من أقوال المنصفين
في الصحابي الخليفة معاوية
رضي الله عنه
بقلم
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
المقدمة
(((((( (((( (((((((((((( ((((((((((
( (((((((((( (( ((((( (((((((((((((( ((( (((((((((((( (((((((((( ((( ((((((( (((((( ((((((((( ((( ((((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((( ((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((((( (((( ((((((((((((( ((( (.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، ( ((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((( (((((((( ((( (((((((((( (((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((((( ((((((( ((((((( (.
أما بعد أيها الإخوة الكرام: فهذا حديث عن معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله تعالى عنهما ـ مشتملٌ على ذكر بعض أقوال المنصفين فيه، ولا أريد أن أتكلم فيه عن نسبه، وحياته، وحديثه، وما إلى ذلك مما يتعلق به.
وإنما سيكون مقصوراً على ناحية معينة وهي كلام أهل الإنصاف فيه، الذين وفقهم الله سبحانه وتعالى لأن يسلكوا المسلك القويم، وأن يتكلموا فيه بما يليق به، وبما يناسب مقامه، ولم يقعوا فيما وقع فيه أناس لم يحالفهم التوفيق، ولم يحصل لهم ما يكون فيه سلامتهم ونجاتهم وسعادتهم.(1/1)
ومعاوية بن أبي سفيان ? هو أحد الصحابة الذين أكرمهم الله بصحبة نبيه محمد ( وكل كلام يقال في الصحابة فيما يتعلق بفضلهم عموماً وما يجب لهم عموماً، فإن معاوية ( يدخل في ذلك، ولهم فيه كلام يخصّه ويتعلق به مما ينبغي أن يوصف به، وأن يتكلم فيه بشأنه ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ـ وما أُورِدُه في هذا الحديث عنه ليس لي منه إلاّ مجرد النقل من كتب بذل أصحابها جهوداً مشكورة في خدمة السّنّة النبوية، وفي بيان ما يجب للصحابة ( فأنا سآتي بكلام عام في الصحابة جميعاً، ويدخل فيهم معاوية بن أبي سفيان، ثم بالكلام الخاص الذي يتعلق بمعاوية (.
سبب اختيار الحديث عن معاوية (
وقد يقول قائل: لماذا اخترت معاوية بن أبي سفيان فخصصته بالحديث دون غيره؟
والجواب عن ذلك: هو أن أحد السلف وهو أبو توبة الحلبي قال قولة مشهورة وهي قوله(1): (( إن معاوية بن أبي سفيان ستر لأصحاب رسول الله ( فمن كشف الستر اجترأ على ما وراءه )).
فالذي يتكلم في معاوية ويجرؤ على أن يتكلم فيه ( بكلام لا يليق فإنه من السهل عليه أن يتكلم في غيره.
ولم يكن الأمر مقتصراً عليه بل تجاوزه إلى من هو خير منه ومن هو أفضل منه، بل إلى من هو أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ وكذا غيرهم من الصحابة حصل في حقهم ما حصل من الكلام.
وفي الحقيقة إنما حصل لهم من كلام يليق بهم فهم أهله وهو اللائق بهم ـ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ـ وهو محمدة لمن تكلم به، ولمن حصل منه.
ولهذا كان ذكر هؤلاء الأسلاف الذين تكلموا في حق أولئك الأخيار ـ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ـ كان ذكرهم دائماً على الألسنة، يُذكَر كلامهم الجميل، ويُتَرَحَّم عليهم ويثنى عليهم في كونهم قاموا بما يجب لأصحاب رسول الله (، ورضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.(1/2)
أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فهو في الحقيقة لم يضرَّهم إنما ضرَّ نفسه؛ وذلك أنهم ـ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ـ قدِموا على ما قدَّموا، وقد قدَّموا الخير الكثير، وقد قدَّموا الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله (، ورضي الله تعالى عنهم، فالذي يتكلم فيهم بما لا ينبغي هو في الحقيقة لا يضرهم وإنما يضرُّ نفسه.
بل إن ذلك يكون زيادة في حسناتهم، ورفعة في درجاتهم؛ لأنه إذا تكلم فيهم بغير حق أضيف إليهم من حسنات المتكلم فيهم إذا كان له حسنات، فيكون ذلك رفعة في درجاتهم، وإن لم يكن له حسنات فإنه لا يضر السحاب نبح الكلاب كما يقولون.
فضل الصحابة (
والله سبحانه وتعالى لما أرسل رسوله محمداً ( وختم به الرسالات وجعل رسالته ( كاملة شاملة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، خصّه سبحانه وتعالى بأصحاب اختارهم لصحبته، فشاء أن يوجدوا في زمانه ووجدوا، وقاموا بما أمكنهم من جدّ واجتهاد في الجهاد معه في سبيل الله، ونشر سنّته، وتلقي ما جاء عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فصاروا هم الواسطة بين رسول الله ( وبين من جاء بعدهم.
ومن يقدح فيهم إنما يقدح بالواسطة التي تربط المسلمين برسول الله (، فالذي يقدح فيهم يقدح بالصلة الوثيقة التي تربط الناس برسول الله (.(1/3)
فإذا حصل لهم ميزة وخصيصة وهي أنهم اختيروا لصحبة رسول الله ( فشرفهم الله في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، وما حصل ذلك لأحد سواهم ـ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ـ، وشرفهم الله سبحانه وتعالى بأن سمعوا كلام الرسول من فمه الشريف ( فتلقوا هذا الخير، وهذا النور، وهذا الهدى، وأدَّوه إلى من بعدهم، فكل إنسان يأتي بعدهم فلهم عليه منّة، ولهم عليه فضل؛ لأن هذا الهدى، وهذا النور، وهذا الخير الذي حصل لهم لم يحصل إلاّ بواسطة أولئك الأخيار ـ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ـ وقد ثبت عن رسول الله ( أنه قال: (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ))(2).
فهذا الحديث الشريف لأصحاب رسول الله ( من مقتضاه القسط الأكبر، والحظ الأوفر؛ وذلك لأنهم هم الذين تلقوا هذا الهدى وهذا النور من رسول الله ( وأدّوه إلى من بعدهم، فكل من استفاد منه فلهم مثل أجره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(1/4)
وقبلهم رسول الله ( الذي جاء بهذا الخير وهذا الهدى، فكل من اهتدى ودخل في دين الله وعمل صالحاً، فإن الله يثيب نبيه ( بمثل ما يثيب به ذلك العامل من غير أن ينقص من أجر العامل شيء؛ لأن الرسول ( هو الذي دعا الناس إلى هذا الهدى، فله مثل أجور كل من استفاد خيراً بسببه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، وأصحاب رسول الله ( لهم القسط الأكبر والحظ الأوفر من ذلك؛ لأنهم هم الذين تلقوا هذا الهدى وأدّوه إلى من بعدهم، فهم الذين جمعوا القرآن، وهم الذين حفظوه، وهم الذين أوصلوه إلى من بعدهم، وهم الذين تلقوا سنّة رسول الله (، ورضي الله تعالى عنهم، وأدوها إلى من بعدهم، فصار لهم الثواب الجزيل، ولهم الأجر العظيم، ولهم الحظ الأوفر من دعوة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في الحديث الصحيح الذي قال فيه: (( نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وأدّاها كما سمعها )).
فإنهم هم الذين سمعوا منه مباشرة وبدون واسطة، فهذه خصيصة حصلت لهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
إذاً فإن هؤلاء الأخيار وهؤلاء الأسلاف هم الصلة الوثيقة التي تربطنا برسول الله (، ومن قدح بهؤلاء الذين هم الواسطة، فقد قطع الصلة بينه وبين رسول الله ( وكفى بذلك ضلالاً وخذلاناً والعياذ بالله.
بعض أقوال السلف في الصحابة (
بعد هذا أتلو عليكم بعض النقول التي تكلم بها سلف هذه الأمة في حق صحابة رسول الله ( عموماً ويدخل فيهم معاوية (، وكذلك ما تكلموا به في حق معاوية ( على وجه الخصوص.
1- يقول الطحاوي في عقيدته المشهورة: (( ونحب أصحاب رسول الله ( ولا نفرط في حبِّ أحد منهم، ولا نتبرّأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلاّ بخير، وحبُّهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان )).(1/5)
2- وقال شارح الطحاوية: (( فمن أضل ممن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؛ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة؛ قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى.
وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى.
وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، ولم يستثنوا منهم إلاّ القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة ))(3).
3- وقال البغوي في شرح السّنّة: (( قال مالك: من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله ( وكان في قلبه عليه غلٌّ فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: ( (((( (((((((( (((( (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((( ( إلى قوله: ( ((((((((((( ((((((( (((( (((((((((( (((((((((( ((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((((( ( الآية.
وذُكرَ بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله ( فقرأ مالك هذه الآية ( (((((((( ((((((( (((( ( ((((((((((( (((((((( (((((((((( ((((( ((((((((((( ( إلى قوله: ( ((((((((( (((((( ((((((((((( (.
ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غلّ على أحد من أصحاب النبي ( فقد أصابته هذه الآية ))(4).
4- وقال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: ( ((((((((((( ((((((( (((( (((((((((( (((((((((( ((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((( (((((((( ((( (((((((((( (((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((((( ((((((( ((((((( (.(1/6)
قال بعد أن فسر (الذين جاؤا من بعدهم) أي بعد المهاجرين والأنصار بأنهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين قال: (( أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً؛ لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية.
فإن وجد في قلبه غلّ لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحلَّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخيرة أمة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة.
فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه.
وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمُعلِّم من الرافضة، أو صاحب أحداً من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلقة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنّة رسول الله ( المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله، وسنّة رسوله، وخير أمته، وصالحي عباده، وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط )).(1/7)
هذا ما قاله الشوكاني ـ رحمه الله ـ في تفسيره عند هذه الآية، ثم قال: (( أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص ( قال: (( الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: ( ((((((((((( ((((((( (((( (((((((((( (((((((((( ((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((((( ( الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي ( فسبوهم ))، ثم قرأت هذه الآية: ( ((((((((((( ((((((( (((( (((((((((( ((5).
قلت: وقد أخرج مسلم في أواخر صحيحه هذا الحديث بدون تلاوة الآية.
5- وقال النووي في شرحه: (( قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام يقولون في عليّ ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا )).
وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: ( ((((((((((( ((((((( (((( (((((((((( (((((((((( ((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((((( (.
وبهذا احتج مالك بأنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة (، لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم والله تعالى أعلم ))(6).
6- وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر (: (( أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه ( (((((((((((((( (((((((((((((((( ( الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه ( ((((((((((( ((((((((( (((((((( (((((((((((( ( الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه ( ((((((((((( ((((((( (((( (((((((((( ( الآية، ثم قال، أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو. قال: ليس من هؤلاء من سبَّ هؤلاء ))(7).(1/8)
7- وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتابه السّنّة: (( من السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله ( كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سبَّ أصحاب رسول الله ( أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي؛ حبهم سنّة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة.
وقال: لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه، فإن تاب قبل منه؛ وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة، وخلده في الحبس حتى يتوب ويراجع )).
8- وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتابه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): (( ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله ( وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم، أو نقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم )).
9- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: (( ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ( كما وصفهم الله في قوله: ( ((((((((((( ((((((( (((( (((((((((( (((((((((( ((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((( (((((((( ((( (((((((((( (((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((((( ((((((( ((((((( (.
وطاعة للنبي ( في قوله: (( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه )).
إلى أن قال: (( ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغيّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.(1/9)
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله ( أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أُحد ذهباً ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد ( الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل عَلِمَ يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله )).
10- وقال الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري اليمني في كتابه (الرياض المستطابة في من له رواية في الصحيحين من الصحابة): (( وينبغي لكل صَيِّنٍ متدين مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر، والاعتذار عن مخطئهم، وطلب المخارج الحسنة لهم، وتسليم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه؛ فهم أعلم بالحال، والحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وطريقة العارفين الاعتذار عن المعائب، وطريقة المنافقين تتبع المثالب.(1/10)
وإذا كان اللازم من طريقة الدين ستر عورات المسلمين، فكيف الظن بصحابة خاتم النبيين مع اعتبار قوله (: (( لا تسبوا أحداً من أصحابي ))، وقوله: (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )). هذه طريقة صلحاء السلف وما سواها مهاوٍ وتلف ))(8).
11- ونقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن أبي المظفر السمعاني أنه قال: (( التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة ))(9).
12- وقال الميموني: (( قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن، إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام ))(10).
13- وروى الخطيب البغدادي في كتابه (الكفاية) بإسناده إلى أبي زرعة الرازي قال: (( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ( فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن رسول الله ( عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله (، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسّنّة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة ))(11).
14- قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله (: ( ((((((((((((((( ((((((((((( (((( (((((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((( (((( (((((((( ((((((((( (((((( ( الآية، قال: (( فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم، أو سَبَّهم، أو أبغض أو سبَّ بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول ( وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم أبا بكر ابن أبي قحافة (؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك.
وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم.(1/11)
وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبّه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون )).
15- قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: (( واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروب، ولو عرف المحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلاّ عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطىء في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين ))(12).
من أقوال المنصفين في معاوية (
ومن أقوال المنصفين في معاوية بن أبي سفيان ( ما يلي:
1- قال الموفق بن قدامة المقدسي في (لمعة الاعتقاد): (( ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين ( )).
2- وقال شارح الطحاوية: (( وأول ملوك المسلمين معاوية، وهو خير ملوك المسلمين )).
3- وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء): (( أمير المؤمنين ملك الإسلام )).
4- وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: (( الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ. فقيل له: فمعاوية. قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان عليّ من عليّ ورحم الله معاوية )).
5- وروى ابن أبي الدنيا بسنده إلى عمر بن عبد العزيز أنه قال: (( رأيت رسول الله ( في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينا أنا جالس أُتيَ بعليّ ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف الباب، وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج عليّ وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة )).
6- وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي: (( أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية، فقال له: ولِمَ؟ قال: لأنه قاتل علياً، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما، رضي الله تعالى عنهما )).(1/12)
7- وسئل الإمام أحمد عما جرى بين عليٍّ ومعاوية فقال: ( (((((( (((((( (((( (((((( ( ((((( ((( (((((((( ((((((( ((( (((((((((( ( (((( ((((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((( (. وكذلك قال غير واحد من السلف.
8- وسئل ابن المبارك عن معاوية، فقال: (( ماذا أقول في رجل قال رسول الله (: سمع الله لمن حمده. فقال معاوية خلفه: ربنا ولك الحمد )).
ومعلوم أن (سمع) بمعنى استجاب، فمعاوية حصل له هذا الفضل وهو الصلاة خلف رسول الله (، والرسول ( قال: (( سمع الله لمن حمده ))، ومعاوية ( كان ممن يصلي وراءه ويقول: ربنا ولك الحمد.
فقيل له ـ أي ابن المبارك ـ أيهما أفضل هو أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: (( لَتُرابٌ في منخري معاوية مع رسول الله ( خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز )).
9- وسئل المعافى بن عمران: أيهما أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزبز؟ فغضب وقال للسائل: (( أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين؛ معاوية صاحبه، وصهره، وكاتبه، وأمينه على وحي الله )).
10- وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله ـ وقد سئل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له: رافضي؟ ـ فقال: (( إنه لم يجترىء عليهما إلاّ وله خبيئة سوء؛ ما انتقص أحد أحداً من الصحابة إلاّ وله داخلة سوء )).
11- وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: (( ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قطّ إلاّ إنساناً شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطاً )).
12- وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: (( معاوية ستر لأصحاب محمد ( فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه )).
وهذه النقول المتقدمة أكثرها في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير في ترجمة معاوية(13).(1/13)
وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه باباً قاله فيه: (( باب ذكر معاوية رضي الله تعالى عنه ))، أورد فيه ثلاثة أحاديث أحدها: عن ابن أبي مليكة قال: (( أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، فأتي ابن عباس، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله )).
ثانيها: عن ابن أبي مليكة قيل لابن عباس: (( هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ فإنه ما أوتر إلا بواحدة، فقال: إنه فقيه )).
ثالثها: عن معاوية ( قال: (( إنكم تصلون صلاة لقد صحبنا النبي ( ما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنهما يعني الركعتين بعد العصر )).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: (( عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله ذِكْر ولم يقل فضيلة أو منقبة؛ لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب إلاّ أن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير، وقد صنّف ابن أبي عاصم جزءاً في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب، وأبو بكر النقاش، وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء، فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتماداً على قول شيخه، لكنه بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رؤوس الروافض ))(14).
وورد في صحيح مسلم أن رسول الله ( قال في معاوية: (( لا أشبع الله بطنه )).
فروى بسنده إلى ابن عباس قال: (( كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله ( فتواريت خلف الباب، قال: فجاء فحطأني حطأة يعني ضرب بيديه بين كتفي، وقال: (( اذهب وادع لي معاوية )) )). قال: فجئت وقلت: هو يأكل. ثم قال: (( اذهب فادع لي معاوية )). قال: فجئت فقلت: هو يأكل. قال: (( لا أشبع الله بطنه )).(1/14)
وقد ختم مسلم رحمه الله بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي ( أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلاً لذلك أن يجعله له زكاة، وأجراً، ورحمة، وذلك كقوله: (( تربت يمينك، وثكلتك أمك، وعقرى حلقى، ولا كبرت سنك ))، فقد أورد في صحيحه عدّة أحاديث.
أحدها هذا الحديث، وقبله حديث أنس بن مالك ( قال: كانت أم سليم يتيمة، وأم سليم هي أم أنس، فرآها رسول الله ( فقال: (( آنت هي لقد كبرتِ لا كبر سنّك )). فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت لها أم سليم: ما لك يا بنية؟ فقالت الجارية: دعا عليَّ النبي ( أن لا يكبر سنّي، فالآن لا يكبر سني أبداً، أو قالت قرني. فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله (، فقال لها رسول الله (: (( ما لك يا أم سليم؟ ))، قالت: يا رسول الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: (( وما ذاك يا أم سليم؟ ))، قالت: زَعَمَتْ أنك دعوت عليها أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله ( ثم قال: (( يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة )).
وعقب هذا الحديث مباشرة أورد مسلم ـ رحمه الله ـ الحديث الذي قال فيه رسول الله ( في معاوية: (( لا أشبع الله بطنه )).
وهذا من حسن صنيع مسلم ـ رحمه الله ـ وجودة ترتيبه لصحيحه، وهو من دقيق فهمه، وحسن استنباطه رحمه الله.
وقد قال النووي رحمه الله في شرحه(15): (( وقد فهم مسلم ـ رحمه الله ـ من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية )).
يعني وجعله غير مسلم من مناقب معاوية؛ لأنه يصير في الحقيقة دعاءً له.(1/15)
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ( ((((( (((((( (((((((((( (((((( ((((((((( (((((((((((( (((((((((( (((( ((((((( (((( (((((((((( ( ((((((( ((((( ((((((((( ( [الإسراء:33]، قال: (( وقد أخذ الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطة، وأنه سيملك؛ لأنه كان وليَّ عثمان، وقد قتل عثمان مظلوماً ـ رضي الله تعالى عنه ـ، وكان معاوية يطالب عليّاً ( أن يسلمه قَتَلَتَه حتى يقتصَّ منهم، لأنه أموي وكان عليٌّ ( يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع عليّاً هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكَنَ معاوية، وصار الأمر إليه كما قاله ابن عباس، واستنبطه من هذه الآية الكريمة، وهذا من الأمر العجب ))(16).
وفي صحيح البخاري عن أنس ( أن النبي ( قال: (( آية الإيمان حب الأنصار، وآية المنافق بغض الأنصار )).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح: (( أن هذا الفضل للأنصار يشاركهم فيه من كان مشاركاً في المعنى الذي من أجله حصل لهم ذلك الفضل، وهو نصرتهم لرسول الله ( )).
ثم قال: وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليّ أن النبي ( قال له: (( لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلا منافق )). وهذا جارٍ باطراد في أعيان الصحابة.
قال صاحب المفهم: (( وأما الحروب الواقعة بينهم، فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارىء الذي اقتضى المخالفة؛ ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حالَ المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطىء أجر واحد، والله تعالى أعلم ))(17).(1/16)
وقال الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري اليمني في كتابه (الرياض المستطابة) في ترجمة أبي موسى الأشعري (: (( ونقل السيد الإمام الشريف محمد بن إبراهيم بن المرتضى ( أن بغض عليّ إنما كان علامة النفاق في أول الإسلام؛ لأنه كان ثقيلاً على المنافقين، ولذلك جاء في الأنصار أن بغضهم علامة النفاق أيضاً، وحبهم وحب عليّ علامة الإيمان.
واستدل على ذلك بأن الخوارج يبغضون عليّاً ويكفرونه مع الإجماع على أنهم غير منافقين، وإن كان ذنبهم عظيماً ومروقهم من الإسلام منصوصاً. والباطنية يحبونه مع الإجماع على كفرهم، ثم كذلك الروافض يحبونه مع ضلالتهم وفسوقهم، وعلى كل حال فلا يصدر سبّ أهل السوابق من الصحابة وتتبع عوراتهم، والتنقيش والتفتيش عن مثالبهم عن ذي قلب سليم، ودين مستقيم، نسأل الله العافية والسلامة ))(18).
وقال الحافظ الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال): (( فإن قيل: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدُّ الثقة العدالة والإتقان؛ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟.
والجواب: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلوٍّ ولا تحرُّقٍ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق؛ فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بَيِّنَةٌ.
ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل، والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقلُ من هذا حاله؟ حاشا وكلاّ، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعُرْفِهم هو من تكلم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب عليّاً ( وتعرض لسبهم.
والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً فهذا ضالٌّ مفترٍ ))(19).(1/17)
ومن المحدثين الذين وصفوا بالتشيع: الفضل بن دكين أبو نعيم شيخ البخاري.
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: (( الثناء عليه في الحفظ والتثبت يكثر إلاّ أن بعض الناس تكلم فيه بسبب التشيع، ومع ذلك فصح أنه قال: (( ما كتبت عليَّ الحفظة أنّي سَبَبْتُ معاوية ))(20).
ومنهم محمد بن فضيل بن غزوان الكوفي، قال عنه الحافظ في المقدمة: (( قلت: إنما توقف فيه مَن توقف لتشيعه، وقد قال أحمد بن عليّ الأبار: حدثنا أبو هاشم: سمعت ابن فضيل يقول: (( رحم الله عثمان، ولا رحم الله من لا يترحم عليه )). قال: ورأيت عليه آثار أهل السنة والجماعة رحمه الله ))(21).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( لا يجوز لعنُ أحد من أصحاب النبي ( ولا سبّه، ومن لعن أحداً منهم كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ونحوهما، أو من هو أفضل منهما كأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وغيرهما، أو من هو أفضل من هؤلاء، كطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي (، فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين. وتنازع العلماء، هل يعاقب بالقتل أو بما دون القتل؟ )).
وقال: (( المهاجرون من أوّلهم إلى آخرهم ليس منهم من اتهمه أحد بالنفاق، بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالإيمان )).
وقال: (( وأما معاوية بن أبي سفيان وأمثاله من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة، كعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، هؤلاء وغيرهم ممن حسن إسلامهم باتفاق المسلمين، لم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق، ومعاوية قد استكتبه رسول الله ( منذ أسلم )).
وقال: (( لما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية، وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسةً، وأخبرهم بالرجال، وأقومهم بالحق، وأعلمهم به )).(1/18)
وقال: (( فما استعمل عمر قط، بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقاً، ولا استعملا من أقاربهما ولا كانت تأخذهما في الله لومة لائم )).
وقال: (( وقد علم أن معاوية، وعمرو بن العاص، وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان، ولم يتَّهمهم أحد من أوليائهم، ولا محاربيهم بالكذب على النبي (، بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله ( مأمونون عليه في الرواية عنه، والمنافق غير مأمون على النبي، كاذب عليه مكذب له )).
وقال: (( وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة، ولا القرابة، ولا السابقين ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب )).
قال: (( وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور )).
وقال: (( ومعاوية لم يدَّع الخلافة، ولم يبايع له فيها حين قاتل عليّا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وكان هو يقر بذلك لمن يسأله، وما كان يرى هو وأصحابه أن يبتدئوا عليّاً وأصحابه بالقتال، بل لما رأى عليّ ( وأصحابه أنه يجب على معاوية وأصحابه طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة. وقال معاوية وأصحابه، إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا كانوا مظلومين.
قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتَلَته في عسكر عليّ، وهم غالبون لهم شوكة )).(1/19)
وقال: (( ثم إن عماراً تقتله الفئة الباغية )) ليس نصّاً في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه، بل إنه يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته وهي طائفة العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها. ومن المعلوم أنه كان في العسكر من لم يرضَ بقتل عمار كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية وعمرو ))(22).
خلاصة ما يجب اعتقاده فيما جرى بين الصحابة من الفتن:
والحاصل أن الفتن التي جرت بين الصحابة ( يجب أن يكون حظ العاقل منها حسنَ الظن بالصحابة الكرام، والسكوت عن الكلام فيهم إلاّ بخير، والترضي عن الصحابة جميعاً، وموالاتهم، ومحبتهم، والجزم أنهم دائرون في اجتهاداتهم بين الأجر والأجرين.
ولقد أحسن شارح الطحاوية حيث قال بعد أن أشار إلى ما جرى بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما: (( ونقول في الجميع بالحسنى: ( ((((((( (((((((( ((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((( (((((((( ((( (((((((((( (((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((((( ((((((( ((((((( ( )).
ثم قال: (( والفتن التي كانت في أيامه ـ أي أيام أمير المؤمنين عليّ ( ـ قد صان الله عنها أيدينا، فنسأله سبحانه وتعالى أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه )).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه، وأفضل رسله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
الفهرس
- المقدمة.....
- سبب اختيار الحديث عن معاوية (....
- فضل الصحابة (.....
- بعض أقوال السلف في الصحابة (....
1- قول الطحاوي.....
2- قول شارح الطحاوية....
3- قول البغوي......
4- قول الشوكاني......
5- قول النووي.......
6- قول ابن عمر في قوله تعالى ( (((((((((((((( (((((((((((((((( (....
7- قول الإمام أحمد......
8- قول الإمام الصابوني........(1/20)
9- قول شيخ الإسلام ابن تيمية.......
10- قول الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري اليمني....
11- قول أبي المظفر السمعاني.....
12- نقل الميموني قول الإمام أحمد.....
13- قول أبي زرعة الرازي.....
14- قول الحافظ ابن كثير.....
15- قول الحافظ ابن حجر.....
من أقوال المنصفين في معاوية (.....
1- قول الموفق ابن قدامة المقدسي....
2- قول شارح الطحاوية.....
3- قول الذهبي...
4- قول الإمام أحمد....
5- قول عمر بن عبد العزيز....
6- قول أبي زرعة الرازي....
7- إجابة الإمام أحمد عما جرى بين عليّ ومعاوية.....
8- قول ابن المبارك....
9- قول النعافى بن عمران.....
10- قول الفضل بن زياد.....
11- عقوبة عمر بن عبد العزيز لمن شتم معاوية (....
12- قول أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي....
- عقد البخاري باباً في ذكر معاوية.....
- حديث في صحيح في فضل معاوية (....
- قول النووي في شرح الحديث....
- قول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ( ((((( (((((( ((((((((((.... ( ....
- قول الحافظ ابن حجر (أن الفضل للأنصار يشاركهم....)....
- قول الإمام الشريف محمد بن إبراهيم بن المرتضى أن بغض عليّ إنما كان علامة نفاق في أول الإسلام.....
- قول الذهبي في توثيق المبتدع....
- أقوال لابن تيمية في معاوية، وفي ما وقع بين الصحابة....
- خلاصة ما يجب اعتقاده فيما جرى بين الصحابة من الفتن....
- الفهرس....
(1) انظر البداية والنهاية (8/139).
(2) رواه مسلم في صحيحه (4/2060).
(3) انظر شرح الطحاوية (ص:469).
(4) انظر شرح السنة (1/229).
(5) انظر فتح القدير (5/197،198).
(6) انظر شرح النووي (18/158).
(7) انظر فتح القدير (5/198).
(8) انظر الرياض المستطابة (ص:311).
(9) انظر فتح الباري (4/365).
(10) انظر البداية والنهاية (8/139).
(11) انظر الكفاية (ص:49).
(12) فتح الباري (13/34).
(13) انظر البداية والنهاية لابن كثير (8/130-139).
(14) انظر الفتح (7/103-104).(1/21)
(15) انظر شرح النووي (16/156).
(16) انظر تفسير ابن كثير (30/38).
(17) انظر فتح الباري (1/63).
(18) الرياض المستطابة (ص:195).
(19) انظر الميزان (1/5).
(20) انظر مقدمة الفتح (ص:434).
(21) انظر مقدمة الفتح (ص:441).
(22) وهذه النقول عن شيخ الإسلام من إجابته على سؤال في معاوية بن أبي سفيان ( طبع بتحقيق صلاح الدين المنجد.
??
??
??
??(1/22)