجه مسلم ـ أيضاً ـ من طريقين آخرين، أحدهما: شاركه فيه البخاري، وهو طريق سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم الزرقي، سمع أبا قتادة يقول...
ومن طريق ابن وهب، أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عمرو بن سليم الزرقي به، وهذا فيه انقطاع، قال أبو داود: (مخرمة لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً)، ونقل المزي هذه العبارة عن أبي داود، وزاد: (وهو حديث الوتر)[(1061)]، وقال الإمام أحمد: (هو ثقة، لم يسمع من أبيه شيئاً، إنما روى كتاب أبيه) نقله عنه ابن أبي حاتم[(1062)]، وعلى هذا فروايته كتاب أبيه وجادة، والوجادة من طرق التحمل عند أهل العلم، فالحديث صحيح، ومنهج الإمام مسلم في هذا معروف، وهو ترتيبه المرويات حسب ما ذكر في مقدمة «صحيحه»، وقد جعل هذا في آخر الباب.(1/304)
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان يصلي) أي: صلاة الظهر أو العصر، لما ورد عند أبي داود من حديث أبي قتادة قال: بينما نحن ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للصلاة في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عنقه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مصلاه، وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه... الحديث[(1063)]، وفي رواية لمسلم: (يؤم الناس).
وقوله: (كان يصلي) لم يقع هذا الفعل إلا مرة واحدة، ففيه ما يدل على أن هذه العبارة لا تدل على التكرار مطلقاً.
قوله: (وهو حامل أمامة) الجملة في محل نصب على الحال من فاعل (يصلي) و(حامل) بالتنوين اسم فاعل، و(أمامة) منصوب باسم الفاعل على أنه مفعول به.
وروي بالإضافة، كما قرئ قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}} [الطلاق: 3] بالتنوين والإضافة، وكلاهما سبعيتان، وقد ورد عند أبي داود: (بينما نحن في المسجد جلوساً خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحمل أمامة... وهي صبية)[(1064)] وهذا يدل على أنها كانت صغيرة.
وهذه الرواية مطلقة، لكن وقع عند البخاري في «الأدب» ومسلم (على عاتقه)[(1065)]، وتقدم أن العاتق ما بين المنكب والعنق.
وأُمامة: بضم الهمزة وتخفيف الميمين، وهي بنت أبي العاص بن الربيع، ولدت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبها.(1/305)
قوله: (بنت زينب) نسبها إلى أمها لشرف نسبها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل: لأن أباها كان مشركاً آنذاك، وزينب هي ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبرى بناته، وقيل: أكبر أولاده، ولدت وللنبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثون سنة، وزَوَّجَها ابن خالتها أبا العاص قبل البعثة بيسير، ثم هاجرت، وتركته على شركه، واسمه لقيط بن الربيع بن عبد العزى القرشي العبشمي رضي الله عنه وأمه هالة بنت خويلد بن أسد، أخت خديجة لأبيها وأمها، أسلم قبل الفتح في المحرم سنة سبع، وهاجر، فردَّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب[(1066)]، وماتت زينب سنة ثمان من الهجرة، وغسلتها أم عطية رضي الله عنها مع أخريات، كما سيأتي في «الجنائز» إن شاء الله.
وقد ثبت في «الصحيحين» بعد قوله: (بنت زينب) قوله: (ولأبي العاص) وهي معطوفة على زينب بإظهار اللام المقدرة في الإضافة، والتقدير: بنت لزينب ولأبي العاص، ونسبتها ثانية لأبيها فيه مراعاة للأدب في نسبتها له، لبيان أنه أبوها الحقيقي، وقد أخرجه البخاري في «الأدب» ـ كما تقدم ـ بلفظ: (خرج علينا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه)[(1067)].
قوله: (فإذا سجد) معطوف على قوله: (يصلي)، وفي رواية عند البخاري ومسلم: (فإذا ركع وضعها) أي: وضعها على الأرض.
قوله: (وإذا قام) أي: من السجود إلى الركعة التالية حملها، وعند أبي داود: (حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده ثم قام، أخذها فردها في مكانها...).
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن العمل المشابه لهذا الفعل لا يبطل الصلاة، سواء أكانت فريضة أم نافلة، وسواء أكان إماماً أم منفرداً، وقد تقدم في رواية مسلم: (أنه كان يؤم الناس)، وإذا جاز ذلك في حال الإمامة جاز في حال الانفراد، وإذا جاز في الفريضة جاز في النافلة بالأولى.(1/306)
قال الحافظ ابن رجب: (والحديث نص صريح في جواز مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة، وأن ذلك لا يكره فيها، فضلاً عن أن يبطلها..)[(1068)].
وقد ذكر العلماء لهذا الحديث تأويلات بعيدة، والذي أحوجهم إلى ذلك أنه شغل كثير، كما ذكر القرطبي[(1069)]، فقال بعضهم: إنه خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال آخرون: إن أُمامة كانت تعلَّق به من دون فعل منه، وبعضهم قال: إن هذا في النافلة، وبعضهم قال: هذا للضرورة وإذا لم يوجد من يكفي الطفل ويحفظه، وبعضهم قال: إنه منسوخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة بغيرها، وهذا قاله ابن عبد البر، ومال إليه القرطبي.
وهذه دعاوى لا يلتفت إليها، وبعضها يرده سياق الحديث، كما تقدم؛ فالصواب أن مثل هذا العمل لا يؤثر في الصلاة.
وقد اختلف العلماء في ضابط الحركة التي تبطل الصلاة، فمن أهل العلم من حددها بثلاث حركات، ونسب هذا إلى ابن عقيل الحنبلي[(1070)]، وهو قول ضعيف لأمرين:
الأول: أن كل من حدد شيئاً بعدد معين أو كيفية معينة فعليه الدليل؛ لأن التقدير بابه التوقيف، وهذا لا توقيف فيه[(1071)].
الثاني: أنه ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حمل أمامة، كما في هذا الحديث، وفي صلاة الكسوف تقدم ورجع وتأخر[(1072)].
وقال آخرون: يُرجع في هذا إلى العرف، فما عُدَّ في العرف كثيراً فهو كثير يبطل الصلاة، وما عُدّ في العرف يسيراً فهو يسير لا يبطلها، وهذا هو المذهب عند الحنابلة[(1073)]، وهذا فيه شيء من الضعف؛ لأن الأعراف تختلف باختلاف البلدان واختلاف الأفهام، فقد يرى بعض الناس هذا كثيراً، وقد يراه آخرون قليلاً.(1/307)
والقول الثالث: أن الكثير من الحركة ما خُيل للناظر أن المتحرك ليس في صلاة، وهذا حكاه صاحب «الإنصاف»[(1074)] بلفظ: (وقيل)، ولعل هذا هو أظهر الأقوال وأقربها، وهو أن كل حركة تنافي الصلاة بحيث إذا رؤي الشخص يتحرك خُيِّل للناظر أنه ليس في صلاة، فهي مبطلة للصلاة، أما الشيء اليسير الذي لا ينافيها فلا يبطلها.
ويمكن أن تقسم الحركة في الصلاة إلى ثلاثة أقسام مستفادة من الأدلة وهي:
1 ـ حركة مأمور بها، وهي كل حركة تتوقف عليها صحة الصلاة، أو كمالها، فالأول: كما لو رأى على غطاء رأسه أو عباءته نجاسة فألقاها، وكما لو استدار إلى القبلة لما تبين له الصواب، ومن أدلة ذلك ما ورد في «الصحيحين» من استدارة الصحابة رضي الله عنهم إلى الكعبة لما أُخبروا بتحويل القبلة إليها[(1075)]، وقد ورد في «الصحيحين» أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أدار ابن عباس من ورائه إلى يمينه لما وقف عن يساره[(1076)]، وهذا على القول بعدم صحة الصلاة عن يسار الإمام مع خلو يمينه.
والثاني: وهو ما يتوقف عليه كمال الصلاة، كالتقدم إلى مكان فاضل، كسدِّ فرجة في الصف، أو تَحَرُّكٍ لتسوية الصف، فهذه مأمور بها لكمال الصلاة.
2 ـ حركة منهي عنها، فإن كانت كثيرة متوالية لغير حاجة فهي مبطلة للصلاة ـ على ما تقدم ـ وإلا فهي مكروهة، وهي كل حركة يسيرة لغير حاجة، كما عليه كثير من الناس من العبث بالساعة أو النظر إليها أو تسوية غطاء الرأس أو العبث باللحية ونحو ذلك، فكل ذلك مكروه؛ لأنه ينافي الخشوع في الصلاة، فإن كَثُر وتوالى فهو محرم مبطل للصلاة.
3 ـ حركة مباحة، وهي اليسيرة لحاجة أو الكثيرة للضرورة، فالأولى كما في حديث الباب، والكثيرة للضرورة كما في حالة الخوف إذا لم يتمكنوا معه من أداء الصلاة على الوجه المطلوب فإنهم يصلون وهم مشاة على أرجلهم أو راكبون على خيولهم، قال تعالى: {{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}} [البقرة: 239] [(1077)].(1/308)
ومن الحركة المباحة أن يحك جسده أو يصلح إزاره إذا استرخى، وقد نقل ابن رجب عن الإمام أحمد أنه سأله حرب عن الرجل يصلي فتحتك ساقه فيحكه، فكأنه كرهه، قلت: يحكه بقدمه؟ قال: هو بالقدم أسهل، وكأنه رخص فيه.
ونقل عن بعض متأخري الحنابلة أنه قال: الحك الذي لا يصبر عنه المصلي لا تبطل صلاته وإن كَثُر[(1078)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز حمل الأطفال في الصلاة؛ لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفوٌّ عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم طاهرة، ما لم تتحقق نجاستها، ولو كان محكوماً بنجاستها لم يصلِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو حامل أمامة، وقد نصَّ الشافعي وغيره على طهارتها.
والقول الثاني: أنه لا يحكم بطهارتها؛ لأنهم لا يتنزهون من البول، وهو قول بعض الشافعية والحنابلة، والأول أصح؛ لأن هذا الحديث يدل على طهارتها[(1079)].
الوجه الخامس: حسنُ خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم ورأفته وملاطفته للصبيان جبراً لهم ولوالديهم، وهذا فيه التواضع مع الصبيان، وسائر الضعفة ورحمتهم وملاطفتهم، ولذا أعاد البخاري هذا الحديث في كتاب «الأدب» ـ كما تقدم ـ وبوّب عليه: «باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته».
الوجه السادس: في الحديث دليل على يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها، حيث إن العمل القليل لا يبطل الصلاة، وكذا الكثير المتفرق.
الوجه السابع: الحديث دليل على جواز إدخال الصبيان المساجد، وقد استدل بذلك النسائي حيث بوَّبَ على هذا الحديث بـ(إدخال الصبيان المساجد)[(1080)]. ويدل لذلك أن هذه الصلاة كانت مكتوبة، وهي لا تكون إلا في المسجد كما تقدم، والله تعالى أعلم.
حكم قتل الحية والعقرب في الصلاة
227/23 ـ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقْتُلُوا الأَسْوَدَيْنِ في الصَّلاةِ: الحَيَّةَ، والْعَقْرَبَ». أَخْرَجَه الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:(1/309)
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «العمل في الصلاة» (921)، والترمذي (390)، والنسائي (3/10)، وابن ماجه (1245)، وابن حبان (2352)، كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن ضمضم بن جَوْس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. فذكره. وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
فهذا الحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير ضمضم بن جوس فمن رجال أصحاب السنن، وهو ثقة، ويحيى بن أبي كثير: ثقة ثبت، لكنه يدلس ويرسل ـ كما في «التقريب» ـ وقد صرح بالتحديث عند أحمد (16/117).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (اقتلوا الأسودين) تثنية أسود، يطلق على الحية والعقرب على أيِّ لون كانا، ولو لم يكونا أسودين، وتسميتهما بذلك من باب التغليب؛ لأن المسمى بالأسود في الأصل: الحية، هكذ ذكروا.
قوله: (الحية والعقرب) بيان للأسودين، والحية: دابة من الزواحف، طويلة البطن، جسمها محرشف، عديم الأطراف، وهي أنواع، بعضها أخبث من بعض، وهي تلدغ بواسطة العضِّ بفمها، ثم تفرز مادة سامة تنتقل إلى اللديغ، ولذا قال علماء اللغة: لدغته العقرب: لسعته، ولدغته الحية: عضته.
والعقرب: دابة معروفة، تلسع بشوكة في طرف ذيلها، فتفرز مادة سامة، وهو لفظ يطلق على الذكر والأنثى.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب قتل الحية والعقرب في الصلاة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك في قوله: «اقتلوا..» ، ويغتفر في ذلك المشي اليسير أو أخذ النعل لضربها، ونحو ذلك.
ولعلّ الأمر بقتلهما والمسامحة عما يحصل من الحركة مقصود به مبادرة الفرصة قبل فواتها، كإنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، ونحو ذلك مما يفوت بفوات وقته؛ ولأن في قتلهما دَفْعَ انشغال الخاطر بهما، ولا سيّما في حال الصلاة، وإزالة الأذى.(1/310)
وظاهر الحديث أن قتلهما غير مقيد بضربة أو ضربتين، لكن الظاهر أنه إن احتاج قتلهما إلى معالجة كثيرة فسدت صلاته، كما إذا قاتل في صلاته؛ لأنه عمل كثير ليس من أعمال الصلاة.
وكذا لو كانت الحية أو العقرب بعيدة ويخشى منها على نائم أو على طفل، فالذي يظهر من قواعد الشريعة أنه يقطع صلاته ويقتلها، كحالة الغرق أو الحريق أو العدو ونحو ذلك.
وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال: سألته، قلت: الرجل يصلي، فيرى صبياً على بئر يتخوف أن يسقط بها أينصرف؟ قال: نعم، قلت: فيرى سارقاً يريد أن يأخذ بغلته؟ قال: ينصرف[(1081)]، وقد علق البخاري الجزء الثاني بمعناه[(1082)].
وقد ذكر الحافظ ابن حجر عن بعض الحنابلة أنه قال: (إنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير في أخذ الشيء، فإن كان العمل يسيراً لم تبطل به الصلاة)[(1083)]، والله تعالى أعلم.
باب سترة المصلي
السُّترة، بالضم: ما يُستتر به مطلقاً، لكن غلب إطلاقها عند الفقهاء على ما ينصبه المصلي أمامه، لمنع المرور بين يديه من عصا أو سوط، أو غير ذلك من شجرة أو دابة أو سارية ونحو ذلك.
ولا خلاف بين أهل العلم أنه يستحب للمصلي إماماً كان أو منفرداً أن يصلي إلى سترة، سواء صلّى في العمران أو في الفضاء، لما ورد في ذلك من السنّة القولية والفعلية.
ولا فرق على الأظهر بين أن يخشى المصلي ماراً أو لا يخشى، فتستحب له السترة مطلقاً، وإنما وقع الخلاف في وجوبها، كما سيأتي إن شاء الله.(1/311)
وأما المأموم فلا يسن له أن يتخذ سترة؛ لأن ذلك لم يرد؛ ولأن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقد حكى جمع من أهل العلم كابن بطال، وابن حزم، والقاضي عياض الإجماع على أن المأموم لا يكلف اتخاذ سترة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى العنزة، ولم يرد أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم اتخذ غيرها[(1084)]، وورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد[(1085)])، ولا ريب أن الصلاة إلى سترة فيها فوائد ومصالح؛ منها:
1 ـ امتثال أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتخاذها، واتباع هديه صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان يصلي إلى سترة حضراً وسفراً، والإنسان يثاب على اتباع السنّة وإحيائها.
2 ـ أن الصلاة إلى سترة تحفظ على المصلي صلاته من مرور الشيطان أمامه وقطعه لصلاته، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا صلّى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته»[(1086)][(1087)].
ومرور الشيطان أمام المصلي يؤدي إلى استيلائه عليه وتمكنه من قلبه بالوسوسة إما كلاًّ وإما بعضاً، بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وهذا يؤثر على خشوع المصلي وخضوعه وتدبُّره القراءة والذكر.
3 ـ كف البصر عما وراء السترة، لا سيّما إذا كانت سترة شاخصة، كسارية أو جدار، وهذا أمر محسوس، فإن المصلي إلى سترة يرى أنه أجمع لقلبه وأقرب لخشوعه، وأغض لبصره.
4 ـ أن السترة تنفع المصلي، فلا تبطل صلاته إذا كان المار مما يقطعها، ولا تنقص إذا كان المار ممن لا يقطعها، وتنفع المار لأنه يكون له مجال المرور من وراء السترة فلا يحوجه إلى المرور بين يديه فيقع في الإثم، أو الوقوف حتى تنتهي صلاته، وهذا فيه حرج.(1/312)
حكم المرور بين يدي المصلي
228/1 ـ وعَنْ أَبي جُهَيْمِ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ يَعْلَمْ المَارُّ بَيْنَ يَدَي المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَوَقَعَ فِي «الْبَزَّارِ» مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: «أَرْبَعِينَ خَرِيفاً».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو جهيم ويقال: أبو جهم، عبد الله بن الحارث بن الصِّمَّة ـ بكسر المهملة وتشديد الميم ـ الأنصاري النجاري، صحابي معروف، وهو ابنُ أختِ أُبي بن كعب رضي الله عنهما له حديثان، أحدهما هذا، والآخر في السلام على من يبول[(1088)]، وهو غير صاحب الأنبجانية، فذاك يقال له: أبو الجهم، وهو قرشي، وهذا أنصاري، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه.
وهل أبو جهيم هو عبد الله بن جهيم؟ قولان، فأبو حاتم ومن وافقه يرى أنهما اثنان، وأن عبد الله بن جهيم هو راوي هذا الحديث، وابن الحارث هو راوي حديث البول.
وابن منده وابن عبد البر يريان أنهما شخص واحد، قال ابن عبد البر: (أبو جهيم عبد الله بن جهيم الأنصاري)، ثم ذكر حديثه هذا[(1089)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «إثم المار بين يدي المصلي» (510)، ومسلم (507) من طريق مالك، عن أبي النضر[(1090)] مولى عمر بن عبيد الله، عن بسر بن سعيد، أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم... فذكره.
وزاد البخاري ومسلم: قال أبو النضر: لا أدري أقال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. وأخرجه مسلم ـ أيضاً ـ من طريق سفيان الثوري، عن سالم أبي النضر به.(1/313)
ولفظ البخاري ومسلم سواء، وعليه فلا وجه لقول الحافظ: واللفظ للبخاري، إلا إن كان يريد لفظة (من الإثم) وأنها للبخاري دون مسلم، وهذا غير صحيح، فإنها ليست في صحيح البخاري ولا مسلم، وقد روى الحديث باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، كما ذكر ذلك الحافظ، وذكر أنه عِيْبَ على صاحب «العمدة» في إيهامه أنها في «الصحيحين»، فالعجب من نسبة المصنف لها هنا إلى الشيخين، فقد وقع له من الوهم ما وقع لصاحب «العمدة»، وذكر الحافظ أنها من زيادات الكُشْمَيْهَنِي، وذكر احتمال أن تكون هذه اللفظة وجدت في حاشية أصل البخاري، فظنها بعض رواة البخاري ـ وهو الكشميهني ـ أصلاً، فزادها؛ لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، بل كان راوية.
لكن البخاري بوّب على الحديث ـ كما تقدم ـ بقوله: «باب: إثم المار بين يدي المصلي» وكأن هذا الذي غرَّ الكشميهني في ظنه المذكور، وأما البخاري فقد اعتمد في ترجمته على ما يفهم من معنى الحديث.
أما رواية البزار فقد أخرجها في «مسنده» (9/239) (3782) من طريق سفيان ـ وهو ابن عيينة ـ، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله عن المار بين يدي المصلي، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو يعلم المارّ بين يدي المصلي ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفاً خير له من أن يمر بين يديه».(1/314)
وقد ذكر العلماء أن ابن عيينة أخطأ في الحديث سنداً ومتناً[(1091)]، أما في السند فلأنه خالف مالكاً والثوري الراويين عن أبي النضر، فروى الحديث عنه مقلوباً، فجعل المسؤول هو زيد بن خالد، والسائل أبو جهيم، وفي لفظ الصحيحين السائل زيد بن خالد والمسؤول أبو جهيم، وهو عندهما من طريق مالك، وكذا رواه في «الموطأ» (1/154) وتابعه الثوري عند مسلم وغيره، ومالك والثوري إذا اجتمعا كانا أولى من ابن عيينة، على أن ابن عيينة روى الحديث على الصواب، فيما أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (1/83) ومن قبله ابن خزيمة (2/14).
أما الخطأ في المتن فقد تفرّد ابن عيينة بلفظة: (أربعين خريفاً) فرواها عن أبي النضر، وهي لم ترد في رواية مالك والثوري عنه، فإن أبا النضر قال: لا أدري أقال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة. وهذه رواية الجماعة، ورواه أحمد، عن ابن عيينة (28/286) بما يوافق رواية الجماعة ولفظه: (لا أدري من يومٍ أو شهرٍ أو سنةٍ..)، وما دام أن الأئمة رووا الحديث عن ابن عيينة على الصواب، فلعل الخطأ المذكور من الراوي عنه، والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (لو يعلم المار) لو: حرف شرط، يدل على ما كان سيقع لوقوع غيره نحو: لو حضر أخوك لحضرت، أي: كان سيقع حضوري فيما مضى لو حضر أخوك، والتقدير هنا: سيقع اختيار الوقوف في الزمن الماضي لو وقع المرور بين يدي المصلي.
والشرط قوله: يَعْلَمُ، والجواب: لكان أن يقف، وقيل: محذوف تقديره: لاختار أن يقف.
والمراد بالمار: العابر من اليمين إلى الشمال أو بالعكس، وخرج بذكر المار: القائم والقاعد والنائم وغيره، فلا إثم عليه إلا إن قصد بذلك التشويش على المصلي فهو في معنى المار[(1092)].(1/315)
قوله: (بين يدي المصلي) أي: أمام المصلي من قدميه إلى منتهى سجوده على الأظهر، وقيل: بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل: بينه وبين قدر رمية حجر، وقيل: إذا بَعُدَ عرفاً بحيث لا يمكن دفعه إلا بالتقدم خطوات، وهذا إذا لم يتخذ المصلي سترة، فإن اتخذ سترة فإنه يمر وراءها ولا حرج.
والتعبير باليدين من باب المجاز المرسل، حيث عبّر بالبعض عن الكل، قيل: وجه ذلك لأن أكثر عمل الإنسان بهما حتى نسب الكسب إليهما في نحو: بما كسبت يداك، وأشباهه.
قوله: (ماذا عليه من الإثم) أي: من العقوبة.
قوله: (لكان أن يقف) أي: يبقى واقفاً منتظراً فراغ المصلي، و(أن) وما بعدها في تأويل مصدر اسم (كان)، و(خيراً) خبرها، والتقدير: لكان وقوفه أربعين خيراً له من أن يمر.
قوله: (خريفاً) الخريف: الفصل الذي تُخرف فيه الثمار، وهو أحد فصول السنة الأربعة: الشتاء والربيع والخريف والصيف.
وقد أُبهم المعدود في رواية «الصحيحين» وغيرهما، تفخيماً للأمر وتعظيماً، وإن كان ظاهر السياق أنه عيّن المعدود، ولكن شك الراوي فيه، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه، معترضاً في الصلاة، كان لأن يقيم مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها»[(1093)].
لكن ذكر الحافظ أن هذا يشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين[(1094)].
وقد مال الطحاوي إلى أن حديث أبي هريرة ـ هذا ـ متأخر عن حديث الباب الذي هو حديث أبي جهيم؛ لأن في حديث أبي هريرة زيادة في الوعيد، وهذا يناسب تأخره تغليظاً، لا تقدمه، فيكون ما في حديث الباب تخفيفاً؛ لأن المقام مقام زجر وتخويف، والله أعلم.(1/316)
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي، وأنه من المسائل التي جاء فيها الوعيد، وقد ذكر الشوكاني أن هذا دليل على أن المرور بين يدي المصلي من الكبائر[(1095)]، وذلك ـ والله أعلم ـ لأن المصلي واقف بين يدي الله تعالى يناجيه، وفي المرور بين يديه قطع لمناجاته، وتشويش عليه، وقد نقل ابن حزم الإجماع على أنه آثم[(1096)].
وقد عبّر جمع من أهل العلم كابن عبد البر وابن حزم والبغوي بكراهة المرور بين يدي المصلي، والظاهر أن المراد كراهة التحريم، لما ثبت في ذلك من الوعيد الشديد[(1097)]، ولَمَّا قال الترمذي: (والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، كرهوا المرور بين يدي المصلي)، قال الشارح المباركفوري: (المراد بالكراهة عند الترمذي: التحريم)[(1098)]، فيجب على المسلم أن يحذر المرور بين يدي المصلي أو التساهل في ذلك، خشية الوقوع تحت هذا الوعيد، كما أنه ينبغي للمصلي أن يبتعد عن الصلاة في طرق الناس والأمكنة التي لا بدّ لهم من المرور بها، كالممرات في مثل المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمساجد الكبيرة؛ لئلا يعرض صلاته للنقص أو التشويش، ويعرض المارة للإثم، أو الحرج بالوقوف حتى يفرغ من صلاته.
الوجه الخامس: المصلي إن صلّى إلى سترة حرم المرور بينه وبين سترته، وكذا لو اتخذ سجادة يصلي عليها، فإن هذه السجادة محترمة، فلا يحل لأحد أن يمر بين يدي المصلي فيها.
فإن كان المصلي إلى غير سترة، فإن المحرم ما بين قدمه وموضع سجوده، فلا يحل لأحد أن يمر في هذا الموضع، وإنما قيّد بذلك على الأظهر؛ لأن المصلي لا يستحق أكثر مما يحتاج إليه في صلاته، فليس له الحق أن يمنع الناس مما لا يحتاجه، فإن بعُد المار سلم من الإثم؛ لأنه إذا بعُد عنه عرفاً لا يسمى ماراً بين يديه، فهو كالذي يمر من وراء السترة.(1/317)
الوجه السادس: الراجح من قولي أهل العلم أن المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام محرم، لا فرق في ذلك بينه وبين غيره، لعموم هذه الحديث، وليس هناك دليل يخص مكة أو المسجد الحرام. ومن تراجم البخاري في صحيحه: «باب السترة بمكة وغيرها» قال ابن حجر: (أراد البخاري التنبيه على ضعف الحديث ـ يعني حديث المطلب ابن أبي وداعة ـ وأنه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، قال: وهذا هو المعروف عند الشافعية، وأنه لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها)[(1099)].
وقد ثبت في حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما صلّى ركعتي الطواف جعل المقام بينه وبين البيت[(1100)].
وعن صالح بن كيسان قال: (رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، فلا يدع أحداً يمر بين يديه، يبادره، قال: يرده)[(1101)].
لكن إن صلّى الإنسان في مكان يحتاج الناس المرور فيه كالممرات الموجودة داخل المسجد الحرام فإن الجناية من المصلي نفسه؛ لأن الحق للمارة، وكذا من يصلي في المطاف، فإنه لا حرمة له، ولا يلزم الناس أن يتحاشوا المرور بين يديه؛ لأنه هو الذي وقف يصلي في مكانهم.
وقد نصّ جمع من أهل العلم على أنه في حال الزحام الشديد في مكة لا يدفع المار بين يديه، وإنما النهي فيما إذا وجد المار سبيلاً، لكن على المسلم أن يتقي الله ما استطاع، ولا يتهاون في هذا الأمر، كما عليه كثير من الناس، فإن غُلِبَ على ذلك فلا بأس إن شاء الله تعالى، لما يترتّب على منع المرور بين يدي المصلي من الحرج الشديد على المار والممرور عليه، لما يسببه ذلك من مضاعفة الزحام، والله أعلم.
مقدار ارتفاع السترة
229/2 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالت: سُئِلَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوك ـ عَنْ سُتْرَةِ المُصَلِّي فَقَالَ: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/318)
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «سترة المصلي» (500) من طريق أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ... فذكرته.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (مثل مؤخرة الرحل) بضم الميم وسكون الهمزة، وكسر الخاء المعجمة، هي العود الذي يكون في آخر الرحل، يستند إليه الراكب، قال النووي: هي قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع[(1102)].
والظاهر أن طولها غير مقدر، فقد تكون نصف ذراع، وقد تكون أكثر أو أقل، وكأن هذا ـ والله أعلم ـ بيان لنوع السترة، وليس تحديداً لمقدارها، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يكفي من السترة ما كان بمقدار مؤخرة الرحل في الارتفاع، أي: بمقدار ثلثي ذراع تقريباً، وهذا ليس على سبيل التحديد، بل هو على سبيل التقريب؛ لأنه ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم استتر بالجدار والعَنَزة والحَرْبَةِ ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما هو أطول بكثير من مؤخرة الرحل، وفي الحديث الآتي أمر بالاستتار ولو بسهم، وهو أقصر من مؤخرة الرحل، والله تعالى أعلم.
الأمر باتخاذ السترة وأنه لا تحديد لعرضها
230/3 ـ وَعَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ وَلَوْ بِسَهْمٍ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِم.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/319)
وهو أبو ثُرية ـ بضم المثلثة وفتح الراء وتشديد المثناة التحتية، ويقال: ثَريَّة بالفتح ـ سَبْرة ـ بفتح السين وسكون الباء الموحدة ـ ابن معبد الجهني رضي الله عنه نزل المدينة، وأقام بذي المروة[(1103)]، وهو والد الربيع بن سبرة الجهني، روى عنه ابنه الربيع، وروى عن الربيع جماعة، وأجلّهم ابن شهاب، وهو راوي حديث المتعة، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أذن فيها بمكة ثلاثة أيام ثم حرمت إلى يوم القيامة، وحديثه في مسلم، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في كتاب «النكاح»، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه[(1104)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه الحاكم (1/252)، وأحمد (24/57)، وابن أبي شيبة (1/278)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (6542) من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استتروا بصلاتكم ولو بسهم» ، هذا لفظ الحاكم من هذا الطريق، وأما ما في الكتاب فهو لفظ ابن أبي شيبة.
والحديث سنده حسن؛ لأن عبد الملك بن الربيع ضعفه ابن معين[(1105)]. وقال ابن القطان: (لم تثبت عدالته، وإن كان مسلم قد أخرج له فغير محتج به، وعسى أن يكون الحديث حسناً لا ضعيفاً)[(1106)].
وقد ذكر الحافظ أن مسلماً أخرج له متابعة حديثاً في المتعة[(1107)]، ونقل ـ أيضاً ـ أن العجلي وثقه، كما وثقه الذهبي[(1108)]، ثم إنه لم يتفرد به عبد الملك، فقد تابعه أخوه عبد العزيز عند الحاكم من طريق حرملة (1/252)، والبخاري في «التاريخ» (4/187) من طريق سبرة كلاهما عن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: «ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم» وقد وثقه ابن حبان[(1109)]. وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق ربما غلط)، وأما الربيع فثقة.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:(1/320)
قوله: (ولو بسهم) لو: تفيد التقليل، والسهم: هو النصل العريض الذي يبلغ طوله فِتْراً تقريباً[(1110)]، والفتر، بالكسر: ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة بالتفريج المعتاد[(1111)]، ويقدر بحوالي ستة عشر سم، فإذا غرز جزء منه في الأرض ثلثه ـ مثلاً ـ بقي ثلثاه، وهو شيء قليل بالنسبة لمؤخرة الرحل.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن السترة تحصل بكل شيء ينصبه المصلي أمامه ولو كان قصيراً أو دقيقاً كالسهم، وظاهر هذا أنه لا يعدل إلى السهم إلا إذا لم يجد سترة كافية، كمؤخرة الرحل، لقوله: «ولو بسهم» ، وهذا دليل على تيسير الإسلام في موضوع السترة، وقد جاء ما هو أسهل من ذلك، وهو الاستتار بالخط، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الخامس: الحديث دليل على الأمر باتخاذ السترة في الصلاة، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذا أمر إيجاب، فقالوا بوجوب اتخاذ السترة، وهو رواية عن الإمام أحمد، فقد جاء في «مسائل الإمام أحمد رواية: إسحق بن هانئ» قال: (رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أصلي، وليس بين يدي سترة، وكنت معه في المسجد الجامع، فقال لي: استتر بشيء، فاستترت برجل)[(1112)]، ونقل ابن مفلح، والمرداوي[(1113)] القول بالوجوب عن كتاب «الواضح» .
وممن قال بالوجوب ابن خزيمة، فقد جاء في «صحيحه» ما يدل على أنه يرى الوجوب، فإنه لما ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلّى بعرفة وليس شيء يستره، ضعف هذا الحديث وقال: قد زجر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي المصلي إلا إلى سترة، فكيف يَفْعل ما يزجر عنه صلّى الله عليه وسلّم؟!!
وقد ترجم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (لا تصل إلا إلى سترة...) بقوله: «باب النهي عن الصلاة إلى غير سترة»[(1114)].
وممن قال بالوجوب أبو عوانة، فقد بوّب لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور بقوله: «باب إيجاب تقدم المصلي إلى سترة...»[(1115)]، وكذا الشوكاني[(1116)]، والألباني[(1117)].(1/321)
ومن أدلتهم حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليجعل أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل ويصلي»[(1118)].
ومن أدلتهم ـ أيضاً ـ حديث أبي سعيد رضي الله عنه وفيه: «إذا صلّى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها»[(1119)].
فهؤلاء: أخذوا بصيغة الأمر على ظاهرها من الدلالة على الوجوب ولم يصرفوها عنها.
وقال الجمهور من أهل العلم: إن اتخاذ السترة غير واجب، بل هو سنّة، واستدلوا بما يلي:
1 ـ أنه ورد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلّى في فضاء ليس بين يديه شيء[(1120)].
2 ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في منى إلى غير جدار[(1121)]، وقد نقل الحافظ عن الشافعي أنه قال: أي: إلى غير سترة[(1122)]..
3 ـ ما سيأتي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه» [(1123)].
ووجه الاستدلال به: أن قوله: «إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره» ، يدل على أن المصلي قد يصلي إلى شيء يستره، وقد لا يصلي؛ لأن مثل هذه الصيغة لا تدل على أن الناس كلهم يصلون إلى سترة، بل تدل على أن بعضهم يصلي إلى سترة، وبعضهم لا يصلي إليها.
4 ـ أن الأصل براءة الذمة، فلا تشغل بالوجوب إلا بدليل صريح خالٍ عن المعارض، وأدلة الوجوب مصروفة عنه بهذه الأدلة.(1/322)
والحق أن الأدلة صريحة في الوجوب؛ لأنها جاءت بصيغ الأمر المتعددة، وهو ظاهر في الوجوب، فإن وجد ما يصرفه عن الوجوب إلى الندب فذاك، وإلا بقي على أصله، وأدلة الجمهور ليست بناهضة في صرفه إلى الندب، فإن حديث ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى في فضاء ليس بين يديه شيء، مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يواظب على السترة حضراً وسفراً، إلا إن قيل: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعله لبيان الجواز، وقد تقدم قول ابن خزيمة: (وقد زجر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي المصلي إلا إلى سترة فكيف يفعل ما يزجر عنه؟!).
وأما حديث ابن عباس الثاني وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في منى إلى غير جدار فهو محتمل أن معناه: إلى غير سترة، أو إلى سترة غير جدار، ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة؛ لأنه لا يلزم من عدم الأخص عدم الأعم.
وأقوى ما في أدلة الجمهور حديث أبي سعيد رضي الله عنه فإن كان مؤيداً لما قبله في صرف الأمر إلى الندب، وإلا بقي الأمر للوجوب، والأحوط ألا يصلي أحد إلا إلى سترة، والله أعلم.
بيان ما يقطع الصلاة
231/4 ـ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَقْطَعُ صَلاَةَ المَرْءِ المُسْلِمِ ـ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ ـ: المَرْأَةُ، و َالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ...» الحديث.
وَفِيهِ: «الْكَلْبُ الأسْوَدُ شَيْطَانٌ»، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
232/5 ـ وَلَهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نَحْوُهُ دُونَ: «الْكَلْبِ».
233/6 ـ وَلأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَحْوُهُ، دُونَ آخِرِهِ. وَقَيَّدَ المَرْأَةَ بِالحَائِضِ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:(1/323)
أما حديث أبي ذر رضي الله عنه: فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «قدر ما يستر المصلي» (510) من طريق حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود» ، قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان».
هذا لفظ الحديث كما في «صحيح مسلم»، والقائل: قلت.. هو عبد الله بن الصامت، والظاهر أن الحافظ ساقه بمعناه، فإن الحديث ليس فيه لفظ (المرء المسلم) وقد اعتمد عليها بعض الشرّاح المتأخرين، فاستنبط منها حكماً.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فأخرجه مسلم ـ أيضاً ـ في الباب المذكور من طريق عبد الواحد ـ هو ابن زياد ـ حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، حدثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل».
وقول الحافظ: (دون الكلب) ظاهره أنه لم يُذكر الكلب في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع أنه مذكور فيه، فهذا إما وهم من الحافظ، وإما أن المراد دون وصف الكلب، فسقطت كلمة (وصف) والله أعلم.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «ما يقطع الصلاة» (703)، والنسائي (2/64) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، حدثنا قتادة قال: سمعت جابر بن زيد، يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما، رفعه شعبة قال: (يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب) والقائل: رفعه شعبة هو يحيى، كما في «المسند» (5/293).(1/324)
وقد اختلف في رفعه ووقفه، فرفعه شعبة كما عند أبي داود والنسائي، وخالفه غيره من أصحاب قتادة، قال أبو داود عقبه: (وقفه سعيد وهشام وهمام عن قتادة عن جابر بن زيد على ابن عباس)، وقد رواه النسائي موقوفاً أيضاً.
فهؤلاء الثلاثة: سعيد بن أبي عروبة، وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهمام بن يحيى، كلهم رووه عن قتادة بن دعامة، عن جابر بن زيد موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما.
وقول الحافظ: (دون آخره) أي: دون آخر حديث أبي هريرة، وهو قوله: (ويقي من ذلك.. إلخ)، فهي ليست في حديث ابن عباس، مع أن الحافظ ما ذكر حديث أبي هريرة بلفظه، لكن يؤيد ذلك أنه أقرب مذكور، ويحتمل عود الضمير على حديث أبي ذر، ومراده قوله: (الكلب الأسود شيطان)، فهو ليس في حديث ابن عباس، ويؤيد ذلك أنه ساق حديث أبي ذر بلفظه، والله أعلم.
الوجه الثاني: هذه الأحاديث الثلاثة دليل على أن المصلي إذا لم يجعل له سترة لصلاته يكون أعلاها بقدر مؤخرة الرحل فإنه يقطع صلاته واحد من ثلاثة أشياء: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فإن وضع سترة أمامه لم يضرَّه ما مرَّ من ورائها ولو كان واحداً من هذه الثلاثة.
والمراد بقطع الصلاة: فسادها وإبطالها، وهذا قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: أبو هريرة وأنس وابن عباس ـ في رواية عنه ـ وبه قال الحسن البصري، وهو رواية عن الإمام أحمد، حكاها المرداوي[(1124)] واختارها المجد، ورجحها الشارح عبد الرحمن بن قدامة، ومال إليها الموفَّق[(1125)]، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(1126)]، وتلميذه ابن القيم[(1127)]، قال المرداوي: (وهو الصواب).
والقول الثاني: أن هذه الأشياء وغيرها لا تقطع الصلاة ولا تبطلها، إنما المراد بأحاديث القطع: نقص الصلاة، لشغل القلب بهذه الأشياء، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن أحمد[(1128)].(1/325)
واستدلوا بحديث أبي سعيد الآتي في آخر الباب: (لا يقطع الصلاة شيء)، وهو حديث ضعيف، لا تقوم به حجة، كما سيأتي إن شاء الله.
والقول الثالث: إن الصلاة لا يقطعها ويبطلها إلا مرور الكلب الأسود فقط، ولا تبطل بمرور المرأة ولا الحمار، وهذا قول أحمد وإسحاق، قال الأثرم: سئل أبو عبد الله: ما يقطع الصلاة؟ قال: لا يقطعها عندي إلا الأسود البهيم[(1129)].
وحجة هذا القول أن الكلب لم يجئ في الترخيص فيه شيء يعارض الأحاديث المذكورة، وهي حديث أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم، وأما المرأة فقد ورد عن مسروق عن عائشة أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة ـ الكلب والحمار والمرأة ـ فقالت: شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس، فأوذي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنسلُّ من عند رجليه[(1130)].
وأما في الحمار فقد ورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي مرَّ ذكره أول الباب وفيه: (فمررت بين يدي بعض الصف..).
والراجح ـ والله أعلم ـ القول الأول، وهو أن هذه الثلاثة المذكورة تقطع الصلاة وتفسدها، لما يلي:
1 ـ أن أحاديث القطع أقوى من دليل عدم القطع، فإن دليل عدم القطع ضعيف، والضعيف ليس بحجة في الأحكام الشرعية.
2 ـ أنه ورد حديث أبي ذر رضي الله عنه بلفظ: (تعاد الصلاة من ممر الحمار والمرأة والكلب الأسود)[(1131)]، فهذا نص صحيح صريح لا مطمع لأحد في ردّه.
3 ـ أن الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمة أدرى منا بفهم نصوص الشرع ومعرفة مقاصده، فقد ورد عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت أصلي إلى جنب ابن عمر فدخل بيني وبينه ـ يريد جرواً ـ فمرَّ بين يديه، فقال لي ابن عمر: أما أنت فأعد الصلاة، وأما أنا فلا أعيد؛ لأنه لم يمر بين يدي، وفي رواية: أن جرواً مرَّ بين يدي ابن عمر فقطع عليه صلاته[(1132)].(1/326)
والجرو: بكسر الجيم وضمها: ولد الكلب والسباع.
وأما دليل أصحاب القول الثالث فأجيب عنه بما يلي:
أما حديث عائشة رضي الله عنها فعنه جوابان:
الأول: أن إنكارها إنما هو بحسب علمها وفهمها، وقد حفظ غيرها ما لم تحفظه، وهو أن المرأة تقطع الصلاة، والإنسان وإن كان عظيماً فإنه قد يخفى عليه ما حفظه غيره، شأنها في ذلك شأن غيرها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في قضايا معروفة.
الثاني: أن حديث أبي ذر مسوق مساق التشريع العام للأمة، وحديث عائشة هذا واقعة حال يتطرق إليها احتمالات عديدة، منها: أنها زوجته، والمرأة في حديث أبي ذر مطلقة، فيفيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها، بخلاف الزوجة.
ومنها: أن عائشة لم تَمُرَّ، وإنما كانت نائمة، وفرق بين المرور واللبث، وقد بوّب عليه البخاري بعدة أبواب منها: «باب الصلاة خلف النائم»[(1133)].
وأما حديث ابن عباس فأجيب عنه بأن الأتان لم يمرَّ بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن مرّ بين يدي بعض الصف، وابن عباس راكب عليه، وهذا لا يؤثر، وقد بوّب عليه البخاري بقوله: «باب سترة الإمام سترة لمن خلفه»[(1134)]، قال ابن القيم عن أحاديث القطع: (ومعارض هذه الأحاديث قسمان: صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه)[(1135)].
الوجه الثالث: قيدت المرأة في حديث ابن عباس بالحائض، والمراد بها: البالغة، فأما غير البالغة أو الطفلة الصغيرة فلا تقطع الصلاة[(1136)]؛ لأن الصغيرة لا يصدق عليها أنها امرأة.
وجاء وصف الكلب بأنه أسود في حديث أبي ذر، وأطلق في حديث أبي هريرة فيحمل المطلق على المقيد، ولا يقطع الصلاة إلاّ الكلب الأسود، دون غيره؛ لأنه جاء وصفه بأنه شيطان، فدل على أن وصفه بالسواد مقصود.(1/327)
وأما الحمار فجاء مطلقاً غير مقيد، وقيّده بعض الفقهاء بالأهلي، قال المرداوي: (وهو الصحيح)[(1137)]؛ لأن اسم الحمار إذا أطلق ينصرف إلى المعهود المألوف في الاستعمال وهو الأهلي، ولأنه يخالف الوحشي في أن هذا طاهر ويباح أكله، وهذه المسألة مبنية على تخصيص العموم بالعرف، كما ذكر ابن رجب، وفرع عليها مسائل كثيرة[(1138)].
وقيل: الحمار الوحشي كالحمار الأهلي، أخذاً بظاهر اللفظ.
الوجه الرابع: يدخل في عموم الحديث مرور المرأة بين يدي المرأة، فإنه يقطع الصلاة؛ لأنه لا فرق بين الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل.
وذهب ابن حزم إلى أن النساء لا يقطع بعضهن صلاة بعض[(1139)]، مستدلًّا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها»[(1140)].
وأخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: (لا تقطع المرأة صلاة المرأة..)[(1141)].
والأول أظهر، لقوة مأخذه، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأما دليل ابن حزم فلا حجة فيه؛ لأن الحديث في صلاتهن جماعة، والمرأة لو مرّت بين صفوف الرجال لما قطعت صلاتهم، فكذا النساء، والله أعلم.
ما يُصنع بمن أراد المرور بين يدي المصلي
234/7 ـ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِن النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ». مُتَّفَقٌ عليه.
235/8 ـ وفي رِوَايَةٍ: «فَإنَّ مَعَه الْقَرِينَ».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:(1/328)
أما حديث أبي سعيد رضي الله عنه: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «يرد المصلي من مر بين يديه» (509)، ومسلم (505) من طريق سليمان بن المغيرة، قال: حدثنا حميد بن هلال العدوي قال: حدثنا أبو صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشدَّ من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (فذكره..).
وهذا لفظ البخاري، وقد قرن مع رواية سليمان المذكورة رواية يونس بن عبيد، لكن القصة المذكورة من رواية سليمان، ولفظ يونس أورده البخاري في (بدء الخلق) كما سأذكره إن شاء الله.
وعند مسلم: «فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره» .
وأما رواية: «فإن معه القرين» ، فقد وردت عند مسلم (506) من طريق الضحاك بن عثمان، عن صدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين».
وظاهر صنيع الحافظ أن هذه الرواية من حديث أبي سعيد، وأنها من المتفق عليه، وليس كذلك، وإنما هي عند مسلم من حديث ابن عمر، كما ذكرت، وكان الأولى بالحافظ أن يشير إلى ذلك كما هي عادته، وقد وَهِمَ الصنعاني فعزا هذه الرواية لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، وليس كذلك.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (إذا صلى أحدكم إلى شيء) أي: جعل شيئاً أمامه في صلاته يحول بينه وبين الناس.
قوله: (أن يجتاز بين يديه) أي: قريباً منه بينه وبين سترته.(1/329)
قوله: (فليدفعه) أي: فلينحه، وفي رواية مسلم ـ المتقدمة ـ: «فليدفع في نحره» واللام: لام الأمر.
قوله: (فإن أبى فليقاتله) أي: فإن امتنع أن يندفع ويرجع (فليقاتله) أي: فليدافعه بشدة، وليس المراد بذلك المقاتلة بالسلاح، ولا بما يؤدي إلى الهلاك بالإجماع، وإنما المراد أن يدفعه بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشد منه، كما فعل أبو سعيد رضي الله عنه.
قوله: (فإنما هو شيطان) الضمير يعود على الشخص الممتنع عن الاندفاع والرجوع.
ومعنى «شيطان» أي: متمرد، وشيطان كل جنس: متمرِّدُه وعاتيه، قال تعالى: {{شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}} [الأنعام: 112] والمعنى: فإنما هو شيطان من بني آدم قد تعدى وعتا.
وهذه الجملة للتعليل، والغرض منها الحث على مدافعته، حيث إنه شيطان، ومروره يفسد على المصلي صلاته أو ينقصها.
أما ما تقدم في أول الباب من أن الشيطان يقطع مروره الصلاة، فالظاهر أن المراد به: شيطان الجن؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر أنه يقطع الصلاة، أما شيطان الإنس فلم يرد ما يدل على أنه يقطع الصلاة ـ فيما أعلم ـ إلا ما خصه الدليل، وهو المرأة البالغة، على ما تقدم[(1142)].(1/330)
قوله: (فإن معه القرين) لعل الحافظ أورد هذه الرواية؛ لأن فيها معنى آخر غير معنى الأولى، ومعناها: أن الحامل له على المرور بين يدي المصلي هو الشيطان الذي هو قرينه، فهو الذي يؤزُّه ويسوقه إلى ذلك؛ لأنه من دعاة النار، وكل إنسان معه قرين، لما ورد في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن» ، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: «وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم[(1143)] فلا يأمرني إلا بخير». وفي لفظ: «ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة..» [(1144)]، قال ابن الأثير: ( «ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه» أي: مصاحبه من الملائكة والشياطين، وكل إنسان فإن معه قريناً منهما، قرينه من الملائكة يأمره بالخير ويحثه عليه، وقرينه من الشياطين يأمره بالشر ويحثه عليه)[(1145)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية دفع من أراد المرور بين يدي من صلّى إلى شيء يستره من الناس؛ لأن مروره يشوش على المصلي صلاته، ويوقع المار في الإثم.
وظاهر الحديث أن دفع المار واجب لقوله: «فليدفعه» ، وهذا أمر فيقتضي الوجوب، ويؤيد ذلك قوله: «فإن أبى فليقاتله» ، وهو رواية عن الإمام أحمد، نصّ عليها ابن مفلح[(1146)] والمرداوي[(1147)]، ونسب الحافظ[(1148)] القول بالوجوب إلى الظاهرية، واختاره الشوكاني[(1149)].
ويرى آخرون أن الأمر بالدفع أمر ندب واستحباب، وهو متأكد، قال النووي: (لا أعلم أحداً من العلماء أوجبه)[(1150)]، وتعقبه الحافظ ابن حجر بما تقدم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن مدافعة المار تكون بالأسهل فالأسهل، فيدفعه بالإشارة ولطيف المنع، فإن أبى أن يندفع ويرجع دافعه بشدة؛ لأنه شيطان، ولو سقط في هذا الحال وأصابه شيء من جرح أو كسر فإنه غير مضمون؛ لأنه هو المتعدي.(1/331)
الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن دفع المار مقيد بوضع السترة لقوله: «إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره» ، ومفهومه أنه إن لم يضع سترة فليس له أن يدفعه، لتقصيره بترك السترة، وهذا قول جماعة من أهل العلم كالخطابي، والبغوي، والنووي، وابن القيم، وابن حجر، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم.
وقد حكى النووي الاتفاق على أن الدفع مختص بمن اتخذ سترة[(1151)]، وهذا فيه نظر، فإن الخلاف ثابت في ذلك، وممن حكاه النووي نفسه في شرحه على «المهذب»[(1152)].
فالقول الثاني في المسألة: أن المصلي يرد المار مطلقاً، سواء أكان بين يديه سترة فَمَرَّ دونها، أم لم تكن سترة فمر قريباً منه.
ولعلّ سبب الخلاف في ذلك: أن أحاديث دفع المار منها ما هو مقيد بوضع سترة، كحديث أبي سعيد باللفظ المذكور، ومنها ما هو مطلق، كما في حديث أبي سعيد عند البخاري في (بدء الخلق) ولفظه: «إذا مرَّ بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه، فإن أبى فليمنعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان» [(1153)]، وليس فيه تقييد الدفع بما إذا كان المصلي يصلي إلى سترة، وكذا حديث ابن عمر ـ المتقدم ـ، ولفظه: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين» ، وليس فيه ذكر السترة.
فمن أهل العلم ـ ومنهم الحافظ ابن حجر ـ من قال: يحمل المطلق على المقيد، فلا يرد المار إلا إذا وضع سترة؛ لأن الذي يصلي إلى غير سترة مقصر في تركها.
وقال آخرون: لا يحمل المطلق على المقيد؛ لأن هذا قيد أغلبي، فلا مفهوم له في أنه إذا صلّى إلى غير سترة لا يرد، بل يرده مطلقاً إذ لا تعارض بين المطلق والمقيد، فالمقيد يبقى على تقييده فيدفع إن اتخذ سترة، ويبقى المطلق على إطلاقه فيرد ولو لم يتخذ سترة؛ لأن المصلي مأمور بالصلاة إلى سترة ـ كما تقدم ـ ومأمور بدفع المار، سواء امتثل فوضع سترة أم لم يمتثل فلم يضع سترة.(1/332)
وقد تقدم في حديث أبي جهيم أنه يحرم المرور بين يدي المصلي سواء أكان له سترة أم لا، فهذا يؤيد أنه يدفعه مطلقاً، لأن المار يحرم عليه المرور، فيجب منعه من ارتكاب الحرام، ومن التشويش على المصلي، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية، وقول في مذهب الحنابلة، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز[(1154)].
الوجه السادس: الحديث دليل على جواز الحركة في الصلاة لمصلحتها حيث شرع للمصلي ردّ المار ومدافعته.
الوجه السابع: الحديث دليل على عظم مرتبة الصلاة، ومناجاة الله تعالى حيث وجب احترام المصلي، وعدم تعاطي ما فيه تشويش عليه، أو شغل عما هو فيه، والله أعلم.
جواز كون السترة خطاً إذا لم يكن غيره
236/9 ـ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا صَلّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئاً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصاً، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَخُطَّ خَطّاً، ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، بَلْ هُوَ حَسَنٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (12/354 ـ 355)، وأبو داود (689)، وابن ماجه (943)، وابن حبان (2361)، من طريق إسماعيل بن أمية، حدثني أبو عمرو بن محمد بن حريث، أنه سمع جده حريثاً يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه... فذكره.(1/333)
وهذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه، فقد صححه قوم، وضعفه آخرون، فممن ضعفه: سفيان بن عيينة، فقد نقل عنه أبو داود أنه قال: (لم نجد شيئاً نشدُّ به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه)[(1155)]، أي: فهو حديث غريب، وقال الدارقطني: (الحديث لا يثبت)[(1156)] وضعفه ـ أيضاً ـ العراقي، وابن الصلاح ـ ومثّلا به للحديث المضطرب ـ[(1157)]، وكذا ابن حزم، والنووي، والبغوي وجماعة آخرون، قال السخاوي: (حَكَم غير واحد من الحفاظ... باضطراب سنده، بل عزاه النووي للحفاظ)[(1158)].
وسبب ضعفه ثلاث علل:
الأولى: تفرّد إسماعيل بن أمية به، كما تقدم عن ابن عيينة ومن وافقه.
الثانية: أن إسماعيل بن أمية قد اضطرب في اسم شيخه، وفي كنيته، وهل روايته عن أبيه أو عن جده أو عن أبي هريرة بلا واسطة؟ فإنه مرة قال: عن أبي محمد بن عمرو بن حريث، عن جده، ومرة قال: عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده، وقال ثالثة: عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه.
العلة الثالثة: جهالة حال أبي عمرو بن محمد بن حريث، فقد جهله أبو جعفر الطحاوي والذهبي وابن حجر وغيرهم، وكذا جهالة جده حريث.
وصحح الحديث جماعة آخرون منهم: ابن خزيمة وابن حبان وابن عبد البر، ونَقَلَ تصحيحه عن الإمام أحمد، وعلي بن المديني[(1159)] ونقل ذلك عنهما ـ أيضاً ـ عبد الحق الإشبيلي[(1160)] كما صححه البيهقي[(1161)]، وحسنه الحافظ ابن حجر، قال ابن رجب (وأحمد لم يُعرف عنه التصريح بصحته، إنما مذهبه العمل بالخط، وقد يكون اعتمد على الآثار الموقوفة، لا على الحديث المرفوع؛ فإنه قال في رواية ابن القاسم: الحديث في الخط ضعيف)[(1162)].
وقد أجاب ابن حجر وغيره عن المطاعن التي وجهت إلى الحديث بما يلي:(1/334)
أما ما أُعل به من تفرد إسماعيل بن أمية فهذا فيه نظر، فإن للحديث طرقاً أخرى[(1163)] وهي وإن كانت ضعيفة لكن تعددها يجعلها صالحة للاعتبار؛ لأن بعضها يشد بعضاً؛ لأنه ضعف ليس بشديد، فيزول بتعدد الطرق، كما هي قاعدة المحدثين.
وأما العلة الثانية: وهي الاضطراب فقد نفاها الحافظ ابن حجر معللاً بأن الاضطراب هو الاختلاف الذي يؤثر قدحاً، واختلاف الرواة في اسم رجل أو في كنيته، وهل روايته عن أبيه أو عن جده؟ لا يؤثر في ذلك؛ لأن ذلك الرجل إن كان ثقة فلا ضير، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه، لا من قبل الاختلاف في اسمه[(1164)]، ولذا قال ـ هنا ـ في «البلوغ»: (ولم يصب من زعم أنه مضطرب)، وكأنه يعني العراقي وابن الصلاح فإنهما قد مثلا به للمضطرب ـ كما تقدم ـ، وقد نقل السيوطي عن الحافظ أنه انتقد التمثيل بمثل هذا الحديث للمضطرب[(1165)]!
ثم إن ابن خزيمة رجح إسناد: إسماعيل بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده حريث، عن أبي هريرة[(1166)].
وأما العلة الثالثة: وهي جهالة أبي عمرو بن محمد بن حريث، فإن أريد بها جهالة العين ـ وهو الغالب عند الإطلاق ـ فذلك مرتفع عنه؛ لأنه روى عنه إسماعيل بن أمية، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي المدني، وزاد ابن حبان: ابن جريج، وابن أبي محمد[(1167)]، وبرواية اثنين تنتفي الجهالة، فكيف برواية أكثر من ذلك؟
وإن أريد بذلك جهالة الحال، فالظاهر أنها مرتفعة ـ أيضاً ـ لأن ابن حبان ذكره في «الثقات» وخَرَّجَ حديثه في «صحيحه»، وكذا صححه ابن خزيمة والحاكم، قال ابن حجر: (وذلك مقتضى ثبوت عدالته عند من صححه) ، يعني بذلك أن تصحيح حديثه تعديل له.(1/335)
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الحديث ضعيف، وما أجيب به عنه فهو غير ناهض، ويكفي في الحكم عليه كلام المتقدمين ومن بعدهم أمثال ابن عيينة، والدارقطني، وابن حزم، والعراقي... ومعلوم أن المصلي لا يلجأ إلى الخط في الغالب إلا عند عدم غيره مما يصلح سترة، فالعمل بالحديث أقل أحوال الاستطاعة، والله تعالى يقول: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، ولذا قال النووي: (والمختار استحباب الخط؛ لأنه وإن لم يثبت الحديث ففيه تحصيل حريم للمصلي..)[(1168)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية اتخاذ المصلي سترة، وأن السنة أن ينظر، فإن وجد شاخصاً كجدار أو شجرة أو سارية صلّى إليها، وقد ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين الجدار ممر شاة[(1169)]، فإن لم يجد نصب عصاً، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها.. الحديث[(1170)].
فإن لم يجد خطَّ خطًّا، ثم لا يضر من مرّ بين يديه إذا كان من وراء السترة، ولم يرد في الحديث كيفية الخط، فإن خطه بالطول أو على هيئة الهلال فلا بأس، وقد ورد عن الإمام أحمد ما يدل على ذلك[(1171)].
وموضوع الخط قد يحتاج إليه لإمكانه قديماً عندما كانت أرض المسجد وفناؤه مفروشة بالرمل، أما الآن فالمساجد فيها الفرش، فلا أثر للخط، إلا إذا كان الإنسان في الصحراء أو نحو ذلك.
ونقل النووي عن الغزالي والبغوي وغيرهما: أن المصلي إذا لم يجد شاخصاً بسط مصلاه[(1172)]، فهذا فيه قياس فراش المصلي على الخط؛ بأن تكون نهاية السجادة من أمامه سترةً له، ومحل ذلك ما لم تطل السجادة من أمامه، وإلا فلا تصلح أن تكون سترة[(1173)]، ونقله الصنعاني، ونسبه للشافعية، ثم قال: «وهو صحيح»[(1174)]، والله أعلم.
الصلاة لا يقطعها شيء(1/336)
237/10 ـ وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ، وَادْرَأْ مَا اسْتَطَعْتَ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وفي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب (الصلاة) باب (من قال: لا يقطع الصلاة شيء) (719) من طريق مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان».
وهذا الحديث ضعيف جداً لأمور ثلاثة:
الأول: أنه من رواية مجالد بن سعيد، قال فيه أحمد: (ليس بشيء)، وقال فيه ابن معين: (لا يحتج به)، وقال النسائي: (ليس بالقوي)، وقال الدارقطني: (ضعيف)[(1175)].
الثاني: أنه من رواية أبي الودَّاك، وهو جبر بن نوف الهمداني البِكَالي ـ بكسر الباء ـ وهو ضعيف، ضعفه ابن حزم[(1176)] وقال النسائي: (ليس بالقوي)، ووثقه ابن معين[(1177)] وذكره ابن حبان في «الثقات»[(1178)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق يهم).
الثالث: أن مجالداً قد اضطرب في هذا الحديث، فمرة رفعه ـ كما هنا ـ ومرة أوقفه، فقد أخرجه أبو داود (720) والبيهقي من طريق مجالد به، ولفظه: (مَرَّ شاب من قريش من بين يدي أبي سعيد الخدري وهو يصلي، فدفعه، ثم عاد، فدفعه، ثلاث مرات، فلما انصرف، قال: إن الصلاة لا يقطعها شيء، ولكن قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادرؤوا ما استطعتم فإنه شيطان»).
ففي السياق جاء موضع الشاهد من الحديث موقوفاً على أبي سعيد رضي الله عنه وقد ورد للحديث شواهد من حديث أنس، وأبي أمامة، وأبي هريرة رضي الله عنهم وغيرها، وكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تُعارض بمثلها الأحاديث الصحيحة، الدالة على أن المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة، كما تقدم، ولا يشدّ بعضها بعضاً لما فيها من الضعف الشديد.(1/337)
ولهذا حكم أئمة هذا العلم على حديث أبي سعيد وغيره بالضعف، فقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (يقطع الصلاة الكلب الأسود البهيم) أصح من حديث أبي سعيد: (لا يقطع الصلاة شيء)[(1179)].
وقال عبد الحق عن هذا الحديث: (هذا يرويه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف الحديث)[(1180)].
وضعفه النووي[(1181)]. وقال ابن الجوزي بعد أن ساق حديث أبي سعيد وغيره: (هذه الأحاديث كلها ضعاف..)، ثم بيّن وجه ضعفها[(1182)].
وكذا ضعف الحديث الشوكاني، والألباني[(1183)] والشيخ عبد العزيز بن باز.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الصلاة لا يبطلها مرور شيء من امرأة أو حمار أو كلب أو غيرها بين يدي المصلي، وهذا الحديث هو عمدة الجمهور القائلين بعدم بطلان الصلاة، وأن القطع الوارد في مثل حديث أبي ذر ـ المتقدم ـ يراد به شغل القلب وقطع الخشوع لا إفساد أصل الصلاة، كما تقدم.
أما القائلون بالبطلان فقد أجابوا عن هذا الحديث بأنه ضعيف، لا تقوم به حجة ـ كما تقدم ـ فلا تُعارض بمثله الأحاديث الصحيحة الدالة على القطع، ومنها: حديث أبي ذر وأبي هريرة الثابتين في «صحيح مسلم»، والله أعلم.
باب الحث على الخشوع في الصلاة
هذا الباب عقده الحافظ رحمه الله لبيان أهمية الخشوع وقيمته في الصلاة، وأنه روحها ولبها، فَذَكَرَ الأحاديث التي تضمنت النهي عن بعض الأفعال التي تضعف الخشوع أو تنافيه.
والخشوع في اللغة: هو السكون والانخفاض والهدوء، قال تعالى: {{وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ}} [طه: 108] أي: انخفضت وسكنت.
وقال تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً}} [فصلت: 39] أي: منخفضة ساكنة.
والخشوع في الصلاة: حضور القلب بين يدي الله تعالى، وسكون الجوارح واستحضار ما يقوله المصلي أو يفعله من أول صلاته إلى آخرها، مستحضراً عظمة الله تعالى وقربه من عبده، وأنه بين يديه يناجيه.(1/338)
والحامل على الخشوع: هو الخوف من الله تعالى ومراقبته، والشعور بقربه من عبده، وكلما امتلأ القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه كلما قوي خشوعه.
والخشوع يحصل في القلب، ثم يتبعه خشوع الجوارح والأعضاء من السمع والبصر والرأس وسائر الأعضاء حتى الكلام، ولذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في ركوعه: «... اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي، وعصبي، وما استقل به قدمي»[(1184)].
فإذا خشع القلب خشعت الجوارح، وظهر عليها السكون والطمأنينة والوقار والتواضع، وإذا فسد خشوع القلب بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء، وذهب خشوعها.
والخشوع أمر عظيم شأنه، أثنى الله تعالى على المتصفين به، فقال تعالى: {{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}} [المؤمنون: 1 ـ 2] وهو سريع فقده، لا سيما في هذا الزمان، وقد ورد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعاً»[(1185)].
والخشوع في الصلاة هو روحها ولبها، ولا يحصل ذلك إلا لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، واستحضر فيها عظمة الله تعالى فصارت راحة له وقرة عين، والصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب وإن كانت مجزئة مثاباً عليها، إلا أن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها، لما ورد عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها»[(1186)].(1/339)
وقد حكى النووي إجماع العلماء على استحباب الخشوع في الصلاة[(1187)]، وهذا فيه نظر؛ فإن الغزالي نصر القول بالوجوب[(1188)]، والقرطبي حكى في «تفسيره» القولين: الوجوب، وعدم الوجوب، وأنه من فضائل الصلاة ومكملاتها، ورجح الأول[(1189)]. وممن قال بالوجوب الحافظ العراقي، وردَّ على النووي حكاية الإجماع[(1190)]، وممن قال بوجوب الخشوع شيخ الإسلام ابن تيمية[(1191)].
وعلى المسلم أن يحذر خشوع النفاق، فقد ورد عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (إياكم وخشوع النفاق) فقيل له: (وما خشوع النفاق؟) قال: (أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع)[(1192)]. فخشوع الإيمان خشوع القلب، فيتبعه خشوع الجوارح، وخشوع النفاق ما يظهر على الجوارح تكلفاً وتصنعاً، والقلب غير خاشع.
وأسباب الخشوع نوعان، وكل منهما في مقدور المكلف:
الأول: جلب ما يوجب الخشوع ويقويه، وهو الذي يسميه شيخ الإسلام ابن تيمية «قوة المقتضي»[(1193)] ويتم ذلك بالاستعداد للصلاة، والتفرغ لها، والطمأنينة، وترتيل القراءة وتنويعها، وتدبرها، وتنويع الأذكار والأدعية وتدبرها، ولا سيما في حالة السجود.
الثاني: إزالة الشواغل ودفع الموانع التي تصرف عن الخشوع، وهذا هو الذي يسميه شيخ الإسلام ابن تيمية «ضعف الشاغل» وهو الذي جاءت فيه أحاديث الباب، حيث تضمنت نهي المصلي عن أمور تنافي الخشوع أو تضعفه، فيتعين على المكلف اجتنابها ليحصل له الخشوع.
فينبغي للمصلي إذا دخل في صلاته أن يُعنى بها وأن يقبل عليها بقلبه وقالبه، حتى يحصل من الأجر والثواب والعاقبة الحميدة والتأثر بالصلاة ما لا يحصيه إلا الله تعالى، لأنها صلة بين العبد وربه، فيحذر ما يشغل قلبه.
وكثير من الناس إذا دخل الصلاة جعلها فرصة للعبث إما ببدنه أو بثيابه أو بنظره ها هنا أو ها هنا، وهذا لا ينبغي، بل يخشى عليه بطلان صلاته إذا كثرت الحركات، كما تقدم.
النهي عن التخصر في الصلاة(1/340)
238/1 ـ وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: نَهَى رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِراً. مُتَّفَقٌ عَليْهِ، وَاللَّفْظُ لمُسْلمٍ.
وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ عَلى خَاصِرَتِهِ.
239/2 ـ وَفِي الْبُخَارِيِّ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ ذلِكَ فِعْلُ الْيَهُودِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» باب «الخصر في الصلاة» من طريق هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، ومن طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، به (1219)، (1220). وأخرجه مسلم (545) بالإسناد الأول، واللفظ المذكور له، كما ذكر الحافظ.
أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» (3458) من طريق مسروق، عن عائشة رضي الله عنها: كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (الرجل) لا مفهوم له، فالمرأة مثله.
قوله: (مختصراً) ، اسم فاعل من (اختصر) الرجل فهو مختصر: إذا وضع يده على خاصرته، والخاصرة من الإنسان هي ما بين الورك وأسفل الأضلاع، قال النووي: (هذا هو الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والحديث...)[(1194)].
وقد ورد هذا التفسير عن ابن سيرين، أحد رواة الحديث[(1195)]، ونقله عنه الحافظ في «فتح الباري»[(1196)] وذكره هنا، ولعله ذكره ونص عليه بهذا المعنى، لورود الاختلاف في معناه، كما ذكره الشراح، فقد قيل: إن معناه: قراءة آية أو آيتين من أخر السورة، يكتفي بذلك عن السورة، وقيل: أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مرّ بها في الصلاة لئلا يسجد، وقيل: أن يتوكأ على عصا، وقيل غير ذلك.(1/341)
الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي المصلي أن يضع يديه على خاصرتيه، وهذا النهي عند الجمهور للتنزيه، قالوا: ولا تبطل به الصلاة، وهو قول فقهاء الحنابلة والشافعية وغيرهم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الحكمة من النهي عن الاختصار هي الابتعاد عن مشابهة اليهود، فإنهم يضعون أيديهم على خواصرهم في الصلاة، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه في حكمة النهي عن الاختصار في الصلاة، وأما ما قيل: إنه فعل الشيطان، أو أن إبليس أُهبط من الجنة كذلك، فهي علل لا تقف أمام ما ورد عن الصحابي الذي هو أعرف بسبب الحديث، ويحتمل أن يكون ذلك مرفوعاً.
ومناسبة الحديث للباب أن وضع اليد على الخاصرة دليل على عدم الخشوع، فإنه قد يَملّ، وقد يرفعها، وقد يرسلها، فهي لا تسلم من الحركة.
وقد دلت السنة على أن المصلي يضع يده اليمنى على اليسرى فوق السرة أو عليها أو تحتها، وسيأتي الكلام على ذلك في «صفة الصلاة» إن شاء الله.
حكم تأخير الصلاة إذا حضر العَشاء
240/3 ـ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إذَا قُدِّمَ العَشَاءُ فابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أنْ تُصَلُّوا المَغْرِبَ» مُتفقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «إذا حضر الطعام وأُقيمت الصلاة» (672) ومسلم (557) من طريق ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم». وهذا لفظ البخاري.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/342)
قوله: (إذا قدم العشاء) بفتح العين، الطعام الذي يؤكل في وقت العشي، وهو آخر النهار، وظاهر هذا الحديث وغيره أن عادة أهل المدينة أنهم يتناولون طعام العشاء قبل المغرب، لأنهم أهل حرث فلا يفرغون إلا آخر النهار، وكانت هي عادة أهل نجد قديماً، يأكلون طعام العشاء قبل المغرب، والغداء قبل الظهر، وهو شيء خفيف كالتمر واللبن، ثم صار الناس يأكلون العشاء بعد صلاة المغرب، ثم صاروا في هذه الأزمنة المتأخرة يأكلونه بعد صلاة العشاء بل ويتأخرون، وفي ذلك مفاسد كثيرة، والله المستعان.
قوله: (فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب) ، الأمر للندب عند الجمهور، وحمله ابن حزم الظاهري[(1197)] على الوجوب، فلو قدم الصلاة فهي باطلة عنده، عملاً بظاهر الأمر، والأول أظهر، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على صحة من صلى بحضرة طعام فأكمل صلاته ولم يترك من فرائضها شيئاً[(1198)]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: (إذا وضع العَشَاءُ وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشَاء)[(1199)].
وهذا أعم من حديث الباب، فإن قوله: (وأقيمت الصلاة)، عام في المغرب وغيرها، ويؤيد ذلك الحديث الآتي: (لا صلاة بحضرة طعام).
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الطعام إذا قدم وقت صلاة المغرب فإنه يُبدأ به قبل أداء الصلاة، وعلى الآكل ألا يعجل حتى تنقضي حاجته منه، وذلك لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، ولا يتم ذلك إلا بحضور القلب وتفرغه من الشواغل ـ كما تقدم ـ فتقديم الأكل على الصلاة لتؤدَّى بخشوع وحضور القلب.
وليس هذا من باب التهاون بالصلاة أو تقديم حق العبد على حق الله تعالى، بل إنه من باب تعظيم الصلاة حتى يقبل عليها بقلبه وقالبه.(1/343)
وظاهر الحديث أنه يقدم الطعام مطلقاً، سواء أكان محتاجاً إليه أم لا، لكن حمله أهل العلم على ما إذا كانت النفس محتاجة للطعام ومتعلقة به، أما مع عدم الحاجة إليه فلا ينبغي للمسلم أن يتخذ ذلك عادة، فيرتب موعد طعامه مع وقت حضور الصلاة، لأن هذا يفوت صلاة الجماعة، ولعلهم لاحظوا المعنى المراد، فإن النفس إذا لم تَتُقْ إلى الطعام فإن تقديم الصلاة لن يؤثر على الخشوع، بخلاف ما إذا تاقت إليه، ويؤيد ذلك قضايا وردت عن الصحابة رضي الله عنهم.
الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن الصلاة تؤخر إذا قدم الطعام ولو فاتت الجماعة أو فات أول الوقت، لكن إن ضاق الوقت بحيث لو قدم الطعام لخرج الوقت، فالجمهور على تقديم الصلاة محافظة على الوقت، وعندهم التقديم مختص بالحالتين المذكورتين.
وذهب آخرون إلى وجوب تقديم الطعام محافظة على تحصيل الخشوع في الصلاة، ولعل المسألة مبنية على حكم الخشوع في الصلاة[(1200)]، والله تعالى أعلم.
حكم تسوية الحصى في الصلاة
241/4 ـ وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ في الصلاة فَلاَ يَمْسَحِ الحَصَى؛ فإنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ». رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَزَادَ أَحْمَدُ: «وَاحِدَةً أَوْ دَعْ».
242/5 ـ وفِي «الصَّحِيحِ» عن مُعَيْقِيبٍ نَحْوُهُ بِغَيْرِ تَعْلِيلٍ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/344)
وهو معيقيب ـ بضم الميم وفتح العين ـ ابن أبي فاطمة الدوسي مولى سعيد بن أبي العاص، وقيل: حليف لآل سعيد، شهد بدراً، وقد أسلم قديماً في مكة، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وأقام بها حتى قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، وكان على خاتم النبي صلّى الله عليه وسلّم كما ذكر ذلك ابن القيم[(1201)]، واستعمله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على بيت المال، روى عنه ابناه: محمد والحارث، وابن ابنه: إياس بن الحارث، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو قليل الحديث، مات سنة أربعين، وقيل: في آخر خلافة عثمان، رضي الله عن الجميع[(1202)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
حديث أبي ذر رضي الله عنه أخرجه أبو داود (945) في كتاب «الصلاة» بابٌ «في مسح الحصى في الصلاة» والترمذي (379) والنسائي (3/6) وابن ماجه (1027) وأحمد (35/259) من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي الأحوص، عن أبي ذر رضي الله عنه، به.
وهذا إسناد ضعيف، لأن أبا الأحوص مجهول، لم يرو عنه غير الزهري، ولم يوثقه إلا ابن حبان[(1203)] فلم تثبت عدالته وحفظه، قال النسائي: (لم نقف على اسمه، ولا نعرفه، ولا يعلم أحد روى عنه غير ابن شهاب)، وذكره الذهبي في كتابه: «من تُكلِّم فيه وهو موثَّق»[(1204)].
والحديث حسنه الترمذي، ولعله لشواهده، وصححه الحافظ هنا في «البلوغ»، وهذا فيه نظر، فإنه قال عن أبي الأحوص في «التقريب»: (مقبول)، يعني عند المتابعة، ولم يتابع على هذا الحديث، فيكون ليِّن الحديث، ويدل على ذلك أنه خولف فيه، فقد أخرجه أحمد (35/351) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه، عن أبيه[(1205)] عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى؟ فقال: «واحدةً أو دع» ).(1/345)
ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، لكنه حَفِظَهُ، بدليل الحديث الذي بعده، وهو ما أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة»، باب: «مسح الحصى في الصلاة» (1207) ومسلم (546) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (حدثني معيقيب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: «إن كنت فاعلاً فواحدة»، والحديث له طريق أخرى عند الطيالسي (1/377) فقد رواه من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي ذر به، دون قوله: (أودَعْ) وعلى هذا فهو حديث صحيح، كما قال الألباني[(1206)].
وقول المصنف: وزاد أحمد: (واحدة أو دع)، ظاهره أنه زاد على اللفظ السابق، وهذا غير مراد، لأن لفظه عند أحمد يختلف عن لفظه السابق، وقد تقدم سياق لفظه عند أحمد، ولو قال: وفي رواية لأحمد... لكان أوضح.
قوله: (بغير تعليل) أي: إن حديث معيقيب فيه النهي، دون التعليل بأن الرحمة تواجهه.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (إذا قام أحدكم في الصلاة) هذا لفظ النسائي، والمثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه (إلى الصلاة). والمعنى: إذا شرع في الصلاة ليتفق اللفظان.
قوله: (فلا يمسح الحصى) أي: يسويه للسجود، والحصى: الحجارة الصغيرة، والتقييد بذلك خرج مخرج الغالب، لكونه الغالب على فَرْشِ مساجدهم، وإلا فلا فرق بينه وبين التراب والرمل، ويؤيد ذلك حديث معيقيب الآتي.
قوله: (فإن الرحمة تواجهه) هذا تعليل للنهي عن مسح الحصى، وقد ورد في رواية أبي داود وابن ماجه تقديم التعليل، ولفظهما: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى)، والمعنى: أن الرحمة تقابله وتنزل عليه فلا ينبغي أن يشتغل عنها بذلك.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا ينبغي للمصلي أن يمسح موضع سجوده من الأرض، بل عليه أن يقبل على صلاته ويخشع فيها، فيسجد على الأرض بدون مسح، قال الصنعاني: (إن النهي ظاهر في التحريم)[(1207)].(1/346)
لكن إن كان هناك حاجة لتسوية موضع السجود وهو التراب أو الحصى فليكن ذلك مرة واحدة، وقد أخرج مالك بإسناد صحيح عن أبي جعفر القارئ أنه قال: (رأيت عبد الله بن عمر إذا أهوى ليسجد مسح الحصباء لموضع جبهته مسحاً خفيفاً)[(1208)]، فإن سَوّى ذلك قبل دخوله في الصلاة فهو أفضل، لئلا يحتاج ذلك أثناء الصلاة، ولئلا ينشغل باله في الصلاة.
الوجه الخامس: دلَّ الحديث على أن حكمة النهي عن مسح الحصى أن الرحمة تواجهه وتكون تلقاء وجهه، والحديث الذي فيه التعليل فيه المقال المتقدم، وقيل: إن علة ذلك المحافظة على الخشوع والبعد عن العبث، ولعل المصنف لحظ هذا المعنى فذكر الحديث في هذا الباب، ولا مانع من إرادة الأمرين، ويدخل في ذلك كراهة مسح الجبهة والأنف أثناء الصلاة، فإنه من العبث وعدم الخشوع، لأن الاستغراق في الصلاة والخشوع فيها يُنسي ذلك ويُشغل عنه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الصلاة لشغلاً»[(1209)]، قال القاضي عياض: (كره السلف مسح الجبهة في الصلاة وقبل الانصراف مما يتعلق بها من الأرض)[(1210)].
وقد سجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في ماء وطين وبقي أثر ذلك في جبهته، ولم يكن ينشغل في كلّ رفعٍ من السجود بإزالة ما علق[(1211)]، فإقبال المصلي على صلاته وعنايته بها ينسي ذلك، والله المستعان.
النهي عن الالتفات في الصلاة
243/6 ـ وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الالْتِفَاتِ في الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
244/7 ـ وَلِلتِّرْمِذِيِّ: عَنْ أَنس ـ وَصَحَّحَهُ ـ «إيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ فِي الصَّلاَةِ، فَإنَّهُ هَلَكَةٌ، فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ ففي التَّطُّوعِ».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:(1/347)
أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «الالتفات في الصلاة» (751)، من طريق أشعث بن سليم، عن أبيه ـ أبي الشعثاء المحاربي ـ عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:...
وهذا الحديث من أفراد البخاري، وقد ذكر الحاكم في «المستدرك» (1/237) أن الشيخين اتفقا على إخراجه، وهذا وهم منه، رحمه الله.
أما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي (589) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بني إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة»، وهذا إسناد ضعيف لأمرين:
1 ـ لأنه من رواية علي بن زيد، المعروف بابن جُدْعان، وهو ضعيف، ضعفه أحمد وابن معين والنسائي، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: (ليس بقوي)[(1212)].
2 ـ أن رواية سعيد عن أنس رضي الله عنه لا تُعرف، قال المنذري: (رواية سعيد عن أنس غير مشهورة)[(1213)].
وقول الحافظ والمجد ابن تيمية ـ أيضاً[(1214)] ـ: إن الترمذي صححه..، هذا ذكره المزي في «التحفة» (1/226) والموجود في نسخ الترمذي: (هذا حديث حسن غريب) وفي بعضها: (هذا حديث غريب) قال الشيخ أحمد شاكر: (ولم نجد تصحيحه في أية نسخة من سنن الترمذي)، وقد حسن الترمذي هذا الإسناد نفسه في موضع آخر من «جامعه»[(1215)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قولها: (عن الالتفات) هو تحويل الوجه عن القبلة يميناً أو شمالاً.
قوله: (هو اختلاس) ، مصدر اختلس الشيء أي: استلبه في خفية، واختطفه بسرعة عن غفلة، والمعنى: أن الالتفات انتقاص ينتقصه الشيطان من صلاة العبد على وجه السرعة والخفية، فاعتبر التفاتة المصلي وذهاب الخشوع عنه اختلاسة ينتقصها الشيطان من صلاة العبد، لأنه يفرح بإعراض المصلي عن صلاته.(1/348)
يقول الطيبي: (من التفت يميناً وشمالاً ذهب عنه الخشوع المطلوب بقوله تعالى: {{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}} [المؤمنون: 2] ، فاستعير لذهاب الخشوع اختلاس الشيطان، تصويراً لقبح تلك الفعلة، أو أن المصلي حينئذٍ مستغرق في مناجاة ربه، وأنه تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد ينتظر فوات تلك الفرصة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة فيختلسها منه)[(1216)].
قوله: (إياك والالتفات في الصلاة) هذا أسلوب تحذير، و(إياك) ضمير منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به لفعل محذوف وجوباً، والتقدير: إياك أحذر، و(الالتفات) مفعول به لفعل محذوف وجوباً تقديره: احذرْ، والجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها.
قوله: (فإنه هلكة) بفتح الهاء واللام والكاف، أي: هلاك، لأنه طاعة للشيطان وهو سبب الهلاك، والهلاك: استحالة الشيء وفساده، والصلاة بالالتفات تستحيل من الكمال إلى الاختلاس المذكور في الحديث المتقدم.
قوله: (فإن كان لا بد..) أي: لا مفر ولا محيد عن الالتفات فليكن في التطوع، لأنه مبني على المساهلة والمسامحة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المصلي منهي عن الالتفات في صلاته؛ لأنه وُصِفَ بأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، والمراد بذلك: التفاته بالوجه، فإن كان بجملة البدن بأن استدار إلى غير جهة القبلة حرم وبطلت الصلاة باتفاق العلماء[(1217)].
وحكمة النهي عن الالتفات ما يلي:
1 ـ أنه نقص في الصلاة، لأنه دليل على عدم الخشوع، ولهذا ذكره المصنف هنا.
2 ـ أنه إعراض عن الله تعالى، وإقبال على غيره، والله تعالى قِبَلَ عبده.
3 ـ أنه حركة لا داعي لها، والأصل في الحركات أنها مكروهة مخلة بالخشوع.
وقد نقل الحافظ الإجماع على أن الالتفات في الصلاة مكروه، والجمهور على أنها كراهة تنزيه، وحكى عن الظاهرية وبعض الشافعية التحريم، إلا للضرورة[(1218)].
والالتفات في الصلاة نوعان:(1/349)
الأول: التفات القلب إلى غير الله عزّ وجل.
الثاني: التفات البصر.
وكلاهما منهي عنه، والالتفات لا يبطل الصلاة بهذه الصفة، ولكن ينبغي للمصلي أن يخشع في صلاته، ويصمد في وجهه إلى موضع سجوده، ويقبل على الله تعالى في صلاته، فلا يلتفت يميناً ولا شمالاً ولا يحقق مقاصد الشيطان.
الوجه الرابع: إذا وجد حاجة للالتفات فلا بأس به، كترقب عدو أو سقوط شيء أو نحو ذلك، وقد ورد في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه التفت في الصلاة حينما تقدم يصلي بالصحابة رضي الله عنهم، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ووقف خلفه، فأكثر الناس من التصفيق فالتفت. وهو حديث طويل[(1219)].
وعن سهل بن الحنظلية قال: ثُوب بالصلاة ـ يعني صلاة الصبح ـ فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعْبِ[(1220)]، قال أبو داود: (وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس)، وهذا فيه بيان لسبب التفاته صلّى الله عليه وسلّم[(1221)].
الوجه الخامس: الحديث دليل على حرص عائشة رضي الله عنها على العلم ورغبتها في التفقه في الدين، ولهذا أدركت بتوفيق الله تعالى علماً جماً، وخيراً كثيراً، وحفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألواناً من الأحاديث على صغر سنها، لأنه صلّى الله عليه وسلّم توفي وسنّها ثماني عشرة سنة رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين.
نهي المصلي عن البصاق وبيان صفته عند الحاجة
245/8 ـ وعَنْ أَنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ في الصَّلاَةِ فَإنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنَ يَمِينِهِ، وَلكِنْ عَنْ شِمالِهِ؛ تَحْتَ قَدَمِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رِوايَةٍ: «أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/350)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «العمل في الصلاة» باب «ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة» (1214) ومسلم (551) من طريق شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس رضي الله عنه... فذكره.
وهذا لفظ مسلم، وعند البخاري: (تحت قدمه اليسرى).
وفي رواية للبخاري (413) بهذا الإسناد: (إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)، وكان الأولى بالمصنف أن يبين أن الرواية للبخاري، وسأذكر غرض الحافظ من إيرادها، إن شاء الله.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فإنه يناجي ربه) أصل المناجاة: المسارَّة، تقول: ناجيته أي: ساررته، والاسم النجوى، والمراد هنا: الإقبال على الله تعالى، فالمصلي يناجي ربه بذكره ودعائه وتلاوة آياته، فاللائق به الخشوع والإقبال على ربه.
وقد علل النهي في هذا الحديث عن البصاق أمامه بكونه مناجياً لله، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (.. بأن الله قِبَلَ وجهه إذا صلى)[(1222)]، أي: مواجهه، ولا منافات بين ذلك لأن المراد إقبال الله تعالى على عبده في أثناء صلاته.
قوله: (فلا يبزقن) . يقال: بزق يبزُق بُزاقاً من باب «قتل» وهو بمعنى بصق، وهو إبدال منه، قال الأزهري: (البصق والبزق والبسق واحد)[(1223)]، والبزق: لفظ ماء الفم، وما دام فيه فهو ريق[(1224)].
قوله: (فلا يبزقنّ بين يديه) أي أمامه، وقد جاء في رواية للبخاري: (فإن ربه بينه وبين القبلة)[(1225)]. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (فإن الله قبل وجهه إذا صلى).(1/351)
ولا يبصق عن يمينه، لما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً)[(1226)]، وهذا التعليل بشقيه يفيد أن المصلي لا يبصق أمامه ولا عن يمينه مطلقاً، لا في المسجد ولا في غيره، كما سيأتي، فإن قيل: إن مقتضى التعليل بكونه عن يمينه ملكاً يقتضي ألا يبصق عن يساره، لأن عن يساره ملكاً، لقوله تعالى: {{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}} [ق: 17] . فالجواب:
1 ـ أن المصلي لا يبصق في الصلاة إلا عند الحاجة، وعليه أن يبصق في ثوبه ما استطاع.
2 ـ أنه إذا بصق تحت قدمه اليسرى لم يبصق في جهة الملك.
3 ـ أن الملك المقيم في جهة اليمين أشرف من المقيم في جهة الشمال، فاحتُرم بما لم يُحترم به غيره، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
قوله: (ولكن عن شماله تحت قدمه) أي: اليسرى، كما في رواية البخاري، وكذا جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه[(1227)].
والمعنى: أنه إذا بدره البصاق فإنه لا يبصق عن يمينه، ولكن عن شماله تحت قدمه اليسرى، وهذا إذا كان الإنسان خارج المسجد، كأن يصلي في بيته في أرض غير مفروشة أو في الصحراء، وأما في المسجد فلا يبصق تحت قدمه، وإنما في ثوبه أو منديله، كما سيأتي.
وفي رواية: (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) والظاهر أن الحافظ ذكر هذه الرواية لأنها أعم من قوله: (ولكن عن شماله تحت قدمه) لأن الرواية المذكورة تشمل ما تحت القدم وغير ذلك من جهة اليسار، فإن الظاهر أن (أو) للإباحة أو التخيير، ففي أيهما بصق لم يكن به بأس.
أما رواية (ولكن عن شماله تحت قدمه) فهي مقيدة، فهي أخص، ويرى القرطبي أن الرواية الأولى ترجع إلى الرواية الثانية[(1228)].(1/352)
ثم إن قوله: (عن يساره) مطلق، لكنه محمول على ما إذا كانت جهة يساره خالية من المصلين، لما ورد في حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة أو إذا صلّى أحدكم فلا يبزقن أمامه، ولا عن يمينه، ولكن تلقاء يساره إن كان فارغاً أو تحت قدمه» )[(1229)].
وفي بعض طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (... فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا ، ووصف القاسم ـ أحد رواته ـ فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض)[(1230)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على نهي المصلي عن البصاق بين يديه، وعن يمينه، سواء أكان ذلك في المسجد أم خارج المسجد، لما تقدم من التعليل من أن الله تعالى قبل وجه المصلي وأنه يناجي ربه وأن عن يمينه ملكاً.
والظاهر أن النهي للتحريم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لما رأى البصاق في جهة القِبلة، ونهى وبين علة النهي.
فإذا اضطر الإنسان إلى البصاق وهو يصلي فإنه يبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى إذا كان يصلي في صحراء، أو في مكان في بيته فيه تراب.
وأما البصاق في المسجد فسيأتي الكلام عليه في «أحكام المساجد» إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي للمصلي أن يخشع في صلاته وذلك بإخلاص قلبه وحضوره وتفريغه لذكر الله تعالى وتمجيده وتلاوة كتابه وتدبره، لأن المصلي واقف بين يدي ربه يناجيه.(1/353)
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الله تعالى قِبَلَ وجه المصلي، أي: مواجهه مواجهة تليق بالله تعالى، ولا يلزم من ذلك أنه سبحانه مختلط بخلقه، فهو تعالى فوق سمواته مستو على عرشه، وهو قريب من خلقه، ومحيط بهم، فالنصوص جمعت بين كون الله تعالى قِبَلَ وجه المصلي، وأنه على عرشه، والنصوص لا تجمع بين متناقضين بحال، لأن ذلك محال، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قِبَلَ وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوق، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت ـ أيضاً ـ قبل وجهه)[(1231)]، والمعنى: أنه إذا كان هذا ممكناً في المخلوق، ففي الخالق أولى بلا شك، والنص إذا كان محتملاً وجب أن يفسّر بما يوافق النصوص المحكمة الصريحة، والواجب على المسلم أن يؤمن بهذه النصوص ولا يسأل عن كيفيتها، والله تعالى أعلم.
اجتناب المصلي ما يلهيه في صلاته
246/9 ـ وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا فَقَالَ النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَمِيطي عَنَّا قِرَامَكِ هذَا، فَإنَّهُ لاَ تَزَالُ تَصاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي في صَلاَتِي». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
247/10 ـ وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِها فِي قِصَّةِ أَنْبِجَانِيَّةِ أبي جَهْمٍ، وَفِيهِ: «فَإنَّها ألْهَتْنِي عَنْ صَلاَتِي».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «إن صلّى في ثوب مُصَلَّبٍ أو تصاوير هل تفسد صلاته؟ وما يُنهى عن ذلك» (374) من طريق عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أميطي عنا قرامكِ هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي».(1/354)
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في باب «إذا صلّى في ثوب له أعلام، ونظر إليها» (373) ومسلم (556) من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) .
وأخرجه مسلم (556) (63) من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت له خميصة لها عَلَمٌ، فكان يتشاغل بها في الصلاة، فأعطاها أبا جهم، وأخذ كساء له أنبجانياً).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (قرام) بكسر القاف، هو ستر رقيق من صوف ذي ألوان.
قوله: (أميطي) أمر من الفعل (أماطَ يُميط) والثلاثي من باب «باع يبيع» أي: أزيلي.
قوله: (تعرض لي في صلاتي) أي: تلوح وتظهر.
قوله: (في خميصة) أي: كساء رفيع يلبسه أشراف العرب، وقد يكون له عَلَمٌ وقد لا يكون.
قوله: (لها أعلام) جمع عَلَمٍ، وهو الخط.
قوله: (فلما انصرف) أي: فرغ من صلاته، أو انصرف إلى بيته.
قوله: (بخميصتي هذه) أضافها إلى نفسه تحقيقاً لقبولها، وتملكها، وكان أبو جهم قد أهداها إليه، والإشارة للتعيين.
قوله: (أبي جهم) هو عبيد أو عامر بن حذيفة القرشي العدوي، أسلم عام الفتح، وعُمِّر حتى أدرك ابن الزبير، فأدرك بناء الكعبة في زمنه وفي الجاهلية أيضاً، كان معظماً في قريش ومقدماً فيهم، وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب، روي عنه أنه قال: (تركت الخمر في الجاهلية وما تركتها إلا خوفاً على عقلي) توفي في آخر خلافة ابن الزبير، رضي الله عنه[(1232)].(1/355)
قوله: (بأنبجانية) بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الباء، ويجوز فتحها: كساء غليظ ليس فيه خطوط، وطلبه صلّى الله عليه وسلّم أنبجانية أبي جهم عوضاً عن الخميصة التي ردها لئلا ينكسر قلبه برد النبي صلّى الله عليه وسلّم هديته، فأخذ بدلها الأنبجانية، وعلل ذلك بأنها ألهته عن الخشوع في الصلاة، ولا يلزم من ذلك أن أبا جهم كان يصلي فيها.
قوله: (فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) أي: فإنها شغلتني قريباً عن الخشوع في صلاتي، والمراد: بعض الصلاة، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم ينظر إلى أعلامها إلا نظرة واحدة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي للمصلي أن يجتنب كل ما يشغله ويلهيه عن صلاته من نقوش أو تصاوير أو كتابات، لأن الصلاة يطلب فيها الخشوع بحضور القلب وسكون البدن، والإقبال على الله تعالى، ولهذا استحب العلماء أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده ولا يتجاوزه، كما سيأتي إن شاء الله.
قال ابن رجب: (في الحديث دليل على استحباب التباعد عن الأسباب الملهية عن الصلاة، ولهذا أخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم تلك الخميصة عنه بالكلية، فينبغي لمن ألهاه شيء من الدنيا عن صلاته أن يخرجه عن ملكه[(1233)]).
ولا يفهم من الحديث البعد عن الثوب الحسن في الصلاة، بل يستحب ذلك للآية، إلا إن خشي من ثوبه الحسن الالتهاء عن الصلاة أو حدوث الكبر أو نحو ذلك.
الوجه الرابع الحديث دليل على أنه ينبغي أن تصان المساجد عما يشوش على المصلين من الزخرفة أو كتابات شيء من الآيات أو تعليق الساعات ونحو ذلك مما يكون في قبلة المصلي.
قال الإمام مالك رحمه الله: (أكره أن يكتب في قبلة المسجد شيء من القرآن والتزويق). وقال: (إن ذلك يشغل المصلي)[(1234)]، وحكاه ابن رجب[(1235)] عن أحمد، ولا يفهم من كلام الإمام مالك أنه يرى جواز كتابة القرآن في غير جهة القبلة، وإنما خص القبلة لأنها أهم ما يشغل المصلي لكونه يستقبلها.(1/356)
وكذا فُرُشُ المسجد فينبغي العناية بها وأن تكون خالية من التصاوير والزخارف، لأن صور الصلبان والآدميين والحيوانات تكثر في الفرش التي تصنع للمساجد، فينبغي تركها وعدم شرائها، معاملةً لصانعيها بنقيض قصدهم.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه لا يجوز تعليق الصور لا على الأبواب ولا على الجدران، بل يجب هتكها، سواء أكانت من صور بني آدم أم صور حيوانات من السباع أو الطيور ونحو ذلك، لأن هذه الصور فيها مشابهة لعباد الأصنام، وقد يفضي تعليقها إلى عبادتها من دون الله تعالى، كما وقع لقوم نوح ولليهود والنصارى، والله تعالى أعلم..
النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة
248/11 ـ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لَيَنْتَهِينَّ أَقْوامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السّماءِ في الصَّلاَةِ أَوْ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِم». رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (428) في كتاب «الصلاة» باب «النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة» من طريق الأعمش عن المسيب ـ وهو ابن رافع الأسدي ـ عن تميم بن طَرَفَة، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء... الحديث».
وأخرجه أيضاً (429) من طريق عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم».
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لينتهين) مضارع مؤكد بالنون واللام الواقعة في جواب القسم المقدر، وذلك لتأكيد النهي، وهو خبر بمعنى الأمر.
قوله: (أو لا ترجع إليهم) (أو) للتخيير المقصود به التهديد، والمعنى: ليكونن منهم الانتهاء عن رفع الأبصار أو خطف الأبصار عند الرفع فلا تعود إليهم.(1/357)
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم رفع البصر إلى السماء حال الصلاة، سواء أكان ذلك في حال القيام أم في حال الرفع من الركوع أم غير ذلك، وكذا في حال الدعاء، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حذر من ذلك، واشتد قوله فيه، وذكر عقوبة من فعل ذلك، وهذا هو الراجح في حكم رفع البصر إلى السماء وهو التحريم، لأن مثل هذا الوعيد لا يكون إلا على محرَّم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟!» فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهُنَّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم»[(1236)].
والجمهور على أن ذلك لا يبطل الصلاة، وذهب ابن حزم الظاهري إلى بطلان صلاة من رفع بصره إلى السماء[(1237)]، بناء على أن النهي يقتضي الفساد والبطلان. وإنما نُهي عن رفع البصر ـ والله أعلم ـ لأنه ينافي الخشوع والإقبال على الله تعالى، ولأنه إعراض عن القبلة، لأن القبلة ما يقابل الإنسان، لا ما يرفع إليه بصره؛ ولأنه خروج عن هيئة الصلاة، لأن الصلاة لها حالة معينة غير حالات الإنسان التي يعتادها في غير الصلاة.
قال ابن رجب: (والمعنى في كراهة ذلك؛ خشوع المصلي وخفض بصره، ونظره إلى محل سجوده، فإنه واقف بين يدي الله عزّ وجل يناجيه، فينبغي أن يكون منكساً رأسه ومطرقاً إلى الأرض)[(1238)].
الوجه الرابع: اختلف العلماء في رفع البصر خارج الصلاة حال الدعاء فكرهه أناس، وأجازه الأكثرون، كما قال الحافظ، لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. والراجح المنع؛ لأن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة؛ لوجوه ثلاثة:
الأول: أن القول برفع البصر حال الدعاء لا دليل عليه، ولم يقل به أحد من سلف الأمة، وهذا من الأمور الشرعية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.(1/358)
الثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل القبلة في دعائه، كما ثبت عنه ذلك في مواطن كثيرة، ففي حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة)[(1239)]، وترجم له البخاري في كتاب «الدعوات» باب «الدعاء مستقبل القبلة».
الثالث: أن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تُستقبل الكعبة في الصلاة والذكر والدعاء والذبح، وليست القبلة ما يُرفع إليه البصر، ولا ما تُرفع إليه الأيدي[(1240)].
الوجه الخامس: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، سواء أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً، إلا عند المالكية، فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده[(1241)]، مستدلين بقوله تعالى: {{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}} [البقرة: 144] .
ووجه الدلالة: أن المصلي مأمور بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وإذا نظر إلى موضع سجوده احتاج إلى نوع من الانحناء، والمنحني إلى موضع سجوده لم يولّ وجهه شطر المسجد الحرام.
وقد استدل الجمهور بما يلي:
1 ـ أن الله تعالى أثنى على المؤمنين ومدحهم بالخشوع في الصلاة، ومن صفات الخاشع أن ينظر إلى موضع سجوده، قال ابن تيمية: (إن خفض البصر من تمام الخشوع)[(1242)].
2 ـ حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكعبة وما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها[(1243)].
3 ـ أنه ورد مراسيل عن ابن سيرين وعطاء وغيرهما أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت: {{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *}} [المؤمنون: 2] خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم[(1244)].(1/359)
وعن أبي قلابة الجرمي قال: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين، يعني عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال سليمان: فرمقت عمر في صلاته فكان بصره إلى موضع سجوده...، وذكر باقي الحديث[(1245)].
ويستثنى من ذلك حال التشهد فإن المصلي ينظر إلى سبَّاحته، لحديث عبد الله بن الزبير في صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه: (وكان لا يجاوز بصره إشارته)[(1246)]، والله تعالى أعلم.
حكم الصلاة عند حضور الطعام أو مدافعة الأخبثين
249/12 ـ وَلَهُ: عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبثَانِ».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (560) في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين»، من طريق يعقوب بن مجاهد، عن ابن أبي عتيق قال: (تحدثت أنا والقاسم عند عائشة رضي الله عنها حديثاً، وكان القاسم رجلاً لَحّانَةً[(1247)]، وكان لأمِّ ولد، فقالت له عائشة: ما لك لا تحدث، كما يتحدث ابن أخي هذا؟ أما إني قد علمت من أين أُتيت، هذا أدبته أمه، وأنت أدبتك أمك، قال: فغضب القاسم، وأضبَّ عليها، فلما رأى مائدة عائشة قد أُتي بها قام، قالت: أين؟ قال: أُصلي، قالت: اجلس، قال: إني أُصلي، قالت: اجلس غُدَر، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ... فذكرت الحديث.(1/360)
وابن أبي عتيق: هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، يعرف بابن أبي عتيق، والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى: أضب عليها، بالضاد أي: حقد، ومعنى غُدَر: يا غادر، والغدر في الأصل: تركُ الوفاءِ. وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ في النداء بالشتم، وإنما قالت له: غُدَر؛ لأنه مأمور باحترامها، لأنها أم المؤمنين وعمته وأكبر منه وناصحة له ومؤدبة، فكان حقه أن يحتملها ولا يغضب عليها.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا صلاة) لا: نافية، والنفي هنا يتضمن النهي، أي: لا يصلِّ إنسان، والنفي عند البلاغيين أبلغ من النهي؛ لأن فيه تقريراً لاجتنابه، كأنه أمر لا يمكن أن يكون، وتقدم ذلك في «المواقيت».
والجمهور على أن هذا النفي نفي للكمال، وأنه يكره أن يصلي في هذه الحال، ولو صلّى فصلاته صحيحة[(1248)]، قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (وهذا أظهر)، لأنَّ له نظائر، مثل: (لا إيمان لمن لا صبر له)، ومثل: (والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)، ونحو ذلك مما يراد به نفي الكمال، فهذا مثله.
وقال بعض أهل العلم: إنه نفي للصحة، فلو صلّى في هذه الحال فصلاته محرمة، فتكون باطلة، لأن الأصل في نفي الشرع أن يكون لنفي الصحة، وهذا هو قول الظاهرية[(1249)].
قوله: (بحضرة طعام) الباء للمصاحبة، أي: مع حضور طعام، والمراد به: وضعه وتقديمه للأكل.
قوله: (ولا وهو يدافعه الأخبثان) أي: البول والغائط، وقد ورد التصريح بهما عند ابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها بالإسناد المذكور، ولفظه: (لا يقوم أحدكم إلى الصلاة، وهو بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان: الغائط والبول)[(1250)].
ومعنى يدافعه: أنه يدفعهما عن الخروج، وهما يدفعانه عن الشغل بغيرهما ليخرجا.(1/361)
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن الصلاة حال حضور الطعام الذي يريد أكله، لما تقدم من أن الصلاة صلة بين العبد وربه، ولا يتم ذلك إلا بحضور القلب وتفريغه من الشواغل، فيقدم الطعام لتؤدى الصلاة بخشوع وحضور قلب، ولو فات أول الوقت أو فاتت الجماعة.
وحضور الطعام قيد معتبر، فإن كان غير حاضر فلا تؤخر، إلا إن تيسر حضوره عن قرب، كأن توجد أمارات تقديمه، فلا يبعد أن يكون كالحاضر.
وقال بعض العلماء: إذا كان الطعام غير حاضر ونفسه تتوق إليه فالحكم فيه كما لو حضره، لوجود المعنى، وهو ترك الخشوع.
والأول أظهر، فإن الحضور قيد معتبر لا ينبغي إهداره، لأن حضور الطعام يوجب زيادة تشويق وتطلع إليه، فقد يكون الشارع اعتبر هذا الوصف وهو زيادة التشويق بسبب حضوره، فلا يلحق به ما لا يساويه للقاعدة الأصولية: أن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبراً لم يُلْغَ[(1251)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن الصلاة حال مدافعة البول والغائط، لأنه يكون مشغولاً بهما حتى ينتهي من صلاته ليفرغ منهما مع ما في ذلك من مضرة البدن، بل عليه أن يقضي حاجته ويتوضأ ولو فاتته الجماعة، لأن صلاته وحده بحضور قلب وخشوع أهم من صلاته مع الجماعة في حال مدافعة الأخبثين.
أما إذا كان شيئاً يسيراً لا يشغله، أو أحسَّ بالبول والغائط ولم يصل إلى حد المدافعة فلا بأس في الصلاة، لأن المدافعة تقتضي أن هناك شدة بحيث إن البول والغائط يؤذيه تأخره.
فإن ترتب على قضاء حاجته خروج الوقت فهل يصلي مع المدافعة أو يتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت؟ قولان:
القول الأول: أنه يصلي ولو مع مدافعة الأخبثين حفاظاً على الوقت، ولا يجوز له تأخيرها؛ وهو قول الجمهور.
القول الثاني: أنه يقضي حاجته ويصلي ولو خرج الوقت، وهو قول ابن حزم، وحكاه النووي عن بعض الشافعية[(1252)]، وهذا هو الأقرب إلى قواعد الشريعة وتيسيرها على المكلفين.(1/362)
الوجه الخامس: ألحق العلماء بمدافعة الأخبثين كل ما يشغل بال المصلي من ريح في جوفه، أو حر أو برد شديدين لا يخشع معهما، أو جوع أو عطش كذلك، لأن المعنى المراد موجود في الجميع، وهو حضور القلب وسكون الجوارح.
هذا ولو أن المصنف ذكر هذا الحديث مع حديث أنس المتقدم أول الباب، (إذا قُدم العَشاء...)، في موضع واحد لكان أنسب، والله أعلم.
كراهة التثاؤب في الصلاة
250/13 ـ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ: «فِي الصَّلاَةِ».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (2994) في كتاب «الزهد والرقائق»، باب «تشميت العاطس وكراهة التثاؤب»، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وأخرجه الترمذي (370) بالإسناد نفسه، ولفظه: (التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع) وقال: (حديث حسن صحيح).
وذكر الحافظ زيادة الترمذي لمناسبتها لكتاب الصلاة، لكنه ذكر حديث مسلم لأنه مقدم، ثم أشار إلى الزيادة، ولم يبين موضعها من الحديث، وقد بينتها بسياق اللفظ عند الترمذي.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (التثاؤب) مصدر تثاءب، مثل: تقاتل تقاتلاً، وهو بالهمز، وتثاوب: بدون همز، عامي، ذكره الجوهري[(1253)] وتبعه صاحب «المصباح المنير» وآخرون، وقيل: هما لغتان[(1254)]، والتثاؤب: حركة للفم ليست إرادية، وتكون هذه الحركة من كسل أو نوم.
قوله: (من الشيطان) جعله من الشيطان كراهية له، لأنه يكون مع ثقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل والنوم، فأُضيف إليه، لأنه الداعي إلى إعطاء النفس شهواتها وتوسعها في المآكل والمشارب.(1/363)
قوله: (فليكظم) بفتح ياء المضارعة وكسر الظاء المشالة من باب «ضرب يضرب» أي: ليحبسه وليمسكه، والكظم: سَدُّ الفم بإطباق الشفتين، وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: (فليردَّه ما استطاع) فإما أن المراد الأخذ بأسباب رده، لا أنه يرده إذا وقع، أو أن المراد: إذا أراد أن يتثاءب فليرده.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه ينبغي للمتثائب أن يرد تثاؤبه ما استطاع، وذلك بإطباق فمه وضم شفتيه.
وهذا هو الأمر الأول المشروع الذي دلت عليه السنة، ودليله حديث الباب.
والأمر الثاني: أن يضع يده على فيه، لأن فَغْرَ الفم شيء مستقبح، وربما وقع في فمه شيئ كذباب ونحوه، وقد دلّ على ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل»[(1255)]، والأفضل أن تكون اليد اليسرى، لأنه في أمر مستقذر.
فأمر بوضع يده على فمه لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته ودخوله فمه، وضحكه منه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (... فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان)[(1256)].
والأمر الثالث: أن يلزم الصمت، ولا يقول: (ها) لأنه صوت مستقبح، ليس بواضح، فالسنة ألا يتكلم في هذه الحال حتى ينتهي التثاؤب.
وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك الشيطان»[(1257)]، فهذه أمور ثلاثة دلت عليها السنة، وأما ما يفعله بعض الناس من الاستعاذة من الشيطان ظناً منهم أنه مستحب، فهذا لا أصل له، ولو كان مشروعاً لجاء النقل فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما نقل في هذه الأمور الثلاثة، بل إن بعضهم يُقَصّرُ في هذه الأمور المشروعة، ويأتي بأمر غير مشروع، والله المستعان.(1/364)
الوجه الرابع: تبين من أحاديث التثاؤب أن بعضها مطلق وبعضها مقيد في حالة الصلاة، كما في رواية الترمذي، والظاهر أن التثاؤب مكروه مطلقاً لأنه من الشيطان، لكن كراهته في حال الصلاة أشد، لأن للشيطان غرضاً قوياً في التشويش على المصلي وإذهاب خشوعه، وحالة الصلاة أولى بدفع التثاؤب، لبعده عن الخشوع وأدب الصلاة، وللخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة، فيتأكد في حق المصلي دفعه ما استطاع، فإن غلبه وَضَعَ يده على فيه، وعليه أن يمسك عن القراءة حتى يذهب عنه، لئلا يتغير نظم القرآن، وكذلك إذا كان يقرأ خارج الصلاة[(1258)]، والله تعالى أعلم.
باب المساجد
المساجد: جمع مسجد، على وزن مَفْعِل بكسر العين، اسم لمكان السجود وهو بهذا الاعتبار لا يختص بموضع معين، وبالفتح: اسم للمصدر، قال في «تثقيف اللسان»: (ويقال للمسجد: مَسْيد، بفتح الميم، حكاه غير واحد)[(1259)].
ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق اسم المكان منه، فقيل: مسجد، ولم يقولوا: مركع[(1260)].
والمسجد شرعاً: هو كل موضع من الأرض، لقوله صلّى الله عليه وسلّم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»[(1261)] وفي عرف الفقهاء: بقعة من الأرض تحررت عن التملك الشخصي، وخصصت للصلاة والعبادة[(1262)].
ومصلى العيد مسجد، على الراجح من قولي أهل العلم، وهو قول جماعة من أهل العلم، كالقاضي عياض والدارمي[(1263)]، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة، قال صاحب «الفروع»: (والصحيح أن مصلى العيد مسجد)[(1264)]، ودليل ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر الحُيَّض باعتزاله، والمرأة الحائض لا تعتزل إلا المسجد، على الخلاف المتقدم في باب «الغسل».
والمساجد أفضل البقاع في الأرض، وذلك لما يقام فيها من ذكر الله تعالى وعبادته بإقامة الصلاة، وتلاوة القرآن، وتعليم الدين، وغير ذلك مما يدل على أن المسجد هو مدرسة الإسلام الأولى.(1/365)
وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»[(1265)].
وللمساجد أحكام كثيرة عُني بها العلماء وبحثوها في كتب الحديث والتفسير والفقه، وألفوا فيها مؤلفات مستقلة، وقد جاء في هذه الأحكام أدلة من الكتاب والسنة، وقد ذكر المصنف في هذا الباب جملة من الأحاديث المتعلقة بذلك.
الأمر ببناء المساجد وتنظيفها
251/1 ـ وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنظَّفَ، وَتُطَيَّبَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَ إرْسَالَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (455) في كتاب «الصلاة»، باب «اتخاذ المساجد في الدور» والترمذي (594) وابن ماجه (759) وأحمد (43/396) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
وقد اختلف في وصل هذا الحديث وإرساله، فقد رواه موصولاً عامر بن صالح الزبيري، عند أحمد والترمذي، وزائدة بن قدامة عند أبي داود وابن ماجه، ومالك بن سُعير عند ابن ماجه ـ أيضاً ـ ثلاثتهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر ببنيان المساجد... الحديث.
وعامر بن صالح متروك، وكذبه ابن معين، ووثقه أحمد[(1266)]، لكنه توبع، وزائدة ثقة، ومالك بن سُعير لا بأس به، وهو من رجال البخاري ومسلم، كما في «التقريب».
ورواه مرسلاً وكيع وعَبْدة بن سليمان عند الترمذي (595) قال: حدثنا هناد، حدثنا عبدة ووكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر... فذكر نحوه..
قال الترمذي: (وهذا أصح من الحديث الأول).(1/366)
وتابعهما سفيان بن عيينة عند الترمذي أيضاً (596) فلذا رجح الترمذي الإرسال على الوصل، بناء على القاعدة عند المحققين، وهي أنه إذا تعارض الوصل والإرسال قُدِّمَ الأوثق والأكثر ولو في الإرسال، ورواة الإرسال هنا أوثق، فوكيع ثقة حافظ عابد، وعبدة بن سليمان الكلابي ثقة ثبت، وسفيان بن عيينة ثقة حافظ فقيه إمام حجة، كما رجح الإرسال أبو حاتم كما في «العلل» (481).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ببناء المساجد في الدور) أي: في القبائل، وهي الآن المحلّة أو الأحياء السكنية، وقد كان للأنصار وغيرهم دور تجتمع فيها جماعتهم ويكون فيها نخيلهم وزروعهم، فيقال: دار بني ساعدة، ودار بني النجار، وغير ذلك، وقد فسر سفيان بن عيينة أحد رواة الحديث الدور بالقبائل، كما نقله عنه الترمذي.
الوجه الثالث: الحديث دليل على شرعية بناء المساجد في الدور، وهي الآن الأحياء السكنية، فيشرع بناء المساجد فيها، ليجتمع أهل الحي كل يوم وليلة خمس مرات، فيتم في ذلك عبادة الله تعالى وتعليم الجاهل، وتنشيط العاجز، والتعاون على البر والتقوى؛ إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة، وعلى هذا فيجب على المسؤولين عن تخطيط الأراضي والأحياء السكنية ألا يُغفلوا موضوع بيوت الله تعالى، ولتكن مقدمة على غيرها من المرافق.
الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب تهيئة المساجد للمصلين، وذلك بتنظيفها من كل قذر يقع في أرضها أو فرشها أو حيطانها، كما يجب أن تصان عن الأقذار كالمخاط وتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط ونحو ذلك.
وكذلك ينبغي تطييبها وتحسين رائحتها، لتيسير الإقامة فيها، والتشجيع على التردد عليها، والبقاء فيها للقراءة والذكر والصلاة وطلب العلم، وغير ذلك.(1/367)
وقد بوب البخاري في «صحيحه» في كتاب «الصلاة» فقال: (باب كَنْسِ المسجد والتقاط الخِرَقِ والقذى والعيدان) ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أسود، أو امرأة سوداء كان يَقُمُّ المسجد فمات، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه فقالوا: مات، قال: «أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلوني على قبره ـ أو قال: قبرها ـ» فأتى قبره فصلى عليه[(1267)].
ففي هذا دليل على فضل تنظيف المسجد، لأن صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على قبر من يكنس المسجد دليل على تعظيم عمله، والله أعلم.
حكم بناء المساجد على القبور
252/2 ـ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «قَاتَلَ الله الْيَهُودَ: اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجدَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ مُسْلِمٌ: «وَالنَّصَارَى».
253/3 ـ وَلَهُمَا: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «كَانَوا إذَا مَات فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَالحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً»، وَفِيهِ: «أُولئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «الصلاة في البيعة» (437) ومسلم (530) من طريق الزهري قال: حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: فذكره مرفوعاً.
وأخرجه مسلم من طريق يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».(1/368)
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور (434) ومسلم (528) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله (ص): «أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله».
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (قاتل الله اليهود) هذا لفظ «الصحيحين» أي: قتلهم الله، وقيل: لعنهم، وقيل: عاداهم، والمراد هنا: لعنهم، كما في الرواية الأخرى ـ كما ذكر النووي وغيره ـ ولا يخرج اللفظ عن هذه المعاني، وقد ترد بمعنى التعجب نحو: ما أشعره قاتله الله!
وأصل (فاعل) أن يكون بين اثنين في الغالب، وقد يجيء من واحد كقولك: سافرت، وطارقت النعل. ذكره ابن الأثير[(1268)].
وفي اللفظ الآخر عندهما: (لعن الله) أي: طرد وأبعد عن رحمته، والجملة خبرية يحتمل أن تكون على حقيقتها، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يخبر أن الله لعن اليهود والنصارى، ويحتمل أن تكون على غير حقيقتها، وأن المراد بها الدعاء من النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم بأن يطردهم الله من رحمته، فتكون خبرية لفظاً إنشائية معنىً.
قوله: (اليهود والنصارى) اليهود هم الذين ينتسبون في ديانتهم إلى شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، سموا بذلك إما نسبة إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام، أو لأنهم هادوا، أي: رجعوا وتابوا من اتخاذ العجل إلهاً.
والنصارى: من ينتسبون في ديانتهم إلى شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، سموا بذلك إما لأنهم نزلوا قرية تُسمى ناصرة، أو لأن الحواريين منهم قالوا: نحن أنصار الله.(1/369)
قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) جملة مستأنفة لبيان سبب اللعن، والضمير في السياق الأول واضح أنه يعود على اليهود، أما في لفظ مسلم فالضمير يعود على اليهود والنصارى باعتبار مجموع الطائفتين، لا كل طائفة، لأن النصارى نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام وليس له قبر اتخذوه مسجداً، فيكون المراد: الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيد ذلك حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الآتي، ولفظه: (كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) كما يؤيده حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم؛ واتخاذ القبور مساجد يشمل بناء المساجد عليها، أو اتخاذها مكاناً للصلاة عندها ولو لم يبن المسجد، فمن تردد على قبر يصلي عنده فقد اتخذه مسجداً، لأن كل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجد، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»[(1269)].
قوله: (بنوا على قبره مسجداً) أي: مكاناً للصلاة، ويُسمى عند النصارى كنيسة.
قوله: (أولئِك شرار الخلق) بكسر الكاف، لأن الخطاب للمؤنث والمشار إليه بانو المساجد على القبور وواضعو الصور فيها.
ومعنى (شرار الخلق): أعظمهم شراً عند الله تعالى، لما يحصل بفعلهم من الفتنة والشرك بالله تعالى، وكل ما كان وسيلة إلى الشرك فصاحبه جدير بهذا الوصف.
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم بناء المساجد على القبور، وأن هذا من كبائر الذنوب، وهو من فعل شرار الخلق عند الله تعالى، وهو من عمل اليهود والنصارى ـ وهم الغلاة في أنبيائهم وصالحيهم ـ والبناء على القبور من وسائل تعظيمها وعبادتها من دون الله تعالى، ويدخل في ذلك قصد القبور للصلاة عندها، فإن ذلك من اتخاذها مساجد، لأن العلة في بناء المساجد عليها موجودة في الصلاة عندها، فإن ذلك ذريعة إلى نوع من الشرك، بقصدها والعكوف عندها، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية[(1270)].(1/370)
وقد تبع اليهودَ والنصارى ضُلاّلُ هذه الأمة وغلاتُها في بلدان كثيرة، كمصر والشام وغيرهما، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (بسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد)[(1271)] وذكر رحمه الله أنهم شر أهل البدع، وقد كان ذلك موجوداً في مكة في المعلاة، وفي المدينة في البقيع، فقيض الله تعالى لها من هدمها وأزالها، وكذا كانت القبور موجودة في بلاد نجد، فجاء الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب فسعى في إزالة الشرك ومعالمه، وتحقق على يديه خير كثير، ولا زال أناس يدعون إلى الشرك ويريدون أن تعود الحال إلى ما كانت عليه، وكما هو في الأمصار الأخرى، وهذا لجهلهم وضلالهم الذي أدى بهم إلى الغلو والتعلق بالقبور وأهلها.
وقد ورد عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال قبل أن يموت بخمس: «... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك»[(1272)].
وهذا من حرصه صلّى الله عليه وسلّم على أمته وإبعادهم عن جميع وسائل الشرك وأسبابه، حتى نهى عن ذلك في آخر حياته، بل إنه نهى عن ذلك وهو في حال الموت وفراق الدنيا، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نُزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طَفِقَ يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا[(1273)]). فالنبي صلّى الله عليه وسلّم حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات: الأولى: في سائر حياته، الثانية: قبل موته بخمس، الثالثة: وهو في السياق.(1/371)
الوجه الرابع: الحديث دليل على عظم ذنب من يسهلون للناس الوقوع في الشرك والبدع عن طريق البناء على القبور والعكوف عندها والصلاة والدعاء ونحو ذلك، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصفهم بأنهم شرار الخلق عند الله تعالى، لأنهم جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور والبناء عليها، وفتنة التماثيل، نسأل الله تعالى السلامة، والثبات على صحة المعتقد حتى الممات.
حكم دخول الكافر المسجد
254/4 ـ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم خَيْلاً، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوارِي المَسْجِدِ... الحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيِهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري مختصراً في كتاب «الصلاة» باب «دخول المشرك المسجد» (469) وأخرجه في كتاب «المغازي» باب: «وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال» (4372) ومسلم (1764)، من طريق ابن أبي سعيد المقبري، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: (فذكره بطوله). وقد تقدم سياقه بتمامه في باب «الغسل» عند الحديث «السادس» منه.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز إدخال الكافر المسجد، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقر الصحابة رضي الله عنهم على ربط ثمامة بن أثال في المسجد، وكان يمر به ثلاثة أيام، ويقول: (ما عندك يا ثمامة...؟).
وقيده أكثر العلماء بقيود؛ منها: أن يكون ذلك لغرض نافع، كسماع قرآن، أو علم، أو يرجى إسلامه، أو يدخل للمحاكمة ونحو ذلك مما يستفاد من الأدلة، ومنها: أن يكون ذلك بإذن المسلمين، وإلا فلا يجوز دخوله، وهذا قول بعض الشافعية والمالكية والحنابلة في رواية هي المذهب[(1274)].(1/372)
والقول الثاني: أنه يجوز دخول الكافر جميع المساجد، إلا المسجد الحرام، وهذا ما نص عليه الشافعي[(1275)]، وبه قال ابن حزم[(1276)]، لقوله تعالى: {{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}} [التوبة: 28] بناء على أن نجاسة المشرك نجاسة بدنية.
والقول الأول أظهر، لقوة أدلته، ولأن فيه عملاً بجميع النصوص، ولما يترتب على دخول الكافر من المصالح إذا رأى المسلمين وصلاتهم وقراءتهم، كما وقع من ثمامة رضي الله عنه، لكن لا بد من تقييده بالمصلحة والإذن، لأن كل تصرف يحدث من المسلمين في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يتعلق بشؤونهم العامة فإنه لا بد أن يأذن فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما وقع في ربط ثمامة، والله أعلم.
ومن أدلة ذلك ما ورد في حديث جبير بن مطعم ـ وكان ممن قدم في فداء أسارى بدر ـ أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالطور[(1277)].
وورد ـ أيضاً ـ قصة الأعرابي الذي دخل المسجد وعقل بعيره فيه وسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإسلام ثم أسلم[(1278)].
وأما الآية الكريمة فأجاب الأولون عنها بأن المراد بها: منعهم من الحج، كما ورد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعث عليّاً رضي الله عنه أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا عليٌّ في أهل منى يوم النحر: (لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). وهذا كان سنة تسع من الهجرة[(1279)].
والذي يظهر لي قوة الاستدلال بعموم الآية على منع الكافر من دخول المسجد الحرام، والله أعلم.(1/373)
الوجه الثالث: إذا كان دخول الكافر المسجد مقيداً بالمصلحة أو بالحاجة، فإنه يستفاد من ذلك أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد أو وضع مخططات لها، لأنه يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخطط المسجد أو عند تنفيذه، فقد يصممون المسجد على هيئة قريبة من هيئة الكنائس أو يغشون في التنفيذ والبناء، لأنهم أعداء لهذا الدين وأهله[(1280)]، ثم إن في ذلك تكثيراً لسوادهم في بلاد المسلمين، وعلى أصحاب المؤسسات أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وأموالهم ومجتمعهم فلا يستقدموا الأيدي العاملة غير المسلمة، بحجة أنهم أتقن للعمل من المسلمين، فإن الله تعالى يقول {{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}} [البقرة: 221] ، فالعمالة المسلمة مهما كانت خير من العمالة غير المسلمة، والله تعالى أعلم.
حكم إنشاد الشعر في المسجد
255/5 ـ وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه مَرَّ بِحَسَّانَ رضي الله عنه يُنْشِدُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَحَظَ إلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتابه «بدء الخلق» باب «ذكر الملائكة» (3212) ومسلم (2485) من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن عمر مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه: فقال: قد كنت أُنشد، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس»؟ قال: اللهم نعم.
وهذا السياق لمسلم، وساقه البخاري ومسلم ـ أيضاً ـ عن ابن المسيب قال: مَرَّ عمر في المسجد وحسان ينشد...(1/374)
والحديث بهذا الإسناد مرسل، لأن سعيد بن المسيب لم يدرك مرور عمر بحسان، قال الحافظ: (ورواية سعيد لهذه القصة مرسلة، لأنه لم يدرك زمن المرور، ولكن يحمل على أن سعيداً سمع ذلك من أبي هريرة بعدُ أو من حسان، أو وقع لحسان استشهاد أبي هريرة مرة أخرى فحضر ذلك سعيد، ويقويه حديث الباب)[(1281)] ويعني بذلك ما رواه البخاري في كتاب الصلاة «باب الشعر في المسجد» (453) ومسلم (2485) (152) من طريق شعيب، عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع حسان بن ثابت يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله... فذكره.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (مرّ بحسان) هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو الأنصاري الخزرجي النجاري، شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عبيدة: فُضّل حسان على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلّى الله عليه وسلّم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.
وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث، وروى عنه سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وآخرون.
واشتهر عند المؤرخين أنه كان جباناً، قال ابن عبد البر: (ذكروا من جبنه أشياء.. كرهت ذكرها لنكارتها، ومن ذكرها قال: إن حساناً لم يشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً من مشاهده لجبنه، وأنكر بعض أهل العلم بالخبر ذلك، وقالوا: لو كان حقاً لَهُجِيَ به).
وهذا هو الصواب إن شاء الله، فإنه أحد الصحابة المشهورين، وأشعاره تدل على شجاعته، أما ما قيل في قصته مع صفية مما يدل على جبنه فلا أصل لها.
مات رضي الله عنه سنة أربعين أو قبلها، وقيل غير ذلك، وعمّر مئة وعشرين سنة[(1282)].(1/375)
قوله: (فلحظ إليه) أي: نظر إليه، قال في «المصباح المنير»: (لحظته بالعين، ولحظت إليه: نظرت إليه بمؤخر العين عن يمين ويسار، فاللِّحاظ بالكسر مؤخر العين مما يلي الصِّدْغ)[(1283)] والمراد هنا: نظر إليه نظر عتب وإنكار.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز إنشاد الشعر في المسجد، وذلك إذا كان مباحاً، فإن كان مناصرة للسنة ودفاعاً عنها فهو مشروع، وإلقاؤه في المسجد مباح، وكذا إذا كان الشعر علماً نافعاً أو وعظاً فهذا جائز في المسجد. بل يثاب عليه قائله إن شاء الله تعالى وكذا قارئه.
وقد ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تناشد الأشعار في المسجد...) الحديث[(1284)].
وهذا لا يعارض حديث الباب، لأنه محمول على تناشد الأشعار الباطلة، أما الأشعار التي تمدح الإسلام أو فيها علم نافع فإنها جائزة، ذكر ذلك البيهقي، والقرطبي[(1285)] غير أنه يكره تشاغل جماعة المسجد بتناشد الأشعار والإكثار منه حتى يكون ذلك هو الغالب على أمرهم، وذلك لأنه إذا أُكْثِرَ منه يُذْهِبُ وقار المسجد وتزول حرمته.
الوجه الرابع: الحديث دليل على قوة عمر رضي الله عنه في الحق، وحرصه على الخير، حيث أنكر على حسان إنشاد الشعر في المسجد، لكن لما قال له حسان ما قال كفّ عنه ولم يقل شيئاً، وهذا فيه بيان وجوب الوقوف عند الدليل وعدم تجاوزه، وكان عمر رضي الله عنه وقافاً عند كتاب الله تعالى.
الوجه الخامس: الحديث دليل على شجاعة حسان وقوته في الصدع بالحق، لأنه صاحب حق، فإنه رد على عمر إنكاره عليه، لاعتماده على الدليل، ولم يمنعه من ذلك قوة عمر وصلابته وهيبته، لأن صاحب الحق أقوى، وفي هذا درس لأهل العلم أن يبلغوا عن الله تعالى شرعه، وأن يصدعوا بالحق، وألا يخافوا في الله لومة لائم، ليتوارث الناس الحق وينقله جيل عن جيل، لكن إذا تركوا إظهاره اندثر، وذهب بموت أهله، والله المستعان.(1/376)
حكم إنشاد الضالة في المسجد
256/6 ـ وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسجِدِ فَلْيَقُلْ: لاَ رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإنَّ المسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهذَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن نَشْدِ الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد» (568) من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله مولى شداد بن الهاد، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول.. فذكره مرفوعاً.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من سمع رجلاً يَنْشُدُ ضالة) بفتح الياء وسكون النون وضم الشين من باب «نصر» من نَشَدَ الضالة: إذا طلبها وسأل عنها.
والضالة: كل ما ضلّ، والجمع ضوال، من ضل الشيء: خفي وغاب. قال أهل اللغة: الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وأما الأمتعة فتسمى لقطة، ولا تسمى ضالة، لكن يشكل على ذلك حديث الباب، فإنَّ حَمْلَ الضالة فيه على المعنى الأعم أولى من تخصيصها بالحيوان، كما هو مدلولها في اللغة[(1286)].
قوله: (لا ردها الله عليك) جملة دعائية، وهي دعاء عليه بنقيض قصده، وهو نوع من التعزير.
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن نَشْدِ الضالة في المسجد، وهذا الحكم عام، سواء كانت حيواناً أو متاعاً أو نقداً أو غير ذلك، وأن من سمع من ينشد ضالة في المسجد فليدع عليه جهراً بقوله: (لا ردها الله عليك). وهذا من باب التعزير، لأنه لما تساهل وأتى بأمر لا يناسب المسجد عوقب بأن يدعى عليه بألا تُرَدّ ضالته.
وقد ورد عن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا وَجَدْتَ، إنما بنيت المساجد لما بنيت له»[(1287)]، فإن خرج عند باب المسجد فنشدها جاز، والله تعالى أعلم.
حكم البيع والشراء في المسجد(1/377)
257/7 ـ وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَو يَبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ الله تِجَارَتَكَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، والترمذيُّ وَحَسَّنَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب «البيوع» باب «النهي عن البيع في المسجد» (1321) والنسائي في «الكبرى» (6/52) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، أخبرنا يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: .. فذكره، وفي آخره: «وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا ردّ الله عليك» وقال الترمذي: (حديث حسن غريب).
والحديث أخرجه ابن خزيمة (2/274) والحاكم (2/65) وابن حبان (4/528) وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن البيع والشراء في المسجد، وقد ورد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشراء والبيع في المسجد.. وتقدم تخريجه قريباً، وهل هو للتحريم أو للكراهة؟ قولان:
الأول: أنه للكراهة، فيكره البيع والشراء في المسجد، ويصح إن وقع فيه، وهذا قول الجمهور، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية[(1288)]، قالوا: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بالدعاء عليه، وهذا يدل على كراهة البيع، ولم يبين بطلانه، ولو كان البيع باطلاً لبيّنه؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكونه منهياً عنه لا يقتضي بطلانه، كالغش والتدليس والتصرية، وقد نقل الماوردي الإجماع على أن ما عُقِدَ من البيع في المسجد لا يجوز نقضه، ومثله قال العراقي[(1289)].(1/378)
الثاني: أنه للتحريم فإن وقع لم يصح، وهذا مذهب الحنابلة[(1290)]، قالوا: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا على البائع والمشتري في المسجد بألا تربح تجارته، وهذه عقوبة له، لأنه فعل أمراً محرماً، وما كان محرماً فهو باطل.
والقول الأول أظهر، وهو صحة البيع، لأن فيه عملاً بجميع الأدلة، لكنّ صَرْفَ النهي من التحريم إلى الكراهة يحتاج إلى دليل، وما نقل من الإجماع على عدم جواز نقضه وصحة العقد لا ينافي القول بالتحريم، فقد يأتي النهي للتحريم ويكون العقد صحيحاً، كما في بيع التصرية، وعلى هذا فلا يصح جعل الإجماع قرينة لحمل النهي على الكراهة، والله أعلم[(1291)].
النهي عن إقامة الحد في المسجد
258/8 ـ وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تُقَامُ الحُدُود فِي الْمَسَاجِدِ، وَلاَ يُسْتَقَادُ فِيها». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزّى بن قصي الأسدي، ابن أخي خديجة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولد قبل الفيل بثلاث أو اثنتي عشرة سنة، وكان من سادات قريش، ومن العلماء بأنسابها وأخبارها، وكان صديق النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، وكان يواده ويحبه بعد البعثة، لكنه تأخر إسلامه حتى عام الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم، له ستون حديثاً، أربعة منها في «الصحيحين» كما ذكر الذهبي، روى عنه: ابنه حزام وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسعيد بن المسيب وعروة وغيرهم، مات سنة خمسين، وقيل أربع، وقيل ثمان، وقيل غير ذلك، وعمره مائة وعشرون، نصفها في الجاهلية، ونصفها في الإسلام، كما ذكر البخاري[(1292)]، وتعقبه الذهبي بأنه لم يعش في الإسلام إلا بضعاً وأربعين سنة[(1293)].
الوجه الثاني: في تخريجه:(1/379)
فقد أخرجه أحمد (24/346) وأبو داود (4409) في كتاب «الحدود» بابٌ «في إقامة الحد في المساجد» من طريق محمد بن عبد الله المهاجر الشُّعيثي، عن زُفر بن وَثِيمة، عن حكيم بن حزام أنه قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يُستقاد في المسجد، وأن تُنشد فيه الأشعار، وأن تُقام فيه الحدود) هذا لفظ أبي داود.
وقد ضعف الحافظ هذا الحديث، لأنه أُعل بثلاث علل:
1 ـ أن فيه انقطاعاً، كما نص على ذلك ابن عبد الهادي[(1294)]، لأن زفر بن وثيمة لم يلق حكيم بن حزام على ما ذكره الحافظ[(1295)]، ونقله عن دُحيم القاضي.
2 ـ أن محمد بن عبد الله الشعيثي مختلف فيه، فقد وثقه ابن معين، ودحيم القاضي. وقال أبو حاتم: (ضعيف الحديث، ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به)[(1296)].
3 ـ أن زفر بن وثيمة مجهول الحال، فإنه لم يروِ عنه إلا الشعيثي، على ما ذكره ابن القطان[(1297)].
لكن الحديث له شواهد ذكرها الألباني، وهي وإن كانت ضعيفة لكنها باجتماعها تقوى، إضافة إلى المعنى، كما سيأتي إن شاء الله، وقد قال الحافظ في «التلخيص» عن حديث الباب (إسناده لا بأس به)[(1298)]. ولعله نظر إلى شواهده، وحسنه الألباني[(1299)].
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (أن يستقاد في المسجد) أي: لا يؤخذ القصاص فيها، والقود: بفتح القاف والواو: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل، وسمي القَوَد قَوَداً، لأن الجاني يقاد إلى أولياء المقتول فيقتلونه به إن شاؤوا.
قوله: (وأن تُقام فيه الحدود) أي: تُنفذ، والحدود هي العقوبات البدنية المقدرة شرعاً لحق الله تعالى، كحد الزنى، وحد القذف، وحد الشرب.(1/380)
الوجه الرابع: الحديث دليل على النهي عن استيفاء القصاص أو تنفيذ الحدود في المسجد، وظاهر النهي أنه للتحريم، والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم إلا أن معناه صحيح، فإن إقامة الحد في المسجد وإن كان إجراء لحكم الله تعالى إلا أنه يؤدي إلى تلويث المسجد، فإنه إذا ضرب الجاني أو قُطعت يده أو اقتص منه لوث المسجد، مع ما في ذلك من اللغط ورفع الأصوات فيه، وكل ذلك غير لائق بالمسجد، لأن الله تعالى يقول: {{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}} [النور: 36] ، وهذا الرفع يشمل الرفع الحسي بالبناء والتطهير من الأذى والقذر وكل ما لا يليق بالمسجد، والرفع المعنوي بإقامة ذكر الله تعالى وطاعته من الذكر والتلاوة والصلاة والابتعاد عن معصيته من اللغو وقول الزور وكل فعل يخل بتشريفها.
ولم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عن أحد من أصحابه أنهم أقاموا الحدود في المسجد، ولما جاء ماعز رضي الله عنه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو في المسجد وأقرّ عنده بالزنى قال: «اذهبوا به فارجموه»[(1300)]، والله تعالى أعلم.
جواز نصب الخيمة في المسجد لحاجة
259/9 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/381)
فقد أخرجه البخاري في مواضع، أولها في كتاب «الصلاة» باب «الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم» (463) ومسلم (1769)، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد يوم الخندق في الأَكْحَل، فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يَرُعْهُم ـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جُرحه دماً، فمات فيها) أخرجه البخاري مطولاً في كتاب «المغازي» (4122).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أصيب سعد..) هو أبو عمرو، سعد بن معاذ الأوسي، أسلم في المدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب بن عمير، وأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيد الأنصار، شهد بدراً وأحداً، وأصيب يوم الخندق في أَكْحَلِهِ ـ وهو عرق في الذراع يفصد ـ فلم يرقأ دمه حتى مات بعد شهر، وذلك في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وقد ورد في «صحيح البخاري» (3803) ومسلم (2466) عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ» وفي لفظ: «اهتز عرش الرحمن»، قال ابن عبد البر: (وهو حديث رُوي من وجوه عديدة كثيرة متواترة، رواها جماعة من الصحابة)[(1301)].
قوله: (يوم الخندق) أي: في شوال سنة خمس من الهجرة.
قوله: (يغذو) بغين وذال معجمتين، أي: يسيل.
قوله: (فمات فيها) أي: في الخيمة، أو في تلك المرضة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز نصب الخيمة في المسجد للمريض وإن كان جريحاً إذا كان هناك مصلحة، كأن يكون الرجل ذا شأن فيحتاح أن يعوده الناس من قريب، أو لأنه لا سكن له، أو توضع الخيمة في المسجد لقصد الاعتكاف، فكل ذلك جائز بشرط ألا يضيق على المصلين، وبشرط الصيانة والنظافة، وغالب المساجد اليوم فيها غرف صالحة للإقامة فيها، فتقوم مقام الخيمة.(1/382)
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي تقدير أهل الفضل والسابقة في الإسلام وتنزيلهم منازلهم من الشفقة والعناية، والله أعلم.
جواز اللعب بالحراب في المسجد
260/10 ـ وَعَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَسْتُرُنِي، وَأَنَا أَنْظُرُ إلى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ... الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع كثيرة من «صحيحه» ومنها: كتاب «الصلاة» باب «أصحاب الحراب في المسجد» (454) ومسلم (892) (17) من طريق الزهري، عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم).
وفي رواية لها: (والحبشة يلعبون بحرابهم) ولفظ البلوغ هو لفظ البخاري في كتاب «المناقب» رقم (3530).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (والحبشة) هم الحبش، وهم جنس من السودان وسكان بلاد الحبشة، الواحد حبشي، والجمع حُبْشان، وبلادهم هي أثيوبيا ـ الآن ـ في أفريقيا الشرقية.
قوله: (يلعبون) فسِّر ذلك برواية: (يلعبون بحرابهم) والحراب: جمع حربة، وهي آلة قصيرة من الحديد، محددة الرأس، تستعمل في الحرب.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد، ويلحق بذلك كل ما في معناه من الأسباب المعينة على الجهاد وأنواع البر، لأن ذلك ليس لعباً مجرداً، وإنما هو وسيلة لغاية سامية، وهي التدريب على الشجاعة والقتال، مع ما في ذلك من تأليف القلوب، وبيان سماحة الإسلام، ولهذا لما أراد عمر رضي الله عنه أن ينكر عليهم قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعهم يا عمر» كما ثبت في «الصحيحين».(1/383)
وشرط ذلك ألا يكون بصفة دائمة بحيث يتخذ المسجد ملعباً، وألا يؤذي أحداً من المصلين أو الذاكرين أو حلقات العلم، وألا يكون فيه أصوات وسب وشتم ونحو ذلك مما يذهب معه وقار المسجد.
وكأنّ عمر رضي الله عنه بنى إنكاره هذا على الأصل من تنزيه المساجد واحترامها، فبين له النبي صلّى الله عليه وسلّم أن التعمق والتشديد ينافي سماحة الإسلام ويسره، لا سيما فيما يترتب عليه مصلحة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز نظر المرأة إلى جملة الرجال دون تفصيل لأفرادهم، كما تنظر إلى الرجال في الأسواق أو المساجد، وليس في الحديث ما يدل على أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، فالمقصود بالنظر ذات اللعب، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن؛ ولذا جاء في لفظ مسلم: (يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم) قال القاضي عياض: (فيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال، مثل هذا، لأنه إنما يكره لهن من النظر إلى الرجال ما يكره للرجال فيهن من تحديق النظر لتأمل المحاسن، والالتذاذ بذلك والتمتع به..)[(1302)].
وقد نقل النووي: الاتفاق على تحريم نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي إذا كان مقروناً بشهوة[(1303)].
الوجه الخامس: حسن خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وكريم معاشرته لأهله، فينبغي على المسلم امتثال ذلك والاقتداء بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، والله تعالى أعلم.
جواز إقامة المرأة في المسجد ونومها فيه
261/11 ـ وَعَنْهَا: أَنَّ وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَتْ تَأْتِيني، فَتَحَدَّثُ عِنْدِي... الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/384)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «نوم المرأة في المسجد» (439) من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن وليدة كانت سوداء لحيّ من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبية لهم، عليها وِشاحٌ أحمر من سيور، قالت: فوضعته، أو وقع منها، فمرت به حُدَيّاةٌ وهو ملقى، فحسبته لحماً فخطفته، قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشونني، حتى فتشوا قُبُلَها، قالت: والله إني لقائمة معهم، إذ مرت الحدياةُ فألقته، قالت: فوقع بينهم، قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتموني به، زعمتم وأنا منه بريئة، وهو ذا هو، قالت: فجاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حِفْشٌ، قالت: فكانت تأتيني فَتَحَدّثُ عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:
ويومَ الوِشَاحِ من تعاجيب ربِّنا
ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعداً إلا قلت هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث.
والحديث تفرد البخاري بإخراجه، وعزوه لمسلم وهم من الحافظ رحمه الله.
والوليدة: هي الأمة، وهي في الأصل المولودة ساعة تولد، ثم أطلق على الأمة وإن كانت كبيرة.
والوشاح، بكسر الواو ويجوز ضمها: خيطان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، تشده المرأة بين عاتقها وكشحها.
والحديّاةُ: بضم الحاء، تصغير: حدأة، وهي الطائر المعروف.
والخباء: بالكسر الخيمة.
والحفش: بالكسر ـ أيضاً ـ البيت الصغير.
وتعاجيب: أي: أعاجيب، واحدها أعجوبة.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز إقامة المرأة في المسجد ونومها فيه، لأن هذه المرأة كان لها خباء في المسجد تقيم فيه وتنام، وينبغي تقييد ذلك بأمن الفتنة منها أو عليها، وفي زماننا هذا لا يجوز للمرأة أن تسكن المسجد، لأن الفتنة غير مأمونة.(1/385)
الوجه الثالث: استدل طائفة من أهل الظاهر بهذا الحديث على جواز مكث الحائض في المسجد، لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالباً.
وهذا فيه نظر، لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزاً قد يئست من الحيض، وقد تقدم ذكر ذلك في باب «الغسل»[(1304)]، والله تعالى أعلم.
حكم البزاق في المسجد
262/12 ـ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «كفارة البزاق في المسجد» (415) ومسلم (552) من طريق شعبة قال: حدثنا قتادة قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ..فذكره.
وفي رواية لمسلم: (حدثنا شعبة قال: سألت قتادة عن التفل في المسجد فقال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (التفل في المسجد خطيئة..) الحديث.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يحرم على المسلم أن يبصق في المسجد، استهانة بالمسجد أو بمن فيه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عدّ ذلك خطيئة، تكتب على ابن آدم، والخطيئة هي السيئة والإثم، وقد ورد عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عُرضت عليّ أعمال أمتي، حَسَنُها، وسَيّئُها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها: النخامة تكون في المسجد لا تدفن»[(1305)].
وليس معنى ذلك أن يبصق ويدفن، فإنه جعل البصاق معصية، ولا يجوز لأحد أن يعمل ذنباً ويتبعه بما يكفره من الحسنات الماحية.(1/386)
لكن إن بدر المصلي بصاق فإنه يبصق في منديل أو في طرف ردائه أو ثوبه ويحك بعضه ببعض، لما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (... فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا ، ووصف القاسم ـ أحد رواته ـ فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض ). أخرجه مسلم، وتقدم.
فإن بصق في أرض المسجد مضطراً وكانت أرض المسجد تراباً وجب عليه دفنها وتغييبها في التراب، لئلا تعلق بثوب مسلم أو رجله فتؤذيه، ولذا أمر بدفنها ولا كفارة لها إلا ذلك، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيِّب نخامته، أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه»[(1306)].
قال ابن رجب: (وهذا مما يدل على أن قرار المسجد وباطنه يجوز أن يجعل مدفناً للأقذار الطاهرة)[(1307)].
فإن كان المسجد مفروشاً ـ كحال المساجد الآن ـ لم يجز البصق فيه بحال من الأحوال، لا سيما وقد تيسرت ـ ولله الحمد ـ المناديل بأنواعها وشاع استعمالها بين الناس، والله تعالى أعلم.
ذمُّ التباهي بالمساجد وأنه من أشراط الساعة
263/13 ـ وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ». أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» باب «بناء المساجد» (449) والنسائي (2/32) وابن ماجه (739) وأحمد (19/372) وابن خزيمة (1322) و(1323) من طرق، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس مرفوعاً، وهذا لفظ أبي داود وابن ماجه وأحمد، ولفظ النسائي وابن خزيمة (من أشرط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد) وإسناده صحيح على شرط مسلم، ورجاله ثقات، رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/387)
قوله: (لا تقوم الساعة..) الساعة في اللغة: هي جزء من أجزاء الليل والنهار، والمراد بها هنا: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، فإذا أطلقت الساعة في القرآن فالمراد بها القيامة الكبرى، قال تعالى: {{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ}} [الأحزاب: 63] ، وقال تعالى: {{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}} [القمر: 1] ، سميت بذلك لسرعة الحساب فيها، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة.
قوله: (حتى يتباهى الناس في المساجد) أي: يتفاخرون في بنائها، فيفاخر كل أحد بمسجده، ويقول: مسجدي أرفع أو أوسع أو أَحسن؛ رياءً وسمعة واجتلاباً للمدحة، مما وقع فيه الناس اليوم.
الوجه الثالث: الحديث دليل عى ذم التباهي والتفاخر في بناء المساجد، لأن ذلك من أشراط الساعة وعلامة قربها، وهو دليل على تغير الأحوال من غلبة الجهل ونقص الدين وضعف الإيمان، وغلبة المقاصد الدنيوية على المقاصد الأخروية، ولهذا قال أنس رضي الله عنه: (يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)[(1308)].
وقد حصل ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم حيث تباهى الملوك والخلفاء في بناء المساجد وتزويقها حتى أتوا في ذلك بالعجب، ولا زالت هذه المساجد قائمة حتى الآن في بلاد الشام ومصر، وبلاد المغرب والأندلس وغيرها.
وفي عصرنا الحاضر اتضحت ظاهرة التباهي بالمساجد، لما تقدم، ولتفنن الناس في البناء تخطيطاً وتنفيذاً، ووجود الوسائل المعينة على ذلك.
ولا ريب أن التباهي في المساجد يقود إلى الإسراف في بنائها وصرف الهمة إلى تزويقها، والله المستعان.
تشييد المساجد ليس من الأمور المشروعة
264/14 ـ وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المَسَاجِدِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/388)
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة» في باب «بناء المساجد» (448) وابن حبان (4/493) من طريق محمد بن الصباح، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس: (لتُزَخْرِفُنّها كما زخرفت اليهود والنصارى) وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، كما قال النووي[(1309)].
وقول ابن عباس رضي الله عنهما هذا علقه البخاري في «صحيحه» بصيغة الجزم في كتاب «الصلاة»، باب «بنيان المسجد»[(1310)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (بتشييد) المراد بذلك رفع البناء وتطويله، يقال: شاد الرجل بناءه يشيده، وشيَّده يُشَيّده: طوَّله ورفعه، ومنه قوله تعالى: {{فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}} [النساء: 78] على أحد التفسيرين، وقال في «القاموس»: (شاد الحائط يشيده: طلاه بالشِّيد، وهو ما طلي به حائط من جص ونحوه)، وعلى هذا فرفع البناء ليس من مسمى هذا اللفظ، لكنه قال: (المُشَيَّد: المطوَّل)[(1311)].
وعلى هذا فالتشييد تطويل البناء ورفعه، أو طليه بالشيد، وهو الجص، وقد ذكر المفسرون هذا عند الآية الكريمة.
قوله: (لتزخرفنها) بفتح اللام ـ وهي لام القسم ـ وضم التاء، وفتح الزاي، وسكون الخاء المعجمة، وكسر الراء، وضم الفاء، وتشديد النون؛ والزخرفة: الزينة، وأصل الزخرفة: الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن تشييد المساجد وزخرفتها ليس أمراً مشروعاً وليس من القُرَبِ، لأنه قال: (ما أمرت) وهذا فيه إشعار بأن ذلك أمر لا يحسن ولا ينبغي، فإنه لو كان حسناً لأمر الله تعالى به نبيه صلّى الله عليه وسلّم.(1/389)
ولا يدل ذلك على التحريم، وإلا لقال: نهيت عن تشييد المساجد، وفرق بين اللفظين، لكنه يدل على أنه عمل غير مشروع، وقال الشوكاني: (والحديث يدل على أن تشييد المساجد بدعة)[(1312)] لأن المطلوب في بناء المساجد الاقتصار على ما أكنّ من الحر والبرد والمطر، ولكن لما طال العهد شيد الناس المساجد وزخرفوها، ورفعوا بنيانها فوق الحاجة، والمطلوب البعد عن ذلك، لأن هذا مما يشغل المصلين ويجعلهم ينظرون ويتأملون، فتحصل الغفلة عن الخشوع في الصلاة والإقبال عليها.
وقد ورد عن نافع أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبنياً باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر رضي الله عنه وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصّة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج[(1313)].
قال ابن بطال، بعد أن ذكر آثاراً تدل على كراهة المغالاة في تشييد المساجد قال: (وهذه الآثار مع ما ذكر البخاري في هذا الباب تدل على أن السنّة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها.
وكان عمر رضي الله عنه قد فتح الله الدنيا على أيامه، ومكنه من المال، فلم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم جاء الأمر إلى عثمان، والمال في زمانه أكثر، فلم يزد أن جعل في مكان اللبن حجارة وقَصَّة[(1314)]، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يقصِّر هو وعمر عن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بكراهة ذلك، وليُقتدى بهما في الأخذ من الدنيا بالقصد والكفاية، والزهد في معالي أمورها وإيثار البلغة منها)[(1315)].(1/390)
فعمر رضي الله عنه أبقى المسجد على صفته التي كان عليها زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل نهى عن زخرفة المسجد، لأن ذلك يشغل الناس عن صلاتهم، وقال عندما أمر بتجديد المسجد النبوي: (أَكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تُحَمِّرَ أو تُصَفِّرَ فتفتن الناس)[(1316)].
وأما عثمان رضي الله عنه فقد حسّن المسجد النبوي بما لا يقتضي الزخرفة، ولعله فعل ذلك، لأنه لما رأى الناس قد حسنوا بيوتهم بما أعطاهم الله رأى أن من المناسب تحسين مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومع ذلك فقد أنكر عليه بعض الصحابة رضي الله عنهم.
فقد ورد عن عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان يقول ـ عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ: (إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من بنى مسجداً ـ قال بكير: حسبتُ أنه قال ـ يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة»[(1317)] ).
وعن محمود بن لبيد ـ وهو من صغار الصحابة ـ أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك، فأحبوا أن يدعه على هيئته فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من بنى مسجداً لله بنى الله له في الجنة مثله»[(1318)].(1/391)
فالمطلوب في بناء المسجد هو توسيعه وإحكام البناء وتجهيزه بكل ما هو من مستلزمات العصر مما يرغِّب في المساجد والبقاء فيها للصلاة وتلاوة القرآن وحلق العلم، مع الحذر من الإسراف والمباهاة، سواء في بنائه أو في توابعه ومكملاته من محراب وأبواب ونوافذ وفرش وإنارة ومكبرات صوت ووسائل تبريد وغير ذلك، لما في ذلك من إضاعة المال، والتسبب في إشغال المصلين، لأن عمارة المساجد إنما تكون بالطاعة والذكر، كما يجب البعد عن الإسراف في تطويل المنائر ـ أو تعددها ـ كما يوجد في بعض المساجد، مما يكلف مبالغ عظيمة، قد تكفي لبناء مساجد أخرى، ومكبرات الصوت تغني عن رفع المنائر أو تعددها، ولا نقول بإلغائها لأن وجودها له فائدة، وهو إبلاغ الصوت، والاستدلال بها على المسجد، وليتميز المسجد بها عن بقية بيوت الحي[(1319)]، والله أعلم.
فضل إخراج القذر من المسجد
265/15 ـ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتي، حَتَّى الْقَذاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (461) في كتاب «الصلاة» بابٌ «في كنس المسجد» والترمذي (2916) وابن خزيمة (1297) من طريق عبد الوهاب بن عبد الحكيم الخزاز، أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها». وهذا الحديث معلول سنده ومتنه، أما السند فهو ضعيف لعلتين:(1/392)
الأولى: أنه من رواية المطلب بن عبد الله، عن أنس، وهو صدوق، كثير التدليس والإرسال، قال أبو حاتم: (روايته عن الصحابة مرسلة)[(1320)]، وقال الترمذي بعد سياق حديثه: ( قال محمد: لا أعرف للمطلب بن عبد الله بن حنطب سماعاً من أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم)، وعليه ففي السند انقطاع.
الثانية: فيه ابن جريج، وهو ممن يدلس عن الضعفاء والمجهولين، وقد عنعنه.
ولهذا ضعفه البخاري، والترمذي، والقرطبي، والحافظ ابن حجر[(1321)]. وقوله: (استغربه الترمذي): أي: قال: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، أي انفرد بروايته راوٍ واحد، وليس له إلا هذا الإسناد.
وأما إعلاله من جهة المتن فلأن المكلف غير مؤاخذ بالنسيان، فكيف يكون نسيان السورة أو الآية من أعظم الذنوب، وقد نسي النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم آية، كما ثبت في «الصحيح»، إلا إن كان المراد بالنسيان الإعراض عنها وعدم الإيمان بها، أو المراد ترك القرآن عمداً إلى أن يفضي هذا الترك إلى النسيان، والمقصود أنه إن كان عن إهمال ففيه مؤاخذة وإلا فلا.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (عرضت عليَّ) الظاهر أنه في ليلة المعراج، لأنه المتبادر عند الإطلاق.
قوله: (حتى القذاة) هي ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيراً، ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي: عرضت عليّ أجور أعمال أمتي وأجر القذاة، أي: أجر إخراج القذاة.
ويجوز فيها الرفع والجر، فالرفع على أن (حتى) حرف عطف، والقذاة مبتدأ، وجملة (يخرجها) خبر، ويجوز الجر، و(حتى) حرف جر بمعنى (إلى) وتكون جملة (يخرجها) للبيان.(1/393)
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل تنظيف المساجد وإخراج القمامة منها، لأنه إذا حصل الأجر لمن يخرج القذاة منه وهو شيء يسير فالذي يكنسه ويزيل ترابه وغباره وينظفه عن الأقذار والأوساخ الكثيرة بالطريق الأولى له أجور كثيرة، وعَدّ إخراج القذاة التي لا يؤبه لها من الأجور تعظيماً لبيت الله عزّ وجل، والله تعالى أعلم.
حكم تحية المسجد
266/16 ـ وعَنْ أَبي قَتَادَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «التهجد»، باب «التطوع مثنى مثنى» (1163) ومسلم (714) من طريق عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزُّرقي، عن أبي قتادة رضي الله عنه مرفوعاً.
وفي رواية للبخاري (444) ومسلم (714) (69) (فليركع ركعتين قبل أن يجلس). ولمسلم أيضاً (714) (70): (فلا يجلس حتى يركع ركعتين).
الوجه الثاني: الحديث دليل على نهي داخل المسجد عن الجلوس حتى يصلي ركعتين تعظيماً لله عزّ وجل، وهي تحية المسجد، لأن داخله يبتدئ بهذه الصلاة كما يبتدئ الداخل على القوم بالتحية، وقد وردت تسميتها تحية المسجد في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أبا ذر إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان..»[(1322)].(1/394)
والجمهور من العلماء على أن تحية المسجد من السنن المندوب إليها، وليست واجبة، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، لكن هذا فيه نظر، فقد نقل ابن بطال عن أهل الظاهر أنهم قالوا بالوجوب[(1323)]، وحكى ذلك القاضي عياض عن داود وأصحابه[(1324)]، وقد نقل ابن عبد البر الإيجاب عن أهل الظاهر[(1325)]، مع أن ابن حزم صرح بخلاف ذلك[(1326)]، ودليلهم حديث الباب، فقد ورد بلفظ الأمر: (فليركع ركعتين) وبلفظ النهي: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) والأمر عند الإطلاق للوجوب، والنهي عند الإطلاق للتحريم.
وأما الجمهور فاستدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في قصة الأعرابي الذي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يجب عليه من الصلاة فأجابه: «الصلوات الخمس»، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»[(1327)]. قالوا: فلو قلنا بوجوب تحية المسجد للزم أن تكون المفروضات أكثر من خمس.
كما استدلوا بحديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجلس فقد آذيت»، وفي رواية: «وآنيت»[(1328)].
والقول بالوجوب قوي، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد[(1329)] والصنعاني[(1330)] والشوكاني[(1331)]؛ وذلك لأن سبب الوجوب هو دخول المسجد، فلا معارضة بين هذا وبين ما يدل على أن ما عدا الصلوات الخمس تطوع.
وأما حديث «اجلس فقد آذيت» فلا دلالة فيه صريحة على عدم الوجوب؛ لاحتمال أن المراد (اجلس) أي: لا تتخط، ولم يقصد ترك التحية، أو لأنه صلاها في مكان آخر، أو قبل الأمر بها، ونحو ذلك من الاحتمالات التي تضعف الاستدلال بالحديث.
لكن قد يشكل على ذلك أن القول بالاستحباب هو قول الجمهور، بل نُقِلَ فيه الإجماع، وما نقل عن الظاهرية، صرح ابن حزم في «المحلى» بخلافه، وعلى هذا فتحية المسجد سنة مؤكدة لا ينبغي تركها.(1/395)
الوجه الثالث: عموم الحديث يدل على أن الداخل يصلي ولو في وقت النهي، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وقد نصر ابن تيمية هذا القول[(1332)]، ووجه ذلك أن حديث النهي «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» قد ثبت تخصيصه بقضاء الفائتة وإعادة الجماعة وركعتي الطواف ـ كما تقدم في أوقات النهي ـ وحديث تحية المسجد عام محفوظ لم يدخله التخصيص، والعام الذي لم يدخله التخصيص مقدم على العام الذي دخله التخصيص، ومما يؤيد ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بتحية المسجد حال الخطبة، والنهي عن الصلاة في وقت الخطبة أشد، لأن السامع منهي عن كل ما يشغله عن الاستماع حتى الصلاة، حيث أمر الشرع بتخفيفها، فإذا فُعلت تحية المسجد وقت الخطبة ففعلها في سائر الأوقات أولى.
الوجه الرابع: ظاهر الحديث أنه تستحب التحية لكل مرة إذا تكرر دخوله، قال النووي: (وهو الأقوى والأقرب لظاهر الحديث)[(1333)] وأفتى به الشيخ عبد الرحمن السعدي[(1334)].
والقول الثاني: أنه يكفيه ركعتان، وهو قول الحنفية[(1335)]، ونقله المرداوي عن ابن عقيل الحنبلي، وعلل ذلك بالمشقة لو صلّى كل مرة[(1336)].
وهذا هو الأظهر، لأن من خرج من المسجد وعاد إليه عن قرب لم يخرج خروجاً منقطعاً، فلا يعد خروجاً، بدليل أن مثل ذلك لا يقطع اعتكاف المعتكف، أما من خرج خروجاً منقطعاً ولم ينوِ الرجوع فهذا تشرع له التحية مرة أخرى إن رجع[(1337)]، والله أعلم.
انتهى الجزء الثاني،ويليه ـ بعون الله وتوفيقه ـ الجزء الثالث
وأوله: باب «صفة الصلاة»(1/396)
منحة العلام في شرح بلوغ المرام [ 3 ]
تأليف
عبد الله بن صالح الفوزان
الجزء الثالث
شبكة نور الإسلام
http://www.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
باب صفة الصلاة
المراد بصفة الصلاة: الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها، وذلك بتحقيق أركانها وواجباتها، وسننها القولية والفعلية.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد بيَّن للأمة صفة الصلاة بالقول والفعل، وقال: «صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»[(1)].
ولهذا حرص الصحابة رضي الله عنهم على التأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة حتى سألوه عن أشياء، ونقلوا هذه الصفة للأمة، ومن الملاحظ في أحاديث صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يستوعب أحد من الصحابة صفة الصلاة كاملة، وإنما أخذ مجموعها من مجموعهم، كما سيتبين ذلك إن شاء الله.
وحريٌّ بالمكلف أن يتأسى بنبيه صلّى الله عليه وسلّم في صفة صلاته، فإن ذلك أقوى في إيمانه، وأدل على اتباعه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأكمل في عبادته، وكثير من الناس يُخِلُّون في الصلاة بأشياء، إما جهلاً وإما تهاوناً.
وقد عقد المصنف هذا الباب لسياق الأحاديث الدالة على صفة الصلاة، وهي في صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد رتبها ترتيباً مناسباً، فذكر في أول الباب حديث المسيء في صلاته، وفيه بيان صفة الصلاة بالقول، ثم ذكر حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم ساق بعد ذلك أحاديث كثيرة في جزئيَّات الصلاة ابتداء من أدعية الاستفتاح إلى نهاية الصلاة.
صفة الصلاة بالقول(1/1)
267/1 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُم ارْكَعْ حَتَّى تَطمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً، ثمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِن َّ سَاجِداً، ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثمَّ افْعَلْ ذلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا». أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ، وَاللّفْظُ لِلْبُخَاريِّ.
وَلاِبنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ: «حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِماً».
268/2 ـ وَمِثْلُهُ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ.
وَفي لفظٍ لأحْمَدَ: «فَأَقِمْ صُلْبَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ».
وَلِلنَّسَائِيِّ، وَأَبي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: «إنَّهَا لَنْ تَتِمَّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، ثمَّ يُكَبِّرَ اللهَ، وَيَحْمَدَهُ، وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ».
وَفِيهَا: «فَإنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ وَإلاَّ فَاحْمَدِ اللهَ، وَكَبِّرهُ، وَهَلِّلْهُ».
وَلأبي دَاوُدَ: «ثمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقرآن وَبِمَا شَاءَ اللهُ».
وَلاِبْنِ حِبَّانَ: «ثمَّ بِمَا شِئْتَ».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو رفاعة ـ بكسر الراء وتخفيف الفاء ـ بن رافع بن مالك بن العجلان الأنصاري الخزرجي الزُّرَقي، أبو معاذ، وأمه أم مالك بنت أُبيّ ابن سلول، أخت عبد الله بن أُبي رأس المنافقين. شهد بدراً وأُحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهد معه بدراً أخواه: خلاّد ومالك ابنا رافع، واختلف في شهود أبيهم رافع بن مالك بدراً، مع الاتفاق على أنه شهد العقبتين.(1/2)
روى رفاعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أبي بكر وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما وروى عنه ابناه: عبيد ومعاذ، وابن أخيه يحيى بن خلاد وابنه علي بن يحيى بن خلاد، مات رفاعة في أول إمارة معاوية، سنة إحدى أو اثنتين وأربعين رضي الله عنه[(2)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث حديث جليل القدر، عظيم الفائدة، يعرف عند العلماء بحديث (المسيء في صلاته)، وتظهر أهمية الحديث من جهة أنه تضمَّن أحكاماً كثيرة من صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، بيَّنها بالقول، ومعلوم أن القول مقدم على مجرد الفعل، وفي ذلك بيان لمجمل الأمر في قوله تعالى: {{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} [البقرة: 43] ، وقوله: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي».
وهذا الحديث له طرق وألفاظ، وقد رواه اثنان من الصحابة:
1 ـ أبو هريرة رضي الله عنه.
2 ـ رفاعة بن رافع رضي الله عنه.
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «وجوب القراءة للإمام والمأموم» (757) وفي باب «أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة» (793) وفي مواضع أخرى، وأخرجه مسلم (397) وأبو داود (856) والترمذي (303) والنسائي (2/124) وابن ماجه (1060) وأحمد (2/437) كلهم من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
وقد ذكر الحافظ أن هذا لفظ البخاري، مع أن فيه بعض الاختلاف، وله طرق أخرى عن عبيد الله بن عمر، في «الصحيحين» وغيرهما.
وجاء من طريق عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ـ وليس فيه عن أبيه ـ أخرجه البخاري في كتاب «الاستئذان» (6251) ومسلم (397) والترمذي (1/334) وابن ماجه (1060) ولفظ ابن ماجه: (ثم ارفع حتى تطمئن قائماً..).(1/3)
ويعني الحافظ بذلك أن لفظ (تطمئن) جاء في رواية ابن ماجه عوضاً عن قوله (تعتدل) في لفظ البخاري، وبينهما فرق.
وقوله: (بإسناد مسلم) ، أي: بإسنادٍ رجاله رجال مسلم، وقد تبين من هذا التخريج أنه بإسنادٍ رجاله رجال الشيخين، لا رجال مسلم فقط.
أما حديث رفاعة رضي الله عنه فهو حديث مهم، لأنه كان حاضراً للقصة بنفسه، ولأن مسيء الصلاة وهو خلاد ـ كما سيأتي ـ أخو رفاعة، فيكون فيه مزيد ضبط وإتقان، ولهذا جاءت روايته للحديث كثيرة الزيادات والفوائد، وأكثر من استوفى ألفاظ الحديث: أبو داود، والنسائي، وقد أخرج حديثه أبو داود (859) والنسائي (2/226) وأحمد (4/340) وابن حبان (1787) من طريق علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه يحيى، عن عمه رفاعة، وقد رواه عن علي بن يحيى: محمد بن عجلان، وإسحاق بن عبد الله، ومحمد بن إسحاق، وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم.
وقد اقتصر الحافظ من هذه الروايات على القدر الزائد على ما في حديث أبي هريرة، ولم يسق حديث رفاعة بلفظه، ولولا خشية الإطالة لذكرت لفظ الحديث عند أبي داود والنسائي وأحمد وابن حبان.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا قمت إلى الصلاة..) هذا الخطاب للمسيء في صلاته، وهو خلاد بن رافع، جد علي بن يحيى، أحد رواة الحديث ـ كما تقدم ـ وقد جاء ذلك صريحاً في رواية ابن أبي شيبة، كما ذكر الحافظ[(3)]، وقد حذف الحافظ أول الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فرد النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه السلام، فقال: «ارجع فصلّ فإنك لم تصل» ، فصلى ثم جاء فسلّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ» ثلاثاً، فقال: (والذي بعثك بالحق فما أحسِنُ غيره فعلِّمني)، فقال: «إذا قمت...» الحديث.(1/4)
وإنما ردده النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات ليتذكر إن كان ناسياً، أو ليشتدّ شوقه إلى العلم إن كان جاهلاً، فيكون أدعى لقبوله، وليس ذلك من باب التعزير على الخطأ، بل من باب تحقق الخطأ.
قوله: (فأسبغ الوضوء) هذه الجملة وقعت عند البخاري من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، به. وعند مسلم من طريق عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، به[(4)].
والإسباغ لغة: الإتمام، ومنه: درع سابغ، والمراد به: إبلاغه مواضعه، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إسباغ الوضوء: (الإنقاء)[(5)]، وهو من تفسير الشيء بلازمه، إذ الإتمام يستلزم الإنقاء عادة.
قوله: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) لم تختلف الروايات في هذا عن أبي هريرة، وإنما جاء الاختلاف في روايات حديث رفاعة، كما أشار إليه الحافظ.
قوله: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) أي: احنِ ظهرك حتى تستقرّ راكعاً، والطمأنينة: هي السكون وإن قلّ، واصطلاحاً: هي استقرار الأعضاء زمناً ما.
قوله: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) أي: ارفع ظهرك حتى تنتصب قائماً، وإنما ذكر الاعتدال هنا دون الطمأنينة، لأن القائم يعتدل ويستوي، وذلك مستلزم للطمأنينة، وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأحمد من حديث رفاعة رضي الله عنه: (حتى تطمئن قائماً)، وعند أحمد وابن حبان من حديث رفاعة رضي الله عنه: (فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها)، والصُّلب: بضم الصاد وسكون اللام وقد تُضم: هو فقار الظهر، وأورد الحافظ رواية ابن ماجه، لأن الطمأنينة أبلغ من الاعتدال، لأنها اعتدال وزيادة، أو يقال: إن القائم يعتدل ويستوي، وذلك مستلزم للطمأنينة، وأما رواية أحمد وابن حبان فلعله أوردها، لأنها تفسير لكمال الاعتدال.
قوله: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) أي: افعل كل ما سبق عدا تكبيرة الإحرام، (في صلاتك كلها): يحتمل أن المراد ما بقي من ركعات صلاته، أو أن المراد صلواته المستقبلة.(1/5)
الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب الوضوء للصلاة، وأن المكلف مأمور بإسباغه، وهو إكماله وإتمامه، وتقدم ذلك في «الوضوء».
الوجه الخامس: الحديث دليل على وجوب استقبال القبلة في الصلاة، وتقدم ذلك.
الوجه السادس: الحديث دليل على وجوب تكبيرة الإحرام، بلفظ: (الله أكبر)، لقوله: (فكبر)، وعند الطبراني (ثم يقول: الله أكبر) وهي ركن لا تنعقد الصلاة إلا بها، ولو قال: الله أجلّ، أو أعظم، لم يصح، خلافاً لمن قال: تنعقد الصلاة بكل ما يدل على التعظيم، والحديث يرد ذلك، مع ما سيأتي من أحاديث في صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كحديث عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستفتح الصلاة بالتكبير...)، وظاهر الحديث أن دعاء الاستفتاح لا يجب، إذ لو وجب لأمره به، وقيل: إن رواية أبي داود تفيد ذلك، (ثم يكبر الله ويحمده ويثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن..)، وقيل: إن المراد بذلك: الفاتحة، ومع الاحتمال لا يثبت شيء من ذلك.(1/6)
الوجه السابع: الحديث دليل على وجوب قراءة ما تيسر من القرآن، والقراءة ركن في الصلاة، وتتعين الفاتحة لمن يحسنها، لأن قوله في رواية أبي داود: (ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله) ، وفي رواية ابن حبان: (ثم بما شئت) بيان لما أُجمل في رواية الصحيحين: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، فيكون هذا مراداً به الفاتحة، لأنها كانت المتيسرة، لحفظ المسلمين لها، أو ما زاد على الفاتحة، جمعاً بينه وبين الروايات الأخرى من جهة، وبينه وبين أدلة إيجاب الفاتحة من جهة أخرى، ويؤيد ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر)[(6)]. فإذا جمع بين ألفاظ الحديث كان تعين الفاتحة هو الأصل لمن معه قرآن، فإن عجز عن تعلمها وكان معه شيء من القرآن قرأ ما تيسر، وإلا انتقل إلى الذكر، فالمراحل ثلاث بالتدريج، وبهذا يتضح وجه إيراد الحافظ للروايات في حديث رفاعة رضي الله عنه وقد دلّ على أن من لا يحسن شيئاً من القرآن فإنه يجزئه الحمد والتكبير والتهليل، دون أن يتعين عليه لفظ معين أو قدر معين، وسيأتي ذلك إن شاء الله في حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه رقم (285).
الوجه الثامن: وجوب الركوع والقيام منه والسجود مرتين والجلوس بينهما، وهي أركان لا تصح الصلاة إلا بها؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم علمها المسيء بلفظ الأمر الدال على الوجوب، وقال له: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) .(1/7)
الوجه التاسع: وجوب الطمأنينة في هذه الأركان كلها، وهي ركن لا تصح الصلاة بدونها على قول الجمهور من الشافعية والحنابلة والمالكية والظاهرية، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكرها هنا في الركوع والرفع والسجود والرفع منه. ولما أخلّ بها قال له: «ارجع فصلّ فإنك لم تصل»، فأمره بالإعادة وأخبره بأنه لم يصلِّ، مع أنه كان جاهلاً، فدل ذلك على أن من ترك الطمأنينة فإنه لم يصلِّ[(7)]، ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع الصحابة على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة[(8)].
والقول الثاني: أنها واجبة وليست بفرض، فتصح الصلاة بدونها مع الإثم، وقد نقل هذا عن أبي حنيفة ومحمد، واستدلوا بقوله تعالى: {{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}} [الحج: 77] ولم يذكر الطمأنينة، لأن الركوع هو الانحناء، والسجود هو الانخفاض، فتتعلق الركنية بالأدنى فيهما[(9)].
والصحيح الأول؛ لقوة دليله، فإنه نص صحيح صريح في هذا الباب، يؤيد ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته»، قالوا: (يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟)، قال: «لا يتم ركوعها وسجودها»، أو قال: «لا يقيم صلبه في الركوع والسجود»[(10)].
وأما الآية فهي مطلقة بينت السنة المراد بها، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسَّر الركوع والسجود بفعله وقوله، على أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: (إن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه، وحين وضع جبهته على الأرض، فأما مجرد الخفض والرفع عنه فلا يسمى ذلك ركوعاً ولا سجوداً، ومن سماه ركوعاً وسجوداً فقد غلط على اللغة...)[(11)].
وقد اختلف العلماء في حد الاطمئنان المطلوب على قولين:
الأول: أن المطلوب هو السكون وإن قلّ، وكأن هؤلاء نظروا إلى المعنى اللغوي.(1/8)
الثاني: أن المطلوب الاطمئنان بقدر الذكر الواجب بلا عجلة، ففي الركوع يطمئن بقدر ما يقول: سبحان ربي العظيم، وفي الاعتدال بقدر ما يقول: ربنا ولك الحمد، وهكذا، وهذا هو الأقوى، والفرق بين القولين: أنه إذا نسي التسبيح في ركوعه أو سجوده، أو التحميد في اعتداله، أو سؤال المغفرة في جلوسه وقلنا: إن الطمأنينة هي السكون فصلاته صحيحة، ويسجد لترك الواجب مما ذكر، وعلى القول الثاني تكون صلاته غير صحيحة، لأنه لم يستقر بقدر الذكر الواجب حيث لم يأت به[(12)].
الوجه العاشر: الحديث دليل على وجوب الترتيب بين هذه الأركان على الصفة المذكورة في الحديث، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذه الأفعال مرتبة بـ(ثم) وهي نص في الترتيب، وهو ركن لا تصح الصلاة إلا به، وقد واظب النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذا الترتيب في جميع صلاته، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
الوجه الحادي عشر: تبين مما تقدم أن هذا الحديث دليل على وجوب ما ذكر فيه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر هذا الرجل بأداء الصلاة على هذا الوصف الذي علمه إياه، وهذا دليل على وجوب ما ذكر فيه.
أما ما لم يذكر فيه فلا ريب أن الحديث لم يشتمل على واجبات أخرى في الصلاة، كأذكار الركوع والسجود وركني الاعتدال، والتشهد، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم والتسليم وغير ذلك، والحديث تطرقه احتمالات، منها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يُعَلِّم الرجل كل الواجبات، بل يحتمل أنه اقتصر في تعليمه على ما رآه أساء فيه، أو أن الواجبات الأخرى وجبت بعد ذلك، أو أنه علمه معظم الأركان وأهمها وأحال بقية تعليمه على مشاهدة النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته أو نحو ذلك، ومع هذه الاحتمالات فالحديث من قبيل المشتبه المجمل المعارض لأدلة صحيحة صريحة في واجبات أخرى.(1/9)
وعلى هذا فما جاء بصيغة الأمر في غير هذا الحديث فالقول بوجوبه ظاهر، ما لم يأت دليل صارف له عن الوجوب، لأن الأخذ بالزائد واجب، ولأن الحديث الذي جاء بصيغة الأمر إثبات لزيادة، فيعمل بها، وحديث المسيء لا يدل على عدم وجوب ما لم يذكر فيه.
لكن لا بد للباحث المستدل أن يتتبع روايات الحديث ويجمع طرقه، لئلا ينفي شيئاً، وهو قد ورد فيه كما وقع لبعض الشراح، والله تعالى أعلم.
من صفة صلاة النبي (ص)
269/3 ـ وَعَنْ أَبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم إذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإذَا رَفَعَ رَأَسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قابضِهما، واستقبلَ بِأَطْرَافِ أَصابعِ رجلَيْهِ القِبْلةَ، وإذا جَلَسَ في الرَّكْعَتيْنِ جَلَسَ على رِجْلِه اليُسرى ونَصَبَ اليُمنى، وَإذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الأخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو أبو حميد ـ بصيغة التصغير ـ بن سعد الأنصاري الخزرجي الساعدي، نسبة إلى ساعدة، وهو أبو الخزرج، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، فقيل: المنذر بن سعد، وقيل: عبد الرحمن، وقيل غير ذلك، روى عنه من الصحابة: جابر بن عبد الله رضي الله عنه ومن التابعين: عروة بن الزبير، والعباس بن سهل، وولد ولده سعيد بن المنذر بن أبي حميد، ومحمد بن عمرو بن عطاء. مات في آخر خلافة معاوية في حدود سنة ستين رضي الله عنه[(13)].
الوجه الثاني: في تخريجه:(1/10)
حديث أبي حميد الساعدي حديث عظيم جليل القدر، لأنه وصف صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفاً دقيقاً، وصفها بالقول، ووصفها بالفعل حيث صلّى كما شاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي، واشتمل على جملة كبيرة من صفة الصلاة، وأقره على هذا الوصف تسعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو عاشرهم.
وقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة»، باب «سنة الجلوس في التشهد» (828) وأبو داود (731) من طريق محمد بن عمرو بن طلحة، عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه كان جالساً مع نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكرنا صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو حميد الساعدي رضي الله عنه: (أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رأيته إذا كبر...) الحديث باللفظ المذكور هنا.
والحديث له طرق كثيرة وألفاظ متعددة، لكن يلاحظ أن الحافظ ما ذكر شيئاً من رواياته وألفاظه، كما هي عادته في مثل ذلك، لأن الحديث باللفظ المذكور لم يرد فيه شيء من أركان الصلاة، مع أنها وردت في روايات أخرى من حديث أبي حميد رضي الله عنه، ولعله اكتفى بسياق الأحاديث الآتية، ومنها؛ حديث أبي حميد الساعدي في إحدى رواياته مختصراً، والله أعلم.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (أنه كان جالساً مع نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم) جاء في رواية أبي داود عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: (سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم: أبو قتادة..) الحديث ـ وسيأتي ـ وجاء في طرق أخرى: أبو أُسيد الساعدي، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، وأبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، فيكون المجموع ستة صحابة.(1/11)
قوله: (إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه) ، أي: قال: الله أكبر، وهي تكبيرة الإحرام، و(جعل) بمعنى: رفع يديه، وقد جاء ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره، ومعنى: (حذو منكبيه)، أي: مقابلهما، والمنكب: رأس الكتف، وفي «القاموس»: أنه مجتمع رأس الكتف والعضد[(14)].
قوله: (وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه) يفسر ذلك رواية أبي داود من طريق فليح بن سليمان: (ثم ركع، فوضع يديه على ركبتيه، كأنه قابض عليهما، ووتّرَ يديه، فتجافى عن جنبيه، لم يصبّ رأسه، ولم يقنعه).
ومعنى (وتَّر يديه) أي: عوجهما؛ من التوتير، وهو جعل الوتر على القوس، فشبه يد الراكع إذا مدها قابضاً على ركبتيه بالقوس إذا أوترت.
قوله: (ثم هصر ظهره) أي: ثناه في استواء من غير تقويس، وأصل الهصر: أن تأخذ برأس العود فتثنيه إليك وتعطفه، وقد جاء في رواية أبي داود: (لم يصبّ رأسه ولم يقنعه).
قوله: (حتى يعود كل فَقَارٍ إلى مكانه) ، الفقار: بفتح الفاء والقاف، واحدتهما: فَقَارَةٌ، وهي مفاصل عظام الصلب والعنق[(15)].
قوله: (غير مفترش ولا قابضهما) ، الافتراش عائد على الذراعين، وقد ورد عند ابن حبان: (غير مفترش ذراعيه)، وهو بسطهما على الأرض في السجود؛ والذراع: هو العظم الذي بين العضد والكف، وقوله: (ولا قابضهما)، أي: لا يضمهما إليه.
قوله: (وقعد على مقعدته) المقعدة: هي السافلة من الشخص.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية رفع اليدين إلى حذو المنكبين عند تكبيرة الإحرام، وسيأتي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره مواضع أخرى في الصلاة لرفع اليدين.
وظاهر هذا الحديث أن الرفع يكون إلى حذو المنكبين، وقد ورد في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه الآتي: (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه). وبهذا يتبين أن ما يفعله بعض الناس من رفع يديه إلى سرَّته أو فوقها بقليل أن هذا تقصير في تطبيق السنة.(1/12)
وظاهر الحديث ـ أيضاً ـ أنه يُكبر ثم يرفع، لقوله: (إذا كبر جعل..) وفي حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: (كبر ثم رفع يديه)[(16)]، وفي رواية لأبي داود من طريق يحيى بن سعيد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد رضي الله عنه: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يُكبر)[(17)]. وظاهر هذا أنه يرفع يديه ثم يكبر.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يُكبر..)[(18)].
وهذا يدل على أن الرفع يقارن التكبير، وفي رواية: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام للصلاة رفع يديه... ثم كبر)[(19)]. وهذا يدل على تقديم رفع اليدين، والأظهر ـ والله أعلم ـ أن هذا من العمل المخير فيه، لورود الأدلة بذلك كله.
والأفضل أن يبدأ التكبير مع رفع يديه، وينهيه مع انتهاء الرفع، لأن الرفع للتكبير.
الوجه الخامس: الحديث مع رواية أبي داود المذكورة دليل على أن الركوع الموافق للسنة ما اجتمع فيه صفات أربع:
1 ـ أن يمكن كفيه من ركبتيه، كأنه قابض عليهما.
2 ـ أن يهصر ظهره ويمده، فلا يقوسه.
3 ـ أن يجعل رأسه حيال ظهره، فلا يرفعه عن مستوى ظهره ولا يخفضه.
4 ـ أن يجافي مرفقيه عن جنبيه ما لم يؤذ أحداً وإلا ترك ذلك.
الوجه السادس: الحديث دليل على صفة الرفع من الركوع وهو أن يرفع رأسه من الركوع مكبراً رافعاً يديه، ويعتدل قائماً حتى يرجع كل عضو إلى موضعه، وفي قوله: (حتى يعود كل فقار مكانه) دليل على وجوب الطمأنينة في الرفع من الركوع، كما تقدم في حديث المسيء.
الوجه السابع: الحديث دليل على صفة السجود وقد جاء في رواية أبي داود: (ثم سجد فأمكن أنفه وجبته، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه)، وقد دل على أن السجود الموافق للسنة ما اجتمع فيه هذه الصفات:(1/13)
1 ـ أن يبسط كفيه على الأرض مضمومتي الأصابع إلى القبلة.
2 ـ لا يفترش ذراعيه، بل يرفعهما ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ما لم يؤذ أحداً، وأن يثني أصابع رجليه بحيث تكون في اتجاه القبلة، وسيأتي زيادة تفصيل في الأحاديث الآتية إن شاء الله.
الوجه الثامن: الحديث دليل على صفة الجلوس في التشهد الأول، وهي أن يجلس مفترشاً رجله اليسرى ناصباً اليمنى، ولم يذكر في رواية البخاري صفة اليدين حال التشهد، وقد ورد ذلك في رواية لأبي داود، وسيأتي بيان ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما إن شاء الله.
الوجه التاسع: الحديث دليل على صفة الجلوس في التشهد الأخير، وهي التورك؛ ومعناه: أن يفرش رجله اليسرى ويخرجها عن يمينه، وينصب اليمنى، جاعلاً مقعدته على الأرض.
وفي ذكره كيفية الجلوسين دليل على تغايرهما، وكأن الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن التشهد الأول أخف، فيكون الجالس فيه متهيئاً للقيام، بخلاف التشهد الأخير، فإنه لطوله يكون الجالس مستقراً.
وقد جاء عند أبي داود في حديث أبي حميد رضي الله عنه: (فإذا كانت الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة)، وفي لفظ آخر: (فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى، وقعد متوركاً على شقه الأيسر)[(20)].
وهذا دليل لمالك والشافعي وأحمد على مشروعية التورك في التشهد الأخير، وله صفتان، كما في لفظ البخاري، ورواية أبي داود المذكورة.
لكن الشافعي ومالك يقولان بأنه يتورك في التشهد الأخير مطلقاً، سواء كانت الصلاة فيها تشهدان، كالرباعية والثلاثية، أم لا كالفجر[(21)].
وقال أحمد: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان، استدلالاً بحديث أبي حميد بلفظ البخاري، لأنه ذكر التورك في الجلسة التي في التشهد الثاني، وقد ذكر قبله صفة جلوسه في التشهد الأول[(22)].(1/14)
وأما لفظ أبي داود: (حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليم..)، فإنه وإن كان ظاهره أن التورك في كل تشهد يليه سلام لكنه ليس بصريح في الدلالة، لأن قائل ذلك ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول.
فإن كانت الصلاة ثنائية كالفجر جلس مفترشاً، وقد جاء في «مسائل الإمام أحمد» لابن هانئ: سألت أبا عبد الله عن التورك في الصلاة؟ قال: في الظهر والعصر والمغرب وعشاء الآخرة[(23)].
وفي «مسائله» لابنه عبد الله قال: سألت أبي عن التورك في الصلاة؟ فقال: حديث أبي حميد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يتورك في الرابعة، قلت لأبي: ففي الفجر وفي صلاة الجمعة يتورك؟ قال: لا يتورك في الفجر ولا في الجمعة، إنها جلسة واحدة، قلت لأبي: فإن الشافعي يقول: يتورك، لأن التورك إنما جعل من طول القعود؟ قال أبي: ليس هو عندي كذا، لا يتورك الرجل إلا في الصلاة التي يجلس فيها جلستين[(24)].
وقد ذكر الألباني في صفة الصلاة أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يجلس مفترشاً إذا كانت الصلاة ركعتين كالصبح، كما كان يجلس بين السجدتين، وعزاه للنسائي بإسناد صحيح[(25)]، وأما أبو حنيفة فإنه يرى الافتراش مطلقاً، فيفترش رجله اليسرى، وينصب اليمنى في القعدتين جميعاً[(26)]، والله تعالى أعلم.
أدعية الاستفتاح في الصلاة
270/4 ـ وَعَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلاَةِ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ»... إلَى قَوْلِهِ: «مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ...» إلَى آخِرِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفي رِوَايَةٍ لَهُ: أَنَّ ذلِكَ في صَلاَةِ اللَّيْلِ.(1/15)
271/5 ـ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إذَا كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ سَكَتَ هُنَيَّةً، قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: «أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ والثَّلْجِ وَالْبَرَدِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
272/6 ـ وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إلهَ غَيْرُكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ، والدَّارَقُطْنِيُّ مَوْصُولاً وَهو مَوقُوفٌ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» باب «الدعاء في صلاة الليل وقيامه» (771) من طريق عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال:
«(1/16)
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. اللهم، أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني سَيِّئَهَا، لا يصرف عني سيئها إلا أنت. لَبَّيْكَ! وسعديك! والخير كله في يديك. والشر ليس إليك. أنا بك وإليك. تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك». وإذا ركع قال: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي». وإذا رفع قال: «اللهم، ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد». وإذا سجد قال: اللهم، لك سجدت. وبك آمنت. ولك أسلمت. سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين». ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم «اللهم، اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلاّ أنت».
وقول الحافظ: (وفي رواية له: أن ذلك في صلاة الليل)، وهم منه رحمه الله، فليس عند مسلم ما يدل على أن ذلك في صلاة الليل مع أنه أخرجه من وجهين، صحيح أنه أخرجه في أحاديث صلاة الليل، لكن هذا لا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقوله في التهجد، وقبل ذلك ذكر ابن القيم[(27)] أن المحفوظ أن هذا الاستفتاح إنما كان يقوله في صلاة الليل، وكذا ذكر ابن دقيق العيد[(28)]، ولعل ذلك الوهم كان بسبب طول هذا الاستفتاح، وأنه يناسب صلاة الليل، والله أعلم.
وقد روى الترمذي (3423) وأبو داود (761) هذا الحديث، ولم يقع عندهما أن ذلك في صلاة الليل، بل وقع في بعض طرقه عندهما (إذا قام إلى الصلاة المكتوبة) وكذا وقع عند غيرهما.(1/17)
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة»، باب «ما يقول بعد التكبير» (744) ومسلم (598) من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فذكر الحديث بتمامه، وفيه اختلاف يسير في أوله عما في «الصحيحين».
وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم (399) (52) في كتاب «الصلاة»، باب «عدم الجهر بالبسملة» من طريق الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يقول: سبحانك اللهم وبحمدك.
وهذا سند منقطع ـ كما قال الحافظ ـ لأن عبدة لم يسمع من عمر رضي الله عنه قال ابن كثير: (عبدة بن أبي لبابة لم يدرك عمر بن الخطاب، وإنما لقي ابنه عبد الله بن عمر كما قال الإمام أحمد بن حنبل، وهو من ثقات المسلمين وأئمتهم، وهذا الأثر ثابت عن أمير المؤمنين من غير وجه)[(29)].
وقد أخرجه مسلم استطراداً، لأن مقصوده الأصلي هو الحديث الذي أخرجه بعد هذا الأثر، في عدم الجهر بالبسملة، وهو صحيح متصل، وإنما لم يقتصر على الحديث المتصل، لأنه سمعه هكذا فأداه كما سمعه، ولهذا نظائر ولا إنكار في هذا كله.
وقد رواه الدارقطني في سننه (1/229 ـ 300) موصولاً من طريق عبد الله بن شبيب، حدثني إسحاق بن محمد، عن عبد الرحمن بن عمر بن شيبة، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، به مرفوعاً.
قال الدارقطني عقبه: (رفعه هذا الشيخ ـ يعني عبد الرحمن ـ عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمحفوظ عن عمر من قوله، كذلك رواه إبراهيم عن علقمة والأسود عن عمر، وكذلك رواه يحيى بن أيوب، عن عمر بن شيبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر من قوله، وهو الصواب)، ثم ساق هذه الروايات بأسانيدها.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/18)
قوله: (سكت هنية) بضم الهاء وفتح النون بعدها ياء مشددة ثم هاء، تصغير: هَنَةً، والهنة والهَنُ كناية عن كل شيء، وأصله: هَنَوَةٌ، فلما صُغّرَ صار هُنيوة، فاجتمعت الواو والياء في كلمت وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أُدغمت الياء في الياء، فصارت: هُنية، وهذه رواية الأكثرين كما قال القاضي عياض[(30)].
وذكر القرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمز: هُنَيئة ـ على وزن حُطيئة[(31)] ـ وقد حكم النووي على الهمز بأنه خطأ[(32)] ولا داعي للتخطئة، إذ لا مانع من قلب الياء همزة[(33)]، وهي رواية الجمهور، كما قال القرطبي، وقد وقع في رواية الكشميهني للبخاري: «هنيهة» بإبدال الياء هاء[(34)].
قوله: (فسألته) ، هكذا في «البلوغ»، ولفظ «الصحيحين»: (فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟) والجار والمجرور (بأبي أنت وأمي) متعلق بمحذوف خبر مقدم، والتقدير: أنت مفدَّى بأبي وأمي.
قوله: (اللهم) أي: يا الله، فحذفت ياء النداء وعوض عنها الميم.
قوله: (باعد بيني وبين خطاياي) ، أي اجعلها بعيدة عني، فلا أقربها، والخطايا: جمع خطيئة، وهي المعصية إما بترك ما يجب أو بفعل ما يحرُم.
قوله: (كما باعدت بين المشرق والمغرب) الكاف للتشبيه، و(ما): مصدرية، والمباعدة بين المشرق والمغرب هي غاية ما يبالغ فيه الناس، والمعنى: باعد بيني وبين خطاياي مثل مباعدتك بين المشرق والمغرب.
قوله: (اللهم نقني) أي: خلصني ونظفني.
قوله: (كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس) أي: كما يُغسل الثوب الأبيض إذا أصابه الدنس، فيرجع أبيض، وخُصَّ الأبيض، لأن النقاء فيه أبلغ حيث إن أقل دنس يتبين فيه بخلاف الأسود، والدنس: الوسخ.
قوله: (اللهم اغسلني من خطاياي) ، أي: طهرني بعد التنقية، فكأنه يسأل ألا يفعل الخطايا، ثم إن فعلتها فنقني منها، ثم سأله أن يزيل آثارها بزيادة التطهير بالماء والثلج والبرد.(1/19)
قوله: (بالماء والثلج والبرد) الثلج: الماء المتجمد، البرد: المطر المتجمد، ومعلوم أن الغسل بالماء الحار أبلغ في الإزالة، ولكن جِيءَ هنا بالثلج والبرد، ليناسب حرارة الذنوب التي يراد إزالتها، نقل ذلك وبسطه ابن القيم عن شيخه ابن تيمية[(35)].
قوله: (سبحانك اللهم) سبحان: اسم مصدر منصوب بفعل محذوف ومعناه: تنزيهاً لك يا رب عن كل نقص، إما في الصفات، أو في مماثلة المخلوقات.
قوله: (وبحمدك) الحمد: هو ذكر أوصاف المحمود الكامل، وأفعاله الحميدة مع محبته وتعظيمه، والواو للمعية، فيكون المصلي جمع بين التنزيه والوصف بالكمال الذاتي والفعلي، أي: نزهتك تنزيهاً مقروناً بالحمد.
قوله: (تبارك اسمك) أي: إن اسم الله تعالى كله بركة، فإذا صاحب شيئاً صارت فيه البركة، وإذا كان الاسم بركة فالمسمى أعظم بركة وأشد وأولى، هذا إن تعلق بالاسم، فإن وصف بها الله تعالى، كقوله تعالى: {{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}} [المؤمنون: 14] ، {{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ}} [الفرقان: 1] صار معناه: تعالى وتعاظم، وهذا اللفظ لا يطلق إلا على الله تعالى.
قوله: (وتعالى جدك) أي: ارتفع، والجد: العظمة، والمعنى: أن عظمتك عظمة عالية.
قوله: (ولا إله غيرك) هذه كلمة عظيمة، لأنها كلمة التوحيد، وقد تقدم إعرابها في آخر باب «الوضوء».
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية استفتاح الصلاة بعد تكبيرة الإحرام بهذه الاستفتاحات أو بغيرها مما ورد في السنة، وهي كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ثلاثة أنواع: ثناء على الله تعالى متضمن للإخبار عن صفات كماله، ونعوت جلاله مثل: سبحانك اللهم وبحمدك..، والثاني: ما كان إنشاء من العبد أو اعترافاً بما يجب لله عليه من العبودية مثل حديث علي رضي الله عنه، والثالث: ما كان دعاء من العبد، مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه[(36)].(1/20)
والأفضل أن يأتي بهذا تارة وبهذا تارة أخرى، لأن في ذلك إحياء للسنة، وهو أحضر للقلب وأدعى لفهم ما يقول، كما أن في ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع، فإن كل نوع لا بد له من خاصية، ثم إن في المداومة على نوع دون غيره هجراناً لبعض المشروع، وهذا سبب لنسيانه والإعراض عنه، وهذه قاعدة عامة في كل عبادة جاءت على وجوه متعددة، وهذا كثير في الصلاة، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية[(37)]، وقد تكلم على ذلك الحافظ ابن رجب في قواعده (القاعدة الثانية عشرة)[(38)]، وبسط الكلام على ذلك ابن تيمية بسطاً قد لا تجده لغيره.
وقد ذكر ابن القيم اختيار الإمام أحمد لحديث عمر رضي الله عنه (سبحانك اللهم وبحمدك) وذلك لعشرة أوجه، منها؛ أن عمر رضي الله عنه جهر به يعلمه الصحابة رضي الله عنهم، ومنها أنه ثناء على الله تعالى[(39)]. والله تعالى أعلم.
مشروعية الاستعاذة في الصلاة
273/7 ـ وَنَحْوُهُ عَنْ أَبي سَعِيدٍ مَرْفُوعاً عِنْدَ الْخَمْسَةِ.
وَفِيهِ: وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ: «أَعُوذُ بِالله السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/21)
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك» (775) والترمذي (242) والنسائي (2/132) وابن ماجه (804) وأحمد (8/51) من طرق، عن جعفر بن سليمان، عن علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك»، ثم يقول: «لا إله إلا الله» ثلاثاً، ثم يقول: «الله أكبر كبيراً» ثلاثاً «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» ثم يقرأ. هذا لفظ أبي داود، وعند الترمذي والنسائي وابن ماجه: (كان إذا قام إلى الصلاة) وهذا الإسناد فيه مقال.
جعفر بن سليمان هو الضُّبَعي، تفرد بهذا الحديث، وهو مختلف فيه، فقد وثقه ابن معين، وقال أحمد: (لا بأس به)، وقال ابن سعد: (كان ثقة وبه ضعف، وكان يتشيع)، وضعفه يحيى بن سعيد القطان، وكان لا يكتب عنه، وقال البخاري: (يخالف في بعض حديثه)[(40)].
وعلي بن علي الرفاعي، مختلف فيه ـ أيضاً ـ فقد وثقه ابن معين وأبو زرعة ووكيع، وقال الشافعي: (لا بأس به)، وقال أحمد: (لم يكن به بأس إلا أنه رفع أحاديث)، وقال ابن حبان: (كان ممن يخطئ كثيراً على قلة روايته، وينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات، لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد)[(41)]، ثم ساق حديثه هذا، وقال الترمذي: (كان يحيى بن سعيد يتكلم في عليّ بن علي الرفاعي)، وبهذا يكون الإسناد ضعيفاً، فإنه مما انفرد به، وقد ضعفه الأئمة كالإمام أحمد وابن خزيمة[(42)].
وأعل أيضاً بالإرسال؛ قال أبو داود عقبه: (وهذا الحديث يقولون: هو عن علي بن علي عن الحسن مرسلاً، الوهم من جعفر)، وقد ذكره أبو داود في «المراسيل» من رواية الحسن البصري مرسلاً، مع اختلاف عما هنا[(43)].(1/22)
وقد أشار العقيلي إلى تقوية الحديث فإنه لما ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الموضوع قال: (وقد روي من غير هذا الوجه بأسانيد جياد)[(44)]، وحسنه الحافظ[(45)] وصححه أحمد شاكر، وقال: (علي بن علي الرفاعي اليشكري ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة ووكيع، وقال شعبة: (اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي)[(46)]).
أما الألباني[(47)] فيرى أن الحديث حسن، لأن رجاله كلهم ثقات، وعليٌّ وإن تكلم فيه ابن القطان فقد وثقه جماعة، كما تقدم، ومثل هذا لا يوجب إهدار حديثه، بل يحتج به حتى يظهر خطؤه، وهنا ما روى شيئاً منكراً، بل تابعه عليه غيره، كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود (776) والترمذي (243) وابن ماجه (806) وغيرهم، وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه عند الدارقطني (1/300) والطبراني في «الدعاء» (2/1034).
وبالجملة فمن عَوَّلَ على شواهده رأى ثبوت الحديث، وأن إسناده حسن، وأن الاستفتاح بما ذكر فيه ثابت، فإنه وإن تُكُلِّمَ في علي بن علي الرفاعي فقد وثقه من ذكر، ومثل ذلك لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، ومن قدح فيه وطعن في شواهده رأى عدم ثبوته، ويكفي في هذا ما تقدم عن الإمام أحمد وابن خزيمة.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أعوذ بالله) ، مضارع (عاذ) وهذا اللفظ وما تصرف منه يدور على معنى التحرز والتحصن والنجاة، ومعنى ذلك: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك ويحميك منه.
قوله: (من الشيطان الرجيم) من: لابتداء الغاية ولو لم توجد (إلى) الدالة على انتهاء الغاية، كما ذكر ذلك ابن مالك وابن الحاجب، لأن الغرض ابتداء الاستعاذة من الشيطان مع استمرارها وعدم انقطاعها.(1/23)
والشيطان: اسم مفرد أريد به جنس الشياطين، بدليل الجمع في قوله تعالى: {{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ *}} [المؤمنون: 97] ، وأل فيه للعموم، لأن الشياطين كثيرة، من الإنس والجن والدواب المرئية وغير المرئية، وهو مأخوذ من (شَطَنَ) إذا بَعُدَ، سمي بذلك لبعده من الحق والخير وتمرده، وقيل: من شاط يشيط، إذا هلك واحترق، والأول أظهر، بل إنه أصح[(48)].
الرجيم: فعيل بمعنى مفعول، أي: مرجوم، وصف بذلك إما لأنه رُجم عن استراق السمع، أو لأنه رجم باللعنة والمقت وعدم الرحمة، أو بمعنى: فاعل، أي يرجم الناس بالإغواء ويُزين لهم الشر ويحبب لهم الفساد.
قوله: (من همزه) ، بدل اشتمال من الشيطان، وقد ورد تفسير هذه الكلمات الثلاث في رواية أبي داود وابن ماجه من حديث عمرو بن مرة، عن عاصم العنزي، عن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه.. وفيه قال عمرو بن مرة: نفثه: الشعر، ونفخه: الكِبْر، وهمزه: المُوتَةُ.
فهمزه: الموتة بضم الميم وسكون الواو بدون همز، وفتح المثناة الفوقية، نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان فإذا أفاق عاد إلى عقله، وأصل الهمز، النخس والغمز والغيبة بين الناس، وسمي به الجنون لأنه سببه، فهو من إطلاق اسم المسبب على السبب.
ونفخه: الكبر، لأن الشيطان ينفخ في الشخص بالوسوسة فيعتقد عظم نفسه وحقارة غيره.
ونفثه: هو الشعر، لأنه كالشيء ينفثه الإنسان من فيه، وذلك لأن الشيطان يحمل الشعراء على المدح والذم والتعظيم والتحقير في غير موضعها.
قال العيني: (إن كان هذا التفسير من متن الحديث فلا معدل عنه، وإن كان من قول بعض الرواة فلعله يراد منه السِّحْرُ، فإنه أشبه، لما شهد له التنزيل، قال الله تعالى: {{وَمِنْ شَرِّ النَفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ *}} [الفلق: 4] )[(49)].(1/24)
الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: بمشروعية الاستعاذة في الصلاة قبل القراءة بهذه الصيغة، وله شاهد من حديث جبير بن مطعم وعمر بن الخطاب وأبي أمامة وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم وفي أسانيدها مقال، والقرآن قد دل على صيغة الاستعاذة بدون هذه الزيادة.
والاستعاذة مندوبة قبل كل قراءة في الصلاة وخارجها، وهذا مذهب الجمهور، وقالت الظاهرية بوجوبها[(50)]، وهو قول قوي، لقوله تعالى: {{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *}} [النحل: 98] ، وصيغة (افعل) إذا تجردت عن القرائن فهي للوجوب. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم واظب عليها، ولأنها تدرأ الشيطان وتبعده، وهذا واجب وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، وهذا هو الأحوط، قال الإمام أحمد في رواية حنبل: لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ، للآية[(51)].
ويرى بعض العلماء أن القرينة التي صرفت الأمر في الآية إلى الندب هي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعلِّم المسيء في صلاته الاستعاذة، وقد تقدم الجواب عن مثل هذا، وأنه لا يصلح دليلاً لمثل هذا الاستدلال.(1/25)
ومحل الاستعاذة قبل القراءة في الركعة الأولى، لهذا الحديث وغيره، لأن الاستعاذة للقراءة، وليست للصلاة، إذ لو كانت للصلاة لكانت تلي تكبيرة الإحرام أو قبل تكبيرة الإحرام، وأما الآية الكريمة: {{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *}} [النحل: 98] ، فالمراد بها: إذا أردت القراءة، جمعاً بين الأدلة، وهذا التأويل له نظائر كثيرة في القرآن والسنة، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}} [المائدة: 6] ، وفي الحديث: (إذا توضأ أحدكم فليستنثر) وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستنثر في أول وضوئه لا في آخره، وفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم مفسر للآية، ولأن الاستعاذة قبل القراءة مراد بها الالتجاء إلى الله تعالى والاعتصام به من الشيطان ليكون بعيداً عن قلب القارئ حين يتلو كتاب الله، حتى يحصل له تدبر القرآن وتفهم معانيه والانتفاع به.
وأما صيغة الاستعاذة فالأمر فيها واسع، فكيفما تعوذ فهو حسن، لإطلاق الآية، واختار بعض العلماء صيغة الآية: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أو يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، فكل ذلك وارد، وإن تعوذ بهذا تارة وبهذا تارة على قاعدة العبادات الواردة على وجوه متنوعة فحسن.
الوجه الرابع: يرى أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه، وهو قول للشافعي أن الاستعاذة تختص بالركعة الأولى[(52)]، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح للقراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت (2) ، وعدم السكوت دليل على أنه لا يستعيذ، ولأن الصلاة عمل واحد مفتتح بقراءة، فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة، فإذا استعاذ في أولها كفى، واختاره ابن القيم[(53)]، والشوكاني[(54)].(1/26)
والقول الثاني: يستعيذ في كل ركعة، وهذا قول للشافعي وصفه النووي بأنه الأصح في مذهب الشافعية[(55)]، لكنه ذكر أنه في الركعة الأولى آكد[(56)]، وهذا القول رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية[(57)]، وبه قال ابن حزم الظاهري[(58)]، واستدلوا بعموم الآية المتقدمة.
والقول الأول أظهر، فإن الآية ليست بصريحة في تكرار الاستعاذة في كل ركعة، لأن قراءة الصلاة قراءة واحدة، وقد حصل امتثال الأمر بالاستعاذة عند القراءة، ومع ذلك فلو استعاذ المصلي في كل ركعة فحسن، ولو اقتصر على الركعة الأولى أجزأ، فإن المسألة ليس فيها أدلة قاطعة، وفي الاستعاذة فوائد عظيمة تقدم بعضها[(59)]، والله تعالى أعلم.
شيء من صفة صلاة النبي (ص)
274/8 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ: بـ{{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلكِنْ بَيْنَ ذلِكَ. وَكَانَ إذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً. وَإذَا رَفَعَ مِنَ السُّجودِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَويَ جَالِساً.
وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ. وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى. وَكَانَ يَنْهى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطانِ، وَيَنْهى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ. وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بِالتسْلِيمِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَهُ عِلَّةٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «ما يجمع صفة الصلاة» (498) من طريق حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة رضي الله عنها، به.(1/27)
وهذا الإسناد ظاهره الصحة، إلا أنه معلول، فإن أبا الجوزاء واسمه أوس بن عبد الله الرَّبَعي، لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، ذكر ذلك ابن عدي وابن عبد البر وغيرهما[(60)].
وذكر ابن حجر عن أبي الجوزاء أنه قال: أرسلت رسولاً إلى عائشة يسألها... فذكر الحديث، فهذا ظاهره أنه لم يشافهها، فرجع الحديث إلى أنه عن مجهول[(61)].
لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك فشافهها ـ كما قال ابن حجر ـ فإنه مات سنة ثلاث وثمانين، كما في «التقريب»، أي: بعد ست وعشرين سنة من وفاة عائشة رضي الله عنها، ومعلوم حرص التابعين على السماع من الصحابة، يقول الحافظ أبو الحسين القرشي[(62)]: (إدراك أبي الجوزاء هذا لعائشة رضي الله عنها معلوم لا يُختلف فيه، وسماعه منها جائز ممكن، لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد، وهذا ومثله محمول على السماع عند مسلم رحمه الله، كما نص عليه في مقدمة كتابه «الصحيح» إلا أن تقوم دلالة بينة على أن ذلك الراوي لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئاً فحينئذ يكون الحديث مرسلاً، والله أعلم).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان يفتتح الصلاة بالتكبير) ، كان: فعل ماض ناقص، وإذا كان خبرها فعلاً مضارعاً دل على الاستمرار ما لم تقم قرينة على خلافه، وتقدم ذلك، والمراد بالتكبير: تكبيرة الإحرام، لحديث: (تحريمها التكبير).
قوله: (والقراءةَ بالحمد لله..) بالنصب عطفاً على (الصلاة)، والحمد: بضم الدال على الحكاية، فلا يؤثر فيه حرف الجر، أي: بهذه السورة.
قوله: (لم يُشْخص رأسه ولم يصوبه) يشخص: بضم الياء وسكون الشين، ماضيه: أشخص الرباعي، أي: لم يرفعه. ولم يصوِّبه: بضم الياء وفتح الصاد وكسر الواو المشددة، أي: ينزله.
قوله: (ولكن بين ذلك) أي: بين الرفع والتنزيل، ليكون مستوياً مع الظهر.
قوله: (في كل ركعتين التحية) أي: التشهد كله، وهو من باب إطلاق لفظ البعض على الكل.(1/28)
قوله: (وكان يفرش رجله اليسرى) بضم الراء على الأشهر من باب (قتل) وفي لغة بكسرها من باب (ضرب) ومعناه: يبسط رجله.
قوله: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) ، بضم العين وسكون القاف وفي رواية لمسلم: (وكان ينهى عن عَقِب الشيطان)، وهي أن يفرش قدميه، فيجعل ظهورهما نحو الأرض، ويجلس على عقبيه، ذكر ذلك ابن دقيق العيد[(63)].
والقول الثاني: أن عقبة الشيطان أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه، ويضع يديه على الأرض، وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيره[(64)].
والقول الثالث: أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو الذي ذكره أبو عبيد[(65)]، والزمخشري[(66)] وقال: (هو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء)، وهذا المعنى لا شك أنه إقعاء، كما ثبت في الصحيح[(67)]، لكنه غير منهي عنه، ولعل مرادهم الأول، وأضيفت العُقْبة للشيطان إما تقبيحاً لها، أو لأنها من فعله أو أمره.
قوله: (أن يفترش الرجل ذراعيه) أي: يبسطهما على الأرض في السجود.
قوله: (افتراش السبع) أي: كافتراش السبع، وأضيفت إلى السبع تقبيحاً وتنفيراً، والسبع: كل حيوان مفترس.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب افتتاح الصلاة بالتكبير، وهو لفظ (الله أكبر) فلا تكفي النية، ولا غير التكبير من ألفاظ التعظيم، كما تقدم.
والحكمة من استفتاح الصلاة بالتكبير: استحضار المصلي عظمة من يقف بين يديه، وأنه أكبر من كل شيء يخطر بباله، فيخشع ويستحي أن يشتغل بغيره أو يحدث نفسه بسواه سبحانه وتعالى.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن القراءة في الصلاة تُبدأ بالفاتحة، فلو قرأ قبلها شيئاً من القرآن لم يعتد به.
وليس في ذلك ما يدل على أنه يترك الاستفتاح بين التكبير والقراءة، وأنه لو تخلل بينهما ذكر لم يكن الاستفتاح بالحمد، لأن المراد استفتاح القراءة لا الاستفتاح المطلق.(1/29)
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن من صفة الركوع الموافق للسنة التسوية بين الرأس والظهر حال الركوع، فلا يرفع رأسه عن مستوى ظهره ولا ينزله عنه، وتقدم بيان ذلك.
الوجه السادس: الحديث دليل على مشروعية الاستقرار في القيام بعد الركوع والجلوس بين السجدتين، والمراد بذلك الطمأنينة، وقد ثبت بالسنة قولاً وفعلاً، كما تقدم.
الوجه السابع: الحديث دليل على مشروعية قراءة التحيات في آخر كل ركعتين، فإن كانت الصلاة ثنائية أتم التشهد وسلم، وإن كانت أكثر قام بعد التشهد الأول فأتى بما بقي من صلاته ثم تشهد وسلم.
الوجه الثامن: الحديث دليل على مشروعية افتراش القدم اليسرى ونصب اليمنى حال الجلوس، وهذا يشمل التشهد الأول والجلوس بين السجدتين، وأما في التشهد الأخير فقد ورد في حديث أبي حميد رضي الله عنه ـ المتقدم ـ أنه كان يقدم اليسرى وينصب اليمنى ويقعد على مقعدته، وهذا قول الشافعي، وقول أحمد في الصلاة التي فيها تشهدان، وقد مضى بيان ذلك.
الوجه التاسع: الحديث دليل على أن المصلي منهي عن الجلوس على العقبين وافتراش القدمين، وكذا منهي عن أن ينصب فخذيه وساقيه ويضع يديه على الأرض ويلصق أليتيه بالأرض، بناء على تفسير (عقبة الشيطان) بهذين المعنيين ولا ريب أن المصلي في الصفة الأولى غير مستقر في جلوسه.
الوجه العاشر: الحديث دليل على النهي عن افتراش الذراعين في السجود، وذلك بأن يضعهما على الأرض، لأن السنة أن يرفعهما، ويكون الموضوع على الأرض كفيه.(1/30)
وإنما نهي المصلي عن ذلك، لأنها صفة المتكاسل، والمطلوب من المصلي أن يكون على أكمل هيئة من النشاط والتباعد عما يحدث الكسل في جميع أركان الصلاة، ولأن في ذلك تشبهاً بالسباع والكلاب ولا يليق بالإنسان الذي كرمه الله تعالى وفضله أن يتشبه بالحيوان، لا سيما في حال الصلاة، وقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب»[(68)].
الوجه الحادي عشر: الحديث دليل على أن ختم الصلاة والخروج منها بقول: السلام عليكم ورحمة الله، فلا تختتم بالنية، ولا بلفظ غير التسليم، لحديث: (وتحليلها التسليم) ، وسيأتي زيادة كلام في هذا إن شاء الله تعالى.
حكم رفع اليدين ومواضعه في الصلاة
275/9 ـ وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افتَتَح الصَّلاةَ، وَإذَا كَبَّرَ للرُّكوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكوعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
276/10 ـ وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، عنْد أبي دَاوُدَ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثمَّ يُكَبِّرُ.
277/11 ـ وَلِمُسْلِم عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِث رضي الله عنه نَحْوُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، ولكِنْ قَالَ: حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب «الصلاة» منها: باب «رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء» (735) ومسلم (390) من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود.(1/31)
وأما حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود (730) في كتاب «الصلاة» باب «افتتاح الصلاة» من طريق عبد الحميد ـ يعني ابن جعفر ـ أخبرني محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم أبو قتادة، قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: فَلِمَ؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعاً ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر.. الحديث بطوله.
وأما حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «استحباب رفع اليدين...» (391) (26) من طريق قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك، وفي لفظ آخر لمسلم: (أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (حذو منكبيه) تقدم بيانه.
قوله: (إذا افتتح الصلاة) أي: وقت افتتاحه إياها، وذلك عند تكبيرة الإحرام.
قوله: (وإذا كبر للركوع) ، المراد بالتكبير: الشروع فيه.
قوله: (لا يفعل ذلك في السجود) أي لا يرفع يديه لا في ابتداء السجود ولا عند الرفع منه، وفي رواية للبخاري: (ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود)[(69)].
قوله: (فروع أذنيه) أي: عوالي أذنيه.(1/32)
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية رفع اليدين في ثلاثة مواضع من الصلاة: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وذلك تعظيم لله تعالى وزينة للصلاة، وقد أخرج البخاري بسنده في «جزء رفع اليدين»، عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت سعيد بن جبير عن رفع اليدين في الصلاة فقال: (هو شيء تزين به صلاتك)[(70)].
والقول برفع الأيدي في هذه المواضع هو قول الجمهور من أهل العلم، قال البخاري: (قال الحسن وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفعون أيديهم، لم يُستثن أحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم دون أحد)[(71)].
وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وسائر أصحاب الرأي: لا يرفع المصلي يديه إلاّ لتكبيرة الإحرام[(72)]، واستدلوا بأدلة غير ناهضة، منها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود[(73)]، وهذا حديث ضعيف، ضعفه البخاري وأحمد والشافعي وابن عيينة، فلا تقوم به حجة، فكيف يقوم في مقابلة ما ثبت في «الصحيحين»؟ وقد طعن الحفاظ في لفظة (ثم لا يعود) واتفقوا على أنها مدرجة من يزيد بن أبي زياد أحد رواته، لأنه كان قد اختلط.
وبقي موضع رابع تُرفع فيه اليدان، وهو إذا قام من الجلسة للتشهد الأول، لحديث نافع، عن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما وفيه: (كان إذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم)[(74)].
وورد ـ أيضاً ـ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ الآتي ـ كما ورد في حديث أبي حميد الساعديرضي الله عنه: (ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة..)[(75)].(1/33)
قال الخطابي: (حديث أبي حميد في رفع اليدين عند النهوض من التشهد حديث صحيح، وقد شهد له بذلك عشرة من الصحابة، منهم: أبو قتادة الأنصاري، وقد قال به جماعة من أهل الحديث، ولم يذكره الشافعي، والقول به لازم على أصله في قبول الزيادات)[(76)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن لرفع اليدين صفتين:
الأولى: حذو المنكبين، أي: يرفعهما إلى كتفه.
الثانية: إلى فروع أذنيه.
وتقدم أن العبادات الواردة على وجوه متعددة الأفضل أن تفعل كلها في أوقات مختلفة، فمرة يرفع إلى حذو منكبيه ومرة إلى فروع أذنيه.
وهذا الرفع مشروع في حق المرأة ـ أيضاً ـ لأن الأصل أن ما ثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء، وكذا العكس، إلا ما دل الدليل على استثنائه، فإن وجد مانع من الرفع رفع حسب استطاعته، فإن كان لا يستطيع رفعهما معاً، رفع واحدة.
الوجه الخامس: استدل أهل العلم بقول ابن عمر رضي الله عنهما: (وكان لا يفعل ذلك في السجود)، على أنه لا يشرع للمصلي رفع يديه عند الهوي إلى السجود، ولا عند القيام منه، ونسب الحافظ ابن رجب هذا القول إلى الجمهور، وقال: (قد نص عليه الشافعي وأحمد..)[(77)].
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن المصلي يرفع يديه في هذين الحالين، واستدلوا بحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه (أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)[(78)].
قال الحافظ: (إنه أصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود)[(79)]، وورد ـ أيضاً ـ في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: (أنه صلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يُكبر إذا خفض وإذا رفع، ويرفع يديه عند التكبير)[(80)].
وقد ذكر الألباني أن الرفع للسجود روي عن عشرة من الصحابة[(81)].
وأجابوا عن حديث ابن عمر بأنه نافٍ، والأدلة في هذه المسألة مثبتة، والمثبت مقدم على النافي.(1/34)
ورُدَّ ذلك بأن هذه المسألة ليست من هذا الباب، لأن النفي هنا في قوة الإثبات، فإن ابن عمر رضي الله عنهما بَيَّنَ وفَصَّلَ، فذكر مواضع الرفع، ونفى الرفع في السجود، وعند القيام منه، فبيّن ما ثبت فيه الرفع، وما لم يثبت فيه الرفع، فنفيه للرفع في السجود ليس لعدم علمه بالرفع، بل لعلمه بعدم الرفع، وقد أعرض الشيخان عن أحاديث الرفع في السجود والقيام منه، والقول باستحباب الرفع في هذين الحالين يحتاج إلى أدلة قوية.
ثم إنه في هذين الحديثين يمكن أن يكون اشتبه لفظ الرفع بالتكبير، أضف إلى ذلك أن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر رضي الله عنهما ليسا من أهل المدينة، وابن عمر رضي الله عنهما من الملازمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وممن عُرف شدة حرصه على حفظ أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به، فيدل ذلك على أن أكثر أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك الرفع فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين، والعلم عند الله تعالى.
موضع اليدين حال القيام في الصلاة
278/12 ـ وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمنى على يَدِهِ اليُسْرَى على صَدْرِه. أَخْرَجَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة راويه:
هو وائل بن حُجر ـ بضم الحاء ـ بن ربيعة الحضرمي، أبو هنيدة، كان أبوه من ملوك حضرموت، وهو أحد الأشراف، كان سيد قومه، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وروى عنه، أخرج له الجماعة إلا البخاري، وقد اشتهر حديثه في صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند مسلم وأصحاب السنن، حدَّث عنه ابناه: علقمة وعبد الجبار، ووائل بن علقمة، وكليب بن شهاب وآخرون، وقيل: لم يسمع عبد الجبار من أبيه، بينهما وائل بن علقمة[(82)]، مات في أوائل خلافة معاوية رضي الله عنه[(83)].
الوجه الثاني: في تخريجه:(1/35)
فقد أخرجه ابن خزيمة (1/243) والبيهقي (2/30) من طريق مؤمل بن إسماعيل، نا سفيان، عن عاصم بن كليب الجرمي، حدثني أبي، عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال. فذكر الحديث.
ومؤمل: صدوق سيِّئ الحفظ، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: (صدوق شديد في السنة، كثير الخطأ)، وكذا وصفه بسوء الحفظ وكثرة الخطأ الدارقطني وجماعة[(84)].
وأصل الحديث في «صحيح مسلم» (401) من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه بدون لفظ الصدر، وهي زيادة منكرة تفرد بها مؤمل بن إسماعيل، وقد جاء الحديث من طرق كثيرة عن عاصم بن كليب بدون هذه الزيادة، وقد تابعه محمد بن حجر الحضرمي من غير طريق سفيان كما عند البيهقي (2/30) وإسناده ضعيف جداً[(85)].
الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال بمشروعية وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى على الصدر أثناء القيام في الصلاة.
وقد ورد في وضع اليمنى على اليسرى بدون تحديد محل وضعها أحاديث أخرى منها: حديث أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)، قال أبو حازم: (لا أعلمه إلا يَنْمِي ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم)، وقد ترجم البخاري هذا الحديث بقوله: (باب وضع اليد اليمنى على اليسرى)، قال الحافظ ابن حجر: أي: (في حال القيام، وقوله: (كان الناس يؤمرون) هذا حكمه الرفع، لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلّم..)[(86)]. ومعنى (ينمي ذلك) يرفع الحديث ويسنده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سُحُورنا، ونعجل فطرنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا»[(87)].
فهذا كله يدل على أن السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وأن هذا هدي نبينا هو والأنبياء قبله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(1/36)
قال ابن عبد البر: (لم يأت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في (الموطأ) ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره..)[(88)].
وأما إرسال اليدين حال القيام فهو هيئة مخالفة للسنة، فإنه لم يرد حديث صحيح في ذلك، وقد نسب الإرسال إلى الإمام مالك في رواية عنه، والمحققون من أتباع مذهبه على أنه قصد الإرسال في حالات معينة، لا مطلقاً، وذلك أنه أراد أن يحارب عملاً غير مسنون، وهو أن يمسك المصلي معتمداً لقصد الراحة، أو يقضي على اعتقاد فاسد، وهو ظن العامي وجوب ذلك، وإلا فهو لم يقل بالإرسال مطلقاً، كيف وهو قد روى أحاديث القبض، وبوب بقوله: (باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة)[(89)].
يقول الباجي ـ من كبار المالكية ـ: (وقد يحمل قول مالك بكراهة قبض اليدين على خوفه من اعتقاد العوام أن ذلك ركن من أركان الصلاة تبطل الصلاة بتركه)[(90)].
وقال ابن عبد البر: (وليس هذا بخلاف؛ لأن الخلاف كراهية ذلك، وقد يرسل العالم يديه ليُريَ الناس أن ليس ذلك بحكمٍ واجب.. ثم قال: والحجة في السنة لمن اتبعها، ومن خالفها فهو محجوج بها، ولا سيما سنة لم يثبت عن واحد من الصحابة خلافها)[(91)].
والحكمة من وضع إحدى اليدين على الأخرى أن هذه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، بخلاف صفة الإرسال فليس فيها شيء من ذلك، وقد روى ابن المبارك عن صفوان بن عمرو، عن مهاجر النبال أنه ذكر عنده قبض الرجل يمينه على شماله، فقال: (ما أحسنه، ذلٌّ بين يدي عزيز)[(92)].
وأخرج أبو يعلى مثله عن الإمام أحمد، قال علي بن محمد المصري الواعظ: (ما رأيت في العلم أحسن من هذا)[(93)].
وأما كيفية الوضع ففيها صفتان:(1/37)
الأولى: وضع اليد اليمنى على كف اليسرى ورسغها[(94)] وساعدها، لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: لأنظرن إلى رسول الله كيف يصلي، قال فنظرت إليه، قال: فكبر، ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد[(95)].
الصفة الثانية : يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى، ودليل ذلك حديث سهل بن سعد المتقدم قريباً، وفي حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله)[(96)]، وظاهر هذا القبض.
وإذا كانت السنة قد ثبتت بكل منهما، فللمصلي أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، على القاعدة في العبادات المتنوعة على وجوه متعددة.
وأما محل الوضع، فحديث الباب يدل على أن السنة وضعهما على الصدر.
وقد ورد ـ أيضاً ـ حديث قبيصة بن هُلْب عن أبيه رضي الله عنه: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينصرف عن يمينه وعن يساره، ورأيته يضع يده على صدره)[(97)].
وفي مرسل لطاووس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشدهما على صدره وهو في الصلاة)[(98)].
والقول بوضع اليدين على الصدر هو قول الشافعي في رواية عنه، وروي عن علي رضي الله عنه ولا يصح.
وهو اختيار الشوكاني فإنه قال: (ولا شيء في الباب أصح من حديث وائل المذكور)[(99)].
والقول الثاني: أن موضع اليدين تحت الصدر فوق السرة، وهذا رواية في مذهب مالك والشافعي وأحمد، قال أبو داود في «مسائله»: (سمعت أحمد سئل عن وضعه، فقال: فوق السرة قليلاً، وإن كانت تحت السرة فلا بأس)[(100)]، وقد رجحها النووي في مذهب الشافعي، وعزاه إلى سعيد بن جبير وداود[(101)].
ودليل ذلك ما رواه غزوان بن جرير الضبي عن أبيه قال: (رأيت عليّاً رضي الله عنه يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة)[(102)].(1/38)
والقول الثالث: أن محلهما تحت السرة، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، ذكر المرداوي أنها هي المذهب، وهو قول إسحاق[(103)]، ودليل ذلك ما ورد عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: (إن من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة)[(104)].
لكنه حديث ضعيف، ولهذا لم يأخذ الإمام أحمد به، فقد جاء في «مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله» قال: (رأيت أبي إذا صلى وضع يديه إحداهما على الأخرى فوق السرة)[(105)].
والقول الرابع: أن المصلي مخير بأن يضعهما فوق السرة أو تحتها أو عليها، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، كالقولين قبله[(106)]، وقال الترمذي: (رأى بعضهم أن يضعهما فوق سرته، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت سرته، كل ذلك واسع عندهم)[(107)]، ومثل ذلك قال ابن المنذر[(108)]، وهذا أظهر الأقوال، لأنه قد ثبت أن السنة وضع اليمنى على اليسرى أثناء القيام، ولم يثبت دليل في مكان الوضع، فيكون المصلي مخيراً، والله تعالى أعلم.
الوجه الرابع: ظاهر حديث الباب مع ما ذكر معه كحديث سهل بن سعد رضي الله عنه: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة). أن السنة وضع اليمنى على اليسرى حال القيام في الصلاة، سواء أكان ذلك في القيام قبل الركوع أم بعده، وليس في السنة ما يدل على التفريق وأن السنة الوضع قبل الركوع، وأما بعده فالإرسال، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل، والحكم الأول مبني على الأصل، فإن السنة للمصلي في حال الركوع أن يضع يديه على ركبتيه، وفي حال السجود يضعهما على الأرض، وفي حال الجلوس يضعهما على فخذيه وركبتيه، فلم يبق إلا حال القيام، ولم يرد فيه تفصيل، فيكون حكمه في الحالين واحداً[(109)].(1/39)
وذكر ابن مفلح عن الإمام أحمد أنه قال: (إذا رفع رأسه من الركوع، إن شاء أرسل يديه، وإن شاء وضع يمينه على شماله)[(110)]، ولعل الإمام أحمد يرى أن القيام الذي ورد فيه الوضع هو ما كان قبل الركوع، وأما ما بعد الركوع فلم يرد فيه شيء، فيكون المصلي مخيراً، والله أعلم.
حكم قراءة الفاتحة في الصلاة
279/13 ـ عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صَلاَةَ لِمَنْ لمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ، لابْنِ حِبَّان وَالدَّارقُطْنِيِّ: «لاَ تُجْزي صَلاَةٌ لاَ يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
وَفِي أُخْرَى، لأحْمَدَ، وَأبي دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ: «لَعَلَّكُمْ تَقْرَأونَ خَلْفَ إمَامِكُم؟»، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «لاَ تَفْعَلُوا إلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عُبادة ـ بضم العين ـ بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد رضي الله عنه. كان من النقباء[(111)] الذين بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة، وشهد بدراً وما بعدها، بعثه عمر رضي الله عنه مع معاذ وأبي الدرداء إلى الشام ليعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأقام في فلسطين وكان أول من تولى القضاء فيها.
روى عنه من الصحابة رضي الله عنهم أنس بن مالك وجابر بن عبد الله وفضالة بن عبيد وغيرهم، وروى عنه محمود بن الربيع، وبنوه: الوليد وعبد الله وداود، وآخرون، مات في الرملة في فلسطين، سنة أربع وثلاثين[(112)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها» (756) ومسلم (394) والدارقطني (1/321).(1/40)
كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، وهذا لفظ البخاري ومسلم، ولفظ البلوغ هو لفظ مسلم.
ولفظ الدارقطني: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب) وهذا لفظ زياد بن أيوب، انفرد به عن بقية الرواة عن سفيان ابن عيينة، ثنا الزهري به، وقال الدارقطني: (هذا إسناد صحيح).
قال ابن عبد الهادي: (انفرد زياد بن أيوب دلُّويه بلفظ: «لا تجزئ..» ورواه جماعة: «لا صلاة لمن لم يقرأ» وهو الصحيح، وكأن زياداً رواه بالمعنى، وقد صحح الحديث ابن القطان، وقال: زياد أحد الثقات)[(113)].
وقد وقع هذا اللفظ عند ابن حبان (5/91 ـ 96) من طريق عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحُرْقَة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، وزاد من قول عبد الرحمن لأبي هريرة (قلت: وإن كنت خلف الإمام؟ قال: فأخذ بيدي، وقال: اقرأ في نفسك).
وبهذا يتبين أن لفظ ابن حبان مثل لفظ الدارقطني بلفظ: (لا تجزئ) لكن لفظ الدارقطني من حديث عبادة رضي الله عنه، ولفظ ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه خلافاً لظاهر صنيع الحافظ، فإنه يشعر أن اللفظين من حديث عبادة رضي الله عنه.
وأخرج حديث عبادة البخاري في «جزء القراءة خلف الإمام» ص(18) وأحمد (37/368) وأبو داود (823) والترمذي (311) وابن خزيمة (3/36) وابن حبان (5/86) كلهم من طريق محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كنا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: «لعلكم تقرأون خلف إمامكم»، قلنا: (نعم هذا يا رسول الله)، قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها».(1/41)
وقال الترمذي: (حديث حسن)، وقال الدارقطني (1/318): (إسناده حسن) ولعل تحسينه من أجل محمد بن إسحاق، وقال الخطابي: (إسناد جيد لا طعن فيه)[(114)].
وقد أعلَّ هذا الحديث بعلل ومنها: أن محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعنه، ورُدَّ ذلك بأنه صرح بالسماع في رواية أحمد (37/409) والبيهقي (2/164) ثم إنه لم ينفرد به، فقد تابعه في الرواية عن مكحول زيد بن واقد القرشي عند البخاري في «جزء القراءة» ص(18)، وأبي داود (847)، والدارقطني (1/319) والبيهقي (2/164) وزيد بن واقد وثقه الإمام أحمد وابن معين ودحيم والدارقطني وابن حبان وآخرون[(115)].
وبهذا تبين أن حديث عبادة مروي من طريق الزهري، ومن طريق مكحول، قال الترمذي عن الأول: (وهذا أصح) بينما رجح ابن خزيمة وابن حبان الوجهين جميعاً، كما يفهم مما تقدم. حيث أخرجا رواية مكحول في «صحيحيهما»، وقد نقل ابن تيمية تضعيف الإمام أحمد لحديث مكحول والأخذ برواية الزهري[(116)].
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا صلاة..) هذا نفي للصحة، أي: لا صلاة مجزئة، ونفي الصحة نفي للوجود الشرعي، فيكون قوله: (لا صلاة) نفياً للصلاة الشرعية، ومن ثمَّ فلا حاجة للإضمار، ويؤيد ذلك رواية: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) لأن ما لا يجزئ فليس بصلاة شرعية، والظاهر أن الحافظ أورد هذه الرواية لهذا الغرض، وقد حملته الحنفية على نفي الكمال، وسيأتي ردُّ ذلك إن شاء الله.
قوله: (لمن لم يقرأ) أي: للذي لم يقرأ، و(من) اسم موصول، وهو من صيغ العموم، فيشمل الإمام والمأموم والمنفرد.
قوله: (بأم القرآن) المراد: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} إلى آخر السورة سميت بذلك لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي، والوعد والوعيد.(1/42)
قوله: (بفاتحة الكتاب) سميت بذلك لأن القرآن افتتح بها كتابة ويفتتح بها تلاوة، لأن القراءة في الصلاة تفتتح بها، فلا يقرأ في الصلاة بشيء من القرآن قبل الفاتحة، وقد ذكر معنى ذلك البخاري في أول كتاب «التفسير» من «صحيحه».
والكتاب: القرآن، سمي به لأنه مكتوب في السماء، ويكتب في الأرض، ولهذه السورة الكريمة أسماء كثيرة، ومن المعروف أن كثرة الأسماء دليل على شرف المسمى[(117)].
قوله: (لعلكم تقرأون خلف إمامكم) لعل هنا: تفيد الاستفهام، وقد ذكر هذا المعنى ابن هشام[(118)]، بدليل قوله: (نعم) والمعنى: أتقرأون خلف إمامكم؟
الوجه الرابع: أجمع الأئمة الأربعة وأتباعهم على وجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمنفرد، وأن الصلاة لا تصح بدونها ،إلا عند أبي حنيفة ورواية الإمام أحمد فلا تلزم الفاتحة، فلو قرأ غيرها من القرآن أجزأ[(119)]، لعموم قوله تعالى؛ {{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}} [المزمل: 20] وحديث المسيء (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، لكن أجابهم الجمهور بالأحاديث الدالة على تعيين الفاتحة.
ثم حصل الخلاف بينهم في حكم قراءة الفاتحة وراء الإمام أي في حق المأموم على ثلاثة أقوال:
الأول: وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية والجهرية، وأنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها، وهذا قول عبادة بن الصامت وابن عباس رضي الله عنهم، والأوزاعي والليث، وبه قال الشافعي، وعليه أكثر أصحابه، واختاره الصنعاني[(120)]، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (هذا أرجح الأقوال وأظهر في الدليل).
واستدلوا بحديث الباب وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فإنه نص صريح لا يقبل التأويل، بأن الصلاة لا تقبل ولا تجزئ إذا لم يقرأ المصلي فيها بفاتحة الكتاب، وهذا شامل للفرض والنفل، وللإمام والمأموم والمنفرد.(1/43)
كما استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ، ثلاثاً، غير تمام»، فقيل لأبي هريرة: (إنا نكون وراء الإمام)، فقال: (اقرأ بها في نفسك)[(121)].
والخداج: بالكسر النقصان، أي: ذات خداج، يقال: خدجت الناقة: إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجته: إذا ولدته ناقصاً وإن كان لتمام الولادة[(122)].
فدل الحديث على وجوب قراءة الفاتحة، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصف الصلاة بدون الفاتحة بالنقصان، والمراد به: النقصان الذي لا تجزئ معه الصلاة، بدليل رواية: (لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، واسم الصلاة ينطبق على المجزئ منها، وغير المجزئ يقال فيه: صلاة فاسدة.
قال البخاري: (تواتر الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن»[(123)]).
وقال الخطابي عند حديث (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) : (هذا الحديث نص بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من صلّى خلف الإمام، سواء جهر الإمام بالقراءة أو خافت بها، وإسناده جيد لا طعن فيه)[(124)].
وقال المباركفوري: (الأمر كما قال الخطابي، لا شك أن هذا الحديث نص صريح بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من صلّى خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية، وهو القول الراجح المنصور عندي)[(125)].
ثم صار هؤلاء فريقين بالنسبة للجهرية:(1/44)
1 ـ فريق قالوا يقرأ المأموم الفاتحة في سكوت إمامه، فإن لم يتيسر قرأها ولو في حال قراءة إمامه، ثم ينصت لأنه مأمور بقراءتها، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم ينكر على الصحابة القراءة مطلقاً، وإنما قال: ( «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب» وعليه فتكون هذه الأحاديث مُخَصِّصَة لقوله تعالى: {{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}} [الأعراف: 204] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإذا قرأ الإمام فأنصتوا» وهذا تأويل أصحاب الشافعي كما ذكره اللكنوي[(126)]، وبه قال الشيخ عبد العزيز بن باز[(127)]، وقد ذكره ابن المنذر وعزاه لبعض العلماء، منهم ابن عون والأوزاعي وأبو ثور وغيرهم من أصحاب الشافعي[(128)].
2 ـ وفريق آخر قال: يقرأ في سكتات الإمام، وإذا سمع قراءة الإمام أنصت، وإذا لم يسمعها قرأ لنفسه، لأن قراءته أفضل من سكوته، والاستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة، ومن هؤلاء ابن المنذر[(129)] وابن تيمية، ونسبه لأكثر السلف[(130)].
قال ابن المنذر: (إن معنى حديث عبادة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) إلا صلاة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المأموم إذا جهر الإمام بقراءته أن يستمع لقراءته، فيكون فاعل ذلك مستعملاً للحديثين جميعاً).
ويستثنى من ذلك ما لو دخل والإمام راكع أو عند الركوع فإنه يركع مع إمامه وتسقط الفاتحة عنه، ودليل ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو راكع فركع معه قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «زادك الله حرصاً ولا تعد»[(131)]، فلم يأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بقضاء تلك الركعة التي لم يقرأ فيها الفاتحة، فدل على أنه معذور إذا لم يدرك القيام مع الإمام الذي هو محل قراءة الفاتحة، فسقطت عنه.(1/45)
القول الثاني: وجوب القراءة على المأموم في السرية دون الجهرية، وهذا قول مالك[(132)] وقول قديم للشافعي[(133)]، وهو قول لأحمد في رواية عنه[(134)] ورجحه بعض الحنفية، وبه قال سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، وابن شهاب، وابن المبارك، وإسحاق[(135)]، وعلى قول هؤلاء لا يقرأ إذا جهر إمامه، بل يستمع لقراءته.
واستدلوا بقول تعالى: {{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}} [الأعراف: 204] قالوا: (فأمر الله تعالى بالاستماع والإنصات عند قراءة القرآن، فدل على أن المأموم لا يقرأ إذا جهر إمامه).
كما استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا..) الحديث[(136)].
كما استدلوا بحديث أبي هريرة ـ أيضاً ـ رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟»، فقال رجل: (نعم يا رسول الله)، قال: «إني أقول ما لي أنازع القرآن؟»، قال: (فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما جهر فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(137)].
والقول الثالث: وجوب السكوت على المأموم في الجهرية والسرية، فلا تجب القراءة على المأموم فيهما، وهو قول الحنفية[(138)].
واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»[(139)].
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: أنه حديث ضعيف، قال ابن كثير: (في إسناده ضعف، وقد روي من طرق، ولا يصح شيء منها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم)[(140)]، وقال الحافظ: (مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة، وكلها معلولة)[(141)].(1/46)
الثاني: على القول بصحته فهو محمول على غير الفاتحة، جمعاً بين الأدلة، لا سيما وأن الأدلة التي تفيد وجوب قراءة الفاتحة على المأموم أقوى سنداً من هذا الحديث، فمثله لا يقف في مقابل الأحاديث الصحيحة، كحديث عبادة رضي الله عنه.
وأجابت الحنفية عن حديث عبادة رضي الله عنه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) بأن النفي فيه للكمال لا للصحة، وهذا مردود؛ لأن حمل الحديث على نفي الكمال بعيد، لأنه إذا أمكن حمل الكلام على المعنى الأقرب امتنع حمله على المعنى الأبعد، وهو هنا محمول على نفي الذات، لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي، كما تقدم، ولأن نفي الإجزاء هو السابق إلى الفهم، ثم هو يستلزم نفي الكمال، من غير عكس.
والقول الأول ـ وهو وجوب الفاتحة على المأموم في السرية والجهرية ـ هو أرجح الأقوال، لقوة أدلته وصراحتها في الدلالة على المراد، بل إن هذا القول تجتمع به الأدلة، فلا يترك منها شيء، وتجب الفاتحة في كل ركعة، لأن أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر المسيء بها ثم قال: «افعل ذلك في صلاتك كلها».
وهذه المسألة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (للعلماء فيها نزاع واضطراب مع عموم الحاجة إليها)[(142)]، والله تعالى أعلم.
حكم الجهر بالبسملة في الصلاة
280/14 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَبَا بَكْر وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِـ{{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} [الفاتحة: 2] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلِمٌ: لاَ يَذْكُرُونَ: {{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} [الفاتحة: 1] في أَوَّل قِرَاءَةٍ وَلاَ فِي آخِرِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ، لأحْمَدَ، وَالنَّسَائيِّ وَابْنِ خُزَيمَةَ: لاَ يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.(1/47)
وَفِي أُخْرَى لاَبْنِ خُزَيْمَةَ: (كَانُوا يُسِرُّونَ). وَعَلى هذَا يُحْمَلُ النّفْيُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِم، خِلاَفاً لِمَنْ أَعَلَّهَا.
281/15 ـ وَعَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ رحمه الله قَالَ: (صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ: {{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} [الفاتحة: 1] . ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، حَتى إذَا بَلَغَ: {{وَلاَ الضَّالِّينَ}} [الفاتحة: 7] قالَ: (آمين) وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ، وإذَا قَامَ مِنَ الجُلُوسِ: اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَقولُ إذَا سلَّمَ: وَالَّذِي نفسي بِيَدِهِ إنِّي لأشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم)، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو نُعيم ـ بضم النون ـ بن عبد الله المُجْمر ـ بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم وبالراء، ويقال: بتشديد الميم الثانية ـ لُقِّبَ هو وأبوه بالمجمر، لأن كل واحد منهما كان يُجَمِّرُ مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أي: يبخره، وهو مولى آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سمع من أبي هريرة وابن عمر وجابر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وهو ثقة.
حدّث عنه العلاء بن عبد الرحمن، وسعيد بن هلال، ومالك بن أنس وآخرون، روي عنه أنه قال: (جالست أبا هريرة رضي الله عنه عشرين سنة)، قال الذهبي: (عاش إلى قريب سنة عشرين ومائة)[(143)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:(1/48)
أما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «ما يقول بعد التكبير» (743) ومسلم (399) من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه به، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية لمسلم من طريق الأوزاعي، عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: (صليت خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ { % × ' ( {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}}، لا يذكرون { ! " £ $ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} في أول قراءة ولا في آخرها).
وقد أعلَّ بعض العلماء ـ كما أشار الحافظ ـ هذه الزيادة بأن الأوزاعي رواها عن قتادة مكاتبة.
وأجيب عن ذلك بأن الأوزاعي لم ينفرد بها، بل قد رواها غيره رواية صحيحة، ذكر ذلك الحافظ[(144)].
وفي رواية له ـ أيضاً ـ من طريق شعبة، قال: (سمعت قتادة يحدث عن أنس)، وفيه: (فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم).
وأخرجه أحمد (21/368) وابن خزيمة (1/250) من طريق شعبة، والنسائي (2/135) من طريق شعبة وابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: (صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) وهذا لفظ أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه أحمد ـ أيضاً ـ (21/302) من طريق الأعمش، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه بهذا اللفظ، والمحفوظ في لفظ الحديث هو ما تقدم[(145)].
وأخرجه ابن خزيمة (1/250) من طريق سويد بن عبد العزيز، حدثنا عمران القصير، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة وأبو بكر وعمر.(1/49)
وهذا إسناد ضعيف، لأن سويد بن عبد العزيز ضعفه الإمام أحمد، وقال: (متروك الحديث)، وقال ابن معين: (ليس ثقة)، وقال مرة: (ليس بشيء)، وقال الذهبي: (واهٍ جداً)[(146)]، وفي إسناده ـ أيضاً ـ الحسن وهو ابن ذكوان البصري، قال عنه في التقريب: (صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وكان يدلس).
وأما حديث نعيم المجمر رحمه الله فقد أخرجه النسائي في كتاب «الافتتاح» باب «قراءة بسم الله الرحمن الرحيم» (2/134) وابن خزيمة (499) من طريق الليث بن سعد قال: (أخبرني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه... فذكره)).
قال الدارقطني: (هذا حديث صحيح، ورواته كلهم ثقات)[(147)]، وقال البيهقي في «الخلافيات»: (رواته كلهم ثقات، مجمع على عدالتهم، محتج بهم في الصحيح)[(148)]، وقال في «سننه»: (إسناده صحيح، وله شواهد)[(149)].
ولما ساق ابن حزم هذا الحديث قال عن سعيد بن أبي هلال: (ليس بالقوي)[(150)]، وقد رده الحافظ في «التقريب»، فقال: (لم أر لابن حزم في تضعيفه سلفاً، إلا أن الساجي حكى عن أحمد أنه اختلط).
وقال في «هدي الساري»: (ذكره الساجي بلا حجة، ولم يصح عن أحمد تضعيفه)[(151)].
وقد أعل هذا الحديث بأن ذكر البسملة فيه شاذ ومخالف لجميع الثقات الذين رووا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ولم يذكروها، وهم ثمانمائة، ما بين صاحب وتابع، ولا يثبت عن ثقة من أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه أنه حدّث عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يجهر بالبسملة، وقد أعرض عن ذكر البسملة صاحبا الصحيح وغيرهما، فأخرج الحديث البخاري من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه في عدة مواضع، ليس فيها ذكر البسملة (785) (789) (795) (803) وأخرجه مسلم أيضاً (392) من عدة طرق.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:(1/50)
قوله: (صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان..) أي: خلفهم في صلاة الجماعة حال خلافتهم، وفائدة ذكره بيان استقرار هذه السنة، وأنه أمر لم ينسخ، وأنه سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وإلا فالحجة قائمة بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم) أي: لا يذكرونها جهراً فالنفي محمول على ذلك، لا على أنهم لا يقرأونها، بل يقرأونها ولا يجهرون بها، بدليل رواية مسلم: (فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم) ورواية أحمد والنسائي وابن خزيمة (لا يجهرون)، ورواية ابن خزيمة (يسرون) وهذا غرض الحافظ من إيراد هذه الروايات.
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) الجار والمجرور متعلق بمحذوف يقدر متأخراً، والقاعدة في متعلق الجار والمجرور أن يقدر متقدماً، هذا هو الأصل، لكن في البسملة يقدر متأخراً ليحصل التبرك بالبدء بالبسملة، وأما نوعية المقدر فهو بما يناسب المقام، فالذي يقرأ يكون التقدير: بسم الله أقرأ، والذي يكتب يكون التقدير: بسم الله أكتب... وهكذا.
والمراد بسم الله ـ هنا ـ كل اسم من أسماء الله تعالى، ولفظ (الله) اسم من أسماء الله تعالى الخاصة به، ومعناه: المعبود المألوه حباً وتعظيماً.
قوله: (الرحمن) هذا اسم من أسماء الله الخاصة به، ومعناه: ذو الرحمة الواسعة.
قوله: (الرحيم) هذا اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: موصل رحمته إلى من يشاء من عباده.
قوله: (لا يذكرون بسم الله في أول قراءة ولا في آخرها) أي: آخر القراءة، وهذا من باب المبالغة، فإنه لا يتوهم أحد أن البسملة تكون في آخر القراءة حتى ينفي ذلك، إلا أن يريد بآخر القراءة: السورة التي بعد الفاتحة، لأنها آخرها بالنسبة للفاتحة، أو يريد قراءة أول الصلاة وآخرها، فيكون المعنى لا في أول ركعة ولا في آخر ركعة.
الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم الجهر بالبسملة في الصلاة على ثلاثة أقوال:(1/51)
الأول: عدم شرعية الجهر بها، بل تقرأ قبل الفاتحة سراً، وهذا هو المروي عن الخلفاء الراشدين، وذكره ابن المنذر عن جماعة من الصحابة والتابعين[(152)]، وهو قول أصحاب الرأي وأحمد، وقال ابن قدامة: (لا تختلف الروايات عن أحمد أن الجهر بالبسملة غير مسنون)[(153)]، واختاره ابن تيمية ونصره[(154)].
واستدلوا بحديث أنس المذكور هنا، وقد أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم بألفاظ متقاربة يصدِّق بعضها بعضاً.
وذلك أن أنساً رضي الله عنه كان ممن يخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويلازمه حضراً وسفراً، وهو ينفي سماع جهره بالبسملة نفياً مبنياً على علم، لا على كونه لا يسمع، مع إمكان الجهر بلا سماع، ولا يمكن مع هذا القرب والصحبة الطويلة ألا يسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يجهر بها مع كونه يجهر بها، ومما يؤيد ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كان يجهر بها دائماً لكانت الهمم والدواعي متوفرة على نقل ذلك، كجهره بسائر الفاتحة.
ومن أدلة ذلك ما ورد عن ابن عبد الله بن مغفل قال: (سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: (أَيْ بُنَيَّ إياك والحدث، قال: ولم أر أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام يعني منه، قال: وصليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً يقولها فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل: الحمد لله رب العالمين[(155)]).
القول الثاني: أنه يسن الجهر بها، وبه قال الشافعي ومن وافقه، واستدلوا بحديث نعيم المجمر المذكور هنا، وهو من أقوى أدلتهم[(156)]،
القول الثالث: أنه يخير بينهما، وهو قول إسحاق بن راهويه، وابن حزم[(157)]، وكأن هؤلاء أرادوا العمل بجميع الأدلة، ما يدل على الجهر وما يدل على الإسرار، ذكر ذلك ابن المنذر.(1/52)
والقول الأول هو الراجح، لأن حديث أنس رضي الله عنه برواياته صحيح صريح في المسألة لا يقبل أي تأويل، وأما حديث نعيم المجمر فعنه جوابان:
الأول: أنه معلول بما تقدم.
الثاني: على القول بصحته ـ وهذا متوجه ـ فهو ليس صريحاً في الجهر، وإنما فيه أنه قرأ البسملة، وهذا يصدق بقراءتها سراً، وعلى تقدير أنه جهر بها فهو محمول على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجهر بها في بعض الأحيان، ليعلم الناس استحباب قراءتها في الصلاة، أو جهر بها جهراً يسمعه من قرب منه، والمأموم إذا قرب من الإمام أو حاذاه سمع منه ما يخافت به، ولا يسمى ذلك جهراً، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمعهم الآية أحياناً، كما سيأتي، وبمثل ذلك تجتمع الأحاديث، ويستفاد من مجموعها أن السنة عدم الجهر بالبسملة، لكن لو جهر بها بعض الأحيان فلا حرج ليعلم المأموم أنه يسمِّي، وأن التسمية مشروعة.
قال ابن تيمية: (اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح، ولم يرو أهل السنن المشهورة شيئاً من ذلك..)[(158)]، والله تعالى أعلم.
ما جاء في أن البسملة آية من سورة الفاتحة
282/16 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا قَرَأْتُمُ الفَاتِحَةَ فَاقْرَأُوا: {{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} [الفاتحة: 1] ، فَإنَّهَا إحْدَى آيَاتِها». رَوَاهُ الدَّارَقُطْني، وَصَوَّبَ وَقْفَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/53)
فقد أخرجه الدارقطني (2/312) من طريق أبي بكر الحنفي، ثنا عبد الحميد بن جعفر، أخبرني نوح بن أبي بلال، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأتم الحمد فاقرءوا {{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، و{{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} إحداها».
قال أبو بكر الحنفي: (ثم لقيت نوحاً فحدثني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بمثله، ولم يرفعه).
وقال الدارقطني عن هذا الموقوف: (وهو أشبهها بالصواب)[(159)].
وقال عبد الحق في «أحكامه الوسطى»: (رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر، وهو ثقة، وثقه أحمد وابن معين، ويحيى بن سعيد، وأبو حاتم يقول فيه: «محله الصدق»، وكان سفيان الثوري يضعفه، ويحمل عليه، ونوح ثقة مشهور)[(160)].
وتابعه الألباني فقال: (هذا إسناد صحيح مرفوعاً وموقوفاً، فإن نوحاً ثقة، وكذا من دونه، والموقوف لا يُعِلُّ المرفوع، لأن الراوي قد يوقف الحديث أحياناً، فإذا رواه مرفوعاً ـ وهو ثقة ـ فهو زيادة يجب قبولها منه، والله أعلم)[(161)]، وما قاله الدارقطني هو المعتبر، والموقوف في مثل هذا يُعِلُّ المرفوع، وحكم المتقدمين من الأئمة الكبار مقدم على من بعدهم، وقد تقدم مثل هذا.
الوجه الثاني: قال النووي: (اعلم أن مسألة البسملة عظيمة مهمة، ينبني عليها صحة الصلاة، التي هي أعظم الأركان بعد التوحيد)[(162)]، وقد اتفق العلماء على أن البسملة بعض آية من سورة «النمل»[(163)]، ثم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة وكل سورة على قولين:
الأول: أن البسملة آية من سورة الفاتحة، وهو قول قراء مكة والكوفة وفقهائهما، وعليه الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض الحنابلة، واستدلوا بهذا الحديث[(164)].(1/54)
القول الثاني: أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما هي آية مستقلة، كتبت للفصل والتبرك والابتداء بها، ما عدا سورة (براءة).
وهذا عليه قراء المدينة والبصرة والشام وفقهائهما، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهي المذهب[(165)]، وهو اختيار ابن تيمية[(166)] وقال: (إن هذا القول به تجتمع الأدلة).
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} ، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} ، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *}} ، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} ، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}} ، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»[(167)].(1/55)
ووجه الدلالة: أن الحديث دليل على قسمة الصلاة، والمراد بها هنا الفاتحة بين العبد وربه، والمراد قسمتها من جهة المعنى، والفاتحة سبع آيات بالإجماع، كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره[(168)]، فثلاث في أولها ثناء: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *}} [الفاتحة: 2 ـ 4] وثلاث[(169)] في آخرها دعاء: {{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}} [الفاتحة: 6 ـ 7] ، والسابعة متوسطة {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} [الفاتحة: 5] فلم يذكر: {{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}} في أولها مما يدل على أن البسملة ليست من القراءة الواجبة ولا من القراءة المقسومة.
قوله: (هذا بيني وبين عبدي) يعني من العبد العبادة، ومن الله العون، ذكره ابن العربي[(170)].
وهذا القول هو الراجح إن شاء الله، لقوة دليله، قال النووي: (إن هذا الحديث أوضح ما يُحتج به على أن البسملة ليست من الفاتحة)[(171)].
ويؤيد ذلك حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين).
أما ما يوجد في المصاحف الآن من أنها أول آية في الفاتحة وأعطيت رقماً، فهذا مبني على أحد القولين في المسألة، كما تقدم، وعلى هذا تكون الآية السابعة: {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *}}.
وأما في بقية السور فلم تُعد من آيات السورة، ولذا تركت بلا ترقيم، وثمرة الخلاف في هذه المسألة: أن من قال: إن البسملة آية من الفاتحة قال: يقرأُها ويجهر بها كسائر آيات الفاتحة، وبعضهم قال: يخفيها، ومن قال إنها ليست آية من الفاتحة قال: لا تلزم قراءتها.(1/56)
وقد ذكر ابن عبد البر أن مذهب مالك وأصحابه أنها ليست آية مطلقاً، لا من الفاتحة ولا من غيرها، وإنما هي استفتاح لِيُعْلَمَ بها مبتدؤها، إلا في سورة النمل، ولهذا لا تقرأ عندهم في أول الفاتحة لا سراً ولا جهراً، ودليلهم حديث عائشة المتقدم، وحديث أنس هذا[(172)].
والصواب أنها آية من القرآن، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم كتبوها وتواتر عنهم ذلك بدون نكير، مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن، وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها، والله تعالى أعلم.
مشروعية رفع الإمام صوته بالتأمين
283/17 ـ وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآن رَفَعَ صَوْتَه وَقَالَ: «آمِين». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
284/18 ـ وَلأبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِي مِنْ حَدِيثِ وَائِل بْنِ حُجْرٍ نَحْوُهُ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه الدارقطني (1/335) والحاكم (1/223) من طريق إسحاق بن إبراهيم الزُّبيدي، أخبرني عمرو بن الحارث، ثنا عبد الله بن سالم، عن الزبيدي ـ هو محمد بن الوليد الزبيدي ـ قال أخبرني الزهري، عن أبي سلمة وسعيد أن أبا هريرة قال: ... فذكره.
وقال الدارقطني: (هذا إسناد حسن)، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ) وسكت عنه الذهبي، وتعقب ابن عبد الهادي ومن بعده الألباني كلام الحاكم هذا[(173)]، وذلك من وجهين:
1 ـ أن الإسناد ليس على شرط الشيخين، فإن إسحاق بن إبراهيم ليس من رجال الشيخين، وهو متكلم فيه، وعبد الله بن سالم وهو الأشعري الوُحَاظي الحمصي لم يخرج له مسلم، وهو ثقة، أما بقية الرجال فهم ثقات من رجال الشيخين.(1/57)
2 ـ أن إسحاق بن إبراهيم أورده الذهبي في «الضعفاء» وقال: (كذبه محمد بن عوف، وقال أبو داود: ليس بشيء)[(174)]، وقال أبو حاتم: (شيخ لا بأس به، ولكنهم يحسدونه، سمعت يحيى بن معين أثنى عليه خيراً)[(175)].
وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق يهم كثيراً)، وقال الألباني: (ضعيف جداً، وكذبه محدث حمص محمد بن عوف الطائي، وهو أعرف بأهل بلده)[(176)].
وعلى هذا فالحديث ضعيف، لكن يشهد له ما بعده، ولعل الحافظ جمع بينهما لذلك.
وأما حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود (932) والترمذي (248) من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس الحضرمي، عن وائل بن حجر قال: (سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ: {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}} فقال: «آمين» ومدَّ بها صوته)، وهذا لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود: (ورفع بها صوته).
وقال الترمذي: (حديث حسن)، وقال الحافظ: (سنده صحيح)[(177)]، وقال الألباني: (هذا إسناد جيد، ورجاله رجال الشيخين غير حجر بن عنبس، وهو صدوق كما قال في «التقريب»)[(178)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (آمين) اسم فعل أمر معناه: اللهم استجب ـ عند الجمهور ـ فهو أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وفيها لغتان المدّ على وزن: فاعيل، والقصر على وزن: فعيل، قال الجوهري: (وتشديد الميم خطأ)[(179)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية تأمين الإمام بعد قراءة الفاتحة، ورفعه صوته بذلك، وهذا قول الجمهور من الشافعية والحنابلة وغيرهم[(180)].
وقال أبو حنيفة وأتباعه، وهو قول عند المالكية: يستحب خفض الصوت بها، لأن الأصل في الذكر خفض الصوت[(181)]، والعمل بالحديث مقدم على مثل هذا التعليل.
وهذا الحديث ليس فيه تعرض لتأمين المأموم والمنفرد، ولم يذكر الحافظ شيئاً يتعلق بذلك.(1/58)
وقد ورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه»[(182)].
فهذا الحديث فيه أمر المأمومين بالتأمين، وهو للندب عند الجمهور[(183)]، وظاهر الحديث أن تأمين المأموم يتأخر عن تأمين الإمام، لأنه رُتِّب عليه بالفاء، لكن في حديث آخر لأبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قال الإمام: {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}} ، فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»[(184)]، وهذا يدل على اقتران تأمين المأموم بتأمين الإمام ليقارن تأمين الملائكة، وذلك لأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه، ويكون معنى قوله: (إذا أمَّن الإمام فأمنوا) أي: إذا شرع في التأمين، والله تعالى أعلم.
حكم المصلي الذي لا يحسن شيئاً من القرآن
285/19 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: إنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآن شَيْئاً، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ، قَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ..» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/59)
وهو عبد الله بن أبي أوفى، واسم أبي أوفى: علقمة بن قيس بن الحارث الأسلمي، كان أبوه صحابياً ـ أيضاً ـ، وهو وأبوه من أهل بيعة الرضوان، شهد الحديبية وخيبر وما بعدهما، ولم يزل في المدينة حتى قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم تحول إلى الكوفة، ومات بها، وهو خاتمة من مات بالكوفة من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد ورد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صلّ على آل فلان»، فأتاه أبي بصدقته، فقال: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى»[(185)]، مات عبد الله سنة سبع وثمانين، وقد قارب مائة سنة رضي الله عنه[(186)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (31/455، 478 ـ 479) وأبو داود (832) في كتاب «الصلاة» باب «ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة» والنسائي (2/143) وابن حبان (5/114) والدارقطني (1/313) والحاكم (1/241) من طريق إبراهيم السكسكي، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: فذكر الحديث.. بزيادة: قال: (يا رسول الله! هذا لله عزّ وجل، فما لي؟) قال: «قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني»، فلما قام قال هكذا بيده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما هذا فقد ملأ يده من الخير»، وهذه الزيادة لغير النسائي، ولابن حبان إلى قوله: (وعافني) لكن وقعت عنده من الطريق الآتي، وقد ذكر الحافظ أن الدارقطني صحح الحديث، ولم أجد ذلك في «سننه».
وإبراهيم السكسكي متكلم فيه، فضعفه أحمد، وشعبة على ما نقله عن ابن القطان، وقال النسائي: (ليس بذاك القوي، يكتب حديثه)[(187)].(1/60)
لكن روى له البخاري في «صحيحه»، فقد ذكر الحافظ أن البخاري روى له حديثين أحدهما: في التفسير، والثاني: في الرقاق، وهو ينتقي من حديث الضعيف المعتبر في مثل هذه الأبواب[(188)]، وقال ابن عدي: (لم أجد له حديثاً منكر المتن، وهو إلى الصدق أقرب منه إلى غيره، ويكتب حديثه، كما قال النسائي[(189)])، وقال ابن عبد الهادي: (صالح الحديث)[(190)]، وعلى هذا فهو حسن الحديث إن شاء الله.
وقد صحح الحديث شمس الحق آبادي[(191)]، وحسنه الألباني[(192)]، وقد تابع إبراهيمَ السكسكي طلحةُ بن مصرف عند ابن حبان (5/116) وفي إسناده الفضل بن موفَّق، ضعفه أبو حاتم وقال: (كان شيخاً صالحاً، وكان يروي أحاديث موضوعة)[(193)]، وإذا كان في سند هذا الحديث من يروي أحاديث موضوعة لم يصلح للتقوية، لكن يشهد لحديث الباب حديث المسيء كما تقدم أول «صفة الصلاة»، وقد احتج به الإمام أحمد على هذه المسألة، كما في «مسائل ابنه»[(194)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من عجز عن قراءة الفاتحة في الصلاة لضيق الوقت عن تعلمها، أو فقد معلم، أو نحو ذلك من الأعذار، فإنه يأتي بدلها بالأذكار الواردة في هذا الحديث، وليس في الحديث ما يقتضي التكرار، فالظاهر أنها تكفي مرة، ثم يركع، والله أعلم.
كيفية القراءة في الصلاة
286/20 ـ عَنْ أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي بِنَا، فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ـ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَينِ ـ بِفَاتِحَة الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَاناً، ويُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الأُولَى، ويَقْرَأُ في الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/61)
فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب «الأذان»، منها: باب «القراءة في الظهر» (759) ومسلم (451) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (في الأوليين..) بيائين تثنية الأُولى، والمراد الركعة الأولى والثانية، وكذا الأخريين مثنى الأخرى، والمراد الركعة الثالثة والرابعة من صلاة الظهر والعصر.
قوله: (بفاتحة الكتاب وسورتين) أي: في الركعتين، في كل ركعة سورة، لما ورد في رواية البخاري: (بفاتحة الكتاب وسورة سورة)[(195)]، والسورة: طائفة من القرآن الكريم مسماة باسم خاص، ذات أول وآخر.
قوله: (ويسمعنا الآية أحياناً) أي: يجهر بها حتى يُسمعها من خلفه، والآية لغة: العلامة، وسُمي بها الجزء من القرآن، لأنه علامة على أن القرآن كلام الله، أو لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصاله، أي: أنها علامة على أن الكلام له ابتداء وانتهاء، وقوله: (أحياناً) جمع حين، والحين هو الزمان قَلَّ أو كثر.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حتى الصلاة السرية، لأن أبا قتادة رضي الله عنه ذكرها في كل الركعات الأربع، وقد تقدم في أول «صفة الصلاة» أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بها المسيء في صلاته، وقال له: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الركعتين الأوليين في صلاتي الظهر والعصر، وفي حكمهما المغرب والعشاء، وكذلك الصبح، وقراءة السورة مع الفاتحة سنة على قول جمهور أهل العلم، لأنه لا يجب إلا الفاتحة، قال ابن قدامة: (لا نعلم خلافاً أن قراءة السورة بعد الفاتحة مسنونة)[(196)]، لكن لا ينبغي الاقتصار عليها.
قال في «الإقناع وشرحه»: (ويكره الاقتصار في الصلاة على الفاتحة، لأنه خلاف السنة المستفيضة)[(197)].(1/62)
الوجه الخامس: الحديث دليل على مشروعية تطويل الركعة الأولى على الثانية في صلاتي الظهر والعصر، وكذا صلاة الفجر.
ولعل هذا ـ والله أعلم ـ مقصود به أن يدرك الصلاة من لم يأت بَعْدُ، ولكون المصلين أقوى نشاطاً، وقد ورد في آخر حديث أبي قتادة بالإسناد المقدم: (فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى)[(198)].
وقد عارض ذلك حديث أبي سعيد الآتي الذي يدل على أن الركعتين الأوليين سواء في مقدار القراءة، وسيأتي بيان ذلك وتوجيهه إن شاء الله تعالى.
وتطويل الركعة الأولى على الثانية سنة أَخَلَّ بها كثير من الأئمة في هذا الزمان، لأنهم يقرأون بقصار السور، فتكون الركعتان الأوليان متقاربتين.
الوجه السادس: الحديث دليل على جواز الجهر ببعض الآيات في الصلاة السرية أحياناً، وذلك لتنبيه الغافل، أو لبيان أن الإمام يقرأ وأنه ليس بساكت، ويحتمل أن إسماعه صلّى الله عليه وسلّم من خلفه ليس مقصوداً، وإنما كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر، وقوله: (أحياناً) يدل على تكرر ذلك منه.
الوجه السابع: الحديث دليل على مشروعية الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأخريين من صلاة الظهر والعصر وكذا العشاء وثالثة المغرب.
وقد ورد في حديث أبي سعيد الآتي ما يفيد جواز الزيادة على الفاتحة، وسيأتي إن شاء الله الكلام على ذلك.
الوجه الثامن: استدل بالحديث من قال: إن قراءة سورة كاملة أفضل من قراءة بعض سورة طويلة، وذلك لارتباط بعضها ببعض في ابتدائها وانتهائها، بخلاف قدرها من سورة طويلة.
قال ابن القيم: (وكان من هديه صلّى الله عليه وسلّم قراءة السورة كاملة، وربما قرأها في الركعتين، وربما قرأ أول السورة، وأما قراءة أواخر السور وأوساطها فلم يحفظ عنه)[(199)].(1/63)
ولعل ابن القيم يقصد أنه لا يقرأ من أثناء السورة في الفريضة، وإلا فقد ثبت عنه أنه قرأ في سنة الفجر آيات من السور، فكان أحياناً يقرأ في الركعة الأولى {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}} التي في سورة البقرة [136]، وفي الثانية: {{آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}} التي في آل عمران [52]، وقد ورد ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما[(200)].
والقاعدة أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض ما لم يرد مخصص، وقد يؤيد ذلك عموم قوله تعالى: {{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}} [المزمل: 20] .
لكن السنة والأفضل أن يقرأ سورة كاملة في كل ركعة، ليبقى ارتباط الآيات بعضها ببعض، ولئلا يقف الإمام على ما لا ينبغي الوقوف عليه، فإن شق فلا حرج أن يقسمها بين الركعتين، فقد ورد عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: (صلى لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى ـ شك أحد الرواة ـ أخذت النبي صلّى الله عليه وسلّم سَعْلة فركع، وعبد الله بن السائب حاضر[(201)]).
وثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين[(202)]، وعلى الإمام أن يختار الموضع المناسب للوقف، والله تعالى أعلم.
مقدار القراءة في الصلاة
287/21 ـ عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ: {{الم *}{تَنْزِيلُ}} [السجدة: 1 ـ 2] . وَفِي الأُخْريَينِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ. وَفِي الأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قدْرِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، والأُخْرَيَينِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ.
رَوَاهُ مُسْلمٌ.(1/64)
288/22 ـ وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رحمه الله قَالَ: كَانَ فُلاَنٌ يُطِيلُ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي المغْرِبِ بِقِصَارِ المُفَصَّل وَفِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِهِ وفِي الصُّبْحِ بِطِوَالِهِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (مَا صَلَّيْتُ وَرَاء أَحَدٍ أَشْبَهُ صَلاَةً بِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ هذَا). أَخْرَجَهُ النَّسَائيُّ بِإسْنَادٍ صَحِيح.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو سليمان بن يسار الهلالي، مولى ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأخو عطاء بن يسار، من أهل المدينة، ومن كبار التابعين، كان فقيهاً فاضلاً، ثقة عابداً، ورعاً حجة، هكذا وصفه العلماء، كأبي زرعة والعجلي وغيرهما، روى عن عدد من الصحابة، وهو أحد الفقهاء السبعة، مات سنة مائة وثلاث، على أحد الأقوال، وكان مولده سنة سبع وعشرين، رحمه الله[(203)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث أبي سعيد، فأخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «القراءة في الظهر والعصر» (452) من طريق منصور، عن الوليد بن مسلم، عن أبي الصديق، وهو بكر بن عمرو الناجي، عن أبي سعيد رضي الله عنه به.
وأما حديث سليمان بن يسار، فقد أخرجه النسائي في كتاب «الافتتاح» باب «القراءة في المغرب بقصار المفصل» (2/167 ـ 168) من طريق الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما صليت وراء أحد أشبه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فلان، فصليت وراء ذلك الإنسان، وكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين)، هذا لفظ النسائي، وبه يتبين أن الحافظ تصرف في بعض ألفاظه.(1/65)
وأخرجه أحمد (14/102) بهذا الإسناد، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (ما رأيت رجلاً أشبه صلاةً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فلان)، لإمام كان بالمدينة، قال سليمان بن يسار: (فصليت خلفه، فكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل..)، ويظهر أن الحافظ لفق لفظ البلوغ من هذا وذاك، والله أعلم.
والحديث إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير الضحاك بن عثمان، فقد روى له مسلم، وقد تكلم فيه بعض الأئمة من قبل حفظه، ولخص الحافظ حاله في التقريب فقال: (صدوق يهم)، فيكون حديثه من قبيل الحسن إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (كنا نحزر) بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي ماضي حزر، من باب «نصر»، ومعناه: نَخْرُصُ ونقدر ونقيس، قال في «المصباح المنير»: (حزرت الشيء: قدرته، وحزرت النخل: خرصته»[(204)].
قوله: (قدر {{الم *}{تَنْزِيلُ}} [السجدة: 1 ـ 2] ) : قدرها ثلاثون آية، في كل ركعة من الأوليين في الظهر، كما ورد في حديث أبي سعيد عند مسلم بلفظ آخر، وسيأتي.
قوله: (قدر النصف من ذلك) أي: خمس عشرة آية في كل ركعة من الأخريين في الظهر، وظاهر هذا أنه كان يقرأ غير الفاتحة في الأخريين، كما سيأتي.
قوله: (كان فلان..) يريد به أميراً كان على المدينة، كما ورد في رواية أحمد المتقدمة.
قوله: (المفصل) أي: سور المفصل، وهو يبدأ من سورة (ق) إلى نهاية سورة (الناس) على أرجح الأقوال[(205)]، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز[(206)]، سمي المفصل لكثرة الفواصل بين سوره بالبسملة على الصحيح، وطوال المفصل من (ق) إلى (عبس)، وأوسطه منها إلى (الضحى) وقصاره منها إلى آخر المصحف، ويقابل المفصل المطوَّل، وهو من أول القرآن إلى الحجرات.(1/66)
الوجه الرابع: حديث أبي سعيد رضي الله عنه دليل على مشروعية تطويل القراءة في الأوليين من الظهر، وعلى استحباب التخفيف في العصر، وذلك بأن تكون القراءة في الأوليين على النصف من الظهر، وقد ورد حديث أبي سعيد: (كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك)[(207)].
وظاهر الحديث يقتضي أن الركعة الأولى والثانية سواء، وهذا يخالف حديث أبي قتادة رضي الله عنه المتقدم: (ويطول الركعة الأولى)، وفي رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم (كان يطول الركعة الأولى من صلاة الظهر، ويقصر في الثانية..)[(208)]، وقد اختلف العلماء في الإجابة عن ذلك:
فمنهم من سلك مسلك الترجيح فرجَّح حديث أبي قتادة على حديث أبي سعيد لأمرين:
الأول: أنه متفق عليه، وحديث أبي سعيد في مسلم فقط.
الثاني: أن حديث أبي قتادة جاء بصيغة الجزم، وحديث أبي سعيد قال: (حزرنا قيامه)، وفرق بين الجزم بالشيء وبين حزره وتقديره، على أنه قد يقال: إن التقدير بقراءة الآيات تقدير زمني، لا يلزم منه الفعل.
وسلك آخرون مسلك الجمع وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يفعل هذا أحياناً، ويفعل هذا أحياناً، وهذا وجيه جداً لأمرين:
الأول: أن القاعدة في الأصول أنه متى أمكن الجمع بين الدليلين فهو أولى من الترجيح، لأن الجمع عمل بكلا الدليلين، أما الترجيح ففيه ترك لأحدهما.
الثاني: أن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وقد تنوعت كثير من أقوالها وأفعالها، كما تقدم، وكما سيأتي، فيكون تنوع مقدار القراءة من هذا الباب، والله أعلم.(1/67)
الوجه الخامس: حديث أبي سعيد رضي الله عنه فيه دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ زيادة على الفاتحة في الأخرين، لأن الفاتحة سبع آيات، وقد ذكر أن قراءته فيها قدر خمس عشرة آية، وقد تقدم في حديث أبي قتادة أنه يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، فيؤخذ منه أنه لا يزيد على فاتحة الكتاب، قال ابن قدامة:(أكثر أهل العلم يرون أن لا تسن الزيادة على فاتحة الكتاب في غير الركعتين الأوليين...)[(209)] وهذا قول أصحاب الرأي ومالك وأحد قولي الشافعي، واعتبره النووي قولاً قديماً[(210)]، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة[(211)].
والقول الثاني: أنه يقرأ بسورة مع الفاتحة في الأخريين، وهو القول الآخر للشافعي، وهو المنصوص عليه في «الأم»[(212)]، ورواية عن أحمد، وعبر عنها صاحب «الإنصاف» بالسنية، ودليل هؤلاء حديث أبي سعيد هذا.
والظاهر أن يقال في الجمع بينهما مثل ما تقدم، بأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل هذا تارة، ويقتصر فيها على الفاتحة تارة، لكن ينبغي التنبه إلى أن المأموم إذا فرغ من الفاتحة قبل ركوع إمامه في الأخريين فإنه يقرأ سورة، لأن الصلاة لا سكوت فيها في مثل هذه الحال.
الوجه السادس: في حديث سليمان بن يسار إيضاح وتفصيل لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في القراءة في الصلوات الخمس، وأنه في الظهر يطيل، كما تقدم في حديث أبي قتادة، وفي العصر يخفف، كما في حديث أبي سعيد، وكان في العشاء يقرأ في الأوليين من أوساط المفصل، أما المغرب فكان يقصر فيها، فيقرأ مع الفاتحة بقصار المفصل، وهذا في بعض الأحيان، وليس يديم ذلك كما يوهمه ظاهر هذا الحديث، فإنه لم تكن سنته المداومة على القصار، بل كان يقرأ تارة بقصاره، وتارة بأوساطه، وقرأ بطواله، فقرأ بالطور، والمرسلات، وقرأ بـ{{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}} [محمد: 1] ، وقرأ بالأعراف في الركعتين، كما تقدم.(1/68)
وفي الفجر كان يقرأ من طوال المفصل، والإطالة فيها ـ والله أعلم ـ ليدركها المتأخر بنوم أو غفلة، ولأنها ركعتان، ولأن الناس بعد نوم وراحة فعندهم نشاط لسماع كلام الله تعالى والاستفادة منه ـ والله المستعان ـ، ولأن الملائكة تشهدها؛ ولهذا عبَّر الله تعالى عن صلاة الفجر بالقرآن في قوله: {{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *}} [الإسراء: 78] ، وذلك ـ والله أعلم ـ لمزيد العناية به فيها وإطالته.
فينبغي للإمام أن يتحرى الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويصلي مثل صلاته التي كان يصليها بأصحابه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وعلى الإمام أن يراعي حال من خلفه ممن يحتاج إلى التخفيف من كبير السن أو ضعيف القوة أو صاحب الحاجة، والله تعالى أعلم.
القراءة في صلاة المغرب
289/23 ـ عَن جُبَيْرِ بْنِ مُطعِم رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّور. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «الجهر في المغرب» (765) ومسلم (463) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: ... فذكره.
وقد رواه عن ابن شهاب ـ أيضاً ـ جمع، منهم: سفيان، وابن وهب، ومعمر، كما عند مسلم.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الجهر في صلاة المغرب، وبهذا بوب البخاري، كما تقدم.(1/69)
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية تطويل القراءة في صلاة المغرب في بعض الأحيان، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قرأ في المغرب بالطور، وهي من طوال المفصل، وفيه دليل على أنه لا ينبغي للإمام المداومة على قصار المفصل ـ كما تقدم ـ وقد ذكر ابن القيم أن المداومة خلاف السنة[(213)]، وهو فعل مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: (ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بطولى الطوليين)[(214)].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن أم الفضل بنت الحارث سمعته يقرأ بـ{{وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا *}} [المرسلات:1] فقالت: (يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها في المغرب[(215)]).
وعن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فرَّقها في ركعتين[(216)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة، وذلك لأن جبير بن مطعم حينما سمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم سورة الطور كان كافراً، وبَلَّغَها وهو مسلم، لأن العبرة بحال الأداء لا بحال التحمل، والله تعالى أعلم.
ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة
290/24 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ في صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: {{الم *}{تَنْزِيلُ}} [السجدة: 1 ـ 2] ، و{{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}} [الإنسان: 1] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
291/25 ـ وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «يُدِيمُ ذلِكَ».
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:(1/70)
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الجمعة» باب «ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة» (891) ومسلم (880) من طريق سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فقد رواه الطبراني في «الصغير» (2/80) قال: (حدثنا محمد بن بشر بن يوسف الأموي الدمشقي، حدثنا دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، عن عمرو بن قيس المُلائي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {{الم *}{تَنْزِيلُ}} [السجدة: 1 ـ 2] ، و{{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}} [الإنسان: 1] ، يديم ذلك).
قال الطبراني: (لم يروه عن عمرو بن قيس إلا ثور، ولا عن ثور إلا الوليد بن مسلم، تفرد به دحيم، ولا كتبناه إلا عن محمد بن بشر)، ورواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (52/150) من طريق الطبراني بدون هذه الزيادة.
قال الهيثمي: (رجاله موثقون)[(217)]، وشيخ الطبراني محمد بن بشر، له ترجمة في «تاريخ دمشق» وغيره، قال ابن عدي: (كان أروى الناس عن هشام بن عمار، كان عنده كتبه كلها وراقة)، وقال الدارقطني: (صالح)[(218)]، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام من جهة التدليس أو الاختلاط، كما يؤخذ من «التقريب».
وقد أخرجه ابن ماجه (1/270) من طريق عمرو بن أبي قيس، عن أبي فروة، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وليس فيه (يديم ذلك) والنفس لا تطمئن لثبوت هذه الزيادة، ثم إن أبا حاتم والدارقطني قد صوَّبا إرساله[(219)].(1/71)
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية قراءة هاتين السورتين في صلاة الفجر يوم الجمعة، كل سورة بكمالها، وذلك ـ والله أعلم ـ لاشتمالهما على ذكر مبدأ الخلق وغايته، وهو كائن في يوم الجمعة، فإن فيه تَمَّ خلق السماوات والأرض، وفيه خلق آدم، وفيه أُخرج من الجنة ليكون نسله في الأرض، وفيه تقوم الساعة، فيكون البعث والجزاء، فالمقصود أن يتذكر الناس بما كان في ذلك اليوم، وفي ذلك اعتبار، ويتذكروا ما سيكون، وفي ذلك استعداد.
وإذا كانت قراءتهما سنة ثابتة فينبغي للأئمة أن يحافظوا عليها، فإن من الأئمة من يتساهل بذلك فلا يقرؤها، بحجة أنها طويلة، وبعضهم يفرِّق سورة السجدة في الركعتين، وبعضهم يفرِّق سورة (هل أتى) في الركعتين، وكل هذا خلاف السنة.
وسياق الحديث عن أبي هريرة يشعر بمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم على قراءتهما أو الإكثار من ذلك، وفي حديث ابن مسعود الذي أشار إليه الحافظ التصريح بمداومة النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، لكن زيادة (يديم ذلك) غير محفوظة، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه لا ينبغي المداومة على قراءتهما، بحيث يتوهم الجهال أنها واجبة وأن تاركها مسيء، بل ينبغي تركها أحياناً لعدم وجوبها[(220)] وهذا مطلب صالح، لكن المحافظة على السنة كما حافظ عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى، وفي الإمكان التنبيه على أنها غير واجبة بالكلام والتذكير.
وَذَكَرَ ـ أيضاً ـ أنه لا يستحب أن يقرأ في فجر الجمعة بسورة فيها سجدة أخرى باتفاق الأئمة، لأن استحباب قراءة (الم) السجدة، و(هل أتى)، ليس لأجل السجدة، بل لأجل ما جاء في هاتين السورتين كما تقدم، والسجدة جاءت اتفاقاً، والله تعالى أعلم.
مشروعية السؤال عند آية الرحمة في صلاة النفل(1/72)
292/26 ـ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَا مَرّتْ بِهِ أَيَةُ رَحْمَةٍ إلاَّ وَقَفَ عِنْدَهَا يَسْأَلُ، وَلاَ آيَةُ عَذَابٍ إلاَّ تَعَوَّذَ مِنْهَا. أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، وَحَسَّنَه الترْمِذِيُّ. الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده» (871) والنسائي (3/225) والترمذي (262) وابن ماجه (1351) وأحمد (38/275 ـ 369) من طريق الأعمش قال: (سمعت سعد بن عبيدة، عن المستورد، عن صِلَةَ بن زُفَر، عن حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم»، وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلي»، قال: «وما مرَّ بآية رحمة إلا وقف عندها فسأل، ولا آية عذاب إلا تعوذ منها» )، وهذا لفظ أحمد، وإنما ذكرته لأنه قريب من لفظ «البلوغ».
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير مستورد ـ وهو ابن الأحنف ـ فإنه من رجال مسلم.
والحديث أصله في مسلم (772) مختصراً ومطولاً بهذا الإسناد، ولفظه: (قال: صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في الركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: «سبحان ربي الأعلى» فكان سجوده قريباً من قيامه).
وكان الأولى أن يشير الحافظ إلى أن الحديث أصله في مسلم، كما هي عادته في مثل ذلك، لا سيما أن الإسناد واحد.(1/73)
وقوله: (وحسنه الترمذي)، الموجود في جامع الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وكذا نقله المزي في «تحفة الأشراف» (3/41).
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه ينبغي للمصلي أن يتدبر ما يقرأه في الصلاة، وأن يسأل إذا مرَّ بآية فيها سؤال، وأن يتعوذ إذا مرَّ بآية فيها تعوُّذ.
وهذا كان في تهجده صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الليل، لأنه كان يطيل الصلاة، ويكثر القراءة، فكان يفعل ما ذكر، وهذا يدل على حضور القلب، والمبالغة في تدبر القرآن، ولم يحفظ عنه هذا الدعاء في الفرائض، ومن هنا اختلف العلماء في ذلك.
فذهب بعض العلماء إلى أن الفرض والنفل سواء، لأن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل.
والقول الثاني: أن هذا لا يشرع في صلاة الفرض، لا سيما في حق الإمام، لأن عدم نقله في الفرض يدل على أن الأَولى تركه لأمرين:
الأول: أنه لم ينقل فيما نعلم، ولو كان سنة لنُقل، لأن الصحابة رضي الله عنهم نقلوا صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم نقلاً دقيقاً، وقد نقلوا ذلك في النفل، ولم ينقلوه في الفرض، مع توفر الهمم والدواعي على نقله في الفرض أكثر من النفل، وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سكوته بين التكبير والقراءة، فلو كان يسكت عن القراءة للسؤال والتعوذ لنقل ذلك، لكن مع هذا فليس فيه دليل ينص على المنع، لأن غاية ما فيه أنه دعاء وتسبيح، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»[(221)].
الثاني: أن الدعاء في الفريضة لا سيما من الإمام قد يسبب التطويل على المأمومين، فيشق عليهم، والمطلوب هو التخفيف، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في باب «الإمامة».
هذا بالنسبة للإمام والمنفرد.(1/74)
أما المأموم فإن كان في صلاة السر فهو كالإمام والمنفرد، وإن كان في صلاة الجهر فإن أشغله السؤال والتعوذ عن الإنصات المأمور به كما لو كانت آية السؤال أو العذاب في أثناء قراءة الإمام فإنه يترك ذلك، وينصت لإمامه، إلا إن كان إمامه يسكت بحيث يتمكن من السؤال، فيكون حكمه كما تقدم، وإن لم يشغله بل أعانه على تدبر قراءة إمامه ولم يشغل من كان معه لم يكره له بل يستحب على أحد القولين، والله تعالى أعلم.
النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود
293/27 ـ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَلاَ وَإني نُهيتُ أَنْ أَقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ». رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود» (479) من طريق سفيان بن عيينة، أخبرني سليمان بن سحيم، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: «أيها الناس: إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عزّ وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم».
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فعظموا فيه الرب) التعظيم: وصف الرب بصفات العظمة والإجلال والكبرياء، والمراد هنا: سبحان ربي العظيم.(1/75)
قوله: (فقمن أن يستجاب لكم) بفتح القاف وكسر الميم بعدها نون صفة مشبهة أي: حقيق وجدير أن يستجاب دعاؤكم، ويجوز فتح الميم (قَمَنٌ) ويكون مصدراً فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، ومن كسر الميم ثَنَّى وجمع وأنَّث، لأنه صفة مشبهة، كما تقدم، ومثله: قمين، فإنه وصف.
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن قراءة القرآن في حال الركوع والسجود، وفي معنى ذلك ـ أيضاً ـ حديث علي رضي الله عنه قال: (نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أقرأ راكعاً أو ساجداً)، وفي رواية: (نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القراءة في الركوع والسجود، ولا أقول: نهاكم)[(222)].
وذلك لأن القراءة محلها القيام أو القعود في حق من يعجز عن القيام، والقرآن أشرف الكلام، فناسب أن يكون في حال القيام، وهي حال الرفعة تعظيماً لكلام الله تعالى وتكريماً للقارئ القائم مقام الكليم، أما الركوع والسجود فحالتا ذل وانكسار وانخفاض، فيناسب فيه تعظيم الرب ودعاؤه والتضرع بين يديه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على وجوب تعظيم الرب في حال الركوع ويكون ذلك بالصيغة الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه المتقدم: (.. ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم...، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى...). وقد ورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ *}} [الواقعة: 74] ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجعلوها في ركوعكم»، فلما نزلت: {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}} [الأعلى: 1] قال: «اجعلوها في سجودكم»[(223)]).
وظاهر الحديث أن ذلك واجب، وهو قول الإمام أحمد، وذهب الجمهور إلى أن ذلك سنة، وليس بواجب، بدليل حديث المسيء صلاته، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يعلمه التسبيح، ولو كان واجباً لأمره به، والقول بالوجوب هو الراجح، وأما دليل الجمهور فقد تقدم الجواب عن مثله في الكلام على حديث المسيء فراجعه.(1/76)
الوجه الخامس: مشروعية الدعاء في السجود والإكثار منه لأنه محل إجابة، وظاهر إطلاق لفظ: (الدعاء) أنه لا يختص بالمأثور، بل يدعو في صلاته في حال سجوده بأي دعاء كان من طلب خيري الدنيا والآخرة والاستعاذة من شرهما.
وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء»[(224)]، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في دعاء التشهد (ثم يدعو بما شاء). والله تعالى أعلم.
من أدعية الركوع والسجود
294/28 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه»، منها: في كتاب «الأذان» باب «التسبيح والدعاء في السجود» (817) ومسلم (484) من طريق منصور، عن أبي الضُّحَى[(225)]، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن»)، وهذا لفظ الصحيحين.
ومعنى: (يتأول القرآن) أي: يعمل ما أُمر به فيه، ويدل على ذلك لفظ الصحيحين بالسند المذكور: (ما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة بعد أن نزلت عليه: {{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *}} [النصر: 1] إلا يقول فيها: «سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»[(226)]).(1/77)
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية قول المصلي في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) وأنه ينبغي الإكثار منه، وهو يدل على جواز الدعاء في الركوع من المأثور، وإن كان الدعاء في السجود أكثر، لأنه أمر فيه بالاجتهاد في الدعاء، وهذا يشعر بتكثير الدعاء، بخلاف الركوع فالكثير فيه تعظيم الرب سبحانه وتعالى، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
حكم التكبير ومواضعه من الصلاة
295/29 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: إذَا قَامَ إلَى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثمَّ يَقُولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوع، ثُمَّ يَقُولُ وهو قَائمٌ: «رَبَّنا ولكَ الحَمْدُ»، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِداً، ثُمَّ يُكَبرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثمَّ يُكَبِّر حِينَ يَسْجُدُ، ثمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ، ثمَّ يَفْعَلُ ذلِكَ في الصَّلاَةِ كُلِّهَا، وَيُكَبِّر حِينَ يَقُومُ مِنَ اثْنَتَيْنِ بَعْدَ الجُلُوسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «التكبير إذا قام من السجود» (789) ومسلم (392) من طريق الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (... فذكره).
وهذا لفظ الصحيحين، إلا أن لفظ البخاري بهذا الإسناد: (ربنا لك الحمد) بدون واو، ومن طريق عبد الله بن صالح، عن الليث بالإسناد المذكور (ربنا ولك الحمد)، وقد أشار إليها البخاري.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (يكبر حين يقوم) أي يقول: الله أكبر، وقت قيامه للصلاة، وهي تكبيرة الإحرام.(1/78)
قوله: (سمع الله) أي: استجاب، والأصل في الفعل (سمع) أن يتعدى بنفسه، كقوله تعالى: {{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}} [المجادلة: 1] ، وقد يتعدى باللام إذا ضُمِّنَ معنى فعل آخر يتعدى باللام، وهو الفعل (استجاب) قال تعالى: {{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}} [آل عمران: 195] ، ولأن مجرد السمع لا يستفيد منه الحامد، فإن الله تعالى يسمع من حَمِدَهُ ومن لم يحمده، وإنما يستفيد بالاستجابة، لأن الذي يحمد الله تعالى يرجو الثواب، فإذا استجاب الله له فقد أثابه، وقد أشار ابن القيم إلى شيء من هذا[(227)].
قوله: (لمن حمده) أي: لمن وصفه بصفات الكمال حباً وتعظيماً.
قوله: (ربنا ولك الحمد) أي: يا ربنا، فهو منادى بحرف نداء مقدر، والواو عاطفة على مقدر، أي: يا ربنا أطعنا، ولك الحمد، فيكون في تقدير جملتين.
وهذا لفظ الصحيحين ـ كما تقدم ـ والصيغة الثانية: ربنا لك الحمد، وقد أخرجها البخاري وهي في حديث أبي هريرة، كما تقدم، وأخرجها مسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وسيأتي بعد حديث أبي هريرة هذا.
والصيغة الثالثة: اللهم ربنا لك الحمد، بزيادة (اللهم) وهي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وسيأتي، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما[(228)].
والصيغة الرابعة: اللهم ربنا ولك الحمد، وهي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه[(229)] وفيها من البلاغة تكرار النداء، فكأنه قال: يا الله يا ربنا.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية التكبير عند الدخول في الصلاة، وهو ركن لا تنعقد الصلاة إلا به، وعلى مشروعية التكبير حين الركوع، والسجود، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول.
وبهذا يتبين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكبر الله تعالى عند الافتتاح، وفي كل خفض ورفع، ما عدا الرفع من الركوع، وهذه التكبيرات واجبة على قول أحمد وجماعة من السلف والخلف[(230)]، وهو الراجح لما يلي:(1/79)
1 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كبر الإمام فكبروا»، فتدخل تكبيرات الانتقال في عمومه.
2 ـ مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه في كل صلاته فرضاً ونفلاً، وقد قال: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي»، فتكون هذه التكبيرات من تفسير الصلاة التي أمرنا بها.
3 ـ أن التكبير شعار الانتقال من ركن إلى آخر، لأن أفعال الصلاة هيئات، فلا بد من شعار يدل على الانتقال من هيئة إلى هيئة.
القول الثاني: أن التكبيرات ليست بواجبة بل هي مستحبة، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك والشافعي ورواية عن أحمد[(231)]، لحديث المسيء، والراجح ما تقدم، وحديث المسيء تقدم الجواب عنه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية قول: سمع الله لمن حمده حين الرفع من الركوع، وهذا في حق الإمام والمنفرد، وأما المأموم فإنه يقول: ربنا ولك الحمد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه»[(232)]، وإنما عُدل عن التكبير إلى هذا الذكر عند الرفع من الركوع، لأن القيام الذي بعده محل تحميد لله عزّ وجل يصدر من الإمام والمأموم.
الوجه الخامس: الحديث دليل على مشروعية قول: ربنا ولك الحمد بعد القيام من الركوع، وهذا في حق الإمام والمنفرد، إلا المأموم فيقولها حين الرفع من الركوع بدلاً عن: سمع الله لمن حمده.
وبهذا يتبين أن الإمام والمنفرد يقولان الجملة الأولى حين الرفع من الركوع والثانية بعد القيام، وأما المأموم فيقول الجملة الثانية فقط حين الرفع من الركوع، وهذا على أحد القولين لأهل العلم، وهو الراجح، لأن حديث أبي هريرة نص في الموضوع: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد..)، ولم يقل فقولوا: سمع الله لمن حمده، كما قال: إذا كبر الإمام فكبروا..، والله تعالى أعلم.
ما يقوله بعد الرفع من الركوع(1/80)
296/30 ـ عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّموَاتِ ومِلْءَ الأرْضِ، وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ ـ وَكلُّنَا لَكَ عَبْدٌ ـ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع» (477) من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قَزَعَةَ، عن أبي سعيد الخدري قال: ... فذكر الحديث.
وقد ورد ذلك ـ أيضاً ـ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم (478) من طريقين أحدهما مختصر، والآخر مثل حديث أبي سعيد رضي الله عنه، دون قوله: (أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد)، ومن حديث علي رضي الله عنه عند مسلم أيضاً (771) لكنه مختصر إلى قوله: (وملء ما شئت من شيء بعد).
وقد تقدم هذا الحديث في أدعية الاستفتاح، وورد الحديث أيضاً من طريقين عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه مختصراً، كحديث علي رضي الله عنه، وله طريق ثالث، وفيه زيادة: (اللهم طهرني بالثلج والماء والبرد...).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ملء السماوات وملءَ الأرض) ملء: بالنصب والرفع، والنصب أشهر، على أنه صفة لموصوف محذوف، وهذا الموصوف منصوب على المصدر، والعامل فيه المصدر قبله، والتقدير: حمداً ملءَ السماوات.(1/81)
والمعنى: حمداً لو كان أجساماً لملأ السماوات والأرض، والمقصود به التمثيل والتقريب، لا حقيقة ذلك، لأن الكلام لا يقدر بالمكاييل ولا تحشى به الظروف، وإنما المراد به: تكثير العدد وتعظيم الحمد وتفخيم شأنه، وأن الله تعالى محمود على كل فعل أو خلق في السماوات والأرض وما بينهما، ذكر معنى هذا الخطابي[(233)].
وأما الرفع فعلى أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو.
والسماوات بلفظ الجمع، وقد جاء في حديث ابن أبي أوفى بلفظ الإفراد (ملء السماء والأرض)، وفي حديث ابن عباس: (ملء السماوات وملء الأرض وما بينهما) بزيادة: (بينهما)، ولعل تركها في الأحاديث الأخرى لإرادة العلويات والسفليات منهما، وهي شاملة لما بينهما، لأنه لا يخلو عنهما، ومنه قوله تعالى: {{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}} [الأعراف: 54] ، وقوله تعالى: {{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}} [ق: 38] .
قوله: (وملء ما شئت من شيء بعدُ) ظرف مبني على الضم لقطعه عن الإضافة مع إرادة المضاف إليه، وهو السماوات والأرض.
وهذا إشارة إلى أن حمد الله تعالى لا منتهى له ولا يحصيه عاد، ولا يجمعه كتاب، فأحال الأمر فيه على مشيئة الله تعالى، وليس وراء ذلك للحمد منتهى.
قوله: (أهلَ الثناء والمجد) بالنصب على الاختصاص، أو على النداء ويجوز رفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي: أنت أهل الثناء والمجد.
والثناء: هو المدح بالأوصاف الكاملة، والمجد: هو العظمة ونهاية الشرف.
قوله: (أحقُّ ما قال العبد) بالرفع إما أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أحق ما قال العبد، والمراد ما سبق من الثناء والحمد، أحق ما قال العبد: أي: أصدقه وأثبته، وإنما جعل خبراً ليكون ما بعده مستأنفاً يتم الكلام بدونه، أو مبتدأ وجملة (لا مانع لما أعطيت) خبره، وجملة (وكلنا لك عبد) معترضة، لتأكيد التفويض لله تعالى.(1/82)
و(أل) في العبد إما للجنس، أو للعهد، والمراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والأول أظهر، لقوله: (وكلنا لك عبد).
قوله: (وكلنا لك عبد) فيها التنبيه على أنه تعالى مالك لجميع العباد، فإليه يرجع الأمر كله، ولم يقل: عبيد، مع عود الضمير على جمع، لأن القصد أن يكون الخلق بمنزلة عبد واحد وقلب واحد، قال تعالى: {{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا *}} [مريم: 93] .
قوله: (لا مانع لما أعطيت) أي: أردت إعطاءه، فإن من أعطى شيئاً لا مانع له، إذ الواقع لا يرتفع، ولا معطي لمن منعه الله، لأن قضاءه نافذ سبحانه وتعالى، فما قَدَّرَ عطاءه وُجِدَ، وما قدر منعه لا يوجد، فلا يستطيع أحد أن يغير شيئاً من ذلك، قال تعالى: {{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}} [فاطر: 2] .
قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) الجد: بفتح الجيم، هو الحظ والغنى والبَخْتُ، و(من) بمعنى: عند، والمعنى: لا ينفع صاحب الغنى عندك غناه ولا حظه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك، وإنما كان هذا أحق ما قال العبد لأن فيه التفويض إلى الله تعالى والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، وأن الحول والقوة والخير وغيره منه تعالى.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية هذا الذكر بعد الرفع من الركوع، للإمام والمنفرد والمأموم، في الفرض والنفل، لما فيه من حمد الله تعالى والثناء عليه، وكمال التفويض له سبحانه، والاعتراف بكمال قدرته وعظمته وانفراده بالوحدانية وتدبير مخلوقاته، والله تعالى أعلم.
الأعضاء التي يُسجد عليها(1/83)
297/31 ـ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ ـ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أنفِهِ ـ وَالْيَدَيْنِ، والرُّكْبَتَينِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْن». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «السجود على الأنف» (812) ومسلم (490) (230) من طريق عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فذكره..، وفيه زيادة: ولا نَكْفِتُ الثياب ولا الشعر).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: ( أُمرت) أي: أمرني الله عزّ وجل، وفي رواية للبخاري[(234)]: (أُمر النبي صلّى الله عليه وسلّم)، وفي رواية له ـ أيضاً ـ : (أمرنا)[(235)]، قال الحافظ: (لما كان هذا السياق يحتمل الخصوصية عَقَّبَهُ المصنف بلفظ آخر دال على أنه لعموم الأمة)[(236)].
قوله: (على سبعة أعظم) جمع عظم، وفي رواية للبخاري (أعضاء)[(237)]، جمع عضو، وهو الجزء المستقل من الجسد.
وقد ذكرها النبي صلّى الله عليه وسلّم إجمالاً، ثم فصلها ليكون أبلغ في حفظها وأشوق إلى تلقيها.
قوله: (على الجبهة) هي أعلى الوجه، وقال الأصمعي: (هي موضع السجود)[(238)].
قوله: (وأشار بيده إلى أنفه) أي: ولم يقل: والأنف، إشارة أنه ليس عضواً مستقلاً، بل تابع للجبهة وأنهما عضو واحد، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية، وقد ورد في حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عند مسلم: (الجبهة والأنف) وسيأتي.
قوله: (واليدين) أي: الكفين، كما في رواية مسلم[(239)].
وهذا التفسير متعين، لئلا يعارضه حديث: (لا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)، كما سيأتي.(1/84)
قوله: ( ولا نكفت الثياب ولا الشعر) ، الكفت: هو الضم والكف والجمع، يقال: كفت الشيء يكفته، من باب «ضرب»: ضمه وقبضه، وفي رواية: (ولا أكف ثوباً ولا شعراً)[(240)]، والمراد: شعر الرأس، والمعنى: لا نضمها ولا نجمعها، وذلك بأن يرفع ثوبه من أسفل عند السجود، أو يطويه حتى يحزمه على بطنه.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة وهي: الجبهة، ويتبعها الأنف، والكفان، والركبتان، وأطراف القدمين، وهذا على الراجح من قولي أهل العلم.
لأن الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بذلك، والأمر يقتضي الوجوب، والأمة تبع له في ذلك، ويؤيده رواية (أُمرنا) ـ كما تقدم ـ وهذا هو الأصل، أن الأوامر والنواهي توجه إليه، والأمة تبع له في ذلك، إلا ما دل الدليل على تخصيصه به.
والحكمة من السجود على هذه الأعضاء لأجل أن يشمل السجود أعالي الجسد وأسافله، وأعضاء كسبه وسعيه، فيكمل ذل العبد وعبادته لله عزّ وجل، لأن السجود عليها إذلال لها لله رب العالمين.
ويستثنى من ذلك من عجز عن السجود ببعض الأعضاء كإحدى يديه أو أنفه ونحو ذلك فإنه يسجد على بقية الأعضاء، لقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] .
الوجه الرابع: دل الحديث بمفهومه أنه لا يجوز للمصلي أن يرفع عضواً من أعضائه حال سجوده، كاليد والرجل أو الأنف ونحو ذلك، فإن فعل لم يصح سجوده؛ لأنه لم يسجد على هذا العضو الذي رفعه، وبه يتبين خطأ من يسجد على جبهته ويرفع أنفه، أو يرفع قدميه أو أحدهما، أو يضع أحدهما على الأخرى.
وهذا إن كان الرفع من ابتداء السجدة إلى آخرها، فإن رفع العضو ثم وضعه في أثناء السجدة فقد أدى الركن، لكن لا ينبغي له ذلك، لأن الأصل أن تبقى الأعضاء على الأرض مدة السجود.(1/85)
وقد ورد في حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أُمرت أن أسجد على سبع: الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين»[(241)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لم يَمُسَّ أنفُه الأرض»[(242)].
الوجه الخامس: ظاهر الحديث أنه لا يجب على المصلي كشف شيء من هذه الأعضاء لو كان مستوراً، بل يسجد على العضو ولو مع الساتر، كشراب الرجلين أو اليدين، أو ما يلبس في الشتاء غطاء للرأس والجبهة ونحو ذلك، لأمرين:
الأول: أن مسمى السجود يحصل بوضع الأعضاء على الأرض دون كشفها.
الثاني: ما ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن الحسن أنه قال: (كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويداه في كمه)[(243)].
أما سجود المصلي على حائل من غير أعضاء السجود فلا يخلو:
1 ـ إما أن يكون منفصلاً، كسجادة فلا بأس به ولا كراهة فيه، لما ورد عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى على الخُمْرة[(244)]، والخمرة: بالضم، على وزن غرفة، مصلى صغير يعمل من سعف النخل، سميت بذلك لسترها الوجه والكفين من حر الأرض وبردها[(245)].
لكن يستثنى من ذلك أن يخص جبهته بشيء يسجد عليه دون بقية بدنه، فهذا ينهى عنه لأمرين:
الأول: أن في ذلك موافقة للرافضة وتشبهاً بهم؛ لأنهم يسجدون على قطعة من المَدَرِ، كالفخار.
الثاني: رفع التهمة، والذي ينبغي للمسلم اتقاء مواضع التهم.
2 ـ وإن كان الحائل متصلاً بالمصلي كثوبه أو طرف عمامته أو طرف غطاء رأسه، فهذا يكره السجود عليه، إلا لحاجة كشدة حر، ونحوه، لحديث أنس رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود.(1/86)
وفي لفظ: (كنا نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه)[(246)]، قال الحافظ ابن حجر: (فيه إشارة إلى أن مباشرة الأرض عند السجود هو الأصل، لأنه علق بسط الثوب بعدم الاستطاعة)[(247)].
وبهذا تبين أن ما يفعله بعض المصلين من بسط طرف غطاء رأسه على الأرض عند السجود مع وجود الفرش في المساجد أن هذا لا ينبغي، لعدم الحاجة إليه، مع ما فيه من كثرة الحركة كلما أراد أن يبسط ذلك، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ما ذكروا إلا عند الحاجة، ولا حاجة مع فرش المساجد، اللهم إلا أن تكون الفرش فيها غبار والمصلي عنده حساسية فمثل ذلك عذر إن شاء الله تعالى.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن المصلي منهي عن كفّ ثوبه عند السجود، وذلك بأن يرفعه من أسفل، أو يطويه حتى يربطه على بطنه، لأن ذلك ليس من تمام الزينة التي تطلب من المصلي، وقد يكون من باب الكبر، لئلا يتلوث ثوبه إذا باشر التراب.
وقد ذكر النووي أن هذا النهي يراد به التنزيه، فلو صلّى كذلك فقد أساء، وصحت صلاته، وذكر أن الطبري احتج على ذلك بالإجماع[(248)]، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن البصري أن عليه الإعادة[(249)].
ولا يدخل في ذلك كف الغترة حول العنق يميناً أو شمالاً، لأنها تلبس على هذه الصفة، والله أعلم.
بيان ما يفعل باليدين عند السجود
298/32 ـ عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إبطَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
299/33 ـ وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا سَجَدْتَّ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ» رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/87)
وهو عبد الله بن مالك بن جندب الأزدي رضي الله عنه وبحينة اسم أمه، بنت الحارث بن عبد المطلب، فإذا قيل: عن عبد الله بن مالك ابن بحينة، فإنه يقرأ مالك بالتنوين، وابن بحينة بدل من عبد الله لا من مالك، ويكتب ابن بحينة بالألف، لأنه نُسب إلى أمه، ولأنه ليس صفة لمالك، بل صفة لعبد الله، وهو صحابي، وأبوه صحابي، وأمه صحابية، أسلم قديماً، وكان ناسكاً فاضلاً، وهو ممن روى صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ذكر ابن سعد إنه نزل بطن «ريم» على ثلاثين ميلاً من المدينة، وذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر الهجرة هبط بطن «ريم» ثم قدم قباء[(250)]، مات ابن بحينة في بطن «ريم» سنة ست وخمسين، على أحد الأقوال[(251)].
والراوي الثاني هو: البراء ـ بفتح الباء فراء مخففة ثم همزة ممدودة ـ ابن عازب بن الحارث الأوسي الأنصاري رضي الله عنهما، له ولأبيه صحبة، شهد غزوة أحد وما بعدها، ولم يحضر غزوة بدر لصغر سنه.
روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جملة من الأحاديث، وروى عن أبيه وأبي بكر وعمر وغيرهما من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وروى عنه من الصحابة: أبو جحيفة، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وعبد الله بن إياد، نزل الكوفة، ومات فيها سنة اثنتين وسبعين[(252)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما الأول فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «يبدي ضَبْعيه[(253)] ويجافي في السجود» (807)، ومسلم (495) من طريق جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن عبد الله بن مالكٍ ابن بحينة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم... فذكره.
وأما حديث البراء، فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «الاعتدال في السجود، ووضع الكفين على الأرض، ورفع المرفقين عن الجنبين، ورفع البطن عن الفخذين في السجود» (494) من طريق عبد الله بن إياد، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم... فذكره).
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:(1/88)
قوله: (إذا صلّى) أي: إذا سجد، وقد ورد بهذا اللفظ عند مسلم من طريق آخر.
قوله: (فرج بين يديه) بتشديد الراء، أي: باعد بين يديه، أي: عضديه مثنى عضد، وهو ما بين المرفق إلى الكتف، والمراد فرَّج بينهما وبين جنبيه، فنحى كل يد عن الجانب الذي يليها، بدليل ما بعده.
قوله: (حتى يبدو بياض إبطيه) أي: يظهر، وقوله: (إبطيه) مثنى: إبط، بكسر الهمزة وسكون الباء، وهو باطن المنكب، ويكون لونه أبيض من لون بقية الجلد غالباً لاختفائه عن المؤثرات الخارجية من الهواء والشمس، وإنما كان يرى بياضهما، لاحتمال أن شعر إبطيه صلّى الله عليه وسلّم كان خفيفاً، فلا يتضح للناظر من بُعْدٍ سوى بياض الإبطين، أو أنه كان صلّى الله عليه وسلّم ينتف إبطيه حتى تبقى بيضاء.
الوجه الرابع: الحديث دليل على هيئة السجود الموافقة للسنة، وهو ما اجتمع فيه ثلاث صفات:
الأولى: إبعاد العضدين عن الجنبين حال السجود والمبالغة في ذلك، وذلك لتنال اليدان حظهما من الاعتماد والاعتدال في السجود، ويبتعد الساجد عن مظاهر الكسل والفتور.
وهذه السنة مشروعة ما لم يؤذ من بجانبه، فإن حصل ذلك ترك المجافاة، لأن درء المفاسد بإشغال المصلين أو إيذائهم أولى من جلب المصالح بهذه الصفة.
وقد ورد في حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سجد لو شاءت بَهْمَةٌ أن تمر بين يديه لمرَّت)[(254)].
الصفة الثانية: وضع الكفين على الأرض، وهما من أعضاء السجود، كما تقدم، وقد دلّت السنة على بسطهما مضمومتي الأصابع إلى القبلة، كما سيأتي.
الصفة الثالثة: رفع الذراعين عن الأرض، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر برفعهما ونهى عن بسطهما، وقال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب»[(255)].(1/89)
وقد ذكر بعض الفقهاء أنه إذا طال السجود وراء الإمام فله أن يعتمد بمرفقيه على فخذيه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: اشتكى أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: «استعينوا بالرُّكَبِ»[(256)]، والصواب أنه مرسل، لكن يعضده عموم قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] [(257)] والله تعالى أعلم.
هيئة أصابع اليدين في الركوع والسجود
300/34 ـ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إذَا رَكَعَ فَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَإذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ. رَوَاهُ الحَاكِمُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه الحاكم مفرقاً في موضعين من المستدرك:
الأول: (1/224) من طريق عمرو بن عون، ثنا هشيم، عن عاصم بن كليب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا ركع فرَّج بين أصابعه).
والثاني: (1/226) من طريق الحارث بن عبد الله الخازن، ثنا هشيم به، بلفظ: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سجد ضم أصابعه).
وقال الحاكم عن كلا الإسنادين: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه).
وأخرجه بهذه الصفة ابن خزيمة (594، 642) من طريق الحارث بن عبد الله بهذا الإسناد.
وأخرجه ابن حبان (5/247، 248) في موضع واحد من طريق الحارث بن عبد الله بهذا الإسناد، وعلى هذا فلفظ «البلوغ» مثل لفظ ابن حبان، ولو عزاه إليه الحافظ لكان أحسن، أو جمع بينهما فقدم ابن حبان ثم الحاكم.
وقول الحاكم: (صحيح على شرط مسلم...) صحيح بالنسبة للإسناد الأول، وفيه نظر بالنسبة للإسناد الثاني، فإن الحارث بن عبد الله لم يخرج له مسلم، ولا أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد ذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: (مستقيم الحديث)[(258)]، وقال الذهبي: (صدوق)[(259)].(1/90)
وفي الإسناد هشيم، وهو ابن بشير، مدلس، وقد عنعنه، وقد نقل الحافظ عن الإمام أحمد أنه قال: (لم يسمع هشيم من عاصم بن كليب وذكر جماعة آخرين، وقد حدث عنهم)[(260)].
وقد حسن هذا الحديث الهيثمي[(261)] وقال الألباني: (صحيح، لولا عنعنة هشيم)[(262)]، وسكت عنه الحافظ هنا في «البلوغ».
وله شاهد من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: (ثم ركع فجافى يديه، ووضع يديه على ركبتيه، وفرج بين أصابعه)[(263)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن السنة في أصابع اليدين حال الركوع تفريجهما فوق الركبة كالقابض عليها، لأن ذلك أمكن من الركوع وأثبت لحصول تسوية ظهره برأسه، وهي سنة مطلوبة، كما تقدم.
أما في حال السجود فالسنة ضم الأصابع مع بسطها، ليحصل بذلك كمال استقبال القبلة بها، وهو أعون على تحملها في أثناء السجود، والله تعالى أعلم.
صفة قعود من صلى جالساً
301/35 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي مُتَرَبِّعاً. رَوَاهُ النَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه النسائي في كتاب «قيام الليل وتطوع النهار»، باب «كيف صلاة القاعد» (3/224) وابن خزيمة (1238) من طريق أبي داود الحَفَري[(264)] عن حفص، عن حميد، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ... فذكرته.
قال النسائي عقبه: (لا أعلم أحداً روى هذا الحديث غير أبي داود، وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ، والله تعالى أعلم).
وهذا الحديث صححه الحاكم (1/275) وسكت عنه الذهبي، وأخرجه ابن حبان (6/256 ـ 257) وصححه الألباني[(265)].
أما كلام النسائي فليس فيه الجزم بتضعيفه لأمرين:(1/91)
الأول: أن حكمه بالخطأ ظني، وأبو داود الحفري ـ وهو عمر بن سعيد بن عبيد ـ ثقة، ثم إن هذه الجملة الأخيرة لا توجد في «السنن الكبرى» (2/143) الذي هو أصل الصغرى «المجتبى»، بل قال مغلطاي: إنها في بعض النسخ من «المجتبى».
الثاني: أن أبا داود الحفري لم ينفرد به، فقد تابعه محمد بن سعيد الأصبهاني، ثنا حفص بن غياث به، أخرجه الحاكم (1/258) وعنه البيهقي (2/305)، قال الحافظ: (وفي هذا تعقب على النسائي في دعواه تفرد أبي داود الحفري)[(266)] والأصبهاني ثقة، وحفص بن غياث ثقة ـ أيضاً ـ إلا أنه في الآخر ساء حفظه، فقد يكون هذا الحديث مما أخطأ فيه[(267)]، وحميد هو الطويل كما في «الكبرى» وعند ابن حبان والبيهقي[(268)].
الوجه الثاني: استدل الفقهاء بهذا الحديث على أن الأفضل للمصلي إذا كان يصلي جالساً أن يتربع في محل القيام[(269)].
وصفة التربع: أن يجعل باطن القدم اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن القدم اليسرى تحت الفخذ اليمنى، ويضع الكفين على الركبتين، لأجل التفريق بين قعود القيام والقعود الذي في محله، إذ لو كان مفترشاً لم يكن هناك فرق بين الجلوس في محله وبين الجلوس الذي هو بدل من القيام.
قالوا: ولأن التربع أكثر راحة وخشوعاً، بخلاف ما إذا جلس على رجله اليسرى مفترشاً فقد يتعب، ولا سيما إذا طالت القراءة، كما في صلاة الليل، وهذا قول الجمهور.
ولو صلّى على غير هذه الحال أجزأ، لأن التربع ـ كما يقول المروزي ـ لم يأت في شيء من الأخبار إلا في هذا الحديث وفيه ما تقدم، ولم يثبت في كيفية جلوس المصلي قاعداً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء، وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: (صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)، وسيأتي إن شاء الله في باب «صلاة المسافر والمريض».(1/92)
ولم يذكر فيه صفة صلاته قاعداً، فدل على أنه يصلي قاعداً على أيّ حال شاء متوركاً أو مفترشاً أو متربعاً أو متوكئاً[(270)]، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد ثبت أنه صلى جالساً ولم يرد في ذلك بيان كيفية جلوسه[(271)]، والله تعالى أعلم.
ما يقول المصلي بين السجدتين
302/36 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي». رَوَاهُ الأرْبَعَةُ إلاَّ النَّسَائيَّ، وَاللَّفْظُ لأبي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (850) في كتاب «الصلاة»، باب «الدعاء بين السجدتين» والترمذي (284) وابن ماجه (898) والحاكم (1/262، 271) من طريق كامل أبي العلاء، حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم.. فذكره، وهذا لفظ أبي داود إلا أن فيه: (وعافني واهدني وارزقني) وعند الترمذي وابن ماجه: (واجبرني) بدل (عافني) وعند ابن ماجه: (وارفعني) بدل (اهدني) فتكون الكلمات بمجموع الروايات سبع كلمات.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وكامل بن العلاء التميمي ممن يجمع حديثه).
وقد تفرد أبو العلاء بهذا الحديث، وهو مختلف فيه، فقد وثقه ابن معين، ويعقوب بن سفيان، وقال ابن عدي: (أرجو أن لا بأس به)، وقال النسائي: (ليس بالقوي)، وقال في موضع آخر: (ليس به بأس)[(272)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق يخطئ)، وبقية رجاله رجال الشيخين.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (اغفر لي) فعل دعاء من: غفر يغفر غفراً، من باب «ضرب» وأصل الغفر: الستر والتغطية، والمغفرة من الله تعالى ستره للذنوب، ووقاية العبد آثامها، بعفوه عنها بفضله ورحمته.(1/93)
قوله: (وارحمني) فيه طلب رحمة الله عزّ وجل التي يتم بها حصول المطلوب، بعد أن سأل المغفرة التي يتم بها زوال المرهوب.
والرحمة صفة من صفات الله تعالى تقتضي إنعامه وإحسانه على عبده من إيجاده، ثم هدايته في الدنيا إلى ما يصلحه، ثم إسعاده في الآخرة إن آمن واتقى، وكل ما لله تعالى على خلقه من الإحسان والإنعام فهو شاهد برحمة تامة وسعت كل شيء، فلا حدود ولا منتهى لرحمة الله تعالى.
قوله: (واهدني) فعل دعاء يراد به طلب الهداية، والمعنى: دلني وألزمني، وهذا يشمل هداية الدلالة إلى طريق الحق والصواب، وهداية التوفيق للإيمان والعلم النافع والعمل الصالح.
قوله: (وعافني) فعل دعاء يراد به طلب العافية، وذلك بأن يرفع الله عنه الأسقام والبلايا، فإن كان مريضاً في بدنه فعليه أن يستحضر ذلك حال الدعاء، وأعظم الأمراض وأكثرها مرض القلوب إما بالشهوات المهلكة، أو بالشبهات المضلة، وذلك ـ والعياذ بالله ـ سبب شقاوة العبد، فعلى العبد أن يستحضر ذلك ـ أيضاً ـ.
قوله: (وارزقني) فعل دعاء يراد به طلب الرزق، وهو اسم عام لما يقوم به الدين من العلم والإيمان والعمل الصالح، وما يقوم به البدن من طعام وشراب ولباس وسكن، فعلى العبد أن يستحضر هذه المعاني العظيمة عند هذا الدعاء.
قوله: (واجبرني) الجبر: مأخوذ من جبرت الوهن والكسر إذا أصلحته، فالجبر يكون من النقص الذي يعتري العبد في جميع أحواله، وهذا دعاء بالجبر الذي حقيقته إصلاح العبد ودفع جميع المكاره عنه، والله جل وعلا يجبر ضعف الضعفاء من عباده، ويجبر كسر القلوب المنكسرة من أجله، الخاضعة لعظمته وجلاله، بما يفيض عليها من أنواع كراماته وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية، ويجبر المصاب فيوفقه للثبات والصبر ويعوضه من مصابه أعظم الأجر إذا قام بواجب ذلك.
قوله: (وارفعني) دعاء بطلب الرفعة، وهذا شامل للرفعة في الدنيا بعلو المنزلة والذكر الحسن، والرفعة في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة.(1/94)
الوجه الثالث: استدل الفقهاء بهذا الحديث على مشروعية هذا الدعاء في الجلسة بين السجدتين، وقد ورد في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي، رب اغفر لي»[(273)]، فالجلوس بين السجدتين محل دعاء، فينبغي للمصلي أن يدعو بهذا الدعاء المأثور، وإن أضاف إليه دعاء بسؤال الجنة أو النجاة من النار أو صلاح قلبه أو عمله أو صلاح المسلمين وما أشبه ذلك فلا بأس به.
وقد جاء في بعض الروايات تقييده بصلاة الليل، وهذا لا ينفي مشروعية هذا الدعاء في الفريضة، لما تقدم من أن ما جاز في النفل جاز في الفرض، إلا ما دل الدليل على تخصيصه به، وقد حكى الترمذي ذلك عن الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال: (إنهم يرون هذا جائزاً في المكتوبة والتطوع)[(274)].
وقد نص الفقهاء ـ ومنهم الحنابلة ـ على أن الواجب من ذلك مرة واحدة، والأفضل أن يكررها، لحديث حذيفة رضي الله عنه.
والدعاء بما جاء في هذا الحديث يتضمن جلب خير الدنيا والآخرة، ودفع شر الدنيا والآخرة، فإن الرحمة تُحصِّل الخير، والمغفرة تقي الشر، والهداية توصل إلى هذا وهذا، والرزق ما به قوام البدن والروح والقلب، كما تقدم[(275)].
حكم الجلوس بعد السجود قبل النهوض للثانية أو الرابعة
303/37 ـ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه أَنَّهُ رأَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، فَإذَا كَانَ فِي وَتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً. رَوَاهُ الْبُخَاريُّ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب«الأذان»، باب «من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض» (823) من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، قال: (أخبرنا مالك بن الحويرث الليثي.. فذكره).(1/95)
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الجلوس قليلاً إذا نهض من السجود إلى القيام عقب الفراغ من الركعة الأولى والثالثة، وهو المراد بقوله: (فإذا كان في وتر من صلاته..)، وتسمى هذه الجلسة جلسة الاستراحة، وهي جلسة لطيفة تسكن فيها حركة الجوارح سكوناً بيناً، كالجلوس بين السجدتين، وليس فيها ذكر ولا دعاء.
وقد اختلف العلماء فيها هل هي من سنن الصلاة وهيئاتها كالتجافي وغيره، أو أنها لا تشرع إلا عند الحاجة، على قولين:
الأول: أنها سنة من سنن الصلاة، وهذا هو المشهور عن الإمام الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد[(276)] وانتصر له النووي[(277)]، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز[(278)] لحديث مالك هذا، ولحديث أبي حميد الساعدي عندما وصف صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في عشرة من الصحابة، فقد ورد فيه ثم عاد فسجد، ثم رفع رأسه، وقال: (الله أكبر، ثم ثنى رجله اليسرى، ثم قعد عليها حتى رجع كل عظم إلى موضعه، ثم قام...)[(279)].
فتكون هذه الجلسة ثبتت في المعنى عن أحد عشر صحابياً، أبو حميد وتسعة معه، ورواية مالك بن الحويرث التي معنا.
وقد ورد ذكر جلسة الاستراحة في حديث المسيء صلاته من طريق ابن نمير، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)[(280)].
ولو أخذ على ظاهره لدلَّ على وجوب جلسة الاستراحة، وهذا لم يقل به أحد ـ كما ذكر الحافظ ـ لكن نبه البخاري على وهم هذه اللفظة، فإنه عقبه بقوله: قال أبو أسامة في الأخير: (حتى تستوي قائماً)[(281)]، وأخرجه البيهقي من طريق أبي أسامة بهذا اللفظ، وأشار إلى الوهم[(282)]، ثم إن جلسة الاستراحة ليس فيها طمأنينة، فهذا مما يدل على ضعفها، وعلى فرض أن هذه اللفظة محفوظة فإنها تحمل على الجلوس للتشهد، فهو الذي يناسبه الطمأنينة، والله أعلم.(1/96)
القول الثاني: أنها ليست بسنة من سنن الصلاة، وإنما السنة أن ينهض على صدر قدميه ولا يجلس، وهذا القول حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم[(283)]، وهؤلاء من أحرص الناس على مشاهدة أفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم وهيئاته في الصلاة، وقد ساق ابن المنذر، ومن قبله ابن أبي شيبة ما ورد عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد صحيحة[(284)].
قال النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة والثالثة قام هو ولم يجلس[(285)].
وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، والمشهور من مذهب أحمد، وعزاه النووي إلى الكثيرين أو الأكثرين[(286)].
وحملوا الأحاديث الواردة فيها على أنها فُعِلَتْ بسبب الضعف للكبر، لا لأنها مقصودة للقربة، لأن مالك بن الحويرث إنما قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن كبر صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أثناء تجهزه لغزوة تبوك، وهي سنة تسع، فكان يجلس هذه الجلسة لكبره، فمع هذا الاحتمال لا تثبت المشروعية على وجه الإطلاق.
قالوا: ولأنها لو كانت سنة دائمة لذكرها كل من وصف صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لتوفر الهمم والدواعي على نقلها، ومن هؤلاء صحابة ملازمون للنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما تقدم.
وقد ذكر الأصوليون في مبحث الأفعال النبوية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد يفعل العبادة بأجزائها الواجبة والمندوبة كالصلاة ـ مثلاً ـ بياناً لقوله تعالى: {{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} [البقرة: 43] ، ويفعل في أثنائها بعض الأفعال المباحة، كما وقع في الحج، ولذا قال أبو الحسن التميمي: (الذي انتهى إليَّ من قول أبي عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ أن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم موقوف على ما يضامه من الدليل)[(287)].(1/97)
وهذا كلام دقيق، فقد تكون جلسة الاستراحة مما فعله صلّى الله عليه وسلّم بياناً، وقد تكون من الأفعال المباحة للحاجة إليها ـ كما تقدم ـ ويكون دليل ذلك ما انضم إليه من أن واصفي صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذكروها.
قال القاضي عياض بعد حكايته قول الشافعي المتقدم: (وقال مالك في كافة الفقهاء.. لا يجلس ولكن ينهض كما هو، وحملوا حديث ابن الحويرث على أنه كان من فعله عليه السلام ليدل على الجواز أو لشكوى)[(288)].
قال الحافظ قاسم بن قُطْلُوبُغا لما ذكر ما ورد عن الصحابة أنهم ينهضون على صدور أقدامهم: قال الشيخ الإمام مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني في شرح «هداية أبي الخطاب»: (وقد أجمع الصحابة على ذلك، فلا جرم حمل حديث مالك بن الحويرث وما في معناه على ما ذكر القاضي رحمه الله عن كافة الفقهاء رحمهم الله)[(289)].
وقد اختار هذا القول جمع من أهل العلم منهم ابن القيم[(290)]، والشيخ عبد الرحمن السعدي[(291)]، والشيخ محمد بن إبراهيم[(292)].
لكن من أخذ بالقول الأول وهو أنها سنة فله ذلك، إلا إذا كان مأموماً فإنه لا يجلس جلسة الاستراحة، بل يتابع إمامه فيقوم معه، لأن أفعال المأموم تقع بعد أفعال الإمام بدون مهلة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ركع فاركعوا وإذا سجد فسجدوا وإذا كبر فكبروا...».
ولهذا إذا ترك الإمام التشهد الأول وجب على المأموم متابعته في ترك الواجب، ولا يجوز له أن يتأخر عنه ليفعله، فإذا كان يتابعه في ترك الواجب فلأن يتابعه في ترك المستحب من باب أولى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأقوى أن متابعة الإمام أولى من التخلف لفعل مستحب، والله أعلم)[(293)].
مشروعية القنوت في النوازل
304/38 ـ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَنَتَ شَهْراً، بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مَنَ أحياء الْعَرَبِ، ثمَّ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/98)
305/39 ـ وَلأحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنيِّ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَزَادَ: فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.
306/40 ـ وَعَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ لاَ يَقْنُتُ إلا إذَا دعَا لِقَوْمٍ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ. صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
307/41 ـ وعَنْ سَعد بْنِ طَارقٍ الأشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لأبِي: يَا أَبَتِ! إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَأَبِي بكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَليٍّ، أَفَكانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، إلاَّ أَبَا دَاوُدَ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي الكوفي، وثقه أحمد وابن معين والعجلي، وقال ابن عبد البر: (لا أعلمهم يختلفون في أنه ثقة عالم)، روى له البخاري في التعاليق، وروى له مسلم والأربعة، مات في حدود الأربعين بعد المائة.
وأبوه طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي، قال البخاري: (له صحبة)[(294)]، سكن الكوفة، قال مسلم: (تفرد ابنه بالرواية عنه)، وله عنده حديثان: أحدهما في كتاب «الإيمان»، والثاني في «الدعوات»[(295)].
الوجه الثاني: في تخريجها:
أما الحديث الأول فقد أخرجه البخاري في كتاب «المغازي»، باب «غزوة الرجيع، ورِعْلٍ وذكوان...» (4089)، ومسلم في كتاب «المساجد»، باب «استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزل بالمسلمين نازلة» (677) (304) من طريق هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.
والحديث الثاني: أخرجه أحمد (20/95) والدارقطني (2/39) من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه به، ولفظ أحمد: (ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا).(1/99)
وعند الدارقطني: قال الربيع بن أنس: (كنت جالساً عند أنس بن مالك فقيل له: إنما قنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهراً، فقال: ما زال رسول الله يقنت الغداة حتى فارق الدنيا)، وهذا الحديث ضعيف، لأن فيه ثلاث علل:
الأولى: سوء حفظ أبي جعفر الرازي، وهو عيسى بن ماهان، قال عنه أحمد والنسائي: (ليس بالقوي)، وقال أبو زرعة: (شيخ يهم كثيراً)، وقال ابن حبان: (يحدث بالمناكير عن المشاهير)[(296)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق سيئ الحفظ).
الثانية: أن الربيع بن أنس البكري صدوق له أوهام، كما قال الحافظ في «التقريب»، قال ابن حبان: (الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في حديثه اضطراباً كثيراً)[(297)].
الثالثة: نكارته لمخالفته ما ثبت في الصحيحين، كما في اللفظ الأول الدال على أنه صلّى الله عليه وسلّم قنت شهراً يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه، فيكون متنه مخالفاً لرواية الثقات ممن هم أكثر عدداً، وأوثق رواية، وهم الذين نفوا قنوته صلّى الله عليه وسلّم على الدوام.
وأما الحديث الثالث فقد أخرجه ابن خزيمة (620) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.. فذكره.
قال ابن عبد الهادي: (هذا إسناد صحيح، والحديث نص في أن القنوت مختص بالنازلة)[(298)]، وصححه أيضاً الألباني[(299)].
وأما الحديث الرابع، فقد أخرجه النسائي في كتاب «التطبيق»، باب «ترك القنوت» (2/203) والترمذي (402) وابن ماجه (1241) وأحمد (25/214) من طريق يزيد بن هارون، عن أبي مالك الأشجعي، سعد بن طارق قال: قلت لأبي.. فذكره، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:
قوله: (قنت شهراً) القنوت في اللغة يطلق على عدة معانٍ منها: دوام الطاعة، وطول القيام، والسكوت، والدعاء، وهو أشهرها.
وعند الفقهاء: القنوت: الدعاء في الصلاة قائماً، وهذا معنى (قنت) هنا.(1/100)
قوله: (يدعو على أحياء من أحياء العرب) الأحياء: جمع حي، والحي: القبيلة من العرب، والمراد بهم ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سبعين رجلاً لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيَّان من بني سُليم: رِعْلٌ وذكوان عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقتلوهم، فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم شهراً في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت)[(300)]، وقد ذكر ابن هشام أن سرية بئر معونة سنة أربع من الهجرة[(301)].
قوله: (يا أبتِ) منادى حذفت منه ياء المتكلم، وعوض عنها تاء التأنيث، وبنيت على الكسر لتدل على الياء المحذوفة، والأصل: يا أبي، ومنه قوله تعالى: {{إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ يَاأَبَتِ}} [مريم: 42] فقد قرأ السبعة إلا ابن عامر بالكسر، وهذا هو الأكثر في هذا المنادى، وهو كلمة (أب) المضاف للياء.
قوله: (أي بني) منادى بـ(أي)، والأصل أنها لنداء البعيد، لكن قد ينزل القريب منزلة البعيد للإشعار بأنه رفيع القدر ذو مكانة عالية.
قوله: (محدث) أي: أمر مبتدع في الدين لم يرد به الشرع، والظاهر أن المراد بذلك المداومة على القنوت وأن ذلك محدث، لأنه إنما يشرع عند الحاجة إليه في بعض الأحيان كما سيأتي، ويحتمل أنه ما صلى خلفهم في الوقائع فسماه محدثاً، والعلم عند الله تعالى.(1/101)
الوجه الرابع: الأحاديث الثلاثة دليل على مشروعية القنوت في النوازل، وقد نقل ابن منظور عن ابن سيده أنه قال: النازلة: الشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس[(302)]، نسأل الله العافية، وقد مثل لها العلماء بالزلازل والجدب والسيول والمجاعات ونحو ذلك، والظاهر أن هذه لا قنوت فيها، لأنها أمر نزل من الله تعالى، بل يشرع له ما دلَّت عليه السنة من صلاة الاستسقاء عند الجدب، وما ورد من بعض الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في الصلاة عند الزلزلة، كما سيأتي ذلك إن شاء الله.
وإنما يشرع القنوت عند تسلط الأعداء على المسلمين وديارهم، فيدعو لهم ويدعو على أعدائهم، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم على من قتل القراء في بئر معونة، ودعا للمستضعفين من أهل مكة، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد»، ثم يقول وهو قائم: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لَحيان ورِعْلاً وذكوان»[(303)] ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سَمَّى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسناً)[(304)].
فعلى الإمام في قنوت النازلة أن يلزم الاختصار وأن يدعو بالدعاء المناسب لذلك، وأن يبتعد عن الإطالة أو التفاصيل التي لا داعي لها، لأن ذلك أجمع للقلب، وأقرب إلى المراد، وأبعد عن المشقة على المأمومين.(1/102)
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن القنوت يكون بعد الرفع من الركوع، وعلى هذا أكثر الأحاديث، ويجوز القنوت قبل الركوع، لما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقد سئل عن القنوت بعد الركوع أو عند فراغه من القراءة؟ قال: (لا، بل عند الفراغ من القراءة)[(305)].
وعن أنس أنه سئل عن القنوت فقال: (قبل الركوع وبعده)[(306)]، ومن أبواب البخاري باب (القنوت قبل الركوع وبعده).
ولعل الحكمة ـ والله أعلم ـ في كون القنوت في حال الاعتدال دون حال السجود الذي هو مظنة الإجابة، لأن المطلوب في قنوت النازلة أن يشارك المأموم إمامه في الدعاء ولو بالتأمين، ولهذا اتفقوا على أنه يجهر به، أفاد ذلك الحافظ[(307)].
الوجه السادس: المتتبع للسنة يجد أن أكثر الأحاديث تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقنت عند الحاجة والنازلة في صلاة الفجر، وقد تقدم في حديث أنس في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة (فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم شهراً في صلاة الغداة).
وكذا ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما[(308)]، وحديث أبي هريرة[(309)] رضي الله عنه.
وقد وقع الخلاف بين العلماء في هذه المسألة، وهي تعيين الصلاة التي يقنت فيها، والتحقيق في ذلك أنه يقنت بعد الرفع من الركوع في آخر ركعة من كل فريضة من الصلوات الخمس التي ورد القنوت فيها، لا سيما أول نزول النازلة، لأن الناس أحوج إلى كثرة الدعاء، فإذا خَفَّتِ النازلة قنت في الفجر والمغرب، فإذا خفت قنت في الفجر، فإذا أقلعت أمسك عن القنوت.
فقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقنت في صلاة المغرب والفجر[(310)]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لأقربن لكم صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر والعشاء الأخيرة، وصلاة الصبح بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده»، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار[(311)]).(1/103)
الوجه السابع: حديث أبي مالك الأشجعي فيه دليل على أن الاستمرار في القنوت في صلاة الفجر محدث وليس بمشروع، وإنما يفعل ذلك عند الحاجة في بعض الأحيان، لأن أباه قد صلّى خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن عشر سنين، وصلّى وراء الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ولم يسمع أحداً منهم يقنت في الفجر بغير سبب، ولو كان سنة راتبة لكانت الهمم والدواعي متوفرة على نقله، ولم يتركه الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما الخلفاء الراشدون الذين يؤمون الناس، فمثل ذلك لا يخفى.
وما ورد من أحاديث تدل على المداومة فهي ضعيفة لا تقوم بها حجة، ثم هي معارضة بما هو أقوى منها، والله تعالى أعلم.
ما يقال في قنوت الوتر
308/42 ـ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَليٍّ رضي الله عنهما قَالَ: عَلّمَنِي رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيما أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.
وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: «وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ».
زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي آخِرِهِ: «وَصَلَّى اللهُ عَلَى النَّبِيِّ».
309/43 ـ وَلِلْبَيْهَقيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُعَلِّمُنَا دُعَاءً نَدْعُو بِهِ في الْقُنُوتِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ. وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/104)
هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، سِبْطُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وريحانته، ولد في النصف من شهر رمضان، سنة ثلاث من الهجرة على الصحيح، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سِنُّهُ وقت وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمان سنوات، ومع ذلك حفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث، وكان حليماً ورعاً فاضلاً، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة، وإليه مرة، ويقول: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به فئتين من المسلمين»[(312)]، وقد وقع ذلك عندما بايعه الناس بعد أبيه، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء خراسان، ثم جمع الجيوش العظيمة وخرج إلى الشام لقتال معاوية الذي كان والياً عليها وقت ولاية أبيه علي رضي الله عنه على العراق، فالتقى الجيشان في موضع يقال له: (مَسْكِن)، فهال الحسن أن يقتتل المسلمون، فخلع نفسه من الخلافة، وسَلَّمَ الأمر لمعاوية، حقناً للدماء، وجمعاً للكلمة، وشرط على معاوية شروطاً للصلح، وصار ذلك من مناقبه العظيمة، وتحقق بذلك ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم، وانصرف الحسن إلى المدينة، وبقي بها إلى أن مات، سنة خمسين على أحد الأقوال[(313)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «القنوت في الوتر» (1425) والترمذي (464) والنسائي (3/248) وابن ماجه (1178) وأحمد (3/245) من طريق أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء السعدي قال: (قال الحسن بن علي: ... فذكره).
وإسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات، قال الترمذي: (هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه.. ولا نعرف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في القنوت في الوتر شيئاً أحسن من هذا).(1/105)
وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وصححه النووي، والألباني[(314)]، لكن طعن بعض الحفاظ كابن خزيمة في لفظة: (في قنوت الوتر) وذلك لأن شعبة رواه عن بُريد بن أبي مريم كما في «المسند» (3/248 ـ 249) ولم يذكر القنوت ولا الوتر، ولفظه: (كان يعلمنا هذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت...)، وشعبة أوثق من كل من رواه عن بُريد، كأبي إسحاق وابنه يونس، وعلى قاعدة المحققين في زيادة الثقة يحكم على هذه اللفظة بالشذوذ، ولا يكون هذا الدعاء مختصاً بالقنوت[(315)].
وأخرجه الطبراني في الكبير (3/73) رقم (2707) وفي «الدعاء» (744) من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة به، بزيادة: (ولا يعز من عاديت)، وهي زيادة شاذة تفرد بها عمرو بن مرزوق عن جميع من رووه عن شعبة[(316)].
وأخرجه النسائي من وجه آخر ـ كما قال الحافظ ـ فقال في «السنن»: (3/248) حدثنا ابن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن علي، عن الحسن بن علي قال: (علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء الكلمات في الوتر قال: قل: «اللهم اهدني فيمن هديت..» ، وفي آخره قال: «تباركت ربنا وتعاليت، وصَلَّى الله على النبي محمد»).
وإسناد هذه الزيادة ضعيف، قال الحافظ ابن حجر: (هذه الزيادة في هذا السند غريبة لا تثبت، لأن عبد الله بن علي لا يعرف، وقد جوَّز الحافظ عبد الغني أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي، وجزم المزي بذلك، فإن يكن كما قال فالسند منقطع[(317)]...)، وجزم في «التلخيص» بأن السند منقطع[(318)]، وذلك لأن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي، والده علي بن الحسين المعروف بزين العابدين، وقد أدرك من حياة عمه الحسن رضي الله عنه نحو عشر سنين، فكيف يكون عبد الله قد سمع من الحسن بن علي، فالسند ضعيف إما لانقطاعه بهذا الاعتبار، أو لجهالة راويه على الاعتبار الأول.(1/106)
وقد رواه الحاكم (3/172) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن الحسن به، ولم يذكر الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإسماعيل بن إبراهيم وثقه ابن معين، والنسائي، وقال أبو حاتم (لا بأس به)، وقال الدارقطني: (ما علمت إلا خيراً، أحاديثه صحاح نقية) وهذا بخلاف يحيى بن عبد الله بن سالم فقد قال فيه النسائي: (مستقيم الحديث) وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: (ربما أغرب)[(319)] ووثقه الدارقطني، ونقل الساجي عن ابن معين أنه قال فيه: (صدوق، ضعيف الحديث)[(320)].
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/209) من طرق عن عبد المجيد بن أبي روَّاد، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن هرمز أن بُريد بن أبي مريم أخبره قال: (سمعت ابن عباس ومحمد بن علي وهو ابن الحنفية بالخيف يقولان: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات: «اللهم اهدني فيمن هديت...»).
وأخرجه البيهقي أيضاً (2/210) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا ابن جريج به، عن عبد الله بن عباس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح: «اللهم اهدنا فيمن هديت..» )، فجعله من مسند ابن عباس وحده.
وهذا إسناد ضعيف، قال الحافظ: (ابن هرمز المذكور شيخ مجهول، والأكثر أن اسمه عبد الرحمن، وليس هو الأعرج الثقة المشهور، وصاحب أبي هرمز)[(321)]، وقال الألباني: (لم أجد من ذكر عبد الرحمن هذا، أما الأعرج فهو ثقة معروف)[(322)]، وعلى هذا فالقنوت في صلاة الصبح بهذا الدعاء لم يثبت، والله أعلم.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (اللهم اهدني فيمن هديت) أي: يا الله، دلني وألزمني الهداية، وهذا شامل لهداية الإرشاد التي ضدها الضلال، وهداية التوفيق التي ضدها الغي، وتقديم بيان ذلك في الدعاء بين السجدتين.(1/107)
قوله: (فيمن هديت) أي: اجعلني معدوداً في جملة من هديت مندرجاً في زمرتهم، وهذا فيه توسل إلى الله تعالى بفعله عزّ وجل، فكأنه قال: كما هديت غيري فاهدني.
قوله: (وعافني فيمن عافيت) أي: ارزقني العافية عن كل نقص في الدنيا أو الدين، يؤثر على صلاح العبد وسيره إلى الله تعالى، فهو يسأل ربه العافية من أسقام الدين، وهي أمراض القلوب التي مدارها على الشهوات المهلكة والشبهات المضلة، وأن يعافيه من أمراض الأبدان التي تؤدي إلى اعتلال البدن، وفقد قوته ونشاطه الذي هو قوام عمله لدينه ودنياه.
قوله: (وتولني فيمن توليت) أي: كن لي ولياً ومعيناً وناصراً، تحفظني عن كل مخالفة ونظر إلى غيرك.
قوله: (وبارك لي فيما أعطيت) أي: أنزل البركة فيما أعطيتني من العلم والمال والجاه والولد وغير ذلك، وحذف المتعلق لإرادة التعميم، والله تعالى إذا بارك لعبده في شيء فليس لبركته منتهى.
قوله: (وقني شر ما قضيت) (ما) موصولة: أي: شر الفعل الذي قضيت به علي، أو مصدرية، أي: شر قضائك، والمراد: المقضي، لا نفس القضاء الذي هو فعل الله تعالى لأنه خير مطلقاً، والمعنى: اجعل لي وقاية من عندك تقيني شر ما قضيته عليَّ ودبرته، وذلك بأن تحفظني من شر الفعل الذي قضيت به عليَّ وشر ما يقترن به من السخط والجزع الذي يمنع الثواب، لأن ما قضاه الله تعالى على عبده قد يكون خيراً، إذا كان يلائم العبد من العلم والصحة والمال والولد الصالح وما أشبه ذلك، وقد يكون شراً إذا كان لا يلائم العبد من الجهل والمرض والفقر والولد غير الصالح ونحو ذلك، وهذا وإن كان شراً فهو في الحقيقة خير، لأنه ينطوي تحته حكم عظيمة، ومصالح كثيرة للعبد، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والشر ليس إليك»[(323)].(1/108)
ومعناه: أن ما يقدره الله تعالى على عبده قد يكون شراً إذا كان لا يلائمه، لكن فعل الله تعالى ليس بشر، لأن أفعاله كلها خير وحكمة، وفيها مصالح عظيمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، فباعتبار نسبتها إلى العبد قد تكون شراً، وباعتبار نسبتها إلى الله تعالى لكونه قضاها وقدرها ليست بشر بل هي خير.
قوله: (فإنك تقضي ولا يقضى عليك) جملة تعليلية، والفاء قد ثبتت في رواية الترمذي وإحدى روايات النسائي.
والمعنى: إنه لا يعطي تلك الأمور العظام إلا من كملت قدرته وقضاؤه ولم يوجد منها شيء في غيره، والله تعالى يقضي بما أراد ولا أحد يقضي على الله تعالى، قال تعالى: {{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *}} [غافر: 20] .
قوله: (إنه لا يذل من واليت) الضمير للشأن، ويذل: بفتح الياء وكسر الذال المعجمة، من باب «ضرب» أي: لا يضعف ولا يهون من واليت، وهي الدلالة الخاصة.
قوله: (ولا يعز من عاديت) هذه الجملة عند الطبراني والبيهقي، و(يعز) بفتح الياء وكسر العين، من باب «ضرب» من العز، وهو ضد الذل، والمعنى: لا يَغْلِبُ من عاديته ولا ينتصر بل هو ذليل، لأن من والاه الله فهو منصور، ومن عاداه فهو مغلوب ومقهور.
وهذا ليس على عمومه، بل قد يعرض أحوال يَعِزّ فيها الكفار، ويذل فيها المؤمنون، كما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في غزوة أحد، ويكون في ذلك مصالح عظيمة، أو يكون معنى الحديث: عزاً كاملاً أو عزاً مطرداً، فإن ما يحصل لغير المؤمنين عزٌّ مؤقت ثم يزول.
قوله: (تباركت ربنا وتعاليت) تباركت: أي تعاظمتَ وتزايد برك وإحسانك، وتعاليت: من التعالي وهو العلو، وزيدت التاء للمبالغة، والمعنى: لك علو الذات وعلو الصفة، فالله تعالى فوق كل شيء، وهو موصوف بصفات الكمال.(1/109)
ولعل الحكمة ـ والله أعلم ـ في الإتيان بضمير الجمع في قوله: (ربنا) دون ما تقدم من قوله: (اهدني.. إلخ) أن ذلك مقام سؤال ودعاء، وهو مناسب للتذلل والانكسار، وهذا مقام ثناء على الرب سبحانه وتعالى، فناسب الإتيان بضمير الجمع، إما إشارة إلى العجز عن قيام المرء بمفرده بأداء حق ثنائه، أو إشارة إلى الرفعة بهذه الإضافة الشريفة إلى الرب جل وعلا.
الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث من قال: بمشروعية القنوت في صلاة الوتر واستحبابه فيه، وأن يدعو بهذا الدعاء الجامع لخيري الدنيا والآخرة، ويدعو به الإمام بصيغة الجمع، مراعاةً لحال المأمومين وتأمينهم عليه.
ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم في آخر دعائه، وهذا وإن لم يثبت في دعاء القنوت متصلاً به ـ كما تقدم ـ فقد ثبت ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
فقد أخرج إسماعيل القاضي بسنده عن عبد الله بن الحارث أن أبا حليمة ـ معاذ الأنصاري ـ كان يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم في القنوت[(324)].
وكذا ورد عن أُبَيِّ بن كعب عندما صلّى بالناس قيام رمضان في عهد عمر رضي الله عنه أنه صلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم في آخر القنوت[(325)].
وإن زاد الإمام بعض الأدعية المأثورة فحسن، وإن دعا بما يناسب بعض الأحوال العارضة، كالاستغاثة حال الجدب، أو الدعاء بنصرة المسلمين عند تسلط الأعداء، ونحو ذلك جاز، لكن على الإمام في دعاء القنوت في رمضان مراعاة ثلاثة أمور:(1/110)
الأول: أن يحرص على الأدعية الواردة في الكتاب والسنة، وأن يجتنب السجع والتكلف، والدعاء المخترع، والتفاصيل الدقيقة التي تجعل الدعاء إلى الوعظ والترهيب أقرب، وعليه أن يختار الجوامع من الأدعية، لقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك)[(326)]، وإن بدأه بحمد الله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو أولى[(327)]، لحديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلاً يدعو في صلاته لم يُمَجِّد الله تعالى، ولم يصلِّ على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عَجَّلَ هَذَا» ، ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَليَبْدَأْ بِتَحْمِيد ربِّهِ جَلَّ وعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»[(328)].
الثاني: ألاّ يطيل إطالة تشق على المأمومين، تؤدي إلى فتورهم وتسبب شكواهم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ رضي الله عنه لما أطال في صلاة الفريضة: «أفتَّان أنت يا معاذ»[(329)] ؟ فكيف بالإطالة في دعاء القنوت، بل في أدعية مخترعة وأساليب مسجوعة؟!.
الثالث: أن يدعو الإمام بصوته المعتاد؛ فإنه أقرب إلى الإخلاص والتضرع، وأعظم في الأدب والتعظيم، وأدل على إحساس الداعي بقربه من ربه، وعليه أن يبتعد عن كل ما ينافي الضراعة والابتهال، أو يدعو إلى الرياء والإعجاب وتكثير المصلين خلفه من التلحين والتطريب أو التمطيط أو تصنع البكاء ونحو ذلك مما ظهر على بعض الأئمة في هذا الزمان، والله المستعان.(1/111)
واعلم أنه لم يصح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قنت في الوتر. وإنما أُخذت سُنية القنوت من تعليم النبي صلّى الله عليه وسلّم الحسن بن علي رضي الله عنهما الدعاء المأثور، كما تقدم ـ على القول بثبوت لفظة: (قنوت الوتر) ـ ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يداوم عليه.
قال الحافظ ابن حجر: (قال الخلال عن أحمد: لا يصح فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء، ولكن عمر كان يقنت)[(330)]، وقال الإمام ابن خزيمة: (ولست أحفظ خبراً ثابتاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في القنوت في الوتر...)[(331)].
وعلى هذا فمداومة أئمة المساجد على القنوت في رمضان بحيث لا يتركونه إلا قليلاً يحتاج إلى دليل، لأنه مخالف للسنة، والله تعالى أعلم.
كيفية الهوي إلى السجود
310/44 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ، فَلاَ يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قبل ركبتيه». أَخْرَجَهُ الثَّلاَثَةُ.
وَهُوَ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ:
311/45 ـ رَأَيْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبلْ يَدَيْه. أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ.
فإنَّ لِلأَوَّلِ شَاهِداً مِنْ حدِيثِ:
312/46 ـ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَذَكَرَهُ الْبُخَاريُّ مُعلَّقاً مَوْقُوفاً.
الكلام عليها من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟» (840) والترمذي (269) والنسائي (2/207) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.(1/112)
وقد اختلف العلماء في هذا الحديث فصحَّحه قوم، وضعفه آخرون، فممن صحَّحه عبد الحق، والسيوطي، وأحمد شاكر، والألباني[(332)] والحافظ كما هنا في «بلوغ المرام».
وضعفه الأئمة الكبار أمثال: البخاري والترمذي والدارقطني والبيهقي، وأعلُّوه بتفرد الدراوردي، عن شيخه محمد بن عبد الله بن الحسن، المعروف بالنفس الزكية، وتفرد شيخه به، نصَّ على ذلك الدارقطني، والبيهقي وغيرهما[(333)].
فأما الدراوردي ففيه كلام لأهل العلم، وأعدل الأقوال فيه أنه ثقة، فإن حدَّث من كتابه فهو صحيح، وإن حدَّث من حفظه أو من كتب غيره فإنه يهم ويجيء ببواطيل من القلب وغيره، ذكر ذلك الإمام أحمد وغيره[(334)]، وعليه فما تفرد به فهو محل نظر.
وأما محمد بن الحسن فقد وثقه النسائي[(335)]، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(336)]، لكن قال البخاري بعد أن ساق حديثه هذا: (ولا يتابع عليه، ولا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا؟)[(337)]، وقال ابن عدي: (لا يتابع عليه، لم يسمع، سمعت ابن حماد يذكره عن البخاري)[(338)]، وذكر ابن سعد أنه كان قليل الحديث، وكان يلزم البادية[(339)]، ومن هذه صفته فإنه يُتوقف في حديثه، فلا يقبل عند التفرد.
فإن قيل: إنه لم يتفرد به، فقد تابعه عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله به، أخرجه أبو داود (841) والترمذي (2/56) والنسائي (2/207) ولفظه عند أبي داود والنسائي: (يَعْمِدُ أحدكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل)، وعند الترمذي: (يعمد أحدكم فيبرك في صلاته بَرْكَ الجمل).(1/113)
فالجواب: أن هذا الحديث ليس فيه ذكر تقديم اليدين على الركبتين من هذا الطريق، والمتابعة في علم المصطلح هي رواية الحديث بلفظه أو معناه، وهذا غير متحقق في رواية عبد الله بن نافع، ثم إن غاية ما يدل عليه هو النهي عن بروك كبروك الجمل، وبروكه معروف عنه الجميع بالمعاينة، وهو أنه يقدم يديه في البروك قبل رجليه، بدليل أنه يثني خفيه أولاً قبل ركبتيه، فإذا قدم المصلي يديه قبل ركبتيه في السجود ـ كما في رواية الدراوردي ـ فقد شابه البعير.
وأما الشاهد الذي ذكره الحافظ هنا، فقد أخرجه ابن خزيمة (627) والدارقطني (1/344) والحاكم (1/266) والبيهقي (2/100) وذكره البخاري تعليقاً (2/290 فتح) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك، قال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم)، وسكت عنه الذهبي.
وهذا الشاهد فيه نظر من وجهين:
الأول: أنه جاء من طريق الدراوردي، ورواية الدراوردي عن شيخه عبيد الله بن عمر ضعيفة، بل منكرة، كما نص على ذلك الحفاظ، كالإمام أحمد، وأبي حاتم، والنسائي، وابن رجب وغيرهم[(340)]، وقد نقل المزي عن أبي داود أنه قال: (روى عبد العزيز عن عبيد الله أحاديث منكرة)[(341)]، ثم إن هذا المروي عن ابن عمر قد روي عنه خلافه، كما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه، ويرفع يديه إذا رفع قبل ركبتيه[(342)].(1/114)
الثاني: أن رفع الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ضعفه أهل العلم، كالبيهقي وغيره، فإنه قال بعد أن ذكر حديث أبي هريرة بسنده: (ولعبد العزيز الدراوردي إسناد آخر ولا أراه إلا وهماً)[(343)]، وبهذا يتبين أن حديث أبي هريرة لا شاهد له، ثم إن متنه فيه اضطراب، فقد روي باللفظ المذكور، وروي بلفظ: (إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل)[(344)].
أما الحديث الثاني: وهو حديث وائل بن حجر، فقد أخرجه أبو داود (838) في كتاب «الصلاة» باب «كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟» والترمذي (267) والنسائي (2/207) وابن ماجه (882) من طريق يزيد بن هارون، أخبرنا شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: (رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه).(1/115)
وقد ضعَّف هذا الحديث قوم، وصحَّحه آخرون، فممَّن ضعفه البيهقي والدارقطني والألباني وغيرهم[(345)]، وحجتهم: تفرد شريك بن عبد الله القاضي به، وليس هو بالقوي، وممن صححه الترمذي والطحاوي والخطابي والبغوي وابن القيم وغيرهم[(346)]، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، فإن شريك بن عبد الله تكلم فيه علماء الجرح والتعديل ما بين مضعف له وهم قلة، وموثق له مطلقاً، أو موثق له مع جواز الغلط والوهم عليه، فيكون ثقة ضعيف الضبط، والأكثرون على هذا، وخلاصة ما قيل فيه: أنه ثقة صدوق يهم، فإن حدَّث من كتابه فصحيح، وإن حدث من حفظه فإن كان قبل ولايته القضاء فصحيح أيضاً إذا لم يُعنعن، وإن كان بعدها ففي حديثه تخليط واضطراب، لأنه تغير وساء حفظه[(347)]، لكن ما ذكر في هذا الحديث ليس مما يضيَّع، فإنه يتردد عليه في اليوم والليلة خمس مرات غير النوافل، فمثل هذا يحفظ، على أنه قد روى هذا الحديث عنه يزيد بن هارون الواسطي ـ كما تقدم ـ وسماعه منه قديم قبل ولايته القضاء، كما صرح بذلك ابن حبان[(348)] وغيره، وقد رواه بالعنعنة، لكن تابعه همام بن يحيى البصري من ثلاث طرق عند أبي داود (839) والبيهقي (2/98 ـ 99) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/255) والطريق الثالث مرسل صحيح.
والحديث له شاهد من حديث أنس رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبر فحاذى بإبهامه أذنيه، ثم ركع حتى استقر كل مفصل منه، وانحطَّ بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه)، أخرجه الدارقطني (1/345) والحاكم (1/226) والبيهقي (2/99) وقال الحاكم: (هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة) وسكت عنه الذهبي، وقد أخرجه ابن حزم في المحلى (4/129) محتجاً به في مقام المعارضة لمذهبه ـ وهو وجوب تقديم اليدين قبل الركبتين ـ ولم يذكر له علة، ولو علمها لبادر بذكرها، لأن ذلك ينفعه في مقام تضعيف الدليل المعارض[(349)].(1/116)
وقد ضعفه بعض العلماء بجهالة العلاء بن إسماعيل، وقد تفرد به، وبقية رجاله رجال الصحيح، فالحديث فيه مقال، ولحديث وائل شاهدان آخران عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وهما ضعيفان.
الوجه الثاني: هذه الأحاديث فيها بيان صفة الهوي في السجود، وهي من المسائل التي كثر فيها الكلام، حتى قال الشوكاني: (إن المقام من معارك الأنظار، ومضايق الأفكار)[(350)]، وقال النووي: (ولا يظهر ترجيح أحد المذهبين من السنة)[(351)]، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المصلي يهوي إلى السجود بتقديم الركبتين ثم اليدين، وقد عزاه ابن المنذر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلى إبراهيم النخعي، ومسلم بن يسار، وسفيان الثوري، وإلى الشافعي، وأحمد، وإسحاق وأصحاب الرأي[(352)]، واستدلوا بحديث وائل بن حجر رضي الله عنه.
والقول الثاني: أن المصلي يهوي إلى السجود بتقديم يديه قبل ركبتيه، وهو قول مالك، والأوزاعي، ورواية عن أحمد[(353)]، واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه.
القول الثالث: أنه مخير في تقديم أيهما شاء، وهو مروي عن مالك، كما ذكر النووي[(354)]، وقد أجمعوا على أن الصلاة بكلتا الصفتين جائزة، وإنما الخلاف في الأفضل.(1/117)
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ هو القول الأول، وقد اختاره جمع من أهل العلم، منهم ابن المنذر، فإنه قال: (وحديث وائل بن حجر ثابت، وبه نقول) وقال الطحاوي: (فلما اختلف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبدأ بوضعه في ذلك، نظرنا في ذلك، فكان سبيل تصحيح معاني الآثار: أن وائلاً لم يختلف عنه، وإنما الاختلاف عن أبي هريرة رضي الله عنه، فكان ينبغي أن يكون ما روي عنه لما تكافأت الروايات فيه ارتفع، وثبت ما روى وائل، فهذا حكم تصحيح معاني الآثار في ذلك...)[(355)]، وكذا اختار هذا القول الخطابي[(356)]، وابن القيم[(357)]، والشيخ عبد العزيز بن باز[(358)] إضافة إلى ما تقدم من أنه قول أكثر أهل العلم.
ووجه ذلك ما يلي:
1 ـ أن الحديث له متابع وشواهد، وإن كان فيها مقال فأقل أحوالها أن تفيد أن هذا الحكم له أصل مع تعدد الطرق والرواة، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه فيه ضعف، ولا متابع له على التحقيق.(1/118)
2 ـ أن حديث وائل يوافق حديث أبي هريرة الذي فيه نهي المصلي عن بروك كبروك الجمل، لأن المصلي إذا قدم ركبتيه لم يشابه الجمل الذي يقدم يديه، والنهي في الحديث عن الكيفية، لأنه قال: (كما يبرك الجمل)، وفي رواية: (كبروك البعير)، والبعير إذا برك يقدم يديه، بدليل أنه يثني خفيه أولاً قبل ركبتيه، فيبرك مقدمه قبل مؤخره، وهذا مشاهد، وركبتا البعير وكل ذوات الأربع في اليدين، ولو كان المراد بالحديث نَهْيَ المصلي أن يقدم ركبتيه وأمْرَهُ بأن يقدم يديه لكان لفظه: (فلا يبرك على ركبتيه اللتين في رجليه كما يبرك البعير على ركبتيه اللتين في يديه)، وبهذا يكون حديث أبي هريرة موافقاً لحديث وائل من حيث المعنى، فكل منهما دال على النهي عن الكيفية والصفة، لا عن العضو الذي يسجد عليه، ولا ريب أن الجمع بين الروايات أولى من اختلافها وتضادها، أما آخر حديث أبي هريرة وهو قوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) فقد ذكر ابن القيم أنه انقلب على بعض الرواة، وأنَّ صحته (وليضع ركبتيه قبل يديه)[(359)] حتى يوافق آخره أوله وحتى يتفق الحديثان، وقد ورد بهذا اللفظ كما تقدم.
3 ـ أن تقديم الركبتين أرفق بالمصلي، وأقرب إلى الوضع المناسب للبدن، فإن أول ما يلي الأرض منه ركبتاه ثم يداه ثم جبهته وأنفه، والنهوض بعكس ذلك، قال الخطابي: (هذا أرفق بالمصلي وأحسن في الشكل، وفي رأي العين)[(360)]، ومن المقرر أن أفعال الصلاة وهيئاتها لا تخالف الجبلة ولا طبيعة البدن.
4 ـ أن هذا هو الموافق للمنقول عن الصحابة رضي الله عنهم كعمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن مسعود، وكذا جماعة من التابعين، كما تقدم فيما نقله ابن المنذر، وقد روى ابن أبي شيبة شيئاً من ذلك، أكثرها بأسانيد صحيحة[(361)].
وهذا مع القدرة على تقديم الركبتين، فإن كان عاجزاً لكبر أو مرض قدَّم ما هو أهون عليه، والله أعلم.
صفة اليدين حال جلوس التشهد(1/119)
313/47 ـ عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إذَا قَعَدَ لِلتَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَالْيُمْنَى عَلَى الْيُمْنَى وَعَقَدَ ثَلاَثَةً وَخَمْسِين، وَأَشَارَ بِإصْبعِهِ السَّبَّابَةِ. رَوَاهُ مُسْلمٌ.
وَفي رِوَايَةٍ لَهُ: وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وأَشَارَ بِالّتِي تَلِي الإبْهَامَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين» (580) (115) من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قعد في التشهد... الحديث.
والرواية المذكورة من طريق مالك، عن مسلم بن أبي مريم، عن علي بن عبد الرحمن المعاوي، أنه قال: (رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصى في الصلاة، فلما انصرف نهاني، فقال: اصنع كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع، فقلت: وكيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع؟ قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وعقد ثلاثة وخمسين) صورة هذا العقد أن يقبض الخنصر مع البنصر إلى الراحة قبضاً متساوياً، ويحلق حلقة بالوسطى مع الإبهام، وهذه طريقة حسابية معروفة عند العرب، فالثلاثة لها حلقة بين الإبهام والوسطى، والخمسين يقبض لها الخنصر والبنصر.
قوله: (وأشار بإصبعه السبابة) الإصبع: بكسر الهمزة وفتح الباء على المشهور، والسبابة: هي الإصبع التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنهم كانوا يشيرون بها عند السب والمخاصمة، وتسمى أيضاً: المسبحة والسبَّاحة؛ لأنه يشير بها المسبح عند التهليل إشارة إلى التوحيد.(1/120)
قوله: (وقبض أصابعه كلها) أي: أصابع يده اليمنى، والمراد قبضها على الراحة.
قوله: (وأشار بالتي تلي الإبهام) أي: الإصبع التي تلي الإبهام، وهي السبابة، وهذا وصف كاشف لتحقيق السبابة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على صفة اليدين حال جلوس التشهد، وأن المصلي يضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على اليسرى، أما هيئة الأصابع فإن أصابع اليمنى لها صفتان، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما بروايتيه:
الأولى: أن يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق حلقة بالوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة يدعو بها.
الثانية: أن يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويضم إليها الإبهام، وتبقى السبابة مرفوعة يدعو بها.
أما أصابع اليسرى فإنها تكون مبسوطة مضمومة غير مفرجة، وأطرافها إلى القبلة، وقد ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق معمر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وفي آخره: (ويده اليسرى على ركبتيه اليسرى باسطها عليها)[(362)].
والصفة الثانية لأصابع اليسرى: أن يعطف أصابعها على الركبة، لحديث عبد الله بن الزبير قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى على ركبته)[(363)].
وقد أغفل الحافظ هذه الروايات التي تدل على صفة اليد اليسرى، وليته أشار إليها كعادته في تتبع روايات الحديث وألفاظه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المصلي يرفع سبابته يشير بها، ولعل الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن يجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد، وقد روى نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، وأشار بإصبعه، وأشبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لهي أشد على الشيطان من الحديد» يعني السبابة[(364)].(1/121)
لكن إذا أشار بها هل يحركها أو لا؟ اختلفت الأحاديث في هذا، ففي حديث وائل بن حجر: (ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها، يدعو بها)[(365)].
وقد نص ابن خزيمة على أنه ليس في شيء من الأخبار يحركها، إلا في هذا الخبر، زائدة ذكره[(366)]، وعليه فهو لفظ شاذ، انفرد به زائدة بن قدامة من بين أصحاب عاصم بن كليب، وعدها بعض العلماء من زيادة الثقة، وقد قال عنه الحافظ في «التقريب»: (ثقة ثبت)، ومن هؤلاء الألباني[(367)]، وهذا هو الذي يشعر به صنيع الإمام البيهقي، فإنه قال: (يحتمل أن المراد بالتحريك: الإشارة، لا تكرير تحريكها)[(368)]، ومعلوم أن التأويل فرع التصحيح، وإلا لبادر بالحكم عليها بالشذوذ، وقد أفتى بمقتضاها الشيخ عبد العزيز بن باز[(369)].
لكن قد يقال: إن زائدة بن قدامة قد انفرد بهذه اللفظة من بين أصحاب عاصم بن كليب، وهم ثقات أثبات، يزيدون على عشرة أنفس، كلهم يقتصر على ذكر الإشارة بالسبابة دون تحريكها، مما يدل على أن زائدة وَهِمَ فيها، ثم إن روايتهم مؤيدة بالأحاديث الصحيحة التي فيها الإشارة بالسبابة بدون تحريك، وفي حديث ابن الزبير: (وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها)[(370)]، وكذا ورد في حديث ابن عمر عند مسلم بلفظ: (ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها)[(371)]، وعليه فالثابت هو رفع السبابة أو الإشارة بها، كما في صحيح مسلم، وأما التحريك نفياً أو إثباتاً فلم يثبت منه شيء، إلا على قول من أخذ بزيادة (يحركها) في حديث وائل كما تقدم، بناء على قاعدة المثبت مقدم على النافي، وعلى قاعدة الأخذ بزيادة الثقة مطلقاً، ولو خالف العدد الكثير.
وقد قال بعدم تحريكها الحنابلة ـ في الصحيح من المذهب ـ وكذا الشافعية، وهو قول الحنفية، واختاره بعض المالكية، ومنهم: ابن رشد، وابن العربي، واختاره ابن حزم[(372)].(1/122)
والقول الثاني: مشروعية تحريك الإصبع، وهو قول بعض الشافعية والحنابلة، والمالكية، وبه قال ابن القيم، والألباني، وابن باز، وابن عثيمين[(373)]، واستدلوا بحديث وائل، وأيَّدوا ذلك بأمور ثلاثة:
1 ـ أن وائل بن حجر له عناية خاصة بنقل صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا سيما جلوس التشهد، فإنه ذكر مكان المرفق على الفخذ وصفة أصابع اليد اليمنى ورَفْعَ السبابة وغير ذلك.
2 ـ أن زائدة بن قدامة ثقة ثبت شديد التثبت في روايته عن شيوخه، قال عنه ابن حبان: (كان من الحفاظ المتقنين، وكان لا يَعُدُّ السماع حتى يسمعه ثلاث مرات، وكان لا يحدث أحداً حتى يشهد عنه عدل أنه من أهل السنة)[(374)]، وقال الدارقطني: (من الأثبات الأئمة)[(375)]، وهو وإن خالفه الأكثر فقد تكون هذه الزيادة منه تفسيراً للإشارة الواردة في الروايات الأخرى.
3 ـ أن التعبير بالمضارع (يشير بها) قد يستفاد منه التحريك، لأنه يفيد التجدد والحدوث، ثم إن الإشارة نفسها لا تنافي التحريك كما يفهم من معاجم اللغة[(376)].
والقول الثالث: جواز الأمرين: التحريك، أو الإشارة بدون تحريك، لأن كلاًّ منهما ورد في الآثار الصحاح المسندة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، واختار ذلك القرطبي[(377)] والصنعاني[(378)].
والذي تبين من بحث هذه المسألة أن تحريك السبَّاحة تفرد به زائدة بن قدامة، فمن أخذ بها مشى على قاعدة قبول الزيادة إذا كانت من عدل حافظ متقن ضابط، كزائدة بن قدامة، ومن ردها مشى على قاعدة: قبولُ الزيادة وردُّها متوقف على القرائن، ومنها: كثرة العدد[(379)]، وقد خالف ـ هنا ـ زائدة بن قدامة الجمَّ الغفير من الأئمة الثقات عن عاصم بن كليب، فلم يذكرها أحد منهم، مما يدل على أنه قد وَهِمَ فيها، على أن من يرى التحريك يقول: حتى على فرض عدم ثبوت رواية (يحركها) فإن الإشارة تجامع تحريك الإصبع، والله تعالى أعلم.(1/123)
الوجه الخامس: دلَّ قوله: (كان إذا قعد للتشهد...)، أن هذه الصفة في اليد اليمنى، وهي القبض والتحليق خاصة بجلوس التشهد، دون الجلسة بين السجدتين، وهذا هو الذي فهمه العلماء المتقدمون، فلم يقل بمشروعيتها فيها أحد من السلف، ولم يعقد لها أي ترجمة في كتب الحديث، ولم يرد لها ذكر في كتب الفقه[(380)]، وهذا يدل على أنه لم يرد نصٌّ صريح في مشروعيتها، وما ورد من نصوص عامة فهي من العام الذي أريد به الخصوص، أو أنها من باب حمل المطلق على المقيد، وما أحسن ما قاله ابن رُشَيد رحمه الله: (إذا أطلق في الأحاديث الجلوس في الصلاة من غير تقييد فالمراد جلوس التشهد)[(381)]، ويؤيد ذلك بعض روايات حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: (كان إذا جلس في اثنتين أو في الأربع يضع يديه على ركبتيه، ثم أشار بإصبعه)[(382)]، فقيد الإشارة في جلسة التشهد الأول والأخير، فدل على عدم الإشارة في غير ذلك.
ومن قال بها من المتأخرين أَخَذَ بظاهر كلام لابن القيم[(383)]، واستدل بعموم الأحاديث التي ورد فيها تحريك السبابة في الجلوس في الصلاة، كما في حديث وائل، وفيه: (ثم جلس، فافترش رجله اليسرى، ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، وذراعه اليمنى على فخذه اليمنى، ثم أشار بسبابته ووضع الإبهام على الوسطى، حلق بها، وقبض سائر أصابعه، ثم سجد...)[(384)] والله تعالى أعلم.
كيفية التشهد(1/124)
314/48 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: الْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ للهِ، والصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعجَبَهُ إليْهِ، فَيَدْعُو». مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وَاللّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَلِلنَّسَائيِّ: كُنَا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ.
وَلأحْمَدَ: أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ.
315/49 ـ وَلِمُسْلمٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ: «التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَواتُ الطَّيِّبَاتُ للهِ..» إلَى آخِرِهِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان» باب «التشهد في الآخرة» (831) ومسلم (402) من طريق الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود به.
وأخرجه النسائي في الكبرى (1/378) بهذا الإسناد، ولفظه: (كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقولوا هكذا، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا التحيات لله...» ، والحديث في الصحيحين بهذا اللفظ، دون قوله: (قبل أن يفرض علينا التشهد) فهي التي عند النسائي، كما قال الحافظ، ولعل غرض الحافظ من إيرادها الاستدلال بها على فرضية التشهد، والله أعلم.(1/125)
وأخرجه أحمد (6/28) من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن عبد الله قال: (علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التشهد وأمره أن يعلمه الناس، التحيات لله...)، وهذا إسناد ضعيف، لانقطاعه، فإن أبا عبيدة بن عبد الله ابن مسعود لم يسمع من أبيه، وفيه ـ أيضاً ـ خُصيف الجزري، قال عنه في «التقريب»: (صدوق سيء الحفظ).
وأما حديث ابن عباس، فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «التشهد في الصلاة» (403) من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير وعن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فذكره.
وحديث التشهد من الأحاديث المتواترة، وقد ذكر الكتاني أنه روي عن أربعة وعشرين صحابياً، ثم ذكرهم[(385)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (التحيات لله) جمع تحية، والتحية التعظيم، وهي كل قول أو فعل دال على التعظيم، وتفيد العموم، وجمعت لاختلاف أنواعها من التحيات القولية والفعلية، فإنه سبحانه أولى بجمع التحيات من كل من سواه، واللام في لفظ (لله) للاستحقاق، والمعنى: أن جميع التعظيمات وكل ما يدل على السلام والملك والبقاء فهو لله تعالى مختص به لا يستحقه سواه، ومن ذلك الخضوع والركوع والسجود والخشوع، فكله لله تعالى وحده.
قوله: (والصلوات) أي: جميع الصلوات لله تعالى لا أحد يستحقها، فرضها ونفلها.
قوله: (والطيبات) أي: جميع الأقوال والأفعال له تعالى، وكل ما طاب من صفة أو قول أو فعل فهو ثابت لله تعالى، لأن الله طيب وصفاته وكلماته وأفعاله طيبة، وله ـ أيضاً ـ من أعمال العباد القولية والفعلية الطيب، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله إلا طيباً»[(386)].
فعلى المصلي أن يستحضر هذه المعاني، ولا يقول هذا اللفظ على أنه ذكر وثناء فحسب.(1/126)
قوله: (السلام عليك أيها النبي) أي: السلامة من كل آفة ومكروه، وهي جملة خبرية متضمنة معنى الدعاء، ولهذا اختير لفظ السلام الذي هو اسم الله الذي يذكر على الأعمال، لاجتماع معاني الخيرات فيه وانتفاء عوارض الشر عنه، فيكون مصدراً بمعنى السلامة.
وأتى بلفظ الخطاب للحاضر، تنزيلاً له بمنزلة المواجه، لقربه من القلب وقوة استحضارك له حين السلام عليه، كأنه حاضر أمامك تخاطبه، وهذا خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإلا فإن خطاب الآدمي في الصلاة مبطل لها، لأن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وهذا الدعاء شامل للسلامة من مخاوف الدنيا والآخرة، ولهذا شرع حتى بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: (ورحمة الله) الرحمة من صفات الله اللائقة بجلاله، ومن آثارها إنعامه وإحسانه على مخلوقاته الذي لا يعد ولا يحصى، كما تقدم، وهذا دعاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم بحصول المطلوب وهي الرحمة بعد الدعاء له بالسلامة من المرهوب.
قوله: (وبركاته) جمع بركة، وهي خيراته الكثيرة المستمرة، وأصل البركة: النماء والزيادة، وبركاته على نبيه صلّى الله عليه وسلّم في حياته ما يبارك له في مطعمه ومشربه، وكل شأن من شؤون حياته، وبعد مماته بكثرة أتباعه وانتشار شريعته.
قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) علينا: أي معشر الأمة الإسلامية، ومنهم المصلي نفسه ومن معه من المصلين إن كان في جماعة، والعباد: جمع عبد، وهو المتذلل لله تعالى بالطاعة، والصالحين: جمع صالح، وهو القائم بما عليه من حقوق الله وحقوق عباده، قال الترمذي الحكيم: (من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبداً صالحاً، وإلا حرم هذا الفضل العظيم)[(387)].
قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله...) تقدم شرح الشهادتين في آخر باب «الوضوء».(1/127)
قوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) اللام لام الأمر، وأصلها: الكسر، لكنها تسكن بعد حروف العطف، وهذا أمر إباحة لا إيجاب، والمعنى: فليقل ما يختار من الدعاء مما يحبه من خيري الدنيا والآخرة، وظاهر ذلك أن الأمر بالدعاء قبل فرض الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في التشهد.
قوله: (قبل أن يفرض علينا التشهد) أصل التشهد: قول: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله) والمراد به هنا: التحيات لله والصلوات... إلخ، وأطلق عليه اسم التشهد من باب إطلاق البعض على الكل، لكون التشهد أهمَّ ما فيها، لأنه أشرف الأذكار.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب التشهد في آخر الصلاة، لقوله: (إذا صلّى أحدكم فليقل التحيات..) وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب، ولقول ابن مسعود رضي الله عنه: (قبل أن يفرض علينا التشهد) وهو ركن من أركان الصلاة، وهذا بالنسبة للتشهد الأخير، أما الأول فليس بركن، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عندما نسيه جبره بسجود السهو، وهذا هو المشهور عند الفقهاء.
الوجه الرابع: ورد في السنة صيغ كثيرة للتشهد، عن ابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم وليس بينها إلا اختلاف يسير، وبأي تشهد تشهد مما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاز، نص الإمام أحمد على ذلك، وقد أثنى العلماء على تشهد ابن مسعود، لأنه متفق عليه، قال البزار: (أصح حديث في التشهد عندي حديث ابن مسعود، روي عنه من نيف وعشرين طريقاً...) ثم سرد أكثرها، وقال: (لا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالاً...)، قال الحافظ: (ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك)[(388)].(1/128)
وقد اعتنى النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا التشهد وعلمه ابن مسعود ولقنه إياه كما يلقنه السورة من القرآن، كما ورد في بعض الروايات، وذلك لما يشتمل عليه من تعظيم الله تعالى وتمجيده والإخلاص له والشهادة بوحدانيته وصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم والتسليم والترحم والتبريك عليه صلّى الله عليه وسلّم وما يتضمنه من السلام الخاص بالمصلي والأمة الإسلامية وجميع عباد الله الصالحين في السماء والأرض.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن للمصلي أن يدعو في آخر التشهد بما أحب لقوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه) فهو إطلاق للداعي أن يدعو بما أراد، وأفضلُ ذلك الأدعيةُ الواردة في هذا الموضع، وله أن يدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، فإن الدعاء عموماً عبادة.
الوجه السادس: ظاهر الحديث أن الأمر بالدعاء بعد التشهد قبل فرض الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في التشهد، لأن الأحاديث دلت على أن الصلاة مقدمة على الدعاء، كما سيأتي إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
من آداب الدعاء في التشهد
316/50 ـ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمعَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاَتِهِ، لَمْ يَحْمَدِ اللهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبيِّ ، فَقَالَ: «عَجِلَ هذَا» ثمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاء عَلَيْهِ، ثمَّ يُصَلِّي عَلى النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلاَثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/129)
هو فضالة ـ بفتح الفاء ـ بن عبيد الأنصاري الأوسي رضي الله عنه، أسلم قديماً، وأول مشاهده أحد، ثم شهد ما بعدها، وكان ممن بايع تحت الشجرة، سكن الشام، وولاه معاوية قضاء دمشق، ومات في خلافة معاوية رضي الله عنه، سنة ثلاث وخمسين، على أحد الأقوال[(389)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
أخرجه أبو داود (1481) في كتاب «الصلاة» باب «الدعاء» والترمذي (3477) والنسائي (3/44 ـ 45) وأحمد (39/363) وابن حبان (1960) والحاكم (1/230 ـ 268) كلهم من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا حيوة، أخبرني أبو هانئ حميد بن هانئ أن أبا عليٍّ عمرو بن مالك حدثنا أنه سمع فضالة بن عبيد صاحب رسول الله (ص) يقول: ... فذكره، وفي ألفاظه اختلاف بين هذه المصادر، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) وهذا فيه نظر، فإن عمرو بن مالك لم يخرج له مسلم، وهو ثقة، روى له أصحاب السنن والبخاري في «الأدب المفرد»، وحيوة: هو ابن شريح بن صفوان.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (عجل هذا) أي: في الدعاء حيث أتى به قبل الحمد والصلاة، وحقه أن يكون بعدهما.
قوله: (تحميد ربه والثناء عليه) إما عطف تفسيري، لأن الحمد والثناء بمعنى واحد، أو يراد بالثناء ما هو أعم من الحمد بأي عبارة، فيكون من عطف العام على الخاص.
قوله: (ثم يصلي) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: ثم هو يصلي، فيكون من باب عطف جملة خبرية على جملة إنشائية، وليس من عطف الفعل على الفعل بدليل أنه لم يُجزم.(1/130)
الوجه الرابع: الحديث دليل على أدب من آداب الدعاء، وهو تقديم الحمد والثناء على الله تعالى، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم الدعاء بما شاء، وهذا الأدب متحقق في التشهد، كما في حديث ابن مسعود وغيره، فإن أحاديث التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء في أول التشهد، ثم الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم الدعاء بعد ذلك، والدعاء بهذه الصفة أفضل وأقرب إلى الإجابة.
وظاهر سياق الحافظ لهذا الحديث في هذا الموضع أن هذا الدعاء الذي سمعه الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا الرجل كان في جلوس التشهد، قال ابن القيم: (لأنه ليس في الصلاة موضع يشرع فيه الثناء على الله ثم الصلاة على رسوله، ثم الدعاء إلا في التشهد آخر الصلاة، فإن ذلك لا يشرع في القيام ولا في الركوع ولا السجود اتفاقاً، فعلم أنه إنما أراد به آخر الصلاة حال الجلوس في التشهد)[(390)].
ولا مانع من الأخذ بعمومه في كل دعاء سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، ولا سيما حال السجود إذا طال كما في صلاة التهجد.
وقد ذكر المجد ابن تيمية أن في هذه الأحاديث حجة لمن لا يرى الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فرضاً في التشهد[(391)]، حيث لم يأمر تاركها بالإعادة، ويعضده قوله ـ في حديث ابن مسعود بعد ذكر التشهد ـ (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) لكن قد يقال: إنه لا يلزم من وجوبها الأمر بإعادة الصلاة لمن تركها، والله أعلم.
كيفية الصلاة على النبي (ص)(1/131)
317/51 ـ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَمَرَنَا اللهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ، ثمَّ قَالَ: «قُولُوا: اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلاَمُ كَمَا عَلِمْتُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِيهِ: فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، إذَا نَحُنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلاَتِنَا؟
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو أبو مسعود، عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البدري، رضي الله عنه، شهد العقبة الثانية وهو صغير، وجزم البخاري بأنه شهد غزوة بدر[(392)]، وقيل: لم يشهدها، وإنما نزلها فنسب إليها، وشهد غزوة أحد وما بعدها، نزل الكوفة ومات بها في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه سنة أربعين، وقيل: بعدها[(393)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة» باب «الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد التشهد» (405) من طريق مالك، عن نُعيم بن عبد الله المجمر، أن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري[(394)] أخبره عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال بشير بن سعد: ...) فذكر الحديث.
وأما زيادة ابن خزيمة فقد أخرجها (711) من طريق محمد بن إسحاق قال: (وحدثني في الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا المرء المسلم صلّى عليه في صلاته، محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو به).(1/132)
وأخرجه ـ أيضاً ـ أبو داود (981) والنسائي في الكبرى (9/26) وأحمد (28/304) وابن حبان (1959) والدارقطني (1/354) والحاكم (1/268) والبيهقي (2/146) بهذا الإسناد، منهم مَنْ ذكر هذه الزيادة، ومنهم من لم يذكرها، وقال الدارقطني: (هذا إسناد حسن متصل).
وقد دافع ابن القيم عما أعلت به هذه الزيادة، وهو تفرد ابن إسحاق[(395)]، ولعل الحافظ أورد زيادة ابن خزيمة هذه لمناسبتها هنا، حيث دلت على أن مراد الصحابة كيفية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، ليتم الاستدلال بذلك على أن المراد في قعود التشهد.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (قال بشير بن سعد) وهو بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي والد النعمان بن بشير رضي الله عنهما شهد بيعة العقبة وما بعدها، وقد وقع السؤال من صحابة آخرين غير بشير بن سعد، كأبي هريرة، وكعب بن عجرة، وزيد بن خارجة، وغيرهم[(396)] رضي الله عنهم.
قوله: (أمرنا الله أن نصلي عليك) أي: في قوله تعالى: {{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}} [الأحزاب: 56] ، وكأن هذا السؤال منهم عن كيفية الصلاة عليه حصل بعد نزول الآية، فهم سألوا عن كيفية الصلاة عليه وصفتها، لأنه لما تقدم لهم أن السلام بلفظ مخصوص فهموا منه أن الصلاة ـ أيضاً ـ لها لفظ مخصوص.
قوله: (فسكت) لفظ مسلم: (فسكت رسول الله حتى تمنينا أنه لم يسأله) وفي رواية الطبراني: (فسكت حتى جاء الوحي) وإنما تمنى الصحابة أنه لم يسأله خشية أن يكون صلّى الله عليه وسلّم كره سؤاله لما تقرر عندهم من النهي عن ذلك في قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}} [المائدة: 101] .
قوله: (اللهم صَلِّ على محمد) أي: أثنِ عليه بالذكر الجميل في الملأ الأعلى، وهذا أحسن ما قيل في معنى صلاة الله على نبيه، كما قاله أبو العالية، وذكره عنه البخاري في «صحيحه»[(397)].(1/133)
قوله: (وآل محمد) أي: أتباعه على دينه، ويدخل فيهم دخولاً أولياً أتباعه من قرابته لأنهم آل من جهتين: من جهة الاتباع، ومن جهة القرابة.
قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) الكاف للتشبيه، وهذا هو المشهور عند كثير من أهل العلم، لكن يرد عليه القاعدة البلاغية، وهي أن المشبه به أقوى من الشبه وهنا بالعكس، لأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم وآله أفضل من إبراهيم وآله، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة كثيرة، أوصلها الحافظ إلى عشرة[(398)]، وقد ذكرها قبله ابن القيم وزيف أكثرها، ثم قال: (والأحسن منه أن يقال هو صلّى الله عليه وسلّم من آل إبراهيم، فإبراهيم أبوه، فكأنه سئل للرسول صلّى الله عليه وسلّم الصلاة مرتين مرة باعتبار الخصوص ومرة باعتبار العموم)[(399)].
والأحسن أن تكون الكاف للتعليل، وما مصدرية، أي: كصلاتك على آل إبراهيم، ومنه قوله تعالى: {{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}} [البقرة: 198] ، أي: لهدايته إياكم. والمعنى: كما أنعمت بالصلاة على آل إبراهيم فأنعم بالصلاة على محمد وآل محمد، فهو من باب التوسل إلى الله تعالى بنعمه السابقة على نعمه المطلوبة، ومجيء الكاف للتعليل مقرر في كتب النحو[(400)]، وقد ذكر الحافظ هذا المعنى[(401)].
قوله: (وبارك على محمد وعلى آل محمد) هذا فعل دعاء، فهو دعاء بإنزال البركة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وتقدم معنى البركة.
قوله: (في العالمين) جمع عالم، وهو كل من سوى الله تعالى، والمعنى: أظهر الصلاة والبركة على محمد وعلى آله في العالمين، كما أظهرتها على إبراهيم وآله في العالمين، وقد ذكر ابن القيم بعض خصائص بيت إبراهيم عليه السلام.(1/134)
قوله: (إنك حميد مجيد) الجملة تعليلية، وحميد: فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، فعلى الأول: بمعنى حامد لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، وعلى الثاني: بمعنى محمود، فيحمد عزّ وجل لما له من صفات الكمال وجزيل الإفضال، ومجيد: فعيل بمعنى فاعل، أي: ماجد، والمجد: كمال العظمة والسلطان.
ومناسبة ختم الدعاء بهذين الاسمين العظيمين: أن المطلوب تكريم الله لنبيه، وثناؤه عليه، وزيادة تقريبه، وذلك مما يلزم طلب الحمد والمجد، ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أو هو كالتذييل له، والمعنى: أنك فاعل ما تستوجب به الحمد والمجد من النعم المترادفة، كريم بكثرة الإحسان إلى جميع عبادك[(402)].
قوله: (والسلام كما علمتم) بفتح العين مبنياً للمعلوم، وبضمها وتشديد اللام مكسورة مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله[(403)]، والمراد بذلك قوله في التشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).
الوجه الرابع: الحديث دليل على كيفية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، وقد ورد في ذلك أحاديث اشتملت على صيغ متنوعة، فإن أمكن للمصلي أن يأتي بهذه الصيغ وينوع في صلاته فيأتي بهذه الصفة تارة وبغيرها تارة أخرى فهذا أفضل، لما تقدم في قاعدة العبادات الواردة على وجوه متعددة، وإن اقتصر على صيغة واحدة فلا بأس، لكن على المسلم أن يتقيد بالوارد دون زيادة أو نقصان، وقد نقل ابن القيم إجماع المسلمين على مشروعية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في التشهد الأخير، وقال: (هو أهم مواطن الصلاة وآكدها)[(404)].(1/135)
الوجه الخامس: استدل بهذا الحديث من قال بوجوب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد التشهد الأخير، لقوله: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد) وهذا أمر، والأمر للوجوب، وهذا قول الشافعي[(405)]، ورواية عن أحمد، اختارها الخرقي[(406)]، وهو قول أبي عوانة حيث بوَّب بما يفيد الوجوب[(407)]، وهو اختيار ابن العربي[(408)]، وقد نصره ابن القيم[(409)]، كما اختار ذلك الصنعاني[(410)]، ورجحه الألباني[(411)]، والشيخ عبد العزيز بن باز، والمشهور في مذهب الحنابلة أنها ركن[(412)].
واعترض على الاستدلال بهذا الحديث بأن فيه الأمر بمطلق الصلاة عليه وهو يقتضي الوجوب في الجملة، فيحصل الامتثال ولو خارج الصلاة، وأجيب عنه: بأن رواية ابن خزيمة المذكورة تعيَّن فيها محل الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم، وهو مطلق الصلاة، لكن ليس فيها ما يفيد إيقاعها بعد التشهد.
وأجاب عن ذلك الحافظ البيهقي، فقال: (وقوله في الحديث: «قد علمنا كيف نسلم عليك» إشارة إلى السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم في التشهد، فقوله: «كيف نصلي عليك» أيضاً يكون المراد به في القعود للتشهد)[(413)]، وكذا قال ابن القيم، ومما يؤيد ذلك أن الإمام مسلماً ساق هذا الحديث في أحاديث صفة الصلاة مما يدل على أن المراد سؤالهم عن كيفية الصلاة في الصلاة، ولذا قال القاضي عياض: (هذا هو الأظهر)[(414)]، وهذا الحديث من أقوى أدلة القائلين بالوجوب، ولهم أدلة أخرى كلها معلولة.
القول الثاني: أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تجب بعد التشهد، بل هي سنة، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد[(415)]، وحكاه النووي عن الجمهور[(416)] واختاره ابن المنذر[(417)]، والشوكاني[(418)].(1/136)
واستدلوا بحديث ابن مسعود المتقدم في بيان التشهد، وفي آخره قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) ولو كانت الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد التشهد واجبة لعلمهم إياها، ولم يتركهم حتى يسألوا عنها، لأن هذا موضع تعليم وبيان، وموضع التعليم لا يؤخر فيه بيان الواجب، كما أشار إلى معنى ذلك ابن المنذر.
فالأقوال ثلاثة: أنها واجبة، وقيل: ركن، وقيل: سنة، ومعلوم اصطلاح الفقهاء في التفريق بين واجبات الصلاة وأركانها، والقول بالوجوب قوي ـ في نظري ـ فإنه يتحصل من مجموع الأدلة الأمر بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة؛ لصحة رواية ابن خزيمة المبينة للمراد، بناء على أن المراد بالصلاة الحقيقة الشرعية، وقد تقدم في حديث فضالة بن عبيد الأمر بالدعاء والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل، والأدلة إذا اجتمعت شد بعضها بعضاً.
الوجه السادس: ظاهر هذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في التشهد الأول ـ أيضاً ـ لقول الصحابة رضي الله عنهم: (فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا)، فقال: (قولوا اللهم صلِّ على محمد...) فلم يخص تشهداً دون تشهد.
وبه قال الإمام الشافعي[(419)]، وهو الصحيح عند أصحابه، كما صرح به النووي[(420)]، واختاره الوزير ابن هبيرة الحنبلي[(421)]، ورجحه الشيخ عبد العزيز بن باز[(422)]، والألباني[(423)].
والقول الثاني: أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تشرع في التشهد الأول، وهو القول القديم للشافعي، وهو الذي صححه كثير من أصحابه، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد[(424)]، واستدلوا بما تقدم في حديث ابن مسعود من عدم ذكر الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد التشهد.
وقد ورد في حديث ابن مسعود في التشهد، وفي آخره: (ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم)[(425)].(1/137)
والقول الأول قوي، فإن التشهد الأول وإن كان مبنياً على التخفيف، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه لا سيما في حق الإمام، لكن التخفيف قد يحصل مع الاتيان بالتشهد، ومن تركه فلا حرج عليه أخذاً بقول الجمهور، فإن فرغ المأموم من التشهد الأول قبل قيام إمامه تأكد في حقه الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن الصلاة ليس فيها سكوت إلا في حال قراءة الإمام، والله أعلم.
ما يستعاذ منه في الصلاة
318/52 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ومِنْ عَذَابِ القَبْرِ ومِنْ فِتْنَةِ المَحْيا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيْحِ الدَّجَالِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِيْ رِوَايَة لِمُسْلِم: (إِذَا فَرغَ أَحَدُكُم مِنَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ).
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»، باب «ما يستعاذ منه في الصلاة» (588) من طريق حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة، وعن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:... فذكره).(1/138)
وعزوه للبخاري وهم من الحافظ، فإن البخاري لم يخرج هذا الحديث من قوله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما من فعله، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز»، باب «التعوذ من عذاب القبر» (1377) من طريق يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر...) الحديث، وأخرجه مسلم ـ أيضاً ـ (132 ـ 588) بهذا الإسناد وهذا السياق، وأخرجه البخاري في كتاب «الصلاة»، باب «الدعاء قبل السلام» (832) ومسلم (589) من طريق عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو في الصلاة.
وأما الرواية المذكورة فهي عند مسلم من طريق الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثني محمد بن أبي عائشة، أنه سمع أبا هريرة يقول: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ...) فذكره، ولعلَّ غرض الحافظ من إيراد هذه الرواية تفسير المراد بالتشهد في الرواية الأولى، وأنه التشهد الأخير، وليس الأول.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا تشهد أحدكم) أي: قرأ التشهد، وهو التحيات لله... إلخ، والمراد به: التشهد الأخير، كما في رواية مسلم، وهذا ظاهر، لبناء التشهد الأول على التخفيف، كما تقدم، ولما تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو في آخر صلاته.
قوله: (فليستعذ بالله من أربع) أي: فليطلب العوذ، وأصل العوذ والعياذ: الالتجاء والاعتصام.
قوله: (من أربع) في رواية: (استعيذوا بالله من خمس: ... فذكرها)[(426)]، وهذا على اعتبار المحيا والممات اثنتين، وفي حديث الباب واحدة.
قوله: (يقول: اللهم إني أعوذ بك) هذه الجملة بيان لما يستعاذ منه، فهي من التفصيل بعد الإجمال.
قوله: (من عذاب جهنم) أي: النار العظيمة البعيدة القعر، ولفظ (جهنم) من أسماء النار.(1/139)
وهذه الاستعاذة تشمل الاستعاذة من الأسباب المؤدية إلى عذاب جهنم من الكفر والمعاصي، والاستعاذة من العقوبة والنكال، نسأل الله السلامة.
قوله: (ومن عذاب القبر) أصل القبر: مدفن الميت، والمراد به هنا: ما هو أعم من ذلك، وهو ما بين الموت وقيام الساعة وإن لم يدفن الميت، كالذي يحترق ويكون رماداً، أو تأكله السباع، ونحو ذلك.
والمراد بعذاب القبر: ما يحصل للميت في قبره من أليم النكال مما يحصل للبدن والروح معاً، والروح قد تتصل بالبدن وقد تنفصل عنه.
قوله: (ومن فتنة المحيا والممات) الفتنة: الامتحان والابتلاء، والمحيا والممات: أي الحياة والموت، ويحتمل زمان ذلك، لأن ما كان معتل العين من الثلاثي قد يأتي منه المصدر والزمان والمكان بلفظ واحد، وفتنة المحيا: ما يعرض للإنسان في حال الحياة من فتن وابتلاء بالشبهات التي يلتبس عليه بسببها الحق بالباطل، أو بالشهوات التي ينهمك بسببها في حب الدنيا والتعلق بها، حتى يكون ذلك سبباً في زيغه وضلاله وانهماكه في الملذات.
وأما فتنة الممات ففيها قولان:
الأول: ما يكون عند الموت ساعة الاحتضار، وأضيفت إلى الموت لقربها منه، ونص عليها وإن كانت من فتنة الحياة، لعظيم خطرها حيث إن الشيطان يكون أحرص على إغواء بني آدم في تلك الساعة الحرجة، لأنها خاتمة الحياة، وعليها مدار سعادته أو شقائه.
القول الثاني: أن المراد بفتنة الممات: ما يحصل للميت بعد موته حين يسأل في قبره عن ربه ودينه ونبيه، وعلى ذلك مدار تنعيم الميت في قبره أو تعذيبه.
قوله: (ومن شر فتنة المسيح الدجال) المراد بفتنة المسيح الدجال: صده الناس عن شرع الله تعالى بما يأتي به من أسباب الفتنة، وخصَّها بالذكر وإن كانت من فتنة المحيا، لأنها أعظم فتنة على وجه الأرض، كما ورد عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال»[(427)].(1/140)
والمسيح الدجال: رجل أعور يخرج في آخر الزمان يدَّعي الربوبية، مكتوب بين عينيه: ك ف ر، أي كافر، يقرؤها المؤمن وإن لم يكن قارئاً، سُمِّيَ مسيحاً: لأنه ممسوح العين، أو لأنه يمسح الأرض بسيره فيها.
وسُمي دجالاً: لكثرة دجله، فهي صيغة مبالغة، والدجل: الكذب والتمويه، وقد وردت الأخبار الصحيحة بخروجه في آخر الزمان من ناحية المشرق، وخروجه من أشراط الساعة العظام، نسأل الله أن يعيذنا ويعصمنا منه.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المصلي مأمور بالاستعاذة بالله تعالى من هذه الأربع في التشهد الأخير من كل صلاة فرضاً ونفلاً، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستعيذ من هذه الأربع، وأَمَرَ الأمة بها، فاجتمع فيها القول والفعل.
والأمر بالدعاء بالاستعاذة منها في الصلاة دليل العناية بها، فإن وقاية العبد منها سبب للفلاح في الدنيا والآخرة، فإنها أمور عظيمة يشتد البلاء، ويعظم الخطر في وقوعها.
والجمهور من أهل العلم على استحباب هذا الدعاء، فيكون الأمر للندب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد علم الأمة دعوات كثيرة يدعون بها بعد التشهد الأخير.
وقالت الظاهرية بالوجوب[(428)]، وبه قال طاوس بن كيسان اليماني؛ لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره به، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، واختار هذا القول الشيخ عبد العزيز بن باز، وقال: (إن القول بالوجوب قول قوي للأمر بها).
وقد أخرج مسلم من طريق أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم...» الحديث)، قال مسلم بن الحجاج: (بلغني أن طاوساً قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا، قال: أعد صلاتك، لأن طاوساً رواه عن ثلاثة أو أربعة أو كما قال)[(429)].(1/141)
وظاهر ذلك أن طاوساً يعتقد وجوب هذا الدعاء، وكأنه تمسك بظاهر الأمر به، كما تقدم، ويحتمل أن يكون أمر ابنه بالإعادة تغليظاً عليه، لئلا يتهاون بتلك الدعوات فيتركها، فيحرم فائدتها وثوابها، والله تعالى أعلم.
بيان شيء من أدعية الصلاة
319/53 ـ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه أَنهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ: قلْ: «اللهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيْمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي رضي الله عنه، ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، أول خلفاء هذه الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وسلّم، وصاحبه قبل البعثة وبعدها، سبق إلى الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان معه طول إقامته في مكة، وهاجر بصحبته، وشهد غزواته كلها، ومناقبه كثيرة، بايعه الصحابة رضي الله عنهم بالخلافة فقام بها خير قيام، من النصح والحزم والجد والجهاد، حتى أتاه اليقين بعد أن أتم في الخلافة سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، فتوفي في المدينة سنة ثلاث عشرة، عن ثلاث وستين سنة، ودفن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجرة عائشة ابنته رضي الله عنها خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأسه بحذاء صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم[(430)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «الدعاء قبل السلام» (834) ومسلم (2705) من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر رضي الله عنهما، أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ... فذكره.(1/142)
وفي هذا الحديث رواية صحابي عن صحابي، وظاهر رواية الليث عن يزيد أنه من مسند الصديق رضي الله عنه، وخالف عمرو بن الحارث الليث، فجعله من مسند عبد الله بن عمرو.. أخرجه مسلم (2705) (48) من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني رجل سماه، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إن أبا بكر الصديق قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (علمني يا رسول الله دعاء أدعو به في صلاتي...) ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (علمني...) أمر بمعنى الاسترشاد.
قوله: (أدعو به في صلاتي) ظاهره عموم الصلاة في السجود أو في جلوس التشهد، وظاهر صنيع البخاري أن المراد: الدعاء في آخر التشهد، فإنه بوب عليه بقوله: (باب الدعاء قبل السلام) ـ كما تقدم ـ وهو ظاهر صنيع الحافظ هنا.
قوله: (إني ظلمت نفسي) أصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والمعنى: نقصت نفسي حقها بالذنوب، وهو إما تقصير في أداء ما أُمر به أو ارتكاب ما نُهي عنه.
قوله: (ظلماً كثيراً) أي: عدده، وفي رواية لمسلم (كبيراً) أي: قدره.
قوله: (فاغفر لي مغفرة) أمر بمعنى الدعاء، والمعنى فاستر وتجاوز.
قوله: (مغفرة) بالتنكير لغرض التعظيم.
قوله: (من عندك) وصفت بذلك للزيادة في تعظيمها، لأن الذي من عند الله عظيم لا يحيط به وصف، أو لبيان محض فضل الله تعالى بهذه المغفرة، وأنها تفضل من الله تعالى وإن لم يكن العبد أهلاً بعمل ولا غيره.
قوله: (وارحمني) أي: أدخلني في رحمتك.
قوله: (إنك أنت الغفور الرحيم) هذه الجملة تعليل لما قبلها وثناء على الله تعالى بما يناسب المطلوب.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية الدعاء بهذا الدعاء في الصلاة، إما في السجود، أو في آخر التشهد قبل السلام، وهو دعاء عظيم علَّمه النبي صلّى الله عليه وسلّم الصديق رضي الله عنه.(1/143)
وهو دعاء شامل جامع لأنواع الأدعية، ففيه الاعتراف بالذنب وأن جميع الخلق عاجزون عن مغفرته، ثم إظهار الافتقار إلى الله بسؤال المغفرة والرحمة منه، ثم الثناء عليه تعالى بما يناسب المطلوب، وهذا كمال الدعاء.
ومع كون الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة رضي الله عنهم وأكملهم علماً وعملاً، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة ومع ذلك يقال له قل: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً)، فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يعترف بالتقصير وظلمه لنفسه وأن يقوم مقام الذل والانكسار بين يدي ربه، فإن هذا من أعظم الأسباب في قبول دعائه وتوبة الله عليه ونجاته وإصلاح قلبه، والله تعالى أعلم.
كيفية السلام من الصلاة
320/54 ـ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ»، وَعَنْ شِمَالِهِ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بسندٍ صَحِيحٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، بابٌ «في السلام» (997) من طريق موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم...) الحديث.
وقد اختلفت كلمة العلماء في ثبوت لفظة: (وبركاته) في التسليمة الثانية، فلم يذكرها عبد الحق وابن الأثير والزيلعي[(431)]، وليست في طبعة محمد محيي الدين لسنن أبي داود، وثبتت في النسخة الهندية، وفي طبعة الدعاس، وقد تكون عن الهندية.
وقد عزاها لأبي داود الحافط في «البلوغ» ـ في بعض الطبعات[(432)] ـ وفي «التلخيص»، كما عزاها له ابن دقيق العيد، وابن عبد الهادي، فكل هؤلاء عزوا الحديث لأبي داود بإثبات اللفظة[(433)].(1/144)
وقد وردت ـ أيضاً ـ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند ابن ماجه، كما ذكر الحافظ[(434)]، وليست في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي، وذكر الأرنؤوط في تعليقه على «شرح السنة» للبغوي[(435)] أنها ثابتة في نسخة خطية لسنن ابن ماجه في دار الكتب الظاهرية، وقد حكم الألباني عليها بالشذوذ[(436)]، ووردت ـ أيضاً ـ عند ابن خزيمة (1/359).
وروى الحديث ابن حبان (5/333) بإسقاطها من التسليمة الأولى، وإثباتها في الثانية، لكنها ثبتت في كلتا التسليمتين في «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان»[(437)].
وأخرج حديث ابن مسعود رضي الله عنه عبد الرزاق (2/219) موقوفاً عليه بإثباتها، وأخرج ـ أيضاً ـ (2/220) عن عمار بن ياسر موقوفاً عليه بإثباتها، ولما ذكر الحافظ طرقاً عدة لزيادة (وبركاته) رداً على النووي الذي قال: (إنها زيادة فردة)، قال: (فهذه عدة طرق ثبت فيها (وبركاته) بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ ـ يعني النووي ـ إنها رواية فردة)[(438)].
وهذا الحديث صححه الحافظ ـ هنا ـ مع أنه ذكر في «التقريب» أن علقمة بن وائل لم يسمع من أبيه، وقد نَقَلَ ذلك عن العسكري عن ابن معين[(439)]، فيكون في هذا السند انقطاع، وصححه النووي، وقال: (وأشار بعضهم إلى تضعيفه)[(440)].
والصواب تصحيحه، وأما قول الحافظ: (إن علقمة لم يسمع من أبيه) ففيه نظر، فقد نص البخاري والترمذي على أنه سمع منه[(441)]، والدليل على ذلك تصريحه بالتحديث في أحاديث رواها عن أبيه، منها في «صحيح مسلم» (401) (1680) و«في سنن النسائي» (2/194)[(442)]، ولذا علق الشيخ عبد العزيز بن باز على كلام الحافظ في «التقريب» وصوب سماعه من أبيه[(443)].
الوجه الثاني: دلت السنة على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسلم تسليمتين عن يمينه وعن شماله، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، كما ذكر ذلك ابن المنذر[(444)]، وهو قول ابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق.(1/145)
وقد بلغت الأحاديث في إثبات التسليمتين مبلغ التواتر، حيث روى ذلك تسعة عشرة صحابياً، كما ذكر ذلك في «نظم المتناثر»[(445)] وسرد أسماءهم، وأوصلها المعلق على «سبل السلام» إلى تسعة وعشرين[(446)]، ومن ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره: «السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله[(447)]».
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنت أرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خديه)[(448)].
وعند الطبراني من حديث المغيرة، وفيه: (.. وكان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره حتى يرى بياض خده الأيسر)[(449)]، والمشهور في مذهب الحنابلة أن التسليمتين من أركان الصلاة.
والقول الثاني: أن التسليمة الثانية ليست بواجبة، وهذا قول المالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد، اختارها الموفق ابن قدامة، وصاحب «الشرح الكبير» عبد الرحمن بن قدامة[(450)]، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة أنها جائزة[(451)].
واستدلوا بأحاديث عن عائشة وسلمة بن الأكوع وسهل بن سعد وغيرهم رضي الله عنهم فيها الاقتصار على تسليمة واحدة، وقد طعن العلماء في بعض هذه الأحاديث[(452)]، وهي لا تصل إلى درجة أحاديث التسليمتين، فإن رواتها أكثر عدداً ـ كما تقدم ـ وهي أصح سنداً.
فالقول بأن المصلي يسلم تسليمتين أحوط وأبرأ للذمة، فإن من سلم تسليمتين فصلاته جائزة على جميع الأقوال، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد واظب عليهما، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وقد تكون أحاديث التسليمة الواحدة محمولة على بيان الجواز، وأحاديث التسليمتين لبيان الأكمل والأفضل، كما قال النووي[(453)]. والله أعلم.(1/146)
الوجه الثالث: صيغة السلام: (السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله)، هذا هو المحفوظ الذي نقله عدد من الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كنا إذا صلينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.. الحديث)، وفي رواية عنه قال: (صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم... الحديث)[(454)].
وهذا فيه دليل على جواز الاقتصار على قول: (السلام عليكم)، وهو قول الجمهور من أهل العلم، وجاء في حديث الباب زيادة: (وبركاته)، وفيها قولان:
الأول: أن الأفضل عدم زيادتها، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، لأن أكثر الرواة لم يذكروها، كابن مسعود وجابر بن سمرة وغيرهما رضي الله عنهما.
الثاني: أنه يجوز زيادتها، بناء على ثبوتها في رواية أبي داود من حديث وائل، والله تعالى أعلم.
الذكر بعد الصلاة
321/55 ـ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/147)
فقد أخرجه البخاري في مواضع، أولها في كتاب «الأذان» باب «الذكر بعد الصلاة» (844) ومسلم (593) من طريق ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة قال: (أملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتابه إلى معاوية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة...) ثم ذكر الحديث، وعند مسلم: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من الصلاة وسلم..).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (في دبر كل صلاة مكتوبة) بضم الدال والباء، ويجوز إسكانها، كعُشُر وعُشْر، وهذا هو المشهور، أعني ضم الدال، والدبر من كل شيء عقبه ومؤخره وطرفه ،ويطلق على ما له صلة بالشيء بعده، ولفظة: (دبر الصلاة) قد يراد به آخر جزء من الصلاة، وهو ما قبل السلام، وقد يراد به ما يلي آخر جزء من الصلاة، وهو ما بعد السلام، فإن كان دبر الصلاة صالحاً لآخرها فتفسيره به أولى، وإلا فهو لما بعد السلام، والمراد هنا: الثاني، بدليل رواية مسلم المتقدمة: (كان إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: لا إله إلا الله...) وإلا فدبر الصلاة ما قبل السلام، كما في دبر الحيوان فإنه متصل به، إذ هو آخر جزء منه، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية[(455)].
قوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) تقدم معنى ذلك في آخر باب «الوضوء».
قوله: (له الملك) أي: ملك جميع الأشياء في ذواتها وصفاتها والتصرف فيها خلقاً وتدبيراً، وقدم الخبر (له) على المبتدأ لإفادة الحصر والاختصاص، والمعنى: أن الملك لله وحده.
قوله: (وله الحمد) أي: له الوصف بالكمال حباً وتعظيماً لعلو صفاته وجزيل هباته.
زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة (يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير...)[(456)]، وقد سقطت جملة (يحيي ويميت) من «المعجم الكبير»، وأثبتها ابن حجر[(457)] في نقله عن الطبراني بالسند نفسه، وقال: (رواته موثقون)[(458)]، والظاهر أنها زيادة غير محفوظة[(459)].(1/148)
قوله: (وهو على كل شيء قدير) صيغة عموم، تشمل كل شيء في السماء والأرض، ومعنى (قدير) أي: ذو قدرة كاملة لا يعتريها عجز.
قوله: (اللهم لا مانع لما أعطيت...) تقدم معنى ذلك في دعاء الرفع من الركوع، حديث (296).
وقد وقع بعد قوله: (لا مانع لما أعطيت) زيادة: (ولا راد لما قضيت) عند عبد بن حميد[(460)]، والطبراني[(461)]، وقد ذكرها الحافظ ابن حجر بسنده، عن شيخه أبي الفضل بن الحسين الحافظ، ثم قال: (سمعت شيخنا يقول: (هذا حديث صحيح، رواته ثقات)[(462)]، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (هذا سند جيد) وقد فاتت هذه الزيادة الألباني، فلم يذكرها مع الزيادة الأولى التي تقدمت[(463)]، إلا إن كان لا يرى صحتها، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن هذه اللفظة اشتهرت في هذا الذكر، ولم تقع في الطرق المشهورة[(464)].
وقد جاء في رواية: (ثلاث مرات)[(465)]، لكن قال الحافظ ابن رجب: (هذه زيادة غريبة)[(466)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية ذكر الله تعالى بعد الصلاة المكتوبة بهذا الذكر، وظاهر الحديث أنه لا يأتي به إلا مرة واحدة، لكن دلت الرواية المتقدمة عند أحمد والنسائي وابن خزيمة أنه يقول ذلك ثلاث مرات، وقد يشكل على هذا إعراض الشيخين عنها مع روايتهما للحديث، فالظاهر أنها غير محفوظة، كما أفاده الحافظ ابن رجب.
ومن الذكر بعد الصلاة ما جاء في حديث أبي الزبير قال: (كان ابن الزبير رضي الله عنه يقول دبر كل صلاة حين يسلم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) وقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهلِّل بهنَّ دبر كل صلاة)[(467)]).(1/149)
وللذكر بعد الصلاة شأن عظيم، حثَّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ورغَّب فيه قولاً وفعلاً، وقد دل على ذلك مجمل قوله تعالى: {{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}} [ق: 40] ، قال ابن عباس رضي الله عنه: (أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها)[(468)]، وقال تعالى: {{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِكُمْ}} [النساء: 103] ، وهذا الذكر جاء بيانه بالسنة، وقال النووي: (أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة، وجاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة في أنواع منه متعددة)[(469)]، وذكر ابن رجب أن ما بعد الصلاة من المواضع التي يتأكد فيها الذكر[(470)]، والله تعالى أعلم.
بيان نوع من الأدعية في أدبار الفريضة
322/56 ـ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَال: إنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَل الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو سعد بن مالك بن أُهَيْب القرشي الزهري المكي، أبوه مالك مشهور بكنيته، أحد السابقين الأولين، شهد بدراً وما بعدها، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتاً، وأحد الستة من أهل الشورى الذين اختارهم عمر رضي الله عنه، وكان جيد الرمي، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، قال رضي الله عنه: (ما جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبويه لأحد قبلي، لقد رأيته يقول لي: «يا سعدُ ارمِ فداك أبي وأمي، وإني لأول المسلمين رمى المشركين بسهم...» الحديث)[(471)].
ومناقبه كثيرة، وكان مجاب الدعوة، وقصته في ذلك مع أهل الكوفة مشهورة، وهي في الصحيحين.(1/150)
وهو قائد القادسية، والذي بنى الكوفة، وسماها باسمها، وافتتح مدائن فارس، وطرد الأعاجم، مات سنة خمس وخمسين على الراجح، بالعقيق في قصره، وحمل إلى المدينة، ودفن في البقيع[(472)] رضي الله عنه وأرضاه.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه»، أولها كتاب «الجهاد»، باب «ما يُتعوذ من الجبن» (2822) قال: (حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبد الملك بن عمير، سمعت عمرو بن ميمون الأودي قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة...)
لفظ البلوغ هو لفظ البخاري في كتاب الدعوات (6370)، أما لفظه في «الجهاد» فليس فيه الجملة الأولى.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (يتعوذ بهن) لفظ البخاري في «الجهاد»: (منهن).
قوله: (دبر كل صلاة) بالنصب على الظرفية، ويراد به آخر التشهد، أو ما بعد السلام، والأول هو المراد هنا، وكان الأولى بالمصنف أن يورد هذا الحديث في أدعية آخر التشهد المتقدمة، فيقدمه على حديث المغيرة حتى يكون مع الدعوات الماضية، كحديث أبي بكر رضي الله عنه والمؤلف جمع الأحاديث في هذا الباب، وهي أحاديث الأدعية والأذكار لكنه لم يرتبها، ولعله قصد جمعها فقط، والله أعلم.
قوله: (أعوذ بك من البخل) بضم الباء وإسكان الخاء مصدر بَخُلَ ـ بالضم ـ بُخْلاً، من باب «قَرُبَ» وهو في اللغة: منع الفضل والإمساك عن البذل، ويقابله الجود، وفي الشرع: منع الواجب، أي: منع الرجل القادر العطاء بالمعروف من ماله.
قوله: (وأعوذ بك من الجبن) بضم الجيم وإسكان الباء، مصدر جَبُنَ ـ بالضم ـ جبناً، من باب «قرب» وهو ضَعْفٌ في القلب يمنع صاحبه من الإقدام في المواضع الشريفة، كالجهاد، والنطق بكلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما فيه عز الإسلام وأهله.(1/151)
قوله: (وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العلم) يقال: رَذُلَ الشيء ـ بالضم ـ رذالة، والوصف أرذل، بمعنى أردأ، وأرذل العمر هو بلوغ الهرم والخَرَفِ. فيكون بمنزلة الطفل، ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الإدراك.
قوله: (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) المراد بها: الإنهماك في شهواتها وملذاتها بحيث يكون همه جمعها والحرص عليها، حتى تلهيه عن القيام بالواجبات التي خلق لها، وتصده عن ذكر الله تعالى وما فيه سعادته وفلاحه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل الدعاء والاستعاذة بالله تعالى من هذه الأخلاق الذميمة والأحوال السيئة، وهي البخل والجبن والرد إلى أرذل العمر وفتنة الدنيا وعذاب القبر، وهي أمور عظيمة في السلامة منها سعادة العبد وفلاحه.
ويكون ذلك في دبر الصلاة، والمراد هنا: ما قبل السلام، لأن دبر الشيء ما اتصل به ـ كما تقدم ـ ولأن هذا هو الأليق بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه» ، فكل نص في الدعاء مقيد بدبر الصلاة فإنه يحمل على آخرها قبل السلام؛ ليكون الدعاء في المحل الذي أرشد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الدعاء فيه.
وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وهو أن ما ورد من الدعاء في دبر الصلاة فيراد به ما قبل السلام، لأن هذا هو اللائق بحال المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه. ويتضرع إليه، ولا سيما قرب إنهاء هذه العبادة العظيمة التي شرع له فيها الثناء على ربه بكلمات التحية، ثم اتباع ذلك بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أُمر بالدعاء بما يحب من خيري الدنيا والآخرة.
أما ما بعد السلام فهو حال انصراف، فالثناء والذكر أولى في هذه الحال، كما قال تعالى: {{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِكُمْ}} [النساء: 103] ، فكل نص في الذكر مقيد بدبر الصلاة فإنه يحمل على ما بعدها؛ ليطابق الآية الكريمة.(1/152)
وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية[(473)]، ونقله عنه تلميذه ابن القيم[(474)]، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز.
لكن يستثنى من ذلك ما ورد من الأدعية معيَّناً بعد السلام، وهذا قليل، فهذا يعمل به في محله، مثل الاستغفار ثلاثاً، فإنه دعاء بطلب المغفرة.
ومثل ما ورد عن البراء رضي الله عنه قال: (إذا صلينا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: «ربِّ قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك[(475)]»، فإن ظاهره أن هذا الدعاء بعد السلام؛ لقوله: (يقبل علينا بوجهه)، لكن حكم الألباني على هذه الرواية بالشذوذ، لأن الحديث بجميع طرقه ورد فيه أن هذا الدعاء عند النوم.
وهذه الرواية من طريق ثابت بن عبيد، عن عبيد بن البراء، عن البراء به، وعبيد هذا ليس بالمشهور[(476)]، والله تعالى أعلم.
ما يقوله المصلي بعد انصرافه من الصلاة
323/57 ـ عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ اللهَ ثَلاَثاً، وَقَالَ: «اللهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ»، رَوَاهُ مُسْلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»، باب «استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته» (591) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن أبي عمار ـ اسمه شداد بن عبد الله ـ عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم...) فذكره، وفي آخره، قال الوليد: (فقلت للأوزاعي كيف الاستغفار؟) قال: (تقول: أستغفر الله، أستغفر الله).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا انصرف من صلاته) أي: سلم منها، وقد دل حديث عائشة رضي الله عنها الآتي على أن هذا الذكر محله بعد السلام.(1/153)
قوله: (أستغفر الله ثلاثاً) الاستغفار: طلب المغفرة، وذلك دليل الشعور بالخطأ والتقصير، والاستغفار هنا في غاية المناسبة، كما سيأتي إن شاء الله.
قوله: (اللهم أنت السلام) هذا اسم من أسماء الله تعالى، كما ورد في القرآن، ومعناه: الذي سلم من كل عيب، وبريء من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين، فهو الذي سلمت ذاته وصفاته من كل عيب ونقص، وسلمت أفعاله عن كل شر وظلم، وهو السلام الحق من كل وجه.
قوله: (ومنك السلام) أي: السلامة، والمعنى: منك يرجى السلام ويستفاد، لأنك واهب ذلك في الدنيا والآخرة.
قوله: (تباركت) تقدم في شرح دعاء الاستفتاح، عند الحديث (272).
قوله: (يا ذا الجلال والإكرام) في حديث عائشة الآتي: (تباركت ذا الجلال والإكرام) والجلال مصدر الجليل، يقال: جليلٌ بَيِّنُ الجلالة، والجلال: عِظَمُ القدر والتناهي في ذلك، والمعنى: أن الله تعالى هو المستحق أن يُجَلَّ ويكرم، فلا يجحد ولا يكفر به.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يشرع للمصلي إذا سلم من صلاته أن يقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام). وظاهر الحديث أن هذا الذكر هو أول ما يبدأ به المصلي بعد الانصراف، وهذا الذكر بعد السلام في غاية المناسبة، فإن فيه إشارة إلى أن المصلي لم يقم بحق عبادة ربه، لأنه لا يخلو غالباً من الوساوس والخواطر في صلاته، فشرع له الاستغفار بعد انتهاء صلاته، تداركاً لما فاته من الخشوع، وجبراً لما حصل فيها من الخلل.
وقد دلت السنة على أن الإمام يقول ذلك قبل أن يستقبل المأمومين، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام» ، وفي رواية: «يا ذا الجلال والإكرام»[(477)]).(1/154)
وأما زيادة لفظ: (وتعاليت) بعد لفظ: (تباركت)، فهي وإن كانت من ألفاظ الثناء على الله تعالى ووردت في أحاديث أخرى ـ كما تقدم في دعاء القنوت ـ إلا أنه لا أصل لها في هذا الموضع، والله أعلم.
بيان نوع من الأذكار بعد الفريضة
324/58 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلاَثاً وثَلاَثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المائَةِ: لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ، وإن كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». رَوَاهُ مُسْلمٌ، وَفِي روَايةٍ أُخْرَى: أَنَّ التّكْبِيرات أَرْبَعٌ وَثَلاَثُونَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد»، باب «استحباب الذكر بعد الصلاة» (597) من طريق أبي عبيدٍ المَذْحِجيِّ، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
وأما الرواية المذكورة فليست من حديث أبي هريرة، كما هو ظاهر صنيع الحافظ، وإنما هي في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة»[(478)].
ومعنى (معقبات) أي: تفعل مرة بعد أخرى في أعقاب الصلاة.(1/155)
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية هذا الذكر بعد الصلاة المفروضة، وظاهر الحديث الإطلاق، لكنه محمول على الصلاة المفروضة، بدليل حديث كعب بن عجرة من باب حمل المطلق على المقيد، وصفته أن يقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
الصفة الثانية: أن يقول سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، وهاتان في صحيح مسلم.
والصفة الثالثة: وردت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة فقراء المهاجرين، وفيه: (تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة.. الحديث)[(479)].
والصفة الرابعة: ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: (تسبحون في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً)[(480)]، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلَّتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً» ، قال: فأنا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعقد بيده، قال: «فتلك خمسون ومئة باللسان، وألف وخمس مئة في الميزان...») الحديث[(481)].
ومعنى (خلتان) خصلتان، ومعنى (خمسون ومئة باللسان) أي: في يوم وليلة (وألف وخمس مئة في الميزان) أي: لقوله تعالى: {{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}} [الأنعام: 160] .(1/156)
والصفة الخامسة: ما ورد في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أُمروا أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ويحمدوا ثلاثاً وثلاثين، ويكبروا أربعاً وثلاثين، فأُتي رجل من الأنصار في منامه فقيل له: (أمركم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبروا ثلاثاً وثلاثين؟ قال: نعم، قال: فاجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له)، فقال: (اجعلوها كذلك)[(482)].
والأفضل أن يأتي المصلي بهذه الصفة تارة، وبهذه تارة أخرى؛ لما تقدم في العبادات الواردة على صفات متعددة، والله تعالى أعلم.
بيان نوع من الأدعية في أدبار الصلاة
325/59 ـ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لَهُ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لاَ تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتكَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائيُّ بِسَنَدٍ قَويٍّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (36/429) وأبو داود (1522) في كتاب «الصلاة» باب «في الاستغفار» والنسائي (3/53) من طريق عقبة بن مسلم، حدثني أبو عبد الرحمن الحُبُلي، عن الصُّنابحي، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه به.
وإسناده صحيح، صححه النووي[(483)]، والحافظ ابن حجر[(484)]، والشيخ عبد العزيز بن باز.
والحديث له شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ، أخرجه أحمد (13/360) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (9/223)، وإسناده صحيح.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/157)
قوله: (لا تدعن) أي: لا تتركن، يقال: ودع الشيء يدعه ودعاً إذا تركه، والمشهور عند النحاة أن العرب أماتوا ماضي (يدع) ومصدره، واستغنوا عنه بـ(ترك)، لكن ورد في الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين»[(485)]، فيحمل قول النحاة على قلة الاستعمال، وإلا فقد ورد في هذا الحديث مصدر الفعل[(486)].
قوله: (على ذكرك) هذا شامل لجميع أنواع الذكر، من قراءة القرآن والثناء على الله تعالى والاشتغال بالعلم النافع ونحو ذلك، وقدم الذكر على الشكر، لأن العبد إذا لم يكن ذاكراً لم يكن شاكراً، قال تعالى: {{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ *}} [البقرة: 152] .
قوله: (وشكرك) الشكر: أن تظهر آثار نعمة الله تعالى على لسان عبده ثناءً، وعلى قلبه اعترافاً، وعلى جوارحه انقياداً، ويصرف نعمه فيما يحبه ويرضاه، ويستعين بها على طاعته، ويحذر من صرفها في معصيته.
قوله: (وحسن عبادتك) العبادة الحسنة هي العبادة الخالصة لله تعالى الموافقة للشرع.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية هذا الدعاء في دبر الصلاة، وهو دعاء جامع شامل مع إيجازه وقلة ألفاظه، فإن من رزقه الله الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته فقد تَمَّ أمره، وكملت أسباب سعادته، لأن الدين متضمن ذلك كله، فإنه ذكرٌ لله تعالى، وثناءٌ عليه، وشكر لإنعامه وجزيل إفضاله، ومن تمام ذلك أن يحسن عبادة ربه ويؤديها على الوجه الأكمل.
والدبر في هذا الحديث يحتمل أن يكون مراداً به ما قبل السلام، أو ما بعد السلام، والأفضل أن يكون ما قبل السلام لأمرين.
الأول: ما تقدم أن الدبر هو آخر الشيء وطرفه ومؤخرته، وطرف الصلاة هو التشهد الأخير ما قبل السلام.(1/158)
الثاني: أن ما قبل السلام موضع دعاء، كما تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فيكون الأنسب لهذا الدعاء ما قبل السلام، ويؤيد ذلك رواية النسائي: (فلا تدع أن تقول في كل صلاة...) فإن نسيه قبل السلام وأتى به بعده فلا بأس؛ لأن كلاًّ منهما يسمى دبراً، كما تقدم.
الوجه الرابع: في الحديث فضيلة ومنقبة لمعاذ رضي الله عنه حيث خصه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذا الدعاء، وقبل ذلك قال له: «والله إني لأحبك» ، ففيه مزيد تشريف منه صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ وترغيب له في ما يريد أن يلقي عليه من هذا التوجيه.
ووصية النبي صلّى الله عليه وسلّم لواحد من الصحابة وصية للأمة كلها، لأن شريعته عامة، ولكن ذلك يدل على مزية لهذا الشخص حيث خصه بهذا العلم حتى يعمل به ويحمله ويبلغه الناس، والله تعالى أعلم.
فضل آية الكرسي بعد المكتوبة
326/60 ـ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلاَ الْمَوْتُ». رَوَاهُ الْنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو أبو أمامة، إياس بن ثعلبة الحارثي الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته، مختلف في اسمه، والصحيح ما ذكر، على ما قرره ابن عبد البر، وذكر أنه لم يشهد بدراً، لأن أمه قد مرضت، فرده النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم وجدها قد ماتت، فصلى عليها، وإذا أُطلق أبو أمامة فالمراد به هذا، وإن أريد الباهلي قُيِّد به، كما صنع الحافظ هنا حيث أطلق، وفي ثالث أحاديث كتاب «الطهارة» حيث قيده[(487)].
الوجه الثاني: في تخريجه:(1/159)
فقد أخرجه النسائي في «الكبرى» (9/44) وعزاه المنذري في «الترغيب» (2/453) إلى ابن حبان في كتاب «الصلاة» المفرد، ولم يخرجه في «صحيحه» وهو من طريق محمد بن حِمْيَر، حدثني محمد بن زياد الألهاني، قال: (سمعت أبا أمامة يقول:...) فذكره.
والحديث تفرد به النسائي من بين أصحاب الكتب الستة، ولم يذكره في «الصغرى» ومحمد بن حمير: وثقه ابن معين، وقال النسائي والدارقطني: (لا بأس به)، وقال أبو حاتم: (يكتب حديثه، ولا يحتج به)، وقال يعقوب بن سفيان: (ليس بالقوي)[(488)].
والحديث مروي عن محمد بن حمير من عدة طرق، وله شواهد ذكرها الألباني[(489)]، وقد صححه المنذري[(490)]، وابن عبد الهادي[(491)]، وابن القيم، وابن كثير[(492)]، والألباني، وضعفه ابن تيمية[(493)]، وعبد الرحمن المعلمي[(494)]، ولعلَّ من ضعفه نظر إلى تفرد محمد بن حمير به، وأن شواهده معلولة.
وقد ذكر ابن الجوزي هذا الحديث في «الموضوعات»[(495)] فأخطأ خطأ فاحشاً، ولذا انتقده العلماء كابن حجر، وابن عبد الهادي[(496)].
وأخرجه الطبراني في «الكبير» (8/114) من طريق محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن حمير به، وزاد: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} [الإخلاص: 1] وهي زيادة منكرة تفرد بها محمد بن إبراهيم الحمصي ـ كما ذكر الطبراني ـ وهو متهم، كما يستفاد من «الكامل» لابن عدي[(497)]، و«المقتنى» للذهبي[(498)]، وغيرهما. وأما قول المنذري: (وإسناده بهذه الزيادة جيد)[(499)]، وكذا قول الهيثمي[(500)] فهو مردود، لما تقدم.(1/160)
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة، وهي: {{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}} إلى قوله: {{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}} [البقرة: 255] ، وأن قراءتها سبب من أسباب دخول الجنة، ومع أن الدبر يحتمل ما قبل السلام أو ما بعد السلام ـ كما تقدم ـ إلا أن المراد هنا ما بعد السلام، لأن ما قبل السلام ليس محلاً للقرآن، وإنما محله القيام، فهذه قرينة على أن المراد ما بعد السلام.
وكذا يشرع قراءة المعوذتين {{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *}} [الفلق: 1] ، {{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *}} [الناس: 1] ، لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة)[(501)].
قال العيني: (والحكمة في هذا أن الشيطان ـ عليه اللعنة ـ لم يزل يوسوس به وهو في الصلاة، وما قدر على قطعه عن الصلاة، ثم لما فرغ يقبل إليه إقبالاً كلياً حتى يرفعه في معصميه، فأمر عند ذلك أن يستعيذ بالمعوذات من الشيطان حتى لا يظفر عليه، ولا يتمكن منه)[(502)]،
و(المعوِّذات) بالكسر جمع معوِّذة بصيغة اسم الفاعل، أي: محصنة، ونسبة التحصين إليها مجاز، والمراد: سورة الفلق وسورة الناس، ـ كما مرَّ ـ فالمراد بالجمع ما فوق الواحد، أو جمعهما باعتبار أن ما يستعاذ منه كثير فيهما[(503)]، أو باعتبار آيات السورتين وأما على رواية الترمذي: (بالمعوذتين) فلا إشكال، والله تعالى أعلم.
وجوب الاقتداء به (ص) في صلاته
327/61 ـ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»، رواه البخاري.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/161)
هذا الحديث تقدم تخريجه في باب «الأذان» الحديث (196)، وقد أخرجه أصحاب الكتب الستة وأحمد، لكن هذه الجملة المذكورة هنا انفرد بها البخاري عن بقية أصحاب الكتب الستة، وجاءت عند أحمد (34/157 ـ 158) بلفظ: (وصلوا كما تروني أصلي).
الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم في صلاته، وأننا نصلي مثل ما كان يصلي في الأفعال والأقوال، لأنها أتم هيئات الصلاة، وكل فعل فعله صلّى الله عليه وسلّم في محل ما من الصلاة فهو المشروع في ذلك المحل، ولا يجوز إحداث شيء في الصلاة يخالف ما فعله صلّى الله عليه وسلّم.
والأصل في الأوامر الوجوب، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا ما دل الدليل على أنه غير واجب، فما داوم عليه دل على أنه واجب، وما تركه في بعض الأحيان دل على أنه غير واجب.
ويؤكد وجوب الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم كون صلاته صلّى الله عليه وسلّم بياناً لمجمل قوله تعالى: {{وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}} [البقرة: 43] ، وهو أمر قرآني يفيد الوجوب، وبيان المجمل الواجب واجب، كما تقرر في الأصول، وتقدم شيء من ذلك عند أول حديث في باب «صفة الصلاة» فارجع عليه.
وظاهر الحديث أنه خاص بما شاهدوه من الأفعال، كالقيام والركوع والسجود ونحو ذلك، لأنه قال: (كما رأيتموني)، إلا أن تفسَّر الرؤية بالعلم، أي: صلوا كما علمتموني أصلي.
وصلاته صلّى الله عليه وسلّم قد اشتملت على أفعال وأذكار، ويكون المعنى: افعلوا وقولوا ما علمتم أني أفعله وأقوله، بأي طريق من طرق العلم، لأن من الأقوال ما لا يعلمونه بالصلاة خلفه، كالأقوال السرية من القراءة والأذكار، لأن ذلك لا يعلم إلا بالتعليم منه صلّى الله عليه وسلّم أو من غيره من الصحابة الذين نقلوا للأمة ذلك.(1/162)
وقد بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم صفة الصلاة للأمة بالقول، كما تقدم في أحاديث الباب وبالفعل، فقد صلى مرة على المنبر ثم قال: «إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولِتَعَلَّموا صلاتي»[(504)].
صفة صلاة المريض
328/62 ـ عَنْ عِمْرَانَ بِنْ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي الْنَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»، رَوَاهُ الْبُخَارِي.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «تقصير الصلاة»، باب «إذا لم يطق قاعداً صلى على جنبه»، (1117) من طريق الحسين المكتب، عن ابن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال: «صَلِّ قائماً...» الحديث.
وقد وقع في بعض نسخ «بلوغ المرام» زيادة: (... فعلى جنب وإلا فأومئ)، ولا أصل لها من رواية البخاري، وإنما هي في روايات أخرى.
الوجه الثاني: الحديث دليل على صفة صلاة المريض وأن لها ثلاث مراتب:
الأولى: أن يصلي قائماً إن قدر عليه ولو كهيئة الراكع أو معتمداً على عصا أو جدار ونحوهما.
الثانية: أن يعجز عن القيام أو يلحقه مشقة شديدة، كأن يتألم ألماً شديداً يؤدي إلى فوات الخشوع وعدم الطمأنينة، فيصلي قاعداً يومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، ولم يبين صفة القعود فدل على أنه كيفما قعد جاز، سواء تربع أو افترش أو اتكأ أو احتبى، واستحب الفقهاء أن يكون متربعاً على أليتيه، ويكف ساقيه إلى فخذيه، لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي متربعاً)[(505)].
ولأن التربع في الغالب أكثر ارتياحاً من الافتراش، وليحصل التفريق بين قعود القيام، والقعود الذي في محله.(1/163)
فإن قدر على الصلاة قائماً منفرداً وجالساً مع الجماعة، فقيل: يخيَّر بينهما، ومال إليه ابن قدامة[(506)]، وقيل: صلاته في الجماعة أولى، وقيل: يصلي منفرداً قائماً، قال صاحب «الإنصاف»: (هو الصواب)[(507)]، لأن القيام ركن لا تصح الصلاة إلا به مع القدرة عليه، وهذا قادر، والجماعة واجبة تصح الصلاة بدونها.
والأظهر هو القول الثاني، وهو أنه يحضر الجماعة ويصلي جالساً، لأن مصالح حضور الجماعة لا يوازيها شيء من المصالح، وأيضاً إذا وصل إلى محل الجماعة وصار عاجزاً عن القيام لم يكن واجباً عليه، وكان جلوسه في حقه بمنزلة القيام في حق القادر، فيكون حَصَّلَ مصلحة الجماعة، ولم تفته مصلحة القيام، والله أعلم[(508)].
المرتبة الثالثة: إذا عجز عن القعود صلّى مضطجعاً على جنبه، وإطلاق الحديث يدل على أنه مخير بين الجنب الأيمن والأيسر، والأفضل أن يفعل ما هو أسهل له، فإن تساويا فالأيمن أفضل، ويكون وجهه إلى القبلة، وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة صلّى على حسب حاله، ويومئ برأسه إلى صدره قليلاً للركوع، ويومئ أكثر للسجود.
المرتبة الرابعة: أن يصلي مستلقياً على ظهره ورجلاه إلى القبلة، والأفضل أن يرفع رأسه قليلاً، ليتجه إلى القبلة، لأن في ذلك نوع استقبال، ولأن هذا أقرب ما يكون إلى صفة القائم، إذ لو قام تكون القبلة أمامه، ودليل هذه الصفة عموم قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[(509)]، فإذا استطاع شيئاً مما يفعل في الصلاة وجب عليه، لأنه مستطيع له.
وقد ورد في هذه الصفة حديث علي رضي الله عنه وفيه: (فإن لم يستطع صلى مستلقياً ورجلاه إلى القبلة)[(510)].(1/164)
المرتبة الخامسة: إذا لم يستطع الإيماء برأسه فالمذهب عند الحنابلة أنه يوميء بطرفه، فيغمض عينه قليلاً للركوع، فإذا قال: (سمع الله لمن حمده)، فتح طرفه، فإذا سجد أغمض أكثر[(511)]، ودليلهم عبارة وردت في حديث علي المتقدم: (فإن لم يستطع أومأ بطرفه)، وهذه الجملة لا وجود لها في حديث علي رضي الله عنه لا عند الدارقطني ولا عند البيهقي، والظاهر أنها لا تثبت، والحديث ضعيف، كما تقدم.
والقول الثاني: أنه إذا عجز عن الإيماء سقطت عنه الصلاة لعجزه عنها، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو قول أبي حنيفة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: (هذا القول أصح في الدليل، لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة، ولا يتميز فيه الركوع من السجود ولا القيام من القعود، بل هو نوع من العبث الذي لم يشرعه الله تعالى، وأما الإيماء بالرأس فهو خفضه، وهذا بعض ما أمر الله به المصلي)[(512)].
والقول الثالث: أنه تسقط عنه الأفعال لعجزه عنها دون الأقوال لقدرته عليها، والله تعالى يقول: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وعلى هذا ينوي القيام بقلبه فيكبر ويقرأ، ثم ينوي الركوع فيكبر ويسبح، ثم ينوي القيام ويقول: (سمع الله لمن حمده... إلخ)، وهذا القول ذكره صاحب «الإنصاف»[(513)]، وهو وجيه جداً.
وأما قول العامة: إنه يومئ بالإصبع فهذا لا أصل له في السنة، ولم يقل به أحد من أهل العلم فيما أعلم، والله أعلم.
حكم المريض العاجز عن السجود
329/63 ـ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ الْنَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لِمَرِيضٍ ـ صَلَّى عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمَى بِهَا ـ وَقَالَ: «صَلِّ عَلَى الأَرْضِ إِنْ اسْتَطَعْتَ، وَإِلا فَأَوْمِ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَلَكِنْ صَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/165)
فقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/306) وفي «معرفة السنن والآثار» (3/225) والبزار (1/275 مختصر الزوائد) من طريق أبي بكر الحنفي، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه به.
قال البزار: (لا نعلم رواه أحد عن الثوري إلا الحنفي، هذا الإسناد صحيح)، وقال البيهقي: (هذا الحديث يُعَدُّ في أفراد أبي بكر الحنفي عن الثوري) وهذا الحديث أعله أبو حاتم[(514)] بالوقف على جابر رضي الله عنه فإنه سئل عنه فقال عن رفعه: (هذا خطأ، إنما هو: عن جابر رضي الله عنه، قوله: «إنه دخل على مريض» فقيل له: فإن أبا أسامة قد روى عن الثوري هذا الحديث مرفوعاً، فقال: ليس بشيء، هو موقوف).
وقد ذكر الحافظ[(515)] متابعاً ثالثاً عند البزار، وهو عبد الوهاب بن عطاء، ثنا سفيان به، ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/306)، ولهذا قال في «المعرفة»: (وهذا الحديث يعد في أفراد أبي بكر الحنفي، وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء عن الثوري)[(516)] وللحديث طريق أخرى عند أبي يعلى في مسنده (2/329) قال: (حدثنا حفص بن أبي داود، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه قال: عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مريضاً وأنا معه... وذكر الحديث بمعناه) وإسناده ضعيف جداً، لأن فيه حفص بن أبي داود، وهو حفص بن سليمان الأسدي صاحب عاصم، وهو حجة في القراءة، لكن متروك الحديث.
وللحديث شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/169) وقال الألباني: (هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات)[(517)].
وله طريق أخرى عند الطبراني في «الأوسط» (8/42) قال عنه الهيثمي: (رجاله موثقون، ليس فيهم كلام يضر، والله أعلم)[(518)].
وقد أعل حديث الباب بعنعنة أبي الزبير، فإنه كان مدلساً، وقد أعله بذلك عبد الحق[(519)] وتبعه على ذلك الألباني، وقال: (والذي لا شك فيه أن الحديث بمجموع طرقه صحيح)[(520)].(1/166)
فمن صحَّح الحديث فذلك لما له من الطرق والشواهد، وقال: إن إعلاله بالوقف ليس بقادح فيه، فإن مثل ذلك له حكم الرفع، كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز، فيكون الموقوف مؤيداً للمرفوع، ثم إن الأصل أن الرفع زيادة من ثقة، فتقبل في مثل ذلك.
وأما إعلاله بعنعنة أبي الزبير عن جابر ففيه نظر، فإن الصواب فيها الاتصال إلا في أحاديث قليلة، والذي يظهر أنها صحيفة كتبها سليمان بن قيس اليشكري عن جابر، سمع بعضها أبو الزبير، وحدث ببعضها عن جابر مباشرة، وسليمان بن قيس ثقة، فعلى التسليم بعدم سماع أبي الزبير من جابر فالساقط هو سليمان، وهو ثقة، ولهذا أخرج مسلم في «صحيحه» أحاديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة، ويقوِّي قبول روايته أنه أعرف بضبط أحاديث جابر، أثنى عليه العلماء بذلك، وأما من اعتمد تضعيفه فقد مشى على قاعدة: الموقوف يُعِلُّ المرفوع، ولا يكون مؤيداً له.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المريض العاجز عن السجود على الأرض يسجد في الهواء، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، ولا حاجة إلى أن يضع شيئاً يسجد عليه من وسادة أو غيرها، وهذا هو الراجح من قولي أهل العلم أخذاً بهذا الدليل، كما أنه إذا لم يستطع السجود على الأرض فلا يضع يديه على الأرض، وإنما يضعهما على ركبتيه كهيئة جلوس الصلاة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه قال: (إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفع فليرفعهما)[(521)]، والله تعالى أعلم.
باب سجود السهو وغيره
هذا الباب ذكر فيه الحافظ رحمه الله أحاديث سجود السهو، وأحاديث سجود التلاوة والشكر.
وإضافة السجود إلى السهو وما ذكر معه من إضافة الشيء إلى سببه، أي: باب السجود الذي سببه السهو، أو التلاوة، أو الشكر، والإضافة بمعنى اللام، والسهو لغة: نسيان الشيء والغفلة عنه، قال في «القاموس»: (سها في الأمر: نسيه وغفل عنه)، والمراد هنا: نسيان شيء من الصلاة.(1/167)
قال ابن الأثير: (السهو في الشيء: تركه عن غير علم، والسهو عنه: تركه مع العلم، ومنه قوله تعالى: {{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *}}) [الماعون: 5] [(522)].
وسجود السهو: سجدتان يأتي بهما المصلي لجبر الخلل في صلاته سهواً بزيادة أو نقصان أو شك.
وقد ورد في سجود السهو أحاديث كثيرة، وأهمها: حديث عبد الله ابن بحينة، وحديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، وحديث عمران، وحديث ابن مسعود رضي الله عنهم، وكلها مذكورة هنا، وهي أربعة أنواع:
الأول: في النقص، وفي ذلك حديث عبد الله ابن بحينة، أول أحاديث الباب.
الثاني: في الزيادة، وفي ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه ومن الزيادة أن يسلم قبل تمام صلاته، ثم يذكر فيتمها، وفيه حديث أبي هريرة وحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما.
الثالث: الشك في الزيادة أو النقصان إذا لم يترجح عنده أحدهما، وهذا في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الرابع: الشك في الزيادة والنقصان إذا ترجح عنده أحدهما، وذلك في حديث ابن مسعود ـ أيضاً ـ.
ومشروعية سجود السهو من محاسن هذه الشريعة، فإن النسيان لا يسلم منه أحد، ولا بد من وقوعه في هذه العبادة العظيمة، وقد وقع من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففيه جبر للنقصان الذي حصل في الصلاة، وفيه إرضاء للرحمن بإتمام عبادته وتدارك طاعته، وفيه إرغام للشيطان الذي هو سبب النسيان والسهو، وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك في حديث أبي سعيد رضي الله عنه كما سيأتي إن شاء الله.
حكم من نسي التشهد الأول في الصلاة(1/168)
330/1 ـ عَنْ عَبْدِ الله ابن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم صلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَييْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وهُو جَالِسٌ. وَسَجَدَ سَجْدَتَيْن، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ. أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الجُلوسِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه»، أولها في كتاب «الأذان»، باب «من لم ير التشهد واجباً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام من الركعتين ولم يرجع» (829) ومسلم (570) وأبو داود (1034) والترمذي (391) والنسائي (3/19) وابن ماجه (1206) وأحمد (38/7) كلهم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن عبد الله ابن بحينة الأسدي به.
وأما زيادة مسلم فهي عند البخاري ـ أيضاً ـ في كتاب «السهو»، باب «من يكبر في سجدتي السهو» (1230)، وعند مسلم (570) (86) من طريق الليث عن ابن شهاب به، ولعل غرض الحافظ من إيرادها أمران:
الأول: دلالتها على أن الإمام يكبر في كل سجدة، وهي تكبيرة الانتقال، بخلاف اللفظ الأول فإنه لا يدل على ذلك.
الثاني: أن فيها بيان أن السجود خاص بالسهو، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فقام ولم يجلس) زاد الضحاك بن عثمان، عن الأعرج: (فسبحوا به فمضى حتى فرغ من صلاته)[(523)].
قوله: (ولم يجلس) لفظ الصحيحين (فلم يجلس)، وفي رواية للبخاري: (فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس) وهذا تأكيد لقوله: (فقام).
قوله: (كبر وهو جالس) جملة حالية متعلقة بقوله: (كبر) أي: أنشأ التكبير وهو جالس.(1/169)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من نسي التشهد الأول حتى قام إلى الثالثة أنه لا يرجع إليه، ويجبره بسجود السهو قبل السلام، لقوله: (قبل أن يسلم) وقد دلت زيادة ابن خزيمة ـ عند من يرى صحتها ـ على أن الإمام لا يرجع ولو سبح به المأموم، وهذا كله إذا ذكر التشهد بعد أن استتم قائماً، سواء شرع في القراءة أم لا، لأنه انتقل إلى الركن الذي يليه وهو القيام، لكن إن ذكره قبل أن ينهض، أي: قبل أن تفارق فخذاه ساقيه فإنه يجلس ويتشهد، وليس عليه شيء.
وقد خص الفقهاء ـ رحمهم الله ـ سجود السهو في باب النقص، بنقص الواجبات، وأما نقص الأركان كنسيان سجدة فلا تجبر بسجود السهو، بل لا بد من الإتيان بها على تفصيل في كتب الفقه.
وأما ترك السنن كالاستفتاح والتعوذ ونحوهما أو رفع اليدين، فإن كان من عادته أن يأتي به سُنَّ له أن يسجد على أحد القولين، لعموم: (فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين)[(524)]، وإن لم يكن من عادته الإتيان به ولم يخطر بباله فلا يسجد لتركه، إذ لا موجب لهذه الزيادة، والله أعلم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المأموم يتابع إمامه إذا قام عن التشهد الأول ناسياً ولا يجلس، وإن لم يكن المأموم ناسياً.
الوجه الخامس: استدل بهذا الحديث من قال: إن التشهد الأول واجب، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تركه سجد له، وليس بركن، لأن الركن لا يجبره سجود السهو، وهذا قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وطائفة منهم إسحاق والثوري وأبو ثور وداود، وحكى الطحاوي مثله عن مالك[(525)].
وعكس آخرون، فقالوا: إن الحديث دليل على عدم وجوب التشهد الأول، لأنه لو كان واجباً لرجع إليه، وقد أشار البخاري إلى هذا[(526)]، وهذا فيه نظر، والصواب الأول، أخذاً بظاهر الحديث.(1/170)
الوجه السادس: الحديث دليل على وقوع السهو من النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه من النسيان، والنسيان من طبيعة البشر، ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وسيأتي.
قال ابن القيم: (وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته، وإكمال دينهم، ليقتدوا به فيما شرعه لهم عند السهو)[(527)].
وأما حديث: (إني لأنسى أو أُنَسَّى لأَسُنَّ)[(528)]، فقد جاء عن مالك أنه بلغه أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: ... فذكره.
وهو حديث لا أصل له، وإنما هو من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة، كما نص على ذلك الحفاظ، كابن عبد البر والعراقي وابن حجر وغيرهم[(529)]، وهي ضعيفة؛ لأنها معضلة أو منقطعة، ثم إن ظاهره معارض لحديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين، لأنه يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لا ينسى بباعث البشرية وإنما ينسيه الله ليشرع، والصواب أنه ينسى لأنه بشر، ولا ينافي هذا أنه يترتب على نسيانه فوائد وأحكام كما ذكر ذلك ابن القيم، والله تعالى أعلم.
حكم من سلَّم ناسياً قبل تمام صلاته(1/171)
331/2 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صلَّى النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِحْدَى صَلاَتَي العَشِيِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِي الْقَوْم أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: قُصِرَتِ الصَّلاَةُ، وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم ذَا الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَنَسيْتَ؟ أَمْ قُصِرَت؟ فَقَالَ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَر»، فَقَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمْ، ثُمَّ كَبَّر، فَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، فَكَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَو أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّر. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: صَلاَةَ الْعَصْرِ.
وَلأَبِي دَاوُدَ، فَقَالَ: «أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟»، فَأَوْمَأَوا: أَيْ نَعَمْ.
وَهِيَ فِي «الْصَّحِيحَيْن» لكِن بِلَفْظِ: فَقَالُوا.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَقَّنَهُ الله ذلِكَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه»، أولها في كتاب «الصلاة»، باب «تشبيك الأصابع في المسجد وغيره»، وفي كتاب «السهو» باب «من يكبر في سجدتي السهو» (1229)، ومسلم (573) من طريق أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة به، وله طرق كثيرة وألفاظ عديدة في الصحيحين وغيرهما، وقد أشار الحافظ هنا إلى شيء من ذلك.(1/172)
ورواه مسلم (573) (99) من طريق داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال: (سمعت أبا هريرة يقول: صلَّى لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العصر فسلم في ركعتين...) الحديث.
ورواه أبو داود (1008) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب به، ولفظه: (فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على القوم فقال: «أصدق ذو اليدين؟»، فأومأوا، أي: نعم...) قال أبو داود: ولم يذكر (فأومأوا) إلا حماد بن زيد، وهذه الرواية عند البخاري (1228) ومسلم (573) من طريق مالك، عن أيوب به، بلفظ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصدق ذو اليدين؟» ، فقال الناس: (نعم).
وفي رواية أخرى لأبي داود (1012) من طريق محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سلمة وعبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة بهذه القصة، قال: (ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك).
وهذا حديث منكر بهذه الزيادة، لأن محمد بن كثير بن أبي عطاء يروي المناكير خاصة عن الأوزاعي، وهذا منها[(530)].
واعلم أن هذا الحديث له طرق كثيرة بألفاظ متعددة، وقد اشتمل على فوائد كثيرة، أوصلها بعضهم إلى مائة وخمسين فائدة، وقد جمع طرقه وألفاظه وتكلم عليها الحافظ العلائي في كتابه: «نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد» وهو مطبوع، وقد أثنى عليه الحافظ ابن حجر[(531)].
وسأقتصر ـ هنا ـ على الفوائد المتعلقة بهذا الباب دون غيرها خشية الإطالة.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إحدى صلاتي العشي) بفتح العين المهملة وكسر الشين وتشديد الياء، أصله من العَشَاءِ، وهو الظلمة، وهو من زوال الشمس إلى غروبها، وقيل: من زوال الشمس إلى الصباح، وهو الأقرب.(1/173)
وقد جاء في رواية الصحيحين: (صلَّى بنا النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر أو العصر...) بلفظ الشك، وفي رواية للبخاري بلفظ: (الظهر) بغير شك، وعند مسلم: (العصر) والظاهر أن هذا الاختلاف من الرواة، أو من أبي هريرة رضي الله عنه ويدل لذلك رواية النسائي من طريق ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: (صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى صلاتي العشي، قال أبو هريرة: لكني نسيتها...)[(532)]، وفي رواية أن الذي نسي هو ابن سيرين، ومثل هذا لا يؤثر في الحديث، لأن المقصود أنها رباعية، وكلها صلاة عَشِيٍّ.
قوله: (ثم قام إلى خشبة) هي ما غلظ من العيدان، وفي رواية لمسلم: (ثم أتى جذعاً في قبلة المسجد).
قوله: (فوضع يده عليها) في رواية (فاتكأ عليها كأنه غضبان) أي: يشبه الغضبان في انقباضه وتشوش فكره، وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من أجل نقصان صلاته، أو أنه كان في حال صلاته مشغول البال بأمر أوجب له ذلك الغضب، وحمله على أن صلى ركعتين وسلم[(533)]، ولعل الصحابة رضي الله عنهم عبروا بالغضب عما ظهر عليه، وإلا فلا موجب له في هذا الوقت.
قوله: (فهابا أن يكلماه) الهيبة: إجلال ومخافة ناشئة عن إعظام، يقال: رجل مهيب ومهوب، أي: يهابه الناس، وإنما هاب أبو بكر وعمر تكليم النبي صلّى الله عليه وسلّم لشدة معرفتهما بعظمته وحقوقه، وقوة المعرفة توجب الهيبة[(534)].
قوله: (وخرج سَرَعَانُ الناس) بفتح السين والراء، هم الأوائل الذين يسرعون الخروج من المسجد بعد انقضاء الصلاة، ويجوز إسكان الراء، كما نقله القاضي عياض[(535)]، ويجوز ضم السين وإسكان الراء، فيكون جمع سريع كقضيب وقضبان وكثيب وكثبان.(1/174)
قوله: (قُصرت الصلاة) بضم القاف وكسر الصاد، بلفظ الخبر، أي: أن الله تعالى قصرها، على اعتقاد وقوع قصرها إلى ركعتين، لأنهم في زمان الوحي والنسخ، والذي في البخاري ـ هنا ـ (أقصرت الصلاة؟) بلفظ الاستفهام، أما لفظ الكتاب فهو رواية للبخاري من طريق ابن عون، عن ابن سيرين به[(536)]، ويجوز في ضبطها فتح القاف وضم الصاد، كما ذكره النووي[(537)].
قوله: (ذا اليدين) وفي رواية (يقال له: ذو اليدين)، وقد جاء في بعض روايات الصحيحين: (وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له ذو اليدين...) والمشهور أنه الخرباق بن عمرو، وهو سُلميٌّ من بني سليم.
قوله: (أنسيت أم قصرت؟) أي: أذهلت فسلَّمت قبل تمام الصلاة، أم أن الصلاة قصرت وردت إلى ركعتين؟
فذو اليدين غلب عليه حرصه على تعلم العلم واعتنائه بأمر الصلاة، وأبو بكر وعمر غلب عليهما احترام النبي صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمه، مع علمهما بأنه سيبين أمر ما وقع.
قوله: (لم أنس ولم تقصر) نفى صلّى الله عليه وسلّم النسيان بناء على ظنه أنه أتم صلاته، ونفى القصر بناء على يقينه أن حكم إتمام الصلاة لم يتغير، فلما انتفى القصر عن يقين تعين أن يكون ناسياً، ولهذا قال ذو اليدين: بلى، قد نسيت.
وظاهر هذا السياق أنه رجع إلى قول ذي اليدين وحده، لكن ورد روايات أخرى: (فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم)، وفي رواية أبي داود المذكورة: (فقال: أصدق ذو اليدين؟)، وإنما لم يأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بقول ذي اليدين، لأنه يعارض ما كان يظنه من إتمام الصلاة، فطلب النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يرجح قوله.
قوله: (ولم يسجد حتى يقنه الله ذلك) أي: لم يسجد صلّى الله عليه وسلّم سجدتي السهو حتى يقنه الله تعالى أنه سلم من ركعتين، إما بوحي أو بتذكيره إياه لما سأل القوم عما قاله ذو اليدين، وعلم أبو هريرة ذلك إما من قرائن الأحوال، أو بإخباره صلّى الله عليه وسلّم، وهذه زيادة منكرة، كما تقدم.(1/175)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من سلم ناسياً قبل تمام صلاته ثم ذكر أو ذُكّر قريباً وجب عليه إتمامها فوراً، ولا يمنع من ذلك كلامه أو انتقاله من موضعه، لأن ذلك مبني على اعتقاده تمام صلاته، لقوله: (فقال: أصدق ذو اليدين؟؟ فقالوا: نعم) فهو كلام عمد، لكنه لإصلاح الصلاة.
وأما رواية: (فأومأوا) فيحتمل أنها من تصرّف بعض الرواة، لأنه ظن أنه لا يتكلم لأنه في صلاة، ورواية: (فقالوا) لا غرابة فيها، لأنهم ظنوا أن الصلاة قد انتهت أو أنهم تكلموا لمصلحتها.
أما من يتيقن أن الإمام قد سها وأن الصلاة لم تتم فإنه يبقى في محل الجلوس ولا يتكلم ولا ينصرف.
وهكذا لو زاد الإمام ونبهوه ولم يرجع فإنهم لا يتابعونه في الزيادة، بل يجلسون وينتظرون حتى يسلِّم بهم أو يسلِّمون قبله، والانتظار أحسن، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية[(538)]، لكن الصحابة رضي الله عنهم التبس عليهم الأمر فخشوا أن يكون قد جاء تغيير في الحكم، فلذا سلموا معه وخرج من خرج، لأن الزمان زمن وحي ونسخ، وأما الآن فقد انتهى الأمر فلم يبق إلا السهو.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الإمام لا يرجع إلى قول واحد من المأمومين إذا كان يظن خلافه حتى يتثبت من غيره، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل قول ذي اليدين وحده، وإنما أقبل على الصحابة فسألهم، ولولا أنه سيرجع إلى قولهم لما سألهم، وكذا يدل عليه حديث ابن مسعود الآتي لما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم خمساً فقالوا: (أحدث في الصلاة شيء؟) قال: «وما ذاك؟» ، قالوا: (صليت خمساً...) الحديث.
والقول برجوع الإمام إلى قول المؤتمِّين به هو قول مالك وأحمد، وقد نص الفقهاء على أنه لو سبح به اثنان لزمه الرجوع ما لم يجزم بصواب نفسه. فإن جزم بصواب نفسه لم يرجع إلى قول من خالفه ولو كثروا.(1/176)
والقول الثاني: أنه إن سبح به واحد وغلب على ظنه صدقه أخذ بقوله، على القول بجواز البناء على غلبة الظن؛ لأنه خبر ديني فيقبل فيه خبر واحد ثقة، كوقت الصلاة وطهارة الماء ونجاسته، وهذا قول أبي حنيفة وإسحاق، وهو وجه في مذهب الحنابلة في الزيادة فقط[(539)]، والله أعلم.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن من سلَّم ناسياً قبل تمام صلاته فإنه يسجد سجدتي السهو بعد السلام، فيكبر عند السجود والرفع منه، ثم يسلم بعدهما، وأما التشهد ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن الأفعال الكثيرة التي ليست من جنس الصلاة إذا وقعت سهواً أو مع ظن تمام الصلاة لا تفسد بها الصلاة، بل ينبني بعضها على بعض ولا يستأنفها، وقد جاء في حديث عمران رضي الله عنه: (أنه قام فدخل الحجرة)[(540)].
قال الحافظ ابن رجب: (هذه الرواية تدل على أن الخروج من المسجد لا يمنع البناء على الصلاة لمن سلم عن نقص)[(541)]، والله تعالى أعلم.
حكم التشهد بعد سجدتي السهو
332/3 ـ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم صلَّى بِهِمْ، فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (1039) في كتاب «الصلاة»، باب «سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم» والترمذي (395) والحاكم (1/323) من طريق محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، حدثني أشعث، عن محمد بن سيرين، عن خالد ـ يعني الحذاء ـ عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين به.
وهذا إسناد صحيح، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على حديث خالد الحذاء، عن أبي قلابة، وليس فيه ذكر التشهد لسجدتي السهو) وسكت عنه الذهبي.(1/177)
وهذا فيه نظر، فإن أشعث وهو ابن عبد الملك الحمراني وإن كان ثقة إلا أنه لم يُخَرَّجْ له في الصحيحين، كما ذكر الذهبي نفسه[(542)]، وقد تفرد أشعث بذكر التشهد وخالف غيره من الثقات، فقد رواه جماعة آخرون عن خالد الحذاء، ولم يذكروا التشهد، كما ذكر ذلك البيهقي، فهذه الزيادة مخالفة للثقات الحفاظ المتقنين، أمثال شعبة ووهيب بن خالد وإسماعيل بن علية وغيرهم، وأشعث ليس مقاوماً لهؤلاء، بل هو دونهم في الإتقان والحفظ بكثير، ومما يؤيد ذلك أن محمد بن سيرين قيل له: (فالتشهد؟) قال: (لم أسمع في التشهد شيئاً).
وقد أخرج مسلم هذا الحديث (574) من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى العصر، فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له: (الخرباق)، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: (أصدق هذا؟) قالوا: (نعم)، فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم.
وليس في هذا السياق ذكر التشهد، وعليه: فهي زيادة شاذة، كما قال ابن المنذر، والبيهقي، وابن حجر[(543)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن سجود السهو إذا كان بعد السلام فإنه يتشهد له ثم يسلم، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة والمالكية والحنفية[(544)].(1/178)
والقول الثاني: أنه إذا سجد بعد السلام، سلم بعد سجوده بدون تشهد، وهذا قول الأوزاعي والشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(545)]، لحديث عمران عند مسلم: (فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم) وتقدم بتمامه، فلم يذكر التشهد، ولو فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم لنقل إلينا، وأما إثبات التشهد في حديث الباب فهو زيادة شاذة، قال ابن عبد البر: (أما التشهد في سجدتي السهو فلا أحفظه من وجه صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم)[(546)]، وقال النووي: (إنه لم يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منه شيء)[(547)]، وهذا هو الراجح، والله تعالى أعلم.
حكم من شك ولم يترجح عنده شيء
333/4 ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثَلاَثاً أَمْ أَرْبَعاً؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْن عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإنْ كَانَ صَلَّى خَمْساً شَفَعْنَ لَهُ صَلاَتَهُ، وَإنْ كَانَ صَلَّى تماماً كَانَتَا تَرْغِيماً لِلشَّيْطَانِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (571) في كتاب «المساجد»، باب «السهو في الصلاة والسجود له» من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ... فذكره.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المصلي إذا شك في صلاته ولم يترجح عنده أحد الأمرين فإنه يطرح الشك ويعمل باليقين، وهو الأقل، فيتم صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وقد نقل النووي الإجماع على ذلك[(548)].(1/179)
وورد ـ أيضاً ـ عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدةً صلّى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على ثنتين، وإن لم يدر ثلاثاً صلّى أو أربعاً فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم»[(549)].
فإذا شك في الركعة الثانية هل هي الثانية أو الثالثة ولم يترجح عنده شيء جعلها الثانية، ثم أكمل صلاته وسجد للسهو.
وقد بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم الحكمة من ذلك وهو أنه إن كان صلّى خمساً فإن السجدتين يشفعن له صلاته، أي: تكون صلاته شفعاً بهاتين السجدتين، لأن المطلوب بالظهر والعصر والعشاء الشفع فكأنهما قاما مقام ركعة، ولو زاد ذلك على أربع.
وإن كان صلّى تماماً ولم يحصل له نقص كانتا إرغاماً للشيطان، أي: إغاظة وإذلالاً له، لأنه لبَّس على المصلي صلاته وأراد إفسادها، فجعل الله تعالى هاتين السجدتين طريقاً إلى جبر صلاته، وردّاً للشيطان خاسئاً ذليلاً مبعداً عن مراده، وكملت صلاة العبد وامتثل أمر الله تعالى بالسجود الذي عصى به إبليس ربه.
والإرغام من الرَّغام ـ بالفتح ـ وهو التراب، يقال: (أرغم الله أنفه)، أي: ألصقه بالتراب، وهو كناية عن الذل والهوان.
الوجه الثالث: دل هذا الحديث مع حديث ابن بحينة ـ المتقدم ـ على أن سجود السهو قبل السلام محفوظ في حالين:
الأولى: إذا كان عن نقص، كما في حديث ابن بحينة لما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التشهد الأول قبل السلام.
الثانية: إذا كان عن شكٍّ لم يترجح فيه أحد الأمرين، والله تعالى أعلم.
حكم من زاد أو شك وترجح عنده أحد الأمرين(1/180)
334/5 ـ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: «وَمَا ذَلكَ؟» قَالوا: صَلَّيْتَ كَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «إنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنسَى كَمَا تَنْسُونَ، فَإذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُوني، وَإذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَلْيُتِمَّ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ»، وَلِمُسْلِمٍ: أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ بَعْدَ السَّلاَمِ وَالْكَلاَمِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع، أولها كتاب «الصلاة»، باب «التوجه نحو القبلة حيث كان» (401) ومسلم (572) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال عبد الله:... فذكره، وهذا لفظ مسلم، وأما رواية البخاري التي ذكر الحافظ فهي بهذا الإسناد في الباب المذكور، ولعله ذكرها، لأنها صريحة في أن السجود بعد السلام، بخلاف اللفظ الأول: (فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين) فليس فيه موضع السجود.
ورواه مسلم (572) (95) من طريق الأعمش، عن إبراهيم به، وفيه: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام)، وغرض الحافظ من هذه الزيادة بيان أن الكلام الذي بعد السلام وقبل السجود لا يؤثر، لأنه من مصلحة الصلاة، وذلك أنهم قالوا: (يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟)، قال: «وما ذلك؟» ، قالوا: (صليت كذا).(1/181)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المصلي إذا زاد في صلاته ركعة فصلى الظهر ـ مثلاً ـ خمساً أنه يسجد للسهو بعد السلام، وصلاته صحيحة، وهذا مبني على ما إذا لم يذكر الزيادة حتى فرغ منها، والصحابة رضي الله عنهم لم ينبهوا النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه الزيادة مع علمهم بها، لظنهم أن الصلاة قد طرأ عليها تغيير بالزيادة، ولهذا لما سلم قالوا له: (يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟).
فإذا ذكر المصلي الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها، ووجب عليه سجود السهو، وصلاته صحيحة.
ومثل زيادة الركعة القيام أو القعود أو السجود، ونحو ذلك.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المصلي إذا شك في صلاته وترجح عنده أحد الأمرين فإنه يتحرى الصواب، وقد فُسِّر الصواب بالأخذ بغالب الظن وأن يتحرى ما هو الأرجح، وهو الأقرب إلى فهمه وضبطه، فيبني عليه، سواء أكان زيادة أم نقصاناً، ثم يسجد للسهو بعد السلام، كأن يشك في عدد الركعات أصلى ثلاثاً أم أربعاً فيتم ويسجد للسهو.
وظاهر الحديث أنه يبني على غالب ظنه إماماً كان أو منفرداً، وهذا رواية عن أحمد[(550)].
وذهب آخرون إلى أن الإمام يبني على غالب ظنه، لأن عنده من ينبهه إذا أخطأ، وأما المأموم والمنفرد فيبني على اليقين وهو الأقل[(551)]، والأول أظهر لدلالة الحديث.
الوجه الرابع: دلَّ هذا الحديث مع حديث أبي هريرة المتقدم على أن سجود السهو بعد السلام يكون في حالين:
الأولى: إذا سلم قبل تمام صلاته ثم أتمها، كما في حديث أبي هريرة لما سلم عن ركعتين، وكما في حديث عمران لما سلم عن ثلاث، وكذا إذا كان عن زيادة، كما في حديث ابن مسعود هذا.
وقد اعتبر العلماء السلام قبل إتمام الصلاة من باب الزيادة، لأنه زاد سلاماً في أثناء صلاته.
الثانية: إذا كان السجود عن شكٍّ ترجح فيه أحد الأمرين، كما دل على ذلك حديث ابن مسعود هذا.(1/182)
الوجه الخامس: دل قوله: (إذا شك أحدكم في صلاته) وكذا غيره من الأحاديث المتقدمة على أن سجود السهو مشروع في صلاة النافلة، كما هو مشروع في صلاة الفريضة، لأن الجبران وإرغام الشيطان يحتاج إليه في صلاة النفل، كما يحتاج إليه في صلاة الفرض، وقد ترجم البخاري في كتاب «السهو» بقوله: باب «السهو في الفرض والتطوع»[(552)].
وذكر عن ابن عباس أنه سجد سجدتين بعد وتره، وذكر حديث أبي هريرة الآتي في شرح حديث عبد الله بن جعفر، وهذا قول الجمهور، وقد خالف بعض السلف، كما ذكر الحافظ، فقالوا: لا يسجد في صلاة التطوع، والله أعلم.
ما جاء في السجود للشك بعد السلام
335/6 ـ وَلأحْمَدَ، وَأَبي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ مَرْفُوعاً: «مَنْ شَكَّ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ»، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (1033) في كتاب «الصلاة»، باب «من قال بعد التسليم» والنسائي (3/30) من طريق حجاج بن محمد، وأخرجه أحمد (3/275) والنسائي ـ أيضاً ـ (3/30) وابن خزيمة (1033) من طريق روح بن عبادة كلاهما عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن مسافع، أن مصعب بن شيبة أخبره، عن عتبة بن محمد بن الحارث، عن عبد الله بن جعفر به.
وهذا إسناد ضعيف، عبد الله بن مسافع هو المكي الحجبي، روى له أبو داود والنسائي والترمذي هذا الحديث لا غير، وقد ذكره البخاري، وأبو حاتم والمزي ومن بعدهم الحافظ ابن حجر ولم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً[(553)]، وكذا الذهبي[(554)]. وذكر الشيخ أحمد شاكر أن تصحيح ابن خزيمة لحديثه هذا توثيق له، وقال: (ولم يذكره البخاري والنسائي في الضعفاء)[(555)].(1/183)
أما مصعب بن شيبة فهو ضعيف، قال أحمد: (روى أحاديث مناكير)، وقال أبو حاتم: (لا يحمدونه، وليس بالقوي) وقال النسائي: (منكر الحديث) وقد وثقه ابن معين والعجلي[(556)].
وأما شيخ مصعب، عتبة بن محمد بن الحارث بن نوفل الهاشمي فقد قال عنه النسائي: (ليس بمعروف)، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(557)] وقال عنه في «التقريب»: مقبول، وقد نقل ابن قدامة عن الأثرم أن هذا الحديث لا يثبت[(558)]، وقد ضعفه الألباني[(559)].
ثم إن الحديث في سنده ومتنه اضطراب، أما سنده فقد أخرجه النسائي (3/30) من طريق ابن المبارك، والوليد بن مسلم، عن ابن جريج، عن عبد الله بن مسافع، عن عتبة به، ولم يذكر فيه مصعب بن شيبة.
وأما اضطراب متنه، فقد روي: (فليسجد سجدتين بعد ما يسلم) كما هو لفظ البلوغ، وروي عند أحمد: (فليسجد سجدتين وهو جالس) دون قوله: (بعد ما يسلم)، وظاهره أنه قبل التسليم.
وقد ورد في معنى هذا الحديث، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلّى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس»[(560)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن سجود السهو للشك يكون بعد السلام، وقد تقدم ما يعارض ذلك في حديثي أبي سعيد وابن مسعود رضي الله عنهما وفيهما أن السجود للشك قبل السلام إن بنى على اليقين، وبعده إن بنى على غالب ظنه.
وقال بعض العلماء: لا معارضة بين هذه الأحاديث؛ لأن الأمر في ذلك واسع والكل جائز.
ثم إن ظاهر هذا الحديث أن المصلي إذا شك فليس عليه إلا سجدتان، وقد أخذ بذلك طائفة من السلف، ومنهم الحسن البصري، وقال الجمهور من أهل العلم: إن من شك في صلاته ولم يترجح عنده شيء بنى على اليقين وهو الأقل، وأكمل صلاته ثم سجد للسهو، لحديث أبي سعيد المتقدم الذي دل على أن الواجب على الساهي أمران:
الأول: البناء على الأقل.
الثاني: سجود السهو.(1/184)
وعلى هذا فليس في حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن جعفر أكثر من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بسجدتين عند السهو في الصلاة، وليس فيهما بيان ما يصنعه من وقع له ذلك، وإنما هذا مستفاد من أحاديث أخرى بينت الواجب على من حصل له شك، والله تعالى أعلم.
حكم رجوع من قام عن التشهد الأول
336/7 ـ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَاسْتَتَمَّ قَائِماً، فَلْيَمْضِ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَإنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِماً فَلْيَجْلِسْ وَلاَ سَهْوَ عَلَيْهِ»، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، والدارَقُطْنيُّ وَاللّفْظُ لَهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (1036) في كتاب «الصلاة»، باب «من نسي أن يتشهد وهو جالس»، وابن ماجه (1208) والدارقطني (1/378) من طريق جابر ـ يعني الجعفي ـ قال: ثنا المغيرة بن شبيل الأحمسي، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف كما قال الحافظ ـ هنا[(561)] ـ كما ضعفه النووي[(562)]، لأن فيه جابر بن يزيد الجعفي، وهو رافضي متروك، كما قال الدارقطني وغيره، وقال البيهقي: (لا يحتج به)، وقال أبو داود: (وليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث)، ولعله يشير بذلك إلى ضعف جابر الجعفي، وهذا الحديث مداره عليه[(563)].
وقد ذكر الألباني متابعاً لجابر الجعفي، عند الطحاوي، من طريق إبراهيم بن طهمان، عن المغيرة بن شبيل، عن قيس بن أبي حازم قال: صلّى بنا المغيرة بن شعبة... وذكر تمام الحديث[(564)].(1/185)
وهذا الإسناد إن كان على ظاهره فهو متابع صحيح، كما ذكر الألباني، وإلا فيحتمل أنه سقط بعد ابن طهمان اسم شيخه، وهو جابر الجعفي، لأن مدار الحديث عليه، كما تقدم، وهو سَقْطٌ إما من الناسخ، أو الطابع، أو من شيخ الطحاوي إبراهيم بن مرزوق، فإن الدارقطني قال عنه: (ثقة، إلا أنه كان يخطئ، فيقال له، فلا يرجع)[(565)]، وقد صرح شعيب الأرنؤوط ومن معه في تحقيق «المسند»[(566)]: أن اسم جابر الجعفي قد سقط من مطبوع الطحاوي، ثم رجعت إلى «إتحاف المهرة» وليس فيه إثبات جابر.
ومما يؤيد ذلك أن كتب الرجال تذكر جابراً في شيوخ ابن طهمان، وفي تلاميذ المغيرة بن شبيل ولا تذكر المغيرة من شيوخ ابن طهمان، ولا ابن طهمان من تلاميذ المغيرة[(567)]، كما هو ظاهر هذا الإسناد، ولهذا ضعَّف الحافظ هذا الحديث ـ هنا ـ وفي «التلخيص»، ولم يذكر له طريقاً أخرى، وكذا ضعفه العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن من سها عن القعود للتشهد الأول فقام واستتم قائماً أنه يمضي ولا يعود إليه، لاشتغاله بفرض القيام، ويأتي مكان ذلك بسجود السهو، وتقدم ذلك في حديث ابن بحينة أول الباب، ولم يبين في هذا الحديث محل سجدتي السهو، لكن تقدم أن محلهما قبل السلام.
وإن ذكر قبل أن ينتصب قائماً فإن عليه الرجوع والإتيان بالتشهد، سواء كان إلى القيام أقرب أو إلى القعود ـ على أحد القولين ـ وهو ظاهر الحديث، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يرجع مطلقاً[(568)].
وظاهر الحديث أنه لا سجود عليه إذا رجع، لأنه استدرك الواجب فأتى به، وهذا مبني على صحة الحديث بالمتابعة المتقدمة، وعليه ذَكَرَ كثير من الفقهاء ـ ومنهم فقهاء الحنابلة ـ الحالات الثلاث لمن قام عن التشهد الأول[(569)].
القول الثاني: أنه يجب عليه سجود السهو لهذه الزيادة، وهي مفارقة محل الجلوس إلى القيام، ويؤيد ذلك آثار عن الصحابة كأنس رضي الله عنه كما ذكر الحافظ[(570)].(1/186)
وقد رجح الشيخ عبد العزيز بن باز وجوب السجود في هذه الحال، وقال: (إن هذا يدل على ضعف حديث المغيرة هذا، لأن السهو لازم لمن قام ولو رجع وأتى بالتشهد).
وهذا هو الصحيح من المذهب عند الحنابلة[(571)]، وهذا كله في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم فلو ترك التشهد ناسياً وجلس إمامه، وجب عليه الرجوع مطلقاً، سواء استتم قائماً أم لا؟ لوجوب متابعة الإمام كما تقدم أول الباب، والله تعالى أعلم.
سهو المأموم يتحمله الإمام
337/8 ـ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الإمَامِ سَهْوٌ، فَإنْ سَهَا الإمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ». رَوَاهُ البزَّار وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (1/377) من طريق خارجة بن مصعب، عن أبي الحسين المديني، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو، وإن سها من خلف الإمام فليس عليه سهو، والإمام كافيه».
وهذا إسناد ضعيف جداً، لأن فيه خارجة بن مصعب، قال عنه الإمام أحمد: (لا يكتب حديثه)، وقال ابن معين: (ليس بشيء)[(572)]، وقال عنه الحافظ في «التقريب»: (متروك، وكان يدلس عن الكذابين، ويقال: إن ابن معين كذبه).
وفيه أبو الحسين المديني، وهو مجهول[(573)]، وأما عزو الحديث للبزار فلم أقف عليه فيه، ولا عزاه الحافظ له في «التلخيص»، وأما عزوه للبيهقي فإنه لم يروه مسنداً، كما عند الدارقطني، وإنما ذكره معلقاً، وضَعَّفَهُ.(1/187)
وقد وقع عزو الحديث إلى الترمذي في طبعة «محمد حامد الفقي» «للبلوغ»، وكذا في نسخ «سبل الإسلام»، والظاهر أن ذلك من النساخ، فإن الحافظ نفسه عزاه في «التلخيص» إلى الدارقطني فقط[(574)]، وقال الطيب آبادي في «التعليق المغني»: (أخرجه البيهقي والبزار، كما في بلوغ المرام) فلم يذكر الترمذي.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الإمام يتحمل عن المأموم السهو، فإذا سها المأموم دون إمامه، كأن يجلس في قيام أو يقوم في جلوس سهواً ونحو ذلك، فلا سجود عليه، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، بل حكى ابن المنذر عن إسحاق أنه إجماع أهل العلم[(575)].
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً في سنده، لكن معناه صحيح، ومعلوم من سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهديه في صلاته، فإنه عَلَّمَ الصحابة رضي الله عنهم أحكام سجود السهو، ولم يأمر المأمومين إذا سهوا أن يسجد الواحد منهم، مع أن وقوع السهو منهم أمر لا يمكن لأحد إنكاره، ومع ذلك فلم ينقل أن أحداً منهم سجد بعد سلامه صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان مشروعاً لفعلوه، ولو فعلوه لنقلوه، فلما لم ينقل دل على أنه لم يشرع، ولم يقع، ويدل لذلك عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه...»[(576)]، فهذا يدل على أن المأموم يتابع إمامه، حتى إن متابعة الإمام مقدمة على الإتيان بالتشهد الأول إذا قام عنه الإمام، كما تقدم.
وقد حكى الصنعاني عن الهادي ـ من أئمة الزيدية ـ أن المأموم إذا سها في صلاته فإنه يسجد للسهو، خلافاً للجمهور ـ ومنهم إمامه زيد بن علي ـ ورجح الصنعاني هذا القول[(577)]، وهو قول ضعيف، لا يعول عليه، ويرده ما تقدم، وبه يأخذ بعض الوافدين، كما نشاهدهم في الحرم المكي إذا سلم الإمام أتى الواحد منهم بسجدتين، فإذا سئل عن ذلك قال: إنه سها، والله المستعان.(1/188)
الوجه الثالث: استثنى العلماء ـ رحمهم الله ـ من تَحَمُّلِ السهو عن المأموم مسألة، وهي ما إذا كان المأموم مسبوقاً بركعة فأكثر فإنه يسجد للسهو إذا سها مع الإمام أو سها فيما انفرد به، وذلك ليجبر صلاته، لأن له حكم الانفراد بسبب الركعة أو الركعات التي فاتته، ولأنه إذا سجد بعد قضاء ما فاته لا يحصل منه مخالفة لإمامه.
أما المأموم الذي دخل مع إمامه من أول صلاته، فصلاته تامة ومنجبرة بصلاة إمامه.
الوجه الرابع: دل الحديث على أن سهو الإمام يوجب السجود على المأموم ولو لم يسهُ المأموم، وهذا دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وحكي فيها الإجماع.
وظاهر الحديث أن المأموم يتابع إمامه في سجود السهو ولو كان بعد السلام، وهذا ظاهر إذا كان المأموم قد دخل مع إمامه من أول الصلاة فإنه يسجد معه ولو بعد السلام.
فإن كان المأموم مسبوقاً وسجد الإمام بعد السلام فالمشهور عند الفقهاء أنه يسجد مع إمامه ولو بعد السلام، حتى قالوا: (إذا قام ولم يستتم قائماً لزمه الرجوع ليسجد مع إمامه).
والقول الثاني: أن الإمام إذا سجد للسهو بعد السلام لا يلزم المأموم متابعته، لأنها متعذرة، لأن الإمام سيسلم، ولو تابعه في السلام لبطلت الصلاة لوجود الحائل دونها وهو السلام، فإذا أتم المأموم قضاء ما فاته سجد للسهو بعد السلام إذا كان السهو فيما أدركه مع الإمام، وأما إذا كان السهو فيما مضى من صلاة الإمام قبل أن يدخل معه المأموم لم يجب عليه السجود في هذه الحال، والله تعالى أعلم.
السجود يتكرر بتكرر السهو
338/9 ـ عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بعدما يُسَلِّمُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/189)
فقد أخرجه أبو داود (1038) في كتاب «الصلاة»، باب «من نسي أن يتشهد وهو جالس» وابن ماجه (1219) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله بن عبيد الكَلاعي[(578)]، عن زهير بن سالم العنسي، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن ثوبان، به.
وهذا إسناد ضعيف، كما قال الحافظ، وضعفه البيهقي[(579)] وعبد الحق وقال: (ليس إسناده مما تقوم به حجة)[(580)]، وقال النووي: (هذا حديث ضعيف ظاهر الضعف)[(581)].
وعلة الحديث أنه من رواية زهير بن سالم العنسي، وقد قال عنه الدارقطني: (حمصي منكر الحديث، روى عن ثوبان ولم يسمع منه)، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق فيه لين، وكان يرسل).
الوجه الثاني: الحديث دليل بظاهره على أن سجود السهو يتكرر بتكرر السهو في الصلاة، وأن كل سهو له سجدتان.
والحديث ضعيف ـ كما مضى ـ ومخالف لظواهر الأدلة في هذا الباب من أن السجود لا يتعدد ولو تعدد السهو، لأنه لو لم يتداخل لسجد عقب السهو، فلما أُخِّرَ السجود إلى نهاية الصلاة دل على أنه إنما أخر ليجمع كل سهو في الصلاة، ويؤيد ذلك عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين»[(582)]، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث ذي اليدين سها فسلم وتكلم بعد صلاته، وسجد لذلك سجوداً واحداً.
فلو ترك المصلي قول (سبحان ربي العظيم)، وقام عن التشهد الأول، وترك قول (سبحان ربي الأعلى) فهذه ثلاث أسباب توجب سجود السهو، فيكفي سجدتان.
وقيل إن الحديث يراد به العموم، والمعنى أن كل من سها في صلاته بأي سهو كان يشرع له سجدتان، ولا يختص ذلك بالمواضع التي سها فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم.(1/190)
لكن إذا اجتمع سببان أحدهما يقضي أن يكون السجود قبل السلام كما لو قام عن التشهد الأول، والثاني يقتضي أن يكون السجود بعد السلام، كما لو زاد في هذه الصلاة ركعة، أو ركع في ركعة ركوعين، فالمذهب عند الحنابلة أنه يغلب ما قبل السلام على ما بعده[(583)]، لأن المبادرة بجبر الصلاة قبل إتمامها أولى من تأخير الجابر، ويكون السجود قبل السلام آكد، وهذا هو القول الأول.
والقول الثاني: أنه ينظر إلى الأكثر فيغلب جانبه.
والقول الثالث: أنه يغلب أسبقهما وقوعاً، لأنه بمجرد وجوده اقتضى السجود وما بعده تابع له، وهذا كله مبني على القول بأنه يجزئه سجدتان ولو اختلف محلهما، وهذا هو المذهب.
والقول الرابع: لكل سهو سجدتان، ويسجد لكل سهو في محله، صححه في «الفائق»، وقدمه في «المحرر»[(584)]، وعزاه الموفَّق إلى الأوزاعي وجماعة، واستدل لهم بهذا الحديث[(585)].
وما دام أن المسألة ليس فيها نص، والاختلاف فيها مبني على الاجتهاد، فيكون الأمر فيه سعة، وأن من سجد بعد السلام أو قبله فلا بأس إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
ما جاء في سجود التلاوة في المفصل
339/1 ـ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم في: {{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ *}}، و{{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}}، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (578) (108) في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»، باب «سجود التلاوة» من طريق أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعاً.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة عند وجود سببه، وسيأتي حكمه إن شاء الله، ودليل ـ أيضاً ـ على ثبوت سجود التلاوة في المفصل، ومنه سورة الانشقاق والعلق، وهذا قول الجمهور من أهل العلم[(586)].(1/191)
وذهب مالك في الرواية المشهورة عنه، والشافعي في قوله القديم إلى أن المفصل لا سجود فيه وأنه منسوخ، وهذا قول جماعة من الصحابة والتابعين، كما ذكر ابن عبد البر وأن ذلك ثابت عنهم بأسانيد صحيحة[(587)]، جاء في «الموطأ»: (الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصل منها شيء)[(588)].
واستدلوا على ذلك بحديث أبي قدامة، عن مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة[(589)]، وحديث زيد بن ثابت قال: (قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النجم فلم يسجد فيها) وسيأتي.
والقول الأول هو الصواب، لأن الأصل بقاء الحكم وعدم النسخ، ويؤيد ذلك حديث أبي رافع قال: (صليت مع أبي هريرة صلاة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت فسجد فيها، فقلت له: ما هذه السجدة؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه)[(590)] وفي رواية: (قلت: يا أبا هريرة هذه سجدة ما كنا نسجدها، قال: سجد بها أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم وأنا خلفه، فلا أزال أسجد بها حتى ألقى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم)[(591)].
وظاهر قوله: (ما هذا؟) أنه استفهام إنكار من أبي رافع، ومثله ورد عن أبي سلمة مع أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين ـ أيضاً ـ وهو يشعر بأن العمل مستمر على خلاف ذلك، وأنه قد تُرِكَ السجود فيها، وهذا فيه نظر، كما قال الحافظ[(592)]: فإن أبا سلمة وأبا رافع لم ينازعا أبا هريرة، بل سكتا، لأن الحجة قد لزمتهما، لما أعلمهما بالسنة، ولم يحتجا عليه بأن العمل على خلاف ذلك، وهو يرى أن الحجة في السنة لا فيما خالفها، وأن مخالفها محجوج بها، وما أحسن قول ابن عبد البر: (فأيُّ عمل يدعى في خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين بعده؟)[(593)].(1/192)
وقد أجمع العلماء على أن إسلام أبي هريرة رضي الله عنه كان سنة سبع من الهجرة، فدل على أن السجود في المفصل بعد الهجرة، وأما حديث ابن عباس فعنه جوابان:
الأول: أنه حديث ضعيف، ضعفه البيهقي، وعبد الحق، والنووي، وابن حجر[(594)]، وغيرهم، لأن في إسناده أبا قدامة، واسمه الحارث بن عبيد، وهو لا يحتج به.
قال الإمام أحمد: (أبو قدامة مضطرب الحديث)، وفيه أيضاً مطر الوراق، وهو ضعيف، قال الحافظ في «التقريب»: (صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف)، فالأكثرون على تضعيفه من جهة حفظه، ولذا قال ابن عبد البر: (هذا عندي حديث منكر، يرده حديث أبي هريرة)[(595)].
الثاني: على فرض صحته، فهذا الحديث نافٍ، وحديث أبي هريرة مثبت، والمثبت مقدم على النافي، لأن مع المثبت زيادة علم، فيقدم قوله، وأما حديث زيد فسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى.
حكم سجدة سورة (ص)
340/2 ـ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: {{ص}} لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَسْجُدُ فِيهَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري (1069) في كتاب «سجود القرآن»، باب «سجدة ص» من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.(1/193)
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية السجود في سورة (ص) وأنها سجدة مسنونة باقية، ولكنها ليست من عزائم السجود، أي: ليست من السجدات المؤكدات التي ورد في السجود فيها أمر أو تحضيض أو حث كغيرها من سجدات القرآن، وإنما وردت بصيغة الإخبار عن داود عليه الصلاة والسلام أنه سجدها، وسجدها نبينا صلّى الله عليه وسلّم اقتداء به، وقد ورد عن مجاهد أنه سأل ابن عباس من أين سجدت في (ص)؟ فقال: (أو ما تقرأ: {{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}} إلى قول: {{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}} [الأنعام: 84 ـ 90] ، فكان داود ممن أُمِرَ نبيكم صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)[(596)].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد في (ص) وقال: «سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً»[(597)]، ومعنى (نسجدها شكراً) أي: على قبول التوبة، وتوفيق الله تعالى إياه عليها، قاله السندي.
الوجه الثالث: اختلف العلماء في سجدة (ص) داخل الصلاة، وسبب الخلاف: هل هي سجدة تلاوة أو سجدة شكر؟
فعند الشافعية في أصح الوجهين، والحنابلة على الصحيح من المذهب أنها سجدة شكر، فلا تشرع في الصلاة[(598)]، ولو سجد فيها بطلت صلاته، لأنه زاد في صلاته فعلاً مثله يبطل الصلاة.
القول الثاني: أنها سجدة تلاوة، كسائر السجدات في القرآن، فتسجد داخل الصلاة وخارجها، وهو قول الحنفية، والمالكية، وقول في مذهب الشافعية، وذكره ابن قدامة احتمالاً في مذهب الإمام أحمد[(599)]، واختاره ابن حزم[(600)].
وهذا هو الراجح إن شاء الله، لأن سبب السجود فيها القراءة المتعلقة بالصلاة، وقد رجح ذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد العزيز بن باز عليهما رحمة الله[(601)].(1/194)
ويجاب عن حديث ابن عباس بأن كونها توبة وشكراً لا ينافي كونها سجدة تلاوة وعزيمة، لأن العبادات كلها شكر لله تعالى، فلا يستلزم كونها شكراً ألا تكون للتلاوة، والله تعالى أعلم.
حكم السجود في سورة النجم
341/3 ـ وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سَجَدَ بِالنَّجْمِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
342/4 ـ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابتٍ رضي الله عنه قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، ولد قبل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة بإحدى عشرة سنة، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم أسلم زيد، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتعلم خطَّ اليهود، وقال له: «تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمنهم على كتابي»، قال: فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب للرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا كتب اليهم[(602)].
شهد زيد غزوة الخندق، وهي أول مغازيه، وقيل: شهد غزوة أحد. وكان ممن جمع القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال له أبو بكر: (إنك رجلٌ شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه[(603)]). وعهد عثمان رضي الله عنه إليه مع ثلاثة نفر من قريش لجمع القرآن لتوحيده في مصحف واحد[(604)].
توفي في المدينة سنة خمس وأربعين[(605)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث ابن عباس فقد أخرجه البخاري في كتاب «سجود القرآن»، باب «سجود المسلمين مع المشركين» (1071) من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والأنس.(1/195)
وأما حديث زيد بن ثابت فقد أخرجه البخاري في الكتاب المذكور، باب «من قرأ السجدة ولم يسجد» (1072) (1073) ومسلم (577) من طريق يزيد بن خصيفة عن ابن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه به.
الوجه الثالث: حديث ابن عباس دليل على ثبوت السجود في سورة (النجم) وتقدم ذلك، أما حديث زيد بن ثابت فقد استدل به من لا يرى السجود في سورة (النجم) كما تقدم، ويجاب عنه بأن تركه صلّى الله عليه وسلّم للسجود في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقاً، لاحتمال أن يكون لبيان الجواز، قال الحافظ: (وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي)[(606)]، ومن قبل ابن حجر قال النووي بمثل هذا الاحتمال[(607)].
وقيل: يحتمل أن ترك السجود فيها لأن زيداً هو القارئ ولم يسجد ولو سجد لسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد ذكر هذا الجواب أبو داود[(608)] والترمذي[(609)]، وذكره ـ أيضاً ـ شيخ الإسلام ابن تيمية[(610)]، والله تعالى أعلم.
حكم سجدتي سورة الحج
343/5 ـ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ رحمه الله قَالَ: فُضِّلَتْ سُورَةُ الحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «المراسيل».
344/6 ـ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ مَوْصُولاً مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَزَادَ: «فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهما، فَلاَ يَقْرَأْهَا» وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو عبد الله خالد بن معدان ـ بفتح الميم وسكون العين ـ الشامي الكَلاعي ـ بفتح الكاف ـ تابعي من أهل حمص، ثقة، ذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: (لقي سبعين رجلاً من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم... وكان من خيار عباد الله)، مات سنة أربع ومائة رحمه الله تعالى[(611)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:(1/196)
أما الأول فقد رواه أبو داود في «المراسيل» (76) من طريق معاوية بن صالح، عن عامر بن جَشِيب، عن خالد بن معدان، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين).
قال أبو داود عقبه: (وقد أُسند هذا ولا يصح) ونقله عنه البيهقي[(612)] وهو مرسل حسن رجاله ثقات، إلا معاوية بن صالح، فقد قال عنه الحافظ في «التقريب»: (صدوق له أوهام)، ويقصد أبو داود بالمسند حديث عقبة الذي يليه.
أما الحديث الثاني فقد أخرجه أحمد (28/593) وأبو داود (1402) في كتاب «الصلاة» باب «تفريع أبواب السجود» والترمذي (578) من طريق ابن لهيعة، عن مِشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر قال: (قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟)، قال: «نعم، ومن لم يسجد فلا يقرأهما» ، قال الترمذي: (هذا حديث ليس إسناده بالقوي)، وقد ضعفه الحافظ ـ هنا ـ في «البلوغ»، ومن قبله النووي[(613)].
وسبب ضعفه أمران:
الأول: أنه من رواية ابن لهيعة وهو ضعيف، لاختلاطه بسبب احتراق كتبه سنة (170هـ) على ما ذكره البخاري وغيره، ولتدليسه كما قال ابن حبان وغيره، ولكنه صرح بالتحديث كما عند أحمد وغيره، وقد رواه عنه عبد الله بن وهب كما عند أبي داود، وهو ممن روى عنه قبل الاختلاط، ولهذا فإن ابن كثير لما ذكر هذا الحديث وذكر قول الترمذي المتقدم، قال: (وفي هذا نظر، فإن ابن لهيعة قد صرح بالسماع، وأكثر ما نَقَمُوا عليه تدليسه)[(614)]، والأئمة قد اختلفوا في رواية ابن لهيعة، فمنهم من ضعفها مطلقاً، ومنهم من قبلها مطلقاً، ومنهم من استثنى رواية العبادلة فقبلها وردَّ ما عداها، بحجة أنهم رووا عنه قبل احتراق كتبه[(615)].(1/197)
الثاني: أن فيه مِشرح بن هاعان، وقد وثقه ابن معين، كما نقله عنه عثمان الدارمي، ثم أردف ذلك بقوله: (ومشرح ليس بذاك، وهو صدوق)[(616)]، وقال ابن حبان: (يخطئ ويخالف)[(617)]، وقال أيضاً: (يروي عن عقبة بن عامر أحاديث مناكير لا يتابع عليها، والصواب في أمره ترك ما ينفرد به من الروايات، والاعتبار بما وافق الثقات منها)[(618)]، ومع أنه يروي أحاديث مناكير إلا أن البيهقي يرى أن حديثه يعتضد بالمرسل الذي قبله، وأن كلاًّ منهما يقوي الآخر، فإنه قال: (هذا المرسل إذا انضم إلى رواية ابن لهيعة صار قوياً)[(619)]، قال الشيخ عبد العزيز بن باز عن كلام البيهقي: (هذا جيد)[(620)]، كما يعتضد بحديث عمرو بن العاص عند أبي داود (1401) وابن ماجه (1057) من طريق الحارث بن سعيد العُتَقي عن عبد الله بن مُنين، عن عمرو بن العاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان.
وقد حسَّنه النووي[(621)]، وضعفه عبد الحق[(622)] والحافظ[(623)] لأن فيه عبد الله بن مُنين، وهو مجهول كما قال ابن القطان، والراوي عنه وهو الحارث بن سعيد العتقي، وهو مجهول أيضاً، كما قال ابن القطان والذهبي.
كما يؤيد الحديث آثار عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن ثعلبة أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح فسجد في الحج سجدتين[(624)].
وأخرج عبد الرزاق، عن مالك، عن عبد الله بن دينار قال: (رأيت ابن عمر يسجد في الحج سجدتين)[(625)].
وفي الباب آثار أخرى، وكلها تؤيد حديث الباب[(626)]، أو تكون الحجة في مرسل خالد بن معدان، مع عمل الصحابة رضي الله عنهم.
والحديث صححه الألباني في تخريج «المشكاة»، ثم رجع عن ذلك وضعفه في «ضعيف الترمذي»[(627)].(1/198)
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (إن الحديث يتقوى بما ذكر، لكن في قوله: (ومن لم يسجد فلا يقرؤهما نكارة)[(628)]، وهكذا حسَّن الحديث شعيب الأرنؤوط ومن معه في التعليق على «المسند» دون قوله: (فمن لم يسجد فلا يقرؤهما)[(629)]، ولعل وجه النكارة: مخالفة هذه الجملة لحديث زيد المتقدم، وحديث عمر الآتي بعد هذا.
الوجه الثالث: هذا الحديث وما ذكر معه من أحاديث وآثار دليل على أن سورة الحج فضلت على غيرها من سور القرآن بأن فيها سجدتين، ولا خلاف بين العلماء في ثبوت السجدة الأولى فيها، على ما نقله النووي[(630)] وابن حجر[(631)] وغيرهما.
وإنما الخلاف في السجدة الثانية وهي قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}} [الحج: 77] .
فذهب مالك في رواية عنه والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر وجماعة آخرين إلى أنها من مواضع السجود، للأدلة المتقدمة[(632)].
وذهب أبو حنيفة، ومالك في رواية عنه، وهي المذهب، وأحمد في رواية عنه، وابن حزم وجماعة[(633)] إلى أنها ليست من مواضع السجود، لأن الله تعالى جمع بينها وبين الركوع فقال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}} [الحج: 77] ، فلم تكن سجدة، كقوله تعالى:{{يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ *}} [آل عمران: 43] ، والأصل براءة الذمة ولم يثبت السجود فيها من طريق صحيح.
والقول الأول أرجح، لقوة أدلته، كما تقدم، وذكر الركوع في الآية لا يقتضي ترك السجود، كما ذُكِرَ البكاء في قوله تعالى: {{خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}} [مريم: 58] ، وقد سجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في سورة النجم، مع أنه قُرن السجود فيها بالعبادة، كما قرنه بالعبادة في سورة الحج، والركوع لم يزده إلا توكيداً[(634)].(1/199)
ثم إن السجود فيها أوكد من السجدة الأولى، لورودها بلفظ الأمر، وورود الأولى بلفظ الإخبار، وهو قوله تعالى: {{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}} [الحج: 18] فتكون السجدة الثانية أولى، والله أعلم.
حكم سجود التلاوة
345/7 ـ عَنْ عُمَر رضي الله عنه قَالَ: يَا أَيُّها النَّاسُ إنَّا نَمُرُّ بالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وفيه: «إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَفْرِض السُّجُودَ إلاَّ أن نَشَاءَ»، وَهُوَ فِي «المُوطَّإ».
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «سجود القرآن»، باب «من رأى أن الله عزّ وجل لم يوجب السجود» (1077) من طريق ابن جريج، قال: (أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة، عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهُدير التيمي قال: قرأ عمر بن الخطاب يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه وزاد نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء).
وروى مالك في «الموطأ» (1/206) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه: (أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود، فقال: (على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فلم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا).
وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع بين عروة بن الزبير وبين عمر بن الخطاب[(635)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن سجود التلاوة ليس بواجب، بل هو سنة، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه[(636)].
ووجه الدلالة من وجهين:(1/200)
الأول: أن قوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) واضح في عدم الوجوب، لأن نفي الإثم عن ترك الفعل مختاراً يدل على عدم وجوبه، وكذلك قوله (إلا أن نشاء).
الثاني: أن هذا كان بحضرة الجمع الكثير من الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فلم ينكر ذلك عليه أحد، ولا نُقِلَ خلافه، فهذا يدل دلالة ظاهرة على إجماع الصحابة رضي الله عنه على أنه ليس بواجب.
ومن الأدلة ـ أيضاً ـ على عدم وجوب سجود التلاوة حديث زيد المتقدم عندما قرأ سورة النجم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يسجد فيه، ولم يأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسجود، ولو كان واجباً لأمره به، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
القول الثاني: أن سجود التلاوة واجب، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية[(637)]، وعن أحمد رواية أنه واجب في الصلاة، سنة خارجها[(638)].
ودليل الوجوب حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، وفي رواية: (يا ويلي) أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار»[(639)].
ووجه الدلالة: أن قوله: (أُمر ابن آدم) دليل على أن سجود التلاوة مأمور به، كما كان السجود لآدم، لأن كليهما فيه أمر، فمن سجد كان متشبهاً بالملائكة، ومن أبى تشبه بإبليس، بل هذا سجود لله، فهو أعظم من السجود لآدم، وقوله: (أُمر ابن آدم) وإن كان حكاية لقول إبليس، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك ولم ينكره.
والقول الأول هو الراجح، لقوة أدلته وصراحتها في المراد، وضعف ما يرد عليها من اعتراض.
وأما حديث أبي هريرة فهو غير ناهض على القول بالوجوب، لأنه إخبار عن السجود الواجب، كما قال ابن العربي[(640)]، ثم إن الأمر إما وجوب أو استحباب، وقد صرف عن الوجوب بما ورد في حديث عمر وزيد رضي الله عنهما، والله أعلم.(1/201)
حكم التكبير لسجود التلاوة
346/8 ـ عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ عَلَيْنَا القُرْآنَ، فإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وسَجَدْنَا مَعَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ لِينُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «في الرجل يسمع السجدة وهو راكب وفي غير الصلاة» (1413) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما به.
قال أبو داود عقبه: (قال عبد الرزاق: وكان الثوري يعجبه هذا الحديث، قال أبو داود: يعجبه لأنه كبَّر).
وهذا إسناد فيه لين[(641)]، لأنه من رواية عبد الله العمري، وقد تفرد بهذا اللفظ، وهو قوله: (كبر) وعبد الله هذا ضعيف، ضعفه ابن المديني، وكان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، قال ابن حبان: (كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة، حتى غفل عن حفظ الأخبار، وجودة الحفظ للآثار، فوقع المناكير في روايته، فلما فحش خطؤه استحق الترك)[(642)]، وبقية رجال السند ثقات.
وقد ضعف الحديث النووي وقال: (رواه البخاري ومسلم، إلا قوله: (كبر) وليس في روايتهما، وهذه اللفظة في رواية أبي داود، وإسنادها ضعيف)[(643)].
وله طريق أخرى عند الحاكم (1/222) من رواية عيسى بن يونس، ثنا عبيد الله بن عمر به، بلفظ: (كنا نجلس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقرأ القرآن، فربما مرَّ بسجدة فيسجد ونسجد معه)، وهذا إسناد صحيح، عبيد الله هذا هو المصغر، وهو أخو عبد الله المكبر، وهو ثقة، لكن ليس فيه لفظ: (التكبير) وهو موضع الشاهد من الحديث، وهو يدل على أن ذكر التكبير في رواية عبد الله المكبر منكر، كما تدل على ذلك رواية الصحيحين، كما تقدم.(1/202)
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بمشروعية التكبير لسجود التلاوة إذا سجد، فيقول: الله أكبر، ثم يسجد، وظاهره أنه لا يكبر للرفع من السجود، لأنه لم يذكر في الحديث، وهذا قول أبي حنيفة في رواية عنه، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة[(644)].
والقول الثاني: أنه يكبر للسجود ويكبر للرفع منه، وهذا قول الجمهور[(645)]، لهذا الحديث، ولأنه سجود منفرد، فشرع التكبير في ابتدائه والرفع منه، كسجود السهو بعد السلام.
والقول الثالث: أنه لا يشرع في سجود التلاوة تكبير مطلقاً، وهذا قال به أبو حنيفة، ومالك في رواية عنهما، وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(646)].
وهذا هو الراجح إن شاء الله، لعدم الدليل الصريح الصحيح في ذلك، وحديث ابن عمر المذكور ضعيف، لا تقوم به حجة لما تقدم، ثم إنه لم يذكر فيه التكبير للرفع، وهم يقولون به.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية سجود المستمع إذا سجد القارئ، وهو سنة على الراجح من قولي أهل العلم، وقد ثبت هذا الحكم في حديث ابن عمر في الصحيحين، قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته[(647)].
الوجه الرابع: لا يشرع رفع اليدين عند سجود التلاوة، لأن المأمور به هو السجود، ولم يرد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه رفع يديه، فلا يزاد على السجود شيء بمجرد الرأي، وقياساً على سجدات الصلاة فإنه لا رفع فيها، ولا يشترط فيه تسليم، فإنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سلم بعد السجود.
ويجوز السجود في كل وقت حتى أوقات النهي، لأن السجود ليس بصلاة، والأحاديث الواردة في النهي مختصة بالصلاة.(1/203)
ويجوز السجود على غير طهارة، إذ لا دليل على اشتراطها إلا على اعتبار سجود التلاوة صلاة، وهذا فيه نظر، فإن السجدة لا تسمى صلاة في لسان الشرع، وقد كان يسجد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم من حضر تلاوته، ولم ينقل أنه أمر أحداً منهم بالوضوء.
وكل هذه التفريعات وغيرها من مسائل سجود التلاوة مبنية على أنه ليس بصلاة، وهو الصواب، ومن قال: إنه صلاة، أوجب التسليم والاستقبال وعدم السجود أوقات النهي وغير ذلك من التفريعات.
ولا ريب أن سجود التلاوة بشروط الصلاة أفضل وأكمل، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية[(648)].
الوجه الخامس: إذا سجد للتلاوة قال في سجوده ما يقوله في سجود الصلاة، وإن أضاف بعض الوارد فحسن، ومن ذلك:
ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في سجود القرآن بالليل: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوَّته»[(649)].
والحديث فيه مقال، لكن يشهد له حديث علي رضي الله عنه الطويل المتقدم في أدعية الاستفتاح في وصف صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين».
وله شاهد آخر عند ابن أبي شيبة من طريق ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، وإسناده ضعيف[(650)].
ولذا حسَّن الحديث الحافظ وقال: (وإنما قلت: حسن، لأن له شاهداً من حديث علي كما تقدم، وإن كان في مطلق السجود، والله أعلم)[(651)].(1/204)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: رأيتني الليلة وأنا نائم، كأني كنت أصلي خلف شجرة، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبَّلها مني، كما تقبَّلتها من عبدك داود)، قال: قال ابن عباس: فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ السجدة فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن كلام الشجرة[(652)]، والله تعالى أعلم.
مشروعية سجود الشكر عند وجود سببه
347/9 ـ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إذَا جَاءَهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ سَاجِداً لله. رَواهُ الْخَمْسةُ إلاَّ النّسائيَّ.
348/10 ـ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: سَجَدَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَه، وقَالَ: «إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَبَشَّرَنِي، فَسَجَدْتُ للهِ شُكْراً». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
349/11 ـ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما أَنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ عَلِيّاً إلى الْيَمَنِ ـ فَذَكَرَ الحَدِيثَ ـ قَالَ: فَكَتَبَ عَليٌّ رضي الله عنه بِإسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الْكِتَابَ خَرَّ سَاجِداً، رَوَاهُ الْبَيْهقِيُّ.
وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.
الكلام عليها من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث أبي بكرة فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الجهاد» باب «في سجود الشكر» (2774) والترمذي (1578) وابن ماجه (1394) وأحمد (34/106) من طريق بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن أبي بكرة، به.(1/205)
قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث بكار بن عبد العزيز، وبكار بن عبد العزيز مقارب الحديث) وهذا الإسناد ضعيف، ضعفه النووي[(653)] وابن عبد الهادي[(654)]، وعلّة الحديث: بكار بن عبد العزيز، فإنه متكلم فيه، كما ذكر ابن عبد الهادي، قال ابن معين: (ليس بشيء) وفي رواية عنه: (صالح)، وقال البزار: (ليس به بأس) وقال مرة: (ضعيف) وكذا قال يعقوب بن سفيان[(655)].
وأما والده عبد العزيز فقد روى عنه جمع، وذكره ابن حبان والعجلي في الثقات[(656)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق).
وأما حديث عبد الرحمن بن عوف فقد أخرجه الحاكم (1/550) من طريق سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عوف... ورجاله ثقات غير عبد الواحد بن محمد، فلم يوثقه سوى ابن حبان[(657)].
وأعلَّه الألباني بجهالة حال عبد الواحد هذا[(658)]، وقد ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً[(659)].
وأخرجه أحمد (3/201) من طريق سليمان بن بلال به، دون ذكر عاصم بن عمر.
وأخرجه ـ أيضاً ـ (3/200) من طريق يزيد بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الرحمن بن عوف به.
ورجاله «ثقات عدا» أبا الحويرث، وهو عبد الرحمن بن معاوية، فقد قال عنه الحافظ في «التقريب»: (صدوق سيئ الحفظ)، ومحمد بن جبير لا يصح سماعه من عبد الرحمن بن عوف، ورواه سعيد بن أبي سلمة والدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الواحد، عن عبد الرحمن بن عوف[(660)].(1/206)
وقد أعلّ الألباني الحديث ـ أيضاً ـ بالاختلاف في إسناده على الوجه المذكور، والظاهر أنه لا يضر ـ إن شاء الله ـ لأن عمرو بن أبي عمرو قد يكون رواه من طريق أبي الحويرث، ومن طريق عاصم بن عمر، عن عبد الواحد بن محمد، فحدث به عنهما، ثم رواه عن عبد الواحد مباشرة، فحدث به عنه[(661)]، وقد رجح الدارقطني أن الصواب رواية من قال: عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الواحد[(662)].
وأما حديث البراء بن عازب، فقد أخرجه البيهقي (2/369) من طريقين: أحدهما: صحيح، عن أبي عبيدة بن أبي السفر قال: سمعت إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي اسحاق، عن البراء قال: (بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث علي بن أبي طالب ـ فذكره بطوله إلى أن قال في آخره ـ: فأسلمت همدان جميعاً، فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتاب خرَّ ساجداً، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان).
وإسناده حسن، أبو عبيدة بن أبي السفر ـ بفتح الفاء ـ واسمه أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي السفر، قال عنه في «التقريب»: (صدوق يهم)، ومثله شيخه إبراهيم بن يوسف، وأبو إسحاق وهو السبيعي قيل: إنه اختلط بأخرة، وذكر ذلك الذهبي فقال: (شاخ ونسي، ولم يختلط)[(663)].(1/207)
وقد أخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه (4349) من طريق شريح بن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، سمعت البراء رضي الله عنه: (بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه... الحديث)، وهو سياق مختصر ليس فيه تمام الحديث المتقدم، لذا لم يرد فيه ذكر سجود الشكر، لكن قال البيهقي: (وسجود الشكر في تمام الحديث صحيح على شرطه).
والمقصود أن هذه الأحاديث في هذا الباب يقوي بعضها بعضاً، وفيه أحاديث أخرى وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تقوم بها الحجة.
الوجه الثاني: هذه الأحاديث تدل على مشروعية سجود الشكر وأنه سنة يستحب فعلها عند وجود سببه، وهو تجدد نعمة أو اندفاع نقمة، سواء أكان ذلك خاصاً بالساجد كما يأتي، أم عاماً لجميع المسلمين، كانتصار المسلمين وهزيمة أعدائهم.
وهو إنما شرع عند النعم المتجددة، أما النعم المستمرة كنعمة الإسلام ونعمة العافية والغنى عن الناس ونحو ذلك فهذه لا يشرع السجود لها، لأن نعم الله دائمة لا تنقطع، فلو شرع السجود لذلك لاستغرق الإنسان عمره في السجود، وإنما يكون شكر هذه النعم وغيرهما بالعبادة والطاعة لله تعالى.
ولا يلزم أن تكون النعمة عامة بل يجوز ـ على الراجح من قولي أهل العلم ـ السجود عند حدوث نعمة خاصة أو اندفاع نقمة عنه، كأن يرزقه الله ولداً، أو يجد ضالته، أو ينجيه الله تعالى من هلكة، ونحو ذلك.
وقد ورد في الصحيحين أن كعب بن مالك رضي الله عنه سجد شكراً لله لما بُشر بتوبة الله عليه[(664)]، وكان ذلك في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن ينزل، فدل على مشروعيته.
وسجود الشكر من السنن المهجورة بين الناس في هذا الزمان، فينبغي للمسلم إحياؤها عند حصول سببها.(1/208)
والراجح من قولي أهل العلم أن سجود الشكر لا تشترط له الطهارة إذ لا دليل على ذلك، ولأن سبب السجود قد يأتي فجأة والإنسان غير متطهر، ويسجد الإنسان على حاله من قيام أو جلوس، فإن كان قائماً خَرَّ ساجداً من قيام، وإن كان جالساً سجد على حاله، ولا يلزمه أن يقوم فيسجد، والله تعالى أعلم.
باب صلاة التطوع
صلاة التطوع: مركب إضافي، من إضافة الشيء إلى نوعه، لأن الصلاة قد تكون فرضاً، وقد تكون تطوعاً.
والتطوع لغة: تكلف الطاعة والتبرع بما لا يلزم من الخير أو الزيادة التي ليست لازمة، ولا يقال تَطَوَّعَ إلا في باب الخير والبر.
وشرعاً: كل طاعة ليست بواجبة، والمراد بقولنا: (ليست واجبة) أي: بحق الإسلام، كالصلوات الخمس الواجبة، وإلا فقد تكون صلاة التطوع واجبة بأسبابها، كدخول المسجد سبب لوجوب تحية المسجد ـ على أحد القولين ـ ووجوب الوفاء بالنذر سبب لوجوب الصلاة المنذورة، وهكذا.
والحكمة من مشروعية التطوع:
1 ـ جبر ما قد يكون في أداء الفريضة من خلل وتقصير، فإن الفرائض يعتريها النقص، إما في شروطها أو أركانها أو واجباتها، وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا جل وعزَّ لملائكته ـ وهو أعلم ـ انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم»[(665)].
2 ـ تهيئة المسلم للترقي في درجات القرب من الله تعالى حتى يصل إلى درجة محبة الله عزّ وجل له، وقد جاء في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تبارك وتعالى: ما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه...» الحديث[(666)].(1/209)
3 ـ ومن فوائد صلاة التطوع ما أشار إليه الإمام الشاطبي رحمه الله من أن المندوبات بمنزلة الحمى والحارس للواجبات إذ هي رياضة للنفس، يستدعى القيام بها أداء الفرائض، فمن أدى النوافل فإنه لا محالة يؤدي الواجب، ومن قصر في أداء النوافل، فهو عرضة لأن يقصر في أداء الواجبات[(667)]، وهذا بيِّن مشاهد.
4 ـ ومن فوائد التطوع: تحصيل الثواب والأجر المرتب على فعل الصلوات، كما دلت السنة على ذلك، مما سيأتي بعضه إن شاء الله.
5 ـ ومن فوائد التطوع: توطين النفس وتمرينها على العبادة لتعتاد على ذلك ويسهل عليها فعل الطاعة فتلتذ بها، ويحصل لها الخشوع والخضوع، فتسهل عليها الفرائض وتتهيأ لها.
6 ـ أن العناية بالنوافل من أعظم الأسباب في صلاح القلب واستقامته وطهارته، وبذلك تصلح أموره وتستقيم أحواله.
7 ـ ومن فوائدها: شغل الوقت بأفضل الطاعات وأجل القربات، وهي الصلاة.
8 ـ الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بأداء النوافل، وكذا السابقين المقربين من سلف هذه الأمة الذين هم في أعلى المراتب عند الله تعالى. والله تعالى أعلم.
فضل صلاة التطوع
350/1 ـ عَنْ رَبيعَة بْنِ كعب الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قالَ لِي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سَلْ»، فقُلْتُ: أَسَأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ، فَقَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذلِكَ؟»، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رَوَاهُ مُسلم.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/210)
هو ربيعة بن كعب بن مالك، أبو فراس الأسلمي، صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم قديماً، ولازمه حضراً وسفراً، وخدمه، وكان من أهل الصُّفَّة، وبقي في خدمة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن قُبض، ثم خرج من المدينة، فنزل في بلاد أَسْلَمَ على بريد منها، ومات سنة ثلاث وستين، وليس له في الكتب الخمسة إلا هذا الحديث[(668)]، وقد نص على ذلك المنذري[(669)]، وأما البخاري فلم يخرج له شيئاً[(670)]، وقد وقع في بعض نسخ البلوغ: (ربيعة بن مالك)، فإما أن يكون وهماً من الحافظ، أو من بعض النساخ، والله أعلم.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (489) في كتاب «الصلاة» باب «فضل السجود والحث عليه» من طريق الأوزاعي قال: (حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة، حدثني ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سل...» الحديث).
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل صلاة التطوع، وأنها من أعظم الطاعات، وأقوى الأسباب لعلو الدرجات في جنات النعيم، والمراد بالسجود هنا: صلاة التطوع، ولهذا ذكر الحافظ هذا الحديث في أول هذا الباب، وكأن الذي صرف اللفظ عن ظاهره هو أن السجود بغير صلاة أو لغير سبب غير مرغَّب فيه على انفراده، والسجود وإن كان يصدق على صلاة الفرض لكن الإتيان بالفرائض لا بد منه لكل مسلم، وإنما أرشده النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى شيء يختص به، ينال به ما طلبه.
والتعبير بالسجود عن الركعة وقع في بعض الأحاديث، كما تقدم في «المواقيت» وكما سيأتي هنا، وقد يعبر عن الشيء ببعضه، لا سيما إذا كان هذا البعض أهم ما فيه، والسجود أهم ما في الصلاة، لما فيه من كمال الخضوع والذل والاستكانة لله تعالى، والقرب منه، لأنه غاية التواضع والعبادة لله تعالى، وفيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها وهو وجهه من التراب الذي يداس ويمتهن.(1/211)
الوجه الرابع: الحديث دليل على سُمُوِّ نفس ربيعة رضي الله عنه وعلى شرف مطلبه، وعلو همته عن الدنيا الفانية، وشهواتها الزائلة، فلم يطلب جاهاً ولا مالاً، وإنما تاقت نفسه إلى أعلى المراتب، حيث سأل مرافقة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجنة، فصارت همته متعلقة بالمنازل العالية في الدار الآخرة، لا بالدنيا وشهواتها ولذاتها العاجلة، وقد ذكر القرطبي أن المراد بذلك: الزيادة من القرب ورفعة الدرجات، حتى يقرب من منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يساوه فيها[(671)].
ومثل هذا الحديث حديث ثوبان رضي الله عنه عندما سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عمل يدخله الله به الجنة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة»[(672)].
فعليك أخي المسلم بالاستكثار من الطاعات، ولا سيما نوافل الصلاة، فإن أحبَّ الخلق إلى الله تعالى أعظمهم استكثاراً من طاعته.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما دمت في صلاة، فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب الملك يفتح له)[(673)].
بيان السنن الراتبة التابعة للفرائض
351/2 ـ عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايةٍ لَهُمَا: وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمعَةِ فِي بَيْتِهِ.
352/3 ـ وَلِمُسْلِمٍ: كَانَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لاَ يُصَلِّي إلاَّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْن.(1/212)
353/4 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعاً قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب« التهجد»، باب «الركعتين قبل الظهر» (1180) ومسلم في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن» (729) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر به، وهذا لفظ البخاري.
والرواية المذكورة عند البخاري في كتاب «الجمعة»، باب «الصلاة بعد الجمعة وقبلها» (937)، ومسلم في الباب المذكور (729) من طريق مالك، عن نافع عن ابن عمر، ولفظ البخاري: (وكان لا يصلي الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين)، ولفظ مسلم: (... وبعد الجمعة سجدتين، فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته)، وبهذا يتبين أن الحافظ ساق هذه الرواية بالمعنى، ولعل الحافظ ذكرها لأنها أفادت فائدتين:
الأولى: أنها أفادت سنة الجمعة البعدية، وهي زائدة على العشر.
الثانية: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصليها في بيته.
وعلى هذا فيكون قوله: (حفظت عشر ركعات) منظوراً فيه إلى التكرار كل يوم.
وأما الحديث الثاني فقد رواه مسلم (723) (88) من طريق زيد بن محمد قال: سمعت نافعاً يحدث عن ابن عمر، عن حفصة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين)، وهو عند البخاري ـ أيضاً ـ (1173) (1181) بلفظ: (أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلّى ركعتين).
ولعل الحافظ أورد هذه الرواية من حديث حفصة لأنها أفادت تخفيف ركعتي الفجر ـ كما سيأتي ـ وأنه لا يصلي بعد طلوعه سواهما، وإلا فهما معدودتان في العشر في حديث ابن عمر رضي الله عنهما كما تقدم.(1/213)
وأما حديث عائشة فقد أخرجه البخاري في كتاب «التهجد»، باب «الركعتين قبل الظهر» (1182) من طريق شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها به.
وظاهر الحديث لا يطابق تبويب البخاري، لكن يحتمل أنه أراد بذكره في هذا الباب بيان أن الركعتين قبل الظهر ليستا حتماً بحيث تمتنع الزيادة عليهما، وقد ذكر قبله حديث ابن عمر المتقدم في أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي قبل الظهر ركعتين.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية التنفل بهذه الرواتب، وهي ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد صلاة الجمعة، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء، وركعتان خفيفتان قبل صلاة الفجر.
فالرواتب عشر، كما عدها ابن عمر رضي الله عنهما فإن راتبة الجمعة تحل محل راتبة الظهر، ثم هي لا تتكرر كل يوم، وقد حفظها ابن عمر رضي الله عنهما من مشاهدة النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد أو في بيت أخته حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أو في مواطن أخرى، لأن ابن عمر ليس في بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما هو في بيت أبيه عمر رضي الله عنه.
وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن تطوع النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: (كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين... الحديث)[(674)].
وهذا يفيد أن الرواتب ثنتا عشرة ركعة، ويؤيد ذلك حديث أم حبيبة الآتي: (من صلَّى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُني له بهن بيت في الجنة)[(675)].
فابن عمر ذكر ما اطلع عليه وهو عشرة ركعات، وحديث عائشة فيه زيادة، وكذا حديث أم حبيبة، فمن فعل ذلك حصل على خير كثير وثواب عظيم، مع ما في ذلك من التأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.(1/214)
ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي مرة عشراً على ما في حديث ابن عمر، واثنتي عشرة على ما في حديث عائشة، وهذا قريب، لأن عائشة رضي الله عنها إنما تطلع على ما يفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان في بيتها، وهو ليس عندها إلا يومان من تسعة أيام منذ وهبت سودة يومها لعائشة رضي الله عنهما، وابن عمر قد يطلع على بقية الأيام في المسجد أو في بيت حفصة أو في مواضع أخرى كما تقدم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الأفضل في راتبة الجمعة والمغرب والعشاء أن تصلى في البيت، وقد سكت عن مكان راتبة الفجر، ولعل ذلك لشهرة كونه صلّى الله عليه وسلّم يصليها في بيته، وقد وقع في رواية للبخاري عن ابن عمر قال: (وحدثتني أختي حفصة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها).
وقد سكت عن بيان مكان راتبتي الظهر، وقد دل حديث عائشة المتقدم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصليها في بيته.
وقد ورد في الحث على صلاة النافلة في البيت وبيان فضلها أحاديث كثيرة، منها: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً»[(676)].
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» ، وسأذكره بتمامه في «الإمامة» ـ إن شاء الله ـ حيث ذكره الحافظ هناك.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً»[(677)].
وصلاة النافلة في البيت فيها فوائد عظيمة، منها:
1 ـ تمام الخشوع والإخلاص والبعد عن الرياء.(1/215)
2 ـ تحقيق الخيرية الموعود بها، ومن ذلك نزول الرحمة، وطرد الشيطان، ومضاعفة الأجر، ووجود القدوة الصالحة، وتربية أهل البيت من النساء والصغار.
3 ـ أن فعلها في المنزل يخرج البيت عن كونه كالمقبرة.
4 ـ امتثال أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي حثنا على صلاة النافلة في البيت. والله تعالى أعلم.
بيان ما تختص به راتبة الفجر
354/5 ـ وَعَنْهَا قَالَتْ: (لَمْ يَكُنِ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُداً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
355/6 ـ وَلِمُسْلِمٍ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الأول فقد أخرجه البخاري في كتاب «التهجد»، باب «تعاهد ركعتي الفجر» (1169) ومسلم (724) (94) من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة رضي الله عنها به، واللفظ للبخاري.
وأما حديثها الثاني فقد أخرجه مسلم (725) من طريق أبي عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (على شيء من النوافل) أي: نوافل الصلاة، والنفل: الزيادة، والمراد هنا: الرواتب التابعة للفرائض، سميت بذلك لأنها زائدة على الفرائض.
قوله: (أشد تعاهداً) أي: أقوى وأكثر محافظة، وهو يفيد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يتعاهد النوافل ويحافظ عليها، لكن راتبة الفجر أكثر تعاهداً.
قوله: (على ركعتي الفجر) أي: راتبة الفجر، لأن الفريضة ليست من النوافل.
قوله: (خير من الدنيا) أي: أكثر غنيمة من كل شيء قبل يوم القيامة، وفي رواية لمسلم: (لهما أحب إلي من الدنيا جميعاً).
قوله: (وما فيها) أي: ما في الدنيا من المال والأهل والبنين وغيرها من زينة الدنيا وزهرتها.(1/216)
الوجه الثالث: الحديث دليل على اختصاص راتبة الفجر بشدة محافظة النبي صلّى الله عليه وسلّم عليها وأنها خير من الدنيا وما فيها، وقد اجتمع في هذه الراتبة القول منه صلّى الله عليه وسلّم في الترغيب فيها، والفعل منه صلّى الله عليه وسلّم في المحافظة عليها، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يدعها حضراً ولا سفراً[(678)] بخلاف الرواتب الأخرى فكان لا يصليها في السفر، والله أعلم.
ثواب من صلى في اليوم والليلة من النوافل اثنتي عشرة ركعة
356/7 ـ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَكْعَةً فِي يَومٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «تَطَوُّعاً».
357/8 ـ وَلِلتِّرْمِذِي نَحْوُهُ، وَزَادَ: «أَربَعاً قَبلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هي رملة بنت أبي سفيان ـ صخر بن حرب ـ أم المؤمنين، تكنى بأم حبيبة، وهي بها أشهر من اسمها، ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاماً، وهي من السابقات إلى الإسلام، أسلمت بمكة، وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، ثم تنصر زوجها وارتد عن الإسلام ففارقته، ثم تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي بالحبشة، خطبها له النجاشي، وأصدقها عنه وبعثها إليه، وكان ذلك سنة ست أو سبع من الهجرة، ولعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم تزوجها لأمرين:
1 ـ تأليف أبيها أبي سفيان وترغيبه في الدخول في الإسلام، وتخفيف الأذى عن المسلمين، ولذا افتخر أبو سفيان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر كفاءته له إلى أن هداه الله للإسلام.(1/217)
2 ـ تكريم أم حبيبة على إيمانها وهجرتها، وجبر خاطرها، وإنهاء وحشتها بسبب فراق زوجها وهي في تلك البلاد.
روت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث، وروت عنها بنتها حبيبة، وأخواها عنبسة ومعاوية، ماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين رضي الله عنها[(679)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما الأول فقد أخرجه مسلم (728) (101) في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «فضل السنن الراتبة» من طريق النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس قال: (حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يَتَسارُّ إليه[(680)]، قال سمعت أم حبيبة تقول: فذكرته، وفي آخره: قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة، وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة، وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو ابن أوس). وفي رواية (102): (من صلى في يوم ثنتي عشرة سجدة تطوعاً...).
وفي رواية ـ أيضاً ـ (103): (ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة).
وقوله: (تطوعاً) تمييز للاثنتي عشرة، زيادة في البيان، وإلا فإنه معلوم أن المراد التطوع لا الفريضة.
وأما الحديث الثاني، فقد أخرجه الترمذي (415) في أبواب «الصلاة»، باب «ما جاء فيمن صلّى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة وما له من الفضل»، والنسائي (3/262) من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن المسيب بن رافع، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بُنِيَ له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر...» الحديث، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
وذكر الحافظ حديث الترمذي؛ لأن فيه تفصيلاً لما أجملته رواية مسلم، حيث بين أوقات هذه النوافل.(1/218)
الوجه الثالث: الحديث دليل على عظم ثواب من صلى في يوم وليلة من النوافل ثنتي عشرة ركعة، وأن ذلك من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار مع أداء الفرائض وترك المحارم، وهي أربع قبل الظهر، واثنتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الصبح. كما ورد تفصيل ذلك في رواية النسائي والترمذي، وهي التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصليها كما مر في حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، فاجتمع فيها القول والفعل من النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإذا أضيف إليها قيام الليل إحدى عشرة ركعة مع الفرائض سبع عشرة ركعة فهذه أربعون ركعة، من حافظ عليها حاز خيراً كثيراً وفضلاً عظيماً، وما أسرع الإجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كل يوم وليلة أربعين مرة، نسأل الله من فضله. والله أعلم.
فضل الأربع قبل الظهر وبعدها
358/9 ـ وَلِلْخَمْسَة عَنْهَا: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ».
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (1269) في كتاب «الصلاة»، باب «الأربع قبل الظهر وبعدها» والترمذي (427) والنسائي (3/266) وابن ماجه (1160) وأحمد (44/347 ـ 358) من طريق عنبسة بن أبي سفيان، قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ... فذكرته، وهذا الحديث له طرق، وهو حديث صحيح.
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل أربع ركعات قبل صلاة الظهر وأربع بعدها، وأن ذلك مع أداء الفرائض واجتناب المحارم من أسباب النجاة من النار، وما أخَفَّها وأسهلها إذا اعتادها المسلم ورَوَّضَ نفسه عليها.(1/219)
والأربع التي قبل الظهر تقدم ما يدل على فضلها ـ أيضاً ـ وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصليها كما روته عائشة رضي الله عنها، وأما الأربع التي بعدها فاثنتان من السنة المؤكدة كما مر، والأخريان غير مؤكدتين. والله تعالى أعلم.
حكم الأربع قبل صلاة العصر
359/10 ـ عَنْ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «رَحِمَ اللهُ امْرَءاً صَلَّى أرْبَعاً قَبْلَ الْعَصْرِ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (10/188) وأبو داود (1271) في كتاب «الصلاة» باب «الصلاة قبل العصر» والترمذي (430) وابن خزيمة (1193) من طريق سليمان بن داود الطيالسي، قال: حدثنا محمد بن مسلم بن مهران القرشي، قال: حدثني جدي أبو المثنى، عن ابن عمر رضي الله عنهما به.
قال الترمذي: (هذا حديث غريب حسن) وفي بعض النسخ (حسن غريب) وهو الذي نقله المزي[(681)]، وهذا الحديث مختلف فيه، فقد صححه ابن خزيمة ـ كما ذكر الحافظ ـ، وابن حبان (6/206) وحسنه الترمذي، لكنه قال: (غريب)، وصححه ـ أيضاً ـ النووي[(682)]، والألباني[(683)].
وأعلَّه غيرهم، فقد قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: سألت أبا الوليد الطيالسي عن حديث محمد بن مسلم بن المثنى، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رحم الله امرءاً صلّى قبل العصر أربعاً» ، فقال: دع ذا، فقلت: إن أبا داود قد رواه، فقال أبو الوليد: كان ابن عمر يقول: (حفظت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عشرة ركعات في اليوم والليلة) فلو كان هذا لعدَّه، قال أبي: يعني كان يقول: حفظت اثنتي عشرة ركعة[(684)].(1/220)
وقد ذكر ابن القيم أنّ هذا ليس بعلة؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما إنما أخبر عن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يخبر عن غير ذلك، ولذا أخبرت عائشة أنه كان يصلي قبل الظهر أربعاً، ولم يذكر ذلك ابن عمر، فكذا هنا، وعليه فلا تنافي بين الحديثين البتة[(685)].
وهذا الحديث جاء من رواية محمد بن مسلم بن مهران عن ابن عمر، وهو متكلم فيه، فقد قال عنه أبو زرعة: واهٍ، وليَّنه ابن مهدي[(686)]، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(687)] وقال: (يخطئ)، وقال ابن عدي: (ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ما له من الحديث لا يتبين فيه صدقه من كذبه)[(688)]، وقال ابن معين والدارقطني: (لا بأس به)[(689)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق يخطئ).
وأما جده أبو المثنى، وهو مسلم بن المثنى، فقد روى عنه جمع، وقال أبو زرعة: (ثقة)، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(690)].
والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه لا يقبل تفرد محمد بن مسلم بهذا الحديث، فإن إعلال أبي الوليد وجيه، ثم أين سالم ونافع ـ رواة ابن عمر ـ عن هذا الحديث؟! والترمذي لما حسنه استغربه، كما تقدم.
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال: باستحباب أربع ركعات قبل صلاة العصر وأنه ينبغي المحافظة عليها رجاء الدخول في دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم على القول بأن قوله: (رحم الله امرأً) دعاء، أو يدخل في ضمن من رحمهم الله على القول بأنه خبر، كما ذكر ذلك العراقي رحمه الله.
ولم تكن الأربع من السنن المؤكدة، لأنه لم يرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم واظب عليها، ولهذا لم يذكرها ابن عمر ولا عائشة رضي الله عنهما.
وقد جاء في حديث علي رضي الله عنه في وصف تطوع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهار قال فيه: (وأربعاً قبل العصر، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين)[(691)].(1/221)
وعلى هذا الحديث تكون الأربع قبل العصر وردت فيها السنة القولية والفعلية، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنها من الرواتب، كما نقل ذلك ابن قدامة عن أبي الخطاب الحنبلي[(692)]، وهي من المسائل التي انفرد بها[(693)]، ونقل المجد ابن تيمية وجهين للحنابلة[(694)]، وصرح صاحب «المهذب» من الشافعية بأنها من الرواتب، ووافقه على ذلك النووي[(695)].
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن حديث علي رضي الله عنه لا يصح، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يصلي قبل العصر[(696)]، وهذا هو الذي تقتضيه الصناعة الحديثية، فإن تفرد عاصم بهذا الحديث ـ وهو متكلم فيه ـ مع مخالفته للأحاديث الصحيحة، وللملازمين من صحابته، كل هذه قرائن على ضعف الحديث، والعلم عند الله تعالى.
قال ابن القيم: (وأما الأربع قبل العصر فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شيء، إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي... ثم ذكره، وقال: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث ويدفعه جداً، ويقول: إنه موضوع، ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره...)[(697)]، وقد ذكر ابن حجر في «تهذيب التهذيب» كلام الجوزجاني، ورد عليه، ودافع عن عاصم[(698)].
والظاهر أنه أنكره لذكر الركعات الأربع قبل العصر، وأما ألفاظ الحديث الأخرى التي فيها نوافل الظهر... إلخ، فلها شواهد في الصحيحين وغيرها، كما تقدم.
وقد ورد عند أبي داود بلفظ: (ركعتين قبل العصر)[(699)]، وقد حكم الألباني عليها بالشذوذ؛ لأن جميع الروايات اتفقت على الأربع، والله تعالى أعلم.
حكم الركعتين قبل صلاة المغرب
360/11 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلِ المُزَنِيِّ رضي الله عنه عَنْ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: قَالَ: «صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ»، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَن شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.(1/222)
وَفي روايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم صَلَّى قَبْلَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ.
361/12 ـ وَلِمُسْلِمٍ عَنِ أنس رضي الله عنه قَالَ: كنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْن بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَان صلّى الله عليه وسلّم يَرَانَا، فَلَمْ يَأمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه لأول: في ترجمة الراوي:
وهو عبد الله بن مغفل ـ بالمعجمة والفاء المشددة ـ بن غَنْم المزني، بايع بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكان يمسك بأغصانها عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر رضي الله عنه إلى البصرة ليفقهوا الناس، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة، وبها مات سنة تسع وخمسين رضي الله عنه[(700)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث عبد الله بن مغفل، فقد أخرجه البخاري (1183) في كتاب «التهجد»، باب «الصلاة قبل المغرب» من طريق عبد الوارث، عن الحسين، عن ابن بريدة قال: حدثني عبد الله المزني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا قبل صلاة المغرب ـ قال في الثالثة ـ لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سنة» ، وفي رواية له (7368): «خشية أن يتخذها الناس سنة».
وأخرجه ابن حبان (4/457) بلفظ: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى قبل المغرب ركعتين، ثم قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين...») وإسناده صحيح على شرط مسلم، وهذا السياق فيه الفعل مع القول، وقد أعرض مسلم عن حكاية الفعل، ويشكل عليه حديث أنس الآتي، فإن ظاهره أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يصليهما، والله أعلم.(1/223)
وأما حديث أنس: فقد أخرجه مسلم (836) في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب» من طريق محمد بن فضيل، عن مختار بن فلفل قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر، وكنا نصلي على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاهما؟ قال: (كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا).
ولعل الحافظ أورد رواية ابن حبان مع حديث أنس في موضوع الصلاة قبل المغرب لبيان أن هاتين الركعتين اجتمعت فيهما السنة القولية والفعلية والتقريرية، والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب صلاة ركعتين قبل صلاة المغرب، والذي صرف الأمر في قوله: (صلوا) عن الوجوب قوله: (لمن شاء)، ولذا قال الراوي: (كراهية أن يتخذها الناس سنة) أي: طريقة لازمة أو سنة راتبة يكره تركها، وقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم يصلون هاتين الركعتين، كما حكى ذلك أنس رضي الله عنه.
وهما داخلتان في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، (ثم قال في الثالثة) لمن شاء»[(701)].
والمراد بـ(الأذانين): الأذان والإقامة، لأن الكل إعلام، فالأذان إعلام بدخول الوقت، والإقامة إعلام بالصلاة والدخول فيها.
والركعتان قبل المغرب ليستا من السنن الرواتب، فلا تستحب المداومة عليهما؛ لئلا تأخذا حكم الرواتب، والله تعالى أعلم.
تخفيف راتبة الفجر وما يقرأ فيها
362/13 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْن قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إنِّي أَقُول: أَقَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ؟». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/224)
363/14 ـ وعنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ فِي رَكْعَتَي الفَجْرِ: {{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}} و: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه لأول: في تخريجهما:
أما الأول فقد أخرجه البخاري (1171) في كتاب «التهجد»، باب «ما يُقرأ في ركعتي الفجر»، ومسلم (724) من طريق محمد بن عبد الرحمن، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول: هل قرأ بأمِّ الكتاب؟)، وهذا لفظ البخاري.
وأما الثاني فقد أخرجه مسلم (726) في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «استحباب ركعتي الفجر... وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما» من طريق مروان بن معاوية، عن يزيد ـ هو ابن كيسان ـ عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
الوجه الثاني: الحديث الأول دليل على استحباب تخفيف راتبة الفجر، فلا يطيل القراءة فيها، ولا يطيل ـ أيضاً ـ الركوع والسجود، قال القرطبي: (ليس معنى هذا أنها شكت في قراءته صلّى الله عليه وسلّم فيها بأمِّ القرآن... وإنما معنى ذلك أنه كان في غيرها من النوافل يقرأ بالسورة يرتلها حتى تكون أطول من أطول منها، بخلاف فعله في هذا، فإنه كان يخفف أفعالها وقراءتها، حتى إذا نُسبت إلى قراءته في غيرها كانت كأنها لم يقرأ فيها...)[(702)]، وهذا الأمر الأول الذي اختصت به راتبة الفجر، وهو تخفيفها، والحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ المبادرة لصلاة الصبح أول وقتها، وبه جزم القرطبي[(703)].
وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يستفتح قيام الليل بركعتين، للتفرغ للفرض أو لقيام الليل الذي هو أفضل النوافل المطلقة.(1/225)
الوجه الثالث: الحديث الثاني دليل على استحباب قراءة سورة «الكافرون» في الركعة الأولى، وسورة «الإخلاص» في الثانية من ركعتي الفجر، وهذا الأمر الثاني الذي اختصت به راتبة الفجر، والحكمة من قراءة هاتين السورتين ـ والله أعلم ـ أنهما تضمنتا نوعي التوحيد، فسورة {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} تضمنت إثبات كل كمال لله تعالى، ونفي كل نقص عنه سبحانه وتعالى، فإن فيها وصف الله تعالى بالوحدانية والصمدية، ونفي الكفؤ عنه والمثل، وهذا هو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وسورة {{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}} تضمنت إيجاب عبادته وحده لا شريك له، والتبرئ من عبادة كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الطلبي الإرادي، وهو توحيد الألوهية، وتوحيد العبادة.
وكل من السورتين مشتمل على النوع المذكور نصاً، وعلى النوع الآخر لزوماً.
وإذا أضيف إلى ذلك استحباب قراءتهما في الوتر ـ كما سيأتي ـ اتضح أن من مقاصد ذلك ـ والله أعلم ـ أن يكون التوحيد فاتحة عمل العبد وخاتمته.
كما يستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بالآية من سورة البقرة: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}} الآية [البقرة: 136] ، ويقرأ في الثانية التي في آل عمران: {{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *}} [آل عمران: 52][(704)] .
فينبغي للمسلم أن يقرأ بهذا أحياناً، وبهذا أحياناً، ليكون عاملاً بالسنة، فإن القراءة الثانية أشبه ما تكون بالمهجورة، والله تعالى أعلم.
حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
364/15 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إذَا صَلَّى رَكْعَتَي الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.(1/226)
365/16 ـ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ الركْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْصُّبْحِ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ». رَوَاهُ أَحْمَد، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث عائشة فقد أخرجه البخاري (1160) في كتاب« التهجد»، باب «الضِّجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر» من طريق عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها به.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (15/217)، وأبو داود (1261) في كتاب «الصلاة»، باب «الاضطجاع بعد ركعتي الفجر»، والترمذي (420) من طريق عبد الواحد بن زياد، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعاً.
وقال الترمذي: (حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه)، وهذا الإسناد ظاهره الصحة، وهو على شرط الشيخين، لكن له علتان:
إحداهما: أن عبد الواحد تكلم فيه بعض الحفاظ، فقد تفرد بهذا الحديث عن الأعمش، وهو وإن كان ثقة واحتجَّا به في الصحيحين، إلا أن في حديثه عن الأعمش مقالاً، كما ذكر ذلك الحافظان الذهبي وابن حجر، وغيرهما، ولما ترجم له الذهبي عدَّ هذا الحديث من مناكيره التي نُقمت عليه، وتجنبها الشيخان[(705)].(1/227)
العلة الثانية: أن الأعمش مدلس، وصفه بالتدليس النسائي والدارقطني والذهبي والعلائي وغيرهم، وقد احتمل العلماء تدليسه إذا كان في الصحيحين، كما نص على ذلك الحافظ ابن حجر في رسالته في «التدليس» لأن الشيخين اعتنيا بروايته وانتقيا منها ما ثبت سماعه، وأما غيرهما فلم يعتن بذلك، فلذا تُعلُّ روايته إذا لم يصرح بالسماع، ولكن ذكر الذهبي أنه إذا قال في روايته (عن) تطرق احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال[(706)]، وقد صحح الحديث جماعة من المتقدمين، منهم الترمذي كما ذكر الحافظ، وابن خزيمة (1120) وابن حبان (6/220) والنووي[(707)] وابن حجر في «الفتح»[(708)]، كما صححه الألباني[(709)].
وقد حكم الحافظ البيهقي على هذا الحديث بالشذوذ، فإنه لما ذكر حديث أبي هريرة حكايةً عن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (وهذا أولى أن يكون محفوظاً، لموافقته سائر الروايات عن عائشة وابن عباس)[(710)]، ومعلوم أن مقابل المحفوظ هو الشاذ كما في علوم الحديث، وقد ذكر السيوطي هذا الحديث وجعله مثالاً للشاذ حيث انفرد به عبد الواحد من بين ثقات أصحاب الأعمش[(711)].
وقال أبو الطيب محمد شمس الحق: (إن وروده من فعله صلّى الله عليه وسلّم لا ينافي كونه ورد من قوله، فيكون عن أبي هريرة حديثان، حديث الأمر به، وحديث ثبوته من فعله...)[(712)].
وقد ضعف الحديث ـ أيضاً ـ شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه ابن القيم، حيث قال ابن تيمية: (هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه...)[(713)]، وممن ضعفه ابن العربي[(714)].
وعلى هذا فالحديث معلول، وهو الذي رجحه الشيخ عبد العزيز بن باز، لكن على فرض صحته فالأمر فيه للاستحباب، كما سيأتي إن شاء الله.(1/228)
الوجه الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها دليل على مشروعية الاضطجاع على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإن فيه الأمر بذلك، على القول بصحته.
وحكمة هذا الاضطجاع الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فتختص بالمتهجد، وقيل: الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا تختص.
وقد جاء في بعض الروايات لحديث عائشة قالت: (إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع حتى يُؤذَّنَ بالصلاة)[(715)]، فدل ذلك على عدم وجوبها وأنها سنة مستحبة، وأنه إذا تركها بعض الأحيان فلا بأس، كما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتركها إذا تحدث مع عائشة، ويكون الأمر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه للاستحباب لهذه القرينة، وظاهر الحديث أن الاضطجاع سنة مطلقاً، سواء أقام الليل أم لا، وهذا هو المذهب عند الشافعية والحنابلة[(716)]، وقد روى ابن أبي شيبة فعله عن أبي موسى ورافع بن خديج وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر وأبي هريرة، وابن سيرين وعروة بن الزبير[(717)].
والقول الثاني: التفصيل بين من يقوم الليل، فيستحب له الاضطجاع، لأنه يحتاج إلى راحة حتى ينشط لصلاة الفجر، دون غيره، وبه جزم ابن العربي[(718)]، وهذا الاضطجاع لم يرد فيه إلا الفعل المجرد، بناءً على أن حديث أبي هريرة في الأمر به شاذ، وهذا الفعل تعارض فيه الأصل والظاهر، إذ الأصل عدم التشريع في مثل ذلك، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى القول بالإباحة، منهم مالك وجماعة[(719)].
والظاهر أن فعله صلّى الله عليه وسلّم مقصود به التشريع لصلته بالعبادة، ولأن الغالب على أفعاله التشريع، إذ هو مبعوث لبيان الشرعيات، ويقوي هذا الظاهر مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذه الضجعة إن لم يتحدث مع عائشة رضي الله عنها كما تقدم، كما يقوي ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند من يقول بثبوته.(1/229)
وفي الاضطجاع أقوال أخرى، والظاهر ـ والله أعلم ـ استحباب هذه الضجعة مطلقاً[(720)]، وبه قال أكثر أهل العلم، منهم النووي، والصنعاني، وأبو الطيب محمد شمس الحق[(721)]، وهي تتأكد في حق من صلى بالليل أكثر من غيره.
والحكمة من كونها على الجنب الأيمن ما قاله العلامة ابن القيم من أن القلب معلق في الجنب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر استثقل نوماً، لأنه يكون في دعة واستراحة فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق قلبه، وطلبه مستقره وميله إليه، ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يحب التيامن في شأنه كله. والعلم عند الله تعالى[(722)].
الوجه الثالث: روى مسلم من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين[(723)]).
وهذا يدل على أن الاضطجاع بعد صلاة الليل، لا بعد راتبة الفجر، وقد خالف مالك جميع أصحاب الزهري أمثال معمر وعقيل ويونس بن يزيد وشعيب بن أبي حمزة وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم في ذكر الاضطجاع، فهم يذكرونه بعد راتبة الفجر، وهو يذكره بعد صلاة الليل.
فمن أهل العلم من رجح رواية مالك، لأنه أثبت أصحاب الزهري وأحفظهم، ومنهم من قال: بل الصواب في هذا مع من خالف مالكاً، وأن الاضطجاع بعد راتبة الفجر هو المحفوظ، وأما بعد صلاة الليل فهو من أوهام مالك.
قال البيهقي بعد ذكر الروايتين: (والعدد أولى بالحفظ من الواحد، وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما، ونقل الباقون الآخر...)[(724)]، ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع بعد صلاة الليل في رواية مالك هو نومه صلّى الله عليه وسلّم بين صلاة الليل وصلاة الفجر، الواردة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما[(725)].(1/230)
الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يضطجع في بيته، لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي راتبة الفجر فيه، ويؤيد هذا حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة)، وعلى هذا فلا يشرع فعلها في المسجد إن صلى فيه راتبة الفجر، فإن صلاها في بيته استحب له الاضطجاع، ولم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عن أحد من أصحابه أنهم فعلوها في المسجد، بل قال ابن حجر: (إنه صَحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحصب من يفعله في المسجد[(726)]).
وقال بعض أهل العلم: إن هذه الضجعة تابعةٌ لركعتي الصبح، فإن ركعهما في البيت اضطجع فيه، وهذا أفضل وأكمل، وإن ركعهما في المسجد اضطجع فيه، وإن خالف لا يضره، لأنه ليس فيها تحديد بموضع دون موضع[(727)].
والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه لا يشرع الاضطجاع في المسجد، لما تقدم من أنه لم يثبت عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا عن أحد من أصحابه أنهم فعلوها في المسجد، ولأن الناس في المسجد يتمون الصف الأول فالأول ويتقاربون حتى قبل إقامة الصلاة، فيكون الاضطجاع في المسجد في مثل هذه الحال غير لائق، والله تعالى أعلم.
بيان كيفية صلاة الليل
366/17 ـ عَن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلاَةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلّى». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
367/18 ـ وَلِلْخَمْسَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ: «صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى». وَقَالَ النَّسَائيُّ: هذَا خَطَأٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:(1/231)
أما الحديث الأول فقد أخرجه البخاري (990) في كتاب «الوتر»، باب «ما جاء في الوتر» ومسلم (749) من طريق مالك، عن نافع وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله (ص) عن صلاة الليل، فقال رسول الله عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى... الحديث» ، وفي رواية لمسلم من طريق عقبة بن حريث قال: (سمعت ابن عمر...) فذكر الحديث، وفي آخره: فقيل لابن عمر: (ما مثنى مثنى؟ قال: أن تسلم في كل ركعتين).
وأما الثاني فقد أخرجه أبو داود (1295) في كتاب «الصلاة»، باب «في صلاة النهار» والترمذي (597) والنسائي (3/227) وابن ماجه (1322) وأحمد (8/410) من طريق شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن علي بن عبد الله البارقي، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً.
وجاء الحديث ـ أيضاً ـ من طريق إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/334)، والحنيني ضعيف كثير الوهم والخطأ، وكذا العمري، وهو عبد الله بن عمر، فإنه ضعيف ليس بحجة[(728)]. كما تقدم.
وقال النسائي بعد ذكره الحديث: (هذا الحديث عندي خطأ) يعني ذكر (النهار) وقد اختلف العلماء في هذا الحديث بهذه الزيادة اختلافاً شديداً، فقد صححه جماعة منهم البخاري، فيما نقله عنه البيهقي، وابن خزيمة، وابن حبان، والنووي[(729)]، والشيخ الألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز، بناء على أنها زيادة من ثقة فتقبل[(730)].
وضعفه آخرون، منهم النسائي، كما ذكر الحافظ، والإمام أحمد، وقد ذكر أن شعبة كان يتهيب هذا الحديث[(731)]، والدارقطني في «العلل» (13/35)، والحاكم، وابن معين[(732)]، والطحاوي في «شرح المعاني» (1/334)، وشيخ الإسلام ابن تيمية[(733)].
ولعل هؤلاء يستدلون على ضعف هذه الزيادة بما يلي:(1/232)
1 ـ أن الحديث رواه عن ابن عمر أكثر من خمسة عشرة نفساً، وأغلبهم جبال في الحفظ، سرد منهم ابن عبد البر تسعة، منهم: سالم، ونافع، وعبد الله بن دينار، وغيرهم[(734)]، ولم يذكر واحد منهم هذه الزيادة سوى البارقي الأزدي، كما تقدم، وهو صدوق كما قال الذهبي[(735)]، ولم يشتهر في الحفظ والإتقان، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، مع قلة حديثه كما قال ابن عدي، وقد أخرج له مسلم حديثاً واحداً في الدعاء إذا استوى على الراحلة للسفر، فتكون هذه الزيادة زيادة شاذة، يقول شيخ المفسرين الحافظ محمد بن جرير الطبري: (الحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم كانت رواية الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم)[(736)]، وهذا معنى مقرر في علوم الحديث.
2 ـ أنه ورد عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأساً أن يصلي بالنهار أربعاً، ذكره أبو داود في «مسائله عن الإمام أحمد»، وورد عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعاً أربعاً[(737)]، ولو كان ابن عمر حفظ أن صلاة النهار مثنى مثنى لم يكن يرى أن يصلي بالنهار أربعاً مع شدة اتباعه، فدل على أنه عمل بمفهوم ما روى[(738)]. قال الطحاوي: (وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما من فعله بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يدل على فساد هذين الحديثين...)[(739)]، يقصد حديث الأزدي والحنيني.
3 ـ أن هذه الزيادة لا تناسب سياق الحديث، لأن السائل إنما سأله عن صلاة الليل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم وإن كان قد يجيب عن السؤال وزيادة ـ كما تقدم في أول حديثٍ في هذا الكتاب ـ لكن هذه الزيادة لا ينتظم بها الكلام، لأنه ذكر فيه قوله: (فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة)، فهذا يناسب تفريعه على ذكر الليل قبله، لا ذكر النهار أيضاً، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية[(740)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/233)
قوله: (مثنى مثنى) بفتح الميم، وإسكان الثاء المثلثة أي: اثنين اثنين، وهو ممنوع من الصرف، للوصفية والعدل، والتكرار للتأكيد. وقد جاء في رواية مسلم عن عقبة بن حُريث... فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: (أن تسلم في كل ركعتين).
قوله: (فإذا خشي أحدكم الصبح) على حذف مضاف، أي: فإذا خاف أحدكم طلوع الصبح، أي: طلوع الفجر.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن صلاة الليل مثنى مثنى، يسلم من كل ركعتين ـ كما ورد تفسير الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، في رواية مسلم ـ ويختمها بركعة واحدة توتر له ما صلى إذا خشي طلوع الفجر، وسيأتي إن شاء الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوتر بخمس وبسبع وبغير ذلك، وقد أخذ العلماء ومنهم مالك بحديث الباب مستدلاً به على تَعَيُّنِ الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل، لأن هذا ظاهر السياق، لحصر المبتدأ في الخبر، فهو في قوة: ما صلاة الليل إلا مثنى مثنى، لكن يرد على ذلك فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي، وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن ذلك لا يلزم، وإنما الحديث لبيان الأفضل، لما سيأتي من فعله صلّى الله عليه وسلّم بخلافه، أو يقال: إنه مراد به الإرشاد إلى الأخف، لأن السلام من كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها، لما فيه من الراحة غالباً، وقضاءِ ما يعرض من أمر مهم، ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط لما واظب عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد صح عنه الفصل والوصل.
ويدل بمفهومه على أن صلاة النهار ليست كذلك، وأنه يجوز أن تُصَلَّى أربعاً، كما فعل ابن عمر رضي الله عنهما وهو قول ابي حنيفة وصاحبيه، وإسحاق، وصححه الموفق في «المغني»[(741)]، واختاره الصنعاني[(742)]، وكأنهم قالوا بذلك للاختلاف في ثبوت لفظة: (صلاة الليل «والنهار» مثنى مثنى).(1/234)
وذهب الجمهور إلى أن صلاة النهار كصلاة الليل مثنى مثنى[(743)]، أخذاً بهذه الزيادة، ولأنه أبعد من السهو، وأشبه بصلاة الليل وتطوعات النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن الصحيح في تطوعاته ركعتان، قالوا: وكل حديث ورد فيه ذكر الأربع فالمراد أن يصليها مثنى مثنى.
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن صلاة النهار موسَّع فيها، فإن صلى الأربع أحياناً بسلام واحد جاز، وإن سلم من كل ركعتين فهو أفضل، لما تقدم، وأما صلاة الليل فهي مثنى مثنى، لكن لو سرد خمساً أو سبعاً جاز، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الصبح، لقوله: (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة) أي: طلوع الفجر، وسيأتي لذلك مزيد بيان. والله تعالى أعلم.
فضل صلاة الليل
368/19 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (1163) في كتاب «الصيام» باب «فضل صوم المحرم» من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل صلاة الليل وأنها أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة، وهي أفضل من صلاة النهار، وذلك ـ والله أعلم ـ لما فيها من صفاء المناجاة، وتواطؤ القلب واللسان، وقلة الشواغل، والإخلاص، والبعد عن الرياء، لأنها في وقت الراحة والسكون ومحبة النوم، فهو شاقٌّ، إلا على الخاشعين، الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون، قيام الليل كما يقول المنادي:
يا رجالَ الليل جِدُّوا ... ... رُبَّ داعٍ لا يُردُّ
ما يقومُ الليلَ إلا ... ... ... من له عَزْمٌ وجِدُّ(1/235)
قيام الليل ولو كان قليلاً من أهم المولدات الإيمانية، بما يضفي على صاحبه من نور الوجه، ويقظة القلب، وحلاوة الإيمان، وهو سبب من أسباب دخول الجنة كما ثبت في السنة، وقد ذكر الله في كتابه الكريم عن عباده الصالحين تهجدهم بالليل، قال تعالى: {{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *}} [الذاريات: 17] ، وقال تعالى في صفة عباد الرحمن: {{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا *}} [الفرقان: 64] ، وقال تعالى: {{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}} [السجدة: 16] .
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله (ص)، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنتُ وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام»[(744)].
فينبغي للمؤمنين أن يكون لهم نصيب من قيام الليل، لأن دقائق الليل غالية، فلا تُرْخَصُ بالغفلة، قال ابن عبد البر: (قيام الليل سنة مسنونة، لا ينبغي تركها، فطوبى لمن يُسِّرَ لها، وأُعينَ عليها، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عمل بها، وندب إليها)[(745)].
حكم الوتر
369/20 ـ عَنْ أبي أيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ». رَوَاهُ الأرْبَعَةُ إلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائيُّ وَقْفَهُ.(1/236)
370/21 ـ وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَيْسَ الْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ المَكْتُوبَةِ، وَلكِنْ سُنَّةٌ سَنَّها رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم». رَوَاهُ النَّسَائيُّ والتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، والحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
371/22 ـ وعَنْ جَابِرِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوه مِنَ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ، وَقَالَ: «إنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوِتْرُ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث أبي أيوب، فقد أخرجه أبو داود (1422) في كتاب «الصلاة»، باب «كم الوتر؟» من طريق بكر بن وائل، والنسائي (3/238) وابن ماجه (1190) وابن حبان (6/170) من طريق الأوزاعي، كلاهما عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، به مرفوعاً.
ورواه النسائي (3/238 ـ 239) من طريق أبي مُعَيْدٍ، ومن طريق الحارث بن مسكين، عن سفيان، كلاهما عن الزهري موقوفاً.
ولما ساقه النسائي في «الكبرى» مرفوعاً وموقوفاً (1/440 ـ 441) قال: (الموقوف أولى بالصواب، والله أعلم)، وهذه العبارة ليست موجودة في «المجتبى»، مع أنه ساق الحديث فيه مرفوعاً وموقوفاً.(1/237)
وهذا الحديث رجاله ثقات، رواه عن الزهري جماعة من الثقات، منهم من رفعه، ومنهم من وقفه، منهم: الأوزاعي، وبكر بن وائل، وسفيان بن عيينة، وأبو مُعَيْدٍ ـ حفص بن غيلان ـ وغيرهم، لكنه أُعِلَّ بالوقف. وقد ذكر الدارقطني الاختلاف في رفعه ووقفه، ورجح وقفه، قال الحافظ: (صحح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في «العلل» والبيهقي، وغير واحد وقفه، وهو الصواب)[(746)]، قال الصنعاني: (وله حكم الرفع، إذ لا مسرح للاجتهاد فيه، أي: في المقادير)[(747)]، ووافقه على ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز، وقد رجح الألباني الرفع وقال: (ترجيح البيهقي وغيره وقفه مما لا وجه له، لأنه قد رفعه جماعة من الثقات، والرفع زيادة يجب قبولها، كما تقرر في المصطلح)[(748)]، والوقف هو الراجح من جهة الصناعة الحديثية.
أما حديث علي رضي الله عنه فقد أخرجه النسائي (3/229) في كتاب «قيام الليل وتطوع النهار»، باب «الأمر بالوتر» والترمذي (453 ـ 454) والحاكم (1/300) من طريق أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب، به موقوفاً، وقال الترمذي: (حديث حسن).
وقد رواه عن أبي إسحاق ـ وهو السبيعي ـ سفيان الثوري، عند النسائي والترمذي، وسماعه منه قديم، وهو أحفظ من كل من رواه عن أبي إسحاق، كما رواه عنه أبو بكر بن عياش عند الحاكم، ورواه عنه ـ أيضاً ـ إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عند الطيالسي (89) وهو من أثبت الناس في جده.
وقد رواه زكريا بن أبي زائدة، وأبو بكر بن عياش كلاهما عن أبي إسحاق مرفوعاً بلفظ: «أوتروا يا أهل القرآن» وسيأتي.
وقد تقدم الكلام على أبي إسحاق، وعاصم بن ضمرة قريباً، فالحديث حسن، وقد صححه الألباني[(749)].(1/238)
أما حديث جابر فقد أخرجه ابن حبان (6/169 ـ 170) في باب «الوتر»: (ذكر الخبر الدال على أن الوتر ليس بفرض) من طريق يعقوب بن عبد الله القُمِّي قال: حدثنا عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج إلينا، فلم ينزل حتى أصبحنا، ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله اجتمعنا في المسجد ورجونا أن تصلي بنا، فقال: (إني خشيت أو كرهت أن يكتب عليكم الوتر).
وإسناده ضعيف لأن فيه عيسى بن جارية، وعليه مدار الحديث، وهو ضعيف، قال ابن معين: (عنده مناكير، حدث عنه يعقوب القُمِّيُّ وعنبسة قاضي الري). وقال النسائي: (منكر الحديث)، وجاء عنه: (متروك)، وقال ابن عدي: (أحاديثه غير محفوظة)، وقال أبو زرعة: (لا بأس به)، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(750)].
قال الصنعاني عن حديث جابر رضي الله عنه: (أبعد المصنف النُّجْعَةَ، والحديث في البخاري إلا أنه بلفظ: (أن تفرض عليكم صلاة الليل))[(751)] وهذا فيه نظر، فإن الحديث الذي في البخاري ليس فيه ذكر الوتر، وليس هو من حديث جابر رضي الله عنه وإنما هو من حديث عائشة رضي الله عنها.
الوجه الثاني: حديث أبي أيوب دليل للقائلين بوجوب الوتر، وهو اسم للركعة المنفصلة عما قبلها، واسم للثلاث والخمس والسبع والتسع إذا جمعن بسلام واحد، فإن كانت الثلاث بسلامين كان الوتر اسماً للركعة المنفصلة[(752)].
والقول بوجوبه هو قول أبي حنيفة في المشهور عنه وبعض أصحابه، وبه قال بعض السلف[(753)]، ووجه الدلالة أن قوله: (الوتر حق) بمعنى ثابت فيفيد الوجوب.(1/239)
ومن الأدلة ـ أيضاً ـ حديث بريدة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا») قال ذلك ثلاثاً، وحديث أبي هريرة بنحوه، ووجه الدلالة منهما: أن هذا السياق وعيد شديد، ولا يكون مثله إلا لترك فرض أو واجب، لا سيما وقد تأكد بالتكرار، ومنها: حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتروا يا أهل القرآن..» ، وكلها ستأتي إن شاء الله تعالى.
وذهب الجمهور من أهل العلم، ومنهم الشافعية والمالكية والحنابلة، وأكثر الحنفية إلى أن الوتر ليس بواجب، وإنما هو سنة مؤكدة[(754)]، واستدلوا بحديث علي المذكور، فإنه نص في محل النزاع، وهو صالح للاستدلال به، كما تقدم.
كما استدلوا بحديث جابر ـ أيضاً ـ مع ما فيه من ضعف، كما استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل من أهل نجد فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله (ص): «خمس في اليوم والليلة» ، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع» ، وسأله عن الزكاة والصيام، وقال في آخره: والله لا أزيد ولا أنقص، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح إن صدق»[(755)] . فهذا نص صريح في عدم وجوب الوتر، وأنه لا يجب إلا ما دل عليه منطوق الحديث، وهي الخمس، وما زاد عليها فهو تطوع.
وهذا القول هو الراجح لقوة دليله، ولأنه فيه جمعاً بين الأدلة كلها، وهو أولى متى أمكن، وأما أدلة القائلين بالوجوب، فيجاب عنها بأن حديث أبي أيوب مختلف في رفعه ووقفه ـ كما تقدم ـ وعلى القول بصحة رفعه فليست دلالته على الوجوب بصريحة، لأن لفظة (حق) لا يفهم منها الوجوب؛ لأن كل حكم ثابت بأصل الشرع فهو حق، فيدخل فيه الواجب والمسنون، ولو سلمنا دلالته على الوجوب فهو مصروف بالأدلة الأخرى، وأما أدلتهم الباقية فسيأتي الجواب عنها في مواضعها الآتية قريباً إن شاء الله.(1/240)
الوجه الثالث: حديث أبي أيوب رضي الله عنه دليل على جواز الإيتار بركعة واحدة، ويؤيد ذلك حديث ابن عمر المتقدم (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)، وظاهره جواز الإيتار بركعة واحدة ولو لم يتقدمها شفع، كأن يصلي شخص العشاء وبعدها يأتي بركعة واحدة، لأن الحديث قد خير المكلف بين الثلاث والواحدة والخمس، وقد أخرج البخاري في «صحيحه» أنه قيل لابن عباس: (هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه[(756)]).
وهذا هو الراجح، أعني أنه لا يشترط تقدم شيء من صلاة النافلة قبل الركعة، لكن الأفضل أن يتقدمها شفع، وأقله ركعتان، تأسياً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز الإيتار بثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرها، وله أن يسلم من ركعتين ويوتر بواحدة، لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك[(757)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن)[(758)].
وظاهر قوله: (ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل) أنه معارض لقوله: (لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس أو بسبع، ولا تَشَبَّهُوا بصلاة المغرب)[(759)].
والجمع بينهما أن يحمل النهي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه على صلاة الثلاث بتشهدين، لأنه في هذه الصورة يشبه الوتر صلاة المغرب، وأما إذا سردها ولم يقعد إلا في آخرها فلا مشابهة، والأبعد عن المشابهة أن يصلي الركعتين، ثم يسلم، ثم يصلي واحدة، وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى هذا المعنى[(760)]، واستحسنه الصنعاني[(761)].(1/241)
الوجه الخامس: دل الحديث ـ أيضاً ـ على جواز الإيتار بخمس ركعات، وذلك بأن تكون متصلة لا يجلس إلا في آخرهن، وقد ثبت ذلك من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما في حديث عائشة الآتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
وقت الوتر
372/23 ـ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ أَمدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»، قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْوِتْرُ، مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلى طُلُوعِ الْفَجْرِ». رَوَاهُ الخمسة إلاَّ النَّسَائيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
373/24 ـ وَرَوَى أَحْمَدُ: عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ نَحْوَهَ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
أما الأول فهو خارجة بن حذافة بن غانم القرشي العدوي رضي الله عنه، كان أحد فرسان قريش، يقال: إنه كان يُعدل بألف فارس، ولي القضاء في مصر لعمرو بن العاص، وقيل: بل كان على شرطة عمرو، وهو معدود في المصريين، لأنه شهد فتح مصر، ولم يزل فيها إلى أن قتل فيها سنة أربعين، قتله أحد الخوارج الثلاثة الذين كانوا انتدبوا لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، فتم أمر الله في أمير المؤمين علي رضي الله عنه دون الآخرين، حيث قتل الخارجيُّ خارجةَ هذا يظنه عمرو بن العاص، وذلك أنه استخلفه عمرو على صلاة الصبح ذلك اليوم، وأما معاوية فضربه الخارجي فجاءت الضربة في وركه فجرحت أليته.
له حديث واحد، وهو الحديث الذي معنا[(762)].
أما الثاني فهو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي القرشي، وهو من التابعين الصغار، مات سنة (118هـ)، سمع من الرُّبَيِّعِ بنت مُعَوِّذ، وزينب بنت أبي سلمة، ولهما صحبة، ورأى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.(1/242)
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده فيه خلاف بين أهل العلم، والأظهر صحة الاحتجاج بحديثه إذا سلم من الانقطاع والإرسال، وروى عنه الثقات، وأما المناكير في حديثه فهي من جهة الضعفاء الذين يروون عنه، كما قرر ذلك أبو زرعة الرازي ويعقوب بن شيبة والذهبي وغيرهم، وأحاديثه صحيفة، مما كتبه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحديثه ليس من الصحيح لذاته ولا من الضعيف، بل هو من الحسن لذاته الذي يحتج به، عدا ما تقدم، والضمير في (أبيه) يعود إلى شعيب بلا خلاف.
وأما الضمير في (جده) فالراجح أنه يعود على شعيب ـ أيضاً ـ وجد شعيب هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقد ورد التصريح باسم جده في بعض مروياته كما في المسند وغيره[(763)]، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب، وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما[(764)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث خارجة، فقد أخرجه أبو داود (1418) في كتاب «الصلاة»، باب «استحباب الوتر» والترمذي (452) وابن ماجه (1168) وأحمد (39/444) والحاكم (1/306) من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن راشد الزَّوفي، عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي، عن خارجة بن حذافة به مرفوعاً.(1/243)
وهذا إسناد ضعيف، فإن عبد الله بن راشد وعبد الله بن أبي مرة في عداد المجهولين، قال البخاري: في ترجمة «عبد الله بن راشد»: (لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة، وليس له إلا حديث الوتر)[(765)]، وقال في ترجمة «عبد الله بن أبي مرة»: (لا يعرف إلا في حديث الوتر، ولا يعرف سماع بعضهم من بعض)[(766)]، ويدل هذا ـ أيضاً ـ على أن في السند انقطاعاً، والحديث قال عنه الحاكم: (صحيح الإسناد)، وسكت عنه الذهبي، مع أنه قال في ترجمة: (عبد الله بن راشد) لما ذكر حديثه هذا: (رواه عنه يزيد بن أبي حبيب وخالد بن يزيد، قيل: لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة، قلت: ولا بالمعروف، وذكره ابن حبان في «الثقات»)[(767)]، وقال في ترجمة «ابن أبي مرة» (له عن خارجة في الوتر، لم يصح)[(768)].
لكن للحديث شواهد، ومنها حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (أخبرني رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله عزّ وجل زادكم صلاة، فصلوا فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوترَ الوترَ...» الحديث)[(769)].
أما حديث عمرو بن شعيب، فقد أخرجه أحمد (11/292، 531 ـ 532) قال: (حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عزّ وجل قد زادكم صلاة هي الوتر»).
وإسناده ضعيف، لأن فيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، كما وصفه بذلك الأئمة المتقدمون، وذكره كل من صنف في التدليس، وقد روى الحديث بالعنعنة، قال ابن المبارك: (كان حجاج بن أرطاة يدلس، وكان يحدثنا بالحديث عن عمرو بن شعيب مما يحدثه محمد العرزمي، والعرزمي متروك لا تقربه)[(770)]، وللحديث طرق أخرى: ذكرها الألباني وكلها ضعيفة[(771)]، والحاصل أن حديث خارجة فيه مجاهيل وانقطاع، وحديث عمرو بن شعيب فيه من يدلس عن الهلكى والمتروكين.(1/244)
الوجه الثالث: استدل العلماء بهذا الحديث على مشروعية الوتر، والترغيب فيه، حيث بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الله تعالى أنعم به على هذه الأمة، ليزداد ثوابها، وضرب المثل لذلك بحمر النعم، وهي الإبل الحمر، لأنها أعز أموال العرب، وصلاة الوتر أعظم خيراً منها، وإنما قال ذلك تقريباً للأفهام، وإلا فالوتر خير من الدنيا وما فيها، لأن متاع الدنيا زائل وقليل بجانب نعيم الآخرة.
الوجه الرابع: استدل بهذه الأحاديث من قال: إن ما بين الفراغ من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الثاني وقت للوتر، وهذا أمر مجمع عليه، قال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر)[(772)]، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي: «أوتروا قبل أن تصبحوا» .
وأما نهاية وقته فالجمهور على أنه طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر انتهى وقت الوتر[(773)]، ويعتمد في ذلك على المؤذن إذا كان ممن يتحرى الصبح، واستدلوا بالأحاديث المتقدمة وهي صريحة في ذلك، فإن ما بعد (إلى) يخالف ما قبلها، قال ابن رشد: (لا خلاف بين أهل الأصول أن ما بعد (إلى) بخلاف ما قبلها، إذا كانت غاية..)[(774)]، وقد تقدم ضعفها، لكن تقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة..).
والقول الثاني: أنه يمتد إلى صلاة الصبح، فيكون ما بعد طلوع الفجر وصلاة الصبح وقتاً للوتر، وهو قول المالكية والشافعية في أحد الوجهين، ورواية عن أحمد[(775)]، ويعتبرونه وقت ضرورة، لا وقت اختيار، واستدلوا بآثار عن السلف من الصحابة والتابعين أنهم أوتروا بعد طلوع الفجر كعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وحذيفة، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم[(776)]، ولعلها محمولة على من نام عن وتره أو نسيه[(777)]، لا أن يتعمد الإنسان ذلك، لحديث أبي سعيد الآتي: (من نام عن وتره أو نسيه فليصلِّه إذا ذكره).(1/245)
قال ابن نصر: (والذي اتفق عليه أهل العلم أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر، واختلفوا فيما بعد ذلك إلى أن يصلي الفجر، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بالوتر قبل طلوع الفجر)[(778)]، وسيأتي زيادةُ بيانٍ لحكم من طلع عليه الفجر ولم يوتر إن شاء الله.
ومن صلى العشاء مع المغرب جمع تقديم دخل وقت الوتر بالنسبة له بعد فراغه من صلاة الجمع، وهو قول الشافعي وأحمد، وهو الراجح إن شاء الله، لأن وقت الصلاة المجموعة وقت لما يجمع إليها[(779)]، والله تعالى أعلم.
حكم من لم يوتر
374/25 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا»، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
375/26 ـ وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عبد الله بن بريدة ـ بضم الباء ـ ابن الحصيب ـ بضم الحاء ـ الأسلمي أخو سليمان، وكانا توأمين، روى عن أبيه بريدة وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وصحابة آخرين رضي الله عنهم، وروى عنه ابناه سهل وصخر، وقتادة ومحارب بن دثار، وأبو المنيب عبيد الله العتكي وآخرون، وهو ثقة أخرج له البخاري[(780)] ومسلم، وهو أوثق من أخيه سليمان، والراجح أنه سمع من أبيه خلافاً لمن نفى ذلك، قال الذهبي: (الحافظ الإمام، حدث عن أبيه فأكثر) وقال: (روى عن أبيه وعمران بن حصين، وهو ثقة)، ومثله في «التقريب»، مات سنة (115هـ) رحمه الله[(781)].
وأما أبوه بريدة بن الحصيب فقد تقدمت ترجمته عند الحديث (152).
الوجه الثاني: في تخريجهما:(1/246)
أما حديث بريدة رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود (1419) في كتاب «الصلاة» باب «فيمن لم يوتر» والحاكم (1/305 ـ 306) من طريق أبي المنيب عبيد الله بن عبد الله العتكي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، به مرفوعاً.
والمثبت في أبي داود وغيره أنه قال ذلك (ثلاثاً)، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح، وأبو المنيب العتكي مروزي، ثقة يُجمع حديثه، ولم يخرجاه) وهذا فيه نظر، فهو مختلف فيه، ولذا تعقب الذهبي الحاكم، فقال: (قال البخاري: عنده مناكير) ولما ترجم له في «الميزان» عَدَّ هذا الحديث من مناكيره[(782)].
ونقل ابن أبي حاتم[(783)] عن أبيه أنه قال: (هو صالح الحديث)، وأنكر على البخاري إدخاله في الضعفاء[(784)]. وقد وثقه يحيى بن معين في رواية، وقال ابن عدي: (هو عندي لا بأس به)[(785)].
وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق يخطئ)، وعلى هذا فهو حسن الحديث بالمتابعات والشواهد.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد أخرجه أحمد (15/447) قال: حدثنا وكيع قال: حدثني خليل بن مرة، عن معاوية بن قرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يوتر فليس منا» ، وهذا إسناد ضعيف، فيه علتان:
الأولى: ضعف الخليل بن مرة، قال البخاري: (منكر الحديث)، وقال في موضع آخر: (لا يصح حديثه)، وقال أبو حاتم: (ليس بقوي)، وقال النسائي: (ضعيف)[(786)].
الثانية: الانقطاع، لأن معاوية بن قرة لم يسمع من أبي هريرة، كما قال ذلك الإمام أحمد[(787)].
الوجه الثالث: تقدم أن الحديثين من أدلة القائلين بوجوب الوتر، وتقدم بيان وجه الدلالة، وأجيب عن ذلك بجوابين:
الأول: أن في إسناد كل واحد من الحديثين مقالاً، كما تقدم.
الثاني: على فرض صحته، فهو محمول على تأكيد سنية الوتر، جمعاً بينه وبين الأحاديث الدالة على عدم الوجوب، وهي أصح منه سنداً وأصرح دلالة، والله تعالى أعلم.
كيفية صلاة النبي (ص) في الليل(1/247)
376/27 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ علَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أرْبَعاً، فَلاَ تَسْأَلْ عنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثمَّ يُصَلِّي أَرْبَعاً، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثمَّ يُصَلِّي ثَلاَثاً، قَالَتْ عَائِشَةُ: فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
377/28 ـ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهَا: كَانَ يُصَلِّي مِنَ الليل عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ، وَيرْكَعُ رَكْعَتَي الْفَجْرِ، فَتِلْكَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ.
378/29 ـ وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذلِكَ بِخَمْسٍ، لاَ يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إلاَّ فِي آخِرِهَا.
379/30 ـ وَعَنْهَا قَالتْ: مِنْ كُلِّ اللّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَانْتَهى وِتْرُهُ إلَى السَّحَر. مُتَّفَقٌ عَلَيْهما.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث عائشة رضي الله عنها الأول، فقد أخرجه البخاري (1147) في كتاب «التهجد»، باب «قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم في الليل في رمضان وغيره»، ومسلم (738) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أنه سأل عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: ... فذكرت الحديث.(1/248)
وأما حديثها الثاني، فقد أخرجه البخاري (1147) في كتاب «التهجد»، باب «كيف صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكم كان يصلي من الليل؟»، ومسلم (738) (128) من طريق حنظلة، عن القاسم بن محمد، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: فذكرت الحديث.
وأما حديثها الثالث، فقد أخرجه مسلم (737)، في كتاب «صلاة المسافرين» باب «صلاة الليل»، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فذكرت الحديث.
وأما عزوه للبخاري، فالظاهر أنه وهم، إذ أن الحديث ليس في البخاري في مظانه من كتاب «التهجد»، ولا عزاه إليه أحد، وقد عزاه ابن عبد الهادي لمسلم فقط، وكذا فعل ابن دقيق العيد[(788)].
وأما حديثها الرابع، فقد أخرجه البخاري (996) في كتاب «الوتر»، باب «ساعات الوتر» ومسلم (745) من طريق أبي الضحى ـ مسلم بن صبيح ـ عن مسروق، عن عائشة قالت:... فذكرت الحديث.
الوجه الثاني: في هذه الأحاديث بيان لصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالليل كيفية وعدداً، في رمضان وغيره، وكانت صلاته صلّى الله عليه وسلّم متساوية في جميع السنة لا فرق بين رمضان وغيره، وأما ما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره، فهو محمول على التطويل في الركعات دون الزيادة في العدد، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يصلي ثلاث عشرة، ويصلي إحدى عشرة، وجاء أنه يصلي أقل من ذلك، وسيأتي الكلام على قيام رمضان في آخر كتاب «الصيام» إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث: دلَّ حديث عائشة الأول على أنه إذا صلى إحدى عشرة، صلاها أربعاً أربعاً ثم صلى ثلاثاً، وقولها: (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) أي: أنهن في النهاية من كمال الحسن والطول، مستغنيات بظهور ذلك عن السؤال عنه.(1/249)
وقولها: (أربعاً ثم أربعاً) ظاهر أن الأربع بسلام واحد، وبه قال جماعة، وقال آخرون: بل كان يجلس في كل ركعتين ويسلم، لقوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهو اختيار ابن عبد البر[(789)]، ويؤيد ذلك حديثها عند مسلم بلفظ: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء [وهي التي يدعو الناس العتمة] إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة...) الحديث[(790)].
ولعلها جمعت بين الأربع والأربع لأنه كان لا يمكث بعد التسليم من الركعتين الأوليين، بل كان يقوم للركعتين الأخريين، فإذا أتم أربع ركعات مكث طويلاً، وفصل بينها وبين الأربع الآتية، أو أنه كان ينام بعد الأربع الأولى والأربع الثانية، وبين الوتر، وبه جزم ابن عبد البر[(791)].
وهكذا يقال في معنى: (ثم يصلي ثلاثاً) أي: ركعتين، ثم يوتر بواحدة، كما تبين من روايتها عند مسلم، وقد أفتى بمقتضى ذلك الإمام أحمد، وقال: بأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم[(792)].(1/250)
ودل حديثها الثاني أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي عشر ركعات ويوتر بواحدة، ثم ذكرت ركعتي الفجر، فصار الجميع ثلاث عشرة، وعلى هذا فلا يعارض ذلك قولها المتقدم: (ما كان يزيد على إحدى عشرة...)، لأنها أضافت إلى صلاة الليل ركعتي الفجر، لكن يشكل عليه حديثها عند البخاري من طريق عروة، عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين)[(793)]، ولعلها ذكرت الركعتين اللتين كان يفتتح بهما صلاة الليل، لقولها كما في حديثها عند مسلم: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل ليصلي، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين)[(794)]، وهذا محمل قوي، لأن رواية الحصر بإحدى عشرة جاء في صفتها أنه كان يصلي أربعاً ثم أربعاً ثم ثلاثاً، فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين، وتعرضت لهما في رواية عروة المذكورة[(795)].
وقد تذكر أحياناً الركعتين اللتين بعد الوتر، كما في حديثها عند مسلم قالت: (كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح)[(796)].
ودل حديثها الثالث على أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ويصلي ثمان، والظاهر أنه يصليها ركعتين ركعتين، على ما تقدم، ثم يوتر بخمس، لا يجلس إلا في آخرها.
وهذه الصفات الثلاث وهي الإيتار بواحدة، أو بثلاث، أو بخمس ذكر الحافظ أحاديثها، وقد ورد أنه أوتر بسبع يسردها، فلا يتشهد إلا في آخرها، لحديث أم سلمة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يوتر بخمس وبسبع لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام[(797)]، كما ورد أنه أوتر بتسع ركعات لا يقعد إلا في الثامنة للتشهد، ثم يصلي التاسعة ثم يسلم[(798)].(1/251)
والذي يستفاد من مجموع الأدلة أنه يجوز العمل بكل ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الليل، لأن اختلاف الصفات محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط، وبيان الجواز والتوسعة على الأمة، وقد روى صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالليل عدد من الصحابة كابن عباس وزيد بن خالد وعائشة رضي الله عنهم وبعضهم يذكر ما لا يذكره الآخر، كافتتاحه صلاة الليل بركعتين خفيفتين، فإما أن يكون صلّى الله عليه وسلّم يفعل هذا تارة وهذا تارة، وإما أن تكون عائشة حفظت ما لم يحفظه غيرها، لملازمتها له ولمراعاتها ذلك ولكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل.
والأفضل للمصلي أن يسلم من كل ركعتين، لأن هذا هو الذي اختاره صلّى الله عليه وسلّم لأمته، كما في حديث: «صلاة الليل مثنى مثنى» ، وهو الأكثر من فعله صلّى الله عليه وسلّم فإنه كان يصلي إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ويسلم من كل اثنتين، ومن اقتدى به ففعل مثل فعله فسرد ثلاثاً أو خمساً أو غير ذلك، مما تقدم جاز، لأنه لم يرد عنه نهي عن ذلك، والأفضل فيمن يَؤُمُّ الناس في رمضان أن يسلم من كل ركعتين، ولا يسرد خمساً أو سبعاً، لأن التسليم أرفق بالناس، وقد يكون لبعض المأمومين حاجة تدعو إلى الإنصراف بعد ركعتين أو تسليمتين، أو بعد ثلاث تسليمات، ونحو ذلك، وإن سرد في بعض الأحيان لبيان السنة فلا بأس بذلك.
الوجه الرابع: ظاهر قولها: (أتنام قبل أن توتر) أنه صلّى الله عليه وسلّم كان ينام بعد الأربع الثانية قبل أن يوتر فسألته عن ذلك، فأجابها بقوله: «إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» ، وقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه الطويل في قصة الإسراء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رضي الله عنه قال: (وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم)[(799)]، قال الحافظ: (ومثله لا يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر أن ذلك من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم، لكنه بالنسبة للأمة)[(800)].(1/252)
وقد بنى على ذلك جمع من أهل العلم حكماً شرعياً، وهو عدم انتقاض وضوئه صلّى الله عليه وسلّم بالنوم، بناء على أن النوم مظنة الحدث، والرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ينام قلبه، فيحس بما خرج منه.
وأما ما ورد في قصة الوادي لما نام عليه الصلاة والسلام هو والصحابة رضي الله عنهم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وأنه لو كانت حواسه باقية مدركة مع النوم لأدرك الشمس وطلوع النهار، فقد أجيب عنه بأجوبة، لعل من أظهرها، أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، وأما طلوع الفجر والشمس، فإنما يدرك بالعين لا بالقلب.
الوجه الخامس: دل حديثها الأخير على أن الليل كله وقت للوتر، من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ـ كما تقدم ـ سواء أوتر في أوله أو وسطه أو آخره.
وقد ورد عند أبي داود وغيره عنها لما سئلت متى كان يوتر صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت: (كل ذلك قد فعل، أوتر أول الليل، ووسطه، وآخره، ولكن انتهى وتره حين مات إلى السحر)[(801)].
وهذا صريح في أن آخر عمله صلّى الله عليه وسلّم تأخير الوتر إلى آخر الليل، لأنه الأفضل ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ.
كراهة ترك قيام الليل لمن كان يقوم
380/31 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاصِي[(802)] رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «يَا عَبْدَ اللهِ! لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري (1152) في كتاب «التهجد»، باب «ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه» ومسلم في كتاب «الصيام»، باب «النهي عن صوم الدهر» (1159) (185) من طريق الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، به مرفوعاً.(1/253)
الوجه الثاني: هذا الحديث فيه الحث على قيام الليل والترغيب فيه، ووصية الإنسان بألا يتشبه بأهل الكسل الذي يزهدون في القُرَبِ والأعمال الصالحة، بل يتشبه بأهل الجد والنشاط والعمل الصالح، وإن كان قيام الليل نافلة، لكنه من أعظم الطاعات وأفضل القرب.
وقد اشتد حرص عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعد هذه الوصية على الخير وعَظُمَ إقباله على العبادة، فصار يصلي كثيراً، ويتهجد كثيراً، حتى إنه كان لا ينام الليل، فأوصاه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاقتصاد، وقال له: (ألم أُخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي ولا تنام؟ فصم وأفطر، وقم ونَمْ، فإن لعينيك عليك حقاً، وإن لنفسك وأهلك حقاً...) الحديث[(803)].
الوجه الثالث: في الحديث دليل على استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من أعمال الخير والطاعة من غير تفريط، وأنه لا ينبغي للإنسان قطع العبادة، لأن هذا قد يشعر بالزهد فيها والرغبة منها.
وينبغي للمسلم أن يحذر من التشدد في العبادة وتكليفه النفس ما لا تطيق من الطاعات، ومن فَعَلَ ذلك غلبه الدِّين لكثرة الأعمال والطاعات، فيكون آخر أمره العجز والانقطاع، لأن الله تعالى أوجب على عباده وظائف من الطاعات في وقت دون وقت، تيسيراً ورحمة، ولأن الإنسان إذا أخذ بالقصد دام عمله، وتمكن من أداء الحقوق كلها، حقِّ الله تعالى، وحقِّ النفس، وحقِّ الأهل والأصحاب برفق وسهولة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»[(804)].
فينبغي للإنسان أن يكون له ورد بالليل قدر استطاعته، قال ابن عبد البر: (لا خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس لها حد محدد، وأنها نافلة، وفعل خير، وعمل بر، فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر)[(805)]، والله تعالى هو الموفق ولا إله غيره ولا ربَّ سواه.
استحباب الوتر(1/254)
381/32 ـ عَنْ عليٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَوْتِرُوا يا أَهْلَ القُرآنِ، فَإنَّ الله وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (1416) في كتاب «الصلاة»، باب «تفريع أبواب الوتر» باب «استحباب الوتر» وأحمد (2/223) من طريق زكريا بن أبي زائدة، وأخرجه الترمذي (453) والنسائي (3/228) وابن ماجه (1169) وأحمد (2/413) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه به مرفوعاً، وقد تقدم أن الحديث جاء من طريق سفيان الثوري وغيره موقوفاً بلفظ: (الوتر ليس بحتم..) وهذا هو المحفوظ، ولهذا قال الترمذي: (وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش)[(806)].
الوجه الثاني: تقدم أن هذا الحديث من أدلة القائلين بوجوب الوتر، لأن قوله: (أوتروا) أمر، والأصل في الأمر الوجوب، لكن تقدم أن هذا اللفظ بصيغة الأمر ليس بمحفوظ، ولو صَحَّ فهو محمول على تأكيد الاستحباب، جمعاً بين الأدلة.
الوجه الثالث: المراد بأهل القرآن: المؤمنون عامة، من قرأ ومن لم يقرأ، وإن كان من قرأ أولى بالخطاب لحفظه إياه، وقال الخطابي: المراد بهم: القراء والحفاظ[(807)]، وخصوا بالذكر، لمزيد شرفهم والاهتمام بهم، فينبغي أن يكون لأهل القرآن عناية بالوتر، وإن كان مطلوباً من الجميع، لكن لأهل القرآن مزية على غيرهم، لأنهم قدوة، ولأن عندهم من العلم ما يدعوهم إلى المسارعة إلى فعل الطاعات والقربات ما ليس عند غيرهم، فيكون الأمر في حقهم آكد.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الوتر من أسماء الله تعالى، وأنه تعالى يحب ما وافق أسماءه وصفاته، فهو عليم يحب العلم والعلماء العاملين، كريم يحب الكرم والجود، صبور يحب الصابرين، وهكذا في كل ما يوافق أسماءه مما يناسب مقام العبد.(1/255)
ومعنى الوتر: الفرد، فالله تعالى واحد لا شريك له ولا نظير له، لا في أسمائه ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وهو سبحانه وتر، وجميع خلقه شفع، خلقوا أزواجاً، والله تعالى أعلم.
استحباب ختم صلاة الليل بالوتر
382/33 ـ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْراً». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري (1998) في كتاب «الوتر» باب «ليجعل آخر صلاته وتراً»، ومسلم (751) (151) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، به مرفوعاً.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن السنة في صلاة الليل أن تختم بالوتر ـ كما تقدم ـ سواء أوتر الإنسان في أول الليل، أو في وسطه، أو في آخره.
وقد حمل الجمهور من أهل العلم الأمر في هذا الحديث على الاستحباب وأنه لا يجب ختم صلاة الليل بالوتر، بل يجوز أن يصلي بعد وتره شيئاً، لما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بعد وتره ركعتين، وسيأتي حديث ثوبان رضي الله عنه وفيه أمر الأمة بذلك، والله تعالى أعلم.
الوتر لا يتكرر في ليلة
383/34 ـ عَنْ طَلْقِ بْنِ عَليٍّ رضي الله عنه قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقولُ: «لاَ وِتْرَانِ في لَيْلةٍ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلاَثةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/256)
فقد أخرجه أحمد (26/222) وأبو داود (1439) في كتاب «الصلاة» باب في «نقض الوتر» والترمذي (470) والنسائي (3/229) وابن حبان (2449) من طريق ملازم بن عمرو، ثنا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، قال: (زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان، وأمسى عندنا وأفطر، ثم قام بنا تلك الليلة وأوتر بنا، ثم انحدر إلى المسجد، فصلى بأصحابه، حتى إذا بقى الوتر قدم رجلاً)، فقال: (أوتر بأصحابك، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا وتران في ليلة»).
قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب)، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر[(808)]، وتحسينه لأنه فيه قيس بن طلق، وهو متكلم فيه، قال الشافعي: (قد سألنا عن قيس بن طلق، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره)، ونقل الخلال عن الإمام أحمد أنه قال: (غيره أثبت منه)، وقال ابن معين: (قد أكثر الناس في قيس وأنه لا يحتج بحديثه)، وفي رواية عنه: أنه وثقه، كما وثقه العجلي وابن حبان[(809)].
الوجه الثاني: في ألفاظه:
قوله: (لا وتران في ليلة) نفي بمعنى النهي، فكأنه قال: (لا توتروا مرتين في ليلة)، ولا: عاملة عمل ليس، و(وتران) اسمها، و(في ليلة) خبرها، ويحتمل أن (لا) عاملة عمل (إنَّ)، و(وتران) اسمها جاء بالألف على لغة من يُلزم المثنى الألف في جميع أحواله، أو أنه مرفوع بفعل محذوف، أي: لا يجتمع وتران في ليلة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الوتر لا يتكرر في الليلة الواحدة مرتين، فمن أوتر أول الليل ثم يسَّر الله له القيام آخر الليل فإنه يصلي ما كتب له، ويكفي وتره الأول، ولا ينقضه، والمراد بنقضه: أن الإنسان إذا أوتر أول الليل ثم قام من آخر الليل يتهجد بدأ صلاته بركعة واحدة لتشفع الركعة الأولى، وهي ركعة الوتر، ثم يصلي ركعتين، ركعتين، ثم يوتر في آخر صلاته.(1/257)
ونقض الوتر موضع خلاف بين أهل العلم، فذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة وجمع من الصحابة والتابعين، منهم أبو بكر وأبو هريرة وطلق بن علي راوي الحديث رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي وآخرون إلى أنه لا يجوز نقض الوتر، ومن أراد أن يتنفل صلى شفعاً ولا يوتر مرة أخرى[(810)].
وذهب بعض الصحابة والتابعين، ومنهم عثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وابن سيرين إلى جواز نقض الوتر، لحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)[(811)].
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه لا يلزم نقض الوتر، بل يصلي الإنسان ما كتب له ويبقي وتره الأول، ولا يوتر مرة أخرى لأمرين:
الأول: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى ركعتين بعد الوتر، كما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها.
وهذا دليل واضح على أن قوله: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» أنه أمر ندب وإرشاد إلى الأفضل وأن الإنسان لا يهمل الإيتار في آخر صلاته، ويؤيد ذلك حديث ثوبان رضي الله عنه قال: كنا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فقال: «إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم، فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له»[(812)] ، وهذا يدل على أن الركعتين بعد الوتر ليستا من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه أمر بهما أمته أمراً عاماً.
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا أوتر أول الليل فقد قضى وتره، فإذا هو نام بعد ذلك ثم قام وتوضأ، وصلى ركعة أخرى، فهذه صلاة غير تلك الصلاة، ولا يصيران صلاة واحدة؛ لما بينهما من النوم والحدث والوضوء والكلام.
وعلى هذا فإن صلى إنسان التراويح فإنه لا ينصرف قبل إمامه، بل يوتر معه، ليحصل على الأجر المستفاد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة»[(813)].
فإذا رغب أن يصلي ما كتب له وقت السحر، فإنه لا يوتر في آخر صلاته مرة أخرى، بل يكتفي بوتره مع إمامه في صلاة التراويح أول الليل.(1/258)
وأجاز أهل العلم لمن صلى مع الإمام التراويح أن ينقض وتره، وذلك بأن يقوم بعد سلام إمامه ويأتي بركعة يشفع بها صلاته مع الإمام، ذكر ذلك ابن قدامة وقال: (إن الإمام أحمد نص على ذلك)[(814)].
ولا يؤثر في ذلك اختلاف النية، لأن الإمام نيته الوتر، والمأموم نيته الشفع، فيجب عليه أن يتم صلاته حسب ما نوى أن يصلي، فإذا سلم إمامه انقضت متابعته له، والله تعالى أعلم.
ما يقرأ في الوتر
384/35 ـ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُوتِرُ بـ{{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}}، و{{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}}، و{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائيُّ. وَزَادَ: وَلاَ يُسَلِّمُ إلاَّ في آخِرهِنَّ.
385/36 ـ وَلأبِي دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَفيهِ: كُلُّ سُورَةٍ فِي ركْعَةٍ، وَفِي الأخيرَةِ: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}، وَالمُعَوِّذَتَيْنِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أُبي بن كعب بن قيس بن عبد الله بن النجار الأنصاري الخزرجي، أبو المنذر، المدني، سيد القراء رضي الله عنه، كَتَبَ الوحي، وكان من السابقين إلى الإسلام، شهد العقبة، وبدراً وما بعدها، روى عنه ابن عباس وأنس وسهل ابن سعد، وخلق كثير.
وهو أحد المشهورين بحفظ القرآن من الصحابة وبإقرائه، وقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأُبي: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك {{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}}» [البينة: 1] قال: وسماني؟ قال: (نعم)، فبكى[(815)].(1/259)
وقال عمر رضي الله عنه: (أُبيٌّ أقرؤنا)[(816)]، وعنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» ، قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيُ آية من كتاب الله معك أعظم؟» ، قال قلت: {{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}} [البقرة: 255] ، قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليهنك العلم أبا المنذر»[(817)].
مات في زمن عثمان رضي الله عنه سنة ثلاثين، وصَلَّى عليه، وقيل: في خلافة عمر رضي الله عنه، والله أعلم[(818)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث أُبي، فقد أخرجه أحمد (35/78) وأبو داود (1423) في كتاب «الصلاة»، باب «ما يقرأ في الوتر»، والنسائي (3/235) من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، به.
وقد وقع عند أحمد والنسائي في آخره زيادة: (فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات)، وهي عند أبي داود (430) دون قوله: (ثلاث مرات)، وعند النسائي (يطيل في آخرهن)، وعند أحمد (24/72): (ويرفع بها صوته).
وهذا الحديث إسناده صحيح، صححه الحاكم، والنووي[(819)]، وله طرق أخرى عن سعيد بن عبد الرحمن، ومنها رواية النسائي بالزيادة المذكورة: (ولا يسلم إلا في آخرهن)، وقد تفرد بها عبد العزيز بن خالد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن، به، ولم يوثقه أحد، وقال في «التقريب»: (مقبول)، يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث.
وقد خالفه عيسى بن يونس، وهو ثقة، فرواه عن سعيد بدونها، كما عند النسائي أيضاً، وعنده أيضاً من طريق زُبيدٍ، عن سعيد بن عبد الرحمن بدونها، فتكون زيادة منكرة، على ما قرره الألباني[(820)]، لكنه صحح الحديث في «صحيح سنن النسائي»[(821)] بدون استثنائها، وهذا أقرب فإنه تقدم ما يؤيد ذلك.(1/260)
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه أبو داود (1424) في الباب المذكور، والترمذي (463) والحاكم (2/520 ـ 521) وابن ماجه (1/357) من طريق محمد بن سلمة الحراني، ثنا خصيف، عن عبد العزيز بن جريج، قال: سألنا عائشة أم المؤمنين: بأيِّ شيء كان يوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت: (كان يقرأ في الأولى بـ: {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}}، وفي الثانية بـ: {{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}}، وفي الثالثة بـ: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} والمعوذتين).
هذا لفظ الترمذي، وهو نحو حديث أُبي كما ذكر الحافظ، إلا أن فيه تفصيل ما يقرأ في كل ركعة، وساقه أبو داود مختصراً، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب)، وقال الحاكم: (إسناده صحيح)، وقد تعقب الشارحُ المباركفوريُّ الترمذيَّ على تحسينه الحديث[(822)] فضلاً عن تصحيح الحاكم، وذلك لأن فيه خُصيفاً، وهو عبد الرحمن الجزري، وهو ضعيف، ضعفه أحمد وغيره من جهة حفظه، ووثقه ابن معين وأبو زرعة وابن سعد وغيرهم، قال في «التقريب»: (صدوق، سيء الحفظ، خَلَط بأخَرَةَ، ورُمي بالإرجاء).
ولأن فيه ـ أيضاً ـ عبد العزيز بن جريج المكي مولى قريش، ذكره البخاري، وذكر حديثه هذا، وقال: (لا يتابع في حديثه)[(823)]، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: (لم يسمع من عائشة)[(824)]، وكذا قال العجلي[(825)]، وقال في «التقريب»: (أخطأ خصيف، فصرح بسماعه من عائشة).
فيكون في الحديث ثلاث علل ضُعِّفَ بسببها، وقد نقل ابن الجوزي عن الإمام أحمد، ويحيى بن معين أنهما أنكرا زيادة المعوذتين[(826)].
وقد حسَّن الحديث الحافظ ابن حجر[(827)]، ولعل تحسينه لكونه جاء بإسناد آخر، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، بذكر المعوذتين، أخرجه الطحاوي في «شرح المعاني» (1/285) والدارقطني (2/35) والحاكم (1/305) (2/520) وابن حبان (6/188، 201).(1/261)
ويحيى بن أيوب مختلف فيه، قال في «التقريب»: (صدوق ربما أخطأ)، وقد حسَّن الحديث الحافظ ابن حجر[(828)]، وتبعه شعيب الأرناؤوط[(829)]، وقال العقيلي بعد سياقه الحديث: (أما المعوذتين فلا يصح)[(830)].
والحديث له شواهد، منها: حديث أبي بن كعب الذي قبله، لكن ليس في شيء منها ذكر المعوذتين مع سورة الإخلاص.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية قراءة {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}} في الركعة الأولى من صلاة الوتر، و{{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}} في الثانية، و{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} في الثالثة، وإن قرأ أحياناً في الثالثة مع {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}} {{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ *}} و{{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *}} فقد قال به من ذهب إلى تحسين الرواية بزيادتهما، وقد اعتمد الألباني ذلك[(831)]، مع أن الأئمة الكبار على إعلال الحديث، كما تقدم، وقد ذهب إلى مشروعية القراءة بهما الشافعية، وروي عن مالك واستحبه أكثر أصحابه[(832)].
الوجه الرابع: ظاهر الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسرد ركعات الوتر الثلاث ولا يسلم إلا في آخرهن، وهذا جاء في رواية النسائي كما تقدم، وقد مضى ما يؤيدها، وهو أنه يجوز سرد الثلاث بسلام واحد، والأولى أن يسلم بعد ركعتين، ثم يوتر بواحدة، كما يدل له قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة الليل مثنى مثنى...» ، والله أعلم.
لا يشرع الوتر بعد الصبح
386/37 ـ عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
387/38 ـ وَلاِبْنِ حِبَّانِ: «مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوِتِرْ فَلاَ وِتْرَ لَهُ».
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:(1/262)
أما الأول: فقد أخرجه مسلم (754) في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل» من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، مرفوعاً.
وأما الثاني: فقد أخرجه ابن حبان (6/168) والحاكم (1/301 ـ 302) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، مرفوعاً.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه)، وسكت عنه الذهبي.
الوجه الثاني: الحديثان دليلان على أن وقت الوتر قبل طلوع الصبح، فإذا طلع الصبح لم يشرع الوتر لخروج وقته، لأن الوتر عمل الليل فلا يجعل في النهار، فعلى المسلم أن يتحرى بوتره الوقت المناسب الذي يستطيعه أول الليل أو وسطه أو آخره، فإن تيسر له آخر الليل فهو أفضل، كما سيأتي إن شاء الله.
والذي يظهر من صنع الحافظ رحمه الله بإيراده حديث أبي سعيد الآتي بعد هذا في قضاء الوتر أن هذين الحديثين محمولان على من ترك الوتر متعمداً حتى طلع الصبح، فهذا قد فاتته السنة العظمى والخير الكثير، حيث فرط بالوتر، فلا يمكنه تداركه، ولا يقضيه على أحد الأقوال في المسألة.
وأما من نام عنه أو نسيه، فهذا جاء فيه الحديث الآتي، ويؤيده حديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) [(833)]، واختار ذلك ابن حزم وقال: (هذا عموم يدخل فيه كلُّ صلاةِ فرضٍ ونافلةٍ، فهو بالفرض أمر فرض، وهو بالنافلة أمر ندب وحض، لأن النافلة لا تكون فرضاً)[(834)].
ولعل هذا غرض الحافظ من إيراد هذه الأحاديث الثلاثة مجتمعة في هذا الموضع، وإلا فالأولى جمعها مع الأحاديث المتقدمة في وقت الوتر في موضع واحد، والله أعلم.
حكم قضاء الوتر
388/39 ـ وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ نَامَ عَن الْوِتْرِ أَو نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ». رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلاَّ النَّسَائيَّ.(1/263)
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود (1431)[(835)] والترمذي (465) في «أبواب الصلاة» باب «ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينساه»، وابن ماجه (1188) وأحمد (17/366 ـ 485) من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً، وقد روي عند الترمذي (466) من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه مرسلاً. قال الترمذي: (وهذا أصح من الحديث الأول).
وقد روى المرفوع عن زيد بن أسلم ابنه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهذه عند الترمذي وابن ماجه وأحمد، وهذا الإسناد ضعيف، لضعف عبد الرحمن بن أسلم، فقد ضعفه الإمام أحمد وابن المديني والنسائي وأبو زرعة وابن حبان، قال ابن خزيمة: (ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه، لسوء حفظه، وهو رجل صناعته العبادة والتقشف، ليس من أحلاس الحديث[(836)])، وقد مضى الكلام فيه عند الحديث (13) في «أبواب الطهارة».
لكنه لم ينفرد به، فقد تابعه أبو غسان محمد بن مطرف المدني، عن زيد بن أسلم، به، كما هو عند أبي داود، لكن ليس فيه (إذا أصبح)، وإنما لفظه: (من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره).
وأبو غسان ثقة من رجال الجماعة، ولهذا قال الحاكم عن حديثه (1/302): (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الإنسان إذا نام عن وتره أو نسيه فإنه يصليه إذا ذكره، ويدخل في عمومه ما لو استيقظ بعد طلوع الفجر، فإنه يصليه، وعليه يحمل ما تقدم عن السلف.
وظاهر الحديث أنه يصلي وتره في النهار كما كان يصليه في الليل، لكن ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (... كان ـ أي النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة...)[(837)].(1/264)
فهذا يدل على أنه إذا قضاه في النهار لا يقضيه على صفته وتراً، بل يشفعه بركعة، لفعله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان وتره إحدى عشرة ركعة، فإذا غلبه نوم أو وجع صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وهكذا يفعل من عادته أن يصلي تسعاً فيصلي بالنهار عشراً، ومن كان يصلي بالليل سبعاً فيصلي بالنهار ثماني ركعات، وهذا هو الأظهر، فإن حديث أبي سعيد مجمل، وحديث عائشة مفسر له، ثم إنه أصح وأثبت من حديث أبي سعيد، والله تعالى أعلم.
فضل تأخير الوتر لمن يقوم آخر الليل
389/40 ـ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ خَافَ أَلاَّ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ فَليُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللّيْلِ، فَإنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْل مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (755) في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «من خاف ألا يقوم في آخر الليل فليوتر أوله» من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن تأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل لمن وثق من نفسه بالاستيقاظ آخر الليل، وأما من لا يثق بذلك فالتقديم له أفضل، وهذه الحالة هي حالة الحزم والاحتياط، والأولى هي حالة العزم والقوة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام[(838)]).(1/265)
ومثل ذلك ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه[(839)] ـ وكذا أبي ذر رضي الله عنه[(840)] ـ فهؤلاء الثلاثة أوصاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالوتر قبل النوم، ولعل ذلك لعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم بحالهم، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن أبا هريرة كان يراجع حفظه من الأحاديث في أول الليل، ولا يطمع في الاستيقاظ آخره، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بتقديم الوتر[(841)].
وقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر رضي الله عنه: «متى توتر؟» ، قال: (أوتر من أول الليل)، وقال لعمر رضي الله عنه: «متى توتر؟» ، قال: (آخر الليل)، فقال لأبي بكر: «أَخَذَ هذا بالحذر [أي بالحزم]» ، وقال لعمر: «أَخَذَ هذا بالقوة»[(842)].
أما من وثق بالقيام فآخر الليل أفضل، لأن صلاة الليل تشهدها الملائكة، فتكون أقرب إلى القبول وحصول الرحمة، ولأن هذا وقتُ تَنَزُّلِ الله تعالى، ووقت إجابة الدعاء، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر»[(843)] .
ولأن الوتر آخر الليل هو التهجد الذي ذكر الله تعالى في كتابه الكريم، قال تعالى: {{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا *}} [الإسراء: 79] .(1/266)
قال الراغب: (المتهجد: المصلي ليلاً)، وقال ابن كثير: (التهجد: ما كان بعد نوم، قاله علقمة، والأسود، وابراهيم النخعي، وغير واحد، وهو المعروف في لغة العرب، وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يتهجد بعد نومه...)[(844)]، وقال تعالى: {{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً *}} [المزمل: 6] وناشئة الليل: قيام الليل، من نشأ: إذا قام، كما ذكر البخاري عن ابن عباس معلقاً بصيغة الجزم[(845)].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ناشئة الليل عند أكثر العلماء هو إذا قام الرجل بعد نوم، وليس هو أول الليل، وهذا هو الصواب، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم هكذا كان يفعل، والأحاديث بذلك متواترة عنه، كان يقوم بعد النوم، لم يكن يقوم بين العشاءين)[(846)]. والله تعالى أعلم.
آخر وقت الوتر
390/41 ـ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ صَلاَةِ اللَّيْل وَالْوِتْرِ، فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي (469) في «أبواب الصلاة»، باب «ما جاء في مبادرة الصبح بالوتر» من طريق ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما به مرفوعاً.
قال الترمذي: (سليمان بن موسى قد تفرد به على هذا اللفظ)، والمراد أن سليمان بن موسى ـ وهو الدمشقي، ابن الأشدق ـ جعل هذا الحديث مرفوعاً بهذا اللفظ، مع أن فيه مرفوعاً وفيه موقوفاً، وهو قد اضطرب فيه، فإنه مرة يرويه مرفوعاً كما هنا، ومرة يرويه موقوفاً كما وقع عند أحمد (10/438) وغيره، وسليمان بن موسى في حديثه اضطراب.(1/267)
قال أبو حاتم: (محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب، ولا أعلم أحداً من أصحاب مكحول أفقه منه، ولا أثبت منه)[(847)]، وقال البخاري: (عنده مناكير)[(848)]، وقال الحافظ ابن رجب: (سليمان بن موسى الدمشقي، الفقيه، يروي الأحاديث بألفاظ مستغربة)[(849)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق فقيه، في حديثه لين، وخلط قبل موته بقليل).
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الأمر كما قال الشيخ أحمد شاكر: (إنه قد وهم، فأدخل الموقوف من كلام ابن عمر، وهو قوله: (فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر) في المرفوع وهو قوله: (أوتروا قبل طلوع الفجر)، أو يحتمل أن يكون قد حفظ، وأن ابن عمر كان يذكره مرة هكذا ومرة هكذا)[(850)].
وسياقه موقوفاً قد صححه الحاكم (1/302) وسكت عنه الذهبي، وصححه الألباني[(851)].
ولعل الحافظ أورد هذا الحديث مع أن معناه مستفاد من الأحاديث المتقدمة، لأنه أوضح منها في المعنى، حيث إن فيه ذكر صلاة الليل، وهي النوافل المشروعة فيه، ثم عطف عليها الوتر من باب عطف الخاص على العام لمزيد العناية والاهتمام به.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن صلاة الليل ومنها الوتر ينتهي وقتها بطلوع الفجر، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
استحباب صلاة الضحى
391/42 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي الضُّحى أَرْبَعاً، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ الله). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
392/43 ـ وَلَهُ عَنْهَا: أَنَّها سُئِلَتْ: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي الضُّحَى؟»، قَالَتْ: «لاَ، إلاَّ أَنْ يَجيء مِنْ مَغِيبِهِ».
393/44 ـ وَلَهُ عَنْهَا: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإنِّي لأُسَبِّحُهَا».
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:(1/268)
أما حديث عائشة الأول، فقد أخرجه مسلم (719) (79) في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «استحباب صلاة الضحى» من طريق قتادة أن معاذة العدوية حدثتهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ... فذكرته.
وأما حديثها الثاني: فقد أخرجه مسلم ـ أيضاً ـ (717) في الباب المذكور من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد الجُريري، عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: (هل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي الضحى؟)، قالت: (لا، إلا أن يجيء من مغيبه).
وأما حديثها الثالث، فقد أخرجه البخاري (1128) (1177) في كتاب «التهجد»، باب «تحريض النبي صلّى الله عليه وسلّم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب»، ومسلم (718) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليدعُ العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم) وهذا لفظ مسلم، وعزوه لمسلم فقط سهو من الحافظ رحمه الله، والأولى أن يقول: (ولهما عنها)، أو (وفي المتفق عليه) أو نحو ذلك.
وذكر المصنف هذه الأحاديث الثلاثة، لأن الأول فيه الإثبات مطلقاً، والثاني فيه تقييد النفي بغير المجيء من مغيبه، والثالث فيه نفي رؤيتها لصلاة الضحى مطلقاً، وكأن مراده بذلك أن يبحث طالب العلم في تعارض حديثي الإثبات والنفي، فإن ذلك مما اختلفت فيه كلمة أهل العلم، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (يصلي الضحى) بضم الضاد مقصورة، ما بعد ارتفاع الشمس إلى قبيل الزوال، والضّحى بالضم والقصر، والضَّحاء: بالفتح، والمد بمعنى واحد، وقيل: الضحى ـ بالضم ـ: من طلوعها إلى أن يرتفع النهار وتبيض الشمس جداً، ثم بعد ذلك الضَّحاء ـ بالفتح ـ إلى قريب من نصف النهار.(1/269)
قوله: (سبحة الضحى) بضم السين، والمراد، صلاة الضحى، وأصل التسبيح: التنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص، والمراد هنا: صلاة التطوع، وتسمية صلاة التطوع بالسبحة هو الغالب، وذلك من تسمية الشيء باسم بعضه، وخصت النافلة بذلك مع أن الفريضة تشاركها في معنى التسبيح، لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، كذا في «النهاية»[(852)].
الوجه الثالث: في الأحاديث دليل على مشروعية صلاة الضحى، وأنها سنة مؤكدة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعلها، وأوصى بها أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء رضي الله عنهم وتقدمت أحاديثهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أوصى أحداً بشيء، فهي وصية للأمة كلها، وليس خاصاً بذلك الموصى، وهكذا إذا نهى أو أمر فالحكم عام، إلا أن يقوم دليل على الخصوصية، وبهذا تكون صلاة الضحى ثبت فيها القول والفعل.
وكونه صلّى الله عليه وسلّم لم يداوم عليها وإنما يفعلها بعض الأحيان لا ينافي سنيتها، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد يفعل الشيء لبيان مشروعيته، وقد يتركه لبيان عدم وجوبه، وقد يترك الشيء وهو يحب أن يفعله لئلا يشق على أمته، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم) كما تقدم.
وعلى هذا فالظاهر استحبابها مطلقاً، لما ورد من الأدلة الكثيرة في الترغيب فيها، لا ترك المداومة عليها، كما هو المذهب عند الحنابلة[(853)]، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يداوم عليها خشية أن تفرض على الأمة، فيغلب جانب الأدلة التي تدل على فضلها.
وذهب فريق من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن من كان عادته قيام الليل فإنه لا يسن له أن يصلي الضحى، ومن لم تكن عادته قيام الليل سن في حقه أن يصلي الضحى[(854)].(1/270)
وذهب فريق ثالث إلى أنها لا تشرع إلا لسبب، كالقدوم من سفر ونحوه، إلى غير ذلك من الأقوال، وقد أوصلها ابن القيم إلى ستة أقوال[(855)]، ولخصها الشوكاني[(856)].
والقول الأول هو الأظهر، وهو استحبابها مطلقاً، وقد اختار ذلك الشوكاني[(857)]، والشيخ عبد العزيز بن باز، فقال: (صلاة الضحى سنة مؤكدة، فعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأرشد إليها أصحابه) وقال: (لو صليتها يوماً وتركتها يوماً فلا بأس، ولكن الأفضل المداومة، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل»)[(858)][(859)].
ومما يؤيد سنيتها مطلقاً، حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»[(860)].
والسُّلامى: بضم السين، مفرد، جمعه: سُلاميات، وهي مفاصل الأصابع، ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله، وقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل»[(861)].
فهذا دليل على عِظم فضل صلاة الضحى، وأنها باب عظيم من أبواب شكر الله تعالى على نعمه، ومنها نعمة البدن، وأن هاتين الركعتين تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة وجدير بالمداومة.
وعن أبي الدرداء وأبي ذر[(862)] رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الله عزّ وجل أنه قال: (ابن آدم اركع لي من أول النهار أربع ركعات أَكْفِكَ آخره) [(863)].
الوجه الرابع: اختلف العلماء في الجمع بين حديثي عائشة المذكورين في إثبات صلاة الضحى ونفيها.(1/271)
فمنهم من سلك مسلك الترجيح، فرجح أحاديث الإثبات عنها وعن غيرها من الصحابة، لأنه اتفق عليها الشيخان على حديث نفيها الذي انفرد به مسلم، ولأن المثبت مقدم على النافي، ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ، وهذا قول جماعة من أهل العلم، منهم ابن خزيمة[(864)]، وابن جرير الطبري، وابن عبد البر، بل إنه بالغ فقال عن حديث النفي: إنه منكر[(865)]، مع أنه ثابت في صحيح مسلم، كما تقدم.
وسلك آخرون مسلك الجمع، على خلاف بينهم في كيفية الجمع، على طرق ستة، ذكرها العراقي[(866)]، ومن ذلك أن المنفي هو المداومة عليها، والمثبت هو فعلها أحياناً، كالقدوم من سفر، أو الفتح، أو زيارته لقوم، أو نحو ذلك، وممن قال بذلك البيهقي[(867)]، وأيد ذلك بقول عائشة رضي الله عنها: (وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم)، وحكاه النووي عن العلماء، وقال: (بهذا يجمع بين الأحاديث)[(868)].
وعندي أن هذا هو أظهر الأجوبة، لقوة ما عُلِّلَ به، فإن الأحاديث القولية ثابتة في سنيتهما، فهي مقدمة في دلالتها على الأحاديث الفعلية التي تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يداوم عليها، ولا ينافي ذلك قول عائشة المتقدم: (كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله)، فإنه لا يلزم من هذا التعبير المداومة، بل هي للدلالة على مجرد الوقوع، ولا سيما أنه وجد هنا قرائن تصرف الفعل عن دلالته على المداومة، عند من يقول بذلك، وتقدم بيان هذه القرائن، وقد يكون مرادها بيان هذا العدد إن صلى الضحى وأنه قد يزيد، والله أعلم.(1/272)
وأما قولها: (ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي سبحة الضحى قط...) فلعله محمول على المداومة، بدليل قولها: (كان يصلي الضحى أربعاً)، وبدليل حديثها الثاني لتتفق الأدلة، ثم إنه لا يلزم من عدم رؤيتها له عدم الوقوع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكون عندها وقت الضحى إلا نادراً، فقد يكون في المسجد، وقد يكون مسافراً، وقد يكون في موضع آخر، والله تعالى أعلم.
أفضل الأوقات لصلاة الضحى
394/45 ـ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «صَلاَةُ الأَوَّابِين حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ»، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (748) في كتاب «صلاة المسافرين» باب «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» من طريق القاسم الشيباني، أن زيد بن أرقم رضي الله عنه رأى قوماً يصلون من الضحى، فقال: (أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:... فذكره).
وعزوه للترمذي وهمٌ من الحافظ، وقد عزاه المزي في «تحفة الأشراف» إلى مسلم، ولم يعزه للترمذي[(869)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الأوابين) جمع أواب، صيغة مبالغة، والأواب: الرجاع إلى الله تعالى بفعل المأمور واجتناب المحظور.
قوله: (حين تَرْمَضُ) بفتح التاء، وسكون الراء، وفتح الميم، من باب «تعب»، يقال: رَمِضَتْ الفصال: إذا وجدت حر الرمضاء فاحترقت أخفافها، والرمضاء: شدة حرارة الأرض من وقوع الشمس على الرمل وغيره عند ارتفاعها.
قوله: (الفِصال) بكسر الفاء، جمع فصيل، وهو ولد الناقة، سمي بذلك لفصله عن أمه، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو يجمع على فصلان ـ بضم الفاء وكسرها ـ وأما جمعه على (فصال) فكأنهم توهموا فيه الصفة.(1/273)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن أفضل وقت لصلاة الضحى، هو وقت اشتداد حرارة الشمس، وأن هذه صلاة الأوابين، وسميت بذلك لأنهم آبوا ورجعوا إلى طاعة الله وعبادته حينما اشتغل الناس بأمور دنياهم من زراعة وتجارة ونحوهما، وأخلد آخرون إلى الراحة، فيقوم هؤلاء يصلون ويذكرون الله تعالى.
وأما بداية وقت صلاة الضحى فهو من ارتفاع الشمس بعد طلوعها، لحديث عمرو بن عبسة الطويل، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «صَلِّ صلاة الصبح، ثم اقعد عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع...»[(870)]. والله تعالى أعلم.
عدد ركعات صلاة الضحى
395/46 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ صَلَّى الضُّحى ثنتي عَشْرَةَ رَكْعةً بَنَى اللهُ لَهُ قَصْراً في الْجَنةِ»، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ.
396/47 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبي صلّى الله عليه وسلّم بَيْتِي، فَصَلَّى الضُّحى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ»، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ في «صَحِيحِهِ».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أنس، فقد أخرجه الترمذي (473) في «أبواب الصلاة»، باب «ما جاء في صلاة الضحى» من طريق موسى بن فلان بن أنس، عن عمه ثمامة بن أنس بن مالك، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة».
قال الترمذي: (حديث أنس حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، وهذا إسناد ضعيف، لأن موسى بن فلان مجهول، كما في «التقريب»، وفي اسمه اضطراب[(871)]، وقد ضعفه الحافظ في «التلخيص»[(872)].(1/274)
وأما حديث عائشة، فقد أخرجه ابن حبان (6/272) في كتاب «الصلاة»، فصل «في صلاة الضحى» (ذكر عدد الركعات التي كان يصليها صلّى الله عليه وسلّم صلاة الضحى) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي، قال: (حدثني المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن عائشة رضي الله عنه قالت:... فذكرته).
وهذا إسناد ضعيف ـ أيضاً ـ لأن المطلب بن عبد الله بن حنطب وثقه أبو زرعة ويعقوب بن سفيان، إلا أنه لم يسمع من عائشة، فقد قال أبو حاتم: (لم يدرك عائشة رضي الله عنها وعامة حديثه مراسيل)[(873)]، وقال أبو زرعة: (نرجو أن يكون سمع منها)[(874)].
الوجه الثاني: الحديث الأول دليل على فضل صلاة الضحى، وهي ثنتا عشرة ركعة، ولكنه حديث ضعيف، وكذا حديث عائشة، وتغني عنهما الأحاديث الصحيحة الدالة على أنها ركعتان، كما في حديث أبي ذر المتقدم: (ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) أو يصليها أربع لحديث عائشة المتقدم، الذي أخرجه مسلم، أو يصليها ستاً لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الضحى ست ركعات[(875)].
وله أن يصليها ثمان ركعات لحديث أبي مرة مولى عقيل أن أم هانئ حدثته أنه لما كان عام الفتح، أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بأعلى مكة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى غُسْله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبه، فالتحف به، ثم صلى ثمان ركعات سُبحة الضحى[(876)]، ويدل على ذلك كله قول عائشة رضي الله عنها كما تقدم: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الضحى، أربعاً، ويزيد ما شاء الله).
والمقصود أن صلاة الضحى ليس لها عدد معين، وأقلها ركعتان، فيصلي المسلم ما شاء الله، لأن الضحى وقت للصلاة، وشَغْلُ الوقت بالصلاة من أفضل الأعمال وأجل الطاعات.(1/275)
وقد دل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن عبسة: «صَلِّ صلاة الصبح، ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع... ثم صَلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقلَّ الظل بالرمح...» الحديث[(877)]، فأمره صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي بعد ارتفاع الشمس إلى أن تقف الشمس، ولم يحدد له ركعات معينة، فدل ذلك على أن صلاة الضحى لا حد لأكثرها، والله تعالى أعلم.
باب صلاة الجماعة والإمامة
الجماعة في اللغة: من الجمع، وهو تأليف المتفرِّق، وضم الشيء بتقريب بعضه من بعض.
وفي اصطلاح الفقهاء: الجماعة اسم لأقل ما يتحقق به الاجتماع، وهو اثنان: إمام ومأموم.
والإمامة: في اللغة من الأَمِّ، وهو القصد.
وفي اصطلاح الفقهاء: تطلق على معانٍ متعددة، والمراد بها هنا: إمامة الصلاة، وهي: ربط صلاة المؤتمِّ بالإمام.
فالإمام لا يصير إماماً إلا إذا ربط المأموم صلاته بصلاته، فهذا الربط هو حقيقة الإمامة.
والمراد بالجماعة في نصوص الشريعة هي: جماعة المسجد، لا جماعة البيوت، حتى لو قلنا بصحة الجماعة في البيوت، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صَلاَةُ الرَّجُلِ في الجماعة تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْساً وَعِشْرِينَ ضِعْفاً» [(878)].
ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَداً مُسْلِماً فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ» [(879)].
و «حَيْثُ» ظرف مكان، أي: فليحافظ عليهن في المكان الذي ينادى لهن فيه، وهو المساجد، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم هَمَّ بتحريق بيوت المتخلِّفين ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ ومعلوم أن البيوت فيها جماعة، فدل على أن المراد جماعة المسجد، ولهذا كان الواحد من سلف هذه الأمة إذا فاتته الجماعة في مسجده ذهب إلى مسجد آخر، ولم يذهب إلى بيته ويصلي بأهله ليكونوا جماعة[(880)].(1/276)
وأما الحكمة من مشروعية صلاة الجماعة، فهي ما يترتب عليها من فوائد كثيرة ومصالح عظيمة، فردية واجتماعية، دينية ودنيوية، فيجتمع أهل المحلة الواحدة كل يوم وليلة خمس مرات، فيتم بذلك إظهار شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، فيظهر عز الإسلام وقوة المسلمين.
وفي صلاة الجماعة يتم التعارف بين أهل الحي، ويحصل تعليم الجاهل، وتنشيط العاجز، والسؤال عن الغائب، وزيارة المريض، والتنافس في أعمال الخير، من العطف على الفقير، ومساعدة العاجز.
كما أن في صلاة الجماعة تعويد الأمة على الاجتماع وعدم التفرق، وإشعارهم بالمساواة حينما يقفون صفّاً واحداً خلف إمامهم، لا فرق بين غني وفقير، ولا شريف ولا وضيع، ولا صغير ولا كبير، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة.
فضل صلاة الجماعة
397/1 ـ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
398/2 ـ وَلَهُمَا عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً».
399/3 ـ وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبي سَعِيدٍ، وَقَالَ: «دَرَجَةً».
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما الأول: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «فضل الجماعة» (645)، ومسلم (650) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به مرفوعاً.
وأما حديث أبي هريرة: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «فضل صلاة الفجر جماعة» (648)، ومسلم (649) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً» ، وفي لفظ: «بخمس وعشرين جزءاً» وهذا لفظ مسلم.(1/277)
وأما الثالث: فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور أولاً (646) من طريق الليث، حدَّثني ابن الهاد، عن عبد الله بن خبَّاب، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» ، وهو عند مسلم (649) (246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظها:
قوله: (صلاة الجماعة أفضل) بلفظ أفعل التفضيل، أي: أكثر وأزيد، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: «تفضُل» .
والمراد بالجماعة هنا: قيل: مطلق الجماعة في أي مكان؛ لأن الجماعة وصف عُلِّق عليه الحكم، فيؤخذ به.
والقول الثاني: أن المراد: جماعة المسجد لا جماعة البيوت ونحوها؛ لِمَا وَرَدَ من أوصاف أخرى تختص بالمساجد، كإكثار الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة، ودعاء الملائكة. وعندي أن هذا القول أقرب، ويؤيده ما سيأتي من أن الصلاة في البيوت مِن فِعل المنافقين، فكيف يثبت فيها التفضيل؟
قوله: (صلاة الفذ) أي: المنفرد الذي لم يصلِّ مع الجماعة، وجمعه: فذوذ، وأفذاذ، قال ابن منظور: (فَذَّ الرجل عن أصحابه: إذا شَذَّ عنهم وبقي منفرداً)[(881)]، وعند مسلم بسياق أوضح: «صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعاً وعشرين» .
قوله: (بسبع وعشرين) وفي رواية له: «بخمس وعشرين» ، قال الترمذي: (عامة مَن روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قالوا: خمس وعشرون، إلا ابن عمر فإنه قال: بسبع وعشرين)[(882)].
وقد اختلف العلماء في الجمع بينهما على أوجه كثيرة، ذكرها الحافظ، وأقربها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أولاً بالقليل، ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل فأخبر بها، ولا يُقال: إن ذلك يحتاج إلى معرفة أن السبع والعشرين هي المتأخرة؛ لأن الظاهر تقديم الخمس على السبع، من جهة أن الفضل من الله تعالى يقبل الزيادة لا النقص، فلا يحتمل أن السبع متقدمة على الخمس.(1/278)
ومنهم مَن سلك مسلك الترجيح، فرجَّح رواية السبع؛ لأن فيها زيادة من عدل حافظ فتكون مقبولة، والجمع أحسن.
قوله: (درجة) أي: مرة، والمعنى أن الرجل إذا صلّى في جماعة كانت صلاته أزيد ثواباً مما إذا صلاَّها وحده بسبع وعشرين مرة.
وقوله في الرواية الأخرى: «جزءاً» ، إما أن يكون من تصرف الرواة، أو من باب التفنن في العبارة، وقد جاء في بعضها: «ضِعفاً» .
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الصلاة في الجماعة، وأنها أكثر ثواباً من الصلاة بغير جماعة سبعاً وعشرين مرة، والقصد من هذا الإخبار: حث الناس وترغيبهم في صلاة الجماعة، طلباً لهذه الزيادة في الثواب.
الوجه الرابع: حديث الباب محمول على المنفرد الذي صلَّى في بيته بدون عذر، وأما مَن صلَّى في بيته لعذر، كمرض ونحوه، ففيه قولان:
الأول: أن أجره تام؛ لأن المعذور يكتب له ثواب عمله كله، فدلَّ على أن المراد بالحديث غير المعذور، وقد ورد في حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً» [(883)].
القول الثاني: أن المعذور له أجر، ولكن ليس كأجر مَن صلَّى في جماعة، إذ ليس هناك دليل يدل على أن صلاة المنفرد المعذور مثل صلاة الرجل في جماعة، وعلى هذا القول فلا تضعيف في صلاة الفذ مطلقاً، سواء أكان معذوراً أم غير معذور إلا أن المعذور يسقط عنه الإثم، ويكتب له الأجر إذا كان من عادته الصلاة في جماعة ثم مرض ولم يستطع أن يصلي معهم، ولكن أجره ليس كأجر مَن صلَّى مع الجماعة.
وأما مَن لم تكن عادته الصلاة في الجماعة فمرض فصلَّى وحده فهذا لا يكتب له مثل صلاة الصحيح، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية[(884)]، والحافظ ابن رجب[(885)].(1/279)
الوجه الخامس: استدل بالحديث مَن قال: إن صلاة الجماعة سُنَّة، وهم أكثر المالكية، ووجه الاستدلال: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فاضَل بين صلاة الجماعة وصلاة المنفرد، والمفاضلة تقتضي مشاركة المنفرد للجماعة في الفضل وأصل الثواب، ولو كانت الجماعة واجبة لم يجعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للمنفرد أجراً؛ لأنه إما آثم إن كانت الجماعة في حقه واجبة، أو صلاته باطلة إن كانت شرطاً.
وأُجيب عن ذلك: بأن المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة المنفرد ليس فيها دلالة على عدم الوجوب، وإنما فيها دلالة على أن صلاة المنفرد صحيحة وناقصة الثواب، ثم إن الحديث ما سيق لبيان الوجوب أو عدمه، وإنما سِيق لبيان المفاضلة.
لكن يصح أن يكون الحديث دليلاً على أن الجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة؛ لأن تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ يدل على أن في صلاة الفذ فضلاً، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت صحيحة.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن أقل الجماعة اثنان؛ إمام ومأموم؛ لأنه جعل هذا الفضل لغير الفذ، فدلَّ على أن ما زاد على الفذ فهو جماعة، وقد دلَّ على ذلك حديث مالك بن الحويرث، وفيه: «إذا حضرت الصلاة فأذِّنا وأقيما، ثم ليؤمكما أكبركما»، وتقدم في باب «الأذان»، وقد بوَّب عليه البخاري بقوله: بابٌ «اثنان فما فوقهما جماعة»[(886)]. والله تعالى أعلم.
حكم صلاة الجماعة(1/280)
400/4 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤذَّن لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيؤمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ. وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقاً سَمِيناً أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «وجوب صلاة الجماعة» (644)، ومسلم (651) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وهذا لفظ البخاري كما قال الحافظ؛ إلا أن قوله: «لا يشهدون الصلاة» ليس عند البخاري، وإنما هو عند مسلم فقط، من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وليس في لفظ البخاري، كما هو ظاهر سياق الحافظ.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (والذي نفسي بيده) هذا قسم كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم به كثيراً، ومعناه: أن أمر نفوس العباد بيد الله تعالى؛ لأنه سبحانه مالكها والمتصرف فيها.
وأما قول الشرَّاح: أي: بتقديره وتدبيره، وأن المراد باليد القدرة؛ فهو تأويل فاسد؛ لأن اليد ثابتة لله تعالى على حقيقتها، واليد غير القدرة.
قوله: (لقد هممت) أي: أردت وعزمت، والهمُّ: انبعاث النفس إلى تحصيل أمرٍ ما، وقد جاء في رواية مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد ناساً في بعض الصلوات، فقال: «لقد هممت...» فبين بذلك سبب الحديث.
قوله: (ثم أخالف إلى رجال) أي: آتيهم من خلف، قال الجوهري: (خالف إلى فلان؛ أي: أتاه إذا غاب عنه)[(887)].(1/281)
قوله: (لا يشهدون الصلاة) هذه اللفظة عند مسلم فقط، كما تقدم، وهي صفة لرجال، والمعنى: لا يحضرون، من شهد بمعنى حضر، وفيها بيان سبب ذلك، وهو أن العقوبة على ذنب ظاهر، وهو تخلفهم عن الصلاة في المسجد، لا على أنها لنفاقهم، كما قيل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يعاقب المنافقين على نفاقهم؛ لأنه أمر باطن، بل كان يكل سرائرهم إلى الله تعالى، ويعاملهم معاملة المسلمين في الظاهر، وقوله: «لا يشهدون الصلاة» لم يبين المراد بهذه الصلاة، لكن آخر الحديث يشعر بأنها العشاء، وهذا لا يقتضي التخصيص.
قوله: (فأحرق عليهم بيوتهم) ، في رواية لمسلم: «فأحرق بيوتاً على من فيها» ، وهذا يُشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد: تحريقهم، وبيوتهم تبع لهم.
قوله: (والذي نفسي بيده) أعاد النبي صلّى الله عليه وسلّم اليمين للمبالغة في التأكيد والاهتمام.
قوله: (عَرْقاً سميناً) بفتح المهملة، وسكون الراء، ثم قاف، هو العظم الذي أُخِذَ أكثر ما عليه من الهبر، ويؤيد ذلك رواية مسلم: «عظماً سميناً» فَيُكسر العظم ويُطبخ، ويُؤكل ما عليه من اللحم، ثم يُتَمَشْمَشُ العظم.
قوله: (أو مِرماتين حسنتين) تثنية مِرماة، بكسر الميم، ويجوز فتحها، وفي تفسيرها اختلاف، فقيل: المرماة ظلف الشاة، كما ذكر الزمخشري[(888)]، وبه صَدَّرَ ابن الأثير تفسير هذه الكلمة[(889)]، وقيل: ما بين ظلفيها، ذكر هذا أبو عبيد، ثم قال: (وهذا حرف لا أدري ما وجهه، إلا أنه هكذا يفسَّر، والله أعلم)[(890)].
وقيل: سهمان يرمى بهما، وهذا تفسير أبي زرعة الرازي جاء في سياق الحديث[(891)]، وضعف ذلك الزمخشري، لذكر العَرْقِ معه، قلت: ويؤيد ما قاله الزمخشري حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لو أن رجلاً ندب الناس إلى عَرْقٍ أو مرماتين لأجابوا...» الحديث[(892)]. فهذا يؤيد أن المرماة ظلف الشاة.(1/282)
وقد جُمع بين السِّمَنِ في العَرْق والحسن في المرماتين ليوجد الباعث النفسي في تحصيلهما، وذكر العرق والمرماتين على وجه ضرب المثال بالأشياء التافهة الحقيرة من الدنيا، وفيه توبيخ لمن رغب عن فضل صلاة الجماعة، مع أنه لو طمع في إدراك يسيرٍ من عرض الدنيا لبادر إليه، وهو يسمع منادي الله فلا يجيبه، ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله[(893)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الحلف من غير استحلاف، وقد ذكر ابن القيم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حلف في أكثر من ثمانين موضعاً، وذكر أنه يجوز الحلف، بل يستحب على الخبر الديني الذي يريد تأكيده[(894)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على إثبات صفة اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتاً بلا تكييف ولا تمثيل، وتنزيهاً بلا تحريف ولا تعطيل، كسائر أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
الوجه الخامس: استدل بالحديث من قال بوجوب صلاة الجماعة، وهم أكثر الحنفية وابن خزيمة وابن المنذر من الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة[(895)]، ووجه الاستدلال: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم همَّ بتحريق بيوت المتخلفين عنها عليهم، ولا يهم بهذه العقوبة إلا من أجل ترك واجب، وهو حضور الجماعة، ولا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله، ولو كانت فرض كفاية لكان أداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه الصلاة كافياً عن الجميع، ولو كانت سنة لم يهدد النبي صلّى الله عليه وسلّم تاركها بذلك، وسيأتي مزيد من الأدلة إن شاء الله.
وقد ورد عند أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْلاَ مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِيَّةِ لأَقَمْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحْرِقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ» [(896)]. وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أبي معشر ـ وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي ـ عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وأبو معشر ضعيف.(1/283)
ولكن المعنى صحيح، فإن امتناع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من تنفيذ ما هَمَّ به له أسباب، فإنه قد يفضي إلى أشياء مضرتها عظيمة، كإصابة امرأة أو طفل، أو يَذْهَبُ بأموال عظيمة أو ما شابه ذلك مما قد يضر بالجيران، فالحاصل أن التخلف عن التنفيذ له أسباب، فلا يدل على أن فعلهم ذلك جائز أو أنه لا يجوز عقابهم.
الوجه السادس: الحديث دليل على جواز مباغتة الفساق في أماكن فسقهم وعلى معصيتهم، لقبضهم متلبسين بجريمتهم، وأن هذا أمر مناسب للقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتقوم الحجة عليهم ويسقط اعتذارهم، ولا يبقى لهم شيء آخر يدرأ عنهم العقوبة.
الوجه السابع: استدل بهذا الحديث من أجاز التعزير بالمال، كأن يُغَرَّمَ شخص مبلغاً من المال أو يتلف شيء من ماله، وذلك لأن تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة من العقوبة المالية، وهذا قول ابن تيمية[(897)]، وتلميذه ابن القيم[(898)]، ونُقل عن إسحاق، وأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة، وبه قال ابن فرحون من المالكية[(899)]، وقد انتصر له ابن القيم، وذكر أنه ورد فيه قضايا عديدة، كأمره صلّى الله عليه وسلّم بتحريق الثوب المعصفر بالنار، وأمره بتحريق متاع الغال، وإضعاف الغُرم على من سرق ما لا قطع فيه من الثمر، وفعله الخلفاء الراشدون، فحرق عمر وعلي رضي الله عنهما بيت خمَّار، وغير ذلك مما يدل على بقاء هذا الحكم.
وقد رجح هذا القول ابن رجب[(900)]، والشيخ عبد العزيز بن باز[(901)].
وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه لا يجوز التعزير بالمال[(902)]؛ لأن في ذلك مخالفة للنصوص الدالة على حرمة مال المسلم وعدم جواز أخذه بغير حق، وقد كانت العقوبة المالية في أول الإسلام ثم نسخت، لكن رد ابن رجب دعوى النسخ، وقال: إنها لا تصح، والشريعة طافحة بجواز ذلك...(1/284)
أما نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التحريق بالنار[(903)]، فإنما أراد به تحريق النفوس وذوات الأرواح، وأما حديث الباب فمراد به تحريق دار المتخلف عن الصلاة ومتاعه، فإن أتى على نفسه لم يكن بالقصد بل تبعاً.
الوجه الثامن: الحديث دليل على أن الأمر بإقامة الصلاة موكول إلى الإمام، لقوله: «ثم آمر بالصلاة فتقام» ، فإذا كان الإمام حاضراً أو قريباً من المسجد فهو أحق بالأمر بإقامة الصلاة، وعليه فلينتبه أولئك الذين يوجدون في بعض المساجد ويضايقون المؤذن ويطالبونه بإقامة الصلاة بمجرد أن الإمام تأخر بضع دقائق، بل ينبغي الأدب مع الأئمة والصبر والاحتساب في انتظار الصلاة، ففي ذلك ثواب عظيم.
الوجه التاسع: أن الإمام إذا عرض له شغل فإنه يستخلف من يصلي بالناس، وله أن يستصحب معه بعض الجماعة إذا كان هناك مصلحة، لقوله في رواية: «ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب» [(904)]؛ لأن مصلحة متابعة المتخلفين مقدمة على الصلاة في أول وقتها، وبهذا يستدل على أنه لا بأس بفعل أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا بقوا يوجهون الناس للصلاة ويتابعون المتخلفين ولو تأخروا عن الجماعة في المسجد؛ لأن هذا مصلحة عامة، والله تعالى أعلم.
التحذير من التخلف عن العشاء والفجر
401/5 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى المُنَافِقِينَ: صَلاَةُ الْعِشَاءِ، وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/285)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «فضل العشاء في جماعة» (657)، ومسلم (651) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أَثْقَل صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً، وَلَقَدْ هَمَمَتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَام...» الحديث، وهذا لفظ مسلم، وهذه الزيادة: «وَلَقَدْ هَمَمْتُ» عند البخاري أيضاً، لكن المؤلف اقتصر على أوله؛ لأنه ساق آخره من طريق آخر، كما تقدم بلفظ أتم.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أثقل الصلاة) أي: أشدها ثقلاً، والمراد بذلك ثقل شهودهما في المسجد، بدليل السياق، والمراد بالصلاة: الصلوات كلها، فـ(أل) فيها لاستغراق الجنس، وهذا على لفظ البلوغ، أما لفظ الصحيحين فهو بدونها، كما تقدم.
قوله: (على المنافقين) أي: الذين يظهرون أنهم مسلمون وهم كفار، وهم جمع منافق، اسم فاعل من نافق الرجل نفاقاً، والنفق: سرب في الأرض مشتق إلى موضع آخر، ومنه النافقاء، وهو جُحْرٌ يصنعه الحيوان المعروف باليربوع، ويخفيه ليهرب منه إذا طُلب من قبل القاصعاء الذي يظهره.
وحقيقة النفاق: إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
قوله: (ولو يعلمون ما فيهما) أي: ولو يعلمون علم إيمان ويقين ما في فضلهما مع الجماعة في المسجد من الثواب والفضل.
قوله: (ولو حبواً) أي: ولو كان إتيانهما حبواً، وهو المشي على الأيدي والركب.
الوجه الثالث: الحديث دليل على ثقل الصلوات كلها على المنافقين، كما قال تعالى: {... {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى} ...} [النساء: 142] وأثقلها عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولعل السبب في ذلك ـ والله أعلم ـ أمران:
الأول: أن صلاة العشاء وقت الراحة بعد تعب النهار، وصلاة الفجر في وقت لذة النوم صيفاً وشتاءً.(1/286)
الثاني: أن المراءاة فيهما مفقودة غالباً حيث لا يراهم الناس في الظلام، فلا يُفقد المتخلف عنهما، فمن أجل المانع وقلة الدافع كانتا أثقل الصلوات عليهم؛ لأن المرائي إنما ينشط للعمل إذا رأى الناس، فإذا لم يشاهدوه ثقل عليه العمل.
فليحذر ذلك من يتساهلون في صلاة الفجر وينامون عنها أن يكون فيهم صفة من صفات المنافقين، نسأل الله السلامة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن التخلف عن الصلاة مع الجماعة من صفات أهل النفاق؛ لأن الصلاة ثقيلة عليهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى، ولا بفائدة الصلوات، فإذا صلوا فإنهم لا يصلون رغبة في ثواب الله تعالى وخوفاً من عقابه، وإنما ليراؤوا الناس ويستروا نفاقهم.
وصفات المنافقين مذمومة يجب على كل مسلم الحذر منها والبعد عنها، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف)[(905)].
فأفاد ذلك أن تخلُّفَ الإنسان عن الجماعة يدل على ثقل الصلاة عليه، وثقلها يدل على أن في قلبه نفاقاً، فليبادر بالتخلص منه، وذلك بالمحافظة على صلاة الجماعة والحرص عليها.
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا إذا فقدنا الإنسان في صلاة العشاء الآخرة والصبح أسأنا به الظن)[(906)].
وقال إبراهيم النخعي: (كفى عَلَماً على النفاق أن يكون الرجل جار المسجد لا يُرى فيه)[(907)].
وقد كثر في زماننا هذا التخلف عن صلاة الجماعة، ولا سيما صلاة الفجر، وهذا بسبب ضعف الإيمان، ومرض القلب، والزهد في الطاعات، والإعراض عن الله تعالى وما أعدَّ للطائعين، وتقديم مراد النفس على مراد الله، مع ضعف الرادع أو عدمه، والله المستعان.
وجوب الجماعة على من سمع النداء(1/287)
402/6 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: أَتى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى المَسْجِدِ، فَرَخَّص لَهُ، فَلَمَّا وَلّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَجِبْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»، باب «يجب إتيان المسجد على من سمع النداء» (653) من طريق مروان الفزاري، عن عبيد الله بن الأصم، قال: حدثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وقد أخرجه أبو داود (552) من طريق حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: «هل تسمع النداء؟» ، قال: نعم، قال: «لا أجد لك رخصة» .
وهذا الحديث رجاله ثقات، وسنده صحيح أو حسن، كما قال النووي[(908)]، وهو يبين المراد بالرجل الأعمى في حديث الباب.
الوجه الثاني: الحديث دليل صريح على وجوب الصلاة جماعة في المسجد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجد رخصة لرجل أعمى بعيد الدار ليس له قائد يأتي به إلى المسجد، وقال له: «أجب» ، فكيف حال من كان بصيراً قريب الدار يستطيع الحضور؟!
قال الخطابي: (وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب، ولو كان ذلك ندباً لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم رضي الله عنه)[(909)].
والجمهور على أن العمى ليس عذراً في التخلف عن الجماعة إذا وجد قائداً ولو بأجرة لا تجحف به، وقال أبو حنيفة: إنه عذر ولو وجد من يقوده أو يحمله، لأنه لا عبرة بقدرة الغير[(910)].(1/288)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من سمع النداء بالأذان للصلاة فعليه الإجابة، ولو كان منزله بعيداً، لقوله في رواية أبي داود: (شاسع الدار) ومع هذا قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجب» .
وأما من كان قريباً من المسجد فإنه تجب عليه الإجابة مطلقاً سمع النداء أم لا؛ لأنه في مكان يسمع فيه النداء، لكن الحديث ورد فيمن كان بعيداً عن المسجد، فلذا قُيِّدَ بسماع النداء.
والمرجع في سماع النداء إلى ما كان معروفاً في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعند الناس إلى زمن قريب، قبل مكبرات الصوت، وأما مكبرات الصوت فلا يترتب عليها حكم الإجابة؛ لأنها لا تنضبط، فقد يكون صوتها عالياً يسمع من أماكن بعيدة، وقد يكون دون ذلك، ولو رُبط الحكم بمكبر الصوت لصار في ذلك مشقة؛ لأنه قد يُسمع من مكان بعيد يشق الوصول إليه، والله تعالى أعلم.
حكم من سمع النداء فلم يجب
403/7 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وإسْنَادُه عَلَى شَرْطِ مُسْلِم، لكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَقْفهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب «المساجد والجماعات»، باب «التغليظ في التخلف عن الجماعة» (1/259)، والدارقطني (1/420)، وابن حبان (5/415) والحاكم (1/245) من طريق هشيم بن بشير، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به.
قال الحاكم: (هذا حديث قد أوقفه غندر، وأكثر أصحاب شعبة، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهشيم وقراد أبو نوح ـ وهو عبد الرحمن بن غزوان ـ: ثقتان، فإذا وصلاه فالقول قولهما).(1/289)
والمراد أن هذا الحديث مختلف في رفعه ووقفه، فقد رواه عن شعبة مرفوعاً هشيم كما تقدم، وعبد الرحمن بن غزوان عند الدارقطني (1/420) والحاكم (1/245)، وغيرهما.
ورواه عن شعبة موقوفاً غندر ووكيع وهما من أكبر تلاميذه، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/345) عن وكيع، عن شعبة به موقوفاً، ووكيع قال عنه الحافظ في «التقريب»: (ثقة حافظ عابد) فهو من الثقات المتقنين خصوصاً في حديثه عن شعبة، ومثله غندر في روايته عن شعبة.
وأما رواية الرفع، فهشيم وإن كان ثقة إلا أن رواية غندر ووكيع مقدمة، لما مضى. وأبو نوح عبد الرحمن بن غزوان المعروف بقراد ثقة ـ أيضاً ـ، إلا أن الأئمة ذكروا أن له أفراداً، وقد يكون رفعه لهذا الحديث من أفراده، قال الدارقطني: (ثقة وله أفراد)، وهكذا قال الحافظ في «التقريب».
وبهذا يتبين وجه رجحان رواية الوقف، قال الحافظ ابن رجب: (وقفه هو الصحيح عند الإمام أحمد وغيره)[(911)] وقد رجَّح وقفه البيهقي في «سننه» (3/57)، وقال الحافظ: (إسناده صحيح، لكن قال الحاكم: وقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة)[(912)]، وهذا يشعر بعدم جزم الحافظ برفعه.
الوجه الثاني: استدل بالحديث من قال: إن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة، فمن صلّى في بيته من غير عذر لم تصح صلاته، ووجه الدلالة: أن الحديث دل على أن من لم يُجب النداء فلا صلاة له إلا من عذر، وهذا النفي يرجع إلى مسمى الصلاة، وهي الحقيقة الشرعية، فتكون صلاته غير صحيحة.
وهذا رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض الأصحاب[(913)]، وهو قول ابن حزم الظاهري[(914)].
وأجيب عن هذا الحديث بجوابين:
الأول: أنه مختلَف في رفعه ووقفه، كما تقدم، وحتى على القول برفعه لا يعارض ما اتفق عليه الشيخان، وهو حديث المفاضلة الذي يدل على أن الجماعة ليست بشرط، كما تقدم.(1/290)
الثاني: سلَّمنا معارضته لأحاديث الوجوب، لكنه محمول على نفي الكمال لا نفي الصحة؛ لأن حمله على نفي الكمال يحصل به جمع بين الأدلة، ليوافق الأحاديث التي هي أصح منه؛ كحديث المفاضلة، وحمله على نفي الصحة يُبقي معارضته، والجمع أولى، والله تعالى أعلم.
حكم من صلّى ثم دخل مسجداً
404/8 ـ عَنْ يَزِيْدَ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، إذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَدَعَا بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟»، قَالاَ: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُم، ثُمَّ أَدْرَكْتُم الإمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَصَلِّيَا مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، والثَّلاَثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْن حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو جابر يزيد بن الأسود الخزاعي السوائي، ويقال: العامري، عداده في أهل الطائف، روى عنه ابنه جابر، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلى خلفه، كما في حديث الباب، وساقه ابن عبد البر في «الاستيعاب»[(915)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (29/18)، وأبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «فيمن صلَّى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم» (575 ـ 576)، والترمذي (219)، والنسائي (2/112)، وابن حبان (1564 ـ 1565) من طريق يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، به مرفوعاً.
وقد رواه عن يعلى ما يزيد عن عشرة من الحفاظ، منهم: شعبة، وسفيان، والثوري، وهشام بن حسان، وأبو عوانة، وآخرون .(1/291)
وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وصححه ـ أيضاً ـ ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.
ونقل الحافظ البيهقي في «السنن» (2/302) عن الشافعي في القديم أنه قال: (إسناده مجهول)، ولعله يريد ـ كما قال البيهقي ـ أن جابر بن يزيد ليس له راوٍ غير يعلى بن عطاء، والظاهر أن هذا لا يؤثر؛ لأن يعلى بن عطاء من رجال مسلم، وهو ثقة، وجابر بن يزيد وثقه النسائي وابن حبان، وصحح الترمذي ومن ذكر معه حديثه، وعليه فلا يضر تفرد يعلى بالرواية عنه.
على أن يعلى بن عطاء تابعه في الرواية عن جابر بن يزيد عبد الملك بن عمير عنه، وهي عند ابن منده في «معرفة الصحابة» كما ذكر الحافظ[(916)]، وعند الدارقطني (1/414)، والحديث له شواهد تؤيده، منها حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم (648) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخِّرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها؟» قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ فإنها لك نافلة» .
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح) ورد في بعض الروايات عند أحمد وغيره: (بمنى) وفي رواية: (شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجته، قال : فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخيف).
قوله: (تُرْعَدُ فرائصهما) بضم أوله وفتح ثالثه، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله، على ما ذكره السندي وغيره[(917)]، وضبطه آخرون بفتح التاء من باب «قتل»[(918)]، أي: ترجف وتضطرب من الخوف، والفرائص: بالصاد المهملة، جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز عند الفزع والخوف، والكلام كناية عن الفزع.
قوله: (صلينا في رحالنا) لأن ذلك كان بمنى، وفيها يتفرق الناس، ولذا لم ينكر عليهما الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلاتهما في رحالهما.(1/292)
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من دخل مسجداً فوجدهم يصلون، وهو قد صلَّى، أنه يشرع له أن يصلي معهم، إدراكاً لفضل الجماعة، وتكون هذه الصلاة له نافلة، وظاهر الأمر في قوله: «فصليا» أنه أمر إيجاب، وهو رواية عن الإمام أحمد[(919)]، وقد أجمع العلماء على استحباب الإعادة، وإنما الخلاف بينهم في الوجوب، ومنهم من يفرق بين من صلّى منفرداً فالإعادة في حقه واجبة، وبين من صلى في جماعة ثم أدرك أخرى فتستحب[(920)]، والأحوط للمكلف أن يمتثل ما أمره به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيصلي إذا دخل مسجداً والناس يصلون.
وهذه الإعادة سببها حضور الجماعة، ولا فرق بين أن يصلي الأولى وحده، أو يصلي مع جماعة، لعموم الحديث، ولتحصيل الأجر إذا صلى مرة أخرى، ولئلا يكون حضوره والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به، والوقوع في عرضه، ولئلا يتعلق بذلك من يتكاسل، ويقول: صليت، وهو لم يصلِّ، مع ما في ذلك من مراعاة فضل الإلفة، ولزوم الجماعات، وترك الخلاف، وافتراق الكلمة[(921)].
الوجه الخامس: ظاهر الحديث دليل على أن الإعادة جائزة في جميع الصلوات كالصبح والعصر، ولو كان الوقت بعدهما وقت نهي؛ لأن الصلاة المعادة من ذوات الأسباب، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أطلق الأمر بإعادة الصلاة ولم يفرق بين صلاة وصلاة، وقد أمر الرجلين بإعادة الصبح مع الجماعة مع أنه وقت نهي بالنسبة لهما، ونسب ابن تيمية هذا القول إلى الجمهور[(922)].
الوجه السادس: دل الحديث بعمومه على أنه لا فرق في إعادة الصلاة بين المغرب وغيرها، وهذا قول الجمهور، ومنهم أكثر الصحابة والتابعين، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وداود ومالك في رواية عنه[(923)]، خلافاً لمن منع إعادة المغرب، لئلا تصير شفعاً: لأنها وتر النهار، فلو أعادها صارت شفعاً، فبطل كونها وتراً، وهذا قول ابن عمر وابن مسعود وبعض التابعين وأبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد[(924)].(1/293)
والصواب الأول؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يستثن صلاة من صلاة، ولأنها لا تصير شفعاً وقد فصل بين الصلاتين بالسلام والمشي وغير ذلك، قال ابن رشد: (والتمسك بالعموم أقوى)[(925)].
ثم إن المشهور من مذهب الحنابلة أنه إذا أعاد المغرب شفعها برابعة[(926)]؛ لأن هذه الصلاة نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر غير الوتر، فكان زيادة ركعة أولى من نقصانها، لئلا يفارق إمامه قبل إتمام صلاته.
والقول الثاني: أنها تعاد على صفتها ولا تشفع بركعة، وهو قول الشافعي[(927)]؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر بالإعادة أمراً عامّاً ولم يستثن صلاة من صلاة، فدل على أن المغرب تعاد على صفتها، والله أعلم.
الوجه السابع: دل قوله: «ثم أتيتما مسجد جماعة» على أن الإعادة مختصة بالجماعة التي تقام في المسجد، لا التي قد تقام في غيره، فمن حضر جماعة يصلون في منزل أو مُسْتَراحاً ونحوهما لعذر وكان هو قد صلّى لم يصلِّ معهم، ويحمل المطلق الوارد في بعض الروايات على هذا المقيد، والله تعالى أعلم.
الحكمة من الإمام وكيفية الائتمام به
405/9 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَلاَ تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَلاَ تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا، وَلاَ تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإِذَا صَلَّى قَائِماً فَصَلُّوا قِيَاماً، وَإِذَا صَلَّى قَاعِداً فَصَلُّوا قُعُوداً أَجْمَعِينَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهذَا لَفْظُهُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/294)
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «الإمام يصلي من قعود» (603) من طريق مصعب بن محمد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.
والحديث ـ كما قال الحافظ ـ أصله في «الصحيحين»، لكن لفظ أبي داود أتم، ولفظه عند البخاري (734) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعِينَ» .
وأخرجه أيضاً (722) من طريق معمر، عن همام، عن أبي هريرة، بلفظ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ...» الحديث.
وأخرجه مسلم من طريقين (416) (417) وأحدهما قريب من لفظ البخاري.
ولعل الحافظ اختار لفظ أبي داود مع أن أصل الحديث في «الصحيحين» لأمرين:
الأول: أن سياقه أشمل وأتم.
الثاني: أن لفظ النهي الوارد في سياق أبي داود: «وَلاَ تُكَبِّرُوا... وَلاَ تَرْكَعُوا...» إلخ، لم يرد في «الصحيحين».
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إنما جُعِلَ الإمام) أي: جعله الله تعالى، وإنما: أداة قصر، تثبت الحكم للمذكور وتنفيه عما عداه، أي: قصر وظيفة الإمام على الائتمام به في كل شيء في الأفعال والنية، وسيأتي بيان ذلك.
والإمام: نائب فاعل في محل المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إنما جُعِلَ إماماً.
قوله: (لِيُؤْتَمَّ به) أي: ليُقتدى به ويتابع، فلا يسبقه المأموم ولا يقارنه، ويؤيد ذلك رواية البخاري: «فلا تختلفوا عليه» ، أي: تخالفوه بالخروج عن الائتمام به، واللام للتعليل.(1/295)
قوله: (فإذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) الفاء الأولى استئنافية، والثانية واقعة في جواب الشرط، وتستلزم التعقيب؛ لأن وظيفة الشرط التقدم على الجزاء، ويؤيد هذا المعنى قوله: «وَلاَ تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ» .
قوله: (وَلاَ تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ) هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، وذلك بإبراز المفهوم بصورة المنطوق، وكذا يقال في الجمل الآتية بلفظ النهي.
قوله: (وَإِذَا رَكَعَ) أي: وصل الركوع وتمكّن منه، وكذا قوله: (وَإِذَا سَجَدَ) .
قوله: (وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) أي: استجاب الله تعالى لمن وصفه بصفات الكمال محبة وتعظيماً.
قوله: (فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) أي: يا ربنا، وهذه إحدى الصيغ الأربع الواردة فيما يقال بعد الرفع، وهذه الصيغة ثابتة في «الصحيحين»، وفيها من البلاغة تكرار النداء، فكأنه قال: يا الله، يا ربنا، وقد مضى الكلام في هذه الصيغة مستوفىً عند الحديث رقم (295)، ولله الحمد.
قوله: (فَصَلُّوا قُعُوداً أَجْمَعِينَ) هكذا بالنصب في نسخ «البلوغ»، والذي في «سنن أبي داود»: «أجمعون» بالرفع، ولكلٍّ وجه؛ فالنصب على الحال من ضمير (فصلوا)، والتقدير: فصلوا قاعدين مجتمعين، وأما بالرفع فهو تأكيد لضمير (صلوا)، وفائدة هذا التأكيد بيان أنه لا يكفي جلوس البعض عن الباقين.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الحكمة من جعل الإمام إماماً هي الاقتداء به ومتابعته، وبناءً على ذلك فإن المأموم منهيٌّ عن الاختلاف عليه، ويكون ذلك بواحد من أمور ثلاثة، وهي:
مسابقته، أو موافقته، أو التأخر عنه.
أما الأمر الأول وهو مسابقة الإمام، فمعناها أن يأتي بأفعال الصلاة قبل إمامه؛ كأن يكبر قبله أو يركع قبله، فهذا محرم باتفاق الأئمة، وصلاته باطلة إن كان عامداً عالماً بالحكم على الراجح من قولي أهل العلم.(1/296)
وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: صلَّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي...» [(928)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما يخشى أحدكم ـ أو لا يخشى أحدكم ـ إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار» [(929)].
وإن كان ساهياً أو جاهلاً بالحكم فصلاته صحيحة، لكن عليه أن يرجع ليأتي بما سبق به إمامه بعد إمامه؛ لأنه فعله في غير محله.
ويرى الإمام أحمد رحمه الله بطلان صلاة من سبق إمامه مطلقاً، سواء كان عامداً أم ساهياً أم جاهلاً، لعموم الأدلة[(930)].
وأما الأمر الثاني فهو الموافقة والمقارنة، ومعناها أن يأتي بالأفعال مع إمامه فيكبر معه، ويركع معه، فإن كانت في تكبيرة الإحرام بأن كبر مع إمامه لم تنعقد صلاته؛ لأنه ائتم بمن لم تنعقد صلاته، وإن قارنه في غيرها؛ كركوع أو سجود، فهي مكروهة.
وأما الأمر الثالث فهو التخلف والتأخر عنه، فإن كان لعذر؛ كسهو أو غفلة، فإنه يأتي بما تخلَّف به ويتابع الإمام، إلا أن يصل الإمام إلى المكان الذي هو فيه فإنه لا يأتي بما فاته، وإنما يستمر مع الإمام وتلغو هذه الركعة التي تخلف فيها، وتَحِلُّ التي بعدها محلها، ويقضيها بعد سلام إمامه، وإن كان التخلف لغير عذر فصلاته باطلة.
الوجه الرابع: اختلف العلماء في تفسير معنى الاقتداء على قولين:(1/297)
الأول: أن المراد به الاقتداء به في الأفعال الظاهرة لا في النيات، وهذا قول الشافعي، ورواية عن أحمد، وهو قول الظاهرية[(931)]، واستدلوا بسياق الحديث، ووجود مسائل دلت عليها النصوص اختلفت فيها نية الإمام عن المأموم، قالوا: إنما أمرنا أن نأتم بالإمام فيما يظهر لنا من أفعاله، فأما النية فمغيَّبة عنا، ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفى من أفعاله علينا.
الثاني: أن المراد به الاقتداء به في الأفعال الظاهرة وفي النيات، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد[(932)]، قالوا: من خالفت نيته نية الإمام فإنه لم يأتم به، إذ لا اختلاف أشد من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال، وقد ترتب على هذا الخلاف مسائل كثيرة مذكور بعضها في هذا الباب.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن كمال الائتمام مبادرة المأموم بمتابعة إمامه بلا فاصل ولا تأخر؛ لأن الفاء توجب التعقيب والاستعجال، وقد بيّن البراء بن عازب رضي الله عنه حسن متابعة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته وأنهم لا ينتقلون عن الركن حتى يصل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الذي يليه، فقال: (كنا نصلي خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا قال: «سمع الله لمن حمده» ، لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع النبي صلّى الله عليه وسلّم جبهته على الأرض)[(933)]، وإذا كان هذا شأنهم في السجود الذي يكون الناس فيه أشد مسابقة من غيره فهم في غيره من الأركان أبلغ وأولى.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن المأموم يقتصر على قوله: «ربنا ولك الحمد» في الرفع من الركوع، دون قوله: «سمع الله لمن حمده» وأما الإمام ـ ومثله المنفرد ـ فإنه يجمع بين التسميع والتحميد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قال: «سمع الله لمن حمده» قال: «اللهم ربنا ولك الحمد» [(934)].(1/298)
الوجه السابع: الحديث دليل على أن المأموم يصلي جالساً إذا صلى إمامه جالساً، ويصلي قائماً إذا صلى إمامه قائماً، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ تفصيل القول في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
استحباب الدنوِّ من الإمام
406/10 ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّراً، فَقَالَ: «تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (438) في كتاب «الصلاة»، باب «الأمر بتسوية الصفوف ومن يلي الإمام» من طريق أبي الأشهب ـ جعفر بن حيان ـ، عن أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، به مرفوعاً، وفي آخره: «لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» .
الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب الدنو من الإمام وقرب الصف الأول منه، لما في ذلك من الفوائد والمصالح، ومنها: أنه ينوب عن الإمام إذا عرض له عارض، ومنها: أنه يقتدي بصلاة إمامه ويستفيد منه، لا سيما إذا كان الإمام فقيهاً، ومنها: أنه ينبه الإمام إذا سها، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مزيد كلام في هذه المسألة عند الحديث (415).
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز اعتماد المأموم في متابعة إمامه الذي لا يراه ولا يسمعه على صف قدامه يراه متابعاً للإمام.
وعلى هذا إذا كثرت الجماعة وتعددت الصفوف فلا تشترط رؤية الإمام، بل يكفي سماع صوته للاقتداء به، وهذا كما لو كان الإمام داخل البناء والمأموم في ساحة المسجد أو في الدور الثاني، كما في المساجد التي تتألف من دورين.
وهذا إذا كانت الصفوف متصلة، فإن كانت غير متصلة صحَّت الصلاة، وعبر بعضهم بالكراهة، لمخالفة السنة في إتمام الصف الأول فالأول[(935)]، وإنما صحت لأن المسجد مبني للجماعة، فكل من وجد فيه فهو في محل الجماعة.(1/299)
فإن كان المأموم خارج المسجد، فإن اتصلت الصفوف ـ كما في الساحات التابعة للمساجد الكبيرة ـ صحَّت صلاة المأموم بلا خلاف، نقل ذلك ابن تيمية وغيره[(936)]؛ لأن ذلك الموضع ملحق بالمسجد بسبب اتصال الصفوف، وأما إذا لم تتصل الصفوف بأن وجد فاصل من طريق ونحوه، فهو موضع خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن الصفوف إذا لم تتصل بسبب فاصل من طريق أو نحوه فإن الصلاة لا تصح، لاختلاف المكان، فيمنع الاقتداء، وهذا قول بعض الحنابلة، وظاهر اختيار ابن تيمية، واختاره ابن عثيمين[(937)]. فإن لم يوجد فاصل فلا بد من رؤية الإمام أو سماع صوته، ليتحقق الاقتداء، وهذا قول الحنفية، والحنابلة في المشهور عندهم، إلا أن الحنابلة يرون الاكتفاء برؤية الإمام إما في كل الصلاة أو في بعضها[(938)].
القول الثاني: صحة الصلاة مع وجود الفاصل من طريقٍ أو نحوه، وهذا قول الشافعية والمالكية، لكن الشافعية يشترطون رؤية الإمام أو بعض المأمومين[(939)]، وهو رواية عن أحمد[(940)]، والمالكية يشترطون الرؤية أو سماع الصوت[(941)]؛ لأن المقصود الاقتداء، وهو حاصل بذلك ولو مع الفاصل، وهذا رواية عن أحمد، اختارها ابن قدامة[(942)] وابن سعدي[(943)] وابن باز[(944)].
والأظهر ـ والله أعلم ـ أنه لا بد من اتصال الصفوف إذا كان المأموم خارج المسجد وله في المسجد مكان يمكن أن يصلي فيه، وذلك لأن المقصود من الجماعة الاجتماع والاتفاق في المكان وفي الأفعال، والله تعالى أعلم.
جواز الجماعة في صلاة النافلة
407/11 ـ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حُجْرَةً بِخَصَفَةٍ، فَصَلَّى فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءوا يُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ... الحَدِيثَ، وَفِيهِ: «أَفْضَلُ صَلاَةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلا المَكْتُوبَةَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/300)
فقد أخرجه البخاري في مواضع أولها كتاب «الأذان»، باب «صلاة الليل» (731)، ومسلم (781) من طريق سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجيرة بخصفة أو حصير، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته، قال: ثم جاءوا ليلة، فحضروا، وأبطأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغضباً، فقال لهم: «ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» هذا لفظ مسلم، وهو أقرب إلى لفظ «البلوغ».
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (احتجر حُجْرةً بخصفة...) أي: اتخذ وحوَّط موضعاً من المسجد يستره ليصلي فيه، ولفظ (حجرة) هو لفظ البخاري في «أبواب الإمامة» كما تقدم، وفي كتاب «الاعتصام»[(945)].
وحجيرة: بالضم، تصغير حجرة، لفظ مسلم، كما تقدم، وهو عند البخاري ـ أيضاً ـ في «الأدب»[(946)]، والخَصَفَةُ ـ بالفتح ـ والحصير: ما نسج من سعف النخل، والشك من الراوي.
قوله: (فتتبع إليه رجال) أي: تطلبه رجال وجاءوا إلى موضعه، ليقتدوا به في صلاته.
قوله: (وحصبوا الباب) أي: رموه بالحصباء، وهي الحصى الصغار تنبيهاً له؛ لأنهم ظنوا أنه نسي، وعند البخاري في «الاعتصام»: «ثم فقدوا صوته ليلة، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم...» [(947)].
قوله: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا لفظ البخاري في «الاعتصام» أعني قوله: «أفضل» ، وأما رواية مسلم والبخاري في بقية المواضع فهو: «خير صلاة المرء».
وظاهره عموم النوافل؛ لأن المراد بالمكتوبة المفروضة، لكنه محمول على ما لا تشرع فيه الجماعة؛ كالرواتب وقيام الليل وصلاة الضحى، والمراد بالمرء: جنس الرجال.(1/301)
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز حجز المكان في ناحية من المسجد والاختصاص به للعبادة والراحة، إذا كان هناك حاجة، بشرط ألا يضيق على المصلين، وقد تقدم شيء من ذلك عند الحديث (259).
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز الجماعة في صلاة النافلة، وقد كان ذلك في صلاة الليل، وهو مبدأ صلاة التراويح، فقد ورد في حديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في رمضان ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلّى من الثانية، فترك ذلك خشية أن تفرض على الأمة[(948)].
والأظهر ـ والله أعلم ـ أن صلاة التراويح تؤدى جماعة في المساجد لفعله صلّى الله عليه وسلّم، ولفعل الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه ومن بعده، فإنه صلّى الله عليه وسلّم فعلها، ولم يتركها إلا خشية أن تفرض، وقد أصبحت ـ ولله الحمد ـ من شعائر الإسلام الظاهرة في شهر رمضان.
أما صلاة نافلة النهار جماعة فإنها تجوز في بعض الأحيان ما لم تتخذ عادة راتبة ـ إذا وجد لذلك سبب ـ، وأما اتخاذها عادة راتبة فهو غير مشروع، بل هو من البدع، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية[(949)]؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة والتابعين لم يكونوا يعتادون الاجتماع للنوافل غير ما تشرع له الجماعة؛ كالاستسقاء والكسوف ونحو ذلك، وعامة تطوعاته صلّى الله عليه وسلّم كان يصليها منفرداً، وإنما تطوع في جماعة قليلة لأمور عارضة.
ويدل لذلك حديث عتبان بن مالك لما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته، وفيه: (قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن أصلي فيه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين ثم سلَّم، وسلمنا حين سلَّم...)[(950)]. وقد بوّب عليه البخاري «باب صلاة النوافل جماعة»[(951)].(1/302)
وجاء في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى به وبجدته مليكةَ بنتِ مالكٍ واليتيمِ لما زارهم في منزلهم، والحديث أخرجه البخاري ومسلم، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بعد عشرة أحاديث.
الوجه الخامس: الحديث دليل على صحة نية الإمامة في أثناء الصلاة، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى منفرداً ثم صلّى معه أصحابه.
والصحيح جواز ذلك في الفرض والنفل، فإذا أحرم إنسان بالصلاة منفرداً ثم جاء إنسان صح أن يدخل معه، ويكون الأول إماماً للثاني.
ومما يدل على ذلك ـ أيضاً ـ حديث ابن عباس في صلاته مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في قيام الليل، فإنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى منفرداً، ثم قام ابن عباس ووقف عن يساره، فنقله صلّى الله عليه وسلّم إلى جهة اليمين، ففيه إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم نوى الإمامة في أثناء الصلاة، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بعد تسعة أحاديث.
وكذا حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبصر رجلاً يصلي وحده، فقال: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» [(952)].
الوجه السادس: الحديث دليل على فضل صلاة النوافل في البيت، والمراد بذلك ما لا تشرع فيه الجماعة، كما تقدم، وقد مضى في أول صلاة التطوع ذكر الأدلة على فضل النوافل في البيت، وما في ذلك من الفوائد العظيمة، والله تعالى أعلم.
مشروعية قراءة هذه السور ونحوها في صلاة العشاء[(953)]
408/12 ـ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلّى مُعَاذٌ بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ، فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ يَا مُعَاذُ فَتَّاناً؟ إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ: {{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *}}، و{{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}}، و{{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}}، {{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *}}. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/303)
فقد أخرجه البخاري في مواضع منها: كتاب «الأذان»، باب «من شكا إمامه إذا طوَّل» (705) من طريق شعبة، قال: حدثنا محارب بن دثار قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال:... فذكر الحديث.
وأخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «القراءة في العشاء» (465) (179) من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: صلى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء فطوَّل عليهم، فانصرف رجل منا فصلى، فأُخبر معاذ عنه، فقال: إنه منافق، فلما بلغ ذلك الرجل دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بما قال معاذ، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتريد أن تكون فتَّاناً يا معاذ؟ إذا أممت الناس فاقرأ بـ{{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *}} [الشمس: 1] ، و{{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}} [الأعلى: 1] ، و{{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *}} [العلق: 1] ، و{{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *}}» [الليل: 1] .
وأخرجاه من طرق، عن عمرو بن دينار، عن جابر، وبعض روايات البخاري مختصرة، وجاء في بعض رواياته أنه كان يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم العشاء ثم يرجع فيصلي بقومه.
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث ـ في بعض رواياته ـ من قال بجواز اقتداء المفترض بالمتنفل، وقد حكى ابن المنذر هذا القول عن عطاء وطاووس والأوزاعي[(954)]، وهو قول الشافعي وأصحابه، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن قدامة[(955)]، وشيخ الإسلام ابن تيمية[(956)].(1/304)
وذلك أن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم يرجع فيؤم قومه ـ كما ثبت في «الصحيحين» ـ والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه، فإنه صلّى الله عليه وسلّم يعلم الأئمة الذين كانوا يصلون في مساجد المدينة، وعلى فرض أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم بذلك فإن الزمن زمن وحي، ولا يقع فيه التقرير على ما لا يجوز، ولهذا استدل أبو سعيد وجابر رضي الله عنهما على جواز العزل بكونهم فعلوه في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان منهيّاً عنه لنُهي عنه في القرآن[(957)].
وذهب آخرون إلى أن ذلك لا يجوز، حكاه ابن المنذر عن بعض السلف، وذكره عبد الرزاق في «مصنفه» عنهم، وهو قول الحنفية، والمالكية، وأحمد في المشهور عنه، واختار ذلك أكثر أصحابه[(958)].
واستدلوا بحديث أبي هريرة المتقدم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه...» ، قالوا: فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الاختلاف على الإمام، وكون الإمام متنفلاً والمأموم مفترضاً اختلاف، فلا يجوز.
وأجابوا عن قصة معاذ بأنها ليست صريحة في الاستدلال، فإنه يحتمل أنه كان يصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فريضة، ويحتمل أن ينويها نافلة، وليس أحد هذا الاحتمالين بأولى من الآخر، ذكر ذلك الطحاوي[(959)].
وذكر الحافظ ابن رجب أجوبة أخرى ومنها: أن بعض الرواة لم يذكروا أن معاذاً كان يصلي خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما ذكروا أنه كان يصلي بقومه ويطيل بهم، ومنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم بذلك، وكلها اعتذارات غير ناهضة، ولهذا قال: (ولم يظهر عنه جواب قوي، فالأقوى جواز اقتداء المفترض بالمتنفل...)[(960)].
والقول الأول أرجح، فإن الحديث صريح في المسألة، ويقويه ما ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة الخوف بطائفتين، بكل طائفة ركعتين[(961)].
وأما حديث أبي هريرة، فعنه جوابان:(1/305)
الأول: أن المراد بالاختلاف المنهي عنه اختلاف الأفعال الظاهرة، بدليل سياق الحديث، كما تقدم.
الثاني: سلَّمنا أنه عام في اختلاف النيات والأفعال، لكنه مخصوص بأدلة جواز اختلاف النية، ومنها قصة معاذ رضي الله عنه.
وأما اعتذارهم عن قصة معاذ فهو مردود، فإنه قد ورد في بعض الروايات عن جابر رضي الله عنه أنه قال: «وهي له تطوع، ولهم مكتوبة العشاء» [(962)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، كأن يطيل الإمام إطالة زائدة عن المشروع تشق على المأموم، ولو كان العذر من أمور الدنيا؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم بحال هذا الرجل ولم ينكر عليه انفراده عن معاذ، ولو كان مثل ذلك لا يجوز لبيَّنه له؛ لأن المقام مقام بيان، وإنما أنكر على معاذ، وحثّه على التخفيف.
وظاهر رواية مسلم: (فانحرف رجل فسلم ثم صلّى وحده وانصرف) أنه سلم وقطع الصلاة ثم استأنفها، وليس المراد أنه بنى على صلاته مع معاذ.
الوجه الرابع: أنه يشرع للإمام مراعاة من خلفه من المأمومين، فلا يطوِّل عليهم بما يشق ويورث السآمة والملل إذا لم يرضوا بذلك، ولا يخفف تخفيفاً يخل بالصلاة، وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله.
وإنكار النبي صلّى الله عليه وسلّم على معاذ؛ لأنه كان يتأخر عليهم بالصلاة بسبب صلاته مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أولاً، فإذا جاء وصلّى بهم أطال القراءة حتى إنه قرأ بسورة البقرة في العشاء، وهم أصحاب عمل وحرث، فهم بحاجة إلى النوم والراحة، وقد جاء في حديث جابر عند مسلم في قصة الرجل الذي نال منه معاذ: (... فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلّى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة...) الحديث، ولهذا قال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أفتان أنت؟» ، ومعنى الفتنة هنا: أن التطويل يكون سبباً للخروج من الصلاة أو التخلف عن صلاة الجماعة.(1/306)
الوجه الخامس: أن المشروع في صلاة العشاء أن يقرأ فيها بـ{{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *}}، و{{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}}، و{{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *}}، و{{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *}}» ونحوها من السور، وأن الصلاة بمثل هذه السور تخفيف، وقد يَعُدُّ من لا رغبة له في الطاعة ذلك تطويلاً.
الوجه السادس: الحديث دليل على جواز الوقوع في حق من وقع في محذور ظاهر وإن كان له عذر باطن، فإن معاذاً رضي الله عنه وصف الرجل بسبب ما فعل بأنه نافق، ولم ينكر عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وإنما أنكر عليه التطويل، وهذا يدل على أن التخلف عن صلاة الجماعة من صفات المنافقين، كما تقدم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
حكم الصلاة وراء العاجز عن القيام وكيفيتها
409/13 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ـ فِي قِصَّةِ صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِالنَّاسِ وَهُوَ مَرِيضٌ ـ قَالَتْ: فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بكْرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِساً وَأَبُو بكْرٍ قَائِماً، يَقْتَدِي أَبُو بكْرٍ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بكْرٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، بابٌ «الرجلُ يأتمُّ بالإمام ويأتم الناس بالمأموم»، ومسلم (418) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، بطوله، وهذا الحديث روي عن عائشة رضي الله عنها من عدة طرق، مطولاً ومختصراً.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز إمامة العاجز عن القيام بالقادرين عليه، وخص الحنابلة ذلك بالإمام الراتب المرجو زوال علته، قصراً للحديث على أضيق مدلولاته.(1/307)
والقول الثاني: أن الحكم عام لا فرق فيه بين الإمام الراتب أو غيره، لعموم الحديث: «إذا كبَّر فكبروا...» الحديث، والتخصيص يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل على ذلك، وهذا رواية عن الإمام أحمد[(963)]، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي[(964)].
وهذا إنما يتم إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الإمام، وهذا هو الراجح لقول عائشة رضي الله عنها: (فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ)، فإن هذا هو موقف الإمام مع المأموم، ولقولها: (يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ)، ولقولها في رواية مسلم: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس، وأبو بكر يُسمعهم التكبير)[(965)].
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فمنهم من قال: لا تصح الصلاة خلف إمام قاعد، وهو قول الإمام مالك، واستدلوا بما روى الشعبي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمّنَّ أحد بعدي جالساً»[(966)].
وقال آخرون: تصح الصلاة خلفه، ولكن اختلفوا في كيفية ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنهم يصلون خلفه قياماً، وهو قول أبي حنيفة والشافعي[(967)]، واستدلوا بحديث الباب حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى قاعداً وصلّى من خلفه قياماً، وذلك في مرض موته، فيكون ناسخاً لحديث عائشة الآتي في صلاتهم خلفه جلوساً؛ لأنه إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أفعاله صلّى الله عليه وسلّم.
قالوا: ولأن القيام في الصلاة فرض، فإذا سقط عن الإمام لعذر، فلا يسقط عن المأموم إلا لعذر.
القول الثاني: أنهم يصلون خلفه قعوداً، وهو رواية عن الإمام أحمد[(968)]، ويستدل لذلك بعموم: «إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به» ، والائتمام به ـ كما تقدم ـ متابعته، فإذا صلَّى قائماً تصلي قائماً، وإذا صلَّى قاعداً تصلي قاعداً، وهو ما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم بلفظ أبي داود.(1/308)
كما استدلوا بحديث عائشة الآتي، حيث أشار إليهم في أثناء الصلاة بالجلوس، فدل على أنه لا بد منه.
القول الثالث: أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعداً صلَّى من خلفه قعوداً، وإذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً، ثم عجز في أثناء الصلاة عن القيام صلَّى من خلفه قياماً، وهذا التفصيل قال به الإمام أحمد وبعض الشافعية[(969)]، واستدلوا على الجزء الأول بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: صلَّى النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته وهو شَاكٍ فصلَّى جالساً، وصلَّى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: «إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلَّى جالساً فصلوا جلوساً» [(970)]، وتقدم أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: «وإذا صلَّى قاعداً فصلُّوا قعوداً أجمعين».
واستدلوا على الجزء الثاني بهذا الحديث، فإن أبا بكر رضي الله عنه ابتدأ بهم الصلاة قائماً، ثم جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فصلى بهم من حيث انتهى أبو بكر فصلى قاعداً، والصحابة صلوا خلفه قياماً، فدل ذلك على أن الإمام إذا ابتدأ الصلاة قائماً ثم عجز عن القيام بعد ذلك صلَّى من خلفه قياماً.
وهذا القول هو الأظهر؛ لأن فيه جمعاً بين الأدلة وعملاً بها، ولا يعدل إلى النسخ مع إمكان الجمع.
وأما حديث الشعبي فقد قال عنه الدارقطني: (لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة)[(971)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز كون المبلِّغ عن الإمام عن يمينه، لا في الصف، إذا كان فيه مصلحة، ليراه الناس، أو لأنه أبلغ لصوته، أو لفوائد أخرى، والله تعالى أعلم.
أمر الأئمة بالتخفيف(1/309)
410/14 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحَاجَةِ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء» (703)، ومسلم (467) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.
وقد ورد الحديث من عدة طرق، وفي ألفاظها اختلاف بالنسبة لأوصاف المأمومين، كما سيأتي.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (فليخفف) أي: القراءة والركوع والسجود وغير ذلك من الأقوال والأفعال الذي لا يبلغ حد الإخلال بالصلاة.
وهذا الأمر للاستحباب، وعليه الشافعية وجماعة، وقال آخرون: للوجوب، تمسكاً بظاهر الأمر، وهو قول ابن حزم[(972)].
قوله: (والضعيف) أي: المريض، وفي رواية عند مسلم: «فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض» ، وفي رواية: «فإن في الناس الضعيف والسقيم» ، فيفسَّر الضعيف هنا بضعيف الخلقة لهزال أو كبر أو صغر أو مرض، لأن الضعف خلاف القوة، والسقيم: المريض، فيكون من باب عطف الخاص على العام، لأن الضعف أعمُّ من السقم، فقد يكون الإنسان قليل القوة من أصل الخلقة، لا من سقم عرض له[(973)].
قوله: (وذا الحاجة) أي: صاحب الحاجة، وهو المحتاج للتخفيف لحاجة له، والغالب أنها أمور الدنيا، كما في قصة الرجل.
قوله: (فليصل كيف شاء) اللام للأمر، والمراد الإباحة، لقوله: «كيف شاء».(1/310)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الإمام مأمور بأن يخفف الصلاة بالناس مراعاة لذوي الأعذار، وذلك لئلا يشق على من وراءه، فإن وراءه ضعيف البنية والمريض وصاحب الحاجة، فالتطويل في حق هؤلاء وأمثالهم يؤدي إلى المشقة والملل والسأم، وهذا أمر ينبغي للإمام مراعاته، فقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «لا تُبَغِّضِوا الله إلى عباده، يكون أحدكم إماماً فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هم فيه»[(974)].
قال ابن عبد البر: (لا أعلم بين أهل العلم خلافاً في استحباب التخفيف لكل من أمَّ قوماً، على ما شرطنا من الإتيان بأقل ما يجزئ، والفريضة والنافلة عند جميعهم سواء في استحباب التخفيف فيما إذا صليت جماعة بإمام، إلا ما جاء في صلاة الكسوف على سنتها...).
ومن هنا يتبين أن التخفيف فيه مصالح منها:
1 ـ الرفق بمن وراء الإمام.
2 ـ تأليف الناس وتحبيب الصلاة إليهم.
3 ـ دعوتهم إلى المواظبة على صلاة الجماعة.
الوجه الرابع: اختلف العلماء في ضابط التخفيف المأمور به، فقيل: ليس لذلك ضابط معين؛ لأن التخفيف والتطويل أمر نسبي ليس له حد في اللغة ولا في العرف؛ لأنه يختلف باختلاف الأئمة والمأمومين، فقد يقرأ بعض الأئمة آيات قراءة مرتلة خفيفة على السامع، ويقرأها آخر بوقت أطول من الأول، وكذا المأمومين فقد يناسبهم التطويل في مكان ولا يناسبهم في آخر، وعلى هذا فيرجع إلى سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى حاله في صلاته، فيفعل الإمام في الغالب ما كان يفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم غالباً، ويزيد وينقص لمصلحة، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يزيد وينقص للمصلحة، يقول أنس رضي الله عنه: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلّى الله عليه وسلّم)[(975)].
فمن صلى مثل صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد خفَّف وإن ثَقُلَ ذلك على بعض الناس، وما زاد على فعله صلّى الله عليه وسلّم زيادة بينة فهو تطويل.(1/311)
وقيل: ضابط التخفيف الاقتصار على أدنى الكمال، فيقتصر على ثلاث تسبيحات، وكذا سائر أجزاء الصلاة، وهذا هو المشهور عن الشافعي.
وردَّ هذا شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا دليل عليه من السنة بل الأحاديث المستفيضة الثابتة تبين أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك.
وقيل: حد التخفيف مأخوذ من قوله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان بن أبي العاص: «أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم...» الحديث، وتقدم في باب «الأذان» (195).
فأرشده النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن يراعي حال الضعيف من المأمومين، وعبر عن المراعاة بالاقتداء، مشاكلةً لاقتدائهم به، فكأنه قال: كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك، فاقتد أنت ـ أيضاً ـ بضعفه.
وهذا قول ابن حزم[(976)]، واختاره الحافظ ابن حجر[(977)]، وهذا هو الأقرب ـ إن شاء الله ـ وهو الذي يدل عليه هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته، لكن على الإمام مراعاة أمور دلت عليها السنة منها:
الأول: أن التخفيف المأمور به هو الذي لا يصل إلى حد الإخلال بمقاصد الصلاة وأركانها وسننها، أو إلى سرعة تشق على من خلفه من كبار السن وغيرهم في أثناء القيام أو الركوع أو السجود.
الثاني: أن الصلوات ليست على قدر واحد في القراءة والقيام وبقية الأفعال؛ لأن منها ما يشرع فيه التطويل كالفجر، ومنها ما هو دون ذلك، والإمام الموفق هو الذي يضع الأمور مواضعها، فيطول أحياناً تطويلاً لا يخرج إلى حد التنفير، ويخفف أحياناً تخفيفاً لا يخرج إلى حد الإخلال، كما تقدم، ويُغَلِّبُ جانب التخفيف على جانب التطويل.
الثالث: لا بد للإمام من أن يقيم وزناً للأمور الطارئة، فيخفف الصلاة فيها؛ كشدة حر أو برد عارض، كما خفف النبي صلّى الله عليه وسلّم لبكاء الصبي.(1/312)
الرابع: إذا كان الجماعة محصورين وآثروا التطويل فلا بأس، لانتفاء العلة الموجبة للتخفيف، وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه»[(978)] ، فإرادته صلّى الله عليه وسلّم التطويل أولاً يدل على جواز مثل ذلك، لكنه تركه لعارض.
الخامس: أنه يجب على الإمام أن يتحرَّى الرفق بالمأمومين، وجمع كلمتهم على محبته، والرضا عنه، وعدم اختلافهم عليه؛ لأن اختلافهم عليه يسبب مفاسد عظيمة وأموراً لا تحمد.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الإنسان إذا صلى وحده فله أن يطيل ما شاء؛ لأنه لا يشق على أحد بذلك، ما لم يخرج الوقت، والله تعالى أعلم.
حكم ائتمام البالغ بالصبي
411/15 ـ عَنْ عَمْرو بْنِ سَلِمَةَ قَالَ: قَالَ أَبِي: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم حَقّاً، قَالَ: «فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً»، قَالَ: فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي، فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو يزيد، أو أبو بُريد ـ بالباء المضمومة ـ عمرو بن سلِمة، ـ بكسر اللام ـ ابن قيس الجَرْمي ـ بالجيم ـ أدرك زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان يؤم قومه في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو صبي؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً، ولأبيه صحبة ووفادة، وقد قيل: إنه وفد مع أبيه، وله رؤية، وعلى هذا فهو صحابي صغير، لكن سياق حديثه الآتي يدل على أنه لم يفد مع أبيه ـ والله أعلم ـ، روى عنه أبو قلابة، وأيوب السختياني، وآخرون، مات سنة خمس وثمانين[(979)].
الوجه الثاني: في تخريجه:(1/313)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» بدون باب (4302)، وأبو داود (585) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة.. وساق الحديث عن إسلام أبيه ووفادته على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن قال: (جئتكم والله من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقّاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردة كنت إذا سجدت تقلَّصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا استَ قارئكم، فاشتروا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص) وهذا لفظ البخاري.
وأخرجه النسائي (2/80) من طريق زائدة، عن سفيان، عن أيوب، قال: حدثني عمرو بن سلمة... بنحوه.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يقدم في الإمامة من كان أكثر حفظاً للقرآن؛ لقوله: «وليؤمكم أكثركم قرآناً» ، وعلى هذا فيكون الحديث مفسراً للحديث الآتي: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ، ويكون المراد بالأقرأ: الأكثر قرآناً، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
الوجه الرابع: الحديث دليل على صحة إمامة الصبي في صلاة الفرض إذا كان أهلاً لذلك بقراءته وعلمه وتميزه، فيؤم غيره وإن كانوا كباراً وإن كانوا شيوخاً؛ لأن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم قدموا عمرو بن سلمة وعمره ست أو سبع سنين ولو كانت إمامته غير جائزة لنزل الوحي بإنكار ذلك، لا سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وهذا قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد[(980)].(1/314)
والقول الثاني: أن إمامته لا تصح، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو قول ابن حزم الظاهري[(981)]، واستدلوا بحديث أبي هريرة المتقدم بلفظ البخاري: «إنما جُعِلَ الإمام ليؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه...» قالوا: وصلاة الصبي نفل، فصلاة البالغ خلفه الفرض اختلاف على الإمام، وقد نهينا عنه، ولأن الشرع قد رَفَعَ عنه القلم، ولا تصح الصلاة خلف من رُفِعَ القلم عنه؛ كالمجنون.
ولهم أدلة أخرى غير ناهضة، وأجابوا عن حديث عمرو بن سلمة بأنه لم يرو أن إمامته لهم كانت عن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عن تقريره، فلا حجة فيها[(982)].
والراجح هو القول الأول، لقوة دليله، وإذا جازت إمامته في الفرض جازت إمامته في النفل من باب أولى؛ لأن النفل يدخله التسامح، ولأنه لا فرق في ذلك بين النفل والفرض، والأصل تساويهما في الأحكام، خلا ما استثنى الدليل.
وأما جواب أصحاب القول الثاني عن حديث الباب فهو مردود من وجهين:
الأول: أن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي، ولا يقع فيه التقرير على ما لا يجوز، لا سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نُبِّهَ النبي صلّى الله عليه وسلّم بالوحي على القذى الذي كان في نعله أثناء الصلاة ـ كما تقدم في شروط الصلاة في حديث أبي سعيد رضي الله عنه ـ فلو كانت إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك، وقد استدل جابررضي الله عنه على جواز العزل بأنه لم ينزل فيه شيء[(983)].
الثاني: أن الوفد الذين قَدَّموا عمراً كانوا جماعة من الصحابة، قال ابن حزم: (ولا يعرف لهم من الصحابة رضي الله عنهم مخالف)[(984)]، بل ورد أنه كان يؤمهم في كل المجامع، فقد روى عنه أبو داود أنه قال: (فما شهدت مجمعاً من جَرْمٍ إلا كنت إمامهم...)[(985)].(1/315)
وأما أدلتهم فإن حديث أبي هريرة رضي الله عنه تقدم أن المراد به الاختلاف في الأفعال، وأما رفع القلم عنه فمعناه رفع التكليف والإيجاب، لا نفي صحة الصلاة، بدليل حديثنا هذا.
وأما إمامة الصبي في النفل ـ كالتراويح مثلاً ـ فأجازها الشافعي لما تقدم، وأجازها ـ أيضاً ـ مالك وأحمد في رواية عنه اختارها أكثر أصحابه، قالوا: لأن النافلة يدخلها التخفيف، ولذا تنعقد الجماعة به فيها إذا كان مأموماً، وقالت الحنفية: لا تصح إمامة الصبي في النفل كما تقدم في الفرض[(986)]، والقول بالجواز أصح؛ لأنها إذا صحت في الفرض صحَّت في النفل من باب أولى، لما تقدم، والله تعالى أعلم.
الأحقُّ بالإمامة
412/16 ـ عَنْ أبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْماً ـ وَفِي رِوَايَةٍ: سِنّاً ـ وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلاَ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «المساجد»، باب «مَن أحق بالإمامة» (673) من طريق الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:... فذكره.
وأخرجه من طريق شعبة عن إسماعيل به، إلا أن فيه «سنّاً» بدل «سلماً» .
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (يؤم القوم) هذا خبر بمعنى الأمر.(1/316)
قوله: (أقرؤهم لكتاب الله) أي: أكثرهم حفظاً، فمن حفظ القرآن كاملاً مقدم على من حفظ نصفه ـ مثلاً ـ بدليل حديث عمرو بن سلمة المتقدم، وفيه: «وليؤمكم أكثركم قرآناً» فيكون هذا الحديث مبيناً للمراد بحديث أبي مسعود، كما تقدم.
والقول الثاني: أن المراد بالأقرأ: الأحسن قراءة؛ لأن هذا هو المراد في اللغة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يتكلم باللغة العربية، والأول أظهر؛ لأن فيه تفسير السنة بالسنة، وهو أولى من تفسيرها باللغة[(987)].
قوله: (فأعلمهم بالسنة) أي: أحكام الشريعة من صلاة وصيام وحج، ونحو ذلك.
قوله: (فأقدمهم هجرة) الهجرة معناها: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى قيام الساعة، والمعنى: أن من هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاً يقدم على من هاجر بعده؛ لأنه أكثر منه علماً.
قوله: (فأقدمهم سِلماً) ـ بكسر السين المهملة وسكون اللام ـ، أي: إسلاماً، وأما رواية «سنّاً» فلا تعارض الأولى، بل إحداهما تفسر الأخرى؛ لأن من كان أكبر سنّاً فهو مقدم سلماً؛ لأن المقصود أكبرهم سنّاً في الإسلام.
قوله: (في سلطانه) المراد به: محل ولايته، سواء كانت ولاية عامة، أي: الولاية العظمى، أو ولاية خاصة؛ كصاحب البيت.
قوله: (تكرمته) بفتح التاء وسكون الكاف وكسر الراء، المراد به: الفراش ونحوه مما يوضع لصاحب المنزل ويختص به، والغالب أن ذلك يكون في صدر المجلس كما هو الملاحظ الآن.(1/317)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المقدَّم في إمامة الصلاة هو الأقرأ، بمعنى الأكثر حفظاً لكتاب الله تعالى ـ كما تقدم ـ لكن لا بد أن يكون عالماً بأحكام صلاته؛ إذ ليس للجاهل بأحكام الصلاة أن يؤم الناس، قال الحافظ ابن حجر: (ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يقدم اتفاقاً، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن، لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاؤوا بعدهم)[(988)].
فهذا بالنسبة لمن بعد الصحابة رضي الله عنهم، أما الصحابة رضي الله عنهم فقد جمعوا بين القراءة والعلم، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها)[(989)]، وقال رضي الله عنه: (من أراد العلم فليقرأ القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين)[(990)].
والغالب أن من كان أكثر قرآناً كان أكثر علماً بالأحكام الشرعية، كما أن الغالب عليهم أنهم كانوا يعتنون بالجَودة ويعتنون بالكثرة، ومن الأدلة على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العَُصْبة ـ موضع بقباء ـ قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآناً)[(991)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الأئمة إذا تساووا في القراءة فإنه يقدم أعلمهم بالسنة، وهو أفقههم في دين الله تعالى، فإن تساووا يقدم أقدمهم هجرة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في زمنه، أو أقدمهم هجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام بعد زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن المتقدم أسبق إلى الخير وأقرب إلى معرفة الشرع ممن تأخر، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلاماً وهو أكبرهم سناً، كما جاء في الرواية الأخرى، فإن من كان أكبر سناً فهو أقدم إسلاماً.(1/318)
وهذا الترتيب من محاسن الشريعة وكمالاتها، حيث راعت هذه الأمور وجعلت الناس مراتب بحسب علمهم.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الإمام الأعظم أو الوالي من قِبَلِهِ أحق بالإمامة من غيره من المذكورين، فإذا حضر في محل ولايته قدم على جميع الحاضرين حتى صاحب البيت وإمام المسجد، إلا إذا أذن، فيقدم من يصلح للإمامة.
وإمام المسجد أحق في مسجده بالإمامة من غيره، إلا من الإمام الأعظم أو نائبه إلا إذا أذن بتقديم غيره فالحق له، وكذا صاحب البيت لو صلى فيه لعذر فهو أولى بالإمامة من غيره ممن يحضر في منزله، إلا الإمام الأعظم؛ لأن ولايته عامة، وشرط ذلك أن يكون صاحب البيت أهلاً للإمامة، والله تعالى أعلم.
من لا تصح إمامته
413/17 ـ وَلاِبْنِ مَاجَهْ: مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: «وَلاَ تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رَجُلاً، وَلاَ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِراً، وَلاَ فَاجِرٌ مُؤْمِناً». وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب «إقامة الصلاة»، باب «في فرض الجماعة» (1081) من طريق عبد الله بن محمد العدوي، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس! توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشْغَلُوا...» ، وساق الحديث بطوله إلى أن قال: «ألا لا تُؤَمَّنَّ امرأة رجلاً...» الحديث.
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه عبد الله بن محمد العدوي، متروك الحديث، قال عنه وكيع: (يضع الحديث)، وقال عنه ابن حبان: (منكر الحديث جدّاً، على قلة روايته، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، ولا روايته رواية الثقات، لا يجوز الاحتجاج بخبره، وهو صاحب حديث الجمعة...)، ثم ذكر حديثه هذا[(992)].
وفيه ـ أيضاً ـ علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، قال عنه الإمام أحمد: (ليس بالقوي، وقد روى عنه الناس)[(993)].(1/319)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا تصح إمامة المرأة للرجل، وهو قول الجمهور من أهل العلم على تفصيل في بعض المذاهب في الفرض أو النفل، وهذا الحكم ليس مأخوذاً من هذا الحديث فقط فإنه ضعيف، ولكن هذه الجملة منه دلت عليها أدلة أخرى، يأتي بيانها إن شاء الله عند الكلام على حديث أم وَرَقَة رضي الله عنها بعد عشرة أحاديث.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا تصح إمامة الأعرابي وهو ساكن البادية للمهاجر؛ لأن الغالب على أهل البادية الجفاء وقلة المعرفة بحدود الله تعالى وأحكام الصلاة، لبعدهم عمَّن يتعلمون منه، قال تعالى في حق الأعراب: {{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}} [التوبة: 97] ، وهذا يؤدي إلى تقليل الجماعة المطلوب تكثيرها، لقلة رغبة الناس في الاقتداء بهم، فيكون المنع من إمامة الأعرابي لهذا السبب، أما حديث الباب على إطلاقه فهو ضعيف، فإذا كان الأعرابي أقرأ من المهاجر قدم عليه، لما تقدم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنها لا تصح إمامة الفاسق؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يؤم الفاجر المؤمن، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وهذا رواية عن الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها أكثر أصحابه[(994)].
وذهب الجمهور من أهل العلم إلى صحة الصلاة خلف الفاسق[(995)]؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ، ولحديث أبي ذر رضي الله عنه في أئمة الجَور الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وفيه: «صَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فَصَلِّ، فإنها لك نافلة» [(996)]، وتقدم بتمامه.(1/320)
ووجه الاستدلال: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أَذِنَ بالصلاة خلفهم، وجعلها نافلة؛ لأنهم أخَّروها عن وقتها، وظاهره أنهم لو صلّوها في وقتها لكان مأموراً بالصلاة معهم فريضة، ولا شك أن من أخَّر الصلاة وفعلها في غير وقتها فهو غير عدل.
ولأن الصحابة رضي الله عنهم صلوا خلف من لا يُحمد فعله، ومنهم ابن عمر رضي الله عنهما فقد كانوا يصلون خلف الحجَّاج[(997)]، وابن عمر من أشد الصحابة تحرياً لاتباع السنة، والحجاج معروف بالفسق، وصلى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه خلف مروان بن الحكم[(998)]، وصلى خلفه ـ أيضاً ـ الحسن والحسين[(999)].
وهذا القول هو الراجح، لقوة أدلته وصراحتها، ولأنها مؤيدة بالأصل، وهو أن كل من صحَّت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره، ولا دليل على التفريق بين صحة الصلاة وصحة الإمامة.
وأما دليل الأولين فهو حديث الباب، وتقدم أنه ضعيف لا تقوم به حجة، لكن ينبغي أن يعلم أنه يجب على المسؤولين عن تعيين أئمة المساجد أن يختاروا للإمامة الأفضل ديناً وعلماً وورعاً، وألا يكون هناك محاباة في هذا الأمر العظيم، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ زيادة كلام عند الحديث (427)، والله تعالى أعلم.
الأمر بتسوية الصفوف وكيفيتها
414/18 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/321)
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «تسوية الصفوف» (667)، من طريق مسلم بن إبراهيم، والنسائي (2/92) من طريق أبي هشام المغيرة بن سلمة المخزومي، كلاهما عن أبان بن يزيد العطار، ثنا قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:... فذكره، وفي آخره: «فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خَلَلِ الصف كأنها الحَذَفُ».
وأخرجه ابن حبان (5/539 ـ 540) من طريق مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبان وشعبة، قالا: حدثنا قتادة، به، إلا أن عنده: «وحاذوا بالأكتاف» وفي آخره الزيادة المذكورة.
وإسناده صحيح على شرط مسلم، ذكر ذلك النووي[(1000)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (رصُّوا صفوفكم) أي: ضموا بعضها إلى بعضها، مثل لبنات الجدار حتى لا يكون بينكم فُرَج.
قوله: (وقاربوا بينها) أي: بين الصفوف، بحيث يكون كل صف قريباً مما قبله، ولم يرد في الشرع تحديد لذلك، كما سيأتي.
قوله: (وحاذوا بالأعناق) أي: اجعلوا الأعناق على سَمْتٍ واحد، فلا يكون عنق أحدكم خارجاً عن محاذاة عنق الآخر، والأعناق: جمع عنق، وهي الرقبة.
قوله: (إني لأرى الشيطان) أل فيه للجنس، والمراد: جنس الشيطان، فيصدق بالواحد والمتعدد، ولفظ النسائي: «إني لأرى الشياطين» وأنث الضمير في قوله: «كأنها» باعتبار الخبر، أو لأن المراد بالشيطان الجنس، وهو جمع في المعنى.
قوله: (الحَذَفُ) ـ بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين ـ، الغنم الصغار الحجازية، واحدها حَذَفَةٌ بالتحريك؛ كقصب وقصبة، وقيل: هي غنم صغار سود جُرْدٌ ليس لها أذناب، يؤتى بها من اليمن.
الوجه الثالث: الحديث دليل على الأمر بتسوية الصفوف وكيفية ذلك، وقد ورد في الأمر بتسوية الصفوف أحاديث كثيرة، منها: حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» ، وفي رواية للبخاري: «من إقامة الصلاة»[(1001)].(1/322)
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لتسونَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم»[(1002)].
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقيموا صفوفكم، فإني أراكم من وراء ظهري» وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه[(1003)].
وقد اختلف العلماء في حكم تسوية الصفوف على قولين:
الأول: أنها سنة مؤكدة تقارب الواجب، وهذا قول الجمهور من السلف والخلف، واستدلوا بما تقدم من قوله: «فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» أي: كمالها، وفوات الكمال لا يستلزم البطلان.
القول الثاني: أن تسوية الصفوف واجبة، وهو قول ابن حزم الظاهري[(1004)]، وظاهر كلام ابن تيمية[(1005)]، وهو اختيار الصنعاني[(1006)].
واستدلوا بما تقدم من قوله: «فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة» ، قال ابن حزم: (تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض)[(1007)]، والقول بالوجوب هو الذي فهمه الحافظ ابن حجر من تبويب البخاري: «باب إثم من لا يتم الصفوف» حيث قال: (يحتمل أن يكون أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: «سووا صفوفكم» ، ومن عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ومن ورود الوعيد على تركه...)[(1008)].
ثم إن الوعيد في حديث النعمان المتقدم يدل على الوجوب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم توعّد على ترك التسوية بأن يخالف الله بين قلوبهم، فتختلف وجهات نظرهم، ويحصل التفرق والاختلاف؛ لأن الجزاء من جنس العمل، ومعلوم أن مثل هذا الوعيد لا يكون إلا على ترك واجب.
الوجه الرابع: تتحقق تسوية الصفوف بأمور ثلاثة مستفادة من عموم الأدلة في هذا الباب، وهي كما يلي:
1 ـ إتمام الصف الأول فالأول، وسد الفرج بالتراص.(1/323)
2 ـ استقامة الصف وتعديله بالمحاذاة والمساواة بين الأعناق والمناكب والأكعب، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا كعب على كعب، والكعب هو العظم الناتئ في مؤخر القدم.
وأما التسوية بالنظر إلى رؤوس أصابع القدمين فهذا لا أصل له؛ لأن الإنسان إنما يستقيم مع من بجانبه إذا ساوى منكبه منكبه، وكعبه كعبه، فتستوي بقية أجزاء البدن، أما المساواة بأطراف الأصابع فلا تمكن، لاختلاف الأقدام طولاً وقصراً.
3 ـ التقارب بين الصفوف، وبين الصف الأول والإمام، ولم يرد في السنة تحديد لذلك، ولعل المراد ـ والله أعلم ـ أن يجعل بين كل صف وما يليه مقدار ما يمكن فيه السجود براحة وطمأنينة.
وأما إلزاق القدم بالقدم ـ كما يفعله بعض الناس ـ فهذا فيه أذية للآخرين، وفيه اشتغال وإشغال، اشتغال بما لم يُشرع، وإكثار من الحركة، واهتمام بعد القيام من السجود لملء الفراغ، وفيه إشغال للجار بملاحقة قدمه، كما أن فيه توسيعاً للفُرج، ويظهر ذلك إذا هوى المأموم للسجود، كما أن فيه اقتطاعاً لمحل قدم غيره بغير حق[(1009)].
ولا دليل على ذلك في قول أنس رضي الله عنه المتقدم: (وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه)، وقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: (فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه)[(1010)]؛ لأن المراد بذلك ـ كما يقول الحافظ[(1011)] ـ المبالغة في تعديل الصف وسد الخلل والتراص، بدليل أن إلزاق الركبة بالركبة مستحيل، وإلزاق الكتف بالكتف فيه تكلف، وإلزاق الكعب بالكعب كذلك، والله تعالى أعلم.
بيان الأفضل من صفوف الرجال والنساء
415/19 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/324)
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصلاة»، باب «تسوية الصفوف وإقامتها، وفضل الصف الأول فالأول...» (440) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل الصف الأول من صفوف الرجال لقوله: (خير صفوف الرجال أولها) أي: أكثرها أجراً، وهو دليل على أنه ينبغي الحرص عليه، وذلك بالتبكير إلى المسجد والمبادرة لحضور الصلاة، ليحصل الصف الأول والدنو من الإمام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا...» الحديث[(1012)]، وتقدم حديث أبي سعيد: «تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم...» .
والمراد بالصف الأول: هو ما يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدماً أو متأخراً، إلا أن المتقدم قد حاز فضيلة التبكير.
وفي الصف الأول مزايا عظيمة ينبغي للمسلم أن يهتم بها ويحرص عليها، ومن ذلك المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق إلى دخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه ـ ولا سيما إذا كان فقيهاً ـ، والفتح عليه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين، إلى غير ذلك من المصالح[(1013)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن شر صفوف الرجال آخرها، فهي أقلها ثواباً، لبعدها عن الإمام، ولترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول، ولقربها من النساء، ويغلب على أهل الصفوف المتأخرة الكسل والتهاون في أداء الصلاة، كما يغلب عليهم فوات الصلاة أو شيء منها، فيكون طمع الشيطان فيهم أكثر.(1/325)
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن أفضل صفوف النساء وأكثرها ثواباً آخرها؛ لبعدها عن الرجال، لئلا يحصل الاختلاط إذا كثرت الصفوف، ولئلا تسمع النساء كلام الرجال أو ترى حركاتهم، فيتعلق القلب بهم وتحصل الفتنة، ولأن مرتبتهن متأخرة عن مرتبة الرجال، فيكون آخر الصفوف أليق بهن، وأقل صفوف النساء ثواباً أولها؛ لقربهن من الرجال.
وظاهر الحديث أن التفضيل في حق صفوف النساء مطلق، سواء صلين مع الرجال في مكان واحد، أو صلين في مكان منفرد، كما هو الحال الآن، فخير صفوفهن آخرهن على الإطلاق.
وقال آخرون: إن الحديث ليس على إطلاقه، وإنما هو حيث يكن مع الرجال كما عليه الحال قديماً، وأما إذا صلين منفردات في مكان خاص فهن كالرجال، خير صفوفهن أولها، وشرها آخرها، وهؤلاء نظروا إلى علة الحكم، كما تقدم، فقالوا: إن العلة لا تتم إلا إذا كانت صلاتهن مع الرجال، وأما إذا صلين منفردات فلا تأتي هذه العلة، فتكون صفوفهن كصفوف الرجال، ذكر هذا الصنعاني[(1014)]، وسبقه إلى هذا القول النووي[(1015)]، وهكذا من جاء بعده من الشراح، وبه أفتى الشيخ عبد العزيز بن باز[(1016)].
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن النساء يقفن في الصلاة صفوفاً كالرجال، لا منفردات تصلي كل امرأة أو كل مجموعة وحدها، كما عليه كثير من النساء، بل عليهن أن يقفن صفوفاً، ويسوين صفوفهن، ويكملن الصف الأول فالأول، لعموم الأدلة في هذا الباب، والله أعلم.
موقف المأموم الواحد
416/20 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأخَذَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/326)
هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع كثيرة في «صحيحه»، وذلك في تسعة عشر موضعاً، ومنها في كتاب «الأذان»، باب «إذا قام الرجل عن يسار الإمام، وحوَّله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته» (726)، ومسلم (763) من طريق كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
والحديث له طرق كثيرة عن ابن عباس في «الصحيحين» وغيرهما، مطولاً ومختصراً، وقد اشتمل على فوائد كثيرة، وهي أكثر من خمسين مسألة فقهية، زيادة على الفوائد الحديثية والأصولية واللغوية، جمعتها في مؤلَّف ـ يسَّر الله إتمامه وطبعه ـ.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن موقف المأموم الواحد إذا كان ذكراً عن يمين الإمام؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أدار ابن عباس رضي الله عنهما من يساره، وجعله عن يمينه، ومثل ذلك حصل لجابر رضي الله عنه[(1017)]، وفيه: (قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فقمت عن يساره فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فأخذ بأيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه) وهذا قول جمهور العلماء بل حُكي فيه الإجماع.
وإذا وقف عن يمينه فإنه يقف مساوياً لإمامه فلا يتأخر عنه، كما يفعله بعض الناس؛ لأن قول ابن عباس: (وقفت إلى جنبه) ظاهره أنه مساوٍ له، وهو الذي فهمه البخاري[(1018)]، ومشى عليه الشراح؛ كابن رجب وابن حجر، وفي رواية عند أحمد[(1019)]: «ما شأني أجعلك حذائي فَتَخْنِسُ؟...» ، وفي حديث عائشة في صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصحابة في مرض موته: (فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حذاء أبي بكر، إلى جنبه)[(1020)].
فإن وقف المأموم عن يسار الإمام ركعة فأكثر، فقد اختلف العلماء في صحة صلاته على قولين:(1/327)
الأول: لا تصح صلاته، وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد، وعليه جماهير أصحابه[(1021)]، واستدلوا بما تقدم، قالوا: فلو كانت الصلاة صحيحة لأقر النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن عباس وجابراً رضي الله عنهما على موقفهما، فيحمل على الوجوب، لا سيما وأنه يلزم منه المشي والعمل لغير حاجة، ومثل هذا لا يرتكب لمخالفة فضيلة.
القول الثاني: أن صلاته صحيحة مع الكراهة، وكون المأموم الواحد عن يمين الإمام إنما هو على سبيل الأفضلية، لا على سبيل الوجوب، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية الإمام أحمد[(1022)]، قال صاحب «الفروع»: (هي أظهر)[(1023)]، وقال صاحب «الإنصاف»: (وهو الصواب)[(1024)]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (... وحيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كرهت إلا لعذر...)[(1025)].
قالوا: لأن النهي إنما ورد عن الفذية، وأما إدارة النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس وجابر فإنه يدل على الأفضلية لا على الوجوب؛ لأنه فعل مجرد لم يقترن بقول، فإنه لم ينه عنه، بدليل أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر ابن عباس باستئناف صلاته، فإنه كبر تكبيرة الإحرام عن يساره صلّى الله عليه وسلّم ثم نقله عن يمينه، فدل على صحة صلاته.
وهذا القول فيه وجاهة كما ترى، فالظاهر صحة صلاة من صلى يسار الإمام مع خلو يمينه مع الكراهة؛ لأنه ترك المقام المختار وهو يمين الإمام، والقول ببطلان صلاته يحتاج إلى دليل تطمئن إليه النفس.
وقد ورد عن الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه قال: (لو أن رجلاً جاهلاً صلى برجل فجعله يساره كان مخالفاً للسنة، وَرُدَّ إليها، وجازت صلاته)[(1026)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة نية الإمامة في أثناء الصلاة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم صلى منفرداً، ثم دخل معه ابن عباس، وهذا على الراجح من قولي أهل العلم في الفرض والنفل، وقد مضى الكلام على ذلك.(1/328)
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز الجماعة في صلاة التطوع للمصلحة إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة، وقد مضى الكلام على ذلك ـ أيضاً ـ.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن الإمام إذا أدار المأموم الواقف عن يساره إلى يمينه من وراء ظهره لم تفسد صلاتهما، أما الإمام فلا تفسد صلاته بِمَدِّ يده له وتحويله من جانب إلى جانب، وأما المأموم فلا تفسد صلاته بمشيه من أحد جانبي الإمام إلى جانبه الآخر؛ لأن هذا عمل يسير، وقد جاء تفسير هذه الإدارة بأنها كانت من وراء ظهره ـ عليه الصلاة والسلام ـ ففي رواية عند مسلم: (فأخذني من وراء ظهره)، وفي رواية: (فتناولني من خلف ظهره)[(1027)]، وإنما أخذه من وراء ظهره لئلا يمر بين يديه، والمرور بين يدي المصلي منهي عنه، مع أنه لو أخذه من أمامه لكان أيسر وأسهل.
الوجه السادس: الحديث دليل على حرص ابن عباس رضي الله عنهما على الفقه في الدين، حيث اغتنم فرصة الليلة التي يكون فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم عند خالته ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبات عندها وحرص على القيام مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وعزم على السهر ليطلع على كيفية صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ووصف صلاته وصفاً دقيقاً، لم يترك شيئاً مما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم أو قاله تلك الليلة إلا نقله للأمة بأفصح عبارة وأتم بيان، كل ذلك وهو غلام لم يبلغ الحلم، فاستفاد ابن عباس في تلك الليلة فوائد عظيمة، لعل في مقدمتها أنه حظي بدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم له تلك الليلة عندما وضع له وضوءه بقوله: «اللّهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل» [(1028)]. والله تعالى أعلم.
موقف المأموم إذا كان أكثر من واحد
417/21 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.(1/329)
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه»، منها: كتاب «الأذان»، باب «المرأة وحدها تكون صفّاً» (727)، وفي باب «صلاة النساء خلف الرجال» (870)، ومسلم (658) من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه، قال:... فذكر الحديث.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المأموم إذا كان أكثر من واحد فإن موقفه خلف الإمام، وهو قول الجمهور من أهل العلم.
وتقدم في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه لما صلى مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومعه جبار بن صخر أقامهما النبي صلّى الله عليه وسلّم خلفه، فدل على أن موقف الاثنين وراء الإمام.
وقد ورد في «صحيح مسلم» من طريق إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله بن مسعود، فقال: أَصَلَّى من خلفكم؟ قالا: نعم، فقام بينهما، وجعل أحدهما على يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: (هكذا فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)[(1029)]، فهذا يدل على أن الاثنين يكونان عن يمين الإمام وشماله.
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة منها:
1 ـ أن هذا منسوخ؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه ذكر التطبيق، وقد نسخ بالمدينة، وحديث جابر وجبار رضي الله عنهما بالمدينة؛ لأن جابراً إنما شهد المشاهد بعد بدر، وحديث أنس الذي معنا بالمدينة ـ أيضاً ـ، ذكر ذلك الحازمي[(1030)]، فيكون الناسخ قد خفي على ابن مسعود رضي الله عنه، وليس ببعيد، فإنه لم يكن من عادة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا إمامة الجمع الكثير، أما إمامة اثنين فهذه نادرة، ولعل ابن مسعود لم يطلع عليه، فبقي على مقتضى علمه الأول.
2 ـ أن فعل ابن مسعود رضي الله عنه كان لضيق المكان، ذكر ذلك الطحاوي عن محمد بن سيرين[(1031)].(1/330)
3 ـ أن فعل ابن مسعود محمول على الجواز، وما تقدم يدل على الأفضل[(1032)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المرأة لا تقف مع الرجال، بل تكون خلفهم، قال ابن رشد: (لا خلاف في أن المرأة الواحدة تصلي خلف الإمام، وأنها إن كانت مع الرجل صلى الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه)[(1033)].
ولا فرق في ذلك بين أن تكون المرأة من محارم الرجل كزوجته، أو ليست من محارمه إذا لم يكن خلوة، فإذا صلى الرجل بزوجته ـ مثلاً ـ فإنها تقف خلفه، لعموم الأدلة، فإن خالفت ووقفت في صف الرجل فصلاتها صحيحة، ولا تُبطل على أحد صلاته، على الأظهر من قولي أهل العلم؛ لأن الأصل صحة الصلاة، ولا يحكم بالبطلان إلا بدليل قوي سالم من الاحتمال، وحديث الباب لا يدل على البطلان، بل يدل على أنها تتأخر وأن هذا موقفها.
الوجه الرابع: الحديث دليل على صحة مصافة البالغ للصبي، وأن من صلى بجانبه صبي فليس فذّاً، وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية[(1034)]، واختاره ابن عقيل الحنبلي، ذكر ذلك ابن اللحام، واختار هو ذلك حيث قال: (وما قاله أصوب)[(1035)].
ووجه الدلالة: أن اليتيم ـ وهو من مات أبوه ولم يبلغ ـ وقف مع أنس رضي الله عنه خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، فدل على جواز ذلك، ولا فرق بين مصافته في صلاة الفرض أو النفل إلا بدليل.
وتقدم حديث عمرو بن سلمة في صلاته بقومه وهو ابن ست أو سبع، فإنه إذا دل على جواز إمامة الصبي دل على جواز مصافته من باب أولى.
وذهب أحمد في المنصوص عنه إلى أنه لا تصح مصافة الصبي في الفرض، لعدم صحة إمامته، ولأنه يخشى أن لا يكون متطهراً فيكون البالغ فذّاً، وتصح مصافته في النفل، لهذا الحديث فإن هذه الصلاة كانت نفلاً[(1036)].
والقول الأول أرجح لقوة دليله، وما صح في الفرض صح في النفل، وأما التعليل بعدم صحة إمامته فهو مردود من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الراجح صحة إمامته، كما تقدم، فيكون الأصل المقيس عليه غير صحيح.(1/331)
الثاني: أن المصافة ليست كالإمامة؛ لأن الإمامة أعظم من المصافة، فلا يصح القياس لاختلاف العلة.
الثالث: أن هذا تعليل في مقابلة نص، وهو حديث الباب.
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الجماعة في صلاة التطوع للمصلحة، وقد مضى بيان ذلك.
الوجه السادس: الحديث دليل على عناية الإسلام بمنع اختلاط المرأة بالرجل حتى في العبادات، فجعلها تقف وحدها ولا تقف مع الرجل، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
418/22 ـ عَنْ أَبِي بكْرَةَ رضي الله عنه أنَّهُ انْتَهى إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «زَادَكَ اللهُ حِرْصاً وَلاَ تَعُدْ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِيهِ: «فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشى إِلَى الصَّفِّ».
419/23 ـ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَأى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
420/24 ـ وَلَهُ عَنْ طَلْقٍ: «لاَ صَلاَةَ لمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ».
421/25 ـ وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَابِصَةَ: «أَلاَ دَخَلْتَ مَعَهُمْ أَوِ اجْتَرَرْتَ رَجُلاً؟».
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/332)
وهو وابصة ـ بفتح الواو وكسر الباء ـ ابن معبد ـ بفتح الميم والباء على ما ذكره الأكثرون ـ ابن مالك من بني أسد بن خزيمة، وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم سنة تسع في عشرة رهط من قومه فأسلموا، ورجع إلى بلاده، ثم نزل الجزيرة، وسكن الرَّقة[(1037)]، ومات بها، كان قارئاً كثير البكاء لا يملك دمعته، وروى عنه ابناه عمرو وسالم، وعمرو بن راشد، وزياد بن أبي الجعد وغيرهم[(1038)].
الوجه الثاني: في تخريجها:
أما حديث أبي بكرة، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «إذا ركع دون الصف» (783) من طريق زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه، به مرفوعاً.
وقد أعلَّ هذا الحديث بأن الحسن ـ وهو البصري ـ عنعنه، وهو لم يسمع من أبي بكرة، على ما قاله يحيى بن معين، والدارقطني، وعزاه ابن رجب إلى الإمام أحمد والأكثرين من المتقدمين[(1039)]؛ لأنه أدخل بينه وبين أبي بكرة الأحنف بن قيس في حديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما».
وأجيب عن ذلك بجوابين:
الأول: أن البخاري لما روى حديث قصة الحسن بن علي مع معاوية في سَنَةِ الجماعة نقل عن شيخه علي بن المديني أنه قال: (إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث)[(1040)]، وإدخال البخاري حديثه عنه في «صحيحه» في هذا الباب وفي غيره يدل على ذلك، وإدخال الأحنف بن قيس غير مطرد[(1041)].
الثاني: أن الحسن صرَّح بالتحديث في ظاهر الإسناد كما في رواية أبي داود (683)، والنسائي (2/118).
وأما زيادة أبي داود التي ذكر الحافظ فهي بالطريق المذكور (684) وفيه ـ أيضاً ـ: (فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاته قال: «أيكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف؟» فقال أبو بكرة: أنا...) الحديث.(1/333)
وأما الحديث الثاني، وهو حديث وابصة، فقد أخرجه أحمد (29/524)، وأبو داود (682)، والترمذي (230)، وابن حبان (5/575 ـ 577) من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة، به.
وهذا الحديث حسّنه الترمذي، والبغوي في «شرح السنة» (3/378)، والحديث رجاله ثقات، غير عمرو بن راشد، فهو مجهول العدالة، ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً[(1042)]، وقال الذهبي في «الكاشف»: (ثقة)، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(1043)]، وقد توبع في روايته، فقد تابعه زياد بن أبي الجعد، فرواه عن وابصة عند أحمد (29/529)، وابن حبان (5/577).
ورجاله ثقات غير زياد بن أبي الجعد الغطفاني، فقد روى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(1044)].
وقد جعل بعضهم هذا الاختلاف اضطراباً في الحديث يوجب التوقف، ومنهم الشافعي[(1045)]، والبزار كما نقله عنه الزيلعي[(1046)]، وابن عبد البر[(1047)].
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الروايتين محفوظتان، وأن هلال بن يساف سمع الحديث على الوجهين، مرة من عمرو بن راشد، ومرة من قراءة زياد بن أبي الجعد على وابصة، وهذا رأي ابن حبان حيث يقول: (سمع هذا الخبر هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة بن معبد، وسمعه من زياد بن أبي الجعد عن وابصة، والطريقان محفوظان)[(1048)]، وهكذا قال ابن حزم[(1049)].
بينما رجح أبو حاتم والإمام أحمد الطريق الأول، فقال ابن أبي حاتم: (قلت لأبي: أيهما أشبه؟ قال: عمرو بن مرة أحفظ)[(1050)]، ونقل الدارمي عن الإمام أحمد أنه كان يثبت حديث عمرو بن مرة، ثم قال: (وأنا أذهب إلى حديث يزيد بن زياد بن أبي الجعد)[(1051)].(1/334)
وأما الحديث الثالث وهو حديث طلق بن علي، فهذا وَهْمٌ من الحافظ وإنما هو حديث علي بن شيبان، فقد أخرجه ابن ماجه (1003)، وابن حبان (5/579) من طريق ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، قال: حدثني عبد الرحمن بن علي بن شيبان، عن أبيه، علي بن شيبان، قال: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلينا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته إذا رجل فرد، فوقف عليه نبي الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قضى صلاته، ثم قال له نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف» .
قال البوصيري: (إسناده صحيح ورجاله ثقات)[(1052)]، ولعل الحافظ ذكره لأنه شاهد قوي لحديث وابصة.
وأما حديث وابصة عند الطبراني في «الكبير» (22/145 ـ 146) فهو من طريق السَّرِيِّ بن إسماعيل، عن الشعبي، عن وابصة قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلاً يصلي خلف الصفوف وحده، فقال: «أيها المصلي وحده، ألا تكون وصلت صفاً فدخلت معهم، أو اجتررت رجلاً إليك إن ضاق بك المكان، أعد صلاتك، فإنه لا صلاة لك».
وهذا إسناد ضعيف جدّاً؛ لأنه فيه السري بن إسماعيل، قال عنه الحافظ في «التقريب»: (متروك)، وقد تفرّد بهذ الزيادة: «أو اجتررت رجلاً إليك» فتكون زيادة منكرة.
قال ابن عدي: (أحاديثه التي يرويها لا يتابعه أحد عليها، وخاصة عن الشعبي، فإن أحاديثه عنه منكرات، لا يرويها عن الشعبي غيره، وهو إلى الضعف أقرب)[(1053)]، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: (ترك الناس حديثه)، وقال يحيى بن سعيد: (استبان لي كذبه في مجلس)، وعلى هذا فمثله لا يحتج بحديثه.(1/335)
الوجه الثالث: استدل بحديث أبي بكرة من قال بصحة صلاة المنفرد خلف الصف، وهم الجمهور ـ كما حكاه عنهم ابن رشد[(1054)] ـ، ووجه الدلالة من قوله في رواية أبي داود: (فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف) فإنه يدل على أن أبا بكرة ركع خلف الصف فأتى بجزء من الصلاة خلف الصف، ولم يأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بإعادة الصلاة وإنما أرشده في المستقبل إلى ما هو أفضل، بقوله: «ولا تَعُدْ» وهو بفتح التاء وضم العين على المشهور، نهي عن العود إلى ما فعل ـ كما سيأتي ـ، وأجابوا عن حديث وابصة بأنه مضطرب، كما تقدم، فحديث أبي بكرة مقدم عليه.
والقول الثاني في المسألة: أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة ، وهذا مذهب الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك[(1055)]، وبه قال جمع من الفقهاء والمحدثين، ذكرهم ابن رجب[(1056)].
واستدلوا بحديث وابصة، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر من صلى خلف الصف وحده بالإعادة، ويشهد له حديث علي بن شيبان: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف».
وأجابوا عن حديث أبي بكرة بأنه لا دليل فيه على صحة صلاة المنفرد خلف الصف؛ لأنه ليس فيه أنه صلى منفرداً خلف الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، فقد أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركاً للركعة، فهذا بمنزلة أن يقف وحده، ثم يجيء آخر فيصافه، فإن هذا جائز باتفاق الأئمة، ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية[(1057)].
والقول الثالث: التفصيل ، وهو أنه إن وجد محلاًّ في الصف فصلى وحده خلف الصف لم تصح صلاته، ومن اجتهد ولم يجد مكاناً جاز له أن يقف وحده، وبه قال الحسن البصري، كما رواه عنه ابن أبي شيبة[(1058)]، وابن قدامة[(1059)]، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية[(1060)]، وابن القيم[(1061)].
وهذا القول هو المختار في هذه المسألة لما يلي:(1/336)
الأول: أن فيه جمعاً بين الأدلة، فيحمل حديث: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» على ما إذا قَصَّرَ في سد الفرجة والانضمام إلى الصف، وأما إذا لم يجد فرجة فتصح صلاته؛ لأنه ليس بمقصر.
الثاني: أن العلماء مجمعون على أن واجبات الصلاة وأركانها تسقط عند عدم القدرة، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، ولا ريب أن العجز عن المصافة عذر.
الثالث: أن عمومات الشريعة تؤيد ذلك؛ كقوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وقوله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[(1062)].
واعلم أن ضابط الانفراد هو ما إذا رفع الإمام رأسه من الركوع ولم يدخل معه أحد، فإن دخل معه أحد قبل أن يرفع الإمام رأسه أو حصل له مكان في الصف فدخل فيه قبل ذلك زالت فذيِّته، وصحت صلاته.
والأظهر أن النهي في حديث أبي بكرة في قوله: «ولا تعد» راجع إلى الإسراع والسعي الشديد، وكذا الركوع دون الصف، ويؤيد الأول الحديث الآتي في النهي عن الإسراع في المجيء إلى الصلاة، ويؤيد الثاني قوله: «أيكم الذي ركع دون الصف» ، فإن ظاهر ذلك أن النهي متوجه إلى هذه الجملة، وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم الطحاوي[(1063)]، ويؤيده حديث أبي هريرة: «إذا دخلت والإمام راكع فلا تركع حتى تأخذ مصافك من الصف» [(1064)]، وأجاز آخرون الركوع دون الصف إذا أدرك الإمام راكعاً، وهو رواية عن أحمد، لفعل بعض الصحابة رضي الله عنهم قالوا: والحديث نهي عن الإسراع، لا عن الركوع دون الصف، والأول أحوط.
الوجه الرابع: دلت رواية الطبراني في حديث وابصة: «أو اجتررت رجلاً» على جواز جذب الرجل من الصف ليقف معه، والصواب عدم جواز ذلك، والحديث منكر بهذه الزيادة ـ كما تقدم ـ وذلك لما يلي:
1 ـ أن الجذب يفضي إلى إيجاد فرجة في الصف، والمطلوب سَدُّ الفرج.(1/337)
2 ـ أن الجذب تصرف في المجذوب، وتشويش عليه، وتفويت لفضيلة الصف الأول وكونه خلف الإمام؛ لأن الغالب في الجذب أن يكون لمن هو خلف الإمام.
3 ـ أن الجذب فيه تأثير على أكثر المصلين؛ لأن الصف سيتحرك لسد هذه الفرجة التي فتحت فيه، والله تعالى أعلم.
آداب المشي إلى الصلاة
422/26 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُم الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلاَ تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الأذان»، باب «لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار» (636)، ومسلم (602) من طريق الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:... فذكره.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا سمعتم الإقامة) أي: إقامة الصلاة، وإنما ذكرت الإقامة تنبيهاً على ما سواها؛ لأنه إذا نُهي عن إتيان الصلاة مسرعاً في حال الإقامة مع خوف فوات بعضها فما قبل الإقامة أولى، وحكمة التقييد بالإقامة أنه إذا أسرع وقت الإقامة فإنه يدخل الصلاة ثائر النَّفَسِ، فلا يحصل له تمام الخشوع في قراءته، وقال آخرون: إن هذا القيد لإخراج ما قبل الإقامة، فلا مانع من الإسراع فيه، والأول وجيه جدّاً، كما سيأتي.
قوله: (وعليكم السكينة والوقار) في رواية البخاري: «بالسكينة» وبدون الباء يجوز رفعها على أنها مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور خبر مقدم.(1/338)
ويجوز نصبها على الإغراء، كما ذكر القرطبي[(1065)]، ولم يتضح لي وجه الإغراء، والظاهر أنه من باب اسم الفعل؛ كقوله تعالى: {{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}} [المائدة: 105] فيكون منصوباً باسم الفعل قبله؛ أي: الزموا السكينة.
والسكينة والوقار اسمان لمسمى واحد، فيكون ذكر الوقار من باب التأكيد، وقيل: بينهما فرق، فالسكينة: التأني في الحركات واجتناب العبث بيد أو رجل، والوقار: في الهيئة؛ كغض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات.
قوله: (ولا تسرعوا) زيادة تأكيد، ولا منافاة بينه وبين قوله تعالى: {{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}} [الجمعة: 9] الذي قد يشعر بالإسراع؛ لأن المراد بالسعي في الآية المضيُّ والذهاب، يقال: سعيت إلى كذا؛ أي: ذهبت إليه.
قوله: (فما أدركتم فصلوا) الفاء واقعة في جواب شرط مقدر؛ أي: إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا.
قوله: (وما فاتكم فأتموا) أي: أكملوا، وفي رواية: «فاقضوا» وذكر الحافظ أن أكثر الروايات بلفظ: «فأتموا» [(1066)]، واللفظان بمعنى واحد؛ لأن القضاء هو الإتمام في عُرف الشرع، قال تعالى: {{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}} [البقرة: 200] ، وقال تعالى: {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}} [الجمعة: 10] .
وأما تخصيص القضاء بمعنى: فعل شيء فات ومضى، فهو اصطلاح للفقهاء، وسيأتي ما يترتب على ذلك من الأحكام.
الوجه الثالث: الحديث بيان لأدب الحضور لأداء الصلاة، وهو أن المصلي يمشي إليها بسكينة ووقار، فما أدركه صلاَّه مع الإمام، وما فاته أتمه وقضاه، وبهذه الهيئة يحقق لنفسه ثلاث فوائد:
الأولى: الراحة والطمأنينة، فيدخل الصلاة هادئاً مرتاحاً، فيحصل له الخشوع والتدبر.(1/339)
الثانية: امتثال قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن أحدكم إذا كان يَعْمِدُ إلى الصلاة فهو في صلاة» [(1067)]، والمعنى: أنه في حكم المصلي، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه.
الثالثة: كثرة الخُطا إلى المساجد، وهذا لا يتأتّى مع السرعة، وتكثير الخطا مقصود لذاته، ورد فيه أحاديث؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكم بكل خطوة درجة»[(1068)].
واعلم أن الأحاديث التي فيها الأمر بالمشي والنهي عن الإسراع عامة في جميع الأحوال، لا فرق بين أن يخاف فوات تكبيرة الإحرام أو فوات ركعة أو فوات الجماعة بالكلية، أو لا يخاف شيئاً من ذلك، كما أنه لا فرق بين الجمعة وغيرها؛ لأن النصوص عامة لم تستثن حالة واحدة، ولا يجوز التخصيص إلا بدليل، وهذا قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول لأحمد، وهو قول الثوري وعطاء، وابن المنذر، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء[(1069)].
وأجاز بعض العلماء الإسراع الذي لا ينافي الوقار لمن خاف فوات تكبيرة الإحرام أو فوات الركعة، لأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أسرعوا لإدراك التكبيرة الأولى، وهم أعلم من غيرهم بمعنى ما سمعوا من نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، وهذا رواية عن أحمد[(1070)]، وقد نقل إسحاق بن منصور عن إسحاق بن راهويه أنه قال: (إن خاف فوت التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع في المشي)[(1071)].
الوجه الرابع: استدل بالحديث من قال بمشروعية الدخول مع الإمام ولو لم يدرك إلا قليلاً من الصلاة؛ كإدراكه في التشهد، لقوله: «فما أدركتم فصلوا» إلا أن القول بالتفصيل أولى على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية[(1072)]، وهو أن يقال: إن كان يرجو وجود جماعة ـ كما في المساجد التي على الطرق ـ لم يدخل مع الإمام؛ لأن صلاته تامة مع جماعة أفضل، وكذا لو طمع في إدراك ركعة من الصلاة في مسجد آخر، وإن كان لا يرجو دخل معه، أخذاً بظاهر هذا الحديث.(1/340)
الوجه الخامس: استدل بالحديث من قال: إن الجماعة تدرك بإدراك جزء من الصلاة، فمن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة؛ لقوله: «فما أدركتم فصلوا» ، ومن أدرك الإمام ساجداً أو جالساً في التشهد الأخير يسمى مدركاً، فَيُتِمُّ ما فاته، ويكون مدركاً للجماعة، وهذا قول الحنفية، والشافعية، وهي الرواية المشهورة عن أحمد، اختارها أكثر الأصحاب[(1073)].
والقول الثاني: أن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة فأكثر، وهو قول المالكية، ورواية عن أحمد، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية[(1074)].
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة»[(1075)].
فهذا نص صريح يدل بمنطوقه على أن من أدرك ركعة من صلاة الإمام فقد أدرك صلاة الجماعة؛ لأنه عام في جميع صور إدراك الركعة من الصلاة، سواء كان إدراك جماعة أم إدراك وقت.
ويدل بمفهومه على أن من أدرك أقل من ركعة لم يدرك الصلاة، سواء كان إدراك جماعة أم إدراك وقت.
وهذا القول هو الراجح لقوة دليله، ويؤيده أمران:
الأول: أنه لا يعرف في نصوص الشرع تعليق الإدراك بالتكبير قبل سلام الإمام لا في الوقت ولا في الجمعة ولا في الجماعة، فهو وصف مُلغى في نظر الشرع، فلا يجوز بناء الحكم عليه.
الثاني: أن ما دون الركعة لا يعتد به في الصلاة؛ لأن المأموم يستقبل جميع صلاته منفرداً، فلم يدرك مع إمامه شيئاً يحتسب له به.
وأما استدلال أصحاب القول الأول بحديث أبي هريرة: «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» فهو من باب المفهوم، وحديث الإدراك من باب المنطوق، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم.
الوجه السادس: اختلف العلماء فيما يدركه المأموم مع الإمام هل هو أول صلاته أو آخرها؟ قولان:(1/341)
الأول: أن ما يدركه المأموم هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها، وهو مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، ذكرهم ابن المنذر[(1076)]، وهذا قول الشافعي، ورواية عن مالك، ورواية عن الإمام أحمد[(1077)]، واستدلوا بقوله: «وما فاتكم فأتموا» وهي رواية الأكثرين، قالوا: والتمام هو الآخر، قالوا: ولا ينافي ذلك رواية: «وما فاتكم فاقضوا» ؛ لأن القضاء هنا يراد به الإتمام، فالروايتان متفقتان، ورجح هذا ابن المنذر وابن حجر[(1078)].
القول الثاني: أن ما يدركه المأموم هو آخر صلاته، وما يقضيه هو أولها، وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن مالك، وهو المذهب عند الحنابلة[(1079)].
واستدلوا برواية: «وما فاتكم فاقضوا» قالوا: والقضاء لا يكون إلا لشيء قد فات، وقد فاته أول الصلاة، فيأتي به قضاء.
وبهذا يتبين أن سبب الخلاف اختلاف روايات الحديث، وتفسير القضاء بالمعنى الفقهي.
والراجح هو القول الأول، لما تقدم من أن الإتمام والقضاء بمعنى واحد، لا سيما وأن مخرج الحديث واحد، وقد أمكن رد الاختلاف في الروايات إلى معنى واحد[(1080)]، وعلى هذا يترتب فوائد منها:
1 ـ إذا أدرك من المغرب أو العشاء ركعتين صلى الباقي سرّاً؛ لأن ما يقضيه هو آخر صلاته.
2 ـ إذا أدرك ركعة من جهرية وقام يقضي ما فاته أتى بالثانية جهراً خفيفاً لا يؤذي من حوله، ثم يصلي الباقي سرّاً.
3 ـ إذا أدرك ركعة ثم قام يأتي بالثانية قرأ الفاتحة وسورة، ثم يصلي الباقيتين بالفاتحة فقط.
4 ـ إذا أدرك مع الإمام ركعة من الثلاثية أو الرباعية جلس للتشهد الأول بعد أول ركعة يقضيها[(1081)].
الوجه السابع: عموم الحديث يدل على أن ما يدركه المأموم من صلاة الجنازة هو أول صلاته، وما يقضيه هو آخرها، وسأذكر ذلك في كتاب «الجنائز» إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
فضل كثرة الجماعة(1/342)
423/27 ـ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلاَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلاَتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلاَتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلاَتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عزّ وجل». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «فضل الجماعة» (554)، والنسائي (2/104 ـ 105)، وأحمد (35/188، 192)، وابن حبان (5/405) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، أنه أخبرهم عن عبد الله بن أبي بصير، عن أبيه، قال شعبة: وقال أبو إسحاق: وقد سمعته منه ومن أبيه، قال: سمعت أُبي بن كعب يقول: صلى رسول الله (ص) يوماً صلاة الصبح فقال: «أَشَهِدَ فلان الصلاة؟» ، قالوا: لا، قال: «ففلان؟» ، قالوا: لا، قال: «إن هاتين الصلاتين من أثقل الصلاة على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، والصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه، وصلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده...» الحديث، وهذا السياق للنسائي سنداً ومتناً، وفيه أن أبا إسحاق صرح بأنه سمع الحديث من عبد الله بن أبي بصير ومن أبيه، ورواية أبي داود وإحدى روايات أحمد ليس فيها (ومن أبيه).
وهذا سند حسن، رجاله ثقات، إلا عبد الله بن أبي بصير العبدي الكوفي، فقد تفرد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي، ولم يوثقه غير ابن حبان[(1082)]، والعجلي[(1083)]، لذا وصفه بعضهم بالجهالة، وقد رواه أبو إسحاق عن أبي بصير، كما في رواية النسائي ورواية عند أحمد[(1084)] وغيرهما، وأبو بصير روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(1085)].(1/343)
والحديث صححه ابن حبان كما قال الحافظ هنا، وصححه ابن خزيمة[(1086)]، ونقل الحافظ تصحيحه عن ابن السكن والعقيلي والحاكم[(1087)]، وقال النووي: (أشار علي بن المديني والبيهقي وغيرهما إلى صحته)[(1088)]، ومثل هذا كافٍ في رفع الجهالة عن عبد الله بن أبي بصير.
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل كثرة الجماعة، وأن هذا أمر محبوب لله تعالى، لما فيه من المصالح العظيمة من تكثير سواد المسلمين في بيوت الله وتعاونهم وتعارفهم، وبعدهم عن التفرق والاختلاف، لا سيما أهل الحي الواحد.
ولهذا ينبغي عدم تعدد المساجد مهما أمكن؛ لأن تعددها يفضي إلى قلة الجماعة وتفرقهم، وانتحال الأعذار للكسالى والمتخلفين، وإذا صلى أهل الحي في مسجد واحد فهو أفضل وأكمل، لما في ذلك من المصالح، فإن دعت الحاجة إلى تعدد المساجد فلا بأس.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب تحري المسجد الذي هو أكثر جماعة، وأنه أفضل من المسجد الذي هو أقل جماعة، ما لم يكن في حضور المسجد الأقل جماعة مصالح كأن يُقتدى به، أو أنه يذكِّرهم أو أنه يفيدهم، ونحو ذلك، وقد نص الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على ذلك، لكنهم ذكروا ـ أيضاً ـ أن المسجد العتيق أفضل من الجديد إذا تساويا في الكثرة؛ لأن العبادة في العتيق أكثر وأقدم، وهذا لا دليل عليه، وإنما هو من المسائل الاجتهادية.
الوجه الرابع: استدل بالحديث من قال بجواز إقامة جماعة ثانية لمن فاتتهم الجماعة الأولى في مسجد له إمام راتب، وأن هذا أولى من تفرقهم وصلاة كل إنسان وحده، فإن الحديث دل بعمومه على أن من صلى مع رجل فهو أفضل وأكثر ثواباً من صلاته وحده، فيدخل في ذلك إقامة جماعة ثانية لمن فاتتهم الجماعة مع الإمام الراتب، وهذا هو الراجح في هذه المسألة، ولها أدلة أخرى[(1089)]، والله تعالى أعلم.
حكم إمامة المرأة للنساء(1/344)
424/28 ـ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْل دَارِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهي أم ورقة ـ بفتح الأحرف الثلاثة ـ بنت عبد الله بن الحارث بن عويمر بن نوفل الأنصارية، ويقال: أم ورقة بنت نوفل، نسبة إلى جدها الأعلى، مشهورة بكنيتها، كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يزورها، ويسميها الشهيدة، وكانت قد قرأت القرآن، وقد روى أبو داود حديثها بطوله، وفيه شيء عن حياتها وعن سبب وفاتها رضي الله عنها[(1090)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «إمامة النساء» (591) من طريق وكيع بن الجراح، ثنا الوليد بن عبد الله بن جُميع، قال: حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد الأنصاري، عن أم ورقة بنت نوفل.. وساق حديثها بطوله.
وأخرجه ـ أيضاً ـ (592) من طريق محمد بن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث.. وساق حديثها مختصراً، وفيه الجملة المذكورة في «البلوغ».
وأخرجه ابن خزيمة (3/89) من طريق عبد الله بن داود، عن الوليد بن جميع، عن ليلى بنت مالك، عن أبيها وعن عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة، به.
وهذا السند فيه مقال، الوليد بن جميع متكلَّم فيه، قال المنذري: (فيه مقال، وقد أخرج له مسلم)[(1091)]، والحق أنه حسن الحديث، قال أحمد وأبو زرعة وأبو داود: (لا بأس به)، ووثقه ابن معين والعجلي وابن سعد[(1092)]، قال الحاكم: (قد احتج مسلم بالوليد بن جميع، وهذه سنة غريبة، لا أعرف في الباب حديثاً مسنداً غير هذا...)[(1093)]، وسكت عنه الذهبي، وقال عنه الحافظ في «التقريب»: (صدوق يهم) لكنه قد تفرد به عن شيخيه: ليلى بنت مالك، وعبد الرحمن بن خلاد.(1/345)
وعبد الرحمن بن خلاد مجهول الحال، كما قال ابن القطان[(1094)]، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(1095)]، وكذا جدة الوليد: ليلى بنت مالك فهي لا تعرف، كما قال ابن القطان أيضاً، ثم إنه لم يثبت سماع ابن خلاد من أم ورقة[(1096)].
والحديث حسّنه الألباني[(1097)]، ونقل الحافظ هنا تصحيحه عن ابن خزيمة، وأقره، مع أنه قال: (وفي إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة)[(1098)]، وقال أيضاً: (وقد حسَّن الدارقطني حديث أم ورقة في كتاب «السنن»، وأشار أبو حاتم في «العلل» إلى جَودته)[(1099)]، وقد رجعت إلى «سنن الدارقطني» ولم أجد له كلاماً عليه، كما أني لم أقف على ما ذكره عن أبي حاتم.
ولعل من حسَّنه رأى أن رواية ابن خلاد مقرونة برواية ليلى بنت مالك، كما تقدم في الإسناد، يقوي أحدهما الآخر، لا سيما أن الذهبي قال في فصل «النسوة المجهولات»: (ما علمت في النساء من اتُّهِمَتْ، ولا من تركوها)[(1100)].
ثم إن الحديث له شواهد تؤيد معناه كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز إمامة المرأة للنساء، وظاهر الحديث أن ذلك في الفريضة، لرواية الحاكم: (وأمر أن يُؤَذَّنَ لها ويقام، وتؤم أهل دارها في الفرائض)، وهذا قول عطاء وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، كما حكاه ابن المنذر[(1101)].
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (والحديث وإن كان في سنده كلام لأهل العلم، لكن مثله يعمل به، ويعضده ما جاء عن عائشة وأم سلمة: (أنهما أمَّتا نساء في صلاة مكتوبة)[(1102)]، وفي ذلك من المصالح ما فيه؛ لأن المرأة الفقيهة إذا أمَّت النساء تعلَّمْنَ منها كيفية الصلاة؛ لأن التعليم بالفعل له أثر كبير، أكثر من التعليم بالقول بالنسبة لكثير من الناس...).(1/346)
ومما يؤيد القول بالجواز العمومات الواردة في فضل صلاة الجماعة، ولم يرد بالمنع قرآن ولا سنة ـ كما يقول ابن حزم ـ مع فعل بعض الصحابيات ـ كما تقدم ـ مع عدم المخالف[(1103)]، لكن لا ينبغي أن تكون إمامتها لنسائها بصفة دائمة، وإنما في بعض الأحيان، لما تقدم من كلام العلماء على الإسناد.
وأما إمامتها للرجال فهذا لا يجوز؛ لأن الإمامة نوع من الإمرة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»[(1104)].
ولأن المرأة عورة، فإذا أمَّت الرجال حصل بذلك فتنة عظيمة، ثم إنه لم ينقل عن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ مع علمهن وورعهن ـ أن واحدة منهن أمَّت الرجال حتى وإن كان من محارمها، حتى وإن كان أقل منها حفظاً للقرآن وفقهاً في الدين.
ثم إن المرأة منهية عن تنبيه الإمام بقولها: (سبحان الله)، فكيف وهي ستقرأ القرآن في الصلاة وترفع صوتها بالتكبيرات، إن هذا كله يؤيد القول بالمنع من إمامتها مطلقاً.
وأما من أجاز من أهل العلم؛ كأبي ثور، والمزني، وابن جرير الطبري[(1105)] إمامتها للرجال مستدلاًّ بهذا الحديث وأن من ضمن أهل دارها المؤذن الذي يؤذن لها، فهذا مردود من وجهين:
1 ـ أنه لم يثبت أن مؤذنها يصلي معها مقتدياً بها، فقد يكون يؤذن لها ثم يذهب إلى أحد المساجد فيصلي بها، وصلاة المرأة بالرجال أمر كبير يحتاج إلى دليل قاطع ليس كهذا.
2 ـ أنه جاء الحديث عند الدارقطني بلفظ: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن أن يؤذن لها، ويقام، وتؤم نساءها)[(1106)].
وإذا أمَّت المرأة النساء رضي الله عنها قامت وسطهن، ولا تبرز أمامهن كإمام الرجال، لما ورد عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما أنهما لما أمّتا نساء قامتا بينهن ـ كما تقدم تخريجه ـ ولأن ذلك أستر، والمرأة مطلوب منها الستر، والله تعالى أعلم.
حكم إمامة الأعمى(1/347)
425/29 ـ عَنْ أَنَس رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، يَؤُمُّ النَّاسَ، وَهُوَ أَعْمى. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
426/30 ـ وَنَحْوُهُ لاِبْنِ حِبَّانَ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أنس رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصلاة»، باب «إمامة الأعمى» (595)، وأحمد (19/349) (20/307) من طريق أبي العوام القطان ـ وهو عمران بن داوَر، وهو أعمى ـ حدثنا قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، به.
وإسناده حسن، رجاله ثقات، غير عمران بن داوَر القطان فهو متكلَّم فيه، قال ابن معين: (ليس بالقوي) وقال مرة: (ليس بشيء، لم يرو عنه يحيى بن سعيد)، وقال النسائي: (ضعيف)[(1107)]، وقال أحمد: (أرجو أن يكون صالح الحديث)[(1108)] وقال الدارقطني: (كثير الوهم والمخالفة)[(1109)]. وقال الحافظ: (صدوق يهم)، فمثله يصل حديثه إلى درجة الحسن.
وروى الطبراني في «الكبير» (11/183) من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه، وحسن الحافظ إسناده[(1110)].
وأما حديث عائشة رضي الله عنها، فقد أخرجه ابن حبان (5/506 ـ 507) وأبو يعلى (4456) والطبراني في «الأوسط» (2744) من طريق حبيب المعلم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة يصلي بالناس.
وإسناده صحيح على شرط الشيخين، فهو شاهد قوي لحديث أنس رضي الله عنه.(1/348)
الوجه الثاني: الحديث دليل على صحة إمامة الأعمى حتى بالمبصرين، ويقدم عليهم ما دام أنه أعلم الحاضرين بالقرآن والسنة، وأفضلهم بالتقى والصلاح، قال ابن المنذر: (إمامة الأعمى كإمامة البصير، لا فرق بينهما، وهما داخلان في ظاهر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» فأيهم كان أقرأ كان أحق بالإمامة)[(1111)]، والله تعالى أعلم.
صحة إمامة الفاسق
427/31 ـ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لاَ إِله إِلاَّ اللهُ، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ». رَوَاهُ الدَّارقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (2/56) من طريق عثمان بن عبد الرحمن، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف جدّاً؛ لأن فيه عثمان بن عبد الرحمن الزهري الوقاصي، قال عنه ابن معين: (لا يكتب حديثه، كان يكذب) وقال مرة: (ضعيف)، وقال ابن المديني: (ضعيف جدّاً)، وقال البخاري: (تركوه)[(1112)].
وأخرجه الدارقطني (2/56) ـ أيضاً ـ من طريق أبي الوليد المخزومي، ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، به.
وهذا أضعف من الأول، فإن أبا الوليد ـ وهو خالد بن إسماعيل ـ قال عنه ابن عدي: (كان يضع الحديث على ثقات المسلمين)[(1113)]، وللحديث طرق أخرى كلها واهية جدّاً، وقد جاء بمعناه حديث مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم، برّاً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر» أخرجه أبو داود (594) وفيه انقطاع، فقد قال الترمذي والدارقطني والذهبي وغيرهم: (لم يسمع مكحول من أبي هريرة رضي الله عنه).(1/349)
ولا يصح في هذا الباب شيء، قال الدارقطني: (ليس فيها ما يثبت)[(1114)]، وقال العقيلي: (ليس في هذا المتن إسناد يثبت)، وسئل الإمام أحمد عن حديث ابن عمر هذا فقال: (ما سمعنا بهذا)[(1115)]، وإذا كان الحديث بهذه الصفة فلا تقوم به حجة، وإنما ذكره الحافظ لبيان حاله.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المسلم يُصَلَّى خلفه؛ لأن هذا هو المراد بقوله: «صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله» ، والحديث وإن كان ضعيفاً ـ كما تقدم ـ لكنه معمول به لأدلة أخرى، وظاهر ذلك جواز الصلاة خلف الفاسق؛ لأن كلمة الإخلاص تدل على إسلامه، ولا تدل على عدالته، والمراد بالحديث: من قال: «لا إله إلا الله» عارفاً بمعناها عاملاً بمقتضاها، أما من ظهر منه ما يقتضي كفره فإنها لا تنفعه لا إله إلا الله، كما لم تنفع عبد الله بن أُبي وأشباهه من المنافقين، وهذا أمر معلوم بإجماع المسلمين أن من وجد عنده ناقض من نواقض الإسلام لم تنفعه الشهادتان وإن قال: لا إله إلا الله، وإن صلى وصام، ومثل ذلك عبَّاد الأصنام وعبَّاد القبور لا تنفعهم لا إله إلا الله.
وقد مضى ذكر الخلاف في حكم الصلاة خلف الفاسق وأن الراجح صحتها، مع اعتبار أنه لا ينبغي أن يكون إماماً راتباً؛ لأنه يحرم على من كان مسؤولاً عن اختيار الأئمة تنصيب الفاسق إماماً في الصلوات؛ لأنه مأمور بمراعاة المصالح.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يُصَلَّى على من مات وهو يقول: «لا إله إلا الله»؛ لأنها تدل على أنه مات مسلماً، وفي المسألة استثناءات يذكرها الفقهاء، ولعله يأتي شيء من ذلك في كتاب الجنائز ـ إن شاء الله ـ، والله تعالى أعلم.
مشروعية الدخول مع الإمام على أي حال(1/350)
428/32 ـ عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُم الصَّلاَةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب «الصلاة»، باب «ما ذكر في الرجل يدرك الإمام وهو ساجد كيف يصنع؟» (591) من طريق الحجاج بن أرطاة، عن أبي إسحاق، عن هبيرة بن يَرِيمَ، عن علي رضي الله عنه، وعن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قالا ـ أي علي ومعاذ ـ: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:... فذكر الحديث.
قال الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده إلا ما روي من هذا الوجه)[(1116)].
وذكر الحافظ في «التلخيص» أن في هذا السند ضعفاً وانقطاعاً، فالضعف يتعلق بالحجاج بن أرطاة، قال ابن معين: (صدوق ليس بالقوي، يدلس)، وكذا قال أبو زرعة وأبو حاتم، وقال ابن المديني: (تركت الحجاج عمداً، ولم أكتب عنه حديثاً قط)[(1117)]، وأما الانقطاع فإن ابن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، كما قال ابن المديني والترمذي وابن خزيمة[(1118)].
لكن الحديث له شواهد منها حديث أبي هريرة المتقدم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا...» وفيه: «فما أدركتم فصلوا» ، وإنما ذكر الحافظ رحمه الله حديث علي رضي الله عنه لبيان ضعفه والتنبيه على أن الحكم صحيح وأنه مأخوذ من أدلة أخرى.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المصلي إذا دخل المسجد والإمام في الصلاة فإنه يدخل معه على أي حال كان الإمام في القيام أو الركوع أو السجود أو بين السجدتين، والحديث وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد، منها حديث أبي هريرة وفيه: «فما أدركتم فصلوا..» .
قال الحافظ ابن حجر: (استدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حال وجد عليها)[(1119)].(1/351)
فإن كان الإمام قائماً يقرأ الفاتحة دخل معه بتكبيرة الإحرام، ثم سكت حتى يفرغ من الفاتحة؛ لأنه مأمور بالإنصات، فإذا فرغ الإمام من الفاتحة استفتح واستعاذ وقرأ الفاتحة، فإن لم يمكنه ذلك وشرع الإمام في القراءة اقتصر على الاستعاذة وقراءة الفاتحة دون الاستفتاح؛ لأنه سنة.
وإن كان الإمام في صلاة سرية دخل معه كما تقدم وقرأ، فإن ركع إمامه ترك بقية الفاتحة وركع معه؛ لعموم: «وإذا ركع فاركعوا» ، وإن أدركه في الركوع كبَّر تكبيرة واحدة للإحرام وتجزئ عن تكبيرة الركوع وركع معه، وتحسب له ركعة إذا اجتمع مع إمامه في حدِّ أقل الركوع، وهو قدر ما يَمَسُّ وَسَطُ الخلقة ركبتيه بيديه ولو لم يطمئن، ثم يطمئن ويتابع إمامه، وتجزئه الركعة ولو لم يقرأ الفاتحة، وهذا قول الجمهور، لحديث أبي هريرة: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وتقدم، ولحديث أبي بكرة المتقدم، فإنه لو لم يكن إدراك الركوع مجزئاً لإدراك الركعة مع الإمام لأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم بقضاء تلك الركعة التي لم يدرك القراءة فيها.
وإن أدرك الإمام ساجداً سجد معه بتكبيرة الإحرام، وينحط بغير تكبير؛ لأنه لم يدرك محل التكبير، وقيل: بل يكبر لانحطاطه موافقة لإمامه، وكذا لو أدركه بين السجدتين، لكن لا تحسب له هذه الركعة؛ لأنه لم يدرك الركوع مع إمامه، فإن أدرك إمامه في التشهد فقد مضى ما يفعله المأموم، والله أعلم.
بَابُ صَلاَةِ المسَافِرِ وَالمريضِ
هذا الباب عقده الحافظ رحمه الله للأحاديث المتعلقة بصلاة المسافر والمريض؛ لأن لصلاة المسافر أحكاماً تخصُّها، ولصلاة المريض أحكاماً تخصُّها، فذكر أحاديث القصر والجمع بالنسبة للمسافر، وأحاديث صفة صلاة المريض، وإن كان قد ذكر الأخيرة في باب «صفة الصلاة» لكنه أعادها هنا كما في بعض نسخ «البلوغ».(1/352)
وقصر الصلاة وجمعها للمسافر من محاسن الدين الإسلامي الذي بُنيت أحكامه على اليسر والسهولة، ورفع الحرج والتخفيف عن المكلف متى حصل ما يدعو إلى ذلك، والسفر سبب من أسباب التخفيف؛ لأن السفر قطعة من العذاب[(1120)]، يمنع العبد نومه وراحته وقراره مهما تحسنت وسائل النقل وكان المسافر من أرفه الناس، فإنه في مشقة وجهد في جسمه.
ومن أحاديث هذا الباب وغيره استنبط العلماء قاعدة: «المشقة تجلب التيسير».
ومن حكمة الله تعالى أنه لم يفوّت على عباده مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة، ولم يلزم بها كإلزامه بها في الحضر، فجاءت محققة للغرض وافية بالمقصود، مع تخفيفها وتيسيرها.
وينبغي أن يعلم أن رخص السفر ليست منوطة بالمشقة ولا معلقة بها؛ لأن المشقة وصف غير منضبط، وإنما هي معلقة بالسفر، سواء أكان في سيارة، أم طائرة، أم باخرة، أو غير ذلك.
والسفر في اللغة: قطع المسافة، وسمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافياً منها.
وأما في الاصطلاح: فهو لا يختلف عن معناه اللغوي إلا في تحديد أقلِّ مدةٍ يصدق عليها أن صاحبها مسافر شرعاً، ليأخذ بأحكام السفر، وفي المسألة خلاف سيأتي إن شاء الله.
وكذلك المرض فإنه أحد أسباب التخفيف الظاهرة في الشريعة؛ لأن المرض من أسباب العجز والضعف عن القيام بالتكاليف على الوجه المعتاد في أيام الصحة.
حكم القصر في السفر
429/1 ـ عَنْ عَائشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَوَّلُ مَا فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلاَةُ الْحَضَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ: ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعاً، وَأُقرَّتْ صَلاَةُ السَّفَر عَلَى الأَوَّلِ.
430/2 ـ زَادَ أَحْمَدُ: إِلاَّ المَغْرِبَ فَإنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَإلاَّ الصُّبْحَ، فَإِنَّهَا تُطَوَّلُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ.
الكلام عليهما من وجوه:(1/353)
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديثها الأول، فقد أخرجه البخاري في مواضع، أولها: كتاب «الصلاة»، باب «كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟» (350)، ومسلم (685) (1) من طريق مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر).
وأخرجه البخاري (1090) في كتاب «تقصير الصلاة»، ومسلم (685) (3) من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، به، بلفظ: «وأتمت» مع زيادة: قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: (إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان) وسيأتي ـ إن شاء الله ـ وجه إتمام عائشة رضي الله عنها وأنها كانت تتم؛ لأن ذلك لا يشق عليها.
وأخرجه البخاري (3935) من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، به، بلفظ: (فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم ففرضت أربعاً، وتركت صلاة الفجر على الأول).
ولعل غرض الحافظ من إيراد هذه الرواية أنها صريحة في أن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد الهجرة وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي ركعتين ركعتين منذ أن فرضت الصلاة عليه قبل الهجرة بثلاث سنين إلى أن هاجر، ويؤيد ذلك رواية أحمد الآتية.
وأما حديثها الثاني، فقد أخرجه أحمد (43/167): حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قد فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب، فإنها وتر النهار، وصلاة الفجر لطول قراءتها، قال: وكان إذا سافر صلّى الصلاة الأولى)، فهذا فيه زيادة على أصل الحديث الثابت في «الصحيحين» فيما يخص المغرب والفجر.(1/354)
وهذا الإسناد رجاله ثقات، كما قال الهيثمي[(1121)]، إلا أنه منقطع بين الشعبي وعائشة، فقد قال ابن معين: (ما روى الشعبي عن عائشة فهو مرسل)[(1122)]، وكذا قال أبو حاتم والعلائي[(1123)]، ورواه أحمد ـ أيضاً ـ (43/317) عن عبد الوهاب بن عطاء، عن داود، عن الشعبي، عن عائشة رضي الله عنها بنحوه.
وقد جاء من طريق موصول، أخرجه ابن خزيمة (305)، وابن حبان (2738) من طريق محبوب بن الحسن، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، به.
ومحبوب ضعيف، ضعَّفه النسائي وأبو حاتم، فقال: (ليس بالقوي)، وقال ابن معين: (ليس به بأس)، وقد أخرج له البخاري حديثاً واحداً متابعةً في كتاب «الأحكام»[(1124)].
لكنه لم ينفرد بوصله، فقد تابعه مرجَّى بن رجاء، أخرجه الطحاوي[(1125)]، ورجاله ثقات غير مرجَّى بن رجاء، وقد علق له البخاري[(1126)]، ووثقه أبو زرعة، والدارقطني، وضعفه ابن معين.
وقد أجمع أهل العلم على القول بما في هذه الزيادات على أصل الحديث الثابت في الصحيحين مع إعراض الشيخين عنهما.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين) الفرض في اللغة: القطع والحز والتقدير، يقال: فرض القاضي النفقة: قدرها وحكم بها، وفرضتُ الخشبة: حززتها، واصطلاحاً: بمعنى الواجب عند الجمهور، إلا أن تأثير الفرضية أكثر من تأثير الوجوب وأقوى.
والمعنى أن الصلاة أول ما فرضها الله تعالى ليلة الإسراء كانت ركعتين ركعتين إلا المغرب فهي ثلاث منذ فرضت.(1/355)
قوله: (فأقرت صلاة السفر) أي: بقيت صلاة السفر على الحالة الأولى التي فرضها الله تعالى ركعتين ركعتين، وظاهر هذا أن صلاة السفر لم تكن مقصورة من الأربع، لكن ظاهر القرآن خلاف ذلك، وهو قوله تعالى: {{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}} [النساء: 101] والقصر لا يكون إلا من تمام، وكذا حديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة...» الحديث[(1127)].
والجواب عن ذلك: أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح ـ كما تقدم ـ ولما استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول آية القصر، ويكون معنى قول عائشة رضي الله عنها: (فأقرَّت صلاة السفر) أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت[(1128)].
قوله: (وأتمت صلاة الحضر) وفي رواية لهما: «وزيد في صلاة الحضر» وهي أوضح في الدلالة على المراد، والمراد بذلك الزيادة في عدد ركعات الظهر والعصر والعشاء، كما يدل عليه حديث عائشة ـ كما تقدم ـ.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن صلاة السفر والحضر قبل الهجرة كانت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر، فصارت الظهر والعصر والعشاء أربعاً؛ لأن الحضر موضع الراحة والاستقرار، ومن فضل الله على عباده أن زادهم ركعتين، لما فيهما من الأجر العظيم والخير الكثير.
أما المغرب فهي ثلاث منذ فرضت لتكون وتر النهار، والفجر ركعتان، وقد ثبتت على ما فرضت عليه، لطول القراءة فيها.(1/356)
الوجه الرابع: استدل بحديث عائشة رضي الله عنها من قال بوجوب القصر في السفر، ووجه الاستدلال: أن قولها: (فرضت) بمعنى: وجبت، فإذا كانت صلاة السفر مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها؛ لأن الله تعالى زاد صلاة الحضر دون صلاة السفر. وهذا قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهو قول ابن حزم[(1129)]، وآخرين، واختاره الصنعاني[(1130)] والشوكاني[(1131)].
كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلّم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة)[(1132)].
كما استدلوا بحديث يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: {{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}} [النساء: 101] فقد أَمِنَ الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»[(1133)].
فهذا يدل على وجوب القصر؛ لأنه أمر بقَبول هذه الصدقة، وهي القصر، وهذا أمر مطلق فيحمل على الوجوب.
والقول الثاني: أن القصر مستحب وليس بواجب، وهو قول عامة أهل العلم ـ كما يقول ابن تيمية ـ ومنهم الشافعي، ومالك، وأحمد في المشهور عنه[(1134)]، واختاره الشيخ عبد العزيز بن باز، وقال ابن تيمية: (القصر أفضل، والإتمام مكروه)، وهو رواية عن الإمام أحمد[(1135)].
واستدلوا بقوله تعالى: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}} [النساء: 101] .
ووجه الدلالة: أن الآية نفت الجناح ـ وهو الإثم ـ عمن قصر الصلاة، وهذا دليل على الإباحة، كما يستفاد من الآيات الأخرى التي ورد فيها نفي الجناح.(1/357)
كما استدلوا بحديث يعلى المتقدم، ووجه الدلالة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سَمَّى التخفيف من عدد الركعات: صدقة، فدل على أنها صدقة وفضل وتخفيف من الله تعالى، والصدقة لا يجب قبولها، بل يجب قَبول العزمات، ولو كان القصر واجباً لما قال عنه: إنه صدقة، بل قال: عزمة من عزمات ربنا أو نحو ذلك مما يدل على وجوب القبول، ثم إن أول الحديث يدل على ذلك، وهو قوله: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم» ، أي: تفضّل بإباحة ما كان ممنوعاً قبل ذلك، فيكون آخره تأكيداً لأوله[(1136)].
القول الثالث: أن المسافر مخير إن شاء أتم وإن شاء قصَّر، وعزاه ابن المنذر للشافعي وأبي ثور، وقال ابن الملقن: (إنه وجه للشافعية)[(1137)].
واستدلوا بما سيأتي من فعل عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتم وتقصر، كما استدلوا بفعل عثمان رضي الله عنه حيث كان يقصر صدراً من خلافته، ثم أتمها أربعاً[(1138)]، وكذا من خلفه كابن مسعود رضي الله عنه.
وهذا القول لا يخلو من ضعف؛ لأن التسوية بين القصر والإتمام منقوضة باستمرار الرسول صلّى الله عليه وسلّم على القصر، ولم ينقل عنه أنه أتم ـ كما تقدم ـ ثم إن ابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه أن عثمان صلّى بمنى أربع ركعات قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان)[(1139)].
ولو كان المسافر مخيراً لما استرجع ابن مسعود رضي الله عنه من الأمر الجائز، لكنه استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر، أو يقال: إنه استرجع لترك الأَوْلى.
هذا وقد ذكر ابن القيم عدة أعذار لإتمام عثمان رضي الله عنه، وتعقبها، ثم ذكر أن من أحسنها أن عثمان كان قد تأهَّل بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة فإنه يتم[(1140)].(1/358)
والناظر في الأدلة المتقدمة يتبين له أن الأحوط للمسافر ألا يدع القصر، اقتداءً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وخروجاً من خلاف من أوجبه، فإن القول بالوجوب قوي، لكنه قد يشكل عليه إتمام بعض الصحابة، كما تقدم، فإنه لو كان القصر واجباً ما أتم أحد منهم، ولأنكر بعضهم على بعض ترك الواجب، مما يدل على أنهم ما فهموا الوجوب، ولهذا رجَّح الشيخ عبد العزيز بن باز القول بالاستحباب بناءً على ذلك، والله تعالى أعلم.
جواز القصر والإتمام في السفر لأفراد الأمة
431/3 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَقْصُرُ في السَّفَرِ وَيُتِمُّ، وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مَعْلُولٌ.
وَالمَحْفُوظُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ فِعْلِهَا، وَقَالَتْ: إنَّهُ لاَ يَشُقُّ عَلَيَّ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (2/189) من طريق سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمرو بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها، به.
وقال الدارقطني: (هذا إسناد صحيح)، وذكر الحافظ ـ هنا ـ أن رواته ثقات، وابن ثواب لم يوثقه إلا ابن حبان[(1141)]، وقول الحافظ : (إلا أنه معلول) أي: مع أن رجاله ثقات إلا أنه معلول، أي: فيه سبب خفي طرأ على الحديث فقدح فيه، قال الحافظ: (قد استنكره أحمد[(1142)]، وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم، وذكر عروة أنها تأولت كما تأول عثمان، كما في الصحيح، فلو كان عندها عن النبي رواية ـ أي في الإتمام كما هنا ـ لم يقل عروة عنها: إنها تأولت، وقد ثبت في «الصحيحين» خلاف ذلك)[(1143)]، أي إن عندها رواية أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين... كما تقدم.(1/359)
وقال ابن القيم عن حديث الباب: (لا يصح، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)[(1144)]، فيكون ذكر الإتمام في هذا الحديث شاذّاً، وما يقابله هو المحفوظ، والمحفوظ أن الإتمام كان من فعل عائشة رضي الله عنها، لما أخرجه البيهقي في «سننه» (3/143) من طريق شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت: لو صليتِ ركعتين؟ فقالت: (يا ابن أختي، إنه لا يشق عليَّ).
وهذا إسناد صحيح[(1145)]، وهو يدل على أن عائشة رضي الله عنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل، فيكون إتمامها باجتهاد منها، ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أتم لكان إتمامها اتباعاً لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم تكن بحاجة إلى تأويل إتمامها. وقد خالفها أكثر الصحابة، فرأوا القصر مشروعاً مع المشقة وعدمها، على أن شيخ الإسلام ابن تيمية رد ذلك وقال: (هذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم...)[(1146)]، وقد تقدم ما يدل على أنها أتمَّت بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقصر الصلاة الرباعية وكان يتمها أربعاً، وأنه كان يصوم رمضان في السفر، وكان يفطر.(1/360)
وتقدم أن ذكر الإتمام شاذ مخالف لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أتم الرباعية في السفر قط، ويؤيد ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إني صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}} [الأحزاب: 21] )[(1147)]، وفي رواية: (وعثمان ركعتين صدراً من خلافته، ثم أتمها أربعاً)، وقد تقدم الإشارة إلى وجه إتمام عثمان رضي الله عنه، والله أعلم.
استحباب إتيان الرخص ومنها القصر
432/4 ـ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حبَّانَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (10/112)، وابن خزيمة (950)، وابن حبان (6/451) من طريق عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً.
وأخرجه أحمد (10/107) بهذا الإسناد، بإسقاط حرب بن قيس، مع أن ابن حبان رواه من طريق قتيبة بن سعيد شيخ أحمد فيه، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن حرب بن قيس، عن نافع، كما تقدم.
والحديث صحيح على شرط مسلم، إلا حرب بن قيس، وقد نقل البخاري عن عمارة بن غزية أنه قال: إنه كان رِضَى[(1148)]، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(1149)]، وأما الرواية المذكورة فقد أخرجها ابن حبان (8/333) بالإسناد المذكور.(1/361)
والحديث له شواهد منها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه»[(1150)].
وله شواهد أخرى من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع، رضي الله عنهم أجمعين[(1151)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إن الله يحب) المحبة من صفات الله تعالى الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وهي محبة حقيقية تليق بالله تعالى، قال تعالى: {{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}} [المائدة: 54] ، وأما تفسيرها بالثواب أو بالرضا ونحو ذلك، فهذا تعطيل؛ لأنه خلاف ظاهر النصوص، وخلاف طريقة السلف، وليس عليه دليل.
قوله: (أن تؤتى رخصه) أي: تُفعل، والرخص: جمع رخصة، وهي تخفيف الحكم الأصلي، دون إبطال العمل به؛ كالقصر والفطر في حق المسافر ـ مثلاً ـ.
قوله: (كما يكره) الكراهة من الله تعالى لمن يستحقها ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، قال تعالى: {{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}} [التوبة: 46] ، وهي كراهة حقيقية من الله تليق به، على ما تقدم.
قوله: (أن تؤتى معصيته) أي: مخالفة أمره وارتكاب نهيه.
وقد شبه الرسول صلّى الله عليه وسلّم محبةَ اللهِ إتيانَ رخصه بكراهته إتيانَ المعصية، وذلك ـ والله أعلم ـ دليل على أن في ترك إتيان الرخصة تركَ طاعةِ الله تعالى، كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية، فيكون ترك الطاعة بعدم الأخذ بالرخصة كترك الطاعة بفعل المعصية.
قوله: (عزائمه) جمع عزيمة، وهي الحكم الثابت أصلاً دون ملاحظة التخفيف؛ كالصوم في السفر، وإتمام الصلاة، ونحو ذلك.(1/362)
الوجه الثالث: الحديث دليل على إثبات الرخصة في الشريعة الإسلامية، وهي مبنية على العذر والتخفيف واليسر والسهولة ورفع الحرج والإثم عن المكلف، وحكمها الإباحة مطلقاً، إذ لو كانت مأموراً بها لكانت عزائم، والحاصل أنها رخص، وما ورد من الأمر ببعض الرخص كالأكل من الميتة في المخمصة فذلك من دليل آخر.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يأخذوا برخصه، لما فيها من التيسير والتسهيل عليهم، كما يكره أن تؤتى معصيته بترك واجب أو فعل محرم، لما في ذلك من الاستهانة بأحكام شرعه، وكلها عزائم، فالواجبات عزائم من الله تعالى لفعلها، والمحرمات عزائم من الله تعالى لتركها، ومن الرخص رخص السفر من القصر، والفطر، والجمع عند الحاجة إليه.
الوجه الخامس: استدل بهذا الحديث من قال: إن القصر رخصة وليس بعزيمة، ولعل الحافظ ساقه مع أحاديث القصر لهذا الغرض، وهو تابع في ذلك لابن خزيمة، فإنه ساقه مع أحاديث القصر، وهكذا ابن بلبان في ترتيبه «صحيح ابن حبان»، كما سبقه إلى ذلك المجد ابن تيمية[(1152)]، وابن عبد الهادي[(1153)]، والله أعلم.
المسافة التي تقصر فيها الصلاة
433/5 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ فَرَاسِخَ، صَلّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم (691) في كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» من طريق شعبة، عن يحيى بن يزيد الهُنائي، قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن قصر الصلاة، فقال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ـ شعبة الشاك ـ صلّى ركعتين).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/363)
قوله: (إذا خرج...) أي: إذا توجه من المدينة مسافراً قاصداً هذه المسافة، وليس المراد أنه لا يقصر في سفره الطويل إلا إذا بلغ هذه المسافة؛ لأن أنس بن مالك رضي الله عنه أجاب به من سأله عن خروجه من البصرة إلى الكوفة: أيقصر الصلاة؟ وقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن لمريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت قريته؛ يعني وإن لم يتجاوز ثلاثة أميال أو فراسخ[(1154)].
قوله: (ثلاثة أميال) جمع ميل، وهو مسافة مد البصر، وسميت الأعلام التي توضع في الطرق أميالاً؛ لأنها توضع على مقادير مدّ البصر من الميل إلى الميل، والميل: أربعة آلاف ذراع، والذراع: 46.2سم، وأما الفرسخ: فهو ثلاثة أميال، وثلاثة فراسخ: تسعة أميال.
فعلى القول بأن الميل أربعة آلاف ذراع، يكون الميلُ = 1848 متراً، وثلاثةُ الأميال = 5.544 كيلومتر.
وقد حصل الشك من الراوي وهو شعبة، والاحتياط هو الأخذ بالفراسخ؛ لأنها أكثر، ولحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلّى العصر بذي الحليفة ركعتين[(1155)]، وذو الحليفة: تبعد عن المدينة حوالي ستة أميال، كما ذكر الحافظ[(1156)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسافة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة، وقد نسب الحافظ الأخذ بهذا الحديث إلى الظاهرية[(1157)]، مع أن ابن حزم ذكر أن مسافة القصر ميل واحد[(1158)]، وأجاب عن هذا الحديث بأنه ليس فيه دليل على المنع من القصر فيما هو أقل من ثلاثة أميال.
وقد اختلف العلماء في المسافة التي يصدق على صاحبها أنه مسافر شرعاً ليأخذ برخص السفر، على أقوال كثيرة، بلغت قريباً من عشرين قولاً.
ولعل سبب الخلاف أمران:
الأول: إطلاق لفظ السفر في القرآن والسنة حيث لم يحدد ذلك في مسافة معينة.(1/364)
الثاني: اختلاف المسافات والمدد التي قصر فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك الاختلاف الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم.
فذهب الجمهور، ومنهم: المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن مسافة القصر أربعة برد[(1159)]، وهي مسافة يومين، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي ـ إن شاء الله ـ، وبفعل ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم[(1160)]، لكن ورد عنهما ما يخالف ذلك، كما ذكر ابن قدامة[(1161)]، ثم إن ذلك مخالف لظاهر القرآن وسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم، واختلف في تحديدها بالكيلو، لكن على القول بأن الميل = 1848 متراً، والبريد أربعة فراسخ، 4×4 = 16×3 ميل = 48 ميلاً×1848 = 88.704 كيلومتر.
والقول الثاني: أن مسافة القصر ثلاثة أميال، كما تقدم.
والقول الثالث: أن السفر لا يحدد بمسافة معينة، بل كل ما يسمى سفراً في العرف تقصر فيه الصلاة، وما ورد من ذكر مسافات معينة ـ كحديث الباب ـ فهو من باب التمثيل لا التحديد، قال ابن تيمية: (وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو أصح الأقوال في الدليل)[(1162)]، واختاره ابن قدامة[(1163)]، وابن القيم[(1164)]، ومما يؤيد ذلك:
1 ـ أن الله تعالى قال: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}} [النساء: 101] ، فدلت الآية على إباحة القصر لمن كان ضارباً في الأرض ـ والضرب في الأرض: هو المشي فيها لقطع المسافة ـ والشرع لم يحدد مقدار الضرب في الأرض مع حاجة الناس إلى ذلك، وليس له حد في اللغة يرجع إليه، فدل على أنه يرجع فيه إلى العرف.
2 ـ أن التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، لا سيما وأنه ليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، وما ورد في ذلك مختلف، وبعضه يعارض بعضاً، وما كان كذلك فلا حجة فيه، إذ ليس الأخذ ببعضه بأولى من البعض الآخر.(1/365)
3 ـ أن تحديد السفر بمسافة معينة يستلزم تكليف الناس بمعرفة مسافات الطرق التي يسلكونها، وهذا فيه مشقة على كثير من الناس، لا سيما الطرق التي لم تسلك من قبل، ومقدار المسافات لا يعرفه إلا خاصة الناس.
فالمقصود أنه ليس هناك نص صريح في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فتكون من الأمور الاجتهادية التي يرجع فيها إلى العرف، طالت المسافة أم قصرت.
إلا أنه قد يشكل على ذلك اختلاف الناس فيما بينهم فيما يعد سفراً، لكن قد يقال: إن المسافات الطويلة كمائتي كيل ونحوها لا إشكال فيها، إذ لا يختلف الناس أن ذلك سفر، حتى ولو رجع المسافر من هذه المسافة من يومه، فإن من قطع مسافة طويلة ثم رجع في يومه فهو مسافر، كما لو سافر من بريدة إلى الرياض ـ مثلاً ـ ورجع من يومه.
وعلى هذا فلا عبرة بطول الزمن وقصره في ضابط السفر، وإنما المعتبر المسافة التي تعد في العرف سفراً؛ لأن من وسائل النقل في هذا الزمان ما يقطع المسافات الطويلة في زمن يسير.
وأما ما هو أقل من ذلك فيمكن أن يضبط ببعض الأوصاف العرفية مثل حمل الزاد والمزاد إذا ضرب في الأرض، قال ابن سيرين: (كانوا يقولون: السفر الذي تقصر فيه الصلاة الذي تحمل فيه الزاد والمزاد)[(1165)]، مع أن هذا الوصف لا يكفي وحده لإثبات السفر، ولا سيما في زماننا هذا، حيث انتشرت مراكز التسوُّق على الطرق الطويلة، إلا أن أهل العرف يستدلون به مع أوصاف أخرى على السفر، ومنها الانقطاع والغَيبة إذا كان سببها بُعد الطريق أو وعورته أو اضطرار المسافر إلى المبيت في المكان الذي قصده.
فإن أشكل الأمر، فإما أن يؤخذ بتقدير المسافة وهي بضعة وثمانون كيلاً، أو يؤخذ بالأصل، وهو الإتمام على القول بأن القصر رخصة.(1/366)
الوجه الرابع: لا فرق في السفر المبيح بين سفر الطاعة؛ كالحج والعمرة، وطلب العلم، ونحو ذلك، والسفر المباح؛ كالخروج لنزهة أو صيدٍ أو نحو ذلك، على ما اختاره ابن قدامة[(1166)]، وذلك لأنه سفر مباح، فهو داخل في عموم النصوص الدالة على مشروعية قصر الصلاة للمسافر.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه لا يجوز قصر الصلاة لمن أراد السفر قبل الخروج من بلده، لقوله: (إذا خرج) فدل على أن القصر مبدؤه من بعد الخروج من البلد بالنسبة لأهل العمران، أو من مفارقة خيام قومه إن كان من أهل الخيام، وهو ما عبر عنه الفقهاء بقولهم: (إذا فارق العمران)، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعيتن)[(1167)]، وقد بوّب عليه البخاري: «بابٌ يقصر إذا خرج من موضعه».
قال ابن المنذر: (لا نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قصر في شيء من أسفاره إلا بعد خروجه عن المدينة)[(1168)].
وعلى هذا فلا يجوز القصر في البلد ولو كان ناوياً السفر، ولا في أطراف البلد، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأن الأصل هو الإتمام، فيبقى على ما كان عليه حتى يثبت له القصر؛ لأن هذا الشخص ليس مسافراً بل يريد السفر، والقصر مشروط بالضرب في الأرض، كما في الآية الكريمة، والضرب في الأرض معناه: المشي في الأرض لقطع المسافة، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض؛ لأنه لم يسافر؛ لأن السفر هو البروز والظهور، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
ما جاء في أن المسافر يقصر حتى يرجع ما لم يعزم على الإقامة
434/6 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ؛ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/367)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «تقصير الصلاة»، باب «ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر؟» (1081)، ومسلم (693) من طريق يحيى بن أبي إسحاق، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه يقول:... فذكره، وفي آخره قال: (أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً)، وفي رواية لمسلم: (خرجنا من المدينة إلى الحج...) وذكر مثله.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المسافر يقصر الصلاة بعد خروجه من بلده ويستمر على ذلك حتى يرجع إلى بلده، ما لم يقطع ذلك السفر ويعزم على الإقامة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الحجاج يقصرون بمكة ومنى وعرفة وإن كانت إقامتهم في هذه النواحي المتجاورة أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن أنساً رضي الله عنه ذكر إقامتهم عشرة أيام، ومعلوم أن العشرة أيام لم تكن كلها بمكة، كما هو ظاهر اللفظ، وإنما مراده: مكة وما حواليها.
وقد نقل المجد ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال: (إنما وجه حديث أنس أنه حَسَبَ مقام النبي صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا، واحتج بحديث جابر...)[(1169)].
وهذا القصر بالنسبة للآفاقيين واضح؛ لأنهم مسافرون، وإنما الإشكال في قصر أهل مكة، والصواب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (أنهم إنما قصروا لأجل سفرهم لا لأجل النسك، ولهذا لم يكونوا يقصرون بمكة وإن كانوا محرمين)[(1170)].
وذلك لأنهم برزوا وقطعوا تلك المسافة وتزوَّدوا وباتوا وغابوا، وهذه من أوصاف السفر، وإلا فإن الإنسان قد يذهب من مكة إلى عرفة في ذلك الوقت لغرض ويرجع من ساعته أو يومه ولا يُعدُّ مسافراً.
وقد وقع الخلاف بين العلماء في مدة الإقامة التي إذا أقامها أثناء سفره يأخذ حكم السفر وسبب الخلاف ـ كما يقول ابن رشد[(1171)] ـ أن الزمن أمر مسكوت عنه في الشرع، ولهذ استدل كل فريق بحال من الأحوال التي نقلت عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه أقام فيها وقصر الصلاة.(1/368)
الوجه الرابع: استدل جمهور العلماء ومنهم: مالك، والشافعي، وأحمد[(1172)] بهذا الحديث على أن المسافر إذا أقام لانتظار حاجة مقيدة بمدة معينة أنه يقصر إذا كانت إقامته أربعة أيام فما دونها أو إحدى وعشرين صلاة، وما زاد عن ذلك فإنه يتم لخروجه عن حكم المسافر، وهذا هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة صبيحةَ رابعةٍ من ذي الحجة؛ لأنه صلّى الفجر بذي طوى قبل إقامته بالأبطح، فأقام بها اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلّى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى وصلّى بها الظهر، وخرج من مكة متوجهاً إلى المدينة بعد أيام التشريق كما ثبت في «الصحيحين»، فيكون أقام بالأبطح خمسة أيام متوالية منها ثلاثة تامة، ويومان ناقصان، وهما يوم الدخول وهو الرابع، ويوم الخروج وهو الثامن، وبهذا يتبين أن الجمهور يعدون اليوم الرابع من ذي الحجة مع أيام الإقامة، فتكون أربعة، ولا يعدون اليوم الثامن مع أن صلاة الفجر في اليوم الرابع وصلاة الظهر في اليوم الثامن فُعلتا في غير مكان الإقامة، وعليه فالأظهر أن الأيام ثلاثة لا أربعة، والصلوات عشرون لا إحدى وعشرون.
قالوا: فإقامته صلّى الله عليه وسلّم بالأبطح قبل الحج إقامة مقصودة قبل فعلها، ومحددة البداية والنهاية، وهي أطول إقامة فعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الوصف، فيكون عليها مدار الحكم في تحديد مدة إقامة المسافر في سفره.
وذلك أن القصر لا يجوز إلا لمن ضرب في الأرض، ومفهوم ذلك أن من توقف ضربه فقد امتنع قصره؛ لأنه لما فُقد الشرط فُقد المشروط، لكن هذه المدة ـ وهي الثلاثة الأيام ـ وجد لها مخصص من حكم الإقامة، فثبت جواز القصر فيها.(1/369)
قالوا: ويؤيد ذلك ما رواه العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث للمهاجر بعد الصَّدَر» [(1173)]، قال ابن حجر: (يستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر)[(1174)]، فدل ذلك على أن ثلاثة الأيام في حكم السفر، وما زاد على ذلك فهو في حكم الإقامة.
وهذا القول بالتحديد فيه احتياط، وقد سئل الإمام أحمد: لِمَ لم يقصر من زاد على ذلك ـ أي على أربعة أيام ـ؟ قال: (لأنهم اختلفوا، فيؤخذ بالأحوط).
ونوقش هذا التحديد بأمرين:
الأول: أنه لو كانت هذه هي مدة القصر لبيَّنها النبي صلّى الله عليه وسلّم أوضح بيان، كما جاء بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالأيام؛ كمدة المسح على الخفين، والعِدَدِ، وأيام الصيام، والكفارات، وغير ذلك مما حاجة الناس إليه أقل بكثير من الحاجة لمدة القصر، فهذا يدل على أن أعداد الأيام غير مراد، قال ابن تيمية: (ولو كان هذا حدّاً ناقلاً بين المقيم والمسافر لبيَّنه للمسلمين)[(1175)].
الثاني: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر من جاء قبله بيوم أو أكثر بالإتمام؛ لكونه زاد على أربعة أيام[(1176)]، مع حاجة الجمع الكثير معه إلى فقه هذه المسألة، وقد يقال: إن من المقرر في الأصل أن الأفعال لا عموم لها، فيجب الاقتصار على دلالة ما فعله، دون أن يُحتج به على ما لم يفعله.
القول الثاني: أن الإقامة تحدد بعشرة أيام[(1177)]، أخذاً بهذا الحديث؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقام عشرة أيام في مكة في حجة الوداع، فأدخلوا إقامته صلّى الله عليه وسلّم في منى وفي عرفة، وهذا القول وإن كان له قوته وله وجاهته ـ كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز[(1178)] ـ، لكن الجمهور جعلوا توجهه من مكة إلى منى شروعاً في السفر؛ لأنه توجه إلى منى ليؤدي مناسك الحج، ثم يسافر إلى المدينة.(1/370)
والقول الثالث: أن المرجع في ضابط الإقامة التي ينقطع بها حكم السفر إلى العرف، فمن أقام إقامة عرفية فقد انقطع سفره وانتهى ترخّصه، ودليل ذلك أنه لم يأت في الكتاب والسنة ما يدل على التحديد، وما ورد من ذلك مختلف لا يصلح لتحديد معين؛ لأنها وقائع عينية غير مقصودة، بل وقعت اتفاقاً، لا تصلح أن يستدل بها على التحديد.
وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية[(1179)]، وهو الذي يفهم من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب[(1180)].
يقول ابن تيمية: (ومن ذلك أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر، ولم يفرق بين مقيم ومقيم)، وقال: (ما أطلقه الشارع يُعمل بمطلق مسماه ووجوده، ولم يجز تقديره بمدة)[(1181)]، وقال: (وأما من تبينت له السنة وعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحدَّ السفر بزمان أو مكان، ولا حد الإقامة أيضاً بزمن محدد لا ثلاثة ولا أربعة ولا اثنا عشر ولا خمسة عشر، فإنه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل...)[(1182)].
ويؤيد ذلك ما يلي:
1 ـ أن الشيخ ذكر أن المرجع إلى العرف في كل شيء لم يرد له حد في الشرع ولا في اللغة، ولا ريب أن الإقامة من هذا النوع إن لم نأخذ بحديث الباب.
2 ـ أنه اعتبر في فتاواه أموراً عرفية، فقد أفتى ملاّح السفينة إذا كان معه امرأته وجميع مصالحه، وكذا الأعراب الذين يشتّون في مكان ويصيِّفون في مكان، أن هؤلاء لا يترخّصون حال إقامتهم.
وعلى هذا فالقول بإرجاع الإقامة إلى العرف وجيه جدّاً، لما تقدم من أن كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يسألون عن سبب ترخّصه في أوقات مسيره ونزوله، ولم يضع لهم ضابطاً معيناً مما يدل على أنه أمر معروف عندهم عرفاً.(1/371)
ثم إن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية ـ كما يظهر من الخلاف ـ لعدم وجود نص صريح سالم من المعارض، وعليه فمن أخذ بتحديد الإقامة بأربعة أيام فله سلف في ذلك وهم الجمهور، وفي ذلك احتياط كما تقدم، ومن رأى أن المرجع في ضابط الإقامة إلى العرف كضابط السفر فحسن، ولا يؤثر على هذا الاعتبار أن الناس قد يختلفون عرفاً في تحديد الإقامة؛ لأننا نقول:
1 ـ أن اختلاف الناس لا يلغي الاعتداد بالعرف، وإلا لم يردَّ الشارع الناس إليه بمسائل كثيرة.
2 ـ أن أهل العلم بالشرع وواقع الحياة هم الذين يحددون ما يُختلف فيه.
3 ـ وما قد يشكل يرجع فيه إلى تحديد المدة بأربعة أيام، كما هو قول الجمهور، أو إلى الأصل وإلغاء الوصف الطارئ.
أما الذين يقيمون خارج بلادهم للدراسة أو لغيرها مما يستدعي إقامتهم في تلك البلاد مدة طويلة فهؤلاء على القول الراجح يجب عليهم الإتمام والصيام، وليس لهم حكم المسافر.
أما على القول بأن مدة الإقامة أربعة أيام فالأمر واضح، وهذا رأي الشيخ عبد العزيز بن باز[(1183)]:
وأما على القول بأن المرجع في تحديد الإقامة إلى العرف فلا ريب أن هؤلاء مقيمون بقطع السفر، ووجود نية الإقامة المستمرة مدة طويلة، ولصلاحية المكان الذي قصدوه للإقامة، وكل منهم معه جميع مصالحه مما يحتاجه المقيم، ومنهم من تكون معه زوجته وأولاده، وهذه أوصاف المقيم لا المسافر، وعلى هذا فالقول بأنهم يتمون ولا يقصرون، ويصومون ولا يفطرون قوي جدّاً، بل هم أكثر استقراراً ممن كان في البحر معه امرأته وجميع مصالحه، ومع ذلك قال الإمام أحمد عنه: (إنه عندي لا يقصر)[(1184)]، وكذلك أفتاه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا يقصر ولا يفطر، والله تعالى أعلم.
حكم من أقام لحاجته ولم يُجْمِعْ إقامة معينة(1/372)
435/7 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ. وَفِي لَفْظٍ: بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ. وَفِي لَفْظٍ: بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْماً. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُدَ: سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَفِي أُخْرَى: خَمْسَ عَشْرَةَ.
436/8 ـ وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه ثَمَانِيَ عَشْرَةَ.
437/9 ـ وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: «أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْماً يقْصُرُ الصَّلاَةَ». وَرُوَاتُهُ ثِقاتٌ؛ إِلاَّ أَنَّهُ اختُلِفَ فِي وَصْلِهِ.
الكلام عليها من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب «تقصير الصلاة» باب «ما جاء في تقصير الصلاة، وكم يقيم من يقصر؟» (1080) من طريق عاصم وحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما... فذكره، وقال: (فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا).
واللفظ الثاني عنده في كتاب «المغازي»، باب «مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة زمن الفتح» (4298)، من طريق عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولعل الحافظ أورد هذا اللفظ؛ لأن فيه تعيين محل الإقامة وأنه بمكة.
وأما رواية أبي داود الأولى فهي من طريق حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (سبع عشرة)، وإسنادها صحيح على شرط البخاري، لكن رواية البخاري: (تسع عشرة) أرجح منها، وإلى هذا أشار أبو داود بعد سياق هذه الرواية، أو يصار إلى الجمع بينهما، فيكون من قال: سبعة عشر يوماً لم يعدَّ يوم الدخول ويوم الخروج[(1185)].
وأما روايته الثانية فهي من طريق محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (خمس عشرة).(1/373)
وهذه الرواية ضعّفها النووي، وذلك لأن فيها محمد بن إسحاق، وهو صدوق مدلس، وقد عنعن[(1186)]، لكن رد عليه الحافظ بأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي[(1187)] من رواية عراك بن مالك، عن عبيد الله كذلك[(1188)]، ومع ذلك فرواية البخاري أرجح على ما تقدم.
وأما حديث عمران رضي الله عنه، فقد أخرجه أبو داود (1229) من طريق علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين، قال: (غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: «يا أهل البلد، صلوا أربعاً، فإنا قوم سَفْر» ).
وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه علي بن زيد بن جُدْعان، قال عنه الإمام أحمد: (ليس بشيء)[(1189)]، وقد ضعف الحديث النووي[(1190)]، والحافظ ابن حجر[(1191)].
وأما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود (1235) من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر رضي الله عنه، به.
وقول الحافظ: (رواته ثقات إلا أنه اختلف في وصله) يشير إلى قول أبي داود عَقِبَهُ: (غَيْرُ مَعْمَرٍ لا يُسنده)، والمعنى أنه لم يرو هذا الحديث متصلاً إلا معمر بن راشد، وقد خالفه علي بن المبارك فرواه عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن ثوبان، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، مرسلاً، رواه ابن أبي شيبة (2/454).
قال النووي: (الحديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ومسلم، ولا يقدح فيه تفرد معمر، فإنه ثقة حافظ، فزيادته مقبولة)[(1192)].
وهذا فيه نظر؛ لأمرين:
الأول: أن أبا داود أراد بقوله: (غير معمر لا يسنده) إعلال الحديث، ولا يخفى على مثله ـ وهو من أئمة هذا الفن ـ أن معمراً ثقة، ومع ذلك أعله بالتفرد بالوصل، فالرد عليه بأن معمراً ثقة لا يكفي.(1/374)
الثاني: أن الظاهر عند التأمل ترجيح رواية علي بن المبارك وهي الإرسال؛ لأن روايته عن يحيى بن أبي كثير مقدمة على رواية غيره، حاشا رواية هشام الدستوائي والأوزاعي، قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح: (عليُّ بن المبارك ثقة، كانت عنده كتب، بعضها سمعها من يحيى بن أبي كثير، وبعضها عرض)[(1193)]، وقال ابن عدي: (ولعليٍّ أحاديث، وهو ثبت في يحيى مقدم فيه)[(1194)].
الوجه الثاني: هذه الأحاديث فيها دليل على أن المسافر إذا أقام في مكانٍ ما إقامة غير مقصودة ولا يعلم نهايتها، بل إن حاله وواقعه اقتضى أن يقيم فله أن يقصر ما أقام أبداً، ولا يتقيد ذلك بمدة معينة.
وهذا مذهب مالك، والشافعي ـ في أحد الأقوال ـ وأحمد وأبي ثور، والقول الثاني للشافعية: أنه يقصر إلى ثمانية عشر يوماً فقط، وهو المشهور عندهم، والقول الثالث: إلى تمام أربعة أيام فقط[(1195)].
والظاهر أن التحديد في مثل هذه الأحوال والأوصاف غير وجيه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقام في مكة عام الفتح وفي تبوك إقامة طارئة غير مقصودة، وغير معلومة البداية ولا محددة النهاية، وإنما اقتضتها مصالح الجهاد وتأسيس قواعد الإسلام وإزالة آثار الشرك، فهو صلّى الله عليه وسلّم لم ينو مدة معلومة، وعليه فلا يصح في ما ورد في ذلك أن يقال فيه: إنه أقل مدة للقصر أو أقصى مدة للإقامة، بل يقال: كل من أقام مدة غير معلومة فإن إقامته لا تكون قاطعة للسفر.
ويقاس على ذلك كل من قدم إلى بلد لقضاء عمل معين لا يدري متى ينتهي؛ كمن نزل بلداً لتجارة أو مرافعة أو ملازمة غريم أو زيارة أو نزهة أو مراجعة الجهات الحكومية أو الأهلية، ونحو ذلك مما لا يعتبر المسافر معها قاطعاً لسفره.(1/375)
فالذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه لا توقيت للقصر بشيء من المدة المختلفة التي أقامها الرسول صلّى الله عليه وسلّم في أسفاره في بعض المواطن، مثل إقامته في مكة وتبوك، فإن ذلك واقع على ما اقتضاه الحال من الحاجة إلى تلك المدة التي أقامها، ولو دعت الحاجة إلى الزيادة عليها لاستمر القصر إلى فراغه، فهي إقامات وقعت اتفاقاً، وما وقع اتفاقاً لا يصح أن يكون حدّاً كما هو معلوم، وهذا ما فهمه عنه بعض أصحابه رضي الله عنهم، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وكان يقول: (إذا أزمعت إقامة أُتم)[(1196)].
فقد بقي ابن عمر هذه المدة يقصر؛ لأنه لم يقصد الإقامة بل كان مكرهاً عليها؛ لأنه حاصره الثلج فمنعه من السفر، ودلَّ قوله ذلك على أن المسافر يقصر ما لم يعزم على الإقامة.
وبهذا يتم الجمع بين ما اختلف من الروايات في مدة إقامته صلّى الله عليه وسلّم، وأن الصواب أن مدة الإقامة غير محددة بأيام معينة، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
حكم الجمع بين الظهر والعصر في السفر
438/10 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة الْحَاكِمِ فِي «الأَرْبَعِينَ» بِإِسْنَاد الصَّحِيح: صلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، ثُمَّ رَكِبَ.
وَلأَبِي نُعَيْمٍ فِي «مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ»: كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ، فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً، ثُمَّ ارْتَحَلَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/376)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «تقصير الصلاة»، باب «يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس» (1111، 1112)، ومسلم (704) من طريق المفضل بن فضالة، عن عُقيل بن خالد بن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس رضي الله عنه، به.
والحديث بهذا السياق (صلّى الظهر ثم ركب) يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى جمع تقديم، وإنما في وقت الثانية، وهو دليل من منع جمع التقديم ـ كما سيأتي ـ.
لكن جاء في كتاب «الأربعين» للحاكم، عن أبي العباس محمد بن يعقوب، عن محمد بن إسحاق الصنعاني ـ وهو أحد شيوخ مسلم ـ، عن حسان بن عبد الله، عن المفضل بالإسناد المذكور بلفظ: (صلّى الظهر والعصر ثم ركب)، وقد ذكر الحافظ ـ هنا ـ أن هذه الزيادة بإسناد الصحيح؛ أي بإسنادِ صحيحِ البخاري ومسلم، وفي أكثر نسخ «البلوغ»: (بإسنادٍ صحيح)، وهذا هو الأقرب والموافق لما في «التلخيص»[(1197)]، وممن صححها ـ أيضاً ـ المنذري والعلائي[(1198)]، مع أن الحافظ تردد في ثبوتها في شرح الصحيح[(1199)]، والذي يظهر أنها زيادة منكرة؛ لإعراض البخاري ومسلم عنها مع أنهما قد أخرجا أصل الحديث، فيدل ذلك على أنها زيادة معلولة، قال ابن تيمية لما تكلم عن شرط البخاري ومسلم: (وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح، وليس الأمر كذلك)[(1200)].
وقال ابن رجب في أثناء كلامه على «الصحيحين»: (فَقَلَّ حديث تركاه إلا وله علة خفية، لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المتباعدة، صار الأمر في ذلك إلى الاعتماد على كتابيهما والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إلى بقية الكتب المشار إليها)[(1201)].(1/377)
وهذا الحديث أخرجه أبو نعيم في «مستخرجه»[(1202)]: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ومخلد بن جعفر، قالا: ثنا جعفر الفريابي، ثنا إسحاق بن راهويه، ثنا شبابة... إلخ إسناد مسلم (704) (47)، وشيخ مسلم عمرو الناقد قال: حدثنا شبابة...
وأُعلَّت هذه الرواية بتفرد إسحاق عن شبابة، وبتفرد الراوي عن إسحاق، وهو جعفر الفريابي، لكن قال الحافظ: (ليس ذلك بقادح، فإنهما إمامان حافظان)[(1203)].
ومع أن هذه الزيادة في جمع التقديم ضعيفة إلا أن جمع التقديم ثبت في أحاديث أخرى، ومنها حديث جابر رضي الله عنه في جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم في عرفات جمع تقديم[(1204)]، وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي، وورد في حديث معاذ رضي الله عنه الآتي ـ أيضاً ـ من رواية أبي داود والترمذي وأحمد في غزوة تبوك.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الجمع بين الظهر والعصر جمع تأخير في وقت العصر إذا غادر المسافر مكانه قبل الزوال؛ لأنه لم يدخل وقت الظهر، فيؤخرها مع العصر.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر إذا ارتحل المسافر بعد الزوال من مكانه، وهذا إنما يتم بالنسبة لهذا الحديث إن صحت زيادة: (صلّى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) وإلا فهو خاص بجمع التأخير، كما تقدم.(1/378)
وأما جمع التقديم فقد دل عليه أحاديث أخرى، كما تقدم في الجمع بعرفة بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء...)[(1205)]، فهو يدل بعمومه على جمع التقديم وجمع التأخير، وكذا حديث معاذ رضي الله عنه: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخَّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجَّل العصر إلى الظهر وصلّى الظهر والعصر جميعاً ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب)[(1206)].
وقد أجمع العلماء على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم بعرفة، والجمع بين المغرب والعشاء ليلة مزدلفة، وممن حكى الإجماع ابن المنذر، وابن قدامة، والنووي، وابن رشد، وغيرهم[(1207)]، ثم اختلفوا فيما عدا ذلك، فمنهم من منع الجمع إلا فيما ذُكِرَ، وهم الحنفية وبعض التابعين[(1208)]، واحتجوا بأن المواقيت ثبتت بالتواتر، فلا يجوز تركها بخبر واحد، وحملوا أحاديث الجمع على الجمع الصوري، وهو أن يصلي الأولى في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها.
وهذا مذهب ضعيف لا يعوّل عليه، فإن الجمع ليس تركاً لأدلة المواقيت، لكنه تخصيص لها في بعض الحالات بسنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأما قولهم بالجمع الصوري فهو ضعيف أيضاً؛ لأن الجمع رخصة، وإيقاع كل صلاة في وقتها أهون مما ذكروه وضيقوا به.
ومن أهل العلم من قال بالجمع ثم اختلفوا على أقوال:(1/379)
الأول: جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بعذر السفر جمع تقديم أو جمع تأخير، وهذا قول الشافعي، وأحمد في المشهور، ومالك في رواية[(1209)]، واستدلوا بحديث أنس على جمع التأخير، وحديث معاذ[(1210)] على جمع التقديم.
والقول الثاني: أن الجمع مختص بحالة الجد في السفر، وهو المشهور عن مالك في رواية ابن القاسم عنه[(1211)]، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدَّ به السير)[(1212)]، وهذا قول مرجوح.
والقول الثالث: جواز جمع التأخير ومنع جمع التقديم، وهذا رواية عن أحمد[(1213)]، وهو قول ابن حزم الظاهري[(1214)]، بشرط الجد في السفر، واستدلوا بحديث أنس المذكور في «الصحيحين»، وليس فيه ذكر جمع التقديم.
والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة، لقوة أدلتهم، فإن أدلة جمع التقديم وإن كان فيها مقال لكن باجتماعها تقوى، وتؤيدها أدلة أخرى؛ كجمع عرفة، وعمومات جاءت في الجمع، إضافة إلى حكمة التشريع، وذلك مما يتمشى مع يسر الشريعة الإسلامية ورفع الحرج عن المكلفين.
وعلى المسافر أن يفعل الأرفق به، فإن كان الأرفق جمع التقديم قدم العصر مع الظهر والعشاء مع المغرب، وإن كان الأرفق به جمع التأخير أخر الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء، فإن استويا فالتأخير أفضل؛ لأن أحاديثه أصح، ولأن تأخير الصلاة عن وقتها لعذر أخف من تقديمها على وقتها، والله تعالى أعلم.
حكم جمع المسافر سائراً أو نازلاً
439/11 ـ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً، وَالمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعاً. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/380)
فقد أخرجه مسلم (706) في كتاب «صلاة المسافرين»، باب «جواز الجمع بين الصلاتين في السفر» من طريق زهير، حدثنا أبو الزبير، عن أبي الطفيل عامر، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:... فذكره.
وأخرجه من طريق قرة بن خالد، حدثنا أبو الزبير، حدثنا عامر بن واثلة أبو الطفيل، حدثنا معاذ بن جبل، بنحوه، وفي آخره قال: (فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد ألا يحرج أمته).
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، سواء أكان المسافر سائراً أم نازلاً، وتستفاد دلالته على جمع النازل من أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مكث في تبوك عشرين ليلة، كما تقدم.
وقد رواه مالك (1/143) ومن طريقه مسلم (4/1784) ولفظه: (فأخر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً).
وهذا يدل على أنه جَمَعَ وهو نازل غير سائر؛ لأن قوله: (دخل ثم خرج) لا يكون إلا في حال النزول.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الجمع على ثلاث درجات:
الأولى: إذا كان سائراً في وقت الأولى ونزل وقت الثانية، فهذا هو الجمع الذي ثبت في «الصحيحين» ـ يعني جمع التأخير ـ من حديث أنس وابن عمر رضي الله عنهم، وهو نظير جمع مزدلفة.
الثانية: إذا كان وقت الثانية سائراً أو راكباً فجمع في وقت الأولى، فهذا نظير الجمع بعرفة، وعليه يدل حديث معاذ رضي الله عنه.
الثالثة: إذا كان نازلاً في وقتهما جميعاً نزولاً مستمراً، فهذا ـ كما يقول عنه ابن تيمية ـ: (ما علمت عليه دليلاً إلا حديث معاذ هذا، فإن ظاهره أنه كان نازلاً، وهذا في تبوك، وهي آخر غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع، ولم ينقل أنه جمع إلا في عرفة ومزدلفة، وأما منى فكان يقصر الصلاة ولا يجمع، فهذا يدل على أنه كان يجمع أحياناً في السفر، وأحياناً لا يجمع، وهو الأغلب على أسفاره)[(1215)].(1/381)
وعلى هذا فالجمع مشروع عند الحاجة إليه، سواء أكان المسافر سائراً أم نازلاً، والغالب أن المحتاج للجمع هو السائر، أما النازل فالأفضل ألا يجمع، إلا إن احتاج لذلك؛ كأن يحتاج لنوم أو استراحة أو أكل فله الجمع؛ لأن المسافر وإن كان نازلاً قد يعرض له أحوال يحتاج معها إلى الجمع بين الصلاتين.
وينبغي أن يعلم أن الجمع ليس خاصّاً بالسفر، بل يجوز في الحضر عند الحاجة إليه؛ كمريض احتاج للجمع، أو برد شديد نزل بالناس، ونحو ذلك مما يتحقق به رفع الحرج عن الأمة، وقد دل على ذلك حديث ابن عباس: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر)، قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: (أراد ألا يحرج أمته)، وفي رواية: (من غير خوف ولا سفر)[(1216)]، قال الشيخ عبد العزيز بن باز: (الصواب حمل الحديث على أنه صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الصلوات المذكورة لمشقة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب، أو برد شديد، أو وحل ونحو ذلك، ويدل على ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن علة هذا الجمع قال: (لئلا يحرج أمته)، وهو جواب عظيمٌ سديدٌ شافٍ، والله أعلم)[(1217)].
تحديد مسافة القصر
440/12 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَقْصُرُوا الصَّلاَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ؛ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفانَ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (1/387) ومن طريقه البيهقي (3/137 ـ 138) من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه وعطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعاً.
وإسناده ضعيف جدّاً لأمرين:(1/382)
الأول: أن إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين كالحجازيين فروايته ضعيفة، وهذا منها.
الثاني: عبد الوهاب بن مجاهد: متروك الحديث.
ولا يصح هذا الخبر إلا موقوفاً، كما قال البيهقي، والحافظ ابن حجر.
وقد ذكره البخاري معلقاً موقوفاً في باب «كم يقصر الصلاة؟» فقال: (وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً)[(1218)]، وقد وصله البيهقي (3/137) بإسناد صحيح، وأخرجه عبد الرزاق (2/524)، وابن أبي شيبة (2/445) عن عطاء عن ابن عباس قال: (لا تقصر إلى عرفة وبطن نخلة، واقصر إلى عُسفان والطائف وجُدَّة) قال الحافظ: (إسناده صحيح)[(1219)].
الوجه الثاني: تقدم أن الجمهور استدلوا بهذا الحديث على أن مسافة القصر أربعة برد فصاعداً، وهي بضعة وثمانون كيلاً.
وقد تقرر أن الحديث ضعيف جدّاً، وصح موقوفاً على ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، لكن له ما يعارضه، كما تقدم في حديث أنس: (أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر الصلاة).
كما أن ما ورد عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم في أربعة برد، ورد عنهما ما يخالف ذلك، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إذا كان سفرك يوماً إلى العتمة فلا تقصر الصلاة، فإن جاوزت ذلك فاقصر)[(1220)] وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة)[(1221)]، وورد عنه روايات كثيرة مختلفة، ولهذا رجحنا أن السفر يُرجع في تحديده إلى عرف الناس، والعلم عند الله تعالى.
القصر في السفر أفضل من الإتمام
441/13 ـ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «خَيْرُ أُمَّتي الَّذِينَ إِذَا أَسَاءوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا سَافَرُوا قَصَرُوا وَأَفْطَرُوا». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الأوْسَطِ» بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.(1/383)
وَهُوَ في مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مُخْتَصَر.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7/286) وفي «الدعاء» (3/1605) من طريق عبد الله بن يحيى بن معبد المرادي، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا» .
قال الطبراني: (لم يَروِ هذا الحديث عن أبي الزبير إلا ابن لهيعة، تفرد به عبد الله بن يحيى بن معبد المرادي).
وهذا إسناد ضعيف؛ لحال ابن لهيعة، فإنه سيئ الحفظ، وتلميذه عبد الله بن يحيى لم أجد له ترجمة.
وقد أخرجه أبو حاتم كما في «العلل» لابنه (1/255) من طريق خالد العبد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به.
وهذا سند ضعيف جدّاً؛ لأن خالد العبد ترجم له ابن عدي، وذكر أنه متهم بالوضع[(1222)].
وقد ذكر البخاري في «تاريخه» هذا الحديث بهذا الإسناد، ثم قال عن خالد: (منكر الحديث)[(1223)].
وقول الحافظ: (وهو في مرسل سعيد عند البيهقي مختصر)، لعله يقصد أنه عند البيهقي في «المعرفة»[(1224)]، فقد أخرجه من طريق الربيع، أخبرنا به الشافعي، عن ابن المسيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خياركم الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا» أو قال: «لم يصوموا» ، وهو في مسند الشافعي[(1225)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل الاستغفار بعد الإساءة، وعلى أن القصر في السفر أفضل من الإتمام، وأن الفطر فيه أفضل من الصيام، والحديث ضعيف جدّاً كما تقدم، وهذه المسائل الثلاث دل عليها أدلة أخرى صحيحة.(1/384)
أما الاستغفار بعد الإساءة فقد دل عليه قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ *}} [آل عمران: 135] ، وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر التوبة والاستغفار والأمر بهما والحث عليهما ومدح المستغفرين، قال تعالى: {{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [البقرة: 199] ، وقال تعالى: {{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}} [آل عمران: 17] ووعد بالمغفرة لمن استغفره، قال تعالى: {{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا *}} [النساء: 110] .
وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي ذر رضي الله عنه: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم...» [(1226)]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مئة مرة» [(1227)].
وكثيراً ما يُقرن الاستغفار بالتوبة، فيكون الاستغفار حينئذٍ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلب والجوارح.
وأما الاستغفار باللسان مع إصرار القلب على الذنب فهو دعاء مجرد، إن شاء الله أجابه، وإن شاء ردَّه، وقد يكون الإصرار مانعاً من الإجابة.
والاستغفار: طلب المغفرة؛ لأن السين والتاء للطلب، وسيد الاستغفار: أي سيد صيغ طلب المغفرة.
والمغفرة: الستر للذنب، والتجاوز عن الخطايا، والمراد: الاستغفار المقرون بعدم الإصرار، كما دلت عليه الآية الكريمة، وهو الاستغفار التام الموجب للمغفرة.
وأما تفضيل القصر على الإتمام فقد تقدم.(1/385)
وأما تفضيل الفطر في السفر على الصيام، فسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في كتاب «الصيام»، والله تعالى أعلم.
انتهى الجزء الثالث،
ويليه بعون الله وتوفيقه الجزء الرابع،
وأوله: باب «صلاة الجمعة»(1/386)