منحة العلام
في
شرح بلوغ المرام
تأليف
عبد الله بن صالح الفوزان
الجزء الخامس
شبكة نور الإسلام
http://www.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصيام
الصيام لغة: الإمساك، قال أبو عبيدة: (يقال لكل ممسك عن شيء من طعام أو كلام أو عن أعراض الناس وعيبهم: فهو صائم)[(1)]، ومن هذا قوله تعالى: {{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا}} [مريم: 26] أي: صمتاً، كما قال ابن عباس وغيره[(2)].
وقال الشاعر:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ
تحتَ العَجاجِ وأُخرى تَعْلُكُ اللُّجُما
والمراد: ممسكة عن السير.
وشرعاً: الإمساك بنية عن المفطرات، من شخص مخصوص، في وقت مخصوص.
فقولنا: «الإمساك بنية» ، فيه بيان أن الصيام لا بدَّ له من النية، كما سيأتي.
وقولنا: «عن المفطرات» هي الأكل والشرب والجماع، وهذه متفق عليها، وما عداها ففيه خلاف سيأتي ـ إن شاء الله ـ في أحاديث الكتاب.
وقولنا: «من شخص مخصوص» هو المسلم المكلف، وتزيد المرأة: غير حائض ولا نفساء.
وقولنا: «في وقت مخصوص» هو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
وقد فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة بالإجماع، وكان فرض الصيام تدريجيًّا، حيث أوجب الله تعالى الصيام على التخيير بينه وبين الإطعام عن كل يوم مسكيناً مع تفضيل الصيام، قال تعالى: {{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}} [البقرة: 184] ثم أوجب الله تعالى الصيام في حق غير المريض والمسافر، وقضاءً في حقهما إذا زال العذر.
وللصوم فوائد عظيمة وحكم كثيرة، منها:
1 ـ أن الصيام من أكبر العون على تقوى الله تعالى؛ لأن له تأثيراً عجيباً في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة.
2 ـ التعبُّد لله تعالى بترك شهوات النفس ومألوفاتها، وفي هذا يتجلى صدق محبة العبد لربه وتعظيمه له، والتماس رضوانه حيث قدم ما يحبه الله ويرضاه على ما تشتهيه نفسه وهواه.(1/1)
3 ـ الصوم تربية للإرادة، وجهاد للنفس، وتعويد على الصبر والتحمُّل فيما يعود عليها بالنفع.
4 ـ في الصوم فوائد صحية عظيمة، فهو يطهر البدن من الأخلاط الرديئة، ويكسبه صحة وقوة، وذلك بترتيب أوقات الوجبات، وإراحة جهاز الهضم مدة معينة، كما شهد بذلك الأطباء المختصون، فعالجوا مرضاهم بالصيام.
وقد ثبت في صيام رمضان فضائل عظيمة، دلت عليها النصوص الصحيحة، وفيه من جزيل الأجر وعظيم الثواب ما لو تصورته نفس صائمة لطارت فرحاً، وتمنَّت أن تكون السنة كلها رمضان.
ولهذه الحِكم وغيرها فرض الله تعالى الصوم على جميع الأمم، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *}} [البقرة: 183] .
لكن لا تحصل هذه الفوائد إلا لمن صام صياماً كاملاً عن كل ما حرم الله، فصام عن الطعام والشراب والنكاح، وصام عن السماع المحرم، والنظر المحرم، والكلام المحرم، والكسب المحرم، وحفظ وقته واستفاد من أيام الشهر في طاعة ربه، فهذا هو الذي يستفيد من الصيام.
النهي عن تقدم رمضان بالصوم
650/1 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْماً، فَلْيَصُمْهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «لا يُتقدَّم رمضان بصوم يوم ولا يومين» (1914)، ومسلم (1082) من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به مرفوعاً، وهذا لفظ مسلم.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا تقدموا) أي: لا تسبقوا، وأصله: لا تتقدموا، بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفاً؛ كقوله تعالى: {{وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}} [البقرة: 267] .(1/2)
قوله: (رمضان) أي: شهر رمضان، سمي بذلك لشدة الرمضاء فيه حين تسميته به، وقيل غير ذلك[(3)].
قوله: (يوم ولا يومين) «أو» للتنويع، وليست للشك، ولهذا جاء في مسلم: «بصوم يوم ولا يومين».
قوله: (إلا رجل) بالرفع بدل من الضمير في قوله: «لا تقدموا» ، وتخصيص الرجل تغليب، وإلا فالمرأة مثله.
قوله: (يصوم صوماً) أي: معتاداً معيناً؛ كصوم الاثنين ـ مثلاً ـ.
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن الصيام قبل ثبوت دخول رمضان بأن يصوم يوماً أو يومين بقصد الاحتياط لرمضان أو بقصد التطوع، وهذا النهي محمول على التحريم ـ على القول الراجح ـ؛ لأن هذا هو الأصل فيه، إلا بدليل يصرفه عن ذلك، والاقتصار في الحديث على يوم أو يومين؛ لأنه هو الغالب فيمن يقصد ذلك، أما صيام أكثر من ذلك فسيأتي.
ويستثنى من ذلك من كان له عادة بصوم يوم معين؛ كالاثنين أو الخميس، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً، فيصادف ذلك قبل رمضان بيوم أو يومين فلا بأس، لزوال المحذور، وكذلك من يصوم واجباً؛ كنذر، أو كفارة، أو قضاء رمضان الماضي، فكل ذلك جائز؛ لأنه ليس من استقبال رمضان.
وقد بحث العلماء عن حكمة هذا النهي، فقيل: تمييز فرائض العبادات عن نوافلها، والاستعداد لرمضان برغبة ونشاط، وقيل: لأن حكم الصيام معلَّق برؤية الهلال فالمتقدم عليه مخالف للشرع، ورجح هذا الحافظ ابن حجر[(4)].(1/3)
الوجه الرابع: ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا...» ، وظاهره معارض لحديث الباب؛ لأن حديث الباب فيه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، فيفهم منه جواز ما قبل ذلك، وهذا الحديث فيه النهي عن الصيام إذا انتصف شعبان، وهو حديث مختلف في صحته ـ كما سيأتي إن شاء الله في آخر الصيام ـ وعلى القول بصحته فهو محمول على من يصوم نفلاً مطلقاً ابتداءً من النصف من شعبان، أما من له عادة بصيام الاثنين والخميس، أو صوم يوم وإفطار يوم، أو كان يصل النصف الثاني بالنصف الأول، أو عليه قضاء فلا يدخل في النهي كما تقدم.
وذكر الطحاوي جمعاً آخر، وهو أن هذا الحديث محمول على من يضعفه الصوم، بحيث يطرأ عليه ضعف يؤثر على صيامه رمضان، وحديث الباب محمول على من يحتاط بزعمه لرمضان[(5)]، وقد نقله عنه الحافظ، وقال: (إنه جمع حسن)[(6)]، والله تعالى أعلم.
حكم صوم يوم الشك
651/2 ـ وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلّى الله عليه وسلّم.
ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تَعْليقاً، وَوَصَلَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/4)
فقد علَّقه البخاري بصيغة الجزم (4/119 «فتح»)، عن صِلَةَ بن زُفَرَ، عن عمار رضي الله عنه، ووصله أبو داود في كتاب «الصيام»، باب «كراهية صوم يوم الشك» (2334)، والنسائي (4/135)، والترمذي (686)، وابن ماجه (1645)، وابن خزيمة (1914)، وابن حبان (8/351) كلهم من طريق عمرو بن قيس المُلائي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن صِلَةَ بن زُفَرَ، قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يُشك فيه، فأُتي بشاة مصلية، فتنحى بعض القوم، فقال عمار رضي الله عنه: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم».
قال الترمذي: (حديث عمار حديث حسن صحيح)، وكذا صحَّحه ابن خزيمة، وقال الدارقطني: (هذا إسناد حسن صحيح، ورواته كلهم ثقات)[(7)]، كما صححه ابن حبان، والحاكم، وآخرون، ولم أجده في «المسند»، فعزوه للخمسة وهْمٌ من الحافظ رحمه الله، وقد عزاه ابن عبد الهادي في «المحرر»[(8)] لأصحاب «السنن»، وقد أُعلَّ هذا الحديث بما لا يقدح، وهو الانقطاع في بعض رواياته[(9)]، وقد أشار إلى هذا الإعلال ابن عبد الهادي، وقال الحافظ ابن حجر: (وللحديث علة خفية، ذكر الترمذي في «العلل» أن بعض الرواة قال فيه: عن ابن إسحاق، قال: حُدثت عن صلة)[(10)].
لكن ما دلَّ عليه هذا الحديث من النهي عن صيام يوم الشك قد جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن تقدم رمضان.
الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم صيام يوم الشك؛ لأن صيامه معصية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الحديث له حكم الرفع؛ فإن عماراً رضي الله عنه لن يحكم بهذا الحكم إلا وعنده علم من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم هو مؤيد بأحاديث النهي عن استقبال رمضان بالصوم، وأحاديث الأمر بالصوم لرؤيته.(1/5)
والمراد بيوم الشك ـ على قول الجمهور ـ: يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، أو غيرهما، فهذا لا يصام؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ» [(11)].
وهذا نص صريح في أن يوم الثلاثين لا يصام؛ ولأن الأصل بقاء شعبان فلا تكون تلك الليلة من رمضان إلا بيقين، ومن فرَّق بين الغيم والصحو فقال: يصام إذا حال دونه غيم احتياطاً، ولا يصام إذا كان صحواً، وهذا هو يوم الشك فليس بصحيح، وهذا مذهب الحنابلة، وهو المنصوص عليه في كثير من متونهم، ودليلهم فعل ابن عمر رضي الله عنهما، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
تعليق الصوم والفطر بالرؤية
652/3 ـ عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ».
وَلِلْبُخَارِيِّ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ».
653/4 ـ وَلَهُ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «هل يقال: رمضان أو شهر رمضان؟» (1900)، ومسلم (1080) (8) من طريق ابن شهاب قال: أخبرني سالم أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:... وذكر الحديث.(1/6)
ورواه مسلم (1080) (4) من طريق أبي أسامة، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاَثِينَ» ، ولعل الحافظ أوردها تفسيراً لقوله: «فاقدروا» على معنى: أبلغوه قدره، وهو تمام الثلاثين يوماً.
ورواه البخاري (1907) من طريق مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ» وهي أوضح.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في باب (قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ فَصُومُوا...» ) (1909) من طريق شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه...، وذكر الحديث، وفيه: «فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ».
وقد تكلم العلماء في هذه الزيادة: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» وقالوا: تفرد بها البخاري عن شيخه آدم، وأكثر الرواة عن شعبة قالوا فيه: «فعدوا ثلاثين» قال الإسماعيلي: فيجوز أن يكون آدم رواه على التفسير من عنده[(12)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (إذا رأيتموه) أي: الهلال، فالضمير عائد إلى مفهوم من السياق؛ كقوله تعالى: {{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *}} [القدر: 1] ، وقد ورد في الصحيحين: «لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلالَ» ، والمراد: إذا رآه من تثبت به الرؤية.
قوله: (فإن غُمَّ) بضم الغين المعجمة وتشديد الميم، أي: سُتِرَ الهلال وغُطي بغيم أو قَتَرٍ ونحو ذلك، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فَإِنْ غُبِّي عَلَيْكُمْ» مأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة، وهي استعارة لخفاء الهلال، وضبطه ابن الملقن بفتح الغين وكسر الباء[(13)].(1/7)
قوله: (فاقدروا له) بضم الدال أو كسرها، أي: أبلغوه قدره؛ وهو تمام ثلاثين يوماً بدليل الروايات المذكورة، وله تفسير ثانٍ: وهو أن معناه: ضيقوا له، من قوله تعالى: {{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}} [الطلاق: 7] ، وتضييق العدد أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً، وسيأتي ذلك.
الوجه الثالث: الحديث دليل على وجوب صيام رمضان إذا ثبتت رؤية هلاله، وعلى وجوب الفطر إذا ثبتت رؤية هلال شوال، وأن حكم الصوم والفطر معلَّق بالرؤية ولو كانت بواسطة المراصد والآلات التي تكبر المرئيات؛ لأن ذلك رؤية بالعين المشاهدة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا عبرة بالحساب في إثبات دخول الشهر وخروجه، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره إجماع الصحابة على ذلك[(14)]؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم علَّق الحكم بالرؤية لا بالحساب، والرؤية يدركها الخاص والعام، والجاهل والعالم، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، وتيسيره عليهم.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه إذا غُمَّ الهلال وسُتِرَ ليلة الثلاثين بغيم أو قتر أنه تكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ولا يصام يوم تلك الليلة، ويكون معنى قوله: «فاقدروا له» أي: قدروا عدد الشهر، فكملوا شعبان ثلاثين يوماً، لما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ» ، وهذا نص صريح لا يقبل التأويل.
وذهب جماعة من الحنابلة إلى وجوب الصوم يوم الثلاثين إذا حال دون الهلال غيم أو قتر احتياطاً[(15)]، وفسَّروا قوله: «فاقدروا له» بمعنى: ضيقوا له العدد، من قوله تعالى: {{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}} [الطلاق: 7] أي: ضُيِّقَ عليه، والتضييق: أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً.(1/8)
قالوا: وقد فسر ابن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث بفعله، وهو راويه، وأعلم بمعناه، وقد روى نافع فقال: (كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوماً بعث من ينظر، فإن رئي فذاك، وإن لم يُرَ ولم يَحُلْ دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطراً، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً)[(16)].
والقول الأول: هو الصحيح، وهو أنه يجب فطر يوم الثلاثين إذا حال دون الهلال غيم أو قتر لما تقدم، وتفسير الحديث بالحديث أولى، وأما فعل ابن عمر فقد خالف نصًّا، وقول الصحابي إذا خالف نصًّا يُرَدُّ، وهو اجتهاد منه، والاجتهاد يخطئ ويصيب، وتفسير الشارع وبيانه مقدم على تفسير غيره، وابن عمر رضي الله عنهما له أفعال انفرد بها، كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره، والله تعالى أعلم.
الاكتفاء بشهادة الواحد في دخول رمضان
654/5 ـ عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِم.
655/5 ـ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ، فَقَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ؟»، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ؟»، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلاَلُ: أَنْ يَصُومُوا غَداً». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:(1/9)
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصيام»، باب «في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان» (2342)، وابن حبان (8/231)، والحاكم (1/423) من طريق يحيى بن عبد الله بن سالم، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
والحديث رجاله ثقات، إلا يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقد ضعفه ابن معين، وقال النسائي: (مستقيم الحديث)[(17)]، وقال الدارقطني: «ثقة مدني، حديثه بمصر»[(18)]، وقال الذهبي: (صدوق)[(19)]. ومثله قال ابن حجر في «التقريب».
وقد صحح الحديث ابن حزم[(20)]، والنووي[(21)]، والألباني[(22)]، لكن قال الدارقطني في «السنن» (2/156): (تفرد به مروان بن محمد، عن ابن وهب، وهو ثقة). وقد رواه الحاكم (1/423)، والبيهقي (4/212) من طريق هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب به بنحوه. قال الحافظ ابن حجر: (إن كان محفوظاً ـ أي هذا الطريق ـ فهو وارد على دعوى الدارقطني في تفرد مروان بن محمد، فيحرر)[(23)].
وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه أبو داود في الباب المذكور، والترمذي (691)، والنسائي (4/132)، وابن ماجه (1452)، وابن خزيمة (1923)، وابن حبان (8/229 ـ 230) كلهم من طريق زائدة بن قدامة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
ورواه النسائي (4/132) من طريق سفيان، وابن أبي شيبة (3/67) من طريق إسرائيل، وأبو داود (341) من طريق حماد بن سلمة، ثلاثتهم عن سماك، عن عكرمة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، هكذا مرسلاً.(1/10)
وقد رجَّح النسائي رواية الإرسال، وقال: (هذا أولى بالصواب)، ووجه ذلك أن سماك بن حرب مضطرب الحديث، إلا ما انتقاه مسلم من حديثه، ثم هو قد تغير بأخرة، فكان يقبل التلقين[(24)]، وقد اختلف عليه في هذا الحديث، فتارة رواه موصولاً، وتارة رواه مرسلاً، وهذا هو الذي رجَّحه غير واحد من الأئمة؛ كأبي داود والنسائي والدارقطني وغيرهم، لكن يشهد له حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي قبله، وهو حديث صحيح، فيتقوى به هذا المرسل.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يكتفى بشخص واحد يخبر برؤية هلال رمضان، سواء أكان ذكراً أم أنثى، بشرط أن يكون مسلماً، وهو قول عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم وابن المبارك وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد، والصحيح عن الشافعي.
والقول الثاني: أنه لا يقبل إلا اثنان، وهو قول عثمان رضي الله عنه، والإمام مالك والليث والأوزاعي وإسحاق[(25)]، مستدلين بما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يُشَكُّ فيه، فقال: (إني جالست أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وساءلتهم وإنهم حدَّثوني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَانْسُكُوا لَهَا[(26)]، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا»[(27)].
قالوا: فهذا يدل بمفهومه على أنه لا يكفي الواحد. قالوا: ولأن هذه شهادة على رؤية هلال الصيام، فأشبهت الشهادة على هلال شوال.
والقول الأول أرجح، فإن حديث ابن عمر رضي الله عنهما نَصٌّ صريح فيجب العمل بمقتضاه، وأما دليلهم فهو عن طريق المفهوم، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أشهر منه، وهو دليل بمنطوقه، فيجب تقديمه.
وأما القياس فهو مع الفارق؛ فإن هلال شوال خروج من العبادة، وهذا دخول فيها، والمطلوب فيه الاحتياط، ومن الاحتياط قبول الواحد.(1/11)
وأما الخروج من الصيام فلا يقبل فيه إلا شهادة اثنين عدلين في قول الجمهور؛ لما تقدم في خبر عبد الرحمن بن زيد.
والقول الثاني: أنه يقبل قول واحد؛ لأنه أحد طرفي شهر رمضان، أشبه الأول، وهذا قول أبي ثور، وابن المنذر، وابن حزم، ونسبه الخطابي إلى بعض أهل الحديث[(28)]. ومال إليه الصنعاني[(29)]، واختاره الشوكاني[(30)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب ترائي الهلال ليلة الثلاثين من الشهر، لقوله: (تراءى الناس الهلال) ولا سيما من رزقهم الله تعالى حدة في البصر، وهو يدل على أن ذلك هدي أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن فيه مصلحة عظيمة للمسلمين لما يترتب على رؤيته من الأحكام.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من رأى الهلال فإنه يخبر برؤيته الإمام أو من ينيبه الإمام في هذا الشأن لإعلانه للناس.
ثم من رأى هلال رمضان وَرُدَّ قوله، فهل يلزمه الصوم؟ قيل: يلزمه، وهو قول أكثر الفقهاء، لقوله: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» ، وهذا قد رآه فيصوم[(31)].
والقول الثاني: أنه لا يلزمه الصوم؛ لأن الهلال ما هلَّ واشتهر لا ما رئي، وهذا رواية عن أحمد، اختارها ابن تيمية[(32)].
فإن رأى هلال شوال وَرُدَّ قوله فإنه لا يفطر؛ لأن هلال شوال لا يثبت شرعاً إلا بشاهدين، وهنا رآه واحد. وهذا قول أحمد، وأبي حنيفة، ومالك[(33)].
والقول الثاني: أنه يفطر سرًّا، وهو قول الشافعي، وابن حزم[(34)].
والأول أرجح، وهو أنه لا يفطر؛ تبعاً للجماعة، واحتياطاً في باب الصوم، والله تعالى أعلم.
بيان أن الصيام لا بدّ له من نية(1/12)
656/7 ـ عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤمِنِينَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَمَالَ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعاً ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: «لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اللّيْلِ».
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصيام»، باب «النية في الصيام» (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (4/196)، وابن ماجه (1700)، وأحمد (44/53) من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة رضي الله عنها، مرفوعاً.
وليس عند ابن ماجه ذكر ابن شهاب الزهري، وهذا اللفظ لفظ النسائي، وعند الباقين ـ عدا ابن ماجه ـ: «من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» ، وهو رواية للنسائي، وأما لفظ ابن ماجه فهو كلفظ الدارقطني الآتي تماماً. ومعنى: «يُجْمِعْ» أي: يعزم وينوي.
وهذا الحديث في سنده اضطراب شديد، وقد روي مرفوعاً، رفعه يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي بكر، وتابعه ابن لهيعة عند أحمد[(35)]، وأبي داود، ورواه موقوفاً جمع من الثقات، وهم: معمر، والزُّبيدي، وابن عيينة، ويونس الأيلي، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن حفصة رضي الله عنها، به، وهذا إسناد صحيح.
وقد رجَّح الموقوف الإمام البخاري، وقال عن رفعه: (إنه خطأ، والصحيح أنه موقوف)[(36)]، كما رجح وقفه الدارقطني فقال: (رفعه غير ثابت)[(37)]. ونقل ابن تيمية عن الميموني أنه سأل الإمام أحمد عنه، فقال: (أخبرك ما له عندي ذاك الإسناد، إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان)[(38)].(1/13)
وقال النسائي: (الصواب عندنا موقوف، ولم يصح رفعه ـ والله أعلم ـ؛ لأن يحيى بن أيوب ليس بذاك القوي، وحديث ابن جريج، عن الزهري غير محفوظ، والله أعلم)[(39)].
كما رجح وقفه الترمذي، وأبو حاتم[(40)]، وابن عبد البر[(41)]، والزيلعي[(42)]، وآخرون.
ووجه ذلك أن مدار الطرق المرفوعة على يحيى بن أيوب، وهو ليس بذاك، كيف وقد خالف الثقات المذكورين.
ورجح رفعه جماعة من الأئمة، منهم: ابن خزيمة[(43)]، وابن حبان[(44)]، والبيهقي[(45)]، والنووي[(46)].
وقد جاء وقفه على ابن عمر رضي الله عنهما ـ أيضاً ـ، رواه مالك[(47)]، عن نافع، عن ابن عمر، به، ومن طريق مالك رواه النسائي[(48)]، والبيهقي[(49)]، وإسناده صحيح.
وأما حديث الدارقطني: «لا صِيَام لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اللَّيْلِ» ، فقد أخرجه في «السنن» (2/172) من طريق إسحاق بن حازم، عن عبد الله بن أبي بكر، به، وهو لفظ ابن ماجه ـ أيضاً ـ.
ولعلَّ الحافظ ذكر هذه الرواية لقوله: «من الليل» ، فهو أصرح من قوله: «قبل الفجر» .
الوجه الثاني الحديث دليل على أن الصيام لا بدّ له من نية؛ كسائر العبادات، وهذا أمر مجمع عليه، والنية معناها: القصد والإرادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اتفق العلماء على أن العبادة المقصودة لنفسها؛ كالصلاة، والصيام، والحج، لا تصح إلا بنية)[(50)].
وذلك لأن الصيام ترك مختص بزمن معلوم؛ ولأن الإمساك قد يكون لمنفعة بدنية، فاحتاج الصيام إلى نية.
والصيام الذي لا بدّ له من النية؛ هو صيام رمضان، أو قضاء رمضان، أو صيام النذر، ذكر ذلك الترمذي في «جامعه»، وأما صيام التطوع فسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بعد هذا.(1/14)
والنية محلها القلب، فمن خطر بباله أنه صائم غداً فقد نوى، وتصح النية في أي جزء من أجزاء الليل، لقوله: «قبل الفجر» والقبلية تصدق على كل جزء من أجزاء الليل، ويؤيد ذلك رواية ابن ماجه والدارقطني: «من الليل» ، ومن دلائل النية قيام الصائم للسحور وتهيئته له وإن لم يقم.
الوجه الثالث: اختلف العلماء هل يلزم لكل يوم نية أو يكفي نية واحدة أول يوم من رمضان؟ على قولين:
الأول: أنه يجزئ الصائم نية واحدة لجميع الشهر، ما لم يقطع صومه بسفر أو مرض، وهذا مذهب مالك وإسحاق ورواية عن أحمد[(51)]؛ لأن صوم الشهر عبادة واحدة لا بد منها، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ولكل امرئ ما نوى» وهذا نوى صيام الشهر والتتابع، فله ما نوى.
القول الثاني: أنه يلزم الصائم نية مستقلة لكل يوم، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه[(52)]، واستدلوا بحديث الباب؛ بقوله: «قبل الفجر» ، وقوله: «من لم يبيت» ، وظاهر ذلك أن لكل ليلة نية مستقلة؛ لأن صوم كل يوم عبادة مستقلة، يدل على ذلك أن فساد صيام بعض أيام الشهر لا يفسد بعضها الآخر؛ ولأنه يتخلل صوم أيام الشهر ما ينافيها؛ إذ يباح في الليل الطعام والشراب والجماع.
وثمرة الخلاف تظهر فيمن نام بعد العصر في رمضان، ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر من الغد، فعلى القول الأول يصح صومه لهذا اليوم؛ لأن النية الأولى في أول الشهر كافية، والأصل بقاؤها، وعلى القول الثاني لا يصح صومه؛ لأنه لم يبيِّت صيام هذا اليوم من الليل، والله تعالى أعلم[(53)].
حكم نية صوم التطوع من النهار، وحكم قطعه(1/15)
657/8 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟»، قُلْنَا: لاَ، قَالَ: «فَإِنِّي إِذاً صَائِمٌ»، ثُمَّ أَتَانَا يَوْماً آخَرَ، فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: «أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِماً»، فَأَكَلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصيام»، باب «جواز النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر» (1154) (170) من طريق وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، به.
ورواه ـ أيضاً ـ من طريق عبد الواحد بن زياد، حدثنا طلحة، بلفظ: أن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم: «يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قالت: فقلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: «فَإِنِّي صَائِمٌ» ، قالت: فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَأُهْدِيَتْ لنا هدية أو جاءنا زَوْرٌ[(54)]، قالت: فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: يا رسول الله، أهديت لنا هدية أو جاءنا زور، وقد خبأت لك شيئاً، قال: «مَا هُوَ؟» قلت: حَيْسٌ، قال: «هَاتِيهِ» فجئت به فأكل، ثم قال: «قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِماً» .
الوجه الثاني الحديث دليل على أن صوم التطوع لا يلزم فيه تبييت النية من الليل، وإنما يجوز بنية من النهار، لقوله: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» ، قلنا: لا، قال: «فَإِنِّي صَائِمٌ...» ، وظاهره أنه أنشأ الصيام في الحال، بدليل رواية البيهقي الآتية.(1/16)
وهذا مذهب الجمهور، وهو قول جماعة من الصحابة؛ كعلي وابن مسعود رضي الله عنهما، ونقله البخاري عن أبي الدرداء وأبي طلحة وأبي هريرة وابن عباس وحذيفة، بل رواه ابن حزم عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم[(55)]. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجمهور السلف[(56)].
وشرط صحة صيام النفل من النهار ألا يأتي بمنافٍ للصوم قبل أن ينوي، من أكل أو شرب أو جماع؛ فإن فعل شيئاً من ذلك لم يصح صومه؛ لأنه تناول مفطراً بعد الفجر.
وذهبت المالكية، وداود الظاهري، وابن حزم، والمزني ـ من الشافعية ـ إلى أنَّ تبييت النية شرط في صحة صوم النفل، ومال إلى هذا القول الصنعاني[(57)]، مستدلين بعموم الحديث المتقدم: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له».
وأجاب ابن حزم عن حديث الباب بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد نوى الصيام قبل الفجر، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قد كنت أصبحت صائماً» ، ولمَّا لم يجد طعاماً واصل صيامه، فلما أُخبر بوجود الطعام أفطر.
والقول الأول أرجح؛ لما تقدم من الحديث؛ ولأنه ورد عن الصحابة الذين ذكرهم البخاري، وروى ابن حزم أقوالهم أنهم كانوا يصومون بنية من النهار، وهم أعلم منا بالتنزيل وبمراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأنه ورد في رواية البيهقي من حديث عائشة المذكور: «إذن أصوم» [(58)]. فهذه تكاد تكون صريحة في أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم صام بنية من النهار.
لكنهم اختلفوا في وقت النية من النهار، فورد عن ابن عباس، وابن عمر، وأنس، وابن مسعود رضي الله عنهم تحديد منتصف النهار كحد أقصى، ولا يجوز أن ينوي الصوم بعده، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه[(59)].
وذهب الشافعي في الجديد وأحمد إلى صحة صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده؛ لأن النصوص الدالة على جواز الصوم بالنية من النهار لم تفرق بين إحداث النية قبل الزوال وبعده.
وقد اختلف العلماء: هل يثاب ثواب يوم كامل، أو لا يثاب إلا من النية؟ قولان:(1/17)
الأول: أنه لا يثاب إلا من وقت النية فقط، وهذا قول الشافعية والحنابلة[(60)]، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ، وهذا لم ينو الصوم إلا بعد مضي جزء من النهار، فليس له من الثواب إلا المقدار الذي نواه.
والقول الثاني: أنه يثاب على النهار كله، وهذا قول الحنفية، وبعض فقهاء الحنابلة[(61)]؛ لأن هذا أمسك النهار كله وأخَّر النية.
والأول أقوى من جهة الدليل، والثاني أقرب إلى سعة فضل الله، والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز قطع صوم التطوع وأنه لا يجب إتمامه ولو بدون عذر، لكن ينبغي للصائم مراعاة المصلحة في إمضاء صومه أو فطره؛ فإن حقق فطره مصلحة أفطر، كما أفطر النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وجد من الأكل ما يعينه على طاعة الله تعالى، وكما لو نزل به ضيف، أو دعاه أخوه المسلم إلى وليمة والمصلحة تقتضي إفطاره؛ فإن لم يوجد مصلحة فالأفضل إتمام الصوم.
وقد ورد عن أم هانئ رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر»[(62)].
وقد أخرج النسائي حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، بزيادة: «إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها» [(63)] والظاهر أنها زيادة غير محفوظة، وقد جاءت عند مسلم من كلام مجاهد إثر حديث الباب.
والقول بجواز قطع صوم التطوع وأنه لا يلزم القضاء هو مذهب أحمد والشافعي وإسحاق[(64)]، لما تقدم من الأدلة.(1/18)
وقال النخعي وأبو حنيفة ومالك: يلزم بالشروع فيه، ولا يقطعه بلا عذر، فإن قطعه بلا عذر قضى، وعن مالك لا قضاء عليه[(65)]، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام فاشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت حفصة: يا رسول الله إنا كنا صائمتين، فعرض لنا طعام فاشتهيناه فأكلنا منه، قال: «اقضيا يوماً آخر مكانه»[(66)].
والقول الأول أرجح لقوة دليله، وأما حديث عائشة فعنه جوابان:
1 ـ أنه حديث ضعيف، والحفاظ على إعلاله.
2 ـ أن القضاء فيه محمول على الاستحباب، كما يقول ابن القيم؛ لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يَحُلُّ محل أصله، والصيام كان في الأصل مخيراً فيه، فكذلك في البدل، وهو القضاء[(67)]، والله تعالى أعلم.
استحباب تعجيل الإفطار
658/9 ـ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطرَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
659/10 ـ وَلِلتِّرْمِذِيِّ: مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «قَالَ اللهُ عزّ وجل: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْراً».
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول في تخريجهما:
أما حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «تعجيل الإفطار» (1957)، ومسلم (1098)، من طريق مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما، به.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه الترمذي في أبواب «الصوم»، باب «ما جاء في تعجيل الإفطار» (700) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وهذا الحديث تفرد به الترمذي عن بقية أصحاب السنن، وقال: (حديث حسن)، وقد رواه الإمام أحمد (12/182).(1/19)
وإسناده ضعيف؛ لأن الجمهور على تضعيف قرة بن عبد الرحمن شيخ الأوزاعي، قال الإمام أحمد: (منكر الحديث جدًّا)، وقال ابن معين: (ضعيف الحديث)، وقال أبو زرعة: (الأحاديث التي يرويها مناكير). وقد ذكره ابن حبان في «الثقات»[(68)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب تعجيل الإفطار والمبادرة به حين حلول وقته، وهو غروب الشمس، وهذا هو هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيجب اتباع هديه والتمسك بسنته.
وفي تعجيل الإفطار تيسير على الناس، وبُعد عن صفة التنطع والغلو في الدين، وقد امتثل هذا الأدب خير القرون صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال البخاري: (وأفطر أبو سعيد حين غاب قرص الشمس)[(69)].
وقال عمرو بن ميمون الأودي رحمه الله: (كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأهم سحوراً)[(70)].
فعلى المسلم أن يحرص على تطبيق هذه السنة، وهي تعجيل الإفطار، ومن وسائل ذلك أن يتفرغ الصائم آخر النهار لتلاوة القرآن والذكر والدعاء، ولا يخرج من منزله إلا لما لا بدَّ منه، لئلا يفوِّت على نفسه هذه الخيرات، وقد يؤذن المؤذن للإفطار وهو في الطريق إلى منزله، فيأتي ثائر النَّفَسِ، قد أضاع وقت الدعاء، وفوَّت المبادرة بالإفطار. والله المستعان.
الترغيب في السُّحور
660/11 ـ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «بركة السحور من غير إيجاب» (660)، ومسلم (1095) من طريق شعبة، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، به.(1/20)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الصائم مأمور بالسُّحور؛ لأن فيه خيراً كثيراً وبركة عظيمة دينية ودنيوية، وذِكْره صلّى الله عليه وسلّم للبركة من باب الحض على السحور والترغيب فيه.
والسَّحور: بفتح السين؛ ما يؤكل وقت السحر، وهو آخر الليل، وبضم السين: الفعل، وهو أكل السحور.
وهذا الأمر في هذا الحديث أمر استحباب لا أمر إيجاب، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك[(71)]، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم واصل وواصل أصحابه معه، والوصال: أن يصوم يومين فأكثر ولا يفطر، بل يصوم النهار مع الليل، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
الوجه الثالث: أن في السحور بركة دينية ودنيوية، وهي امتثال أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به، والمتسحِّر إذا نوى بسحوره امتثال أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به كان سحوره عبادة، ويحصل له به أجر بهذه النية.
وفي السحور مخالفة أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور»[(72)].
ومن بركة السُّحور التَّقَوِّي على العبادة وحفظ قوة البدن ونشاطه، فإن المتسحِّر أقوى على وظائفه اليومية من غير المتسحر.
ومن بركة السُّحور القيام آخر الليل للذكر والدعاء والصلاة، وذلك مظنة الإجابة.
وعلى هذا فينبغي الحرص على السُّحور وعدم تركه ولو كان الإنسان لا يشتهيه؛ فإنه يحصل بأقل ما يتناوله الإنسان من مأكول أو مشروب، ولو بجرعة لبن، ليحصل على هذه البركة والفوائد العظيمة، والله المستعان.
ما يستحب الإفطار عليه
661/12 ـ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرِ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ.(1/21)
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو سلمان بن عامر بن أوس بن حُجْر الضَّبي، له صحبة، ونقل ابن الأثير عن الإمام مسلم أنه ليس في الصحابة ضبي غيره، وكذا قال ابن عبد البر، ورد ذلك الحافظ ابن حجر بأنه قد وجد من الصحابة جماعة ممن لهم صحبة أو اختلف في صحبتهم من بني ضبة، منهم يزيد بن نعامة، وذكر آخرين. عاش سلمان رضي الله عنه إلى خلافة معاوية[(73)] رضي الله عنه.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصيام»، باب «ما يفطر عليه» (2355)، والنسائي في «الكبرى» (3/370)، والترمذي (658 ـ 695)، وابن ماجه (1699)، وأحمد (26/163 ـ 164)، وابن خزيمة (3/278)، وابن حبان (8/281 ـ 282)، والحاكم (1/431) كلهم من طريق حفصة بنت سيرين، عن الرَّبَاب الضبية، عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه، به.
وفي هذا الإسناد اختلاف، فمنهم من ذكر الرباب، ومنهم من أسقطها، كما عند النسائي[(74)]، وهي إحدى روايات الإمام أحمد[(75)]، وابن حبان[(76)]، فيكون السند منقطعاً؛ لأن حفصة بنت سيرين لم تسمع من سلمان بن عامر، بينهما الرباب، كما في الروايات الأخرى.
والرباب هي ابنة صُليع ـ بالضم ـ الضبية العدوية، روت عن عمها سلمان بن عامر، وروت عنها حفصة بنت سيرين، ولم يوثقها إلا ابن حبان[(77)]، وقد صحح الترمذي حديثها في موضع[(78)]، وحسنه فقط في موضع آخر[(79)]، كما صحح بعض أوجه الاختلاف أبو حاتم[(80)]، وصحح حديثها ـ أيضاً ـ ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وعلَّق لها البخاري[(81)]، فلعل حالها تقوى بهذه الاعتبارات، ولحديثها شاهد من حديث أنس رضي الله عنه.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الإفطار على تمر، وهو يابس ثمر النخل، وقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رُطَبَاتٍ قبل أن يصلي؛ فإن لم يكن رطبات فتمرات؛ فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء)[(82)].(1/22)
فهذا يدل على أن الأفضل هو الرُّطَب إن تيسر؛ لأنه أشهى وأنفع في وقته، ثم التمر عند عدم الرطب، ثم الماء عند عدم التمر، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإنه طهور».
وقد أثبت الطب الحديث الفائدة العظمى من كون الصائم يفطر على تمر؛ بل قبل ذلك العلامة ابن القيم، فذكر أن فطر النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرطب أو التمر أو الماء تدبير لطيف جدًّا[(83)]، ذلك أن الصائم يستنفد في نهاره عادةً معظم وقود جسده، ويكون قد انخفض عنده سكر الدم، ولا سيما في آخر نهار الصيام، الذي من أدلته ما يشعر به الصائم من ضعف وكسل، وبالفطر على الرطب أو التمر يعود البدن إلى نشاطه؛ لأن المعدة تستطيع هضم المواد السكرية في التمر، فيستفيد الجسم منها في أقصر وقت، مع ما في التمر من الفوائد العظيمة، والمواد اللازمة للجسم، وفي هذا ـ أيضاً ـ فائدتان أخريان:
الأولى: أن المعدة لا ترهق بما يقدم إليها فجأة من صنوف الأطعمة الحارة بعد نهار الصيام، بل يرد عليها بالتدريج، وذلك بالإفطار على الرطب أو التمر، ثم الفصل بصلاة المغرب، ثم تناول الطعام بلا إسراف.
الثانية: أن الاقتصار على التمر عند الإفطار يحدُّ من جشع الصائم فلا يُقبل على طعامه يلتهمه دون مضغ أو تذوق[(84)]، فإن هذا مع أنه خلاف السنة ـ أيضاً ـ يشغل كذلك عن المبادرة بحضور صلاة المغرب مع الجماعة، بل قد تفوت بالكلية.
فإن لم يجد الصائم تمراً أفطر على الماء، والماء يطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم، وينظفها، كما قرر ذلك الطب الحديث.
حكم الوصال في الصوم(1/23)
662/13 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ؟ قَالَ: «وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِيني»، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْماً، ثُم يَوْماً، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ، فَقَالَ: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلاَلُ لَزِدْتُّكُمْ» كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «التنكيل لمن أكثر الوصال» (1965)، ومسلم (1103)، من طريق الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال.. وذكر الحديث.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (نهى) النهي: طلب الترك ممن دون الطالب.
قوله: (الوصال) هو وصال الصائم بين يومين لا يفطر في الليل.
قوله: (إنك تواصل) جملة تعليلية لوصالهم، أي: أننا واصلنا لأنك تواصل، وأنت أسوتنا.
قوله: (يطعمني ربي ويسقيني) جملة تعليلية لبيان الفرق بينهم وبينه، المانع من الأسوة فيه، والمراد بالطعم والسقي: ما يعطيه الله تعالى له من قوة الطاعم والشارب لاستغنائه عن الطعام والشراب بما فيه قلبه من ذكر الله تعالى والأنس بمناجاته فلا يتأثر بالوصال، وأما غيره صلّى الله عليه وسلّم فلا يحصل له ذلك، وليس الحديث على ظاهره وهو أنه طعام وشراب حسي؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً.
قوله: (لو تأخر لزدتكم) أي: لو تأخر الشهر لزدتكم في الوصال إلى أن تعجزوا عنه فتسألوا التخفيف عنكم بتركه.(1/24)
قوله: (كالمنكل لهم) أي: كالمعاقب لهم، وقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه، قال: واصل النبي صلّى الله عليه وسلّم آخر الشهر وواصل أناس من الناس، فبلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «لَوْ مُدَّ بي الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ...» الحديث[(85)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الوصال في الصيام منهي عنه، والحكمة من النهي عنه؛ ما فيه من الضرر الحاصل أو المتوقع، وإنهاك البدن، وإحداث الملل، والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة والإكثار من تلاوة القرآن، أو الوظائف الأخرى، وهي الأعمال اليومية التي كلف بها الإنسان.
وقد اختلف العلماء في حكم الوصال على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الوصال محرم، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة؛ أبي حنيفة ومالك والشافعي[(86)]، وعزاه ابن الملقن إلى الجمهور[(87)]، وصرح ابن حزم بتحريمه[(88)]. واستدلوا بدليلين:
1 ـ ظاهر النهي، قالوا: ومواصلة النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه قَصَدَ بها التنكيل وليس التقرير، لقوله: (كالمنكل لهم) وما كان طريقه العقوبة لا يكون من الشريعة.
2 ـ حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»[(89)].
ووجه الدلالة: أن الشرع لم يجعل الليل محلاًّ لسوى الفطر وانتهاء وقت الصيام، فالوصال فيه مخالفة لوضعه؛ كيوم الفطر.
القول الثاني: أن الوصال جائز إن قدر عليه، وهذا مروي عن عبد الله بن الزبير، فقد روى ابن أبي شيبة عنه أنه واصل خمسة عشر يوماً[(90)]، وروى ـ أيضاً ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال، وهذه أختي تواصل وأنا أنهاها)[(91)].(1/25)
وذهب إليه طائفة من السلف؛ كعبد الرحمن بن أبي نُعْم، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وأبو الجوزاء، وغيرهم[(92)]. وهؤلاء استدلوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم واصل بأصحابه يوماً ثم يوماً حتى رأوا الهلال، ولو كان النهي للتحريم لم يواصل بهم ولم يقرهم، بل أنكر عليهم.
وقد أخرج أبو داود من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه...[(93)].
فصرح الصحابي بأنه لم يحرم الوصال، فهذا يدل على أن النهي عن الوصال ليس للتحريم وأنه مصروف إلى كراهة التنزيه، رحمة بهم وتخفيفاً عليهم، قالت عائشة رضي الله عنها: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوصال رحمة لهم...) الحديث[(94)]، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم، ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشقَّ عليه.
والقول الثالث: التفصيل، وهو جواز الوصال إلى السحَر، مع أن المبادرة بالفطر أفضل، وما زاد على ذلك فهو مكروه. وهذا قول الإمام أحمد، وإسحاق، وبعض المالكية، وابن خزيمة ـ من الشافعية ـ، وطائفة من أهل الحديث[(95)].
واستدلوا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لاَ تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ...» الحديث[(96)].
ورجَّح هذا القول ابن القيم، فقال: (إنه أعدل الأقوال وأسهله على الصائم، وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر، فالصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، والله أعلم)[(97)].(1/26)
الوجه الرابع: الحديث دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير والتأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه لما نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل؛ أي: فنحن نتأسى بك ونواصل.
الوجه الخامس: أن الأصل التأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حتى يقوم دليل على خصوصية الحكم.
الوجه السادس: ظاهر قوله: «إني لست كهيئتكم» ، وفي آخر حديث الباب: «وأيكم مثلي؟» ، أن جواز الوصال خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم دون أمته لوجود الفارق بينه وبينهم، وهو أن الله تعالى يطعمه ويسقيه فلا يتأثر بالوصال، وليس ذلك الأمر بحاصل لهم.
لكن الذي يظهر مما تقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما نهاهم عن الوصال لأنه خاص به؛ وإنما نهاهم رحمة بهم وتخفيفاً عليهم لئلاً يشق عليهم، فيدل على أن من لا يشق عليه الوصال أنه لا مانع منه، وهذا هو ظاهر قوله: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» ، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
ما يجب على الصائم تركه
663/14 ـ وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللفْظُ لَهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم» (1903)، وفي كتاب «الأدب»، باب «قول الله تعالى: {{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}}» (6057)، وأبو داود (2362) من طريق ابن أبي ذئب، حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.(1/27)
وقول الحافظ: (إن اللفظ لأبي داود) وهم منه رحمه الله، فإن هذا لفظ البخاري في الموضع الثاني، وأما أبو داود فليس عنده كلمة: «والجهل» كما في المطبوع؛ إلا إن كان الحافظ وقف على نسخة فيها ذلك، وعند أبي داود: «حاجة أن يدع» بدون «في» .
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يجب على الصائم أن يحفظ صومه مما يؤثر عليه وينقص ثوابه، وذلك بالتحلي بمكارم الأخلاق، والبعد عن سيئها من قول الزور والعمل به والجهل؛ فإن هذه الأخلاق وإن كان منهيًّا عنها كل وقت، لكن يزداد قبحها في الصيام، ولهذا ذكرت فيه، وحصولها من الصائم يدل على أن صيامه ناقص المعنى، قليل الأجر؛ لأنه ليس صوماً تامًّا كاملاً؛ إذ لو كان كذلك لصان صيامه عن الأقوال المحرمة، والأفعال السيئة، وإن وقت الصائم لأَنفسُ وأغلى من أن ينفق في هذه المهلكات، التي تؤثر على ثواب الصيام أو تذهب حقيقته وتلغي آثاره التربوية والخلقية؛ لأن قوله: «فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» يشعر بأنه يخشى على من ارتكب شيئاً من ذلك وهو صائم ألا يُقبل منه صيامه، وفي هذا دليل على أن الصيام ليس مجرد الامتناع عن المفطرات الحسية؛ بل لا بدّ فيه من صيام الجوارح عما حرم الله تعالى، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، ليؤدي الصوم دوره في تربية النفس وتهذيب الأخلاق، وأولى الناس بذلك من لهم علاقة بالآخرين؛ كالقاضي، والمعلم، والطالب، والموظف، ونحوهم.
وقول الزور: كل قول مائل عن الحق إلى الباطل، فيدخل فيه كل كلام محرم من الكذب، والسبِّ، والشتم، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور.
والعمل بالزور: هو العمل بكل فعل محرم فيه عدوان على الناس من الظلم، والخيانة، والغش، وأخذ المال، وإيذاء الناس، ونحو ذلك، كما يدخل فيه الاستماع أو النظر إلى ما حرم الله تعالى من الأغاني وآلات اللهو والطرب.
والجهل: هو السَّفَهُ، وهو مجانبة الرشد في القول والعمل.(1/28)
إن الصيام مدرسة تربوية تعلِّم الحِلْم والصبر والصدق، وتحث على مكارم الأخلاق وفضائل الأقوال والأعمال، والصيام الشرعي صيام الجوارح عن الآثام، والبطن عن الطعام والشراب، والفرج عن الرَّفَث ومباشرة النساء، فإذا تمَّ ذلك أدَّى الصوم ثمراته وفوائده، وترتب عليه المغفرة الموعود بها.
حكم القبلة والمباشرة للصائم
664/15 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم.
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: فِي رَمَضَانَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «المباشرة للصائم» (1927)، ومسلم (1106) (65) من طريق إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، به.
ورواه مسلم من طريق زياد بن عِلاقَةَ، عن عمرو بن ميمون، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يُقَبِّل في شهر الصوم)، وفي لفظ: (في رمضان).
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه يجوز للصائم أن يقبّل زوجته وأن يباشرها، ولا يؤثر ذلك على الصيام ولا ينقص ثوابه.
والمراد بالمباشرة: التقاء البشرتين باللمس ونحوه، فهي أعم من التقبيل، وتطلق على الجماع، لكنه غير مراد هنا.
وقد أخرج الطحاوي بسنده عن حكيم بن عِقَالٍ، قال: سألت عائشة ما يحرم عليَّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: (فرجها)[(98)].
وأخرج عبد الرزاق بسنده عن مسروق قال: سألت عائشة ما يَحِلُّ للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: (كل شيء إلا الجماع)[(99)].(1/29)
الوجه الثالث: دل قولها رضي الله عنها: (وكان أملككم لإربه) على أن الصائم إذا خشي من المباشرة تَحَرُّكَ شهوته، أو تَدَرُّجَهُ إلى الجماع أنه يجب عليه ترك التقبيل والمباشرة، سدًّا للذريعة؛ ولأن حفظ الصيام من الإفساد واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والأَرَبُ: بفتح الهمزة والراء، هو الشهوة وحاجة النفس.
والإِرْبُ: بكسر الهمزة وسكون الراء، هو العضو وهو الذكر، وقد يطلق على حاجة النفس أيضاً[(100)].
فالضابط في الجواز هو أن يملك الصائم أربه، ويقدر على ضبط نفسه، فإن خاف من الوقوع في المحذور لم يجز له أن يقبّل ولا أن يباشر.
فإن قبّل الصائم أو باشر فأنزل فسد صومه، قال ابن قدامة: (بغير خلاف نعلمه)[(101)]، وهذا فيه نظر، فقد ذهب ابن حزم إلى أنه لا يفطر بالقبلة والمباشرة ولو أنزل، وقوَّى ذلك[(102)]، وجاء عن جماعة من الصحابة والتابعين جواز المباشرة للصائم[(103)]، وكذا لو استمنى فأنزل فسد صومه، لأنه في معنى القبلة في إثارة الشهوة، وذهب ابن حزم إلى أنه لا يفسد صومه، مستدلاً بأنه لم يأت نص بأنه ينقض الصوم[(104)]، فإن قبَّل أو باشر فخرج منه مذي لم يفسد صومه في أصح قولي العلماء؛ لأنه خارج أشبه البول، والله تعالى أعلم.
حكم الحجامة للصائم
665/16 ـ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
666/17 ـ وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَتَى عَلَى رَجُلٍ ـ بِالْبَقِيعِ ـ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلاَّ التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.(1/30)
667/18 ـ وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَتْ الحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ؛ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: «أَفْطَرَ هَذَانِ»، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بَعْدُ فِي الحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَوَّاهُ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «الحجامة والقيء للصائم» (1938) من طريق وهيب، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه (1939) من طريق عبد الوارث، حدثنا أيوب، ولفظه: (احتجم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو صائم).
وأما حديث شداد بن أوس رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في «الصيام» بابٌ «في الصائم يحتجم» (2369)، والنسائي في «الكبرى» (3/319)، وابن ماجه (1681)، وأحمد (28/235)، وابن حبان (3534)، كلهم من طريق أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس رضي الله عنه، به.
وأخرجه ابن ماجه (1680) من طريق أبي قلابة أن أبا أسماء حدثه عن ثوبان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم...) فجعله من مسند ثوبان.
وهذا الحديث في إسناده اختلاف، وفي متنه اضطراب، وقد اختلفت فيه كلمة أهل العلم، والأكثرون على تصحيحه، فممن صححه الإمام البخاري، فقد قال الإمام الترمذي: (سألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس وثوبان، فقلنا له: كيف بما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وعن أبي الأشعث عن شداد بن أوس، روى الحديثين جميعاً)[(105)].(1/31)
وممن صحَّحه ابن المديني، وإسحاق بن إبراهيم، وعثمان الدارمي، والعقيلي، والنووي، وآخرون[(106)]، وممن ضعفه الحافظ أبو حاتم، والإمام الشافعي[(107)].
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه الدارقطني (2/182) من طريق خالد بن مخلد القطواني، ثنا عبد الله بن المثنى، عن ثابت البناني[(108)]، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، به.
وقال الدارقطني عن رجاله: (كلهم ثقات، ولا أعلم له علة)، وقد تعقبه ابن عبد الهادي بكلام نفيس، مفاده أن هذا حديث منكر، شاذ الإسناد، وفي متنه نكارة، لما يلي:
1 ـ أن هذا الحديث غير معروف في المصنفات المشهورة، لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد مع أن الأمة تحتاج إليه أشد الاحتياج، ولا يعرف أحد رواه في الدنيا إلا الدارقطني.
2 ـ أن خالد بن مخلد وعبد الله بن المثنى، وإن كانا من رجال الصحيح، فقد تكلم فيهما غير واحد من الأئمة، فخالد قال عنه الإمام أحمد: (له أحاديث مناكير)، وقال ابن سعد: (منكر الحديث، مفرط التشيع)[(109)]، وابن المثنى قال عنه أبو داود: (لا أخرج أحاديثه)، وقال النسائي: (ليس بالقوي)[(110)].
3 ـ أن في متنه نكارة؛ لأن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قتل في غزوة مؤتة وهي قبل الفتح، وحديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» كان عام الفتح بعد قتل جعفر رضي الله عنه[(111)].
الوجه الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما دليل على جواز الحجامة للصائم، وأنها لا تؤثر على الصيام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم احتجم وهو صائم، وهذا قول الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة ومالك والشافعي، وهو ظاهر اختيار البخاري، ورجَّحه ابن حزم[(112)].
ويؤيد ذلك ما تقدم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثني رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه...(1/32)
وقد روى البخاري بسنده عن شعبة قال: (سمعت ثابتاً البناني قال: سئل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ ـ وفي رواية: على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: لا، إلا من أجل الضعف)[(113)].
الوجه الثالث: حديث شداد بن أوس دليل على أن الحجامة تفسد الصيام؛ لقوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، فالمحجوم يفطر بسبب خروج الدم؛ لأنه يضعفه، وأما الحاجم فلأنه يمص الدم.
وهذا مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم[(114)].
وقد طعن في حديث ابن عباس الدال على الجواز كبار الحفاظ، كالإمام أحمد، وابن المدني، وابن معين، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو حاتم[(115)]، وقالوا: إن لفظة «وهو صائم» غير محفوظة، وقال مهنا: (سألت أحمد عن الحديث، فقال: ليس فيه «للصائم» إنما «وهو محرم»)[(116)].
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ هو قول الجمهور، وأن الحجامة كانت تفطِّر في أول الأمر ثم نسخ هذا الحكم.
ويدل ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (رَخَّصَ رسول الله (ص) في القبلة للصائم، ورخص في الحجامة)[(117)].
قال الحافظ: «قال ابن حزم: إسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة، سواء أكان حاجماً أو محجوماً»[(118)]، وظاهر أحاديث الجواز أنها متأخرة عن أحاديث النهي، وقد روي موقوفاً بلفظ: (رُخِّص للصائم في الحجامة والقبلة)[(119)].
وهذا له حكم الرفع؛ لأن الترخيص في الأحكام الشرعية من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا المرفوع حكماً يفسره مجيئه مرفوعاً صريحاً، فيدل على نسخ حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الدال على أن الحجامة تفطر الصائم، كما يدل على ذلك حديث أنس رضي الله عنه، على ما تقدم فيه من مقال.(1/33)
الوجه الرابع: يتفرع على مسألة الحجامة مسألة أخذ الدم للتحليل، فعلى القول بأن الحجامة تفطر الصائم يكون أخذ الدم الكثير للتحليل يفطر الصائم؛ فإن كان يسيراً لم يؤثر.
وأما على القول بأن الحجامة لا تفطر فأخذ الدم لا يفطر مطلقاً، سواء أكان كثيراً أم قليلاً.
أما الرعاف وخروج الدم من الجرح والسن إذا لم يبلعه فهذا لا يفطر مطلقاً، سواء أكان كثيراً أم قليلاً؛ لأنه خرج بغير اختياره، والأصل صحة الصوم إلا بدليل صحيح يدل على فساده، والله تعالى أعلم.
حكم الكحل للصائم
668/19 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لاَ يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه ابن ماجه (1678) من طريق بقية بن الوليد، حدثنا الزُّبيدي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اكْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ صَائِمٌ) وليس فيه: (في رمضان).
وهذا حديث ضعيف، فيه الزبيدي، وهو سعيد بن عبد الجبار الزبيدي الحمصي، قال فيه ابن المديني: (لم يكن بشيء، كان يحدثنا بالشيء، فأنكرنا عليه بعد ذلك، فجحد)، وقال مسلم: (متروك الحديث)، وقال البيهقي: (سعيد الزبيدي من مجاهيل شيوخ بقية، يتفرد بما لا يتابع عليه)[(120)]. قال النووي: (اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين مردودة، واختلفوا في روايته عن المعروفين، فلا يحتج بحديثه هذا بلا خلاف)[(121)].(1/34)
وهذا الحديث من أفراد ابن ماجه عن بقية أصحاب الكتب الستة، وأفراده يغلب عليها الضعف. قال الترمذي: (لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب شيء)[(122)]؛ أي: لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث يدل على حكم الكحل للصائم، فلم يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه اكتحل، ولا أنه نهى الصائم عنه.
الوجه الثاني: اختلف العلماء في حكم اكتحال الصائم على قولين:
الأول: أن الصائم ممنوع من الاكتحال وأنه يُفَطِّرُ، وهذا مذهب الإمام أحمد، ونقله الترمذي عن سفيان وابن المبارك وإسحاق[(123)].
واستدلُّوا بما أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بالإثمد المُروَّح عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم»[(124)].
كما استدلوا بأن العين منفذ، بدليل أنه يجد طعم الكحل في الحلق.
والقول الثاني: جواز اكتحال الصائم وأنه لا يؤثر على صيامه مطلقاً، سواء وجد طعمه في حلقه أم لا، وهو قول الحنفية والشافعية، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية[(125)].
واستدلوا بحديث الباب، ولأن العين ليست منفذاً، فلم يفطر بالداخل منها.
وهذا هو الراجح؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك شيء، والأصل صحة الصيام إلا بدليل صحيح صريح يدل على فساده، والكحل لا يفطر ولو وجد طعمه في حلقه؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب، ولا بمعنى الأكل والشرب، والعين ليست منفذاً لهما.
والكحل مما تعم به البلوى ويحتاج الناس إلى معرفة حكمه، فلو كان يفطر الصائم لبيَّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم كما بيَّن غيره من المفطرات، فلما لم يبينه دلَّ على أنه لا يؤثر على الصائم.
وقد روى أبو داود بسنده عن أنس رضي الله عنه أنه كان يكتحل وهو صائم، وروى ـ أيضاً ـ عن الأعمش أنه قال: (ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم، وكان إبراهيم ـ يعني النخعي ـ يرخص أن يكتحل الصائم بالصَّبِر)[(126)].(1/35)
وقد نقل النووي أن ابن المنذر حكى ذلك عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي، وحكاه غيره عن ابن عباس وأنس وابن أبي أوفى رضي الله عنهم، وعزاه إلى داود الظاهري[(127)].
وأما حديث: «لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» ، فقد قال أبو داود عقبه: (قال لي يحيى بن معين: هو حديث منكر)، وكذا قال الإمام أحمد فيما نقله عنه أبو داود[(128)]، وعلَّة الحديث والد عبد الرحمن: وهو النعمان بن معبد فإنه مجهول، كما في «التقريب» وغيره، وأما عبد الرحمن فقد ضعَّفه ابن معين، وقال أبو حاتم: (صدوق)، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(129)].
ويُقاس على الكحل قطرة العين؛ لأنها في معنى الكحل، ومثل ذلك قطرة الأذن، لما تقدم.
وأما قطرة الأنف فإنها تفطر إذا دخل ذلك في جوفه؛ لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة، ولحديث لقيط بن صبرة: «وبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِماً» [(130)]، والله تعالى أعلم.
حكم صوم مَن أكل أو شرب ناسياً
669/20 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فإنما أَطْعَمَهُ اللهُ، وَسَقَاهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
670/21 ـ وَلِلْحَاكِم: «مَنْ أَفْطَرَ في رَمَضَانَ نَاسِياً فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلاَ كَفَّارَةَ». وَهُوَ صَحِيحٌ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الأول، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً» (1933)، ومسلم (1155)، من طريق هشام، حدثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وأما حديثه الثاني، فقد أخرجه ابن خزيمة (1990)، وابن حبان (8/287 ـ 288)، والحاكم (1/430) من طريق محمد بن مرزوق، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/36)
وهذا سند حسن، من أجل محمد بن عمرو بن علقمة؛ فإن فيه كلاماً من قبل حفظه، قال عنه في «التقريب»: (صدوق، يخطئ)، وهو حسن الحديث ما لم يخالف، كما تقدم.
وأورد الحافظ هذه الرواية لأنها أعم مما قبلها، فيدخل فيها الأكل والشرب والجماع، ونحو ذلك مما يفطر.
لكن أعلَّه ابن عدي والدارقطني بتفرد ابن مرزوق به، عن الأنصاري، ثم قال: (هذا حديث غريب المتن والإسناد)[(131)]. وقد تابع ابن مرزوق أبو حاتم الرازي عند الحاكم، والبيهقي (4/129)، وقال ابن عبد الهادي: (المشهور في هذا الحديث هذا اللفظ المخرج في الصحيح، وهذا مروي بالمعنى، والله أعلم)[(132)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن من أكل أو شرب فصومه صحيح لا نقص فيه، ولا إثم عليه؛ إذ لا قصد له في ذلك؛ بل هو رزق ساقه الله إليه، ولهذا أضاف النبي صلّى الله عليه وسلّم إطعامه وسقيه إلى الله تعالى، وليس عليه قضاء؛ لأنه أُمر بالإتمام، وسُمِّي الذي يُتِمُّ صوماً، فدل على أنه صائم حقيقة، وهذا أمر مجمع عليه، لولا خلاف الإمام مالك، وربيعة الرأي، وابن أبي ليلى، حيث قالوا ببطلان صومه ولزوم القضاء؛ لأن الإمساك عن المفطرات ركن الصوم؛ كمن نسي ركناً من أركان الصلاة، ومعنى: «فليتم صومه» أي: فليتم إمساكه عن المفطرات.
والصواب صحة صومه وأنه لا قضاء عليه، والحديث حجة ظاهرة، وقد خالف جمهور المالكية المتأخرين الإمام مالكاً. وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أيضاً ـ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِياً أَوْ شَرِبَ نَاسِياً فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ» [(133)]، فهذا نص صريح في صحة صومه وعدم قضائه له، لكن الظاهر أن لفظة: (ولا قضاء عليه) شاذة.(1/37)
الوجه الثالث: قاس الفقهاء على الأكل والشرب بقية المفطرات، لقوله في الرواية الثانية: «من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة» . وتخصيص الأكل والشرب في الحديث إنما هو باعتبار الغالب، والتخصيص بالغالب لا يقتضي مفهوماً، فلا يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه.
وهذا الحكم في الصائم فرد من أفراد القاعدة العظيمة التي دل عليها قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] ، وقد صحَّ أن الله تعالى قال إجابة لهذا الدعاء: (قد فعلت) ، وفي رواية: (قال: نعم) [(134)]، وهذا من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده وتيسيره عليهم ورفع الحرج والمشقة عنهم.
ومثل ذلك ما لو اغتسل الصائم أو تمضمض أو استنشق فدخل الماء إلى حلقه بلا قصد لم يفسد صومه، وكذا لو طار إلى حلقه ذباب أو غبار من طريق أو دقيق، أو نحو ذلك؛ أنه لا يفسد صومه؛ لأنه كالناسي في ترك العمد وسلب الاختيار.
ومن رأى صائماً يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسياً وجب عليه إعلامه وتذكيره؛ لأنه هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأكل والشرب في نهار رمضان منكر، والناسي معذور فوجب إعلامه في الحال، والله تعالى أعلم.
أثر القيء على الصيام
671/22 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ ذَرَعَهُ القَيءُ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَأَعَلَّهُ أَحْمَدُ، وَقَوَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصيام»، باب «الصائم يستقيء عامداً» (2380)، والترمذي (720)، والنسائي في «الكبرى» (3/317)، وابن ماجه (1676)، وأحمد (16/283) من طريق عيسى بن يونس، ثنا هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.(1/38)
وإسناده ظاهره الصحة، قال الدارقطني: (رواته كلهم ثقات)[(135)]، لكنه معلول، فقد قال البخاري: (لا أُراه محفوظاً)[(136)]، نقله عنه الترمذي[(137)]. وقال أحمد: (ليس من هذا شيء). قال الخطابي: يريد أنه غير محفوظ[(138)]، وقال مهنا عن أحمد: (حدث به عيسى، وليس هو في كتابه، وليس هو من حديثه)[(139)].
وممن أَعلَّه الدارمي، فإنه قال: (قال عيسى ـ يعني ابن يونس ـ: زعم أهل البصرة أن هشاماً أوهم فيه، فموضع الخلاف هاهنا)[(140)]، ومعنى ذلك أن الوهم من هشام بن حسان، وكذا أعله أبو داود والنسائي والترمذي، وآخرون.
وقول الحافظ: (وقواه الدارقطني) أي: قال: (رواته ثقات) ـ كما تقدم ـ ولا يلزم من ذلك صحة الإسناد، كما هو معلوم، وقد نقل ابن مفلح عن الدارقطني تضعيف الحديث[(141)].
ومما يدل على ضعفه أن الإمام البخاري روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (إذا قاء فلا يفطر، إنما يُخرج ولا يُولج..)[(142)]، ولو كان هذا الحديث ثابتاً ما أفتى أبو هريرة رضي الله عنه بخلافه، فكأن البخاري يرى صحة الموقوف على أبي هريرة رضي الله عنه دون المرفوع.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الصائم إذا تقيَّأ مستدعياً للقيء فسد صومه وعليه القضاء، وهذا مذهب الجمهور، وقد علل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وهو ممن يرى الفطر بالقيء ـ بأن القيء يضعف البدن ويخرج المادة التي يتغذى بها.
واستدل الجمهور ـ أيضاً ـ بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاءَ فأفطر... الحديث[(143)].
لكن أجيب عنه بأجوبة:
الأول: أنه حديث مختلف في إسناده، كما قاله البيهقي وغيره من الحفاظ[(144)]، وقد ذكره المجد في «المنتقى» بلفظ: (قاء فتوضأ...) ونسبه لأحمد والترمذي، وليس فيهما، كما ذكر أحمد شاكر[(145)].(1/39)
الثاني: أن هذا كان في صوم التطوع وأنه صلّى الله عليه وسلّم قاء فضعف فأفطر، هكذا روي في بعض الحديث مفسَّراً، ذكر ذلك الترمذي. وقال ابن بطال: (وليس فيه دليل على أن القيء كان مفطراً له؛ وإنما فيه أنه قاءَ فأفطر بعد ذلك)[(146)].
الثالث: أن هذا مجرد فعل، وهو لا يدل على الإيجاب.
وأما إذا ذرعه القيء وغلبه وخرج منه من غير اختياره فصومه صحيح ولا شيء عليه. قال الخطابي: (لا أعلم بين أهل العلم فيه اختلافاً)[(147)]. وقال ابن قدامة: (هذا قول عامة أهل العلم)[(148)]، وقد روى مالك عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (من استقاء وهو صائم، فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء)[(149)].
وذهب بعض أهل العلم إلى أن القيء لا يفطر، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهم[(150)]، وقال به عكرمة، وهو ظاهر اختيار البخاري، فإنه ساق بعض الآثار الدالة على ذلك، وحكاه ابن حجر رواية عن مالك[(151)].
ودليل ذلك أنه لم يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك شيء مع أن القيء مما تعم به البلوى، وتحتاج الأمة إلى معرفة حكمه، وتقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه في ذلك.
وقد نقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء[(152)]، ونقله عنه ابن قدامة[(153)]، وفيه نظر، لثبوت الخلاف، كما تقدم، والله أعلم.
حكم الصيام في السفر
672/23 ـ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، قَالَ: «أُولئِكَ الْعُصَاةُ، أُولئِكَ الْعُصَاةُ».(1/40)
وَفِي لَفْظٍ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
673/24 ـ وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِي رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
674/25 ـ وَأَصْلُهُ فِي «المُتفَقِ» مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّ حَمْزَةَ بن عَمْرٍو سَأَلَ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو حمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وروى عنه ابنه محمد، وسليمان بن يسار، وأبو مراوح الغفاري، وغيرهم.
وروى البخاري في «تاريخه» بسنده عن محمد بن حمزة الأسلمي، عن أبيه، قال: (كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة ظلماء دُحْمُسَةٍ[(154)] فأضاءت أصابعي، حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي لتنير)[(155)]، بَشَّرَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه بفتح أجنادين، وقيل: إنه الذي بشر كعب بن مالك رضي الله عنه بتوبة الله تعالى عليه، فأعطاه كعب ثوبيه، ذكر هذا الحافظ في شرح قصة كعب رضي الله عنه[(156)].
مات سنة إحدى وستين، وهو ابن (71) سنة، وقيل: بلغ ثمانين[(157)].
الوجه الثاني: في تخريجها:
أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصيام»، باب «جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر...» (1114) (90) من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد، حدثنا جعفر، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه، به.(1/41)
وأما الرواية الثانية فهي من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن جعفر بهذا الإسناد (1113) (91)، ولكن لفظة (فشرب) ليست في «الصحيح».
وأما حديث حمزة بن عمرو، فقد أخرجه مسلم ـ أيضاً ـ في باب «التخيير في الصوم والفطر في السفر» (1121) (107) من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن الأسود، عن عروة بن الزبير، عن أبي مراوح، عن حمزة بن عمرو، به.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «الصوم في السفر والإفطار» (1942) (1943)، ومسلم (1121) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصيام في السفر، فقال: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ».
ولعل الحافظ قدم رواية مسلم، لكونها من رواية حمزة نفسه، أو لما فيها من الفوائد الزائدة على رواية «الصحيحين»؛ لأنه في لفظ مسلم قال: «هِي رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ...» ، ولفظ «الصحيحين»: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» ، لكن قد يقال: إن الحديث واحد.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظها:
قوله: (كراع الغميم) بضم الكاف، وفتح الراء المهملة، ثم ألف، آخره عين مهملة، هو الطرف من كل شيء، والمراد هنا: جبل أسود طويل على يسار الطريق، شبيه بالكراع.
والغميم: بفتح الغين، اسم وادٍ على طريق مكة إلى المدينة، يبعد عن مكة (64) كيلاً، ويعرف عند أهل تلك الجهة ببرقاء الغميم، وهو وادي عُسفان، وينتهي مصبه في البحر الأحمر.(1/42)
قوله: (على الصيام في السفر) لم يبين ما المراد بالصوم، إلا أنه ورد عند البخاري من حديث عائشة: (وكان كثير الصيام)، فهذا قد يرجح أنه صوم التطوع، لكن قوله في رواية مسلم: «هي رخصة من الله» يفيد أن المراد صوم رمضان؛ لأن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب، وقد جاء عند أبي داود بلفظ: «إِنِّي صاحب ظَهْرٍ أُعَالِجُهُ، أُسَافِرُ عَلَيْهِ وأَكْرِيهِ، وَإِنَّهُ صَادَفَنِي هَذَا الشَّهْرُ ـ يَعْنِي رَمَضَانَ ـ وَأَنَا أَجِدُ الْقُوَّةَ، وَأَنَا شَابٌّ...» الحديث[(158)]، وعلى هذا ففائدة قوله: (وكان كثير الصيام) بيان قوته على الصوم، وأن الصوم يسير في السفر عليه.
قوله: (فصم... فأفطر) أمر للإباحة.
الوجه الرابع: في هذه الأحاديث دليل على أن المسافر له أن يصوم، وله أن يفطر، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، واستدلوا ـ أيضاً ـ بحديث أنس رضي الله عنه قال: (كنا في سفر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم)[(159)].
وذهب داود الظاهري وابن حزم إلى أنه لا يجزئ المسافر الصوم؛ وإنما فرضه الفطر[(160)]؛ لأن الله تعالى قال: {{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم في حق الذين صاموا: «أُولَئِكَ العُصَاةُ، أُولَئِكَ العُصَاة» ، ولحديث جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: «ما هذا؟» ، قالوا: صائم، قال: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» )[(161)].(1/43)
والصواب هو القول الأول؛ لقوة أدلته، وأما الآية فليس فيها دليل على عدم إجزاء صوم المسافر لو صام؛ وإنما فيها أن المسافر إذا أفطر فعليه عدة من أيام أُخر، والسنة تبين القرآن، ولو كان الصيام في السفر لا يجزئ ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا أحد من أصحابه، وهم أعلم منا بمراد الله تعالى في كتابه، وقد جاء عن بعض السلف من الصحابة والتابعين وجوب الصوم في السفر، لظاهر قوله تعالى: {{وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ}}[(162)].
وأما قوله: (أولئك العصاة) فإنما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم في حق المخالفين الذين لم يمتثلوا أمره لهم بالإفطار حين شق الصيام على الناس، ولا ريب أن الفطر متعين في هذه الحالة، وعدم الامتثال معصية.
وأما حديث: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» ، فإنما قاله فيمن شق عليه الصيام، بدليل السياق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صام في السفر، وهو لا يفعل ما ليس ببر.
والحق أن القول بوجوب الفطر في السفر إعراض عن الأحاديث الدالة على جواز الصيام، وهي كثيرة.
ثم اختلف الجمهور أيهما أفضل في السفر الصوم أو الفطر؟
فذهب أبو حنيفة والشافعي ـ ونسبه ابن حجر إلى الجمهور[(163)] ـ إلى أن الصوم أفضل حيث لا مشقة ولا ضرر؛ ولأن هذا هو فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه حيث صام صلّى الله عليه وسلّم هو وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه[(164)]. ولأنه أسرع في إبراء الذمة، وأيسر إذا صام والناس صائمون. وقد رجح هذا القول ابن حجر.
وذهب الإمام أحمد وأصحابه إلى أن الفطر أفضل ولو لم يلحقه مشقة. ودليلهم حديث الباب، فإن قوله: «هِيَ رُخْصَةٌ مِن اللهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ» يدل على أن الفطر أفضل؛ لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه[(165)]؛ ولأنه قال في الصيام: «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْه».(1/44)
والقول الثالث: أن الأفضل هو الأيسر، فمن كان الفطر أيسر عليه وأسهل له فهو أفضل في حقه، ومن كان الصوم أسهل عليه فهو أفضل. وهذا قول عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة، واختاره ابن المنذر[(166)].
وهذا قول قوي تجتمع به الأدلة الكثيرة في موضوع الصيام في السفر ويعمل بها كلها.
واعلم أنه لا فرق في جواز الفطر في السفر بين طول المدة وقصرها، ولا بين السفر الطارئ لغرض، أو المستمر كسائقي الطائرات وسيارات الأجرة، لعموم الأدلة، والرخصة في الإفطار منوطة بالسفر؛ لأنه مظنة المشقة، ولا يشترط حصول المشقة، فلو سافر على الطائرة ـ مثلاً ـ فله الفطر؛ لأنه مسافر فارق بلده، والله تعالى أعلم.
حكم الكبير الذي لا يطيق الصيام
675/26 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: رُخِّصَ للشيخ الكبير أَنْ يُفْطِرَ، وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (2/205)، والحاكم (1/440) من طريق خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الدارقطني: (وهذا الإسناد صحيح) وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط البخاري).
الوجه الثاني: هذا الأثر دليل على أن الشيخ الكبير الذي لا يستطيع أن يصوم أن له أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، وليس عليه قضاء.
ومثل ذلك المرأة الكبيرة العاجزة عن الصيام؛ وكذا من يشق عليه الصيام؛ كالمريض الميؤوس من برئه، وهو لا يقدر على الصيام، فهذا ملحق بالشيخ الكبير؛ لأنه لن يتمكن من القضاء ما دام مرضه ملازماً له على الدوام.(1/45)
وقول ابن عباس رضي الله عنهما هو المعتمد في هذه المسألة، والظاهر أنه لا مخالف له من الصحابة رضي الله عنهم، ويحتمل أنه سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم لما يتبادر من قوله: (رُخِّص)، ويحتمل أنه استنبطه من قوله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، وأشباهها.
وقد نقل ابن المنذر، وابن حزم الإجماع على ذلك[(167)].
وقد أخرج البخاري بسنده عن عطاء، أنه سمع ابن عباس يقرأ: (وعلى الذين يطوقونه[(168)] فدية طعام مسكين) قال ابن عباس: (ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً)[(169)].
وهذا رأي ابن عباس رضي الله عنهما وهو أن الآية ليست منسوخة، بل هي محكمة في حق من يشق عليه الصيام؛ كالكبير والمريض الذي امتد به المرض، كما ورد عنه في رواية أخرى، وقد ورد عنه ما يدل على أنها منسوخة بقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] [(170)]، وهذا مذهب الجمهور، وهو أنه في أول فرض الصيام من شاء أفطر وأطعم، ومن شاء صام، ثم نُسخ ذلك.
ولا تعارض فيما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن النسخ المنفي هو إزالة الحكم بالكلية، والنسخ المثبت هو تخصيص بعض أفراد العام، والمتقدمون يطلقون النسخ على التخصيص أحياناً ـ كما ذكر القرطبي[(171)] ـ، فتكون الآية نسخ حكمها في حق من يطيق الصيام، وبقي فيمن لا يطيقه إلا بمشقة.
ويخير الكبير العاجز عن الصيام ومن في حكمه في الإطعام بين أن يفرقه حباً على المساكين، لكل واحد مُدٌّ من البر، ومقداره (563) جراماً تقريباً ـ كما تقدم في الزكاة ـ وبين أن يصنع طعاماً ويدعو إليه من المساكين بقدر الأيام التي أفطرها، لما ورد عن أنس رضي الله عنه أنه ضعف عن الصوم عاماً فصنع جَفْنَةَ ثَريدٍ، ودعا ثلاثين مسكيناً فأشبعهم[(172)]، والله تعالى أعلم.
حكم جماع الصائم في نهار رمضان(1/46)
676/27 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟»، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟»، قَالَ: لاَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهذَا»، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنا؟ فَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
رَوَاهُ السَّبْعَةُ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، بابٌ «إذا جامع في نهار رمضان ولم يكن له شيء فتُصدق عليه فليكفّر» (1936)، ومسلم (1111)، وأبو داود (2390)، والنسائي في «الكبرى» (3/311)، والترمذي (724)، وابن ماجه (1671)، وأحمد (11/533) كلهم من طريق الزهري قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال:... فذكره.
وقد ذكر ابن القيم أن هذا الحديث رواه عن الزهري ما يزيد على أربعين نفساً[(173)].
وهو حديث كثير الفوائد، وقد أفرده بعضهم في مصنف مستقل ـ وهو الحافظ العراقي ـ واستنبط منه ألف مسألة ومسألة.
وقد أخرجه أبو داود من طريق هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد: «وَصُمْ يَوْماً وَاسْتَغْفِرِ اللهَ»[(174)].(1/47)
وقد طعن في هذه الزيادة غير واحد من الحفاظ؛ لأن أصحاب الزهري الأثبات الثقات أمثال: مالك، والليث، وعُقيل بن خالد، ومعمر، وغيرهم، لم يذكروا هذه اللفظة؛ وإنما رواه هشام بن سعد وأخطأ فيه، وقد تابعه من لا يعتد به؛ لأنهم خالفهم من هو أوثق منهم وأكثر عدداً، ولو كان هشام بن سعد ثقة لَحُكِمَ على روايته بالنكارة لمخالفته من ذكر، فكيف وهو سيئ الحفظ، كما قال الحافظ: (صدوق له أوهام)، وقد تقدم له ذكر في كتاب الصلاة[(175)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (هلكت) أي: وقعت في الإثم الذي يهلكني.
قوله: (هل تجد ما تعتق رقبةً) بالنصب بدل من (ما) التي هي مفعول (تجد).
قوله: (بعرق) بفتح العين والراء: هو الزبيل، وقد ورد في رواية عند البخاري: (فأُتي النبي صلّى الله عليه وسلّم بعرق فيه تمر، وهو الزبيل) ويقال: الزنبيل، ويسمى: القفة والسفيفة، كما ذكر ابن الملقن، وذكر ـ أيضاً ـ أن العرق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعاً، وذلك ستون مدًّا، لكل مسكين مدّ.
قوله: (أعلى أفقر منا؟) الهمزة داخلة على محذوف يفهم من السياق، يتعلق به الجار والمجرور، والتقدير: أأتصدق به على أفقر منا؟
قوله: (ما بين لابتيها) أي: ما وسط لابتيها، أي: لابتي المدينة، وهما حرَّتاها الشرقية، شرقي البقيع، وتسمى: حَرَّة واقم، والغربية غربي سلع، وتسمى: حرة الوبرة، والحرة: أرض تعلوها حجارة سود.
قوله: (بدت أنيابه) أي: ظهرت، والأنياب: جمع ناب، وهي السن التي خلف الرباعية.
قوله: (فأطعمه) أمر بمعنى الإباحة.(1/48)
الوجه الثالث: الحديث دليل على عظم الإثم في جماع الصائم في نهار رمضان، لقول الرجل: (هَلَكْتُ)، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» ، فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على أن فعله هذا مهلك، ولو لم يكن كذلك لهوَّن عليه الأمر، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قال: (احْتَرَقْتُ)[(176)]، وهذا الرجل كان جاهلاً لما يجب عليه، وليس جاهلاً أن الجماع في رمضان حرام، ولهذا قال: (هَلَكْتُ).
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من جامع في نهار رمضان وجب عليه أغلظ الكفارات، وهي على الترتيب:
1 ـ عتق رقبة، وظاهر الحديث أنه لا يشترط كونها مؤمنة؛ لأنه أطلق ولم يقيدها بالإيمان، وهذا قول الحنفية، والجمهور على اشتراط الإيمان، من باب حمل المطلق على المقيد؛ لأن الله تعالى اشترط الإيمان في كفارة القتل، مع أن السبب مختلف.
2 ـ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يتخللهما فطر، إلا لعذر كمرض ونحوه.
3 ـ فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكيناً.
وهذا قول الجمهور من أهل العلم سلفاً وخلفاً، وأما ما حُكي عن الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير من وجوب القضاء على المجامع بدون كفارة، فهو مبني على أن الحديث لم يبلغهم، كما قال البغوي[(177)]، وهذه الكفارة مختصة بالجماع في رمضان.
فإن جامع في قضاء رمضان فسد صومه، وعليه القضاء ولا كفارة؛ لأن الكفارة خاصة برمضان؛ لأن له حرمة خاصة، فالفطر انتهاك لها، بخلاف القضاء؛ فإن الأيام متساوية بالنسبة له.
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الأكل من طعام الكفارة لمن وجبت عليه إذا كان معسراً والتصدق على أهله، وهذا بناءً على أن العرق الذي أخذه أنه كفارة وليس صدقة، وهذا ظاهر الحديث، كما يقول الحافظ، بشرط أن يكون الإنسان قد أُعطيها كما في هذا الحديث، أما إذا كان هو الذي دفعها فليس له أن يأكل منها، بل يدفعها إلى مستحقها.(1/49)
والقول الثاني للجمهور وهو: أن ما أخذه ليس كفارة وإنما هو صدقة، والكفارة لا تسقط بالإعسار، بل تبقى ديناً في الذمة، قياساً على سائر الكفارات والديون.
قالوا: وليس في الحديث ما يدل على سقوطها، بل ظاهره عدم سقوطها؛ لأنه لما سأله عن أنزل درجات الكفارة ـ وهي الإطعام ـ وقال: لا أجد، سكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يبرئ ذمته منها.
والقول الثالث: أن الكفارة تسقط مع العجز عنها، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وأحد قولي الشافعي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخص للرجل أن يطعم التمر أهله، ولو كان كفارة عنه ما جاز ذلك، ولم يبين له بقاء الكفارة في ذمته إلى حين يساره، وتأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
والقول الأول هو الأقرب، فإنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «خذ هذا تصدق به» ، أي: أطعمه المساكين عنك، ثم لما أخبره بفقره، أذن له أن يطعمه أهله، ولم يقل: إن الكفارة باقية في ذمته، ولو كانت باقية في ذمته لأخبره بذلك.
الوجه السادس: الحديث دليل على أن من وقع في أمر محرم ولم يعرف حكم الشرع؛ أن يسأل أهل العلم عما وقع فيه مخالفاً للشريعة، وأن يخاف من سوء عاقبته، وهذا له نظائر كما في قصة العسيف، وقصة ماعز رضي الله عنه[(178)]، وغيرهما.
الوجه السابع: استدل الجمهور بقوله: (هَلَكْتُ) على أنه كان عامداً عارفاً بالتحريم، وكذا ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين من قوله: (احْتَرَقْتُ)؛ لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك.
قالوا: ولا يدخل في ذلك الناسي ولا الجاهل، فمن جامع ناسياً أو جاهلاً، فلا قضاء عليه ولا كفارة، قال البخاري في «صحيحه»: (وقال الحسن ومجاهد: إن جامع ناسياً فلا شيء عليه)[(179)].(1/50)
والقول الثاني: أن الناسي كالعامد تجب عليه الكفارة والقضاء؛ لأن الجماع أعظم المفطرات، ولأنه لا يتصور وقوع النسيان في الجماع، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ترك استفسار المجامع في نهار رمضان هل كان عن عمد أو نسيان؟ وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول.
والقول الأول أرجح لقوة دليله، ولعموم: «من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة» وتقدم.
الوجه الثامن: اختلف العلماء في حكم المرأة: هل عليها كفارة؟ قولان:
الأول: أنه ليس عليها كفارة، وهذا هو الأصح عند الشافعية، ومذهب داود وأهل الظاهر، ورواية عن الإمام أحمد، ورجحه النووي، ومال إليه ابن قدامة[(180)]؛ إذ ليس في الحديث ما يدل على أن الكفارة تلزمها.
والقول الثاني: أن الكفارة تلزمها إذا كانت مطاوعة، وهذا قول مالك، وأصحاب الرأي، وأحمد في أصح الروايتين، وقول للشافعي[(181)]؛ لأنها هتكت صوم رمضان بالجماع، فوجب عليها الكفارة كالرجل، وبيان الحكم له بيان في حقها، لاشتراكهما في تحريم الفطر، وانتهاك حرمة الصوم.
وهذا القول هو الأظهر، وهو أن المرأة إن كانت مطاوعة فعليها الكفارة، لقوة مأخذ هذا القول، وإن كانت مكرهة فلا كفارة عليها، وكونها لم تذكر في الحديث؛ لأنها لم تأت ولم تسأل، وحالها تحتمل أن تكون مكرهة؛ وأن تكون مطاوعة، فلذا سكت عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن كفارة المكرهة على الجماع تلزم زوجها[(182)].
الوجه التاسع: ذهب الجمهور من أهل العلم إلى وجوب قضاء اليوم الذي حصل فيه الجماع؛ لأنه أفسد يوماً من رمضان، فلزمه قضاؤه، كما لو أفسده بالأكل، فالكفارة عقوبة الذنب الذي ركبه، والقضاء بدل اليوم الذي أفسده[(183)].(1/51)
وذهب ابن حزم وطائفة إلى أنه لا قضاء عليه، وذكر الموفَّق ابن قدامة أنه قول للشافعي[(184)]؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر هذا الرجل بالقضاء؛ ولأن هذا متعمد، فلا يقضي من باب التغليظ، وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية: أن كل من تعمد ترك صلاة أو صوم بلا عذر فإنه لا يقضي ولا تصح منه[(185)]. ورواية: «فصم يوماً مكانه» شاذة، كما تقدم. ولا ريب أن القضاء أحوط وأبرأ للذمة.
الوجه العاشر: جواز وصف الإنسان نفسه بشدة الفقر إذا كان صادقاً ولم يقصد التسخط من قدر الله تعالى؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقرّ هذا الرجل على ما قال ولم ينكر عليه.
الوجه الحادي عشر: جواز حلف الإنسان على ما يغلب على ظنه؛ لأن الرجل أقسم للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ليس بين لابتي المدينة أهل بيت أفقر من أهل بيته، فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع أن هذا الأمر لا يدرك باليقين غالباً، والله تعالى أعلم.
حكم صوم من أصبح جنباً
677 و 678/28، 29 ـ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
زَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: ولاَ يَقْضِي.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «الصائم يصبح جنباً» (1926)، ومسلم (1109) من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان أن عائشة وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم... الحديث، وفي آخره قصة رجوع أبي هريرة عندما كان يفتي أن من أصبح جنباً فلا صيام له، ولما بلغه الحديث قال: (كذلك حدثني الفضل بن عباس، وهن أعلم). وهذا سياق البخاري.(1/52)
وأخرجه مسلم من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن عائشة وأم سلمة زوجَي النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهما قالتا: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصبح جنباً من جماع غير احتلام في رمضان، ثم يصوم.
وبهذا السياق للمتن يتضح أن الحافظ ساق الحديث بالمعنى لا باللفظ.
ولم يذكر في هذا الإسناد «عن أبيه» وهذا غير مؤثر؛ لأن الحديث سمعه الأب والابن معاً من عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، كما ثبت في رواية البخاري، ولهذا قال ابن عبد البر: (لا معنى لذكر أبيه فيه؛ لأنه شهد القصة مع أبيه كلها عند أبي هريرة وعند عائشة وأم سلمة...)[(186)].
وهذا الحديث روي من مسند عائشة وأم سلمة جميعاً، وروي مفرقاً، كما عند البخاري[(187)] ومسلم[(188)]، من حديث عائشة رضي الله عنها، وعند مسلم من حديث أم سلمة[(189)] رضي الله عنها، وذلك من طريق عبد الله بن كعب الحميدي؛ أن أبا بكر حدثه أن مروان أرسله إلى أم سلمة رضي الله عنها يسألها عن الرجل يصبح جنباً أيصوم؟ فقالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصبح جنباً من جماع لا من حلم ثم لا يفطر ولا يقضي). وهذه الرواية فيها زيادة فائدة عما قبلها، وهي نفي القضاء.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (كان يصبح) تقدم أن (كان) إذا كان خبرها فعلاً مضارعاً أنها تدل على الاستمرار غالباً، ما لم يوجد قرينة.
قوله: (جنباً) أي: ذو جنابة، وهي شرعاً: كل ما أوجب الغسل من إنزال أو جماع.
قوله: (من جماع) (من) للسببية، وفي رواية مسلم المذكورة: (من جماع غير احتلام).
وتقييده بالجنابة من الجماع لبيان أن تأخير الغسل عن اختيار منه حيث لم يفاجأ بما يوجب الغسل.(1/53)
وأما قولهما: (من جماع لا من حلم) فمعناه: أنه يصبح جنباً من جماع، ولا يجنب من احتلام، لامتناعه منه؛ لأنه من تلاعب الشيطان، والأنبياء منزهون عن ذلك، خلافاً لمن قال بجواز الاحتلام على الأنبياء أخذاً بقولهما: (من غير احتلام). قال: ولو كان الاحتلام لا يقع من النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان لهذا الاستثناء معنى، والجواب ما تقدم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة صوم الجنب وإن لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر. وقد حكى الوزير ابن هبيرة، ومن بعده النووي إجماع العلماء على ذلك[(190)]، وقد وقع الخلاف في هذه المسألة في الصدر الأول من هذه الأمة، لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا نُودِيَ للصَّلاَةِ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ فَلاَ يصومنَّ يَوْمَهُ» [(191)]، وكان أبو هريرة يفتي بذلك، وقال به قوم من التابعين، كما ذكر الترمذي[(192)].
ثم ارتفع الخلاف واستقر الإجماع على ما تقدم، ورجع أبو هريرة عن الفتوى بذلك، كما ثبت في «الصحيحين»، وأما الحديث فهو منسوخ بحديثي أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما، نقل ذلك البيهقي عن ابن المنذر، وكذا قاله الخطابي[(193)]. وقيل: إنه مرجوح قد عارضه ما هو أصح منه، فيقدم عليه. وهذا رأي البخاري؛ فإنه لما روى حديثي عائشة وأم سلمة، وذكر ما ورد عن أبي هريرة، قال: (والأول أسند)؛ أي: أقوى إسناداً؛ لأنه ورد عنهما ذلك من طرق كثيرة جدًّا، حتى قال ابن عبد البر: (إنه صح وتواتر)، وأما ما ورد عن أبي هريرة فقد ورد أنه لم يسمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما سمعه بواسطة الفضل وأسامة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز تأخير الغسل من الجنابة، وأنه لا تجب المبادرة بذلك، وتقدم ذلك في «الطهارة».(1/54)
الوجه الخامس: يقاس على الجنب الحائض إذا انقطع دمها ورأت الطهر قبل الفجر؛ فإنها تصوم مع الناس ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر؛ لأنها حينئذٍ من أهل الصوم، وعليها أن تبادر بالغسل لتصلي الفجر في وقتها؛ والنفساء مثل الحائض في ذلك.
وإذا احتلم الصائم في نهار رمضان فإنه يغتسل وصومه صحيح؛ لأنه ليس له اختيار في ذلك ولا إرادة، قال تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، والله تعالى أعلم.
حكم قضاء الصوم الواجب على الميت
679/30 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الصوم»، باب «من مات وعليه صوم» (1952)، ومسلم (1147)، من طريق عبيد الله بن أبي جعفر، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنهما، به مرفوعاً.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (من مات) من: شرطية من صيغ العموم؛ أي: أيُّ إنسان مات، وقد ورد عند الإمام أحمد بسند آخر بلفظ: «أيُّما مَيْتٍ مات...»[(194)].
قوله: (وعليه صيام) على: تفيد الوجوب، كما في الأصول، والمعنى: وفي ذمته صيام واجب.
قوله: (صام عنه وليه) هذه جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى؛ لأن معناها الأمر، أي: فليصم، وسرُّ التعبير بها: تأكيد فعل المأمور به حتى كأنه أمر واقع يُتحدث عنه؛ كصفة من صفات المأمور.
والمراد بالولي: القريب. والوارث أولى القرابة به.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من مات وعليه صوم واجب فإنه يشرع لوليه أن يقضي الصوم عنه؛ لأنه إحسان إليه وبر وصلة.(1/55)
والحديث مختص بمن كان معذوراً لمرض أو سفر أو حيض أو نفاس، ثم زال عذره وتمكن من القضاء ولم يقض حتى مات، فهذا هو الذي يتناوله الحديث، أما من مات قبل إمكان الصيام، كما لو امتد به المرض أو السفر، أو امتد بها الحيض أو النفاس إلى الموت ولم يجد وقتاً للقضاء، فهذا لا شيء عليه ولا على وليه.
ولا يختص ذلك بالولي، بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه وأجزأ؛ لأنه تبرع، فأشبه قضاء الدين عنه، وأما ذكر الولي في الحديث فقد خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب وقوع ذلك من ولي الميت وقريبه، لا من البعيد عنه.
والقول بأنه يجزئ صوم الولي عن الميت، هو قول أصحاب الحديث، وأبي ثور، وجماعة[(195)].
والقول الثاني: أنه لا يصام عن الميت، وإنما يطعم عنه، على تفاصيل في كتب الفقه، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي في الجديد[(196)].
الوجه الرابع: الجمهور من أهل العلم على أن الأمر في الحديث محمول على الاستحباب.
وذهب أهل الظاهر إلى أن الأمر للوجوب[(197)]، أخذاً بظاهره. والصواب مع الجمهور؛ لأنه لو قيل بالوجوب للزم أن يأثم الولي بعدم القضاء، لكونه ترك واجباً، وهذا لا يصح، لقوله تعالى: {{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}} [فاطر: 18] .
الوجه الخامس: اختلف القائلون بأنه يصام عن الميت في نوع ما يصام عنه على قولين:
الأول: أنه يصام عنه كل صيام واجب، سواء أكان واجباً بأصل الشرع؛ كصوم رمضان، أم واجباً بالنذر، وهذا قول الشافعية، وابن حزم[(198)]. واستدلوا بعموم الحديث.
والقول الثاني: أنه لا يصام عنه إلا النذر، وما عداه فالإطعام، وهذا مذهب الإمام أحمد؛ بل نص عليه، قال أبو داود: (سمعت أحمد بن حنبل قال: (لا يصام عن الميت إلا في النذر))[(199)]. وهو قول الليث وإسحاق.(1/56)
ودليل ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا؟» قالت: نعم، قال: «فَصُومي عَنْ أُمِّكِ».
وفي رواية: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟» ، قال: نعم، قال: «فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»[(200)].
قالوا: فيحمل المطلق وهو حديث عائشة، على المقيد وهو حديث ابن عباس الدال على قضاء صيام النذر.
كما استدلوا بآثار وردت عن الصحابة رضي الله عنهم؛ كعائشة وابن عباس بالإطعام عنه، وقاسوا الصيام على سائر العبادات؛ فإنه لا يقوم بها أحد عن أحد، إلا الحج فإنه مخصوص، ولأن الصوم المفروض قد جعل الله له بدلاً في الحياة، وهو الإطعام، فوجب أن يكون له بدلاً بعد الموت، مثل الحياة.
والذين قالوا: إن قضاء الصوم عن الميت عام في كل صيام واجب، سواء كان بأصل الشرع؛ كرمضان، أو بالنذر، أيدوا قولهم بأمرين:
الأول: أن حديث عائشة رضي الله عنها جاء في تقرير قاعدة كلية لجميع الأمة، بأن من مات وعليه صيام صام عنه وليه، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فهو فرد من أفراد هذه القاعدة، وعليه فلا تعارض بينهما حتى يحمل المطلق على المقيد؛ بل إن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على دخوله في عموم حديث عائشة رضي الله عنها، وهو قوله: «فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»[(201)].(1/57)
الثاني: كيف يحمل حديث عائشة على صوم النذر فقط، وتُمنع دلالته على الواجب بأصل الشرع، مع أن الواجب بأصل الشرع أكثر وقوعاً، فإنك لو قارنت بين من يموت وعليه قضاء رمضان، ومن يموت وعليه صوم نذر لوجدت الأول أكثر بكثير، أليس هذا من رفع دلالة الحديث على ما هو غالب، وحملها على ما هو نادر؟ وهذا ما يؤدي إلى تعطيل أكثر موارد النص وأغلبها[(202)]، والله تعالى أعلم.
باب صوم التطوع، وما نهي عن صومه
هذا الباب عقده المؤلف لذكر الأحاديث الواردة في صوم التطوع، والأحاديث الواردة فيما نهى عن صومه، وذلك أنه ورد في السنة أن لبعض الأيام مزيد فضل، فحث الشرع على صيامها، كما ورد النهي عن صيام بعض الأيام، لحكمٍ عظيمة، كما سيأتي إن شاء الله.
وقد جاء في السنة الترغيب في الصيام، وبيان عظيم ثوابه، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْر أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عزّ وجل: إلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ...»[(203)].
فالله تعالى أضاف الصوم إلى نفسه من بين سائر الأعمال، وكفى بهذه الإضافة شرفاً، وهذا ـ والله أعلم ـ لأمرين:
الأول: أن الصيام يستوعب النهار كله، فيجد الصائم فقد شهوته لا سيما في نهار الصيف، لطوله وشدة حره.
الثاني: أن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه إلا الله تعالى، فهو عمل باطن، لا يراه الخلق، ولا يدخله الرياء، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: (ليس في الصوم رياء)[(204)].
أيام يستحب صيامها(1/58)
680/1 ـ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»، وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، قَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ»، وَسُئِلُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ، قَالَ: «ذاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب «الصيام»، باب «استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة، وعاشوراء، والاثنين، والخميس» (1162) (197) من طريق غيلان بن جرير، سمع عبد الله بن معبد الزِّمَّاني، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه. وساق الحديث إلى أن قال: (وسئل عن صوم يوم الاثنين، قال: «ذاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» ، قال: فقال: «صَوْمُ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ؛ صَوْمُ الدَّهْرِ» ، قال: وسئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ» ، قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ».
وبهذا يتبين أن الحافظ رحمه الله ساق الحديث بتقديم وتأخير.
وهذا الحديث أعلَّه البخاري بعدم سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة[(205)]، ولهذا أعرض في «صحيحه» عن هذا الحديث، ولم يورد شيئاً يدل على فضل صوم يوم عرفة، وروى حديثين في عدم صيامه[(206)].
الوجه الثاني: استدل الفقهاء بهذا الحديث على فضل صيام يوم الاثنين من كل أسبوع؛ لأن هذا يوم عظيم، ولد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبعث إلى الناس بشيراً ونذيراً، وأنزل الله فيه القرآن، وهذه نعم عظيمة، خص الله بها هذا اليوم.(1/59)
كما استدلوا على فضل صيام يوم الخميس، بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه وفيه: (قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس. قال: «ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وأحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» )[(207)].
الوجه الثالث: يتعلق بعض المبتدعة من الصوفية وأشباههم بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه شرع فيه الصيام، ولا ريب أن هذا الاستدلال عن الصواب بمعزل، ولا تمسك للمبتدعة بهذا الحديث لأمور:
1 ـ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يحتفل بيوم مولده في حياته، ولم يحتفل به أصحابه من بعده رضي الله عنهم ولا التابعون لهم بإحسان، ولو كان مشروعاً لسبقونا إليه؛ فإنهم أكثر الأمة محبة لنبيهم صلّى الله عليه وسلّم وأكثرها تعظيماً، أفيكونون ضيعوا هذا الأمر، وتركوا ما هو فاضل ومطلوب تساهلاً أو عدم مسارعة إلى الخير؟! كلا.
2 ـ أن العبادات توقيفية، والشارع عيَّن العبادة المشروعة يوم الاثنين، وهي الصيام، فيقتصر على الوارد، ولا يُتعدى إلى غيره.
3 ـ أن علة الصوم ليست منحصرة بكونه يوم المولد؛ بل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر علة أخرى: وهي إنزال الوحي، وعلة ثالثة: وهي عرض الأعمال على الله، فلماذا تؤخذ علة واحدة فقط وتُعدى إلى أمر لم يشرعه الله ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم؟!
ولا ريب أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين، ومن التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى، وهذا بصرف النظر عما يقع في هذا الاحتفال من المنكرات العظيمة، والغلو بالرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي يصل إلى حدّ الشرك بالله تعالى.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن أول من أحدث الاحتفال بالموالد الشيعة الفاطميون، في المائة الرابعة، ثم تبعهم بعض من ينتسبون إلى السنة في هذه البدعة جهلاً وتقليداً، والله المستعان!(1/60)
الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل صيام يوم عرفة وجزيل ثوابه عند الله تعالى، حيث إن صيامه يكفّر ذنوب سنتين.
وإنما يستحب صيامه لأهل الأمصار، أما الحاج فلا يسن له صيامه، بل يفطر تأسياً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبخلفائه من بعده، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
وقد قال بعض العلماء: (إن معنى تكفير ذنوب السنة الآتية؛ أنه يوفق لترك المعاصي فلا يأتي بذنب)، وهذا فيه نظر، والأظهر أن الحديث على ظاهره، وهو أنه تكفّر عنه ذنوبه التي فعلها.
وقد اختلف العلماء في هذا التكفير، هل هو شامل للصغائر والكبائر، أو أنه خاص بالصغائر؟ قولان:
الأول: أنه خاص بالصغائر، وأما الكبائر؛ كالزنا وأكل الربا والسحر، وغير ذلك، فلا تكفرها الأعمال الصالحة، بل لا بدّ لها من توبة، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، لقوله تعالى: {{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}} [النساء: 31] ، فدلت الآية الكريمة على أن تكفير الصغائر مشروط باجتناب الكبائر، واجتنابها هو التوبة منها.
كما استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»[(208)].
ووجه الدلالة: أن الصلوات الخمس والجمعة ورمضان، وهي عبادات عظيمة لا تكفر الكبائر، فما دونها من الأعمال الصالحة؛ كصوم يوم عرفة، من باب أولى.
والقول الثاني: أن التكفير شامل للصغائر والكبائر، وهذا قول ابن المنذر ـ في قيام ليلة القدر ـ وابن حزم، وقد نصر ابن تيمية هذا القول، واحتج له بالعمومات، كقوله تعالى: {{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}} [هود: 114] وبالأدلة التي رتبت فيها المغفرة على بعض الطاعات، كالوضوء، وصوم يوم عرفة، وعاشوراء وغيرها.(1/61)
وقد ضعف هذا القول ابن عبد البر، وردَّ على قائله، ونقل ابن رجب كلامه، وأقرَّه، ونصر القول بأن التكفير خاص بالصغائر، وأما الكبائر فلا بد لها من توبة[(209)].
الوجه الخامس: الحديث دليل على فضل صيام يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: (ما علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهراً إلا هذا الشهر، يعني رمضان)[(210)].
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بصيام يوم عاشوراء، ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عليه..) الحديث[(211)].
والحكمة من الحث على صيامه مع ما فيه من الأجر، هي تعظيم هذا اليوم، وشكر الله تعالى على نجاة موسى عليه السلام وبني إسرائيل، وإغراق فرعون وقومه؛ ولهذا صامه موسى عليه السلام شكراً لله تعالى، وصامته اليهود، وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم أحق بأن تقتدي بموسى من اليهود.
ويستحب صيام التاسع مع العاشر، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صام عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ ـ إِنْ شَاءَ اللهُ ـ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» ، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي رواية: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِل لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»[(212)].
وقد صح عن ابن عباس موقوفاً: (صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود)[(213)]، وهذا هو المحفوظ عن ابن عباس، أما ما ورد عنه مرفوعاً بلفظ: (صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً) فهذا حديث ضعيف[(214)]، وكذا ما جاء بلفظ: (صوموا قبله يوماً وبعده يوماً).(1/62)
وعلى هذا فلم يثبت صوم الحادي عشر، ولا صيام ثلاثة أيام، إلا إن كان من باب فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لا سيما أنها في شهر حرام، ورد الحث على صيامه.
وأما إفراد العاشر بالصوم، فمن أهل العلم مَن كَرِهَه، لأنه تَشَبُّهٌ بأهل الكتاب، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما على ما هو مشهور عنه، وهو مذهب الإمام أحمد، وبعض الحنفية، وقال آخرون: لا يكره، لأنه من الأيام الفاضلة، فيستحب إدراك فضيلتها بالصوم[(215)]، والأكثرون على أنه مكروه في حق مَن استطاع أن يجمع معه غيره، ولا ينفي ذلك حصول الأجر لمن صامه وحده، بل هو مثاب إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
فضل صيام الست من شوال
681/2 ـ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصيام»، باب «استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان» (1164) من طريق سعد بن سعيد بن قيس، عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي، عن أبي أيوب رضي الله عنه مرفوعاً.
وقد تكلم بعض العلماء في هذا الحديث؛ لأنه من رواية سعد بن سعيد الأنصاري، أخي يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد ضعفه الإمام أحمد، والنسائي، وقال: (هم ثلاثة إخوة: يحيى بن سعيد بن قيس، الثقة المأمون، أحد الأئمة؛ وعبد ربه بن سعيد، لا بأس به؛ وسعد بن سعيد ثالثهم، ضعيف)[(216)].(1/63)
لكن توبع، فدل على أنه لم يخطئ في هذا الحديث، وكذا روى مسلم حديثه هذا. فقد تابعه صفوان بن سليم، عن عمر بن ثابت، به[(217)]، وصفوان بن سليم ثقة أخرج له الجماعة، ثم سعد بن سعيد، قد وثقه جماعة، والجرح المذكور فيه ليس بغليظ العبارة؛ كقولهن: متروك، وكذاب، أو نحوهما. بل الظاهر أن من تكلم فيه فهو لسوء حفظه، كما صرح به الحافظ الترمذي، وكما نبه عليه ابن حبان[(218)].
وأخرجه النسائي[(219)]، والطحاوي[(220)] من طريق شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب موقوفاً، وعبد ربه: لا بأس به، كما تقدم.
وقد تكلم العلماء في وقف هذا الحديث، وإليه يميل الإمام أحمد، كما ذكر ابن رجب[(221)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل صيام ستة أيام من شوال، وأن صيامها مع رمضان كصيام الدهر، والمراد: السنة؛ أي: كأنما صام السنة كلها، وذلك ثلاثمائة وستون يوماً. وقد ورد في حديث ثوبان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «جعل الله الحسنة بعشر، فشهر بعشرة أشهر، وستة أيام بعد الفطر تمام السنة»[(222)].
والقول باستحباب صيامها، هو قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم: الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وذهب الإمام مالك إلى كراهة صيامها[(223)]؛ لأنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولئلا يلحق برمضان ما ليس منه.
وقد اعتذر ابن عبد البر عن الإمام مالك بأنه لم يبلغه حديث أبي أيوب مع أنه حديث مدني؛ وأنه إنما كره صيامها خشية أن يضاف إلى رمضان ما ليس منه، أما من صامها لطلب الفضل، وعلى المعنى الذي ورد في حديث ثوبان؛ فإن مالكاً لا يكره ذلك إن شاء الله[(224)].
ولا ريب أن ما خشيه الإمام مالك لا يقع؛ فإن الإضافة إلى رمضان إنما تكون لو أنه لم يفصل بينها وبين رمضان بشيء، أما إذا كان الفصل يقع بيوم الفطر؛ فإنه لا يتوهم ذلك.(1/64)
والأفضل أن يكون صيامها متتابعاً، ويجوز تفريقها أثناء الشهر؛ لأن (ثم) للتراخي، وكل صوم يقع في شوال فهو مُتْبَعٌ لرمضان؛ وإن كان هناك مهلة، ولكن صيامها بعد العيد فيه مزية على غيره من وجوه:
الأول: أن في ذلك مسارعةً إلى فعل الخير.
الثاني: أن المبادرة بها دليل على الرغبة في الصيام، وعدم الملل منه.
الثالث: لئلا يعرض للإنسان ما يمنعه من صيامها إذا أخرها.
ومن عليه قضاء فإنه يبدأ به، ثم يصوم هذه الأيام، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من صام رمضان» ، ومن عليه أيام من رمضان فإنه لا يصدق عليه أنه صام رمضان حتى يقضيها؛ ولأن المسارعة إلى أداء الواجب وبراءة الذمة مطلوب من المكلف.
والظاهر من قولي أهل العلم أنه إذا انتهى شهر شوال ولم يصمها أنها لا تقضى؛ لأنها سنة فات محلها، والشارع خصّها بشوال، فلا يحصل فضلها لمن صامها في غيره، لفوات مصلحة المبادرة بها والمسارعة المحبوبة لله تعالى.
فإن كان ذلك لعذر، من مرض أو حيض أو نفاس، فمن أهل العلم من قال: يجوز قضاؤها بعد صيام ما عليه، واختار ذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي[(225)]، ومنهم من قال: إنه لا يشرع قضاؤها بعد شوال لما تقدم، سواء تركت لعذر أو لغير عذر، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز[(226)]، والله تعالى أعلم.
فضل الصوم في سبيل الله تعالى
682/3 ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذلِكَ الْيَوْمِ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ سَبْعِينَ خَرِيفَاً». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/65)
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الجهاد»، باب «فضل الصوم في سبيل الله» (2840)، ومسلم في كتاب «الصيام»، باب «فضل الصوم في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق» (1153) من طريق يحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح، أنهما سمعا النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً.
وأخرجه مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن النعمان، به، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: «مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللهِ، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً».
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ما من عبد) وفي لفظ لهما: (من صام) وكلاهما من صيغ العموم.
قوله: (في سبيل الله) اختلف في المراد به على قولين:
الأول: أن المراد به: الجهاد في سبيل الله، وهذا قول ابن الجوزي؛ لأن لفظ: «في سبيل الله» إذا أطلق فالمراد به الجهاد[(227)].
الثاني: أن المراد به: طاعة الله، بأن يصوم قاصداً وجه الله تعالى، سواء في الجهاد أو في غيره، وهذا قول القرطبي[(228)]. قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (وهذا قول قوي).
قوله: (باعد الله وجهه عن النار) أي: جعل الله وجهه بعيداً، ومتى بَعُدَ الوجه بعد جميع البدن، لكن خصه بالذكر لشرفه.
قوله: (سبعين خريفاً) أي: مسافة سبعين خريفاً. والخريف: هو الفصل الثالث من فصول السنة الأربعة، وهي: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. وبروج الخريف ثلاثة: الميزان، والعقرب، والقوس. والمراد هنا: السنة كلها، من باب تسمية الكل باسم بعضه؛ أي: سبعين عاماً؛ لأن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد، فإذا مرَّ الخريف مرت السنة كلها. وخص الخريف بالذكر؛ لأن الخريف أزكى الفصول، فهو أوان جدادهم وقِطَافهم، وإدراك غلاتهم.(1/66)
وذكر السبعين على وجه المبالغة في البعد العظيم عن النار، وكثيراً ما تجيء السبعين عبارة عن التكثير. قال تعالى: {{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}} [التوبة: 80] . وقد ورد في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللهِ عزّ وجل بَاعَدَ اللهُ مِنْهُ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ»[(229)].
قال السندي: (والتوفيق بين الحديثين بحمل أحد العددين أو كليهما على التكثير، أو أنه تعالى زاد للصوم الأجر)[(230)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الصيام في سبيل الله تعالى، وأن جزاءه أن يبعد الله وجهه عن النار سبعين عاماً؛ لأنه جمع بين مشقة الجهاد والمرابطة، ومشقة الصيام.
وهذا محمول على ما إذا لم يضعفه الصيام عن مهمة الجهاد، كما إذا كان في حال المسير إلى العدو أو في حال الرباط.
أما عند ملاقاة العدو فقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالإفطار في الغزو، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ» فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا» وكانت عزمة، فأفطرنا...) الحديث[(231)].
وقد نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه أجاز الفطر للتَّقوِّي به على الجهاد وفَعَلَهُ، وأفتى به لما نزل العدوُّ دمشق في رمضان، فأنكر عليه بعض المتفقهة، معللاً لذلك بأنه ليس بسفر طويل، فقال الشيخ: إن هذا الفطر ليس للسفر؛ وإنما هو للتقوِّي على جهاد العدو، وهو أولى من الفطر لسفر يومين سفراً مباحاً أو معصية.(1/67)
وذكر ابن القيم أنه إذا جاز فطر الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما، وفطر من يخلِّص غريقاً ففطر المقاتلين أولى بالجواز، وهذا من باب قياس الأَوْلى، ومن باب دلالة النص وإيمائه[(232)].
الوجه الرابع: في الحديث دليل على فضل صوم التطوع ـ باعتبار المعنى الثاني ـ وعظيم أجره عند الله تعالى.
والصيام من أفضل الأعمال ـ كما تقدم ـ ومن ثمار صوم النفل ـ كغيره من التطوعات ـ أنه يجبر ما عسى أن يكون في أداء الفرض من نقص أو تقصير، وفي ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في شأن الصلاة: «قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمّل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله كذلك»[(233)].
كما أن صوم النفل يهيئ المسلم للرقي في درجات القرب من الله تعالى، والظفر بمحبته، كما في الحديث القدسي: «ما تقرّب إليَّ عبدي بأفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه... الحديث» [(234)]، وتقدم شيء من ثمار النوافل في باب «صلاة التطوع».
هدي النبي (ص) في صيام التطوع
683/4 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُ حَتّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَاماً فِي شَعْبَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «صوم شعبان» (1969)، ومسلم (1156) (175) من طريق مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، به.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسرد الصوم في بعض الأحيان، ويسرد الإفطار في بعض الأحيان.(1/68)
ولعل السر في هذا ـ والله أعلم ـ أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يراعي المصلحة، فإذا كثرت أشغاله وتوالت أعماله أخَّر الصيام، فيشتغل بمصالح الناس، والصوم قد يضعفه عن ذلك، فإذا خفت الأعمال وقلَّت المشاغل سرد الصوم، وعلى هذا فلم يكن لصومه أو فطره وقت خاص.
وهكذا ينبغي للمسلم أن يتحرى الأوقات المناسبة للصوم حتى لا يعطله عن أمر أهم، ويتحرى الأوقات المناسبة للإفطار حتى يشتغل فيها بما يلزم وما يحتاج إلى النشاط والقوة؛ فالمسلم طبيب نفسه، يلاحظ ما هو الأولى للصوم وما هو أولى للإفطار؛ لأن توزيع الأوقات وتنظيم الأعمال مما تحث عليه الشريعة في أصولها وقواعدها، وعليه أن يسوس نفسه ويمرنها على طاعة الله تعالى، حتى تألف ذلك وتصبح العبادة عليها سهلة؛ بل محبوبة تجد فيها الأُنس ولذة المناجاة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه لا يشرع صيام شهر كامل إلا رمضان، لقولها: (ومَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قط إِلاَّ رَمَضَانَ) ، قال النووي: (قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان؛ لئلا يظن وجوبه)[(235)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على فضل الإكثار من الصيام في شهر شعبان؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الصيام فيه، وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها: (لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم شهراً أكثر من شعبان؛ فإنه كان يصوم شعبان كله...)[(236)]، والمراد بالكل: الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال، والدليل على ذلك حديث الباب فهو مفسِّر لهذا الحديث ومخصص له؛ فإنه صريح أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستكمل صيام شهر إلا رمضان، وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: (جائز في كلام العرب ـ إذا صام أكثر الشهر ـ أن يقول: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره)[(237)].(1/69)
وقد اختلف العلماء في حكمة إكثاره صلّى الله عليه وسلّم من صوم شعبان، وقد ورد ما يدل على شيء من ذلك، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»[(238)].
وقيل: الحكمة في ذلك: تعظيم رمضان، فيشبه سنة فرض الصلاة قبلها، تعظيماً لحقها.
وقيل: الحكمة: توطين النفس وتهيئتها للصيام، لتكون مستعدة لصيام رمضان، سهلاً عليها أداؤه[(239)]، ويحتمل أنه يصومه لهذه الحكم كلها.
فإن قيل: ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ...»[(240)].
وهذا يدل على أن الإكثار من الصيام في المحرم أفضل من الصيام في شعبان؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعل المحرم يلي رمضان في الأفضلية، فلماذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يكثر من صيام شعبان دون المحرم؟ فالجواب ما ذكره النووي: (من أنه يحتمل أن يكون صلّى الله عليه وسلّم ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له من الأعذار بالسفر ونحوه ما منعه من كثرة الصوم فيه)[(241)]، والله تعالى أعلم.
فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر
684/5 ـ عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ نَصُومَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: ثَلاَثَ عَشَرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشَرَةَ، وَخَمْسَ عَشَرَةَ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/70)
هذا الحديث أخرجه النسائي (4/222)، والترمذي (761)، وابن حبان (8/414 ـ 415) من طريق يحيى بن سام، عن موسى بن طلحة، عن أبي ذر رضي الله عنه، به.
وقال الترمذي: (حديث حسن)، ولما نقل الألباني تحسين الترمذي قال: (وهو كما قال ـ إن شاء الله تعالى ـ، ويحيى بن سام، لا بأس به، وقد توبع عليه، وخولف في سنده)[(242)].
وقد صحح الحديث ابن خزيمة (3/302)، وابن حبان، ولعل ذلك لكثرة طرقه وشواهده.
ويحيى بن سام ـ بسين مهملة ـ ترجم له البخاري في «تاريخه»[(243)]، وابن أبي حاتم[(244)]، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال الذهبي: (وُثق)[(245)]، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(246)]، وقال الحافظ: (مقبول).
وقد تكلم أبو حاتم عن طرق هذا الحديث في «العلل» (786) كما تكلم عليه الدارقطني في «علله» أيضاً (5/229) (6/263).
وقد ذكر النسائي الاختلاف في إسناده على موسى بن طلحة، فأخرجه من طريق أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه قصة الأعرابي الذي أتى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأرنب مشوية، واعتذر عن الأكل بالصيام، وفي آخره قال أبو هريرة: (إن كنت صائماً فصم الغُرَّ)، أي: أيام البيض، والمراد: أيام الليالي البيض.
وهذا الحديث إسناده صحيح، لكنه معلول، والأظهر أن الحديث بالنص على أيام البيض ليس عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ وإنما هو عن أبي ذر رضي الله عنه، وذلك لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْر، صَوْمُ الدَّهْر كُلِّهِ» ، فقد صمتُ ثلاثة أيام من أول الشهر...) الحديث بتمامه[(247)].
ولو كان حديث الباب محفوظاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، ما خالفه وترك صيام أيام البيض، وصام الثلاثة من أول الشهر، والله أعلم.(1/71)
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهذه هي أيام البيض، سميت بذلك: لبياض لياليها بنور القمر.
وقد ورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلّى الله عليه وسلّم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) [(248)].
وعن معاذة العدوية أنها سألت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: (نعم)، فقلت لها: من أيِّ أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: (لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم)[(249)].
فالأحاديث الصحيحة تدل على فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وليس فيها تحديد ذلك بأيام البيض، كما ورد في حديث الباب[(250)]، وقد روى الحارث بسنده، عن موسى بن سلمة قال: سألت ابن عباس عن صيام ثلاثة أيام البيض، فقال: «كان عمر يصومهن»[(251)] وقد بوب البخاري في «صحيحه» باب «صيام البيض» وكأنه أشار بذلك إلى أنه ينبغي أن تكون الثلاثة المطلقة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ذكره هي أيام البيض[(252)]، ويمكن ان يستفاد من ذلك مذهبه.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ليس فيه ذكر البيض، بل يصوم متى شاء، كما في حديث عبد الله بن عمرو في «الصحيحين»، وأبي هريرة في «الصحيحين» ـ أيضاً ـ، وحديث أبي الدرداء في «مسلم»، وهي أصح بكثير من حديث أبي ذر، فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر في العشر الأول، أو في العشر الأوسط، أو في العشر الأخيرة، حصل له الأجر، وإذا وافق أيام البيض فذلك أفضل جمعاً بين الأحاديث كلها). والله تعالى أعلم.
حكم تطوع المرأة بالصوم وزوجها شاهد(1/72)
685/6 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
زَادَ أَبُو دَاوُدَ: «غَيْرَ رَمَضَانَ».
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «النكاح»، باب «لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه» (5195) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به، وتمامه: «وَلاَ تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ» أي: نصف أجره ـ كما في رواية أخرى ـ، وجاء ذلك في رواية مسلم الآتية.
وأخرجه مسلم في «الزكاة»، باب «ما أنفق العبد من مال مولاه» (1026) من طريق معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه، عن محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَصُم الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلاَّ بإِذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ».
وأما زيادة أبي داود فهي من هذا الطريق (2458) والظاهر أنه تفرد بها شيخ أبي داود الحسن بن علي، وقد ترجم البخاري على ضوئها فقال: باب «صوم المرأة بإذن زوجها تطوعاً»[(253)]، ولعل الحافظ ذكرها زيادة في الإيضاح؛ وإلا فهي زيادة معلومة من الشرع؛ لأن رمضان ليس فيه إذن لأحد؛ ولأن الصيام واجب عليه هو إلا من عذر؛ كسفر، أو مرض، ونحو ذلك.(1/73)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه لا يحل للمرأة أن تصوم تطوعاً وزوجها حاضر إلا بإذنه وموافقته؛ لأن حق الزوج واجب على زوجته، ومن حقوقه الاستمتاع بها، والصوم قد يمنعه من ذلك، وصيام غير الفرض مستحب، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالمستحب.
ويدخل في ذلك صيام الاثنين والخميس، والست من شوال، وغير ذلك، مما يستحب صيامه، على ما قيل في أحاديثها، كما تقدم.
والإذن من الزوج لا يشترط فيه التصريح؛ بل إذا علمت من قرائن الحال ما يدل على الرضا بذلك كفى؛ لأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي.
فإذا صامت بلا إذنه صح صيامها وأثمت، لاختلاف الجهة؛ فإن طلب منها أن تفطر وجب عليها ذلك، فإن أبت فهي عاصية.
فإن كان غائباً جاز لها أن تصوم، ولا تحتاج إلى إذنه، لمفهوم قوله: «وزوجها شاهد» ، ولأن صيامها في حال غيبته لا يضيع عليه حقًّا من حقوقه.
أما الصوم الواجب؛ كرمضان أداءً أو قضاءً، فلا يحتاج إلى إذن الزوج، فتصومه ولو كره ذلك؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لكن إن كان حاضراً وقد هجرها ولا يستمتع بها، كما يقع من بعض الأزواج، أو عنده زوجة أخرى استغنى بها ولا يقيم لهذه وزناً ولا يلتفت إليها، فالأظهر أنها لا تستأذنه نظراً إلى المعنى؛ فإن العلة التي من أجلها منعت من صوم التطوع وهي مراعاة حقوقه، ومنها حق الاستمتاع، مفقودة هنا، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والله تعالى أعلم.
حكم صوم العيدين
686/7 ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/74)
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «صوم يوم الفطر» (1991)، ومسلم (2/800) رقم (141) من طريق عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، به مرفوعاً. وهذا لفظ مسلم.
الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن صوم يومي عيد الفطر والأضحى، وهذا النهي للتحريم، بإجماع أهل العلم، سواء أصامهما عن نذر أم تطوع أم كفارة أم غير ذلك؛ بل لا يجوز نذر صوم العيدين؛ لأن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله فَلاَ يَعْصِهِ» [(254)]. لكن هل يقضى في غير العيدين؟
من أهل العلم من قال: يقضى، ومنهم من قال: إن النذر المقيد يفوت بفوات وقته، وعلى هذا فعليه كفارة يمين، لعموم حديث عقبة بن عامر: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينِ»[(255)].
والحكمة من هذا النهي أن يوم عيد الفطر هو اليوم الذي تنتهي فيه فريضة الصيام، فتتميز به أيام الفطر من أيام الصيام، وتتضح به معالم الحدود.
وأما الفطر في يوم الأضحى فإنه اليوم الذي يضحي فيه الناس، ويهدون، ويظهرون شعائر الله تعالى بالأكل من ذلك.
وقد ورد عن أبي عبيد مولى ابن أزهر ـ واسمه سعد بن عبيد ـ قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (هذان يومان نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم)[(256)]. والله تعالى أعلم.
حكم صيام أيام التشريق
687/8 ـ عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ للهِ عزّ وجل». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
688/9 ـ وَعَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالاَ: لَمْ يُرَخَّصْ فِي أيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.(1/75)
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو نبيشة ـ بضم النون، مصغراً ـ بن عمرو بن عوف الهذلي. وقيل ابن عبد الله، وقيل: غير ذلك. روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث قليلة، وأحاديثه في السنن، إلا هذا الحديث. يقال: إنه دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده أسارى بدر فقال: يا رسول الله، إما أن تفاديهم، وإما أن تمنَّ عليهم. فقال: «أمرت بخير، أنت نبيشة الخير» . سكن البصرة[(257)]، رضي الله عنه.
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث نبيشة رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصيام»، باب «تحريم صوم أيام التشريق» (1141) من طريق هُشيم، أخبرنا خالد، عن أبي المليح، عن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ».
ورواه من طريق خالد الحذاء، قال: حدثني أبو قلابة، عن أبي المليح، عن نبيشة، قال خالد: فلقيت أبا المليح فسألته، فحدثني به، وذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثل حديث هشيم، وزاد فيه: «وَذِكْرٍ للهِ» . وليس في صحيح مسلم لفظ: «عز وجل».
وأما حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «صيام أيام التشريق» (1997 ـ 1998) من طريق عبد الله بن عيسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وعن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قالا:... فذكره.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وإظهار للفرح والسرور، فهي أيام عيد لا أيام إمساك. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ»[(258)].
وأيام التشريق: هي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة. سميت بذلك: لأن الناس يشرِّقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا، أي: يقددونها وينشرونها لتجف في الشمس.(1/76)
وهي من الأيام الفاضلة، والمواسم العظيمة، وهي الأيام المعدودات المذكورة في قوله تعالى: {{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}} [البقرة: 203] ولا خلاف في ذلك، كما نقله غير واحد[(259)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن هذه الأيام أيام ذكر لله تعالى، وذلك بالتكبير عقب الصلوات، وفي كل الأوقات والأحوال الصالحة لذكر الله تعالى.
فعلى المسلم أن يحذر الغفلة عن ذكر الله تعالى، فيكون قد أخذ أول الحديث وترك آخره، وعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بالطاعة وفعل الخير، ولا يضيعها باللهو واللعب، كما عليه كثير من الناس في هذا الزمان.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه لا يجوز صيام أيام التشريق مطلقاً، لا للحاج ولا لغيره؛ لأن هذه الأيام ليست أيام صيام؛ لأنها أيام عيد، فلا يجوز صيامها ولو وافق ذلك عادة الإنسان؛ كيوم الاثنين أو الخميس، أو أول أيام البيض؛ فإنه لا يصوم، ويستثنى من ذلك المتمتع الذي لم يجد الهدي؛ فإنه يجوز له صيام أيام التشريق الثلاثة على الراجح من أقوال أهل العلم، ومنهم من أجاز صومها مطلقاً، ومنهم من منع صومها مطلقاً، وهي أقوال نسبت لبعض الصحابة والتابعين[(260)].
والقول بجواز صيامها للمتمتع أرجح؛ لأن قول الصحابي: (رُخِّص، أو لم يُرَخَّصْ) له حكم الرفع.
وقال تعالى: {{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}} [البقرة: 196] ، وقوله: {{فِي الْحَجِّ}} أي: في أيام الحج، وابتداؤها من الإحرام بالعمرة، وانتهاؤها بآخر أيام التشريق، والله تعالى أعلم.
حكم صوم يوم الجمعة(1/77)
689/10 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلاَ تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةَ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
690/11 ـ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ أَنْ يَصُومَ يَوْماً قَبْلَهُ، أَوْ يَوْماً بَعْدَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما الحديث الأول: فقد أخرجه مسلم في كتاب «الصيام»، باب «كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً» (1144) (148) من طريق هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وقد وقع في نسخ «البلوغ» «لا تختصوا» في الموضعين، والذي في مسلم ـ في طبعة محمد عبد الباقي ـ بإثبات التاء في الأول، وحذفها في الثاني: «لا تخصوا» وقد ذكر النووي ذلك.
والحديث أعله أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وأبو مسعود الدمشقي بالإرسال[(261)].
وأما الثاني: فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «صوم يوم الجمعة» (1985) ومسلم (1144) (147) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ يَوْماً قَبْلَهُ أَو يَوْماً بَعْدَهُ» ، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: «لاَ يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» ، وبهذا يتبين أن الحافظ ما روى الحديث بلفظه.(1/78)
الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام دون غيرها من الليالي إذا لم يكن له عادة بقيام كل ليلة؛ فإن هذا من البدع، يقول أبو شامة رحمه الله: (ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان، ليس لبعضها على بعض فضل، إلا ما فضله الشرع وخصَّه بنوع من العبادة؛ فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها؛ كصوم يوم عرفة وعاشوراء، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان، ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر؛ كعشر ذي الحجة وليلة القدر ـ التي هي خير من ألف شهر ـ؛ أي: العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها كان له الفضل على نظيره في زمن آخر.
فالحاصل أن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع، وهذه كانت صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)[(262)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام، وهذا النهي للكراهة عند جمهور العلماء، والصارف للنهي من التحريم إلى الكراهة قوله: «إلا أن يصوم قبله أو بعده» ، فدل ذلك على أن النهي عن صومه ليس للحتم، كما هو لعيدي الفطر والأضحى اللذين لا يجوز صيامهما بحال.
وحكمة النهي عن صيام يوم الجمعة ـ والله أعلم ـ أنه يوم عظيم جمع الله فيه من الأمور الكونية ما لم يجمعه في غيره ـ كما تقدم في موضعه ـ، فهو مظنة أن يعظمه الناس بالصيام أو ليلته بالقيام، فبيَّن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لا يجوز تخصيصه، حتى يكون يوم عيد، فيه النشاط والقوة على العمل الصالح والتبكير إلى الجمعة.
قال الطيبي: (سبب النهي: أن الله استأثر يوم الجمعة بعبادة، فلم ير أن يخصه العبد بسوى ما يخصه الله به)[(263)]. ويؤخذ من هذا أن الأيام والليالي سواء، ولا يخص منها شيء إلا بدليل، والعبادات توقيفية.(1/79)
وتزول الكراهة بأمرين:
الأول: أن يصوم قبله يوماً أو بعده يوماً موالياً له، واشتراط أن يكون موالياً له هو ظاهر اللفظ، ويدل له حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أصمتِ أمس؟» ، قالت: لا، قال: «أتريدين أن تصومي غداً؟» ، قالت: لا، قال: «فأفطري»[(264)].
الثاني: إذا صادف يوم الجمعة عادة للإنسان، لقوله: «إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» كما لو كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصادف يوم صيامه يوم الجمعة، ومثل ذلك لو صادف يوم الجمعة يوم عرفة فإنه يصومه؛ لأنه لم يصمه لكونه يوم جمعة، وإنما لكونه يوم عرفة.
وإنما زالت الكراهة في هذين الأمرين؛ لأنه لم يحصل للجمعة تخصيص، والله تعالى أعلم.
حكم الصوم إذا انتصف شعبان
691/12 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، واسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ.
الكلام عليه من وجه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب «الصيام»، باب «كراهية من يصل شعبان برمضان» (2337)، والترمذي (738)، والنسائي في «الكبرى» (3/254)، وابن ماجه (1651)، وأحمد (15/441) من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح).
وقد ضعف الحديث الإمام أحمد، فقد نقل البيهقي عن أبي داود، عن أحمد أنه قال: (هذا حديث منكر)[(265)]، وكذا نقل الحافظ عن ابن معين أنه قال ذلك[(266)]، كما ضعفه عبد الرحمن بن مهدي، ونقل عنه أبو داود أنه كان لا يحدِّث به[(267)]، وممن ضعفه أبو زرعة الرازي[(268)].(1/80)
وعلة تضعيفه عندهم أن العلاء تفرَّد به، وهو ممن لا يقبل تفرده، قالوا: وأين بقية أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه عن هذا الحديث، مع أنه في أمر تعم به البلوى ويتصل به العمل؟ والأحاديث الصحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم على خلافه، كما تقدم أول كتاب «الصيام»: «لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين» ، فإن هذا يدل على النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وأما أكثر فلا بأس، وحديث الباب هذا فيه النهي عن الصيام ابتداء من النصف من شعبان.
وقال آخرون: إن الحديث صحيح، منهم: الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والطحاوي، وابن عبد البر، والشيخ عبد العزيز بن باز، وقال: (لا أعلم وجهاً قادحاً لاستنكار الإمام أحمد لهذا الحديث) لأن العلاء وثقه جمع من الحفاظ، وقد أخرج له مسلم في «صحيحه»، وتَفَرُّدُ العلاء به تفرد ثقة بحديث مستقل، ومثل ذلك لا يضر، وله نظائر.
وقد ردَّ أبو داود مخالفته للأحاديث الصحيحة فقال: (وليس هذا عندي خلافه) ولعل مراده أن حديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصيام بعد النصف ليصله برمضان، أما من صام بعد النصف لعادة له بصوم يوم وإفطار يوم، أو له عادة يستكثر من الصيام في شعبان، أو عليه قضاء، أو نذر فكل ذلك لا مانع له، وإنما المقصود تحري الصيام وتعمده بعد النصف دون أن يكون له عادة[(269)].
وبهذا تزول المخالفة إن شاء الله تعالى، فينهى عن الصيام بعد النصف، ويتأكد النهي إذا كان قرب نهاية الشهر، كما تقدم، لكن كما قال الحافظ ابن رجب: (إنه تكلم في هذا الحديث من هو أكبر من هؤلاء وأعلم)[(270)].
فيكون قولهم مقدماً على قول من هو دونهم، وقد ذكره الحافظ ابن رجب ضمن الأحاديث التي أُجمع على ترك العمل بها، وعزا هذا الإجماع إلى الطحاوي[(271)]، والله تعالى أعلم.
النهي عن صيام يوم السبت(1/81)
692/13 ـ عَنِ الصَّمَّاءِ بِنْتِ بُسْرٍ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لحاء عنبٍ، أو عود شجرة، فليمضغها» رواه الخمسة، ورجاله ثقات، إلا أنَّهُ مُضْطَرِبٌ.
وَقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ مَنْسُوخٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهي الصَّمَّاء ـ بالصاد المهملة مع التشديد ـ بنت بُسْر، واسمها: بُهية ـ بضم الباء ـ، وقيل: بُهيمة، بزيادة ميم، وهي أخت عبد الله بن بسر، وقيل: عمته، وقيل: خالته، وقيل: أمه. والروايات وردت بذلك كله، وأكثرها على أنها أخت لعبد الله بن بسر. وصحبتها ثابتة، وإنما الاختلاف في قرابتها لعبد الله بن بسر، وهذا لا يضر عند من يرى صحة الحديث[(272)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب «الصيام»، باب «النهي أن يخصَّ يوم السبت بصوم» (2421)، والترمذي (744)، والنسائي في «الكبرى» (3/210)، وابن ماجه (1726)، وأحمد (45/7) كلهم من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر السلمي، عن أخته الصماء، به.
وقال الترمذي: (هذا حديث حسن)، وصححه ابن خزيمة (3/317)، وابن حبان (8/379)، والحاكم (1/435) والألباني[(273)].
وضعفه آخرون للاضطراب في سنده، ونكارة متنه، ومنهم: الزهري، ومالك، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد، والإمام أحمد، والنسائي، والطحاوي، وابن القيم، وابن حجر.(1/82)
أما الاضطراب في سنده؛ فإن الحديث مداره على الصحابي عبد الله بن بسر رضي الله عنه، وقد اضطرب الرواة عنه فيه، فتارة روي عنه، عن أخته، كما هنا، وتارة عن عبد الله بن بسر، عن عمته، كما عند ابن خزيمة[(274)]، والنسائي[(275)]، والبيهقي[(276)]، وتارة عن خالته الصماء، كما عند النسائي[(277)]، وتارة عن عبد الله بن بسر، عن أمه، كما في «الفوائد» لتمام الرازي[(278)]، وتارة عن عبد الله بن بسر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما عند النسائي[(279)]، وابن ماجه[(280)]، وأحمد[(281)]، وجاء ـ أيضاً ـ عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن عائشة، به، فصار من مسند عائشة رضي الله عنها، كما عند النسائي[(282)].
ولهذا ضعَّف العلماء هذا الحديث، فضعَّفه الإمام مالك، فنقل عنه أبو داود أنه قال: (هذا كذب)[(283)]. ونقل ـ أيضاً ـ عن الزهري، أنه قال: (هذا حديث حمصي) ونقله عنه الطحاوي[(284)]، ومعناه: أنه تفرد به أهل حمص، وهذا يقتضي تضعيفه عنده.
ونقل أبو داود عن الأوزاعي أنه قال: (ما زلت كاتماً له حتى رأيته انتشر)، وضعفه الإمام النسائي؛ فإنه قال بعد هذا الحديث وطرقه: (هذه أحاديث مضطربة)[(285)]. كما ضعفه الطحاوي، ووصفه بأنه شاذ. وضعفه ابن القيم، فقال: (وهذا يدل على أن الحديث غير محفوظ، وأنه شاذ)، وكذا ضعفه الحافظ[(286)].
أما نكارة متنه، فإن ظاهره يدل على النهي عن صوم السبت إلا أن يكون في صيام الفريضة، وهذا يدل على المنع من صيامه ولو كان قبله يوماً أو بعده يوماً، فعارضه أحاديث أصح منه وأشهر، ومنها حديث جويرية بنت الحارث المتقدم؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أَصُمْتِ أمس؟» ، قالت: لا، قال: «أتريدين أن تصومي غداً؟...» الحديث. فهذا صريح في جواز صيام يوم السبت في غير الفريضة.(1/83)
ومنها: حديث أبي هريرة المتقدم ـ أيضاً ـ «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ يَوْماً قَبْلَهُ أَو يوماً بَعْدَهُ» واليوم الذي بعد الجمعة هو السبت.
ومنها: حديث أبي قتادة في صيام الست من شوال، فإنها قد يكون منها يوم السبت، وصيامها في غير فريضة.
قال العلامة ابن مفلح المقدسي عن إفراد يوم السبت: (قال الأثرم: قال أبو عبد الله ـ أحمد بن حنبل ـ: قد جاء فيه حديث الصماء، وكان يحيى بن سعيد يتقيه، وأبى أن يحدثني به. قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة ـ الآتي ـ...)، ثم نقل اختيار شيخه ابن تيمية، وهو أنه لا يكره صومه[(287)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن صيام يوم السبت، وهذا على رأي من يقول بصحة الحديث، كما تقدم، وهؤلاء طائفتان، طائفة قالوا بأن الحديث منسوخ، وهذا قول أبي داود، كما نص على ذلك في «سننه»، وقد يكون أخذ ذلك من كونه صلّى الله عليه وسلّم كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر أمره قال: «خالفوهم» ، فالنهي عن صومه يوافق الحالة الأولى، وصيامه يوافق الحالة الثانية، ذكر هذا الحافظ وقال: (لا يتبين وجه النسخ فيه)[(288)].
وطائفة أخرى قالوا: الحديث محكم غير منسوخ، وهو محمول على ما إذا أفرده بالصيام، فإن صام معه غيره جاز، وهذا قول الترمذي، وابن خزيمة، والبغوي، وعزاه ابن القيم إلى أكثر أصحاب الإمام أحمد[(289)].
لكن يشكل على ذلك قوله: «إلا فيما افترض عليكم» ، فإن هذا نص صريح على المنع من صيامه في غير الفريضة، فرداً كان أو مضافاً؛ لأنه لم يخصص إلا الفرض بالجواز، فيبقى ما عداه على المنع[(290)]، ولو كانت صورة الإضافة غير منهي عنها لكان استثناؤها أولى من استثناء الفرض، فلما اقتصر على استثناء الفرض دل على عدم استثناء غيره.(1/84)
فالذي يظهر أن الحديث لا يصح وأنه غير محفوظ؛ لأنه عارضه أحاديث أصح منه وأشهر، والعلم عند الله تعالى.
الرخصة في صيام يوم السبت والأحد
693/14 ـ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ أَكْثَرَ مَا كانَ يَصُومُ مِنَ الأَيَّامِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَيَوْمُ الأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّهُمَا يَوْمُ عِيدٍ لِلمُشْرِكِينَ، وَأَنَّا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ». أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وهذَا لَفْظُهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه النسائي في «الكبرى» (3/214)، وأحمد (44/330 ـ 331)، وابن خزيمة (2167)، وابن حبان (8/381) من طريق عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن كريب، عن أم سلمة رضي الله عنها.
والحديث في سنده عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، ترجم له البخاري في «تاريخه»، وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً[(291)]، وقال ابن معين: (وسط)، وذكره ابن حبان في «الثقات»[(292)]، وقال ابن سعد: (قليل الحديث)، وقال ابن القطان: (روى عنه ابن المبارك، والدراوردي، وابن أبي فديك، وأبو أسامة، ولا تعرف ـ أيضاً ـ حاله)[(293)]، وقال: (أرى الحديث حسناً فاعلم ذلك)[(294)]، وقال الذهبي في «الكاشف»: (ثقة)، وأما والده محمد بن عمر فقد ذكره ابن حبان في «الثقات»[(295)]، وقال ابن سعد: (كان قليل الحديث)، وقال ابن المديني: (وسط)، وقال الذهبي في «الكاشف»: (ثقة)، وفي «الميزان»: (ما علمت به بأساً)، وقال الحافظ: (مقبول).
وقد صحح لهما ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقد نقل الحافظ تصحيح ابن حبان لهذا الحديث، ولم يعقّب عليه بشيء[(296)]، والذي يظهر أن الحديث معلول، وذلك لتفرد عبد الله بن محمد بن عمر به، وهو من لا يقبل تفرده؛ لما تقدم. ولم يتابع عليه، كما قال العقيلي.(1/85)
الوجه الثاني: استدل بهذا الحديث من قال بجواز صيام يوم السبت ويوم الأحد؛ بل ظاهره يدل على الاستحباب؛ لأن صيامهما مخالفة لليهود والنصارى؛ لأن السبت عيد اليهود، والأحد عيد النصارى، فأحب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخالفهم، فيصوم هذين اليومين؛ لأن العيد في شرعنا لا يشرع صيامه، كما تقدم، ففي صيامهما مخالفة للمشركين، قالوا: وهذا الحديث يدل على نكارة حديث الصماء ـ المتقدم ـ، وأم سلمة أدرى بأحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصماء.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن مخالفة الأمم الكافرة القديمة والمعاصرة أمر مقصود شرعاً، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: «وأنا أريد أن أخالفهم» ، والتشبه بهم في عباداتهم أو عاداتهم لا بدّ أن يورث عند المسلم نوع مودة لهم، أو هو على الأقل مظنة المودة، وموضوع التشبه من أخطر القضايا في حياة المسلمين، ولا سيما في زماننا هذا، حيث اتسعت علاقة المسلمين بغيرهم، وحصل من اختلاط البلدان وتقاربها ما لم يكن موجوداً من قبل، ومن هنا يتعين على كل مسلم أن يحصر مصدر التلقي في المنهج الرباني في عقيدته وعبادته وسلوكه وأخلاقه، ويعلم يقيناً أن الأفكار والمناهج الأخرى غير صالحة للتلقي منها واتباعها، وكفى بأهلها وأتباعها الضالين دلالة على فسادها، وبهذا تبقى الأمة المسلمة أمة متميزة لها شخصيتها ولها كيانها، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من تشبه بقوم فهو منهم» [(297)]. والله تعالى أعلم.
حكم صوم يوم عرفة بعرفة
694/15 ـ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم: نَهى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيرَ التِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، واسْتَنْكَرَهُ الْعُقَيْلِيُّ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/86)
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «الصيام»، بابٌ «في صوم عرفة بعرفة» (2440)، والنسائي (3/252)، وابن ماجه (1732)، وأحمد (13/401)، وابن خزيمة (2101)، والحاكم (1/434) كلهم من طريق حوشب بن عقيل، عن مهدي الهَجَري، ثنا عكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وهذا الحديث صححه ابن خزيمة والحاكم، كما ذكر الحافظ، وقال الذهبي: (إسناده لا بأس به)[(298)]. لكن استنكره العقيلي، فقال بعد سياقه بهذا الإسناد: (لا يتابع عليه، وقد رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بأسانيدَ جيادٍ أنه لم يصم يوم عرفة، ولا يصح عنه أنه نهى عن صومه)[(299)].
والذين ضعَّفوا الحديث أعلوه بمهدي بن أبي مهدي الهجري. قال ابن معين: (لا أعرفه)، وقال أبو حاتم: (شيخ ليس بمنكر الحديث)[(300)] وقال ابن حزم: (مجهول)[(301)]، وقال عبد الحق: (ليس بمعروف)، وقد ذكره ابن حبان في «الثقات»[(302)]، وقد روى عنه ثلاثة: حوشب بن عقيل، وعبد المؤمن السدوسي، ويعقوب الفسوي[(303)]، وعلى هذا فالحديث لا بأس به.
الوجه الثاني: الحديث دليل على النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة، وقد أخذ بظاهر الحديث بعض السلف، فقالوا: يحرم صومه ويجب فطره، وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري[(304)].
ويؤيد ذلك فطر النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم عرفة، كما في حديث أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره، فشربه[(305)].(1/87)
وذهب جماعة من السلف إلى استحباب صيام يوم عرفة للحاج وغيره، فقد رُوي عن ابن الزبير، وأسامة بن زيد، وعائشة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصومونه، واختاره ابن حزم، مستدلاً بعموم حديث أبي قتادة المتقدم في فضل صيامه وأنه يكفّر السنة الماضية والباقية، قال: (ولا حجة في عدم صيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة؛ لأنه عليه السلام قد حض على صيامه أعظم حض، وأخبر أنه يكفر ذنوب سنتين، وما علينا أن ننتظر بعد هذا أيصومه عليه السلام أم لا)[(306)].
والقول الثالث: أنه يستحب فطره ولا يجب، وهذا قول أكثر أهل العلم، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما تقدم في حديث أم الفضل بنت الحارث؛ ولأن الفطر يتقوى به على الدعاء، ولا سيما آخر النهار. والصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم العظيم، فيكون ترك الصيام أفضل، وعلل شيخ الإسلام ابن تيمية استحباب فطره بأنه يوم عيد[(307)].
وقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن صوم يوم عرفة بعرفة؟ فقال: (حججت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه)[(308)].
والقول الرابع: التفصيل، وهو أن من يشق عليه الصيام أو يضعفه عن الدعاء فإنه يكره له أن يصومه، ومن كان يطيقه ولا يشق عليه فيستحب له أن يصومه، وهذا القول رواية عن أحمد، ذكرها الخطابي[(309)].
والأظهر ـ والله أعلم ـ قول الجمهور، وهو استحباب فطره، وكراهة صيامه، تأسياً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبخلفائه من بعده، فإنهم وقفوا مفطرين، والله أعلم.
حكم صوم الدهر
695/16 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
696/17 ـ وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ: «لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ».
الكلام عليهما من وجوه:(1/88)
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في كتاب «الصيام»، باب «حق الأهل في الصوم» (1977)، ومسلم (1159) (186 ـ 187) من طريق حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس المكي، أنه سمع عبد الله بن عمرو، قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ وَنَهِكَتْ[(310)]، لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ» قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك، قال: «فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى» [(311)]. هذا لفظ مسلم.
وأما حديث أبي قتادة رضي الله عنه فهو طرف من حديثه الطويل، تقدم طرف منه في أول «صوم التطوع».
وأول الحديث (عن أبي قتادة رضي الله عنه: رجلٌ أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه، قال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه، فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن صام الدهر كله؟ قال: «لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ» ...) الحديث.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لا صام من صام الأبد) الأبد: بفتح الهمزة والباء، هو الدهر الطويل الذي ليس بمحدود. وقد اختلف العلماء في معنى هذه الجملة على قولين:
الأول: أنه دعاء على الصائم الذي صام الدهر، زجراً له عن مواصلة الصيام، فتكون الجملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى، لقصد الدعاء.(1/89)
الثاني: أنه إخبار لا دعاء. ومعنى (لا صام)؛ أي: أنه لا يجد مشقة في الصيام، لكونه اعتاده حتى خفَّ عليه، فلم يفتقر إلى الصبر على الجهد الذي يتعلق به الثواب، فكأنه لم يصم، ولم تحصل له فضيلة الصيام.
قوله: (لا صام ولا أفطر) قيل: معناه الدعاء، كما تقدم. وقيل: معناه الإخبار.
والمعنى: أنه لا صام فحصل أجر الصيام؛ لأن صيامه لم يكن بأمر الشرع، ولا أفطر حيث إنه لم يأكل ولم يشرب كفعل المفطرين.
الوجه الثالث: الحديث دليل على النهي عن صيام الدهر، والمراد به: سرد الصوم متتابعاً في جميع الأيام، باستثناء الأيام التي نهي عن صيامها، وهي العيدان والتشريق. وقد حمله جماعة على التحريم، منهم ابن حزم فقال: (يحرم صوم الدهر)[(312)]، كما استدلوا بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا» وقبض كفه[(313)].
ومعناه: أنه يدخل جهنم فتضيق عليه لتشديده على نفسه ورغبته عن سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم واعتقاده أن غير سنته أفضلُ منها. وهذا وعيد شديد يدل على أن صيام الدهر حرام. وقيل: إنه لا يدخل جهنم، بل تضيق عليه من أجل صومه؛ لأن الصيام جنة[(314)].
والقول الثاني: جواز صيام الدهر، وهذا قول ابن المنذر، وطائفة، واستدلوا بما رُوي أن جماعة من الصحابة والتابعين سردوا الصوم، منهم: عائشة، وأبو طلحة، وعبد الله بن عمر، وأبو أمامة وامرأته، وغيرهم رضي الله عنهم.
وتأولوا أحاديث النهي عن صيام الدهر بأن المراد من صامه مع الأيام المنهي عنها من العيدين وأيام التشريق.
والقول الثالث: أنه يستحب صيام الدهر لمن قوي عليه ولم يفوت فيه حقًّا. وعزاه ابن حجر إلى الجمهور[(315)].
واستدلوا بحديث حمزة بن عمرو السلمي الذي مضى، فإن في بعض ألفاظه عند مسلم: (أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم).(1/90)
ووجه الدلالة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينه حمزة بن عمرو عن سرد الصوم، ولو كان غير جائز لبيَّنه له؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
كما استدلوا بحديث أبي قتادة: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شوَّال، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر» ، قالوا: فدل على أن صوم الدهر أفضل مما شُبه به، وأنه أمر مطلوب.
والأظهر ـ والله أعلم ـ كراهة صوم الدهر، وهذا أقل ما يقال فيه، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية[(316)]، لما يلي:
1 ـ أن صيام الدهر مخالف لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث اختار لنفسه من قدر العبادة غير القدر الذي سار عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث كان يصوم ويفطر، وقال: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل أفضل الصيام صيام داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وقال لعبد الله بن عمرو: «صُم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام» ، فدل على أن صيام الدهر ليس هو أفضل الصيام.
3 ـ أن قوله: «لا صام من صام الأبد» ، فيه تغليظ وإخبار يمنع من صيام الدهر؛ لأنه إما دعاء وإما إخبار، قال ابن العربي: (قوله: «لا صام من صام الأبد» إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ وإن كان معناه الخبر، فيا ويح من أخبر عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق قوله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل، كما تقدم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي صلّى الله عليه وسلّم؟!)[(317)].(1/91)
4 ـ أن المنع من صيام الدهر يتفق مع منهج الإسلام في ضرورة الاعتدال بين حق الله تعالى وحظ النفس، كما يتفق مع منهجه العام في التيسير على المكلفين والرفق بهم، ولهذا قال سلمان رضي الله عنه لأبي الدرداء رضي الله عنه: (إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه). فذكر أبو الدرداء ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدق سلمان»[(318)].
وأما ما ورد عن بعض السلف أنهم صاموا الدهر، فهذا اجتهاد منهم نرجو ألا يحرموا أجر اجتهادهم إن شاء الله، وإلا فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنكر على عبد الله بن عمرو ذلك.
وأما الاستدلال بحديث حمزة بن عمرو وأنه كان يسرد الصيام، فأجيب عنه بوجهين:
1 ـ أن سؤال حمزة بن عمرو إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر.
2 ـ أنه لا يلزم من سرد الصيام صوم الدهر، فقد تقدم قول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم...).
وأما حديث صيام الست من شوال فلا دليل فيه على استحباب صيام الدهر؛ لأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جوازه، فضلاً عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير صيام ثلاثمائة وستين يوماً، ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام هذا العدد لدخول العيدين وأيام التشريق فيها، والله تعالى أعلم.
باب الاعتكاف وقيام رمضان
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، يقال: عكف واعتكف: لزم المكان، قال تعالى: {{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}} [الأعراف: 138] .
وشرعاً: لزوم المسجد لعبادة الله تعالى.
وللاعتكاف فوائد عظيمة، فهو عزلة مؤقتة عن أمور الحياة، وشواغل الدنيا، وإقبال على الله تعالى، وانقطاع عن الاشتغال بالخلق، ولا سيما في ختام شهر رمضان، حيث ترجى ليلة القدر.(1/92)
قال ابن رجب: (معنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله، والمحبة له، والأنس به، أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال)[(319)].
والاعتكاف سنة بإجماع أهل العلم، والأفضل الاعتكاف في رمضان في العشر الأواخر تأسياً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي، ولم ينقل أنه صلّى الله عليه وسلّم اعتكف في غير رمضان، إلا قضاءً لما اعتكف في شوال.
وأما قوله: (وقيام رمضان) فالمراد به: قيام الليل وإحياؤه بالطاعة من صلاة، وتلاوة، وذكر، ودعاء، ويحصل قيام الليل في رمضان بالصلاة، سواء صلى في أول الليل أم في آخره، وسواء صلى منفرداً أم مع الجماعة، لكن قيام رمضان مع الجماعة أفضل، والله تعالى أعلم.
فضل قيام رمضان
697/1 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «صلاة التراويح»، باب «فضل من قام رمضان» (2009)، ومسلم (759) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، به.
وقد جاء في روايات أخرى زيادة: «وما تأخر» ، ومن ذلك ما أخرجه النسائي في «الكبرى» (3/127) من طريق قتيبة بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بزيادة «وما تأخر» ، قال ابن عبد البر: (إنها زيادة منكرة في حديث الزهري)[(320)]، وذلك لأن الحديث رواه جماعة من الثقات من أصحاب سفيان بن عيينة عنه، عن الزهري، ولم يذكروا فيه «وما تأخر» ، وهم أكثر عدداً وأجود حفظاً ممن ذكرها، ومن هؤلاء: معمر، ومالك، وصالح بن كيسان، والليث، ويونس بن يزيد، وغيرهم[(321)]، فتكون زيادة غير محفوظة.(1/93)
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل قيام رمضان وأنه من أسباب مغفرة الذنوب، ومن صلى التراويح كما ينبغي فقد قام رمضان، والمغفرة مشروطة بقوله: «إيماناً واحتساباً» ، ومعنى «إيماناً» أي: مصدقاً بوعد الله تعالى، وبفضل القيام وعظيم أجره عند الله تعالى، «واحتساباً» أي: محتسباً الثواب عند الله تعالى، فيطلب ثواب الله ويبتغي مرضاته، لا بقصد آخر من رياء، أو مدح، أو ثناء، ونحو ذلك.
فعلى المؤمن أن يحرص على صلاة التراويح مع الإمام ولا يفرط في شيء منها، ولا ينصرف قبل إمامه، وقد ورد عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» [(322)]، والمراد بانصراف الإمام: انقضاء الصلاة، لا انصراف الإمام الأول إذا صليت بأكثر من إمام.
الوجه الثالث: تقدم في باب «صلاة التطوع» أن السنة في قيام رمضان أن يكون بإحدى عشرة ركعة.
لقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً)[(323)].
وفي رواية: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء ـ وهي التي يدعوها الناس: العتمة ـ إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة)[(324)].
قال محمد بن نصر المروزي في بيان أفضلية ذلك: (لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن صلاة الليل أجاب بأن صلاة الليل مثنى مثنى، فاخترنا ما اختار هو لأمته، وأجزنا فِعْلَ من اقتدى به، ففعل مثل فعله؛ إذ لم يُرو عنه نَهيٌ عن ذلك؛ بل قد روي عنه أنه قال: «مَنْ شَاءَ فَليُوتِر بِخَمسٍ، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة...» )[(325)].(1/94)
وظاهر حديثها الأول أنه يصلي الأربع بتسليم واحد، لكنه ليس بصريح في ذلك، بل يحتمل أنه يصليها مفصولة، لقولها: (يُسلِّم من كل ركعتين)، وقد تقدم هذا في «التطوع» وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة[(326)]، وقد تكون الركعتان الزائدتان على الإحدى عشرة ما كان يفتتح به صلاة الليل، كما في حديث زيد بن خالد رضي الله عنه الذي ساقه مسلم بعد هذا الحديث، أو سنة العشاء[(327)] والله أعلم.
وصح عن عمر رضي الله عنه أنه أمر تميماً الداري وأُبي بن كعب أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة[(328)]، وأما ما ورد أن الناس على عهد عمر رضي الله عنه كانوا يصلون ثلاثاً وعشرين[(329)]، فهو ضعيف لا تقوم به حجة، لوجوه ليس هذا محلها[(330)]، ولا متمسك فيه لمن ينتصر لهذا العدد.
لكن من يفتي من أهل العلم بالثلاث والعشرين يستدل بما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن صلاة الليل لم يحدد عدداً معيناً، مع أن المقام مقام بيان، وهذا الاستدلال لا بأس به، لكن الأفضل اتباع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي داوم عليها، وعمل بها أصحابه من بعده، ومنهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أفهم منا لنصوص الشرع، وأكثر إدراكاً لمقاصده، فجمع الناس على ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم في تهجده، وهو إحدى عشر ركعة، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، ولم يجتهد في استنباط ما زاد على هذا العدد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فالاستدلال على الإحدى عشرة بفعله صلّى الله عليه وسلّم أقوى من الاستدلال على الثلاث والعشرين بهذا الحديث أو غيره من العمومات.
لكن من زاد على إحدى عشر ركعة فهو مأجور ـ إن شاء الله ـ حسب نيته وقصده، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.(1/95)
يقول ابن عبد البر: (قد أجمع العلماء على أنه لا حدَّ ولا شيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة، فمن شاء أطال فيها القيام وقلّت ركعاته، ومن شاء أكثر الركوع والسجود)[(331)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الأعمال الصالحة سبب لغفران الذنوب وتكفير السيئات، بشرط صدق النية، لقوله: «إيماناً واحتساباً» ، قال ابن عبد البر: (ومحال أن يزكو من الأعمال شيء لا يراد به الله، وفقنا الله لما يرضاه، وأصلح سرائرنا وعلانيتنا برحمته، آمين)[(332)]، والله تعالى أعلم.
فضل العمل في العشر الأواخر من رمضان
698/2 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ ـ أَي: الْعَشْرُ الأَخِيرُ مِنْ رَمَضَان ـ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «فضل ليلة القدر»، باب «العمل في العشر الأواخر من رمضان» (2024)، ومسلم (1174) من طريق أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر) كان: تفيد الدوام والاستمرار، وإن كان خبرها غير مضارع، لوجود قرائن تدل على ذلك، والمراد بالعشر: العشر الأواخر من رمضان، كما فسرها الحافظ، فتكون (أل) في العشر، للعهد الذهني.
قوله: (شدَّ مئزره) أي: جدَّ واجتهد في العبادة، وقيل: اعتزل النساء، وهذا أظهر، لقوله بعده: (وأحيا ليله)، وفي رواية مسلم: (وجدَّ وشدَّ المئزر) والعطف يقتضي المغايرة.(1/96)
قوله: (وأحيا ليله) أي: سهره فأحياه بالطاعة، والمعنى: أحياه بالقيام والتعبد لله رب العالمين، ونسبة الإحياء إلى الليل مجاز؛ لأنه إذا سهر فيه للطاعة فكأنه أحياه؛ لأن النوم أخو الموت، وإحياء الليل يحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويحتمل أن المراد إحياء غالبه[(333)]، وقد سبق مثل هذا في قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم شعبان كله، كان يصومه إلا قليلاً)، ويؤيد هذا قول عائشة رضي الله عنها: (ما أعلمه صلّى الله عليه وسلّم قام ليلة حتى الصباح)[(334)]، كما يؤيد ذلك ما تقدم في كلام عبد الله بن المبارك من أن إطلاق البعض على الكل جائز في لغة العرب، وقد مال إلى هذا الاحتمال الحافظ ابن رجب رحمه الله.
قوله: (وأيقظ أهله) أي: زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ ليشاركنه اغتنام الخير والذكر والعبادة.
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل العمل الصالح في العشر الأواخر من رمضان، وأن لها مزية على غيرها من أيام الشهر بمزيد الطاعة والعبادة، من صلاة، وذكر، وتلاوة قرآن. وسر هذا الاجتهاد في العشر الأواخر أمران:
الأول: أن هذه العشر هي ختام الشهر المبارك، والأعمال بخواتيمها.
الثاني: أن هذه العشر ترجى فيها ليلة القدر، ولعل الإنسان يدركها وهو قائم لله رب العالمين، فيغفر له ما تقدم من ذنبه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية إيقاظ الأهل ليالي العشر، وحثهم على الصلاة، وترغيبهم في الطاعة، والإيقاظ أمر ميسور في هذا الزمان، ولا سيما ليالي العشر، لكن المطلوب توجيه الأهل وكذا الناشئة لما فيه الخير، والحذر من ضياعها في القيل والقال، وفي المجالس المحرمة والاجتماعات الآثمة.(1/97)
والمراد بإيقاظ الأهل ـ هنا ـ تأكيد الاستحباب، وإلا فهذا أمر مسنون طوال الأيام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» [(335)]، والله الموفق.
حكم الاعتكاف
699/3 ـ وَعَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «الاعتكاف»، باب «الاعتكاف في العشر الأواخر» (2026)، ومسلم (1172) (5) من طريق الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنه، به.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لازم ذلك في كل عام حتى توفاه الله عزّ وجل.
والحكمة من تخصيصه صلّى الله عليه وسلّم العشر الأواخر بالاعتكاف هو ما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط... ثم أطلع رأسه، فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ»[(336)].(1/98)
والاعتكاف مشروع في كل وقت، لكن يتأكد في شهر رمضان، ويتأكد تأكيداً آخر في العشر الأواخر منه.
ومع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد لازم الاعتكاف، وكذا أزواجه من بعده، إلا أنه لم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم حديث صحيح في بيان فضله وثواب أهله، قال أبو داود: (قلت لأحمد: تعرف في فضل الاعتكاف شيئاً، قال: لا، إلا شيئاً ضعيفاً)[(337)].
وإنما يؤخذ فضله من مدح أهله، كما قال تعالى: {{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}} [البقرة: 125] ، ومن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ومواظبته عليه.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن حكم الاعتكاف باقٍ لم ينسخ، وليس خاصًّا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن أزواجه اعتكفن بعد وفاته.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية اعتكاف النساء، وقد قال الجمهور من أهل العلم بأنه يسن للمرأة، كما يسن للرجل، لكن بشرط أن تكون طاهرة؛ وألا يحصل بذلك فتنة، وأن يأذن لها زوجها، للحديث المتقدم: «لاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ» ، والاعتكاف من باب أولى، والله تعالى أعلم.
متى يدخل المعتكف معتكفه
700/4 ـ وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الاعتكاف»، باب «اعتكاف النساء» (2033)، ومسلم (1173) من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، به. وهذا لفظ مسلم.
الوجه الثاني : ظاهر الحديث دليل على أن المعتكف يدخل مكان اعتكافه بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وبه قال الأوزاعي، ومال إليه الصنعاني[(338)].(1/99)
والقول الثاني: أنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، وهذا قول الجمهور من أهل العلم[(339)]، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه ـ المتقدم ـ وفيه: «... مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ».
ووجه الاستدلال: أن لفظ «العشر» بغير هاء عدد لليالي، وأول هذه الليالي ليلة إحدى وعشرين.
وهذا هو الراجح لأمرين:
الأول: أن من مقاصد الاعتكاف التماس ليلة القدر، وهي ترجى في أوتار العشر، وأولها ليلة إحدى وعشرين.
الثاني: أن من دخل قبل الغروب صدق عليه أنه اعتكف العشر الأواخر بكاملها، أما إذا دخل بعد صلاة الفجر لم يصدق عليه أنه اعتكف العشر الأواخر كلها.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب فمعناه: انقطع في معتكفه بعد صلاة الفجر للانفراد عن الناس بعد الاجتماع بهم في الصلاة، وكان قبل ذلك معتكفاً لابثاً في جملة المسجد، لا أن معناه أنه ابتدأ الاعتكاف بعد صلاة الفجر؛ إذ لو كان هذا هو المراد لما ذكرت معتكفه، وإنما تذكر المسجد؛ لأنه إذا دخل المسجد بدأ الاعتكاف بدخوله؛ لأن الاعتكاف يبدأ من دخول المسجد ونية الاعتكاف قبل صلاة الفجر.
وأما وقت خروج المعتكف فاستحب كثير من أهل العلم أن يكون عند خروجه لصلاة العيد، لكي يصل عبادة بعبادة.
والقول الثاني: أنه يخرج إذا غربت الشمس ليلة العيد؛ لأن العشر الأواخر تنتهي بانتهاء الشهر، والشهر ينتهي بغروب الشمس من ليلة العيد[(340)]، وهذا هو الأظهر؛ لقوة مأخذه، والله أعلم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يجوز للمعتكف أن يخصص له مكاناً في المسجد يخلو به، سواء كان خباءً أو غيره، وشرط الفقهاء ألا يضيِّق بذلك على المصلين، وبشرط الصيانة والنظافة، وغالب المساجد اليوم فيها غرف صالحة للإقامة فيها، فتقوم مقام الخيمة، وقد تقدم ذلك في «باب المساجد».(1/100)
أما في مثل الحرمين الشريفين أو المساجد الكبيرة التي يعتكف فيها كثيرون، فإن الخلوة فيها متعذرة غالباً، لكن إذا انتفت الخلوة الحقيقية أو الحسية فلا ينبغي تفويت الخلوة الحكمية أو المعنوية، بمعنى أن يحرص المعتكف على الانفراد بنفسه ولو كان معه غيره في المكان، ولا يتم هذا إلا بإدراك معنى الاعتكاف وحكمته ووظيفة المعتكف، ومنع النفس من الاسترسال في مخالطة الآخرين والرغبة في التحدث معهم.
حكم خروج المعتكف أو جزء من بدنه من المسجد
701/5 ـ وَعَنْهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ ـ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ ـ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفاً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الاعتكاف»، باب «لا يدخل البيت إلا لحاجة» (2029)، ومسلم (297) (7) من طريق الليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها.
وقول الحافظ: (واللفظ للبخاري) لا فائدة فيه؛ لأن لفظ الصحيحين واحد.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز إخراج المعتكف رأسه أو شيء من بدنه من المسجد، وأن هذا لا يؤثر على الاعتكاف؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يمد رأسه إلى عائشة رضي الله عنها وهي في حجرتها وهو معتكف في المسجد فترجِّله، أي: تسرِّح شعر رأسه، وتدهنه، وهي حائض، وإخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم رأسه من المسجد عند غسله، يحتمل أنه لقصد ترجيل عائشة رضي الله عنها، ويحتمل أنه فعل ذلك صيانة للمسجد، وهذا أمر مطلوب.(1/101)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يجوز للمعتكف أن ينظف شعره، وأن هذا لا ينافي الاعتكاف، ويقاس على ذلك تنظيف بدنه وثيابه؛ لأن النظافة مطلب شرعي ولو كان الإنسان معتكفاً، لعموم قوله تعالى: {{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}} [الأعراف: 31] .
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز خروج المعتكف للحاجة، وقد ورد عند مسلم: (إلا لحاجة الإنسان)، وفسَّرها الزهري بالبول والغائط، وقد نقل ابن المنذر وابن هبيرة وغيرهما الإجماع على جواز ذلك[(341)].
ويلحق بهما كل ما يحتاجه المعتكف، ومن ذلك خروجه لإحضار طعام أو شراب أو ملابس، أو نحو ذلك مما يشق عليه تركه ولم يكن عنده من يقوم بإحضاره، كما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من معتكفه مع صفية ليردها إلى بيتها تأنيساً لها، حيث لم يكن بيتها لاصقاً بالمسجد، والحديث في «الصحيحين»[(342)]. ومثل ذلك الخروج لصلاة الجمعة، كما سيأتي إن شاء الله.
وقد قسم الفقهاء خروج المعتكف إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ خروج ينافي الاعتكاف، كما لو خرج لبيع أو شراء أو جماع، أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز، ويُبطل الاعتكاف، سواء اشترطه أم لا.
2 ـ خروج لأمر لا بدّ له منه شرعاً، أو طبعاً، كما تقدم، فهذا يجوز ولو لم يشترطه؛ لأنه وإن لم يشترطه في اللفظ فهو مشترط في العادة.
3 ـ خروج لأمر له منه بد، مثل: الخروج لتشييع جنازة، أو عيادة مريض، أو زيارة قريب، وما أشبه ذلك من الطاعات وهذا قول الحنابلة[(343)]. فهذا إن اشترطه جاز وإلا فلا، وسيأتي الكلام على موضوع الاشتراط ـ إن شاء الله ـ والله تعالى أعلم.
من أحكام الاعتكاف(1/102)
702/6 ـ وَعَنْهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ أَلاَ يَعُودَ مَرِيضاً، وَلاَ يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلاَ يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلاَ يُبَاشِرَهَا، وَلاَ يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصَوْمٍ، وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلاَ بَأْسَ بِرِجَالِهِ، إِلاَّ أَنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الأثر أخرجه أبو داود في كتاب «الصوم»، باب «المعتكف يعود المريض» (2473) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، به.
قال أبو داود: (غير عبد الرحمن لا يقول فيه: (قالت: السنة...) جعله قول عائشة).
وقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (4/321) من طريق الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، والسنة في المعتكف...) إلخ.
وقال في «معرفة السنن والآثار» (6/395): (قد أخرج البخاري ومسلم صدر هذا الحديث في الصحيح إلى قوله: «والسنة في المعتكف ألا يخرج...» ، ولم يخرجا الباقي؛ لاختلاف الحفاظ فيه، منهم من زعم أنه من قول عائشة، ومنهم من زعم أنه من قول الزهري، ويشبه أن يكون من قول مَنْ دون عائشة...). وبهذا جزم ـ أيضاً ـ الدارقطني كما في «السنن» (2/201)[(344)].(1/103)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أنه ليس للمعتكف أن يعود مريضاً أو يشهد جنازة في غير المسجد الذي هو معتكف فيه، بل يلزم مكانه حتى يتفرغ للعبادة، ولكن تقدم أن هذا الأثر فيه مقال، فلا يقوى الاستدلال به على منع المعتكف من الخروج لعيادة المريض أو شهود الجنازة، وقيد الفقهاء ذلك بمن له عليه حق كالوالدين أو القريب؛ لأن ذلك من باب صلة الرحم، أو عالم له أثر بارز في نفع المسلمين، فمثل هؤلاء يعاد مريضهم، وتشهد جنائزهم، أما عيادة كل مريض، أو شهود كل جنازة فهذا يؤثر على الاعتكاف، كما تقدم.
فإن اشترط في ابتداء اعتكافه الخروج لأمر عارض، مثل: عيادة المريض، أو شهود الجنازة، أو حضور مجلس علم، أو نحو ذلك، فللعلماء في ذلك قولان:
الأول: جواز الاشتراط. وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة، وبه قال جماعة من السلف[(345)].
واستدلوا بحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها في موضوع الاشتراط في الحج، فقد قال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي»[(346)].
ووجه الدلالة: أنه إذا كان الشرط يؤثر في الإحرام، وهو ألزم العبادات بالشروع فيه، فالاعتكاف من باب أولى.
والقول الثاني: أنه لا يجوز الاشتراط. وهذا مذهب المالكية، وقد نص على ذلك الإمام مالك فقال: (لم أسمع أحداً من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطاً، وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك من الأعمال، ما كان من ذلك فريضة أو نافلة، فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنة، وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون، لا من شرط يشترطه ولا يبتدعه)[(347)].(1/104)
وهذا قول قوي ـ في نظري ـ؛ لأن الاعتكاف عبادة، والعبادات توقيفية، والمرجع في أحكام الاعتكاف إلى هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد اعتكف مرات عديدة ولم ينقل عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه اشترط، وقد كان يخرج لحاجته، ولم يرد أنه كان يشترط في ذلك، ثم إن الخروج الزائد على حاجة الإنسان التي لا بدّ منها بناءً على الشرط، ينافي الاعتكاف لغة وشرعاً، والله أعلم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المعتكف ممنوع من مباشرة النساء، وقد دل على ذلك القرآن، قال تعالى: {{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}} [البقرة: 187] أي: لا تلامسوهن بجماع أو تقبيل، أو نحو ذلك من الملامسة؛ لأن المعتكف منقطع لعبادة الله تعالى في بيت من بيوته، ومثل هذه المباشرة تحول بينه وبين المقصود من ذلك الانقطاع. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه واستأنف)[(348)]، ومعنى (استأنف): بدأ اعتكافه من جديد.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يشترط في الاعتكاف أن يكون في (مسجد جامع) أي: تصلى فيه الجماعة، وليس المراد أن تصلى فيه الجمعة. أما كون الاعتكاف لا بدّ أن يكون في مسجد، فهذا شرط مجمع عليه، فلا يصح الاعتكاف الشرعي إلا فيه، قال تعالى: {{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}} [البقرة: 187] ، قال القرطبي: (أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد)[(349)]، وكذا حكى غيره الإجماع.
وأما كونه تقام فيه صلاة الجماعة، فلأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيراً مع إمكان التحرز منه، وهذا ينافي الاعتكاف الذي هو لزوم المُعْتَكَفِ، والإقامة على طاعة الله فيه.
لكن هل يلزم أن يكون المسجد تقام فيه صلاة الجمعة؟ قولان:(1/105)
الأول: أنه يلزم أن يعتكف في مسجد تقام فيه الجمعة إن تخلل اعتكافه جمعة، وهذا قول المالكية، وكذا الشافعية إن كان اعتكافه نذراً متتابعاً، وهو ظاهر اختيار الصنعاني[(350)].
والقول الثاني: أنه لا يلزم أن تقام فيه الجمعة؛ بل له أن يخرج لصلاة الجمعة، ولا يؤثر ذلك على اعتكافه، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وبه قال ابن حزم[(351)]، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {{وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}}، وهذا نص عام في كل مسجد، ولقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ...} [الجمعة: 9] ، وهذا يدل على أن الجمعة مستثناة من عدم البطلان بالخروج.
وهذا هو الراجح ـ إن شاء الله ـ لقوة دليله، لكن هل له التبكير إلى الجمعة؟ قولان:
الأول: أن له التبكير فيخرج إلى الجمعة في الوقت الذي كان يخرج فيه، وهذا قول أبي الخطاب وابن عقيل[(352)]، لعموم الأحاديث الدالة على فضل التبكير إلى الجمعة، وهي تشمل المعتكف وغيره؛ ولأن هذا خروج جائز ومأذون فيه فجاز تعجيله؛ كالخروج لحاجة الإنسان، ولأنه قد انتقل من مكان عبادة إلى مكان عبادة، واللبث حاصل في مسجد اعتكافه أو في هذا المسجد الذي انتقل إليه.
الثاني: أنه لا يبكر بل يخرج متأخراً، لئلا يطول زمن خروجه عن معتكفه، وقد رخص له للحاجة وهي حضور الجمعة، وهذا يتم إذا حضرها وصلى مع الناس، وهو مشغول بعبادة قد شرع فيها، فصارت أولى، وهذا قول الحنفية[(353)]، والأول أظهر، لقوة مأخذه، والله تعالى أعلم.
هل الصوم شرط في الاعتكاف؟
703/7 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى المُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضاً.
الكلام عليه من وجهين:(1/106)
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الدارقطني (2/199)، والبيهقي (4/319)، والحاكم (1/439) كلهم من طريق عبد الله بن محمد الرملي، ثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهيل عمِّ مالك بن أنس، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به مرفوعاً.
وهذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني: (رفعه هذا الشيخ، وغيره لا يرفعه) ويعني بالشيخ: عبد الله بن محمد الرملي. وقال البيهقي: (هذا هو الصحيح، موقوف، ورفعه وَهْمٌ). وعبد الله الرملي، ترجم له ابن أبي حاتم وذكر أنه روى عنه الوليد بن محمد الموقري، وروى عنه موسى بن سهل الرملي[(354)]، وقال عنه ابن القطان: (لا أعرفه)، وذكر أن المسمى بذلك أكثر من واحد، والحال في الجميع مجهولة[(355)].
وقد أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (10/350)، من طريق عبد الملك بن أبي الحواري، والبيهقي (4/319) من طريق أبي بكر الحميدي، كلاهما عن عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهيل، عن طاوس، عن ابن عباس موقوفاً، وهذا مما يرجح ما قاله الدارقطني والبيهقي، كما تقدم.
الوجه الثاني: استدل بهذا الأثر من قال: إن الصوم ليس شرطاً في الاعتكاف، فيصح بلا صوم، وهذا قول بعض المالكية، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قول ابن حزم[(356)].
والقول الثاني: أن الصوم شرط للاعتكاف مطلقاً، سواء أكان اعتكافاً واجباً أم تطوعاً، وهذا مذهب المالكية، وبه قال بعض الشافعية، ورواية عن أحمد[(357)]، ورجح هذا القول ابن القيم، وقال: (إنه الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية)[(358)]، وعند الحنفية أنه شرط في الاعتكاف الواجب دون التطوع[(359)].
واستدل هؤلاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعتكف إلا صائماً، إلا ما كان قضاءً، كما استدلوا بقول عائشة رضي الله عنها ـ المتقدم ـ: «ولا اعتكاف إلا بصوم»، والصحابي إذا أطلق السنة انصرف إلى سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم.(1/107)
والراجح القول الأول، وهو أن الصوم ليس بشرط في الاعتكاف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتكف العشر الأول من شوال قضاءً ـ كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها ـ ومن العشر الأول يوم العيد، ولا يمنع من اعتكافه اشتغاله بالصلاة والخطبة، فيعتكف بقية اليوم.
ولأن الاعتكاف عبادة مستقلة بنفسها، فلم يكن الصوم شرطاً فيه كالحج والجهاد، ولم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه اشترط الصوم للاعتكاف.
فإن قيل: ما الفائدة من قولنا: يصح بلا صوم، وقد تقدم أن أفضل الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؟
فالجواب: تظهر الفائدة فيما لو كان الإنسان مريضاً يباح له الفطر، ولكن أحب أن يعتكف فلا بأس، ولو كان اعتكافه بلا صوم، والله تعالى أعلم.
الزمن الذي تُلتمس فيه ليلة القدر
704/8 ـ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أُروا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي المَنَامِ، فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «فضل ليلة القدر»، باب «التماس ليلة القدر في السبع الأواخر» (2015) ومسلم (1165) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به مرفوعاً.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أُروا) بضم الهمزة، أي: أراهم الله تعالى، فالواو نائب فاعل.(1/108)
قوله: (ليلة القدر) أي: ليلة الشرف والتقدير؛ لأن القدر: بسكون الدال؛ إما من الشرف والمقام، كما يقال: فلان عظيم القدر، فتكون إضافة الليلة إليه من باب إضافة الشيء إلى صفته، أي: الليلة الشريفة. وإما من التقدير والتدبير، فتكون إضافتها إليه من باب إضافة الظرف إلى ما يحويه، أي: الليلة التي يكون فيها تقدير ما يجري في تلك السنة، كما قال تعالى: {{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ *}} [الدخان: 4] ، قال قتادة: (يفرق فيها أمر السنة)[(360)]، ولا مانع من اعتبار المعنيين.
قوله: (في المنام) أي: وقت النوم، وتسمى الإراءة حينئذٍ: رؤيا، والمراد: أنه قيل لهم: إن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان.
قوله: (السبع الأواخر) أي: البواقي، وهي من ثلاث وعشرين إن كان الشهر ناقصاً ومن أربع وعشرين إن كان الشهر تامًّا.
قوله: (أرى) إما بضم الهمزة، معناها: أظن، وإما بفتحها، ومعناها: أعلم، والمراد: أبصر مجازاً.
قوله: (تواطأت) أي: توافقت، وزناً ومعنى.
قوله: (فمن كان متحريها) التحري: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول؛ أي: فمن كان طالباً مصادفتها بالعمل الصالح والقيام فيها.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الله تعالى قد يكرم بعض المؤمنين فيريه في منامه ما ينفعه وغيره.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز العمل بالرؤيا الصالحة إذا دلّت القرينة على صدقها ولم تخالف الشرع. ومن القرينة أن تتفق الرُّؤى على شيء، فهذا مما يدل على صدقها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ...»[(361)].
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن ليلة القدر في رمضان، وأن من حرص عليها فإنه يتحراها في السبع الأواخر منه.(1/109)
وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»[(362)].
وهذا يدل على أن المطلوب تحريها في جميع العشر، ولا منافاة بينه وبين حديث الباب الدال على أن المطلوب تحريها في السبع الأواخر، ويجمع بينهما بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلاَ يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي» [(363)]، ووجه الجمع أن جميع ليالي العشر محل لتحري ليلة القدر، لكن أرجاها السبع البواقي.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ينبغي للمؤمن أن يتحرى ليلة القدر في جميع ليالي العشر؛ لأن جميع ليالي العشر قد تكون أوتاراً باعتبار نقصان الشهر أو تمامه.
فالوتر باعتبار ما مضى من الشهر ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين.
وقد يكون باعتبار ما بقي، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لتاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى» [(364)]، فإذا كان الشهر ثلاثين فتاسعة تبقى ليلة اثنين وعشرين، وسابعة تبقى ليلة أربع وعشرين، وخامسة تبقى ليلة ست، وثالثة تبقى ليلة ثمان[(365)]، والله تعالى أعلم.
تحديد ليلة القدر بليلة سبع وعشرين
705/9 ـ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْيينِهَا عَلَى أَرْبَعِينَ قَوْلاً، أَوْرَدْتُهَا فِي «فَتْحِ الْبَارِي».
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/110)
هذا الحديث أخرجه أبو داود في باب «تفريع أبواب شهر رمضان»، باب «من قال: سبع وعشرين» (1386) من طريق معاذ بن معاذ العنبري، أخبرنا شعبة، قتادة، أنه سمع مطرِّفاً، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، به.
وهذا الحديث جاء مرفوعاً ـ كما هنا ـ رفعه معاذ بن معاذ العنبري، وقد انفرد بهذا الحديث أبو داود عن بقية أصحاب الكتب الستة. ورواه مرفوعاً ـ أيضاً ـ الطحاوي (3/93)، وابن حبان (8/436 ـ 437)، والطبراني في «الكبير» (19/349) (813)، والبيهقي (4/312) كلهم من طريق معاذ بن معاذ، به.
وجاء موقوفاً على معاوية رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (3/76) عن عفان، عن شعبة، به موقوفاً.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (2/311) عن شعبة، به موقوفاً، ومن طريقه أخرجه البيهقي.
وهذا هو المحفوظ. قال الدارقطني في «العلل» (7/65): (ولا يصح عن شعبة مرفوعاً)، ولما ذكره ابن رجب مرفوعاً، قال: (وله علة، وهي وقفه على معاوية، وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني)[(366)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين؛ لأنه سيق مساق الجزم والحتم، وهذا قاله معاوية رضي الله عنه حسب اجتهاده. وقد ورد عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأعلم أيُّ ليلة هي؟ هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين)[(367)].
وقد اختلف في تعيين هذه الليلة، فذكر الحافظ ستة وأربعين قولاً، وأكثرها أقوال لا دليل عليها، ويمكن جعلها ثلاثة أقسام:
1 ـ أقوال باطلة؛ كالقول بأنها رفعت أصلاً، أو القول بأنها في كل السنة، أو القول بأنها ليلة النصف من شعبان.
2 ـ أقوال ضعيفة؛ كالقول بأنها في أول رمضان، أو ليلة النصف من رمضان.
3 ـ أقوال راجحة وهي الأقوال المتعلقة بكونها في العشر الأواخر من رمضان.(1/111)
وأظهر الأقوال أنها في العشر الأواخر، وأوتارها آكد، وليلة سبع وعشرين آكد من غيرها، وكان أُبي بن كعب رضي الله عنه يحلف أنها ليلة سبع وعشرين، كما تقدم.
وذهب أبو قلابة وطائفة إلى أنها تنتقل في ليالي العشر، وروى عبد الرزاق بسنده عن أبي قلابة أنها تنتقل في وتر[(368)]، وقد نسب النووي هذا إلى المحققين، وقال: «هذا أظهر، وفيه جمع بين الأحاديث المختلفة»[(369)].
والحكمة في إخفاء هذه الليلة: أن يجتهد الناس في طلبها رجاءَ إصابتها، ويتبين بذلك من كان جادًّا في طلبها، حريصاً على إحيائها، ممن كان كسلان متهاوناً لا يقيم لها وزناً، ولو تيقنَّا أيُّ ليلة هي، لتراخت العزائم واكتفي بإحياء تلك الليلة، فكان إخفاؤها مستدعياً قيام كل الشهر، والاجتهاد في العشر الأواخر منه ليكثر الثواب وتعظم الأجور.
وقد ورد في سياق حديث أُبي بن كعب ـ المتقدم ـ أن من علامة ليلة القدر أن تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها[(370)].
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الله تعالى قد يكشفها لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، ونحو ذلك[(371)]، والله تعالى أعلم.
بم يدعو من وافق ليلة القدر؟
706/10 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ، تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/112)
فقد أخرجه النسائي في «الكبرى» (9/322) في كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب «ما يقول إذا وافق ليلة القدر»، والترمذي (3513)، وابن ماجه (3850)، وأحمد (42/317)، والحاكم (1/530) كلهم من طريق كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة رضي الله عنها، به.
وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
وتابع عبدَ الله بن بريدة أخوه سليمان بن بريدة، من طريق علقمة بن مرثد، عن سليمان، عن عائشة، به، أخرجه النسائي (9/324)، وأحمد (43/277)، والطبراني في «الدعاء» (916) والحاكم (1/530) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
وفيما قاله نظر؛ فإن سليمان بن بريدة ليس من رجال البخاري، وإنما هو من رجال مسلم، فالحديث صحيح على شرط مسلم، وعبد الله بن بريدة وأخوه سليمان ثقتان، إلا أن عبد الله أوثق من سليمان، كما مضى في «الجنائز»[(372)].
لكن أُعل هذا الحديث بالانقطاع بين عبد الله بن بريدة وعائشة رضي الله عنها، وقد أبان النسائي عن ذلك، وذكر الدارقطني في «السنن» (3/233) وكذا البيهقي (7/118) أن ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئاً، ثم إن الحديث قد اختلف فيمن رواه عن عائشة رضي الله عنها، فقد جاء من رواية مسروق عن عائشة موقوفاً، رواه النسائي (9/324)، ومن رواية شريح بن هانئ عنها موقوفاًـ أيضاً ـ رواه ابن أبي شيبة (10/206).(1/113)
الوجه الثاني: يستدل الفقهاء بهذا الحديث على فضل الدعاء في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، وأنه يستحب لمن وفقه الله أن يكثر من الدعاء، ويدعو بما أرشد إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ لأنه دعاء عظيم جامع، فيه إظهار الذل والانكسار بين يدي الله تعالى؛ وأن العبد محل للذنوب؛ ولأن نِعم الله عليه لا تحصى، وهو محل للتقصير، فهو لا يسأل إلا العفو، مهما كان اجتهاده وعمله الصالح. وهذه عائشة رضي الله عنها قد شهد لها النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجنة ومع هذا علَّمها النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن تدعو ربها أن يعفو عنها، فغيرها من باب أولى.
يقول البيهقي رحمه الله: (مسألة العفو من الله مستحبة في جميع الأوقات، وخاصة في هذه الليلة)[(373)].
وقال ابن رجب رحمه الله: (وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً، ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو؛ كحال المذنب المقصّر)[(374)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الدعاء في ليلة القدر كان أمراً معروفاً ومشهوراً عند الصحابة رضي الله عنهم، فهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد حرصت على أفضل الدعاء وأكمله في هذه الليلة العظيمة؛ لأنها تعلم أن الدعاء فيها مستجاب، والنداء مسموع، وهذا دليل على حرصها وفقهها.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه يستحب للداعي إذا دعا أن يتوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه أو صفة من صفاته تناسب دعاءه؛ كأن يقول: يا رحمن أرحمني، يا غفور اغفر لي، ونحو ذلك.
الوجه الخامس: في الحديث إثبات صفة العفو لله تعالى، ومعناها: الصفح عن الذنوب. والعفو: اسم لله تعالى، وكذا إثبات صفة المحبة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، والله تعالى أعلم.(1/114)
جواز شد الرحال لأحد المساجد الثلاثة لقصد الاعتكاف
707/11 ـ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة»، باب «مسجد بيت المقدس» (1197)، ومسلم (827) (415) من طريق عبد الملك بن عمير، عن قَزَعَةَ، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت منه حديثاً فأعجبني، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أفأقول على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لم أسمع؟ قال: سمعته يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى» ، وسمعته يقول: «لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ زَوْجُهَا» هذا لفظ مسلم، والحديث له ألفاظ أخرى.
وهذا الحديث رواه عدد من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وحديثه في «الصحيحين»، ومنهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعلي، وأبو أمامة، وبصرة بن أبي بصرة الغفاري، وأبو الجعد الضمري[(375)] رضي الله عنهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هو حديث مستفيض، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته، وتلقيه بالقبول والتصديق)[(376)].
وهذا الحديث من الأحاديث القليلة التي كررها الحافظ في «البلوغ»، فقد أعاده مرة أخرى ضمن أحاديث النذور، ولعله ذكره في الاعتكاف لبيان أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة مشروع لمن أراده، ولو لزم من ذلك شدُّ الرحال، لأن الرحال تشدُّ إليها، والله أعلم.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/115)
قوله: (لا تُشدُّ) بضم الدال على أن (لا) نافية، وهذا لفظ البخاري، وعند مسلم بلفظ النهي ـ كما تقدم ـ، والنفي أبلغ من النهي، ونكتة العدول عنه إلى النفي حمل السامع على الترك.
قوله: (الرحال) جمع رحل، وهو سرج البعير الذي يركب عليه؛ لأن من أراد سفراً شدَّ رحله ليركبه ويسير، فكنَّى بشد الرحال عن السفر؛ لأنه لازِمَهُ، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق في المعنى المذكور بين ركوب الرواحل أو الخيل أو السيارة، وغير ذلك. ويدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّمَا يُسَافَرُ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيليَاءَ»[(377)].
قوله: (إلا إلى ثلاثة مساجد) هذا استثناء مفرغ؛ لأن المستثنى منه محذوف؛ أي: لا تشد الرحال إلى مسجد أو إلى موضع، إلا إلى ثلاثة مساجد، والثاني أعم.
قوله: (المسجد الحرام) بالجر على البدلية، وبالرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي المسجد الحرام... والحرام بمعنى: المحرم؛ كالكتاب بمعنى المكتوب.
قوله: (ومسجدي هذا) اسم الإشارة للتعظيم، أو لإفادة أن الأحكام متعلقة بالمسجد النبوي دون غيره من مساجد المدينة، فتكون للتوكيد.
قوله: (والمسجد الأقصى) أي: بيت المقدس، سمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، واقتصر عليه النووي[(378)]، أو لأنه لم يكن وراءه مسجد، وهذا ذكره الزمخشري[(379)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم السفر لأي بقعة تقصد لذاتها بقصد التعبد فيها لاعتقاد فضلها، إلا هذه المساجد الثلاثة، وإنما خصت بذلك لما لها من الخصائص التي ليست لغيرها، ومن ذلك مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وفي المسجد النبوي بألف صلاة، وفي بيت المقدس بخمسمائة صلاة، على أن حديث التضعيف في بيت المقدس ضعيف[(380)].(1/116)
ومنها: أن هذه المساجد الثلاثة بناها أنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ومنها: أن المكي قبلة الناس، والمدني أُسِّسَ على التقوى، والأقصى قبلة الأنبياء السابقين، وفي المكي عبادة لا توجد في مكان آخر، وهي الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة[(381)].
أما السفر للتجارة، وطلب العلم، وزيارة القريب أو الأخ في الله، فهذا جائز، ولا يدخل في هذا النهي باتفاق العلماء؛ لأمرين:
الأول: أن المسافر في هذه الحالات وما شابهها لم يقصد المكان لذاته بل المراد ذلك المطلوب حيثما كان، ولو كان في غير هذا المكان لذهب إليه.
الثاني: أنه ورد أدلة تدل على جواز ذلك، فهي مخصصة لعموم هذا الحديث؛ كقوله تعالى: {{يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ}} [المزمل: 20] وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى... الحديث[(382)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم السفر لمسجد أو بقعة غير المساجد الثلاثة... ويدخل في ذلك شد الرحال للمواضع الفاضلة أو لزيارة القبور، فهذا محرم، كما قال المحققون من أهل العلم، ومنهم: أبو محمد الجويني، والقاضي عياض، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأبناؤه وأحفاده وتلاميذهم، رحم الله الجميع.
وأما قول من قال: إن ذلك لا يحرم؛ وأن المراد بالحديث أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال لهذه المساجد الثلاثة، وأما غيرها فهو جائز وإن كان دونها في الفضيلة فهذا قول باطل، يدل على بطلانه ما يلي:
1 ـ أن الحديث جاء بلفظ النفي وبلفظ النهي، وجاء بصيغة الحصر، وجاء بلفظ: «لا ينبغي».(1/117)
2 ـ أنه يلزم على هذا القول جواز شد الرحال للقبور، وهذا يفضي إلى الغلو فيها وعبادتها، وعدم الاكتفاء بالزيارة الشرعية؛ إذ إن الرحال لا تشد للزيارة الشرعية؛ وإنما يفعل ذلك ضعاف الإيمان للدعاء عندها، أو دعاء أهلها، أو التمسح بها، أما الزيارة الشرعية فلا تحتاج ـ بحمد الله ـ إلى شد رحل.
3 ـ أن أبا هريرة رضي الله عنه لما خرج إلى الطور أنكر عليه بصرة بن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه؛ فإنه قال له: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لاَ تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ...» الحديث[(383)].
4 ـ أن الجاري على الأصول أن ما جاء بلفظ الحصر لا يخرج منه شيء إلا بنص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة[(384)]، والله تعالى أعلم.
كتاب الحج
الحج لغة: بفتح الحاء وكسرها، لغتان مشهورتان، ومعناه: القصد، وقال الخليل: (كثرة القصد إلى من يُعظَّم)[(385)].
وشرعاً: قصد مكة والمشاعر؛ لأداء النسك في زمن مخصوص.
والعمرة لغة: الزيارة، يقال: أتانا فلان معتمراً، أي: زائراً[(386)]. وقيل: القصد. يقال: اعتمرت فلاناً، أي: قصدته[(387)].
وشرعاً: زيارة البيت لأداء النسك.
ونسك العمرة: إحرام وطواف وسعي، ثم حلق أو تقصير، ونسك الحج: هو ذلك، مع ما يتعلق بالمشاعر من وقوف ومبيت ورمي.
والحج أحد أركان الإسلام، فُرض بعد فتح مكة في السنة التاسعة من الهجرة ـ على الراجح ـ[(388)].
وقد فرض الحج بقوله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}} [آل عمران: 97] ، وعدَّه النبي صلّى الله عليه وسلّم من أركان الإسلام، فقال: «بُني الإسلام على خمس...» ، وذكر منها: «الحج» [(389)].(1/118)
والحكمة من فرضيته ما اشتمل عليه من المصالح العظيمة، والمنافع الجمَّة، الدينية والدنيوية، ففيه التعبُّد لله تعالى بأداء المناسك، وفيه بذل المال، وإتعاب البدن في طاعة الله تعالى، والتعوُّد على الكرم والبذل، وفيه اجتماع المسلمين، وتعارفهم وتعاونهم، وإرشاد بعضهم بعضاً.
وفي الحج يكتسب من يحترف التجارة ما يكتسب في تجارته، إلى غير ذلك من مصالح الدين والدنيا، قال تعالى: {{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}} [الحج: 28] .
باب فضله، وبيان مَنْ فرض عليه فضل الحج والعمرة
708/1 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في «أبواب العمرة»، باب «وجوب العمرة وفضلها» (1773) ومسلم (1349) من طريق سُمِّي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمَّان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً.
الوجه الثاني: الحديث دليل على فضل الإكثار من العمرة، لما فيها من الفضل العظيم، وهو أنها تكفِّر الذنوب وتمحوها، لكن قيَّد الجمهور التكفير بالصغائر دون الكبائر، كما تقدَّم في «الصيام».
والأكثرون من أهل العلم على جواز تكرار العمرة في السنة مرتين أو أكثر، وحديث الباب يفيد ذلك، كما يقول ابن تيمية، فإن هذا الحديث مع إطلاقه وعمومه يقتضي الفرق بين العمرة والحج؛ إذ لو كانت العمرة لا تفعل في السنة إلا مرة لكانت كالحج، فكان يُقال: الحج إلى الحج، فلمَّا قال: «العمرة إلى العمرة» دلَّ على تكرارها، وأنها ليست كالحج.(1/119)
ولأن العمرة ليس لها وقت يفوت به، كوقت الحج، فإذا كان وقتها مطلقاً في جميع العام لم تشبه الحج في أنها لا تكون إلا مرة[(390)].
وقال الإمام مالك: يكره أن يعتمر في السنة مرتين[(391)]، وهو قول بعض السلف، كإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين.
واستدلوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يعتمروا في السنة إلا مرة واحدة.
وهذا لا حجة فيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رغَّب أمَّته في العمرة وبيَّن فضلها، وحثَّهم على الاستكثار منها، فثبت بذلك الاستحباب من غير تقييد، وفِعْله لا ينافي قوله، فإنه قد يترك الشيء وهو يستحب فعله، لرفع المشقة عن أمته، وقد يكون صلوات الله وسلامه عليه مشغولاً بأمور المسلمين الخاصة والعامة، مما قد يكون أفضل من العمرة باعتبار النفع المتعدي للآخرين.
ومما يدل على فضل الاستكثار من العمرة حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» [(392)].
الوجه الثالث: الحديث يدل على فضل الحج المبرور وأن جزاءه الجنة، والحج المبرور، قال عنه ابن عبد البر: (هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث، ولا فسوق، ويكون بمال حلال...)[(393)]. فالحج المبرور له أوصاف خمسة:
الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، لا رياء فيه ولا سمعة.
الثاني: أن تكون النفقة من مال حلال، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيباً» [(394)].(1/120)
الثالث: البُعد عن المعاصي والآثام، والبدع والمخالفات؛ لأن ذلك إذا كان يؤثر على أيَّ عمل صالح، وقد يكون سبباً في عدم قَبوله، ففي الحج أولى، لما ورد فيه من النصوص، قال تعالى: {{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}} [البقرة: 197] .
الرابع: حُسن الخُلق ولين الجانب، والتواضع في مركبه ومنزله وتعامله مع الآخرين؛ بل وفي كل أحواله.
الخامس: تعظيم شعائر الله تعالى، فيتأكد في حق الحاج أن يعظم شعائر الله تعالى، ويستشعر فضل المشاعر وقيمتها، فيؤدي مناسكه على صفة التعظيم والإجلال والمحبة والخضوع لله رب العالمين، وعلامة ذلك: أن يؤدي شعائر الحج بسكينة ووقار، ويتأنى في أفعاله وأقواله، ويحذر من العجلة التي عليها كثير من الناس في هذا الزمان، ويُعَوِّد نفسه الصبر على طاعة الله تعالى، فإن هذا أقرب إلى القبول وأعظم للأجر.
ومن تعظيم شعائر الله تعالى أن يشغل هذا المشاعر العظيمة بالذكر والتكبير والتسبيح والتحميد والاستغفار، لأنه في عبادة، وفي مشاعر مفضلة.
وقد حث الله تعالى عباده على تعظيم شعائره وإجلالها، وحفظ حرماته وصيانتها، فقال تعالى: {{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}} [الحج: 30] ، وقال تعالى: {{ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ *}} [الحج: 32] .
والمراد بحرمات الله: كل ما له حرمة، وأُمِرَ باحترامه، من عبادة أو غيرها، ومن ذلك المناسك كلها، والحرم، والإحرام.
وشعائر الله: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى: {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}} [البقرة: 158] .(1/121)
وقد جعل الله تعالى تعظيم شعائره ركناً من أركان التقوى وشرطاً للعبودية، وجعل تعظيم حرماته سبيلاً لنيلِ العبدِ ثوابَ الله تعالى وجزيلَ عطائه.
ومن تأمل في حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونظر فيها نظر المستفيد المتأسي لاح له تعظيم شعائر الله بأبرز صوره، وأوضح معانيه، في جميع أقواله وأفعاله صلوات الله وسلامه عليه[(395)].
حكم العمرة
709/2 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ، وَالْعُمرَةُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وأصله في «الصحيح».
710/3 ـ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: «لاَ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ.
711/4 ـ وَعَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعاً: «الحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ».
الكلام عليها من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجها:
أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه أحمد (42/198)، وابن ماجه (2901) من طريق محمد بن فضيل، قال: حدثنا حبيب بن أبي عمرة، عن عائشة ابنة طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، به.(1/122)
وإسناده صحيح ـ كما قال الحافظ ـ ورجاله ثقات رجال الصحيحين. وقول الحافظ: (إن اللفظ لابن ماجه) لا فائدة فيه، فقد أخرجه أحمد في الموضع المذكور بنفس اللفظ. والحديث أصله في صحيح البخاري (1520) من طريق خالد الواسطي، أخبرنا حبيب بن أبي عمرة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: «لا، ولكُنَّ[(396)] أفضلُ الجهاد: حجٌّ مبرور» ، وفي رواية أخرى (1861): «لكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله: الحج، حج مبرور» .
لكن لفظ الصحيح ليس فيه ذكر العمرة، وقد أخرج البخاري الحديث من رواية غير واحد عن حبيب بدونها، والظاهر أنه تفرد بها محمد بن فضيل، وخالفه عدد من الثقات، ومحمد بن فضيل قال عنه في «التقريب»: (صدوق، عارف، رمي بالتشيع)، ولعل هذا هو الذي دعا الحافظ إلى إيراد لفظ أحمد وابن ماجه، والإشارة إلى أن أصله في الصحيح، ليستفاد منه حكم العمرة.
وأما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد (22/290)، والترمذي (931) من طرق عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف، فيه الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، مدلس، وقد عنعنه، ومدار الحديث عليه، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح!)، مع أن الترمذي رواه من طريق الحجاج. قال الدارقطني: «لا يحتج به»، وقال ابن حزم: (الحجاج بن أرطاة ساقط، لا يحتج به)[(397)]، ولما ساقه البيهقي بهذا الإسناد موقوفاً، قال: (هذا هو المحفوظ عن جابر، موقوف غير مرفوع)[(398)]، وقال الحافظ ابن حجر: (والصحيح عن جابر من قوله...)[(399)]، والموقوف ضعيف ـ أيضاً ـ لأنه من طريق ابن جريج والحجاج، عن محمد بن المنكدر، به[(400)].(1/123)
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/43) من طريق أبي عصمة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به، وهذا سند ضعيف جدّاً، فإن هذا الحديث يعرف بحجاج بن أرطاة ـ كما تقدم ـ عن محمد بن المنكدر، وأبو عصمة ـ وهو نوح بن أبي مريم ـ رواه عن ابن المنكدر، فلعله سرقه منه، كما قال ابن عدي، وقال عنه الحافظ في «التقريب»: (كذبوه في الحديث، وقال ابن المبارك: كان يضع).
وأما الحديث الثالث: فقد أخرجه ابن عدي في «الكامل» (4/150) من طريق ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، به مرفوعاً، بلفظ: «الحج والعمرة فريضتان واجبتان» .
وهذا إسناد ضعيف، فيه ابن لهيعة، وهو سيئ الحفظ، قال ابن عدي بعد أن ذكر أحاديث بهذا الإسناد: (هذه الأحاديث عن ابن لهيعة، عن عطاء غير محفوظة).
الوجه الثاني: استدل بحديث عائشة رضي الله عنها من قال بوجوب العمرة، وهو مروي عن عمر وابن عباس وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين؛ لأن قوله: (عليهن) تفيد الوجوب؛ لأن (على) تفيد الإلزام والإيجاب ـ كما في الأصول ـ قال تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] .
وهذا القول هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، والصحيح من مذهب الشافعي، وهو اختيار البخاري، حيث ترجم في «صحيحه»[(401)] بلفظ الوجوب، كما تقدم في الحديث الأول.
وقال مالك وأبو حنيفة: إن العمرة سُنَّة وليست بواجبة، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية[(402)]، ورجَّح هذا القول الشوكاني[(403)].
واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه: أواجبة هي؟ فقال: «لا، وأن تعتمر خير لك» .
كما استدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «بني الإسلام على خمس...» وذكر منها «الحج» ، ولم يذكر العمرة.(1/124)
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه لا يوجد دليل صريح صحيح في إيجاب العمرة، ولفظة: (عليهن) ليست صريحة في الوجوب، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، ومع الاحتمال لا بد من طلب الدليل بأمر خارج، وقد وجد ما يدل على وجوب الحج، ولم يوجد ما يدل على وجوب العمرة[(404)]، إلا ما ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما تقدم.
وسبيل الاحتياط ألا يدع الإنسان العمرة مع القدرة عليها، لا فرق في ذلك بين مكي وغيره، لا سيما وأن القائلين بوجوب العمرة يرون صحة عمرة المتمتع، وأنها مجزئة عن العمرة الواجبة؛ بل قال ابن قدامة: (لا نعلم في إجزاء عمرة المتمتع عن العمرة الواجبة خلافاً)[(405)]، والله تعالى أعلم.
من شروط وجوب الحج
712/5 ـ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: «الزَّادُ وَالرَّاحِلةُ»، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إِرْسَالُهُ.
713/6 ـ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضاً، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه الدارقطني (2/216)، والحاكم (1/442) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، به.
وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
لكن أعله الدارقطني في «العلل» (15/164) فقال: «والمحفوظ عن الحسن مرسلاً، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم» وقال ابن عبد الهادي: (الصواب عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً، وأما رفعه عن أنس فهو وهم)[(406)].(1/125)
ولما رواه البيهقي (4/330) مرسلاً، قال: (هذا هو المحفوظ). وقد نقل الحافظ عن الدارقطني أنه قال: (مراسيل الحسن فيها ضعف)[(407)]. ونقل السيوطي عن الإمام أحمد أنه قال: (مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما يأخذان عن كل واحد)[(408)].
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنها، فقد أخرجه الترمذي (813) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي، عن ابن عمر، قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله: ما يوجب الحج؟ قال: «الزاد والراحلة» ، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن).
وقد انتقد العلماء تحسين الترمذي، وبيَّنوا أنه لا وجه له؛ لأنه من رواية إبراهيم الخوزي، وهو متروك، لا يحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد. قال ابن حزم: (إبراهيم بن يزيد ساقط مطرح)[(409)]، وعلى هذا فلا يصح في هذا الباب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء.(1/126)
الوجه الثاني: دلَّ القرآن في قوله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] على أن الاستطاعة شرط في وجوب الحج، وهذا ـ والله أعلم ـ؛ لأن الحج عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكان ذلك شرطاً فيها كالجهاد. وقد اختلف العلماء في تفسير الاستطاعة، فذهب الجمهور من أهل العلم، وهم الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن الاستطاعة هي ملك الزاد والراحلة، وبه قال جماعة من السلف[(410)]، مستدلين بالأحاديث الواردة في هذا الباب، التي جاء فيها تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة. قالوا: وهذه الأحاديث وإن كان فيها المقال المتقدم، إلا أنها باجتماعها تقوى، ويشد بعضها بعضاً، فتصلح للاحتجاج بها على أن مناط الوجوب: وجود الزاد والراحلة. وقد ذكر الترمذي أن أكثر أهل العلم على العمل بها[(411)]، وقد روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير السبيل أنه قال: (أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زادٍ وراحلة من غير أن يجحف به)[(412)].
وذهب الإمام مالك إلى أن الاستطاعة على قدر طاقة الناس، فقد يجد المرء الزاد والراحلة، ولا يقدر على المسير، وقد يستطيع آخر المشي على رجلين ولو لم يكن له راحلة[(413)]. وهذا قول ابن الزبير وعطاء، واختاره ابن جرير في تفسيره[(414)].
وذلك أن الله تعالى لما ألزم الناس فَرْضَ الحج شرَطَ الاستطاعة، وهي لفظ عام ليس بمجمل، فلا يحتاج إلى بيان، فكل من استطاع بماله أو بدنه فهو داخل تحت هذا العموم.
وهذا القول هو الصحيح؛ لقوة مأخذه، فإن السبيل في لغة العرب: الطريق، فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع منه من مرض، أو عجز، أو عدو، أو ضعف عن المشي، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، فعليه فرض الحج، ومن لا فلا، والله تعالى أعلم.
حكم حج الصبي(1/127)
714/7 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم لَقِيَ رَكْباً بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: «مَنِ الْقَوْمُ؟»، قَالوا: المسلِمونَ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «رَسُولُ اللهِ»، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيّاً، فَقَالَت: أَلِهذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «صحة حج الصبي، وأجر من حج به» (1336) من طريق سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن علقمة، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (ركباً) اسم جمع، لا مفرد له من لفظه، أو جمع مفرده راكب، كصحب وصاحب، والركب: ركاب الإبل خاصة، من عشرة فما دونها، وقد يكون لركاب الخيل.
قوله: (بالروحاء) بفتح الراء، اسم بئر على الطريق الساحلي بين مكة والمدينة، وتبعد عن المدينة (73) كيلاً على الطريق القديم، لكن خفَّ شأنها الآن بعد الطريق السريع.
وقد ورد عند النسائي في إحدى رواياته: «صَدَرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان بالروحاء لقي قوماً...»[(415)]، فهذا يدل ـ كما يقول ابن القيم ـ على أن هذا كان حين رجوعه من مكة إلى المدينة بعد الحج[(416)].
قوله: (فقالوا: من أنت؟) يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلاً فلم يعرفوه، أو نهاراً لكنهم لم يروه صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك؛ لأنهم أسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا.
قوله: (صبيّاً) الصبي: هو الولد الصغير، قال في القاموس: (الصبي: من لم يفطم بعد)[(417)]. ونقل السيوطي عن بعض علماء اللغة: أنه ما دام الولد في بطن أمه فهو جنين، فإذا ولد سمي صبيّاً ما دام رضيعاً، فإذا فُطم سمي غلاماً إلى سبع سنين...[(418)].
قوله: (ولك أجر) أي: بسبب حمله ومنعه مما يمتنع منه المحرم، وفِعْل ما يفعله المحرم من طواف وغيره.(1/128)
الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة حج الصبي، ولو كان دون التمييز، لقوله: (فرفعت إليه امرأة صبيّاً) ، فإن ظاهر السياق أنه كان صغيراً؛ إذ لا ترفعه غالباً إلا وهو بتلك الحال، وقد ورد عند أبي داود: «ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي، فأخرجته من مِحَفَّتها»[(419)]. فإذا فعل عنه وليه ما يفعله الحاج صح حجه.
وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن للصبي حجّاً، كما أن له صلاة، وليست تلك الصلاة فريضة عليه[(420)].
وقد ورد عن السائب بن يزيد قال: حُجَّ بي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ابن سبع سنين[(421)].
لكن اختلف العلماء: هل تجزئه هذه الحجة عن حجة الإسلام؟ قولان:
الأول: أنها لا تجزئ عن حجة الإسلام، وهذا قول الجمهور من أهل العلم؛ بل نقل ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما الإجماع على ذلك[(422)].
القول الثاني: أن الصبي إذا حج قبل بلوغه أجزأته عن حجة الإسلام، حكى ذلك الطحاوي عن قوم، ووصفه القاضي عياض بالشذوذ[(423)]، واحتجوا بهذا الحديث.
والصحيح قول الجمهور، لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى» ورفعه فيه نظر.
وقد جاء موقوفاً من كلام ابن عباس، ولفظه: (احفظوا عني، ولا تقولوا: قال ابن عباس، أيما عبد...) الحديث، وهذا له حكم الرفع، وسنده صحيح، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
وأما حديث الباب فليس فيه دليل على أن حج الصبي يجزئه عن حجة الإسلام؛ لأن الحديث دل على أن له حجّاً ليس إلا، ولم يتعرض لكونها تجزئه، كما أن له صلاة وليست بفريضة عليه، فالحديث رد على من زعم أنه لا حج للصبي، وليس بدليل على أنها تجزئه عن الفريضة[(424)].(1/129)
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الإنسان إذا طاف ومعه آخر يحمله كطفل مُحْرِمٍ، أنه يقع الطواف عن الحامل والمحمول، ولا يلزم الحامل أن يطوف لنفسه طوافاً مستقلاً، ووجه الدلالة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر هذه المرأة بصحة حج الصبي، ولم يأمرها أن تطوف به طوافاً مستقلاً، مع أن المقام مقام بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذا اختيار ابن سعدي، وقول ابن باز.
وذهب بعض العلماء إلى أن الصبي إذا كان غير مميز فلا بد لوليه أن يطوف عن نفسه، ثم يطوف بالصبي، أو يسلمه إلى ثقة يطوف به؛ لأن الصبي لم يحصل منه نية ولا عمل، وإنما النية من حامله، ولا يصح عمل واحد بنيتين لشخصين وهذا اختيار ابن عثيمين[(425)]، والسعي يأخذ حكم الطواف في هذا الحكم.
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز استفتاء المرأة الرجلَ الأجنبيَّ، بشرط ألا تخضع بالقول؛ لقوله تعالى: {{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا}} [الأحزاب: 32] .
والخضوع بالقول: اللين فيه، بترخيم الصوت وتَكَسُّرِه، مما قد يثير شهوة الرجال.
والقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة، وذلك بأن يكون قولها جزلاً، وكلامها فصلاً، ليس فيه ما يحرك شهوة مَن في قلبه مرضُ شهوةِ الحرام، والله المستعان!.
حكم الحج عن العاجز ببدنه
715/8 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ.(1/130)
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَم»، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «وجوب الحج وفضله» (1513)، ومسلم (1334) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه البخاري في كتاب «جزاء الصيد»، باب «الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة» (1854).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (كان الفضل بن عباس) هو الفضل بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، ابن عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، غزا معه حُنيناً، وثبت معه فيمن ثبت، وشهد حجة الوداع، وحضر غَسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل: إنه خرج إلى الشام مجاهداً، ومات بها سنة ثماني عشرة، وقيل: مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما[(426)].
قوله: (رديف) الرديف: هو الراكب خلف الراكب، يقال: رَدِفْتُهُ ـ بالكسر ـ: إذا ركبت خلفه، وأردفته: إذا أركبته خلفك.
قوله: (من خثعم) قبيلة قحطانية، تقع ديارها على طريق الطائف إلى أبها.
قوله: (شيخاً كبيراً) شيخاً: حال، و(كبيراً) صفة، وجملة (لا يثبت) حال، أو صفة لشيخ.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن القادر على الحج بماله، العاجز عنه ببدنه ينيب من يحج عنه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقر المرأة على قولها: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة)، فدل على أن الشيخ الكبير الطاعن في السن الذي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أنه لا يلزمه أداء الحج بنفسه، وإنما ينيب من يحج عنه؛ لأن الحج واجب عليه.(1/131)
ومثل هذا من كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، ومعلوم أن الذي لا يمكنه الركوب نادر جدّاً في هذا الزمان، بسبب وجود السيارات والطائرات، لكن لو حصل له مشقة في ركوب هذه الوسائل كأن يصاب بإغماء أو غثيان أو نحو ذلك، فالظاهر أنه ملحق بمن نص عليه الحديث، فلا يلزمه المسير، وله أن ينيب غيره.
وقد شرط الفقهاء أن يكون الحج عنه من بلده.
وهذا فيه نظر ظاهر، فإن السفر إلى مكة ليس مقصوداً لذاته، ولو أن رجلاً جاء من الهند إلى مكة للتجارة، ثم بدا له أن يحج فهل يؤمر بالرجوع إلى الهند، ثم يأتي للحج من هناك؟ لا يقول بذلك أحد، فالظاهر أنه لو ناب عنه رجل من الميقات صح؛ بل لو حج عنه من مكة أجزأ؛ لأن الواجب على النائب إنما هو أعمال الحج، وما قبله وسيلة إليه.
وأما ما استدلوا به من أنه كان يجب على المنوب عنه السعي من بلده إلى الحج وهذا مثله، فهذا استدلال ضعيف، كما قدمنا في المثال، ثم إن هذا مخالف للأدلة الشرعية، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز النيابة في الحج ولم يشترط أن يكون من بلده، ولو كان شرطاً لَبَيَّنَه، والفرض في الحج هو الإحرام وما بعده من أفعال، وأما ما قبله فلا دليل على وجوبه[(427)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز حج المرأة عن الرجل ونيابتها عنه في أداء المناسك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرَّ هذه المرأة على أن تحج عن أبيها، وشرط ذلك عند الجمهور أن تحج عن نفسها أولاً، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة لذلك، ولابن منده مصنَّف فيمن أردفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد ذكر ابن علان أن الذين أردفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم يزيدون على الأربعين[(428)].(1/132)
الوجه السادس: الحديث دليل على مشروعية الاستفتاء والسؤال عن أمور الدين حتى يسلك المسلم طريق الاستقامة، ويسلم من الخطأ في عبادته ومعاملاته، ومن الناس من يؤدي مناسك الحج وهو لا يعلمها، ولا يسأل أهل العلم عنها، فإذا رجع من حجه قال: فعلت كذا، وفعلت كذا، يسأل من يخلصه مما وقع فيه، وهذا من الخطأ البين، ومن عدم تعظيم شعائر الله تعالى.
الوجه السابع: جواز استفتاء المرأة الرجل، وجواز سماع كلامها للحاجة إذا لم يخشَ بذلك فتنة، وتقدم ذلك قبل هذا الحديث.
الوجه الثامن: وجوب العناية بالشباب وإبعادهم عن مواقع الفتنة حتى لا تزل بهم القدم، وأن يوجهوا إلى الخير بالقول والفعل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صرف وجه الفضل عن النظر إلى هذه المرأة، فهذا من باب الإنكار بالفعل، ولذا قال العيني: إن من فوائد الحديث: (إزالة المنكر باليد)[(429)].
الوجه التاسع: الحديث دليل على تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية التي ليست بذات محرم، ووجوب غض البصر، وليس في الحديث دليل على جواز النظر إلى الأجنبية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقر الفضل على ذلك؛ بل صرف وجهه إلى الشق الآخر.
وأما الاستدلال به على عدم وجوب الحجاب، وأنه يجوز للمرأة كشف وجهها فليس بمستقيم لأمور ثلاثة:
الأول: سلمنا أنها كانت كاشفة، وذلك لأنها محرمة، والمشروع في حقها ألا تغطي وجهها إذا لم يكن أحد ينظر إليها من الأجانب[(430)]، مع أن مسألة إحرام المرأة في وجهها فيها نظر، والواجب على المرأة ستر وجهها عن الأجانب، سواء أكانت محرمة أم غير محرمة.
الثاني: أنه ليس في الحديث أنها كانت كاشفة عن وجهها، وإنما فيه النظر، وهو ممكن حتى مع الحجاب، بأن ينظر إلى هيكلها وقوامها وتقاطيع جسمها ونحو ذلك.(1/133)
الثالث: يحتمل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرها بالحجاب ولم ينقل ذلك؛ لأن عدم نقل أمره لها لا يدل على عدم الأمر؛ إذ عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فيبعد كل البعد أن يراها الرسول صلّى الله عليه وسلّم سافرة ويقرها على ذلك ولا يأمرها بالحجاب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم الحج عمن نذره ثم مات قبل أدائه
716/9 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللهَ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «الحج والنذور عن الميت» (1852) من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أن امرأة من جهينة) بضم الجيم اسم قبيلة قضاعية قحطانية، منازلها حتى الآن على ساحل البحر الأحمر، وعاصمة قراها: أُملج.
قوله: (نذرت) أي: أوجبت على نفسها أن تحج.
قوله: (اقضوا الله) أي: اقضوا حق الله.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن من نذر أن يحج ثم مات قبل أن يفي بنذره فإنه يشرع لوليه أن يقضيه عنه، فإن كان خلف مالاً وجب قضاؤه من ماله ولو لم يوصِ به؛ لأنه دين على غني قادر فوجب الوفاء به، وإن لم يخلف مالاً فالجمهور على أنه يستحب لوليه قضاؤه، وقالت الظاهرية بالوجوب[(431)] أخذاً بظاهر الأمر في قوله: «حجي عنها» ، وقول الجمهور أرجح لأمرين:
الأول: أنه يلزم من عدم القضاء الإثم، لترك الواجب، وهذا مخالف لقوله تعالى: {{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}} [فاطر: 18] .(1/134)
الثاني: أن الأمر إذا كان جواباً لسؤال لا يحمل على الوجوب؛ لأن ظاهر قولها: (أفأحج عنها؟) أي: أفيجزئ أن أحج عنها؟[(432)].
لكن لو قيل بوجوب ذلك على الولد من باب بر الوالدين لكان وجيهاً، فيكون الإيجاب خاصّاً بالولد دون غيره من الأولياء؛ لأن بر الوالدين واجب مطلقاً، سواء كان ذلك في حياتهما أم بعد مماتهما.
الوجه الرابع: الحديث دليل على انعقاد النذر في العبادات، وهو إلزام المكلف نفسه شيئاً غير واجب بأصل الشرع، وأنه يجب الوفاء به إذا كان طاعة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» [(433)]، وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه المرأة على قضاء نذر أمها، وأنه ينفعها ذلك، ولو كان غير واجب، أو لا ينفعها لما أمرها صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، وسيأتي الكلام على النذر وبيان حكمه في «بابه»، إن شاء الله.
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز القياس، وأنه أصل من أصول الشريعة؛ لأن فيه التنبيه على قياس دَيْن الله تعالى على دَيْن الخلق، وهذا يدل على أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلوماً عندهم مقرراً، ولهذا حَسُنَ جعله أصلاً يقاس عليه هذا الفرع، والله تعالى أعلم.
ما جاء في أن حج الصغير والرقيق لا يجزئ عن الفريضة
717/10 ـ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ، فَعَلَيْهِ أن يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى». رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلاَّ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وَالمَحْفُوظُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/135)
فقد أخرجه ابن خزيمة (4/349)، والطبراني في «الأوسط» (3/353)، والحاكم (1/655)، والبيهقي (4/325)، من طريق محمد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به.
قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن شعبة مرفوعاً إلا يزيد، تفرد به محمد بن المنهال»، وقال البيهقي: (تفرد برفعه محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن شعبة، ورواه غيره عن شعبة موقوفاً، وكذا رواه سفيان الثوري، عن الأعمش، موقوفاً، وهو الصواب).
وقد رواه ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، به، موقوفاً[(434)]. وأبو معاوية ـ وهو محمد بن خازم الضرير ـ أوثق الناس في الأعمش.
فوقفه أرجح؛ لأن سفيان مقدم على شعبة، وكذا أبو معاوية، لكن ورد هذا الخبر عند ابن أبي شيبة قال: أنبأنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: احفظوا عني، ولا تقولوا: قال ابن عباس... فذكره[(435)]. وإسناده صحيح، وظاهر هذا ـ كما قال الحافظ ـ: (أنه أراد أنه مرفوع، فلذا نهاهم عن نسبته إليه)[(436)].
فهذا يؤيد رواية الرفع، وأبو معاوية من أثبت الناس في الأعمش، كما تقدم، ولا بد أن ينظر إن كان هناك اختلاف على أبي معاوية في اللفظ، فيرجح ما رواه الحفاظ عنه.
الوجه الثاني: الحديث دليل على صحة حج الصبي الذي لم يبلغ، ولكن لا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، فإذا بلغ الحنث ـ وهو الوقت الذي يكلف فيه، ويكتب عليه إثم ذنبه ـ فعليه أن يؤدي فريضة الحج إذا كان مستطيعاً، وتقدم ذلك. لكن لو بلغ في أثناء الحج بالاحتلام ـ مثلاً ـ فإن كان قبل الإحرام، فلا خلاف بين العلماء في وقوع حجته هذه عن حجة الإسلام.(1/136)
وإن كان بعد إحرامه فإن كان قبل الوقوف بعرفة أجزأت حجته تلك عن حجة الإسلام على الراجح من أقوال أهل العلم؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» [(437)]، وكذا لو بلغ ليلة مزدلفة وأمكنه الرجوع إلى عرفة فوقف بها بالغاً صحت فريضته على الراجح من أقوال أهل العلم، وإن كان بلوغه بعد فوات وقت الوقوف لم يجزئه عن الفريضة[(438)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على صحة حج الرقيق قبل عتقه، ولكن لا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، فإذا عتق فعليه أن يؤدي فريضة الحج إذا كان مستطيعاً، والله تعالى أعلم.
حكم سفر المرأة بدون محرم
718/11 ـ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ص) يَخْطُبُ يَقُولُ: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٌ، وَلاَ تُسَافِرُ المَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «انْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «جزاء الصيد»، باب «حج النساء» (1862)، ومسلم (1341) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: الحديث دليل على تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية التي ليست من محارمه، ولو كانت امرأة الأخ أو امرأة العم أو امرأة الخال، فقد ورد في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والدخول على النساء» ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت» [(439)].
ولمسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول: الحمو: أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العم، ونحوه.(1/137)
فالرسول صلّى الله عليه وسلّم شبّه الحمو بالموت؛ لأن الخوف منه أكثر، والشر منه أقرب، لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها من غير أن ينكر عليه، بخلاف الأجنبي.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا لا يبيتنَّ رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم» [(440)]. وذِكْرُ الثيب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له؛ لأنه خص الثيب لكونها التي يُدخل إليها غالباً، وأما البكر فمصونة ممتنعة عن الرجال، فلم يحتج إلى ذكرها، ولأنه من باب التنبيه؛ لأنه إذا نهي عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة فالبكر أولى.
والمقصود أن الإسلام يحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية؛ لأن ذلك من أعظم ذرائع الفتنة، وأسباب الفساد، فإن النفوس ضعيفة، والدوافع قوية، والرجل إذا خلا بأجنبية وليس ثَمَّ مانع، فإن الشيطان له دور فعال في تزيين الجريمة وتحبيب الفاحشة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «... ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» [(441)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم سفر المرأة مع غير ذي محرم ولو كان سفر عبادة كالحج، وهذا يدل على أنه لا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجد لها محرم، فإن لم يوجد لم يجب عليها الحج؛ لأنها غير مستطيعة، والله تعالى يقول: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] قال الإمام أحمد: (المحرم من السبيل)[(442)].
والمحرم: هو زوجها، أو من تحرم عليه على الأبد بنسب كالابن وإن نزل، والأب وإن علا، والأخ مطلقاً، والعم مطلقاً، والخال مطلقاً، وابن الأخ، وابن الأخت، أو بسبب مباح وهو الرضاع، كابنها من الرضاع وأخيها من الرضاع، والمصاهرة؛ كزوج أمها، ولا يكون محرماً إلا بالدخول بالأم، وزوج ابنتها وإن نزل، وأبو زوجها وإن علا بمجرد العقد، وابن زوجها، ويكون مَحْرماً بمجرد العقد.(1/138)
ولا بد في المحرم أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأن الغرض منه حفظ المرأة، وهذا لا يتم إلا بالبلوغ والعقل.
الوجه الرابع: حديث الباب جاء مطلقاً في قليل السفر وكثيره؛ لقوله: «ولا تسافر إلا مع ذي محرم» ، وقد وردت أحاديث مقيدة لهذا الإطلاق، إلا أنها اختلفت ألفاظها، ففي لفظ: «ثلاثة أيام» ، وفي لفظ: «مسيرة يوم وليلة» ، وفي لفظ: «مسيرة يوم» ، وفي لفظ: «مسيرة يومين» ، وفي لفظ: «أكثر من ثلاث...».
والجواب ما ذكره المحققون من أهل العلم من أنه ليس المراد من التحديد ظاهره؛ بل كل ما يسمّى سفراً فالمرأة منهية عنه إلا بمحرم، سواء كان بالسيارة أو بالطائرة أو بغير ذلك، وسواء أكانت شابة أم عجوزاً، وسواء أكان برفقتها نساء أم لا، وسواء أكان السفر للحج أم لغيره. وإنما وقع التحديد عن أمر واقع، لاختلاف السائلين، فلا يعمل بمفهومه؛ بل يؤخذ باللفظ المطلق، لأمور ثلاثة:
الأول: أن الأخذ به أحوط.
الثاني: أن دلالة المقيد كيومين ـ مثلاً ـ على جواز ما لم يدخل تحته كيوم دلالة مفهوم، ودلالة المطلق عليه دلالة منطوق، ودلالة المنطوق أولى.
الثالث: أن اختلاف التقييد في المقيد دليل على عدم اعتبار القيد.
الوجه الخامس: اشتراط المحرم في سفر المرأة دليل واضح على كمال هذه الشريعة وحرصها على صون الأعراض، ومنع الفساد، والمرأة ضعيفة الدين، ناقصة العقل، لينة العاطفة، قريبة الانخداع، يسهل التأثير عليها واللعب بعقلها، وللمسافر نفسية تقتضيها حال السفر، فقد يوجد في السفر أناس لا يترفعون عن الفاحشة لا سيما مع عدم الرقيب، وضعف الإيمان، والمرأة مظنة الطمع، وقد تتعرض لما يفسد خلقها، ويمس عرضها، فمن ثَمَّ كانت في ضرورة إلى من يحميها ويصونها حال سفرها من أن يُتعدى عليها أو تفعل ما لا ينبغي، والقول باشتراط المحرم هو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وآخرين.(1/139)
والقول الثاني: أنه لا يشترط المحرم، وأن المرأة يجب عليها الحج إذا وجدت رفقة من النساء الثقات، وعليهن قيّم مأمون، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في رواية عنه وجماعة من السلف، وروي عن الشافعي: تخرج مع ثقة حرة مسلمة، وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول[(443)].
واستدلوا بما رواه البخاري تعليقاً أن عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما[(444)].
وروى الطحاوي وابن حزم بسنديهما عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان يسافر مع عبد الله مولياتٌ له، ليس معهن محرم[(445)].
وسبب الخلاف: معارضة الأمر بالحج والسفر إليه، للنهي عن سفر المرأة إلا مع ذي محرم[(446)].
والقول باشتراط المحرم هو الصواب؛ لقوة دليله، ولا سيما في زماننا هذا؛ لما تقدم، قال ابن المنذر: (ظاهر الحديث أولى، ولا يعلم مع هؤلاء حجة توجب ما قالوا)[(447)]. وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقاس عليهن غيرهن؛ لاعتبارات عديدة.
الوجه السادس: الحديث دليل على أنه ينبغي تقديم الأهم من الأمور المتعارضة؛ لأنه لما تعارض سفر هذا الرجل في الغزو، مع الحج مع امرأته، رُجح الحج معها؛ لأن الغزو يقوم غيره في مقامه عنه، بخلاف الحج معها، والله تعالى أعلم.
شرط النيابة في الحج
719/12 ـ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: «مَنْ شُبْرُمَةُ؟» قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ.
الكلام عليه من وجوه:(1/140)
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «الرجل يحج عن غيره» (1811)، وابن ماجه (2903)، وابن حبان (9/299)، والبيهقي (4/336) من طريق عَبْدَةَ بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
قال البيهقي: (هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه) ورواه البيهقي ـ أيضاً ـ (5/179 ـ 180) من طريق عمرو بن الحارث، عن قتادة، عن سعيد، عن ابن عباس موقوفاً، بإسقاط عزرة[(448)]. وقد أُعِلَّ هذا الحديث بالوقف على ابن عباس رضي الله عنهما، فقد رجح وقفه الإمام أحمد والطحاوي وابن المنذر، كما نقل الحافظ ذلك عنهم[(449)].
وقد رواه ـ أيضاً ـ الحسن بن صالح بن حَيّ، ومحمد بن جعفر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن ابن عباس موقوفاً، كما عند الدارقطني (2/271)، كما جاء موقوفاً من طريق أبي قلابة، عن ابن عباس. أخرجه الشافعي (1/286)، والبيهقي (4/337)، وسنده صحيح، وقد جاء الحديث موقوفاً في كتاب «المناسك» لابن أبي عروبة ص(64) وهذا كله يقوي رواية الوقف.
ورجح رواية الرفع: ابن حبان، والبيهقي، وعبد الحق، وابن القطان، والنووي، وابن حجر، وابن باز، وغيرهم.
وقد تابع عبدة بن سليمان على رفع الحديث محمد بن بشر، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، كما عند الدارقطني[(450)].
وقد أيَّد ابن القطان رفع الحديث بأن الرافعين له ثقات، فلا يضرهم وقف الواقفين، إما لأنهم حفظوا ما لم يحفظ أولئك، وإما لأن الواقفين رووا عن ابن عباس رأيه، والرافعين رووا عنه روايته، والراوي قد يفتي بما يروي[(451)].(1/141)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الإنسان لا يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، وهذا قول الشافعية، والحنابلة. وقد ورد عند ابن ماجه وابن حبان: «فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة»، وهذا فيه دليل لما ذكره الفقهاء من أنه إذا حج عن غيره من لم يحج عن نفسه أنه يقع الحج عنه دون الغير، ويرد ما أخذه من مال[(452)].
والقول الثاني: أن الحج يقع عن الغير، وهذا قول الحنفية والمالكية[(453)]؛ لأن الحج مما تدخله النيابة، فيجوز أن ينوب عن غيره من لم يُسقِط فرضه عن نفسه، كقضاء الديون وأداء الزكاة قبل أن يؤدي زكاة نفسه، ولأن الشرع شَبَّه النيابة في الحج بقضاء الدَّين، والرجل يجوز أن يقضي دَين غيره قبل دَينه، لكنه يأثم بالتأخير إن كان مستطيعاً.
وقد استدل القائلون بصحة حج النائب عن غيره إذا لم يحج عن نفسه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم في قصة الخثعمية، وفيه قال: «حُجِّي عَنْه» [(454)]. وحديث بريدة رضي الله عنه: أنَّ امرَأةً سَأَلتْ رَسُول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنَّ أُمَّهَا لم تَحُجَّ، فَهَل تَحُجُّ عَنهَا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «حُجِّي عَنْهَا» [(455)].
ووجه الدلالة: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل أحداً من هؤلاء هل حج عن نفسه أو لا؟ ولا أمر واحداً منهم أن يحج عن نفسه، والقاعدة في الأصول: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّلُ منْزلة العموم في الأقوال، قالوا: وحديث ابن عباس رضي الله عنهما مُخْتَلَفٌ في رفعه ووقفه، فلا يصلح حُجَّة في هذا الباب.
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه ليس للإنسان أن يحُجّ عن غيره حتى يَحُجّ عن نفسه، عملاًبحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه وإن كان موقوفاً، لكنه قول صحابي، لم يثبت خلافه، ثم هو حديث خاص، وتلك أحاديث عامة، ولا تعارض بين عام وخاص[(456)]، والله أعلم.(1/142)
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب ذكر اسم المحجوج عنه في التلبية، وكذا المُعْتَمَرُ عنه، لإقرار النبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل على ذلك، فيقول: لبيك عمرة عن فلان، أو لبيك حجّاً وعمرة، حسب النسك الذي طُلب منه، فإن نسي الاسم لم يضره، وتكفي النية.
الوجه الرابع: الحديث دليل على جواز حج الإنسان عن قريبه، سواء أكان حيّاً عاجزاً أم ميّتاً؛ لقوله: (أخ لي أو قريب لي).
الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه ينبغي للمفتي أن يستفصل في مقام الاحتمال؛ لقوله: «من شبرمة؟» ؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا الملبي جاهلاً، فيقول: لبيك عن شبرمة، ويقصد نفسه، فلما تبين أن شبرمة رجل آخر بيّن له الحكم.
الوجه السادس: إذا ناب الإنسان عن غيره في أداء الحج فلا ينبغي أن يكون قصده كسب المال؛ لأن الارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين؛ بل ينبغي أن يكون قصده الإحسان إلى أخيه بإبراء ذمته مع قصد رؤية المشاعر والتعبد فيها، فهذا محسن، والله تعالى يحب المحسنين.
وما يعطاه من مال فهو له، فينفق منه ما يليق به في أكله وشربه ومركبه، فإن بقي منه شيء أخذه.
ويجب على النائب أن يتقي الله تعالى فيما أُنيب فيه، ويحرص على تكميل النسك، ولا يتساهل في شيء منه؛ لأنه مؤتمن على ذلك، وعليه أن يستفصل من موكله عن نوع النسك الذي سيحرم به، هل هو التمتع أو القران أو الإفراد، وإن شرط أن العمرة له، والحج لموكله ووافقه على ذلك جاز، وما يفعله من المناسك القولية والفعلية فهو لموكله، وما زاد على ذلك من الطاعات؛ كالصلاة والصدقة والتلاوة والذكر والدعاء فهو له، والله أعلم.
وجوب الحج مرة في العمر(1/143)
720/13 ـ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ»، فَقَامَ الأقْرَع بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، الْحَجُّ مَرَّةٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ.
721/14 ـ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «فرض الحج» (1721)، وابن ماجه (2886)، وأحمد (5/331) من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سنان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: «بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع» ، هذا لفظ أبي داود، والظاهر أنَّ الحافظَ ساق الحديث بالمعنى.
وسفيان هو ابن حسين الواسطي، ثقة إلا في روايته عن الزهري، فهو سيء الحفظ[(457)]، لكنه لم يتفرد به، فقد أخرجه النسائي (5/111) من طريق عبد الجليل بن حميد، عن ابن شهاب، به مرفوعاً، وعبد الجليل لا بأس به. وتابعه ـ أيضاً ـ آخرون، لكنهم ليسوا من الحفاظ، فمن نظر إلى مجموع هذه المتابعات صحح الحديث، كالألباني، وأحمد شاكر[(458)].
والحديث أصله في «صحيح مسلم» من طريق الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» ، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم...» الحديث[(459)].(1/144)
ويبدو أن الحافظ قدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما فيه من زيادة الفائدة في قوله: «فمن زاد فهو تطوع» . الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الحج مرة واحدة في العمر على كل مكلف مستطيع، وما زاد على ذلك فهو نافلة، وقد دل قوله: «ولما استطعتم» على أن الحج لو كان كل سنة لحصل للناس من التعب والمشقة الشيء الكثير، وإذا كان هذا متوقعاً في زمان الصدر الأول وما بعده، فكيف الحال في زماننا هذا؟!
ولكن من تيسير الله تعالى ورحمته بعباده ولطفه بهم أن الحج مرة واحدة في العمر، فالحمد لله على ذلك حمداً كثيراً.
باب المواقيت
المواقيت: جمع ميقات. والميقات: هو الزمان أو المكان المحدد لفعل العبادة. ومواقيت الحج نوعان:
الأول: زمانية: وهي أشهر الحج، كما قال تعالى: {{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}} [البقرة: 197] ، أي: وقت الحج أشهر معلومات مشهورات بين الناس، فلا يصح شيء من أعمال الحج إلا فيها، وأوله: الإحرام.
وقد أجمع العلماء على أن أشهر الحج: شوال وذو القعدة، واختلفوا في ذي الحجة: هل هو بكامله من أشهر الحج؟ أو عشر منه؟ والجمهور على العشر منه.
الثاني: مكانية ، وهي المذكورة في حديث الباب.
والمقصود من هذه المواقيت إعلام القاصدين ببدء النسك ووجوب الإحرام منها، تعظيماً للبيت الحرام، حيث ينطلق الحجاج والمعتمرين من هذه الأماكن معظمين خاضعين خاشعين.
وفي تحديد المواقيت الزمانية والمكانية من اتفاق المسلمين واتحادهم في العمل ما هو بين ظاهر دال على حكمة الله البالغة في شريعته الكاملة، والله عليم حكيم.
المواقيت التي ثبت تحديدها نصّاً(1/145)
722/1 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَّتَ لأهْلِ المَدِينَةِ: ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ: الجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالْعُمرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب «الحج» وأولها: باب «مُهَلِّ أهل مكة للحج والعمرة» (1524)، ومسلم (1181) من طريق طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وقَّت) أي: جعل ميقاتاً، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: «يُهِلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة»؛ أي: يحرم، وهو خبر بمعنى الأمر. وهذه المواقيت حددها النبي صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع، وقد ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً قام في المسجد، فقال: يا رسول الله، من أين تأمرنا أن نُهِلَّ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة...» الحديث[(460)]، قال الحافظ ابن حجر: (يستفاد منه أن السؤال عن مواقيت الحج كان قبل السفر من المدينة)[(461)].
قوله: (ذا الحليفة) بضم الحاء وفتح اللام، تصغير الحلفاء، نبت معروف ينبت في هذا المكان، وهي قرية تعرف الآن بـ(أبيار علي)، قيل: إنها سميت بذلك لوجود بئر فيها، تسميه العامة «بئر علي»، يزعمون أن عليّاً رضي الله عنه قاتل الجن بها، وهذا كذب لا أصل له[(462)].(1/146)
وهي أبعد المواقيت عن مكة، تبعد عن المدينة حوالي (11) كيلاً، وعن مكة (420) كيلاً تقريباً، وقد ذكر الفقهاء أنها تبعد عن مكة عشر مراحل، والمرحلة تساوي (40) كيلاً تقريباً؛ لأن جدة من مكة مرحلتان، وهي (80) كيلاً.
قوله: (ولأهل الشام) هو إقليم معروف، يمتد من شمال نهر الفرات إلى شبه جزيرة سيناء شرقاً وغرباً، ومن شمال صحراء العرب إلى ساحل البحر الأبيض جنوباً وشمالاً، فيدخل في ذلك سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ومن جاء على طريق هذه البلاد.
قوله: (الجحفة) قرية قديمة على الطريق بين مكة والمدينة، اجتحفها السيل، وتقع إلى الجنوب الشرقي من رابغ بما يقارب (15) كيلاً، وهي خراب الآن، ويُحرم الناس من رابغ، قبلها بمسافة يسيرة، وتبعد رابغ عن مكة (186) كيلاً تقريباً، وهي قريبة من الطريق السريع بين مكة والمدينة، وقد بُني أخيراً مسجد ميقات الجحفة ومرافقه سنة (1406هـ).
قوله: (ولأهل نجد) نجد: إقليم يمتد من العراق إلى الحجاز شرقاً وغرباً، ومن اليمن إلى الشام جنوباً وشمالاً.
قوله: (قرن المنازل) اسم لجبل أو وادٍ ذي منازل ينسب إليها، ويسمى الآن: السيل الكبير، وهو يتصل بوادي محرم الذي هو أعلى وادي قرن المنازل، والذي يمر به الطريق المسمى: (كرا) المتجه إلى مكة، ويحرم من السيل الكبير حجاج المشرق الذين يسلكون الطريق السريع إلى الطائف، ويبعد السيل الكبير عن مكة (78) كيلاً من بطن الوادي، و(75) من المكان الذي يحرم منه الناس.
قوله: (ولأهل اليمن) بلاد على الساحل الجنوبي من شبه جزيرة العرب، سمي بذلك لأنه عن يمين الكعبة.
قوله: (يلملم) بفتح الياء، اسم جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة، ويسمّى الآن: (السعدية) باسم بئر فيها.
قوله: (هن لهن) أي: هذه المواقيت لهذه البلاد المذكورة، والمراد: أهل البلاد؛ لقوله في رواية: «هن لأهلهن...» ، وفي رواية أخرى: «هن لهم» .(1/147)
قوله: (ولمن أتى عليهن من غيرهن) أي: ولمن مرَّ عليهن وليس من أهلهن فإنه يحرم منهن، ولا يكلف الذهاب إلى ميقاته الأصلي، كأن يمر المدني بقرن المنازل.
قوله: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) أي: ومن كان منزله دون هذه المواقيت، بأن كان بينها وبين مكة، فميقاته من حيث أنشأ السفر أو أنشأ النية للحج أو العمرة.
قوله: (حتى أهل مكة من مكة) حتى: حرف ابتداء، وأهل مكة: مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: يحرمون، والجار والمجرور متعلق بالخبر، والمراد بأهل مكة: من كان فيها من ساكن وآفاقي.
الوجه الثالث: الحديث دليل على ثبوت هذه المواقيت الأربعة المكانية، فلا يحل تجاوزها بدون إحرام لمن يريد الحج أو العمرة؛ لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى، أما الإحرام قبل الوصول إلى الميقات، فقد نقل ابن المنذر الإجماع على صحته، وروي ذلك عن علي وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وقال ابن حزم: إنه لا يجوز. وروي عن إسحاق.
واختلف القائلون بالجواز في الأفضل، وأرجح الأقوال: الإحرام من الميقات، اقتداءً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه لم يحرم من المدينة، وإنما أحرم من ذي الحليفة[(463)].
الوجه الرابع: وتحديد هذه المواقيت من معجزات نبوته صلّى الله عليه وسلّم، فإنه حددها قبل إسلام أهلها إشارة إلى أنهم سوف يسلمون ويحجّون ويعتمرون، وهكذا كان، ثم إن تحديدها من رحمة الله تعالى بعباده ويسر شريعته حيث لم يوجد الميقات في مكان واحد يشق على الناس قصده؛ بل جعل لكل أهل جهة ميقات في طريقهم إلى مكة.
الوجه الخامس: أن هذه المواقيت لتلك البلاد ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، فلو مرَّ العراقي على ذي الحليفة أحرم منه، أو مر أحد من أهل اليمن بقرن المنازل أحرم منه، ولا يكلف أن يذهب إلى ميقاته، وهذا لا إشكال فيه، وهذا تسهيل آخر.
لكن الإشكال إذا مرَّ الشامي بذي الحليفة فهل يجب عليه أن يحرم منها أو له أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة باعتبار أنها أمامه؟.(1/148)
فعند الشافعية والحنابلة يجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة[(464)]؛ لأنها ميقاته حيث مرَّ بها، فلم يجز تجاوزه بلا إحرام لمريد النسك، كسائر المواقيت.
وقالت الحنفية والمالكية: له أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة، إلا أن الأفضل أن يُحرم من ذي الحليفة[(465)]، واستدلوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقَّت لأهل الشام الجحفة وهو أحرم من ميقاته، ولأن المقصود عدم تجاوز الميقات بلا إحرام، فإذا أحرم من أي ميقات فقد أدى ما عليه، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية[(466)].
الوجه السادس: الحديث دليل على أن من كان أقرب من المواقيت إلى مكة فميقاته مكانه، مثل أهل الشرائع بالنسبة للسيل الكبير، أو أهل بدر أو مستورة بالنسبة لذي الحليفة، وكذا القرى الواقعة على الطريق السريع بين مكة والمدينة، وهذا تسهيل ثالث في أحكام المواقيت، فلا يلزمه أن يذهب إلى الميقات.
الوجه السابع: الحديث دليل على أن من كان في مكة، فإنه يُحرم منها ولا يخرج إلى الميقات، وظاهر الحديث أنه يحرم منها بالحج والعمرة.
لكن في حديث عائشة رضي الله عنها ما يدل على أنه يحرم بالعمرة من الحل، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن أبي بكر: «اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة» [(467)]. وفي رواية: «اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم» ، وحديث عائشة متأخر عن حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه كان في المدينة، وحديث عائشة بعد ذلك في آخر حجة الوداع.
فهذا يفيد أن المكي يخرج إلى الحل إذا أراد العمرة، ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، قال ابن قدامة: (لا نعلم في هذا خلافاً)[(468)]. وقال المحب الطبري الشافعي: (لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة في حق المكي، بل عليه أن يخرج من الحرم إلى أدنى الحل)[(469)].(1/149)
الوجه الثامن: دل مفهوم قوله: «ممن أراد الحج أو العمرة» أن من مرَّ بهذه المواقيت قاصداً مكة، وهو لا يريد الحج أو العمرة، أنه لا يجب عليه الإحرام، وذلك كمن قصد مكة لحاجة من زيارة قريب أو تجارة أو مكي قدم من سفره، ونحو ذلك، وهذا قول الشافعية[(470)]، ورواية عن الإمام أحمد، قال في «الفروع»: (وهي أظهر)[(471)]، واختاره ابن حزم[(472)].
والقول الثاني: يلزمه الإحرام بعمرة، بشرط ألا تكون حاجته متكررة، وهذا قول الحنفية، والمالكية، وبعض الشافعية، ورواية عن أحمد[(473)]، واستدلوا بقول ابن عباس: (لا يدخل أحد مكة إلا محرماً)[(474)].
والقول الأول أرجح؛ لقوة دليله، ولأن الإيجاب من الشارع، ولم يرد إيجاب في مثل هذه الحال، فنستصحب البراءة الأصلية حتى يقوم دليل ينقل عنها، ولأن المرور على الميقات ليس موجباً للإحرام، وإلا لبينه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولمّا سئل عن الحج: في كل سنة، أو مرة واحدة؟ قال: «بل مرة واحدة، فما زاد فهو تطوع» [(475)]، ولم يقل: إلا أن تمر بالميقات، فعلم أن المرور بالميقات ليس سبباً للوجوب، والله تعالى أعلم.
ما ورد في الميقات ذات عرق
723/2 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَّتَ لأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
724/3 ـ وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه إِلاَّ أَنَّ رَاوِيَهُ شَكَّ فِي رَفْعِهِ.
725/4 ـ وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه هُوَ الَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ.
726/5 ـ وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَشْرِقِ: الْعَقِيقَ.
الكلام عليها من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجها:(1/150)
أما حديث عائشة رضي الله عنها، فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، بابٌ «في المواقيت» (1739)، والنسائي (5/125) من طريق المعافى بن عمران، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، به.
قال النووي: (إسناده صحيح)[(476)]. ونقل ابن العراقي تصحيحه عن الذهبي، وعن والده أنه قال: (إسناده جيد)[(477)]. لكن نقل ابن عدي[(478)] عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث، واعتبره من منكرات أفلح بن حميد. وممن أعله الإمام مسلم بأنه روي من طريق مَنْ لا يقبل تفرده. وذكر أن الأحاديث المرفوعة التي فيها توقيت ذات عرق ليس منها واحد يثبت[(479)]، وقال ابن خزيمة: (قد روي أخبار في ذات عرق أنه ميقات أهل العراق، ولا يثبت عند أهل الحديث شيء منها)[(480)].
فهذا يدل على أن هذا الحديث غير محفوظ، كما قرر كبار الأئمة في هذا الفن. ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي حدد ذات عرق لاشتهر ذلك، كما اشتهر تحديد المواقيت الأخرى. وأيضاً لو وقع تحديدها لما احتاج عمر رضي الله عنه إلى تحديده لأهل العراق، ولا يقال: لعل ذلك من موافقات عمر رضي الله عنه؛ لأنه لو وقع تحديدها ما خفي ذلك على أحد من صحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما الحديث الثاني: فقد أخرجه مسلم (1183) من طريق أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يُسأل عن المُهَلِّ؟ فقال: (سمعت (أَحْسَبه رَفَعَ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم) فقال: مُهَلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الأخرى الجحفة، ومهل العراق من ذات عرق...) الحديث.
لكن شك الراوي ـ وهو أبو الزبير، كما ذكر القاضي عياض ـ في هذا الحديث: هل هو مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أم موقوف على جابر رضي الله عنه؟.(1/151)
ومعنى (أحسبه): أظنه. وفي رواية: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يُسأل عن المُهل؟ فقال: سمعت، ثم انتهى، فقال: أراه يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى: أنه انتهى عن تمام رفع الحديث. ثم قال: أُراه.
وقد ورد في ذات عرق عدة أخبار ـ كما تقدم عن الإمام مسلم وابن خزيمة ـ، والمحفوظ هو الحديث الثالث، وهو ما أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «ذات عرق لأهل المشرق» (1531) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فُتِحَ هذان المصران أتوا عمر. فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدَّ لأهل نجد قرناً، وهو جَوْرٌ عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرناً شقَّ علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه أحمد (5/276)، وأبو داود (1740)، والترمذي (832) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن جده، به. وقال الترمذي: (هذا حديث حسن).
وهذا فيه نظر، فقد أعله الإمام مسلم بأن يزيد بن أبي زياد ممن اتقى الناس حديثه، ومحمد بن علي لا يعلم له سماع من ابن عباس[(481)]، ولا أنه لقيه، أو رآه. وقد ذكر البيهقي أن يزيد بن أبي زياد قد تفرد به[(482)].
الوجه الثاني: حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري دليل على أن ذات عرق هو ميقات أهل العراق، وهو ميقات خاص بهم غير ميقات أهل نجد، وأن الذي وقَّته لهم هو عمر رضي الله عنه عندما تأسس المصران: البصرة والكوفة، وأخبروه أن الإحرام من ميقات أهل نجد ـ وهو قرن ـ فيه مشقة عليهم، لكونه ليس على طريقهم. فقال: (فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق)، والمعنى: انظروا ما يقابل ميقات نجد من الأرض التي تسلكونها من غير مَيْل فاجعلوه ميقاتاً.(1/152)
وذات عِرق: بكسر العين وسكون الراء، سمّي بذلك لعرق فيه؛ أي: جبل صغير. ويسمّى: الضريبة، ويقع عن مكة شرقاً بمسافة (100) كيل. وهو الآن مهجور لعدم وجود الطريق عليه، وصار الحجاج القادمون من المشرق يسلكون الطريق المؤدي إلى مكة مروراً بميقات قرن المنازل، وهو السيل الكبير.
وأما العقيق فهو واد عظيم يقع شرق مكة محاذياً لذات عرق شرقاً، يبعد عنها (20) كيلاً، وعن مكة (120) كيلاً.
الوجه الثالث: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في توقيت عمر ذات عرق لأهل العراق، وقوله: (انظروا حذوها من طريقكم) هو الأصل في مسألة محاذاة الميقات، ومعناه: أن من سلك طريقاً لا ميقات فيه: برّاً أو بحراً أو جوّاً، فميقاته إذا حاذى أقرب المواقيت إليه.
والمحاذاة لغة: الإزاء والمجاورة، وحاذى الشيء: وازاه وصار بجانبه، والمراد بها هنا: أن تكون مسافة البقعة التي فيها القاصد تساوي مسافة الميقات الأصلي إلى الحرم؛ لأن الإحرام مما يحاذي الميقات بمنزلة الإحرام من نفس الميقات.
فمن قدم ـ مثلاً ـ من الشام ومصر من طريق البحر فإن ميقاتهم الجحفة، فالواجب عليهم أن ينزلوا في أرضها ويحرموا، فإن شق عليهم ذلك فلهم أن يحرموا إذا كان بينهم وبين مكة نفس المسافة التي بين الجحفة ومكة، وهي ما يقارب (180) كيلاً، وهكذا..
وينبغي أن يعلم أن مشروعية المحاذاة مختصة بمن ليس له ولا أمامه ميقات معين، فأما من له ميقات معين، كما لو مر المصري ببدر ـ مثلاً ـ، وهي تحاذي ذا الحليفة، فليس عليه أن يُحرم منها، بل له التأخير حتى يأتي ميقاته وهو الجحفة، والله أعلم.
باب وجوه الإحرام، وصفته(1/153)
727/1 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِالحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أو جَمَعَ الحَجَّ وَالْعُمرَةَ فَلَم يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «التمتع والقِران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي» (1562)، ومسلم (1211) (118) من طريق أبي الأسود: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وجوه الإحرام) جمع وجه، والمراد بها: أنواع الإحرام الثلاثة الآتية. و (صفته) أي: كيفيته.
قوله: (خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) أي: من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، بعد صلاة الظهر، كما ثبت في الصحيحين[(483)].
قوله: (عام حجة الوداع) سميت بذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ودَّع الناس فيها، وقال: «لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا» ، وهذه آخر حجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت سنة عشر من الهجرة[(484)]، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
قوله: (فمنا من أهلَّ بعمرة) أصل الإهلال: رفع الصوت، ثم أطلق على الإحرام. فمعنى (أهلّ) : أحرم، وذلك لأن المحرم يرفع صوته بالتلبية إذا أحرم.
وهذا النوع الأول من أنواع النسك، وهو التمتع، ومعناه: أن يحرم من الميقات بالعمرة في أشهر الحج، فيقول: لبيك عمرة، ثم يَحِلُّ منها، ثم يُحرم بالحج في اليوم الثامن.(1/154)
قوله: (ومنا من أهلَّ بحج وعمرة) هذا النسك الثاني، وهو القِران، وهو أن يحرم بالعمرة والحج معاً من الميقات، فيقول: لبيك عمرة وحجّاً.
قوله: (ومنا من أهلَّ بحج) هذا النسك الثالث وهو الإفراد، وهو أن يحرم بالحج وحده من الميقات، فيقول: لبيك حجّاً.
قوله: (وأهلَّ رسول الله بالحج) أي: أحرم بالحج، وظاهره أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حج مفرداً، وهذا ورد ـ أيضاً ـ في حديث جابر رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم.
وهذا يخالف ما ثبت من أنه صلّى الله عليه وسلّم حج قارناً، حتى قال الإمام أحمد: (ومن يشك في هذا؟)، فلعل قول عائشة ومن وافقها مراد به أنه أهلّ بالحج في أول الأمر، ثم أدخل العمرة على الحج، فصار قارناً، لكن قد يشكل على ذلك ما ورد في حديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حجة» [(485)].
فهذا يدل على أنه كان قارناً من أول الأمر، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: (... ثم أهلّ بحج وعمرة...)[(486)].
فالمسألة لا زالت مشكلة، ولا بد من الجمع، وهو أن كل من رَوَى عنه الإفراد حُمل على ما أهلَّ به في أول الحال، وكل من رَوَى عنه القِران أراد ما استقر عليه أمره، ومما يؤيد القِران أن كل من روى الإفراد اختُلف عليه، فَرَوَى أنه اعتمر مع حجته، بخلاف من رووا عنه القران، ثم إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن معي الهدي لأحللت» دليل بيِّن على ذلك.(1/155)
وهذا ما اختاره ابن المنذر وابن حزم وابن حجر، وقال: (هذا هو الجمع المعتمد)[(487)]، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان قارناً تزيد على عشرين حديثاً،وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه ابن القيم، أن من روى الإفراد قد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم حج تمتعاً وقِرَاناً، فيتعين الحمل على القران، وأنه أفرد أعمال الحج وحده، ولم يفرد للعمرة أعمالاً.
أما من روى عنه التمتع، كما في حديث ابن عمر (تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج...)[(488)]، فمعناه: أتى بهما في سفر واحد حيث قرن بينهما؛ لأنه لم يتحلل بينهما قطعاً، وهذا يدل على أن القِران بين العمرة والحج يسمّى: تمتعاً[(489)].
قوله: (وأما مَن أهلَّ بحج، أو جمع الحجَّ والعمرةَ... إلخ) هذا القدر من الحديث فيه اختصار من بعض الرواة؛ لأنه ثبت عنها في «الصحيحين» التفصيل بذكر الهدي، وأن الذين ساقوا الهدي لم يَحِلُّوا حتى كان يوم النحر، وأما الذين لم يسوقوا هدياً فإنهم حلوا عند قدومهم حيث جعلوها عمرة، ولا أدري كيف ساق الحافظ هذه الرواية المختصرة وترك ما هو أوضح منها؟!(1/156)
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الأنساك الثلاثة ـ التمتع والقِران والإفراد ـ. وقد نقل ابن عبد البر وابن قدامة وغيرهما إجماع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، وإنما الخلاف في الأفضل[(490)]، لكن نقل الإجماع في ذلك فيه نظر، فإنه قد ثبت عن ابن عباس وطائفة من السلف وجوب التمتع في حق من لم يسق الهدي، كما سيأتي[(491)]، وقد أحرم بهذه الأنساك الصحابة رضي الله عنهم بصحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجته، فأحرمت كل طائفة بنسك منها، وهذا كان في أول الأمر، ثم لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج...» [(492)].
فهذا يدل على أن من أحرم بالحج من مفرد وقارن أنه يشرع له فسخ إحرامه إلى عمرة إذا لم يسق الهدي، ليصير متمتعاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لم يختلف أحد من أهل العلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أصحابه إذا طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، وهذا مما تواترت به الأحاديث)[(493)]، وهذا محمول على الاستحباب، كما هو مذهب الإمام أحمد، وهو قول الحسن ومجاهد وداود، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية[(494)]، وذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوب الفسخ أخذاً بظاهر الأمر، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره ابن حزم، ونصره ابن القيم[(495)].
وأفضل الأنساك هو التمتع في حق من لم يسق الهدي، أو يقال: بوجوبه، كما تقدم، أما من ساق الهدي فالقران في حقه أفضل؛ لأنه نسك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما كان الله تعالى ليختار لنبيه صلّى الله عليه وسلّم إلا الأفضل والأكمل.(1/157)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقل: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» لأجل أن الذي فعله مفضول، ففعله هو الأفضل، وإنما أراد تطييب قلوب أصحابه لما شَقَّ عليهم أن يحلوا من إحرامهم، وفي هذا تأليف للقلوب، فجمع الله له الأجرين: أجر فعل الأفضل، وأجر ما اختار من موافقتهم على ما أمرهم به لولا سوق الهدي، وذلك لأن في سوق الهدي من تعظيم شعائر الله ما ليس في التمتع والتحلل والإحرام ثانياً، فيكون القارن الذي ساق الهدي أفضل من المتمتع الذي لم يسق الهدي[(496)]، والله تعالى أعلم.
باب الإحرام وما يتعلق به
الإحرام لغة: الدخول في التحريم، كأن المحرم يحرِّم على نفسه النكاح والطِّيب وأشياء من اللباس، كما يقال: أشتى: إذا دخل في الشتاء، وأربع: إذا دخل في الربيع، وأنجد: إذا دخل نجداً.
وشرعاً: نية الدخول في حجة، أو عمرة، أو هما معاً.
وليس الإحرام هو لبس ثياب الإحرام، وإنما لبسهما تَهيُّؤٌ للإحرام الذي لا ينعقد إلا بالنية. وسمّي الدخول في النسك إحراماً، لما تقدم.
والمشروع للمحرم أن يتلفظ بالنسك، فيقول: لبيك عمرة ـ مثلاً ـ، فإذا لبى قاصداً للإحرام انعقد إحرامه.
وأما التلفظ بالنية فهذا بدعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يشرع للمسلمين شيئاً من ذلك، ومنه قول كثير من الناس: (اللهم إني نويت الإحرام بالعمرة ـ مثلاً ـ فيسِّرها لي، وتقبَّلها مني إنك أنت السميع العليم).
وهذا يذكره بعض الفقهاء، وهو استحسان من قائله؛ لأنه لم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم دعاء في هذا الموقف، فيكون من البدع، والواجب على المسلم الاتباع لا الابتداع، وذلك بمعرفة أحكام النسك، وصفة أدائه، ليعبد ربه على بصيرة، ويحقق متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد قال: «لتأخذوا مناسككم» [(497)].
موضع إهلال النبي (ص)(1/158)
728/1 ـ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِلاَّ مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «الإهلال عند مسجد ذي الحليفة» (1541)، ومسلم (1186) من طريق موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أباه رضي الله عنه يقول: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها، ما أَهَلَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا من عند المسجد. يعني: ذا الحليفة.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن موضع إهلال النبي صلّى الله عليه وسلّم من عند مسجد ذي الحليفة؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما قال ذلك ردّاً على من قال: إنه صلّى الله عليه وسلّم أحرم من البيداء.
والبيداء: هي المفازة. والمراد بها هنا: أرض ملساء أمام ذي الحليفة في طريق مكة.
وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهلَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حين استوت به راحلته قائمة[(498)].
ولا منافاة بين هذا وما قبله ـ كما يقول ابن كثير ـ فإن الإحرام كان من عند المسجد، ولكن بعدما ركب راحلته[(499)]. وهذا هو الأفضل أن يكون إحرامه وتلبيته بعد ركوب الدابة أو السيارة، حتى يفرغ من شؤونه في الأرض من اغتسال وطيب ونحو ذلك، ويكون قد تهيَّأ بذلك التهيؤ الكامل، بخلاف ما إذا أحرم في الأرض فقد ينسى شيئاً.
ولو أهلَّ الإنسان عند المسجد أو بعد ركوب سيارته، أو من البيداء ـ إذا كان من عند ذي الحليفة ـ فكل ذلك جائز، وإنما الكلام في الأفضل، والله تعالى أعلم.
مشروعية رفع الصوت بالتلبية(1/159)
729/2 ـ عَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبيهِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْواتَهُمْ بِالإهْلاَلِ». رَوَاهُ الخَمْسَةُ. وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو خلاد بن السائب بن خلاد، روى عن أبيه، وزيد بن خالد الجهني، وروى عنه ابنه خالد، وعبد الملك بن أبي بكر وغيرهما، وقد اختُلف في صحبته، حتى إن ابن حبان ذكره مرة في الصحابة، ومرة في التابعين، قال الحافظ في «التقريب»: (ثقة، من الثالثة، ووهم من زعم أنه صحابي).
وأما أبوه فهو السائب بن خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي، ذُكر أنه شهد بدراً، وولي لمعاوية اليمن، أحاديثه في السنن، وهي قليلة، مات سنة إحدى وسبعين رضي الله عنه[(500)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «كيف التلبية» (1814)، والترمذي (829)، والنسائي (5/162)، وابن ماجه (2922)، وأحمد (27/89 ـ 90)، وابن حبان (3791) من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث، عن خلاد بن السائب، عن أبيه.
وقد رواه عن عبد الله بن أبي بكر: مالك، وسفيان بن عيينة. وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، وصححه ابن حبان.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية رفع الصوت بالتلبية، والجمهور على أن الأمر في الحديث للاستحباب، وجعلوا القرينة الصارفة عن الوجوب هي المشقة، فإنه يشق على كل حاج أو معتمر أن يرفع صوته بالتلبية.
وقالت الظاهرية بوجوب ذلك، أخذاً بظاهر الأمر. قال ابن حزم: (ويرفع الرجل والمرأة صوتهما بها ولا بد، وهو فرض ولو مرة)[(501)].(1/160)
الوجه الرابع: دلَّ قوله: «أن آمر أصحابي» على أن رفع الصوت بالتلبية مختص بالرجال دون النساء، فالمرأة يسن لها خفض صوتها بالتلبية، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم؛ بل حكى الإجماع على ذلك ابن المنذر وابن عبد البر[(502)].
وذهب ابن حزم إلى أنه يجب على المرأة رفع صوتها بالتلبية ولو مرة واحدة ـ كما تقدم ـ، مستدلاًّ بما رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: خرج معاوية ليلة النفر، فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة اعتمرت من التنعيم، فذُكِرَ ذلك لعائشة، فقالت: (لو سألني لأخبرته)[(503)].
وقول الجمهور أرجح؛ لأن نصوص الشريعة دلت على أن المرأة لا ترفع صوتها بحضرة الأجانب في العبادة: كالصلاة، وقراءة القرآن؛ لأن صوتها فتنة، وقد جاء في «الصحيحين» من حديث سهل بن سعد وغيره: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» .
ثم إن في رفع المرأة صوتها بالتلبية مفسدة أعظم من الأجر الحاصل برفع الصوت، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأما ما ورد عن عائشة رضي الله عنها فهو محمول على ما إذا أُمنت الفتنة، كما لو كانت المرأة طاعنة في السن، أو لم يكن معها في السيارة ـ مثلاً ـ إلا زوجها أو ابنها أو غيرهما من محارمها، لأمن الفتنة في مثل هذه الأحوال، والله تعالى أعلم.
مشروعية الغسل عند الإحرام
730/3 ـ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم تَجَرَّدَ لإهْلاَلِهِ واغْتَسَلَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الترمذي في أبواب «المناسك»، باب «ما جاء في الاغتسال عند الإحرام» (830) من طريق عبد الله بن يعقوب المدني، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، به. وقال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب).(1/161)
وهذا الحديث ضعفه العقيلي، فإنه لما رواه من طريق أبي غَزِيَّة محمد بن موسى، عن ابن أبي الزناد. قال عن ابن غزية: (قاضي عنده مناكير، ولا يتابع عليه إلا من طريق فيها ضعف»[(504)]. وقد أُعِلَّ سند الترمذي بأنه من رواية عبد الله المدني، وقد قال عنه ابن القطان: (لا يعرف)[(505)]. وقال عنه الحافظ في «التقريب»: (مجهول الحال). وأُعل ـ أيضاً ـ بابن أبي الزناد، واسمه عبد الرحمن، فقد ضعفه ابن معين في رواية، وقال النسائي: (لا يحتج بحديثه)[(506)]، وقال الحافظ في «التقريب»: (صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد). وقد ورد في مشروعية الغسل أدلة أخرى غير هذا الحديث، كما سيأتي.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية التجرد من الملابس عند الإحرام ليلبس المحرم الإزار والرداء، وهذا في حق الرجال.
الوجه الثالث: استدل الفقهاء بهذا الحديث على مشروعية الاغتسال عند الإحرام، لما فيه من النظافة وتنشيط البدن.
ويستحب أن يأخذ من شعره وأظفاره، ما يحتاج إلى أخذ، وليس هذا من خصائص الإحرام، ولكنه مطلوب عند الحاجة.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الغسل مستحب لكل من أراد الإحرام ولو كانت حائضاً أو نفساء[(507)]، لحديث جابر ـ الآتي ـ وفيه: حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي...» . ووجه الاستدلال: أنه إذا كانت النفساء مأمورة بالغسل، وهي لا تستبيح به صلاة ولا غيرها؛ لأنها غير قابلة للطهارة، فالمحرم القابل للطهارة من باب أولى.
وأخذ ابن حزم من ظاهر هذا الأمر وجوب الغسل على النفساء وحدها دون غيرها[(508)]، ولهذا فهو لا يقول بوجوبه على الحائض ولا على غيرهما. والحق هو قول الجمهور، وهو استحباب الغسل مطلقاً على الرجال والنساء، لعدم الدليل على الإيجاب. وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن الإحرام جائز بغير اغتسال[(509)].(1/162)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم، وإذا أراد أن يدخل مكة)[(510)]. وقول الصحابي: (من السنة كذا) المراد به: سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما في علوم الحديث.
فإن لم يغتسل توضأ، فإن لم يجد ماء، أو كان الوقت شتاء والجو بارد، فالمشهور من مذهب الحنابلة أنه لا يسن له أن يتيمم، لأن الغسل يراد للتنظيف وقطع الرائحة، والتيمم لا يحصِّل هذا؛ بل يزيد شعثاً وتغبيراً.
وقال القاضي أبو يعلى: يتيمم؛ لأنه غسل مشروع، فناب عنه التيمم[(511)]. والقول الأول هو الصواب، والله تعالى أعلم.
ما يحرم على المحرم لبسه
731/4 ـ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ: مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: «لاَ تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلاَ الْعَمَائِمَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ الْبَرَانِسَ، وَلاَ الْخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَينِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ تَلْبَسُوا شَيْئاً مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلاَ الْوَرْسُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «ما يلبس المحرم من الثياب» (1542)، ومسلم (1177) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
وفي رواية للبخاري (1838): «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» ، وكان الأولى بالحافظ أن يذكرها على عادته بذكر الروايات، كما فعل المقدسي في «العمدة» وابن دقيق العيد، وابن عبد الهادي، لأن فيها بياناً لما تجتنبه المرأة، كما سيأتي إن شاء الله، لكن للعلماء كلام في رفع هذه الزيادة ووقفها[(512)]، وقد يكون هذا من أسباب ترك الحافظ لها.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/163)
قوله: (أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل) كان ذلك في المدينة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب الناس، والظاهر أنه قرب سفره للحج، كما ذكر الحافظ.
قوله: (ما يلبس المحرم) أي: العاقد للإحرام بحج أو عمرة، والمراد: الرجل بالإجماع، لما ورد في بعض الروايات: «إلا أن يكون رجل ليس له نعلان» .
قوله: (فقال: «لا تلبسوا...») كان السؤال: عما يجوز للمحرم لبسه من الثياب، فأجابه النبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان ما لا يلبس؛ لأنه أقل وأحصر، وفيه بيان أن كل ما عدا هذه المذكورات وما يشابهها فإنه يلبسه المحرم، وهذا من جوامع الكلم، وبلاغة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وحسن جوابه.
قوله: (القمص) بالضم، جمع قميص، هو الثوب ذو الأكمام.
قوله: (ولا العمائم) جمع عمامة، وهي ما يلف على الرأس.
قوله: (ولا السراويلات) جمع سراويل، وهو المئزر ذو الأكمام.
قوله: (ولا البرانس) جمع برنس، وهو الثوب الشامل للرأس والبدن.
قوله: (ولا الخفاف) جمع خف، وهو ما يلبس على القدم ساتراً لها من جلد.
قوله: (إلا أحد) بالرفع بدل من الفاعل في قوله: «لا تلبسوا» .
قوله: (لا يجد النعلين) تثنية نعل، وهو ما يلبس على القدم للوقاية من الأرض من غير ستر للقدم.
قوله: (فليلبس الخفين) اللام للأمر، وهو للإباحة؛ لأنه لرفع المنع.
قوله: (وليقطعهما أسفل من الكعبين) أي: وليقطع الخفين حتى يكونا أنزل من الكعبين، ليقربا بذلك من مشاكلة النعلين.
قوله: (ولا الورس) هو نبت طيب الرائحة، لونه أحمر.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المحرم ممنوع من لبس خمسة أنواع، وهي:
1 ـ القميص: ويلحق به ما يشابهه، مثل: الكوت، والفنيلة، والقباء: وهو ثوب يلبس فوق القميص مفتوح من الأمام.
2 ـ العمامة: ويقاس عليها الطاقية وما في معناها.
3 ـ السراويلات: ويقاس عليها التبان: وهو السراويل القصير.
4 ـ البرنس: ويلحق به العباءة.(1/164)
5 ـ الخفاف: ويقاس عليها الجوارب، جمع جورب، وهو ما يلبس من القماش ونحوه بالقدمين إلى ما فوق الكعبين[(513)].
وهذه الأنواع الخمسة مختصة بالذكور بإجماع أهل العلم. والحكمة من منع المحرم من لبس هذه الأنواع ليبتعد عن الترف باللباس المعتاد، ويظهر بمظهر الخاشع الزاهد، وليتساوى المحرمون في اللباس، فلا يبقى بينهم موضع للتباهي والتكاثر، وليتذكر المحرم كلما لمح الإزار والرداء أنه في نسك وعبادة عظيمة، فيقبل على ربه ويكثر من ذكره، ويبتعد عن معصيته، إلى غير ذلك من الحِكم والأسرار.
وضابط ما تقدم أن كل ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه، أو عضو من أعضائه فالمحرم ممنوع منه.
وقد عبر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عن هذه الأشياء بـ(المخيط)[(514)]، فإذا عدَّدوا محظورات الإحرام ذكروا منها: اجتناب المخيط، وهذا لم يرد في السنة، وإنما جرى على لسان بعض التابعين، وقد نسب هذا إلى إبراهيم النخعي[(515)]، وهو مات أوائل سنة ست وتسعين، ثم وجدت في «المبسوط»[(516)] للسرخسي: أن زُفَرَ بن الهذيل عبر بذلك، وهو من أصحاب أبي حنيفة، مات سنة (158).
وقد كثر استعمال هذا اللفظ، فظن كثير من الناس أن المقصود به كل ما فيه خيط، وفهموا أنه لا يجوز لبس الرداء الموصَّل لقصره أو لضيقه، أو ما خيط لشق فيه، وكذا الأحزمة والأحذية التي فيها خيوط، وهذا غير صحيح؛ بل المراد ما تقدم، ولو اقتصر الفقهاء على ما ورد في السنة وألحق به ما أشبهه لكان أوضح، وأبعد عن الإيهام.
الوجه الرابع: الحديث دليل على منع المحرم من الثياب المطيبة بزعفران أو ورس، ويقاس عليهما أنواع الطيب، وإلا فإن الورس ليس بطيب، وهذا عام للذكور والإناث، قال ابن العربي: (ليس الورس بطيب، ولكنه نبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشم..)[(517)].(1/165)
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز لبس الخفين لعادم النعلين، إذا قطعهما من أسفل الكعبين، ولكن الأمر بالقطع منسوخ، والناسخ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب بعرفات: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل» [(518)].
فهذا ناسخ لما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه وقع في جمع عظيم لعل أكثرهم أو الكثير منهم لم يسمع حديث ابن عمر، ولا يقال: إن حديث ابن عباس مقيد بحديث ابن عمر؛ لأن الإطلاق وقع في عرفة، وهم في أمسِّ الحاجة إلى البيان، فلو قيل بالحمل لكان في ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز[(519)].
الوجه السادس: دلت رواية البخاري التي ذكرنا على أن المرأة تحرم بما شاءت من الثياب من غير تقييد بلون معين، بشرط ألا تكون ملابس زينة تجلب النظر، والأفضل لها أن تحرم بشُرَّاب الرِّجلين؛ لأنه أستر لها، وتمتنع من شيئين:
الأول: النقاب: وهو ما يُنقب فيه للعينين.
الثاني: القفاز: وهو غلاف ذو أصابع تدخل فيه الكف.
الوجه السابع: جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا النبي صلّى الله عليه وسلّم بعرفات فقال: «من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل..» [(520)]، وعنه ـ أيضاً ـ في صفة إحرام النبي صلّى الله عليه وسلّم: (ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه)[(521)]، واستدل الفقهاء بذلك على أن السنة الإحرامُ في إزار ورداء، والإزار: ما يُشدُّ على الوسط من السرة فما دون، لستر العورة، والرداء: ما يوضع على الكتف.
وقد نصَّ علماء اللغة على أن الإزار غير مخيط، وليس له حُجزة، فإن خيط وصنع له حُجزة، خرج عن كونه إزاراً، وسُمي نُقْبة، وهو خِرقة أعلاها كالسراويل، وأسفلها كالإزار.(1/166)
قال أبو عبيد: (النُّقْبَةُ: أن تؤخذ القطعة من الثوب قدر السراويل، فتجعل لها حُجْزة مخيطة من غير نَيفَقٍ[(522)]، وتُشَدُّ كما تُشَدُّ حجزة السراويل، فإن كان لها نَيفَقٌ وساقان فهي سراويل...)[(523)].
وعلى هذا فما ظهر في الأسواق ـ في زماننا هذا ـ من لباس الإحرام المخيط ليس هو الإزار الذي يُسن الإحرام به، وإنما هو نقبة[(524)]، والله تعالى أعلم.
استحباب الطيب عند الإحرام
732/5 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لإحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطوفَ بِالْبَيْتِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «الطيب عند الإحرام» (1539)، ومسلم (1189) (33) من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت... فذكرته.
الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب الطيب عند الإحرام، ليبقى أثره أثناء إحرامه، وهذا عام للذكر والأنثى، إلا أن طيب المرأة ما ظهر لونه، وخفي ريحه.
ولا يضر استدامة الطيب بعد الإحرام ولو سال على البدن أو الملابس، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم)[(525)]، والوبيص: البريق واللمعان.
وعنها ـ أيضاً ـ رضي الله عنها قالت: (كنا نخرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة، فنضمِّد جباهنا بالسُّكِّ[(526)] المطيب عند الإحرام، فإذا عَرِقَتْ إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا ينهاها)[(527)].(1/167)
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب الطيب بعد التحلل الأول وقبل الطواف بالبيت، ويستفاد من ذلك استحباب التجمل والتطيب عند الذهاب إلى العبادات في المساجد، ولا سيما المجامع الكبيرة، قال تعالى: {{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}} [الأعراف: 31] ، والله تعالى أعلم.
حكم نكاح المحرم وخطبته
733/6 ـ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ يَنْكِحُ المُحْرِمُ، وَلاَ يُنْكِحُ، وَلاَ يَخْطُبُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «النكاح»، باب «تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته» (1409) من طريق نبيه بن وهب: أن عمر بن عبيد أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير، فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك، وهو أمير الحج، فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم... وذكر الحديث.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المحرم منهي أن يَنكح ـ بفتح الياء؛ أي: يتزوج ـ، أو يُنكح ـ بضم الياء، أي: يعقد النكاح لغيره ـ، أو يخطب ـ بضم الطاء، من الخِطبة بكسرها ـ، أي: يطلب زواج المرأة من نفسها أو من أهلها.
وقد جاء الحديث بلفظ النفي، وهو بمعنى النهي، فيقتضي فساد العقد، وهذا مذهب الجمهور[(528)]، والحكمة من هذا النهي هي إبعاد المحرم عن الترفه وشهوات الدنيا، ولأن الخِطبة وسيلة إلى الجماع المحرم حال الإحرام؛ لأن عادة المتزوج أن يكون شديد التوقان إلى الجماع، فقد لا يصبر فيقع في أعظم محظور من محظورات الإحرام، وهذا شاهد لمسألة سد الذرائع الموصلة إلى الحرام.(1/168)
الوجه الثالث: ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو محرم[(529)]، وقد استدل بهذا من قال: يجوز للمحرم أن يتزوج أو يزوِّج، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وجماعة من السلف[(530)]، وهو مذهب الحنفية[(531)]. وقد أخذ الجمهور من أهل العلم بحديث الباب، وبما ورد عن ميمونة رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوجها وهو حلال[(532)].
ومما يؤيد ذلك أن ميمونة صاحبة القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره، ومن قواعد الترجيح أن خبر صاحب الواقعة مقدم على خبر غيره؛ لأنه أعرف بالحال.
ومما يؤيد ذلك ـ أيضاً ـ أن ابن عباس كان صغيراً وقت التحمّل، وقد لا يعرف حقائق الأمور، ولا يقف عليها[(533)]، ولهذا قال سعيد بن المسيب: (وَهِمَ ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم)[(534)]، وبنحو هذا قال الإمام أحمد[(535)]. والله تعالى أعلم.
حكم أكل المحرم من صيد الحلال
734/7 ـ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ الحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لأَصْحَابِهِ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيءٍ؟»، قَالَوا: لاَ، قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «جزاء الصيد»، باب «لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال» (1824)، ومسلم (1196) (60) من طريق أبي عوانة، حدثنا عثمان ـ وهو ابن وهب ـ قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة: أن أباه أخبره، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج حاجّاً، فخرجوا معه... وساق الحديث.(1/169)
الوجه الثاني: الحديث دليل على حِلِّ صيد الحلال للمحرم، وجواز أكله منه إذا لم يكن للمحرم أثر في صيده من إشارة أو طلب أو مناولة سلاح، ونحو ذلك.
الوجه الثالث: الحديث دليل على تحريم الصيد على المحرم، لقول الصحابة رضي الله عنهم: (أنأكل لحم صيد ونحن حرم؟)، وقد دلَّ على ذلك القرآن، قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}} [المائدة: 95] ، وقال تعالى: {{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}} [المائدة: 96] ، والصيد: كل حيوان حلال متوحش طبعاً. وقوله: {{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}} أي: محرمون أو في حرم، فالصيد محرم على المحرم بحج أو عمرة، ومحرم في الحرم.
وليس هذا التحريم من أجل معنى يتعلق بنفس الصيد، ولا من أجل عدم قابلية المحرم لأكله، ولكن ـ والله أعلم ـ من أجل إبعاد المحرم عن الترفه وتعلق قلبه بالصيد، وإشغال بدنه في طلبه، فيتلهى بذلك عما هو بصدده من الإقبال على الله تعالى والاشتغال بمهام نسكه.
أما تحريم قتل الصيد في الحرم، فلأن في صيده ـ والله أعلم ـ انتهاكاً لأمن الحرم الذي جعله الله آمناً.
الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث فقهاء الكوفة، وطائفة من السلف: كعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير على جواز أكل المحرم مما صاده الحلال مطلقاً، سواء صاده لأجله أم لا[(536)].
ووجه الاستدلال: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل أبا قتادة: هل صاده لأجل رفقته أو لا؟ وأقر الرفقة على أكلهم قبل أن يأتوا، وأمرهم بأكل ما بقي من لحمه.(1/170)
وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن ما صاده الحلال لأجل المحرم فإنه يحرم على المحرم، لحديث الصعب بن جثَّامة الآتي، وما لم يصده لأجله ولا كان بدلالته أو إعانته حلَّ له؛ لحديث أبي قتادة هذا، وهذا هو الراجح؛ لأنه تجتمع به الأدلة[(537)]، وأما الاستدلال به على الإطلاق المتقدم ففيه نظر، فإن الحديث لا يدل على الجواز مطلقاً، وإنما يدل على أن من أعان على الصيد لم يحلَّ له أكله، وأما من لم يُعن على صيده، فلا يدل على الجواز، وإنما يستفاد حل أكله في هذه الحال من دليل آخر.
وهذا في صيد البر، وأما صيد البحر فقد دلَّ القرآن على حلِّه، قال تعالى: {{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} ...} [المائدة: 96] ، والمراد بصيد البحر: المأخوذ منه حيّاً، {{وَطَعَامُهُ}}: المأخوذ منه ميتاً[(538)]، والله تعالى أعلم.
حكم أكل المحرم ما صيد من أجله
735/8 ـ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حِمَاراً وَحْشِياً، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانِ. فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو الصعب بن جثّامة ـ بفتح الجيم وتشديد المثلثة ـ بن قيس الليثي رضي الله عنه حليف قريش، أمه أخت أبي سفيان بن حرب، كان ينزل وَدَّان والأبواء، شهد فتح فارس، له أحاديث في الصحيح من رواية ابن عباس عنه، ومنها حديث الباب، وتوفي في أوائل خلافة عثمان رضي الله عنه، وذكر ابن عبد البر أنه مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قال يعقوب بن سفيان: (أخطأ من قال: إن الصعب بن جثّامة مات في خلافة أبي بكر خطأً بيِّناً)[(539)].
الوجه الثاني: في تخريجه:(1/171)
هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب «جزاء الصيد»، باب «إذا أهدى للمحرم حماراً وحشيّاً حيّاً لم يقبل» (1825)، ومسلم (1193) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن الصعب بن جثّامة رضي الله عنه، به.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (أهدى) أي: وهب تودداً.
قوله: (حماراً وحشيّاً) الحمار الوحشي نوع من الصيد تشبه الحمر الأهلية، سميت حمر وحش؛ لأنها متوحشة غير أليفة.
وقد ورد في بعض الروايات عند مسلم: (لحم حمار وحش)، وفي رواية: (رِجْلَ حمار وحش)، لكن ظاهر سياق الحديث من رواية مالك عن الزهري: أنه كان حيّاً، وعلى ذلك ترجم البخاري ـ كما تقدم ـ وكأنه يشير إلى أن الرواية التي تدل على أنه كان مذبوحاً موهمة[(540)]. قال الترمذي: (وقد روى بعض أصحاب الزهري، عن الزهري هذا الحديث، وقال: «أهدى له لحم حمار وحش» وهو غير محفوظ)[(541)].
قوله: (وهو بالأبواء) أي: حال كون النبي صلّى الله عليه وسلّم نازلاً بالأبواء، وذلك حين مروره به في سفره لحجة الوداع، والأبواء: اسم لوادٍ بين مكة والمدينة، لا يزال معروفاً، يقع شرقي بلدة (مستورة) بِمَيْلٍ نحو الجنوب، الواقعة على الطريق القديم بين مكة والمدينة، وتبعد عنها بما يقارب (25) كيلاً، وتبعد الأبواء عن رابغ بما يقارب (43) كيلاً[(542)].
قوله: (أو بودان) شك من أحد الرواة، وقال ابن حجر: (الذي يظهر لي أن الشك من ابن عباس؛ لأن الطبراني أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشك ـ أيضاً ـ)[(543)].
وودان: اسم موضع بين مكة والمدينة، يقع شرق مستورة باثني عشر كيلاً، وذكر بعض الشراح والباحثين: أن ودان هي مستورة، لكن الشيخ عبد الله البسام رحمه الله نفى ذلك[(544)].(1/172)
قوله: (وقال: «إنا لم نرده عليك...») ، هنا جملة تركها الحافظ، وهي قوله: (فلما رأى ما في وجهه) أي: فلما أبصر النبي صلّى الله عليه وسلّم ما في وجه الصعب من التغير تأثُّراً برد النبي صلّى الله عليه وسلّم هديته، قال له: «إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حُرُم» أي: من أجل أننا محرمون، فأخبره عن سبب الرد ليزول ما في نفسه. وقوله: «لم نرده» بفتح الدال وضمها، أما الفتح فلأنه أخف الحركات، وأما الضم فعلى إتباع حركة اللام لحركة العين، وهكذا يقال في كل مضارع مضعف مجزوم[(545)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على تحريم أكل لحم الصيد على المحرم بحج أو عمرة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيَّن أن سبب رد الهدية كونهم محرمين، فدل على أن المحرم ممنوع من أكل الصيد، وبهذا الحديث استدل من قال: إن لحم الصيد يحرم على المحرم بكل حال، وهو قول علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وهو قول طاوس وإسحاق والثوري[(546)]، وكأنهم أخذوا بحديث الصعب بن جثّامة لتأخره، ولأنه أحوط.
كما استدلوا بعموم قوله تعالى: {{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}} [المائدة: 96] .
وذهب الجمهور إلى التفصيل ـ كما تقدم ـ وهو أنه إن صيد لأجل المحرم حَرُمَ، أخذاً بحديث الصعب بن جثّامة، فإنَّ تَرْكَ النبي صلّى الله عليه وسلّم الأكلَ مما أهدى له الصعب بن جثّامة يحتمل أن يكون لعلمه أنه صيد من أجله، ويتعين حمله على ذلك، أما إذا لم يصد من أجله ولا أعان عليه فإنه يجوز له أكله، أخذاً بحديث أبي قتادة رضي الله عنه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل من صيده.(1/173)
الوجه الخامس: الحديث دليل على وجوب رد الهدية إذا كانت لا تحل للمهدى إليه، وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله: «باب من لم يقبل الهدية لعلة»[(547)] ولعل هذا محمول على ما إذا لم يمكن التصرف فيها على وجه يباح، مثل إهداء الحرير للرجل، فيعطيه نساءه، وقد تقدم في «اللباس» شيء من هذا.
الوجه السادس: الحديث دليل على مشروعية ذكر سبب رد الهدية على المهدي، ليزول ما في نفسه، وتذهب الشكوك عنه، وذلك أنه إذا كانت الهدية لا محذور فيها في ذاتها، ولكنها لا تصلح للمهدى إليه، كما في هذا الحديث بيَّن له لتطيب نفسه،قال أبو علي النيسابوري ـ شيخ الحاكم ـ: «هذا أصح حديث في الاعتذار»[(548)].
أما إذا كان الرد لكون الهدية فيها محذور كأن يرد القاضي الهدية، وكذا الموظف أو المدرس ونحوهم، فإنه يبين السبب لتطيب نفس المهدي، وليكون من باب إنكار المنكر إذا كان في شيء يُنْكَرُ على المهدي، كأن تكون الهدية فيها حق للغير: كالمغصوب والمسروق والمختلس، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
الدواب التي تُقْتَل في الحل والحرم
736/9 ـ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَم: الغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «جزاء الصيد»، باب «ما يقتل المحرم من الدواب» (1829)، ومسلم (1198) من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، به مرفوعاً. وهذا لفظ البخاري، وفي رواية عند مسلم من طريق سعيد بن المسيب، عن عائشة رضي الله عنها، «خمس فواسق يقتلن في الحلِّ والحرم».
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/174)
قوله: (خمس) مبتدأ وهو نكرة، لكنه تخصص بالصفة بعده، وخبره جملة «كلهن فاسق» ، ولا مفهوم لقوله: «خمس» ، فقد جاء عند مسلم بلفظ: «أربع كلهن فاسق...» [(549)] بإسقاط العقرب، وجاء في «مستخرج أبي عوانة على مسلم» بلفظ: «ست فواسق...» فأضاف الحية[(550)].
قوله: (من الدواب) جمع دابة، وهي ما يدب على الأرض من طير وغيره.
قوله: (فاسق) اسم فاعل من الفسق، وهو في الأصل العصيان والخروج على الطاعة، ووصف هذه الدواب بالفسق، لفسق مخصوص، وهو خروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد.
قوله: (يقتلن) الجملة خبر بمعنى الأمر، وقد جاء في «مسند أبي عوانة»: «ليقتل المحرم الفأرة...» الحديث[(551)]. وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل الندب والإباحة، والأخير أقرب.
قوله: (في الحرم) وفي رواية: «في الحل والحرم» والحل: ما خرج عن حد الحرم. والحرم: أي حرم مكة، وما كان داخل الأميال التي تبعد عن الكعبة بنسب مختلفة، وفائدة ذكر (الحرم) نفي ما قد يتوهم من أن الجواز خاص بالحل دون الحرم.
قوله: (الغراب) طائر معروف، وقيد في رواية مسلم بـ(الأبقع)، وهو ما في بطنه أو ظهره بياض.
قوله: (الحدأة) بكسر الحاء وفتح الدال بوزن عِنَبَة، طائر من الجوارح يعيش على أكل الجيف وصغار الطيور والحيوان.
قوله: (العقرب) دابة معروفة، تلسع بشوكة في طرف ذيلها، فتفرز مادة سامة، وهو لفظ يطلق على الذكر والأنثى، وقد مضى ذكر ذلك في آخر «شروط الصلاة».
قوله: (والفأرة) بهمزة ساكنة، وقد تسهل، فيقال: فار؛ دابة معروفة، تخرق الأوعية لأكل ما فيها، وتحفر البيوت.
قوله: (والكلب العقور) صيغة مبالغة من العقر، وهو العض والجرح، فالعقور: هو الذي يجرح بنابه أو ظفره.(1/175)
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز قتل هذه الدواب الخمس في الحل والحرم للمحلّين والمحرمين، وعلة قتلها اتصافها بالفسق والعدوان، فيلحق بها ما اتصف بهذه الصفة وإن لم تكن من طبيعته، كالحية والأسد والذئب، وظاهر الحديث أنها تقتل وإن كانت صغيرة اعتباراً بمآلها.
قال ابن قدامة: (إن الخبر نصَّ من كل جنس على صورة من أدناه، تنبيهاً على ما هو أعلى منها، ودلالةً على ما كان في معناها، فنصه على الحدأة والغراب تنبيه على البازي ونحوه، وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات، وعلى العقرب تنبيه على الحية، وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلى منه، ولأن ما لا يضمن بمثله ولا بقيمته، لا يُضمن، كالحشرات)[(552)]. والله تعالى أعلم.
حكم الحجامة للمحرم
737/10 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ». مُتَّفَقٌ عَليْهِ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «جزاء الصيد»، باب «الحجامة للمحرم» (1835) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
وأخرجه مسلم (1202) من طريق سفيان، عن عمرو، عن طاوس وعطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: الحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم مطلقاً لضرورة وغيرها، أخذاً بظاهر الحديث، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم: أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وبعض السلف[(553)]، واشترطوا ألا يقطع شعراً، فإن قطع شعراً فدى، لعموم قوله تعالى: {{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}...} [البقرة: 196] ، ولأنه حَلْقُ شعرٍ لإزالة ضررٍ غيره فلزمته، كما لو حلق لإزالة قمله.(1/176)
وذهب بعض المالكية إلى أنه لا يحتجم إلا من ضرورة[(554)]، وذهب الحسن البصري إلى أن في الحجامة فدية مطلقاً، ولو لم يقطع شعراً[(555)].
والقول الأول أرجح، وهو جوازها مطلقاً، أخذاً بظاهر الحديث، وأما إيجاب الفدية في قطع الشعر فهذا يحتاج إلى دليل، فإنه لم يثبت في السنة ما يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم فدى لما احتجم أو أمر بالفدية، والمقام مقام بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ثم إن الشعر الذي يزال من أجل المحاجم لا يُزال به الأذى، فهو قليل بالنسبة لبقية شعر الرأس، والذي فيه الفدية هو حلق جميعه، وأما حلق بعضه فهو محرم ولا فدية فيه، فإن كان لحاجة، كالحجامة فلا تحريم ولا فدية، وهذا ظاهر اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(556)].
ومما ينبغي أن ينبه عليه أنه لا بأس بحك المحرم رأسه، ولو سقط منه شيء بغير قصد فإنه لا يضر، وقد اغتسل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو محرم، وغسل الرأس قد يحصل منه تساقط بعض الشعر، وترى من الحجاج من إذا أراد أن يحك رأسه نقر بأصبعه على رأسه خوفاً من أن يتساقط شعر، وهذا من التنطع في الدين، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً[(557)]، والله تعالى أعلم.
فدية حلق المحرم رأسه
738/11 ـ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً؟»، قُلْتُ: لاَ، قَالَ: «فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكينٍ نِصْفُ صَاعٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/177)
وهو كعب بن عجرة بن أمية القضاعي، حليف الأنصار، شهد غزوة الحديبية، ونزلت فيه قصة الفدية، وقد أخرج ابن سعد بسند جيد: أن يده قطعت في إحدى الغزوات، سكن الكوفة، ثم مات في المدينة سنة إحدى وخمسين، عن خمس وسبعين سنة[(558)] رضي الله عنه.
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «جزاء الصيد»، باب «الإطعام في الفدية، نصف صاع» (1816)، ومسلم (1201) (85) من طريق شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، قال: جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة، حُملت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم... الحديث.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (فسألته عن الفدية) على حذف مضاف؛ أي: عن آية الفدية، بدليل الجواب، والفدية في باب «المناسك»: ما يجب بسبب ترك واجب في الحج أو فعل محظور في الإحرام، سميت بذلك؛ لأنها فداء للنفس عن العقوبة.
قوله: (نزلت فيَّ خاصةً) أي: نزلت في شأني، فهو سبب نزولها، وهي قوله تعالى: {{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}} [البقرة: 196] ، وخاصة: حال من الضمير في (نزلت).
قوله: (وهي لكم عامة) أي: إن حكمها لجميع الناس، و (عامة) أي: شاملة، وهي حال من (هي) .
قوله: (حُملت) أي: حملني أهلي، وكان ذلك في غزوة الحديبية سنة ست من الهجرة.
قوله: (والقمل يتناثر على وجهي) جملة حالية. والقمل: حشرة معروفة تنتشر في البدن بسبب كثرة الأوساخ غالباً، ومعنى: (يتناثر على وجهي) أي: يتساقط من رأسه على وجهه لكثرته، وكان كعب رضي الله عنه لا يقتله لكونه محرماً.
قوله: (أُرى) بضم الهمزة مبنياً للمجهول: بمعنى أظن مبنياً للمعلوم.
قوله: (الوَجَع) بفتحتين اسم جامع لكل مرض أو ألم.
قوله: (ما أَرى) بفتح الهمزة: ما أشاهد.(1/178)
قوله: (تجد شاة؟) بحذف همزة الاستفهام، والشاة: واحدة من الغنم ذكراً أم أنثى، ضأناً أم معزاً، والرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يسأله عن قدرته على الفدية إلا ليأذن له بالحلق، كما في بعض الروايات الأخرى: «احلق رأسك» .
قوله: (مساكين) جمع مسكين، وهو من لا يجد من النفقة ما يكفيه وعائلته.
قوله: (نصف صاع) أي: مُدَّان، والصاع أربعة أمداد، كما تقدم في «الزكاة»، وظاهر الحديث الإطلاق؛ أي: سواء كان بُرّاً أو غيره، فتكون الآصع ثلاثة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المحرم إذا كان به أذى من رأسه لقمل أو نحوه، فإنه يجوز له أن يحلق رأسه، ولا إثم عليه؛ لأنه حلق لعذر، ولكن يجب عليه الفدية، لقوله تعالى: {{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ}} [البقرة: 196] .
وقد جاءت السنة ببيان هذه الآية، وأن الصيام ثلاثة أيام، ولا يشترط فيها التتابع؛ لأن ما أطلقه الشرع عُمل به على إطلاقه، وأن الإطعام ثلاثة أصواع، لكل مسكين نصف صاع، وأن النسك ذبح شاة يتصدق بها على الفقراء، وهذه الفدية على التخيير كما دل عليه القرآن، وأما حديث الباب فليس فيه التخيير إلا بين الإطعام والصيام، لكن جاء في رواية عند مسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى: «فاحلق، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة...» [(559)].
وقد رجح بعض العلماء، كابن حزم رواية ابن أبي ليلى؛ لأنها موافقة للقرآن في التخيير، وقال ابن عبد البر: (عامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وبالله التوفيق)[(560)].
الوجه الخامس: ظاهر الحديث أن فدية فعل المحظور حيث فُعِلَ؛ لأن قوله: «انسك شاة» عام غير مقيد بالحرم، فيدفعها إلى مستحقها في المكان الذي فعل فيه المحظور، وهذا بالنسبة إلى الشاة أو الإطعام، وهذا قول الإمام مالك، وأحمد[(561)].(1/179)
وقال الشافعي وأحمد في رواية: إن الفدية بمنزلة النسك، لا بد أن تكون لمساكين الحرم[(562)]، وعند الشافعية قول ثالث، وهو جواز الذبح في غير الحرم بشرط أن يبلغ اللحم طرياً بحيث تقع تفرقته في الحرم، وينصرف إلى مساكينه قبل تغيره لحصول المقصود[(563)]. والأول أقرب، لظاهر الحديث، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر كعب بن عجرة بالفدية، وهذا في الحديبية ـ كما تقدم ـ، ولم يأمره ببعثه إلى الحرم[(564)].
الوجه السادس: حلق الرأس هو المحظور الوحيد الذي دل النص على وجوب الفدية فيه، وأما غيره من محظورات الإحرام، كتغطية الرأس، أو الطيب، أو حلق بقية شعر البدن، ونحوها فإيجاب الفدية بطريق القياس على فدية حلق الرأس، وذكر العلماء أن العلة هي الترفه؛ لأن حلق شعر الرأس تحصل به النظافة، بدليل أنه كلما نما الشعر زاد وسخه وكثر فيه القمل والرائحة، لكن قد ينازع في هذا القياس بأن المحرم ليس ممنوعاً من الترفه، فله أن يترفه في الأكل، بأن يأكل من الطيبات ما شاء، وله أن يترفه في اللباس، وله أن يترفه بإزالة الأوساخ بالاغتسال ونحوه.
الوجه السابع: دل الحديث على أن الفدية على التخيير بين الأمور الثلاثة: الإطعام، أو ذبح الشاة، أو الصيام، مع أن كثيراً ممن يفتون الناس بما يجب على من فعل محظوراً، يلزمونه بالدم، وهذا فيه تضييق، وإنما هو مخير بين الأشياء المذكورة، فيختار واحداً منها.
الوجه الثامن: ورد النص بحلق شعر الرأس، وقد ذهب الجمهور من أهل العلم إلى تحريم أخذ شيء من شعر البدن قياساً على شعر الرأس، وأن ذلك من محظورات الإحرام، على خلاف بينهم فيما يجب على من فعل ذلك؛ بل حكاه ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما إجماعاً[(565)].(1/180)
قال الإمام أحمد: (شعر الرأس، واللحية، والإبط، لا أعلم أحداً فرق بينهما)[(566)]، وذهب داود الظاهري إلى جواز أخذ شعر البدن غير الرأس، وأنه لا فدية في ذلك، واختاره ابن حزم، مستدلاً بأنه لم يرد في المنع من ذلك دليل، وردَّ الإجماع الذي تقدمت حكايته[(567)].
قالوا: وهذا هو ظاهر القرآن، فإن الله تعالى قال: {{وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}}، فخصَّ شعر رأسه بالمنع، فوجب أن يختص به الحكم[(568)]، والله تعالى أعلم.
والقول بأن حلق الشعر من محظورات الإحرام قول وجيه، لقوله تعالى: {{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}}، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التفث: الرمي والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار)، وهذا يفيد أن المحرم كان ممنوعاً من ذلك وقت الإحرام، وهو قول مجاهد وعكرمة وغيرهما[(569)].
ويؤيد هذا كلام أهل اللغة. فقد قال الجوهري: (التفث في المناسك: ما كان من نحو قص الأظفار والشارب، وحلق الرأس والعانة، ورمي الجمار، ونحر البُدن، وأشباه ذلك)[(570)]. والله تعالى أعلم.
حرمة مكة
739/12 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلّى الله عليه وسلّم مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي النَّاسِ. فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْن».(1/181)
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلاَّ الإذْخِرَ، يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبيُوتِنَا، فَقَالَ: «إِلاَّ الإذْخِرَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «اللقطة»، باب «كيف تُعرَّف لقطة أهل مكة؟» (2434)، ومسلم (1355) من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه... وذكر الحديث.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لما فتح الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم مكة) أي: سنة ثمانٍ من الهجرة في شهر رمضان.
قوله: (قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس) ظاهره أن الخطبة وقعت عقب الفتح، وليس كذلك، فقد ورد الحديث عند البخاري في كتاب «العلم» من طريق شبيان، عن يحيى بلفظ: (إن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فركب راحلته، فخطب فقال...) الحديث[(571)].
قوله: (إن الله حبس عن مكة الفيل) أي: منعه من الانبعاث، وفيه إشارة إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة لهدم البيت ومعهم فيلة، ويتقدمهم فيل عظيم، فنسبوا إليه، فحمى الله تعالى بيته منهم وأبطل كيدهم، وأضاع جهدهم، وأهلكهم الله تعالى بما قصه في القرآن.
قوله: (وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين) سلَّط: بتشديد اللام، من التسليط، وهو التمكين والتغليب، فأخذوها عنوة، وبعث الله في قلوب أهلها الرعب فلم يستطيعوا المقاومة، ودخلها المسلمون بعشرة آلاف مقاتل، وحصل قتال يسير، وأمَّنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: (ساعة من نهار) أي: وقتاً من نهار، وهي ساعة الفتح من طلوع الشمس إلى صلاة العصر.
قوله: (فلا يُنفَّر صيدها) مبني لما لم يُسَمَّ فاعله، بتشديد الفاء؛ أي: لا يزعج من مكانه ولا يطرد.(1/182)
قوله: (ولا يُختلى شوكها) مبني لما لم يُسَمَّ فاعله، يقال: اختلى الحشيش أو الشجر: قطع الرطب من الكلأ، أما اليابس فيسمّى: حشيشاً. وقوله: (شوكها) أي: شجرها ذو الشوك أو الشوك نفسه، وخصه بالذكر، إما لأن غالب شجر مكة منه، وإما ليبين عموم الحكم فيما يؤذي وغيره.
قوله: (ولا تحل ساقطتها) الساقطة: هي اللقطة، وهي المال الذي ضاع من صاحبه.
قوله: (إلا لمنشد) وهو المعرّف للقطة، يقال: أنشد الضالة: عَرَّفَها، ونشد الضالة ينشدها ـ من باب (قتل) ـ: طلبها، ويطلق ـ أيضاً ـ على تعريفها.
قوله: (فهو بخير النظرين) أي: يختار أحد الأمرين، إما الدية، أو قتل القاتل.
قوله: (إلا الإذخر) بكسر الهمزة: هو نبت معروف له رائحة طيبة، قضبانه دقيقة تجتمع في أصل مندفن في الأرض.
قوله: (فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا) تعليل قصد به بيان حاجة الناس إلى الإذخر في البيوت، حيث يجعلونه في السقوف تحت الطين وفوق الخشب، ليسد الخلل، ويمسك الطين فلا يسقط، وفي القبور حيث يسدون به خلل اللبِن.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الخطبة لموعظة الناس أو بيان حكم من الأحكام الشرعية.
الوجه الرابع: مشروعية بدء الخطبة بحمد الله تعالى والثناء عليه، وهذه عادة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقدم بيان ذلك في باب «الجمعة».
الوجه الخامس: الحديث دليل على عظم قدرة الله تعالى، حيث حمى بيته ممن أراد هدمه، مما يدل على حرمة هذا البيت وشرفه، ووجوب تعظيمه، وإذا كانت حماية الله تعالى لبيته مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفاراً، فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد.
الوجه السادس: تحريم القتل والقتال بمكة، والمراد بذلك جميع الحرم؛ لأنه لم يحل فيها القتال لأحد قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ـ أيضاً ـ سوى ساعة من نهار، لضرورة تخليصها من الشرك والمشركين.
واستثنى العلماء شيئين:(1/183)
1 ـ القتال مدافعة، فيجوز لمن اعتدى عليه أحد بمكة أن يقاتله إذا لم يندفع بدون ذلك.
2 ـ قتل من جنى في مكة جناية تحل قتله، مثل: القاتل عمداً، والزاني المحصن إذا تمت الشروط.
الوجه السابع: تحريم تنفير صيد مكة أو إيذائه بما هو أعظم أو قتله، ويدخل في ذلك تنفيره ليخرج عن الحرم من أجل صيده.
الوجه الثامن: تحريم قطع شجر مكة، والمراد جميع الحرم وإن كان مؤذياً كالشوك، تأكيداً لحرمة هذا المكان.
وليس في قطع شجر الحرم جزاء على الراجح من قولي أهل العلم؛ لأنه ليس في السنة ما يدل على ذلك، وقد ورد عن بعض السلف إيجاب الجزاء، ويحتمل أنه من باب التعزير، وقال عطاء: (يستغفر الله ولا يعود، ولا شيء عليه)[(572)].
ويستثنى من ذلك ما أنبته الآدمي؛ لأنه ملكه، والحديث فيه إضافة الشجر والحشيش إلى مكة لأنه قال: «شوكها» ، وما ملكه الآدمي فإنه يضاف إليه، كذا يستثنى الإذخر.
الوجه التاسع: تحريم التقاط لقطة مكة إلا لمن أراد أن يعرِّفها دائماً، ولعل الحكمة من ذلك ـ والله أعلم ـ زيادة الأمن على الأموال بمكة، فإن الناس لا يلتقطون اللقطة إذا علموا أنهم لا يملكونها بالتعريف، فإذا تركوها عاد صاحبها فوجدها، والله المستعان!.
الوجه العاشر: الحديث دليل على أن من قتل له قتيل، فهو مخيّر بين القصاص أو العفو عن القصاص وأخذ الدية، وفي المسألة تفاصيل محلها كتاب «القصاص».
الوجه الحادي عشر: استدل بعض الأصوليين بقوله: «إلا الإذخر» على صحة الاستثناء، ولو كان منفصلاً ما دام الكلام واحداً؛ لأن كلام العباس رضي الله عنه جاء فاصلاً بين المستثنى والمستثنى منه، لكن لما كان كلامه في الموضوع نفسه صحَّ الاستثناء[(573)]، والله تعالى أعلم.
حرمة المدينة(1/184)
740/13 ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «البيوع»، باب «بركة صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومُدِّه» (2129)، ومسلم (1360) من طريق عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم الأنصاري، عن عمه عبد الله بن زيد بن عاصم، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:... الحديث.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم حرّم مكة، ودعا لأهلها بالبركة وسعة الرزق، كما قال تعالى حكاية عنه: {{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ...} [البقرة: 126] . ولا منافاة بين هذا وما تقدم من أن الله تعالى حرم مكة، فإن تحريم إبراهيم لمكة بتحريم الله تعالى إياها.
قال ابن عبد البر: (هذا من فصيح كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبلاغته، وفيه استعارة بينة؛ لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والمدِّ، لا في الظروف، والله أعلم، وقد يحتمل ـ على ظاهر العموم ـ أن يكون في الطعام والظروف)[(574)].
الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرَّم المدينة وأنها حرم، وذلك بألا ينفَّر صيدها، ولا يقطع شجرها، وقد روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عِضَاهُها أو يقتل صيدها» [(575)]. والعِضَاهُ: كل شجر فيه شوك.(1/185)
ولكن ليس في صيد المدينة جزاء على القول الراجح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجعل فيه جزاء، وقد نقل القاضي عياض، ومن بعده النووي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن الشافعي في قوله القديم أن من صاد في حرم المدينة أو قطع شجرها أُخذ سلبه[(576)] ـ وهو ما معه من ثياب وسلاح ودابة وغيرها ـ.
وقد ورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصرِهِ بِالعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْداً يَقْطَعُ شَجَراً، أَو يَخْبِطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ العَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلامِهِمْ، أَو عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئاً نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيهِمْ)[(577)].
وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في المدينة: «لا يختلى خلاها، ولا ينفّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره» [(578)].
الوجه الرابع: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا لأهل المدينة بالبركة وسعة الرزق، لقوله: «وإني دعوت في صاعها ومدها بمثليْ ما دعا إبراهيم لأهل مكة» ، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري، ورواية أخرى لمسلم: «مثل» ، فدلت الرواية الأولى على أن الدعاء كان بمضاعفة النماء والبركة، وقد ورد في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي آخره: «اللّهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه...» [(579)].(1/186)
وقد ذكر القاضي عياض عدة معانٍ في معنى الدعاء بالبركة في صاع أهل المدينة ومُدِّهم، ونقلها عنه النووي، ثم قال: (والظاهر من هذا كله أن البركة في نفس المكيل في المدينة، بحيث يكفي المدُّ فيها لمن لا يكفيه في غيرها. والله أعلم)[(580)].
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (ومن سكن المدينة يعرف ذلك، يعرف ما فيها من البركة في طعامها وشرابها، وما يحصل لأهلها من الكفاية بالقليل، ولا سيما في حق أهل الإيمان والتقوى)، والله تعالى أعلم.
حدود حرم المدينة
741/14 ـ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): «المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلى ثَوْرٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الفرائض»، باب «إثم من تبرأ من مواليه» (6755)، ومسلم (1370) من طريق الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال علي رضي الله عنه: (ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، غير هذه الصحيفة، قال: فأخرجها فإذا فيها أشياء من الجراحات، وأسنان الإبل، قال: وفيها «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور...» ) الحديث بتمامه، وعزوه لمسلم فقط وَهْمٌ من الحافظ.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن حرم المدينة يحده من الناحية الجنوبية جبل عَيْرٍ، وهو جبل أسود بحمرة مستطيل من الشرق إلى الغرب يشرف على المدينة من الجنوب، قرب ذي الحليفة، ويحدها من الجهة الشمالية: جبل ثور، وهو جبل صغير مدوَّر خَلْفَ جبل أُحُدٍ من شماليه[(581)].(1/187)
أما حدها الشرقي والغربي فهما الحرَّتان الشرقية والغربية، لما تقدم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إني أحرم ما بين لابتي المدينة...» ولابتاها: حرَّتاها: الشرقية شرقي البقيع، وتسمّى: حرة واقم، وحرة بني حارثة، وهي داخلة في الحرم، لحديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حُرِّم ما بين لابتي المدينة على لساني» قال: وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بني حارثة، فقال: «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم» ، ثم التفت فقال: «بل أنتم فيه» [(582)].
والحرة الغربية غربي سلع، وتسمّى: حرة الوبرة، وتنتهي عند وادي العقيق، وهي داخلة في الحرم، بدليل حديث الباب؛ لأنها واقعة بين عير وثور، والحرة: أرض تعلوها حجارة سود، كما تقدم في «الصيام».
وفائدة معرفة حدود حرم المدينة هي ما يترتب على ذلك من حصول البركة بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحريم الصيد، ومنع الدجال منها، وكونها لا يدخلها الطاعون، إلى غير ذلك مما ثبت في الأحاديث الصحيحة[(583)]، أما مضاعفة الصلاة فهي خاصة بالمسجد النبوي دون غيره من مساجد المدينة، كما سيأتي إن شاء الله[(584)]، والله تعالى أعلم.
باب صفة الحج، ودخول مكة
هذا الباب عقده الحافظ رحمه الله لذكر الأحاديث في بيان صفة الحج.
وما شرع فيه من أقوال وأفعال، ابتداء بالطواف، ثم السعي، والإحرام بالحج يوم التروية، والخروج إلى منى، ثم عرفة، والإفاضة إلى مزدلفة، والرمي، والمبيت بمنى، والوداع، كما ذكر الأحاديث في كيفية دخول مكة، من مشروعية الاغتسال، ومن أين يدخلها؟ إلى غير ذلك مما ورد في هذا الباب، وقد بدأ بحديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ذكر بعده، ستة وثلاثين حديثاً.
صفة حج النبي (ص)(1/188)
742/1 ـ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حَجَّ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَالَ: «اغْتَسِلي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي».
وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيد: «لَبَّيْكَ اللَّهُمْ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ».
حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلاثاً وَمَشَى أَرْبَعاً، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكن فَاسْتَلَمَهُ.
ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}} [البقرة: 158] ، «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»، فَرَقِيَ الصَّفَا، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ».
ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى المَرْوَةِ، حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى إِلَى المَرْوَةِ، فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ، كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا... فَذَكَرَ الحَدِيث. وَفِيهِ:(1/189)
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلى مِنًى، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَصَلَّى بِهَا الظُهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَة فَنَزَلَ بِهَا.
حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ.
ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيئاً.
ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً، حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَدَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ»، كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ.
حَتَّى أَتَّى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيئاً، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِيْنَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَّى المَشْعَرَ الحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى أَسْفَرَ جِدّاً.
فَدَفَعَ قبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً.(1/190)
ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلُ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَنْحَرِ، فَنَحَرَ.
ثُمْ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُهْرَ. رَوَاهُ مُسْلِم مُطَوَّلاً.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم» (1218) من طريق حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم، حتى انتهى إليَّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين[(585)]، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذٍ غلام شاب، فقال: مرحباً بك يا ابن أخي سلّ عمّا شئت، فسألته وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقام في نِسَاجة[(586)] ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب[(587)]، فصلّى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال بيده، فعقد تسعاً، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم أذَّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه... وساق الحديث بطوله.(1/191)
وهذا الحديث من أفراد مسلم دون البخاري، وقد بدأ المؤلف أحاديث هذا الباب بحديث جابر رضي الله عنه لاشتماله على مسائل كثيرة، ثم ساق بعده الأحاديث المتعلقة بمسائل لم ترد فيه، وهو حديث عظيم شامل لأكثر ما ورد في حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويعتبر منسكاً مستقلاً، ولا سيما إذا جمعت رواياته وضم بعضها إلى بعض[(588)]، فإنه ذكر صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعظم أفعاله من خروجه من المدينة إلى رجوعه، ولكن المؤلف اختصر في أثنائه، وسيذكر الحافظ طرفاً منه في باب «الوكالة» من كتاب «البيوع»، ثم في باب «النفقات».
وسيكون الكلام ـ إن شاء الله ـ على مفرداته وجمله وفوائده، في كل جملة على حدة نظراً لطوله، وأضيف أثناء ذلك من روايات الحديث ما أرى له أهمية.
الوجه الثاني: قوله: (إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج) أي: مكث في المدينة، وأما في مكة فقد حج واحدة باتفاق[(589)]، كما ثبت في حديث أبي إسحاق قال: حدثني زيد بن أرقم: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة، لم يحجَّ بعدها: حجة الوداع)، قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى[(590)].
وقد ذكر الحافظ ابن كثير[(591)] أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعد الرسالة يحضر مواسم الحج ويدعو الناس، وجزم الحافظ ابن حجر بأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يترك الحج وهو بمكة قط، وقد ثبت دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية، وقد اعتمر صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة أربع عُمَر، كلهن في ذي القعدة[(592)].(1/192)
الوجه الثالث: قوله: (إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجٌّ) وهي حجة الوداع كما تقدم، وهي سنة عشر، كما قال جابر رضي الله عنه، وكان خروجه صلّى الله عليه وسلّم من المدينة يوم السبت[(593)]، لخمس بقين من ذي القعدة، كما تقدم، وقدم مكة يوم الأحد رابع ذي الحجة[(594)]، فيكون صلّى الله عليه وسلّم مكث في الطريق ثمان ليال[(595)].
الوجه الرابع: قوله: (فخرجنا معه) في هذا دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم بأفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم لاتباعه والتأسي به عليه الصلاة والسلام. ويستفاد من ذلك الحث على صحبة أهل العلم والفضل في الأسفار ولا سيما في الحج، لما في ذلك من الخير الكثير من الاستفادة من علمهم وأخلاقهم، إضافة إلى حفظ الوقت وصرفه فيما ينفع ويفيد، وهذا شيء ملاحظ ومحسوس.
الوجه الخامس: قوله: (فولدت أسماء بنت عميس) وهي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ولدت له محمداً في الميقات، وكانت قبل ذلك تحت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وأولاده منها، وبعد وفاة أبي بكر تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
والعجيب في الأمر أنه لم يرد لأسماء رضي الله عنها ذكر في حديث جابر رضي الله عنه في غير هذا الموضع مع كثرة طرقه وتعدد ألفاظه، فلا يُدرى ماذا صنعت فيما بعد؟ هل طهرت قبل رجوعهم فطافت، وهذا فيه بعد؟ أم أنها بقيت على نفاسها؟ وهل أذن لها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تطوف وهي نفساء من باب الضرورة؟ أم أنه أمر أحد محارمها أن يبقى معها؟ كل هذا مسكوت عنه، فالله تعالى أعلم بما كان من أمرها.
الوجه السادس: قوله: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي) الاستثفار: أن تشد المرأة على وسطها شيئاً ثم تأخذ خرقة عريضة تجعلها في محل الدم وتشدها من ورائها وقدامها ليمتنع الخارج، وفي معناها الوسائل المعروفة الآن عند النساء.(1/193)
وفي هذا القدر دليل على أن النفساء وفي معناها الحائض إذا وصلت الميقات أنها تغتسل كالطاهرات ـ كما تقدم ـ وتتحفظ عن خروج الدم وتحرم، وتقدم الكلام على الاغتسال عند الإحرام.
الوجه السابع: قوله: (ثم ركب القَصواء، حتى إذا استوت به على البيداء أهلَّ بالتوحيد) القصواء ـ بفتح القاف ـ: وهي الناقة التي قطع طرف أذنها، وناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن مقطوعة الأذن، وإنما لقبها به حباً. وفي هذا دليل لمن قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهلَّ من البيداء، وتقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم أهلَّ عندما استوت به راحلته عند المسجد.
ومعنى (أهلَّ) رفع صوته بالتلبية، التي تشتمل على توحيد الله بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، فالتلبية شعار التوحيد الذي هو ملة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، وهو روح الحج ومقصده؛ بل روح العبادات كلها؛ لأن قوله: (والملك) من توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية مستلزم توحيد الألوهية، وفي قوله: (إن الحمد والنعمة) توحيد الأسماء والصفات، فإن الحمد: وصف المحمود بالكمال مع محبته وتعظيمه، والنعمة: من صفات الأفعال. وفي قوله: (أهلَّ) دليل على مشروعية رفع الصوت بالتلبية، كما تقدم.(1/194)
الوجه الثامن: قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي: إجابة لك بعد إجابة، ولهذا المعنى كررت التلبية إيذاناً بتكرير الإجابة[(596)]، وهو منصوب بالياء إلحاقاً له بالمثنى، والمراد به التكثير، والناصب له فعل محذوف تقديره: أجيبك إجابة بعد إجابة، وينبغي للمحرم أن يستحضر ـ وهو يقول: لبيك ـ دعاء الله تعالى له وإجابته إياه، لا أن تكون عبارات التلبية مجرد ألفاظ تُردد؛ بل عليه أن يستحضر ذلك منذ خروجه من بلده، قال تعالى: {{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *}} [الحج: 27] ، فالتلبية تتضمن إجابة داعٍ دعاك ومنادٍ ناداك؛ إذ لا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه.
وقوله: (لبيك لا شريك لك) التكرار للتأكيد، وهو أنه مجيب لربه، مقيم على طاعته، وقوله: (لا شريك) أي: فيما ذكر.
وقوله: (إن الحمد...) بكسر الهمزة وفتحها، فالكسر على أنها جملة مستأنفة، معناها: الحمد لله على كل حال، والفتح على التعليل؛ أي: لبيك لأن الحمد والنعمة لك، فيرجع الحمد والنعمة إلى التلبية، والكسر أجود؛ لأنه أعم؛ لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال.
و(الحمد): الوصف بالكمال مع المحبة والتعظيم، و(النعمة): الفضل والإحسان، ويدخل في هذا جميع النعم الظاهرة والباطنة، (لك) اللام الاختصاص؛ لأن الله وحده المحمود والمنعم.
قوله: (والملك) أي: ملك الخلائق وتدبيرها لك وحدك، وهو بالرفع مبتدأ، وبالنصب على المشهور عطفاً على (إن) ، والخبر محذوف، تقديره: لك.
وقوله: (لا شريك لك) أي: لا شريك لك فيما ذكر من استحقاق الثناء، وإيصال النعمة. قال تعالى: {{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}} [النحل: 53] .(1/195)
وفي هذا دليل على مشروعية التلبية، وفيها التنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه عزّ وجل، والتلبية تتضمن المحبة؛ لأنك لا تقول: (لبيك) إلا لمن تحبه وتعظمه، كما تتضمن التلبية التزام دوام العبودية، والخضوع، والذل، والإخلاص، كما أنها تتضمن الإقرار بسمع الربِّ؛ إذ يستحيل أن يقول الرجل: (لبيك) لمن لا يسمع دعاءه والتلبية جعلت في الإحرام شعار للانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك، فهي كالتكبير جعل في الصلاة للانتقال من ركن إلى ركن[(597)].
وقال جابر رضي الله عنه: (ولزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلبيته) ، وهذا يدل على أن الأفضل الاكتفاء بتلبيته صلّى الله عليه وسلّم لملازمته لها، مع أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسمع الناس يزيدون، فأقرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما قال جابر رضي الله عنه، وهذا يدل على جواز الزيادة على التلبية النبوية.
الوجه التاسع: قوله: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) الاستلام: افتعال من السلام، وهو التحية، أو من السِّلام ـ بكسر السين ـ وهي الحجارة، قال الجوهري: (استلم الحجر: لمسه بالقُبلة أو باليد)[(598)]. وقال ابن تيمية: (الاستلام: هو مسحه باليد)[(599)]، والمراد بالركن: الحجر الأسود؛ لأنه المراد عند الإطلاق، وسمي ركناً؛ لأنه في ركن الكعبة.
فهذا فيه مشروعية استلام الحجر الأسود قبل بدء الطواف إن تيسر وإلا بدأ بالطواف وتركه.
الوجه العاشر: قوله: (فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) أي: طاف بالبيت فرمل ثلاثة أشواط ومشى الأربعة الباقية، وهذا الطواف هو طواف القدوم، والرمل ـ بالفتح ـ: الإسراع في المشي من غير مباعدة للخطوات ولا وثب.
وهذا فيه دليل على مشروعية الرَّمَلِ في الأشواط الثلاثة الأُول من طواف القدوم، وهو أول طواف يأتي به القادم إلى مكة، سواء أكان لحج أم لعمرة، وأما الأربعة الباقية فيمشي فيها.(1/196)
فإن نسي الرمل لم يقضه في الأربعة الباقية، لئلا يغير هيئتها. فإن لم يستطع الرمل مع القرب؛ لقوة الزحام، فمن أهل العلم من قال: يخرج إلى حاشية المطاف؛ لأن المحافظة على فضيلة تتعلق بنفس العبادة أولى من المحافظة على فضيلة تتعلق بمكان العبادة أو زمانها، ومنهم من قال: يطوف قريباً على حسب حاله؛ لأن الرمل هيئة، فهو كالتجافي في الركوع والسجود، ولا يترك الصف الأول لأجل تعذرها، فكذا هنا[(600)].
الوجه الحادي عشر: قوله: (ثم أتى مقام إبراهيم فصلى) وفي «صحيح مسلم»: (فجعل المقام بينه وبين البيت)، ومقام إبراهيم: حجر كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه وهو يبني الكعبة حين ارتفع البناء، وهذا هو الصواب من عدة أقوال، لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بناء إبراهيم عليه السلام البيت، وفيه: (فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم...) الحديث[(601)].
وقد روى جابر رضي الله عنه: أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} [البقرة: 125] ، وفي رواية للنسائي: (ورفع صوته، يُسمع الناس)[(602)]، فصلى ركعتين قرأ فيهما: {{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}، و{{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}}[(603)]، وفي رواية: {{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *}}، و{{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}}[(604)].
وفي هذا دليل على أن السُّنَّة في ركعتي الطواف كونهما خلف المقام، فإن تيسر القرب منه فهو أفضل، فإن وجد زحاماً صلى بعيداً عن المقام، وتحصل السنة بذلك إذا جعله بينه وبين الكعبة، وإن صلاهما في أي مكان أجزأ.(1/197)
والركعتان حكمهما الوجوب على قول أبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، والمشهور من مذهب المالكية، ورواية عن أحمد[(605)] لظاهر الأمر في قوله تعالى: {{وَاتَّخِذُوا}}، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تلا الآية عند المقام.
والقول الثاني: أنهما سنة، وهو الأصح في مذهب أحمد، وقول مالك في إحدى الروايتين عنه، والأصح في مذهب الشافعي[(606)]؛ لأن ما عدا الصلوات الخمس ليس بواجب، وإنما هي تَطَوُّع، كما في حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أن أعرابياً قال: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاذَا فَرَض الله عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصَّلاةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَومِ وَاللَّيلَةِ» ، فَقَالَ: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لا إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ» [(607)].
وعلى القول بأنهما سنّة، فإن صلَّى فريضة بعد الطواف أجزأت عنهما[(608)]. وهذا قول ابن عباس[(609)] وابن عمر رضي الله عنهما، ومجاهد وطاوس وعطاء وغيرهم[(610)]، ولأنهما ركعتان شرعتا للنسك، فأجزأت عنهما المكتوبة، كركعتي الإحرام[(611)]. وأما على القول بوجوبهما فإنه لا يجزئ عنهما غيرهما؛ لأن الفريضة لا تجزئ عن الواجب، فإذا صلى المكتوبة صلى ركعتي الطواف بعدها. وقد ذكر البخاري تعليقاً عن نافع أنه قال: (كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي لكل سبوعٍ ركعتين)، وقال إسماعيل بن أمية: قلت للزهري: إن عطاء يقول: تجزئه المكتوبة من ركعتي الطواف، فقال: السنة أفضل، لم يطف النبي صلّى الله عليه وسلّم أسبوعاً قط إلا صلى ركعتين[(612)].
والقول بالإجزاء قوي، لكن الأفضل عدم الاقتصار على الفريضة؛ لأن ركعتي الطواف عبادة مستقلة شرعت من أجل الطواف فالأولى الإتيان بهما، ويؤيد ذلك عموم ما تقدم. قال الزركشي: (المنصوص عن أحمد الإجزاء، مع أن الأفضل عنده فعلهما)[(613)].(1/198)
الوجه الثاني عشر: قوله: (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ، فيه دليل على مشروعية استلام الحجر الأسود، بعد ركعتي الطواف، وقبل السعي إن تيسر وإلا تركه، وظاهر ذلك أنه لا يسن تقبيله ولا الإشارة إليه.
الوجه الثالث عشر: قوله: (ثم خرج من الباب إلى الصفا) المراد بالباب: باب الصفا، كما ورد في رواية للطبراني: (ثم خرج من باب الصفا)[(614)]، وهذا فيه مشروعية الخروج إلى الصفا من بابه، وكان المسجد الحرام في الزمن القديم له أبواب دون المسعى يخرج منها الناس، وأما الآن فيتجه إلى المسعى من جهة الصفا، وهذا فيه دليل على أنه ينبغي المبادرة بالسعي بعد الطواف، ولو أخَّر السعي فلا بأس، فإن الموالاة بين الطواف والسعي غير واجبة.
الوجه الرابع عشر: قوله: (فلما دنا من الصفا قرأ: {{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} }) الصفا: جمع مفرده صفاة، وهي الصخرة الصلبة الملساء، والمراد هنا: أسفل الجبل المعروف في أول المسعى. والمروة: الحجر الأبيض البَرَّاق الذي تقدح منه النار، والمراد هنا: أسفل الجبل المعروف في نهاية المسعى، ومعنى {{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}}: من أعلام دينه وأماكن عبادته، المأمور بها في الحج، كالوقوف والرمي والطواف، سميت شعائر لما تُشعر به من أعمال الحج، أو لما يُستشعر هناك من تعظيم الله تعالى والقيام بوظائفه.
وقد استحب بعض العلماء قراءة هذه الآية عند الدنو من الصفا، ويفهم من صنيع آخرين أنه لا يستحب قراءتها، ولذا لم يذكرها أكثر الفقهاء في هذا الموطن[(615)]، وهذا أقرب؛ لأن الظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها من أجل تعليم الناس، كما قرأ آية: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} عندما أراد صلاة ركعتي الطواف، فمن قال بقراءة الآية عند المسعى، لزمه أن يقول بقراءة الآية عند المقام، وظاهر رواية النسائي المتقدمة أن المقصود تعليم الناس.(1/199)
الوجه الخامس عشر: قوله: (أبدأ بما بدأ الله به) ، هذه رواية مسلم بلفظ الخبر (أبدأ)، وقد جاء عند النسائي بلفظ: (ابدؤوا بما بدأ الله به) بلفظ الأمر، ولكنها رواية شاذة[(616)].
وقد استدل الفقهاء بهذا على أن الترتيب شرط في السعي، وهو أن يبدأ بالصفا، فإن بدأ بالمروة لم يعتدَّ بذلك الشوط، فإذا صار على الصفا اعتدَّ بما يأتي به بعد ذلك[(617)].
الوجه السادس عشر: قوله: (فَرَقِيَ الصفا...) رَقِيَ: من باب تَعِبَ؛ أي: صَعَدَ، يقال: رقي في السلّم: صعد فيه، ورقي الجبل ونحوه: علاه وصعده، وفي هذا دليل على مشروعية الصعود على الصفا واستقبال البيت، لقوله: (حتى رأى البيت فاستقبل القبلة)، وكانت رؤية البيت في الزمن القديم ممكنة بسهولة، أما الآن فقد حال البناء دون ذلك، وتبقى سُنِّية استقبال البيت ولو لم يره.
الوجه السابع عشر: قوله: (فوحَّد الله وكبَّره، وقال:... إلخ) ، فيه أنه يسن على الصفا في بداية السعي أن يوحّد الله تعالى ويكبره، ويحمده، ويدعو، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، ويقول ما ورد هنا.
قوله: (ثم دعا بين ذلك ثلاث مرات) أي: يذكر الله تعالى ويثني عليه، ثم يدعو، ثم يذكر الله، ثم يدعو، ثم يذكر الله تعالى، فيكون الذكر ثلاثاً والدعاء مرتين، لقوله: (ثم دعا بين ذلك).
ويستحب رفع اليدين في هذا الموطن، لثبوته في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في فتح مكة، وفيه: (فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو)[(618)]، وأما في بقية السعي ـ عدا الوقوف على الصفا والمروة ـ وكذا الطواف فلا يشرع رفع اليدين، لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد ذكر ابن القيم أن حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم تضمنت ست وقفات للدعاء: على الصفا، وعلى المروة، وفي عرفة، وفي مزدلفة، وعند الجمرة الأولى، وعند الجمرة الثانية[(619)].(1/200)
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور زيادة أخرى على ما في حديث جابر رضي الله عنه، وهي حمد الله تعالى في بداية الدعاء، وقد ذكر الفقهاء هذا[(620)]، فالعمل بالحديثين حسن، فيحمد الله ويكبره، ثم يقول: لا إله إلا الله... إلخ.
قوله: (أنجز وعده) أي: بإظهار هذا الدين، وكون العاقبة للمتقين، وغير ذلك من وعده سبحانه وتعالى.
وقوله: (ونصر عبده) أي: نبيه محمداً صلّى الله عليه وسلّم على أعدائه.
وقوله: (وهزم الأحزاب) أي: غلبهم وكسرهم، (وحده) أي: بلا قتال من الناس، وفيه إيماء إلى قوله تعالى: {{وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}} [آل عمران: 126] والمراد بالأحزاب: القبائل الذين اجتمعوا حول المدينة وتحزبوا يوم الخندق، كما قال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}} [الأحزاب: 9] ، وقال تعالى: {{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا *}} [الأحزاب: 25] .
الوجه الثامن عشر: قوله: (ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي سعى...) ، قوله: (حتى انصبت) في «صحيح مسلم»: (حتى إذا انصبت)[(621)]، وهذا فيه بيان كيفية السعي، وهو أنه إذا انتهى من الدعاء والذكر نزل من الصفا ماشياً متجهاً إلى المروة، فإذا انصبت قدماه في بطن الوادي، أي: انحدرت، سعى سعياً شديداً، وكان هذا الجزء من المسعى في الزمن السابق وادياً، أما الآن فالأرض كلها مستوية، وقد جُعل العلم الأخضر الأول والثاني علامة على ضفتي هذا الوادي، فيسعى بينهما سعياً شديداً، فإذا جاوزه مشى إلى المروة، وليس على المرأة أو حامل المعذور سعي شديد.(1/201)
والحكمة من هذا السعي الشديد أنه كان وادياً، والوادي في الغالب يكون نازلاً، وقد كانت أم إسماعيل رضي الله عنها تمشي فيما بين الصفا والمروة، فإذا وصلت الوادي أسرعت في مشيها؛ لأن ابنها يغيب عنها إذا هبطت بطن الوادي.
الوجه التاسع عشر: قوله: (ففعل على المروة كما فعل على الصفا) أي: فيصعد المروة ويقول ما قاله على الصفا من الذكر والدعاء ثلاث مرات.
وعلى الإنسان أن يحرص على العمل بهذه السنن، ولا تأخذه العجلة فيترك الدعاء والذكر، ويقول في سعيه ما أحب من ذكر، ودعاء، وتلاوة القرآن، وينبغي للإنسان ـ وهو يسعى ـ أن يستشعر أنه في ضرورة إلى رحمة الله عزّ وجل، كما كانت أم إسماعيل رضي الله عنها في ضرورة إلى رحمة الله عزّ وجل، ومعنى ذلك أن المسلم يفزع إلى الله تعالى، ويستغيث به من آثار الذنوب وعواقبها، وذلك بالإلحاح في الدعاء، وصدق الالتجاء إلى الله تعالى.
وليس للسعي ـ كالطواف ـ دعاء معين، وأما تخصيص كل شوط بدعاء معين، فهذا لا أصل له، وإن دعا بين العلمين بقوله: (ربّ اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم) فحسن، لثبوت ذلك عن ابن عباس وابن عمر[(622)] رضي الله عنهم.
وقوله: (فذكر الحديث) هنا اختصار، فإن الحافظ حذف ما يتعلق بالأمر بفسخ الحج إلى العمرة، حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحابة رضي الله عنهم الذين ليس معهم هدي بالتحلل بعمرة بعد ما أتموا السعي، وقد تقدم الكلام على شيء من ذلك.
الوجه العشرون: قوله: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى...) في «صحيح مسلم»: (فأهلوا بالحج)، وعلى هذا فمعنى (توجهوا) : قصدوا وتهيأوا للرحيل من الأبطح، لا أنهم توجهوا بمشيهم إلى منى، فأحرموا منها، للإجماع على أنهم أحرموا في مكة[(623)]. ويوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون من الماء لما بعده، أي: يسقون ويستقون.(1/202)
وكان صلّى الله عليه وسلّم قد أقام بالأبطح حتى صبح اليوم الثامن، والأبطح: هو مسيل فيه دقاق الحصى، يقع شرقي مكة، فأحرم النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا المكان ومعه أصحابه قبل الزوال، ثم توجهوا إلى منى، وكان ذلك يوم الخميس.
والسنّة أن يحرم الحاج من المكان الذي هو فيه، سواء أكان في الأبطح أم في منى، والمكي إذا أراد الحج يُحرم من أهله.
وأما قول البهوتي شارح «الزاد»: (والأفضل من تحت الميزاب)[(624)]، أي: ميزاب الكعبة الذي يصب في الحِجْرِ، فهذا اجتهاد منه، وهو مخالف للسنة، فإنه لم ينقل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحرم من تحت الميزاب ولا أحد من أصحابه رضي الله عنهم.
الوجه الحادي والعشرون: قوله: (وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) ، أي: صلى كل صلاة في وقتها قصراً من غير جمع، وإنما ذكر جابر رضي الله عنه عدد هذه الصلوات الخمس هنا ليعلم الوقت الذي وصل فيه إلى منى، والوقت الذي خرج فيه منها إلى عرفة، والخروج إليها ومنها على هذه الصفة استحبه العلماء، استحبوا البيات في منى، وألا يخرج منها الحاج حتى تطلع شمس اليوم التاسع.
الوجه الثاني والعشرون: قوله: (حتى طلعت الشمس فأجاز حتى أتى عرفة) عرفة: مشعر خارج حدود الحرم؛ لأنها واقعة في الحل، وهي اسم لمكان الوقوف في الحج، سميت عرفة لارتفاعها على ما حولها، ويقال: عرفات، كما في القرآن.
وقوله: (فأجاز) يقال: جاز المكان: سار فيه، وأجازه؛ قطعه، والمعنى: جاوز المزدلفة ولم يقف بها؛ بل توجه إلى عرفات. وهذا فيه دليل على أنه يسن للحاج أن يبيت ليلة التاسع في منى إن تيسر، أما البيات قصداً في عرفة ليلة التاسع فهذا خلاف السنة.(1/203)
الوجه الثالث والعشرون: قوله: (فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها) نَمِرَةُ: بفتح النون وكسر الميم، جبال صغار هي منتهى حد الحرم من الجهة الشرقية، فهي محاذية لأنصاب الحرم، ووادي عرنة يفصل بينها وبين عرفة. والقبة: خيمة صغيرة.
وظاهر السياق يشعر بأن نمرة في عرفة، وبذلك قال بعض الفقهاء وعلماء اللغة.
والقول الثاني: أن نمرة ليست من عرفة، وبه جزم النووي، وابن تيمية، وابن القيم، وآخرون[(625)]، ويترتب على هذا الخلاف حكم حَجِّ من وقف بنمرة إلى الغروب ثم دفع إلى مزدلفة[(626)].
وعلى القول بأنها ليست من عرفة يكون معنى قوله: (حتى أتى عرفة) قارَبَ عرفة، أو أن مراد جابر أن منتهى سيره عرفة، وأنه لم يفعل كما تفعل قريش في الجاهلية، فتنتهي بمزدلفة وتقف فيه يوم عرفة.
وهذا القدر فيه فائدتان:
الأولى: جواز الاستظلال بما ليس ملاصقاً للرأس، كالشمسية، والخيمة، وسقف السيارة، ونحوها.
الثانية: استحباب الجلوس في نمرة إلى زوال الشمس إن تيسر ـ على أحد القولين ـ بناءً على أن الأصل التعبد في جميع أفعال الحج، إلا ما قام الدليل على أنه ليس كذلك، وإلا ذهب إلى عرفات واستقر بها ولو قبل الزوال.
الوجه الرابع والعشرون: قوله: (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي...) ، المراد بالوادي: وادي عرنة الذي فيه مقدمة المسجد؛ لأن المسجد بعضه في عرفة وبعضه خارج عرفة، وبطن الوادي موضع متسع، ولذا خصَّه النبي صلّى الله عليه وسلّم بخطبته، ولم يكن في هذا الموضع مسجد، وإنما بني في أول دولة بني العباس[(627)].
وهذا فيه بيان ما يفعله الإمام في عرفة، وهو أن يخطب الناس خطبة واحدة، يعلمهم ما يحتاجون إليه من مسائل العقيدة وأحكام دينهم، ويحثهم على الاجتماع والائتلاف، ويحذرهم التفرق والاختلاف، ويبين لهم مكائد الأعداء ودسائس المتربصين، والمقصود أن الخطبة يراعى فيها ما يناسب الزمان، إضافة إلى ما تقدم.(1/204)
وليست خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة خطبة جمعة، وإنما هي خطبة تعليم، ولذا خطب قبل الأذان ولم يجهر بالقراءة، فدل على أنه لم يصلِّ جمعة، وقد ذكر جابر خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم في عرفة.
الوجه الخامس والعشرون: قوله: (ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر) هذا فيه دليل على أن الخطبة قبل الصلاة، وعلى أن الأذان بعد الخطبة، ثم يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر جمعاً وقصراً، بأذان واحد وإقامتين. وهكذا يفعل الناس في سائر أنحاء عرفة، لا فرق في ذلك بين أهل مكة وغيرهم، وهذا الجمع قيل: إنه لأجل النسك، وقيل: لأجل السفر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر، كما قصر للسفر، بل لاشتغاله بالوقوف واتصاله عن النزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة، فكان جمع عرفة لأجل العبادة، وجمع مزدلفة لاجل السير الذي جدَّ فيه: وهو سير إلى مزدلفة...)[(628)].
الوجه السادس والعشرون: قوله: (ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات...) ، أي: ثم ركب من مكان خطبته وصلاته حتى أتى الموقف، وهو عند الجبل المعروف في شمال عرفة، ويسمى جبل (إلال) بوزن هلال، وتسميه العامة: جبل الرحمة[(629)].
والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف عند الجبل من جهته الجنوبية، فيكون الجبل عن يمينه، ويستقبل القبلة، ويكون حبل المشاة أمامه، وحبل المشاة ـ بالحاء المهملة ـ: هو صفهم ومجتمعهم في مشيهم. وقيل: حبل المشاة: طريقهم الذي يسلكونه. والصخرات: هي صخرات مفترشة بالأرض، تقع خلف الجبل، والواقف عندها يستقبل الجبل والقبلة معاً.
وعرفة كلها موقف، لكن يجب على الواقف أن يتأكد من حدودها، وهي علامات يجدها من يطلبها؛ لأنها واضحة، ومن وقف خارجها لم يصح حجه؛ لأن الحج عرفة، كما تقدم.(1/205)
الوجه السابع والعشرون: قوله: (واستقبل القبلة) ، فيه بيان أن الواقف بعرفة يستقبل القبلة؛ لأن الموقف موقف ذكر ودعاء، وعلى الحاج أن يستفيد من عشية هذا اليوم، فيكثر من الدعاء والاستغفار، متضرعاً مقبلاً مظهراً الضعف والافتقار، وقد ذكر الفقهاء أن وقوفه راكباً أفضل، لفعله صلّى الله عليه وسلّم، ولأنه أعون على الدعاء، وهذا الإطلاق فيه نظر.
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الأفضل يختلف باختلاف أحوال الناس، فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشق عليه ترك الركوب وقف راكباً، وإن كان جلوسه على الأرض أخشع له، وأحضر لقلبه جلس؛ لأن مراعاة الكمال الذاتي للعبادة أولى من مراعاة الكمال في المكان[(630)].
الوجه الثامن والعشرون: قوله: (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس...) هذا فيه بيان وقت الانصراف من عرفة وكيفيته، فوقته بعد غروب الشمس. والصفرة: لون دون لون الحمرة، وهو شعاع الشمس بعد مغيبها، وقوله: (حتى غاب القرص) بيان لقوله: (غربت الشمس)؛ لأن هذا يطلق مجازاً على مغيب معظم القرص، فأزال الاحتمال بقوله: (حتى غاب القرص)، وهذا فيه دليل على مشروعية الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس وتحقق كمال غروبها، وسيأتي الكلام على هذه المسألة ـ إن شاء الله ـ عند حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه.
ثم دفع إلى مزدلفة (وقد شنق للقصواء الزمام) أي: ضمَّ وضيَّق عليها الزمام، وذلك بالجذب، والزمام: بالكسر هو الخطام، وهو الخيط الذي يشد إلى الحلقة التي في أنف البعير ليقاد به ويمتنع به من الإسراع في المشي، وقد فسر ذلك بقوله: (حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله) ، و (مورك رحله) بفتح الميم وكسر الراء وقيل بفتحها[(631)]، وهو الموضع الذي يجعل عليه الراكب رجله إذا ملَّ من الركوب.
وقوله: (السكينة السكينة) منصوب على الإغراء بفعل محذوف؛ أي: الزموا.(1/206)
وقوله: (كلما أتى حبلاً...) في «صحيح مسلم» (من الحبال) وهو التل اللطيف من الرمل الضخم، والمعنى: أنه إذا أتى حبلاً من حبال الرمل أرخى لناقته قليلاً من أجل أن تصعد؛ لأن الناقة إذا شُدَّ زمامها شق عليها الصعود. وهذا فيه دليل على أنه ينبغي الدفع إلى مزدلفة بسكينة ووقار وخشوع وتكبير وتلبية، لئلا يضر الناس بعضهم بعضاً، وهذا يتأكد بالنسبة لسائقي السيارات، فإن عليهم السكينة والحرص على النظام ومراعاة خط السير، فإن وجد طريقاً مشى، وإلا انتظر حتى يمشي الذي أمامه، فهذا آمن له ولمن معه ولغيره من الحجاج.
الوجه التاسع والعشرون: قوله: (حتى أتى المزدلفة، فصلى بها...) المزدلفة: أحد المشاعر المقدسة، بين عرفة ومنى، سُميت بذلك لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات واجتماعهم فيها، والازدلاف: الاجتماع والاقتراب[(632)]، وسيأتي بيان حدودها إن شاء الله، وهذا القدر من الحديث فيه بيان ما يفعله الحاج بعد وصوله المزدلفة، وهو كما يلي:
1 ـ مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة لكل صلاة، وذلك قبل حط الرحال أو عمل الطعام، سواء وصلوا إليها في وقت المغرب أم في وقت العشاء، وقد مضى في باب «الأذان» الكلام على مسألة الأذان والإقامة في مزدلفة، حيث ساق الحافظ هذا القدر من الحديث هناك.
2 ـ مشروعية ترك التنفل بين المجموعتين وإن كان الجمع تأخيراً، وكذا راتبة المغرب والعشاء، أما راتبة الفجر فلا تترك حضراً ولا سفراً، وكون جابر رضي الله عنه لم يذكرها، لا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم تركها؛ لأن جابراً لم يذكر كل شيء فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجه؛ بل ترك أشياء.(1/207)
3 ـ أنه لا يشرع إحياء ليلة المزدلفة بصلاة ولا دعاء؛ لظاهر قوله: (ثم اضطجع حتى طلع الفجر) لكن يستثنى من ذلك الوتر، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يدعه سفراً ولا حضراً، حتى كان يوتر على راحلته إذا جدَّ به السير، وأمر به أمته أمراً عاماً بدون استثناء، وعدم النقل ليس نقلاً للعدم. فإما أن يكون جابر رضي الله عنه سكت عن ذكره لأنه لا يدري، ولهذا لم ينفِ الوتر كما نفى التنفل في قوله: (ولم يسبح بينهما شيئاً)، أو أنه ترك ذكره للعلم به، ولأنه ليس من المناسك، والحديث في سياق المناسك، فالله أعلم.
وقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم قاموا في هذه الليلة، كما ورد عن أسماء رضي الله عنها، وحديثها في «الصحيحين»، وسأذكره ـ إن شاء الله ـ عند الكلام على انصراف الضعفة من مزدلفة.
الوجه الثلاثون: قوله: (فصلى الفجر حين تبين الصبح...) ، هذا فيه دليل على أن السنة في صلاة الفجر في مزدلفة المبادرة بها في أول وقتها، لكن عليه أن يتأكد من دخول الوقت، ولا يغترَّ بأذان غيره ممن قد يؤذن قبل دخول الوقت، ولعل هذه المبادرة ليتسع وقت الذكر والدعاء بعد الصلاة.
الوجه الحادي والثلاثون: قوله: (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام...) هذا فيه بيان ما يفعله في مزدلفة بعد الصلاة. والمشعر الحرام: من أسماء المزدلفة، وهو مكان أو جبيل في مزدلفة، وعليه المسجد الآن، ووصف بالحرام؛ لأنه داخل حدود الحرم.
فالسنة للحاج بعد صلاة الفجر أن يستقبل القبلة، يذكر الله تعالى بالتكبير والتهليل، ويدعو، كما قال تعالى: {{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}} [البقرة: 198] ، وقد ذكر الفقهاء أنه يسن رفع اليدين في الدعاء[(633)]، ويستمر على ذلك حتى يسفر جدّاً.(1/208)
وعلى المسلم أن يحذر من إضاعة هذه الدقائق الغالية، فيشتغل بأمور لا داعي لها، فتطلع الشمس وهو في مكانه لم يتحرك، أو يبادر بالانصراف بعد الصلاة فيفوِّت على نفسه خيراً كثيراً.
الوجه الثاني والثلاثون: قوله: (حتى أتى بطن محسر...) هذا فيه بيان كيفية الانصراف من مزدلفة، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم لما دفع قبل طلوع الشمس وأتى بطن محسر حرك دابته قليلاً، وهذه هي السنة فيمن أتى بطن محسر أن يحرك دابته قليلاً، وكذا سيارته إن أمكن، وإن كان ماشياً أسرع.
ومُحسِّر: بضم الميم، وفتح الحاء، بعدها سين مهملة مشددة مكسورة، بعدها راء: وادٍ بين مزدلفة ومنى، لا من هذه، ولا من هذه، وهو قول الجمهور[(634)]، وقال بعض العلماء: إنه من منى، لما ورد عن الفضل بن عباس، وكان رديف النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: «عليكم بالسكينة، وهو كافٌّ ناقته حتى دخل محسراً، وهو من منى...» الحديث[(635)].
وقد ذكر الأزرقي أنه (545) ذراعاً، قيل: سمي بذلك لأنه يحسِّر سالكه؛ أي: يُعْييه، وقيل: لأن فيل أصحاب الفيل حسَّر فيه؛ أي: أعيا، وهذا التعليل يؤيده إسراع النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه؛ لأن هذه عادته صلّى الله عليه وسلّم في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه، لكن يشكل عليه أن الفيل لم يدخل الحرم أصلاً، وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخالفهم، كما خالفهم في الخروج من عرفة، وفي الإفاضة من مزدلفة، وكل هذه أمور اجتهادية، وليس في المسألة دليل قاطع، فالله أعلم بحكمة إسراعه صلّى الله عليه وسلّم[(636)].(1/209)
الوجه الثالث والثلاثون: قوله: (ثم سلك الطريق الوسطى...) ، هذا فيه بيان رميه صلّى الله عليه وسلّم جمرة العقبة، وهو أنه صلّى الله عليه وسلّم سلك (الطريق الوسطى) وهي الطريق القاصدة إلى الجمرات، ويبدو أن الطرق في منى ثلاثة: طريق شرقية، وغربية، ووسطى، وقوله: (الوسطى) مؤنث الأوسط، والطريق يذكَّر، في لغة نجد، وبه جاء القرآن في قوله تعالى: {{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}} [طه: 77] ويؤنث في لغة الحجاز، كما في هذا الحديث، وقد ذكر النووي أن هذا الطريق غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات.
وقوله: (التي تخرج على الجمرة الكبرى) لعل وصفها بالكبرى باعتبار ما قبلها من الجمرتين الصغرى والوسطى، ولأنها تنفرد بالرمي يوم العيد.
وقوله: (التي عند الشجرة) هذا في الزمن القديم، وهذا فيه دليل على أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة، ولا يفعل شيئاً قبل رميها، فيرميها بسبع حصيات كل حصاة (مثل حصى الخذف) وهي بالخاء المعجمة، وهو الرمي بحصاة تجعل بين السبابتين، وقدر حصى الخذف أكبر من حبة الحِمِّص قليلاً، وهذا يدل على صفة الحصى الذي يُرمى به، وأنه أكبر من حبة الحِمِّص قليلاً، وعلى هذا فلا يرمي بحجر كبير يؤذي المسلمين، ولا يجوز بالصغير الذي لا يمكن رميه؛ لأن الرمي عبادة لله تعالى، فلا بد أن يكون بما يمكن رميه. ويكبِّر مع كل حصاة: (الله أكبر)، وهذا من كمال التعبد لله تعالى، والتعظيم لأمره، ليحصل الجمع بين التعظيم بالقلب والتعظيم باللسان، وقد رماها صلّى الله عليه وسلّم (من بطن الوادي) جاعلاً منى عن يمينه ومكة عن يساره، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(1/210)
ولم يذكر جابر رضي الله عنه من أين أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم حصى جمرة العقبة، وهذا يدل على أنه ليس لذلك مكان معين، فيلقطها الحاج من حيث شاء، وقد جاء في حديث ابن عباس ـ وفي رواية الفضل بن عباس ـ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداة العقبة وهو على راحلته: «هاتِ القط لي» ، فلقط له حصيات نحواً من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: «مثل هؤلاء ـ ثلاث مرات ـ وإياكم والغلوَّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوِّ في الدين» [(637)].
وهذا كما ترى ليس فيه تحديد للمكان، وقد جزم ابن قدامة أن ذلك كان في منى[(638)]، ولعله أخذ ذلك من قوله: (غداة العقبة) ، وذكر ابن حزم أنه التقطها له من موقفه الذي رمى فيه، وتبعه الألباني، وهذا فيه نظر، فقد ورد في «الصحيحين»: «أنه رمى الجمرة ضحى»، وهذا يفيد أن الالتقاط كان قبل وقت الرمي[(639)]، وقد جاء في «صحيح مسلم» من حديث الفضل: (حتى إذا دخل محسراً وهو من منى، قال: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة...» )[(640)]، وظاهر هذا أنه أمر بلقطها في طريقه، وبه جزم ابن القيم[(641)]. والمقصود أنه ليس للحصى مكان معين، ومن فهم أن السنة الالتقاط من مزدلفة ـ كما يفعله كثير من الحجاج ـ فقد غلط، لعدم الدليل على ذلك.
الوجه الرابع والثلاثون: قوله: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر) ، هذا فيه دليل على استحباب التثنية بالنحر بعد رمي جمرة العقبة، وقد نحر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة، ثم أعطى عليّاً فنحر الباقي، وكان هديه صلّى الله عليه وسلّم مائة بدنة.(1/211)
والمتمتع والقارن كلاهما عليه هدي شكران لا جبران، أما المتمتع ففيه نص القرآن، قال تعالى: {{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}}، وأما القارن فوجوب الهدي عليه هو مذهب جمهور العلماء إما بالقياس على المتمتع أو لدخوله في عموم قوله تعالى: {{فَمَنْ تَمَتَّعَ}}، وقد تقدم أن الصحابة رضي الله عنهم أطلقوا لفظ التمتع على نسك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو قارن.
وقال ابن حزم: (لا هدي على القارن، إلا الذي كان معه عند إحرامه)[(642)] وقال ابن قدامة: (لا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافاً، إلا ما حكي عن داود، أنه لا دم عليه، وروي ذلك عن طاوس، وحكى ابن المنذر أن ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن، هل يجب عليه دم؟ فقال: لا. فَجُرَّ برجله. وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم)[(643)].
ودم التمتع هو دم نسك وعبادة، فهو دم شكر حيث حصل للعبد نُسُكان في سفر واحد وزمن واحد، وهو من تمام النسك وكماله، وهو من رحمة الله تعالى بعباده وإحسانه إليهم، حيث شرع لهم ما به كمال عبادتهم وزيادة أجرهم، وأباح لهم بسببه التحلل أثناء الإحرام، لما في استمراره عليهم من المشقة، ولهذا كان الدم فيه وفي القِران دم شكر لا دم جبران، إذ لا نقص في هذا النسك حتى يجبر، فيأكل منه الحاج، ويهدي، ويتصدق، فعليه أن يعرف هذه الفائدة، فإن في الدم أو بدله أجراً، كما أن في التمتع أجراً، فلا يَحْرِمُ الإنسان نفسه ذلك، فيحج مفرداً لئلا يلزمه الدم.
وقد تقدم أن القارن إذا لم يكن معه هدي، فإنه يشرع له فسخ إحرامه إلى عمرة، وأن أفضلية القران إنما هي في حال سوق الهدي، كنسك النبي صلّى الله عليه وسلّم.(1/212)
ولم يرد ذكر الحلق في هذه الرواية، وقد جاء عند أحمد من حديث جابر رضي الله عنه: (نحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحلق)[(644)]، وفي حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: «خذ» ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس[(645)]. وهذا يدل على أن السُّنَّة أن يكون الحلق بعد النحر، فتكون هذه الأعمال الثلاثة يوم النحر مرتَّبة، فإن قدم بعضها على بعض فلا بأس، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الخامس والثلاثون: قوله: (ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر) معنى (فأفاض) أي: طاف طواف الإفاضة، وهذا فيه دليل على استحباب طواف الإفاضة بعد الرمي والنحر والحلق إن تيسر، وإلا فالأمر فيه سعة، فإن لم يستطع الطواف في هذا الوقت لانشغاله بالرمي، أو بنحر هديه وتفريقه، فله تأخير الطواف إلى آخر يوم النحر أو أيام التشريق.
وقد ذكر الفقهاء أن وقت طواف الإفاضة يبدأ من مغيب القمر ليلة النحر، بشرط أن يسبقه الوقوف بعرفة ومزدلفة، فمن دفع من مزدلفة من الضعفة في هذا الوقت ورمى جمرة العقبة، فله أن يذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ولا سيما من معه نساء يخاف عليهن الزحام، أو العادة الشهرية[(646)].
وأما آخر وقته فلم يرد فيه نص، والجمهور على جواز تأخيره ولو بعد نهاية شهر ذي الحجة، والأولى ألا يؤخره عن شهر ذي الحجة، إلا من عذر كمرض أو نفاس أو نحو ذلك[(647)]، لأن الحاج يبقى محرماً، إذ لم يحصل له التحلل الأكبر بطواف الإفاضة، قال ابن قدامة: (والصحيح أن آخر وقته غير محدد، فإنه متى أتى به صح بغير خلاف، وإنما الخلاف في وجوب الدم)[(648)]، وانفرد ابن حزم بالقول بأن تأخير طواف الإفاضة إلى انتهاء شهر ذي الحجة مبطل للحج[(649)].(1/213)
وقول جابر رضي الله عنه (فصلى بمكة الظهر) يعارضه قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى بمنى)[(650)]، وجُمع بينهما بأنه صلّى الله عليه وسلّم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه[(651)] رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
حكم الدعاء بعد التلبية
743/2 ـ عَنْ خُزَيْمةَ بنِ ثابت رضي الله عنه : أنَّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كانَ إذا فَرَغَ من تَلْبِيَتهِ في حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سأَلَ اللهَ رِضْوَانَهُ وَالجَنَّةَ، واستعاذَ بِرَحْمَتِهِ منَ النَّارِ. رواهُ الشافعيُّ بإسناد ضعيف.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
هو أبو عمارة، خزيمة ـ بضم الخاء وفتح الزاي ـ بن ثابت بن الفاكه الخَطْمِي الأنصاري الأوسي، شهد بدراً، وقيل: أول مشاهده أُحد، وصوَّبه الذهبي. يُعرف بذي الشهادتين[(652)]، كانت معه رايةُ خَطْمَةَ يومَ الفتح، روى البخاري بسنده عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت كثيراً أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأها، لم أجدها عند أحد إلا مع خزيمة الأنصاري، الذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادته بشهادة رجلين {{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}} [الأحزاب: 23] [(653)].
كان مع علي رضي الله عنه يوم صفين كافّاً عن القتال، فلما قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه جرَّد سيفه، فقاتل حتى قتل سنة سبع وثلاثين رضي الله عنه[(654)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه الشافعي (1/322 ـ 323 ترتيب مسنده) قال: أخبرني إبراهيم بن محمد، عن صالح بن محمد بن زائدة، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، به.(1/214)
وهذا إسناد ضعيف ـ كما قال الحافظ ـ؛ لأن مدار الحديث على صالح بن محمد بن زائدة المدني، قال البخاري: (منكر الحديث)، وقال أبو داود والنسائي: (ليس بالقوي). وقال الدارقطني: (ضعيف)، وضعفه ابن حبان. وقال أحمد: (ما أرى به بأساً)[(655)].
وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى شيخ الشافعي، كان كذاباً ـ كما تقدم الكلام عليه ـ، إلا أنه تابعه عبد الله بن عبد الله الأموي، عن صالح بن زائدة، به. أخرجه الدارقطني (2/238)، والبيهقي (5/46).
الوجه الثالث: دل الحديث على فضل الدعاء بعد كل تلبية بسؤال الله تعالى رضوانه وجنته، والاستعاذة برحمته من النار، ولكن لا يثبت هذا الفضل لضعف الحديث، كما تقدم.
فمن أخذ بالعمومات قال: إن الدعاء في حق الملبي مشروع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينه الملبي عن الدعاء، ولأن مقام المحرم ومقام التلبية مقام واسع، فيدعو ربه ويذكره ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويلبي، فيستغل وقته بالخير، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يذكر الله على كل أحيانه، وقد كان يسمع الناس يزيدون في التلبية فيقرهم على ذلك، كما تقدم، ومن وقف عند الدليل قال بعدم مشروعية الدعاء في مثل هذا المقام، والله تعالى أعلم.
ما جاء في أن منى كلها منحر، وعرفة وجمع كلها موقف
744/3 ـ عن جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «نَحَرْتُ ها هُنا، ومِنًى كُلُّها مَنْحرٌ، فانْحَرُوا في رِحالِكم، ووقَفْتُ هَا هُنا، وعَرَفَةُ كلُّها مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَا هُنَا، وجَمْعٌ كلُّها مَوْقِفٌ». رواهُ مُسلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «ما جاء أن عرفة كلها موقف» (1218) (149) من طريق جعفر بن محمد: حدثني أبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:(1/215)
قوله: (نحرت ها هنا) هذا يدل على أن هذه الأحكام قالها النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم العيد.
قوله: (ومنى) بكسر الميم وفتح النون مخففة بوزن رِبَى، هي أحد المشاعر المقدسة، تقع بين وادي محسر شرقاً، وجمرة العقبة غرباً، ومن الجنوب والشمال الجبلان المستطيلان، وكل ما كان على منى فهو منها، وسميت بذلك لكثرة ما يمنى؛ أي: يراق فيها من دماء الهدايا.
قوله: (وعرفة كلها موقف) تقدم الكلام على عرفة في شرح حديث جابر رضي الله عنه.
قوله: (وجمع كلها موقف) جمع: هي المزدلفة: وهذا اسم أطلقه النبي صلّى الله عليه وسلّم عليها، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها في الجاهلية والإسلام، ولها اسم ثالث ـ كما تقدم في شرح حديث جابر رضي الله عنه ـ وهو: المشعر الحرام، وهذا جاء في القرآن في قوله تعالى: {{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}} [البقرة: 198] ، والمشعر: مَفْعَلٌ من شَعَرَ، أي: المَعْلَم. والحرام: لأنه ممنوع أن يفعل فيها ما نُهي عنه من محظورات الإحرام.
وحدُّ مزدلفة من مأزِمَي عرفة شرقاً إلى وادي محسِّر غرباً، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب. ومأزما عرفة: تثنية مأزِم، وهو المضيق بين جبلين أو عدوتي وادٍ، وثُنِّي لوقوعه بين شيئين، والمراد به هنا: وادي عُرنة؛ ولذا أضيف إلى عُرنة، لاتصاله بها وقربه منها، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ارفعوا عن بطن عرنة» ، وقيل: المأزمان، الجبلان اللذان يسميان الأخشبين، وهما جبلان بين عرفة ومزدلفة، بينهما طريق[(656)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن النحر يصح في جميع الحرم، سواء في مكة أو منى أو مزدلفة؛ لقوله تعالى: {{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}} [الحج: 33] ، والمراد بذلك: الحرم كله، كما ذكر المفسرون، وفي لفظ لحديث جابر رضي الله عنه: «كل فِجَاج مكة طريق ومنحر» [(657)].(1/216)
وعن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (مناحر البُدْن بمكة، ولكنها نُزِّهَتْ عن الدماء، ومنى من مكة)[(658)].
وعلى هذا فلا ينحر هديه في عرفة أو غيرها من الحل ولو فرَّقه في الحرم؛ لأن عرفة خارج الحرم، فلا يجزئ على قول الجمهور، وبعض الناس قد يغفل عن ذلك، فينبغي التنبه له.
أما الفدية لفعل محظور، فإن كان داخل الحرم، ففي مكان وجود سببه من الحرم، وإن كان خارجه ففي محل فعل المحظور، ويجوز في الحرم، كما تقدم، والله تعالى أعلم.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن عرفة كلها موقف، ففي أي مكان وقف ودعا أجزأ، ولها علامات واضحة لمن طلبها، وهذا دليل على يسر هذه الشريعة حيث لم يجمع الناس في مكان معين، لكن إن تيسر الوقوف عند الجبل في موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو أفضل.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن جمعاً كلها موقف، ففي أي مكان وقف أجزأ ذلك.
والرسول صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك تقريراً لمن حج معه ممن لم يقف في موقفه، ولم ينحر في منحره؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم حج معه أمم لا تحصى، ولا يتسع لها مكان وقوفه ولا مكان نحره، والله أعلم.
من أين يكون دخول مكة والخروج منها؟
745/4 ـ عَن عائِشةَ رضي الله عنها ، أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا جَاءَ إلى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلاَهَا، وخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِها. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «من أين يخرج من مكة؟» (1577)، ومسلم (1258) من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، به.(1/217)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة من أعلاها، وهي ثنية الحجون، وتسمّى: (كَداء) بفتح الكاف والمد، وهي الطريق الآتية بين مقبرتي المعلاة، وخرج من أسفلها، وهي ثنية (كُدى) بضم الكاف والقصر كهُدى، وهي عند باب الشبيكة، وتعرف الآن بريع الرسَّام، وقد سُهِّلَتْ، وهي الآن في الشارع العام المؤدي إلى جرول، وأهل مكة يقولون: ادخل وافتح، واخرج وضم، وأما (كُديّ) بلفظ التصغير كسُمَيِّ، فهي لمن خرج من مكة إلى اليمن، وبعض علماء اللغة كصاحب «القاموس» وقع في وهم في هذه المواضع[(659)]. والثنية: الطريق المرتفع بين جبلين.
وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى[(660)]. ولعل هذه المخالفة من أجل إظهار الشعائر وتعويد النفوس على التنقل في العبادة.
الوجه الثالث: اختلف العلماء في استحباب الدخول من حيث دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم والخروج من حيث خرج على قولين:
القول الأول: أنه يستحب ذلك وأنه يَعْدِلُ إليه، وإن لم يكن طريقه عليه، وهذا رأي النووي من الشافعية[(661)]، واعتمده المتأخرون منهم.
والقول الثاني: أنه لا يستحب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل هذا قصداً، وإنما سلكه لأن طريقه عليه، وهذا رأي جماعة من الشافعية، والحنابلةُ أطلقوا استحباب الدخول من أعلاها[(662)]، ولكن تقييده بما إذا كانت ثنية كداء في طريقه قوي جداً، والله تعالى أعلم.
استحباب الاغتسال لدخول مكة
746/5 ـ عنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّهُ كانَ لا يَقْدُمُ مَكَّةَ إلا باتَ بِذِي طُوَى حتى يُصْبحَ، ويغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذلك عنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. مُتفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/218)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «الاغتسال عند دخول مكة» (1573)، ومسلم (1259) من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
وهذا لفظ مسلم، وفيه زيادة: (ثم يدخل نهاراً).
الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب الاغتسال عند دخول مكة لتحصل له النظافة والنشاط قبل أن يبدأ بالطواف، وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على استحباب الاغتسال عند دخول مكة[(663)].
وذو طوى: بضم الطاء أو فتحها أو كسرها، موضع في مكة في جرول، وبئر طوى لا تزال موجودة في جرول أمام مستشفى الولادة، وهي مشهورة عند أهل مكة، وليس المراد تخصيص أفضلية الاغتسال فيها؛ بل الاغتسال مستحب لكل داخل من أي جهة كان، وإنما كان الاغتسال منها لأنها واقعة في طريقه صلّى الله عليه وسلّم، أما من أتى من جهة نجد أو اليمن ونحوهما، فإنه يغتسل من طريقه الذي ورد منه، والله تعالى أعلم.
حكم السجود على الحجر الأسود
747/6 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، أَنَّهُ كانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ الأسودَ ويَسْجُدُ عليه. رواهُ الحاكم مرفوعاً، والبَيْهَقِيُّ موقوفاً.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه الحاكم (1/455) من طريق أبي عاصم النبيل، ثنا جعفر بن عبد الله ـ وهو ابن الحكم ـ، قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبَّل الحجر وسجد عليه، ثم قال: رأيت خالك ابن عباس يُقبِّله ويسجد عليه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قبّله وسجد عليه، ثم قال عمر: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل هكذا ففعلت.(1/219)
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه). وهذا فيه نظر، فإن الحاكم صحح الحديث بناءً على أن جعفر بن عبد الله هو ابن الحكم، كما في سياق الإسناد، وليس كذلك، وإنما هو جعفر بن عبد الله بن عثمان، بدليل رواية الدارمي[(664)]، فإنه أخرج الحديث عن جعفر بن عبد الله بن عثمان قال: رأيت محمد بن عباد... الحديث، وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي[(665)]، إلا أنه قال: جعفر بن عثمان القرشي، فنسبه إلى جده.
قال الحافظ: (وَهِمَ الحاكم في قوله: (إن جعفر بن عبد الله هو ابن الحكم) فقد نص العقيلي على أنه غيره، وقال: هذا في حديثه وهم واضطراب)[(666)].
وقد حسَّن الحديث الحافظ ابن كثير[(667)].
ورواه الشافعي (1/550)، ومن طريقه البيهقي (5/75) عن ابن جريج، عند أبي جعفر، عن ابن عباس، به موقوفاً. وقد صرح ابن جريج بالتحديث عند عبد الرزاق (5/37) ورجاله ثقات، وهو أقوى أحاديث الباب، وقد صححه الألباني[(668)]، فيكون الصواب في ذلك أنه موقوف.
الوجه الثاني: الحديث دليل على استحباب تقبيل الحجر الأسود عند بدء الطواف، وعند محاذاته أثناء الطواف إن تيسر، وهذا ثابت في أحاديث صحيحة، كما سيأتي إن شاء الله.
الوجه الثالث: الحديث دليل على استحباب السجود على الحجر الأسود بوضع الجبهة والأنف عليه، والحديث فيه الكلام المتقدم، والمحفوظ في الأحاديث الصحيحة عنه صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان يقبِّل الحجر ويستلمه؛ أما السجود فلم يثبت إلا بمثل هذا الحديث، فمن لم يأخذ به، قال: إنه لا ينهض على إثبات مثل هذا الحكم، والعبادات توقيفية، والأصل فيها المنع، إلا ما شرعه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ ولذا قال الإمام مالك: (إنه بدعة)، وجاء في كتب المالكية كراهة السجود عليه[(669)].(1/220)
وقال فقهاء الحنابلة: يسجد عليه، وكأنهم أخذوا بفعل ابن عباس وعمر رضي الله عنهما، قال في «كشاف القناع»: (ونصَّ أحمد في رواية الأثرم: ويسجد عليه، فعله ابن عمر وابن عباس)[(670)].
والأقرب في هذا ـ والله أعلم ـ القول بالجواز دون الاستحباب، أما القول بأنه بدعة ففيه نظر؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما فعله، والله أعلم.
مشروعية الرمل في الطواف وبيان موضعه
748/7 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم أَن يَرْمُلُوا ثلاثَةَ أَشْوَاطٍ، ويمْشُوا أَرْبعاً ما بَيْنَ الرُّكنينِ. متفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «كيف كان بدء الرمل؟» (1602)، ومسلم (1266) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرمُلوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرمُلوا الأشواط كلها إلا الإبقاءُ عليهم).
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأُول من الطواف الذي يأتي به القادم إلى مكة، سوى ما بين الركن اليماني والحجر الأسود، فهذا يمشي فيه بدون رمل، وإنما أمروا بالمشي فيما بين الركنين، رفقاً بهم؛ لأنهم رملوا إظهاراً للقوة والشجاعة، وكان المشركون لا يرونهم إذا كانوا بين الركنين؛ لأن المشركين كانوا في جهة الحِجْرِ، عند جبل قُعَيْقِعَانَ[(671)]؛ ولذا قال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا[(672)]. فحصلت إغاظة المشركين بدون مشقة على المسلمين، والحمد لله رب العالمين.(1/221)
والرمَل: الإسراع في المشي من غير مباعدة للخطوات، وتقدم. وما ورد في هذا الحديث من المشي بين الركنين فهو منسوخ؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة، والناسخ له ما ثبت: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رمل في حجة الوداع جميع الأشواط الثلاثة حتى ما بين الركنين؛ لأن هذا آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحجر إلى الحجر ثلاثاً ومشى أربعاً)[(673)].
وعنه ـ أيضاً ـ رضي الله عنه أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبَّ ثلاثاً ومشى أربعاً[(674)]. وفي رواية: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم، فإنه يسعى ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة[(675)]. وهذا الحديث بروايته المذكورة موجود في بعض نسخ «البلوغ»، ولا سيما القديمة، وهو يدل على ما تقدم في حديث جابر رضي الله عنه، إلا أن فيه التصريح بأن الرمل في طواف القدوم.
الوجه الثالث: الحكمة من مشروعية الرمل هي ما يستفاد من هذا الحديث، وهي إغاظة المشركين بإظهار القوة، وبقيت مشروعيته وإن كان سببها قد زال، للتذكير بذلك السبب.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه ينبغي إغاظة المشركين والكفار بكل وسيلة، وأنه يتأكد على أهل الإسلام ولا سيما في مواقف الحرب واللقاء مع الكفار أن يتظاهروا بالقوة والنشاط، وأن يحذروا ما يدل على الضعف، لأجل إغاظة العدو، وبعث الوهن بين صفوفه، ولئلا يطمع بهم ويتشجع على قتالهم أو النيل منهم، نسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويذلَّ أعداءه، والله تعالى أعلم.
حكم استلام أركان الكعبة
749/8 ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: لم أَرَ رسَولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَلِمُ مِنَ البيتِ غيرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَّيْنِ. رواهُ مسلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/222)
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف دون الركنين الآخرين» (1269) من طريق أبي الطفيل البكري، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول... وذكر الحديث، إلا أنه ليس فيه لفظ: (من البيت). وقد جاء هذا الحديث ـ أيضاً ـ من مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما[(676)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية استلام الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف. وتقدم في حديث جابر رضي الله عنه أن الاستلام: اللمس باليد؛ فالحجر الأسود يشرع فيه الاستلام والتقبيل أو الإشارة إليه مع البعد، أما الركن اليماني فليس فيه إلا الاستلام، وأما الإشارة فلا يشار إليه ـ على الراجح من قولي أهل العلم ـ.
ويقول عند استلام الحجر أو الإشارة إليه: الله أكبر؛ مرة واحدة، وأما الركن اليماني فيستلمه بدون تكبير؛ إذ لم يرد فيه نص، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحطُّ الخطايا حطّاً» [(677)].
وأطلق عليهما اليمانيان: لأنهما من جهة اليمن؛ فالحجر الأسود في الجنوب الشرقي للكعبة، والركن اليماني في الجنوب الغربي، وفي مقابلهما الركنان: الشامي في الشمال الشرقي للكعبة يلي الحجر الأسود، والثاني: في الغربي منها، ويليه الركن اليماني.
والحكمة ـ والله أعلم ـ في ترك استلام الركنين الآخرين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يستلمهما، ولأنهما ليسا على قواعد الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وذلك لأن قريشاً لما بنوها قَصُرَتْ بهم النفقة، فَحَطَمُوا منها الحِجْرَ، فخرج فيه من الكعبة نحو ستة أذرع ونصف.(1/223)
وعن الطفيل، قال: رأيت معاوية يطوف بالبيت عن يساره عبد الله بن عباس، وأنا أتلوهما في ظهورهما، أسمع كلامهما، فطفق معاوية يستلم ركن الحَجَر، فقال له عبد الله بن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يستلم هذين الركنين. فيقول معاوية: دعني منك يا ابن عباس، فإنه ليس منها شيء مهجور، فطفق ابن عباس لا يزيده، كلما وضع يده على شيء من الركنين، قال له ذلك[(678)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن السنة كما تكون في الأفعال تكون كذلك في التروكات، فإذا وجد سبب الفعل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يفعل، دل هذا على أن السنة تركه، وهذا النوع من السنة أصل عظيم، وقاعدة جليلة، به تحفظ أحكام الشريعة، ويُوصد باب الابتداع في الدين.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أنه لا يشرع استلام شيء من أركان الكعبة أو جدرانها سوى الركنين اليمانيين، باتفاق أهل العلم، وكذا مقام إبراهيم عليه السلام، فإنه لا يجوز استلام شيء منه أو التمسّح به؛ بل هو من البدع المحدثة في دين الله تعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم استلمهما خاصة، لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخران هما في داخل البيت.. وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم.. وحجرة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة)[(679)].
ويقول ابن القيم: (ليس على وجه الأرض موقع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني)[(680)]، والله تعالى أعلم.
حكم تقبيل الحجر الأسود
750/9 ـ عن عُمَرَ رضي الله عنه ، أَنَّهُ قَبَّلَ الحَجَرَ، فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا أَنِّي رأَيتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ. مُتّفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجوه:(1/224)
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «ما ذكر في الحجر الأسود» (1597)، ومسلم (1270) من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبّل الحجر... وذكره، وهذا لفظ البخاري، والحديث له طرق متعددة عن عمر رضي الله عنه[(681)]، وقد رواه ابن عمر، عن أبيه، بنحوه.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية تقبيل الحجر الأسود في الطواف. والحجر الأسود في ركن الكعبة الجنوبي الشرقي، وقد كان أبيض من اللبن، ثم سوَّدته الخطايا، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم» [(682)].
وقد جرى على الحجر حوادث واعتداءات متعددة في الأزمنة الماضية، أثرت فيه بتصدع وتكسر، ولكن الله تعالى حفظه من الضياع.
وقد جاء في رواية لمسلم عن سويد بن غَفَلَةَ، قال: رأيت عمر قبَّل الحجر والتزمه، وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بك حفياً[(683)]. ومعنى (حفياً): أي معتنياً بشأنك بالتقبيل والمسح والكلام[(684)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن تقبيل الحجر ليس لأنه حجر يخاف منه الضرر أو يرجى منه النفع، وإنما هو تسليم للشرع واتباع للنبي صلّى الله عليه وسلّم تعبّداً لله تعالى.
الوجه الرابع: فضيلة عمر رضي الله عنه بحرصه على حماية التوحيد، حيث خاف من تقبيله الحجر أن يغتر به بعض الجهال وحديثو العهد بالإسلام الذين ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها خوف الضرر منها أو رجاء نفعها، فبيّن رضي الله عنه أن هذا الأمر في الإسلام ليس لشيء يطلب من الحجر، وإنما هو تعظيم لله عزّ وجل واتباع للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله بتعظيمها؛ ليغرس هذا المعتقد في قلوب من يسمعه أو يُنقل إليه.(1/225)
الوجه الخامس: الحديث دليل على أن وظيفة المؤمن التسليم للشرع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيه ولم تعلم عين الحكمة فيه، والله تعالى أعلم.
مشروعية استلام الحجر بالعصا ونحوه
751/10 ـ عنْ أبي الطُّفَيْلِ رضي الله عنه قالَ: رَأَيتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يطُوفُ بالبيتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُكنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، ويُقَبِّلُ المِحْجَنَ. رواهُ مسلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو الطفيل، عامر بن واثلة بن عبد الله الليثي الكناني، رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو شاب، وحفظ عنه أحاديث، روى البخاري بسنده عن أبي الطفيل أنه قال: (أدركت ثماني سنوات من حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وولدت عام أُحد) نزل الكوفة، وشهد مع علي رضي الله عنه مشاهده كلها، فلما استشهد علي رضي الله عنه عاد إلى مكة، فأقام بها إلى أن مات سنة مائة، أو سنة مائة وعشر، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم على الإطلاق[(685)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب» (1275) من طريق سليمان بن داود، حدثنا معروف بن خَرَّبُوذ، قال: سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول... وذكر الحديث.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (يطوف بالبيت) الطواف مصدر طاف يطوف طوافاً وطوافاناً بمعنى: دار.
وشرعاً: الدوران سبعة أشواط حول الكعبة بنيّة الطواف على صفة مخصوصة[(686)].
قوله: (ويستلم) تقدم في حديث جابر رضي الله عنه معنى (الاستلام)، وأنه لمس الحجر باليد.
قوله: (بمحجن) المحجن: بكسر الميم، عصا محنية الرأس، يحملها الراكب ليوجه بها راحلته، ويتناول بها المتاع أو غيره.
الوجه الرابع: الحديث دليل على مشروعية استلام الحجر الأسود بالعصا ونحوه إذا لم يتمكن من استلامه بيده ولم يؤذِ أحداً.(1/226)
وإنما استلمه النبي صلّى الله عليه وسلّم بمحجن؛ لأنه كان قد طاف على بعير، لما روى جابر رضي الله عنه قال: (طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجن؛ لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه، فإن الناس غشوه)[(687)].
وهذا فيه بيان لعلة ركوبه، وهو أن الناس قد غشوه، ولم يكونوا يُطردون عنه، أو يُضْرَبون بين يديه، فطاف على بعير، وكان ذلك في طواف الإفاضة يوم العيد، ليشرف على الناس، ويشاهدوه فيتعلموا من سنته، ويسألوه صلوات الله وسلامه عليه.
الوجه الخامس: يستفاد من مجموع الأحاديث الواردة في الحجر الأسود: أن للناس مع الحجر ثلاث حالات:
الأولى: التمكّن من تقبيله، فهذا يقبِّل ويكبر عند التقبيل، وهذا هو الكمال، ولم يرد في الأحاديث تحديد عدد للتقبيل، فالأَوْلى مرة واحدة؛ إذ لو قَبَّلَ النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر من مرة لنقل إلينا.
الثانية: ألا يتمكن من التقبيل، ويتمكن من الاستلام باليد أو بالعصا ونحوه، فيشرع ذلك مع التكبير، ويقبل يده أو عصاه إذا استلم بها لكونها لامست الحجر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما طاف في حجة الوداع على بعير استلم الركن بمحجن، ثم قَبَّلَ المحجن الذي استلم به الركن.
وقد روى مسلم بسنده، عن نافع، قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يستلم الحجر بيده، ثم قبَّل يده، وقال: (ما تركته منذ رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعله)[(688)].
الثالثة: ألا يتمكن من الاستلام لكونه راكباً أو لوجود زحام، فهذا يشير إلى الحجر ويكبر، ولا يقبل ما أشار به ـ على الراجح من قولي أهل العلم ـ؛ لأنه لا يُقَبَّلُ إلا الحجر أو ما مس الحجر، والله تعالى أعلم.
حكم الاضطباع في الطواف
752/11 ـ عن يَعْلَى بن أُمَيَّة رضي الله عنه قالَ: طافَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مُضطبِعاً بِبُرْدٍ أَخضرَ. رواه الخمسة إلا النسائي، وصحّحهُ الترمذيُّ.(1/227)
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو يعلى بن أمية التميمي الحنظلي، ويقال: يعلى بن مُنْية، بضم الميم وسكون النون، وهي أمه، وقيل: أم أبيه. أسلم رضي الله عنه يوم الفتح، وحسن إسلامه، وشهد حُنيناً والطائف وتبوك، قال ابن عبد البر: (كان يعلى بن أمية سخياً معروفاً بالسخاء)، قتل سنة ثمان وثلاثين بصفِّين مع علي رضي الله عنه، وقيل: سنة سبع وأربعين، وقال الذهبي: (بقي إلى قريب الستين، فما أدري أتوفي قبل معاوية أو بعده)[(689)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في «المناسك»، باب «الاضطباع في الطواف» (1883)، وابن ماجه (2954)، وأحمد (29/475) من طريق سفيان، عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه. واللفظ لأبي داود.
وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، ابن جريج لم يسمعه من ابن يعلى، وقد دلَّسه عنه، والواسطة بينهما عبد الحميد بن جبير، وهو ثقة من رجال الشيخين. فقد أخرجه الترمذي (859)، وأحمد (29/473) عن سفيان، عن ابن جريج، عن عبد الحميد، عن ابن يعلى، عن أبيه، إلا أنه قد أُبهم اسم الرجل في إسناد أحمد. وابن يعلى: هو صفوان بن يعلى بن أمية.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (مضطبعاً) الاضطباع: افتعال من الضَّبَع، وهو العضد، وهو أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر، سمّي اضطباعاً لإبداء الضَّبَعين.
قوله: (ببرد) البرد ـ بضم الباء وإسكان الراء ـ: كساء له أعلام، وتقدم في «الجنائز».
الوجه الرابع: الحديث دليل على استحباب الاضطباع في طواف القدوم خاصة.
وقد روى أبو داود من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه اعتمروا من الجِعِرَّانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى[(690)].(1/228)
والسنّة في الاضطباع أن يكون عند إرادة الطواف، فيكون عند بدايته وينتهي بنهايته، فإذا أنهى طوافه وأراد أن يصلي ركعتي الطواف سوى رداءه على كتفيه، وليس كما يفعله كثير من المحرمين، فيضطبع منذ أن يحرم إلى أن يخلع ثياب الإحرام، فهذا لا أصل له، وفيه مخالفة للسنة، فينبغي التنبه له، والتنبيه عليه، قال ابن عابدين: (والمسنون الاضطباع قبيل الطواف إلى انتهائه لا غير)[(691)].
والحكمة من هذا الاضطباع أنه يعين على الإسراع في المشي، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فعلوه في عمرة القضاء؛ ليستعينوا بذلك على الرمل؛ ليرى المشركون قوتهم وجلدهم، كما تقدم، ثم صار سنة.
الوجه الخامس: الحديث دليل على جواز الإحرام بالثوب الأخضر وغيره من الألوان، والبياض أفضل؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم» [(692)]، والله تعالى أعلم.
مشروعية التلبية والتكبير إذا غدا إلى عرفة
753/12 ـ عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه قالَ: كان يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فلا يُنْكَرُ عليهِ، وَيُكَبِّرُ مِنّا المُكَبِّرُ فلا يُنْكَرُ عليه. متفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة» (1659)، ومسلم (1285) من طريق مالك، عن محمد بن أبي بكر الثقفي: أنه سأل أنس بن مالك ـ وهما غاديان من منى إلى عرفة ـ: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: كان يهل... الحديث.
وبهذا السياق يتبين أن هذا كان في توجههم إلى عرفات، بخلاف سياق الحافظ للحديث، فإنه لا يدل على ذلك.
الوجه الثاني: الحديث دليل على مشروعية التلبية والتكبير يوم عرفة، فإن لبى فحسن، وإن كبر فلا بأس، والتلبية شعار المحرم فإذا كبر معها فلا بأس، وهذا يدل على أن الأمر فيه سعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرّهم على ذلك.(1/229)
الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم ينكرون على من خالف المنهج المستقيم في قول أو فعل، وأنهم لا يقرّون مخطئاً على خطئه؛ لأن أنساً رضي الله عنه احتج على مشروعية التكبير والتلبية في هذا اليوم بأن الرجل منهم كان يلبي، وكان يكبر، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
جواز انصراف الضعفة من مزدلفة بليل
754/13 ـ عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: بَعَثَنِي النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في الثَّقَلِ ـ أَو قال: في الضَّعَفَةِ ـ من جَمْعٍ بِلَيْلٍ. مُتّفقٌ عليه.
755/14 ـ وعنْ عائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: اسْتأذَنتْ سَوْدَةُ رَسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ليْلةَ المُزْدَلِفَةِ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وكانَتْ ثَبْطَةً ـ تَعْنِي ثَقِيلَةً ـ فأَذِنَ لَهَا. مُتّفقٌ عليْهِ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «من قَدَّمَ ضعفة أهله بليل، فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ويقدِّم إذا غاب القمر[(693)]» (1678)، ومسلم (1293) من طريق سفيان، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به. وهذا لفظ مسلم.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في الباب المذكور (1680)، ومسلم (1290) من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظهما:
قوله: (في الثقل) بفتح الثاء المثلثة والقاف، وهو في الأصل متاع المسافر، والمراد هنا: الضعفة، بدليل الروايات الأخرى.
قوله: (أو قال: في الضعفة) بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة والفاء، جمع ضعيف، وهم: النساء، والأطفال، وكبار السن، والمرضى.
قوله: (من جمع) أي: مزدلفة.(1/230)
قوله: (بليل) أي: قبل الفجر، وهذا مطلق، لكن دلَّ حديث أسماء رضي الله عنها الآتي على أن المراد به: بعد مغيب القمر، وقد تقدم ذلك في تبويب البخاري.
قوله: (استأذنت سودة) هي سودة بنت زمعة، أم المؤمنين رضي الله عنها، أول زوجة تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد خديجة رضي الله عنها، وهي التي وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها تبتغي بذلك رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(694)]، ـ كما سيأتي في كتاب «النكاح» إن شاء الله تعالى ـ توفيت سودة في آخر زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره ابن عبد البر وغيره، ورجح الواقدي أنها ماتت سنة أربع وخمسين، رضي الله عنها[(695)].
قوله: (أن تدفع قبله) أي: تفيض من مزدلفة قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: (وكانت ثبطة) بفتح الثاء المثلثة وسكون الباء أو كسرها؛ أي: بطيئة الحركة، كأنها تَثْبِطَ بالأرض؛ أي: تَشَبَّثُ بها.
قوله: (تعني ثقيلة) هذا التفسير جاء في رواية مسلم من طريق القاسم راوي الخبر، ولفظه: (وكانت امرأة ثبطة. يقول القاسم: والثبطة: الثقيلة).
الوجه الثالث: الحديث دليل على جواز الإفاضة من مزدلفة بليل للضعفة من النساء والصبيان ونحوهم، وذلك إذا غاب القمر، سواء أكان الوقت صيفاً أم شتاء؛ لقول أسماء رضي الله عنها لمولاها: (هل غاب القمر؟ قال: نعم. قالت: فارتحلوا...) الحديث، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بتمامه، ولم يجئ التوقيت إلا في هذا الحديث، والظاهر أن أسماء رضي الله عنها عندها علم بهذا، وهي التي روت رخصة تعجيل الدفع من مزدلفة للضعفة.
وهكذا من كان برفقتهم من سائق ومحرم، وغيرهما ممن يلاحظهم ويقوم بأمورهم.(1/231)
وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن من يقوم بأمورهم فحكمه حكمهم[(696)]؛ لأن هذا فيه رفق بهم، ودفع لمشقة الزحام عنهم، ولا سيما عند رمي جمرة العقبة، وفيه ـ أيضاً ـ اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث أذن للضعفة، وهكذا من كان تابعاً لحملة وليس معه ضعفة، ولكن الحملة لا تنتظره، فله أن ينصرف معهم.
وقد قال ابن قدامة: (لا نعلم في دفع الضعفة من مزدلفة بليل مخالفاً)، والله تعالى أعلم[(697)].
حكم رمي جمرة العقبة قبل الفجر
756/15 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: قالَ لنا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تَطْلُعَ الشَّمسُ»، رواهُ الخمسةُ إلا النسائي، وفيه انقطاعٌ.
757/16 ـ وَعنْ عائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: أَرسلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الجَمْرَةَ قبْلَ الفَجْرِ، ثم مَضَتْ فأَفاضَتْ. رواهُ أَبو داودَ، وإسنادُهُ على شرط مسلمٍ.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «التعجيل من جمع» (1940)، والنسائي (5/270 ـ 272)، وابن ماجه (2025)، وأحمد (3/504) من طريق الحسن العرني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدَّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المزدلفة أُغيلمةَ بني عبد المطلب على حُمُرات، فجعل يَلْطَحُ[(698)] أفخاذنا ويقول: «أُبَيْنِيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» .
وقد وهم الحافظ في استثناء النسائي، فقد رواه كما تقدم، وقد ذكر الحديث في «فتح الباري» وعزاه للنسائي[(699)].
وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه، فإن الحسن العرني وإن كان ثقة، إلا أنه لم يسمع من ابن عباس، كما قال الإمام أحمد[(700)]، وابن معين[(701)]، وقال أبو حاتم: (لم يدركه)[(702)].(1/232)
وقد أخرجه الترمذي (893)، وأحمد (5/142) من طريق المسعودي، عن الحكم، عن مِقْسم، عن ابن عباس، به، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
وهذا الإسناد رواته ثقات، لكن أُعلَّ بالانقطاع، فإن شعبة قال: (لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث) وعدها، وليس هذا الحديث منها[(703)].
وقد ضعف الإمام البخاري هذا الحديث ووصفه بالاضطراب، وقال: (لا ندري الحَكَمُ سمع هذا من مقسم أم لا؟)[(704)].
وأخرجه أبو داود (1941)، والنسائي (5/272)، وغيرهما من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
قال الألباني: (إسناده صحيح، إن كان ابن أبي ثابت سمعه من عطاء، فإنه مدلس، لكن الحديث صحيح)[(705)].
والذي يظهر أن الحديث فيه اضطراب، كما قال البخاري، وفيه شذوذ أيضاً؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في «الصحيحين»، وليس فيه نهيهم عن الرمي حتى تطلع الشمس؛ ولذا قال البخاري: (إن الأحاديث في الرمي قبل طلوع الشمس ـ يعني للضعفة ـ أكثر وأصح). يعني من حديث ابن عباس هذا.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه أبو داود (1942) من طريق ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، به.
والضحاك بن عثمان من رجال مسلم، لكنه صدوق سيئ الحفظ، وقد خولف في إسناده، فقد رواه الطحاوي من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلاً[(706)]. ورواه الشافعي من طريق الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلاً أيضاً، قال الدارقطني: «وهو الصحيح»[(707)].
وقد ضعف الحديث الإمام أحمد، وذكر ابن التركماني أنه مضطرب سنداً، وكذلك مضطرب متناً[(708)]، ففي بعض رواياته: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أم سلمة أن توافيه صلاة الصبح بمكة، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى الصبح يومئذ في المزدلفة، قال ابن القيم: (حديث منكر، أنكره الإمام أحمد وغيره...)[(709)].(1/233)
وأما قول الحافظ: (وإسناده على شرط مسلم) فهذا لا يلزم منه صحة الحديث؛ لأنه لا يلزم من تخريج الإمام مسلم لهؤلاء الرواة أن يكون الخبر على شرطه؛ لأن الإمام مسلماً يروي بهذا الإسناد أحاديث لم تعلَّ بمثل هذه العلل المذكورة في هذا الإسناد، وهي الاضطراب في سنده ومتنه وترجيح إرساله، ثم إن الإمام أحمد وغيره قد أنكر هذا الحديث، فكيف يقال: إنه على شرط مسلم؟!.
الوجه الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنهما يدل على أن من دفع من مزدلفة بليل فإنه لا يرمي جمرة العقبة حتى تطلع الشمس، ولكن الحديث منكر لما تقدم، فلا يحتج به على ذلك، وقد ذكر الحافظ في «فتح الباري»[(710)] أن للحديث طرقاً يقوي بعضها بعضاً، وأنه صححه الترمذي وابن حبان، وقال: (إنه حديث حسن)، مع أنه هنا وصفه بالانقطاع مضعفاً له، والصواب أن الحديث لا يصح، ولو فرض أنه صحيح لكان محمولاً على الأفضلية والندب[(711)]، وعلى هذا فالصواب أن من دفع من مزدلفة بعد مغيب القمر من الضعفة والنساء والأطفال أنه يرمي ولو قبل الصبح، لأمور ثلاثة:
الأول: أنه ورد في السنّة ما يدل على ذلك، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بالليل فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من يَقْدَمُ منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(712)].(1/234)
وعن عبد الله بن كيسان مولى أسماء رضي الله عنها قال: قالت لي أسماء، وهي عند دار المزدلفة: هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلَّت ساعة، ثم قالت: يا بُني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلَّت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: ارحل بي، فارتحلنا حتى رمت الجمرة، ثم صلت في منزلها، فقلت لها: يا هَنتاه[(713)]، ما أُرانا إلا قد غلّسنا[(714)]، قالت: يا بني إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن للظُّعُن[(715)].
الثاني: أنه لو كان رمي هؤلاء لا يجوز قبل الصبح لبيَّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم للأمة بياناً عاماً؛ لأن هذا الوقت وقت البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلما لم يقع شيء من ذلك عُلم الجواز، وهو ما فهم عبد الله بن عمر وأسماء رضي الله عنهما.
الثالث: أن تأخير رميهم إلى ما بعد طلوع الشمس مخالف لمقتضى الرفق بهم والحرص على سلامتهم قبل حطمة الناس، والترخيص لهم في الرمي قبل الناس أهم من مجرد انصرافهم من مزدلفة بلا رمي؛ لأن المشقة في الرمي أعظم من مشقتهم في الانصراف.
الوجه الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها يدل على جواز دفع الضعفة من مزدلفة ليلاً، وجواز رمي جمرة العقبة قبل الفجر، وقد تقدم من الأحاديث الصحيحة ما يدل على ذلك، وعلى هذا فليس العمل على حديث عائشة هذا لضعفه، وإنما العمل على ما صح من الأحاديث؛ كحديث ابن عمر وأسماء رضي الله عنهما.
ومن أهل العلم من جمع بين حديثي ابن عباس وعائشة فجعل لرمي جمرة العقبة وقتين: وقت فضيلة، وحمل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما ـ كما تقدم ـ، ووقت جواز، وحمل عليه حديث عائشة رضي الله عنها، والله أعلم[(716)].
من أحكام الوقوف بعرفة والمبيت بجمع(1/235)
758/17 ـ عنْ عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ شَهِدَ صَلاتَنا هذه ـ يعْنِي: بالمزدلفةِ ـ فوقَفَ مَعَنَا حتى نَدْفَعَ، وقدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قبلَ ذلك لَيْلاً أَو نَهَاراً فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» رواه الخمسة، وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابنُ خُزَيْمَةَ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عروة بن مضرِّس ـ بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء المكسورة ـ بن أوس بن حارثة بن لام الطائي، أسلم وصحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان من بيت الرياسة في قومه، فقد كان جده سيدهم، وكذا أبوه، وقد ذكر علي بن المديني ومسلم وغير واحد أنه لم يرو عنه غير الشعبي، قال الحافظ: (له حديث واحد في الحج)، وكان عروة مع خالد بن الوليد حين بعثه أبو بكر رضي الله عنه على الردة، وهو الذي بعث معه خالد عيينة بن حصن إلى أبي بكر رضي الله عنه، لما أسر يوم البُطاح[(717)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «من لم يدرك عرفة» (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (5/263)، وابن ماجه (3016)، وأحمد (26/142) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عروة بن مضرس الطائي، قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالموقف ـ يعني بجمع ـ قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طيئ، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل[(718)] إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه» ، هذا لفظ أبي داود.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وصحَّحه ـ أيضاً ـ ابن خزيمة (2820)، والحاكم (1/463).
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (من شهد صلاتنا هذه) أي: صلاة الفجر بمزدلفة.(1/236)
قوله: (فقد تمّ حجّه) فاعل (تمَّ)، والمراد: معظم حجه، وهو الوقوف؛ لأنه هو الذي يخاف عليه الفوات، أما طواف الإفاضة فإنه وإن كان لا يتم الحج إلا به لأنه ركن، لكنه لا يخشى فواته.
قوله: (وقضى تفثه) التفث ـ بالفتح ـ: هو الوسخ الحاصل بطول الأظفار ووفرة الشعر وغيرهما من شعث المحرم، ومعنى (قضى تفثه): أي انتهى وتخلص منه بإزالته.
الوجه الرابع: استدل بهذا الحديث بعض التابعين، وهم: علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري على أن المبيت بمزدلفة ركن لا يتم الحج إلا به، فمن فاته تحلل من إحرامه بعمرة، ثم حج من قابل، وهذا قول لبعض الشافعية[(719)].
ووجه الاستدلال: أنه رتب الجزاء «فقد تم حجه» على الشرط «من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع...» ، مما يدل على أن المبيت بها شرط لصحة الحج، كما استدلوا بقوله تعالى: {{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}} [البقرة: 198] .
ووجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب ذكره عند المشعر الحرام، وهو المبيت بمزدلفة، مما يدل على أنه أمر لا بد منه.
والقول الثاني: أن المبيت واجب، يُجْبَرُ بدم إذا فات، وعزاه النووي للجمهور[(720)]، واستدلوا بما تقدم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي: «الحج عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه...» [(721)].
ووجه الاستدلال: أنه إذا لم يأت عرفة إلا قبل صلاة الصبح، يكون قد فاته المبيت بمزدلفة قطعاً، ومع ذلك فقد صرح الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن حجه تام.
والقول الثالث: أن المبيت بمزدلفة سنّة وليس بواجب، وهذا قول الحنفية ـ والواجب عندهم هو الوقوف بعد الفجر ـ والقول بأنه سنة رواية عن أحمد، وهو قول لبعض الشافعية، وقد اشتهر عنهم، ولكن القول بالوجوب أصح منه[(722)]، ودليل هؤلاء أنه مبيت، فكان سنّة؛ كالمبيت بمنى ليلة عرفة.(1/237)
وقول الجمهور أظهر في هذه المسألة، وهو أن المبيت بمزدلفة واجب، وليس بركن يبطل الحج بتركه؛ لأن القول بأنه ركن مرجوح لأمور ثلاثة:
1 ـ أن الإمام أحمد قال ـ في رواية ابن القاسم ـ: (ليس أَمْرُ جَمْعٍ عندي كعرفة، ولا أرى الناس جعلوها كذلك)[(723)]، فهو ينقل الاتفاق على أن المبيت ليس بركن كالوقوف بعرفة، ولم يرَ أحداً سَوَّى بينهما مع معرفته بأقوال السلف، واطلاعه على مسائل الإجماع، لكن يشكل على هذا رأي من تقدم من السلف.
2 ـ أن الحديث الذي استدلوا به اشترط شهود الصلاة، والجمهور من أهل العلم على أن من وقف بمزدلفة ولم يشهد الصلاة، أن حجه تام[(724)]؛ بل إن أصحاب هذا القول لا يقولون بركنية الصلاة مع دخولها ضمن الشرط.
3 ـ ما روى إبراهيم، عن الأسود: أن رجلاً قدم على عمر رضي الله عنه، وهو بجمع بعدما أفاض من عرفات، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت الآن، فقال: أما كنت وقفت بعرفات؟ قال: لا، قال: فأت عرفة وَقِفْ بها هنيهة، ثم أَفِضْ، فانطلق الرجل، وأصبح عمر بجمع، وجعل يقول: أجاء الرجل؟ فلما قيل: قد جاء، أفاض[(725)]. فعمر رضي الله عنه صَحَّحَ حج من فاته المبيت بمزدلفة، ولم يأمره بدم[(726)]، وهذا مبني على قول الجمهور في أن من ترك واجباً ـ كالمبيت ـ وجب عليه دم.
الوجه الخامس: استدل الإمام أحمد بهذا الحديث على أن يوم عرفة كله وقت للوقوف من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليلاً أو نهاراً» ، فإن هذا يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار، ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة، فكان وقتاً للوقوف كما بعد الزوال.(1/238)
وذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن ما قبل الزوال من يوم عرفة ليس وقتاً للوقوف، وهو رواية عن الإمام أحمد[(727)]، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية. وحجتهم أن المراد بالنهار في هذا الحديث خصوص ما بعد الزوال، بدليل فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وفعل خلفائه من بعده، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن ما قبل الزوال غير داخل في قوله: «نهاراً» [(728)]، وكأنه لم يستحضر رأي الإمام أحمد في ذلك، أو لم يطلع عليه.
وقول الجمهور قوي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما وقف إلا بعد الزوال، وقد قال: «لتأخذوا مناسككم» . وإن كان استدلال الإمام أحمد بالحديث له وجه من النظر ـ كما يقول الشنقيطي[(729)] ـ لكن قول الجمهور، وهو عدم الاقتصار على أول النهار أحوط وأبرأ للذمة.
وفائدة الخلاف أنه لو وقف أول النهار ثم خرج من عرفة قبل الزوال ولم يعد إليها، صح حجه وعليه دم، هذا على المذهب عند الحنابلة، وعلى قول الجمهور إذا لم يعد إليها في وقت الوقوف لم يصح حجه[(730)]؛ لأنه وقف قبل دخول وقت الوقوف.
الوجه السادس: اختلف العلماء في حكم الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الوقوف إلى الغروب ركن، فمن انصرف قبل غروب الشمس لم يصح حجه، وهذا قول الإمام مالك[(731)]، وحجته حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج، فليحلَّ بعمرة، وعليه الحج من قابل» [(732)]، فكأن الإمام مالكاً لما رأى تعليق الإدراك بالليل أخذ منه أنه لا بد منه حتى في حق من وقف نهاراً.
وقد نقل ابن قدامة عن ابن عبد البر أنه قال: (لا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بقول مالك)[(733)].(1/239)
والحديث ضعيف؛ لأنه من رواية محمد بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، ثم إنه لا دليل فيه؛ لأنه خصَّ الليل بالذكر لأن الفوات يتعلق به، لكونه يأتي بعد النهار، فمن لم يقف ليلاً فاته الحج؛ لأنه آخر وقت الوقوف.
والقول الثاني: أن من انصرف قبل الغروب صح حجه، ولكن عليه دم؛ لأنه ترك واجباً ـ على قاعدتهم في ترك الواجبات ـ، وهذا قول أبي حنيفة، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد[(734)]؛ لأنه ركن لم يأت به على الوجه المشروع، فلزمه دم، كما لو أحرم دون الميقات.
والقول الثالث: أن البقاء إلى الغروب سنّة، فمن تركه لم يجب عليه شيء، وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعية، وحُكي رواية عن الإمام أحمد[(735)]، وهو قول ابن حزم، واختاره الشنقيطي[(736)] مستدلين بحديث الباب؛ لأن قوله: «أو نهاراً» يفيد أن من وقف نهاراً ودفع قبل الغروب: أنه تم حجه، والتعبير بلفظ التمام ظاهر في جواز ذلك، وأنه لا يُحتاج إلى جبره بالدم، وهذا استدلال واضح، ولأنه أدرك من الوقوف ما أجزأه، أشبه ما لو أدرك الليل منفرداً.
وهذا أظهر الأقوال، لقوة مأخذه، فإن حديث عروة بن مضرس تشريع عام للأمة، ولا تعارض بين القول والفعل، فيحمل فعله صلّى الله عليه وسلّم على الاستحباب، وعلى هذا فمن دفع من عرفة قبل الغروب فحجه تام، ولا شيء عليه، والقول بإيجاب الدم عليه ليس عليه دليل، بل قوله: «فقد تمَّ حجه» يرد هذا الإيجاب.
ولعل من قال بوجوب البقاء إلى الغروب رأى أن هذا الفعل وإن كان دالاً على الاستحباب لكن وجد قرائن تقوى الوجوب، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم رفيق بأمته حريص على ما ينفعهم ولا يشق عليهم، ولو كان الدفع قبل الغروب جائزاً لفعله، لتتأسّى به الأمة، وهو القائل: «لتأخذوا مناسككم» ، والدفع في النهار أسهل من الدفع بالليل لا سيما في الزمن الماضي.(1/240)
ثم إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم دفع من عرفة قبل أن يصلي المغرب، مع أن وقتها قد دخل، فلو كان الدفع قبل الغروب جائزاً لدفع وصلى المغرب في مزدلفة في أول وقتها.
ثم إن القرآن قد يدل على ذلك، كما في قوله تعالى: {{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}} [البقرة: 199] ، أي: من عرفة، والمراد بالناس: من سوى قريش، وإفاضة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد الغروب قد تكون بياناً لما أمر الله به، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما أفاض بعد الغروب دل على أن إفاضة الناس التي أمر الله بها هي عين ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امتثالاً لأمر الله تعالى؛ لأن الإفاضة المأمور بها هي المعتبرة شرعاً[(737)]، والله تعالى أعلم.
وقت الإفاضة من مزدلفة
759/19 ـ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قالَ: إنّ المُشْرِكينَ كانوا لا يُفيضونَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ويقولونَ: أَشْرِقْ ثَبيرُ، وأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم خالَفَهُمْ، ثمَّ أَفاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلعَ الشَّمْسُ. رواهُ الْبُخَاريُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «متى يُدفع من جمع؟» (1684) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت عمرو بن ميمون، يقول: شهدت عمر رضي الله عنه صلى بجمع الصبح، ثم وقف، فقال... وذكر الحديث.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (أشرق) بفتح الهمزة، فعل أمر من الإشراق؛ أي: ادخل في وقت الإشراق.
قوله: (ثبيرُ) بفتح الثاء، مبني على الضم؛ لأنه منادى بحرف نداء محذوف، وهو اسم جبل كبير شاهق يقع على حد مزدلفة من جهة الشمال، قيل: إنه عرف باسم رجل من هذيل اسمه ثبير دفن فيه. وقد جاء في إحدى روايات أحمد وابن ماجه: (يقولون: أشرق ثبير، كيما نُغير)[(738)]، أي: لنذهب سريعاً إلى منى، كالمغيرين من سرعة الدفع.(1/241)
قوله: (ثم أفاض) يحتمل أن فاعله هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويحتمل أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المشركين كانوا يعظّمون البيت ويحجونه، وكانوا على إرث من أبيهم إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، إلا أنهم غيّروا وبدلوا في صفة النسك، ومن ذلك أنهم كانوا يبقون في مزدلفة صبح يوم النحر حتى تشرق الشمس، ثم يُفيضون إلى منى.
الوجه الرابع: الحديث دليل على تأكد الإفاضة من مزدلفة وقت الإسفار قبل طلوع الشمس؛ لأن هذا هو هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم وهدي أصحابه رضي الله عنهم، مخالفة لأهل الجاهلية.
وقد ذهب بعض الحنفية إلى الوجوب[(739)]، وهو قول قوي، لفعله صلّى الله عليه وسلّم، ولما في ذلك من تحقيق المخالفة الواجبة لهدي الكفار، ومن تأخر عامداً إلى طلوع الشمس فقد أساء وخالف هدي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأما من تعذر عليه ذلك بعد أن أخذ في الإفاضة ولكن عاقه المسير لشدة زحام، أو خلل في مركوبه، أو نحو ذلك، فهو معذور.
الوجه الخامس: الحديث دليل على أنه يتأكد في حق المسلم مخالفة أهل الجاهلية ولا سيما في باب العبادات؛ لأن هذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية، لتبقى هذه الأمة متميزة بدينها وعقيدتها وأخلاقها، ولا تكون تابعة لغيرها؛ بل يجب أن يكون غيرها تابعاً لها ومقتدياً بها، والله المستعان.
متى يقطع الحاج التلبية؟
760/20 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ وأُسامَةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم قالا: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُلبِّي حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبةِ. رواهُ الْبُخَاريُّ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/242)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «التلبية والتكبير غداة النحر حين[(740)] يرمي الجمرة» (1686 ـ 1687) من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما كان رَدِفَ النبي صلّى الله عليه وسلّم من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قالا: لم يزلْ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
وفي رواية لمسلم (1281) عن كريب قال: أخبرني ابن عباس عن الفضل: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يزلْ يلبي حتى بلغ الجمرة.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن الحاج يستمر في تلبيته حتى يرمي جمرة العقبة، لكن وقع الخلاف بين العلماء في وقت قطعها، هل يقطعها عند الشروع في الرمي؟ أو يقطعها بعد الانتهاء من الرمي؟.
فالقول الأول: أنه إذا شرع في الرمي قطع التلبية، أخذاً برواية: (حتى بلغ الجمرة)؛ لأن بلوغ الجمرة هو وقت الشروع في الرمي، وهذا قول الجمهور[(741)]، ويؤيده أمران:
الأول: أنه إذا بدأ في الرمي شُرع له ذكر آخر، وهو التكبير عند كل حصاة، قائلاً: (الله أكبر)، ومعلوم أن ظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير مع الحصاة، لتتابع رمي الحصيات، ولم ينقل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يلبي أثناء الرمي، فدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقطعها عند الشروع في الرمي.
الثاني: أن التلبية شعار الحج وإجابة مناديه، وفي البدء برمي جمرة العقبة شروع في التحلل والانتهاء من أعمال الحج، فينتهي وقتها ومناسبتها.
والقول الثاني: أنه يلبي حتى ينتهي من رمي الجمرة، وهذا قول لبعض الشافعية، ورواية عند المالكية، وبه قال إسحاق، وأشار ابن المنذر إلى اختياره، واختاره ابن حزم[(742)]. واستدلوا برواية: (لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة)، وقال الإمام مالك في رواية عنه: (يقطع التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة)[(743)].(1/243)
والقول الأول أظهر، لقوة مأخذه ـ كما تقدم ـ، وتكون رواية: (حتى رمى) يراد به الشروع في رميها لا الانتهاء منه؛ أي: حتى أراد رمي الجمرة؛ كقوله تعالى: {{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}} [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة.
هذا بالنسبة للحاج، أما المعتمر ففيه قولان:
الأول: أنه يقطع التلبية إذا شرع في الطواف، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روى الشافعي بسنده عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما في المعتمر يلبي حتى يستلم الركن[(744)]، وبه قال جماعة من التابعين، وهو قول الشافعي، وإسحاق، وأصحاب، الرأي، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة[(745)]؛ لأن التلبية إجابة إلى العبادة وشعار الإقامة عليها، فلا يتركها إلا إذا شرع فيما ينافيها، وهو التحلل، وهو لا يحصل إلا بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فينبغي أن يقطع التلبية، كالحاج إذا شرع في رمي جمرة العقبة.
والقول الثاني: أنه يقطع التلبية إذا دخل أدنى الحرم، لأن الحرم هو مقصوده، وقد وصل إليه، وقد روى البخاري بسنده عن نافع، قال: «كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ويحدث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك»[(746)]، وهذا بالنسبة للمتمتع أو المعتمر، كما تقدم، وأما المفرد والقارن فإنه يعود إلى التلبية بعد الفراغ من السعي، وهذا اختيار الحافظ ابن خزيمة، فقد روى بسنده عن الأوزاعي أنه قال: قال عطاء بن أبي رباح: «كان ابن عمر يدع التلبية إذا دخل الحرم، ويراجعها بعد ما يقضي طوافه بين الصفا والمروة»[(747)]. والله تعالى أعلم.
المكان الذي ترمى منه جمرة العقبة
761/21 ـ عنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ جَعلَ البيْتَ عَنْ يسارِهِ، وَمِنًى عنْ يمينِه، ورَمَى الجَمْرَة بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وقالَ: هذا مَقَامُ الذي أُنْزِلَتْ عليه سُورَةُ البقرةِ. متفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجوه:(1/244)
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره» (1749)، ومسلم (1296) (307) من طريق إبراهيم النخعي، عن عبد الرحمن بن يزيد: أنه حج مع ابن مسعود رضي الله عنه فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت... الحديث.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (رمى) الرمي: هو القذف والدفع، والمراد به: القذف بالحجارة الصغيرة، وأما مجرد وضعها فلا يسمى رمياً.
قوله: (الجمرة) أي: مكان رمي الجمرة، سميت باسم الواحدة منه، والجمرة لها عدة معانٍ منها: الحصاة الصغيرة، وتطلق على مجتمع الحصا. وقد جعلت الجمرة على هيئة حوض في الأزمنة المتأخرة، وذلك سنة (1293هـ)[(748)]، وإلا فالجمرة هي المرمى، ولهذا لم يذكر المتقدمون الحوض، ولعل وضعه لتخفيف الزحام، لئلا يتدافع الناس في مكان الرمي، فيضر بعضهم بعضاً.
قوله: (الكبرى) وصف لجمرة العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكة، وتقدم في شرح حديث جابر رضي الله عنه معنى وصفها بالكبرى.
قوله: (سورة البقرة) خصها بالذكر؛ لأن فيها ذكر كثير من أحكام الحج خصوصاً الإشارة إلى رمي الجمار في قوله تعالى: {{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}} [البقرة: 203] ، فإن رمي الجمرات يدخل فيه؛ لأنه من ذكر الله تعالى.(1/245)
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن المشروع في رمي جمرة العقبة أن يستقبلها عند الرمي، ويجعل الكعبة عن يساره، ومنى عن يمينه، وهذا هو الأفضل في مكان وقوف الرامي لجمرة العقبة، وقد كانت الجمرة قديماً لاصقة بجبل، وتحتها وادٍ؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلّم رماها من بطن الوادي ولم يصعد على الجبل ليرمي من فوقه، فإذا رماها من بطن الوادي صارت مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ثم أزيل الجبل عام (1376هـ)، وبقيت جهة الجبل لا يرمى منها[(749)]، ولو رماها من أي جهة أجزأ، وقد نقل ابن حجر الإجماع على أنه من حيث رمى جمرة العقبة جاز[(750)]؛ لأن المقصود أن يكون الرامي في مكان أيسر له، ليطمئن في رميه، ويكبر الله تعالى. والله تعالى أعلم.
وقت رمي الجمار
762/22 ـ عن جابرٍ رضي الله عنه قالَ: رَمَى رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الجَمْرَة يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وأَمّا بعدَ ذلك فإذا زالتِ الشّمْسُ. روَاهُ مُسلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «بيان وقت استحباب الرمي» (1299) (314) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: (رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعدُ فإذا زالت الشمس) .
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن أفضل وقت لرمي جمرة العقبة هو بعد طلوع الشمس يوم النحر، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال: «لتأخذوا مناسككم» . ويجوز الرمي بعد الانصراف من مزدلفة إذا غاب القمر للضعفة، والمرضى، وكبار السن، ونحوهم، ومن يرافقهم من محرم، وسائق، كما تقدم.(1/246)
ويمتد وقت رمي جمرة العقبة إلى غروب الشمس على قول جمهور العلماء، ولا سيما من معه نساء ولم ينصرف من مزدلفة في الليل، فالأولى في حقه أن يؤخر الرمي إلى الظهر أو إلى العصر؛ لأن رمي النساء ضحى يوم العيد فيه مشقة عظيمة، كما هو مشاهد. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقتٍ لها[(751)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الجمار الثلاث في أيام التشريق لا ترمى إلا بعد الزوال لفعله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال: «لتأخذوا مناسككم» فيكون الرمي داخلاً في هذا العموم. وكونه صلّى الله عليه وسلّم رمى يوم النحر ضحى، ورمى أيام التشريق بعد الزوال دليل على اختلاف الحكم، وأن هذه عبادات لا مجال للرأي فيها، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كنا نتحيَّن، فإذا زالت الشمس رمينا)[(752)]، ثم لو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، لما فيه من المبادرة بالعبادة في أول وقتها، ولما فيه من تطويل وقت الرمي، ولما فيه من التيسير على الناس، ولا سيما في أيام الصيف وشدة الحر، فإنه صلّى الله عليه وسلّم رفيق بأمته حريص على ما ينفعهم ولا يشق عليهم.
والقول بأن الرمي بعد الزوال في جميع أيام التشريق، هو قول الإمام مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة في الرواية المشهورة، وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم عطاء بن أبي رباح[(753)]، قالوا: فمن رمى قبل الزوال وجب عليه أن يعيد؛ لأنه رمى قبل الوقت.
والقول الثاني: جواز الرمي قبل الزوال في يوم النفر، وهذا قول لأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول إسحاق وعكرمة؛ لأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم بأن ينفر ويترك الرمي، فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى[(754)].(1/247)
والقول الثالث: جوازه قبل الزوال في جميع أيام التشريق، وهو أحد القولين عن عطاء[(755)]، وبه قال طاوس، وروي عن أبي حنيفة في غير الرواية المشهورة[(756)]، وقد روى الفاكهي بسنده (أنَّ ابن الزُّبير رَمَى قَبلَ الزَّوالِ أَيَّامَ التَّشريقِ)[(757)].
والرَّاجح هو القول الأول، وهو أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال؛ لقوة دليله، فإن الأحاديث ـ كما تقدم ـ صحيحة وصريحة في المراد، ثم لو كان الرمي جائزاً قبل الزوال لشرعه الله لعباده، وفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم، لكنهم لم يرموا إلا بعد الزوال، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يرد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن لأحد أن يرمي قبل الزوال، كما أذن في ترك المبيت والدفع من مزدلفة.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (وقد تتبعت هذا كثيراً، زمناً طويلاً، فلم أجد عن صحابي واحد ما يدل على الرمي قبل الزوال، لا من قوله ولا من فعله، كلهم يرمون بعد الزوال، كما رمى النبي عليه الصلاة والسلام)، وليس مع من أجاز الرمي قبل الزوال دليل واضح، مع مخالفته لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال: «لِتَأخُذُوا مَناسِكَكُم» ، لكن من رمى قبل الزوال فله سلف من أهل العلم، ولا سيما من كان مضطراً إلى ذلك كموعد رحلة طائرة ونحو ذلك، وإلا فالأحوط ألا يرمي قبل الزوال؛ تأسّياً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ووقت الرمي فيه سعة ـ ولله الحمد ـ، فإنه يمتد من الزوال إلى طلوع الفجر من اليوم التالي، ولا موجب للرمي قبل الزوال إلا العجلة التي عليها غالب الناس في زماننا هذا، والله المستعان.(1/248)
والرمي قبل الزوال ليس علاجاً لمشكلة الزحام وتوابعه التي يعلل بها من يقول بجواز الرمي قبل الزوال؛ لأن الزمان سينتقل إلى أول وقت يجوز الرمي فيه، سواء قبل الزوال أو بعده، لكن ما فعلته الدولة ـ وفّقها الله ـ في مشروع الجمرات عالج مشكلة الزحام معالجة واضحة، وذلك بتوسعة مكان الرمي، وتنظيم الناس ذهاباً وإياباً، ومنع المفترشين، وقد رأينا في حج هذا العام (1427هـ) اليسر والسهولة في الرمي، مع أن المشروع لم يتم بعدُ.
كيفية رمي الجمار
763/23 ـ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : أَنَّهُ كان يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكبِّرُ على إِثْرِ كلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ، ثُمَّ يُسْهِلُ، فَيقومُ فَيَسْتَقْبِلُ القِبْلةَ، فيقوم طويلاً، ويدعو، ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثم يأخُذُ ذاتَ الشِّمَالِ فيُسْهِلُ، ويَقُومُ مُستَقْبِلَ القِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعو فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طويلاً، ثمَّ يَرْمي جَمْرَةَ ذاتِ العَقَبَةِ من بَطْنِ الوادي، ولا يَقِفُ عنْدَها، ثمَّ يَنْصَرِفُ، فيقولُ: هكذا رأَيتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَفْعَلُهُ. رواه البخاريُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويُسهل» (1751) من طريق طلحة بن يحيى، حدثنا يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (الجمرة الدنيا) أي: القريبة إلى جهة مسجد الخيف.
قوله: (على إثر) بكسر الهمزة وسكون المثلثة؛ أي: عقب كل حصاة.
قوله: (ثم يُسهل) بضم الياء، مضارع أسهل الرباعي؛ أي: يقصد المكان السهل من الأرض، حتى يوسع للرماة، فلا يؤذيهم ولا يؤذونه.
قوله: (يقوم طويلاً) صفة لمصدر محذوف؛ أي: قياماً طويلاً، وفي رواية: (وكان يطيل الوقوف).(1/249)
قوله: (ذات الشمال) أي: يمشي إلى جهة الشمال.
قوله: (ذات العقبة) العقبة: جبل صغير فيه ثنية كانت الجمرة الكبرى في سفحه الجنوبي، فأزيلت تلك العقبة ـ كما تقدم ـ بإذن من مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، لغرض توسعة شارع الجمرات[(758)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن رمي الجمار يكون بسبع حصيات لكل جمرة، وقد ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن ذلك شرط من شروط صحة الرمي، فإن نقص واحدة لم يصح الرمي، وعليه الرجوع لإتمام ما نقص؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رمى بسبع، ولا يعرف أنه أذن لأحد أن يرمي بأقل من سبع.
وأما ما أخرجه النسائي وغيره، عن مجاهد، قال: قال سعد رضي الله عنه: (رجعنا في الحجة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبعضنا يقول: رميت بسبع، وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضهم على بعض)[(759)]، فهذا أثر منقطع؛ لأن مجاهداً لم يسمع من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، كما قال الطحاوي وابن القطان وغيرهما، نقل ذلك ابن التركماني، وذكر أن الأخبار تظاهرت بوجوب السبع، ولم يثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقر الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، ولا اجتهاد في موضع النص[(760)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الجمار الثلاث ترمى في أيام التشريق، وأنه يُبدأ بالجمرة الدنيا، وهي التي تلي مسجد الخيف، ثم الثانية، ثم العقبة، والأكثرون من أهل العلم على أن هذا الترتيب شرط لصحة الرمي؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رماها كذلك، فإن اختل لم يصح الرمي.
الوجه الخامس: الحديث دليل على مشروعية التكبير عقب كل حصاة، فيقول: الله أكبر، ولا يزيد على ذلك، وفي حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (يكبر مع كل حصاة منها).(1/250)
الوجه السادس: الحديث دليل على صفة رمي الجمار، وأنه إذا رمى الجمرة الأولى تقدم أمامها قليلاً، لئلا يضيق على الرماة، ولئلا يُؤْذِي أو يُؤْذَى، فيقف ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويدعو طويلاً. ثم يرمي الوسطى، ويتقدم ذات الشمال، فيقف للدعاء، كما تقدم.
وعن عطاء قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة[(761)].
وأكثر الحجاج تركوا الوقوف للدعاء، إما جهلاً، وإما عجلة وتهاوناً، فليحرص المسلم على الوقوف للدعاء؛ لأن السنّة كلما ضيعت كان فعلها آكد، ليجمع العامل بها بين فضيلة العمل وإحياء السنة.
ثم يرمي الثالثة، وهي جمرة العقبة من بطن الوادي ـ كما تقدم ـ ولا يقف عندها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رماها ولم يقف بعد الرمي، والله تعالى أعلم.
مرتبة التقصير من الحلق
764/24 ـ عن ابنِ عُمر رضي الله عنهما : أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «اللّهمَّ ارْحَمْ المُحَلِّقِينَ» قالوا: والمُقَصِّرِينَ يا رسولَ اللهِ؟ قال في الثالثةِ: «والمُقصِّرين» مُتّفقٌ عَلَيه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «الحلق والتقصير عند الإحلال» (1727)، ومسلم (1301) من طريق مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (قال) أي: هذا الدعاء، وكان ذلك في غزوة الحديبية، وفي حجة الوداع أيضاً.
قوله: (ارحم) أي: أنزل رحمتك التي بها حصول المطلوب والنجاة من المرهوب. وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «اللّهم اغفر للمحلقين...» قالها ثلاثاً[(762)].
قوله: (المحلقين) أي: الحالقين رؤوسهم في حج أو عمرة تعبداً لله تعالى. والحلق: إزالة شعر الرأس كله بالموسى ونحوه.(1/251)
قوله: (قالوا: والمقصرين) معطوف على (المحلقين) ويسمّى: العطف التلقيني؛ أي: قل: المحلقين والمقصرين، والتقصير: قص أطراف شعر الرأس من جميع نواحيه.
قوله: (قال في الثالثة) أي: إنه دعا للمحلقين مرتين، وفي الثالثة دعا للمقصرين.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الحلق والتقصير من مناسك الحج والعمرة وليس إطلاقاً من محظور. وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرحمة؛ لأنه لا يدعو إلا لشيء مطلوب شرعاً، ولقوله تعالى: {{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}} [الفتح: 27] ، ووجه الدلالة: أن الله تعالى وصفهم بالحلق، ولو لم يكن من المناسك كاللبس، وقتل الصيد، لما وصفهم به.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن الحلق أفضل من التقصير؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كرر الدعاء للمحلقين، وذلك لأن التعبد والتعظيم لله تعالى بالحلق أظهر وأكمل، ولأن الله تعالى قدمه على التقصير، فقال: {{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}} وإن كانت الواو لا تقتضي الترتيب في أصل وضعها، لكن وجد قرائن تفيد ذلك، ولأنه فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ويستثنى من ذلك المتمتع الذي قدم مكة متأخراً بحيث لا ينبت شعره قبل الحج، فإن التقصير في حقه أفضل، كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بذلك في حجة الوداع[(763)]، ليجمعوا بين التقصير في العمرة، والحلق في الحج، ولو حلقوه في العمرة حينئذ لم يبق في الرأس شعر للحج.
ولا بد في التقصير من تقصير جميع الرأس على الراجح من أقوال أهل العلم، وذلك بأن يعم ظاهر الرأس، لا أن يأخذ من كل شعرة بعينها، ووجه ذلك أن الله تعالى أضاف الحلق والتقصير إلى الرأس، والفعل المضاف إلى الرأس يشمل جميعه، ولأن التقصير يقوم مقام الحلق، والحلق لجميع الرأس، فكذا التقصير.(1/252)
الوجه الخامس: الحديث دليل على كمال نصح النبي صلّى الله عليه وسلّم ورحمته بأمته، حيث دعا لمن قام بالعبادة، حثاً له على الخير وزيادة في أجره وثوابه، والله تعالى أعلم.
حكم الترتيب بين مناسك الحج يوم العيد
765/25 ـ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ رضي الله عنهما : أَنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَقَفَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يسْأَلونَهُ، فقالَ رجُلٌ: لمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قبلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قالَ: «اذبحْ ولا حَرَجَ»، فَجَاءَ آخَرُ فقالَ: لمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قبلَ أَن أَرْمِيَ؟ قال: «ارْمِ ولا حَرَج»، فما سُئِلَ يوْمئذٍ عنْ شيءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قالَ: «افْعَلْ ولا حَرَجَ» مُتّفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في مواضع من «صحيحه»، وأولها في كتاب «العلم»، باب «الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها» (83)، ثم في كتاب «الحج»، باب «الفتيا على الدابة عند الجمرة» (1736)، ومسلم (1306) من طريق الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، به.
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (وقف في حجة الوداع) كان ذلك على بعيره عند جمرة العقبة بينها وبين الوسطى، بعد الزوال يوم العيد، وقد جاء في رواية: (وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقته...).
قوله: (لم أشعر) بضم العين، والشعور: هو الإدراك والإحساس، يقال: شعرت بالشيء شعوراً: إذا فطنت به، والمعنى: لم أعلم، أو لم أفطن إما لجهل أو نسيان.
قوله: (قبل أن أذبح) في تأويل مصدر مضاف إليه؛ أي: قبل الذبح، والمراد: ذبح الهدي.
قوله: (اذبح) هذا أمر إباحة؛ لأن صيغة الأمر إذا وردت في مقام يتوهم فيه الحظر فهي للإباحة، كما في الأصول[(764)].(1/253)
قوله: (ولا حرج) الحرج: الضيق، وخبر (لا) محذوف، وهذه الصيغة نكرة في سياق النفي، ركبت مع (لا) فبنيت على الفتح، وهي نص صريح في العموم، لنفي جميع أنواع الحرج، والمعنى: لا ضيقَ عليك بإثم ولا فدية.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الأفضل ترتيب شعائر الحج يوم العيد، وذلك بأن يُبدأ برمي جمرة العقبة، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الإفاضة، قال أنس رضي الله عنه: (أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاّق: «خذ» ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس)[(765)].
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن مخالفة هذا الترتيب بتقديم بعض الأعمال على بعض أنه لا حرج فيه، أما في حق الجاهل والناسي فهو موضع إجماع بين أهل العلم، وأما في حق العامد، ففيه قولان:
الأول: جواز تقديم بعضها على بعض في حق العامد، وهو العالم الذاكر، وهذا قول الجمهور؛ لقوله: (فما سئل يومئذ عن شيء قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: «افعل ولا حرج» )، ولم يقيده بالناسي أو الجاهل.
القول الثاني: أن رفع الحرج إنما هو في حق الجاهل والناسي فقط، وهذا قول أبي حنيفة[(766)]؛ لقول السائل: (لم أشعر)، والمطلق يحمل على المقيد؛ لأن السائلين كانوا أعراباً لا علم لهم بالمناسك.
والقول الأول أرجح؛ لأن توارد الأسئلة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقوة كلامه في نفي الحرج، وعدم النهي عن العود لمثلها، يدل على التسامح في ذلك، وهذا هو الموافق لمقاصد الدين الإسلامي، ولا سيما في مثل هذه الأزمان؛ لأن هذا أيسر للناس.
الوجه الخامس: في الحديث دليل على مشروعية وقوف العالم في أيام المناسك لإفتاء الناس وتعليمهم مناسكهم، وكذا في المواسم العارضة؛ كشهر رمضان وعشر ذي الحجة، يبذل العالم نفسه للناس؛ لأنهم في حاجة إلى من يعلمهم، ويجيب على أسئلتهم.(1/254)
الوجه السادس: مما ينبغي أن يعلم أن الأصل في أحكام المناسك ـ كغيرها ـ هو التأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ومتابعته في أقواله وأفعاله؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم فعل المناسك أمام الأمة بياناً لقول الله تعالى: {{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}} [آل عمران: 97] ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي لا أحج بعد حجتي هذه» [(767)]، قال النووي: (هذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج)[(768)].
واعتياد الأخذ بالرخص قد يؤدي إلى التساهل بالمناسك وانحلال عزائم المكلفين، ولا ريب أن المقصود من الترخيص للمكلفين هو الرفق بهم عن تحمل المشاق، فالأخذ بها موافق لمقاصد الشريعة، لكن هذا لا يعني اعتياد الترخيص حتى كأنه هو الأصل؛ لأن هذا يؤدي إلى اعتبار العزائم شاقةً حَرِجَةً، ومن ثم لن يقوم بها المكلف كما ينبغي.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم ما قال: «افعل ولا حرج» في جميع المناسك، وإنما قال هذا لما سئل عن التقديم والتأخير في مناسك يوم العيد. والله تعالى أعلم.
مشروعية تقديم النحر على الحلق
766/26 ـ عن المِسورِ بنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما: أَنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم نَحَرَ قبْلَ أنْ يحْلِقَ، وأَمَرَ أَصْحابَه بذلك. رواه البخاري.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:(1/255)
وهو المسور ـ بكسر الميم وسكون السين المهملة ـ بن مخرمة ـ بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة ـ بن نوفل القرشي الزهري، ولد بعد الهجرة بسنتين، وقدم به أبوه إلى المدينة سنة ثمان من الهجرة، وحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث، وروى عن الخلفاء الأربعة، ولازم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان فقيهاً، ذا فضل ودين، بقي في المدينة فلما قتل عثمان رضي الله عنه تحوّل إلى مكة وبقي فيها، حتى قدم الجيش لقتال ابن الزبير، فأصابه حجر من المنجنيق وهو يصلي في الحِجْرِ فقتله، وذلك في سنة أربع وستين، رضي الله عنه[(769)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «المحصر»، باب «النحر قبل الحلق في الحصر» (1811) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور رضي الله عنه، به.
الوجه الثالث: هذا الحديث ليس من أحاديث الحج، خلافاً لما يُشعر به صنيع الحافظ، وإنما هو في عمرة الحديبية، سنة ست، حين منعت قريش النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من دخول مكة لأداء عمرتهم، فحصلت المصالحة بينهم على أن يعود ويأتي من قابل، كما في القصة المشهورة التي أخرجها البخاري[(770)]، وقد جاء فيها: (... فلما فرغوا من قضية الكتاب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا...» ) الحديث، ثم تحلل النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذبح والحلق، وتابعه أصحابه على ذلك، لقوله تعالى: {{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}} [البقرة: 196] .
وعلى هذا فقوله: (وأمر أصحابه بذلك) ليس في الحج؛ لأن النحر والحلق في الحج إنما كان من فعله صلّى الله عليه وسلّم وليس من أمره، أما الأمر فكان في الحديبية، ولو أن المؤلف جعل هذا الحديث في باب الإحصار لكان أولى، والله تعالى أعلم.
بم يحصل التحلّل الأول؟(1/256)
767/27 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقدْ حَلَّ لكُمْ الطِّيبُ وَكُلُّ شيءٍ إلا النِّساء». رواهُ أحمد وأبو داود، وفي إسنادِه ضَعْفٌ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (42/40)، وابن خزيمة (4/302)، والدارقطني (2/276)، والبيهقي (5/136) من طريق الحجاج بن أرطاة، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رميتم وحلقتم، فقد حلَّ لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء».
وأخرجه أبو داود (1978) من طريق الحجاج، عن الزهري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء» .
وهذا الحديث ضعيف في سنده، مضطرب في متنه، أما السند فإن مداره على الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وقد عنعنه، واختلف عليه فيه، قال أبو داود عقبه: (هذا حديث ضعيف، الحجاج لم يرَ الزهري، ولم يسمع منه)، وقال البيهقي: (هذا من تخليطات الحجاج بن أرطاة)، ونقل الزيلعي عن الدارقطني أنه قال: (لم يروه غير الحجاج بن أرطاة)[(771)].
وأما اضطراب متنه، فقد ورد فيه: «وحلقتم» ، كما عند أحمد ومن ذكر معه، وورد بدونها، كما عند أبي داود، وأشار إليه الطحاوي[(772)]، والدارقطني[(773)].
الوجه الثاني: استدل بحديث الباب فقهاء الشافعية ـ على تفصيل عندهم ـ والحنابلة في الصحيح المشهور في مذهبهم على أن التحلل الأول ـ ويسمى التحلل الأصغر ـ لا يحصل إلا برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير[(774)]، فمن رمى وحلق حلَّ له كل شيء من محظورات الإحرام من اللبس والطيب وتغطية الرأس، ونحو ذلك، إلا النساء، فإذا طاف طواف الإفاضة حلَّ له كل شيء حتى النساء، ويسمّى التحلل الأكبر، وهذا أحد قولي عمر رضي الله عنه.(1/257)
والقول الثاني: أن التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة فقط، وهذا مروي عن عمر، وعائشة، وابن الزبير رضي الله عنهم[(775)]، وهو قول علقمة وعطاء وأبي ثور، وهو مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن قدامة[(776)]. واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيديّ بِذَرِيرةٍ[(777)] لحجة الوداع، للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت)[(778)] فإن ظاهر قولها: (وحين رمى جمرة العقبة) يفيد أن الطيب حصل بعد الرمي.
كما استدلوا بحديث عائشة المذكور في هذا الباب من رواية أبي داود، وقد تقدم سياقها، وليس فيها إلا ذكر الرمي دون الحلق. كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إذا رمى الجمرة فقد حلّ له كل شيء إلا النساء»، فقال رجل: والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟[(779)].
والقول الأول وجيه جداً في نظري؛ لأنه مؤيد بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث إنه رمى، ثم نحر، ثم حلق، ولم يتحلل النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد رمي الجمرة فقط، ومن قال بذلك فقد خالف السنّة، فإن حفصة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلّوا بعمرة، ولم تحْلِلْ أنت من عمرتك؟ قال: «إني لبَّدت رأسي، وقلّدت هديي، فلا أَحِلُّ حتى أنحر»[(780)].
وأما حديث عائشة المقتصر على الرمي ـ كما في رواية أبي داود ـ، فهو حديث ضعيف كما تقدم.(1/258)
وأما حديثها الثاني: (طيبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم... وحين رمى جمرة العقبة) فهو حديث ضعيف بهذا السياق، تفرد به روح عن ابن جريج، وقد خالفه جماعة، فرووه بلفظ: (طيبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذريرة في حجة الوداع للحِلِّ والإحرام)[(781)]. وفي لفظ: (... ولحله قبل أن يطوف بالبيت) وعليه فالاستدلال به على أن التحلل الأول يحصل بالرمي وحده غير مستقيم، لسببين:
الأول: تفرد روح بهذه الزيادة (وحين رمى جمرة العقبة) عن غيره من الرواة عن ابن جريج، ولذا أعرض عنها الشيخان، كما تقدم.
الثاني: حتى على القول بقبول هذه الزيادة، وأن هذا الحديث روي مطولاً، وروي مختصراً، فليس صريحاً في أن الطيب وقع بعد رمي جمرة العقبة مباشرة؛ لأنها قالت: (قبل أن يطوف بالبيت) وهذه القبلية من الظروف الواسعة، وقد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، الرمي والنحر والحلق؛ لأنه رتب مناسك يوم العيد، كما في حديث أنس[(782)] وغيره، وتقدم.
ويؤيد هذا الترجيح أمران:
1 ـ أن قولها: (طيبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحله حين أحلَّ قبل أن يطوف بالبيت) يفيد أن الحل حصل بالرمي والحلق قبل الطواف، ولولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف، وقالت: (قبل أن يطوف بالبيت).
2 ـ أنه لا معنى للطيب قبل الحلق وقضاء التفث، فلولا أنه حلق بعد أن رمى لم يتطيب، وقد بوّب البخاري على حديث عائشة رضي الله عنها بقوله: (الطيب بعد رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة)[(783)].
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فهو ضعيف لانقطاعه، لأن الحسن العرني وإن كان ثقة، إلا أنه لم يسمع من ابن عباس كما تقدم عند الحديث (756).
ومما يؤيد أنه موقوف، استشهاد ابن عباس رضي الله عنهما بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان الحديث عنده مرفوعاً لما احتاج إلى ذلك.(1/259)
وبهذا يتبين أن أدلة القائلين بأن التحلل الأول يحصل بالرمي وحده غير ناهضة؛ لأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح يدل على خلاف ما استنبط منه[(784)]، ثم إنها مخالفة لفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فالأولى والأحوط ألا يتحلل إلا بعد الرمي والحلق، تأسّياً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولأن العلماء أجمعوا على أن التحلل بعد الرمي والحلق تحلل صحيح، لكن من تحلل بالرمي وحده فله سلف، لما تقدم عن عمر، وعائشة، وابن الزبير رضي الله عنهم، والله أعلم.
مشروعية التقصير دون الحلق في حق المرأة
768/28 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: عن النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «لَيسَ على النِّساءِ حَلْقٌ، وإنَّما يُقَصِّرْنَ». رواهُ أبو داود بإسْنَادٍ حَسَنٍ.
الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «الحلق والتقصير» (1985) قال: حدثنا أبو يعقوب المدني، ثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال... وذكر الحديث.
وهذا إسناد حسن، أبو يعقوب المدني، شيخ أبي داود، وثّقه أحمد، وابن معين، والدارقطني وغيرهم، وضعّفه آخرون[(785)]، وقال عنه الحافظ في «التقريب»: (صدوق تُكُلِّمَ فيه؛ لوقفه في القرآن).
وقد توبع في روايته عن هشام بن يوسف، تابعه ابن معين عند أبي زرعة في «تاريخ دمشق»[(786)]، وعلي بن عبد الله المديني عند الدارمي (1/390)، وعنعنة ابن جريج لا تضر؛ لأنه قد صرح بالتحديث عند الدارمي. وأم عثمان: صحابية، كما جزم بذلك ابن منده، وابن عبد البر، فإنه قال: (كانت من المبايعات، روت عنها صفية بنت شيبة)[(787)].
والحديث حسّنه الحافظ[(788)]، ونقل عن أبي حاتم أنه قوَّاه[(789)].(1/260)
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن المشروع في حق المرأة عند التحلّل هو التقصير، وهو أن تأخذ من كل ظفيرة قدر أنملة، وهو رأس الأصبع، وذلك بأن تمسك كل ظفيرة بعينها، أو تقبض على جميع شعرها إن لم يكن لها ظفائر، فتأخذ منه.
وأما الحلق فإنه لا يجوز في حقها، وقد أجمع أهل العلم على أنه ليس على النساء حلق، وذلك لأن شعر المرأة زينة لها وجمال في حقها، ولأن حلقه مُثْلة؛ لأنه حلق غير معتاد، كحلق الرجل لحيته.
ولو أن المؤلف قدّم هذا الحديث بعد حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحلق والتقصير لكان أولى؛ للمناسبة بينهما، والله تعالى أعلم.
حكم المبيت بمنى
769/29 ـ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ العَبَّاسَ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه استأذَنَ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَبيتَ بِمَكَّةَ ليالي مِنًى مِن أَجلِ سِقايَتِهِ، فَأَذِنَ لهُ. مُتّفقٌ عليه.
770/30 ـ وعنْ عاصِمِ بنِ عَدِيٍّ: أَنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أرْخَصَ لرُعَاة الإِبِلِ في الْبَيْتوتَةِ عَنْ مِنىً، يَرْمونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثمَّ يَرْمونَ الغَدَ لِيومَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. رواهُ الخمسة، وصَحَّحَهُ الترمذي، وابنُ حِبَّان.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو عاصم بن عدي البلوي العجلاني، حليف الأنصار، ذكروه في البدريين، وقيل: لم يشهدها، وإنما خَلَّفَهُ النبي صلّى الله عليه وسلّم على قباء وأهل العالية لشيء بلغه عنهم، وضرب له بسهمه وأجره، فكان كمن شهدها، وشهد أُحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعثه مع مالك بن الدُّخشم فأحرقا مسجد الضرار ببني عمرو بن عوف، بقباء. مات سنة خمس وأربعين في المدينة، وهو ابن خمس عشرة ومائة، وقيل: عشرين ومائة، رضي الله عنه[(790)].
الوجه الثاني: في تخريجهما:(1/261)
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرجه البخاري في مواضع من كتاب «الحج»، أولها باب «سقاية الحاج» (1634)، ثم في باب «هل يبيت أصحاب السقاية وغيرهم بمكة ليالي منى؟» (1734 ـ 1745)، ومسلم (1315) من طريق عبيد الله، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به.
وأما حديث عاصم، فقد أخرجه أبو داود (1975)، والترمذي (955)، والنسائي (5/273)، وابن ماجه (3037)، وأحمد (39/193)، وابن حبان (3888) من طريق مالك، قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي البدَّاح بن عاصم، عن أبيه رضي الله عنه، به.
وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح). وهذا الحديث له عدة روايات، وألفاظها متقاربة.
الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
قوله: (أن العباس بن عبد المطلب) هو عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدم ذكره في «الاستسقاء». قوله: (استأذن) أي: طلب الإذن، وهو الرخصة.
قوله: (أن يبيت بمكة ليالي منى) في تأويل مصدر مجرور، أي: في المبيت، والمعنى: أنه طلب أن يأذن له أن يدع المبيت بمنى ليالي أيام التشريق ويبيت بمكة.
قوله: (من أجل السقاية) تعليل لقوله: (استأذن) أي: من أجل ألا تنقطع مصلحة سقاية ماء زمزم.
والسقاية: بكسر السين، مهنة سقي الناس الماء، والمراد هنا: ما يسقيه الناسَ من ماء زمزم، وكان ينبذ فيه الزبيب، ويسقيهم إياه في الجاهلية والإسلام. وكانت السقاية من مآثر قريش، يتولاها بنو عبد المطلب، وكان العباس رضي الله عنه هو القائم بها.
قوله: (في البيتوتة) من مصادر بات، يقال: بات فلان بيتاً، وبياتاً، ومبيتاً، ومباتاً، وبيتوتة، أي: أدركه الليل، نام أو لم ينم.
قوله: (يوم النفر) النفر: خروج الناس من منى بعد نهاية المناسك، واليوم الثاني عشر هو يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني.(1/262)
الوجه الرابع: اختلف العلماء في حكم المبيت بمنى الليلة الحادية عشرة والثانية عشرة من ليالي أيام التشريق على قولين بعد إجماعهم على أنه نسك:
الأول: أنه واجب من واجبات الحج، وهذا قول المالكية، وأحد القولين عند الشافعية، وقد اعتبره النووي هو الأصح، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة[(791)]، واستدلوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بات بها، وقال: «لتأخذوا مناسككم» ، ولأنه صلّى الله عليه وسلّم رخص لعمه رضي الله عنه من أجل سقايته، ورخص لرعاة الإبل، والتعبير بالإذن كما هنا، وبالرخصة كما في رواية أخرى، يدل على وجوب المبيت، ولو كان المبيت غير واجب لما كان للترخيص في حق هؤلاء معنى. والواجب من ذلك معظم الليل، سواء من أول الليل أو من آخره.
والقول الثاني: أن المبيت بمنى سنّة، وهذا قول الحسن، وأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره ابن حزم[(792)]، وقال أبو حنيفة: يكره تركها، واستدلوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بات بمنى، ولم يأمر بالمبيت بها.
وأجاب ابن حزم عن الإذن للرعاة والترخيص للعباس بأنه لا دليل فيه على الوجوب على غيرهم، إلا لو أنه تقدم من النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بالمبيت، ثم رخص لهؤلاء، فإنهم يكونوا مستثنين من سائر مَنْ أُمروا، أما إذا لم يتقدم أمر فيبقى غيرهم على الإباحة[(793)].
ويترتب على هذا الخلاف: أن القائلين بالوجوب يُلزمون تاركه دماً على قاعدتهم في ترك الواجبات، وعلى أنه سنّة فلا شيء عليه، لكنه خالف سنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد بات بها صلّى الله عليه وسلّم[(794)]، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه حتى على القول بالوجوب لا يلزمه دم؛ لأن الشرع لم يرد فيه بشيء، قال الإمام أحمد فيمن ترك المبيت: (لا شيء عليه، وقد أساء)[(795)].(1/263)
ومن اجتهد ولم يجد مكاناً يليق به سقط عنه وله أن يبيت خارجها في أي مكان شاء ولا شيء عليه[(796)]، لعموم قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، وقوله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}} [البقرة: 286] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» [(797)]، ومن قواعد الشريعة المجمع عليها: (أنه لا واجب مع العجز)، وهذا عاجز عن الوصول إلى منى؛ فسقط عنه المبيت.
وليس من ذلك المبيت في الشوارع وعلى الأرصفة في طرق الناس والسيارات، ولا سيما من معه نساء، فإن في ذلك ضرراً عظيماً، وخطراً جسيماً لا تأتي الشريعة بمثله، فإذا وجد العذر سقط الواجب، ولا يلزم البحث عن المكان إذا كان يغلب على ظنه عدم الحصول عليه، كما في زماننا هذا.
الوجه الخامس: الحديث دليل على سقوط المبيت عن أهل السقاية ورعاة الإبل؛ لأنهم يحتاجون البعد عن منى ليجدوا مكاناً أحسن رعياً من غيره، فيسقط عنهم المبيت، مراعاة للمصلحة العامة، وقد ألحق بهم أهل العلم من يماثلهم، وهو كل من اشتغل بمصلحة عامة، كرجال المرور، ورجال الإسعاف، والأطباء، ونحوهم.
أما من له عذر خاص، كمريض نُقل للمستشفى خارج منى، أو مرافق مريض، أو من له أهل بمكة يخشى عليهم، ونحو هؤلاء، فقيل: يقاس على أهل السقاية بجامع العذر في كل منهم، وقيل: لا يقاس؛ لأن هذا عذر خاص، والأول عام لمصلحة الناس.(1/264)
الوجه السادس: ظاهر حديث عاصم بن عدي أن أهل السقاية يرمون كغيرهم من الحجاج، أما الرعاة فإنهم يرمون يوم النحر مع الناس، ثم يذهبون لرعي إبلهم، فإذا عادوا يوم النفر الأول رموا عن اليومين: الحادي عشر والثاني عشر، ثم يرمون اليوم الثالث عشر إذا لم يتعجلوا، وهذا يدل على أن تأخير الرمي أولى من التوكيل لرمي كلِّ يوم في وقته؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رخص للرعاة في التأخير، ولو كان التوكيل مشروعاً لهم لأرشدهم إليه؛ لأنه أسهل.
الوجه السابع: استدل بحديث عاصم بن عدي رضي الله عنه فقهاء الشافعية، والحنابلة، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، على أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي، فالرمي في جميعها أداء[(798)]، فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه ولا شيء عليه، إلا أنه ترك السنة.
ووجه الاستدلال: أنه لو لم يكن اليوم الثاني وقتاً لرمي اليوم الأول لما جاز الرمي فيه.
والقول الثاني: أن كل يوم منها مستقل في رميه، فإن فات هو وليلته التي بعده، فات الرمي، وصار قضاءً في اليوم الذي بعده، وعليه دم، على تفصيل عندهم، وهذا قول الحنفية والمالكية[(799)]؛ لأن الرمي ناقص بتأخيره عن وقته إلى وقت القضاء، فيجبر النقص بالفدية.
والقول الأول أرجح، لقوة دليله.
فإذا غابت الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق انتهى وقت الرمي، فمن رمى بعد ذلك صار رميه قضاءً لا أداءً.
الوجه الثامن: اختلف العلماء في حكم الرمي ليلاً على قولين:
الأول: أنه لا يجوز الرمي ليلاً؛ لأن اليوم ينتهي بغروب شمسه، فإذا غربت وهو لم يرمِ أخَّر الرمي إلى ما بعد الزوال من يوم غدٍ، وهذا قول الحنابلة، وإسحاق، وأحد الوجهين عند الشافعية[(800)].(1/265)
والقول الثاني: أنه يجوز الرمي ليلاً، وهذا مروي عن طاوس وعروة بن الزبير والنخعي والحسن[(801)]، وهو قول الحنفية، وابن حزم؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقَّتَ ابتداء الرمي وأنه بعد الزوال، ولم يُوَقت انتهاءه، ويكون الرمي نهاراً عزيمة، والرمي ليلاً رخصة.
وهذا هو الراجح إن شاء الله، فإن الليل يتبع النهار في بعض المناسك مثل الوقوف بعرفة، فإن وقته يمتد إلى طلوع الفجر، ثم إن هذا القول يتمشى مع يسر الإسلام وسهولته، ولا سيما في زماننا هذا نظراً لكثرة الحجاج وما يحصل من الزحام الشديد في أثناء النهار مما يتضرر معه بعض الناس من النساء وكبار السِّن، ويؤيد ذلك ما ورد عن عبد الرحمن بن سابط قال: (كانَ أصحَابُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم يَقدمُونَ حُجَّاجاً، فَيَدَعُونَ ظَهرَهُم، فَيَجِيؤُنَ فَيَرمُونَ بِالليلِ)[(802)].
وروى مالك عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه: أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيدة نُفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا، ولم يرَ عليهما شيئاً[(803)]. والله تعالى أعلم.
مشروعية الخطبة بمنى
771/31 ـ عن أَبي بَكْرَة رضي الله عنه قال: خَطَبَنَا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يوْمَ النَّحْرِ.... الحديث. مُتَّفَقٌ عليه.
772/32 ـ عن سَرَّاءَ بنتِ نَبْهَانَ رضي الله عنها قالتْ: خَطَبَنَا رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يوْمَ الرُّؤُوسِ، فَقالَ: «أَلَيْسَ هذا أَوْسَطَ أَيَّامِ التِّشْريقِ؟...» الحديث. رواه أبو داود بإسناد حسن.
الكلام عليهما من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهي سراء ـ بفتح السين، وتشديد الراء ـ بنت نبهان ـ بفتح النون ـ ابن عمرو الغنوي[(804)]، قال ابن حبان: (لها صحبة)، لها حديث في حجة الوداع، وكانت ربة بيت في الجاهلية[(805)]، روى عنها ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن الغنوي[(806)].(1/266)
الوجه الثاني: في تخريجهما:
أما حديث أبي بكرة رضي الله عنه، فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «الخطبة أيام منى» (1741)، ومسلم (1679) من طريق محمد بن سيرين، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن: حميدُ بن عبد الرحمن[(807)]، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر، قال: «أتدرون أيُّ يوم هذا؟» ، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس يوم النحر؟» ، قلنا: بلى، قال: «أيُّ شهر هذا؟» ، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: «أليس ذو الحجة؟» ، قلنا: بلى، قال: «أيُّ بلد هذا؟» ، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليس بالبلد الحرام؟» ، قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلى يومِ تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟» ، قالوا: نعم، قال: «اللّهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فربّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ) هذا لفظ البخاري. وأخرجه ـ أيضاً ـ من طريق أيوب، عن ابن سيرين، به، بنحوه[(808)].
وأما حديث سراء رضي الله عنها، فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، بابٌ «أيَّ يومٍ يخطب بمنى» (1953) من طريق ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن: حدثتني جدتي سراءُ بنت نبهان ـ وكانت رَبَّةَ بيت في الجاهلية ـ قالت... وذكرت الحديث.
وجاء عند البيهقي زيادة، وفي آخرها: (... فلما قدمنا المدينة لم يلبث إلا قليلاً حتى مات)[(809)].(1/267)
والحديث حسّنه النووي[(810)]، مع أن في إسناده ربيعة بن عبد الرحمن، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً[(811)]. وقال الذهبي: (تابعي فيه جهالة)[(812)]. وقال الحافظ: (مقبول). وذكره ابن حبان في «الثقات»[(813)]. ولعل من حسَّن حديثه اعتمد على أنه تابعي، وهو وإن كان فيه جهالة لكنه من كبار التابعين.
الوجه الثالث: الحديث دليل على مشروعية الخطبة في منى، فيخطب الإمام، أو من ينيبه يوم النحر، ويخطب ـ أيضاً ـ ثاني أيام التشريق، وهو يوم (الرؤوس)، وسمي بذلك لأنهم يأكلون في هذا اليوم غالباً رؤوس الأضاحي والهدي إذا ذبحت يوم النحر.
وينبغي أن تشتمل هذه الخطبة على الوصايا العامة، والحث على الالتزام بأحكام شرع الله تعالى، والدعوة إليه، والعناية بمسائل العقيدة، والتحذير من البدع، وكل ما رأى الخطيب أن له مناسبة يستفيد منها الجمع العظيم من حجاج بيت الله الحرام، والله تعالى أعلم.
اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد
773/33 ـ عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لهَا: «طَوَافُكِ بالبيتِ، وَبينَ الصَّفا والمَرْوَةِ يَكْفيكِ لِحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ». رواهُ مسلمٌ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب «الحج»، باب «بيان وجوه الإحرام» (1211) (132) من طريق عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهلّت بعمرة، فقدمت ولم تطفْ بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلَّت بالحج، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النفر: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج.
وفي رواية له (133): «يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك» .
وأما اللفظ الذي ذكره الحافظ، فهو لأبي داود (1897) من طريق ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها، به.(1/268)
وقد أعلَّ الشافعي هذه الرواية ـ كما نقله أبو داود ـ بأن ابن عيينة روى الحديث متصلاً بذكر عائشة رضي الله عنها، ومرسلاً بإسقاطها، وقد رجح أبو حاتم، والدارقطني رواية الإرسال[(814)].
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، ومنهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق[(815)]، ومما يدل على ذلك ـ أيضاً ـ حديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع... وفيه: (وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً...)[(816)]. وهذا وما قبله نص صريح يدل على أن القارن يكتفي بطواف واحد لحجه وعمرته، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لم يطفِ النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً)، وفي رواية: (طوافه الأول)[(817)].
والقول الثاني: يلزم القارن طوافان: طواف لعمرته، وهو الذي بعد دخوله مكة، وطواف لحجه، وهو طواف الإفاضة، ويلزمه سعيان: أحدهما: لعمرته، والآخر: لحجته. وهذا مذهب أبي حنيفة[(818)]، وهو مروي عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما، ومجاهد، والشعبي[(819)]؛ لأن القِران ضم عبادة الحج إلى عبادة أخرى، وهي العمرة، وذلك إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال، فلا تداخل في العبادت، فلذا يجب طوافان وسعيان.
والصواب الأول، لقوة أدلته، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قارناً ولم يطفْ بعد عرفة إلا طوافاً واحداً، وأما طوافه الأول حين قدم، فهو طواف قدوم، والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: اختلف العلماء في المتمتع: هل يكفيه سعي واحد؟ قولان:(1/269)
الأول: أنه لا يكفيه؛ بل عليه سعيان؛ سعي لعمرته التي سيفرغ منها، وسعي لحجه بعد إفاضته من عرفة، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم: مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايات عنه، وهو قول ابن حزم[(820)]، ودليل ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالعُمْرَةِ بِالَبيتِ وبَالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافاً آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِم، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافاً وَاحِداً)[(821)]. تعني بذلك: الطواف بين الصفا والمروة على أصح الأقوال في تفسير الحديث.
وأما قول من قال: إنها أرادت طواف الإفاضة؛ فليس بصحيح؛ لأن طواف الإفاضة ركن في حق الجميع وقد فعلوه، ويؤيد ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجْعَلُوا إِهْلالَكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلا مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ» ، فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: «مَنْ قَلَّدَ الهَدْيَ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ»، ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا، وَعَلَيْنَا الهَدْيُ...) الحديث[(822)]، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا الحديث فيه علة[(823)].(1/270)
القول الثاني: أن المتمتع يكفيه سعي واحد، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير[(824)]، وهو رواية عن الإمام أحمد، قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنها أصح الروايتين) وقد اختار الشيخ هذا القول[(825)]، وأَعَلَّ حديث عائشة رضي الله عنها بما عزاه للمحققين من أهل الحديث من أن قولها: (فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة.. إلخ) مدرج من كلام الزهري، فلا يعارض الحديث الصحيح[(826)]، وهو ما رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه: (لَمْ يَطُوفُوا بَينَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ إلا طَوَافاً وَاحِداً، طَوَافهُم الأوَّل) [(827)].
فهذا نص واضح في أن المتمتع يكفيه سعي واحد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم فيهم القَارِن وهو مَن كان معه هدي، وهؤلاء قلة[(828)]، وفيهم المتمتع، وهو من لم يكن معه هدي.
ومن رجح الأول قال: لا معارضة بين حديث جابر رضي الله عنه وحديثي عائشة وابن عباس رضي الله عنهم بل يجمع بينهما من وجهين:
الوجه الأول: أن يحمل حديث جابر على من ساق الهدي من الصحابة؛ لأنهم بقوا على إحرامهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى حلوا من الحج والعمرة جميعاً؛ لأنهم كانوا قارنين، والقارن يكفيه سعي واحد، ومثله المفرد.
الوجه الثاني: أن سعي المتمتع رواه ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وعدم سعيه رواه جابر رضي الله عنه، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد، كما في مبحث الترجيح في الأصول[(829)].
ومن أخذ بالقول الثاني، واقتصر في تمتعه على سعي واحد، وهو ما فعله بعد طواف العمرة، فله سلف من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم، وفيه تيسير على الناس، وتخفيف للزحام، فإذا طاف بالبيت بعد الإفاضة فقد تمَّ حجه، قال الإمام أحمد في المتمتع: (إن طاف طوافين فهو أجود، وإن طاف طوافاً واحداً فلا بأس) وقال: (إن طاف طوافين فهو أعجب إليَّ)[(830)]. والله تعالى أعلم.(1/271)
عدم مشروعية الرمل في طواف الإفاضة
774/34 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم لمْ يَرْمُلْ في السَّبْعِ الذي أَفاضَ فيهِ. رواه الخمسة إلا الترمذيَّ، وصحّحهُ الحاكِمُ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «الإفاضة في الحج» (2001)، والنسائي في «الكبرى» (4/218)، وابن ماجه (3060)، والحاكم (1/475) من طريق عبد الله بن وهب قال: حدثني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
وهذا إسناد ضعيف، فيه ابن جريج، وهو من المكثرين من التدليس، وقد عنعنه، وهو من الملازمين لعطاء، وقد روى أبو بكر بن أبي خثيمة بسنده عن ابن جريج أنه قال: إذا قلت: قال عطاء فأنا سمعته منه وإن لم أقل: سمعت[(831)]، وذكر الدارقطني في «الأطراف»[(832)] أن الحديث أُعِلَّ بالإرسال، وأشار إلى ذلك ابن عبد الهادي، وصححه الألباني[(833)].
وأما عزوه للمسند، فالظاهر أنه وهم من الحافظ، وقد ذكر الحديث في «التلخيص» ونسبه لهؤلاء، ولم يذكر معهم أحمد[(834)].
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (لم يَرْمُلْ) بفتح الياء وإسكان الراء وضم الميم مضارع رَمَل من باب قصد. وتقدم تفسير الرَّمَل بأنه الإسراع في المشي مع تقارب الخطا.
قوله: (في السبع الذي أفاض فيه) بفتح السين؛ أي: سبع مرات، وبضمها، وهو الجزء من السبعة، من إطلاق الجزء على الكل، والمراد: سبع مرات.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أن الرمل لا يكون إلا في طواف القدوم ـ كما تقدم ـ، ولا يكون في طواف الإفاضة كما هو نص الحديث، وتقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم، فإنه يسعى ثلاث أطواف بالبيت ويمشي أربعة. والله تعالى أعلم.
حكم النزول بالأبطح(1/272)
775/35 ـ عن أَنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم صَلَّى الظُّهْرَ والْعَصْرَ والمَغرِبَ والعِشاءَ، ثمَّ رقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثمَّ رَكِبَ إلى البيتِ، فطافَ بِهِ. رواهُ البخاريُّ.
776/36 ـ وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّها لم تَكُنْ تَفْعَلُ ذلك ـ أَي: النُّزولَ بالأَبْطَحِ ـ وتقُولُ: إنَّما نَزَلَهُ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه كانَ مَنْزِلاً أَسْمحَ لِخُروجهِ. رواه مُسلمٌ.
الكلام عليهما من وجهين:
الوجه الأول: في تخريجهما:
أما حديث أنس رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «من صلى العصر يوم النفر بالأبطح» (1764) من طريق ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن قتادة حدثه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، به.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه البخاري في باب «المحصَّب»، ومسلم (1311) من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (نزول الأبطح ليس بسنّة، إنما نزله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم...) الحديث، وهذا لفظ مسلم.
ورواه مسلم (1311) (340) من طريق الزهري، عن سالم: أن أبا بكر وعمر وابن عمر رضي الله عنهم كانوا ينزلون الأبطح، قال الزهري: وأخبرني عروة، عن عائشة أنها لم تكن تفعل ذلك، وقالت: إنما نزله... الحديث.
الوجه الثاني: اختلف العلماء في نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمحصَّب ـ وهو بطحاء مكة ـ: هل هو على وجه القربة والعبادة، فيكون سنّة يقتدى بها؟ أم أنه منزل وقع في طريقه فارتاح فيه، فلا يكون النزول فيه سنة؟ على قولين:(1/273)
فذهب الخلفاء الراشدون وجمهور العلماء إلى أنه سنّة إن تيسر ذلك[(835)]، أخذاً بظاهر الأدلة، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن بمنى: «نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة» ، حيث تقاسموا على الكفر، وذلك أن قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب ألاَّ يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ يعني بذلك المحصّب[(836)].
فهذا يؤيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزله قصداً لبيان عزِّ الإسلام وظهوره وإبطال ما عليه أهل الكفر من الشر، وما تعاقدوا عليه من الباطل، فصار سنّة كالرَّمَل في الطواف.
والقول الثاني: أن نزوله ليس بسنّة، وإنما نزله صلّى الله عليه وسلّم لأنه أسمح لطريقه، وهذا قول ابن عباس وعائشة وبعض السلف كطاوس ومجاهد[(837)].
وهذه المسألة لا يترتب عليها كبير فائدة، ولا سيما في زماننا هذا، لعدم وجود المحصَّب، حيث شمله البنيان وتخطيط الشوارع، والله تعالى أعلم.
حكم طواف الوداع
777/37 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يكونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالبيتِ، إلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحائِضِ. مُتّفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب «طواف الوداع» (1755)، ومسلم (1328) (380) من طريق سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.
وفي رواية لمسلم (1327) عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَنْفِرَنَّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» .
الوجه الثاني: الحديث دليل على وجوب طواف الوداع إذا فرغ الحاج من المناسك، ووجه الاستدلال من وجهين:(1/274)
الأول: الأمر بطواف الوداع، لقوله: (أُمِرَ الناس) والآمر هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، بدليل رواية مسلم: «لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ، ومثل هذه الصيغة لها حكم الرفع عند المحدثين.
الثاني: أنه أُسقط عن الحائض وخُفف، والتعبير بالتخفيف في حقها لا يكون إلا من أمر مؤكد، ولو كان غير واجب لما كان لتخفيفه عن الحائض معنى.
والقول بوجوب طواف الوداع، هو قول الجمهور من أهل العلم، وقالوا: إن تركه فعليه دم[(838)].
والقول الثاني: أن طواف الوداع سنّة، ولا يلزم بتركه شيء، وهذا قول مالك وأصحابه، وداود الظاهري، وأحد القولين عن مجاهد[(839)]، مستدلين بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخص للحائض في تركه، ولم يأمرها بدم ولا شيء، قالوا: فلو كان واجباً لأمر بجبره.
والقول الأول أرجح، لقوة دليله، وإسقاطه عن الحائض لا يلزم منه سقوطه عن غيرها، وأما إيجاب الدم فيحتاج إلى دليل صالح لإثبات ذلك، وقد قال ابن المنذر بوجوبه إلا أنه لا يجب بتركه شيء[(840)]، فالظاهر أن من تركه أَثِمَ على قاعدة ترك الواجب، وأما إيجاب الدم فلا.
الوجه الثالث: الحديث دليل على أنه يجب أن يكون طواف الوداع آخر شيء، ومعنى ذلك أنه لا يجوز الوداع قبل إتمام المناسك، كرمي الجمار في اليوم الثاني عشر.
ولا يضر الانتظار بعد طواف الوداع لقضاء بعض حاجات السفر أو انتظار الرفقة، أو توديع الأقارب، أو إصلاح السيارة، أو حَبْسِ السير، ونحو ذلك مما لا يدل على البقاء اختياراً.
الوجه الرابع: الحديث دليل على سقوط طواف الوداع عن الحائض؛ لأنها معذورة، لكونها ليست من أهل الطواف والصلاة، وهذا التخفيف دليل على أنها لا تنتظر الطهر، ولا يلزمها شيء بتركه؛ لأنه ساقط عنها من أصله.
وإذا نفرت الحائض بغير وداع، فطهرت قبل مفارقة بنيان مكة، فإنها تغتسل وترجع للوداع، على قول جمهور أهل العلم؛ لأنها في حكم الإقامة، بدليل أنها لا تستبيح رخص السفر.(1/275)
فإن فارقت البنيان لم ترجع، على الراجح من قولي أهل العلم؛ لأنها خرجت عن حكم الحاضر[(841)].
الوجه الخامس: اختلف العلماء: هل طواف الوداع من المناسك؟ على قولين:
الأول: أنه من المناسك، وهذا أحد القولين عند الشافعية والمالكية، وهو ظاهر مذهب الحنفية[(842)]، وقد نص الشافعي على أنه نسك[(843)]، ونقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك[(844)]، واستدلوا بقول ابن عمر رضي الله عنهما: (لا ينفر أحدكم حتى يطوف بالبيت، فإن آخر النسك الطواف بالبيت)[(845)]، فإخباره بأن طواف الوداع آخر المناسك دليل على أنه من مناسك الحج.
القول الثاني: أنه ليس من المناسك؛ بل هو عبادة مستقلة، يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة، سواء كان مكياً أم آفاقياً، وهذا هو القول الثاني في مذهب الشافعية والمالكية، وهو مذهب الحنابلة[(846)]، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم[(847)]. واستدلوا بحديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً» [(848)].
ووجه الدلالة: أن طواف الوداع يكون عند الرجوع، وسماه قاضياً للمناسك قبل الوداع.
والقول بأنه من مناسك الحج قول قوي، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر به الحجاج دون غيرهم من المعتمرين أو المقيمين، ولم يرد أنه أمر به أمراً مطلقاً، فدل على أنه نسك مختص بالحاج، ولا يلزم على القول بأنه من المناسك أنه يجب على المكي أو من أقام، بدليل أن طواف القدوم من المناسك، وهو لا يشرع لمن أحرم من مكة، فدل على أن هذه الملازمة غير لازمة، ومما يؤيد ذلك عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لتأخذوا مناسككم» ، فإنه يفيد أن ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هذه الحجة فهو مناسكها.
وأما حديث العلاء فلا دلالة فيه؛ لأن المراد به قضاء المناسك المؤقتة بوقت معين كالوقوف والمبيت والرمي، أو يحمل على قضاء نسكه ومنها طواف الوداع[(849)].(1/276)
الوجه السادس: الحديث دليل على أن طواف الوداع خاص بالحج، وأن العمرة ليس لها وداع، وذلك من وجهين:
الأول: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك في حجة الوداع، وخاطب به الحجاج، كما تفيده رواية مسلم، ولم ينقل أنه قال ذلك في عمرة من عُمَرِهِ.
الثاني: أن الأوصاف المذكورة لا تنطبق إلا على الحج؛ لأنه لولا الوداع لكان الناس ينفرون من منى بعد رمي الجمرات إلى حيث شاءوا، فَأُمروا أن يكون آخر عهدهم بالبيت.
وقد نقل ابن رشد الإجماع على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم؛ أي: طواف العمرة[(850)]، والله تعالى أعلم.
مضاعفة الصلاة في مسجدي مكة والمدينة
778/38 ـ عن ابنِ الزُّبيْرِ رضي الله عنهما قالَ: قالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «صلاةٌ في مَسْجِدي هذا أَفضَلُ مِن أَلْفِ صَلاةٍ فيما سِوَاهُ إلا المَسجِدَ الحَرَامَ، وصلاةٌ في المسجدِ الحَرَامِ أَفضلُ من صلاةٍ في مسجدِي هذا بمائةِ صلاةٍ». رواهُ أحمدُ، وصحّحهُ ابنُ حبّان.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
وهو أبو بكر أو أبو خبيب، عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، ولد في السنة الأولى من الهجرة، وأتت به أمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضعه في حجره، فدعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فمه، فكان أولَ شيء دخل جوفه ريقُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعا له. وهو أحد الشجعان من الصحابة رضي الله عنهم، وأحد من ولي الخلافة منهم، كان كثير الصلاة والصيام، بويع بالخلافة سنة أربع وستين، عقب موت يزيد بن معاوية، وقتله الحجاج بمكة في جمادى الأولى، سنة ثلاث وسبعين، رضي الله عنه[(851)].
الوجه الثاني: في تخريجه:
فقد أخرجه أحمد (26/41 ـ 42)، وابن حبان (1620) من طريق حماد بن زيد، قال: ثنا حبيب المعلم، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، به مرفوعاً.(1/277)
وهذا إسناد صحيح، وحبيب المعلم، هو ابن أبي قريبة، واسم ابن أبي قريبة زائدة مولى معقل بن يسار، وقد نقل ابن أبي حاتم توثيقه عن الإمام أحمد وابن معين وأبي زرعة[(852)]، وقال ابن عدي: (ولحبيب أحاديث صالحة، وأرجو أنه مستقيم الرواية)[(853)]، ونقل الحافظ تضعيفه عن الإمام أحمد. وقال النسائي: (ليس بالقوي)[(854)]. وذكره ابن حبان في «الثقات»[(855)]. وقد أخرج له البخاري متابعة، واحتج به مسلم.
قال ابن عبد البر: (أسند حبيب المعلم هذا الحديث، وجوده ولم يَخْلِطْ في لفظه ولا معناه)[(856)].
الوجه الثالث: الحديث دليل على فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، وأن الصلاة في مسجد مكة تضاعف بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجد المدينة تضاعف بألف صلاة. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» [(857)]. وهذه المضاعفة دليل على فضل المسجدين، وما جعل الله فيهما من الخير العظيم، ومن ذلك هذه المضاعفة العظيمة للصلاة، ولهذا أبيح السفر إليها للتعبد فيها، أما غيرها من البقاع فلا يجوز شد الرحل إليها ولو كانت المساجد، مع فضلها وأنها أحب البقاع إلى الله تعالى، وقد تقدم ذلك في آخر باب «الاعتكاف».
وهذه المضاعفة خاصة بالصلاة، أما غيرها من العبادات كالصيام والصدقة فليس هناك ما يدل على مضاعفتها، لكن فضل المكان له مزية على غيره.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المضاعفة في المدينة مختصة بالمسجد النبوي لا لكل المدينة، لقوله: «في مسجدي هذا» ، ويدخل في ذلك ما زيد فيه؛ لأن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد من جهة القبلة أمام موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان يصلي بأصحابه، والصحابة متوافرون، وكان عمر رضي الله عنه يصلي بالصحابة رضي الله عنهم في تلك الزيادة، ولا يُظن بهم أنهم كانوا يعتقدون أن الصلاة في غير موضعهم أفضل.(1/278)
أما بالنسبة للمسجد الحرام، فقد اختلف العلماء: هل المضاعفة مختصة بالمسجد الذي يصلى فيه؟ أو أنها عامة لبيوت مكة وسائر بقاع الحرم؟ قولان:
الأول: أن المضاعفة لكل ما هو داخل حدود الحرم، وهذا أحد قولي عطاء، فقد روى البيهقي من طريق عطاء، أنه قيل له: يا أبا محمد، هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: لا؛ بل في الحرم، فإن الحرم كله مسجد[(858)]. وممن قال بذلك ابن حزم[(859)]، وقدم الحافظ ابن حجر هذا القول[(860)]، وصححه النووي، واختاره ابن القيم[(861)]، والشيخ عبد العزيز بن باز.
ودليل هذا القول أن لفظ المسجد الحرام ورد في القرآن خمس عشرة مرة، وله عدة اطلاقات، وقد جاء في بعضها مراداً به الحرم كله، كقوله تعالى: {{وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}} [البقرة: 191] ، وقوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}} [الحج: 25] ، وقوله تعالى: {{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}} [الإسراء: 1] ، وقد ذكر ابن الجوزي: أن الإسراء كان من بيت أم هانئ عند أكثر المفسرين[(862)].
كما استدلوا بحديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وهو حديث طويل جداً في قصة الحديبية، جاء فيه: (وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي في الحرم، وهو مضطرب[(863)] بالحل...)[(864)].
والقول الثاني: أن الفضل خاص بالمسجد الذي يُصلَّى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم، وهو القول الثاني لعطاء[(865)]، وقد قرره المحب الطبري، واختاره الشيخ محمد العثيمين[(866)]، ولهم دليلان:(1/279)
الأول: حديث الباب، ووجه الدلالة: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعل الفضل بالنسبة لمسجد المدينة للمسجد نفسه لا لكل المدينة، فينبغي أن يكون الأمر بمكة كذلك[(867)].
الثاني: حديث ميمونة رضي الله عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة» [(868)].
والذي يظهر ـ والله أعلم ـ هو القول الأول، لقوة دليله، فإن الظاهر أن المسجد الحرام إذا أُطلق أُريد به العموم، كما ذكر ابن القيم.
وأما حديث الباب فلا دلالة فيه، كما قال المحب الطبري؛ لأن المسجد الحرام له إطلاقات بخلاف مسجد المدينة، وأقربها العموم، كما تقدم، وأما حديث: «إلا مسجد الكعبة» فليس بصريح الدلالة على المراد، فإن مسجد الكعبة هو المسجد الحرام، والنصوص يفسِّر بعضها بعضاً، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحدد مسجد الكعبة بحد معين؛ بل الظاهر من الإضافة هو التشريف[(869)]، والله أعلم.
باب الفوات والإحصار
الفوات: مصدر فات يفوت فوتاً وفواتاً: إذا سَبَقَ فلم يُدرك. والمراد هنا: عدم أداء الحج، لعدم التمكن من عرفة، لمرض منعه من الوقوف، أو لتأخر، أو لكونه ضل الطريق، ونحو ذلك، ولا فرق بين أن يكون لعذر أو لغير عذر، فلا يفترقان إلا في الإثم[(870)]، ولا يكون الفوات إلا في الحج، وأما العمرة فلا تفوت إلا تبعاً لحج القارن.
ومع أن الحافظ بوَّب للفوات والإحصار إلا أنه لم يذكر شيئاً عن فوات الحج، وقد جاء في ذلك عدة آثار، منها ما روى مالك بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج، وأتيا يوم النحر أن يَحِلاَّ بعمرة، ثم يرجعا حلالاً، ثم يحجّان عاماً قابلاً، ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله[(871)].(1/280)
والإحصار لغة: مصدر أحصره: إذا منعه، مرضاً كان الحاصر أو عدواً، فهو محصر، وحصره ـ أيضاً ـ حكاه غير واحد، فهو محصور، ومن أهل اللغة من خص الإحصار بما كان من العدو، والحصر من المرض.
والمراد هنا: أن يحصل للإنسان مانع من إتمام النسك، من عدو، أو مرض، أو حبس، على أن بين الفقهاء خلافاً في الإحصار: هل هو خاص بالعدو؟ أو عام في كل مانع عن البيت وإتمام النسك؟ وهذا الخلاف سببه اختلاف أهل اللغة في معنى الإحصار، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
حكم من أحصر عن العمرة
779/1 ـ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: قَدْ أُحْصِرَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَحلَقَ، وَجَامَعَ نِساءَهُ، ونَحَرَ هَدْيَهُ، حتى اعتَمَرَ عاماً قابِلاً. رواه البُخاريُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:
فقد أخرجه البخاري في كتاب «المحصر»، باب «إذا أُحصر المعتمر» (1809) من طريق يحيى بن صالح، حدثنا معاوية بن سلاَّم، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما... وذكر الحديث، وفيه: فحلق رأسه.
الوجه الثاني: الحديث دليل على أن من أحرم بعمرة ثم صده عن البيت عدو أنه يتحلل من عمرته، فيذبح هدياً إن تيسر، من شاة أو سُبْع بدنة أو سبع بقرة، ثم يحلق ـ على الراجح من قولي أهل العلم ـ، لفعله صلّى الله عليه وسلّم ولأمره أصحابه بذلك ثم يلبس ثيابه، لقوله تعالى: {{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}} [البقرة: 196] ، ولا ريب أن الحاجة داعية إلى الحل؛ لأن البقاء على الإحرام فيه مشقة عظيمة، وهي منتفية شرعاً.(1/281)
وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية سنة ست، حينما صد المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن دخول مكة، فنحروا هديهم، ثم حلقوا رؤوسهم، وتحللوا، ثم رجعوا إلى المدينة، ثم اعتمروا عمرة القضاء في السنة التي بعدها.
والإحصار الذي وقع في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما هو في العمرة، فقاس العلماء الحج على ذلك، وهذا من الإلحاق بنفي الفارق، وهو من أقوى الأقيسة كما عُلم في الأصول.
الوجه الثالث: أجمع العلماء على أن المحصر إذا كان معه هدي لزمه نحره، وإنما اختلفوا فيما إذا لم يكن معه هدي: هل يلزمه شراؤه؟ على قولين:
الأول: وجوب الهدي عليه، وأنه يلزمه شراؤه، وهذا قول الجمهور[(872)]، لقوله تعالى: {{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}} أي: فعليكم ما استيسر من الهدي، ووجه الدلالة: أنه عُلِّق ما استيسر من الهدي على الإحصار تعليق الجزاء على الشرط، فدل على لزومه بالإحصار لمن أراد التحلل به.
والقول الثاني: أنه لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار، وهذا قول مالك، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن القيم[(873)]. وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا ألفاً وأربعمائة[(874)]، ولم يكن معهم كلهم هدي؛ بل كان هديهم سبعين بدنة. ولم ينقل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم بالهدي، وإنما أمرهم بالتحلل مطلقاً.
وعلى قول الجمهور إذا لم يجد المحصر هدياً صام عشرة أيام، ثم حلَّ قياساً على هدي التمتع، ولكن هذا فيه نظر من وجوه:
الأول: أن الصيام لم يذكر في القرآن.
الثاني: أن ظاهر حال الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أن فيهم الفقراء، ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر من لم يجد الهدي بالصيام، والأصل براءة الذمة.(1/282)
الثالث: أن هدي التمتع هدي شكر للجمع بين النسكين، وهذا حُرِم من نسك واحد، فكيف يقاس هذا على هذا؟ فالظاهر أنه إن كان معه هدي ذبحه، كما تدل عليه الآية وفعل الصحابة رضي الله عنهم، وإلا فلا شيء عليه[(875)]، ويجزئ ذبح الشاة هدياً؛ لأن الله تعالى أوجب ذبح ما استيسر؛ أي: ما تيسر مما يسمّى هدياً.
الوجه الرابع: لا خلاف بين أهل العلم أن المحصر يقضي إذا كان ما أحصر عنه حجاً واجباً بأصل الشرع أو بنذر، وإنما اختلفوا في قضاء التطوع، والراجح من قولي أهل العلم أنه ليس عليه قضاء النسك الذي أُحصر عنه إن كان تطوعاً؛ لأن الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرة القضاء أقل من الذين كانوا في عمرة الحديبية[(876)].
وهذا ـ والله أعلم ـ يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر الذين أحصروا معه بالقضاء، كما ذكر ذلك ابن القيم، وهذا هو ظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى جعل الهدي هو جميع ما على المحصر، فدل على أنه يكتفى به منه[(877)].
وأما تسمية عمرة سنة سبع بعمرة القضاء فليس لكونها قضاء للعمرة التي صُدُّوا عنها ـ كما يقول من أوجب القضاء ـ وإنما هي للعمرة التي قاضاهم عليها وصالحهم عليها، فأضيفت العمرة إلى مصدر هذا الفعل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر من كان معه حينما صُدَّ عن البيت بالقضاء، ولو كانت قضاءً لم يتخلف منهم أحد[(878)]، والله تعالى أعلم.
حكم الاشتراط عند الإحرام
780/2 ـ عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم على ضُبَاعَةَ بنتِ الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ المطلبِ رضي الله عنها فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إني أُريدُ الحَجَّ وأَنا شاكِيةٌ؟ فقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «حُجِّي، واشْتَرِطي: أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي». مُتفقٌ عليه.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في تخريجه:(1/283)
فقد أخرجه البخاري في كتاب «النكاح»، باب «الأكفاء في الدين» (5089)، ومسلم في كتاب «الحج»، باب «جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه» (1207) من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، به، بنحو حديث الباب، وفي آخره زيادة: «وكانت تحت المقداد بن الأسود».
وهذه الجملة من الحديث هي التي من أجلها ذكر البخاري الحديث في كتاب «النكاح» ولم يذكره في كتاب «الحج»، ولهذا لم يتعرض البخاري لموضوع الاشتراط في الحج، ولم يذكر الحديث فيه على عادته في ذكر الحديث في كل موضع له فيه دلالة.
وأما لفظ «البلوغ»، فهو لفظ مسلم من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة، به.
وجاء موضوع الاشتراط في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة ضباعة ـ أيضاً ـ رواه مسلم من عدة طرق (1208).
الوجه الثاني: في شرح ألفاظه:
قوله: (دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على ضُبَاعَةَ..) بضم الضاد المعجمة، بنت الزبير بن عبد المطلب، بنت عمِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، تزوجها المقداد بن الأسود فولدت له عبد الله، وكريمة، مع أن المقداد كان من حلفاء قريش، وضباعة هاشمية، فهي فوقه في النسب، روت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث يسيرة، وروت عن زوجها المقداد، وروى عنها ابن عباس وعائشة وبنتها كريمة وغيرهم، قال الذهبي: (بقيت ضباعة إلى ما بعد عام أربعين فيما أرى، رضي الله عنها)[(879)].
قوله: (وأنا شاكية) جملة حالية من فاعل (أريد) ، (شاكية) أي: تشتكي المرض.
قوله: (واشترطي) الاشتراط معناه: أن من أراد الإحرام اشترط على ربه في إحرامه أنه إن عاقه عائق دون البيت من مرض أو عدو أو ضياع نفقة أو نحو ذلك، أنه يَحِلُّ من إحرامه.
قوله: (محلي) بفتح الميم، وكسر الحاء؛ أي: محل خروجي من الإحرام بالحج أو العمرة.
قوله: (حيث حبستني) أي: المكان والزمان الذي يحصل لي فيه الحبس، وهو مكان وزمان حلّي من الإحرام.(1/284)
الوجه الثالث: استدل بهذا الحديث من قال: إن الاشتراط عند الإحرام مستحب مطلقاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها، وهذا قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: عمر وعلي وابن مسعود، وجماعة من التابعين، ومنهم: سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن أبي يسار، وبه قال الإمام الشافعي، وأحمد، ونصره ابن حزم[(880)].
القول الثاني: أن الاشتراط غير مشروع مطلقاً ولا يفيد في التحلل، وهو قول ابن عمر، وطاوس، وسعيد بن جبير، والزهري، ومالك، وأبي حنيفة[(881)]، ولهم دليل وتعليل؛ أما الدليل فما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينكر الاشتراط ويقول: (أليس حسبكم سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إن حُبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلَّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً)[(882)]. ويعني بذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حج حجة الوداع واعتمر أربع مرات ولم ينقل أنه صلّى الله عليه وسلّم اشترط، ولا أمر أصحابه بذلك أمراً مطلقاً، وإنما أمر به من جاءت تستفتي؛ لأنها كانت شاكية، فخافت أن يصدها المرض عن البيت.
وأما التعليل فهو لأن الحج عبادة تجب بأصل الشرع، فلم يُفِد الاشتراط فيها، كالصوم والصلاة، وأجابوا عن حديث ضباعة بأجوبة غير ناهضة[(883)]، وقد أطنب ابن حزم في الردِّ على من أنكر الاشتراط بما لا مزيد عليه[(884)].
والقول الثالث: أن الاشتراط مشروع في حق من يخاف مانعاً من إتمام النسك، وأما من لا يخاف فالسنّة تركه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(885)]، وهو أرجح الأقوال؛ لأنه به تجتمع الأدلة.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن من اشترط عند إحرامه ثم حصل له ما يمنعه من مرض أو عدو أو ذهاب نفقة، أنه يحلل ويخرج من إحرامه، ولا يلزمه شيء لا قضاء ولا غيره.(1/285)
ووجه الاستدلال من الحديث: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر ضباعة بالاشتراط، ولو لم يكن فيه فائدة لما أمرها به، ولا فائدة له إلا ما ذُكر، وقد جاء في بعض روايات حديث ابن عباس في قصة ضباعة «... فإن لكِ على ربكِ ما استثنيتِ» [(886)]، وفي رواية: «فإن ذلك لكِ» ، والله تعالى أعلم.
من حصل له مانع من إتمام نسكه
781/3 ـ عَنْ عِكْرِمَةَ، عنِ الحَجَّاجِ بن عَمْرٍو الأنصاريِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كُسِر أَوْ عَرَجَ فَقَد حَلَّ، وعليه الحَجُّ مِنْ قابِل»، قال عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ ابنَ عَبَّاسٍ وَأَبا هُرَيْرَةَ عنْ ذلكَ فقالا: صَدَقَ. رواهُ الخمسة، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
الكلام عليه من وجوه:
الوجه الأول: في ترجمة الراوي:
فأما عكرمة، فهو أبو عبد الله عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، أصله من البربر، وهو أحد فقهاء مكة وتابعيها، سمع ابن عباس وأبا هريرة وأبا سعيد وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم، قال عنه الحافظ في التقريب: (ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا تثبت عنه بدعة...)، وقد أخرج له البخاري في «صحيحه» ولم يلتفت إلى ما اتهم به، مما يدل على أنه ثقة عنده.
روى الواقدي عن أبي بكر بن أبي سبرة قال: باع علي بن عبد الله بن عباس عكرمة على خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال له عكرمة: ما خِيْرَ لك، بعتَ علم أبيك بأربعة آلاف دينار؟! فاستقاله، فأقاله، وأعتقه، مات سنة (105) على أحد الأقوال، وله ثمانون سنة[(887)]، رحمه الله.
وأما الحجاج فهو ابن عمرو بن غزيَّة الأنصاري المازني رضي الله عنه، قال البخاري: (له صحبة). روى عنه كثير بن العباس، وعكرمة مولى ابن عباس، وعبد الله بن رافع، يُعَدُّ في أهل المدينة، روى له الأربعة حديثاً واحداً في الحج، وهو يدل على سماعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم[(888)].
الوجه الثاني: في تخريجه:(1/286)
فقد أخرجه أبو داود في كتاب «المناسك»، باب «الإحصار» (1862)، والترمذي (940)، والنسائي (5/189 ـ 199)، وابن ماجه (3077)، وأحمد (24/508 ـ 509) من طريق الحجاج بن أبي عثمان الصواف، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، به.
وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح).
وقد أخرجه أبو داود (1863)، وابن ماجه (3078) ـ أيضاً ـ من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بمثله. وبمعناه رواه معاوية بن سلاَّم، عن يحيى، به.
قال البخاري: (رواية معمر ومعاوية بن سلاَّم أصح)[(889)]. ونقل البيهقي عن علي بن المديني قوله: (الحجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير أثبت)[(890)].
الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
قوله: (من كُسر) بضم الكاف وكسر السين، أي: أصابه كسر في يده أو رجله مثلاً.
قوله: (أو عَرَجَ) بفتح الراء، أي: أصابه شيء في رجله وليس بخلقة، فإن كان خلقة قيل: عَرِج، بكسر الراء، وقد جاء في رواية أبي داود من طريق معمر، عن يحيى زيادة: «أو مَرِضَ».
قوله: (فقد حَلَّ) أي: حَلَّ من إحرامه، فيجوز له أن يرجع إلى بلده، ولا شيء عليه.
الوجه الرابع: الحديث دليل على أن المحرم بحج أو عمرة إذا أصابه عذر منعه من إكمال نسكه من كسر أو مرض أو حادث، فإنه يحل من إحرامه بحصول ذلك المانع، وتقدم حكم القضاء.
الوجه الخامس: استدل بالأثر من قال: إن الإحصار يتحقق بكل ما يمنع المحرم من المضي في نسكه من عدو، أو مرض، أو ذهاب نفقة، ونحو ذلك.(1/287)
وبه قال بعض الصحابة والتابعين؛ كابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وعطاء وقتادة والنخعي وغيرهم[(891)]، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد[(892)]، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية[(893)]، وابن القيم، وقال الزركشي: (لعلها أظهر)[(894)]، وهو اختيار البخاري، فإنه ساق بعد الآية ـ تعليقاً ـ قول عطاء: (الإحصار من كل شيء يحبسه)[(895)]، قال ابن القيم: (لو لم يأت نص بحلِّ المحصر بمرض لكان القياس على المحصر بالعدو يقتضيه، فكيف وظاهر القرآن والسنة والقياس يدل عليه؟)[(896)] واختار ذلك ـ أيضاً ـ الشيخ عبد العزيز بن باز.
والقول الثاني: أن الإحصار خاص بحصر العدو دون المرض ونحوه، وهذا قول ابن عمر، وابن عباس، وأنس، وابن الزبير رضي الله عنهم، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه[(897)]، واستدلوا بقوله تعالى: {{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}}، وقد تقدم أنها نزلت في صدَّ المشركين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عام الحديبية، كما استدلوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا حصر إلا من العدو)[(898)].
كما استدلوا ـ أيضاً ـ بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (من حُبس دون البيت بمرض، فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة)[(899)].
وعلى هذا القول فالمحصر بالمرض ونحوه لا يتحلل من إحرامه ـ إن لم يكن قد اشترط ـ؛ بل يبقى محرماً إلى أن يبرأ من مرضه، ثم يكمل النسك، فإن فاته الوقوف تحلل بعمرة.
وحملوا حديث عكرمة المذكور في هذا الباب الدال على أنه يتحلل على ما إذا اشترط عند الإحرام، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها في قصة ضباعة بنت الزبير ـ كما تقدم ـ وهذا القول حكاه البغوي عن بعض العلماء[(900)]، وهو قول فقهاء الشافعية، كما حكاه النووي[(901)]، وهو اختيار الشنقيطي[(902)].(1/288)
والقول الأول، وهو أن الإحصار عام قول قوي، فكل من عاقه عائق عن البيت، تحلل بذبح الهدي إن كان معه، ثم بالحلق أو التقصير، لعموم قوله تعالى: {{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} ...} أي: منعتم عن إتمامها، ولم يقيد الله تعالى الحصر بعدو[(903)].
وليس على المحصر إذا تحلل قضاء، إلا أن يكون الحج الذي أُحصر عنه واجباً ـ كما تقدم ـ.
لكن قد يشكل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في الاشتراط، فقد يقال: لو كان سيتحلل مطلقاً من الإحصار بالمرض ـ مثلاً ـ ما احتاجت ضباعة بنت الزبير إلى الاشتراط، وقد تولى ابن القيم الإجابة عن هذا الإشكال بأن الاشتراط يفيد جواز الإحلال، وسقوط الدم[(904)]. والله تعالى أعلم.
انتهى الجزء الخامس ويليه ـ بعون الله وتوفيقه ـ الجزء السادس وأوله: كتاب «البيوع»
[1] ... «مجاز القرآن» (2/4)، «معجم مقاييس اللغة» (3/323).
ـ[2] ... انظر: «تفسير ابن كثير» (5/220).
ـ[3] ... انظر: «تهذيب الأسماء واللغات» (3/126).
ـ[4] ... «فتح الباري» (4/128).
«شرح معاني الآثار» (2/84 ـ 85).
ـ[5] ... «فتح الباري» (4/129).
ـ[6] ... «السنن» (2/157).
ـ[7] ... رقم (649).
ـ[8] ... انظر: «مصنف عبد الرزاق» (4/159)، «مصنف ابن أبي شيبة» (2/323).
ـ[9] ... «تغليق التعليق» (4/141).
ـ[10] ... أخرجه البخاري (1909).
ـ[11] ... انظر: «سنن البيهقي» (4/205)، «نصب الراية» (2/437)، «فتح الباري» (4/121).
ـ[12] ... «الإعلام» (5/172).
ـ[13] ... انظر: «الفتاوى» (25/207)، «فتح الباري» (4/127).
ـ[14] ... انظر: «المغني» (4/330)، «الإنصاف» (3/269).
ـ[15] ... هذه الزيادة عند أبي داود (2320)، وأحمد (8/71)، والحديث إسناده صحيح.
ـ[16] ... «تهذيب التهذيب» (11/210).
ـ[17] ... «سؤالات البرقاني للدارقطني» (530).
«الكاشف» (2/369).
ـ[18] ... «المحلى» (6/236).
«المجموع» (6/276).
ـ[19] ... «الإرواء» (4/16).(1/289)
ـ[20] ... «إتحاف الخيرة» (9/385)، وانظر: «نصب الراية» (2/444).
ـ[21] ... «تهذيب التهذيب» (4/204).
ـ[22] ... «الاستذكار» (10/26)، «المغني» (4/416)، «المجموع» (6/275).
ـ[23] ... أي: حُجُّوا للرؤية أيضاً، قاله السندي.
ـ[24] ... أخرجه النسائي (4/133)، وأحمد (31/191) وزاد (مسلمان)، والدارقطني (2/167 ـ 168)، وفي سنده عند غير النسائي الحجاج بن أرطاة، قال المزي: (والصواب ذكره)، وهو ضعيف، لكن له شاهد عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، أخرجه أبو داود (2339)، وأحمد (31/120)، وقد اختلف في وصله وإرساله.
ـ[25] ... «معالم السنن» (3/226)، «المحلى» (6/235)، «المغني» (4/419).
ـ[26] ... «سبل السلام» (4/112).
«نيل الأوطار» (4/210 ـ 211).
ـ[27] ... «الاستذكار» (10/24)، «المغني» (4/416)، «المجموع» (6/276)، «بدائع الصنائع» (2/80)، «المدونة» (1/193).
ـ[28] ... «الفتاوى» (25/114).
ـ[29] ... «تبيين الحقائق» (1/318)، «مختصر خليل» ص(58)، «المغني» (4/416).
ـ[30] ... «المحلى» (6/235)، «المجموع» (6/280).
ـ[31] ... «المسند» (44/53).
ـ[32] ... نقله عنه الترمذي في «العلل» (1/349).
«العلل» (15/194).
ـ[33] ... «شرح العمدة» (1/183).
«السنن الكبرى» (3/172).
ـ[34] ... «العلل» رقم (654).
«الاستذكار» (10/37).
ـ[35] ... «نصب الراية» (2/434).
«صحيح ابن خزيمة» (3/212).
ـ[36] ... انظر: «المجروحين» (2/10)، «فتح الباري» (4/169).
ـ[37] ... «السنن الكبرى» (4/202).
«المجموع» (6/289).
ـ[38] ... «الموطأ» (1/188).
«السنن» (4/198).
ـ[39] ... «السنن الكبرى» (6/227).
ـ[40] ... «الفتاوى» (18/257).
ـ[41] ... «الاستذكار» (10/35)، «المغني» (4/337).
ـ[42] ... «الهداية» (1/118)، «المغني» (4/337)، «المجموع» (6/302).
ـ[43] ... انظر: «الشرح الممتع» (6/370).(1/290)
ـ[44] ... الزور: ـ بفتح الزاي ـ: الزُوَّار، وهو يطلق على الواحد والاثنين والجمع. والمعنى: جاءنا زائرون ومعهم هدية خبأت لها منها، أو جاءنا زور فأُهدي لنا بسببهم هدية. انظر: «شرح النووي» (9/282).
ـ[45] ... «المحلى» (6/172).
ـ[46] ... «الاستذكار» (10/35)، «المحلى» (6/170)، «المجموع» (6/292)، والغريب أن ابن حزم لا يرى صوم النفل من النهار مع أنه روى حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم.
ـ[47] ... «الأم» (2/35)، «الهداية» (1/119)، «المغني» (6/340)، «المجموع» (6/302)، «سبل السلام» (2/304).
ـ[48] ... «السنن الكبرى» (4/203)، وقال: (هذا إسناد صحيح).
ـ[49] ... انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (3/28).
ـ[50] ... «المغني» (6/342)، «النيات في العبادات» ص(193).
ـ[51] ... «شرح فتح القدير» (2/312)، «الهداية» لأبي الخطاب (2/51)، «الإنصاف» (3/298).
ـ[52] ... أخرجه النسائي في «الكبرى» (3/365)، وذكر أنه مضطرب، ورواه البيهقي (4/276)، وصححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، وحسنه الحافظ العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (2/231)، والحديث له طرق يقوي بعضها بعضاً، على ما ذكره الألباني في «آداب الزفاف» ص(84).
ـ[53] ... «سنن النسائي» (4/193).
ـ[54] ... «المغني» (6/410)، «المجموع» (6/392).
ـ[55] ... «الهداية» (1/127)، «بداية المجتهد» (2/199).(1/291)
ـ[56] ... أخرجه الترمذي (735)، والنسائي في «الكبرى» (3/362)، وأحمد (42/20) من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة، به، وهذا الحديث قد اختلف فيه على الزهري كما ذكر الدارقطني في «العلل» (15/40)، قال الترمذي: (ورواه مالك بن أنس، ومعمر، وعبيد الله بن عمر، وزياد بن سعد، وغير واحد من الحفاظ عن الزهري، عن عائشة رضي الله عنها مرسلاً، ولم يذكروا فيه عن عروة، وهذا أصح؛ لأنه روي عن ابن جريج قال: (سألت الزهري؛ قلت له: أحدَّثك عروة، عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة في هذا شيئاً، ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث).
وقد أخرجه مرسلاً النسائي في «الكبرى» (3/364)، وفيه علة أخرى، وهو أنه عند أبي داود (2457)، والنسائي (3/361) من رواية ابن شريح، عن يزيد بن الهاد، عن زُميل مولى عروة، عن عروة، عن عائشة، وقد قال البخاري في «تاريخه» (3/450): (لا يعرف لزميل سماع من عروة، ولا ليزيد من زميل، ولا تقوم به حجة).
ـ[57] ... «تهذيب مختصر السنن» (3/336).
ـ[58] ... (7/342).
ـ[59] ... «فتح الباري» (4/196).
ـ[60] ... أخرجه عبد الرزاق (4/226)، وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (4/199): (إسناده صحيح).
ـ[61] ... «الإجماع» ص(52)، «المجموع» (6/330).
ـ[62] ... أخرجه مسلم (1096).
ـ[63] ... «التاريخ الكبير» للبخاري (8/313)، «الاستيعاب» (4/220)، «أسد الغابة» (2/416)، «الإصابة» (4/222).
ـ[64] ... «السنن الكبرى» (3/370).
«المسند» (26/176).
ـ[65] ... «صحيح ابن حبان» (8/381).
«الثقات» (4/244).
ـ[66] ... «جامع الترمذي» (695).
«جامع الترمذي» (658).
ـ[67] ... «العلل» (687).
انظر: «فتح الباري» (9/504).(1/292)
ـ[68] ... أخرجه أبو داود (2356)، والترمذي (696)، وأحمد (3/164) من طريق عبد الرزاق، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت، عن أنس رضي الله عنه. قال الترمذي: «هذا حديث حسن» وقال الدارقطني في «السنن» (2/185): (هذا إسناد صحيح)، وأعله أبو حاتم كما في «العلل» (1/224)، وابن عدي كما في «الكامل» (2/149) (5/75) بتفرد عبد الرزاق به عن جعفر، وتفرد جعفر به عن ثابت، وقد روي عن أنس رضي الله عنه من طرق أخرى، ولعلها باجتماعها يشد بعضها بعضاً.
ـ[69] ... انظر: «زاد المعاد» (4/313).
ـ[70] ... انظر: «الغذاء لا الدواء» ص(126).
ـ[71] ... أخرجه البخاري (7241)، ومسلم (1104).
ـ[72] ... «الإستذكار» (10/153)، «المجموع» (6/318).
ـ[73] ... «الإعلام» (5/326).
«المحلى» (7/21).
ـ[74] ... أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100).
ـ[75] ... «المصنف» (3/84) وإسناده صحيح، كما في «فتح الباري» (4/204).
ـ[76] ... «المصنف» (3/82).
«فتح الباري» (4/204).
ـ[77] ... «السنن» (2374)، وسنده صحيح.
ـ[78] ... أخرجه البخاري (1967)، ومسلم (1105).
ـ[79] ... «الاستذكار» (10/151)، «المغني» (4/437).
ـ[80] ... أخرجه البخاري (1963).
«زاد المعاد» (2/38).
ـ[81] ... «شرح معاني الآثار» (2/95)، قال في «فتح الباري» (4/149): (إسناده إلى حكيم صحيح).
ـ[82] ... «المصنف» (4/190)، قال في «فتح الباري» (4/149): (إسناده صحيح).
ـ[83] ... ذكره الخطابي في «إصلاح غلط المحدثين» ص(24).
ـ[84] ... «المغني» (4/361).
ـ[85] ... «المحلى» (6/205)، «فتح الباري» (4/151).
ـ[86] ... انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (3/63).
ـ[87] ... «المحلى» (6/205)، «المغني» (4/363).
ـ[88] ... «العلل الكبير» (1/362).
ـ[89] ... «الضعفاء» للعقيلي (2/169) (4/356)، «المستدرك» (1/428)، «المجموع» (6/349 ـ 350)، «تنقيح التحقيق» (2/319).
ـ[90] ... «الأم» (2/240 ـ 242)، «علل الأحاديث» (657) (693) (729)، «معرفة السنن والأثار» (6/318).(1/293)
ـ[91] ... سقط اسم ثابت من «السنن» بتصحيح: عبد الله هاشم، واستدركته من الطبعة التي أشرف عليها الدكتور: عبد الله التركي.
ـ[92] ... «تهذيب التهذيب» (3/101).
«تهذيب التهذيب» (5/338).
ـ[93] ... انظر: «تنقيح التحقيق» (3/276).
ـ[94] ... «المحلى» (6/204 ـ 205)، «بدائع الصنائع» (2/107)، «بداية المجتهد» (2/154)، «المجموع» (6/349).
ـ[95] ... «صحيح البخاري» (1940).
ـ[96] ... «المغني» (4/350)، «حقيقة الصيام» لابن تيمية ص(81 وما بعدها)، «تهذيب مختصر السنن» (3/242).
ـ[97] ... «تنقيح التحقيق» (2/325)، «التلخيص» (2/203).
ـ[98] ... «الفتاوى» (25/253).
ـ[99] ... أخرجه النسائي في «الكبرى» (3/345)، وابن خزيمة (3/230)، وابن حزم (6/204)، وغيرهم، وصحَّحه الألباني كما في «الإرواء» (4/75).
ـ[100] ... «المحلى» (6/205)، «فتح الباري» (4/178).
ـ[101] ... أخرجه ابن خزيمة (3/231)، والدارقطني (2/182)، والبيهقي (4/264)، ورجح وقفه أبو حاتم كما في «العلل» (676)، وابن خزيمة، والترمذي كما في «العلل» (1/367)، وآخرون.
ـ[102] ... «تهذيب التهذيب» (4/47).
«المجموع» (6/148).
ـ[103] ... «جامع الترمذي» (3/105).
ـ[104] ... المصدر السابق، «المغني» (4/353).
«السنن» (2377).
ـ[105] ... «الهداية» (1/126)، «المجموع» (6/348)، «حقيقة الصيام» ص(37).
ـ[106] ... «السنن» (2378 ـ 2379)، وقد حسنهما الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/452).
ـ[107] ... «المجموع» (6/348).
«المسائل» ص(98).
ـ[108] ... (7/81)، «تهذيب التهذيب» (6/257).
ـ[109] ... تقدم تخريجه في باب «الوضوء» حديث (39).
ـ[110] ... «الكامل» (6/291)، «سنن الدارقطني» (2/178).
ـ[111] ... «التنقيح» (3/231 ـ 232).(1/294)
ـ[112] ... أخرجه ابن خزيمة (1990)، والدارقطني (2/178)، وابن حبان (8/288)، والحاكم (1/430) وقال الدارقطني: (إسناده صحيح)، لكن الحديث عند مسلم (1155) بدون قول: (ولا قضاء عليه) انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية. وكلام المحقق على هذا الحديث (1/459).
ـ[113] ... أخرجه مسلم (199 ـ 200).
ـ[114] ... «السنن» (2/84).
بضم الهمزة؛ أي: لا أظنه.
ـ[115] ... «جامع الترمذي» (2/91).
«معالم السنن» (3/260).
ـ[116] ... «التلخيص» (2/201).
«سنن الدارمي» (1/346 ـ 347).
ـ[117] ... «الفروع» (3/149).
ـ[118] ... «فتح الباري» (4/173)، وهذا الأثر سنده صحيح.
ـ[119] ... أخرجه أبو داود (2381)، والنسائي في «الكبرى» (3/314)، وأحمد (45/492).
ـ[120] ... انظر: «السنن الكبرى» (4/220)، و«المجموع» (6/54 ـ 55).
ـ[121] ... «جامع الترمذي» (1/143).
«شرح ابن بطال» (4/81).
ـ[122] ... «معالم السنن» (3/261).
«المغني» (4/368).
ـ[123] ... «الموطأ» (1/304) وسنده صحيح.
ـ[124] ... انظر: «مصنف عبد الرزاق» (1/170)، «المغني» (4/368)، «موسوعة فقه ابن مسعود» ص(425).
ـ[125] ... «فتح الباري» (4/173 ـ 174).
«الإجماع» ص(53).
ـ[126] ... «المغني» (4/368).
ـ[127] ... أي: مظلمة، كما في «القاموس».
«التاريخ الكبير» (3/46).
ـ[128] ... «فتح الباري» (8/122).
ـ[129] ... «الاستيعاب» (3/83)، «تهذيب التهذيب» (3/28).
ـ[130] ... «السنن» (2403).
ـ[131] ... أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118).
ـ[132] ... «المحلى» (6/243).
ـ[133] ... أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115).
ـ[134] ... انظر: «مصنف عبد الرزاق» (4/269).
ـ[135] ... «فتح الباري» (4/183).
ـ[136] ... أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122).
ـ[137] ... تقدم تخريج ذلك في باب «صلاة المسافر» رقم (432).
ـ[138] ... «الإشراف» (4/143).
ـ[139] ... «الإجماع» ص(53)، «مراتب الإجماع» ص(47).
ـ[140] ... أي: يكلفون إطاقته.
«صحيح البخاري» (4505).
ـ[141] ... أخرجه ابن الجارود (381)، وابن جرير (3/425).(1/295)
ـ[142] ... «تفسير القرطبي» (2/288).
ـ[143] ... أخرجه الدارقطني (2/207)، وسنده صحيح.
ـ[144] ... «تهذيب مختصر السنن» (3/273).
ـ[145] ... «السنن» (2393).
انظر: الحديث (225).
ـ[146] ... أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1112).
ـ[147] ... «شرح السنة» (6/284).
ـ[148] ... سيأتي ذكرهما في الحدود، إن شاء الله تعالى.
ـ[149] ... انظر: «فتح الباري» (4/155 ـ 156)، «تغليق التعليق» (3/156 ـ 157).
ـ[150] ... «الأم» (3/251)، «المحلى» (6/192)، «المغني» (4/375)، «المجموع» (6/339).
ـ[151] ... «الاستذكار» (10/108)، «بداية المجتهد» (2/183)، «المغني» (4/375).
ـ[152] ... «الاختيارات» ص(109).
ـ[153] ... «التمهيد» (7/157)، «الاستذكار» (10/98).
ـ[154] ... «المحلى» (6/264)، «المغني» (4/372).
ـ[155] ... «الاختيارات» ص(109)، «منهاج السنة» (5/223 ـ 224).
ـ[156] ... «التمهيد» (22/47).
(1930).
ـ[157] ... (1109) (76) (1110).
(1109) (77).
ـ[158] ... «الإفصاح» (1/244)، «شرح صحيح مسلم» (7/231).
ـ[159] ... علقه البخاري (4/143 «فتح»)، ووصله أحمد (13/490)، وابن حبان (3485) بإسناد صحيح.
ـ[160] ... «جامع الترمذي» (3/149).
ـ[161] ... «السنن الكبرى» (4/215)، «معالم السنن» (3/266).
ـ[162] ... «المسند» (40/466)، وهو من طريق حيوة بن شريح قال: أخبرني سالم أنه عرض هذا الحديث على يزيد فعرفه، أن عروة قال: أخبرتني عائشة... وسالم هو ابن غيلان التجيبي، ويزيد هو ابن رومان. وهو صحيح بحديث الباب.
ـ[163] ... «المجموع» (6/368 ـ 369)، «فتح الباري» (4/193).
ـ[164] ... «الاستذكار» (10/167)، «الهداية» (1/127)، «المغني» (4/398)، «المجموع» (6/368).
ـ[165] ... «المحلى» (7/2).
ـ[166] ... «المحلى» (7/2)، «المجموع» (6/370).
ـ[167] ... «المسائل» ص(96)، «المغني» (4/399).
ـ[168] ... أخرجه البخاري (4/192 فتح)، ومسلم (1147).
ـ[169] ... انظر: «فتح الباري» (4/193).
ـ[170] ... انظر: «الشرح الممتع» (6/450)، «فتاوى ابن باز» (15/372 ـ 373).(1/296)
ـ[171] ... أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) (164).
ـ[172] ... «كتاب الصيام من شرح العمدة» لابن تيمية (2/600).
ـ[173] ... انظر: «التاريخ الكبير» (5/198)، «الكامل» (4/224).
ـ[174] ... انظر: «فتح الباري» (4/236).
ـ[175] ... أخرجه النسائي (4/201)، وأحمد (36/85 ـ 86) من طريق ثابت بن قيس أبي غصن، حدثني أبو سعيد المقبري، حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنه. وهذا الحديث معلول، فيه ثابت بن قيس: قال عنه ابن حبان في «المجروحين» (1/239): «كان قليل الحديث، كثير الوهم فيما يروي، لا يحتج بخبره إذا لم يتابعه غيره عليه» وقد اضطرب في هذا الحديث سنداً ومتناً.
وعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين ويوم الخميس ورد في «صحيح مسلم» (2565)، لكن رجَّح الدارقطني في «العلل» (10/87) وقفه، قال ابن عبد البر في «التمهيد» (13/198): (ومعلوم أن هذا ومثله لا يجوز أن يكون رأياً من أبي هريرة، وإنما هو توقيف لا يشك في ذلك أحد له أقل فهم)، وانظر: «التتبع» رقم (18).
ـ[176] ... تقدم تخريجه عند الحديث (462).
ـ[177] ... انظر: «الإشراف» (3/172)، «التمهيد» (4/44) (7/106)، «جامع العلوم والحكم» شرح الحديث (18)، «مجموع الفتاوى» (7/489)، «فتح الباري» (4/251) (8/357).
ـ[178] ... أخرجه البخاري (2006)، ومسلم (1132).
ـ[179] ... أخرجه مسلم (1128).
ـ[180] ... أخرجه مسلم (1134).
ـ[181] ... أخرجه عبد الرزاق (4/287)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/78)، والبيهقي (4/278) عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وإسناده صحيح.
ـ[182] ... أخرجه أحمد (4/52)، وابن خزيمة (3/290)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/78)، والبيهقي (4/287) من طرق، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس، به مرفوعاً، وهذا إسناد ضعيف، ولا يصح رفعه، لما يلي:
1 ـ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، سيء الحفظ جداً، كما قال الحافظ في «التقريب».(1/297)
2 ـ داود بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، ذكره ابن حبان في «الثقات» (6/281) وقال: (يخطئ)، وقال الحافظ في «التقريب»: (مقبول) أي: عند المتابعة وإلا فليِّن الحديث، وليس له في الكتب الستة إلا حديث واحد عند الترمذي (3419)، ولعل الحافظ الذهبي لخص القول فيه، كما في «سير أعلام النبلاء» (5/444) حيث قال: (ما هو بحجة، ولم يُقَحِّم أولو النقد على تليين هذا الضرب لدولتهم).
3 ـ علة الرفع، فقد تقدم أن الموقوف جاء من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وهم أوثق وأحفظ من رجال طريق الرفع، ولعل كلمة ابن حبان في داود بن علي فيها إشارة إلى ذلك، ومما يؤيد رواية الوقف ما أخرجه الشافعي في «مسنده» (1/272 ترتيبه): عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس موقوفاً، كذلك، وإسناده صحيح.
ـ[183] ... انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية (2/585)، «فتح الباري» (4/246).
ـ[184] ... «العلل» للإمام أحمد (1/513)، «السنن الكبرى» (3/240).
ـ[185] ... أخرجه أبو داود (2433)، والنسائي (3/239).
ـ[186] ... «جامع الترمذي» (3/132)، «الثقات» (6/379).
ـ[187] ... «السنن الكبرى» (3/240).
«شرح مشكل الآثار» (2347).
ـ[188] ... «اللطائف» ص(256).
ـ[189] ... أخرجه النسائي في «الكبرى» (3/239)، وابن ماجه (1715)، وأحمد (37/94) وهو حديث حسن.
ـ[190] ... «الموطأ» (1/311).
«الاستذكار» (10/259).
ـ[191] ... «الفتاوى السعدية» ص(230).
«الفتاوى» (15/388 ـ 389).
ـ[192] ... «كشف المشكل من حديث الصحيحين» لابن الجوزي (3/153).
ـ[193] ... «المفهم» (3/217)، «فتح الباري» (6/48).
ـ[194] ... أخرجه النسائي (4/173) من طريق القاسم بن عبد الرحمن صاحب أبي أمامة، عن عقبة، به. قال الألباني في «الصحيحة» (6/1/138): (هذا إسناد جيد، رجاله ثقات، وفي القاسم كلام لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن) ثم ذكر شواهد للحديث.
ـ[195] ... «حاشية السندي على النسائي» (4/174).
ـ[196] ... أخرجه مسلم (1120).(1/298)
ـ[197] ... انظر: «بدائع الفوائد» (4/1358 ـ 1359).
ـ[198] ... تقدم تخريجه في باب «صلاة التطوع».
ـ[199] ... تقدم تخريجه في باب «صلاة التطوع».
ـ[200] ... «شرح النووي» (8/286).
ـ[201] ... أخرجه البخاري (1970)، ومسلم (1157).
ـ[202] ... «جامع الترمذي» (3/114).
ـ[203] ... تقدم تخريجه عند شرح الحديث (680) من حديث أسامة رضي الله عنه.
ـ[204] ... «فتاوى ابن عثيمين» (20/23).
أخرجه مسلم (1163).
ـ[205] ... «شرح النووي على مسلم» (7/286).
ـ[206] ... «الإرواء» (4/201).
«التاريخ الكبير» (8/277).
ـ[207] ... «الجرح والتعديل» (9/155).
«الميزان» (4/377).
ـ[208] ... (7/606).
ـ[209] ... أخرجه أحمد (14/280 ـ 281) (16/388) الأول: بإسناد صحيح على شرط مسلم، كما قال الألباني في «الإرواء» (4/99)، والثاني: بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
ـ[210] ... أخرجه البخاري (1981)، ومسلم (721).
ـ[211] ... أخرجه مسلم (1160).
انظر: «فتح الباري» (4/226).
ـ[212] ... «بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث» (1/425).
ـ[213] ... انظر: «مناسبات تراجم البخاري» ص(58)، «فتح الباري» (4/226).
ـ[214] ... انظر: «فتح الباري» (9/293، 295).
ـ[215] ... أخرجه البخاري (6700) من حديث عائشة رضي الله عنها، وسيأتي شرحه في كتاب «الإيمان والنذور» إن شاء الله تعالى.
ـ[216] ... أخرجه مسلم (1645)، وسيأتي شرحه إن شاء الله.
ـ[217] ... أخرجه البخاري (1990)، ومسلم (1137).
ـ[218] ... «الاستيعاب» (10/362)، و«الإصابة» (10/142).
ـ[219] ... أخرجه أبو داود (2419)، والترمذي (773)، والنسائي (5/252)، وأحمد (28/605) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح)، لكن ذكر يوم عرفة غير محفوظ. انظر: «التمهيد» (21/163).
ـ[220] ... انظر: «تفسير القرطبي» (3/3).
ـ[221] ... انظر: «فتح الباري» (4/242).
ـ[222] ... انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1/158)، «العلل» للدارقطني (10/42)، «التتبع» ص(145)، «الأجوبة» لأبي مسعود ص(177).(1/299)
ـ[223] ... «الباعث على إنكار البدع والحوادث» ص(77).
ـ[224] ... «شرح الطيبي» (4/184).
أخرجه البخاري (1989).
ـ[225] ... «السنن الكبرى» (4/209).
«فتح الباري» (4/129).
ـ[226] ... «السنن» (2/301).
انظر: «لطائف المعارف» ص(159).
ـ[227] ... انظر: «تهذيب مختصر السنن» (3/224).
ـ[228] ... انظر: «اللطائف» ص(159).
ـ[229] ... انظر: «شرح علل الترمذي» (1/25).
ـ[230] ... انظر: «الاستيعاب» (12/228) (13/68)، «الإصابة» (12/160) (13/23).
ـ[231] ... «إرواء الغليل» (4/118).
(2164).
ـ[232] ... «الكبرى» (3/211).
(4/302).
ـ[233] ... «الكبرى» (3/212).
(1/267 ـ 268) (654).
ـ[234] ... «الكبرى» (3/212).
«سنن ابن ماجه» (1726).
ـ[235] ... «المسند» (29/230).
«الكبرى» (3/212).
ـ[236] ... «السنن» (2/321).
«شرح معاني الآثار» (2/81).
ـ[237] ... لم أجد هذه العبارة في «السنن الكبرى»، وإنما نقلها عنه المنذري في «مختصر السنن» (2/300).
ـ[238] ... «تهذيب مختصر السنن» (3/298)، «التلخيص» (2/229).
ـ[239] ... انظر: «ناسخ الحديث ومنسوخه» للأثرم (183)، «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/572)، «الفروع» (3/123 ـ 124).
ـ[240] ... «التلخيص» (2/229).
ـ[241] ... «تهذيب مختصر السنن» (3/298 ـ 299).
ـ[242] ... انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/572).
ـ[243] ... «التاريخ الكبير» (5/87)، «الجرح والتعديل» (5/155).
ـ[244] ... (7/2).
«بيان الوهم والإيهام» (4/269).
ـ[245] ... هذه العبارة تحتاج مزيد تأمل، بسبب ما قبلها.
ـ[246] ... (5/353).
ـ[247] ... «فتح الباري» (4/235).
ـ[248] ... أخرجه أبو داود (4031)، وأحمد (9/123)، وابن أبي شيبة (12/351) وغيرهم، وله طرق لا ينزل بها عن درجة الحسن، وسيأتي الكلام عليه ـ إن شاء الله ـ في آخر «البلوغ» في «باب الزهد والورع».
ـ[249] ... «سير أعلام النبلاء» (10/683).
«الضعفاء» (1/298).
ـ[250] ... «الجرح والتعديل» (8/335).
ـ[251] ... «المحلى» (7/18)، «تهذيب التهذيب» (10/288).
ـ[252] ... (7/501).(1/300)
ـ[253] ... «المعرفة والتاريخ» (3/163)، «تهذيب التهذيب» (10/288)، رسالة: «زهر الروض» لعلي بن عبد الحميد ص(78).
ـ[254] ... انظر: «فتح الباري» (4/238).
ـ[255] ... أخرجه البخاري (1988)، ومسلم (1124).
ـ[256] ... «المحلى» (7/17 ـ 18).
ـ[257] ... «زاد المعاد» (2/77).
ـ[258] ... أخرجه الترمذي (751)، والنسائي في «الكبرى» (3/228)، وأحمد (2/47)، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن).
ـ[259] ... «معالم السنن» (3/321)، «الإنصاف» (3/344).
ـ[260] ... هجمت: أي: غارت. ونهكت: ضعفت.
ـ[261] ... أي: لأنه كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد، فلا يوالي الصيام لئلا يضعف، فيؤدي ذلك إلى الفرار.
ـ[262] ... «المحلى» (7/12).
ـ[263] ... أخرجه أحمد (32/484)، وابن أبي شيبة (3/78) وغيرهما. وهو حديث مختلف في رفعه ووقفه، والظاهر أن الموقوف له حكم الرفع.
ـ[264] ... انظر: «فتح الباري» (4/222 ـ 223).
انظر: «فتح الباري» (4/222).
ـ[265] ... «الفتاوى» (22/302).
ـ[266] ... انظر: «عارضة الأحوذي» (3/299)، «فتح الباري» (4/222).
ـ[267] ... أخرجه البخاري (1968).
ـ[268] ... «اللطائف» ص(203).
ـ[269] ... «التمهيد» (7/105).
ـ[270] ... انظر: «معرفة الخصال المكفرة» لابن حجر ص(56).
ـ[271] ... تقدم تخريجه في أحاديث الوتر من باب «صلاة التطوع».
ـ[272] ... تقدم تخريجه في «التطوع».
أخرجه مسلم (736).
ـ[273] ... «مختصر قيام الليل» ص(83).
ـ[274] ... رواه البخاري (1138)، ومسلم (764).
ـ[275] ... انظر: «فتح الباري» (3 ـ 21).
ـ[276] ... رواه مالك (1/115) وسنده صحيح.
ـ[277] ... رواه مالك (1/110)، والبيهقي (2/496).
ـ[278] ... انظر: «صلاة التراويح» للألباني ص(48).
ـ[279] ... «الاستذكار» (5/244).
«التمهيد» (7/106).
ـ[280] ... «لطائف المعارف» ص(217).
رواه مسلم (746) (141).
ـ[281] ... أخرجه أبو داود (1308) (1450)، والنسائي (3/205)، وابن ماجه (1336)، وأحمد (12/372)، وسنده قوي.
ـ[282] ... أخرجه البخاري (2018)، ومسلم (1167) (215).(1/301)
ـ[283] ... «مسائل الإمام أحمد» لأبي داود ص(96).
ـ[284] ... «فتح الباري» (4/277)، «الإنصاف» (3/369)، «سبل السلام» (1/347).
ـ[285] ... انظر: «الأم» (3/265)، «حاشية ابن عابدين» (2/452)، «بداية المجتهد» (2/206)، «الفروع» (3/170).
ـ[286] ... انظر: «الاستذكار» (10/295)، و«مجموع فتاوى ابن عثيمين» (20/170)، و«فقه الاعتكاف» ص(61).
ـ[287] ... «الإجماع» (54)، و«الإفصاح» (1/259).
ـ[288] ... أخرجه البخاري (2035)، ومسلم (2175).
ـ[289] ... «فتاوى ابن عثيمين» (20/157 ـ 174).
ـ[290] ... انظر: «العلل» للدارقطني (15/167).
ـ[291] ... انظر: «مصنف عبد الرزاق» (4/355)، وابن أبي شيبة (3/89)، «مغني المحتاج» (1/457)، «الإنصاف» (3/376).
ـ[292] ... أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).
ـ[293] ... «الموطأ» (1/314).
ـ[294] ... أخرجه ابن أبي شيبة (3/92)، وعبد الرزاق (4/363)، وسنده صحيح.
ـ[295] ... «الجامع لأحكام القرآن» (2/333).
ـ[296] ... «المدونة» (1/203)، «المجموع» (6/513)، «سبل السلام» (4/187).
ـ[297] ... «المحلى» (5/179)، «بدائع الصنائع» (2/114)، «المغني» (4/466).
ـ[298] ... «الهداية» لأبي الخطاب (1/88)، «المغني» (4/467)، «الإنصاف» (3/373).
ـ[299] ... «بدائع الصنائع» (2/114)، «فقه الاعتكاف» ص(154).
ـ[300] ... «الجرح والتعديل» (5/161).
ـ[301] ... «بيان الوهم والإيهام» (3/442)، وانظر: «تهذيب التهذيب» (6/18).
ـ[302] ... «المحلى» (5/268)، «تفسير القرطبي» (2/334).
ـ[303] ... «بداية المجتهد» (2/207)، «المهذب» (1/257)، «الإنصاف» (3/360).
ـ[304] ... «زاد المعاد» (2/88)، والذي رأيته في «الفتاوى» (25/292) أن ابن تيمية ذكر القولين بدون ترجيح، فلعل هذا الترجيح في موضع آخر أو في كتاب آخر.
ـ[305] ... حاشية ابن عابدين (2/470)، «فتاوى قاضي خان» (1/221).
ـ[306] ... «تفسير الطبري» (25/65)، «فضائل الأوقات» للبيهقي ص(216)، وإسناده صحيح.(1/302)
ـ[307] ... أخرجه مسلم (479) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ـ[308] ... أخرجه البخاري (2020)، ومسلم (1169).
ـ[309] ... أخرجه مسلم (1165) (209).
ـ[310] ... أخرجه البخاري (2021) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ولفظه: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى» .
وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعاً: «التمسوها في العشر الأواخر، لتسع يبقين، أو لسبع يبقين، أو لخمس، أو لثلاث، أو آخر ليلة» أخرجه الترمذي (794)، والنسائي في «الكبرى» (3/400)، وأحمد (34/11)، وإسناده صحيح.
ـ[311] ... «الفتاوى» (25/285).
ـ[312] ... «لطائف المعارف» ص(235).
أخرجه مسلم (762).
ـ[313] ... «المصنف» (4/252)، «مصنف ابن أبي شيبة» (3/76)، «الاستذكار» (10/338)، «اللطائف» ص(234).
ـ[314] ... «شرح النووي» (5/290).
ـ[315] ... ذكر القاضي عياض في «إكمال المعلم» (3/116) احتمالين في معنى ذلك:
الأول: أنها صفة خاصة بها في صبيحة تلك الليلة، لا أنها صفة في كلِّ ليلةِ قدرٍ، كما أعلمهم أنه يسجد صبيحتها في ماء وطين.
الثاني: أنها صفة خاصة لها، وقيل في ذلك: لما حجبها من أشخاص الملائكة الصاعدة إلى السماء الذين أخبر الله بتنزلهم تلك الليلة، والله أعلم.
ـ[316] ... «الفتاوى» (25/286).
ـ[317] ... انظر: الحديث (595).
ـ[318] ... «فضائل الأوقات» ص(258).
«لطائف المعارف» ص(242).
ـ[319] ... انظر: «إرواء الغليل» (3/226).
ـ[320] ... «الفتاوى» (27/5).
أخرجه مسلم (1397)
ـ[321] ... «تهذيب الأسماء واللغات» (4/150).
«الكشاف» (2/351).
ـ[322] ... انظر: «الإرواء» (4/342)، و«تمام المنة» ص(292).
ـ[323] ... انظر: «مختصر الفتاوى المصرية» ص(271).
ـ[324] ... أخرجه مسلم (2567).
ـ[325] ... أخرجه مالك في «الموطأ» (1/109) مطولاً، وأخرجه النسائي (3/113 ـ 114)، وأحمد (39/567)، وهو حديث صحيح. انظر: «الإرواء» (3/226) (4/142).
ـ[326] ... «أضواء البيان» (6/686).(1/303)
ـ[327] ... «العين» (3/9)، «الصحاح» (1/313)، «الدر النقي» (2/376).
ـ[328] ... «تهذيب اللغة» (2/383).
«الزاهر» ص(260).
ـ[329] ... انظر: «مجموع الفتاوى» (26/7)، «تفسير ابن كثير» (2/67).
ـ[330] ... رواه البخاري (8)، ومسلم (19).
ـ[331] ... «الفتاوى» (26/268 ـ 269).
ـ[332] ... «بداية المجتهد» (2/231).
ـ[333] ... أخرجه الترمذي (810)، والنسائي (5/115)، وأحمد (6/185) من طريق أبي خالد الأحمر، قال: سمعت عمرو بن قيس، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً. وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن مسعود رضي الله عنه)، والحديث فيه أبو خالد الأحمر، وهو سليمان بن حيان، وعاصم بن أبي النجود، وحديثهما من قبيل الحسن؛ لأن الأول: صدوق يخطئ، والثاني: صدوق له أوهام، وقد تقدم له ذكر.
ـ[334] ... «التمهيد» (22/39).
ـ[335] ... أخرجه مسلم (1015).
ـ[336] ... انظر: «أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحج»، تأليف: فيصل بن علي البعداني.
ـ[337] ... بضم الكاف خطاب للنسوة وتشديد النون، واللام حرف جر، خبر مقدم، (أفضل الجهاد) مبتدأ مؤخر، ويجوز كسر الكاف وتشديد النون حرف استدراك، و(أفضل) منصوب على أنه اسمها، ويجوز تسكين النون مخففة من الثقيلة و(أفضل) مبتدأ، خبره (حج مبرور) والأول أحسن، كما قال الحافظ في «فتح الباري» (3/382).
ـ[338] ... «السنن» (1/327)، «المحلى» (7/6).
«السنن الكبرى» (4/349).
ـ[339] ... «التلخيص» (2/240 ـ 241).
ـ[340] ... «سنن الدارقطني» (2/285)، «السنن الكبرى» (4/349).
ـ[341] ... انظر: «صحيح ابن خزيمة» (4/356)، «المغني» (5/13)، «المجموع» (7/3)، «فتح الباري» (3/597).
ـ[342] ... «مختصر خليل» ص(64)، «شرح فتح القدير» (3/139)، «الفتاوى» (26/7 ـ 8).
ـ[343] ... «نيل الأوطار» (4/314).
ـ[344] ... «أضواء البيان» (5/655).
ـ[345] ... «المغني» (5/15).
ـ[346] ... «التنقيح» (2/379).
«تهذيب التهذيب» (2/270).
ـ[347] ... «تدريب الراوي» (1/176).(1/304)
ـ[348] ... «المحلى» (7/55)، «تهذيب التهذيب» (1/157).
ـ[349] ... «حاشية ابن عابدين» (2/459 ـ 460)، «المغني» (5/8)، «روضة الطالبين» (3/3).
ـ[350] ... «جامع الترمذي» (3/177)، «نيل الأوطار» (4/322)، «أضواء البيان» (5/92).
ـ[351] ... تفسير ابن جرير (7/38)، «السنن الكبرى» للبيهقي (4/331) وإسناده صحيح.
ـ[352] ... «أحكام القرآن» لابن العربي (1/288)، «حاشية الدسوقي» (2/6).
ـ[353] ... «منسك عطاء» ص(26)، «تفسير ابن جرير» (7/43 ـ 44).
ـ[354] ... «السنن» (5/121).
ـ[355] ... انظر: «إكمال المعلم» (4/441)، «زاد المعاد» (2/299).
ـ[356] ... «القاموس» (2/796).
ـ[357] ... «غاية الإحسان في خلق الإنسان» للسيوطي ص(177).
ـ[358] ... «السنن» (1736).
«شرح معاني الآثار» (2/257).
ـ[359] ... أخرجه البخاري (1858).
ـ[360] ... «الإجماع» لابن المنذر ص(68)، «الاستذكار» (13/331).
ـ[361] ... «إكمال المعلم» للقاضي عياض (4/442).
ـ[362] ... انظر: «شرح معاني الآثار» (2/257).
ـ[363] ... انظر: «المغني» (5/52 ـ 53)، «الإنصاف» (4/14 ـ 15)، «الفتاوى السعدية» ص(239 ـ 240)، «المنهج لمريد العمرة والحج» لابن عثيمين ص(51)، «فتاوى ابن باز» (17/212).
ـ[364] ... «الاستيعاب» (9/132)، «الإصابة» (8/102).
ـ[365] ... انظر: «فقه الشيخ ابن سعدي» (4/7)، «الشرح الممتع» (7/39).
ـ[366] ... «دليل الفالحين شرح رياض الصالحين» (1/229).
ـ[367] ... «عمدة القاري» (8/403).
ـ[368] ... «فتح الباري» (4/70).
ـ[369] ... «المحلى» (8/27، 28)، «فتح الباري» (11/585).
ـ[370] ... انظر: «المغني» (13/656).
أخرجه البخاري (6700).
ـ[371] ... «المصنف» (4/445).
ـ[372] ... ص(405) الجزء المفرد.
«التلخيص» (2/334).(1/305)
ـ[373] ... أخرجه أبو داود (1949)، والترمذي (889) (2975)، والنسائي (5/256)، وابن ماجه (3015)، وأحمد (31/64) من طريق سفيان، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر، مرفوعاً. وقال الترمذي: (حسن صحيح)، قال سفيان بن عيينة: (هذا أجود حديث رواه سفيان الثوري) وقال وكيع: (هذا الحديث أُمُّ المناسك) ذكر هذا الترمذي في «جامعه».
ـ[374] ... انظر: «المغني» (5/45).
ـ[375] ... أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).
ـ[376] ... أخرجه مسلم (2171)، وسيأتي شرحه ـ إن شاء الله ـ في آخر باب (العدة).
ـ[377] ... أخرجه الترمذي (2165)، وأحمد (1/268) من حديث عمر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح [«الصحيحة» (431)].
ـ[378] ... «المغني» (5/30).
ـ[379] ... «الأم» (2913)، «الإشراف» (3/176)، «بداية المجتهد» (2/221)، «المغني» (5/30 ـ 31).
ـ[380] ... «صحيح البخاري» (1860).
ـ[381] ... «شرح معاني الآثار» (2/116)، «المحلى» (7/48).
ـ[382] ... «بداية المجتهد» (2/221).
ـ[383] ... «الإشراف» (3/176).
ـ[384] ... انظر: «تحفة الأشراف» (4/340).
ـ[385] ... انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية (1/288، 291)، «التلخيص» (2/237).
ـ[386] ... «السنن» (2/270).
ـ[387] ... «بيان الوهم والإيهام» (5/452)، «نصب الراية» (3/155).
ـ[388] ... «المغني» (5/42)، «المجموع» (7/117).
ـ[389] ... انظر: «المبسوط» (4/151)، «التمهيد» (9/136)، «المغني» (5/42).
ـ[390] ... تقدم تخريجه.
رواه مسلم (1149)
ـ[391] ... انظر: «مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح» (2/139).
ـ[392] ... «المجروحين» (1/454)، «تهذيب التهذيب» (4/96).
ـ[393] ... انظر: «الإرواء» (4/150)، «صحيح سنن أبي داود» (1/324)، «المسند» بتحقيق: أحمد شاكر (2304).
ـ[394] ... «صحيح مسلم» (1337).
ـ[395] ... أخرجه البخاري (133)، وهو عند مسلم (1182) ولكن بدون الجملة المذكورة.
ـ[396] ... «فتح الباري» (1/230).
ـ[397] ... انظر: «مجموع الفتاوى» (26/99 ـ 100)، «وفاء الوفا» (4/1195).(1/306)
ـ[398] ... «الإجماع» ص(45)، «المحلى» (7/69)، «فتح الباري» (3/383)، «مواقيت الحج والعمرة المكانية» ص(32).
ـ[399] ... «نهاية المحتاج» (3/252)، «المغني» (5/64).
ـ[400] ... «المبسوط» (2/173)، «حاشية الخرشي» (3/137).
ـ[401] ... «الاختيارات» ص(117).
ـ[402] ... أخرجه البخاري (1788)، ومسلم (1211).
ـ[403] ... «المغني» (5/59).
«القِرى لقاصد أم القِرى» ص(99).
ـ[404] ... «المجموع» (7/11).
(3/281).
ـ[405] ... «المحلى» (7/266).
ـ[406] ... «المبسوط» (2/167)، «الكافي» لابن عبد البر (1/381)، «المجموع» (7/11)، «الإنصاف» (3/427 ـ 428).
ـ[407] ... أخرجه الشافعي (1/302)، والبيهقي (5/30)، وقد روي مرفوعاً من وجهين ضعيفين، قاله الحافظ في «التلخيص» (2/260).
ـ[408] ... تقدم تخريجه قريباً، وهذا لفظ أبي داود.
ـ[409] ... «المجموع» (7/194).
«طرح التثريب» (5/13).
ـ[410] ... «الكامل» (1/417).
«التمييز» ص(214 ـ 215).
ـ[411] ... «صحيح ابن خزيمة» (4/160).
ـ[412] ... «التمييز» ص(215).
«معرفة السنن والآثار» (7/96).
ـ[413] ... «صحيح البخاري» (1545)، «صحيح مسلم» (1211) (125).
ـ[414] ... انظر: «حجة الوداع» لابن كثير ص(7)، وهو موجود ضمن «البداية والنهاية» (7/404 إلى نهاية الجزء).
ـ[415] ... أخرجه البخاري (1534).
أخرجه البخاري (1551).
ـ[416] ... «فتح الباري» (3/429).
ـ[417] ... أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (1227).
ـ[418] ... «الفتاوى» (26/66 ـ 74) وفي مواضع أخرى، «زاد المعاد» (2/120 ـ 122).
ـ[419] ... «التمهيد» (8/205)، «المغني» (5/82).
ـ[420] ... انظر: «الفتاوى» (26/94).
ـ[421] ... أخرجه البخاري (1691)، ومسلم (1227) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ـ[422] ... «الفتاوى» (26/61 ـ 62).
ـ[423] ... «المغني» (5/252)، «الفتاوى» (26/51 ـ 52).
ـ[424] ... «صحيح مسلم بشرح النووي» (8/229 ـ 230)، «المحلى» (7/113 ـ 114، 120)، «زاد المعاد» (2/285).
ـ[425] ... «الفتاوى» (26/89 ـ 92).(1/307)
ـ[426] ... أخرجه مسلم (1297).
ـ[427] ... أخرجه البخاري (1552)، ومسلم (1187).
ـ[428] ... «حجة الوداع» ص(26).
ـ[429] ... «الاستيعاب» (4/110)، «الإصابة» (4/109 ـ 110)، «تهذيب التهذيب» (3/148).
ـ[430] ... «المحلى» (7/93).
«التمهيد» (17/242).
ـ[431] ... «المصنف» ص(368) [الجزء المفرد] وسنده صحيح؛ بل قال بدر الدين العيني: (سند كالشمس) [«عمدة القاري» (7/444)].
ـ[432] ... «الضعفاء» (4/138)، وقوله: (قاضي) هكذا في المطبوع.
ـ[433] ... «بيان الوهم والإيهام» (3/449).
«تهذيب التهذيب» (6/157).
ـ[434] ... «المغني» (5/75).
«المحلى» (7/82).
ـ[435] ... «الإجماع» ص(55).
ـ[436] ... أخرجه البزار (1/444 مختصر زوائده)، وقال الحافظ في تعليقه عليه: (إسناده صحيح)، والدارقطني (2/220)، والحاكم (1/615)، والبيهقي (5/33).
ـ[437] ... انظر: «المغني» (5/76)، «مفيد الأنام» (1/92 ـ 93).
ـ[438] ... انظر: «هداية السالك» لابن جماعة (2/714)، «فتح الباري» (4/53).
ـ[439] ... «معجم لغة الفقهاء» ص(169).
ـ[440] ... وبعضهم يعبر بـ(المحيط) بالحاء المهملة. انظر: «مغني المحتاج» (1/480)، «الفواكه الدواني» (1/412).
ـ[441] ... ذكره ابن عثيمين رحمه الله في «الشرح الممتع» (7/147).
ـ[442] ... (4/138).
ـ[443] ... «عارضة الأحوذي» (4/54)، «فتح الباري» (3/404).
ـ[444] ... أخرجه البخاري (1843)، ومسلم (1178).
ـ[445] ... انظر: «بدائع الفوائد» (3/1244)، «القواعد الأصولية» لابن اللحام ص(284).
ـ[446] ... تقدم تخريجه.
ـ[447] ... رواه البخاري (1545).
ـ[448] ... الحُجزة: هي مجمع السراويل، والنَّيفق: هو الموضع المتسع من السراويل. «اللسان» (5/332)، (10/360).
ـ[449] ... «غريب الحديث» (4/156)، وانظر: «أساس البلاغة» ص(469)، «النهاية» (5/102)، «الإحرام بالإزار المخيط» للشيخ إبراهيم الصبيحي.
ـ[450] ... أفتى الشيخ محمد العثيمين رحمه الله بجواز لبسه، انظر: «الشرح الممتع» (7/152).
ـ[451] ... أخرجه البخاري (1538)، ومسلم (1190).(1/308)
ـ[452] ... السُّك ـ بضم السين، وتشديد الكاف ـ: نوع من الطيب مخلوط بغيره. انظر: «ترتيب القاموس» (2/587).
ـ[453] ... أخرجه أبو داود (1830). وقد صححه الألباني [«صحيح سنن أبي داود» 1/344].
ـ[454] ... انظر: «الكافي» لابن عبد البر (1/390)، المغني (5/162)، «المجموع» (7/283).
ـ[455] ... أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (1410).
ـ[456] ... انظر: «المحلى» (7/198).
ـ[457] ... انظر: «فتاوى قاضي خان» (1/314).
ـ[458] ... أخرجه مسلم (1411).
ـ[459] ... انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية (2/194).
ـ[460] ... رواه أبو داود (1845).
ـ[461] ... انظر: «شرح العمدة» (2/195).
ـ[462] ... انظر: «فتح الباري» (4/33).
ـ[463] ... «شرح فتح القدير» (3/93)، «روضة الطالبين» (3/163)، «المنتقى» (2/248)، «فتح الباري» (4/33)، «كشاف القناع» (2/391).
ـ[464] ... انظر: «تفسير الطبري» (11/57، 61).
ـ[465] ... «المعرفة والتاريخ» (3/396)، «الاستيعاب» (5/176)، «الإصابة» (5/139).
ـ[466] ... «فتح الباري» (4/31).
«جامع الترمذي» (2/197).
ـ[467] ... «المغانم المطابة في معالم طابة» ص(6).
«فتح الباري» (4/33).
ـ[468] ... «توضيح الأحكام» (3/309).
ـ[469] ... انظر: «الإعلام» (6/415).
«فتح الباري» (4/33).
ـ[470] ... «فتح الباري» (5/220).
ـ[471] ... «الإعلام» (6/419).
ـ[472] ... «صحيح مسلم» (1198) (66).
(2/411 ـ 412).
ـ[473] ... «مسند أبي عوانة» (2/411).
ـ[474] ... «المغني» (5/177).
ـ[475] ... «بدائع الصنائع» (2/191)، «مغني المحتاج» (1/521)، «المغني» (5/126)، «حاشية الدسوقي» (2/60).
ـ[476] ... «الكافي» لابن عبد البر (1/386).
ـ[477] ... «المغني» (5/126).
ـ[478] ... «الفتاوى» (26/116).
ـ[479] ... أخرجه مسلم (2670).
ـ[480] ... «الاستيعاب» (9/247)، «الإصابة» (8/294).
ـ[481] ... «صحيح مسلم» (1201) (80).
«التمهيد» (2/238).
ـ[482] ... «مختصر خليل» ص(72)، «المغني» (5/450).(1/309)
ـ[483] ... «مغني المحتاج» (1/530)، «تفسير القرطبي» (2/385)، «المغني» (5/450)، «الإنصاف» (3/532 ـ 533).
ـ[484] ... انظر: «المجموع» (7/500).
ـ[485] ... «تفسير الطبري» (4/82)، «المغني» (5/450).
ـ[486] ... «الإجماع» ص(52) «الاستذكار» (12/46).
ـ[487] ... «شرح العمدة» لابن تيمية (2/7). وقوله: (بينهما) لعلها: (بينها).
ـ[488] ... انظر: «المحلى» (7/246).
ـ[489] ... انظر: «الحاوي» (4/115).
ـ[490] ... روى ذلك ابن أبي شيبة (4/84 ـ 85).
ـ[491] ... «الصحاح» (1/274).
ـ[492] ... «صحيح البخاري» (112).
ـ[493] ... انظر: «منسك عطاء» ص(103 ـ 104)، «التلخيص» (2/308).
ـ[494] ... انظر: «إرشاد الفحول» ص(148)، «الأصول من علم الأصول» ص(26).
ـ[495] ... «التمهيد» (1/278).
ـ[496] ... أخرجه مسلم (1363).
ـ[497] ... انظر: «إكمال المعلم» (4/485)، «شرح صحيح مسلم» للنووي (9/148)، «الأحاديث الصحيحة في فضائل المدينة» ص(33).
ـ[498] ... رواه مسلم (1364).
ـ[499] ... أخرجه أبو داود (2035)، وأحمد (2/267 ـ 268) واللفظ لأبي داود، وهو حديث حسن، وقد رواه البخاري (1870)، ومسلم (1370) بغير هذه الألفاظ، وله شواهد من حديث ابن عباس وأنس رضي الله عنهما. انظر: «المسند» (5/90) طبعة مؤسسة الرسالة.
ـ[500] ... «صحيح مسلم» (1373).
ـ[501] ... انظر: «إكمال المعلم» (4/488)، «شرح النووي» (9/152).
ـ[502] ... انظر: «المغانم المطابة في معالم طابة» ص(81)، وقد حصل خطأ من بعض العلماء أمثال: البكري، وابن الأثير، وياقوت عندما نفوا وجود جبل ثور في المدينة وإنما هو في مكة، وتبعهم على ذلك جمع من المتأخرين، ثم إنه حصل خلاف بين المعاصرين في تعيين جبل ثور على أقوال ثلاثة، كلها مبنية على الاجتهاد، وبعضها أقرب إلى وصف المتقدمين لجبل ثور من بعض، ولعل سبب الخلاف وجود جبال كثيرة حول أُحد من جهة الشمال، والشمال الشرقي بحيث يصعب الجزم بواحد منها. انظر: «الأحاديث الصحيحة في فضائل المدينة» للرفاعي ص(22).(1/310)
ـ[503] ... رواه البخاري (1869).
ـ[504] ... انظر: «الأحاديث الصحيحة في فضائل المدينة» ص(43).
ـ[505] ... انظر: «شرح الحديث» (778).
ـ[506] ... أي: ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أحد رواة حديث جابر رضي الله عنه.
ـ[507] ... بكسر النون وتخفيف السين، ثوب كالطيلسان وشبهه.
ـ[508] ... المشجب: أعواد توضع عليها الثياب، ومتاع البيت.
ـ[509] ... انظر: «حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم» للألباني رحمه الله.
ـ[510] ... «المفهم» (3/322)، «زاد المعاد» (2/101)، «فتح الباري» (3/515 ـ 516).
ـ[511] ... رواه البخاري (3949) (4404) (4471)، ومسلم (1254).
ـ[512] ... انظر: «حجة الوداع» لابن كثير ص(9)، «فتح الباري» (8/104، 107).
ـ[513] ... انظر: «زاد المعاد» (2/92).
ـ[514] ... انظر: «زاد المعاد» (2/102)، «فتح الباري» (3/407).
ـ[515] ... انظر: «صحيح البخاري» (1545)، «حجة الوداع» لابن حزم ص(10 ـ 13).
ـ[516] ... «فتح الباري» (8/104).
ـ[517] ... انظر: «تهذيب مختصر السنن» (5/252) حيث ذكر ابن القيم ثمانية أقوال في معنى «التلبية».
ـ[518] ... انظر: «تهذيب مختصر السنن» (5/255).
ـ[519] ... «الصحاح» (3/914).
«الفتاوى» (26/121).
ـ[520] ... انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية (2/442).
ـ[521] ... رواه البخاري (3364)، (3365).
ـ[522] ... «السنن» (5/235).
«صحيح مسلم» (1218).
ـ[523] ... «جامع الترمذي» (869)، «سنن النسائي» (5/236)، «الفصل للوصل» (2/668).
ـ[524] ... «الهداية» (1/141)، «بدائع الصنائع» (2/148)، «المنتقى» (2/288).
ـ[525] ... «المغني» (5/232)، «المجموع» (8/14)، «شرح الإيضاح» للنووي ص(227، 279).
ـ[526] ... أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11).
ـ[527] ... انظر: «قواعد ابن رجب» (1/142، 154).
ـ[528] ... «المجموع» (8/63).
ـ[529] ... «مصنف عبد الرزاق» (5/57 ـ 59).
«المغني» (5/233).
ـ[530] ... «فتح الباري» (3/484)، «مصنف عبد الرزاق» (5/59).
ـ[531] ... «شرح الزركشي» (3/204).(1/311)
ـ[532] ... انظر: «حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم» للألباني ص(64).
ـ[533] ... انظر: «المغني» (5/234).
ـ[534] ... تقدم ذلك في «باب الوضوء» حديث (47).
ـ[535] ... «المغني» (5/237).
ـ[536] ... رواه مسلم (1780).
«زاد المعاد» (2/287).
ـ[537] ... انظر: «مختصر الخرقي» ص(59).
ـ[538] ... انظر: «المفهم» (3/328).
ـ[539] ... رواه ابن أبي شيبة (4/68 ـ 69) بإسنادين صحيحين، كما قال الألباني في «مناسكه» ص(26).
ـ[540] ... «المفهم» (3/330).
«الروض المربع» (4/127).
ـ[541] ... انظر: «المجموع» (8/106)، «الفتاوى» (26/129)، «زاد المعاد» (2/233)، «مفيد الأنام» ص(293).
ـ[542] ... انظر: «شرح حديث جابر رضي الله عنه» للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ص(51، 107).
ـ[543] ... «مجموع الفتاوى» (26/129).
ـ[544] ... «قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة» لابن تيمية ص(71 ـ 76).
ـ[545] ... تسميته بجبل الرحمة لا أصل لها؛ بل هي تسمية محدثة، لم تعرف إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، ثم انتشرت في كتب التفسير والفقه والمناسك وغيرها، ولعل هذه التسمية بحكم ما يتفضل الله به على عباده في ذلك اليوم من الرحمة والمغفرة، لكن قد يكون في هذا الاسم مزيد إغراء لجهلة الحجيج بقصد الذهاب إليه والوقوف عليه، وفي ذلك إضرار عظيمٌ، لا سيما في شدة الحر، مع أن ذلك ليس من السنة؛ بل إذا صعده تعبداً فهو بدعة؛ لأنه عمل غير مشروع. انظر: «مجموع الفتاوى» (26/133)، رسالة «جبل إلاَلٍ بعرفات» لبكر أبو زيد.
ـ[546] ... انظر: «مجموع الفتاوى» (26/132)، «الشرح الممتع» (7/325).
ـ[547] ... انظر: «إكمال المعلم» (4/281)، «شرح النووي على صحيح مسلم» (7/436).
ـ[548] ... «اللسان» (9/138).
ـ[549] ... انظر: «هداية السالك» (3/1207).
ـ[550] ... انظر: «هداية السالك» (3/1214).
أخرجه مسلم (1282).
ـ[551] ... «أخبار مكة» للأزرقي (2/189)، «مفيد الأنام» (2/328)، «الشرح الممتع» (7/348).(1/312)
ـ[552] ... رواه النسائي (5/268)، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1/215، 347)، وابن الجارود (473) وإسناده صحيح.
ـ[553] ... «المغني» (5/288).
ـ[554] ... انظر: «هداية السالك» (3/1197 ـ 1198)، «حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم» ص(90).
ـ[555] ... تقدم تخريجه قريباً.
«زاد المعاد» (2/254).
ـ[556] ... «المحلى» (7/119).
«المغني» (5/350).
ـ[557] ... انظر: «حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم» للألباني ص(93).
ـ[558] ... رواه مسلم (1305).
ـ[559] ... انظر: «فتاوى ابن باز» (17/284).
ـ[560] ... انظر: «المدونة» (1/319)، «بدائع الصنائع» (2/132)، «المجموع» (8/224)، «الإنصاف» (4/43).
ـ[561] ... «المغني» (5/313).
«المحلى» (7/119، 172).
ـ[562] ... أخرجه مسلم (1308)، وانظر: «فتح الباري» (3/567).
ـ[563] ... «شرح النووي على صحيح مسلم» (8/443).
ـ[564] ... انظر: «سنن أبي داود» (3607) ففيه سبب جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم شهادته بشهادة رجلين، وانظر: «فتح الباري» (8/518).
ـ[565] ... «صحيح البخاري» (4784).
ـ[566] ... «الاستيعاب» (3/197)، «سير أعلام النبلاء» (2/485)، «الإصابة» (3/93 ـ 94).
ـ[567] ... «تهذيب التهذيب» (4/351).
ـ[568] ... انظر: «الصحاح» (5/1861)، «هداية السالك» (3/1174)، رسالة: «المزدلفة: أسماؤها ـ حدودها ـ أحكامها» للدكتور عبد العزيز الحميدي.
ـ[569] ... أخرجه أبو داود (1937)، وابن ماجه (3048)، وأحمد (22/381)، وسنده حسن.
ـ[570] ... أخرجه البيهقي (5/239) وإسناده صحيح، كما قال الألباني.
ـ[571] ... انظر: «القاموس» (4/27 ترتيبه)، «مفيد الأنام» (1/229).
ـ[572] ... أخرجه البخاري (1576)، ومسلم (1257).
ـ[573] ... «شرح صحيح مسلم» (9/6).
ـ[574] ... «المغني» (5/210)، «مجموع الفتاوى» (26/119)، «هداية السالك» (3/897)، «الروض المربع بحاشية ابن قاسم» (4/87).
ـ[575] ... «فتح الباري» (3/435).
ـ[576] ... «سنن الدارمي» (1/381).
«مسند أبي داود الطيالسي» (1/32).(1/313)
ـ[577] ... «الضعفاء» (1/183)، «التلخيص» (2/264).
ـ[578] ... «حجة الوداع» ص(89).
«الإرواء» (4/311).
ـ[579] ... انظر: «المدونة» (1/364)، «الشرح الكبير بحاشية الدسوقي» (2/41).
ـ[580] ... «كشاف القناع» (2/430)، وانظر: «الإرواء» (4/312).
ـ[581] ... «صحيح البخاري» (4256).
هذا اللفظ عند مسلم (1266).
ـ[582] ... رواه البخاري (1616)، ومسلم (1262).
ـ[583] ... رواه البخاري (1644)، ومسلم (1261).
ـ[584] ... رواه البخاري (1616)، ومسلم (1261) (231).
ـ[585] ... أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (1267) (242).
ـ[586] ... أخرجه أحمد (9/442) من طريق سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن ابن عمر، به. وهذا إسناد صحيح، وسفيان الثوري ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وكذا رواه النسائي (5/221) من طريق حماد بن زيد، عن عطاء، به. وهو ممن سمع منه ـ أيضاً ـ قبل الاختلاط. وللحديث طرق أخرى.
ـ[587] ... أخرجه الترمذي (858)، وأحمد (4/87) وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وعلقه البخاري (1608)، وأخرج مسلم (1269) المرفوع فقط من وجه آخر عن ابن عباس. وأخرجه أحمد (3/369 ـ 370) من طريق خُصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس... وفيه: فقال ابن عباس: {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}}، فقال معاوية: صدقت. وخصيف وهو ابن عبد الرحمن الجزري: صدوق سيء الحفظ، لكنه متابع.
ـ[588] ... «مجموع الفتاوى» (26/121)، وانظر: ص(97) منه.
ـ[589] ... «زاد المعاد» (1/48).
ـ[590] ... انظر: «حجة الوداع» لابن كثير ص(86 ـ 89).
ـ[591] ... أخرجه الترمذي (877)، والنسائي (5/226)، وأحمد (5/13 ـ 14)، وهذا لفظ الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) مع أنه من رواية جرير، عن عطاء بن السائب، وهو قد اختلط، ورواية جرير عنه بعد الاختلاط، لكن الحديث له شواهد.
ـ[592] ... «صحيح مسلم» (1271).
ـ[593] ... «حاشية السندي على سنن النسائي» (5/227).(1/314)
ـ[594] ... «التاريخ الأوسط» ص(119)، «الاستيعاب» (12/13)، «الإصابة» (11/215).
ـ[595] ... «المبسوط» (4/10)، «المطلع على أبواب المقنع» ص(188).
ـ[596] ... أخرجه مسلم (1273).
ـ[597] ... صحيح مسلم (1268) (246).
ـ[598] ... «الاستيعاب» (11/93)، «سير أعلام النبلاء» (3/100)، «الإصابة» (10/372).
ـ[599] ... «السنن» (1884) وإسناده حسن، فيه عبد الله بن خثيم، وفيه كلام. والذي يتلخص من حاله أنه صدوق، كما قال الحافظ في «التقريب».
ـ[600] ... «حاشية ابن عابدين» (2/512).
ـ[601] ... تقدم تخريجه في «الجنائز» رقم (548).
ـ[602] ... يقدِّم: بضم الياء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة. والفاعل ضمير مستتر يعود على (مَنْ)؛ أي: يقدم أهله إذا غاب القمر [«فتح الباري» (3/527)].
ـ[603] ... أخرجه البخاري (5212)، ومسلم (1463).
ـ[604] ... «الاستيعاب» (13/53)، «الإصابة» (12/323).
ـ[605] ... «شرح العمدة» (2/525).
ـ[606] ... «المغني» (5/286).
ـ[607] ... اللطح: بالحاء المهملة، الضرب بالكفِّ، وليس بالشديد. انظر: «النهاية» (4/250).
ـ[608] ... (3/528)
ـ[609] ... «العلل» للإمام أحمد (1/143 ـ 144).
«الجرح والتعديل» (3/45).
ـ[610] ... «المراسيل» لابن أبي حاتم ص(46).
ـ[611] ... انظر: «جامع الترمذي» (2/217 ـ 218، 229).
ـ[612] ... «التاريخ الأوسط» ص(135).
«الإرواء» (4/274).
ـ[613] ... «شرح معاني الآثار» (2/218).
ـ[614] ... «مسند الشافعي» (1/373)، وانظر: «العلل» للدارقطني (15/50 ـ 51).
ـ[615] ... «الجواهر النقي» (5/132).
«زاد المعاد» (2/249).
ـ[616] ... (3/529).
انظر: «بدائع الصنائع» (2/137).
ـ[617] ... أخرجه البخاري (1676)، ومسلم (1295).
ـ[618] ... بفتح الهاء، أي: يا هذه.
أي: جئنا منى بغلس.
ـ[619] ... أخرجه البخاري (1679)، ومسلم (1291)، والظُّعُنُ ـ بضم الظاء المشالة ـ: جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج، ثم أطلق على المرأة مطلقاً ولو كانت في بيتها.
ـ[620] ... انظر: «أضواء البيان» «5/280).(1/315)
ـ[621] ... «الإصابة» (6/418).
ـ[622] ... يروى بالجيم المعجمة، ويروى بالحاء المهملة: أحد حبال الرمل، وهو ما اجتمع منه واستطال.
ـ[623] ... «المغني» (5/284)، «المجموع» (8/134 ـ 150).
ـ[624] ... «المغني» (5/284)، «المجموع» (8/134)، «بداية المجتهد» (2/277).
ـ[625] ... تقدم تخريجه عند الحديث (717).
ـ[626] ... «الهداية» (1/146)، «حاشية ابن عابدين» (2/511)، «المجموع» (8/134، 150).
ـ[627] ... «شرح العمدة» (2/607).
انظر: «الاستذكار» (13/39).
ـ[628] ... أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح، واحتج به الإمام أحمد. انظر: «شرح العمدة» (2/614).
ـ[629] ... المصدر السابق.
«الإنصاف» (4/29).
ـ[630] ... «الاستذكار» (13/33).
«أضواء البيان» (5/260).
ـ[631] ... «مفيد الأنام» (2/310).
«الاستذكار» (13/29).
ـ[632] ... أخرجه الدارقطني (2/241).
«المغني» (5/272).
ـ[633] ... «المبسوط» (4/56)، «المغني» (5/274)، «المبدع» (3/234)، «الإنصاف» (4/59).
ـ[634] ... «المجموع» (8/102، 119)، «الإنصاف» (4/59).
ـ[635] ... «المحلى» (7/118)، «أضواء البيان» (5/259 ـ 260).
ـ[636] ... انظر: «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/603)، «الشرح الممتع» (7/418)، «المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة» للدكتور إبراهيم الصبيحي ص(20).
ـ[637] ... «المسند» (1/378)، «سنن ابن ماجه» (3022).
ـ[638] ... انظر: «المبسوط» (4/20) (4/63).
ـ[639] ... في رواية لتراجم البخاري: (حتى يرمي)، وصوب الحافظ ما ذكر أولاً. انظر: «فتح الباري» (3/532).
ـ[640] ... «شرح فتح القدير» (2/489)، «المجموع» (8/154، 181)، «المغني» (5/297).
ـ[641] ... «الإشراف» (1/230)، «المحلى» (7/118)، «المنتقى» (2/216)، «فتح الباري» (3/533).
ـ[642] ... «الإشراف» (1/230)، «الكافي» لابن عبد البر (1/371)، «المفهم» (3/387).(1/316)
ـ[643] ... «ترتيب مسند الشافعي» (1/323) وسنده صحيح، وقد روى الترمذي هذا عن ابن عباس مرفوعاً (919) من طريق ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، وهذا سند ضعيف، لضعف ابن أبي ليلى.
ـ[644] ... «المغني» (5/255).
ـ[645] ... «صحيح البخاري» (1553) (1573).
ـ[646] ... «صحيح ابن خزيمة» (4/206).
ـ[647] ... انظر: «الاختيارات الجلية» لابن بسام حاشية على «نيل المآرب» (2/432)، «رمي الجمرات» ص(20).
ـ[648] ... «فتح الباري» (3/582).
ـ[649] ... انظر: «فتاوى ابن إبراهيم» (5/150).
ـ[650] ... «التمهيد» (7/268).
ـ[651] ... رواه البخاري (1746).
ـ[652] ... انظر: «الأم» للشافعي (2/234)، «التمهيد» (7/272)، «الاستذكار» (13/214)، «المنتقى» للباجي (3/51)، «بدائع الصنائع» (2/137)، «المغني» (5/328)، «فتاوى ابن عثيمين» (23/227).
ـ[653] ... «بدائع الصنائع» (2/138).
«منسك عطاء» ص(182).
ـ[654] ... «بدائع الصنائع» (2/137)، «العناية على الهداية» (2/185)، «المغني» (5/328)، «فتح الباري» (3/580)، «أبحاث هيئة كبار العلماء» (2/365)، «مجلة البحوث الإسلامية» عدد (72) ص(315)، «فتاوى ابن عثيمين» (23/270 ـ 293).
ـ[655] ... «أخبار مكة» (4/298 ـ 299).
ـ[656] ... انظر: «فتاوى ابن إبراهيم» (5/150).
«سنن النسائي» (5/275).
ـ[657] ... «الجوهر النقي» (5/149).
ـ[658] ... رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح [«فتح الباري» (3/584)].
ـ[659] ... أخرجه البخاري (1728)، ومسلم (1302).
ـ[660] ... «صحيح مسلم» (1216) (143).
ـ[661] ... انظر: «الأصول من علم الأصول» ص(17).
ـ[662] ... تقدم تخريجه عند شرح حديث جابر رضي الله عنه.
ـ[663] ... «بدائع الصنائع» (2/158 ـ 159).
ـ[664] ... رواه مسلم (1297).
«شرح صحيح مسلم» (9/50).
ـ[665] ... «الاستيعاب» (10/95)، «الإصابة» (9/204).
ـ[666] ... «صحيح البخاري» (2731 ـ 2732).
ـ[667] ... «نصب الراية» (3/81).
ـ[668] ... «معاني الآثار» (2/228).
«السنن» (2/276).(1/317)
ـ[669] ... «المجموع» (8/224)، «المغني» (5/309).
ـ[670] ... روى ذلك ابن أبي شيبة في «مصنفه» (الجزء المفرد) ص(241 ـ 242) بسند صحيح، وما ورد عن عمر رضي الله عنه من القولين رواه مالك (1/410) بسند صحيح.
ـ[671] ... «المصنف» ص(242)، «المغني» (5/310).
ـ[672] ... الذريرة: ـ بفتح الذال المعجمة ـ: فتات قصبِ طيبٍ يجاء به من الهند. انظر: «أساس البلاغة» ص(143)، «فتح الباري» (10/371).
ـ[673] ... أخرجه أحمد (43/190)، وأبو عوانة ص(300 ـ القسم المفرد) من طريق روح بن عبادة: حدثنا ابن جريج، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة: أنه سمع عروة والقاسم يخبران عن عائشة رضي الله عنها قالت... الحديث.
ـ[674] ... أخرجه النسائي (5/277)، وابن ماجه (2/245) من طريق الحسن العرني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، موقوفاً.
ـ[675] ... أخرجه البخاري (1725).
ـ[676] ... أخرجه البخاري (5930)، ومسلم (1189).
ـ[677] ... أخرجه مسلم (1305).
ـ[678] ... انظر: «فتح الباري» (3/399، 400، 585).
ـ[679] ... انظر: «المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة» ص(45). «مسألة التحلل الأول في الحج» للشيخ: فريح البهلال.
ـ[680] ... «تهذيب التهذيب» (1/195).
ـ[681] ... انظر: «السلسلة الصحيحة» رقم (605).
ـ[682] ... «الاستيعاب» (13/253).
ـ[683] ... «التلخيص» (2/280).
انظر: «العلل» (834).
ـ[684] ... «الاستيعاب» (5/269)، «الإصابة» (5/270).
ـ[685] ... انظر: «الاستذكار» (13/194)، «شرح صحيح مسلم» (9/69)، «المغني» (5/324)، «الإنصاف» (4/60).
ـ[686] ... انظر: «المحلى» (7/184)، «الاستذكار» (13/195)، «الهداية» (1/150)، «المبسوط» (4/67 ـ 68)، «المغني» (5/324)، «الإنصاف» (4/60).
ـ[687] ... «المحلى» (7/184 ـ 185).
«المغني» (5/325).
ـ[688] ... المصدر السابق.
انظر: «فتاوى ابن باز» (17/362).
ـ[689] ... أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
ـ[690] ... «بدائع الصنائع» (2/139)، «المغني» (5/333)، «نهاية المحتاج» (3/305).(1/318)
ـ[691] ... «بدائع الصنائع» (2/138)، «المنتقى» للباجي (3/53، 55).
ـ[692] ... «المغني» (5/295 ـ 296)، «المجموع» (8/240).
ـ[693] ... «المحلى» (7/134)، «بدائع الصنائع» (2/138).
ـ[694] ... أخرجه ابن أبي شيبة (4/30)، وإسناده حسن.
ـ[695] ... «الموطأ» (1/409) وإسناده جيد.
ـ[696] ... نسبة إلى غني بن أعصر.
أي: صاحبة بيت من بيوت الأصنام.
ـ[697] ... «الاستيعاب» (13/38)، «الإصابة» (12/300).
ـ[698] ... هو حميد بن عبد الرحمن الحميري، وإنما كان عند ابن سيرين أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة؛ لأن ابن أبي بكرة دخل في الولايات، وكان حميد زاهداً. «فتح الباري» (3/575).
ـ[699] ... «صحيح البخاري» (555).
«السنن الكبرى» (5/151).
ـ[700] ... «المجموع» (8/91).
«الجرح والتعديل» (3/475).
ـ[701] ... «الميزان» (2/44).
(4/231).
ـ[702] ... «العلل» لابن أبي حاتم (1/294)، و«علل الدارقطني» (15/114)، وانظر: «حجة الوداع» لابن كثير ص(107).
ـ[703] ... «المدونة» (1/314)، «المحلى» (7/173)، «المجموع» (8/61)، «الإنصاف» (4/44).
ـ[704] ... أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211)، وقد تقدم الكلام عليه برقم (727).
ـ[705] ... رواه مسلم (1215).
«شرح فتح القدير» (2/525).
ـ[706] ... «حجة الوداع» لابن كثير ص(105).
ـ[707] ... «المحلى» (7/118)، «المغني» (5/315)، «الإنصاف» (4/44).
ـ[708] ... تقدم تخريجه برقم (727) من أحاديث «البلوغ».
ـ[709] ... رواه البخاري (1572) تعليقاً.
«الفتاوى» (26/41).
ـ[710] ... «الإشراف» (3/366).
ـ[711] ... «الفتاوى» (26/36، 38، 39، 138، 139)، «زاد المعاد» (2/149).
ـ[712] ... انظر: «سنن أبي داود» (2/153)، «الفتاوى» (26/41)، «الإيماء بأطراف الموطأ» (4/11 ـ 12)، «شرح علل الترمذي» (1/451).
ـ[713] ... تقدم تخريجه.
ـ[714] ... «زاد المعاد» (2/273).
«أضواء البيان» (5/184).(1/319)
ـ[715] ... «المسائل» رواية ابنه عبد الله ص(219 ـ 220)، وتأمل دلالة كلام الإمام أحمد عليه رحمة الله. وانظر: «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (5/385).
ـ[716] ... «تهذيب التهذيب» (6/360).
ـ[717] ... انظر: «أطراف الغرائب والأفراد» (1/487)، «المحرر» (723).
ـ[718] ... «صحيح سنن أبن داود» (1/376).
«التلخيص» (2/268).
ـ[719] ... «إكمال المعلم» (4/393)، «المغني» (5/335)، «المجموع» (8/253).
ـ[720] ... أخرجه البخاري (1590)، ومسلم (1314).
ـ[721] ... المصادر السابقة قبل التخريج.
ـ[722] ... «الهداية» (1/151)، «المغني» (5/336)، «المجموع» (8/254).
ـ[723] ... «الكافي» لابن عبد البر (1/378)، «شرح النووي على صحيح مسلم» (9/86)، «أضواء البيان» (5/214).
ـ[724] ... «فتح الباري» (3/585).
ـ[725] ... انظر: «المغني» (5/341)، «المجموع» (8/855).
ـ[726] ... «الكافي» لابن عبد البر (1/378)، «بدائع الصنائع» (2/143)، «المجموع» (8/256)، «المنتقى» (2/292 ـ 293).
ـ[727] ... «الأم» (3/458).
ـ[728] ... «الاستذكار» (12/184)، «التمهيد» (17/269).
ـ[729] ... رواه ابن أبي شيبة ص(213) «الجزء المفرد» من طريق أبي خالد الأحمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا سند حسن، وجاء عن عمر رضي الله عنه رواه مالك (1/369) وعنه الشافعي في «الأم» (3/457)، وسنده صحيح.
ـ[730] ... «المغني» (5/336).
ـ[731] ... «الفتاوى» (26/6، 8)، «إعلام الموقعين» (3/40).
ـ[732] ... رواه مسلم (1352).
ـ[733] ... «هداية السالك» (4/1366)، «مجلة البحوث الإسلامية» عدد (50)، «المسائل المشكلة» ص(63).
ـ[734] ... «بداية المجتهد» (2/266).
ـ[735] ... «الاستيعاب» (6/189)، «الإصابة» (6/83).
ـ[736] ... «الجرح والتعديل» (3/101).
«الكامل» (2/410).
ـ[737] ... «تهذيب التهذيب» (2/170).
(6/183).
ـ[738] ... «التمهيد» (6/25).
ـ[739] ... أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394).
ـ[740] ... انظر: «منسك عطاء» ص(112) رقم (532).(1/320)
ـ[741] ... «المحلى» (7/148).
«فتح الباري» (3/64).
ـ[742] ... «الإيضاح في مناسك الحج» ص(464)، «زاد المعاد» (3/303).
ـ[743] ... «زاد المسير» (7/140).
ـ[744] ... أي: ضارب خيمته في الحل.
ـ[745] ... أخرجه أحمد (31/212، 220، 243) وهو من طريقين: الأول: من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، إلا أنه صرح بالسماع من الزهري في أثناء الحديث، فانتفت شبهة تدليسه. والطريق الثاني: عن معمر، عن الزهري، به، ورواية معمر في «البخاري» (2731) لكن هذا الطريق ليس فيه الجملة المذكورة، فيخشى من تفرد ابن إسحاق بها عن الزهري، وقد حَسَّنَ الألباني رواية ابن إسحاق. انظر: «صحيح سنن أبي داود» (2/529).
ـ[746] ... «منسك عطاء» ص(113) رقم (538).
ـ[747] ... انظر: «فتاوى ابن عثيمين» (20/164 ـ 166)، «الشرح الممتع» (6/516).
ـ[748] ... «القرى لقاصد أم القُرى» ص(657).
أخرجه مسلم (1396).
ـ[749] ... انظر: «المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة» ص(109).
ـ[750] ... «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/656).
ـ[751] ... «الموطأ» (1/383)، ورواه عنه الشافعي (1/388)، ومن طريقه البيهقي (5/174)، وصححه الألباني في «الإرواء» (4/344).
ـ[752] ... «المغني» (5/196).
ـ[753] ... «الإنصاف» (4/68)، «أضواء البيان» (1/197).
ـ[754] ... انظر: «زاد المعاد» (3/287).
ـ[755] ... انظر: «الشرح الممتع» (7/447 ـ 448).
ـ[756] ... «زاد المعاد» (3/307)، «التلخيص» (2/313).
ـ[757] ... «زاد المعاد» (3/378).
ـ[758] ... «زاد المعاد» (2/91)، (3/307 ـ 378).
ـ[759] ... «الاستيعاب» (13/69)، «سير أعلام النبلاء» (2/274)، «الإصابة» (13/26).
ـ[760] ... «المغني» (5/92 ـ 93)، «المحلى» (7/99 ـ 113).
ـ[761] ... «المغني» (5/93).
ـ[762] ... أخرجه البخاري (1810)، والترمذي (942)، والنسائي (5/169)، وأحمد (8/487).
ـ[763] ... انظر: «فتح الباري» (3/9).(1/321)
انظر: «المحلى» (7/99 ـ 113).
ـ[764] ... «الفتاوى» (26/106).
ـ[765] ... أخرجه النسائي (5/167 ـ 168)، والدارمي (1/365)، وأبو نعيم (9/224) من طريق هلال بن خبَّاب، عن سعيد بن جبير، عن عكرمة، عن ابن عباس، به. وهذا سند حسن رجاله ثقات، رجال الصحيح، غير هلال بن خباب، فهو صدوق تغير بأخرة، كما قال في «التقريب». وله طريق أخرى عند أحمد (5/330) بسند صحيح، بلفظ: «فإن ذلكَ لكِ» ، وقد صحح الألباني هاتين الزيادتين، كما في «الإرواء» (4/186)، لكن قد يشكل على ذلك إعراض الشيخين عنهما، مع أن قصة ضباعة رضي الله عنها رواه ابن عباس ـ كما في مسلم ـ، وعائشة ـ كما في الصحيحين ـ رضي الله عنهما، وليس فيهما هاتان الزيادتان.
ـ[766] ... «سير أعلام النبلاء» (5/22 ـ 36)، «هدي الساري» ص(425 ـ 430).
ـ[767] ... «التاريخ الكبير» (2/370)، «تهذيب التهذيب» (2/179).
ـ[768] ... «جامع الترمذي» (3/278)، «العلل الكبير» (1/394 ـ 395).
ـ[769] ... «السنن الكبرى» (5/220).
ـ[770] ... انظر: «تفسير ابن كثير» (1/335).
ـ[771] ... «الهداية» (1/180)، «الإنصاف» (4/71).
ـ[772] ... «الاختيارات» ص(119 ـ 120).
ـ[773] ... «شرح الزركشي» (3/169 ـ 170).
ـ[774] ... انظر: «فتح الباري» (4/3)، «منسك عطاء» ص(107) رقم (508)، وهذا الأثر وصله عبد بن حميد في «تفسيره» وسنده صحيح.
ـ[775] ... «تهذيب مختصر السنن» (2/371).
ـ[776] ... «الموطأ» (1/362)، «المغني» (5/203)، «المجموع» (8/355).
ـ[777] ... أخرجه البيهقي (5/219) قال النووي في «المجموع» (8/209 ـ 210): (إسناده صحيح، على شرط البخاري ومسلم). وصححه الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (2/309).
ـ[778] ... أخرجه مالك (1/361)، ومن طريقه البيهقي (5/219) بإسناد صحيح على شرط مسلم، كما قال الألباني في «الإرواء» (4/348).
ـ[779] ... «شرح السنة» (7/288).
«المجموع» (8/209 ـ 210).
ـ[780] ... «أضواء البيان» (1/191).
«الشرح الممتع» (7/450).(1/322)
ـ[781] ... انظر: «تهذيب مختصر السنن» (2/370).(1/323)