ـ وتأتي ضل في القرآن بمعنى اضمحل وأصبح هباء ومنه قول الله جل وعلا هنا: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ) وقوله سبحانه في السجده :( وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي إذا ذبنا واضمحللنا في الأرض وذهبنا هباء منثورا أننا سنعاد المقصود أن الله سلط عليهم الطير وقد قلنا في درس سابق إن الأصل في الطير أنه مصدر أمان فلايوجد أحد يخوف بالطير فلما أرادوا أن إلى أعظم مكان آمن وهو الكعبه أن يهدموه سلط الله عليهم الخوف من حيث لايحتسبون فأضلتهم الطير وهم يعتقدون أنهم في أمن ليست ريح يخوفون بها ولا كواسر وسباع ضواري تأكلهم وإنما طير من الطيور فلما أصابهم الإطمئنان بعث الله جل وعلا عليهم حجارة من سجيل.
ـ جعل الله جل وعلا في مكة بيته الحرام وهو أول بيت وضع للناس ولايوجد في الشرع بيت يطاف حوله إلا البيت العتيق .
ـ وسمي بالعتيق :ـ لأن الله جل وعلا أعتقه من الجبابره أن يصلوا إليه أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا البيت لا يسلط عليه كافر إلى قيام الساعه لا يسلط عليه كافر إلى قيام الساعه ولهذا الحملات الصليبيه دخلت بيت المقدس ووصلت إلى أطراف الجزيره وأفتتحت الشام مع فضل الشام وماجاء فيه لكن لم تستطع أي حمله صليبيه أن تصل إلى مكة ولن تستطيع إلى قيام الساعه لأن مكة بيضة الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عهدا من ربه ألا يسلط على المسلمين من يستبيح بيضتهم أعطاه الله جل وعلا هذا العهد فلو جبلت أمم الأرض من أقطارها على أن يدخلوها لن يستطيعوا أن يدخلوها هذا خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يؤذن بقيام الساعه يأتيها ذو السويقتين من أرض الحبشه يهدمها ويقلعها حجرا حجرا ويستخرج كنوزها أي الكعبه بعد ذلك لا يطاف بالبيت أصلا ولايقال لاإله إلا الله ولايبقى على الأرض أحد مسلم ثم على هؤلاء هم شرار الخلق تقوم الساعه.(7/27)
ـ جعل الله جل وعلا بيته وجعل شعائر عظمى مر معنا منها المشعر الحرام ـ ومنى ـ والصفا والمروه ـ ومقام إبراهيم كما قال الله:( فِيهِ ءَايَاتٌ بَينَاتٍ مَقَامُ إِبَرَاهِيمُ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنا ).
ـ منع الله شرعا أن يدخلها الكفار قال الله جل وعلا :( إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِم هَذا ) فلا يحل لأحد أن يدخل رجلا مشركا أي كان من أهل الكتاب أو وثني أو غيره أن يدخل مكة بخلاف المدينه لايوجد دليل شرعي على أن الكفار يمنعون من دخول المدينه لكنا كما قلنا مرارا هذا رأي رآه ولاة الأمر وفقهم الله أن لايدخلها أحد غير المسلمين والأمر عليه وإلا لايوجد مانع شرعي يمنع دخول أهل الكفر إلى المدينه لأن أبولؤلؤة المجوسي مجوسي من اسمه وعابد نار وقتل عمر رضي الله عنه كان يعمل حدادا داخل المدينه وعمر رضي الله عنه لما بلغه أنا أبا لؤلؤه هو الذي قتله كان يعرف أنه مجوسي قال : الحمد لله الذي لم يجعل موتي أو قتلتي على يد رجل سجد لله فهو يعلم أن أبا لؤلؤه كان كافرا وأنه كان يسكن المدينه قال الله تعالى : (:( إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِم هَذا ) هذا من خصائصها هذا جملة مايمكن أن يقال عن البلد الحرام وتعظيمه من أعظم تعظيم شعائر الله .
ـ جعل الله من خصائصها أن الصلاة في مسجدها بمائة ألف ولايوجد هذا إلا في المسجد الحرام وجمهور العلماء على أن الصلاة في أي موطن في مكة في المسجد أو حتى في البيوت لأهل الأعذار الصلاة فيها بمائة ألف صلاة وأما المدينه فالصلاة في المسجد بألف في المسجد النبوي فقط دون الصلاة في أي مكان خارج المسجد .خارج المسجد لا تحسب الصلاة بألف صلاة واختلف الناس في ساحات المسجد الموجد الآن والصواب أن ساحات المسجد هذه الصلاة فيها بألف .(7/28)
ـ لأن الفقهاء من الحنابله يقولون إن رحبة المسجد أي المحيطه به لا تخلوا من أحد حالين :ـ
ـ إماأن تكون مسورة ولها أبواب فتلحق حكما بالمسجد .
ـ وإن لم تكن مسورة وليس لها أبواب فلا تلحق بالمسجد والساحات التي حول الحرم النبوي مسورة ولها أبواب فالصواب أنها تلحق حكما بالمسجد لكن من أتى إليها يدخل المسجد فإذا ازدحمت كما يصلي الناس التراويح والأعياد في الساحات فهذه إن شاء الله داخله في المسجد حكما .والصلاة فيها بألف صلاة.
قلنا جمهور العلماء على أن مكة الصلاة فيها بمائة ألف صلاة في سائر أنحيتها.
ـ بقينا في السيئه: المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السيئه في مكة بمائة ألف لكن أكثر أهل العلم على خلاف هذا لأن الله قال في آيات محكمات ( وَجَزَاؤُ سَيِّئَةٌ سَيِّّئَةٌ مِّثْلُهَا ) فلا يرد محكم القرآن برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لكن السيئه فيها تغلظ كيفا ولا تغلظ كما أي لايكثر عددها لكن قد تكثر تغلظ كيفية كما بينا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا بإمرأة أخرى وإن كان كل حراما المقصود من هذا هذه مكة بلد الله الحرام الذي عظمه الله جل وعلا يوم خلق السموات والأرض وقلت أنني في هذه الأعلام أعطي إطلالات تاريخيه ماقدر الله لنا أن نقوله فيها...
هذا ماتيسر إراده وتهيأ إعداده والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله....(7/29)
.. إن من البيان لسحرا .. أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ..
للشيخ صالح المغامسي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات واشهد ان لااله الا الله وحده لاشريك له .. مقاليد كل شيء بيديه ورزق كل احد عليه ومصير كل عبد إليه واشهد ان نبينا سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وافطر الشافع المشفع في عرضات يوم المحشر صلى الله وسلم وبارك وانعم عليه ماتلاحمت الغيوم وما تلالات النجوم وعلى اله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين أما بعد :-
عباد الله فالله اكبر ما أعظمهم من أربعه مهديين وخلفاء راشدين جعلهم الله جل وعلا قدوه واسوه يوم تأسوا واهتدوا بهدي محمد صلى الله عليه وسلم ... حبهم دين ومله و موالاتهم قربه وطاعة والتراضي عليهم من أعظم الدعاء فاللهم أرضى عن أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ....
أيها المؤمنون ..
إن الحديث عن هؤلاء الراشدين أمر مشتهر معروف .. لكن تكراره محبب الى النفوس مألوف وسيقتصر حديثنا عن أيامهم الاخيره وأخبار موتهم وما في ذلك من دلائل العظات وجلائل العبر في قوم كانت حياتهم زاخرة بالمعاني العظيمة .. فلا غرور ولا عجب ان يكون موتهم حافلاً بالأحداث الجليلة ...
أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلا خلاف بين المؤمنين انه توفي رضي الله عنه في جماد الاخره لكن اختلف في عله موته ولأظهر رضي الله عنه وارض انه اغتسل في يوم بارد فحَم فكان ذلك سبب في وفاته ..
وقد جعل الله جل وعلا لكل موت احد سببا مات الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد ان استشار الناس في أمر الخلافة من بعده واخذ يبذل جهده وسعيه في الولاية من بعده فاجمع أمره رضي الله عنه وأرضاه على توليه عمر بعد ان شاور كبار الصحابة واستشار الثقات منهم وكتب في كتاب له بعد ذلك يجمع الناس فيه على عمر خوفاً على الامه ان تتفرق بعده وان يتشتت شملها وفي ذلك دلائل جليلة من أعظمها :-(8/1)
ان النصح للمسلمين وحب الخير لهم من أعظم دلاله سلامه القلوب وان المؤمن المتحلي بهذه الصفة قد وقر الإيمان في قلبه لان من كمال الإيمان كمال النصح لله ولرسوله لكتابه ولائمه المسلمين وعامتهم جعلها الصديق رضي الله عنه في الفاروق من بعده لأنه أدرك مع استشارته لخير الأصحاب إن عمر اقدر على سياسة الامه من بعده ولم يجعلها في احد من بنيه أو احد من ( بني تميم ) تلك القبيلة التي ينتسب أليها .. فرضي الله عنه وأرضاه وما أطيبه حياً وميتاً- رضي الله عنه وأرضاه –
أيها المؤمنون ...
وقف الصديق يحتضر وعند رأسه ابنته عائشه فلما رأت مااصاب أباها أخذت تتمثل في بيت حاتم :-
لعمرك ما يغنى الثرى عن الفتى * * * اذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف الصديق وهو في سكرات الموت عن غطاءه واخذ يقول :- يا بنيه لا تقولي هذا ولكن قولي كما قال الله ( وجاءت سكره الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) ان رباطه الجأش في مثل هذا الموضع لم أعظم الدلالة على معرفه الله تبارك وتعالى ومثل هذا لا يكون إلا اذا كان من قبل إيمان ويقين راسخ وأعمال صالحه تعين بعون الله على الثبات في تلك المواطن و إلا سكرات الموت حقاً لابد منه لكل احد تطول او تقصر كلٌ بحسبه لكن المراد والمقصود من الحديث ان الصديق رضي الله عنه وأرضاه تمثل بالقران عند موته كما كان يعمل بالقران في أيام حياته وما حياه الإنسان في أخرها الا إجمال لما كان عليه قبل ذلك فإذا منَ الله جل وعلا عليه بتوبة قبل الموت محت تلك التوبة برحمه الله ما كان من سالف الخطايا وأيام العثرات ..
أيها المؤمنون :-
أوصى الصديق رضي الله عنه ان تتولى غسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها فغسلته وهي يومئذ صائمة في يوم شاتٍ بارد فلما فرغت من غسله خرجت الى فقهاء المهاجرين تسألهم هل عليها من غسل لأنها لامست ميتاً فأفتوها رضي الله عنهم وأرضاهم أن لا غسل عليها ..(8/2)
فما أعظمها من زوجه وما أكرمها من مؤمنه عرفت حق زوجها ولم تضيع وأبقت على حق ربها ..
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفي كل قوله يوم أن قال ( فظفر بذات الدين تربت يداك ) فالزوجة المؤمنة التقية من أعظم ما يعين على طاعة الله ومن أعظم ما يساعد على القرب منه كما كانت أسماء رضي الله عنها وأرضاها عون للصديق في حياته وتولت غسله بوصيته بعد مماته .. دفن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حجره عائشه رضي الله عنها وأرضاها بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كانا جارين في الغار وهما أحياء ثم أضحى جارين في قبرهما وهما أموات فما أكرمهما عند الله جل وعلا من صاحبين وما أعظم منَه الله جل وعلا وفضله عليهما ...
تولى أمير المؤمنين عمر بعد وأخذ الأمناء الثقات من الصحابة وفتحوا بيت المال ليروا ماذا أبقى لهم أبو بكر فلم يجدوا في بيت المال ديناراً ولا درهم كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقوم بالأمانة على وجهها ويتقي الله جل وعلا في أموال المسلمين والمال أيها المؤمنون فتنه يدفع صاحبها إلى الغش لترويج بضاعته ويدفع صاحبه لان يقبل الرشوة ويضاعف من دخله ويدفع إلى السرقة ويدفع إلى الخيانة ويدفع إلى غير ذلك ... ويدفع أحياناً إلى الكذب والمماطلة في سداد الدين لكن من عرف ذله الوقوف بين يدي الله جل وعلا تحرر من مظالم الناس وخشي على نفسه ان يلقى الله ويومئذ للناس عليه مطالب ويومئذ ان يقتص المطالب بالحسنات والسيئات لا بدينار والدرهم الا ترى ان الله جل وعلا يقول وهو اصدق القائلين ( يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه ) ان المرء في يوم القيامة لا يفر عمن لا يعرفهم لأن من لا يعرفهم في الغالب لا حقوق لهم عليه فلا يطالبونه بشيء فلا يخشى في عرصات يوم القيامة أن يقابلهم ...(8/3)
أما من كانوا حوله من أخوه أم وأب وزوجه وأبناء وجيران وأصدقاء فانه يفر منهم خوفاً من أن يكون قد ظلمهم في الدنيا فيطالبونه بحقهم في الآخرة ولا دينار ولا درهم يومئذ إنما هي الحسنات والسيئات .. عافانا الله وإياكم من مظالم العباد كلها ..
عباد الله :-
هذا ما كان من شان موت الصديق رضي الله عنه وأرضاه ...
أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقد مات مطعوناً مقتولاً شهيداً عند الله جل وعلا في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في الناس صلاة الفجر قتله أبو لؤلؤه المجوسي كان يعمل حداداً للمغيرة بن شعبه ولم يسجد لله جل وعلا قط ..
وأعظم العبر في موت الفاروق رضي الله عنه ما كان مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من عظيم قدر الصلاة فإنه لما طعن قال له الناس :- ألا نحملك إلى بيتك يا أمير المؤمنين ؟ قال :- لاحظ في الإسلام لم ترك الصلاة ووقف رضي الله عنه وأرضاه في الصف وجرحه يثغب دماً ومع ذلك بقي يصلي وصلى عبد الرحمن بن عوف بالمؤمنين ركعتين خفيفتين مراعاة للموقف .. فما أعظم حسره فتى عافاه الله في بدنه ثم ينام عمداً عن صلاه الفجر يسمع المؤذن يقول :- حي على الصلاة حي على الفلاح ويؤثر الفراش الوثير على دعوه ربه العلي الكبير ولينظر ويتأسى بما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الغدو والرواح إلى جماعه المسلمين والمحافظة على صلاه الجماعة في مساجد الإسلام ..
طعن عمر وحمل إلى بيته فوقف ابن عباس رضي الله عنهما يثني عليه ويقول له ( يا أمير المؤمنين ابشر فلقد كان أسلامك فتحاً .. وهجرتك نصراً .. وأخذ يعدد مناقبه ) فقال له رضي الله عنه وأرضاه :- والله إني لمع الذي تقول . لو أن لي ملا الأرض ذهباً لفتديت به من هول المطلع ) فما اقض مضاجع الصالحين شيء أعظم من خوفهم من الوقوف بين يدي ربهم جل وعلا ...(8/4)
ذكر الله الساعة واستعجال الكافرين لها ثم قال جل وعلا ( والذين امنوا مشفقون منها ) مع ما يرجونه من رحمه الله الا أنهم يبقون من الخوف ويعلمون عظمه وجلاله الوقوف بين يدي الله في يوم يعرض فيه الكتاب ( لا يغادر صغيره ولا كبيره إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك احد ) .......
بعث عمر رضي الله عنه في ساعة احتضاره لما أيقن بموته وسال الطبيب فقال له الطبيب :- استحلف يا أمير المؤمنين فانك ميت ... وكان الطبيب من بني معاوية من الأنصار فقال له عمر :- صدقتني يا طبيب بني معاوية ولو قلت لي غير ذلك لكذبتك )
فبعث ابنه عبد الله بن عمر يستأذن أم المؤمنين عائشه رضي الله عنها لان الحجرة حجرتها يستأذنها بان يدفن مع صاحبيه وقال لها :-
( قل لها عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ولا تقل لها أمير المؤمنين فإنني لست اليوم للمؤمنين بأمير) ...
فلما جاءه الخبر بموافقة عائشه فرح رضي الله عنه وأرضاه فرحاً عظيماً وقال :- لقد زال عني همٌ عظيم كنت احمله .. ثم قال :- إذا مت و ادرجتموني في كفني فستأذن مره أخرى وقل ان عمر بن الخطاب يستأذن ان يدفن مع صاحبيه ) فدفن رضي الله عنه وأرضاه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما في موضع واحد في الجهة الجنوبية الغربية من حجره عائشه كلهم الثلاثة قد الحد لهم فهذا القبر يضم اشرف الأجساد جسد نبينا صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء وجسد أبو بكر الصديق والفاروق خير أصحاب الأنبياء والمرسلين ...
أيها المؤمنون :-(8/5)
صدقت في موت عمر قول نبينا صلى الله عليه وسلم ( أثبت احد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ) وكل ما اخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق .. واستجاب الله جل وعلا دعوه عمر يوم كان يقول أيام خلافته ( اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك وموته في بلد رسولك ) فجمع الله له مناه فمات رضي الله عنه شهيداً في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه البلدة المباركة يعظم حق الجوار فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن منَ الله عليها بسكناها أو جعل الله جل وعلا لأحد منكم رزقه فيها سواء كان من أهلها أو من غير أهلها فإن هذا من أعظم الفضل ... وأجزل العطاء ويجب أن تقابل نعم الله بشكر فلا يرينك الله تغش أهلها في طعام أو متاع أو تظلم احد منهم ...
أو يراك الله في مدينه رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعرض لإعراض المؤمنين تأذي هذا ..و تلمز هذا .. وتأذي أهل بيت هذا .. أو تغمز .. أو يكون منك من المعاصي غير ذلك... وأعظم الجرم أن يكون إحداث فيها بسفك دم أو قول أو فعل قال صلى الله عليه وسلم ( المدينة حرم من عير الى ثور من احدث فيها حدثاً أو أوى فيها محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً ) ..
وفقني الله تعالى لهدى كتابه وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فستغفره انه هو الغفور الرحيم ....
الحمد لله وكفى .. وسلام على عباده الذين اصطفى .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون ) فالله الله أيها المؤمنون في تقوى ربكم سراً وإعلاناً .. وخشيته تبارك وتعالى غيب وشهادة فان تقوى الله أزين ما أظهرتم .. وأكرم ما أصررتم .. وأعظم ما ادخرتم ..
عباد الله :-(8/6)
إن أبقى الله في الأجل وأنسئا في العمر سنأتي إن شاء الله عن الحديث عن موت الشيخين الجليلين عثمان وعلي رضي الله عنهما وأرضاهما...
لكنه ينبغي أن يعلم أن هؤلاء الأربعة الراشدين وغيرهم من أقذاف الامه ورجالها و ساداتها عبر الأمصار والدهور لم يسودوا الا بتباعهم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان للامه شان ولا ذكر لولا إتباعها لنبيها صلى الله عليه وسلم فلقد بعث الله نبيه بالتوحيد وجعله رحمه للخلائق .. وهداية للطرائق .. وسؤدد الإنسان في أمر دنياها بحسب قربه أو بعده عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم
من أبو بكر قبل الوحي من عمر * * * ومن علي ومن عثمان ذو الرحم
من خالد من صلاح الدين قبلك من * * * أنت الإمام لأهل الفضل كلهم
لما أتتك قم الليل استجبت لها * * * تنام عينك أما القلب لم ينم
الليل تسهره بالوحي تعمره * * * وشيبتك بهود أيه استقم
يا ليتني كنت فرد من صحابته * * * أو خادم عنده من اصغر الخدم
فصلوا وسلموا وباركوا عليه كما أمركم الله جل وعلا في كتابه .. فاللهم صلي على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار وصلى على محمد ما تعاقب الليل والنهار ورضي اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار.. اللهم و ارحمنا معهم بمنك ورحمتك وكرمك ياذا الجلال
والإكرام .. اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين ... اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين ... اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين ... اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك .. اللهم وفقه لهديك واجعل عمله في رضاك .. اللهم احفظ بلادنا من كل سوء ومكروه ومن أراد بها سوءاً فرد اللهم كيده في نحره يا قوي يا عزيز .. اللهم احفظ أهل الإسلام في كل مكان .. يارب العالمين ياذا الجلال والإكرام .. اللهم ارحم موتى المسلمين .. اللهم انس في تلك البقاع وحشتهم .. وارحم اللهم تحت الثرى غربتهم .. وارحمنا اللهم اذا صرنا الى ما صاروا إليه ..
عباد الله :-(8/7)
ان الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون ....
.. أمل الأمة ..(8/8)
إن من البيان لسحرا : عثمان وعلي رضي الله عنهما : للشيخ صالح المغامسي
الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات .. له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرحمن على العرش استوي وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بعثه ربه على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب فهدى الله به الخلائق وأبان الله به الطرائق فأوضح الحجة وأقام المحجة فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اتبع بإحسان منهجه .. أما بعد :-
عباد الله ..
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وخشيته والتقرب إليه جل وعلا بمحبته وطاعته قال الله جل وعلا (( يأيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) فلا يرينك الله يا أخي حيث نهاك ولا يفقدنك الله جل وعلا على حيث أمرك وإن من أراد حفظاً من الله فليحفظ الله في أمره ونهيه تبارك وتعالى ..
عباد الله .. قد مضى الحديث فيما سبق عن الخلفاء الراشدين و الأربعة المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم ذكرنا نتف وعظات .. وعبر ودلائل وآيات من موت أبي بكر واستشهاد عمر رضوان الله تعالى عليهما ونحن في هذا اليوم نستأنف الحديث في مقتل ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأبي السبطين علي رضي الله عنه والآخر وأرضاه .. أيها المؤمنون .. ليس المقام مقام سرد للمرويات و ذكر للأخبار والأقاصيص وتبين الصحيح من السقيم فهذا موطنه ومحله الطوال من المؤلفات والدراسات الأكاديمية في أورقة الجامعات وإنما الحديث جملة عن خبر مقتلهما رضوان الله تعالى عليهما وما يمكن أن ينجم عن ذلك من عبر وعظات ننتفع بها في حياتنا ومعادنا حسبنا أن نقف على ثلاث منها : تذكير للعباد , إقامة الحجة على الحاضر والباد ..
أيها المؤمنون ..(9/1)
قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه في يوم عُرف تاريخياً بيوم الدار على يد ثلة من الخوارج خرجوا عن طاعته وشقوا عليه وعصى الطاعة حاصروا بيته زهى أربعين يوماً ثم أضرموا به النيران من الخلف ثم تمكنوا من دخول صحن الدار وهو يومئذ شيخٌ قد جاوز الثمانين فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه وقيل أن أول قطرة من دمه نزلت على قول الله جل وعلا والمصحف بين يديه (( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم )) قتل رضي الله عنه وأرضاه بإجماع أهل السنة فهو عند أهل العلم الثقات بل عن أهل السنة جميعاً أمير البررة قتيل الفجرة رضي الله عنه وأرضاه ثم دفن في مكان يقال له حش كوكب كان مجاوراً لبقيع الغرقد فلما كانت ولاية أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه أدخل ذلك الحش في البقيع وأمر الناس أن يدفنوا بجواره موتاهم حتى يصبح قبر عثمان داخل البقيع وقد ثم الأمر على مشاهد عياناً اليوم ..
أما أمير المؤمنين .. علي رضي الله عنه وأرضاه فقد قتل وهو غادٍ إلى صلاة الفجر صبيحة السابع عشر من شهر رمضان على يد خارجي آخر لكنه كان تصرف فردي أو ثلاثي على يد رجل يقال له عبدالرحمن بن ملجم المرادي قتل علياً بسيف قد أعده وشحذه لهذه المهمة قبل أكثر من أربعين يوماً فقتل رضي الله عنه وأرضاه وهو غادٍ إلى صلاة الفجر يدعو الناس إليها .. هذا على وجهه الأجمال خبر مقتليهما ..(9/2)
أما ما في ذلك من العظات فإن الجامع في مقتل هذين الصحابيين الجليين هو ذلك التفكير الضال الهالك الذي يعتقد القائمون عليه أنه الصواب وأنه الحق وأنه المخرج للأمة فإن قتله عثمان كانوا يزعمون أنهم يريدون بذلك صلاح المسلمين فمكنوه من الصلاة بالناس ثلاثين يوماً بعد أن حاصروه ثم منعوه من الصلاة وقدموا أحدهم ليصلي بالناس زاعمين أن عثمان المشهود له بالجنة لا يصلح إماماً وقدموا أحدهم ليصلي بالناس ثم أضرموا عليه الدار من الخلف نيران كما بينا ثم قتلوه وهو شيخ كبير قد جاوز الثمانين صائم يوم ذاك وبين يديه القرآن يتلوه لكن غلب عليهم المتشابه في عقولهم وردوا النصوص المحكمة الظاهرة البينة في حرمة الخروج على ولاة الأمر وشق عصى الطاعة وعلى حرمة عثمان نفسه رضي الله عنه وأرضاه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ( عثمان في الجنة ) رضي الله عنه وأرضاه ...
وكذلك الأمر مع علي رضي الله عنه وأرضاه فإن النبي صلى الله عليه وسلم ( إني وأنتِ وهذا الراقد ويشير إلى علي والحسن والحسين لفي مكان واحد يوم القيامة ) وجلله النبي صلى الله عليه وسلم بكساء ومعه فاطمة والحسن والحسين وقال : اللهم هؤلاء آل ِ فصلي على محمدٍ وعلى آله .. والأخبار في خصائصه أكبر من أن تعد وأكبر من أن تحصى وكل ذلك ما ورد في فضل الشيخين الجليلين شيخا الإسلام عثمان وعلي ضرب به الخوارج عرض الحائط لأمور متشابهة نبتت في عقولهم يقولون في مقتل عثمان إنه قرب القرابة و استثر بهم كولاة على المسلمين وقتلوا علي زاعمين يقولون إنه قبل التحكيم والله جل وعلا يقول (( إن الحكم إلا لله )) أمام هذين الأمرين المتشابهين اللذان لا يقومان على ساق ولا يثبتان عند حجة من أجلهما قتلوا رجلين من أفضل العباد في هذه الأمة بعد الصديق والفاروق رضي الله عن أصحابه محمد أجمعين بلا استثناء ..
عباد الله ..(9/3)
إن أعظم ما يمكن أن يتسلح به المؤمن في أيام الشبهات العلم الشرعي البين من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والأخذ بمنهاج سلف الأمة الصالح و الإعتضاد بما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من سنة ظاهرة وآيات محكمة ومعالم بينة ذكرها صلى الله عليه وسلم حفظاً للأمة وخوفاً عليها من الافتراق صيانة لدمائها وجمعاً لكلمتها ولمّا لشملها و إغاضه لعدوها كل ذلك وقد مات صلة الله عليه وسلم وقد بينه أجمل البيان وأكمله وإن أحد اليوم يدعوا إلى شق عصى الطاعة أو يسفك دماء المسلمين أو يرفع السيف عليهم إنما يخالف بذلك أول الأمر هدي محمد صلى الله عليه وسلم وما بعثه الله جل وعلا به من الهدى والرحمة لهذه الأمة على لسان نبيها صلى الله عليه وسلم يقول صلوات الله وسلامة عليه فسمعوا وأطيعوا فإن كان عبداً مجدع الأطراف – أي مقصوص الأطراف - لا يستطيع أن يقضي حاجة نفسه فإذا كتب الله له الولاية أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لا إكرام لهذا المجدع وإنما حفظ للأمة وصيانة عليها ولمّاً لشعثها الأمر كما يقول الله (( وما يعقلها إلا العالمون ))
عباد الله ....(9/4)
. ثاني العظات في خبر مقتل هذين الشيخين الصحابيين الجليين أن الظلم حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً ففي الحديث القدسي الصحيح (يا عبادي لا تظلموا يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) وقد دلت آيات كثر و أحاديث صريحة صحيحة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم تنهي الأمة عن الظلم و أعظم الظلم سفك الدماء أو التعرض لأعراض المؤمنين أو الخوض فيما لا داعي له مما ينجم عنه ضرر كبير على المؤمن أين كان حله و ترحاله كل ذلك حذر منه صلوات الله وسلامة عليه وبعث معاذ إلى اليمن وهو يوصيه وهم يومئذ أهل كتاب والتقي دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب وأكثر ما يظهر هذا الأمر في قتل علي وعثمان ما رواه البخاري في تاريخه بسنده عن محمد بن سيرين رحمه الله قال : كنت عند الكعبة فسمعت رجلاً يدعو ... { اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي } فقلت : ياهذا ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعاءك فقال الرجل الذي كان يدعو بهذا الدعاء فقال : إنك لا تدري إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا رأيت عثمان أن ألطم وجهه فقتل عثمان قبل أن ألطمه فلما وضع عثمان على سريره في بيته ودخل الناس يصلون عليه دخلت عليه فيمن دخل كأنني أريد الصلاة عليه فلما وجدت في الأمر خلوه كشفت عن كفنه وغطاءه ثم لطمته على وجهه ولحيته وهو ميت قال : فما رفعت يدي إلا وهي يابسة قد شلت كأنها عود قال ابن سيرين رحمه الله : فأنا نظرت إلى يده قد شلت كأنها عود .. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ..
عباد الله ..(9/5)
حرم الظلم لأن الظالم عندما يظلم في أي موضع كان ظلم لقدرته الوظيفية لأمرته لسلطانه لجنديته لأي غرض كان لكونه زوجاً متسلط أو ولياً على أيتام أين كان موضع الظلم فإن الظالم عندما يظلم كأنه يتناس أن الله جل وعلا مطلع عليه وأن الله جل وعلا أقدر منه على هذا الذي يظلمه واستضعفه وسلبه دمه أو ماله أو غير ذلك من صور الظلم التي وقعت .. فتقوا الله أيها المؤمنون فيما تقولون وما تفعلون ولا يدفعنك قدرتك على ظلم أحد أن تظلمه وأعلم أن الله جل وعلا أقدر عليك من كل أحد أنت قادر عليه وعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فمن عظم الله جل وعلا في قلبه وقبل أن يكون منه يكون الظلم لعباد الله وقع في قلبه عظمة الله وجلاله الله وذلة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال سواء كان بين يديه أجيراً أو خادماً أو سائقاً أو موظفاً أو جندياً أين كان هذا الذي بين يديك إذا خفت الله فيه فإنك من الآمنين يوم القيامة أما إذا تجرأت على محارم الله وحدوده وقلت في عرضه أو فعلت بيدك أو بسلطانك أو بتوقيعك لأي شيء تقدر عليه فتظلم به العباد وأعظم ذلك سفك الدماء ...
كنت خائفاً وجلاً بين يدي الله جل وعلا ومن يجادل الله عنك يوم القيامة يقول جل شأنه (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه ) وقد قدمنا مراراً ان المرء يفر يوم القيامة من قرابته وممن يحيطون به في الدنيا لأنه يخاف ان تكون عليه مظلمة لهم فيتسببون في هلاكه وأخذهم لحسناته أما البعداء من الناس الذين لم تراهم ولم يروك فان الإنسان لا يفر منهم يوم القيامة غالباً لأنه لا يراه فيهم انه قد ظلمهم ذات يوم او تعرض لهم بأخذ دينار ولا نقض درهم فمن اتقى الله جل وعلا ساد وافلح ومن عصى الله جل وعلا وتجرا على محارمه كان الله جل وعلا له بالمرصاد الا انه تداركه رحمه الله فيتوب ويأوب الى رب العزة والجلال وقانا الله وإياكم الشر كله أوله وأخره ..
عباد الله ..(9/6)
هذا ما تيسر قوله وتهيأ إيراده والله المستعان واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد :-
عباد الله ...
فإن ثالث الفوائد في خبر مقتل هذين الصحابيين الجليلين وأخرها انه ينبغي على المرء ان يكون ثمة جانب تعبدي عظيم في حياته فإن عثمان قتل وهو صائم وقتل وهو يقراء القران وعلى رضي الله عنه قتل وهو غادي الى صلاه الفجر والغدو الى صلاه الفجر والصيام وقراءه القران كل ذلك من اجل العبادات فيجب ان يفرق الإنسان مابين دوره الاجتماعي وحياته الوظيفية ومابين أمره التعبدي فإن الناس لا بد ان يتفاوتوا في حياتهم الاجتماعية ودورهم الوظيفي مساله الغنى والفقر والجاه وغيره وهذه سنه الله جل وعلا في خلقه لكن ذلك بمنأ على ان يعزل الإنسان ذلك عن جانبه التعبدي والمعنى ينبغي ان يكون للإنسان عظيم العبادة والقرب من الله جل وعلا بصرف النظر عن موطنه ويقع هذا على الائمه والخطباء والعلماء والدعاة بصوره اكبر ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون انفسكم ) والمقصود أيها المؤمنون كلما كان بين العبد وربه جانب تعبدي له خلوات بالليل حزب من القران يقراه وإكثار من النوافل والصيام وغير ذلك من الطاعات كان ذلك حري بان يكرم عند الله جل وعلا أثنى نبيكم صلى الله عليه وسلم على نبي الله داوود وقد جمع الله له الملك والنبوة فقال صلى الله عليه وسلم ( كان داوود اعبد الناس كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وذكر من صلاه في الليل ماذكر والمقصود انه ينبغي على المؤمن ان يكون له حظ من العبادة تكفر به الخطايا وترفع به الدراجات وتقال به العثرات وتحل به النوازل وتدفع به الكوارث وكل ذلك لا يكون الا اذا كان العبد قريب من الله جل وعلا ..(9/7)
ألآ واعلموا أنكم في يوم الجمعة سيد الأنام فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام ( ان الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد اللهم وارضي عن أصحاب نبيك أجمعين وخص منهم الاربعه الراشدين واغفر لنا معهم بمنك وكرمك يا ارحم الراحمين ..
اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين
اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين
اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين
اللهم انا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان .. اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك .. اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك .. اللهم ارزقنا توبة نصوحاً نفيا بها إليك ياذا الجلال والإكرام .. اللهم وانصر أمه محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان .. اللهم واقهر عدوهم واخذله ياذا الجلال والإكرام .. اللهم اقهر عدو هذه ألامه واخذله أينما حلوا وحيثما كانوا ياذا الجلال والإكرام ..
عباد الله ..
ان الله يأمر بالعدل والإحسان واتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .. فذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون ..
أمل الأمة(9/8)
تفريغ شريط:"إنه من يتق ويصبر"
للشيخ:صالح المغامسي. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،رب الأرض والسماوات يفعل مايشاء ويحكم مايريد،يحيي ويميت ويبدئ ويعيد وهو على كل شيء شهيد ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير مبعوث إلى خير أمه بلغ الرساله ونصح الأمه وأدى الأمانه على الوجه الأكمل حتى ترك الأمه على المحجة البيضاء والطريق الواضحه الغراء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتبع نهجهم باحسان إلى يوم الدين،أما بعد أيها المؤمنين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أيها الأحبه إنه لايخفى على أحد أن هذا الكتاب المبين الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فيه من المعالم الحقه والطرق الواضحه الموصله إلى رضوان الله جل وعلا،تصريحا أو تلميحا عباره أو إشاره يفطن له بعض من يفطن وقد يغيب ذلك عن البعض إلا أن المتفق عليه أن هذا الكتاب إنما جعله الله هدى للخلائق وإيضاحا للطرائق والآيه التي نحن بصددنا اليوم في درسنا الأسبوعي الذي أسأل الله أن يبارك فيه هي قول ربنا جل وعلا(إنه من يتق ويصبر) وهذا المقطع من الآيه جاء على لسان نبي الله يوسف بعد أربعين عاما من رؤيا رأها، بعد أربعين عاما من محن متواليه وحلقات داميه، وقف يكشف اللثام عن شخصيته أمام إخوته ويصرح لهم عن نفسه فيقول لهم: (قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا) ثم بين السلاح الذي كان يتسلح به طوال حياته فقال:(إنه من يتق ويصبر) فجعل سلاحه كله مجموع في أمرين هما سلاح التقوى وسلاح الصبر وإن صح التعبير هما رداء التقوى ورداء الصبر وأكرم بهما من سلاح ...وأعظم بهما من رداء... قال (إنه من يتق ويصبرفإن الله لايضيع أجر المحسنين) صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه والحديث عن التقوى والصبر بما أن المتكلم عنه هو نبي الله يوسف فإنه يحسن أن نمهد عن هذا النبي(10/1)
الكريم صلوات الله وسلامه عليه الله جل وعلا ذكر في القرآن نماذج إنسانيه أثنى عليها تبارك وتعالى ثناء عاطرا وثناء جما وأمر العباد أن يقتفوا آثار أولئك العباد فمنهم أنبياء الله ورسله ومنهم الصديقيون ومنهم الحواريون ومنهم غير ذلك مما هو منثور في الكتاب المبين ويوسف عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أولئك الشخصيات الذين أثنى الله عليهم في كتابه بل إن الله جل وعلا سمى سورة كامله باسمه أي باسم هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولما سئل الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري وعند غيره من حديث أبي هريره قالوا يارسول الله سألوه عن أكرم الناس قال"إن أكرم الناس عند الله أتقاهم قالوا ليس عن هذا نسألك قال فإن أكرم الناس يوسف ابن يعقوب نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله فقالوا ليس عن هذا نسألك فقال صلى الله عليه وسلم فعن معادن العرب تسألوني قالوا نعم قال فخياركم في الجاهليه خياركم في الإسلام إذا فقهوا"صلوات الله وسلامه عليه فهذا فيه بيان لمنزلة هذا النبي الكريم المعني في الحديث اليوم وهو نبي الله يوسف ومبدأ قصته أن أباه يعقوب عليه الصلاة والسلام رزق ثلاثة عشر ولدا منهم أخوين شقيقين هما يوسف وبنيامين وأحد عشر يظهر أنهم من أمهات أو زوجات متفرقات وكان نبي الله يعقوب يرى في ابنه يوسف من النجابة وحسن الخلق وكريم الشمائل ووضاءة الوجه ماهو أهل لأن يكرم به فكان يتعهده بمحبته ويقربه منه ويدنيه منه لما رأى عليه من النجابه مما أثار حفيظة إخوانه من سائر إخوته"بقية الثلاثة عشر"فكانوا فيما بينهم إذا تهامسوا وتناجوا وتحدثوا جل حديثهم عن إكرام أبيهم لأخيهم يوسف وأخيه الشقيق بنيامين دون أن يكون لهم حظ أو نصيب من ذلك الكرم على مايظنوه هم ثم إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى في إحدى رؤياه/ رأى أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له فلما أصبح غدا إلى أبيه وقص عليه تلك الرؤيا ولما(10/2)
كان يعقوب عليه الصلاة والسلام نبي يوحى إليه كان على درجة كبيره من العلم ففهم الرؤيا من أول ماقالها له يوسف فخاف على يوسف من ذلك فأخبره أن لاينبئ بتلك الرؤيا أحدا من إخوته خوفا عليه من حسد إخوته ثم بين له عن طريق الإشاره أنه فهم الرؤيا قال:(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك ) وقال له (ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك ) فلما قال له (يتم نعمته عليك) بيان أن النعمة التي أتاها الله يعقوب وإسحاق وإبراهيم إنما كانت نعمة النبوة ومع ذلك أمره أن يخفي تلك الرؤيا عن كل أحد .ازداد من إخوة يوسف في قلوبهم الأمر على أخيهم يوسف حتى اجتمعوا في شبه مؤامره عليه ثم قرروا أن يقتلوه وقالوا حتى يخلوا لنا وجه أبينا في تعبيرنا نحن أي لايبقى لأبينا أحد يكرمه ويعده ويقربه إلا نحن، فيوسف قد هلك ثم غلبت عليهم عاطفة الأخوة فتنازلوا عن قضية القتل إلى قضية الإلقاء في غيابة الجب، ثم بعد ذلك غدوا إلى أبيهم وأخذوا يلاطفونه في الكلام ويريدون منه أن يوافق على أن يذهب يوسف معهم فقال :إنه ليحزنني أن تذهبوا به وهذا من شدة تعلقه بيوسف خاف على الوقت الذي يقضيه يوسف معهم أن يشعر هو بفقده ثم قال أمرا آخر قال:(وأخاف أن يأكله الذئب) تلقفوا هذه الكلمه من فمه مباشرة وقالوا(لئن أكله الذئب ونحن عصبه إنا إذا لخاسرون) فبعد ملاطفة و... منه...استطاعوا أن يأخذوه معهم ليمضي قدر الله لا أكثر ولا أقل فأخذوه معهم قيل/ إنهم كانوا يضربونه ويشتمونه والله تعالى أعلم بصحة الخبر ثم إنهم في آخر الأمر ألقوه في بئر مهجوره، ثم غدوا إلى شاة فذبحوها وأتوا بقميص فلطخوا به من دم تلك الشاة وغدو على أبيهم في الليل يبكون بالدموع الكاذبه ويقولون: (أكله الذئب ونحن عنه غافلون) ذهبنا نرتع...ذهبنا نلعب...ذهبنا نرعى...المهم أن الذئب أكله ثم قالوا له:(وما أنت بمؤمن لنا ولوكانوا صادقين) وهذا من ملاطفتهم في الكلام أي أننا وإن كنا صادقين عندك إلا أن الواقعه التي(10/3)
اتفقت قولك مع الحادث لايجعلك تصدقنا من باب اعذاره في عدم تصديقه ولكن نبي الله جل وعلا لم يرد على أن قال: (فصبر جميل) أي دون شكوى (والله المستعان على ماتصفون) وورد أنهم لما قربوا إليه القميص وجاؤا على قميصه بدم كذب أخذ ينظر إلى القميص وكان من غفلتهم وسرعتهم أنهم أتوا بالقميص ولطخوه بالدم فقط دون أن يمزقوه وورد أن يعقوب حمل القميص بين يديه وقال كالمتهكم بهم "أي ذئب عاقل هذا؟أكل ابني وترك قميصه فعرفوا أن أباهم قد عرف القضية كلها لكنهم لم يصرحوا ولم يصرح يعقوب بشئ على ماورد في القرآن ثم إنهم لما ألقوه في تلك البئر المهجوره مكث فيها عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام فانتقل من المحنه الأولى وهي محنة كيد إخوته. فاتفق إن مرت قافله أرسلوا بعض غلمانهم ليلقوا دلوهم في البئر فتشبث وتعلق يوسف عليه الصلاة والسلام في البئر حتى نزل ثم كان ماكان أن بيع عليه الصلاة والسلام بيع الموالي وهو عند الله نبي تقي مرسل فبيع كما يباع الموالي والعبيد بل إنه عليه الصلاة والسلام بيع بثمن بخس. قال ابن مسعود وغيره: عشرين درهما وورد أنه خمسة دراهم وهذا وإن كنت لاأريد أن أدخل مداخل على الدرس حتى لا يضيع كنه القصه. إلا أن فيه دليل أن الإنسان أحيانا قد يعيش بين قوم لايعرفون له قدرا ولايعرفون له مكانه ولذلك المؤمن العاقل لايقول علمه ولايخرج مواهبه ولايخرج فضل الله عليه إلا مع قوم يعرفون له قدره ولذلك لما كان الشافعي في أحد المجالس فتكلم الجهال وتطاول السفهاء وقيل له: يا أباعبد الله ألا تتكلم قال انثروا بري بين سارحة الغنم أي هؤلاء لايفهمون لي قدرا ولايعرفون لي وزنا ولا يعرفون كنه ماأريد أن أبلغهم إياه .الشاهد أن الأمر وصل بيوسف عليه الصلاة والسلام إلى أنه بيع بيع الموالي فكان الذي اشتراه عزيز في أرض مصر فأكرمه وقربه وتخيل فيه مخايل الفلاح وقد قال أهل العلم :إن خير المتفرسين ثلاث/ بنت شعيب لما تفرست في موسى(10/4)
وقالت(ياأبت استئجره إن خير من استأجرة القوي الأمين) وعزيز مصر يوم أخذ يوسف وقال لزوجته:(أكرمي مثواه) والخليفه الراشد أبوبكرالصديق رضي الله تعالى عنه يوم تفرس في عمر وأسند إليه أمارة المؤمنين وخلافة المسلمين من بعده. كان من عزيز مصر أنه قرب يوسف وأبناه وأوصى زوجه أي زوجته أن تكرم مثوى ذلك النبي وهو لايعلم طبعا أنه نبي وكان في يوسف من الوضاءه والجمال والبهاء مما جعله عليه الصلاة والسلام لما كبر إذا كلمه النساء غطى وجهه حتى لا يفتن النساء بجمال وجهه وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج لما ذكر لقياه لإخوانه النبيين قال: "فرأيت يوسف فإذا هو قد أوتي شطر الحسن"واختلف العلماء في بيان معنى صلى الله عليه وسلم أن يوسف أوتي شطر الحسن ولعل أظهر الأقوال والله أعلم/ أن الحسن كله رزقه آدم عليه الصلاة والسلام لأن الله جل وعلا كما هو معلوم خلق آدم بيده وشطر الحسن الذي أوتيه آدم رزقه نبي الله يوسف فكان فتنة عظيمه للنساء مما جعل تلك المرأه تتعلق به فتلمح له بين الفينة والأخرى وهو عليه الصلاة والسلام معرض عنها خائف وجل من سخط ربه جل وعلا حتى إن المرأه لم تطق صبرا على أن ترى جماله دون أن يقع عليها فغلقت الأبواب واتخذت الأسباب وصرحت دون حياء قالت:(هيت لك ) أي هلم إلي لكنه عليه الصلاة والسلام آثر ماعند الله على ماعنده فابتلي بأمرين/ ابتلي إما أن يزني ويكون من الفاسقين. أو يسجن ويكون من الصاغرين.قال أهل العلم: باع دنياه ليشتري دينه وباع حريته لِيُبْقِي علىعقيدته كما سيأتي في عرضهم السجن عليه فلما تعلقت به وتشبث به خوفها الله(قال معاذ الله إنه ربي) أي سيدي ومولاي (أحسن مثواي) وهذا من وفاءه لزوج المرأه ثم قال: (إنه لايفلح الكافرون) خوفا من ربه جل وعلا فورد أن امرأة العزيز لما راودته عن نفسه قامت إلى صنم كان في البيت فغطته من جهلها برداء كان عندها فقال لها ياأمة الله أتستحيين من صنم لاينفع(10/5)
ولايضر ولاتريدينني أن أستحي من المليك الواحد القهار ففر منها صلوات الله وسلامه عليه. وانظر إلى الفرق البعض اليوم عفا الله عنا وعنهم وغفر الله لنا ولهم وردهم الله إليه ردا جميلا قد يتركون هذه البلاد الآمنه المطمئنه إلى بلاد غيرها رجاء وبحثا عن الزنا وماشاكله وهذا النبي يعرض عليه الزنا من امرأة هي سيدته...من امرأة وظيئه جميله ذات سلطان وهو غريب عن البلده. ومعلوم أن الغريب لا يراعي حق أحد والعبد الجرم في حقه أهون من الجرم في حق الحر ومع ذلك كله رغم أنه كان شابا وضيئا عبدا كل مسببات الزنا كانت مفتوحه بين يديه إلاأن هذا يندرج تحت الصبرعن المعصيه وسيأتي بيانها إلا أنه صلوات الله وسلامه عليه فر هاربا من بين يديها يريد الباب وكان من ولعها به أن فرت وراءه هو يفر منها وهي تلحق به هو يفر من المعصيه وهي تفر إليه حتى أخذته بيدها من وراءه مما كان سببا في قد ثوبه وقميصه من الخلف في اللحظه التي قد بها القميص دخل ذلك الزوج البيت قال جل وعلا:ــ "واستبقا الباب" أحدهما يريد الفرار والآخر يريد المعصيه "فألفيا" أي وجد سيدها لدا الباب هنا أخرجت مكامن كيدها وأخرجت مظاهر لؤمها فقالت مباشره لزوجها "ما جزاء من أراد بأهلك سوءا" ألحقت به التهمه جزافا صلوات الله وسلامه عليه وهو بريء منها "إلا أن يسجن أو عذاب أليم" والظاهر أنها حكمت في القضيه " إلا أن يسجن أو عذاب أليم" هذا الحادث لم يطوى طي النسيان تناقله النساء في تلك البلده وتسامعت به الناس في المدينه وقلنا عليها:ــ (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) كنا يظنن جهلا أن يوسف كسائر الفتيان في الهيئه والشكل وما علمنا بحسنه وبهائه وجماله وكانت المرأه أي إمرأة العزيز على قدر كبير من الدهاء فدعتهن إلى مأدبه أقامتها في بيتها أو في قصرها ثم قدمت لهن لعله شيئا من الفاكهه وسكينا ليقطعن ما بين أيديهن من الفاكهه وهن في ذروة الإنشغال بها أدخلته عليهن وكان الله كما(10/6)
بينا سلفا قد أتاه من الحسن والوضاءه مالله به عليم. فلما رأينه قطعن أيديهن "أكبرنه وقطعن أيدهن وقلنا حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم" لأنهن لم يرين في البشر أحدا من جمال هيئته صلوات الله وسلامه عليه هنا استغلت الموقف (قالت فذالكن الذي لمتنني فيه) أنتم لم تصبرن من وقت ...نظرة واحده إليه كيف أصبر أنا وأنا التي أخالطه في البيت وأراه بكرة وعشيا ثم بينت على ملأ من النساء إن لم يستجب لها أن تسجنه فابتلي ببلاء ديني وبلاء دنيوي فاختار ضياع الدنيا والسجن على أن لايبيع دينه وعلى أن تبقى عقيدته وعلى أن يبقى موصولا برب العالمين جل جلاله (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) ثم بين عليه الصلاة والسلام أن فضل الله عليه هو الذي ينقذه وأن الإنسان لوكل إلى نفسه لما نال جنه ولما فر من نار(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا) أي وإن لم (وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين)استجار برب العالمين جل جلاله فكان الغوث الإلهي (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) فلما صرف الله عنه كيدهن خرج عليه الصلاة والسلام من المحنه الثانيه إلى المحنه الثالثه والبلاء الثالث وهو/ أن يلقى في غياهب السجن من غير جرم جناه ولا أثم قدمته يداه يسجن مع أهل السرقه وأهل المجون وأهل الفجور وأهل القتل وهو عند الله جل وعلا نبي مرسل ولكنه الصبر على أقدار الله وقضائه فمكث في السجن. من شغل في السجن كيف يخرج منه؟ وإن من شغل وهو في غياهب السجن بالدعوة إلى الله جل وعلا فلما تسنت له الفرصه وحان له التمكن وجاءه اثنان ممن كان معه سجينين معه يستفتيانه في رؤيا رءاها وقد راء عليه مخايل التقوى وظنا به الحكم ومارءا أولئك السجينين مخايل التقوى على يوسف إلا من عمله وحركته ودعوته وذكره وتمجيده لربه جل وعلا وإلا كيف علما أنه رجل تقي محسن يوم قالا(إنا نراك من المحسنين) فاستغلها صلوات الله وسلامه عليه(10/7)
أعظم استغلال وانتهز تلك الفرصة أعظم انتهاز فلم يجبهما مباشرة وإنما قال لها (لايأتيكما طعام ترزقانه إلانبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) بين أنه قادر على تفسير الرؤيا وبين أنه ذو حظ من العلم حتى يزداد تعلقهما به فلما رءا ذلك كله وتعلقا به أخذ يدعوهما إلى الله جل وعلا (ياصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الواحد القهار*ماتعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان...) ثم بين فضل الله عليه وفضل الله على ءابائه وبين أن حق الله أن يشكر وقال مختما ومنهيا قوله(ولكن أكثر الناس لايعلمون) ثم لما فرغ من الدعوة إلى الله وشعر أنه أدى الأمانه الملقيه عليه لجأ وتفرغ واستوى إلى أن يقول لهما ماأرادا منه فأنبأهما بحالهما قال: أما أحدكما فيسقي ربه خمرا أي يصبح ساقيا للملك، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، ثم أنه أخذ الذي ظن أنه ناج على نجوى منه وأسره وأخبره أنه إذا خرج ينبئ الملك بأن في السجن رجل حليما كريما قادر على تعبير الرؤى(وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين)مما كان سببا في بقائه في السجن صلوات الله وسلامه عليه ثم إن الملك في ذلك العصر رأى رؤيا ملخصها أنه رأى سبع بقرات سمان وسبع بقرات عجاف ورأى سبع سنبلات خضر وأخرى يابسات فعرض القضيه قضية الرؤيا على الملأ من حوله ولم يكونوا ذو علم (قالوا أضغاث أحلام ومانحن بتأويل الأحلام بعالمين)كان ساقي الملك الذي خرج من السجن كانا بينهما فأخبرهم بحال يوسف وأخبرهم بقدرته على تفسير الرؤيا(فأرسلون)أي إلى يوسف فأرسله الملك وجعله مبعوثا شخصيا له ليقدم على يوسف ويخبره بحال الرؤيا فلما أخبره بحال الرؤيا فسرها يوسف وأخبر في السبع السنين العجاف والعام الذي يغاث فيه الناس وفيه يعصرون، فلما رجع ذلك الرسول إلى الملك وأخبره بقدرة يوسف على تفسير الرؤيا(10/8)
قال الملك (ائتوني به) ولم يقل هاهنا استخلصه لنفسي (وقال الملك ائتوني به) فبعث إليه من يأتي به فلما أتاه الرسول ويخبره بطلب الملك إياه كان صلوات الله وسلامه عليه حريصا على كرامته رفض الخروج (قال ارجع إلى ربك فسأله مابال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم)أي لم أخرج حتى تعلن على الملأ أنني بريئ وإنني كريم وأن التهمه كانت تهمه ملفقه وأنني لم أراود المرأه على نفسها فلما رجع الرسول وأخبر الملك جمع النسوة فاعترفن(قالت امرأت العزيز ألئن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه)(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لايهدي كيد الخائنين) فقال الملك في المرة الثانيه (وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي) زادت مكانته عند الملك فلما جاء عند الملك (قال له إنك اليم لدينا مكين أمين ) وكذلك العلماء الربانييون ينتهزون الفرص قيل للمهلل بن أبي صفرة مالحزم؟قال: تجرع الغصص حتى انتهاز الفرص. لايستعجل أحدكم الظهور ولايستعجل أحدكم أن يخرج إلى الناس بين عشيه وضحاها ولايستعجل أحدكم أن يقلد منصبا عظيما بين يوم وليله الله...الله بالصبر لما قال له(إنك اليوم لدينا مكين أمين)انتهزها يوسف عليه السلام وقال له(اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)فإذا عرض على رجل فيه من القوة والأمانه ماينفع الله به المسلمين والإسلام فلايتردد في قبول ذلك المنصب وإن علم أنه سيجامل فيه أوسيكون منه مايكون المهم أن يدفع أعظم المفاسد ويجلب أجل وأعظم المصالح(قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) فتولى خزائن الأرض هنا انتقل صلوات الله وسلامه عليه من فتنة البلاء إلى فتنة السراء والعافيه وهي فتنة المنصب وفتنة الوزاره فمكث مسؤلا عن الزراعه ومسؤلا عن معايش الناس في أرض مصر. أصاب الناس في أرض فلسطين قحط وجدب في الأراضي وقلة في الأمطار وتسامع الناس في وجود رجل في أرض مصر يعطي الناس معايشهم. فأرسل يعقوب عليه الصلاة والسلام أبناءه(10/9)
ليكتالوا من أرض مصر وهو لايدري أن الذي على أرض مصر اليوم هو ابنه يوسف لأنه كان يظن أنه هلك في البريه فلما ذهبوا وغدوا إلى أرض مصر كانوا قد كمموا أفواه الإبل لأنهم أولاد أنبياء حتى لاتأكل من زروع الناس فلما دخلوا على يوسف عرفهم عليه الصلاة والسلام ولم يعرفوه فلما عرفهم أخذ يسألهم عن أحوالهم ويستدرجهم في القول ويلاطفهم في العطاء ويكرمهم ويثني عليهم حتى أخبروه أننا ثلاثة عشر ولدا نحن أحد عشر بين يديك وأحدنا هلك في البريه يقصدون يوسف وآخر عند أبيه محب له لايستطيع أن يفارقه فأخبرهم أنه لن يكرمهم كرة أخرى حتى يؤتوا بذلك الولد الذي عند أبيهم وأخذ عليهم العهد والميثاق في ذلك ثم لما أرادوا أن يرحلوا أمر صبيانه وغلمانه وجنده أن يزيدوا في كيلهم ويردوهم عليه حتى يعرفوها إذا عادوا إلى أرض مصر فلما عادوا إلى أرض مصر ولم يتهيأ لهم أن يكشفوا مافي أمتعتهم (قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون)فأخبرهم بقصة يوسف وماكان منهم ثم أخذ عليهم العهد والميثاق فلما فتحوا متاعهم أمام أبيهم وجدوا بضاعتهم رددت إليهم فـ (قالوا ياأبانا مانبغي)أي ..أي شئ بعد هذا(قالوا ياأبانا مانبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير*قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم )جعل لهم مخرجا ومنفسا من الكرب وهو قوله (إلا أن يحاط بكم)فلما آتوه موثقهم (قال الله على مانقول وكيل)ثم عليه الصلاة والسلام أي يعقوب جمعهم وقال لهم قول الأب الحنين العالم العارف(وقال يابني لاتدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقه وماأغني عنكم من الله من شئ...)فادخلوا من أبواب متفرقه لأنهم إذا ذهبوا متصافين في هيئه واحدة وهم اثنى عشرقد لايسلمون من العين ثم بين لهم أن هذا الأمر سبب لا أكثر ولا أقل وأن الأمور بيد الله قال جل ذكره (ولما دخلوا من حيث أمرهم(10/10)
أبوهم ماكان يغني عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها..)أي قالها وباح بما في صدره(إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لايعلمون)فلما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم جاؤا على يوسف فأكرمهم وأنزلهم المقام الذي يليق بهم ثم أخذ أخاه بنيامين بينه وبينه(قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون)ثم جهزهم وأمرهم بالرحيل وأوصى غلمانه أن يجعلوا المكيال الذي يكيلون به يجعلونه في رحل بنيامين دون أن يدري عنهم ودون أن يعرفوا خبرهم فلما مضت القافله إذا بالنداء يناديها (أيتها العير إنكم لسارقون) فكانوا من ذكائهم لم يقولوا:لم نسرق،لأنهم إن قالوا لم نسرق كأنهم يعلمون أن هناك سرقه قالوا: ماذا تفقدون.(قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير)أي هديه وجعل(وأنا به زعيم)أي أنا به كفيل ومنه أخذ الفقهاء جوازالكفاله فلما رجعوا أخبروهم أنهم ليسوا أهلا لذلك(قالوا تالله لقد علمتم ماجئنا لنفسد في الأرض...) بدليل أننا كممنا أفواه الإبل حتى لاتأكل من زروع الناس فنحن أولى أن نترفع عن السرقه فلما أضحوا بين يديه بدأ برحل الولد الأكبر منهم فوردت أنه كان كلما فتح متاع أحدهم يقول :"استغفر الله مما ظلمتك به" وهكذا حتى بقي بنيامين قال: أما هذا فإنه صبي صغير لاأظنه أنه أخذ شيئا فأقسموا عليه أن يفتح متاعه فلما فتح متاعه وجد المكيال فيه فقالوا لما كانوا عليه من شر(قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل...)يستفزون أعصابه ولكن أنى لهم قال جل ذكره:(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا...)قالها أين؟قالها في قلبه ولم يقلها بلسانه (قال أنتم شر مكانا والله ألم بما تصفون)ثم حالوا أن يسجنوا أحدهم بدلا منه ولكنه رفض قال: (إنا إذا لظالمون)(فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا)أي ذهبوا إلى مكان بعيد وتناجوا فيما بينهم فكأن أخاهم الأكبر ندم على ماكان منه واستحيا أن يعود إلى أبيه ويقول له(10/11)
قد ضاع بنيامين... وتاها بنيامين... وأخذ بنيامين...( فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل مافرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين)ثم قال ذلك الكبير لبقية أخوته(ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق وماشهدنا إلا بما علمنا وماكنا للغيب حافظين)وإن لم تصدقنا هذه المره(وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون)(قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل...)ثم قال ذلك النبي الموقن بفرج الله (قال عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)قصد يوسف وبنيامين والأخ الأكبر الذي بقي في أرض مصر (فتولى عنهم)ومعلوم أن الحزن يذكر بما قبله فذكره فقدان بنيامين ذكره فقد يوسف (وتولى عنهم وقال ياأسفى على يوسف)قال العلماء لو أنه قال:" إنا لله وإنا إليه راجعون" لكنا هذه الكلمه يظهر والله أعلم أنه لم ترزقها إلا أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه والله تعالى أعلم.(وتولى عنهم وقال ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم)فقالوا له:(تالله تفتؤ تذكر يوسف)إلى الآن وأنت في ذكر يوسف(حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين)فقال جواب من يوقن بلقاء الله وفرجه قال:(قال إنما أشكوا بثى وحزني إلى الله...)أنا مارفعت إليكم شكوى(إنما أشكوا بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله مالاتعلمون)ثم قال:(يابنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه...) فالتحسس يكون في الخير والتجسس بالجيم يكون في الشر(فتحسسوا من يوسف وأخيه...)وبين لهم ذلك البند العظيم والأمر الكريم الذي لابد لكل مؤمن أن يوقن به قال:(يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من روح الله إنه لايايئس من روح الله إلا القوم الكافرون)مهما كانت النوازل ومهما كانت الخطوب ومهما كان الأمر ومهما كان الضيق ومهما كان الفقر ومهما كان العسر فإن فرج الله أقرب(10/12)
ورحمة الله جل وعلا أوسع(ولاتيأسوا من روح الله إنه لايايئس من روح الله إلا القوم الكافرون)هنا دخلوا على يوسف ببضاعه مزجاه أي مخلطه حالها...ماحالها؟(قالوا ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين)هنا حانت الفرصة التي ليست بعدها فرصه .
إذا درت نياقك فاحتلبها
فلا تدري الفصيل لمن يكون
وإن خفقت رياحك فاغتنمها
إن لكل خافقة سكون
(قال هل علمتم مافعلتم بيوسف وأخيه...)انظر إلى عدله (إذ أنتم جاهلون)(قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد من الله علينا..) نسب الفضل إلى الله (قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر)رداءه الذي كان عليه (فإن الله لايضيع أجر المحسنين) فقالوا:(تالله لقد ءاثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) وكان مقامه العفو عند المقدره كما بيناه في درس"رحماء بينهم" (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) وكذلك الكبار العظماء لاينزلون إلى مسائل العقاب والأخذ بالثأر(قال لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ثم خلع صلوات الله وسلامه عليه قميصه وأعطاه لأخوته وقال:(اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين) فلما تحركت القافله من أرض مصر ثم يعقوب في أرض فلسطين ريح يوسف قال جل ذكره:(ولما فصلت العير)أي خرجت من أرض مصر(قال أبوهم)أي في أرض فلسطين(قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف) ومايمنعني من التصريح إلا (لولا أن تفندون)أي تتهمونني بأنني شيخ كبير مخرف وفعلا اتهموه(ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون*قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم)(فلما أن جاء البشير)قيل/ إن البشير هنا أخاه الأكبر قال :إنني كما عذبته في الأول بقميص يوسف يوم كان عليه الدم أحسن إليه اليوم وأدخل عليه بقميص يوسف في هيئة البشارة فلما( ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) وهنا أخذ أهل العلم أن وقع(10/13)
قميص يوسف على أبيه كان وقعا عظيما كوقع موسى يوم أرجع على أمه وهنا استطرادا نقول قد كان بين أخوين متحابين في الله علاقه حميمه قدحا من الزمن ثم شاء الله لهما أن يتفرقا في الأمصار طلبا للرزق فكتب أحدهما إلى الآخر رساله يخبره فيها بشوقه فلما وصل ذلك الكتاب أي تلك الرساله إلى الأخ الآخر قال متمثلا ببيتين من الشعر قال:ـ
وصل الكتاب فلا عذلت أناملا
خطت به حتى تمخض طيبا
فكأن موسى قد أعيد لأمه
أو ثوب يوسف قد أتى يعقوبا(10/14)
فهو استنباط جميل من كتاب الله الكريم ونعود إلى ماكنا عليه نقول: إن وقع قميص يوسف على يعقوب كان وقعا عظيما حتى إنه رد إليه بصره ثم قدم يعقوب وزوجه وأولاده على أرض مصر فأحلهم يوسف عليه السلام المقام الكريم وسجدوا له سجود تحيه لا سجود عباده فإن الله لايأمر أحدا أن يسجد لأحد سجود عباده وإنما كان ذلك السجود على هيئه من أنواع التحيه في ذلك العصر. (وخروا له سجدا وقال ياأبتى هذا تأويل رءياى من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى...)يعدد فضل الله ولايذكر شيئا عن نفسه(وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجاء بكم من البدو...)ثم لم يقل إن إخواني ظلموني قال(من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى...)جعله أمرا مشتركا وهو منه براء ولكنه الأدب الذي كان عليه أنبياء الله ورسله. قال:(من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى إن ربى لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم)ثم توجه إلى ربه قائلا:(رب قد ءاتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولى فى الدنيا والأخرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين)أراد من الله حسن الخاتمه وأراد من الله حسن المآل وقال:(وألحقنى بالصالحين)فهو صلوات الله وسلامه عليه إمام من أئمة الصالحين وهو صلوات الله وسلامه عليه أحد القدوات العظمى في مسالك الصالحين فهو نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا بكرة وعشيا .أيها المؤمنون هذا الذي أوردناه جملة خبر يوسف عليه الصلاة والسلام وهو من باب التمهيد للدرس"إنه من يتق ويصبر"أناط يوسف مآل إليه كما بينا بأمرين عظيمين وفقه الله لهما وهما التقوى والصبر .فما التقوى ومالصبر؟التقوى:ـ تفاوتت عبارات السلف الصالح في بيانه ولعل أظهرها / أن تعمل بنور الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.وقد سئل أبوهريرة رضي الله تعالى عنه عنها قيل له: ياصاحب(10/15)
رسول الله مالتقوى؟فقال لمن سأله أمشيت في طريق فيه شوك قال: نعم .قال:فما صنعت قال:إما تجاوزته وإما قصرت عنه فقال: فذلك التقوى.وقال أهل العلم :ـ
خل الذنوب كبيرها و صغيرها فهو التقوى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر مايرى
لاتحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
أما من الذي يتقى فهو رب العالمين جل جلاله يراد رضوانه ويتقى سخطه قال جل وعلا(أهل التقوى وأهل المغفره) أي أهل لأن يتقى وأهل أن يغفر تبارك وتعالى سبحانه وتعالى وبحمده فالإنسان لابد له من أن يزداد علما بالله حتى تغرس التقوى في قلبه لأن الإنسان كلما كان بالله أعرف كان من الله أخوف قال جل ذكره (إنما يخشى الله من عباده العلماء)الذين يعلمون مالله جل وعلا من سلطان وجبروت وعظمة وملكوت ورحمه وقدرة وما إلى ذلك من صفاته العلى وأسمائه الحسنى .وأما ماميز الله به المتقين فإن الله جل وعلا جعل التقوى مناط القبول يوم أن قال:(إنما يتقبل الله من المتقين)وأمر الله جل وعلا بها عباده الخلص يوم أن قال:(ياعبادى فاتقون)وجعلها الله وصيته للسابقين والاحقين يوم أن قال:(ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم إن اتقوا الله) وجعلها تبارك وتعالى المنجيه من عذابه يوم أن قال:(ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا)وجعلها الله تبارك وتعالى النعته والصله الكامله لأنبيائه المرسلين يوم أن قال لأحد أنبيائه ورسله(وكان تقيا) بل هي الجامع لكل خير والأمر الداخل فيه كل بر هو التقوى.أما أيها المؤمنون ينبغي أن يعلم أن التقوى ليست شعارا يرفع ولالواء يحمل فقط ولكن التقوى تظهر في حرص الإنسان على العبادات فرضا ونفلا تظهر على حرص الإنسان في المعاملات مع العدو والصديق مع الزوجه والولد مع الأب والأم مع الأخ والجيران مع الصديق والقريب مع المراجع ومع الموظف مع عامة المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم (الدين المعامله)وهذا كله يندرج تحت عموم تقوى الله جل وعلا ومن كان ذا تقيه(10/16)
كان ذو نهيه، إذا ذكر بالله وقف وإذا دعي إلى الله أقبل لايقدم به إلا رضوان الله ولا يحجمه عن شئ إلا خوف عقاب الله وسخطه وقد بينا في غير مرة أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تسور ذات يوم حائط للأمصار وإذا به أغلمه يشربون الخمر فدخل عليهم بعد أن تسور الحائط فقالوا له: ياأمير المؤمنين يقول الله جل وعلا(ولاتجسسوا) فتجسست علينا ويقول الله جل وعلا (وأتوا البيوت من أبوابها)وأتيت من أعلى السور ويقول الله جل وعلا(حتى تستأنسوا وتسلموا)ولم تسلم علينا فرجع رضي الله تعالى عنه وهو أمير المؤمنين وقال: كل أناس أفقه منك ياعمر والله مادفعه إلى هذا القول ومادفعه إلى هذا الرجوع إلا تقوى الله جل وعلا وإلا فهو أمير المؤمنين لايبالي بهم إذا أمر بهم إلى السجن أو أمر بهم إلى المعتقل أو أمر بهم إلى الجلد أو أمر بهم إلى غير ذلك رضوان الله تبارك وتعالى عليه.فالتقوى إذا كانت حلية المؤمن جعلته عبدا مقربا عند الله محبوبا عند الناس لايضره سلطانه ولاثراؤه ولاجاهه ولاماله ولامدح الناس له إنما يعلم إن الأمور كلها من الله وإلى الله .أما الصبر والحديث عنه قد يكون أبسط قولا وأكثر بيانا لأن التقوى قد تكون معروفه مشهورة وقد سبق التنبيه عنها فنقول :إن الصبر أيها المؤمنون قرين التقوى والصبربشر الله أهله البشاره المطلقه يوم أن قال ربنا (وبشر الصابرين)ووعد الله عليهم الأجر المطلق يوم أن قال ربنا (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)إنما يكون فقط على البلاء وعلى الأقدار وهذا خلاف الصحيح فإن للصبر مواطن عده نبسطها فيما يلي:ـ(10/17)
الأول:ـ الصبر على البلاء والأقدار وهذا يعلم من حقائق الدنيا واستقراء أحوالها إن الله يبتلي العباد أجمعين مؤمنا وكافرا تقيا وفاجرا غنيا وفقيرا يبتليهم بما يبتليهم به في صور شتى فلا يخلوا إنسان كائنا من كان من سقم في الأبدان وسآمة في النفس ونقص في الأموال وفراق للأحبه وغربه عن الأوطان إلى غير ذلك مما يبتلي الله جل وعلا به عباده وحال الناس أمام كل بلاء واحد من أربعه/ إما أن يسخط وهذا أمر محرم شرعا . وإما أن يصبر وهذا أمر واجب شرعا.وإما أن يرضوا وهذا أمر مستحب شرعا. وإما أن يشكروا وهذا مقام رفيع يخص الله به بعض أوليائه وبعض من اصطفاهم تبارك وتعالى.فالصبر على أقدار الله مثاله في القرآن:نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام ومازال الناس يتناقلون هذا النموذج إلى اليوم ونحن سنذكر بعضا من الابتلاءات الدنيويه التي تندرحج تحت هذا الباب:قد يبتلى الإنسان بفراق حبيب لديه وإنسان قريب إليه وهذا سلواه أن يعلم أنه لو كتب التخليد لأحد لكرامة في شخصه لخلد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الموت أمر صائر على كل أحد كل نفس ذائقة الموت فليتعزىبمثل هذاوليصبرأما الحزن في القلب والدمعه في العين فإن الله لايحاسب به فإن نبينا صلىالله عليه وسلم يوم أن فقد ابنه إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام (إن القلب لايحزن وإن العين لتدمع وإن لفراقك ياإبراهيم لمحزونون ولكن لانقول إلامايرضي ربنا) كذلك وأنانتكلم إجمالا من البلاء الدنيوي أن يبتلى الا نسا ن بأن يكون متزوجا ولايرزق بولد ومعلوم أن نعمة الولد نعمة جليله عدها الله من نعمه على عباده (والذين يقولون ربنا هب لن من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين )ولكن قد يبتلي الله بعض عباده فيحرمهم هذه النعمه إماشيئا مؤبدا وإما أمرا مؤقتا وهما في كلا الحا لتين مأمورون بالصبر.فاعلم ياأخي إنما عند الله أكرم وما ادخره الله لك عنده أعظم إن أنت صبرت وليتعزى بأن كثيرا من أنبياءالله ورسله كانوا(10/18)
لاينجبون وبعضهم أنجب وكان جل من أنجبه بنات فأن لوطا رزق ابنتين وشعيب عليه الصلاة والسلام رزق بنات وموسى عليه الصلاة والسلام لم ينجب أحداعلى ما نعم ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يمتع كثيرا بأبنائه فإنهم ماتوا وهوحي صلوات الله وسلامه عليه اللهم إلافاطمه رضى الله تعالى عنها فإنها هي التي بقيت حتى بعد وفاة أبيها ثم توفيت بعده بستة أشهر رضي الله عنها وصلى الله على أبيها. فالمقصود أن هذا أمر يحتاج إلى صبر ونحن نعذر إخواننا هؤلاء إذا رأوا أولاد الناس بنين وبنات فإن مثل هذا يحرك الشجون ويحرك العواطف ولكن مما ابتلاهم الله به.فالله...الله بالصبر في هذا وفي غيره ولكنه في هذا قد يكون أعظم فلهم عند الله الحسنى. كذلك مما يبتلي الله جل وعلا به عباده الإعاقه في الجسد فقد يكون الرجل كفيفا لايرى أو قد يكون معوقا لايستطيع أن يمشي أو قد يكون غير ذلك من المعوقات التي تعيق على أن يجاري الناس في أعمالهم وغدوهم ورواحهم ولكنه ليعلم أن ماعند الله من أجر إن هو صبر أعظم وأجل فإن أهل العافيه يغبطون أهل البلاء يوم القيامه لما يروه من إكرام الله جل وعلا لأهل البلاء في عرصات يوم القيامه .كذلك ممايبتلي الله به عباده النقص في الأموال فإن الإنسان قد يكون ذوتجاره أو قد لايكون غنيا أصلا فيولد فقيرا وينشأ فقيرا وعزاه مما يتعزى به قوله صلى الله عليه وسلم "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواء لوأقسم على الله لأبره"فيقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث مستدرك الحاكم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص "إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنه قبل المؤمنين بأربعين سنه يتطرقون أبوابها فتتعجب الملائكه من سرعة حسابهم يقولون لهم أو قد حوسبتم يقولون وعلى أي شئ نحاسب وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا نجاهد في سبيل الله فيدخلون الجنه يقول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها الأغنياء بأربعين سنه .فالإنسان لاتكون نظرته دنيويه كل ما ابتلاك(10/19)
الله به من بلاء ظن بما اعده الله لك وقد يحب الله جل وعلا أحدا من خلقه ولايكون بذلك العبد عمل صالح ترفع به الدرجات فيبتليه الله فيصبر فترفع له به الدرجات بجزاء ذلك البلاء حتى إن من أهل الأرض اليوم من يمشي على الأرض ليس عليه خطيئه من صبره على أقدار الله جل وعلا ولذلك إذا تأملت التاريخ وجدت أن الحسين رضي الله تعالى عنه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ...ذلك الصحابي الجليل قطع رأسه فصل رأسه عن جسده وتخلى الناس عنه وأهانه بني أميه إهانه الله أعلم بها قال أهل العلم: إنما ذلك لإكرام الله له ليرفعه عند درجة جده صلوات الله وسلامه عليه فما نالك من مصيبه أو مانالك من قدر لايسرك اصبر عليه وتفكر فقط في أمر الآخره وتعزى بالصبر وهذا الأمر يسمى عند أهل العلم صبرا اضطراريا لأنك لاتملك رده فأنت واحد من أمرين :إما أن تصبر وإما أن تتسخط وإلا لو فرضنا أنك لم تصبر هل معنى ذلك أن القدر لم يأتي ...هل معنى ذلك أن القضاء لن يقع...حاشا وكلا فإن أمر الله لايرده أحد فأنت أصلا ليس أمامك إلا الصبر فعلاما تحيد عنه بل اصبر وارض...واشكوا لله جل وعلا على بلائه..وتعزى بما عند الله من النعيم (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) يقول الله جل وعلا في غيرها(إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون)كثير من آيات الله وجزاء الله وفضل الله علقه الله جل وعلا بالصبر (وجعلنا منهم أئمة) متى؟(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)فهذا يا أخي الصبر على أقدار الله ولاأستطيع أن أتكلم فيه أكثر من ذلك خوفا من أن يغلب على غيره.الأمر الثاني:ـ الصبر على طاعة الله.إن الإنسان جبل على أنه يأنف من العبوديه ويعشق الربوبيه مامنا من أحد صدق مع نفسه أم كذب إلا وهو أن يحب أن يكون رئيسا أن يكون عاليا ولو قدر له أن يكون إلاها لأراد ولكن جل وعلا ابتلى عباده بالعبوديه له(10/20)
والذل بين يديه والعبوديه تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى نفس تذل بين يدي رب العالمين جل جلاله ولذلك الصبرعلى الطاعه صبر عظيم لأن الإسلام هو الإستسلام لله وإن التسليم والخضوع لله يحتاج إلى نفس صابرة ألا ترى إلى نبي الله إسماعيل يوم أمر بأن يذبح ماذا قال؟ (قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)قال جل ذكره(فلما أسلما)تذللا خضعا أهان أنفسهما لمن؟ لله جل وعلا وحده وهذه عباده شرعيه لاتكون إلا لله لو دخلت على أعظم ملوك الأرض حيِّّّّّه بما يحيِّ الناس بعضهم بعضا أما أن يركع له وأما أن يطأطأ الرأس بين يديه وأما... وأما من غير ذلك فهذا لايصرف إلا لله جل وعلا .حتى وقوفك عند قبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وهو هو عليه الصلاة والسلام في السلام عليه لا تقف هكذا واضع يمينك على يسراك فإن هذا موقف ذل لايكون إلا لله ولكن قف موقفا عاديا وسلم عليه صلوات الله وسلامه عليه السلام اللائق به فهو عند الله في المقام الأعظم ولكن هناك أمور تعبديه محضه فيها الذل والخضوع وهذا لايكون إلا لله الواحد القهار ولو غلبك ذو سلطان ولوغلبك ذووجاه ولوغلبك ذومال ولو...ولوأرغمك الناس ماأرغمك فإن هذا لايصرف إلا لله جل وعلا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "دخل رجل النار في ذبابه ودخل رجل الجنه في ذبابه"والقضيه قضية استسلام وخضوع لله جل وعلا فهذا يندرج في الصبر على الطاعه.الأمر الثالث:ـ الصبر عن المعصيه التطلع إلى هذه الحياه الدنيا والنظر في شهواتها وشهوات النفس لايمكن أن يتفق مع شرائع الله جل وعلا فإن الله ابتلى عباده بأن يصبروا على شهوات الدنيا وهذا أمر يحتاج إلى صبر ولذلك قال جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم كما في صريح القرآن(ومانتنزل إلا بأمرربك له مابين أيدينا وما خلفنا ومابين ذلك وما كان ربك نسيا*رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له(10/21)
سميا)وإنني أقول إن إخواننا من الشباب اليوم إذا رأؤا مافيهه نجوم الفن ونجوم الرياضه ونجوم غيرهما من متاع دنيوي يذكرون على كل لسان..يشار إليهم بالبنان يمتعون بالأموال تعرض صورهم في التلفاز تحرص القنوات على اللقاء بهم فتصدر صورهم وأخبارهم الصحف أليس هذا من متاع الدنيا بلى ورب محمد فإذا رآه الشاب غلبته النزغات والشهوات أن يكون مثلهم فإذا تذكر ماعند الله من النعيم أحجم عن ذلك كله . يابني إنما هم فيه متاع دنيوي وغالب ماهم فيه أخلاق أقوام لاخلاق لهم عند الله جل وعلا فكم ممن يشار إليه بنانا هو عند الله جل وعلا في أسفل سافلين ولكن اصبر نفسك .ألا ترى إلى قارون يوم خرج في قومه رآه من؟رآه أهل الدنيا وأهل الآخره أهل الدنيا ماذا قالوا؟ قالوا(ياليت لنا مثل ماأوتي قارون إنه لذو حظ عظيم)لكن ماذا قال من يريدون الله والدار الاخره(وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون)أي صبروا عن الشهوات ولذلك قال الله جل وعلا لنبيه(ولاتمدن عينيك إلى مامتعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) ماهم فيه من متاع لاينظر إليه(أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين*نسارع لهم في الخيرات بل لايشعرون)فكل ماهم فيه من متاع ..متاع دنيوي زائل ظاهره النعمه وباطنه ورب محمد النقمه المرأه المؤمنه وهن يسمعنن الآن إن المرأه من أخواتنا المؤمنات المستقيمات الملتزمات إذا رأت عارضات الأزياء والفنانات ومن شابههن من النساء اللاتي لاخلاق لهن ممن يمجدن ويعلى شأنهن في هذه الحياه الدنيا في زمن نطق فيه الرويمضه تبدلت فيه الأحوال وتغيرت فيه المعالم فإن المرأه قد يغلب عليها الشهوة والرغبه في المتاع الدنيوي ياأختاه تصبري بما أمرك الله به الله...الله في القدوات العظيمات عائشه...حفصه...أم سلمه... فاطمه أولئك اللاتي زكاهن الله في كتابه وأثنى الله عليهن في الدنيا والملأ(10/22)
الأعلى أزواج محمد صلى الله عليه وسلم بناته زوجات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم التابعات الجليلات ومن نهج منهجهم بإحسان.أما أولئك فإنك ترى في بعض الأحيان في بعض الصحف قد ترى خبرا مقتبضا مكتوبا في مكان نائي توفيت اليوم الفنانه أو الفنان فلان عن عمر يناهز التسعين أو الثمانين أو المائه فالله لم يكن عندها أحد يوم أن ماتت أخذ الناس خيرها وتركوا لها شرها أخذ الناس خيره إن كان فنانا وتركوا له شره من يتبعه في جنازته مائه...ألف...مائة ألف...مليون ومايغني هؤلاء عند الله شيئا (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا) أيها المؤمنون إنه الإيمان والعمل الصالح فقط ثم رحمة الله تبارك وتعالى أما غير ذلك فلوكان يرجوا أحد بما كان له مجد في الدنيا لنجي أبولهب ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم جده هاشم من يتمنى الناس أن يكونوا منهم ولايتمنون أن يكونوا من الناس ومع ذلك يقول ربنا في سورة تتلى إلى يوم القيامه (تبت يدا أبي لهب وتب) فالمراد كله/ على العمل الصالح أما ماتراه من متاع أهل الدنيا فإنهم إن كانوا صالحين فالحمد لله مثلهم في ذلك سليمان أوتي الملك وأتي الإيمان وإن كانوا غير ذلك فإنهم إن كانوا كفار فإلى جهنم وبئس المصير. وإن كانوا فاسقين وهم تحت مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء رحمهم أسأل الله أن تسعني وإياكم رحمته. ثم أيها المؤمنون من الصبر وهو النوع الرابع/ الصبر على مشاق الدعوة من المعلوم أن الدعوه إلى الله منهج الأنبياء قضى فيها المرسلين حياتهم كلها ولاريب أنه مادعى أحد إلى الله إلا وأوذي هذه سنة الله في الخلق(يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر...) ثم ماذا؟(واصبر على ماأصابك) لأنه ماأمر أحد بمعروف ولانهى أحد عن منكر إلا وأوذي من الناس والدعاة والعلماء والأنبياء من قبلهم والمصلحون في الأرض وحملة لواء الدعوة في دين الله من تأمل حياتهم وجد ماينالهم من المشاق وصور ذلك(10/23)
المشاق قد يمكن حصره فيما يلي. الأول:ـ في إعراض الناس عنهم وأي شئ أشد على النفس أن تصرخ في أقوام بملء فيك بشيرا ونذيرا تدعوهم إلى الحق ولاتجد إلا قلوبا غلفا وأذانا صما وأعين عميا لاتقيم لما تقول وزنا هذا رآه وعاصره ووجده نبي الله نوح (قال رب إنى دعوت قومي ليلا ونهارا*فلم يزدهم دعاءى إلا فرارا*وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فى ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) فهذا أعظم مايلاقيه الداعيه أن يعرض الناس عنه. الأمر الثاني:ـ أن يقابل الناس دعوته بأذى القول أو بأذى العمل وهذا كذلك يحتاج إلى صبر أي شئ أعظم من أن تقابل الناس بالحسنى فيقابلونك بالسيئه... تدعوهم إلى الجنه ويدعونك إلى النار... تخفض لهم الجناح يغلظوا لك القول...تبدأهم بالكلم الطيب يبدؤك بالتهم الجائفه...يمشي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضعوا عليه سلى الجزور صلوات الله وسلامه عليه...حدث بين الناس تآمروا عليه وحاصروا في شعب أبي طالب...خرج إلى الطائف يدعوا سلطوا عليه السفهاء والغلمان ليرموه بالحجاره...أراد أن يتركهم تآمروا عليه في بيته ليقتلوه...تركهم وخرج من دياره وبيوت أهله لاحقوه في الجبال والفيافي والصحارى حتى حاصروه في غار صلوات الله وسلامه عليه...هاجر إلى مدينته صلى الله عليه وسلم وأقام فيها معالم الدين لم يتركوه جلبوا عليه بخيلهم ورجلهم وحاصروه كما في غزوة الأحزاب...كلما صنع أمرا بادلوه بأكثر...يريد بهم الخير ويريدون به إلى الشر...وكان لسان حاله كلسان حال العبد الصالح(وياقومي مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار*تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ماليس لي به علم) هذا أنتم (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار*لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولافى الأخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار)فأذى القول وأذى العمل لم يخلو منه فيما نعلم من دعا إلى الله جل وعلا وكذلك نبي الله(10/24)
شعيب (قالوا ياشعيب مانفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وماأنت علينا بعزيز) فكانت كلماته الدامعه (قال ياقوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط) نوح (قالوا مجنون وازدجر) لوط (لنخرجنك من قريتنا) كثر عباد الله من أوذوا ومن سلك مسلكهم ناله مانالهم صلوات الله وسلامه على أنبيائه رضي الله عن أصحاب نبيه وغفر الله للعلماء والدعاه والمصلحين والأئمه المتبوعين. كذلك مما يتعرض له الدعاه إلى الله والعلماء الربانيون استبطاء النصر فإن مما يلاقيك في دعوتك للناس أنك أحيانا تستبطئ النصر تستبطئ إجابة الناس لك اعلم ياأخي أن الطريقه في الدعوة إلى الله طريق طويل لايعقل أن يتبدل الناس بين عشية وضحاها لذلك لابد لك من الحكمه والقين والصبر (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولامبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) فلا بد أن تصبر(حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) نبي الله صلوات الله وسلامه عليه هاجر بعد ثلاثة عشر عاما من الدعوة من مكه إلى المدينه يمر به الركبان في الطرقات والله لا يعرفونه يقولون من هذا يا أبابكر ثم بعد عشرين عاما صلوات الله وسلامه عليه دخل مكه منصورا بأمر ربه وقد أنزل الله عليه (إذا جاء نصر الله والفتح*ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا*فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فهذا هو الصبر على مشاق الدعوه وعلى مايلقاه الداعية إلى الله من الناس من أذى القول أو أذى العمل أواستبطاء تحقيق الإجابه له. كذلك أيها المؤمنون من أنواع الصبر ...الصبر في العلاقات الإنسانيه والأمور الأدبيه وهذا محكه أن الإنسان يعاشر مثلا في البيت زوجته ولايخلوا الرجل من نقص فيه كما لاتخلوا المرأه من نقص فيها فلو أن كلا منهما أراد أن يحاسب الآخر حسابا(10/25)
دقيقا لبطلت الحياة الزوجيه يقول ربنا (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) ويقول صلى الله عليه وسلم"لايفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها آخر" واعلم أنه لايوجد أحد على وجه الأرض يمشي على قدميه إلا وفيه منقصه كائنا من كان.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء فخرا أن تعد معايبه
ولو أردت ان تحاسب الناس بالورقة والقلم والمعايير الحسابية لم يبقى لك أحد أبدايصاحبك ولم يبقى لك أحد يخالطك فالإنسان في معاملته مع زوجته على وجه الأخص وأولاده وآبائه قد يلومك أبوك على شئ ليس فيك ولكن تحلى بالصبر،قد يتهمك ابنك بما ليس فيك ولكن تحلى بالصبر.ألم ترى إلى أخوة يوسف يقولون عن أبيهم) إنا أبانا لفي ضلال مبين) وهو عند الله نبي مرسل.قد تكون في مجتمع ...في عمارة تسكنها وأنت لفقرك أو لعدم جاهك أو لأشياء تطول...يأتي جارك يدعوا من فوقك ويدعوا من تحتك ويدعوا من أمامك أما أنت لا يلقي لك بالا ولا يدعوك هذا أمر فيه ازدراء لك وفيه احتقار لشخصك ولكن يا أخي تحلى بالصبر فإن هذا داخل في عموم الصبر الذي أمر الله به والذي وعد الله الأجر عليه قد تكون في العمل ولكنهم يستمعون لغيرك ويستأنسون برأي سواك.علي رضي الله تعالى عنه أدرك فئة من الخوارج عليهم من الله ما يستحقون وهو رابع الخلفاء الراشدين يقول لهم الأمر فلا يعبؤن به ويخطئونه فكان يقول رضي الله تعالى عنه والحرقة تكاد تقتل قلبه يقول :لا رأي لمن لا يطاع فإذا كان علي رضي الله عنه وصل إلى هذا الأمر وقد مر بك قبل قليل إن يوسف عليه الصلاة والسلام بيع بيع الموالي فالإنسان في هذه المواطن يحتاج إلى صبرقد يمر بك بعض الناس فأمامك يثني على غيرك ويمدحه ويعليه المقام الأعلى وقد يعطيه دعوة إلى حفلة أو إلى غيرها ،وأنت يريد أن يشعرك أنك لست بشئ،تغاض عنه يا أخي (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) فهذا كله داخل في عموم الصبر(10/26)
وليس له حلقة يمكن أن نحدد معالمها ولكن كلما كان فيه ازدراء لشخصك أو احتقار لك أو ما إلى ذلك من اساءة القول او الفعل فاعلم أنه داخل في عموم الصبر الذي أنت مطالب به .وخلاصة الأمر أيها المؤمنون:إن الردائين العظيمين تقوى الله جل وعلا والصبر على مايناله الإنسان إما من البلاء والأقدار وإما من صبره على الطاعه وإما من صبره على المعصيه وإما سوى ذلك من معاملات الناس له إذا الإنسان استطاع أن يحوز ذلك بيديه بعون من الله وفضل فقد أوتي المكانه العليا في الدين .قال شيخ الإسلام ابن تيمية:إنما تنال الإمامة في الدين بأمرين باليقين والتقوى أي اليقين والتقوى بعنى واحد.باليقين والصبر واستدل بعموم قول الله جل وعلا :(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) وقد سئل الشافعي يا أبا عبد الله أيهما أجمل للمؤمن البلاء أو أن يمكن؟قال سبحان الله وهل يمكن مؤمن حتى يبتلى فإن يوسف عليه السلام ابتلي فلما نجح مكن ولذلك أقول لإخواني خاصه ممن تصدروا للدعوة وإمامة المساجد وقراءة القرآن على الناس أو تعليمهم وإرشادهم اعلموا أن هذا الطريق شاق وطويل فلا تستعجلوا أولا الظهور سترون من الناس الإزدراء والإحتقار وانتقاص الشخصيه وسيأتيكم من ملئ قلبه حسدا وحقدا فيحاول أن ينتقص شخصيتك ويتهمك بما ليس فيك أو أن يلحق بك التهم الجزاف أو ما إلى ذلك فاصبر واحتسب ولكن إياك والعجب بنفسك واعلم أن ما أنت فيه إنما هو من فضل الله تبارك وتعالى عليك فاحمد الله على نعمه واصبر على ماتناله من أذى الخلق فإن رزقت هذين الأمرين فأبشر بأن الله جل وعلا سيجعل لك المآل الحسن والعاقبه الحسنى والمقام المحمود واعلم أنه ماجلس رجل عند كبر سنه حيث يحب إلا وقد جلس وهو صغير حيث يكره فاجلس حيث تكره في الصغر ستكون يوم تكبر في مكان تحبه وأنا أتكلم عن الأمور الشرعيه فقط أما الدنيا فإنها تنال بالحق وتنال بالباطل فإن الله يعطي الدنيا لمن(10/27)
يحب ومن لايحب ولا يعطي الدين إلا من يحب . أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر لي ولكم الزلل وأن يجنبنا وإياكم مواطن الخلل ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا واغفر لنا وارحمنا فأنت خير الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بحمد الله(10/28)
من 36 إلى 48
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ خلق فسوى وقدّر فهدى ، وأشهدُ أن سينا ونبينا مُحمداً عبدهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ....
........ أما بعد ....:
فهذا اللقاء الرابع المُتعلق بسورة الإسراء وكُنّا قد انتهينا في اللقاء الثالث إلى قول ربنا جل وعلا ( ولا تقفُ ما ليس لك بهِ علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كُلُ أُولئك كان عنهُ مسؤلا )
وذكرنا أن الآية دلت على وجه الخصوص بسورة أولية على أن القول على الله جل وعلا بلا علم من الأمور المحرمة إنّ كان القولُ بلا علم على إطلاقهِ ممنوع فكيف بالقول على الله وذكرنا قصة عامر ابن الضرب وقُلنا إنّ ّعامراً كانت العربُ تفدُ إليهِ وتحتكم فجاءهُ قومٌ يسألونهُ في ميراث خُنثى ثُمّ إنّهُ حار فيهم أربعين يوماً وهم آنذاك كانوا أضيافة فقالت لهُ جاريةٌ عندهُ أتبع الحُكم المبال فأخذ بقولها .
قال الإمام الأوزاعي مُعلقاً على القصة : إذا كان هذا رجلٌ في الجاهلية لا يرجوا جنة ولا يرجى ناراً توقف في الحُكم أربعين يوماً لمّا لم يثبُت عندهُ فكيف بمن يتجرأ على القول على الله تعالى بلا علم وهذا في ذالك عضهِ وعبرة لكُل أحد .
ثم قال ربُنا ( إنّ السمع والبصر والفُؤاد كُلُ أُولئك )
الإشكال عند اللغويين التعبير بأُولئك عمّا لا يعقل وهُم يقولون في أغلبهِم أن أُولئك تُطلق على العُقلاء لكن كفى الاستخدام القرآني دليلاً على أنها تُستخدم لغير العاقل فالقرآن أو اللفظ القرآني هو الذي يقوم مقام الاستشهاد ولا يُستشهد للقرآنِ بقول أحد.
على أنّ جواب الإشكال بصورةٍ أوضح من جهتين :
أنّ الله جل وعلا أقام السمع والبصر والفُؤاد مقام العُقلاء لأنها شواهدُ على أصحابها و مسؤلةً عن ذاتها ، مسؤُلةٌ عن ذاتها وشواهدُ على أصحابها .
والأمر الثاني :(11/1)
عُرف في بعض كلام العرب إطلاقهم أُولئك على غير العُقلاء ويحتجُ القائلون بهذا بقول جرير:
ذُم المنازل بعد منزلة اللوَا ..... والعيش بعد أُولئك الأيامِ
فالأيامُ غيرُ ماذا ؟ غيرُ عاقلة وعبّر عنها بأولئك لكنّ المانعين يقولون إنّ البيت أصلهُ
والعيش بعد أُولئك الأقوامِ
فإذا كانت الرواية الصحيحة بعد أُولئك الأقوام فلا دليل في بيت جرير لأن الأقوام عٌلاء أو غير عُقلاء ؟
عُقلاء فالتعبير عنه بأُولئك مُلائم لكن على القول أن الرواية الصحيحة
والعيش بعد أُولئك الأيامِ
أصبح الاستشهاد قائم لماذا ؟ لأن الأيام غيرُ عاقلة.
لكنّ نقول أياً كان فإنّ الله جل وعلا أقام السمع والبصر والفؤاد مقام العُقلاء لأنها مسؤُلةٌ عن ذاتها وشواهدُ على أصحابها .
( إنّ السمع والبصر والفؤاد كُلُ أُولئك كان عنهُ مسؤلا )
ثم مضى الأدب القرآني المبدوء أولاً بآية :
( وقضى ربُك ألا تعبدوا إلا إياه ) ثم جاءت سلسلة من مكارم الأخلاق يُدعى إليها ومن سيء الأخلاق يُنهى عنها كقولهِ تعالى ( ولا تقربوا الزنى )
هُنا قال ( ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولا )
الإنسانُ يحيَ بين جمادين ما بين أرضٍ يمشي عليها وما بين جبالٍ تُحيط بهِ فالله جل وعلا يقول لنبيهِ والمخاطب أُمته من باب و الوادِ المعروف إياك أعني واسمعي يا جارة المقصود أنك مهما علوت وارتفعت فإنك لن تستطيع أن تخرق الأرض وكلمة تخرق لفظاً تحتملُ معنيين :
الخرق المعروف .
والخرق الآخر بمعنى قطعها .
وقد جاء في كلام العرب أن الخرق بمعنى بمعنى القطع يعني لن تستطيع أن تمضي في الأرضِ كُلها ( إنك لن تخرق الأرض )
يُصبح المعنى لن تستطيع أن تقطعها جميعها وحملهُ على الأول أقرب وهو الخرق المعروف من الدَوس فيُصبح المعنى (لا تمشِ في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولا )(11/2)
نهى اللهُ نبيهُ عن الكبر وعن مشيةِ الفخر والخُيلاء فإذا قُلنا مَشية بفتح الميم فهذا اسم مرة تقول ضربتهُ ضربة أي ضربةً واحدة أما على وزن فعلِه بكسر الميم فهو اسم هيئة مِشية بمعنى اسم هيئة .
المقصُود نهى اللهُ نبيهُ عن مِشية الجبارين المُتكبرين ذوي البطر الذين يختالون في الأرض فرحاً وبطراً هذا المنهيُ عنه .
( إنك لن تخرق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولا )
كلمة طولا عند النحويين تمييز مُحّول من فاعل ومعنى الكلام لن يبلُغ طولُك الجبال .
ما معنى (ولن تبلُغ الجبال طولا ) ؟
أي لن يبلُغ طولُك الجبال ـ تقول في الكلام العادي يا بُني ـ ازدانت المدينةُ مدخلاً
ما أصلُها ؟ ازدان مدخلُ المدينة .
تقول طاب عمرٌ نفساً ما أصلُها ؟ طابت نفسُ عمر
فالتمييز هُنا مُحوّل عن فاعل مثلهُ قولهُ جل شأنهُ : ( إنك لن تخرق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولا )
أي ولن يبلُغَ طولك الجبال .
والمقصود المنهيُ عن الكبر وأصلهُ شيء في النفس يقع فإذا وقع في النفس ولو كان ذرة نجم عنهُ أثرٌ في الظاهر وبحسب تمكُن ذالك الكبر في القلب يكونُ ذالك الأثر فمن اُلجم بلجام التقوى منعهُ ما في قلبهِ من طلب العلو منعتهُ التقوى منه ومن لم تمنعهُ التقوى أنطلق في عنانهِ ومضمارهِ كما قال فرعون ( أنا ربكُم الأعلى ) لماذا قال فرعون أنا ربكُم الأعلى لأنهُ لا لجام لتقوى عندهُ يمنعهُ من أن يقول هذا القول [ واضح ]
و إلا بذرةُ الخير والشر في كُل أحدٍ موجودة .
( إنك لن تخرق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولا كُلُ ذالك كان سيئةُ عند ربكَ مكرُوها )
قُرأت سيئةًً وقُرأت سيئةُ على قراءة سيئةً يُصبح المعنى (كُلُ ذالك كان سيئةً عند ربكَ مكروُها ) فتنصرف كُل إلى ماذا ؟
إلى ما نهى الله جل وعلا عنه .(11/3)
أمّا على قراءة سيئةُ ( كُلُ ذالك كان سيئةُ ) يُصبح كان سيئةُ تخصيصاً من كلمة من كلمة كُل لأن ما أمرناك بهِ ونهيناك عنه أمرناك بمحاسن الأخلاق ( أتي ذَا القُربى حقهُ ) ( بالوالدين إحسانا ) ونهيناك عن سيئها ( لا تقربُوا مال اليتيم ) ( لا تقربُوا الزنا ) ( لا تقتلُوا أولادكُم ) ما مضى من آيات فيُصبح ( كان سيئةُ ) أي ما مضى مُخصص السيئة منه بأنهُ مكروهٌ عند الله فيُفهم منه أن غير السيئ ليس مكروهً عند الله .
... ... ( كُلُ ذالك كان سيئةُ عند ربكَ مكرُوها ذالك )
جُملة ما علّمناك .
( ممّا أوحى إليك ربُك من الحكمة )
وهُنا نربط الآية بما حرّرناه في السُنة في أول اللقاء حول سورة الإسراء
قُلنا إنّ قلب النبي صلى الله علية وسلم مُلأ ماذا ؟
إيماناً وحكمة وعقّبنا على ذالك بأن الحكمة أجلُ ما يُعطاهُ بنو ءادم بعد الإيمان ، أجلُ ما يُعطاهُ بنو ءادم بعد الإيمان ..
على هذا قولُ الله جل وعلا : ( ذالك ممّا أوحى إليك ربُك من الحكمة ) يعضُد هذا الاستنباط من السُنة وهي أن الحكمة أعظمُ شيءٍ بعد الإيمان ...
ثم بين الله جل وعلا والحكمةُ عند البعض تقوم على ثلاثة أركان تقوم على ثلاثة أركان :
العلم
والحلم
والأناة
الحكمة تقوم على ثلاثة أركان :
العلم
والحلم
والأناة
نقول قال ربُنا (ذالك ممّا أوحى إليك ربُك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتُلقى في جهنّم ملُوماً مدحورا ) قبلها بآيات قال في فاصلة ما بين آياتٍ وآيات قال ( أُنظر كيف فضّلنا بعضهُم على بعض ولا الآخرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً ) بعدها آية سأترُكها ( وقضى ربُك ألا تعبدُوا إلا إياه )
ما بين هاتين الآيتين قال ( لا تجعل مع الله إلهٍ آخر فتقعُدُ مذموماً مخذولاً )
هُنا ماذا قال ؟
قال (ذالك ممّا أوحى إليك ربُك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتُلقى في جهنّم ملوماً مدحورا )
بدايةً كم وصف تحرّر ؟
أربعة
كم وصف ؟(11/4)
أربعة في الآية الأُولى قال ( مذموماً مخذولا) هذان كم ؟ وصفان .
وفي الآخرة قال ( ملوماً مدحورا )
سُنبيّن ما معنى مذموم ، ما معنى ملُوم ، ما معنى مدحور ، ما معنى مخذول ؟
ثم نُبيّن لماذا قال الله ( ملوماً مدحورا ) وقال ( مذموماً مخذولا) ...
أمّا الملوم ــ أُكتُبوا ــ الملوم من يُقال لهُ لما فعلت كذا وكذا الملوم من يُقال لهُ لما فعلت كذا وكذا من قبيح الأفعال .
وأمّا المذموم فهو من يُخبر بقبيح ما فعل لا يُسأل إنّما يُخبر بقبيح ما فعل يُخبر بقبيح ما فعل .
وأمّا المخذول فهو الضعيفُ الذي لا ناصر له ،وأمّا المخذول فهو الضعيفُ الذي لا ناصر له .
وأمّا المدحور فهو المطرود المُبعد عن كُل خير ، وأمّا المدحور فهو المطرود المُبعد من كُل خير.
الآن نجمع شتات الآيات بدايةً لغوياً نقول إن القعُود يعني العجز قعد عن الشيء أي عجز عنه قال الحُطيئة يهجو أحدهم :
دعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها
وأقعُد فإنّك أنت الطاعمُ الكاسي
فالتعبير بلفظ أُقعد على أن هذا المهجو عاجزٌ على أن ينال مراتب الشرف ويُنافس في الإطعام والكسوة والخيرات شبّههُ بالنساء [ واضح]
وأقعُد فإنّك أنت الطاعمُ الكاسي
هنا مطعوم مكسي هذا أصل الكلام ، فالعرب تستخدم أٌقعد في العجز ولهذا قال الله في النساء أخبر عن المُجاهدين من جعل ضدهُم ؟ القاعدين جعل ضدهُم من القاعدين .
و المرأة إذا كبُرت وقعدت وأصبح ليس لرجال مأربٌ فيها سمّها الله القواعد [ واضح]
هنا ربُنا يقول ( لا تجعل مع الله إلهٍ آخر فتقعُدُ) يعني تُصبح عاجزاً تُفاجىء ( لا تجعل مع الله إلهٍ آخر فتقعُدُ مذموماً مخذولاً ) والآية التي بين يدينا ( فتُلقى في جهنّم ملوماً مدحورا )
نقول الآن بعد أن حرّرنا الأربعة وذكرنا نقول ما يلي :
يُنبهُ الله في الآيتين وإن جاءتا مُتفرقة على أن التوحيد راس الدُين ورأس الحكمة ، على أن التوحيد راس الدُين ورأس الحكمة ومبدأُ الأمرِ ومُنتهاه .
في الآية الأُولى:(11/5)
رتّب الله آثار الشرك الدُنيوية في الآية الأولى رتب الله آثار الشرك في الدُنيا قال ( لا تجعل مع الله إلهٍ آخر فتقعُدُ مذموماً) من الناس ( مخذولاً من ربك ) أين ؟ في الدُنيا .
وفي الآية الثانية:
أعاد الله الآيات بقولهِ (فتُلقى في جهنّم ملوماً مدحورا ) فذكر جهنّم يُبين لك أن الآثار هُنا أين ؟ في الآخرة أن الآثار في الآخرة فذكر آثار الشرك في الآخرة .
إذاً لا يوجد تكرار كما يفهمهُ البعض بادي الرأي وإنّما نهى الله عن الشرك في الآية الأُولى ورتب عليه الآثار الدنيوية وذكر الشرك ونهى عنه في الآية الثانية ورتب عليه الآثار الأُخروية قال (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتُلقى في جهنّم ملوماً مدحورا )
ثم قال الله ( أفأصفاكُم ربُكُم بالبنين وأتخذ من الملائكة إناثا إنكُم لتقولون قولاً عظيما )
هذا عودٌ على بدء
وذكر ما كانت بعض العرب تزعُم أن الملائكة بناتُ الله وعبارة أتخذ تُوحي أن القُرشيين القائلين بهذا لا يقولون أن الله ولد بناتً لكنّهم يزعمون أن الله خلق الملائكة على هيئة بنات ثم أتخذهُم بناتً له خلقهُم إناثاً ثم أتخذهُم بناتٍ لهٌُ لأن لفظ أتخذ لا يُساعد على القول أنهم يدّعون أن الله ولد البنات تعالى الله على كُل حال عمّا يقول الظالمون علواً كبيرا .
فالله جل وعلا يقول ( أفأصفاكُم ربُكُم بالبنين وأتخذ من الملائكة إناثا)
هذا استفهام انكاري توبيخي
كيف تجرؤن على أن تنسبوُا للهِ الولد جُملةً ثم تنسبوا إليه أبخس الولد وهو الأُنثى كيف تجرؤن على أن تنسبوُا للهِ الولد من حيث الجملة ثم كيف تجرؤن على أن تنسبوا إليه أبخس الولد وهو الأُنثى الذي عادةً ما تأنفون منهُ أنتُم و تتبرأون منه ( أفأصفاكُم ربُكُم بالبنين وأتخذ من الملائكة إناثا إنكُم لتقولون قولاً عظيما )(11/6)
وهذا التعبير القرآني فغيه شدّة إنكار ومُبالغة في الرد عليهم أي لو كانت لكُم قلوبٌ تفقه وعقُولٌ تعقل عظيم هذا القول لما صدعتُه بهِ لهذا قال الله (إنكُم لتقولون قولاً عظيما )
ثم قال : ( ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذّكروا وما يزيدهُم إلا نفورا )
تصريف الرياح ما معناه ؟
انتقالُها من مكان إلى مكان.
والمعنى أن القرآن فيهِ وعد ووعيد وأوامر ونواهي وقصص وزواجر فاللهُ جل وعلا لم يجعلهُ على نسقٍ واحد وصرّف فيهِ الآيات كُلُ ذالك ليكون دعوةً لهُم لأن يتعضوا ويعتبرُوا لكن لكنّ لمّا فُطرت قلُوبهُم على الشرك عياذاً بالله ما زادهُم هذا التصريف في آيات اللهِ إلا نفوراً وبُعداً عن ماذا ؟ عن الحق .
( ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذّكروا وما يزيدهُم إلا نفورا )
ثم عاد الله جل وعلا لإبطال دعواهُم بتعددُ الآلهة :
( قُل لو كان معهُ آلهةٌ كما يقولون لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سُبحانهُ وتعالى عمّا يقولُوا الظالمون علواً كبيرا * تُسبّح لهُ السماوات السبع ومن فيهنّ وإن من شيءٍ إلا يُسبح بحمدهِ ولكن لا تفقهون تسبيحُهم إنهُ كان حليماً غفورا )
تصوّر الآيات جُملةً على النحو التالي :
هؤلاء القُرشيون يقولون بتعددُ الآلهة ثم إنهم في تعددُ الآلهة هؤلاء يزعمون أنهُم عندما يعبدُون تلك الآلهة التي اتخذُوها إنّما هي هذهِ الآلهة شُفعاء لهُم عند من ؟ شُفعاء لهُم عند عند الله هذا زعم .
الله جل وعلا أراد أن يرُد عليهم بُطلان قولهم بوجود تعددُ الآلهة فقال ربُنا ( قُل ) والقرآن كُلهُ مأمورٌ مُحمدٌ صلى الله علية وسلم أن يُبلّغه لكنّ إذا جاء ( قُل ) في القرآن دلّ على زيادة اختصاص دلّ على زيادة اختصاص ويُربي في المؤمن فقه الأولويات .
( قُل لو كان معهُ آلهةٌ كما يقولون إذاً لابتغُوا إلى ذي العرش سبيلا )(11/7)
بدايةً لو حرفُ امتناعٍ لامتناع أصلاً لا تُوجد آلهة حتى تجد سبيلاً إلى ذي العرش فالأمرُ برُمتهِ باطل إلا في ألسنتكُم لكن الآن هنا تصور فرضي كيف يرُد الله عليهم .
و إلا لولا حرفُ امتناعٍ لامتناع ( قُل لو كان معهُ آلهةٌ) هل مع الله آلهة ؟
حاشا وكلا ليس مع الله آلهة إذاً ما دام لا يوجد مع الله آلهة لا يُمكن أن يُوجد طلب سبيل إلى الله .
فهمتُم
فالأمرُ برُمتهِ غير موجود إلا في قلُوب هؤلاء الكفرة فيقول الله ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغُوا إلى ذي العرش سبيلا )
ابتغاء السبيل المقصود منهُ : طلبُ السعي إلى شيءٍ ما.
والآية هُنا تحتمل معنيين: وهنا حاول أن تُركزَ قليلاً كيف أبطل الله تعدُد الآلهة :
الأول :
ــ حاول أن تفهمها قبل أن تكتُبها ــ
ربُنا يقُول لهُم لو فرضنا جدلاً بحسب منطقكُم الكافر أن هُناك آلهة ثانية هذهِ الآلهة ــ نحمل الآن الرأي الأول على أن كلمة(إذاً لابتغُوا إلى ذي العرش سبيلا ) أي سبيل رغبة وخُضوع ـ
أنتُم لماذا تعبدون هذهِ الآلهة ؟
قالُوا نعبُدها حتى تكون شفعاء بيننا وبين الله فالله جل وعلا يقول إذا كانت هذهِ الآلهة بزعمكُم تخضعُ لي وتتشفّع لكُم عندي فقطعاً هذا يمنع بتاتاً أن تُسمّى ماذا ؟ أن تُسمّى آلهة .
لأن الإله لا يكونُ خاضعاً لأن الإله لا يكونُ خاضعاً
ــ نجيب مثال من واقع الناس اليوم ــ
أنت تعرف رجُلا يعمل في الديوان الملكي فأعطيتهُ أوراق ليعرضها على الملك فهذا الذي في الديوان الملكي الموظف هو وسيطٌ لك عن الملك صحيح حتى يعرض موضوعك على الملك لابُد هُو نفسهُ أن يكون خاضعاً لمن ؟ يكون خاضعاً للملك ويتشفّع لك عندهُ في ذُل وتواضُع حتى يقبل الملكُ شفاعته إذاً قطعاً هذا الشفيع ليس بماذا ؟ ليس بملك .
لأن الملوك لا تخضعُ بعضها لبعض [[ واضح ]](11/8)
قطعاً هذا الشفيع ليس بماذا ؟ ليس بملك إذاً بطل ما زعموهُ بطل ما ادعوه ُأنتُم تقولون أن هذهِ المُعلّقة حول الكعبة أو التي تعبدونها حول الكعبة أو غيرها هي شُفعاء بينُكم وبين الله وتقولون إنها آلهة ( وقالوا ءألهتُنا خيرٌ أم هو ) على عيسى ابنُ مريم يُسمّونها آلهة فكيف تُسمّونها آلهة وهي تخضعُ لغيرها الإله لا يخضعُ لأحد فبطل دعواكم أنها آلهة .
هذا على القول (إذاً لابتغُوا إلى ذي العرش سبيلا ) سبيل ماذا ؟ خضوع وتذلُل ومحبة [[ واضح ]]
القول الثاني :
( لابتغُوا إلى ذي العرش سبيلا ) ليس سبيل تذلُل وخضوع على العكس سبيل مُغالبة ومُنازعة
أي لو كانت هذهِ الآلهة ــ هذا التفسيرُ الآخر ــ لو كانت هذهِ الآلهة آله كما تزعمون أنتُم فالآلهة لها قُدرة لها سُلطان فسُتنازعُ الله جل وعلا في سُلطانه وأيُ شيءٍ حولهُ تنازُع ينجُم عنهُ خلل أيُ بلد فيها أربعة خمسة رُؤساء يحدُث خلل في نظامها لأن كُل رئيس يُريد أن يُمضيَ كلامهُ تسمعون الآن أُمراء الحرب في الصومال ما يُمكن يصيرون أُمراء على بلدٍ واحد لابُد أن يحصُل نزاع فلابُد أن يكون حتى يستقرّ أمر لابُد أن يكون الحاكم واحد وأنتُم ترون بأعيُنكم أن الكون مُنتظم شمسهُ وقمرهُ وليلهُ ونهارهُ لا يوجدُ فيهِ أيُ خلل ولا أيُ فساد فدّل عقلاً على أن الإله ماذا ؟ واحد .
...وهذهِ الرأيان كُلُ القرآن يشهدُ لهذا ويشهد لهذا ...
أمّا القول الأول:
على التذلُل والخضوع يشهد عليهِ آية ( أُولئك الذين يدعُون يبتغُون إلى ربهِم الوسيلة أيهُم أقرب ويرجون رحمتهُ ويخافون عذابهُ ) ــ في نفس السورة .
والقول الثاني:
وهو الأرجح والعلمُ عند الله يشهد لهُ قول اللهِ جل وعلا ( لو كان فيهِما آلهةٌ إلا اللهُ لفسدتا )
وقولُ اللهِ جل وعلا ( ولعلا بعضهُم على بعض سُبحان اللهِ عمّا يصفون )
فبكلا الطريقين أو بكلا الرأيين الناجمين عن فهم الآية يبطُل دعوى الكُفّار القُرشيين أن مع الله جل وعلا آلهة(11/9)
[واضح ] فيُصبح الآيات تُبطلُ جميع ما زعمهُ القُرشيون الأوائل .
قال الله :
(قُل لو كان معهُ آلهةٌ كما يقولون )
وقولُ الله جل وعلا ( كما يقولون) هذي إطناب زيادة المقصُودُ منها أن هذا أمرٌُ مُحال أن يقولهُ عاقل لكن هُم تجرأُُوا وقالوه.
(إذاً لابتغُوا إلى ذي العرش سبيلا )
...... من حيث الصناعة النحوية .....
إذاً أُتي بها لتأكيد الجواب إذاً أُتي بها لتأكيد الجواب هو جواب لولا المُمتنع تحقيقهُ هو جواب لولا المُمتنع تحقيقهُ لأن لولا حرفُ امتناعٍ لامتناع .
ثم أنشأ اللهُ جُملةً آيةً تُنزّهُ الله عما يزعمهُ هؤلاء الكفرة قال الله جل وعلا :
( سُبحانهُ وتعالى عمّا يقولون علواً كبيرا)
قال بعضُ أهل العلم كبيراً هُنا بمعنى الكامل بمعنى الكامل .
والمقصُود أن الله جل وعلا يُنزّهُ ذاتهُ العليّة عمّا زعمهُ هؤلاء الكُفّار وما تبنّوهُ من مُعتقدٍ فاسد وأن الله جل وعلا تعالى أن يكون لهُ شريك تعالى أن يكون لهُ شريك .
ثم ذكر الله آيات تدُلُّ على وحدانيتهِ قال :
( تُسبحُ لهُ السماواتُ والأرضُ ومن فيهِنّ وإن من شيءٍ )
يدخُل فيها الجمادات والحيوانات والنباتات.
(إلا يُسبحُ بحمدهِ )
ولمّا كان هذا التسبيحُ من لدُن كُل الأشياء دقيقاً لا يصلُ إليهِ أحد قال ربُنا :
( ولكن لا تفقهون)
ولم يقُل ولكن لا تعلمون وإنّما عبّر بلفظ تفقهون لأنها مسألةٌ دقيقة ( ولكن لا تفقهون تسبيحهُم )
(تُسبحُ لهُ السماواتُ السبعُ ومن فيهِنّ )
فقد مرّ معنا مراراً " أنّ نوحاً عليهِ السلام لمّا حضرتهُ الوفاة دعا بنيهِ فقال إنّي أوصيكُم باثنتين : بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع و الأرضين السبع لو كُنّ كحلقةٍ مُفرغة لقصمتهُنّ لا إله إلا الله ،
وبـ سُبحان الله وبحمدهِ فإنها صلاةُ كُلُ شيءٍ وبها ــ ماذا ؟ ــ يُرزق الخلق "
والحديث عند أبي داود بسندٍ صحيح .(11/10)
فإنها صلاةُ كُلُ شيءٍ وبها يُرزق الخلق والمقصُود شاهد على أن التسبيح وقد قال العُلماء وهذا مكرُور مُقرّر لديكُم أن الله جل وعلا يُسبح لهُ الحُوت في بحرهِ والطير في وكرهِ بل ( وإن من شيءٍ إلا يُسبحُ بحمدهِ ) .
قال ربُنا :
(تُسبحُ لهُ السماواتُ السبعُ ومن فيهِنّ وإن من شيءٍ إلا يُسبحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهون تسبيحهُم إنهُ كان حليماً غفورا)
لما اختار الله هذين الاسمين الجليلين ختم بهما هذهِ الآية ؟
قُلنا في أول الدرس في اللقاء الأول حول سورة الإسراء أن الله قال ( لنًُريهُ من ءاياتنا إنهُ هو السميعُ البصير ) قُلنا لماذا اختار الله كلمة ( السميع) ؟
ــ استذكارٌ لما سلف ...
لأنهُ سمع دُعاء النبي صلى الله عليه وسلم في مُنقلبهِ من الطائف ولجوءهِ إلى ربهِ وبصير قُلنا لأن الإسراء كان في الليل فيُبيّن أن الله جل وعلا حافظٌ لنبيهِ [ واضح ]
هُنا قال الله :
( إنهُ كان حليماً غفورا)
لماذا قال ( حليماً ) وقدّمها ؟
لأن مقالتكُم هذهِ أيُها المشركون تستوجب العذاب العاجل تستوجب ماذا ؟ العذاب العاجل لكنّ حلم الله عليكًُم أخّر عنكُم العذاب لكنّ حلم الله عليكًُم أخّر عنكُم العذاب .
أما قولهُ ( غفورا) فهذا فتحُ بابٍ لهُن أن يأُبوا ويتوبُوا فتحُ بابٍ لهُن أن يأُبوا ويتوبُوا أي أن المقالة التي تزعمُونها والمُعتقد الذي تبنيتمُوه تستحقون عليهِ العقاب العاجل لكنّ حلم الله أخّر عنكُم العذاب والأمرُ عند الله أعظمُ من ذالك فإن باب التوبة مفتوح لهذا قال( إنهُ كان حليماً غفورا)
وهذا ظاهرة جلية لمن أراد أن يتدبر القرآن .
ثم قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين :(11/11)
( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يُؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا وجعلنا على قلُوبهِم أكنّةً أن يفقهُوه وفي أذانهِم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحدهُ ولّوا على أدبارهِم نفورا نحنُ أعلمُ بما يستمعون بهِ إذا يستمعون إليك وإذ هُم نجوى إذ يقولُ الظالمون إن تتّبِعونَ إلا رجُلاً مسحُوراً )
الله يقول ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحدهُ )
تحتمل معنيين :
ذكرتهُ وحدهُ أي وصفتهُ بصفات التوحيد والتمجيد وأنهُ لا إله معه وهذا القول يدلُ عليهِ ظاهرُ القرآن ( إنّهُم كانوا إذا قيل لهُم لا إله إلا اللهُ يستكبرون ) أي إذا ذكرت ربك موحداً إياهَ نافياً عنهُ الشرك (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحدهُ ولّوا على أدبارهِم نفورا )
لم يقبلُوا منك هذا القول ونفروا عنك .
والأمر الثاني المعنى الثاني :
ــ ولا مانع من الأخذ بالمعنيين ـ
أن يكون المقصُود (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحدهُ ) أي كان حديثك عن اللهِ وحدهُ غير مُختلطٍ بأمور الدُنيا غير مُختلطٍ بأمور الدُنيا لكن قُلنا أن الأول أقوى في حق أهل الكُفر ودليلهُ أن الله يقول ( ذالكُم بأنهُ إذا ذُكر اللهُ وحدهُ كفرتُم وإن يُشرك بهِ تُؤمنوا فالحُكمُ لله العلي الكبير )
والمقصُودُ أن هؤلاء الكفرة يقول الله (حجاباً مستوراً) هذهِ مفعول أصلُها فاعل يعني حجاباً ساتراً .
لكنّ أهل العلم يقولون هل كان الحجاب حجاب بصر أم حجاب على القلب ؟
ظاهرُ الآية أنها حجابٌ على القلب .
ومن قال بأنهُ حجابٌ على البصر احتجّ بالقصة المعروفة :(11/12)
أن أُم جميل لمّا أنزل الله جل وعلا ( تبّت يدا أبي لهبٍ وتب ) أتت إلى أبي بكر وبجوارهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدها فهر ــ يعني حجر كبير ـ وتُريدُ أن ــ في زعمها ــ تضرب بهِ النبي صلى الله علية وسلم فقال أبو بكر رضي اللهُ تعالى عنه يُحذر النبي علية الصلاةُ والسلام قال إنّها لن تراني وقرأ آيات منها هذهِ الآية(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحدهُ ولّوا على أدبارهِم نفورا) .. إلى أن قال (حجاباً مستوراً)
فلمّا جاءت سالت أبا بكر قائلةً أنهُ بلغني أن صاحبك يهجوني فأخبرها أنهُ لا يهجوها فقالت :
مُذمماً أبينا ودينهُ قلينا وأمرهُ عصينا
شوف تقول مُذمماً واسمهُ مُحمد صلى الله عليه وسلم يعني ما كأنهُ الكلام يقع عليهِ
الذي يعنينا من هُنا أن الذين قالوا بحجاب الرُؤيا قالوا بهذا لكن هذي حالة فردية لا أظُنّها تأخُذ الحُكم وإنّما هؤلاء لما في قلُوبهم من الكُفر منعهُم اللهُ جل وعلا أن يفقهوُا كلامهُ وان يعتبروا بعضاتهِ وان يتعضوا بآياتهِ .
( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحدهُ ولّوا على أدبارهِم نفورا نحنُ أعلمُ بما يستمعون بهِ إذا يستمعون إليك وإذ هُم نجوى إذ يقولُ الظالمون إن تتّبِعونَ إلا رجُلاً مسحُوراً )
وردت في هذا آثار منها:
أن بعض قُريشٍ كان إذا أمسى يأتي إلى بيت النبي صلى الله علية وسلم وهو يقرأُ القرآن فيتخذُ مكاناً لا يرى فيهِ أحد يسمعُ منهُ قرأت النبي علية الصلاة والسلام ففعل هذا بعضٌ صناديدهِم ثم لمّا انصرفُوا آخر الليل جمعهُم الطريق فأخذُوا يتناجون فيما بينهُم ويتلاومون على أنهُم قبلُوا أن يسمعُوا قالوا لو رآنا عامةُ الناس لاحتجّوا بنا ولهذا مكثوا على هذا يومين أو ثلاثة ثم تعاهدوا ألا ألاّ يفعلُ فأخبر الهُ نبيهُ بهذا (نحنُ أعلمُ بما يستمعون بهِ إذا يستمعون إليك وإذ هُم نجوى إذ يقولُ الظالمون إن تتّبِعونَ إلا رجُلاً مسحُوراً )(11/13)
ولا ريب أن قولهُم (إن تتّبِعونَ إلا رجُلاً مسحُوراً ) واحداً من الأمثال التي ضربُوها و إلا قالوا إن النبي كاهن وأن النبي مجنون وإن النبي غيرُ ذالك كُل ذالك يحاولُ أن يردُوا بهِ ما سمعُوه من كلام الله لذالك قال الله مُتعجباً من صنيعِهم.
( أُنظُر كيف ضربُوا لك الأمثال فضلّوا )
أي لم يجدوا حيلة ولم يهتدوا سبيلاً في وصفك ولهذا قال الله بعدها ( فلا يستطيعون سبيلا ).
بقيت نُقطة مُهمة في هذا الأمر كُلهِ :
القلوب أوعية وخيرُ ما مُلئت بذكر الله والإنسانُ في قلبهِ يجدُ في قلبهِ ميلاً إلى شيءٍ ما فمن كان على الفطرة وُرُزق العلم وعرف السُنة وأحكم فهم القرآن يجدُ في نفسهِ ميلاً إلى تلك المجالس التي يُعظم فيها الله ومن كان في قلبهِ ضدُ ذالك كُلهِ لم يبق قلبهُ على الفطرة ولم ينهل من رحيق السُنة ولم يتدبّر القرآن ولم يرجُوا جنّةً ولم يخش نارا جُبل قلبهُ وطُبع ( فلّما زاغوا أزاغ اللهُ قلُوبهُم ) جُبل قلبهُ وطُبع على حُب الهوى و الانصرافِ إلى الأحاديث التي لا يكونُ فيها ذكرُ لرب جل وعلا .
وينجُم عن هذا قسوةُ قلبٍ لا يعلمُها إلا الله
وقد قال بعضُ أهل الفضل إنّ من أعظم الطرائق لمعرفة أين قلبُك من الله ؟
أن تجد راحة قلبك في المجالس التي يُعظمُ الله جل وعلا فيها ويُذكر .
وأنت ترى في زماننا هذا على وجه الخصوص أن كثيراً من الناس شُغل بما فيهِ صوراف مادية محسوسة تجاوزت حدها كانصراف البعض في سوق الأسهُم وإن كان أصلُ التجارةِ مُباح .
والأمرُ الثاني وهو أشدُ و أنكى :
الانصراف إلى الأقوال والمناظر التي تستهوي من تستهويهِ بما يُسمى بالفيديو كلب أو الأفلام أو الأغاني والتسابُق بما يُسمّى تلفزيونات الواقع أو غيرها ويُصبحُ شُغل الإنسان الشاغل ليل نهار في تلك الأمور وبعضُها ولو مثقال ذرة حرام لكن نحنُ نتكلمُ عمّا غلب عليهِ الطبع وانصرفت إليهِ النفس .(11/14)
فكُلّما زاد تعلُّق القلب عياذاً بالله بمثل هذه الصوراف كان بمنأىً عن الله
ولمّا كان بمنأىً على أن يرق قلبهُ إلى ذكر الله وإلى المجالس التي يُعظم فيها الله دلّ هذا على قُربهِ من طرائق أهل الإشراك وبُعدهِ عن رحمة الرب تبارك وتعالى .
وما نعى الله جل وعلا على أحد شيءً بأعظم من نعيهِ أن يشمئز قلبُهُ إذا ذُكر الله وهذا والعياذُ بالله مُنتهى الكُفر
... ... لا عرفناه لا بُكرةً ولا أصيلا
ــ هذا دُعاء ــ
لا عرفناه لا بُكرةً ولا أصيلا.
قال الله جل وعلا :
( وإذا ذُكر اللهُ وحدهُ اشمأزت قلُوبُ الذين لا يُؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دُنهِ إذا هُم يستبشرون )
وهذا نعي على قلوبٍ لا تحنُ ولا ترق إذا ذُكر الله جل وعلا والقرآنُ قبل أن نخوض في قواعدهِ النحوية وطرائق البُلغاء ومسالك الفُقُهاء يجب أن نفقه أن الله أنزله حتى يُؤثر في قلوبهِم ولهذا قد تمُرّ عليك ومرّ معنا علمياً كما قال الزركشيُ وغيرهُِ مرّ معنا آيات منسوخة ( ولا تقربوا الصلاة وأنتُم سُكارى ) أنت تعلم أن هذهِ الآية منسوخة لا يُعمل بها وكم في القرآن من آياتٍ منسوخة لكن لماذا بقيت لفظاً ؟
لأنها كلامُ من ؟ كلامُ الله فهي وإن كانت منسوخة عملاً لا نعملُ بها لكن كفانا شرفاً أن نعرف أنها كلامُ الله فيكون لها تأثير وواقع على قلُوبنا والإنسانُ يجبُ عليهِ أن يكون عليهِ رقيباُ حسيباً من نفسهِ يرقى بنفسهِ إلى معالي الأمور ويجعلها تقربُ دائماً من القرآن تتأدبُ بآدابهِ وتعملُ بأحكامهِ وتُؤمنُ بمُتشابهةِ .
وأعظمُ من ذالك الآيات التي يُخبرُ الله فيها عن ثنائهِ على نفسهِ ومدحهِ لذاتهِ العلية هذا الذي يُدنيك من طرائق من مسالك الكمال يُدنيك من الكبير المُتعال يُقرّبُك من ربك ويجعلُك على صراطٍ مُستقيم بيّن إذا كان القرآن هو الشيءُ الذي تأنسُ إلى تلاوتهِ وتُحبُ أن تسمعهُ .(11/15)
وقد قُلتُ في دروسٍ مُتفرقة كما أن من أخطائنا في التربية أن نُربي أنفُسنا على أن لا نسمع إلا لقارىء أو قارئين أو ثلاثة وهذا وإن كان أحياناً قد لا نستطيعُ الإنفكاك منه لأن الصوت الحسن لهُ دور " زيّنوا القرآن بأصواتكُم " لكن من أراد المُنتهى في الكمال بصرف النظر عمّن يتلو العبرةُ بالذي يُتلى وهو القرآن العبرةُ بالذي يُتلى وهو القرآن .
من هُنا يُفهم هذهِ الآيات في سياقهِا الحقيقي أن الله جل وعلا ينعى على أهل الإشراك بُغضهُم للهِ حتى إنهُم لا يجدُون لهُم مكاناً في مواطن يُعظم الله جل وعلا فيها فينفرون ويبتعدون وينسبون فاعلها إلى السحر .
وعلى النقيض من ذالك أهل الإيمان إذا سمعوا القرآن حنّت قلُوبهم ذرفت عيُونهُم اقشعرّت جلودهُم لأنهُ لا كلام بعد كلام الله .
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحدهُ ولّوا على أدبارهِم نفورا نحنُ أعلمُ بما يستمعون بهِ إذا يستمعون إليك وإذ هُم نجوى إذ يقولُ الظالمون إن تتّبِعونَ إلا رجُلاً مسحُوراً أُنظُر )
وهذي مسوقة على سبيل التعجُب والإنكار .
( أُنظُر كيف ضربُوا لك الأمثال) أي تشتتوا لا يدرون ماذا يقولون فيك يُبهرهُم كلامُك يعلمون عظيم خطابك لكنّهُم زاغوا فأزاغ الله قلُوبهم ولهذا قال الله جل وعلا ( أُنظُر كيف ضربُوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا)
أي لن يجدوا حيلةً ولا طريقة لوصفك الوصف الحق لأن الوصف الحق أنك نبيٌ ورسول وهؤلاء حال كُفرهُم وفجورهُم وبُغضهِم لربهِم أن يصفوك بالوصف الذي وصفك اللهُ جل وعلا بهِ .
إلى هُنا ينتهي خطابُنا لأن الآيات التي بعدها مُرتبطة بعضُها ببعض
( وقالوا أءذا كُنّا عظاماً ورُفاتاً أءنا لمبعوثون خلقاً جديدا )
فنُجمل ما حرّرناهُ سابقاً من أن الله جل وعلا ذكر في هذهِ الآيات المُباركة جُملةً من الآداب ختمها بقولهِ أنها من أعظم ما أعطاهُ نبيهُ ( ذالك ممّا أوحى إليك ربُك من الحكمة )(11/16)
ولمّا كان التوحيدُ راسُ الدين و مبدأُ الأمرِ ومُنتهاه وراسُ الحكمة أيضا حذّر اللهُ جل وعلا نبيهُ منه وذكر الأضرار الناجمة عنهُ ـ أي عن الشرك ـ الأضرار الناجمة عن الشرك دينياً ودُنيوياً حرّرناها في موضعها كما سمعتُم ..
هذا ما تيسّر إيرادُهُ وتهيأ إعدادهُ وأعان اللهُ جل وعلا على قولهِ وصلى اللهُ على مُحمدٍِ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ...(11/17)
الإسراء 7
من الآية ( 82) حتى الآية( 89)
الحمدُ لله الذي أحسن كُل شيءٍ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له إلهُ الأولين وإلهُ الآخرين ،، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليهِ وعلى آلهِ الطيبين الطاهرين وبعد
فقد انتهينا فيما سلف إلى قول الله جل وعلا ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا )
واليوم نستفتحُ قول ربنا جل وعلا :
( ونُنّزلُ من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا )
هذا القرآن بهِ أحيى الله جل وعلا القلوب وجعلهُ أعظم مُعجزةٍ لنبيهِ صلى الله عليه وسلم يعودُ الحديث عنه حيناً بعد حين في هذهِ الآيات العظيمة من سورة الإسراء السورة المكية ليُبين لهؤلاء القرُشيون أن دعواكم في نبذ هذا القرآن أو طلبكُم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتري غيرهُ أمرٌ لا سبيل إليهِ فيُكّرر عليهم ما يغيظ قلوبهم ويُثبت قلب نبيهِ ( ونُنزّل ) إشعارٌ إلى أن الأمر مُتتابع
( من القرآن )
هل هي بيانية أو بعضية ؟
بكُلٍ قال العُلماء ورجّح ابنُ القيم رحمةُ الله تعالى عليهِ على أن من هنا بيانية فيُصبح بهذا المعنى كُل القرآن شفاء ورحمه .،
وإذا قُلنا بأنها بعضية يُصبح المعنى أن القرآن كُلهُ رحمه بالاتفاق وكلهُ شفاء لأمراض القلوب من الشك والجهل والريب بالاتفاق لكن القضايا تكمن الخلاف يكمن في هل هو شفاءٌ كلهُ لما يُصيب الأبدان من جراحاتٍ وأسقامٍ وأضرابها هذا الذي فيهِ النزاع ؟؟
فذهب بعضُ العلماء إلى أنهُ كلهُ شفاء وجعلوا من هنا بيانية وأخذوا بعموم الآية ونُنزل من القرآن ما هو شفاء ورحمه.
لكن هل يلزم من قول البعض أن من بعضية أن بعض القرآن ليس بشفاء ؟؟
هذا لا يلزم
وقد قال ابنُ عطيةَ بهِ رحمةُ الله تعالى عليه في المحرر الوجيز أنه لا يلزم أن يكون ذالك قدحاً في القرآن ...(12/1)
والذي تطمأنُ إليه النفس أن يُعلم أن القرآن رحمة وشفاء بلا شك لكل أمراض القلوب المعنوية ولا يُوجد رحمة أعظم منه لآن فيه الهدى والنور لكن ما يتعلّق بأمراض الأبدان فهذهِ تبع وليست مقصودة ولو كانت مقصُودة لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة أن يتطببُ عند بعض من عُرف بالطب عند العرب
لأنهُ لا يُعقل أنهُ يجوز العدول عن الأمثل إلى ما هو دُونهُ
فكما أنهُ لا يجوز لأحد أن يبحث عن دواء بقلبه وريبهِ وجهلهِ وشكهِ أعظم من القرآن فكان القرآن كذالك في نفس المنزلة لمرض الأبدان لما جاز لأحد أن يذهب إلى الأطباء لكن القرآن أُنزل لأمراض الشك والريب والجهل وليكون رحمة تنفع المؤمن في دُنياه وأخرتهِ فالذي نُرجّحهُ أن ( من ) هنا بعضية والعلمُ عند الله .
( ونُنزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيدُ الظالمين إلا خسارا )
الخسارة التي ينالها الكافر زيادةً بسبب القرآن ليست ناجمة عن القرآن نفسهِ وإنما ناجمة عن كُفر الكافر أي أن عدم أهليتهِ لتقبُل رحمة الله هي التي جعلتهُ يزدادُ خسارا .
كيف يزدادُ خُسرانا ؟
أن القرآن يُصبحُ أعظم حُجةً عليهِ فيزداد خُسرانهُ لأنهُ يلقى الله جل وعلا بلا حُجة وقد قامت عليه الحُجج والشواهدُ والبراهين كما أثبت الله
وهذهِ الآية ظاهرة .
ثم قال الله ( وإذا أنعمنا على الإنسان )
أي جنس الإنسان في أصلهِ و إلا يُوجد من عباد الله من هو شاكرٌ ضال
(وإذا أنعمنا على الإنسان و نئا بجانبهِ )
أمّا جُملة (ونئا بجانبهِ) توكيد لجُملة (أعرض ) فالإعراضُ أيُها الأخُ المُبارك يكون أولاً بصفحة والوجه فإذا زاد الإنسانُ كبرا وعظمُ الطُغيان في نفسهِ أعطاك ظهرهُ فانتقل من الإعراض بصفحة الوجه إلى الإعراض بالكُلية..
فيكون ما بعد توكيداً لما قبل وهذا معنى قول الله (وإذا أنعمنا على الإنسان ونئا بجانبهِ )(12/2)
ومثلُ هذهِ الآيات وإن كانت تُعرّفُك ببعض البشر إلا أنها تدلُك من باب أولى على أنهُ قد يوجد في الناس من تُحسُ إليه ويُقابلُ إحسانك بالإساءة أو بالجحُود .
أُعلمهُ الرماية كُل يومٍ
فلمّا أشتد ساعدهُ رماني
وكم علّمتهُ نظم القوافي
فلّما قال قافيةً هجاني
فإذا كان الناسُ في تعاملُهم مع ربهم تبارك وتعالى يُعرضون بعد الإنعام فمن باب أولى أن يوجد منهُم من يُعرض عنك بعد أن تتفضّل عليهِ بشيءٍ من الإحسان .
(وإذا أنعمنا على الإنسان ونئا بجانبهِ وإذا مسّهُ الشرُ كان يئوساً )
لماذا دب اليأسُ في قلبه ؟
لجهلهِ بالله ، لجهلهِ بالله و إلاّ من عرف الله حقاً لا يُمكنُ أن ييأس من رحمتهِ أو أن يقنط من روحهِ لكن ذالك القنوط واليأس دبّ إلى قلبه لجهلهِ بالله ولهذا قال الله (وإذا مسّهُ الشرُ كان يئوساً )
قال الله بعدها : ـ حتى يُبين أن ليس الناس جميعاً على هذا المنوال والمنحى ــ
قال ( كُلٌ يعملُ على شاكلتهِ )
التحرير اللغوي للمسألة :
الشَكل أيُها المُبارك بالفتح معناها المثيل والنظير والضرب الشَكل بالفتح فتح الشين معناها المثيل والنظير والضرب ومنه قول الله جل وعلا ( وآخرُ من شَكلهِ أزواج ) في سورة { ص} ومنه قول الله جل وعلا ( وآخرُ من شَكلهِ أزواج ).
أما الشِكل بكسر الشين فهي الهيئة أما الشِكل بكسر الشين فهي الهيئة.
( قُل كُلٌ يعمل على شاكلتهِ )
الألفاظ التي قالها السلف في معنى الآية تتباعد وإن كان المعنى قد يكونُ قريباً والذي يظهرُ لي والعلمُ عند الله أن الله يقول لهُم كلٌ ــ يعني ــ ينبغي أن يُناسب عملهُ سريرتهُ ما هو عليهِ من الأخلاق والطباع ينبغي أن يوافقهُ العمل وفي هذا حثٌ لأهل الفساد إن كُنتُم تقولن أنكُم مستقيموُ الأنفُس فيجبُ عليكم أن تصلُح أعمالكم لأن من صلحُت سريرتهُ وجب أن يكون شكلهُ أي نظيرهُ وضريبةُ ومثيلهُ من العمل موافقاً لتلك الشخصية موافقاً لتلك الشخصية .(12/3)
( قُل كُلٌ يعمل على شاكلتهِ فربكُم أعلمُ بمن هو أهدى سبيلا )
وهذهِ مرت معنا في القلم .
على أن العُلماء بعضهُم إذا ذكر هذهِ الآية يتكلم عن قضية عفو الله جل وعلا ورحمتهِ وفضلهِ .
حُكي أن الصحابة رضي الله عنهُم في تدارسُهم للقرآن أخذُوا يتباحثون أيُ آيةٍ في كتاب الله أرجى :..
فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه قرأتُ القرآن كله من أولهِ إلى آخرة فلم أرى آيةً أعظم وأرجى من قول الله ( قُل كُلٌ يعمل على شاكلته ) ثمّ علّل قال فإن ما يُشاكلُ العبد العصيان وما يُشاكلُ الرب ــ من يُجيب ؟ على وزنها ؟ ــ الغُفران فإن ما يُشاكلُ العبد العصيان وما يُشاكلُ الرب الغُفران لأن الغُفران أليقُ بالرب كما أن العصيان أقرب إلى العبد .
وهذا يُروى كذالك عن عليٍ بوجهٍ آخر أنها أرجى آية في كتاب الله لأنهم قالوا إن الله جل وعلا سبقت رحمتهُ غضبهُ ،، في نفس الرواية قال عُمر رضي الله تعالى عنه قرأتُ القرآن كُلهُ من أولهِ إلى آخرة فلم أرى آيةٍ أعظم وأرجى من قول الله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم ( حم * تنزيلُ الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب ) قال قدّم غُفران الذنب على قبول التوبة قدّم غُفران الذنب على قبول التوبة .
فقال عُثمان وأنا قرأتُ القرآن كُلهُ من أولهِ إلى آخرة فلم أرى آيةٍ أرجى من قول الله جل وعلا ( نبأ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) .
وقال عليٌ رضي الله تعالى عنه وأرضاها قرأتُ القرآن كُلهُ من أولهِ إلى آخرة فلم أرى آيةٍ أرجى من قول الله ( قُل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفُسهم لا تقنطوا من رحمة الله )
كم قول الآن ؟
أربعة لأمةٍ كبار ، في رواية أُخرى لعلي .
قال القرطبيُ رحمهُ الله وأنا ـــ من القائل ؟ القرطبي ـــ وأنا قرأتُ القرآن كُلهُ من أولهِ إلى آخرة فلم أرى آيةٍ أرجى من قول الله ( الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهُم بظُلمٍ أُولئك لهُم الأمنُ وهم مهتدون ) .(12/4)
ولكُلٍ دليلهُ وهذهِ عظمة القرآن أنهُ كتابٌ مفتوح تجري في مضمارهِ أقدامُ العُلماء .
نعود إلى الآية ( قُل كُلٌ يعمل على شاكلتهِ فربكُم أعلمُ بمن هو أهدى سبيلا )
قال الله بعدها :
( و يسئلونك عن الروح )
الصياغة هنا تلحظُها أيُها المُبارك أن فيها تجهيل لمن سأل فلم يرد لهُ ذكر لماذا ؟
لأن سبب سؤالهِ التعنُت و المراء الذي طائل من وراءهٍِ ولهذا جل وعامل عاملهم أجابهم لكنهُ عاملهم بأن تجاهلهم ولم يذكرُهم .
وفي الصحيح وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهُ عبدُ الله ابنُ مسعود فمرّ على ملأٍ من اليهود ــ هذا على القول أن هذهِ الآية مدنية ،، وقول آخر أنها نزلت مرتين ـــ فمرّ على يهود فقال بعضهُم لبعضٍ سلوه لا تسألوه سلوه فسألوهُ يا أبا القاسم ما الروح ؟
فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل قال ابن مسعود فعلمتُ انهُ يُوحى إليهِ ثم قال تلا عليهم الآية ( و يسئلونك عن الروح قُل الروح من أمرِ ربي وما أُوتيتُم من العلم إلا قليلا )
سنتكلّم عن هذهِ الآية من وجوه :.
الأول :
ما المقصُود بالروح ؟
قال بعضُ العلماء أن الروح المقصُود بهِ هنا القرآن وحُجّتهُم أن الله سمّى القرآن ماذا ؟ روحاً قال الله جل وعلا ( وكذالك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) .
وقال بعضهم أن الروح هنا بمعنى عيسى ابن مريم ويُصبح السؤال عن عيسى ومن أدلة ذالك أن الله جل وعلا سمّى عيسى ابن مريم ( وروحٌ منه ) في تسميتهِ لعيسى عليه السلام .
وآخرون قال إنّ الروح هنا ملكٌ عظيمُ الخلقهِ وعنوا بهِ قول الله جل وعلا ( يوم يقوم الروح والملائكةُ صفا ) .
وقولٌ آخر إنهُ ملكٌ عظيمٌ جليلٌ هو من ؟ هو جبريل ( فأرسلنا إليها روحنا ).
كم قول أيُها المُبارك ؟
أربعة ، أربعة
الذي يترجح والعلم عند الله :
أن الروح هنا بمعنى القرين للبدن التي هي النفس القرين للبدن إذا ذُكر البدن تذكر التي هي ماذا النفس ؟
( و يسئلونك عن الروح قُل الروح من أمرِ ربي)(12/5)
أحياناً نقول نحنُ أن هذا من فرائد ماذا ؟ العلم
سُنعطيك واحدة أظُنّها من فرائد فرائد العلم "
ما معنى ( قُل الروح من أمر ربي ) ؟
هذا اختصاص علمي وليس اختصاص خلقي .
أعيد
قول الله جل وعلا ( قُل الروح من أمر ربي ) اختصاص علمي وليس اختصاص خلقي .
ما معنى اختصاص علمي وليس اختصاص خلقي ؟
الآن كون ءادم عليه السلام خلقهُ الله بيدهِ هذا اختصاص خلقي فخصّ الله جل وعلا ءادم بخصيصه لم يُعطها سائر الخلق لأنه خلقهُ بيدهِ حتى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يخلقهُ الله بيده هذا اختصاص ماذا ؟اختصاص خلقي .
وأمّا الروح فليس لها مزية في خلقها عن سائر المخلوقات لكن لها اختصاص علمي في أن الله جل وعلا أخفى كُنهها فلا يعرفُ سرّها أحد ..
إذاً قول ربنا جل وعلا ( من أمر ربي ) مقصُود بهِ أن هذهِ الروح خصّها الله بالاختصاص العلمي وليس الاختصاص الخلقي .
واضح الآن.
ظاهر ؟
جلي ــ ترى أنتُم حكمٌ لمن غيركُم إن لم يكُن ظاهر نُبين ـــ
هذا معنى قول الله ( و يسئلونك عن الروح قُل الروح من أمرِ ربي)
ثم قال الله ( وما أُوتيتُم من العلم إلا قليلا )
وما هنا نافية قطعاً وفيها دلالة على فضل العلم وعلى أن علم بني ءادم مهما امتد فيه ضآلة جداً أمام علم الله وأعظم شاهدٍ عليه قضية موسى والخضر وذالك الطير الذي نقر في البحر فقال الخضرُ لموسى " ما نقص علمي وعلمُك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائرُ بمنقارهِ من البحر "
.
قال الله بعدها :
( ولأن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) وهو ماذا ؟ القرآن . ( ثم لا تجدوا لك علينا بهِ وكيلا )
هذا من مشيئة الله التي لم تقع ولم يأذن الله بها ، لكن القضية هي بيان أن الله جل وعلا صاحبُ الفضل المحض على رسولهِ صلى الله عليه وسلم ولكن القرآن سيُرفع متى ؟
آخر الزمان سيُرفع في آخر الزمان .
( ولأن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجدوا لك علينا بهِ وكيلا * إلا رحمةً من ربك )(12/6)
يجبُ أن نقول أن الاستثناء هنا منقطع الاستثناء هنا منقطع.
والمعنى يُصبح : لكن رحمة الله جل وعلا عليك واسعة فلا يُمكن أن يقع مثلُ هذا الأمر .
( إن فضلهُ كان عليك كبيرا )
هذا تعميم وفضلُ الله جل وعلا واسعٌ جداً على نبيهِ دلّت عليهِ آياتٌ عده أعظمُها وأقربُها منّا ما هو قول الله قبلها بآيات ( عسى أن يبعثك ربُك مقاماً محمودا ) وإنزالُ الكتاب وكونهُ عليهِ الصلاةُ والسلام ختم الله بهِ النبوات ورحلة الإسراء والمعراج التي تكلم الله عنها في أول السورة كُلُ ذالك مُندرج في قول الله جل وعلا (إلا رحمةً من ربك إن فضلهُ كان عليك كبيرا )
ثم قال الله وهي الآيات التي نختمُ بها :
( قُل لأن اجتمعت الأنسُ والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ ولو كان بعضهُم لبعضٍ ظهيرا )
كما أنّ ذات الله لا يُشبهها ذات فكلامُ الله لا يُشبههُ كلام
لما قدّم الله الإنس هنا على الجن ؟
قُلنا مراراً يُنظر في السياق الذي من أجلهِ جاءت الآية لمّا ذكر الله الخلق قال ( وما خلقتُ الجن ولإنس إلا ليعبدون ) والجن أسبقُ خلقاً من الإنس خلق اللهُ الجآن قبل بني ءادم فقدمهُم .
فلمّا ذكر الله القوة قال ( يا معشر الجن والإنسِ إن استطعتُم أن تنفُذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسُلطان ) قدّم ماذا ؟ قدّم الجن .
ولمّا كان الإنسُ أفصح لساناً وأعظم بياناً قدّم اللهُ الإنس في مثل هذا الموقف ( قُل لأن اجتمعت الأنسُ والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ ولو كان بعضهُم لبعضٍ ظهيرا ).
يقولون إن أبا العلاء المعري المُسمي نفسهُ رهين المحبسين ، ما المحبسان ؟(12/7)
العمى ومكوث البيت رجلٌ كُفّ بصرهُ وهو صبي فأقبل على العلم ينهلُ منه وساعدهُ كونهُ كفيفاً أن يحفظ لماذا ؟ لأن الكفيف لا تتشعّب لا يتشعّب ذهنهُ فهو لا يرى شيئاً يُزاحمُ حفظهُ فيكون أقدر من غيرهِ على الحفظ ، أقبل على العربية وشعر العرب وتاريخهم وأيامهم حتى بلغ فيها شؤاً بعيداً وكان أحياناً يشُوبهُ شيءٌ من الإلحاد فيقولون أنهُ ذات يوم أراد أن ينظم أبياتاً يُعارضُ فيها القرآن فذكر أبياتاً يقوم محورُها على ذكر الفتاه في أن الوالدين يحفظان الفتاة ويُحرزانها ثم لا تلبث أن تموت وهي غادةٌ كعاب صغيره رغم حرص الوالدين على بقائها فتنتقل من حرز الوالدين إلى القبر ويُسمّي القبر حرزٌ حريزُ ثم قال في آخر بيتٍ :
يجوزُ أن تُبطئ المنايا ولكن الخُلد في الدُنيا لا يجوزُ
أو قال :
يجوزُ أن تُبطئ المنايا والخلدُ في الدُنيا لا يجُوزُ
حتى يستقيم البيت ، ثم انهُ تذكر قول الله ( إنّ في ) ذكر قول الله جل وعلا في سورة هو ( وما نُؤخرهُ إلا لأجلٍ معدود يوم يأتي لا تكلّمُ نفسٌ إلا بإذنهِ فمنهُم شقيٌ وسعيد )
فجثا على رُكبتيهِ وبكى بُكاءً طويلاً ثم رفع رأسهُ وقال " سُبحان من تكلم بهذا في القدم سُبحان من هذا كلامهُ "
وهذهِ شهادة مُعتبرهُ لا لرجُل لفضل الرجُل نفسهِ قُلنا هو أقرب للإلحاد لكن لكونهِ رجُلاً عالماً بالعربية وسبك الكلم وإمام مُقدّم في هذا الباب فالاعتراف من مثلهِ لهُ وضعهُ واعتبارهُ في أنّ كلام الله جل وعلا لا يعدلهُ كلامٌ أبداً ،،
تلا قول الله ( وما نُؤخرهُ إلا لأجلٍ معدود يوم يأتي لا تكلّمُ نفسٌ إلا بإذنهِ فمنهُم شقيٌ وسعيد ) فبكى بُكاءً شديداً وجثا على رُكبتيهِ ثم رفع رأسهُ وقال " سُبحان من تكلم بهذا في القدم سُبحان من هذا كلامهُ "
الذي يعنينا أيُها المباركون:
أن كلامُ الله جل وعلا لا يُمكن أن يُنازع ولا أن يُعارض ولا أن يلحق شأوهُ أحد كائناً من كان.
وقد قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين(12/8)
( قُل لأن اجتمعت الأنسُ والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ ولو كان بعضهُم لبعضٍ ظهيرا * ولقد صرّفنا لناسِ في هذا القرآن )
وعد ووعيد وأخبار وأوامر وشرائع ( من كُل مثل ) لكن من غلب عليه الكبرُ والعناد بدهيٌ أن يُعرض ( فأبى ) أي امتنع ( فأبى أكثرُ الناسِ إلا كفورا)
أي رداً لقول خالقهم وصداً عن هداية باريهم وهذا يقعُ أصلاً بقدر الله ممّا يدّلُ على أن الله جل وعلا خالقُ كُل شيء وهو مالكهُ ولهُ تبارك وتعالى عليه السُلطان الأعظم .
كُنّا قد ذكرنا أيُها المُباركون قضايا العتاب وأختمُ بها هذا اللقاء لأنني ضربتُ الذكر عنها نسياناً لا صفحاً في لقاءٍ قد سبق ..
تأصيل المسألة
بعد أن فرغنا لأن ما بعدها من الآيات مُنسجمٌ لوحدهِ ( وقالوا لن نُؤمن لك حتى تفجُر لنا من الأرض ينبوعا )
فنختم بقضايا الحديث عن على وجه الإصغاء على قضية العتاب في القرآن :
العلماء في هذا على ثلاثة أقسام :
// قسمٌ ينفيهِ ويستحي أن يُسمّي كلام الله لنبيهِ عتاباً .
// وقسمٌ في بعض الحيان يُثبتهُ إثباتاً غير مقبول كقول الزمخشري في تفسيره لقول الله جل وعلا ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقُوا وتعلم الكاذبين ) قال هذهِ كناية عن الجناية لأن العفو مُلازمٌ لها .
قال أبو حيّان في تعقُبهِ على الزمخشري قال وقول الزمخشري هذا ممّا يجبُ اطراحهُ فضلاً على أن يُرد عليهِ لأن هذا سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم .
// وآخرون يأخذون طريقاً وسطا يقولون وقع في القرآن عتاب لنبي صلى الله علية وسلم لكن المقصُود بهِ ــ أي هذا العتاب ــ بيان أنهُ صلى الله عليه وسلم كان من المُمكن أن يأخُذ الأولى والأفضل وليس هناك خطاٌ يُلامُ أو يُعاتب عليهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ ...
والآن سنقف على بعض ما عاتب الله بهِ نبيهِ سواءً في الكتاب والسُنة أو فيما دلّ الأمرُ عليهِ ..(12/9)
قال الله جل وعلا ( استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم )
عبد الله ابن أُبي على وجه الإجمال قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان هناك شبه إجماع على أن يُؤمّر فلمّا قدم النبي علية الصلاة والسلام المدينة انصرف الناسُ عنه بقيت في صدرهِ لشيءٍ كتبهُ الله أخذ يُظهر حُب يهود مرّت سنُون يُظهر النفاق ، ولغ في عرض عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، جاءت السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله علية وسلم إلى تبوك لمّا عاد أشتد مرضُ الوفاة على عبد الله ابنُ أُبي جاء ابنهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعاد النبي علية الصلاةُ والسلام عبد الله أبنُ أُبي في مرضهِ الذي مات فيهِ ،
أراد النبيُ أن ينجو بهِ قال قد كُنتُ نهيتُك عن حُب يهود فقال هذا الوقح [ قد كان أسعدُ ابنُ زُراره يُبغُضهم فمه ]
ما معنى العبارة ؟؟
الفاسق الفاجر إذا جئت تُحاورهُ لا يستقيم معك في الحديث يذهب بك ميمنة وميسرة.
النبيُ أراد ما لحق من النفاق وما أصابك من سوء الخاتمهِ إنّما أصلهُ تعاطُفك الشديد وحُبك لليهود وبُغضُك لأهل الإيمان ولم يُرد أن حُبك لليهود سببٌ في ماذا ؟ في الوفاة لأن الإنسان حب اليهود أو أبغضهُم سيموت .(12/10)
هذا الفاجر حوّل الخطاب يقول مُجيباً النبي صلى الله علية وسلم إنّ اسعد ابنُ زُراره صحابي جليل كان يُبغضُ يهود ومع ذالك لم ينجو من الموت يعني مات قبلي أراد أن يقول إنّ حُب اليهود أو بُغضهم ليس لهُ علاقة بالموت والنبي يعلم هذا لكنّهُ أراد أن يخرُج بالخطاب عن مسارهِ تركهُ صلى الله عليه وسلم لأن الله يقول ( فذّكر إن نّفعت الذكرى ) عاد إلى مقامهِ مات عبدُ الله ابنُ أُبي جاء إليهِ في ملأٍ من الصحابة أخبرهُ بوفاة أبيهِ وطلب الابنُ من نبينا صلى الله عليه وسلم أن يُعطيهُ قميصهُ ليكفّنهُ فيهِ فأعطاهُ قميصهُ فكُفّن عبدالله ابن أُبي في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات على الكُفر ونزل صلى الله عليه وسلم وصلى عليهِ من قبل .
أمّا الصلاة فلم يكن قد ورد النهي ( ولا تُصلي على أحدٍ منهُم مات أبدا ) نزلت بعدها .
يبقى سؤال : لماذا أعطى النبي صلى الله علية وسلم قميصهُ لعبد الله ابنُ أُبي ؟
والجواب ذو شقين :
الأول ..
إجابةٍ لابنهِ والمروءات يجبُ أن يُنافس فيها أهلُ الفضل ويستحي ذوُ الفضل أن يردُ السائلين فأجاب رجُلاً مُؤمناً إلى سؤلهِ هذا الأول .
والأمر الثاني ..
وهو الأهم والأبرز في يوم بدر كان من الأسارى العباس من العباس ؟ عمُ النبي صلى الله علية وسلم كان طويل القامة عظيم الجُثة لمّا أُسر لم يكُن عليهِ إلا ما يستُر عورته فأرادُ لهُ قميصاً وثوباً فلم يجدُ قميصاً أو ثوباً يُلائمُ جسدهُ إلا قميص عبد الله ابن أُبي فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر ثوب عبدالله ابن أُبي وأعطاهُ عمهُ فأصبح لعبد الله ابن أُبي يدٌ على من ؟ على النبي صلى الله عليه وسلم فأعطى النبيُ قميصُهُ لعبد الله يوم وفاتهِ ليُكافئهُ على تلك اليد.
قال سُفيان ابنُ عيُنه رحمهُ الله كانت لهُ يدٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحب رسول الله أن يُكافئهُ عليها ..(12/11)
ـــــ هذا خرجنا نحنُ بالموضوع لكن نعودُ إلى الموضوع نفسهِ ـــ
الله يقول لنبيهِ ( استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة )
هذهِ الآية تتضمّن الخبر والإنشاء لأن كلام العرب خبرٌ وإنشاء فالخبر ما يحتملُ التصديق أو التكذيب ، والإنشاء ما يكون فيهِ الطلب .
والآية معناها :
استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن ينفعهُم استغفارُك شيئاً فهذا الخبر ،، وقول الله استغفر هذا ماذا ؟ هذا أمر فالنبيُ صلى الله عليه وسلم خُيّر فاختار ما يُناسبُ سجيتهُ وشفقتهُ ورحمتهُ هذا من جُملة الآيات التي فيهنّ ظاهرُ العتاب لسيد ذوي الألباب صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
هذا ما ذيّلنا بهِ هذهِ الحلقة المُباركة تكلّمنا فيها عن ما أرجأنا الحديث عنهُ في لقاءٍ ماضي عن العتاب القرآني لنبينا صلى الله عليه وسلم وهو طويلٌ جداً عرّجنا على بعضهِ ونُكملُ بعضهُ حيناً آخر ..
وصلى الله على مُحمداً وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين
والسلامُ عليكمُ ورحمةُ الله وبركاتهُ(12/12)
"بسم الله الرحمن الرحيم"
البيت المسلم
لفضيلة الشيخ:
صالح بن عواد المغامسي.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له اعترافا بفضله وإذعانا لأمره خلق فسوى وقدر فهدى ، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا ، وشفيعنا محمدا عبده ورسوله أدى الأمانة وبلغ الرسالة ، ونصح الأمة حتى تركها صلوات الله وسلامه عليه على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغراء ، لايزيغ عنها إلا هالك . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وعلى من اقتفى آثارهم ، واتبع منهجهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها المؤمنون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وإليكم أحمد الله الذي لا إله إلا هو ، على أن جمعنا في بيت من بيوته نستذكر دينه ، ونتدارس شرعه ، ونلهج بذكره فسبحان ربنا يوفق لطاعته ، ثم يجزي على توفيقه وسبحان ربنا يهدي إلى الرشد ، ثم يثيب على هدايته فله وحده جل وعلا المنة والفضل من قبل ومن بعد وله وحده ـ تبارك وتعالى ـ الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير
معاشر المؤمنين
إن من الحقائق المسلمة أن الإسلام هو الدين الأوحد ، الذي تعبد به الخلائق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة دون سائر الملل والنحل ابتغاه الله جل وعلا لنفسه ، وارتضاه لعباده وشرعه لهم ( شرع لكم من الدين ماوصى به نوحا والذي أوحينا إليك وماوصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ).
ثم أيها المؤمنون :
من هذه الحقيقة يتضح أن كل أمر يقتبس من مشكاة الإسلام ، فلا بد أن يكون متميزا على ماسواه متفردا مستعليا على ماعداه لأنه مقتبس من مشكاة الإسلام المبني على هدي الوحيين الكتاب والسنة .
فإن قال قائل :
ماتقولون في تقهقر مسلمي العصر ؟ وتخلفهم عن ركب الحضارة ، وتقدم الأمم الكافرة ؟
قلنا مجيبين :(13/1)
إن ممايقع فيه سُذَّاج الناس ، وفلاسفة الغرب ، وزنادقة الشرق أنهم يقيسون حضارة الغرب بواقع المسلمين اليوم ولا يقيسونها بالإسلام كمنهج متكامل ، وإنما يقيسونها بحال المسلمين وماهم عليه الساعة من بعد عن دين الله جل وعلا متناسين أن هذا التقهقر والتخلف الذي أصاب أمة الإسلام اليوم ، إنما أصابها لبعدها عن دين الله جل وعلا .
ورحم الله القائل :
أبيت اللعن ما أدركت ديني
ولو أدركته لرأيت دينا
فكم يُعزى إلى الإسلام ذنب
وكل الذنب ذنب المسلمينا
على أن من أعظم المصائب التي أصبنا بها أن هناك من أبناء جلدتنا ، وممن يتكلمون بلغتنا، لم يقف بنا الأمر مع أولئك الكفار الظاهرين ، وإنما ظهر فينا أقوام والعياذ بالله مازالوا يطعنون في دين الله تبارك وتعالى ، ويهمزونه ويلمزونه متناسين أنه من عند الله جل وعلا فصرنا وإياهم كما قال الأول .
دعوت على عمرو فمات فسرني
فعاشرت أقواما بكيت على عمرو
فسبحان الله !
ما أجرأهم على الله !
وما أحلم الله الكريم العظيم عنهم !
وإنا لله وإنا إليه راجعون .
أيها الأحبة :
إننا نتحدث هذه الليلة عن البيت المسلم ، وهذا يطرح تساؤلات عدة عند كل من يسمع عنوان المحاضرة ، أو أن يريد أن يفقه تفاصيلها .
لم كان هذا العنوان ؟
ولم كان هذا الحديث ؟
فنقول مجيبين: أننا نتحدث عن البيت المسلم ، لأن رعاية البيت المسلم وعناية المسلم بأهل بيته هذا أيها المؤمن من هدي الأنبياء ، ومن سنن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
حكى الله تبارك وتعالى عن نوح أنه كان حريصا أشد الحرص رعاية وهداية ابنه. ( يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين *قال سئاوي إلى جبل يعصمني من الماء )
فلما غرق مازالت الرحمة في قلبه لأهل بيته ( فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين )(13/2)
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء ومن أعظم رؤوس ملة الإسلام صلوات الله وسلامه عليه كان رفيقا شفيقا حريصا على أن يهدي أباه للإسلام فكان اللسان الذي يتكلم به مع قومه خلاف الخطاب الذي يوجهه لأبيه ، لأن عنايته بأبيه كانت أعظم وأشد . ولذلك حكى الله عنه قوله : ( يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولايبصر ولايغني عنك شيئا .......) إلى آخر الآيات التي وردت وأثبتت كيف أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان حريصا على هداية أهل بيته وفي مقدمتهم أبوه آزر . ثم إن إبراهيم لما من الله عليه بالظهور والإستظهار في الأرض في مرض موته كان حريصا أن يبقى عنايته بأهل بيته أمرا مستمرا . فجمع بنيه في مرض موته كما أخبر الله عنه ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
ونقل الله جل وعلا في كتابه العظيم حكاية عن لقمان ذلك العبد الصالح أنه كان حريصا بأهل بيته ، فكان يقرب ابنه ويناجيه ويدعوه ويقول : ( يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )
هذا من مواعظ ووصايا لقمان لابنه ،ثم انتقل الأمر واستقر إلى هدي سيد الخلق . إلى رأس الملة وإمام الأمة صلوات الله وسلامه عليه فامتثل عليه الصلاة والسلام أمر ربه بقوله : (وأنذر عشيرتك الأقربين ) فكان صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يبلغ الدعوة إلى أهل بيته في المقام الأول ، وإن كان حرصه صلوات الله وسلامه عليه على الأمة جمعاء أمر لاينكره إلا جاحد كافر لايعلم من الدين ومن أخبار السيرة النبوية إلا القليل .
فنقول أيها المؤمنون :(13/3)
من هديه صلى الله عليه وسلم دعوة أهله ، ولذلك من تأمل السيرة النبوية العطرة ، وتلك الأيام الزاهرة وجد أن من أوائل المسلمين خديجة بنت خويلد ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة فهذه زوجته ، وهذا ابنه الذي تربى في بيته ، وإن كان ابن أخيه نسبا ، وذلك مولاه وربيبه في الأصل زيد بن حارثة . فكان أولئك القوم من أوائل المسلمين لأن الدعوة أصلا انطلقت من بيته صلوات الله وسلامه عليه . وكذلك كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من أول الرجال إسلاما لأنه كان الخليل المصاحب لنبينا صلوات الله وسلامه عليه .(13/4)
مما يدفعنا للحديث عن البيت المسلم أيها المؤمنون : أن البيت المسلم في هذا العصر أصبح مرمى وهدفا لسهام أهل الكفر ، أصبح مرمى وهدفا لرماح ومكر وكيد أولئك الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر مما أضحى حالهم لايخفى على أحد من رؤوس الكفر و الإلحاد والزندقة والعلمنة في الشرق والغرب ، الذين يريدون أن يقوضوا في البيت المسلم أركانه . ويهدموا بنيانه ، ويضيعوا إيمانه ، ويفسدوا فتياته وفتيانه . فعمدوا والعياذ بالله عمدوا إلى الأفلام الخليعة ، وإلى الأغاني الماجنة ، وإلى الروايات الفاضحة . ولجأوا إلى الدعوة إلى الحريات ، والدعوة إلى المساواة ، والدعوة إلى التنكر التام لكل موروث ، والدعوة إلى التقليد الأعمى وجعلوا من الغرب إلها يعبد من دون الله ظن الناس أن العبادة تنصرف في هيئات الصلاة ، والصيام ، وقد يحب الإنسان رجلا يجعله لله تبارك وتعالى ندا ، وقد يحب الرجل حضارة قوم حتى يؤمن بها ويسلم لها . فيترك ماشرع الله وماسن الله ـ جل وعلا ـ لعباده وأوليائه فيعرض عنه ، ويقبل على حضارة كافرة وعلى مايزعم أنها أعطيات العصر وأطروحاته فيفر إليها ويستسلم لها . وربما عبدها من دون الله وهو لايشعر (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) فهذا الأمر يجعل الحديث عن البيت المسلم أمرا ملحا وأمرا لابد منه في هذا العصر على الأقل . لأن ذلك المكر وذلك الكيد الذي دعوا إليه إنما هو في الحقيقة ألوية خفاقة وشعارات براقة في ظاهرها ، ولكن وراءها الشر المستطير لأنها تدعوا إلى إبليس وجنده ( قال أرءيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا *قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاءً موفورا*واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليه بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا*إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا )(13/5)
سلك الله بنا وبكم طريق عباده الصالحين .
أيها المؤمنون :
نتحدث عن البيت المسلم ، لأننا نرى أن من المسوغات الشرعية للحديث عنه أن بيت المسلم أعظم قلاعه وآخر حصونه فإذا هدم هدمت هذه القلاع ، وقوضت هذه الحصون أثمر ذلك ـ والعياذ بالله ـ عن الضلالة وعن الزيغ بعد الرشاد .
والمسلم مطالب بسد هذه الثغرة سدا عظيما لايؤتى الإسلام ـ أيها الأخ الكريم ـ من قبلك في بيتك لأن هذا البيت الذي أنت فيه مسؤول عنه أمام الله تبارك وتعالى .
ونتحدث عن البيت المسلم لأنه لايوجد مؤمن تقي على مانعلم إن كان مؤمنا بالله حقا إلا وهو يود أن يرزقه الله الجنة فالجنة غاية الأماني ، ومنتهى الآمال ، ومع أن المؤمن يسعى لئن يرزقه الله الجنة هو كذلك حريص على أن يرزقه الله وأهل بيته الجنة .
فما أسعد المؤمن إن قرن الله بينه وبين أهل بيته في جنات النعيم قال تبارك وتعالى : (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ومآألتناهم من عملهم من شئ كل امرئ بما كسب رهين ) والله تبارك وتعالى يقول : ( أفلم يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر ألوا الألباب*الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق*والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) إلى أن قال جل وعلا : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )(13/6)
نتحدث أيها المسلمون عن البيت المسلم ، لأننا نعتقد جازمين أن رعاية المؤمن لبيته ، ورعايته لأولاده على وجه الخصوص ينشأ عن ذلك جيل مؤمن ، وينشأ عن ذلك نشئٌ صالحين يقومون بتأدية الواجب في أمة الإسلام. فهذا هو الطريق الحق للإصلاح وللدعوة إلى الله وللسعي في إعلاء كلمته. أما أن يبدأ الإنسان من قمة الهرم ، فيسعى في سفك دماء المسلمين ، وتقويض مصالحهم ، وتأجيج العامة وإثارة الدهماء . وما إلى ذلك من الطرائق التي ماأنزل الله بها من دين ولابرهان ولاسلطان ، هذا ما أمر الله به ولم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وإننا نعوذ بالله أن نظن في أنفسنا أننا أعظم هديا أو أشد فكرا أو أنجح طريقة من قول لله الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم يقول ربنا تبارك وتعالى (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) إن من لم يعجبه قول الله وقول رسوله هدي الله وهدي رسوله فلا أعجبه شئ قط لأنه إنما يسعى إلى الباطل ولن يسعى إلى الحق في شئ . فعناية المؤمن ببيته وإصلاحه لأهله وزجته وأولاده ينشأ عنه ذلك الجيل والنشئ الصالح الذين يقدمهم ذخرا لأمة الإسلام وسندا لدعوة سيد الأنام صلوات الله عليه وسلم .
ثم نقول أيها المؤمنون :
ما المعنى المراد من البيت المسلم ؟
كلمة البيت إما أن تطلق فيراد بها ـ معشر الأحبة ـ الجدران والحيطان ، الشرفات والأورقه، الغرفات والمجالس.
وهذا نظيره قول الله جل وعلا : ( إن بيوتنا عورة وماهي بعورة ) على لسان المنافقين . وقصدوا أن البيوت والجدران والحيطان التي يسكنونها مكشوفة للعدو ، ومنه كذلك يحمل قول ميسون زوج أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه .
لبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إلي من قصر منيف
وكلب ينبح الطراق دوني
أحب إلي من قط أليفِ
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف(13/7)
فإنها قصدت أن مضارب قومها في البادية أحب إليها من بيت أمير المؤمنين ،ولم تقصد أن العشرة مع معاوية أسوأ لديها من العشرة مع رجال قومها .
وقد يطلق البيت أيها الأحبة يراد به أهله ،سكانه ، يراد به عمّاره ومن هذا قول الله جل وعلا في كتابه :"فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين* فما وجدنا فيها غير بيت من الممسلمين"
جزم أهل التفسير على أن المعني به لوط وبنتاه صلوات الله وسلامه عليه ،فالله نجى لوطا وبنتيه ولم ينج الجدران والحيطان والغرف والأمكنة التي كان يسكنها لوط عليه السلام .
وأحيانا تضاف كلمة أهل إلى كلمة بيت فيكون المقصود البيت وعمّاره ومن هذا قول الله جل وعلا :"يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيرا"
وقول الله على لسان أخت موسى :"وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون*وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون".قلنا في مقدمة المحاضرة كان من مشكاة الإسلام....... أن يكون متميزا تميزا كلياً عن بيوت الكفروالشرك والإلحاد و يكون متميز تميزاً جزئيا عن بيوت عصاة المؤمنين الذين لم يخرجوا من ربقة الإسلام ولا من حظيرة الدين ولكن لهم من المعاصي والآثام مالهم وهذا الأمر أو هذا الجزء يكون بمقدار ما استسقى ذلك البيت من منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن لبيوت المسلمين مايميزها وأعظم ما يميز البيت المسلم ذلك الإيمان الذي يضفى على البيت ويجلل أهله حتى تراه على مُحياهم وعلى عيونهم فقد ترى الرجل وأهل بيته لا تجد ما يجمعهم من العروق أو مايجمهم من الدماء قد يكونوا في الهيئة مختلفين ولكنك ترى وميضا من نور وقبسا من الهداية على مُحياهم فتعرف من النظر إليهم أنهم أهل بيت واحد. ذلك يا أخي أن الله جل جلاله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب .(13/8)
ـ إذا أردت أن تعرف مقام رجل عند الله جل وعلا فانظر إلى الإيمان في قلبه وانظر إلى مدى إقباله على الله ، إقباله على الطاعة فذلك مكانته عند ربه .رأى الحسن البصري أقواما يعصون الله جل جلاله فنظر إليهم وبكى ثم قال :قال هانوا على الله فعصوه ولو عزُّوا عليه لعصمهم الله جل وعلا إذا أحب عبدا عصمه عن السيئات أحجمه عن اقتراف الذنوب وهذا يدل عل أن الله تبارك وتعالى يحبه أما إذا أمهل الله العبد وجعله يستغرق في المعاصي،أما إذا أطلق الله لعبده العنان وجعله يرتع في المعاصي فإن ذلك يدل على هوان ذلك العبد على الله أسأل الله لي ولكم في هذا المقام العافية من ذلك كله.
فنقول إن أعظم مايميز بيوت المسلمين ذلك الإيمان الذي يجلل ذلك البيت ويظهر على محيا أهل ذلك البيت ولذلك ورد أن نصارى نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ النبي صلى اله عليه وسلم يجادلهم بالتي هي أحسن في قضية إثبات أن عيسى لم يكن يوماً قط ولداً لله قال الله بعدها " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبناءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين" دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين أهل بيته وأخرجهم ليباهل أساقفة نجران من النصارى وقال إذا أنا دعوت فأمنوا ورد في بعض الآثار أن أولئك الأساقفة لما رأوا نور الأيمان على محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته قال بعضهم لبعض إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيح الجبال عن أمكنتها لأزالها فكيف تباهلونهم؟؟؟
فامتنعوا عن مباهلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وقبلوا بالجزية كما هو معروف مشتهر في السيرة .(13/9)
والمقصود أن هذا الإيمان الواقر في قلوب البيت هو أعظم مايميز بيوت المسلمين عما سواها وهذا الإيمان له ثمرات تجعل من هذا التميز أمراً عاليا مستعليا على غيره ومن أعظم ذلك المسارعة إلى الطاعات والمسابقة إلى الخيرات ،الله جل وعلا أثنى على آل زكريا بقوله:"وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين" وأثنى على داود وآله بقوله:" اعملوا ءآل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور" ولا ريب أيها المؤمنون أن المسلمين عالمهم وعامتهم متفقون على أنه مامن شيء بعد الشهادتين أعظم من المحافظة على الصلاة في وقتها فمحافظة أهل البيت الواحد على الصلاة في وقتها من أعظم الأدلة على أن هذا البيت بيت مسلم لأن الصلاة عماد الدين أمر الله بها في أكثر من مائة آية في كتابه الكريم على ما أحفظ الساعة وندب الله جل وعلا إليها خلقه أجمعين بلا استثناء وأوجبها الله حضرا وسفرا وأوجبها الله صحة ومرضا وأوجبها الله حربا وسلما "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" فبمقدار أخذ أهل البيت وإقبالهم على هذه الطاعة يدل ويعرف تميزهم عن غيرهم من بيوت المسلمين لذلك من البيوت والعياذ بالله من يسمعون الآذان بعد الآذان والنداء بعد النداء والصلاة بعد الصلاة ولا ترى منهم والعياذ بالله من يقوم ويخرج إلى المسجد ليعفر وجهه لله جل جلاله فإذا حلت بهم النوازل ونزلت بهم المصائب رفعوا أكف الضراعة والدعاء إلى الله سبحان من تناقض الموقفين ! لو عبدته في السراء لأجابك في الضراء وإن كان الله جل وعلا قد يجيب بعض عباده وإن لم يكن له من الخير شئ ( وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعدا قائِما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ( قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ) أعاذنا الله وإياكم من ذلك فنقول إن الصلاة يجب أن يحرص رب الأسرة في المقام الأول على أن يجعل من نفسه لأبنائه قدوة في السعي إلى(13/10)
الصلاة .
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نعلم أنه طعن وهو في المحراب في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفل سرته رضي الله تعالى عنه فتراجع إلى الخلف وجسده يثعب دما وينزف جراحا أين ذهب والله لم يذهب إلىقسم الطوارئ ولم يقل للناس اقطعوا صلاتكم فإني مطعون وقف رضي الله تعالى عنه وأرضاه في الصف وقدم عبد الرحمن بن عوف للصلاة و........رضي الله تعالى عنه قائما في الصف يصلي مع المسلمين فلما كلمه الناس قال تلك الكلمة العظيمة:(13/11)
قال لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فإذا كان هذا الصحابي الجليل يصلي جماعة وهذا حاله .ومن الناس و العياذ بالله من يغضب إذا تسابق أبناءه إلى إيقاضه للصلاة صلاة الفجر أو صلاة العصر وينزل غضبه وسخطه على أهل بيته كيف تجاوزوا الحدود واقتحموا غرفة النوم كيف تجرأ هذا الابن على أن يحرك قدمي أبيه ويدعوه إلى الصلاة وكان من المفروض أن يحمد الله على أن أخرج من صلبه ابنا يدعوه إلى عبادة الله تبارك وتعالى ويذكره بشعائر الدين ولذلك ترى البيت المحافظ على الصلاة ترى ذلك منعكسا حتى على الغرف وعلى الجدران وعلى الحيطان ترى في البيت سجاده مطويه ورداء امرأة تقيه ترى مصحفا قد وضعت وسطه علامة تدل على أنه قد قرئ فيه منذ قريب أما تلك البيوت التي لا تعرف الصلاة لا تجد في غرفات البيت وعند حيطانه إلا أعقاب السجائر وأوراق البلوت وما إلى ذلك من الدلائل على أن في هذا البيت تنتهك حرمات الله تبارك وتعالى وكما ينبغي على الوالد أن يجعل من نفسه قدوة في صلاة الفرض ينبغي عليه أن يجعل منها قدوة في صلاة الليل . دخل صلى الله عليه وسلم فهو الأسوة و القدوة دخل على علي وفاطمة وهما راقدان على فراشهما لم يناما بعد فقال ألا تستيقظان ألا تصليان فقالا يا رسول الله أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثها بعثها فخرج صلى الله عليه وسلم مغضبا يضرب على فخذه ويقول : ( وكان الإنسان أكثر شئ جدلا ) فرعاية الرجل لأهل بيته وتفقدهم إياه في قضية الصلاة على وجه الخصوص إنما يدل دلاله جلية على تميز ذلك ذلك الأب وذلك الراعي في بيته على أن أهل هذا البيت مسلمون قريبون من الله جل وعلا وكما ينعكس أداء الصلاة على نواحي البيت وأورقته ينعكس على حتى على الأطفال إذا زرت أخا لك في الله عُرف عنه صلاته وقرب إليك أبناؤه لتداعبهم وتكلمهم تجد أن الطفل عفويا يقوم بحركة الصلاة ـ ودخلت والله بيوت بعض أبنائها يرفع يديه كأنه قائم في(13/12)
صلاة الوتر ـ فتعرف مباشرة أن هذا الابن لم يأتي بهذا الشئ من عنده وإنما حاك أبويه أو أحدهما أو حاك أخا من إخوانه . وبعض البيوت عافانا الله وإياكم تدخلها فيقرب إليك الأبناء والبنات فإذا هم يتمايلون ويتراقصون طربا ، وكل يحكي وينبئ عما يراه وكل يحكي وينبئ عما يراه وهذا أمر معروف مشتهر لأن الابن جبل على الإقتداء والاقتفاء بأبيه أو بأمه أو بكبار أهل بيته .
ـ كذلك أيها المؤمنون مما يميز البيوت المسلمة وينبغي أن تكون عليه التآخي والمحبة هذه الدنيا غالبا هي أسباب الخصام بين الناس.
فإن تجتنبها تجتنبها بعزة
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
هذا أمر لا يختلف عليه اثنان والبيوت المسلمة ينبغي أن تبنى على المودة والمحبة والرحمة ( ومن ءآياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ولكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم فمن بعض أفراد الأسر من إذا حدث بينه وبين أحد إخوانه في البيت خصام أو جدال عارض جعل منه أمرا كبيرا فوسع الفجوة واشترط على أهل بيته ألا يكلموا فلان وأخذ يرى من معه ومن ضده فاتسع الخرق على الراقع وضاق الأمر على من يريد أن يصلح بينهم واتسعت الفجوة ولم يبقى للإصلاح موطنا ولا سبيلا . الكبار أيها الأحبة العظماء في الناس مثل هذه الأمور لا يتنازلون إليها يترفعون على أن يجاري أحد من بيتهم أو من غير بيتهم في السباب والشتائم . الكبار فقط الربانيون فقط هم الذين يحتوون هذه المشاكل ويتقبلون أن يتنازلوا عن بعض حقوقهم وقد قالت العرب في أمثالها
إذا عز أخوك فهن
أي تنازل قليلا لأنه إذا أنت أمير وأنا أمير كما قد قيل فمن يسوق الحمير لابد للناس من أن يتنازل بعضهم عن بعض والتنازل إنما يقوم به من هو أعظم شأنا وأقرب إلى الله جل وعلا
ولا أشكوا تلون أهل ود
ولو أجدت شكايتهم شكوت
إذا جرحت مساؤهم فؤادي
صبرت على الإساءة وانطويت
ورحت إليهم طلق المحيا(13/13)
كأني ماسمعت ولا رأيت
ولا والله ما أضمرت غدرا
كما قد أضمروه ولا نويت
ويوم الحشر موقفا وتبدوا
صحيفة ماجنوه وما جنيت
ولكننا نكون أحسن حالا ونقول حتى يوم الحشر نسأل الله أن يغفر لهم ويعفوا عنهم ولانريد من أحد حاجة ـ على هذا ينبغي أن ينشأ المسلمون ـ والحق أننا نعتب على بعض الشباب الملتزمين قلة الفقه في دين الله تبارك وتعالى فحصروا الدين في العبادات في الصلوات والصيام وإن كانت في الدين من المقام الأعلى المعروف ولكنها قطعا ليست الدين كله لذلك ينبغي أن يعرف الشاب المسلم دوره ومسؤوليته في البيت فمن الشباب من يظلم زوجته ويظلم أولاده بحجة بره لوالديه ، ومن الشباب من يكون فيه العكس فيظلم والديه بحجة حديث قوله صلى الله عليه وسلم ( خيركم خيركم لأهله ) فيظلم الوالدين فإن كلمته ، قال يا أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( خيركم خيركم لأهله ) وإذا ظلم زوجته على حساب والدته وأرشدته ، قال نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : ( الزمها فثم الجنة ) قال ( ففيهما فجاهد ) الذي ينبغي أن يعرف أولا لايمكن أن يكون في أوامر الله تعارض ، و لايمكن أن يكون في نواهي تناقض ، التناقض والتعارض في ذهن هذا الشاب وليس في دين الله تبارك وتعالى من شئ إنه صلى الله عليه وسلم قيد الطاعة بقوله : ( إنما الطاعة في المعروف ) فلا يجوز أن تظلم الزوجة على حساب الوالدين ولا يجوز أن يظلم الوالدين على حساب الزوجة ، ولكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه كما أمر الله وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فمن غضب بعد ذلك فإنما غضب من الحق ولم يغضب من الباطل ، وقلنا إن القاعدة إن من لم يرضيه الحق لا يرضيه شئ وقد قيل والمريض القلب تجرحه الحقيقة ، فالربانيون الذين يسترشدون بهدي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم يتبع المنهج الواضح الذي بينه الله وبينه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في التعامل مع الزوجة في التعامل مع الوالدين . في التعامل مع(13/14)
الأولاد . والمقصود أنه ينبغي أن يعم البيت المسلم التآخي والألفة والمحبة ومن أسباب قيام هذا التآخي أن يؤدي كل شخص في البيت حقه على الوجه الأكمل ، فمن الناس من تراه خلف وراءه والدين لا يسأل عنهما ، وزوجة مهملة ، وأولاد في الشارع ضائعين ، ثم يذهب إلى فرح أو إلى زواج ويثني ركبته ليحدث الناس عن إعفاء اللحية وتقصير الثوب فيرمي دين الله جل وعلا بما ليس فيه ترك ما هو أعظم وأخذ يحدث الناس فيما هو أهون وإن كان ليس في دين الله شئ هين بالمعنى المعروف ، ولكن المقصود أن هناك أولويات وأهم ومهم وينبغي إلى العبد أن يعرف أن الدين يؤخذ جملة أو يترك جملة أما أن تأخذ من الدين ما تقدر عليه أنت وتترك من الدين مالا تقدر عليه ومالا يوافق هواك فإن هذا مرضا في نفسك وليس نقصا في دين الله تبارك وتعالى ، كذلك أيها الحبة مما يعين على التآخي والمحبة بين المسلمين أن يترفعوا عن النبز بالألقاب ، غالبا في بعض البيوت تجد كل شخص في الأسرة له نبز معين يناديه إخوانه به يافلان ويافلان حتى أضحى أمرا مشتهرا والله جل جلاله يقول : ( قل لعبادي يقولوا للتي هي أحسن ) لماذا ياربنا ؟ ( إن الشيطان ينزغ بينهم ) لما ينزغ بينهم ؟ ( إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ) عدوك لايمكن أن يريد بك الخير أبدا ، فالترفع عن مثل هذه الأمور أمر واجب ، مع أنه أحيانا تجد هذا الشاب الذي ينبز إخوانه في البيت تجده خارج البيت في أدب وكمال ويستحي أن يقول لصاحبه يافلان بل يكنيه يدعوه بأحب أسمائه إليه فسبحان! الله كيف يوزعون خيرهم على الناس ويحرمون أهل بيتهم من خيرهم والظن والأولى بهم أن يجمعوا خيرهم في أهل بيتهم ولغيرهم فالمسلم عنده المصداقية في التعامل مع كل أحد قريب كان أو بعيدا ، ثم نقول أيها المؤمنون إن مما يميز بيوت المسلمين كذلك الحياء الحياء يقول عنه صلى الله عليه وسلم ( شعبه من شعب الإيمان)(ولا يأتي إلا بخير ) ولاريب إن الحياء في النساء(13/15)
أوكد منه في حق الرجال ولما كان الحياء جانبا عظيما وركنا منيعا في حياة المرأة المسلمة لجأ دعاة الرذيلة وأعداء الإسلام إلى تقويض ذلك الأمر وهدمه في بيوت المسلمين لجأوا إليه لأنهم يعلمون أن المرأة إذا فقدت حيائها هان عليها أن تصنع كل شئ هان عليها أن تقتحم أي لجج. هان أن تنتهك محارم الله تبارك وتعالى . فلجأوا ـ والعياذ بالله ـ بكلمات معسولة ودعاوى كاذبة وأراجيف ليست من الحق في شئ إلى أن تفقد المرأة حيائها زاعمين أن ذلك هو التطور وما تقتضيه متطلبات العصر وما يقتضيه...... في ركب الحضارة وما إلى ذلك من الكلمات الموهومة والأراجيف الكاذبة كما بينا سلفا ونحن نظن والله تعالى أعلم أن الناس كلما خرجوا عن الفطرة ونظروا إلى الحضارة المعاصرة فقدوا شيئا من الفطرة والقبول عند الناس وبيان ذلك : أن الحضارة فيما أعتقده حضارتان حضارة بالمعنى التقليدي المعروف الشائع بين الناس وحضارة بمعنى محاكاة أهل الغرب وتقليد أولئك الذين انسلخوا من الأخلاق والقيم والمبادئ هذه الحضارة الثانية حضارة لايمكن أن ينالها الإنسان إلا بأن ينسلخ من الفطرة التي فطر الله عباده عليها ولذلك لو رأيت امرأة تعيش في الصحراء في مضارب قومها تحتطب طيلة النهار ثم إذا أقبل المساء حملت مااحتطبته على رأسها وأقبلت على مضارب قومها تريد بيتها فلربما رأت رجلا عارضا عابرا فإذا رأته ارتعدت فرائسها وتغير لونها وربما ألقت ذلك الجهد التي كانت تعمل فيه طيلة يومها ألقته على الأرض ولربما فرت هاربه حياء وحشمه وخوفا أن تظن بها الظنون أو تنكشف لها عورة أو أن تبدوا منها سوءة ، هذا الذي دفعها لأنها ما عرفت ولا رأت ولم تعكف أمام شاشات التلفاز لترى نساء الغرب كيف يتقمسن وينسلخن من المبادئ والقيم وما دعا الله جل وعلا من الستر والحياء والحشمة وقد يكون فيمن رأى ذلك من الحياء والحشمة لا ينفى عنه بالكلية لكنه لا يكون في ذلك المستوى في مستوى امرأة لم تعرف(13/16)
ذلك الأمر ولم تره ولم تعود عيناه على رؤيته وفي هذا قال أبو الطيب :
من الجآدل في زي الأعاريب
حمر الحلى والمطايا والجلابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ضباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجب
فالتكلف هو الذي يجعل المرأة تنسلخ من حيائها شيئا فشيئا حتى أن هناك من البرامج التلفازية التي تبث في بعض القنوات من يأتي بامرأة قد أسلمت شعرها ورأسها بين يدي رجل تزعم أنه يصفف لها الشعر فيتمايل في رأسها ميمنة وميسرة ليوهم الناس ومن يرونهم من معاشر المؤمنين الغافلات يوهموهم أن هذا هو عين الحضارة وعين التطور وما ساد أمثال هؤلاء وما برزوا إلا لغياب الرجال الغيورين الناصحين ، وثق تماما أنه لا يخلوا مكان من حق إلا ويملى بباطل ، ولا يخلوا مكان من سنة إلا ويملى ببدعة ، ولا يخلوا مكانا من رجال غيورين إلا ويملى بأشباه الرجال ، وهذا شبيه بما تعرفه العرب في قصصها ورواتها أن كليب وائل كان أعز العرب وأمنعهم حما وحصنا وكان هذا الرجل في الجاهلية يأتي بالجراء من الكلاب فيرميها في الصحراء فأينما نبحت تلك الكلاب أصبحت حما له لا يسعى أحد فيه إلا بأذنه فكانت العرب تظرب به المثل في العزة فيقولون في أمثالهم :
أعز من كليب وائل
ثم إن هذا قتل كما هو معروف في حرب البسوس كان قومه أيام حياته عندما تحل بالقبيلة المصائب والنوازل والحروب يجتمعون كمجلس للقبيلة فيأتي كليب هذا يقول الرأي ويصوت عليه ويدعوا له ولا أحد يجادله ولا أحد يمانعه ولا أحد يستطيع أن يقول له هذا نعم هذا حق وهذا باطل فلما مات ساد بعده أقوام عدة حتى إنه عندما تجتمع القبيلة في المجلس ا كالعادة سابقا عندما يجتمعون فيعرضون المشكلة كان في السابق أيام كليب لا يتكلم أحد فلما مات لا يسكت أحد كلهم يتكلمون وكل يعلو صوته لأنهم فقدوا ذلك الرجل العزيز فلما رآهم مهلهل ربيعة أخو كليب قال بيته المشهور :
ذهب الخيار من المعاشر كلهم(13/17)
واستب بعدك يا كليب المجلس
وتشاور أمر كل عظيمة
لوكنت حاضرا أمرهم لم.....
فهذا والأمر الذي ذكرناه سواء لما غاب الرجال الغيورون غاب الرجال الذين يمنعون الحمى ويحفظون الحرمات ويحفظون العار لما غابوا ساد أولئك الأراذل وانتشر أولئك الفساق وأصبحوا يقدمون عبر التلفاز وعبر غيره ما يشتهون من دواعي الحرمات ودواعي العلمنة ودواعي انتهاك ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأحسن من هذا كله أن الله جل وعلا أخبر في كتابه ودعا تبارك وتعالى دعا إلى الحياء والعفة والحشمة عبر القصص القرآني فأخبر تبارك وتعالى عن ابنه شعيب وكيف أنها قدمت على موسى تمشي على استحياء قال الله جل وعلا (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا )وأخبر الله تبارك وتعالى عن مريم وحيائها وعفتها لما رأت جبرائيل في هيئه رجل استعاذت بالله مباشرة (قالت أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا)أي إن كنت تقيا فتركني ودعني في سبيلي وهذا الذى ينبغي أن يحرص عليه نساء المؤمنين ونحن نقول إن هذا الحياء إنما يظهر على المرأة في زيها ولبسها يظهر على البيت المسلم في أفراحهم يظهر على البيت المسلم فيما ينظرون إليه ويستمعون إليه فإن كانت الأسرة المسلمة ذات حياء وحشمه انعكس ذلك على الأفراح فلم يكن في أفراحهم أغاني ماجنة ولارقص متعكس ولادعوات إلى الرذائل والتخنع وما إلى ذلك من أسباب(13/18)
الفجور وترى بناتهم في زي ساتر ومحتشم وإن كان الأمر والعياذ بالله عكسيا رأيتهم في أفرحهم لا يبالون من يدعون ومن يتركون ورأيت نسائهم وبناتهم لا يبالون ماذا يلبسن وماذا يرتدين مما أمر الله به أمر أو مما نهى الله جل جلاله عنه ومهمة رب الأسرة تتضح هنا بجلاء فالرجل في مثل هذه الأمور ينبغي أن يكون حازما ولا يعني الحزم أن يصل الأمر إلى حد العنف لكن سددوا وقاربوا وإظهار الحزم في هذه المواطن هو عين الحكمة لأنه ينبغي على المؤمن أن لا يكون ديوثاً سببا في دعوة أهله إلى الفجور وسكوته على باطلهم ولعل الوقت يسعفنا ويبارك الله فيه في ذكر ما يميز بيوت المسلمين ونعتذر عن الاسترسال في القول فنقول رابع ما يميز بيوت المسلمين المسلمة رعاية الأبناء وتربيتهم تربيه إسلامية صادقه وهذا والله بيت.... والخيط المفقود والغائب المنشود لأنه يجب على المسلم أن يعنى عناية تامة ببيته وأولاده ورعايتهم وتنشئتهم تنشئه اسلاميه وأول ما ينبغي عليه :أن يؤمن هو أولا بأهمية هذه الرسالة .
قف دونا رأيك في الحياة مجاهداً
إن الحياة عقيدة وجهاد(13/19)
إذا كان إيمان العبد ضعيف العبد وإيمان العبد برسالة محمد صلى الله عليه وسلم هش لين من الطبعي أن لا يكون لديه الدافع الكبير والعظيم إلى أن يعنى بأولاده وتربيتهم وتنشئتهم تنشئه اسلاميه كذلك ينبغي على المؤمن أولاً أن يعرف بماذا يبدأ وبماذا ينتهي وماذا يقدم وماذا يؤخر؟ فأول ما ينبغي أن يعنى به أن يغرس في قلوب الناشئة حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم فأما حب الله فهو والله المنزلة التي شمر إليها العاملون وسعى إليها المؤمنون وأزهق أعمارهم وأفنى أوقاتهم فيها الأخيار المباركون لأن حب الله ينجم عنه كل خير وبغض الله كفر وإلحاد وشرك وبوار وخلود في نار جهنم يقول الله جل وعلا (ومن الناس من يتخذ من دون أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءآمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب)كيف يحب أبناءك ربهم جل جلاله ؟! ذكرهم بنعم الله ذكرهم بآلاءه اتلوا عليهم بعض آياته اقصص عليهم قبل النوم فضل الله ونعمه على زيد وعلى عمرو وما أكثر نعم الله وفضله والحذر أن تخبرهم عن النار وعن الجحيم وعن العذاب والسطوة لأن أفق الابن في ذالك السن لا يساعده على أن يفهم على أن الله أراد أن يخوف بذلك العصاة والملحدين والمشركين وربما ذهب ذهنه وفكره إلى أمور لا تليق بذات الله تبارك وتعالى .(13/20)
ثانياً :ينبغي أن يغرس في قلوب الأبناء محبة رسول الله صلى الله وسلم وهذا أمر يجب أن نحرص عليه أجمعين لأن حب رسول الله دين وملة وقربة لايماري في هذا اثنان فإذا كان العبد مسرورا ومحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومات على التوحيد فإنه يرجى له الخير العظيم لحديث أنس أن أعرابيا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قال : وما أعددت لها قال ما عددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس والله ما فرحنا بعد إسلامنا بشئ أعظم من فرحنا بهذا الحديث ، ومما ينبغي أن ينشأ عليه الأبناء الأمر بالصلاة والأمر بالأذكار المشروعة والأمر بالآداب الإسلامية لما في الصحيحين من حديث عمرو بن سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي أن يدا عمرو تطيش في الصفحة فقال يا غلام سم الله وأكل بيمينك وأكل مما يليك قال : عمرو فما زالت تلك طعمتي بعد أي من بعد أن دعاني إليها وحثني عليها وأرشدني إليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وما ينبغي أن يبني عليه الناس أبناؤهم أظنه معروف مشتهر ولكنني سأركز على الجانب الذي يمنع بعض الآباء من رعاية أبنائهم من الآباء كما أسلفت من يكون الإيمان ضعيف في قلبه وفاقد الشئ لا يعطيه .
إذا كان الغراب دليل قوم
دلهم على جيف الكلاب(13/21)
الأمر الثاني : أن تغلب عاطفة الأبوة أو عاطفة الأمومة على تعظيم أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول الأب إن للنجاح فرحة وإن للتفوق بهجة فلامانع من أن أبعث ولدي إلى ديار الكفر فربما اشترى له التذاكر وهو يعلم يقينا أنه هذا الابن يسافر إلى ديار الغرب للفحشاء والفجور ومع ذلك والعياذ بالله يعينه على معصية الله تبارك وتعالى لماذا ؟ لأن إعظام الله في قلب هذا العبد ليس في المستوى المطلوب يظن أنه بعاطفة الأبوة وسماع عاطفة الأمومة يحقق الغرض المنشود لابنه وكان ينبغي أن يعظم أمر الله في قلبه أعظم من محبته لولده ، وبعض الناس يظن أنه إذا عظم الله خسر الناس ووالله إنك لن تكسب الناس إلا إذا عظمت الله جل وعلا . كان هناك قاضيا من القضاة يكنى بأبي محمد في عهد الدولة العباسية فكانت البصرة وكان والي البصرة يومئذ الأمير عيسى ابن موسى فجاءت امرأة واشتكت الأمير أي الوالي على عند القاضي فبعث القاضي بحاجبه إلى أمير البلدة يستدعيه فبعث الأمير إلى القاضي يقول له : كيف أجلس مع امرأة في مجلس العامة فلما جاء الحاجب ليخبر القاضي بهذا سجنه القاضي فلما علم الأمير أرسل لصاحب الشرطة وقال له ابعث إلى للقاضي أبي محمد وكلمه في هذا الأمر فجمع صاحب الشرطة حاشيته وقدموا على القاضي وأخبروه فقال تسعى في معصية الله وسجنه مع الحاجب الأول فلما جاء الليل قام الأمير وأفرج عن صاحب الشرطة وعن بقية الحرس فلما علم القاضي في الصباح بهذا الشأن قال والله ماطلبنا القضاة من بني العباس وإنما اكرهونا عليه إكراها فركب دابته يمم شطر بغداد يريد أن يعتذر للخليفة من القضاء فلما علم الوالي خاف على منصبه منصب الأمارة فرجع ووقف للقاضي في الطريق وأخذ يستعطفه أن يرجع كرة أخرى قال لن أرجع إلا بشرطين :ـ
*ترد جميع من أطلقت سراحه .
*وتقف أنت مع المرأة في مجلس القضاة.(13/22)
فقال الأمير : نعم خوفا على منصبه فرجعوا وأدخلهم السجن فلما وقف الأمير أمام القاضي قال إن كان دعواها صادقة فأنا تنازلت وإن كانت دعواها كاذبة فأنا وهبتها تلك الحديقة فرارا من الوقوف في مجلس القضاء فلما أخذت المرأة حقها وانصرفت ـ انظر هنا إلى المصداقية في التعامل وإلى الفقه في الدين ـ لما أخذت المرأة حقها وانصرفت قام هذا القاضي وقدم مشروبا إلى الأمير وقال أهلا وسهلا بأمرائنا وأجلسه في صدر المجلس فتعجب الأمير قال : ما هذا يا أبا محمد قال كذلك أمرنا أن نصنع بالخصوم وهكذا أمرنا أن نصنع بالأمراء فلما خرجوا قال عيسى ابن موسى تلك الكلمة الشهيرة التي دوت في أذن التاريخ خرج من عند أبي محمد وهو يقول من عظم الله أذل الله له عظماء خلقه من عظم الله أذل الله له عظماء خلقه وهذا أمر لا يجادل فيه اثنان كان مالك رحمة الله تعالى عليه يعظم الله فلا يجلس في مجلس الحديث إلا وقد توضأ وتطهر حتى نقل عنه أنه لدغته العقرب ما لدغته واستحيا أن يقطع حديثا لأن فيه قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فلما دخل مالك على أبي جعفر المنصور وعند أبي جعفر أبناؤه كان أبناء أبي جعفر يرتعدون فرقا ويختبؤن خلف أبيهم هيبة من مالك رحمه الله تعالى عليه فنقول للآباء لو عظمت أمر الله ونهيت ابنك عن هذا الأمر لأكبرك ابنك في عينيه ولأجلك في قلبه لكنه والله يسافر إلى ديار الغرب والشرق ويقول بلسان العامة ـ وعذرا إن قلناها في مسجد ـ يقول أبوي..... أروح أجي ما يكلمني في شئ وثم إن الخطأ الأكبر ربما يابني الأقدار بيد الله ربما يا أخي لا يرجع إليك ابنك فماذا يكون حالك لو بلغت عبر برقية أو عبر الهاتف بنعي ابنك ونعاه الناس إليك كيف يكون حالك وقد قدمته إلى المعاصي وبوءت بإثمه وإثمك ( هاأنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ) ولكن ينبغي على الأب أن يعظم أمر الله قبل أن يعظم عاطفة(13/23)
الأبوة وقبل أن يعظم عاطفة الأمومة وقبل أن يجنح أن يحاكي الجيران وأبناء الأصدقاء وما يفعله ذوي الجاه وذوي الثراء فإن الحق أحق أن يتبع ، كذلك مما نجده مانعا في قيام الناس بهذا الواجب أن بعض الناس يدب إليهم اليأس يقولون الحمد لله هذا آخر الزمان وفتن ومعروفة والهادي فيها الله يكبر ويعقل من الكلمات هذه ويترك الحبل على الغارب دون أن يضع شئ وينسى أن الله جل جلاله سيسأله عما استرعاه عليه حفظ أم ضيع أنت قل ما عليك بعد ذلك ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( ما على الرسول إلا البلاغ ) لكن لا يعفى أحد من القيام بالمسؤولية كل قدر استطاعته وقدر ما كلفه الله جل وعلا به .(13/24)
ثم إن من مميزات البيت المسلم أيها المؤمنون : الصبر على أقدار الله جل وعلا نحن نعلم يقينا أن هذه الدنيا صحة مشوبة بسقم وسرور ممزوج بألم تضحك وتسر يطبق فيها إخبار الله لقدرته ( وأنه هو أضحك وأبكى *وأنه هو أمات وأحيا*وأنه هو أغنى وأقنى ) فالناس غني وفقير ضاحك وباك مسرور ومحزون شقي وسعيد وما إلى ذلك من الفوارق من الأسر من تسأل الله ليلا ونهارا نعمة الولد ومن الأسر من تسأل الله جل وعلا رزقا ومالا لأفواه أبنائها الذين لا يحصى لهم عدد ومن الأسر من رزق أبناء وهو يتضرع إلى الله يسأله البنات ومن الأسر من رزق البنات وهو يتضرع إلى الله أن يرزقه ابن ومن الأسر من فيهم ذاعاهه ومن الأسر من إذا قارب الشهر الانتصاف لم يجد في جيبه ولا في بيته ولافي مدخره ما يعينه على بقية مصروفه ثم يستذكر قول الله جل وعلا ( وكائن من دابة لاتحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ) فيصبر على قدر الله وهناك أنواع كثيرة من الابتلاء لا يحصى لها عدد من الناس من لا يجد له مكانا ولاقدرا بين أسرته من الشباب من يهمز ويلمز ويسخر منه ويستهزأ به بين والديه وبين أهله لأنه أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم كل هذا يحتاج إلى صبر على أقدار الله جل وعلا والسعيد من علم أن الله تبارك وتعالى خلق كل شئ بقدر ويوفي الصابرين يوم القيامة أجرهم بغير حساب ، ورد في مسند أحمد " أن الله تبارك وتعالى تقول له الملائكة يوم القيامة ربنا نحن عبادك وخزنة سماواتك والمسبحين بقدسك أدخلنا الجنة قبل المؤمنين فيقول تبارك وتعالى لا لا ثم يدخل الفقراء المستضعفين في الأرض المؤمنين فيقول إنهم كانوا عباد يؤمنون بي ولا يشركون بي شيئا يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء " كم في هذا الناس اليوم والله كثيرا مما أعلم أنا فقط وما يعلمه غيري أكثر من الناس من لا يستطيع أن يهدي ابنه هدية النجاح من الآباء من لا يستطيع أن يقدم لأهل بيته طعامين في يوم واحد(13/25)
ومنهم كثير ومنهم من لا يستطيع أن يقوم بعلاج ابنه وإن كان هناك المعونة من الدولة والمعونة من الناس والمعونة من أهل الخير والمعونة من أهل الثراء لكن أن يكون هناك فقراء وهنا أغنياء شئ لابد منه وإلا لنتفى الفتنة وانتفى الابتلاء وانتفى الاختبار وهذا يخالف سنن الله الكونية التي لاتتبدل ولا تتغير في عهد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كان هناك أغنياء وهناك فقراء عبد الرحمن بن عوف مات ثم قسم الذهب الذي تركه بالفؤوس . وكان رجال من أهل الصفة قائم أحدهم لا يستطيع أن يقوم لحظات معينه إنما يسقط من شدة الجوع ليبتلى الله هؤلاء بهؤلاء ولكنني أركز على قضية أن أهل البيت المسلم ماذا يصنعون ؟ يصبرون يمشي الرجل لا يقول للناس أبنائي اتعبوني فعلوا بي مطالبهم كثير ه ويشكوا الله إلى خلقه والمرأة لا تمشي بين جاراتها وتقول فلان مقصر فلان مايدخرلنا رزق فلان يفعل ويفعل ويترك لا ينبغي هذا أبداً إبراهيم عليه السلام لما وضع هاجر وإسماعيل جاءهم بعد مده فلما طرق البيت سأل عن إسماعيل فقالت له زوجته إنه خرج في الصحراء قال فما حالكم ؟قالت في شر حال طعام قليل وأخذ تشتكي إليه فقال إذا جاء فاقرئيه منى السلام وقولي له غير عتبة بابك فلما عاد إسماعيل كأنه أنس شيئا قال هل جاءكم من أحد قالت نعم جاءنا شيخ كبير هذه هيئته قال ما قال لكم قالت سألنا عن حالنا فأخبرته أننا في شر حال قال أوصاك بشئ قالت نعم أوصاني أن أخبرك بأن تغير عتبة بابك قال ذلك أبي أوصاني أن أطلقك فانصرفي إلى أهلك ثم عاد إبراهيم كرة أخرى بعد أن تزوج إسماعيل امرأة أخرى من جرهم فلما طرق الباب لم يجد إسماعيل فسأل عنه فقالت في الصحراء قال ما حالكم قالت في أحسن حال وأخذ تثني على الوضع القائم في البيت فدعا لهما إبراهيم بالبركة ثم قال إذا جاء فاقرئيه منى السلام وأصيه أن يبقي عتبة بابه فلما جاء إسماعيل حصل ما حصل في الأول قال أوصاك بشيء قالت نعم أوصاني بأن(13/26)
أخبرك أن يقرئك السلام ويأمرك أن تبقى عتبة بابك قال ذاك أبي أوصاني أن أبقيك موضع الشاهد: أن التعاون بين أفراد البيت الواحد يعين على نوائب الدهر ولا ينبغي أن يتحمل المسؤولية فرد واحد ولكن التآخي والمحبة والتعاون والتكاتف يعين على نوائب الدهر مع احتساب الأجر عند الله جل وعلا وحتى في المصائب الطارئة كفقد الولد أو فقد الوالدة أوفقد عزيز ينبغي أن يكون في بيت المسلمين الإيمان واليقين الكامل بلقاء الله جل وعلا مر صلى الله عليه وسلم على قبر وعنده امرأة تبكي فقال لها عليه الصلاة والسلام اتقي الله واصبري قالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فلم ولى صلى الله عليه وسلم أخبروها بأنه رسول الله فجاءته واعتذرت إليه قال إنما الصبر عند الصدمة الأولى كذلك ينبغي على كل من ابتلى بشئ من هذا أو قدر له أن يبتلى به أن يعلم أن ما عند الله خير وأبقى وأن لله ما أعطى ولله ما أخذ كان هناك صحابياً يترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له فقال عليه الصلاة والسلام لذلك الصحابي يا فلان أتحب هذا أي ابنك قال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فقده ذات يوم فقال عليه الصلاة والسلام ما صنع فلان قالوا يا رسول الله مات ابنه فلما لقيه صلى الله عليه وسلم قال ما فعل ابنك قال مات يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق:أما يسرك أنك لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك يأخذ بردائك فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم لنا كلنا قال بل لكم كلكم.فهذا الحديث وأمثاله يعزي المؤمنين تعزى بالله فإن في الله عوضاً عن كل مفقود وخلفا من كل أحد والسعيد من ابتلي فصبر وانعم عليه فشكر وأذنب فاستغفر خاتمة ما يميز البيوت المسلمة العدل وبالعدل قامت السماوات و الأرض والعدل بين الزوجات ممن كان عنده أكثر من واحده أمر مفروض شرعاً قال الله تبارك وتعالى يأمر بالعدل ويدعوا إليه:((فإن(13/27)
خفتم ألا تعدلوا فواحدة))دلالة على أن العدل شرط مطلوب وإن كان العدل المطلق أمر يكاد يكون في ضرب المستحيلات ولذلك قال الله جل وعلا:((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)) وكما يجب العدل بين النساء يجب العدل بين الأبناء ومن الآباء غفر الله لهم من يصرف محبته وعطاياه وهواه وتدليله لواحد من بنيه هذا المتفوق هذا الذي فيه الأمل هذا الذي سيفعل وسيترك وهذا الذي سيكون له شأن أما فلان وفلان من أبناءه فإنه مضرب الذكر عنهم صفحا ويهمزهم يلمزهم وينتقصهم أمام الناس وهذا علاوة على أنه أمر محرم كذلك أيها
الأحبة فيه من معصية الله جل وعلا مافيه لما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير" أن أباه قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنني نحلت ابني هذا غلام فاشهد عليه فقال: صلى الله عليه وسلم أكل بنيك نحلته مثل هذا قال : لا. قال : فاشهد على هذا غيري "وفي رواية فإني لا أشهد على جور " وفي رواية أخرى أتريد منهم أن يكونوا في البر سواء قال : نعم ، قال : فذلك إذا كما تريد من أبنائك أن يكونوا كلهم بارين بك كذلك الأبناء يريدون منك أن تكون معطيا بارا قائما بحقوقهم أجمعين " كما أن التفاضل بين الأبناء يورث العداوة والشحناء والبغضاء بينهم ولذلك قال إخوة يوسف ( اقتلوا يوسف أو طرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ) لأن وجه أبيهم في الأول كان مصروفا إلى يوسف عليه الصلاة والسلام أكثر من غيره من إخوته . عذرا أيها الأحبة إن أطلت وعفوا إن قصرت فما أردت إلا الخير ما استطعت فالله جل وعلا أسأل أن يبارك لي ولكم فيما نقول ونسمع وبعد رفع الآذان إن شاء الله تعالى سنجيب عن الأسئلة ووفقنا الله وإياكم لكل عمل صالح رشيد وجنبنا الله وإياكم سطوة يوم الوعيد وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعوداً على بدء:(13/28)
س /هذه سائلة تقول هل يجوز للمرأة أن تذهب إلى فرح يوجد به من المعاصي مالله به عليم من موسيقى وطبول وتبرج فاضح فكيف تعمل إذا كان هذا كان هذا الزواج من الأقارب الخاصة وجزاكم الله خيرا؟
&/ مثل هذه الأفراح لا يجوز حضورها أبداً لأن حضورها من التعاون على الإثم والعدوان واستماع ما حرم الله جل وعلا أن يستمع ولكن إذا كان لأهل الدعوة صلة رحم توجب الوفاء بهم فإن على المرأة أن تتخذ واحدا من أمرين إما أن تحضر العرس أو الفرح قبل أن يشرعوا في تلك الملهيات ثم تعتذر إليهم وأحب إلي أن تعتذر إليهم بأنهم عصوا الله ذلك الذي منعها من برهم حتى يعلموا مردود معصية الله جل وعلا عليهم
والحل الثاني :أنها تنتظر بعد انتهاء الفرح ثم تأخذ شيئا من الهدايا وتقدم به على أصحاب الدعوة وتعتذر إليهم وتهدي إليهم لتبين أن أهل الإيمان و أهل الإسلام لا يقصرون في واجب وإنما يمنعهم من ذلك من انتشر من المعاصي وما سادها من الفتن والله تعالى أعلم.
س/هناك بيت نظنه ملتزم ولا نزكي على الله أحدا ولا يوجد بينهم الملهيات الحديثة كالتلفاز وغيره ولكن هناك بعض المسليات بما يسمونها مثل لعبة الورقة يلعبها الصغار و الكبار و في أثناء الفراغ وخصوصا في العطلة الصيفية فماذا نقول لصاحب هذا البيت؟(13/29)
&/هو فاتني أن أنبه إلى مسالة مهمة يا إخوة لا يحمل كلامنا على مالم نقصده ليس معنا أن من اختل فيه شرط ممن قلناه أنه ليس بيت مسلم لكننا نتكلم عن البيت المسلم الأمثل الأكمل هذا واحد أما جوابنا على هذا السؤال فإن اللعب تختلف في حلها وحرمتها وأنا يبدوا لي في هذا الأمر قاعدة إذا كانت اللعبة تعتمد على حظ فهي إلى الحرام أقرب وإذا كانت اللعبة ليست فيها شئ من الحظ بمعنى ليس فيا زهر ليس فيها شئ من ....... هذه إذا كانت ليس فيها شئ من هذا تعتمد على القدرات فقط كلعبة التنس وما شابه ذلك وكرة القدم وبعض الألعاب التي في البيوت هذه أقرب إلى الحل وإلى الإباحة ولا أرى في الشرع ما يمنعها أماالعطله فإنه ينبغي أن يعلم أن الأبناء لا ينبغي كرههم على الدين كرها لكن ضيق الوقت في المحاضرة حرمنا من أن ننبه على بعض الأمور ،الله ذكر أولاد الأنبياء فقالوا :"أرسله معنا غدا يرتع ويلعب "فلا حرج على المؤمن أن يأخذ أبناءه يرتعون في غيرما حرم الله جل وعلا لكن الحرج أن يدعوهم أو يقرهم على مافيه معصية ظاهرة لله تبارك وتعالى .
س/ يقول ماحكم من زوج ابنه وهو يعلم أنه لا يصلي وهل تجاب دعوته والحظور عنده وماذا علينا إذا حضرنا لعدم قطع صلة الرحم وجزاكم الله خيرا؟(13/30)
&/الصلاة أعظم أركان الدين والخلاف في أن تارك الصلاة دون جحود يكفر أو لا يكفر مسألة خلافية بين العلماء مذهب جمهور العلماء أنه لا يكفر ومذهب أحمد وإسحاق بن راهويه ومن تبعهم من الأئمة وأهل الفتوى أنه يكفر وبما أن المسألة كما هو معلوم لمن تدبر الشرع أن فيها خلاف ظاهر بين أهل العلم وهي من مسائل الدين الكبرى فلا نرى أنه يقطع بالكلية لأنه يبقى على الظن أنه لم يخرج من الإسلام قط بناء على فتوى من قال بأنه لا يكفر من أهل العلم ولكن إذا كنا نعلم أن في حضورنا له تأييداً له على هذا الأمر لا نحضر ولكن إن كنا نعلم أن في حضورنا تغيير لبعض المنكرات وإعانة له على أن يراجع نفسه في هذا الذنب العظيم حضرنا لأن وراءه أمر خير ورشيد.
س/لقد ابتلاني الله بجيران وأقارب يضربون أولادي ويكسرون سيارتي ولقد أثر ذلك على بيتي من كثرة المشاكل فما هوالحل؟
&/يقول عمر بن الخطاب مرووا ذوا القربات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا فإن استطعت أن تنتقل من ذلك الحي وتحتسب ذلك عند الله هذا أولى وأبر وأذهب للمشاكل وإن لم يكن فعليك بالصبر وحاول مع العقلاء في الأسرة الثانية قدر الإمكان شيئا فشيئا أن يخفف من هذا الأمر لكن لا تتعرض للصغار ولا تنزل إلى مستوى أخلاقهم وأفعالهم فإنهم يفعلونه عن جهل في الغالب.
س/هذا يقول إنني أبر أمي ولكن تعاملني بأخلاق سيئة ماذا أعمل معها ؟
&/لو سألتنا عن آحاد المسلمين لقلنا لك اصبر فماذا وقد سألتنا عن أمك اصبر أكثر وأكثر وأعلم أن هذا من الطرائق إلى الجنة قال يا رسول الله لي ذوي قربات يمنعونني وأعطيهم وكذا وكذا قال كأنك تسفهم المل أي الرماد الحار هذا هو الذي فيه الأجر وهذا هو الذي فيه القربى من الله تبارك وتعالى وإلا إذا كافأ الإنسان من يكافئه هذه واحده بواحده ولكن الخير في أن نتقرب إلى الله فيمن يمنعوننا حقنا ومع ذلك نتقرب إلى الله جل وعلا بآداء حقوقهم .(13/31)
س/يقول لقد ذكرت حديث ما ذكر عن يخفف عن أبي لهب وفرحته بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي يستشهد به ذكر طائفة من الناس على المولد فكيف الرد على من يقول بذلك وجزاك الله خيرا؟
&/نحن نقول هذا دين لا مجاملة فيه لأحد ولا مداهنة فيه لزيد ولا لعمرو ولا لبيئة ولا لأقوال أحد ، الحق يجب أن يعلم يرضى زيد يغضب عمرو ليس من شأننا الحق يجب أن يعرفه الناس يجب أن يربي الناس ،بعض الناس مثلا يقول أنا ما اسمي الحسن والحسين لماذا عافاك الله؟ قال حتى لا يحسبوا إني شيعي يا أخي أنت أولى بهذا من الشيعة الشيعة دعاوى باطلة الرافضة دعاوى كاذبة أهل أهل السنة أولى بأن يسموا الحسن والحسين والعباس والفضل هؤلاء قرابة نبينا صلى الله عليه وسلم كذلك المولد باطل شرعا ليس هناك دليل على أن المولد أمر جائز شرعا فحديث أبي لهب ليس فيه لكل عاقل عالم ما يدل على شرعية المولد هذا الحديث كان معروفا بين الصحابة مشتهرا بينهم العباس نفسه رواه لما العباس لم يفعل المولد؟ لأنه ليس في الحديث ما يدل على المولد فأنا لا أخفي هذا الحديث خوفا من أن تأتي طائفة تفهمه خطا من يفهم خطا لا يحرمني من إظهار الحق نحن نقول الحق أينما كان إذا رأينا أن في قوله مصلحة شرعية وإنما نخفيه فقط إلى أمد إلى وقت محدد حتى لأن كتمان العلم لا يجوز ولكن أن نذهب بالدين كله لا نتكلم عن الرسول حتى لا يقال إننا من أهل الموالد لا نسمي الحسن والحسين حتى لا يقال أننا رافضة لا نفعل كذا حتى لا يقال تركنا الدين كله للناس نحن نفعل ماهو حق وما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وإن شابه تلك الحسنه ما يفعله غيرنا من أهل البدع والضلالة أو من أهل الكفر والإلحاد .
س/هذا يقول فضيلة الشيخ أجد أنني مقصر في حق الله وأقع في المعاصي بسهولة فهل دعوة جديدة لي فهل دعوة لي ولأمثالي من العصاة لنستغفر الله؟(13/32)
&/والله أنا أدعوا نفسي قبل أن أدعوك وأدعوا كل مؤمن أن يؤوب إلى الله جل وعلا وأن يعلم أن التوبة وظيفة العمر وأن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار وأن الله غني عن طاعة كل أحد غني لا تضره معصية أحد كائنا من كان يقول جل وعلا في الحديث القدسي عند مسلم من حديث أبي ذر :"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا"
فالمقصود أننا أنا وأنت أيها الأخ المؤمن في حاجة إلى رحمة الله في حاجة إلى أن نقي أنفسنا ذل أنفسنا ذل الفضيحة يوم العرض على الله في حاجة على أن نقي أنفسنا ناراً تلظى أخبر الله جل وعلا على أن أهلها خالدين فيها أبدا الآبدين في حاجة إلى أن نستمطر رحمة الله ونستدفع نقمه الله بالإقبال على طاعته والأعراض عن معصيته .
س/ماهي الأشرطة التي تنصح أن تكون في بيت المسلم؟وماهي الكتب ومارأي فضيلتكم في الأشرطة المرئية "أشرطة الفيديو الدينية"؟
&/ننصح بكل شريط فيه تذكير بالله ودلالة للسنة ودعوة إلى الله جل وعلا من أشرطة علمائنا ودعاتنا المشهورين وغير المشهورين ففي كل خير.
وأما الأشرطة المرئية فمعلوم أن النظر إلى الفيديو ليس من جنس الصور التي حرمها الله أو حرمها رسوله صلى الله عليه وسلم فلا حرج أبدا أن يرى المسلم من الأفلام الدينية ما يدل على الخير أو يعينه على الرشد .
بعض الأسئلة فيها شئ من التكرار ، ولكن نحن نبحث عن الأسئلة التي تكون في الإجابة عليها نفع للجميع .
س/ فضيلة الشيخ مار أيك إذاكان أهل بيت لا يصلون هل يجوز إذا كان بينهم شاب ملتزم أن يأكل معهم ويجلس معهم مع أنهم يكرهون الملتزمين ويقولون إنهم كذا وكذا وهو لم يقم من ناحية الدعوة " بعض الكلمات غير مفهومه " ؟(13/33)
& / إذاكان هؤلاء أهل بيته يعني أمه وأبوه إخوانه فله أن يأكل ويشرب معهم نحن والله تعالى أعلم نرى أن تارك الصلاة لا يصل إلى مرحلة الكفر الأكبر المخرج من الملة فعلى ذلك نقول أنه يجوز مؤاكلتهم ومشاربتهم هذا الذي تبين لنا من دين الله تبارك وتعالى ، أما إنهم يكرهون الملتزمين فهذا من سوء فكرهم وظنهم واعتقادهم ومن سوء فقهم في دين الله تبارك وتعالى وربما كان مثل هذا الأمر وبال عليهم ولكن إن كانوا أهل بيته وخاصة أصحابه عليه أن يرشدهم ويدعوهم إلى ماهو خير لهم .
س/ ماحكم الصلاة في قميص النوم أو ثوب قصير لا يستر البدن أو بالعباءة أو ما إلى ذلك؟
&/ ستر العورة معلوم أنه واجب من شرائط الصلاة وأما الصلاة في قميص النوم إذا كان ساترا في البيت فلا حرج أما في المساجد فإن تركه أولى لعموم قول الله جل وعلا :( يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )
س/ يقول ماحكم التلفزيون ؟
&/هذا سؤال قديم التلفزيون آلة يعرض فيها الخير فهو خير يعرض فيه الشر فهو الشر لكن بلاشك تركها وعدم شرائها وبقائها في البيت أولى وأكمل وأصلح بلا ريب ولا يحتاج هذا إلى تردد أبدا .
هذا ما تيسر قوله والإجابة عليه من الأسئلة حتى لا نكثر عليكم ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم العون والتوفيق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد .
وأخيرا نسأل الله الإخلاص والقبول في القول والعمل
أخواتكم/
المُخبتات(13/34)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي يتضاءلُ مع حق جلالهِ حمدُ الحامدين ، وأشكُرهُ تبارك وتعالى شُكراً مُتواليا وإن كان يتضاءل مع فضلِهِ ونعمهِ وآلاءه ِ شُكر الشاكرين
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وسع الخلاق خيرهُ ولم يسع الناس غيرُه خلق فسوى وقدّر فهدى وأخرج المرعى فجعلهُ غُثاءً أحوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ .
أما بعدُ
أيُها المؤمنون فإنّا لله وإنّا إليهِ راجعون
أيُها المؤمنون قبل ألفِ عامٍ ومأتيين تقريباً مات أميرٌ من أُمراء العرب وقوّادهم آنذاك يُقال لهُ مُحمدٌ ابن حُميدٍ الطوسي فرثاهُ أبو تمام الشاعرُ العباسي المعروف بقولهِ :
كذا فليُجلّ الخطب و ليفدح الأمرُ *** فليس لعينٍ لم يغض ماؤها عُذرُ
توفيت الآمالُ بعد مُحمدٍ *** وأصبح في شُغلٍ عن السفَرِ السفرُ
كأن بني نبهان يوم وفاتهِ *** نجومُ سماءٍ حطّ من بينها البدرُ
مضى طاهر الأثواق لم تبق روضةٌ *** غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
عليك سلامُ الله وقفاً فإنني *** رأيتُ الكريم الحُر ليس لهُ عُمرُ
فلأن قيلت هذهِ الأبيات في رثاءِ واحدٍ من أُمراءِ أُمةِ مُحمدٍ صلى الله عليهِ وسلم فيا تُرى ما يقول الإنسان وهو يستذكرُ اللحظات الأخيرة والساعات التي سبقت وفاة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليهِ وسلم .
أيُها المؤمنون نبيُكُم صلى الله علية وسلم وُلد عام الفيل وصاحب مولدهُ إرهاصاتٌ عظيمة تدلُ على أن هُناك شيءً ما سيكون وأن هناك نبيٌ سيُبعث وأن هناك عظيمٌ سيقود الناس ثُم نشأ صلى الله علية وسلم في كنفِ جدهِ عبد المُطلب حتى ذات يوم أصاب قُريشً جدب الديار وقلّة الأمطار فطلب القُرشيون من عبد المُطلب أن يستسقي لهم فحمل عبدُ المُطلب رسولنا صلى الله عليهِ وسلم وهو يوم ذاك صغيرٌ أبيض فألصقهُ بجدار الكعبة واستسقى بهِ فما أنزلهَ حتى سقوا وهو يوم ذاك صلى الله علية وسلم غُلاماً في الرابعةِ من عُمرهِ تقريبا .(14/1)
قال أبو طالب :
وأبيض يُستسقى الغمام ُ بوجههِ *** ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ
يلوذُ بهِ الهُلاّك من آل هاشمٍ *** فهم معهُ في نعمةٍ وفواضلِ
حتى إذا بلغ مبلغ الرجال تزوج صلى الله علية وسلم من خديجة بنت خويلد ثُم لمّا شارف على الأربعين صلى الله عليهِ وسلم حُبب إليهِ أن يخلوا بنفسهِ فكان يأتي غار حراء يتحنثُ الليالي ذوات العدد معهُ زادهُ طعاماً وشرابا . حتى كان ذالك اليوم العظيم الجليلِ في تاريخ الإنسانيةِ كُلها يوم نادهُ الملك بعد ثلاث مرات
{ اقرأ باسم ربكِ الذي خلق * خلق الإنسان من علق *اقرأ وربُك الأكرم الذي علّم بالقلم }
من يومها صلى الله علية وسلم أخذ يدعو إلى دين ربهِ ويُرشدُ إليهِ مُحتملاً أصناف العذاب وألوانً من الأذى وكثيراً من السُخرية وهو لا يزيدُ صلى الله علية وسلم على أن يقول ( اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ) حتى بلغ من أذى كُفارِ قُريش له أنهُ كان علية الصلاةُ والسلامُ ساجدً عند الكعبة فسخر منهُ بعضُ القُرشيين المُحيطين بها فقال بعضُهم لبعض من يقوم إلى سلا جزور بني فُلان فيضعهُ على ظهرِ مُحمدٌ وهو ساجد فقام أشقى القوم عُقبةُ ابن أبي مُعيط فحمل سلا الجزورِ ورفثه ووضعهُ على ظهرهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهو ساجد فلم يستطع أن يرفع ظهره حتى ذهب أحدُ الرجالِ وأخبر فاطمة فقدمت رضي الله عنها وأرضاها وهي يوم ذاك جاريةٌ صغيرة فحملت الأذى عن أبيها ثُم سبّتهم فلمّا رفع صلى الله علية وسلم رأسهُ دعا عليهم قائلا :
( اللهم عليك بشيبةً ابن أبي ربيعة ، اللهم عليك بعُتبة ، اللهم عليك بأبي جهل ابن هشام ، اللهم عليك بأُمية ابن خلف )
وسمّا رجالً فكُلُ من دعا عليهم كانوا صرعى يوم بدر صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .(14/2)
ثُم ذهب إلى الطائف وعاد منها مكلوم الفؤاد فلمّا عاد صاحب ذالك موتُ عمّهِ أبو طالب وموتُ زوجتهِ خديجة فأسرى بهِ ربُهُ تسليةً لذاتهِ إلى سدرة المُنتهى ثُم عرج به إلى السماوات السبع حتى وصل صلى الله علية وسلم إلى مستوىً يسمعُ فيهِ صريف الأقلام .
يا أيُها المُسرى بهِ شرفاً إلى *** ما لا تنالُ الشمسُ والجوزاءُ
يتساءلون وأنت أطهرُ هيكلٍ *** بالروح أم بالهيكلِ الإسراءُ
بهما سموت مُطهرين كلاهُما *** روحٌ وروحانيةٌ وبهاءُ
تغشى الغيوم من العوارم كُلما *** طويت سماءٌ قُلّدتك سماءُ
أنت الذي نظم البرية دينهُ *** ماذا يقولُ وينظمُ الشُعراءُ
فلمّا أشتد علية أذى قُريش أذن لهُ ربُهُ وأمرهُ بالهجرةِ إلى هذهِ البلدة الطيبة المُباركة مدينتهُ صلى الله علية وسلم فحط فيها رحله وأسس فيها مسجده وأقام فيها دولة الإسلام وطبق فيها شرائع الدين وأخذ صلى الله علية وسلم يدعو إلى الله حق دعوتهِ ويُجاهد في الله تبارك وتعالى حق جهادهِ سنين طوال حتى أتمّ الله لهُ جل وعلا في العام الثامن من هجرتهِ أتمّ لهُ ربهُ فتح مكة فدخلها صلى الله علية وسلم وعليهِ عمامةٌ سوداء وعلى رأسهِ المعفر فطاف بالبيت وهو على راحلتهِ.
ثُم فُتحت لهُ الكعبة فدخلها صلى الله علية وسلم فكبر الله في نواحيها وأذهب عنها معالم الوثنية ثُم رأى سورة إبراهيم وقد صُور لهُ وهو يستقسمُ بالأزلام فقال
قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام ثم تلا {ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانيا ولكن كان حنيفاً مُسلما وما كان من المُشركين }
ثُم عاد صلى الله علية وسلم يُتابعُ جهادهُ ودعوته إلى ربهِ حتى كانت السنةُ التاسعةُ للهجرة فبعث أبا بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه أميراً على الحج في ذالك العام وفي آخر العام التاسع بدأ صلى الله علية وسلم يشعُر بدنو أجلهِ يشعُر بدنو أجلهِ ويشعرُ بقُرب رحيلهِ ويشُعرُ بقرب فراقهُ لمن حولهُ من الناس .
وكان أولُ إرهاصات هذا الأمر العظيم :(14/3)
أنهُ علية الصلاةُ والسلام ودع مُعاذٌ لما بعثهُ إلى اليمن ومُعاذٌ على راحلتهِ وهو علية الصلاةُ والسلام يمشي يقودُ ناقة مُعاذ ثُم قال يا مُعاذ بعد أن أوصاهُ بما يفعلُ في الدعوة قال
( يا مُعاذ لعلّك لا تلقاني بعد عامي هذا يا مُعاذ ـ قال ـ يا مُعاذ لعلّك أن تمُرّ على قبري ومسجدي ) ثُم ودّعهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليه فذهب مُعاذٌ إلى اليمن .
ثُم إنهُ صلى الله علية وسلم عزم على الحج على حجة الوداع فأخذ معهُ أُنوفً عظيمةً من الصحابة وتوجهُ أجمعين إلى بيت الله الحرام فأحرم صلى الله علية وسلم من ذو الحليفة قائلاً
(لبيك اللهم لبيك )
يُكبرُ على كُل شرفٍ من الأرضِ حتى وصل مكة فبدأ بالبيت وطاف حوله ثُم أتم ما يتعلقُ بالطواف ثُم أتى المسعى فرق الصفا وقال( أبدأُ بما بدأ الله بهِ{ إن الصفا والمروة من شعائر اللهِ } )
ثُم إنهُ أخذ صلى الله علية وسلم يُتممّ مناسك الحج شيئاً فشيئا حتى كان اليوم التاسع وهو يوم عرفة وكان يوم ذاك يوم جُمعة فصلى صلى الله علية وسلم بالناس الظُهر والعصر جمع تقديم ثُم خطب صلى الله علية وسلم في الناس وهو راكبٌ على راحلتهِ القصواء خطب في الناس خُطبةً عظيمة بيّن لهم فيها معالم الدين وأرهص وأشعر وأومأ على قُربِ رحيلهِ ودنّو أجلهِ فكان صلى الله علية وسلم يقولُ كُل بعد مقطعً من خُطبتهِ يقولُ ( ألا هل بلّغت) فيقولُ الصحابة نعم فيقولُ صلواتُ الله وسلامهُ علية (اللهم فاشهد) حتى كان واضحاً معهُم رغم أنهُ صلواتُ الله وسلامهُ علية إمام المُخلصين قال علية الصلاةُ والسلام لهم ( أيُها الناس إنكُم ستُسألون عني فماذا أنتُم قائلون ) فقالوا رضي الله عنهم وأرضاهم " نشهدُ أنك بلّغت الرسالة وأديت الأمانة ووفيت وأديت الذي عليك كُله " فرفع صلى الله علية وسلم سبابتهُ إلى السماء ثُم نكتها إلى الأرض ثُم قال ( اللهم فاشهد ) .(14/4)
وكان كما قال جابر يُدعُ الناس شاعرً بدنّو أجلهِ وقُربِ رحيلهِ حتى أتمّ صلى الله علية وسلم المناسك فقال في اليوم الثاني عشر قال إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة فلمّا كان اليوم الثالث عشر رمى صلى الله علية وسلم الجمرات الثلاث ثُم خرج من منى قبل أن يُصلي الظُهر ونزل في خيفِ بني كنانة وهو ما يُسمى اليوم في مكة بالأبطح فصلى بها الظُهر والعصر ثُم صلى بها المغرب والعشاء ثُم اضطجع صلواتُ الله وسلامهُ علية ثُم لمّا كان قبل الفجر أتى المسجد الحرام فطاف طواف الوداع ثُم بعد ذالك صلى بالناس صلاة الصُبح ثُم قفل راجع صلواتُ الله وسلامهُ علية قفل راجعاً إلى المدينة ترفعهُ النجاد وتضعهُ المهاد وهي تشرفُ بوطأة قدميهِ عليها وهو علية الصلاةُ والسلام يُكبرُ على كُل شرفٍ من الأرض حتى دخلها أي دخل المدينة صلواتُ الله وسلامهُ علية .
هذهِ أيُها المؤمنون على وجهِ الإجمال الأحداثُ العامة في حياتهِ صلى الله علية وسلم والتي سبقت دنوا أجلهِ وقُرب رحيلهِ .
ثُم أعقب ذالك أحداثٌ مُتتابعة بدءً من مرضهِ صلواتُ الله وسلامهُ علية وانتهاءً بدفنهِ وهي على وجه التفصيل :
أنهُ صلى الله علية وسلم بعد حجة الوداع أرسل إلى غُلامٍ لهُ يُقال لهُ أبو مُويهبة مولىً لهُ يُقال لهُ أبو مويهبة فذهب هو وأبو مويهبة إلى البقيع فأتى أهل البقيع وأستغفر لهم ودعا لهم صلوات الله وسلامه عليه ثم قال يا أبا مويهبة إن الله خيرني بين أن أُعطي مفاتيح خزائن الدُنيا والخلد فيها ثُم الجنة فقاطعةُ أبو مويهبة قال يا رسول الله بأبي أنت وأمي خُذ مفاتيح خزائن الدنيا والخُلد فيها ثُم الجنة فقال صلى الله علية وسلم لا والله يا أبا مويهبة ولكنني اخترتُ لقاء ربي ثُمّ الجنة .(14/5)
ثُم رجع صلوات الله وسلامه علية وقد شعر بصُداعٍ في رأسهِ فاستقبلتهُ زوجتهُ عائشة وكانت رضي الله تعالى عنها قد أُصيبها صِداعٌ قبله فلما دخل عليها قالت يا رسول الله وارأساه تشتكي رأسها فقال علية الصلاة والسلام بل أنا وارأساه أخبر عن مرضه وعن الصداع الذي يُصيبهُ ثُم ما زال الصداعُ يتعاقب علية ويشتد مع حمّىً شديدة كانت تنوبُهُ صلواتُ الله وسلامهُ علية وأخذ المرضُ يثقُلُ علية شيءً فشيئا فلما أثقل علية عرف أنهُ لا يستطيع أن يأتي على بيوت نسائهِ كُلهم فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث أشتد علية وجعهُ فأستأذن أزواجه رضي الله تعالى عنهنّ وأرضاهن أستأذنهنّ أن يكون في بيت عائشة فأذنّ له صلواتُ الله وسلامهُ علية فخرج من ببيت ميمونة إلى بيت عائشة تختطُ قدماه في الأرض مُتكأً على رجُلين هُما الفضل ابن عباس وعليُ ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى أتى بيت عائشة رضي الله تعالى عنها فمكث في بيتها يشتدُ علية الوجع شيءً فشيئاً وهو صلى الله علية وسلم يبدأُ يشعُر بدنو أجلهِ فلما ثقُل علية المرض وشعر صلى الله علية وسلم بدنّو أجلهِ أخذ يصنعُ أشياءً يودعُ بها الناس وتبرأُ بها الذمة وما إلى ذالك فإنهُ لما كثُر علية المرض وأشتد علية الوجع طلب أن يُهرق علية سبع قربٍ من الماء لم تُحل أوكيتهُنّ فأهرقُوا علية سبع قرب صلواتُ الله وسلامهُ علية ثُمّ خرج إلى الناس عاصباً رأسه فدخل المسجد وبدأ بالمنبر وأول ما بدأ بهِ خُطبتهِ صلى على شُهداء أُحد واستغفر لهم وفاءً منه صلى الله علية وسلم بأصحابهِ .
ثُم بعد ذالك أخذ يوصي الناس بالأنصار وفاءً منهُ صلى الله علية وسلم للأنصار فقال (إنهم كرشي وعيبتي ، وأنهم أدوا الذي لهم وبقي الذي عليهم ) وأوصى الناس من بعدهم أن يقبلوا من مُحسنهم وأن يتجاوزوا عن مُسيئهم .(14/6)
ثم إنهُ صلى الله علية وسلم قال ( إن عبداً خيرهُ الله ما بين الدنيا وزهرتا ثُم الجنة وبين لقاء ربه فأختار ما عند الله فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه وفهم المُراد وقال من أقصى المسجد بل نفديك بآبائنا وأُمهاتنا يا رسول الله فقال صلى الله علية وسلم على رسلِك يا أبا بكر ثُم ألتفت إلى الناس يُبين لهم مقام أبي بكر في الأُمة فقال إن من آمن الناس علي في مالهِ وصحبتهِ أبو بكر ولو كُنتُ مُتخذً خليلا لاتخذتُ أبا بكر خليلا لكن أُخوة الإسلام ثُم قال : لا يبقى في المسجد خوخة إلا سُدّت إلا خوخة أبي بكر ).
فلما انتهى من ذالك صلى الله علية وسلم صلّى بهم الظُهر ثُم رجع صلواتُ الله وسلامهُ علية إلى بيتهِ يزدادُ علية المرض شيءً فشيئا .
ثُم دخلت علية إبنتهُ فاطمة فسرّها بشيءٍ في أُذنها فبكت ثُمّ سرّها كرتً أُخرى فابتسمت ثُم سُئلت عن ذالك بعد فأخبرها في الأولى بقُرب أجلهِ ودنّوا رحيلهِ وأنه سيموت في مرضهِ هذا فبكت ، ثُم أخبرها بأنها أول أهلهِ لُحوقاً به وأنها سيدةُ نساء أهل الجنة فابتسمت رضي الله تعالى وأرضاها .
ثُم إنه علية الصلاة والسلام قبل أربعة أيام من وفاته أعتق غلمانه وتصدق بسبعة أو تسع دنانير كانت عندهُ صلواتُ الله وسلامهُ علية .
ثُم مكث المرض يشتدُ علية فكان يغيبُ أحياناً ويفيقُ أحيانا من شدة الحُمى التي كانت تُصيبه صلواتُ الله وسلامهُ علية فلما عرف أنه لا يقدرُ أن يُصلي بالناس أرسل إلى أبي بكرٍ أن يُصلي فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها في أن يقف في مقام رسول الله صلى الله علية وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا بكر رجلٌ أسيف لا يملكُ دمعته فأوصت من يدعوا عُمر أن يُصلي فصلى بهم عُمر فلما سمع صلى الله علية وسلم صوت عُمر قال يأبى الله ذالك والمؤمنون لا يُصلين بالناس إلا أبا بكر كالإشارة إلى استخلافهِ من بعدهِ رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه.(14/7)
ثُمّ قبل أربعة أيامٍ من وفاتهِ ثقُل عليهِ المرض وبقي أبو بكرٍ يُصلي بالناس حتى خرج إليهم صلى الله علية وسلم ذات يوم فوجدهم يُصلون و أبو بكرٍ يتقدمهم فأشار إلى أبي بكرٍ أن أبقى مكانك فلم يقبل فرجع أبو بكر وصلى صلى الله علية وسلم إماماً بهم والناس يُصلون بصلاة أبي بكر فلما فرغ من الصلاة قال لأبي بكر ما منعك أن تثبُت إذ أمرتُك فقال رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه ما كان لأبي بكر أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله علية وسلم.
ثُم عاد صلى الله علية وسلم إلى بيتهِ يشتدُ علية الوجع فيرى من الكرب ما الله بهِ عليم حتى كان يوم الاثنين الثاني من شهر ربيعٍ الأول على الصحيح والثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول على قول الجمهور وهو اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله علية وسلم .(14/8)
استهل صلى الله علية وسلم ذالك اليوم أن الناس كانوا في صلاة الفجر فإذا هُم في صلاتهم وأبو بكر يُصلي بهم إذ بهِ صلى الله علية وسلم يكشفُ الستار الذي بينهُ وبين بيت عائشة فلما رأوه الصحابة مُتهللاً وجهه كأنهُ ورقةُ مُصحف كادوا يُفتنون فرحاً ظناً منهم أنهُ برء فهمّ أبو بكرٍ أن يرجع فأشار إليهم أن على مكانكم ونظر إليهم نظرة مودع ثُم رجع صلى الله علية وسلم إلى حُجرتهِ يشتدُ علية المرض وبين يديهِ ركوةٌ فيها ماء فكان يضعُ يديهِ في الركوة ويمسحُ بها وجههُ الطاهر ويقول ( لا إله إلا الله إن للموت سكرات اللهم أعني على سكرات الموت ) ثُم إنها دخلت علية فاطمة وهو على هذا الحال ودخل علية أُسامة فدخلت علية فاطمة فقالت واكرب أبتاه فقال وهو العارفُ بربهِ ليس على أبيكِ كربٌ بعد اليوم فدخل علية أُسامة وأشار إلية أن أدعُ لي فلم يستطع صلى الله علية وسلم من شدةً المرض أن يدعوا لهُ بلسانهِ ولكنهُ رفع يديهِ يدعوا لأُسامة في سرّهِ ثُم أثقل علية المرض فدخل علية عبدُ الرحمن ابن أبي بكر وفي يدهِ مسواكٌ يستكُ بهِ فأمعن صلى الله علية وسلم وحد النظر في عبد الرحمن ففهمت عائشةُ أنهُ يُريدُ المسواك فأشارت إليه فأومأ برأسهِ أن نعم ولم يستطع أن يقولها بلسانهِ فأخذت المسواك من أخيها وقضمته ثُم طيبتهُ وألانته ثُم أعطتهُ رسول الله فاستك بهِ صلى الله علية وسلم كأخر عملٍ يصنعهُ في الدُنيا ثُم أرجأه ثُم سمعتهُ عائشة وقد أسندتهُ إلى صدرها وهو يقول ( {مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشُهداء والصالحين وحسُن أُولئك رفيقا} اللهم أغفر لي وارحمني اللهم أغفر لي وارحمني بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى كررها ثلاثاً ويده ُالسبابة رافعاً إياها حتى كان أخر ما قالهُ من الدُنيا بل الرفيق الأعلى ) ثُم مالت يدهُ صلواتُ الله وسلامهُ علية فوضعتهُ عائشة وكان سنّهُا يوم ذاك ثمانية عشر عاماً على الأرض ثُم خرجت تلطمُ خدها مع(14/9)
ما يلطمن مع النساء فشاع خبرُ وفاتهِ فأصبح الناسُ فيه مابين مفتون وما بين ساكت وما بين غير مُصدق وما بين غير ذالك قد أذهلهم الخبر وداهمتهم الفجيعة وحُق لهم والله .
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنهُ في السُنح أي في الحرة الشرقية اليوم بعيدً عن المدينة فأتاهُ رجلٌ فأخبرهُ الخبر فعاد رضي الله عنهُ وأرضاه إلى بيت رسول الله صلى الله علية وسلم فدخل على رسول الله وهو مُسجى في بيتهِ فكشف عن وجهه وأتاهُ من قبل رأسه ثُم حدّر فاه إلى جبهتهِ وقال واصفياه ثُم قبّلهُ أُخرةً وقال وانبياه ثُم قبّلهُ أُخرىً وقال واخليلاه ثُم قبّلهُ وقال طبت حياً وميتاً يا رسول الله أما الموتةٌ التي كتبها الله عليك فقد ذُقتها وأما غيرُ ذالك فلن يكتبُ الله عليك أبدا ثُم غطاه رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه وسجاه ثُم خرج إلى الناس يقتحم الصفوف وعُمر واقف فقال اجلس يا عُمر فلم يجلس قال اجلس يا عُمر فلم يجلس
فحمد الله وأثنى علية فترك الناسُ عُمر وأقبلُ على أبي بكر فقال رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه " أيُها الناس من كان يعبُدُ مُحمدً فإن مُحمدً قد مات ومن كان يعبُدُ الله فإن الله حيٌ لا يموت ثُم تلا { وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبلهِ الرُسُل أفإن مات أو قُتل إنقلبتم على أعقابكم ومن يتقلبُ على عقبيهِ فلن يضرُ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } فكأن الناس لم يعلموا هذهِ الآية إلا يوم تلاها أبو بكرٍ رضي الله تعالى عنهُ وأرضاهُ عليهم وما كان أحدٌ من الخلق إلا وأخذ يُرددُها .(14/10)
ثُم إنهم رضي الله عنهم وأرضاهم إنشغلوا بأمر الخلافة فلما فرغوا من بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه تفرغوا لرسولهم صلى الله علية وسلم فتولى غسلهُ علية الصلاةُ والسلام أهلُ بيتهِ العباس وولداه الفضل و قُثم وأُسامة ابنُ زيد وصالحٌ مولاه وعليُ ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه فكان العباس وولداه يُقلبان رسول الله صلى الله علية وسلم وكان صالحُ وأُسامة يصُبانِ الماء وكان عليٌ رضي الله تعالى عنه يتولى غسله ولم يُرى منه صلى الله علية وسلم ما يُرى من الميت لأنهم عندما أرادوا أن يغسلوه احتاروا هل يُجردوه صلى الله علية وسلم أم لا فألقى الله عليهم النوم فأصابتهم سِنه فسمعوا مُناديً يُناديهم أن أغسلوا رسول الله وهو في قميصهِ فغسلوه صلواتُ الله وسلامهُ عليه وهو في قميصهِ يُقلبهُ العباس وولداه ويصُبُ الماء أُسامة وصالح ويغسلهُ بيدهِ عليُ ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه وبينما هم يغسلونهُ أستأذن أوس ابن خوري بدريٌ من الخزرج نادى عليً من وراء البيت يا علي أنشُدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله علية وسلم إلا أدخلتني فأذن لهُ عليٌ رضي الله عنه فدخل أوس فأخذ ينظُر دون أن يُشاركهم في الغُسل فلما فرغوا من غسلهِ كفنوه صلواتُ الله وسلامهُ علية وهو سيدُ ولد آدم وخيرُ خلق الله أقسم لهُ ربُهُ بأنهُ ما ودعهُ وما قلاه ومع ذالك يُكفن كما كُفن الموتى في ثلاثة أثواب ثُم وضعوه صلى الله علية وسلم على سرير ثُم حفروا له لما أخبرهم أبو بكر بقولهِ أنه ما من نبيٍ يُقبض إلا ويُدفن حيثُ قُبض فحفروا له بعد أن بعثوا إلى رجُلين بعثوا إلى أبي عُبيدة وكان يحفرُ القبر شقا وبعثوا إلى رجلٍ يُقال لهُ أبو طلحة من الأنصار كان يلحدُ لحدا فالذي ذهب إلى أبي طلحة وجدهُ فعاد معه فحفروا لهُ صلى الله علية وسلم .(14/11)
ثُم إنهم قبل أن يدفنوهُ وضعوا سريرهُ على حافة القبر ثُم استعظموا أن يُصلي أحدٌ بهم إماماً على رسول الله صلى الله علية وسلم فصلى علية العباس وهو أسنُّ بني هاشم أول الناس ، ثُم صلى علية عصبتهُ وقرابتهُ من بني هاشم ، ثُم صلى علية المُهاجرون ، ثُم صلى علية الأنصار ثُم صلى علية النساء ثُم صلى علية الصبيان ، ثُم صلى علية العبيد صلواتُ الله وسلامهُ عليه .
صلوا عليه أرسالاً أي فُرادا كلٌ منهم يُصلي لوحدهِ فلما فرغوا من الصلاة علية نزل في قبرهِ قثمٌ والفضل وعليُ ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهُ ومولاهُ شُقران رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين فنزلوا في قبرهِ الطاهر الشريف ووضعوا جسدهُ في اللحد ثُم بنوا عليه تسع لبنات ثُم حثوا على ذالك القبر الطاهر الشريف حثوا علية التُراب حتى أتموا دفنهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليه ..
يا خير من دُفنت في القاع أعظمهُ *** فطاب من طيبهنّ القاع والأكمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنهُ *** فيهِ العفاف وفيهِ الطُهرُ والكرمُ
أيُها المؤمنون هذا على وجه الإجمال موت رسولكم صلى الله علية وسلم(14/12)
ولا ريب أن الإنسان يعلم أن حديثاً كهذا لا يحتاجُ إلى بليغٍ تهتزُ لهُ المنابر ولا يحتجُ إلى خطيبٍ تحملُ صدى قولهِ المنائر إنهُ حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحلُ أعيُننا بعدُ برؤيتهِ ،، حديثٌ عن رحيل حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزُقنا جوارهُ في جنتهِ ،، حديثٌ عن حبيبنا الذي بلّغ دين الله وأرشد إليهِ وناجى ربه ودعا إليهِ وكان أرحم الخلق بالخلق وهو القائلُ صلواتُ الله وسلامهُ علية لما زار بقيع الغرقد قال عليه الصلاةُ والسلامُ ( وددتُ لو أني رأيتُ إخواني ) يعنينا ويعنيكم صلواتُ الله وسلامهُ عليه فقالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال ( بل أنتم أصحابي ولكن إخواني لم يأتوا بعد) قالوا يا رسول وكيف تعرفُ من يأتي بعدك من أُمتك قال (إنهم يأتون يوم القيامة غُرّاً مُحجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ) أي سابقهم إليهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
أيُها المؤمنون لا ريب إن هذا المقطع العظيم من سيرتهِ العطِرة وأيامهِ النظرة صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ يقفُ عندها المؤمن ليستلهم دروسً وعبر وآياتٍ وخبر وما أعظم تلك الدروس وما أجل تلك العبر.
// ألا وأن أولها :
عظم الرب جل جلالهُ فالله تبارك وتعالى وحده هو الحيُ حياة لا موت فيها ، والله تبارك وتعالى وحده من بيدهِ مقاليدُ السماوات والأرض ، والله جل وعلا وحده من بيدهِ النفعُ وبيدهِ الضُر وهذا سيدُ الخلق ورسول الحق وصفوة الله من خلقهِ أجمعين ومع ذالك ما كان لهُ ولا لغيرهِ أن يتجاوز مقام العبودية أبدا فالله خالق وما سواهُ مخلوق واللهُ رب وما سواهُ مربوب فمتى ينظرون أُولئك المُتكبرون أُولئك المُتجبرون أُولئك المُتألهون بمالهم أو بسُلطانهم أو بجاههم ؟ .(14/13)
متى يعلموا أن هذه الحقيقية حقيقية الموت لم يسلم منها رسول الله صلى الله علية وسلم على قُربهِ وجلال مكانتهِ وعلو منزلتهِ ودنوه صلى الله علية وسلم من ربهِ وقُربهِ منه ومع ذالك لاقى صلى الله علية وسلم من الموت وكربهِ ما سمعتم ولاقى صلى الله علية وسلم من الأوجاع و من الشدائد حتى أضحى وهو نبيُ الأُمة وأفصحُ الناس لساناً وبياناً ومقاما يُطلبُ منهُ أن يتكلم فيعجزُ ويثقُل لسانهُ عن الكلام حتى أصبح صلى الله علية وسلم يُصلي الناس يُصلي الناس على أمتارٍ من بيتهِ ولا يستطيعُ أن يقوم إليهم ولا أن يُشاركهم صلاتهم ولا أن يؤمهم حتى يُثبت الله لكُل أحد ِأنهُ صلى الله علية وسلم وإن كان في المقام المحمود والمنزلةِ العظيمةِ التي هو فيها صلى الله علية وسلم إلا أنهُ علية الصلاةُ والسلام يبقى بشراً فلا يتعلقُ أحدٌ من الخلق بأي مخلوقٍ كأناً من كان لا ملكٌ مُقرب ولا نبيٌ مُرسل ولا عبدٌ صالح ولا وليٌ فاضل .
وإنما ينبغي أن تُصرف القلوب كُلها لله جل وعلا الواحد القهار قال تبارك وتعالى يُعلمُِ نبيهُ ويُرشده ( إنك ميتٌ وإنهم ميتون ) ( وما جعلنا لأحدٍ من قبلك الخُلد أفإن مت فهم الخالدون ) ( كُل نفسٍ ذائقةٌ الموت و نبلوكم بالشر والخيرِ فتنة وإلينا تُرجعون )
( كلُ نفسٍ ذائقةُ الموت ) عمومٌ لا تخصيص له وإطلاقٌ لا قيد لهُ أبدا فكُل ذي نفسٍ وروح لابُد أن يوفى أجله ويؤتى كتابه ويموت كما يموت غيرهُ ( ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام )
لقد دعا الله جل وعلا الناس إلى أن يتكلوا على الله جل وعلا وحده لماذا ؟
لأنك إذا توكلت على شخص واعتمدت علية في إنجاز شيء فربُما مات هذا الذي توكلت علية قبل أن يقضي حاجتك ولذالك قال الله لنبيه (و توكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمدهِ وكفى بهِ بذنوب عبادهِ خبيرا ).
// الأمرُ الثاني :(14/14)
فضلُ البقيع بلا شكٍ ولا ريب فإن رسولنا صلى الله علية وسلم كان حريصاً في أُخريات حياتهِ أن يأتي إلى هذا البقيع بقيع الغرقد مدفن أهل المدينة أن يأتي إليهِ صلى الله علية وسلم بين الفينة والفينة حتى قال بعضُ العُلماء إنهُ كان صلى الله علية وسلم ربُما أآتاه في كُل أسبوع فكان يأتي صلواتُ الله وسلامهُ علية يدعو لأهلهِ ويستغفروا لهم ويدعو الله جل وعلا أن يمحوا عنهم الخطايا ويُقيل عنهم العثرات .
أخرج الإمام مُسلم في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها أنها قالت " بات عندي رسول الله صلى الله علية وسلم ذات ليلة وخلع نعليهِ و وضعهما عند قدميه ثم قالت لبث قليلاً حتى شعر أنني رقدت قالت ثم لبس نعليهِ رويدا وأخذ ردائهُ رُويدا ثُم قالت مشى رويداً وفتح الباب و أجفاهُ رويدا قالت فتبعتُهُ فاختمرتُ وتقنعتُ ولبستُ إزاري وتبعتُهُ قالت فإذا بهِ يأتي أهل البقيع فيستغفرُ لهم ويدعو لهم ثلاثاً رافعاً يديه قالت ثُم انحرف فانحرفت ثُم هرول فهرولت ثُم أسرع فأسرعت فدخلتُ البيت قبله فلما رآني نائمة رآها رضي الله عنها وصدرها يعلو وينزل لأنها كانت مُسرعة فقال ما لكِ يا عائشُ حشي الرابية أي أن صدرك يعلو وينزل قالت لا شيء يا رسول الله فقال صلواتُ الله وسلامهًُ عليهِ لتُخبريني أو ليُخبرنّي اللطيفُ الخبير فلما قالها استكانت رضي الله تعالى عنها وأرضاها وأخبرتهُ بالخبر فقال أنتِ السوادُ الذي رأيتهُ أمامي قالت نعم يا رسول الله قالت فاهدني لهدتً في صدري أوجعتني(14/15)
ثُم قال لي يا عائشة إن جبرائيل أتاني وقال لي إن الله يأمُرُك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قال وما كُنتُ لأُدخل جبريل عليك وقد خلعتي ثيابك وخشيتُ أن أُقضكِ من أدبهِ معها صلى الله علية وسلم وخشيتُ أن تستوحشي بعدي أي فلذالك أسرعت فقالت له رضي الله عنها وأرضاها يا رسول الله فماذا أقولُ إن أنا أتيتهم قال قولي ( السلامُ عليكم أهل الديار من المُسلمين والمؤمنين أنتُم السابقون يرحمُ الله المُستقدمين منا و المُستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لالحقون ) .
وثبت عنهُ صلى الله علية وسلم أنهُ قال ( أنا أولُ من تنشقُ عنهُ الأرض ثُم أبو بكر ثُم عُمر ثُم قال صلى الله علية وسلم ثُم تنشقُ الأرضُ عن أهل البقيع فيُحشرون معي ثُم قال صلى الله علية وسلم وأنتظرُ أهل مكة فتنشقُ الأرضُ عنهم فنُحشرُ أنا وإياهم بين الحرمين) صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
فالموتُ في المدينة فضيلةٌ وأي فضيلة قال علية الصلاةُ السلام ( من أستطاع منكُم أن يموت في المدينة فليفعل فإني أشفعُ لمن يموتُ بها ).
ومعلوم أنهُ صلى الله علية وسلم يعلم أن أحدً لا يعلمُ متى يموت ولكن قولهُ صلى الله علية وسلم ( من أستطاع منكُم أن يموت في المدينة فليفعل) أي أن يكون الإنسان غالبُ وقتهِ وغالبُ عيشهِ وغدوهُ ورواحهُ يكونوا في هذهِ المدينة التي حرّمها الله وحرّمها رسولهُ صلى الله علية وسلم .
فالبقيع دعا نبيُ الأُمة صلى الله علية وسلم لأهلهِ وقد قال بعضُ العُلماء إن دعوتهُ صلى الله علية وسلم لأهل البقيع رُبما تشملُ من يُدفنُ بعد موتهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ فيه والحقُ أن النص يحتملُ هذا لأنهُ علية الصلاةُ والسلامُ قال ( اللهم أغفر لأهل بقيع الغرقد ) ولم يُخصص زماناً ولا قوماً ول أُناسا وإنما جعلها مُطلقة وذالك الظنُ به وبرحمتهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ ...(14/16)
// من هذهِ المقطوعة العظيمة يعلمُ الإنسان أن الوفاء للغير وإسداء الجميل إلى أهلهِ من أعظم خصال الربانيين ومن أعظم صفاتِ الصادقين فرسول الله صلى الله علية وسلم في أُخريات حياته كان حريصاً على أن يكون وفياً مع من وقفوا معه فخطب في آخر حياتهِ يُصلي ويستغفر لشُهداء أُحد لأنهم قدموا أرواحهم وقدموا مُهجهم وأنفُسهم وأموالهُم في سبيل إعلاءِ كلمة الله ووصى بالأنصار خيراً صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ لأنهم قبلوهُ في دارهم وحموه ونصروهُ وأيدوه وظاهروهُ وعزروه صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ فحفظ لهم هذا الجميل ووصى الأُمة من بعدهم بالأنصار خيرا .
// وتذكر صلى الله علية وسلم صنيعةً أبي بكر وأنهُ أولُ الناسِ إيمانا وأعظم الناس نُصرةً لدين وأنهُ الذي أيد اللهُ بهِ دينه بعد رسولنا صلى الله علية وسلم فأخبر الناس بمقام أبي بكر وبمنزلتهِ وبعلو درجتهِ عند الله وعند رسولهِ صلى الله علية وسلم .
وينبغي على المؤمن أن يتأسى في هذا وفي غيرهِ بوفائهِ لناس وإسدائهِ الجميل لمن يُحسنون إليهِ ويُقدمون لهُ المعروف .
الأمرُ الخامس :
أن قراءة القرآن وتعويذ المريض بها أمرٌ مشروع فإن النبي صلى الله علية وسلم كان في أيام حياتهِ أيام قوتهِ ونشاطهِ كان يقرأُ على نفسهِ بالمعوذات فيقرأُها في كفهِ ثُم ينفُث ثُم يمسح بيدهِ صلى الله علية وسلم .
أما عند دنو أجلهِ وقُرب رحيلهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ فكانت عائشة تقرأُ عليهِ ثُم إنها تنفُثُ عليهِ ثُم إنها تأخُذُ يدهُ الطاهرة وتمسحُ بها على جسدهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ رجاء البركة وكانت تقول " علمتُ أن يدهُ لنفسهِ خيرٌ من يدي " رضي اللهُ تعالى عنها وأرضاها .(14/17)
والناسُ اليوم قد يكونُ بعضُهم غافلون عن أن يتعوذ المؤمنُ بالقرآن وأن يلجأ إلى الله جل وعلا في مرضهِ وفي كربهِ وفي شدتهِ وفي خطبهِ وأن يستعيذ بالله جل وعلا وقد كان صلى الله علية وسلم يضعُ يدهُ الشريفة على رأس الحسن ورأس الحُسين حفيديهِ ويقول { أُعيذكُما بكلمات الله التامة من كُل شيطانٍ وهامة ومن كُل عينٍ لآمة } وكان يقول { إن أباكُما ـ يقصدُ إبراهيم ـ إن أباكُما كان يُعُوذُ بهما إسماعيل وإسحاق } صلواتُ الله وسلامهُ عليهم أجمعين ...
// من هذا المقطع العظيم أيُها المؤمنون يظهرُ بجلاء أهمية الصلاة فإنهُ صلى الله علية وسلم كان كُلما رجع إليهِ نشاطُهُ وعادت إليهِ قوتهُ يوصي الناس ويقول ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكُم ) وهو القائلُ ( العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) ولما كشف الستر الذي بينهُ وبين المُسلمين بين حُجرة عائشة وبين مسجدهِ ورآهم يُصلون تبسم صلى الله علية وسلم وقرّت عينُهُ وفرح صدرُهُ لأن هذا هو العهد الذي ترك النبيُ صلى الله علية وسلم أُمته .
ومع ذالك لتجدن في الناس اليوم أقواماً و فئاما يسمعون حي على الصلاة يسمعون حي على الفلاح ومع ذالك يُعرضون عن المساجد ويُقبلون على أماكن لهوهم وأماكنِ عبثهم وأماكن لا يليقُ المقامُ بذكرها في مكانٍ جليلٍ كهذا وهذا والعياذُ بالله من الغفلة ومن الإعراضِ عن الله ومن الإعراضِ عن ذكرهِ ومن سوء الحياةِ التي يبتلي الله جل وعلا بها بعض عبادهِ ...
// من هذا المقطع يظهرُ أنهُ صلى الله علية وسلم لما أتى أهل البقيع مع غُلامه أبي مويهبة قال لأهل البقيع ( السلامُ عليكُم يا أهل المقابر ليهنكُم ما أنتُم فيهِ مما أصبح الناسُ فيهِ ـ ثُم قال ـ أقبلت الفتن كقطع الليل المُظلمِ يتبعُ أخرها أولها الآخرةُ شرٌ من الأولى ) وما زال الناسُ والعياذُ بالله في فتنٍ يتبعُ بعضها بعضا إلى يومنا هذا وسيبقى الأمرُ إلى أن تقوم الساعة(14/18)
{ سُنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسُنة الله تبديلا }.
ولا ريب أن أعظم ما فُتن بهِ الناس في زماننا هذا ما تبُثهُ القنوات الفضائية من أنواع الفساد والانحلال الخُلقي ودعوة الناس إلى الإفساد حتى أضحى القوم شباباً وشابات فتياناً وفتيات يُقلدون الغرب ويُحاكونهم في صنيعهم وغابت الغيرةُ عن كثيرٍ من الرجال كُلُ ذالك بدعوى الحضارة وبدعوى التشبُهُ وبدعوى التقدُم ونسو هدي رسول الله صلى الله علية وسلم نسو سُنته نسو سيرته نسو ما دعاهم رسول الله صلى الله علية وسلم إليهِ .
فيا أيُها المؤمن ينبغي عليك إن كُنت قادرً على أن تنهى عن مُنكر أو تأمُر بمعروف أن تتقي الله جل وعلا فيما بين يديك من أهلك ومن أبنائك وبناتك وأن تتقي الله جل وعلا في من لك سُلطانٌ عليهم فإن ما تبثهُ هذهِ القنوات بلا ريبٍ ولا مريةٍ ولا شك إنما هي دعوة لأخذ الناس عن دين الله وعن هديه حتى يُصبح الناس في الشرِ سواء وفي الكُفرِ على ملةٍ واحده وفي الضلالِ على نهجٍ واحد أعاذنا الله وإياكُم منها ...
من هذا كُلهِ يتضحُ أيُها المؤمنون أن من أعظم القُربات وأجل المُنجيات محبتهُ صلى الله وسلم علية وقد رأيتُم ما أصاب المُسلمين عندما علموا بخبر وفاتهِ صلى الله علية وسلم حتى عُمر وهو المُحدثُ المُلهم الذي قال النبيُ صلى الله علية وسلم ( لو كان نبيً بعدي لكان عُمر ) غُلب على أمرهِ وذُهل عن عقلهِ وقال من قال إن مُحمدً قد مات ضربتُ عُنقه وما ذاك إلا لعظيم محبتهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله علية وسلم .
فاعلم يا أُخي أن محبة رسول الله صلى الله علية وسلم دين وملةٌ قُربة(14/19)
جاء في الصحيح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن أعرابيً سأل رسول الله صلى الله علية وسلم يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال لهُ علية الصلاةُ والسلام وما أعددت لها ؟ قال ما أعددتُ لها من كثير صلاةٍ ولا صيامٍ ولا صدقة ولكني أُحبُ الله ورسوله فقال صلى الله علية وسلم ( أنت مع من أحببت ) فقال أنس وأنا والله أُحبُ الله ورسوله وأُحبُ أبا بكرٍ وعُمر وأُحبُ أبا بكرٍ وعُمر هذا قولُ أنس .
وأنت أيُها المؤمن لا ريب أنك ترى أن الناس اليوم فريقين منهم من غالى غلوً زائدً عن الحدِ الشرعي في محبتهِ صلى الله علية وسلم ، ومنهُم والعياذُ بالله من أراد أن يفر من الغلو فلجأ والعياذُ بالله إلى الجفاء فلم يعُد محبتهُ لرسول الله صلى الله علية وسلم ذات عاطفةً جياشه ولا ذا محبةٍ صادقة وإن سألته قال أخاف من الشرك أخافُ من البدع وكلا الفريقين بلا شك على خطأ .
فأما الأولون فرُبما قادهم الغلو في محبتهِ وتعظيمهِ وإجلالهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ رُبما قادهم إلى الشرك بالله والخرُج من الملةٍ بالكُلية ولذالك الكُلُ يعلم أن البُصيري نظم قصيدةً في مدح رسول الله صلى الله علية وسلم قال في أولها:
أمن تذكُر جيرانً بذي سلمٍ ** مزجت دمعاً جرى من مُقلةٍ بدمِ
أم هبت الريح من تلقاء كاظمةٍ ** أو أومض البرقُ بالظلماء من إضمِ
فما لعينيك إن قُلت أكفُفا همتا ** وما لقلبك إن قُلت استفق يهمِ
وهذهِ البُردة غالى فيهل البُصيري رحمهُ الله وعفا عنه غالى فيها غلوً غير شرعي في رسول الله صلى الله علية وسلم حتى بلغ بالناس الذين نهجوا نهجه ولزموا بدعته أنهم قالوا لا يجوزُ قراءةُ هذه القصيدة إلا أن يكون الإنسانُ متوضأً مُتطهراً مُستقبل القبلة فجعلُ هذه القصيدة مُحاكاة للقرآن والعياذُ بالله .(14/20)
ثُم نشأ أقوام خافوا أن يقعوا في هذا الأمر فجفوا رسول الله صلى الله علية وسلم ورُبما ذكر أحدهم أسم رسولنا علية والصلاةُ والسلام ويُردد مُحمد مُحمد أو يسمع مُحمد مُحمد دون أن يُصلي أو يُسلم علية ورُبما عاش دهرهُ كُله لم يأتي قبرهُ الشريف ليُسلّم علية ورُبما خاف من البدع أكثر فرفض أن يأتي أهل البقيع فيُسلم عليهم ورُبما رفض أن يأتي شُهداء أُحد فيُسلّم عليهم .
ولا ريب أيُها المؤمنون أن أهل السُنة والجماعة يدورون مع الحق حيثُ دار ويلزمونهُ حيثُ وجد فإن المؤمن لا يتأثرُ بالبيئة التي حوله ولا بما يسمع وإنما يتأثرُ بقول الحق الذي مصدرهُ ومنهجُهُ كتابُ الله وسُنة رسولهِ صلى الله علية وسلم وفعلُ سلف الأُمة الصالح .
وقد كان صلى الله علية وسلم يأتي البقيع ويُسلّمُ على أهلهِ ويستغفرُ لهم وكان يأتي شُهداءُ أُحد ويُسلّمُ عليهم ويستغفرُ لهم وكان أصحابهُ من بعدهِ يأتون قبرهُ الشريف فيُسلّمون علية ويأتون البقيع ويأتون شُهداءُ أُحد فيُسلّمون عليهم تأسيً بفعلهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
فلا يوجد في دين الإسلام شخص إذا مات يموت الدين وإذا بقي يبقى الدين ولو كان وجد هذا الشخص لكان رسولنا صلى الله علية وسلم فلا يجوزُ لأحد أن يُربي الناس على أن يتعلقوا بزيد أو يتعلقوا بعمر أو يتعلقوا بالعالم الفُلاني أو بالداعية الفُلاني أو بالأمير الفُلاني الدينُ دينُ الله والهديُ هديُ الله والمُرادُ الجنة والخوفُ من النار .(14/21)
أما الناس فإن قلوُبهم بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقلبُها الله جل وعلا كيف يشاء فقد يُمسي الرجُل مؤمناً ويُصبحُ كافرا ويُصبحُ مؤمناً ويُمسي كافراً والعياذُ بالله ، والسعيد من تعلّق بالله وحده ولزم سُنة مُحمدٍ صلى الله علية وسلم ولم يُعطي عقلهُ لأحدٍ غيره لزم الكتاب والسُنة ولم يجنح لأي أحدٍ غيرهما أحب الحق حيثُ وجد ويكره الباطل حيثُما وجد ويعتذر في أُئمة المُسلمين وعُلمائهم ودُعاتهم إذا رأوا أنهم أخطأُ سبيلهم أو حادو عن المنهج أو ما إلى ذالك مما لا يسلمُ منهُ أحدٌ من الخلق .
هؤلاء الربانيون المُفترض أنهُ لا همّ لهم إلا جناتُ النعيم فرسولنا صلى الله علية وسلم يخرُج إلى الناس مُثقلاً بالمرض مُشتداً علية الوجع يشعرُ بصُداعٍ في رأسهِ فلما كشف الستر ووجد ثمرة فعلهِ صلى الله علية وسلم وجد الصحابة كُلهم على قلبٍ واحدٍ يُصلون تبسم صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ نسي المرض الذي أصابه نسي الآلام التي يُعانيها نسي العناء الذي يجدُهُ لأنهُ علية الصلاةُ والسلام كان قارّ العين فرح الصدر أن أُمتهُ من بعدهِ لزمت طريقُ المُستقيم ولزمت نهجهُ القويم .
وكذالك الدُعاةُ الربانيون والعُلماء الصالحون والمُصلحون في الأرض ينبغي أن يكون همّهم شيءٌ واحد أن يلزم الناس طريق الهُدى أن يتبع الناس سُنة مُحمدٍ صلى الله علية وسلم .
يا أُخي لا تنتظر من أحد حمداً ولا شكورا لا تنتظر أن يذكُرك الناس بلسانهم ولا أن يُشيروا إليك ببنانهم لا تنتظر كلمة مدح ولا شريطً يوزع أخلص نيتك لله جل وعلا وتقرب إلى الله بالدعوةِ إليهِ وأعلم أن الدعوة إلى الله أعظمُ القُربات وظيفةُ الأنبياء ومُهمة المُرسلين .(14/22)
{ ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المُسلمين }أُدعُ إلى الله في بيتك أُدعُ إلى الله مع زوجتك وأولادك أُدعُ إلى الله جل وعلا في مواطن عملك كُن هينً لينً يأخُذُ الناسُ منهُ قولهُم كُن هاشاً باشاً يعلمُ أن الناس لا يُمكن أن يُجمعوا على قلبٍ واحد ولذالك قال الله لنبيهِ
{ وما أرسلناك إلى رحمةً للعالمين }
يؤتى إليهِ صلى الله علية وسلم بالرجُل وقد شرب الخمر ويُجلدُ مرةً بعد مرةً بعد مره ثُم يقول صلواتًُ الله وسلامهُ عليهِ ( لا تُعينُ الشيطان على أخيكُم والله ما علمتُهُ إلا مُحبً لله ولرسولهِ ).
إذا أراد أن يدعو دعا بأسلوب حسنً لين يُردفُ مُعاذً خلفه ثُم يقول لهُ يا مُعاذ ومُعاذ أصغرُ منهُ سنا وأقل منهُ درجة وأين الثرى من الثُريا على عظمة مُعاذٍ وقدرهِ ثُم يقول لهُ يا مُعاذ والله إني لأُحُبُك فيحلف صلى الله علية وسلم ولا حاجة لمثلهِ أن يحلف ثم يقولُ يا مُعاذ لا تدعنّ في دُبرِ كُل صلاةٍ أن تقول " اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك "
من أراد أن يدعُ إلى الله فليكُن هيناً ليناً يبتسمُ للمُسلمين ويعلمُ أنهُ لا يخلو مؤمنُ من خطيئة ( لو تكاشفت ما تدافنتُم ) الرجُلُ العبدُ الصالح ذو العلم والبصيرة يتبعُ سبيل الحكمة يبعدُ عن طرائق الفتنة .
جاءهُ صلى الله علية وسلم عمرُ ابن عبسه وهو رابعُ أربعة في الإسلام أيام أولٍ بعثتهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وقال من أنت ؟ قال : أنا نبي قال وما نبي ؟ قال : نبيٌ أدعو إلى الله و أُحذرُ من عبادة الأوثان فقال أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن مُحمدً رسول الله فقال صلى الله علية وسلم اذهب إلى ديار قومك أي لا تُعرض نفسك للفتنة قال اذهب إلى ديار قومك فإذا سمعت أن الله أظهرني تعال إلي ولم يبتليهِ صلى الله علية وسلم .(14/23)
فقد يقدرُ العالمُ لا يقدرُ عليها داعية ويقدرُ داعيةٌ على كلمة لا يقدرُ عليها من هو أدنى منه ويقدرُ المُعلّم على كلمة لا يقدرُ عليها الطالب ولا يُمكن أن يُكلّف الناس كُلهم بالدعوة إلى الله على طريقٍ واحد وعلى كلمةٍ واحده لكن المؤمن في قلبهِ يحترق إذا رأى مُنكراً ويحترق إذا رأى معروفاً لا يؤمرُ بهِ أما ماذا يصنع هذا ينظرُ الإنسانُ إلى وضعهِ الاجتماعي إلى وضعهِ المكاني ينظرُ أيُ الطرائقُ أجدى وأنفع في الدعوة إلى الله جل وعلا .
وكم كلمة حرمت كلمات وكم مُحاضرة منعت مُحاضرات وكم وكم مما لا يخفى على أحد فالمُسلمُ ينبغي عليهِ أن يكون همّهُ الأول والأخير أن تبقى الدعوةُ إلى الله جل وعلا قائمة لا أن يبقى الأشخاص ويبقى الذوات فإن كان مُحمدٌ صلى الله علية وسلم مات والدينُ باق فمعنى هذا أن الدين لا يُمكنُ أبداً أن يُعلّق بأحد كائنً من كان ولو كان أعلم أهلُ الأرض
// الأمر السابع إن كُنا مازلنا بالترتيب :
أنهُ ينبغي على المُسلم أن يُكثر الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله علية وسلم لأن هذا من حقهِ صلى الله علية وسلم على أُمتهِ وقد أدى صلواتُ الله وسلامهُ ما عليهِ فبقي الذي له عليهِ الصلاةُ والسلام وقد قال وهو الصادقُ المصدوق ( من صلى علي واحده صلى الله عليه بها عشرا ) وينبغي أن يعلم المؤمن أن هذا النبي ما مات إلا وقد أدى الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأُمة .(14/24)
كُنا في العام الماضي في حج العام الماضي مع شيخنا ابن باز حفظهُ الله فجلس يُحدث عن حجة الوداع فلما وصل إلى قول الرسول صلى الله علية وسلم أنه قال لناس فإنكم ستُسألون عني فقال الناس كما أخبرنا في الحديث قالوا يا رسول الله نشهدُ أنك أديت الأمانة وبلّغت الرسالة و ناصحت الأُمة بكى شيخُنا حفظهُ الله والله كأني أنظُرُ إليهِ وهو يبكي في هذهِ اللحظة ويقول وأنا أشهد أنهُ أدى الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأُمة فجزاهُ اللهُ بأفضل ما جزى نبيً عن أُمتهِ .
فينبغي على المؤمن في غدوهِ ورواحهِ أن يُكثر من الصلاة والسلام على رسولهِ صلى الله علية وسلم وأن يستحضر أنهُ عليهِ الصلاةُ والسلام وفى وأدى ما عليهِ وأن ينظُر في أفعالهِ أين هي من هديهِ صلى الله علية وسلم إن كُنّا صادقين مُحقين في محبتهِ فالفيصلُ بيننا وبين ذالك أن ننظُر في أعمالنا ننظُر في خُطواتنا ننظُر في أقوالنا
أين هوانا من هواه ،
أين هديُنا من هديهِ ،
أين سمتُنا من سمتهِ ،
أين حديثُنا من حديثهِ ،
أين لياُنا من ليلهِ ،
أين نهارُنا من نهارهِ ،
كيف يدعي مُسلم أنهُ يُحبُ الله حقاً ويُحبُ رسولهُ صلى الله علية وسلم وهو يعكفُ ليلة حتى مفلق الفجر على أمورٍ حرّمها الله وحرّمها رسولهُ صلى الله علية وسلم على أغانٍ ماجنة وأفلامٍ خليعة ما فيها ما يُذكرُ بالله أو يدعوا إلى رسولهِ صلى الله علية وسلم وعائشة تقول إنهُ بات عندي صلواتُ الله وسلامهُ علية حتى وجدتُ برد جسمهِ ثُم قال لي يا عائشة أتأذنين لي أن أعبُد ربي قالت قُلتُ يا رسول الله والله إني لأُحبُ قُربك وأُحبُ أن تعبُد ربك فقام صلى الله علية وسلم إلى شنٍ مُعلّق فتوضأ ثُم مكث يُصلي ويبكي حتى دخل عليهِ بلال يستأذنهُ لصلاة الفجر فقال لهُ بلال ما يُبكيك يا رسول الله قال يا بلال كيف لا أبكي وقد أُنزل علي الليلة ثُم تلا خواتيم آل عمران(14/25)
{إن في خلق السماوات والأرضِ واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأُولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سُبحانك فقنا عذاب النار }
كيف تدعي امرأة محبة مُحمدٍ صلى الله علية وسلم وهو القائل ( أيقظوا صواحب الحُجرات فرُب كاسيةٍ في الدُنيا عاريةٍ في الآخرة ثُم قال سُبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ٌبلت الفتن كقطع الليل المُظلم).
ومع ذالك رُبما تسهرُ الفتاةُ على الهاتف وتسهرُ على المذياع وأُخرى على التلفاز وأُخرى تُخاطبُ أصحاب القنوات وما إلى ذالك أين هؤلاء إن كانوا صادقين من محبة رسول الله صلى الله عليهِ وسلم .
إن أعظم دلائل المحبة المحبةُ لا تُعرفُ بالدموع ولا بالخشوع أمام الناس ولا بمثلِ ذالك تُعرفُ حقيقتها بإتباع هديهِ صلى الله علية وسلم وإن كان البُكاء والخشوع عند ذكرهِ صلى الله علية وسلم منقبة فإن مالكً رحمه الله تعالى كان إذا ذكر رسول الله بكى فقال لهُ أصحابهُ ما هذا يا أبا عبد الله قالوا لو أدركتوا مُحمد لمُنكدر أي شيخ مالك قال أدركتهُ ما ذكر رسول الله صلى الله عليهِ وسلم إلا فاضت عيناه رحمهُ الله تعالى ورضي عنه فمحبتهُ صلى الله علية وسلم في القلب والجوارح ومحبتهُ صلى الله علية وسلم بإتباع منهجهِ واستلامِ مسلكهِ ....
كذالك أيُها المؤمنون من هذهِ المقطوعة يعرفُ الإنسان أن احترام الغير أمرٌ مطلوب أمرٌ جاء بهِ الشرع وأبو بكر رضي الله تعالى عنهُ وأرضاه لما دخل عليهِ رسول الله صلى الله علية وسلم تأخر فقال لهُ عليهِ الصلاةُ والسلام يا أبا بكر ما منعك أن تثبُت إذ أمرتُك قال ما كان لأبنِ أبي قُحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليهِ وسلم .(14/26)
ومع ذالك كم ترى في الناس اليوم من لا يعرفُ رحمةً لصغير ولا توقيرً للكبير لكنك يا أُخي لو عرفت العُلماء والربانين والمُسلمين الصادقين كيف يحترمُ بعضهم بعضا لا لشيء إنما تأسيً بهدي مُحمدٍ صلى الله علية وسلم .
ونقول من أرض الواقع كُنا في العام الماضي مع الشيخين عبد العزيز ابن باز ومُحمد ابن عُثيمين حفظهم الله فكانت هناك مُحاضرة لشيخ مُحمد في مسجد الشيخ عبد العزيز في مكة فالمُحاضرة مُعلن عنها أنها لشيخ مُحمد ابن عثيمين فلما جلس الشيخ على الكُرسي كان أولُ الحضورٍ بين قدميهِ الشيخ عبد العزيز ابن باز رغم أنهُ حفظهُ الله مُفتي أُمه فتحرّج الشيخ مُحمد أن يتحدث لكنهُ غُلب عليهِ فتحدث فلما أكمل مُحاضرته جاءتهُ الأسئلة فقال أحيلُها إلى الشيخ فقال الشيخ عبد العزيز إنما كُتبت لك قال والله ما كُنتُ لأُجيب وأنت حاضر فحلف الشيخ عبد العزيز على الشيخ مٌُحمد أن يُجيب هو قال كُتبت لك يعني تُجيب أنت فاستحيَ الشيخ مُحمد وأخذ يُجيب وكأنهُ لم يستطع أدباً فأجاب على سؤال سؤالين ثُم قال لفرط ذكائهِ قال هذا سؤال يحتاجُ إلى تعقيب من الشيخ عبد العزيز فلو عقبت فعقب الشيخ عبد العزيز فلما انتهى قال الشيخ مُحمد الآن لا أتكلم بعد ذالك وقد أجاب الشيخ بن باز .
فالمقصود هذا مثالٌ واقعي شاهدتُ بعيني وأنقُلهُ لك يا أُخي ورُبما نقلهُ لك غيري لكن المقصود أنهُ ينبغي على المؤمن أن يحترم ويُوقّر منهُ أكبر منه وبالأخص والديهِ.
من الناس اليوم من تسألهُ أين أبوك يؤشّر وكأنهُ يؤشر على رجُلٍ في قارعة الطريق ويتكلمُ عن أبيهِ وكأنهُ يتكلمُ عن مرؤوسٍ بين يديهِ .
وينبغي للإنسان أن يعلم أن هذهِ الآداب الاجتماعية أصلٌ من أصل دين الله جل وعلا أمر الله بها ودعا إليها وطبّقها رسول الله صلى الله علية وسلم .(14/27)
فاحترامُ المُسلمين أيً كانت جنسياتهم وأيً كانت دولهم وأيً كانت منازلهم أمرٌ جاء بهِ الشرع ولذالك قال صلى الله علية وسلم في خُطبت الوداع (كُلكُم لآدم وآدم من تُراب ) ولما أراد أن يبعث جيشاً إلى الروم أمّر عليهِ أُسامة ابن زيد رغم أن في القوم أبي بكرٍ وعُمر .....
هذا أيُها المؤمنون ما أردنا بيانه ونعتذر إن أخللنا بشيء ولا ريب أننا أخللنا لكن الذي ينبغي أن يصل إلى قلبي وقلبك أيُها المؤمن أن نُعاهد الله جل وعلا على أن نكون صادقين في محبتنا لرسولنا صلى الله علية وسلم وأن نلتزم هديه وأن نتبع سُنته وأن نخرُج جميعاً من هذا المسجد مُحاضراً ومُستمعين على قلبٍ لا يعرفُ إلا الله لا يُحبُ إلا الله ثُم يُحبُ من أمر الله جل وعلا بحُبهِ ....
نخرُج وقد سلم المُسلمون جميعاً من ألسنتنا لا همزاً ولا لمزاً ( المُسلم من سلم المُسلمون من لسانهِ ويدهِ ).
نخرُج وقد سلم المُسلمون جميعاً من قلوبنا لا فيها غل ولا حسد ولا بغضاء .
نخرُج ونحنُ نعلمُ أن هناك مُنكرات ومعاصي لن نستطيع أن نتخلص منها فنسألُ الله جل وعلا أن يُعيننا على أن تخلص منها .
نخرُج ونحنُ نرقُب الله جل وعلا فيما نقولُ ونفعل ونرجوهُ جل وعلا أن يرحمنا وأن يرزُقنا شفاعة رسولنا صلى الله علية وسلم
اللهم إني أسألُك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أنت الواحدُ الأحد الفردُ الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد أنت الله لا إله إلا أنت ربُ كُل شيءٍ و مليكهُ خلقت السماوات السبع وما أضلت وخلقت الأرضين السبع وما أقلّت تُبدىءُ وتُعيد وأنت على كُل شيءٍ شهيد أرجعت يوسفُ إلى أبيهِ ورددت موسى إلى أُمهِ وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم وسعت كُل مخلوقٍ عزةً وحكمة ووسعت كُل شيءٍ رحمةً وعلما
نسألُك اللهم باسمك الأعظم وبوجهك الأكرم يا حيُ يا قيوم أن تُصلي على مُحمد وعلى ألهِ وأن ترزُقنا جوارهُ في جنات النعيم(14/28)
اللهم ارزُقنا جوار نبينا صلى الله علية وسلم في جنات النعيم
اللهم ارزُقنا جوار نبينا صلى الله علية وسلم في جنات النعيم
اللهم أحينا في هذهِ الدُنيا على هديهِ وسُنتهِ وأمتنا اللهم مُخلصين على ملتهِ اللهم وابعثنا تحت لواءهِ وفي زُمرتهِ اللهم وأوردنا حوضهُ و أرزقنا من شفاعتهِ اللهم وأختم لنا بخيرٍ واجعل مآلنا قُربهُ في جناتك يا رب العالمين
اللهم إن لم نكُن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهلٌ لأن تسعنا
اللهم إن لم نكُن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهلٌ لأن تسعنا
اللهم إن لم نكُن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهلٌ لأن تسعنا
اللهم من قدم إلى مسجدك هذا يُريدُ التوبة إليك اللهم تُب عليهِ واغفر ذنبه وامحُ خطاياه يا حيُ يا قيوم اللهم ورُدنا إليك جميعاً رجالاً ونساءً إلى دينك و هديك
اللهم يا مُقلب القلوب ثبت قلُوبنا على دينك
اللهم يا مُقلب القلوب ثبت قلُبنا على دينك
اللهم إننا بشر يعرضُ علينا من الفتن ما يحيدُ بنا عن طريقك اللهم ثبتنا على كُل حال اللهم إن حُدنا عنك فرُدنا إليك يا رب العالمين
اللهم رُدنا إليك اللهم رُدنا إليك
سُبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المُرسلين والحمدُ لله رب العالمين
رموز التفاؤل(14/29)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين أخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجّلهم يوم القيامة شأنا وذكرا صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :(15/1)
فإن الأيام لا بد لها أن تقضى وأن الليالي لا بد لها أن تنتهي وأن الأعمار لا بد لها أن تطوى والله جل وعلا أراد بنا أشياء وأمرنا بأشياء وليس من الحكمة أن ننشغل بما أراده بنا عما أمرنا به والله تبارك وتعالى إذا أخبر أن الدنيا فانية وأن الأعمار ذاهبة فإن أيام العبد ولياليه ما شغلت بشيء أعظم من تدبرها لكلام ربها جل جلاله وتأملها في آيات القرآن العظيم إما أن تتلوه وإما أن تتدبره وإما أن يمن الله عليها بالجمع بين الاثنين قال جل ثناؤه وتباركت أسماءه { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين َقالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فإذا أراد الله بعبد خيرا ألزمه كتابه المبين يتلوه ويتدبره يقرأه في النهار ويقوم به يّدي ربه في الليل قال جل ثناؤه وتباركت أسماءه { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} وذكر الله جل وعلا نتفاً من أخبار أهل طاعته وأولياؤه أنهم تجتمعون يوم القيامة في الجنة كما يجتمعون في الدنيا قال الله جل وعلا عنهم { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ(15/2)
الرَّحِيمُ} فمنن الله جل وعلا على بعض خلقه أو على خلقه عامه فيما سخره لهم أو على أفراد من عباده كل ذلك تضمنه بعض آيات الكتاب العزيز قبل الشروع والازدلاف إلى ذلك فنقول والله المستعان:
إن وجود المنن يدل على وجود المنان جل جلاله كما أن عظمت المخلوق تدل على عظمة الخالق وعظمة المصنوع تدل على عظمة الصانع فإن وجود المنن على العباد دلالة على أن هناك رب لا رب غيره ولا إله سواه والله تبارك وتعالى له على عباده المنة السابغة والحكمة البالغة وهو تبارك وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا شريك معه ولا رب غيره ولا وزير له تنزه وتقدس عن الصاحبة والولد لا يتعاظم شيئاً أعطاه يده سحاء الليل والنهار { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } فهو تبارك وتعالى رب ذو فضل كريم العطاء واسع السخاء ولا يمكن أن تكون هناك منن حتى يكون هناك رب عظيم جليل كريم رحمن رحيم يهب ويعطي يخلق ما يشاء ويختار والعلم بأن الله جل وعلا هو وحده المنان القادر على أن يهب من أعظم ما يجعل العبد عرضة لرحمة الله ونفحاته وعطاياه ومننه تبارك وتعالى قال الله جل وعلا { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون َبَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(15/3)
الأمر الثاني الذي ينبغي أن يعلم أن الله كما أنه رب ذو فضل فإنه جل جلاله حكم ذو عدل أن الله لا يظلم الناس مثقال ذره وإن تكُ حسنه يضاعفها ويأتي خيراً مما أُخذ من العبد فهو جل وعلا حكم عدل قبل أن تشرع في فهم منن الله جل وعلا على عباده يجب أن تفقه أنه لا يضيع عند الله شيئا قال يوسف عليه السلام يمدح ربه ويثني عليه كما حكا الله عنه في كتابه { إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وربنا يقول {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ } أن يعلم أن القرآن العظيم فيه من البلاغة وفيه من الإعجاز ما يحتوي على الإعجاز في لفظه والإعجاز في معناه فكما يخبر الله عن المنن إظهاراً أحيانا يخبر عنها جل وعلا من باب الإضمار أحيانا فالإظهار يكاد يعرفه كل أحد وما أضمره الله جل وعلا من منن على بعض عباده هذه التي ينبه لها العلماء ويسابق فيها الأخيار الذين منّ الله عليهم بالقدرة والعطاء على أن يتدبروا كلام ربهم تبارك وتعالى ، مقول من دلائل إعجازه القرآن مثلا أن الله ذكر في كتابه المشرق والمغرب ذكرهما مفردين وذكرهما على هيئة التثنية وذكرهما على صيغة الجمع وكل ذكر لهما كان يوازي السياق العام الذي جاء فيه ، لما ذكر الله جل وعلا عبادته والتوجه إليه في الصلاة وهو حق له مطلق تبارك وتعالى لا يشاركه فيه أحد قال سبحانه { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} فأفرد الله ذكر المشرق وأفرد ذكر المغرب ولما ذكر جل وعلا الانقطاع إليه والتبتل إليه وذكر وحدانيته وأنه لا رب غيره ولا إله سواه قال سبحانه لنبيه { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فذكرهما الله جل وعلا على هيئة الأفراد لأن السياق والمنح العام للآيات يتطلب هذا ولا ملزم على الله ، فلما خاطب الله(15/4)
الثقلين الجن والأنس وقال جل ذكره { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّار ٍفَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وكان الخطاب للاثنين ثناء جل وعلا المشرق والمغرب ولم يذكرهما مفردين كما فعل في الأولين قال جل ذكره { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ولما ذكر سبحانه تفرق الناس على نبينا (صلى الله عليه وسلم ) واختلافهم فيه أي القرشيين هذا يصدقه وهذا يكذبه والمكذبون له هذا يقول أنه مجنون وهذا يقول أنه ساحر وهذا يقول أنه كاهن وهذا متوقف فيه قال جل ثناؤه وتبارك أسمه { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِين أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} فجمع جل وعلا حتى يناسب اللفظ القرآني يناسب السياق العام والمنح الذي جاء فيه الأيه لما كان كفار قريش متفرقين في فهم القرآن في فهم الرسالة جاء الخطاب القرآني متفرقاً { فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُون} وما يقال عن هذا السياق يقال كذلك عن التقديم والتأخير في كلام رب العزة جل جلاله ، ذكر الله جل وعلا أولي العزم من الرسل في سورتين من كتابه ، ذكرهما في الأحزاب وذكرهما في الشورى قال في الأحزاب { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا } فلما ذكر الله جل وعلا فضيلة الرسل بدأ بنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أشرف الرسل صلوات الله وسلامه عليه فقدمه ثم ذكر الأنبياء حسب ظهورهم التاريخي { وَإِذْ أَخَذْنَا(15/5)
مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } على هذا كان ظهورهم التاريخي عليهم الصلاة والسلام فلما أراد الله ذكر الدين وأن الدين قديم قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبدأ الله بنبينا عليه الصلاة والسلام وإنما بدأ بنوح لأنه أول من بعث بالرسالة وأول رسل الله إلى أهل الأرض فقال جل ثناؤه { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} فذكر الله جل وعلا أول الرسل ولم يذكر أشرفهم وسيدهم لأن الكلام عن الدين فالمقام الأول وليس الكلام عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ذكر الله جل وعلا في كتابه الوصية والدين والفقهاء متفقون على أن الدين مقدم في إنجازه على الوصية ومع ذلك قال الله تبارك أسمه وجل ثناؤه { مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فقدم الوصية على الدين لأن الدين يوجد من يطالب به أما الوصية فالغالب لا يعلمها الفقراء فلا يطالبون بها فقدم الله جل وعلا ما حقه الاهتمام على ما يمكن تأجيله وإرجاؤه وهذا كله أيها الأخ المبارك مندرج في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي كما هو معجز في معناه ولا ريب أنه كتاب من عند رب العالمين فلا غرر ولا عجب أنه يكون بهذا الأمر ، الأمر الرابع أن يعلم العبد أن الله تبارك وتعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب فإن العطايا والمنن إنما تكون إذا كانت عطايا دينيه إنما تكون على قدر ما الرب جل وعلا من عظمه وإجلال في قلب ذلك العبد والأنبياء والمرسلون يدركون مقامهم عند الله لأنهم يعلمون مقام الله في قلوبهم فهذا والد الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مرة عليه أيام لم يكن أحد على الأرض يعبد الله غيره فكان يعرف ما له عند الله جل وعلا من رفيع(15/6)
المقام فلما ابتلي بأبيه قال لأبيه { سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ثم قال يبين مقامه عند الله { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } أي أنني أعلم من ربي أنه يحتفي بي وله عنده مقام عظيم لأن إبراهيم يعلم ما في قلبه من تعظيم وإجلال ومحبه وخوف من الله جل وعلا ، فمن أراد المقام الرفيع عند الرب تبارك وتعالى والعطايا الدينية فإن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب ، فمن أراد أن يكون له عند الله جل وعلا المقام الرفيع فليكون لله جل وعلا العظمة في قلبه والمحبة والإجلال والخوف والعبادة والتقوى وكل ما أمر الله به تبارك وتعالى وهذا من أعظم ما تستدر به نعم الله وتستدفع به النقم أعطانا الله ووهبنا وإياكم من نعمه ودفع الله عنا وإياكم من النقم أكثر مما نخاف ونحذر.
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقهمْ عَذَابَ الْجَحِيم }(15/7)
العرش أيها المؤمنون سقف المخلوقات والله جل وعلا مستوي عليه استوى يليق بجلاله وعظمته ومع استوى الله جلا وعلا على العرش فإن للعرش حمله يحملونه قال سبحانه{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } هذه طائفة ثم قال { وَمَنْ حَوْلَهُ } هذه واو عطف والعطف يقتضي المغايرة أي من حول العرش غير حملة العرش فحملة العرش يحملون العرش ومن حول العرش يطوفون حول العرش والذين يحملون العرش ومن حول العرش كلهم مخلوقون عبّيد مقهورون لرب العالمين جل جلاله يسبحون بحمده ويكثرون من ذكره قال الله عنهم { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } عظم علمهم بالله فعظم فرقهم من الرب تبارك وتعالى عظم علمهم بالخالق سبحانه وتعالى فعظم إجلالهم له جل وعلا عرفوا ربهم فخافوا منه والعبد كلما كان بالله أعرف كان لله أتقى ومن الله أخوف قال ( صلى الله عليه وسلم ) : مررت ليلة أعرج بيّ وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تبارك وتعالى ، فهو ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: أما وأني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشيه ) فما دام ( عليه الصلاة والسلام ) أعلم الخلق بالله فهو قطعاً ( صلوات الله وسلامه عليه ) أشد الخلق لله خشيه يقول سبحانه { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } نقول كما قال الله إن حملة العرش ومن حول العرش والعرش الله جلا وعلا مستغني عن ذلك كله وحملة العرش وسائر الخلق فقراء كل الفقر إلى الرب تبارك وتعالى والله جل وعلا وحده له الكبرياء والعلو فكتب على عباده أن يسجدوا له ، والسجود أعظم ذلة من حيث الموطن والموقع ، وكلما ذل الإنسان لربه وعرف أنه ما من نعمه إلا والله وليوها وما من نقمة إلا والله قادراً على أن يدفعها ، كلما علم أن الله وحده { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } كلما تيقن أن الله يخلق ويرزق(15/8)
ويعطي ويمنع ويخفض و يرفع وأنه لا يستحق أن يعبد أحداً بحق إلا هو سبحانه وأن الله جل وعلا وحده له رداء العزة والكبرياء وأنه لا يطلب شيئاً إلا بالله ولا تدفع نقمه إلا بالله ولا ينال مرغوب إلا به سبحانه وتعالى ، كل من تيقن بذلك دل ذلك على علمه بربه تبارك وتعالى وهو الذي فيه وعليه قضى أنبياء الله حياتهم ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) قال نوح {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} وقال أخرهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) { قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } ثم بين جل وعلا في هذه الأيه أن هولاء الملائكة يحملون العرش وما حملة العرش إلا طائفة من الملائكة ، والملائكة خلق من خلق الله خلقهم الله جلا وعلا من نور ليسو شركاء لله ولا أندادا ولا بنات لله ولا أولادا إنما هم عبيد من عباده وخلق من خلقه يأتمرون بأمره ويقفون عند نهيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون منهم من أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي وهو جبريل ومنهم من أوكل الله جل وعلا عليه جريان السحاب وتوزيع الأمطار على الأقطار وهو ميكال ومنهم من أوكل الله إليه النفخ في الصور وهو إسرافيل ومنهم من أوكل الله إليه قبض الأرواح وهو ملك الموت وغيرهم آخرون كُثر قال الله جل وعلا عنهم { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو } منازلهم الأولى هي السماء وعبادتهم التي لا يفترون عنها أنهم يقولون (( سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )) وجاء في بعض الآثار أنا منهم من هو ساجد لله منذ أن خلقه الله ومهم من هو راكع لله منذ أن خلقه الله ، فإذا كان يوم القيامة يقبضون على هذه الهيئة ويحيون على هذه الهيئة فإذا رفعوا رؤوسهم رأو(15/9)
وجهه ربهم تبارك وتعالى فيقولون عند رؤية وجهه العلي الأعلى سبحانك ما عبدنك حق عبادتك .
قال سبحانه يبين فضل الإيمان { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } فأنت في هذا البيت في بيت من بيوت الله لأنك أردت ما عند الله من الأجر وعقدت أناملك بالتسبيح ولهج لسانك بذكر الله ودخل الإيمان في قلبك وكل ذلك بفضل الله تستغفر لك ملائكة السماء يستغفر لك حملة العرش فالإيمان جمع بينك وبين سكان السموات العلى والكفر يفرق بينك وبين أقرب الناس إليك قال الله جل وعلا عن أبن نوح { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقد كان الخليل على كرامة عظيمة من الله { سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } فالخليل إبراهيم المنزلة العالية والاحتفاء العظيم في الملكوت الأعلى ومع ذلك لما كان أبوه كافراً لم ينشئ أي علاقة ، علاقة نفع ما بين إبراهيم وأبيه ، ينتفع صغار المسلمين من موتاهم إلى قيام الساعة بدعاء إبراهيم لهم نقول في دعاءنا للأموات الصغار (( اللهم ألحقهم بكفالة أبيهم إبراهيم في الصالحين )) فينتفع هؤلاء الصغار بكفالة أبيهم إبراهيم ولا ينتفع أبو إبراهيم نسباً بكرامة إبراهيم عند ربهم فالإيمان جمع بيننا ونحن في الأرض مع ملائكة السماء وهم في السموات العلى والكفر عياذاً بالله يفرق ما بين المؤمن وأي كافر أخر حتى يعلم أنه لا وشائج ولا صله تربط بين المؤمن والأخر أعظم من رابطة الإيمان قال سبحانه { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ(15/10)
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } إن الإنسان لا تحمل فوق ظهره شيئاً أنكى ولا أعظم من حمل الذنوب قال جل وعلا { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } وقال جل وعلا { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } و بعد أن ذكر موسى قال { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فما تُقرب إلى الله شيئاً بعد توحيده أعظم من استغفاره جل وعلا وملائكة السماء وحملة العرش على وجهه الخصوص ومن حول العرش يستغفرون لكل مؤمن ومؤمنه – نسأل الله جل وعلا أن نكون ممن ينالهم بركة ذلك الاستغفار { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقر عين المؤمن إذا أمسى يثوي إلى أهله والتف حوله والداه وزوجته وبنوه وبناته وحق له أن تقر عينه بهذا ، ولهذا يجد المغتربون من الناس كمداً في صدورهم إذا أوو إلى منازلهم ولم يلتقوا بأهليهم ويسألون الله أن يطوي عنهم أيام الغربة ، لكن القرار الحق والفرح الكامل والبهجة التامة يوم أن يلتقي المؤمن بوالديه وزوجته وأبناءه وبناته في جنات النعيم قال الله عنهم { وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي(15/11)
وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولن يقدم أحداً لوالديه أو لولده من بعده شيئا ًهو ذخراً أعظم لهم من العمل الصالح فإن العبد إذا كان صالحاً نفع الله بصلاحه والديه وذريته من بعده ، ربما جعله الله جل وعلا ممن يشفعون في عرصات يوم القيامة وهذا أمر مستقراً شرعاً له أدلته الظاهرة في الكتاب والسنة وإنما نمر به هنا ألماماً – نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل ذلك النعيم- قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة يحدث عن أهل النار وهي الخزي الأعظم والخسران الأكبر قال جل جلاله { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أهل النار يقولون يومئذ { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } موته ونحن أجنه في بطون أمهاتنا فنفخت فينا الروح والموته الثانية يوم قبض الأرواح وهي الموته المكتوبة على كل أحد { وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الحياة الأولى عندما نفخت فينا الروح فكنا أحياء في بطون أمهاتنا الحياة الأولى حياة الدنيا والحياة الأخرى يوم بعثهم الله جل وعلا من مرقدهم كما قال الله في يس{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} فإذا اعترفوا بهذا يقولون هل إلى خروج من سبيل خروج من النار وعودة للدنيا علهم يتقون ولن يتقوا قال الله جل وعلا في الأنعام { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فإذا قالوا ذلك ذكرهم الله جل وعلا(15/12)
بأعظم معصية لهم إلا وهي الإشراك بالله وأن نفوسهم والعياذ بالله كانت تبتهج وتفرح إذا ذكر مع الله غيره وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم الذين لا يؤمنون بالأخره فمن أراد أن يعرف أين قربه من الله فليرى كيف حاله إذا ذكر الله جل وعلا وحده . اللهم أنا نجئر إليك أن تعيذنا أن تقر أعيننا أو تطمئن قلوبنا إلى أحد غيرك.
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطئا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}(15/13)
والتبتل و الانقطاع إلى الله جل ذكره من أعظم أسباب التوفيق بل أنه من أجل مقامات الصديقين وأعظم منازل السائرين في دروب إياك نعبد وإياك نستعين فإن الله تبارك وتعالى جعل من الانقطاع إليه سنه ماضيه في الأخيار من خلقه والأفذاذ من عباده والأتقياء من الصالحين قال الله لخير الخلق { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } وهذا الانقطاع إلى الله جل وعلا كما بينا منزلة عظيمه ذكرها الله جل وعلا في سورة الزمر في مواطن متفرقة فذكرها تارة بالتصريح وذكرها تارة بالتضمين فقال جل وعلا بالتصريح { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقال { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } وقال جل ذكره { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} فهذه الآيات وما أشبهها ومثيلاتها في هذه الصورة دعوة للمؤمن إلى أن ينقطع لربه والانقطاع إلى الله معناه إن الإنسان لا تقر عينه بشيء أعظم مما تقر عينه بالله وما يكون من الله كل شيء كان مقرباً إلى الله قرة عينك به هذا إحدى معاني الانقطاع إلى الرب جل وعلا وهذا ينجم عنه صدق التوكل على الله جل وعلا وسيأتي بيانه تفصيلاً في قوله جل وعلا { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } والآيات في هذا الشأن كثيرة لكنها تنصب على محور واحد وهو أنه لا أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعا وما دام لا أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعا فلا يجب على القلب المؤمن أن ينقطع إلى غير الرب تبارك وتعالى(15/14)
وهذه من الحقائق العظيمة التي أرادها الله جل وعلا أن تثبت في قلوب عباده المؤمنين ولذلك الناس فريقان : فريق إذا ذكرت الله وحده عنده وكان حديثك معه فيما يتعلق بقدرة الله وجلاله وفضله وكمال عزته كان فرحاً مسروراً مستبشراً وآخرون -عياذاً بالله وأجارنا الله وإياكم من ذلك - وإن أنتسب إلى الملة لكنه يحب أن يذكر مع الله غيره حتى إذا ذكر الأولياء والصالحون والأتقياء الذين في قبورهم لا يفرح إذا ذكرت أن لله وحده القدرة وإنما يستأنس إذا ذكرت إن للأولياء والصالحين من الأنبياء أو من الملائكة أو من الأتقياء لهم قدوة ولهم مكانه فينقل أقاصيص مكذوبة عنهم تستبشر نفسه وتفرح إذا ذكر مع الله جل وعلا أحد ذو قدره قال الله جل وعلا { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} قال السيد الألوسي – رحمه الله – أحد علماء السنة في العراق قال : وقد وجدنا هذا في بعض أهل زماننا إذا تكلم عن الله وكمال قدرته جل وعلا وحده ضاقوا بنا ذرعا وإذا ذكرنا ما للموتى من الصالحين في قبورهم مالهم من قدرات وما أعطاهم الله جل وعلا من عطايا يحسبونها موجودة وهي ليس فيها إلا الوهم ظنوا بنا الظنون وأنكروا علينا الأمر وهذا كله – والعياذ بالله – من عدم كمال الانقطاع إلى الله جل وعلا ومن أنقطع قلبه إلى الله جل وعلا وحده علم أن أي أحد من الخلق لا يمكن أن يملك لنفسه فضلاً لغيره ضراً ولا نفعا ، ولقد قلنا مراراً في دروسنا أن الشافعي – رحمه الله – أهمه أمر ذات يوم فرأى في منامه من يقول له يا أبا عبدالله قل في دعائك : ((اللهم أني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعا ولا موتاً ولاحياةً ولا نشورا ولن أستطيع أن أخذ إلا ما أعطيتني ولن أتقي إلا ما وقيتني فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية .)) ففرج الله عن ذلك العبد الصالح همه(15/15)
بعد أن ذكر هذا الدعاء. موطن الشاهد منه أنه لا يملك الضر والنفع إلا الله فما دام الأمر إلى ذلك فإن أعظم مقامات التوحيد أن يفر المؤمن إلى الله جل وعلا وينقطع إليه وحده دون سواه كما قال العبد الصالح { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } مما دلت عليه هذه السورة الكريمة من قضاياها أن الله جل وعلا ما ابتلى أحد بذنب أو بلاء أو عقوبة أعظم من قسوة القلب قال وهب بن منبه – رحمه الله - : (( ما أبتلى الله قوم بشئ أعظم من قسوة قلب )) قال الله جل وعلا { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } ومن هنا أختلف العلماء في بيانها نحوياً ولغويا لكن الأظهر كما أختاره الطبري – رحمه الله – أنها بمعنى ( عن) فيصبح معنى العبارة [ فويل للقاسية قلوبهم عن ذكر الله ] ومعنى قوله جل شأنه [ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم عن ذِكْرِ اللَّهِ] قال العلماء في بيانها جملةً إذا كان القلب معرضاً عن الله ملتفتاً إلى غيره فهذا قلبٌ قاسيٍ وإذا كان القلب مقبلاً على الله معرضاً عن غير الله فهذا هو القلب اللين وما أبتلى العبد بشئ أعظم من أن يتمثل ويتعلق بالأشباح والصور من دون الرب تبارك وتعالى ويعرض عن الله يجد أنسه وفرحته في مجالس لا يذكر الله جل وعلا فيها طرفه عين ، يجد فرحته وأنسه في مواطن يُعصى الله جل وعلا فيها جهاراً ، يجد أنسه ورغبته وحياته في سفر بعيد عن مواطن يرفع فيها الآذان وتقام فيها الصلوات . أما الذين ألان الله جل وعلا قلوبهم فإنهم وإن قرت أعينهم بعض الشيء ببعض المجالس المباحة إلا أن أعينهم وقلوبهم لا تقر بشئ أعظم من مواطن يذكر الله جل وعلا فيها فلما ذكر الله قسوة القلب والله رحيم بعباده أردف جل وعلا قائلاً ببيان أعظم ما يلين القلوب فقال جل(15/16)
ذكره { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فبين جل وعلا أن أعظم ما يلين القلوب هو ذكر الله جل وعلا وأعظم ذكر للرب تبارك وتعالى تلاوة آياته وتأملها وتدبرها وهو ما نحن فيه هذه الساعة تقبل الله منا ومنكم صالح أعمالنا.
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}(15/17)
وجمهور أهل التفسير على أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله قالوا: أضاف الله جل وعلا العباد إلى ذاته العلية وأخبر بأنهم مسرفون في الذنوب ثم أخبر جل وعلا بعد ذلك كله أنه يغفر لهم وهذا من أعظم القرائن على أن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله وقد قال بعض أهل العلم : إنه آية مدنيه نزلت في وحشي قاتل حمزة ، فإذا كان قاتل حمزة قد غفر الله له مع أن حمزة كان أسد الله محبباً مقرباً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عمه وفي ذات الوقت أخوه من الرضاعة فقبل الله جل وعلا توبته وإنابته فما بالك بغير ذلك من الذنوب فالله جل وعلا أرحم الرحماء لذلك قلنا أنه ذو فضل لكنه جل وعلا حكماً ذو عدل لا يظلم الناس مثقال ذره وهذا ذكره الله في السورة فإن الله ذكر أهل الكفر فقال { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } ثم بين عدله جل وعلا قال { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} هنا ميز جل وعلا بين المعرضين عنه وبين المقبلين عليه وذكر أعظم صفات المقبلين عليه فقال جلا ذكره { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فمعنى الآية إجمالاً : إن هذا الموصوف بهذه الصفة من عباد الله وإن كان أكثر أهل العلم يقول : أنها تنطبق على عثمان ( رضي الله تعالى عنه وأرضاه ) كما حكي ذلك عن ابن عمر وغيره ، لكنها عامه في ألامه كلها .(15/18)
عبداً يقف بين يديّ الله قانتاً وهذا القنوت جاء في الآية مبهم لكن السنة بينت قال (( صلى الله عليه وسلم )) كما أخرج الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن بسند صحيح من حديث تميم بن أوس الداري ( رضي الله عنه ) قال: من قرأ بمئه آية من القرآن في ليله كتب له قنوت ليله " من قرأ بمئة آية في ليله من القرآن كتب له قيام ليله " فإيما عبد أراد بقيامه بين يدي الله أن يرجو رحمة الله لا هم له إلا أن يرحمه الله وفي ذات الوقت يتلو مخافةً من عذاب الله وتلا مئة آية من القرآن أو يزيد في ليله واحده ولو في عدة ركعات كتبه الله جل وعلا من القانتين وهذا سياق مدح عظيم من رب العالمين تشرئب إليه الأعناق وتنقطع دونه أمور الوصال قال الله { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا } قدم الله السجود على القيام لأن العبد لا يكون في موضع هو فيه أقرب إلى الله جل وعلا من موضع السجود فلهذا قال سبحانه { سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } الذين يعلمون أن الله إله وحده أحق أن يعبد والذين لا يعلمون أن الله ألاه واحد فلم يعبدوه إنما يعرف الفرق بين الأمرين والتفريق بين الحالين من كان ذا لب وعقل وإنصاف و لهذا قال جل ذكره وتبارك اسمه { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } والقضية بعمومها كما بينا أن الله رب ذو فضل وحكماً ذو عدل ، وحكماً ذو عدل قال الله جل وعلا في آخر السورة { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم} أي بين أهل الكفر وبين أهل الإيمان قُضي بينهم بالحق ولم يقل الله جل وعلا بالعدل هنا لأنهم دخل الجنة من كان له ذنوب وأخرج من النار من كانت له ذنوب ، والجنة والنار مخلوقتان لله تبارك وتعالى ، هو خالق الجنة وخالق النار(15/19)
يدخل من يشاء الجنة بفضله ويدخل من يشاء النار بعدله ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله جعلني الله وإياكم ممن كتب الله لهم الحسنى من قبل .
ومن البشارات أيها المؤمنون أن يكتب الله جل وعلا لأحد من الناس قبولاً في الأرض ومحبةً من الناس وذكراً طيباً قال (( صلى الله عليه وسلم )) : " هذا عاجل بشرى المؤمن "
لكن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من السرائر يصنعها العبد وقد قدمنا إن رجلاً من الصالحين يقال له أبو عثمان النيسابوري كان محبوبا من الناس ففي أخريات حياته جاءه رجل فقال له يا أبا عثمان انك لست إماماً ولا خطيبا ولا00ولا00وانني أجد الله قد وضع لك قبولاً في الأرض ومحبة فا أسألك بالله ألا أخبرتني با أرجى عمل عملته في الدين فوافق الرجل على أن يخبره شريطة إلا يحدث به الناس إلا بعد موته فحدث به السامع بعد موته 0 قال يا هذا انه جاءني رجل ذات يوم أظنه من أهل الصلاح فقال لي إني أريد أن أزوجك ابنتي فقبلت فلما دخلت عليها فإذا هي عوراء شوهاء عرجاء لا تحسن الكلام وليس فيها من الجمال مثقال ذرة فلما رأيتها رضيت بقضاء الله وقدره فأقمت معها خمسة عشر عاماً فتنت بي وليس في قلبي نحوها من الهوى والميل مثقال ذرة لكنني كنت صابراً عليها أحسن إليها ولا اخبرها عما في قلبي إجلالاً لله تبارك وتعالى حتى توفاها الله جل وعلا .(15/20)
وكان من تعلقها بي أنني تمنعني أن اذهب للمسجد والى أقاربي وأصدقائي تريدني طوال اليوم والنهار أن أكون معها فأطيعها في كثير من الأحيان ولم اخبر بهذا احدً ولم اشتكي أمري إلى احد غير الله وفعلت ما فعلت إجلالا لله فإن كان الله يقول كتب لي قبولاً فإني أرجو الله أن يكون بسريرتي هذه فمن أعظم ما تتقرب به إلى ربك أن يكون بينك وبين الله جلا وعل سريره لا يعلمها أحد من الخلق تدخرها لنفسك بين يدي الله في يوم أحوج ما تكون فيه إلى ما يكسي عورتك ويطفئ ظماك ويجعلك تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله ، فإن أعمال السرائر إذا أخلص العبد لله النية وكان له عمل سواء عملاً عبادياً محضاً بينه وبين الله أو عملاً ذا تعداً بينه وبين الخلق كإحسان لوالده أو قياماً على أرمله أو عطف على يتيم أو غير ذلك مما شرع الله مما لا يمكن لي ولا لغيري أن يحصيه فجعلته سريره تدخرها بينك وبين الله كان ذلك من أعظم البشارات لك تأتيك بشارته في الدنيا فبل الاخره الم يقل نبيكم (( صلى الله عليه وسلم )): يا بلال إنني ما دخلت الجنة إلا ووجدت دف نعليك أمامي وتعجب (( صلى الله عليه وسلم )) يدخل الجنة في منامه ورؤيا الأنبياء حق فكلما دخلها يسمع صوت خشخشة نعليّ بلال ( رضي الله عنه وأرضاه ) فأخبرني يا بلال بأرجى عملاً عملته في الإسلام ؟ فقال يا رسول الله إنني ما كتب الله لي وضوءً قط توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا و صليت لله ما شاء الله لي أن أصلي . فهذه سريره وأن أظهرها بلال بعارض لكن عظمتها في مداومتها وأحب العمل إلى الله جل وعلا أدومه وكلما ابتلي الإنسان ببلاء ونجح في الابتلاء كان ذلك بشارة من الله له بالثبات يوم القيامة يوم تزل الأقدام والله كما قلت في الأول حكماً ذو عدل لا يمكن أن يهبك هبه ومنزله حتى يؤهلك بالوصول إليها إذا الله أنزلك منزله أعطاك ما يعينك على الوصول إليها إما بالفقد وإما بالعطاء ، يعني أما تفقد شيء فتصبر وإما(15/21)
يوفقك الله لعملاً صالحاً فتصنعه .
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(15/22)
لكل من يسمع ليّ أو لغيري ولكل من يقرأ لنا أو لغيرنا لا تعود نفسك أن يرق قلبك إلى شيء أعظم من القرآن كل حياة لقلبك لو سمعت مئات المحاضرات والله الذي لا إله إلا هو لا تعدل آية واحده من كتاب الله ، الله يقول : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} المؤمن لا يريد شيء أعظم من رضوان الله ورضوان الله لا ينال بشيء أعظم من حب كلام رب العالمين جل جلاله ومن أعظم ما أثنى الله به على أولياءه والصالحين من خلقه أنهم تتصفون بثلاث صفات – رزقنا الله وإياكم إياها بإخلاص – إذا تليت عليهم آيات الله وجلُ القلب واقشعرار الجلد وذرف العين قال الله موسى وهارون وإبراهيم وإدريس وإسماعيل ومريم وابنها في سورة مريم فذكرهم بصفات متفرقة ثم أجمل قال { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} والأشياء بالتعود وأعظم ما ينصح به الإنسان ليحي قلبه أن يقوم بين يديّ الله في الليل ثم يأتي لآيات أثنى الله فيها على ذاته العلية ولا يوجد كلام أجمل وأعظم تأثيراً من ثناء الله على نفسه وإخبار الله عن ذاته بما انه لا أحد أعظم من الله فلا كلام أعظم من كلام الله وبما أنه لا أحد أعظم من الله فلا أحد أعلم بالله من الله هذه الأمور القواعد أحفظها جيداً لا أحد أعظم من الله ولا كلاماً أعظم من كلام الله ولا أحد أعلم بالله من الله فإذا جئت تقف بين يديه(15/23)
اختر آيات في أول تعودك على قيام الليل أثنى الله بها على ذاته العلية ثم رددها كثيراً وأنت تصلي حتى تستميل قلبك وتذرف عينك تدريجياً ثم مع الأيام يصبح قلبك لا يسكن بشيء أعظم من ذكر الله " ومن استأنس بالله استوحش من خلقه " الله يقول عن ذاته العلية { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} هذه أشياء محسوسة تراه و أنت قبل أن تنام فإذا ربطتها بخالقها عظم اليقين في قلبك { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} ويقول جل وعلا خواتيم الحشر { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أين شعر الشعراء ؟ أين كلام البلغاء؟ أين وصف الفصحاء؟هذا كلام رب العزة في رب العزة جلا جلاله هذا قوت القلوب الحقيقي الذي يعيش به المؤمن ويتعود ألا يشرب إلا منه ولا ينهل إلا من معينه هذا الذي يسوق إلى رضوان(15/24)
الجنات ويوفق به المؤمن للطاعات ويقاد فيه إلى أعلى المنازل .
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة مصير كل أحد إليك ورزق كل أحد إليك أسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العُلى أن تصلي على محمد وعلى آل محمد ، وإن ترزقنا الإخلاص فيما نقول ونسمع وصلي اللهم على محمد وعلى آله .
تم بحمد الله الإنتهاء من تفريغ شريط
" الدر المنثور "
للشيخ / صالح المغامسي .(15/25)
توجيهات إجتماعية
محاضرة لفضيلة الشيخ / صالح بن عواد المغامسي
إمام وخطيب مسجد قبأ ..
والمحاضر بكلية المعلمين بالمدينة المنورة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا ,وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له , أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه , ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه ,
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصراً , وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأنا ً وذكراً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .................. أمَا بعد ,.,.
(( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ))
ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أدبه ربه بالوقوف بين يديه في الليل ألبسه جلَ وعلا في النهار أعظم الأخلاق وأكمل الصفات وهداه إلى أفضل الطرائق فتجمل بها صلى الله عليه وسلم كلها فهو في بيته خير زوج , وهو لأحفاده خير جد , وهو لأمته أعظم قائد وهو في المسجد أجل إمام , وهو على المنبر أفصح خطيب , وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك كله عبدٌ متواضع لله يعرف فضل الله جل وعلا عليه " لاتطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه ,
فإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ
هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
فجميع عهدك ذمة ووفاءُ
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما
جاء الخصوم من السماء قضاءُ
وإذا بنيت فخير زوج عشرة
وإذا أبتنيت فدونك الأبناءُ
وإذا حميت الماء لم يورد ولو
أن القياصر والملوك ضِماءُ
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في دين الآله سواءُ
لو أن إنساناَ تخيَر ملة
ماأختار إلا دينك الفقراءُ(16/1)
المصلحون أصابع جمعت يدا
هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ماصحب الدجى
حادٍ وحنت بالفلا وجناءُ
واستقبل الرضوان في غرفاتهم
بجنان عدن آلك السمحاءُ
* * *
الكبر : أيها المؤمنون أسوء الخصال كلها , أمر تفرد به الرب تبارك وتعالى في الحديث القدسي :" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ", والله جل وعلا له بعض الصفات من نازعه فيها قصمه الله , ومن نأى عنها وبعد قرُب من الله ألا ترى يا أُخي أن السجود موضع ذلة لايقبله أحد ولمَا كان السجود موضع ذله لايقبله أحد لايجوز فعله إلا للواحد الأحد , قال الله جل وعلا لنبيه :" كلا لاتطعه واسجد واقترب " فكلما تذلل الانسان بين يدي الله أقترب من الله, فإن لبس عياذاً بالله رداء الكبر فإنه يكون أبعد ما يكون عن الله مصروفاً عن آيات الله لايعبؤ الله جل وعلا به ,
وقف الصحابي الجليل عبدالله بن عمر يبكي بعد أن خاطبه عبدالله ابن عمر بن العاص ’ فقيل له : مايبكيك يا أبا عبدا لرحمن ؟ قال : إن هذا وأشار إلى عبدالله بن عمر بن العاص أخبرني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لايدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر "
وما عصى إبليس وهو أول العاصين لله ما عصى ربه إلا لما استقر في قلبه من الكبر( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ).
فأعظم القضايا الاجتماعية أو أعظم ما ينبغي أن يتخلص المؤمن منه وهو يخالط إخوانه المؤمنين أن ينزع عن نفسه رداء الكبر , والإنسان لو ترك على سجيته لبقي يحب أن يعظم يمدح ويثنى عليه ويرى الناس حوله صغاراً , لكنه إذا ألجم الإنسان نفسه بلجام التقوى وعلِم أن مرده إلى الله (( أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ))(16/2)
إذا علم الإنسان أنه عبد مخلوق من لحم ودم وعصب وأن مرده إلى الله وستأويه حفرة وسيسأله الملكان وأنه لا يملك لنفسه ضراً ولانفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وأنه لن يأخذ إل ما أعطاه الله ولن يتقي إلا ما وقاه الله جفت الأقلام وطويت الصحف ,إذا عرف ذلك كله عرف قدره وتواضع لله كما تواضع الأخيار من الأتقياء والأبرار من الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا .
فالكبر أيها المؤمنون رداء ينبغي لكل مؤمن أن ينزعه عن نفسه وكما ينزع الإنسان الكبر من نفسه ينزع داء الحسد : فإن الله جل وعلا جعل هذه القلوب أوعية وأعظم القلوب قرباً من الله من سلمت من الشرك وعمرت بالتوحيد , وسلمت من البدعة وعمرت بالسنة , وسلمت من الحسد وعمرت بالمحبة للغير ومعرفة قدر الناس وإنزال الناس منازلهم , هذا المؤمن هو الموفق المسدد , والحسد مركب في كل جسد لكن الله لا يحاسب على أنه موجود في أجسادنا إنما يحاسب إذا أثمر ذلك الحسد عن قول أو فعل حرمه الله أو حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا جاءت الاستعاذة منه مقيدة في كتاب الله قال الله جل وعلا (( ومن شر حاسد إذا حسد )) ولم تأتي على إطلاقها , وإبليس حسد أبانا آدم على ما أفاءه الله عليه مع الكبر الذي في قلبه , وقابيل حسد أخاه هابيل لمَا قبل الله قربان الثاني ولم يقبل قربانه فكان ذلك الحسد في قلبه سبباً في قتله لأخيه ((إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين )) ونبيكم صلى الله عليه وسلم طاب حياً وميتاً لم يكن يحمل في قلبه الحسد صلوات الله وسلامه عليه لأنه يعلم أن الله وحده هو الذي يخفض ويرفع , وهو الذي يعطي ويمنع , وهو الذي يقطع ويصل جلَ جلاله , والإنسان إذا رأى نعمة من نعم الله على غيره لايشتغل بذلك الغير وإنما يسال الذي وهبه أن يهبه مثلها , سل الله والله جل وعلا يحب الملحين عليه بالسؤال وبني آدم لو سألته يغضب , والمقصود أيها(16/3)
المؤمنون :
ينبغي للمؤمن أن يوطن نفسه ألا يكون في قلبه حسد على المؤمنين , قال صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الألفة والمحبة بين هذه الأمة ما بين عباد الله المسلمين قال : " لاتحاسدوا ولاتباغضوا ولاتناجشوا وكونوا عبادالله إخواناً المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايخذله ولايحقره وحسب أمرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم " وهذه الأخيرة مردها إلى الأول وهو رداء الكبر الذي بيناه , والمؤمن إذا كان عظيم الثقة بالله يحسن الظن بربه ويعلم أن المقادير بيد الله قلما يكون في قلبه حسد أما إن كان لايعرف ربه إلا قليلاً كان يغلب عليه الظن أن العطايا مردها إلى أمور مادية وليس مردها إلى العلي الكبير فيستوطن الحسد في قلبه عياذاً بالله , والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وهو في الأقران أكثر وفي النساء أشد لكن ينبغي على كل مؤمن ومؤمنة أن يوطن نفسه أو توطن المرأة نفسها ألا يكون في قلبها حسد لإخوانها أو أخواتها المؤمنات .(16/4)
ثالث ماينبغي أن يتداركه المرء: الظلم :والله جل وعلا حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما , وقد بعث صلى الله عليه وسلم حبيبه معاذ بن جبل إلى اليمن وهم يومئذ أهل كفر قال له : واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب , وكم يقع الظلم مابين صاحب العمل والأجير الذي يعمل عنده مابين الرئيس والموظفين الذين بين يديه , كم يقع الظلم مابين سيد البيت مع زوجاته , كم يقع الظلم من الزوجة مع الخادمات في البيت , كم يقع الظلم من المعلم إلى طلابه , كم يقع الظلم في البيع والشراء , كم يقع الظلم على هيئة ألفاظ وأقوال ولا يشعر الإنسان بها ويخطها الملك أحدهما يخطها والآخر يشهد عليها ويوم القيامة يجد كتاباً لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها , وأعظم الظلم أن يظن الإنسان أنه بظلمه يصنع خيراً , قال الله جل وعلا : (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)) , روى الإمام البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ الكبير بسنده عن محمد بن سيرين رحمه الله , قال محمد :كنت عند الكعبة فسمعت رجلاً يقول : اللهم اغفر لي وإن كنت أظن انك لا تغفر لي ’ فقال له محمد : يا هذا ما سمعت أحد يدعو بدعوتك هذه , فقال صاحب الدعوة : إنك لاتدري ما خبري , إني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا تمكنت من عثمان بن عفان إلا لطمته على وجهه ولحيته فقُتل عثمان قبل أن ألطمه فلمَا وضع عثمان على سريره في بيته وجاء الناس يصلون عليه قال : دخلت في زمرة من يصلي على عثمان حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه وكفنه ولطمته تحقيقاً لعهدي فما رفعت يدي إلاَ ويدي قد شلت ويبست كأنها خشبة قال ابن سيرين : فأنا رأيت يده يابسة كأنها عود ,(16/5)
وتأمل يا أُخي أن يصل الإنسان أحياناً في الضلالة أن يعطي الله عهداً على أن يؤذي مؤمناً وهذا ممن قال الله فيهم )( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً )) يأتي للأمر ويزعم أنه قربه إلى الله وهو لا يقود إلا إلى الضلال المبين , ولا يقود إلا إلى الهلاك لأنه معارض لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم , والذين قتلوا عثمان رضي الله عنه وأرضاه قتلوه وهم يزعمون أنهم يتقربون إلى الله جل وعلا بقتله لكن لمَا غلبت عليهم أزمة الشبهات حرموا من نعمة العقل والهداية والتوفيق فقادتهم تلك الشبهات إلى ما قادتهم إليه ,
وغاية الأمر يا أُخي أن تعلم أن الظلم من أعظم ما يعجل الله جل وعلا به العقوبة في الدنيا والآخرة , والإنسان إذا كان يعرف المعنى الحقيقي للوقوف بين يدي الله تخلَص من مظالم الناس ولم يقع منه مظلمة في دينار ولا درهم , قال الله جل وعلا :(( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )) .(16/6)
يقول الله في آية كثير ما يسأل الناس عنها (( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرىء منهم يومئذ شأن يغنيه )) , لماذا يفر المرء من هؤلاء ؟ إن الإنسان يوم القيامة لايفر ممن لايعرفه إنما يفر ممن يعرفه وهذا والله من دقائق العلم وفرائد الفوائد لماذا ؟ لأن الشخص الذي لاتعرفه يسكن في مكان نأءٍ عنك قلما أن تكون قد ظلمته لكن الذي يخالطك أنت عرضة إلى أن تظلمه فإذا جاء يوم القيامة ورأى الرجل أحداً كان يخالطه ويعرفه يفر منه لماذا يفر ؟ خوفاً من أن يكون قد ظلمه في الدنيا فيؤخذ من حسناته وهو أحوج مايكون يومئذ إلى الحسنات , فيكون فرار الانسان عن خلطائه عن أمه عن أبيه عن اخوته عن عشيرته عن جيرانه لأنه يخشى أن تكون يوما ما قد وقع في الدنيا أخطأ في حقهم ويوم القيامة لادينار ولا درهم و إنما هي حسنات وسيئات وكل أحد أحوج مايكون إلى شعرة من حسنات (( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )) .(16/7)
مما ينبغي من المؤمن أن يتخلص منه : أن يكون لسانه كثير الخوض في أعراض المؤمنين : نبينا صلى الله عليه وسلم وهو القدوة كما بينت في أول الخطاب وقف على ناقته يوم عرفة يقول : إن دماؤكم واموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا والله جل وعلا يقول :(( ولاتقف ماليس لك بعلم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً )) , ويقول صلى الله عليه وسلم: في تربيته لمعاذ " ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " , وجميل من المرء أن يتحلى بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا سباباً ولا لعاناً وإنما كان صلى الله عليه وسلم جميل القول مهذب النطق أحسن الله جل وعلا تعهده وتربيته , تقول أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها في وصفه " يابني أقرأت القرآن ؟ قال : نعم , قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ".
هذه أربع أو خمس مما ينبغي على المرء أن يجتنبه وليست القضية فقط في التخلية بل لابد من التحليه , كما نتخلى عما حرم الله ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم نتحلى بتلك الاخلاق الكرام والصفات العظام التي كان عليها نبينا صلى الله عليه وسلم وأعظمها :
بذل الندى وإطعام الجائع : فإن سادة الناس في الدنيا الاسخياء وسادتهم يوم القيامة الاتقياء وإذا كان الانسان يبذل نداه ويقري ضيفه ويكرم جاره ويعطي كان قريباً من الله قريباً من هدي رسوله صلى الله عليه وسلم(16/8)
حج يزيد ابن المهلب فلما قدم إليه الحلاَق في يوم النحر حلق له رأسه فأعطاه يزيد ألف دينار وهي لايعطى في العادة لمن يحلق , فقال له الحلاق دعني حتى أخبر أمي فرحاً أنه أعطي هذا المبلغ فقال يزيد : أعطوه ألفاً أخرى فقال الحلاق : والله لاأحلق لإحدٍ بعدك , فقال يزيد أعطوه ألفاً ثالثة , والمقصود أن التاريخ حفظ ليزيد بن المهلب هذا العطاء وأكرم منه من تأسى به يزيد وهو رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد كان يعطي عطاء من لايخشى الفقر عليه الصلاة والسلام .
وتأسى به أصحابه , جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه أيام خلافته فقال :
ياأمير المؤمنين جزيت الجنة ... أكسو بنياتي وأمهنه ... وكن لنا من الزمان جنة ... أقسمت بالله لتفعلنه ,
قال عمر : وإن لم أفعل يكون ماذا ؟ قال : إذن أبا حفص لأمضينه , قال : وإن مضيت يكون ماذا ؟ قال : إذن أبا حفص لتسألنه ... يوم تكون الاعطيات جُنة ...وموقف المسؤول بينهنه ... إما إلى نار وإلا جنة , فخلع عمر رضي الله عنه قميصه وبكى حتى بلل لحيته وأعطاه القميص وهو يقول : خذه فوالله الذي لاإله إلا هو لا أملك غيره . والمقصود قال نبيكم صلى الله عليه وسلم إطعام الطعام , وقال الله من قبل " فلا اقتحم العقبة * وماأدراك مالعقبة * فك رقبة أو اطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذا مقربة * أو مسكيناً ذا متربة * ", وقال عن أولياءه الصالحين : " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاء ولا شكوراً"(16/9)
من خصال المؤمنين التي ربى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليها العفو عن الناس : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور " , فعلت به قريش الافاعيل فلما مكنه الله جل وعلا من رقابها قال : ماتدرون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم , قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء . , والانسان من جميل طباعه أن ينافس في الخير , وقد ورد أن أبا سفيان ابن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الخمسة الذين يشبهون في هيئتهم نبينا عليه الصلاة والسلام هذا الصحابي الذي كان في أول أمره كثير الهجاء للنبي عليه الصلاة والسلام فلما كان كثير الهجاء أهدر النبي دمه فلما تاب وأسلم ذهب إلى إحدى أمهات المؤمنين وسألها كيف يعتذر , قالت له : إتِ إليه وقل له : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين كما قال أخوة يوسف ليوسف , فإن نبيك عليه السلام لايحب أن يكون أحد أفضل منه , فجاء أبو سفيان وقال مثل ما قال أخوة يوسف ليوسف تالله لقد آثرك الله علي وإن كنت لمن الخاطئين , فقال صلى الله عليه وسلم كما قال يوسف : يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين ", والمقصود أن العفو عند المقدرة من أعظم شيم العظماء , وثمت قاعدة أيها الأخ المبارك في الحقوق الشرعية لاسبيل إلى أخذ ولا عطاء , " إن كنت صاحب سلطة أميراً محافظاً مديراً قاضياً , هذه أمور تطبق فيها ما أنت ملزم به لأنها اشياء لاتملكها لكن نحن نتكلم في الاشياء التي تملكها (( " في الاشياء التي تملكها اصنع في كل أحد وقف بين يديك ماتحب أن يصنعه الله بك إذا وقفت بين يديه ")) , فإن مثل هذه الصنائع من أعظم ما تستنزل به وتستجدي رحمة الله جل جلاله فتعامل مع من يؤمل فيك ماترجو الله أن يتعامل به معك وأنت تؤمل فيه , لكن أقطع علائق قلبك من الخلق كلهم , لاتعفو عن أحد رجاء أن يعفو عنك ذات يوم هذا إن فعلته جائز لكن نحن لانتكلم في ماهو ممنوع أو ماهو مباح(16/10)
, نتكلم فيما هو يقرب من العلي الكبير جل جلاله , وماالدنيا إلا انفاس محدودة وأيام معدودة ثم الوقوف بين يدي الله جل وعلا , فينبغي أن تكون أعمال العبد مطية للوصول إلى الله جل وعلا , قال الرب تبارك وتعالى : " ياأيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه " جعل الله لي ولكم يوم لقائه أعظم أيامنا وأحسنها .
نعود فنقول أيها المؤمنون مع بذل الندى العفو عند المقدرة , وقد ورد في بعض الآثار أن حملة العرش الذين يحملون عرش الرحمن يقولون في دعائهم وذكرهم " سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك , والأربعة الآخرون يقولون : " سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك " .
وكلنا ذو خطأ وما أحوجنا إلى عفو الله والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من لايرحم لايُرحم " , وقال :" أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " . وأولى الناس بأن نرحمه الوالدان لأن الله جل وعلا أوجب لهما الرحمة وبيَن عظيم حقهما ثم ضِعاف الناس كلما كان الانسان فيمن حولك ضعيفاً كان أولى بالرحمة , والغريب الذي ليس من ديارك أولى بالرحمة من المقيم فيها وكل أحد بحسب ضعفه يكون أولى بالرحمة من غيره , فلو لك عمات كُثُر أحداهن أضعف من الباقيات توجب صرف الرحمة أكثر لمن كانت أحوج إليها وهذا من سنن الله جل وعلا في خلقه ولاأظنه يماري فيه أحد .
مما كان فيه عليه الصلاة والسلام من خلق عظيم العدل بين الناس: وبالعدل قامت السموات والأرض ومن العدل بين الناس يعدل الانسان في حكمه إن كان قاضياً , يعدل الانسان في قوله إذا طلبت منه شهادة , يعدل الإنسان في سائر شأنه إذا كان ذا ولاية على زوجات أو على أبناء فيعدل في أبناءه في العطايا ويعدل بين زوجاته في المبيت ويعدل في كل شي بحسبه ويعدل حتى في قوله مع خصومة وأعداءه , قال الله جل وعلا :" ولايجرمنكم شنئان قوم ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى ".(16/11)
وعبدالله بن رواحه ذهب إلى خيبر يخرص نخلها فقال : يامعشر يهود جئتكم من أحب الناس إليَ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وإنكم لمن أبغض الناس إليَ ولكن لن يدفعني حبي له وبغضي لكم أن أجور , ينبغي على أن أعدل فقالت له يهود : بالعدل قامت السموات والأرض " .
والإنصاف اليوم في الناس قليل والناس إذا أحبوا أحداً نسبوا له كل فضل وإذا أبغضوا أحدا نسبوه لكل نقص وقالوا فيه مالم يفعل والعاقل لايغلو في أحد لامحبة ولا ذماَ فلا تغلوا في أحد من العباد كائناً من كان ولو رأيت عليه من أمارات الصلاح والبكاء وأمثال ذلك الشيء الكثير فإن الله جل وعلا أوكل السرائر إلى نفسه , ولا تغلو في ذم أحد فإنك لاتدري أن الله جل وعلا ستر محاسنه وأظهر معايبه فحكمت عليه من وجها دون أخر ولكن المؤمن العاقل الحصيف الذي يخشى على سيئاته أن تزداد وعلى حسناته أن تذهب لايتكلم إلاَ بقصد ولا يحكم إلاَ على بينة ويتكلم بضبط قوله مخافة أن يلقى الله فيكون قد شط في قوله إذا كان هذا العدل وذلك العفو وبذل الندى فقد بينَا ذم الكبر وضده التواضع لعباد الله وأحب الناس إلى العباد وأقربهم من الخلق من كان متحلياً متجملاً بخلق التواضع والنفوس جبلت على أنها تبغض من كان مستكبراً .(16/12)
الحجاج بن يوسف الأمير الأموي يقول على ظلمه يقول : ثلة من أهل الكوفة لو أدركتهم لضربت أعناقهم وهو لم يدركهم ( يعني جاء الكوفة وقد ماتوا ) قيل له : من أيه الأمير ؟ قال : فلان " سمى رجلاً " وكلهم ذمهم بالكبر قال : اما أحدهم عياذاً بالله فصعد المنبر فخطب خطبة بليغة فلمَا فرغ منه قال له أحد الحاضرين : كثَر الله من أمثالك , فقال ذلك المتكبر الفاجر : لقد كلفت ربك شططاً , أي يصعب على الله أن يخلق غيري , قال : وآخر كان يقف في قارعة الطريق فجاءته أمرأة تسأله وهي قالت لاتعرفه ياعبدالله أين طريق فلان ؟ ’ قال : ألمثلي يقال : ياعبد الله ورفض أن يجيبها , وذكر رجلاَ ثالثاً ضاعت له ناقة فقال يمين الله إن لم يرد الله عليَ ناقتي لن أصلي ولن أصوم " فرد الله عليه ناقته فقال كفراً :" قد علِم ربي أن يميني كانت صرماً يعني ماضية ", هذا وأمثاله موجود كنبته في كل أحد لكن من الخلق جعلنا الله وإياكم منهم من إلجمها الله بلجام التقوى فقلبت ورضيت أن تكون عبداً لله جل وعلا ومن العباد من أطلق لها العنان وهؤلاء الذين أطلقوا لها العنان درجات في الذروة من أولئك الذين أطلقوا لإنفسهم العنان ( فرعون عندما قال " أنا ربكم الأعلى " , والنمرود عندما قال : أنا أحيي وأميت (<(16/13)
فما السبيل إلى كسر النفس السبيل إلى كسر النفس عظيم العلم بالله جل وعلا فإن العبد كلما كان بالله أعرف كان من الله أخوف , والله جل وعلا أيها الأخ المبارك حجب عنا جميعاً أن نرى بعيننا الباصرة ذاته فلم نرى الله ومكننا جل وعلا أن نرى مخلوقاته فمن رأى مخلوقات الله بعين البصيرة وتفكَر فيها فدلته مخلوقات الله على عظمة الخلاق جل جلاله فعرف ربه وعبده وذل بين يديه واستكان عنده يكرمه الله في الآخرة بأن يرى الله بعينه الباصرة وهذا منطلق كل مؤمن قال الله عن أهل طاعته :" إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ماخلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار " فهؤلاء أقوام أخذوا يتفكرون في المخلوقات فدلهم ذلك التفكر على رب البريات فعظموا الله فهؤلاء يكافئهم الله يوم القيامة بأن يمكنهم جل وعلا من أن يروا وجهه الأكرم جل وعلا ولا عذاب أعظم على أهل النار من كونهم محجوبين عن رؤية وجهه الواحد القهار " قال الله عن أهل معصيته " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " فنعود فنقول أيها المؤمن أن التواضع من أعظم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه , هذه الأمور التي وازنا بينها مابين التخليه والتحلية تحتاج في المضي عليها إلى صبر " وبالصبر تبلغ ماتريد وبالتقوى ينال لك الحديد " فمن رزق الصبر قدر على أن يعطي مما يحب وأن يصبر على مايكره .
قال الله جل وعلا :" لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " , وفي جملة من الآثار ( لن تنال البر حتى تصبر على ماتكره وحتى تنفق مما تحب فإذا أنفقت مما تحب وصبرت على ما تكره وصلت إلى منازل عالية عند الله جل وعلا "(16/14)
كما أن مما يعين على التحلي بهذه الأخلاق تذكر أرض المحشر والوقوف بين يدي الله " فإن الله ذكر الأوصاف الحميدة قال جل وعلا :" ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ومايلقاها إلا الذين صبروا ومايلقاها إلا ذو حظ عظيم " , وحتى يكون لدى الإنسان حظاً عظيماً من الصبر لابد أن يعرف الآخرة حقاً فكل من أدرك بعيني بصيرته وبصره عظمة الوقوف بين يدي الله هانت عليه أمور الدنيا وهذه الدنيا إن نازعت أهلها فيها أجتبذتك كلابها وإن استغنيت عنها فزت بخيري الدارين واعلم يا أخي أنه لن يموت أحد حتى يستوفي رزقه يقول صلى الله عليه وسلم:(إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها) وهذا لايمنع من السعي المباح ولا ينافي ذلك الشرع في حديث عمر :(لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) فأثبت لها صلى الله عليه وسلم الغدو واثبت لها صلى الله عليه وسلم الرواح ,
نقول بالصبر وبالتفكر في اليوم الآخر ثم بالمعرفة بمنهاج أولياء الله المقربين وعباد الله الصالحين ولهذا قصَ الله على نبيه في القرآن جلائل الاخبار وأدبه بعظيم العظات حتى يتأسى بأولئك الأخيار الذين من قبله ذكر له ثمانية عشر نبياً جملة في الآنعام ثم قال له " أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده " فأخذ صلى الله عليه وسلم بهديهم فجمع إلى ماعنده من الفضائل ماكان عند أخوانه عليه الصلاة والسلام من الفضائل فأصبح عليه السلام في الذروة العليا والدرجة الأسمى من الأخلاق كلها وعبادة الله صلوات الله وسلامه عليه .(16/15)
وثمة محبطات في الطريق إلى الله فالإنسان إذا كنت ذا حلم وصفوك بأنك ضعيف وإذا كنت ذا عفو وصفوك بأنك عاجز وإذا كنت ذا كرم وصفوك بأنك مسرف ومايزال في كل مجتمع فئام من الناس يثبطون أهل الحق ويصفون الأشياء على غير وصفها ويسمونها بغير اسمها لكن ل لا يوجد عاقل يترك الاستسقاء والنهل من معين محمد صلى الله عليه وسلم ويأخذ عن غيره فالعاقل يعلم أن الهدي كله محصور في هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه ومن تبع هذا النبي في هديه .
فإن كان ممن حولك يبين لك ضعف شخصيتك ويدعوك إلى أن تكون قوياً حسب رأيه فهذا خلاف هدي الأنبياء والتمسك بهدي الأنبياء لاشك أنه خير وأبقى من التمسك بصنيع غيرهم كائناً من كانوا فإن الله أيد أنبياءه بالوحي والأنبياء بوحي الله إليهم معصومون من أن يقعوا في الخطأ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
بقيت واحدة وهوأن الإنسان يسأل الله جل وعلا التوفيق في غدوه ورواحه فو الله لن يقدر أحد أن يعبد الله كما أراد الله إلا بتوفيق من الله , قال الله جل وعلا :" واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ولاتغدو عيناك عنهم " قال بعض أهل العلم في تفسيرها : أن أفضل ماقيل في قول الله جل وعلا :" واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ", أنهم إذا أصبحوا سألوا الله التوفيق وإذا أمسوا استغفروا الله جل وعلا من التقصير فهم مابين سؤال الله أن يوفق ويعين وييسَر ومابين استغفار الله أن يسد الخلل ويغفر الذنب ويتجاوز عن الزلل وربك على هذين قادر , هو الله لاإله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه " كما بين جل وعلا في كلامه وكتابه .(16/16)
أيها الأخوة المباركون طول الكلام ينسي بعضه بعضاً وهذه ما تيسَر قوله ووعظه في هذا المقام المبارك وما تبقى من الوقت نجعله للأسئلة على أنني في المقام الأول أقول قبل أن أنهي : أن الله يقول :" إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المفلحين " فنسأل الله جل وعلا أولاً :أن يتقبل من الملك فهد رحمه الله رحمة واسعة بناء هذا المجمع الذي صلينا فيه وأقمنا المحاضرة فيه ولم يقتصر نفعه على إقامة الصلوات وإلقاء المحاضرات وفي هذا عبرة أن الملك رحمه الله مات وزال ملكه لكن المسجد الذي بناه لله بإذن الله لم يزل باقياً فكل ما كان لله يبقى , وأما عطايا الله جل وعلا لعباده دنيوياً فإنما هي متاع إلى حين هذا أولاً .
الأمر الثاني : اشكر لأخي سعادة المحافظ فضله وخلقه وكرمه وحضوره المحاضرة الدال على نبل أخلاقه وإسلامية منهجه وفي هذا تشجيع للناس لأن الناس إذا كان سادتهم ووجهائهم والقائمون بالأمر فيهم يتقدمونهم إلى الخيرات تأسوا بهم .
كما أسأل الله جل وعلا أن يشكر المشائخ والشيخ حسين وجميع المعنيين في اللجنة الثقافية على حسن ظنهم بأخيهم وكريم دعوتهم وأسأل الله جل وعلا لهذه الوجوه الطيبة التي أراها والتي لم أراها من أخواتنا المؤمنات المكتسيات بحلل الحياء والحجاب ، أسأل الله لنا جميعاً أن يحرم وجوهنا على النار وأن يجعل مجلسنا هذا شاهداً لنا يوم نلقاه وأن يعيذنا جل وعلا أن نريد بقولنا أو أي شيء نصنعه أحداً غيره جل وعلا وأن يجعلنا ممن خلصت نيته وسدد الله قوله وأصلح الله عمله إن ربي لسميع الدعاء .
وهذا ما تيسر وعفواً إن أطلت وعذراً إن قصرت فما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
اختكم / ظلال وارفة
متندى القطوف الدانية ..(16/17)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاطر الأرض والسموات وأشهد أن
نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان
إلى يوم الدين أما بعد ..............
---
في هذا اللقاء المبارك المتجدد سنشرع الليلة في ذكر علّم من أعلام القرآن المجيد علمّ وأي علّم على قبيلتين
ممن نصروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فسماهم الله جل وعلا في محكم كتابه بالأنصار قال سبحانه
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}التوبة100 ) والأنصار اسماً قرآني أطلقه الله جل وعلا ثم أطلقه رسوله صلى الله عليه وسلم على قبيلتين من قبائل العرب
أصلهم من اليمن كانتا تسكنان المدينة هما: الأوس والخزرج ولن يكون معهم في هذا اللقاء أي علّم آخر سنعرج عليه وعلى هذا فإن الحديث عن الأنصار في هذا اللقاء المبارك سيكون حديثاً مستفيضاً أرجوا الله أن يكون ثرياً بالمعلومات مليئاً بالمعارف محققاً للهدف والله جل وعلا وحده هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل .....
نقول كلمة أوس في اللغة الأصل أنها تطلق على الذئب قال الراجز ** ليت شعري مافعل أويس بالغنم ** أي ما
فعل الذئب بالغنم لكنها جاءت هنا معرفة الأوس فتحمل عند الكثير على أنها بمعنى العطية والأصل أن الاسم إذا
كان علماً أن لا يلحقه الألف واللام لكن شذ بعض الكلمات في العرب عن هذا مثل الحسن فإن الأصل أنها حسن
إذا أطلقه علماً على أحد وحسين يقال الحسين وهذا بخلاف القواعد القياسية لكنه أمراً سمع عن العرب
ومعنى أوس قلنا الذئب وقلنا الأوس بمعنى العطية أما الخزرج فمعناها في اللغة الريح الباردة والأوس(17/1)
والخزرج أصلهم أخوان كلاهما أبناء الحارث أحد رجال العرب اليمنيين له أبنان أحدهم الأوس والآخر الخزرج
وأمهم امرأة من قضاعة يقال لها قيلة بنت كاهل ثم تفرع عن الأوس وأخيه الخزرج بيوت ودور عدة
سكنت المدينة بعد هدم سد مأرب ثم لما سكنت المدينة واستوطنت كانت المدينة آنذاك مرتع لليهود أوبمعنى
أن اليهود هاجروا إليها رغبة في أن يكونوا يخرج نبي آخر الزمان فيكونوا نصرائه على ما عندهم في الكتب
وقد أصابوا في أن النبي يخرج من المدينة أو يهاجر إلى المدينة لكن لم يوافقوا لقبول دعوته إلا قليل منهم
صلوات الله وسلامه عليه.
هاجرت القبيلتين إلى المدينة وكان بينهم من التنازع وسفك الدماء ما لايعلمه إلا الله حتى أنه قبل هجرته صلى
الله عليه وسلم بيسير كان يوم بعاث وهو يوم أشتد حربه بين الفريقين وقتل فيه كثير من سروات القوم وجرح
فيه الكثيرون فكان ذلك ممهداً لأن الناس أحوج ما يكون أن يوجد ما يؤلف بينهم فوافقت هجرته صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة ، افتراق الناس وتضجرهم من سفك الدماء والجراح والقتل وما أصابهم من النزعات فكان
صلى الله عليه وسلم رحمة بالناس عامه ورحمة في هذين الفريقين خاصة رضوان الله تعالى عليهم هذا كتأصيل
لمعنى الأوس والخزرج وهذا اسمهما في الجاهلية واسماهم الله جل وعلا بالأنصار في نص كتابه وورد اسم الأنصار كثير في الأحاديث كما سيأتي ..................................
هؤلاء قبلوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر والقابل للأمر لأي شيء في أول الأمر ليس كمن
يقبله بعد ذلك ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرض نفسه على قبائل العرب ويتوخى مواطن الاجتماع ويأتي
أسواق العرب كسوق عكاظ وذي المجنة وغيرها ثم كان يعرض نفسه على القبائل فعرض أول الأمر على نفر
من الخزرج هذا قبل بيعة العقبة الأولى وقبل بيعة العقبة الثانية ، عرض نفسه على نفر من الخزرج سألهم من(17/2)
أنتم قالوا نحن نفر من الخزرج قال من موالي يهود ومعنى من موالي يهود أي من حلفاء يهود وقلنا أن الأوس والخزرج كانوا يسكنون المدينة وهم حلفاء لليهود بمعنى نصراء وكلمة موالي في اللغة كلمة واسعة تطلق على المعًتق وعلى المعتق ، وعلى الحليف وعلى ابن العم ، وعلى النصير وتطلق على الرب جل شأنه إذا أطلقت قال الله جل وعلا{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }الأنعام62 وتأتي بمعنى النصير {ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ }محمد11 أي لا نصير له فقيل هؤلاء النفر من الخزرج
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر دون أن يكون هناك عقد أو بيعة بينه وبينهم ثم رجعوا إلى المدينة
فلما رجعوا إلى المدينة من عاد بعد ذلك زاد العدد فسميت البيعة بيعة العقبة الأولى ثم رجعوا ومعهم مصعب ابن
عمير ثم رجعوا مرة ثالثة وبايعوا مرة ثانية فسميت بيعة العقبة الثانية تمهيداً لهجرته صلى الله عليه وسلم إليها فكان من كرامة الله بالأوس والخزرج أن الله جل وعلا ألقى الصدود في جميع قبائل العرب أن ترد نبيه وأعطى
القبول لهذه الفئة المباركة حتى تقبل دعوة نبيه ليكون ذلك سبباً في هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى
المدينة وليبقى لهم ذلك الفخر مدى الدهر رضوان الله تعالى عليهم وقد قلنا أن الأمور بقبولها ،والله جل وعلا
يلقي الفراسة في بعض عباده في قبول أمر ويحرم بعض عباده من قبول أمر ثم إذا جاءت العواقب أدرك
المتفرس بنور الله فرحه بأن قبل الأمر لأول مرة وقد قلنا في هذا الدرس المبارك مراراً أنه يروى أن النبي صلى(17/3)
الله عليه وسلم لما أراد أن يتحنث قبل البعثة صعد جبلاً غير حراء فقال له الجبل بلسان الحال لا بلسان المقال إليك عني فإني أخاف أن تقتل علي فأعذب بسببك فيقال أن حراء ناداه هلم إليّ يارسول الله فألقى الله في قلب نبيه أن يرقى حراء دون غيره من الجبال فكان في حراء بعثته صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي أول مرة فمان بحراء فضل على مر الدهر فضل تاريخي لم يرقى إليه جبلٌ غيره وكذلك النفر من الخزرج فقهوا أن هذا نبي الأمة قبلوا الدعوة مع أن الحج آنذاك كان يجمع أشتات القبائل العربية التي عرض النبي صلى الله عليه وسلم دعوته عليها إلا أنه لم يظفر به أحد إلا أولئك الأخيار من أهل المدينة الأولين.
---
الحديث عنهم حديثاً طويل لكن قال الله عنهم {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}التوبة100 ثم قال
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}التوبة100 فأنتم وأنا معكم وكل مسلم اليوم لسنا من المهاجرين ولسنا من الأنصار
ولكن نرجوا الله برحمته أن يجعلنا ممن تبعهم ويتبعهم بإحسان اللهم آمين .
قال الله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}التوبة100 هذه فاتت{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}التوبة100 ولهذا نقول من جميل ما يروى في هذا المقام أن الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله لما جاء يجادل الشيعة فيما نقل إلينا ولم أره قال للعلماء الذين معه أتركوهم إنا أجادلهم أيام
الشاه شاه إيران قبل الثورة الخمينية فقال ( أنا أسألكم سؤال هل أنتم من المهاجرين ؟ طبعاً قالوا: ماذا قالوا : لا هم صادقون
ليسوا من المهاجرين قال: هل أنتم من الأنصار ؟ قالوا: لا فقام الشيخ وهو يقول :و أنا أشهد عند الله أنكم لستم مما تبعهم بإحسان(17/4)
ومضى ) فإذا خرج الإنسان من هذه الثلاثة لم يبقى شيء لأن الله قال{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}التوبة100
نعود للحديث عن الأنصار قلنا سبب إسلامهم وذكرنا البيعتين الأولى والثانية ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاستقبلوه أعظم استقبال وأحبوه جعلهم الله بيوت مثل القبائل أفخاذ منهم بنو النجار وقد قال صلى الله
عليه وسلم كما في الصحيحين وغيره (خير دور الأنصار بنو النجار)وبنو النجار من الخزرج وهم أخوال عبدالله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال وبنو عبد الأشهل وهؤلاء الذين منهم :
سعد بن معاذ
بنو النجار قلنا أنهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزل إلى المدينة وأناخ مطاياه صلى الله عليه وسلم
أول الأمر في قباء بعث إلى أخواله من بنو النجار والإنسان أعظم ما يعتز بعصبته فجاؤا متقلدين السيوف رضي
الله عنهم وأرضاهم يحيطون بنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه هؤلاء بنو النجار وبنو الأشهل وبنو عبد
ساعده وبنو الحارث وغيرهم من بيوت الأنصار مما يذكر عنهم، بنو النجار قلنا خير دور على لسان نبينا صلى
الله عليه وسلم في الأنصار وهم أخواله ثم قال عليه الصلاة والسلام وكان هذا متأخراً قال إن الأنصار سيجدون أثرة بعدي إي أن الناس لا يعطونهم قدرهم بعد ذلك ، وتوزع أمور لا ينالون منها شيئاً كثير وقد وقع هذا حتى
أنهم أوذوا على لسان الأخطل والأخطل أحد الشعراء الثلاثة في بنو أمية في عصر بنو أمية الأخطل وجرير
والفرزدق ، سمي الأخطل لصغر أذنيه وكنيته أبو مالك غياث ابن غوث كان رجل تغلبي من حيث القبيلة نصراني
من حيث الدين وما دام أنه كان نصرانياً فلا يرجى منه أن يمدح أحداً من المؤمنين هجى الأنصار إرضاءً لأحد
الناس فقال:
ذهبت قريش بالسماحة والندى واللؤم تحت عمائم الأنصار(17/5)
فدعوى المكارم لستمُ من أهلها وخذوا مساحيكم بنو النجار
الآن قارن ما بين قول النبي صلى الله عليه وسلم (خير دور الأنصار بنو النجار) وقول هذا الكافر (وخذوا
مساحيكم بنو النجار ) وقوله ( واللؤم تحت عمائم الأنصار) ؟
لكن هذه سنة الله جل وعلا في خلقه يبتلي عباده ويبتلي الكامل بالناقص ويبتلي الأمثل بالبعيد ويبتلي المؤمن بالكافر وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه.
موضع الشاهد:
ماذكر في بني النجار تاريخياً أيام النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل لهم بعد النبي صلوات الله وسلامه عليه
هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم لهم مواقف عبر التاريخ سنتكلم عن بعض تلك المواقف على وجه الإجمال ،
موقف عام وهو استقبالهم للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وفرحهم أعظم الفرح بدخوله إليها ،
قال أنس رضي الله عنه يصور هذا اليوم قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكان يوماً أنار
منها الله فيه كل شيء ، كل شيء أنار في المدينة يوم دخلها عليه الصلاة والسلام) فوصف يوم وفاته ( أظلم
فيها كل شيء عليه الصلاة والسلام) فهذا إخبار أنس وهذا شيئاً جماعي من مواقفه المشهورة أن النبي صلى الله
عليه وسلم استشارهم قبل أن يخرج إلى بدر لأن العقد الذي بينهم وبينه أن يحموه ما دام في المدينة وبدر خارج
المدينة فقال : ( أمضوا لما أمركم الله ) تكلم سعد بن معاذ وتكلم غيره وأظهروا ولاءً عظيماً لله ورسوله نصرةً
جليلةً للدين لا نقول لك كما قال أصحاب موسى{ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }المائدة24 ولكن
نقول أذهب أنت وربك فقاتلا إن معكم مقاتلو ولو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك كنايةً عن أي أمرٍ خطير
ففعلوا ما فعلوا رضي الله عنهم وأرضاهم في يوم أحد هذه مواقف عسكرية أخرج النبي صلى الله عليه وسلم
سيفه فقال : ( من يأخذ هذا السيف بحقه ) فأول من قام الزبير بن العوام فأمتنع النبي صلى الله عليه وسلم(17/6)
في أن يعطيه الزبير ثم قام :
أبو د جانة
سماك ابن خرشة فقال: يارسول الله وما حقه؟ قال: ( حقه أن تأخذه فتضرب به القوم حتى ينثني أو كلمة نحوها)
فأخذه رضي الله عنه وأرضاه وأخرج من جيبه عصابة حمراء وربط بها رأسه فقالت الأنصار لبس أبو دجانة
عصابة الموت ، قال الزبير رضي الله عنه وأرضاه وقع في نفسي قلت أنا ابن عمته أي ابن عمت النبي صلى
الله عليه وسلم ومن قريش وأول من طلبه فلا يعطيني إياها ثم يعطيه هذا لننظر ماذا يصنع ؟ فأصبح الزبير
يحاول قدر الإمكان وهو يقاتل ماذا يفعل أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه ، أخرج عصابة حمراء وربط بها
رأسه فسمعت الأنصار تقول أخرج أبو دجانة عصابة الموت وأخذ ينشد:
أنا الذي عاهدني خليلي............................ ونحن بالسفح لدى النخيلي
أضرب بسيف الله والرسول
رجز طويل ، ثم يقول ما قابل أحد إلا قتله قال: وفي القوم أي في الكفار رجلٌ كلما قابل مؤمن أنتصر عليه ،فسألت
الله أن يلتقيا أي أبو دجانة وهذا الكافر قال: الزبير فالتقيا في رواية ابن هشام قال فلما التقيا ضرب ذلك الرجل أبو
دجانة فتقاه بدرقة كانت في يده أتقى السيف ثم ضربه أبو دجانة فقتله ثم مضى في الناس فسمع امرأة تخمش الناس
أي تحث أهل الكفر من قريش على الحرب ولا يدري أنها امرأة فرفع السيف عليها فلما رفع السيف عليها أحدثت
صوتاً فعرف أنها امرأة قال الزبير فرأيته رفع السيف عنها فقلت الله ورسوله أعلم يعني الله أعلم ورسوله أعلم
يعطيان من يعطيان السيف بعد ذلك أجاب أبو دجانة لماذا لم يضرب ؟ قال أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه
وسلم من أن أضرب به امرأة وهذه من أقدار الله التي لا يعلمها أحد تلك المرأة كانت هند بنت عتبة أم معاوية زوجة
أبو سفيان لو ضربها لماتت لكن الله كتب لها أن تموت على الإيمان فحماها الله بقدره جل وعلا لأنه لم يكن أن يقع(17/7)
شيء إلا بقدر الله حماها الله من ضربة أبو دجانة وأوقع الله في قلب أبو دجانة أن سيف رسول الله يكرم أن يضرب به
امرأة فرفع السيف ثم كما بينا ذلك نهاية المطاف بأنها آمنت هذا موقف عسكري لأبي دجانة من الأنصار من بني
ساعدة رضي الله عنه وأرضاه .
---
في غزوة المريسيع بنو المصطلق وقعت حادثة الأفك وحدث ما حدث القصة المشهورة ليس هذا موطن ذكرها لكن
نأخذ ما يتعلق بالأنصار فلما كثر الحديث في المدينة عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها صعد النبي صلى الله
عليه وسلم المنبر وقال وهذا ما سيأتي ينبغي لمن يطلب العلم أن يتمهل كثيراً في فهم هذه الموضوع لأنه يوافق
كثيراً أحداث عصرنا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من يعذرني من رجلاً آذاني في أهلي ) يشتكي رجلاً أذاه
في أهله يقصد عبدالله ابن السلول فقام أسيد ابن الحضير من الأوس رضي الله عنه وأرضاه وقال يانبي الله قلنا
من هو إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من الخزرج من إخواننا الخزرج أخذناه وقتلناه ، الآن الرسول
يقول رجلاً آذاني في أهلي وكلام أسيد ابن الحضير كلام عاقل صحيح فقام سعد ابن عبادة رضي الله عنه وقال
كذبت والله لاتقتله ولا تستطع قتله الآن أمام نبي الأمة والآن نحي الحديث هذا جانباً حتى تعرف أن العلم يحتاج
إلى رجل موسوعي مو رجل في قلبه هواء يطبق الأحكام كما يريد كتاب الله كل الناس تقول الأصلاح في كتاب الله
وسنة رسوله لكن الأمة لا تحتاج إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط لأنها موجودة ولكنها تحتاج إلى رجل يطأطئ
رقبته أمام كتاب الله وسنة رسوله ويفهمها فهماً صحيحاً فمن لا يفهمها لا يستطيع أن يقود الأمة ومن فهمها ولم
يذعن لهما لا يحسن أن يقود الأمة لكن يقود الناس من فهم الكتاب والسنة وطأطئ رأسه لا هواه أمام كتاب الله
وسنة رسوله.
موضع الشاهد:
الآن دع الحديث جانباً كان ابن باز رجلاً محبوباً في الناس لن أتكلم عن حي حتى لا يفتن ولو جاء ابن باز وقال(17/8)
إن فلان الصحفي يؤذيني فجاء رجل وقال أنا أنتقم لك يا شيخ من هذا الصحفي ، نفرض فجاء رجل وقال لا
تؤذيه من قرابة هذا الصحفي لا تؤذي هذا الصحفي لقال الناس لهذا أنت علماني أنت لبرالي أنت فيك وفيك
رجلٌ يؤذي ابن باز وأنت تدافع عنه هذا هو ابن باز يخطئ ويصيب مع ذلك قال سعد ابن عبادة قال لأسيد ابن
الحضير والرسول حاضر قال كذبت والله ما تستطيع أن تقتله والرسول يشتكي رجل يقول رجلٌ آذاني في أهلي
إذ لم يقتل الذي يؤذي الله ورسوله وأهل نبي الله من الذي يقتل لكن قال سعد ابن عبادة علانية والله كذبت لا تستطيع فسكّت النبي صلى الله عليه وسلم الناس ونزل من المنبر ولم يقل كلمة سوء في من ؟ في سعد ابن
عبادة لماذا؟ لأن الدافع عند سعد نصرته لمن ؟ لعشيرته ولائه الزائد لقبيلته حبه للخزرج لأنه كان سيد الخزرج
معاذ الله أن يكون سعد ابن عبادة يريد إيذاء الله ورسوله وإلا كفر وخرج عن الملة لكنه ما قصد ذلك ومن هنا
تفهم أن كثيراً من الناس يقع منه الشيء خلافاً قد يفعل الخطأ لكنه لا يفعل الخطأ بناءً على النية التي تراها
أنت واضح .
يفعل الخطأ لكنه لا يفعله بناءً على النية التي تراها أنت فمثلاً ما يحدث من الشباب يأتي شخص ويشرب دخان
الدخان حرام فيقابله عند الحرم يشرب دخان قد يكون هذا الذي يشرب الدخان يعرف أنه حرام ومنكسر في قلبه
ونادم لكن لا يستطيع أن يغلب المعصية في نفسه فلا تأتي وتقول أنت تحاد الله ورسوله عند مسجد رسول الله
يقول ( مابين عير إلى ثور المدينة حرماً مابين عير إلى ثور من أحدث فيه حدثاً أو آوى فيه محدثاً فعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين ) إثبات هذا على عين الشخص دونه خرق القتاد من يستطيع أن يطبق هذا على
هذا وإلا أنت إذا طبقت في المنع يلزمك أن تطبق في ماذا في الإيجاب معنى يلزمك أن تطبق في الإيجاب لو قال(17/9)
لك هذا الرجل أنا ما فوت صلاة الفجر والعصر في حياتي كلها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من صلى البردين دخل الجنة ) مثل ما طبقت عليّ المنع طبق عليّ الإيجاب لا تستطيع أن تقول أنك من أهل الجنة لا نه قال صليت البردين فتطبق الإحداث على الأعيان أمر دونه خرق القتاد ما يقدم عليه إلا جاهل ويجب أن تعلم أن طالب العلم يتكلم في الأوصاف لا يتكلم بالأعيان الذي يتكلم في الأعيان القضاة يحكم على شخص بعينه هذا قاضي أما
الذي يتكلم علمياً يتكلم على الوصف لا يتكلم على الأعيان وتجد إنسان يكفر شخص ماراه في حياته ولا جلس
معه المقصود من هذا أن الإنسان يفهم علمياً مراد القائل والسبب الدافع للعمل قبل أن يطلق أحكامه هذا الموقف
حصل في غزوة المريسع في غزوة حنين نصر الله جل وعلا نبيه وأعطاه غنائم فقسمه صلى الله عليه وسلم
على أقوام حديثي عهد بالإسلام يتألف بها قلوبهم صلى الله عليه وسلم علم الأنصار بهذا لأنهم كانوا أعظم
الجيش لما بلغهم ذلك أصابهم شيء في أنفسهم وقد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على الوضوح فأخذوا
يقولون كيف يعطيهم ويتركنا ونحن الذين نصرناه ونحن الذين أكثر الجيش إلى غير ذلك وكان صلى الله عليه
وسلم واضحاً مع أصحابه كالشمس فجاءه سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه فقال له يا سعد ما مقالة بلغتني
عنكم فأخبره الخبر فقال عليه الصلاة والسلام لسعد وأنت يا سعد يعني ما رأيك الشخصي ؟ قال يا رسول الله وهل
أنا إلا رجلاً من قومي قال أجمع لي الأنصار في هذه الحظيرة ( الحظيرة يعنى مكان مسور ) فجمعهم سعد رضي
الله عنه وأقبل عليهم نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وهم مجتمعون ( أوسهم وخزرجهم ) فقال صلى الله عليه
وسلم( ما مقالة بلغتني عنكم الم آتيكم ضُلالاً فهداكم الله وعالتاً فأغناكم الله ) وأخذ يبين فضل نبوته عليهم وهم(17/10)
يرددون ويقولون لله ورسوله المن والفضل وكلما قال قولاً قالوا لله ورسوله المن والفضل ثم قال أجيبوني يا معشر
الأنصار قالوابماذا نجيبك يا رسول الله لله ورسوله المن والفضل ( أما وإنكم لو شئتوا لقلتم لصدقتم ولصدقتم أتيتنا
طريداً فآويناك وعائلاً فأغنيناك ومخذولاً فنصرناك ومحروماً فأعطيناك وكلمات نحوها ) فسكتوا فقال صلى الله
عليه وسلم ( يا معشر الأنصار أوجدتم عليّ في أنفسكم لعاعه ( أي يعني سراب ) لعاعه من الدنيا أو أوكلت بها
أقواماً رجاءً يسلموا وأوكلتكم الي إسلامكم والله لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكتوا وادي الأنصار لولا
الهجرة لكنت إمرءٍ من الأنصار الناس دثاراً والأنصار شعار اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء
الأنصار فبكوا رضي الله عنهم وأرضاهم حتى بللوا لحاهم لأن نبي الأمة يقول لهم أما ترضون يا معشر الأنصار
أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم فقالوا بلسان رجل واحد
رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحضاً وهذا من أعظم ما أعطاه الله لهذه الفئة المباركة وقد علم النبي أنه سيؤثر عليهم بعده ولذلك لم يتولى الأنصار إمرةً قط وقال عليه الصلاة والسلام إنكم ستجدون أثرةً
بعدي وموعدكم أين قال موعدكم الحوض يعني الحوض المورود )وهذامن تعليقهم بالإيمان الذي في قلوبهم الآن
أهل الدنيا لو قلت لواحد أصبر والموعد الحوض يقول يا الله العافية لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا
لعلمه بعظيم إيمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم هذه منازل بلغناالله وإياكم إياها نقول هذاالموقف الإيماني العظيم
لهم رضي الله عنهم وأرضاهم بقي في قلبه عليه الصلاة والسلام حتى مرض مرض الموت فلما مرض مرض الموت خرج العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فمروا على مجلساً للأنصار وهم يبكون فقال(17/11)
العباس وأبو بكر لهم ماذا يبكيكم قالوا ذكرنا مجلسنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكينا أي أنه في مرض موت ونخاف أن لا يتكرر المجلس فلما دخل الصديق والعباس رضي الله تعالى عنهما على رسول الله أخبراه
الخبرهذا في أول المرض وكان عليه الصلاة والسلام أعظم الأوفياء مع هذه الفئة المباركة فصعد المنبر وعليه
عصابة وكان آخر مرة ارتقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فأثنى على الأنصار وأوصى بهم وقال أقبلوا
من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ودعى لهم صلوات الله وسلامه عليه وقال أنهم سيقلون كما يقل الملح في الطعام وأثنى عليهم خير صلوات الله وسلامه عليه وأخبر أن الموعد الحوض ونزل عن المنبر وكانت آخر مرة
ارتقى فيها المنبر صلوات الله وسلامه عليه كالموصي لهم رضي الله عنهم وأرضاهم والمثبت لقلوبهم لما
سيكون بعده صلوات الله وسلامه عليه هذا مجمل لبعض الأحداث التاريخية والإيمانية التي مر بها أولئك الرهط الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم .
وهذا الحديث الذي مر كله حديث إجمال بقي حديث أفراد ، حديث أفراد إن هؤلاء القوم نصروا الله ورسوله
بلسانهم ونصروه بسنانهم يعني بسيوفهم فمن من نصر رسول الله بلسانه :
حسان ابن ثابت
هو خزرجي من بنو النجار وقد عاش كما مر بنا في هذا الدرس المبارك مئة وعشرين عام ستون سنة في
الجاهلية وستون سنة في الإسلام حتى عمي بصره رضي الله عنه وأرضاه وهو القائل :
عدمنا خيلنا إن لم تروها...................................... تثير النقع موعدها كداء
يبارنا الأسنة مصعدات...................................... على أكتافها الأسل الظماء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا..................................... فكان الفتح وأنكشف الغطاء
وإلا فا صبروا لجلاد يوماً..................................... يعز الله فيه من يشاء
وجبريل أمين الله فينا .................................... وروح القدس ليس له كفاء(17/12)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول( اهجهم وروح القدس معك ) ولما أراد أن يهجوا حسان أبا سفيان
ابن الحارث أبا سفيان ابن الحارث من هو ؟ هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا أنه أحد الخمسة
الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئتهم فلما أراد أن يهجوه قال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف
تهجوه وأنا منه قال لأستلك منهم أي من بنو عبد مناف كما تستل الشعرة من العجين قال أذهب إلى أبي بكر فإنه
أعلم بأنساب قريش فأخذ أبو بكر يعلم حسان أنساب قريش حتى لا يقع حسان في نسب يدل على النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان يهجوا بنو عبد الدار ويتجنب بنو عبد مناف جملةً :
أتهجوه ولست له بكفئٍ .......................................... وشركما لخيركما الفداء
وعبد الدار سادتها الإماء وهذا شطر آخر البيت
هذا حسان ومنهم :
سعد ابن معاذ
رضي الله عنه وأرضاه وهذا سعد اهتز عرش الرحمن عند موته فرحاً بصعود روحه رضي الله عنه وأرضاه
ورغم كل المجد الذي تسمعه عن سعد فإنه مات وعمره سته وثلاثين سنة بنى فيها كل هذا المجد وكان رجلاً سيداَ في الأوس كما كان سعد ابن عبادة سيداً في الخزرج ولما تمت بيعة العقبة سمعت قريش من ينادي :
فإن يسلم السعدان يصبح محمدا.................................... بمكة لا يخشى خلاف المخالفِ
يقصد بالسعدان سعد ابن معاذ وسعد ابن عبادة واهديت له صلى الله عليه وسلم قطيفة من حرير وأخذ الصحابة يتعجبون منها فقال عليه الصلاة والسلام هذا بعد موت سعد قال عليه الصلاة والسلام ( لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا ) فهو أحد الصحابة الكبار المشهود لهم بالفضل شهد النبي صلى الله عليه وسلم دفنه وسابق إليه خوفاً من أن تسابقه الملائكة أو تسبقه إلى دفن سعد ابن معاذ رضي الله عنه وأرضاه.
---
من سادتهم:
أبي ابن كعب(17/13)
وهو أحد الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ القرآن منهم وبقية الأربعة ( عبدالله ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ ابن جبل ) هؤلاء ثلاثة أبي ابن كعب هو الرابع وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم( إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة لم يكن الذين كفروا ) فالله جل جلاله يأمر نبيه عليه السلام أن يقرأ سورة البينة على هذا الصحابي الجليل سيد القراء أبي ابن كعب رضي الله عنه وأرضاه .
ومنهم رضي الله عنهم وأرضاهم:
معاذ ابن جبل
وقد مات في الثلاثين بعد الثلاثين بقليل أظنه في الأربع والثلاثين وهو أعلم الصحابة في الحلال والحرام قال
عليه الصلاة والسلام ( أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ ابن جبل ) وكان رجلاً سخياً أهلكه الدين حتى اشتكاه
دائنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحجر عليه لأن الحدود الشرعية ليس لها علاقة بفضل الرجل وبكرمه
ثم رق له وبعثه إلى اليمن معلماً وفي نفس الوقت يجبي الزكاة والذي يجبي الزكاة له أيش ؟ له منها الله
يقول{ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}التوبة60 حتى يستفيد من أموال الزكاة من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم به ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو في اليمن فقدما المدينة ودخل المسجد وبكى تذكراً لنبينا صلوات الله
وسلامه عليه هذا معاذ ابن جبل رضي الله عنه وأرضاه وقد مات في طاعون عمواس في الشام وقد مر معنا
كثيراً قضية موته رضي الله عنه وأرضاه.
ومنهم :
سعد ابن عبادة
سيد الخزرج الذي مر معنا قصته قبل قليل سكن الشام في أخريات حياته ومات فيها رضي الله عنه وأرضاه .
وأبو د جانة
قد مر معنا مواقفه الشهيرة.
---
... أما بيوتهم فقد قلنا بنو النجار ذكرنا منهم ، بقوا بنو عبد الأشهل بنو عبد الأشهل هم القوم الذين منهم سعد ابن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ذات يوم في بني عبد الأشهل(17/14)
فلما سلم أنصرف من صلاته قاموا يتنفلون يصلون ركعتي المغرب ( زي ماتصلي بالمسجد وبعض الصلاة كل منهم يأخذ سارية في مكان يصلي ركعتين) فنظر صلى الله عليه وسلم فقال هذه صلاة البيوت أي ركعتا المغرب الأفضل أن تؤدى في البيت قال هذه صلاة البيوت يا بني عبد الأشهل لكن لا يعني ذلك أنها لا يجوز أدائها
في المسجد لكن إذا أستطاع المرء أن يؤديها في البيت تكون أفضل وأكثر إتباعاً وإذعاناَ للسنة هذامجمل ما يمكن أن يقال عن الأنصار ولعل في الإجابة عن أسئلتكم ما يوضح كثيراً مما تركناه .
---
عموماً نقول أن المقصود في مثل هذه الدروس أموراً عدة لكن أعظمها الحرص على إتباعهم رضي الله عنهم وأرضاهم كما قلنا في الآية أن الله قال {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}التوبة100 والمعنى الأجمالي لإتبعوهم بإحسان إتبعوهم بإخلاص وإتبعوهم بإن ساروا على نهج بين وطريق وأضح في إتباع سنة الله جل وعلا وإتباع سنة رسوله في إتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
---
والناس في زماننا وفئة الشباب على وجه الخصوص إذ أذنوا تتكنفهم طرق فمن الشباب :
من أبتلاه جل وعلا بالمخدرات والمسكرات وهذا ناجم عن أمرين عن ضعف الأيمان وضعف الشخصية ضعف الإيمان لأنه أرتكب معصية وضعف الشخصية لأنه لا يستطيع أن يواجه الواقع الذي يعيشه والمخدرات بأنواعها تجنح به إلى عالم الخيال ثم ما يزال في ذلك الأمر حتى يهلك عياذاً بالله نسأل الله لنا ولهم الهداية .(17/15)
فئة أخرى قد لا تصل إلى مرحلة المخدرات لكنها فتنة بحضارة الغرب فتراهم في بعض الطرقات المعينة كسلطانة في المدينة وشارع التحلية بجدة وشارع الملك خالد في الخبر أمثال طرائق معينة يلبسون الألبسة لا تليق بشخص مقتنع أنه رجل فضلاً على أنه مقتنع أنه مؤمن والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال )) وقال تعالى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}آل عمران36
وجعل لكل الناس شرعةً ومنهاجا طريقاً بين وهؤلاء فيه ضعف إيمان وفيهم ليس نقول ضعف فضية شجاعة لكن فيهم مركب نقص ومركب النقص يأتي أن الإنسان كلما شعر بالنقص في نفسه حاول أن يغطيه بشيء آخر فهو يحب أن يلتفت الناس إليه والتفات الناس إليه يبحث عن الإنسان بأي طريقة هذا شيء جبل الخلق عليه لكن أولئك الفئة تحتاج إلى نوع من الرعاية من المربين والإباء لكنه ظلموا أنفسهم ظلماً كثيراً بتلك الأجساد العارية والسلاسل التي تلبس وأمثالها عافانا الله وإياكم من ذلك .
3ـ الفئة الثالثة فئة قد لا تكون من هؤلاء لكن ليس فيهم همة صحيح أن الله حماهم من المخدرات حماهم من التزيين لكنهم يسمون في عرف الناس أشخاص عاديين ليس فيه همة أن يرتقي بنفسه والعاقل ينبغي أن يكون يومه خيراً من أمسه وغده خيراً من يومه يرتقي:
رأيتك أمس خير بني لؤي.................. وأنت اليوم خيراً منك أمسي
وأنت غداً تزيد الخير خيراً.................كذاك تزيد سادتنا وتمسي
فالإنسان يرتقي بنفسه إلى المعالي يوماً بعد يوم هؤلاء الفئة راضية بوضغها ولا يحسن بالمرء أن يرضى بوضعه في طريق المعالي.
وفئة جعلنا الله وإياكم منهم وأظن أن أكثركم منهم أتكلم عن الشباب وكبار السن يعذروني هؤلاء يصدق عليه كثيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم (( وشاباً نشئ في طاعة الله )) وهؤلاء هم الذين بهم تفخر الأمة وهم الذين بعد الله جل وعلا تعتمد عليهم الأمة.(17/16)
لأن عرف التاريخ أوساً وخزرج...................................فلله أوساً قادمون وخزرجوا
وأنا أقول لهم وصية واحدة مهمة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) قالها بعد أن قال (( واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبداً )) هذه وصية
العرباض ابن سارية حديث العرباض ابن سارية ذكر صلى الله عليه وسلم تقوى الله والسمع والطاعة والبعد عن البدع فالبعد عن البدع أكثر الشباب محفوظون منه ولله الحمد .
باقي قضية الخروج على ولاة الأمر هذه مهلكة من المهالك لأن أتباع ولي الأمر أصلاً جعله الله ديناً وملة وقربة وقد قلت قبل قليل بحماس زائد قليلاً يعرف دينه إذا طأطئ رأسه لكتاب الله وسنة رسوله فلا تجعل هوى قلبك هو الذي يقول وقد ترى أخطاء لا تستطيع أن تطيقها لكن يمنعك ويلجمك السمع والطاعة لما أمر الله لهم بالسمع والطاعة ولا يعني هذا ترك النصح أوترك الدعوة أو بيان الحق معاذ الله لكن أمر الله جل وعلا رسوله بجماعة المسلمين وحذر من الافتتان وإصتدام الرأي وسفك الدماء بين الأمة الواحدة ( فلا ترجعوا بعدي كفار يضرب بعضكم رقاب بعض ).(17/17)
هؤلاء الشباب منّ الله عليهم بدور العلم وحلقات التحفيظ والصلوات في الليل وبرّ الوالدين هؤلاء هم أفضل هذه الأمة في عصرنا هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم إمام عادل ثم ثنى وشاب نشئ في طاعة الله ) ولا يوجد شيء أعظم ياأخي من أن تنشئ في طاعة الله وعلى قول بعض الأخيار ممن أدركناه في المدينة يقول إذا أذن المؤذن الأول ترى أولياء الله يخرجون من جحورهم ، يخرجون من جحورهم إذا أذن المؤذن الأول في الحرم ترى الشياب وإخواننا الموريتانيين وبعض الشباب يتجهون إلى الحرم ولا نزكي على الله أحد لكن هؤلاء الفئة هم إنشاء الله نتكلم كلام عام( مو فرد بعينه) هم أقرب الناس إلى ربهم الذين ينتظرونا متى تفتح أبواب الحرم ليدخلون بينما غيرهم نائم أو على لهو أو مجون أو سهر أي كان نوع حياتهم مباحاً أو حرام لكن لا يقاس هذا بهذا {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }الجاثية21 الذي أوريد أن أقوله قضية الأنصار ذكرناهم إجمال لأن فيهم شياب وشباب وذكرنا نماذج إيمانية عظيمة تقرب إلى الله .
وختاماً ما نريد أن نقوله :(17/18)
أن الإنسان ينبغي عليه أن يعلم أن الدنيا عموماً أيام معدودات وأنفاس محدودة وما مضى من يومك إنما هو بعضك ولقاء الله حقاً لابد منه قال صلى الله عليه وسلم ( وما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) لكن الإنسان جملة ما أختم به الوصايا يتقي الله في نفسه ، يتقي الله فيمن حوله يحاول أن يسلم المسلمون من لسانه والناس مالهم إلا ماذا؟ إلا الظاهر ولا يقع في حياة الناس من الأشياء تظهر لك بوجه وبحقيقته شيء آخر لأنك لا تدري فضلاً على أن تحكم على ولي أمرك أو على أمير أو على عالم أو على شيخ أو على جارك أو على جارتك أو على زميلة لأختك في المدرسة وتطلق لسانك على أشياء لا تعلمها أنت فلهذا يدفعك إلى إن يعصم المرء نفسه في إن يخوض في أعراض الناس.
* أطلنا عليكم ولكن فيما قلناه يكفي*
---(17/19)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
........................
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،ارادم العبدا فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ،ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ،نبي سلم الحجر عليه ،ونبع الماء من بين أصبعيه فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه،اللهم وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار ،وعلى من سلك مسلكهم وتبع منهجهم بإحسان الى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
أما بعد:
أيها المؤمنون..
فإن أول سطر في تاريخ مجد هذه الأمة هو حياة نبيها صلوات الله وسلامه عليه فقد جعله الله حظنا من النبيين كما جعلنا برحمته حظه من الأمم صلوات الله وسلامه عليه.
والحديث عنه عليه الصلاة والسلام قلما يأت أحد فيه بجديد لأنه مامن مسلم إلا وقد اطلع على شيء من سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه ..
وفي هذا اللقاء المبارك سنتحدث عن حجرات أمهات المؤمنين ،تلك الحجرات التي كان يأوي اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،شهدت تلك الحجرات أحداثا عظاما وخطوبا جساما وأياما نضرة وسيرة عطرة من حياته صلوات الله وسلامه عليه.
فإلى تلك الحجرات كان يأوي ويقوم الليل وإلى تللك الحجرات كان يأتي أصحابه ليسألوه وينهلوا من معين علمه ،وإلى تلك الحجرات كان يدرج الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما إلى جدهما صلوات الله وسلامه عليه.
والى تلك الحجرات كان يأتي النساء من الذين يسألنه عليه الصلاة والسلام أو يشكين له بعض أمورهن رضوان الله تعالى عليهن.
وأعظم من ذلك كله أن تلك الحجرات كانت ينزل عليها ما أفاء الله على نبيه من القرآن والحكمة قال حسان رضي الله عنه يذكر ويتذكر:
بها حجرات كان ينزل وصفها من الله نور يستضاء ويوقدُ(18/1)
معالم لم تطمس على العهد عهدها أتاها البلى فالآي منها تجددُ
عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقد وارات آثار الترب منشد
على أنه ينبغي أن يعلم أن تلك الحجرات أيضا شهدت وفاته صلى الله عليه وسلم .ففي حجرة عائشة توفي وفيها قبر ودفن صلوات الله وسلامه عليه وربما كان بعض الفضلاء ممن حضر يرغب في وصف خلقته الهيئية عليه الصلاة والسلام وسنشعر في أول الأمر بيان خلقته الهيئية ثم نتحدث عن حجرات أمهات المؤمنين وما شهدت من خطوب عظام وأيام جسام،فنقول والله المستعان:
الله جل وعلا أكمل خلق نبينا وخُلُقه ، زكى الله جل وعلا لسانه (ما ينطق عن الهوى)وزكى الله بصره (ما زاغ البصر وما طغى)وزكى الله فؤاده (ماكذب الفؤاد مارأى)وزكى الله جل وعلا كل خلق فيه فقال(وإنك لعلى خلق عظيم) فهو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق وأشرفهم وأجلهم وأعظمهم مقاما عند الله وأعلمهم بالله وأشدهم لله خشية ، وكما زكى الله به الصنيع الخلُقُي زكى الله جل وعلا به الصنيع الخلقي فهو عليه الصلاة والسلام عليه نور النبوة يتلألأ رجل وأي رجل ونبي وأي نبي فهو العبد المشتبى والحبيب المصطفى والرسول المرتضى جمعني الله وإياكم به جنات النعيم..
نبيكم أيها المباركون:
كان ربعة من الطول لا بالطويل ولا بالقصير عريض ما بين المنكبين ،شعر رأسه عليه الصلاة والسلام كان سبط الشعر ،بمعنى أن شعره لم يكن ملتويا ولم يكن ناعما في جبهته عرق يدرّه الغضب إذا غضبت في ذات الله يمتلئ هذا العرق دما ،أشل الأنف أدج الحواجب من غير قرن بمعنى أن حاجبيه كانا دقيقين لكنهما لم يكونا متصلين.(18/2)
كما كان عليه السلام كث اللحية وليع الجنب أي كبير الجنب والشيب فيه ندرة ومعنى أن الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه أن الشيب متفرق شيب في صغده الأيمن والأيسر وعكسه شيبه في عنقدته أسفل شفته السفلى صلوات الله وسلامه عليه كأن عنقه إبريق فضة والثغرة التي في النحر الى أسفل صرته شعر ممتد على هيئة خيط ليس في بطنه ولا صدره شهر غيره ،مابين كتفيه من الخلفشعيرات سود وناتيه عن الجسد يشتبك بعضهن اللا بعض كأنهن بيضة حمامة عرفت بأنها خاتم النبوة .إذا أشار أشار بيده كاه وإذا تعجب من شيء قلب كفيه أو عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه،وإذا مشى يمشي تكفئا كأنما ينحدر من مكان عالي بمعنى أنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه من رآه من بعيد هابه ومن خالطه أحبه ولم يرى قبله ولا بعده مثله صلوات الله وسلامه عليه .
يقول جابر بن سبرة رضي الله عنه وأرضاه أحد صغار الصحابة :خرجت في ليلة البدر فيها مكتمل (مثل ليلتنا هذه)فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حراء حمراء فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عندي أجمل من القمر.
وقيل للبراء بن عازب رضي الله عنه:أتانا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف قال:لا بل مثل القمر.
وقال جابر نفسه رضي الله عنه: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى أي صلاة الظهر ،فدفق أهل المدينة يسلمون عليه فسلمت عليه فوجدت لكفه أربا أو ريحا كأنما أخرجه منجنب عطار.
هذا هو وجه الاجمال الهيئة الخلقية صلوات الله وسلامه عليه..
أما الحجرات وهي موضع ومؤل درسنا أنه قد ثبت تاريخيا أنه صلى الله عليه وسلم أول ما نزل على المسجد ثم بنى حول المسجد حجرات أمهات المؤمنين لتكون تلك الحجرات مأوى يأوي اليه صلوات الله وسلامه عليه ،وسنقف مع الأحداث عظام شهدتها تلك الحجرات تنبئك أيها الأخ المبارك عن سيرة نبيك صلوات الله وسلامه عليه ..(18/3)
أعظم ما شهدتها تلك الحجرات قيامه الليل بين يدي ربه صلوات الله وسلامه عليه وقد جاء عبد الله بن عباس وهو أحد صغار الصحابة وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة كان عند ميمونة بنت الحارث ،ميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس ،وابن عباس يجرؤ على أن ينام عندها فنام عند خالته ميمونة والنبي عليه الصلاة والسلام يومئذ عندها أي في ليلتها فأراد ابن عباس أن يرقد قيام الليل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام صلوات الله وسلامه عليه فمسح النوم من عينيه ثم قلب بصره الى السماء وقرأ خواتيم آل عمران(إن فب خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنبوهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) حتى ختمها صلوات الله وسلامه عليه ،ثم استاك حتى يكون فمه رطبا نديا وهو يقرأ القرآن ثم توضأ ثم قام يصلي كل هذا وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يرقبه ليحدث الأمة بعد ذلك عن ليل نبيها محمد عليه الصلاة والسلام وبهذا بيان واضح أن أقرب العباد هديا من نبينا عليه السلام من كان ليله قريبا من ليل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أم القلب لم ينم
بالليل تصدأه لوحي تعمره وشيبتك هود آية الصن
ياليتني كنت فردا من صحابته أو خادم عنده من أصغر الخدم
صلوات الله وسلام عليه..(18/4)
فالليل جعله الله جل وعلا مطية وقد دل القرآن والسنة على أن الليل أعظم عند الله جملة من النهار فالله نجى لوطا وبنتيه ليلا (إلا آل لوطا نجيناهم بسحر) وجعل ليلة الاسراء والمعراج من قبل جعلها ليلا(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)وجعل الله جعل وعلا المتقين من عباده يفرون من المضاجع الى أن يقيموا بين يدي ربهم والنبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ :ألا أدلك على أبواب الخير ،الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجلفي جوف الليل الآخر ثم تلا:(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)قال بعض أهل العلم في تفسيرها :لما أخفوا من أجل الله العمل أخفى الله جل وعلا الناس أجرهم.
يقفون بين يديه ويسألونه ويرجونه ويعبدونه أخفى الله جل وعلا لهم الأجر وقال جل جلاله:(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)
والمقصود:أن هذه الليلة مما شهدته تلك الحجرات من ليل نبينا صلى الله عليه وسلم.(18/5)
كما شهدت تلك الحجرات عبادته شهدت خلقه العظيم عليه الصلاة والسلام ، فعن عائشة رضي الله عنها زوجته تخبر ذات يوم أنها قدمت اليه فأخبرته بنبأ احدى عشر امرأة من الأنصار وهو حديث طويل ومع ذلك وهو رأس الملة وامام الأمة كان يستمع لها حتى فرغت وأثنت في كلامها عن رجل يقال لها أبو زرع فلما فرغت بعد أن ذكرت قصة احدى عشر امرأة وهو كل ذلك مصغ سمعه أدبا مع زوجته قال لها يلاطفها :كنت لك كأبي زرع لأم زرع . وكانت زوجته صفية وقد تزوجها بعد فتح خيبر وهي يهوديه تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يهودية فكانت تجد نوعا من الاضطهاد واحيانا نادرا بسبب الغيرة والتنافس فعيرتها احدى أمهات المؤمنبن بأنها يهودية وكان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خُلُقا وأرأفهم بالغريب فلما عيرتها بأنها يهودية قولي لها : بأنني والله ابنة نبي أي بنت هارون لأن صفية كانت من نسل هارون وان عمي نبي تقصد موسى عليه السلام وأني تحت نبي تقصد أنها زوجة نبيننا صلى الله عليه وسلم فعلمها صلى الله عليه وسلم كيف تجيب من يعيرها بأنها يهودية .(18/6)
في تلك الحجرات أيضا كما كان عليه الصلاة والسلام يلاطف أمهات المؤمنين كان يحذرهن من الفتن ويخشى عليهن منهن تقول أم سلمة كما في الصحيحين:قام صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول:سبحان ماذا أنزل الله من الفتن؟؟أيقظوا صواحب الحجرات فيصلين،رب كاسية في الدنيا ،عارية في الآخرة)فهو عليه الصلاة والسلام رحمة وشفقة على أمهات المؤمنين وعلى نساء الأمة من بعدهم يحذرهن من الموقوع في الفتن ويدعوهن إلى قيام الليل لأن قيام الليل الكسوة الحقيقة فقال جل وعلا:(ولباس التقوى ذلك خير)لكن كم من امرأة تتزين في الدنيا وهي يوم القيامة عارية من العمل الصالح عارية من التقوى عارية من المعروف عارية من الفضائل فإذا قدم عبد أو أمة رجل أو امرأة بين يدي الله ولا إيمان ولا تقوى ولاعمل فأولئك عياذ بالله من الهالكين والهالكات قال جل وعلا:(ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمي فيها جثيا)
والمقصود من ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجمع ما بين ملاطفته لأمهات المؤمنين وقيامه بواجب الزوجية ومع تربيتهن ورعايتهن وتعليمهن وقد قال جل وعلا من قبل (واذكرن ما يتلى عليهن من آيات الله والحكمة)
في تلك الحجرات أيضا قدم اليه نسوة من الانصار يشتكين اليه أن أزواجهن يضربهن فخرج صلى الله عليه وسلم الى الناس يقول:لقد طاف اليوم بأل محمد نسوة يشتكين أزواجهنليس أولئك بخياركم ليس أولئك بخياركم)
حجب النبي صاى الله عليه وسلم الخيرية عن الرجال الذين يضربون أزواجهم أي زوجاتهم والمقصود أيها المؤمنون ،الرجل الحر الأبي الشهم تهابه نفسه لنده المرأة يؤدبها بالقطع الذي تتأدب فيه إما أن يهاجرها في المضجع أو أن يقول لها كلاما فيه نوع من العتاب المؤدي الى ثمرة لكن العاقل يعرف أن المرأة ضعيفة والرجل الأبي لا يرضى بأن يكون خصم الضعيف .(18/7)
والنبي صلى الله عليه وسلم قال:(أحرج عليكم في حق الضعيفين اليتيم والمرأة)وقال في حجة الوداع عليه الصلاة والسلام:(انهن عوان عندكم أي النساء أي أسيرات فالمرأة في أصلها ضعيفة تحتاج الى من يلاطفها والمرأة لا يمكن أبدا أن تستقيم لك على حال هذا شيء محال(لايفرك مؤمن مؤمنة ان سخط منها خلقا رضي منهااخر)
لاتوجد امرأة أي كانت كاملة مؤدية حق زوجها على النحو الأتم.قال عليه الصلاة والسلام(فان استمتعت بها استمتعت على عوج )ثم قال:(وإن شئت أن تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها).
والمقصود أن الانسان يقدم أحيانا ويؤخر أحيانا ويلاطف ويتحمل.
بالعقل يشقى بالنعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم.
والعاقل يعلم أن الدنيا أصلا تحتاج الى نوع من المداراة.
قيل لإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه:ان فلانا يقول ان تسعة أعشار العافية في التغافل قال: لا بل العافية كلها في التغافل.
فالعاقل لايظهر أنه يرى كل شيء ويعرف كل شيء.
لابد أن الانسان أحيانا يتغافل لكن لا يعني ذلك أن يترك الانسان القوامة الشرعيةوتأديب امرأته بملاطفة الخطاب.أو بالتأديب الوارد شرعا إذا أراد أن يغير من خلق زوجته لكن باللين والحسنى ووضع اللبنات بعضها فوق بعض ..(18/8)
غلى تلك الحجرات جاءت امرأة طاعنة في السن فقال لها صلى الله عليه وسلم:من أنت؟قال:أ، جُفينة المزنية.فقال صلى الله عليه وسلم:بل أنت حسانة المزنية،ثم رد لها عليه الصلاة والسلام كيف أنتم؟كيف أصبحتم بعدنا،وأقبل عليها هشا دهشا،فقالت عائشة له بعد أن فرغت المرأة وخرجت :من هذه يا رسول الله مالك أقبلت اليها،قال انها كانت تأتينا زمن خديجة وان حسن العهد من الايمان وهذا كله ،قوام النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف لمن جاءه ولمن حوله ولغيره حقه،وكذلك المسلم يأخذ من السيرة على حسب من يتعامل من حوله ،لايتباهى بعمل مع جيرانه مع اخوانه ،الدنيا كلها زهرة فانية ،وكل بلاء فيها الا العافية وكل مرمى سوى الجنة فانية ،والانسان يجعل له من الدنيا مطايا .
وقيل:ان البر شيء جميل ولسان لين ،
الانسان الذي يعمل المعروف ويراعي الناس ويجبر كسرهم ويراعي خواطرهم هذا يتأسى بمحمد صلى الله عليه وسلم
نقول أيها المباركون:
شهدت تلك الحجرات ذات يوم أنه دخل عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتها مضطجعا كاشفا عن ساقيه ،ولك أن تتخيلأن نبي الأمةمضطجع وساقاه ظاهرتان وأبو بكر عنده ،ثم دخل عمر فاستأذن ورسول الله ما زال مضطجعا ،فلما دخل عثمان رضي الله عنه غيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هيئته ،وغير من جلسته واستوى جالسا وستر قدميه فلما أتموا شأنهم وأنهوا حديثهم وخرجوا قالت له عائشة بعد أن خرجوا يسألونه عن سبب صنيعه فلماذا لم يتغير حاله عند ابي بكر وعمر وتغير حاله عند عثمان فال صلى الله عليه وسلم :يا عائشة ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة.
الان نريخ المطايا هنا،السنة ليست أخذا محضا فقط،لكن ثنايا عقل ،وعلو همة ،وخلق عظيم كان عليه صلى الله عليه وسلم .(18/9)
الناس ياأخي ويأختاه يتفاوتون تفاوت عظيم في شخصياتهم ،وان من الكمال الايماني والعقلي أن نعامل الناس على قدر ما يحبون ،على قدر طبائعهم.
كان أبو بكر حييا وكان عمر حيا ،لكن عثمان كان أرفع درجة من درجات الحياء .
فتعامل النبي مع عثمان على هيئته ،على ما فطر عليه عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وهذه السنة ماضية في حياته صلوات الله وسلامه عليه ،وسنأتي بأدلة خارج هذا النص فنقول:
مر معكم في حادثة الهجرة أن سراقة بن مالك تبع النبي صلى الله عليه وسلم ،سراقة يومها كان كافرا،اذا مالذي أخرج سراقة؟أخرجه الطمع في الجائزة يريد100 ناقة فتبع النبي صلى الله عليه وسلم فتنأى الفرس مرة بعد مرة أدرك سراقة أن هذا الرجل نبي.
وذات مرة في الحجرت كان عليه الصلاة والسلام مضطجع على الأرض على حصير ،فدخل عليه عمر فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة ،قال له :يارسول الله،كسرى وقيصر فيما هما فيه ،وأنت على هذه الحالة ،ماذا قال الرسول؟
لم بقل لعمر أنك ستصبح أميرا للمؤمنين وأن أرض المدائن ستفتح لك وأن كسرى سيضع سيفه بين يديك ،لأن عمر شخصية آخروية تفكر في الآخرة ،يفكر في الجنة ،تخاف الله ،ليست كشخصية سراقة في يوم الهجرة ،فقال له:أفي شك أنت يا ابن الخطاب هؤلاء عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ،لهم الدنيا ولنا الاخرة ومقصدنا من هاذين المثالين يتبين لك ،كيف تعامل الرسول صلى الله عليع وسلم مع سراقة ؟وكيف تعامل مع عمر ؟
وهكذا الرجل العاقل اللبيب ،كيف يخاطب الناس متى يحدثهم ،متى يعظهم ،متى يتقدم /متى يتأخر هذا منهاج نبوة ،وأصله في القرآن .
فمثلا:الصحابة رضوان الله عليهم ،في يوم بدر أبروا بأنهم سألوا كيف تقسم الغنائم ،وفي يوم أحد ،رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أخبروا بأنهم ترك أحدهم مكانهم في جبل الرماة .
والان كم خطأ؟خطائين.(18/10)
لكن يوم بدر كان مشفوعا بأنهم كانوا مرسولين ،وفي يوم أحد كان قد مسهم القرع وأصابهم الهلع وقتل منهم أقوما.
فعاقبهم الله جل وعلا على الخطائين،عاقبهم على أنهم تكلموا في أسرى يوم بدروعاقبهم على الفرار يوم أحد .لكن انظر الى اسلوب القران.
في يوم أحد كانوا مكسورين لأنهم كانوا منهزمين فتلطف الله بهم فقال الله :(لقد صدقكم الله وعده ) ثم قال في آخر الآية(ولقد عفى عنكم والله ذو فضل على المؤمنين)
فما أراده الله وهو أرحم الراحمين أن يجمع على أصحاب محمد أمرين كافيين من العتاب من الله والعزيمة.
فعاتبهم الله بلطف بين لهم الخطأ وقال:(ولقد عفى عنكم واله ذو فضل على المؤمنين)
أما في يوم أحد لما كان هناك أسرى قال الله :(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)ثم ختمها بالآيةالتي بعدها في الأنفال بقوله جل وعلا :(لولا كتاب من الله سبقكم لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم)
انظروا الفارق ،لماذا لأنهم كانوا مرسولين ،فما خاطبهم بهذه الشدة نسبيا لأنها توافق حالهم رضي الله عنهم وأرضاهم ،ما أكرمهم من أصحاب ،وما أجلهم من مجاهدين ،وما أعظمهم من رعيل،وما أقربهم عند الله من شيء يذكر.
والمقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتعامل مع الناس بصورة تنبأ عن عظيم حكمته وجليل خطابه صلوات الله وسلامه عليه.
في تلك الحجرات قدم وفد حديث العرب في الاسلام ،فقال رجل:يامحمد اخرج الينا فان مدحنا جلد وان ذمن شم ،هكذا (يامحمد)باسمه امجرد،فأنزل الله جل وعلا قوله(إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج اليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم)
وفيها ذكر أن الله عفى عن أولئك القوم .(18/11)
موضع الشاهد أن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم دلائل كمال الايمان ،فان محبته صلى الله عليه وسلم لا يقوم الابأدبها ،ومحبته دين وذلة وقربه صلوات الله وسلامه عليه والأدب معه مع ماكان يتأدب فيه صلى الله عليه وسلم أمر مباح .
وسأبين ذلك في هذ1ا المجلس المبارك ،أعظم مما يحصل الاقتداء به إن كان سنة مأمورة أو سنة مشهورة.
فمثلا ثابت أحد التابعين كان إذا رأى أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه وقابله وسلم عليه كان ثابت يقبل يد أنس ويقول:انها يد لامست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فثابت وشهده هذا تعجب ومحبة مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ،وعمرو بن العاص يقول:لو أن أحدا طلب مني أن أصف النبي صلى اله عليه وسلم لما استطعت أن أصفه لأنني لم أملأ عيني منه ،اجلالا له صلى الله عليه وسلم .
وأبو بكر يوم الهجرة طرفا يتقدم وطرففا يتأخر وطرفا يأتي عن اليمين وطرفا يأتي عن الشمال ،يقول:يا رسول الله إذا ذكرت الرفث تقدمت واذا ذكرت القبر تأخرت وان خفت عليك من ذات اليمين وأحيانا ذات الشمال كل ذلك محبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ،وهذا أمر لا يحتاج الى ايلاج يمكنكم أن تسألوا الله أن يرزقكم جوار نبيكم في جنات النعيم ومحبته اتباع الهدي.
وبعض ما نقل منه مما أحبه .
أحب نبيكم صلى الله عله وسلمالبطيخ الأصفر(الخربز)كان يأكله مع الرطب ونحن في زمن الصيف فكان يأخذ شيء من الخربز ويطعم أخرى من الرطب ويقول عليه الصلاة والسلام وهو الذي لاينطق عن الهوى (نطفئ حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا)فلو أن انسانا أراد ان يتقرب الى الله بأن يقتفي شيئا محبة مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأكل الخربز والرطب وهو يقول :نطفئ حر هذا ببرد هذا )عل الله أن يغرز فيه بعد ذلك أمورا عظاما .(18/12)
منهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،من محبته صلى الله عليه وسلم ،محبة أهل بيته ،ومعرفة قدرهم ،وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس لما ذكر جفوة قريش لبني هاشم ،قال له :والله لن يؤمنوا (أي لن يكمل ايمانهم )حتى يحبوكم لله .
كما ان من محبته صلى الله عليه وسلم محبة مكان نبيك الذي جعله الله مهاجرا له وماوى ومثوى له جسدا صلوات الله وسلامه عليه.
كما ان من محبته ،محبة أصحابه والترضي عليهم أجمعين والسكوت عما صدر بينهم مع العلم بأن ذلك قليل نادر.وأن ما وقع من بعضهم انما هو مغمور مغموس في بحر فضائلهم وجليل عطاياهم وجهادهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ،وكيف وقد زكى الله صنيعهم من فوق سبع سموات
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من اذين اتبعوه باحسان)
كل ذلك ايها المبارك من جملة ما زكى فيه صلى الله عليع وسلم.
خاتمة المطاف:
شهدت تلك الحجرات وهذا أنا لاأقول على سبيل الوعظ بل على سبيل الخبر،نام صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة ،-أنه قد روي أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها -،فأخبرت بذلك أباها أبو بكر رضي الله عنه فلم يشأ أن يعبرها فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفن عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة فجاء أبو بكر رضي الله عنه فقال لابنته:يا بنية هذا أول أقمارك فكان الأمر كما قال دفن بعد ذلك في تلك الحجرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ثم دفن الفاروق رضي الله عنه وارضاه وكانت عائشة ترغب في أن يكون في ذلك المكان قبرا لها واستأذنها عمر لما حضرته الوفاة ،فقالت له،والله لأثرنه على نفسي فدفن عمر رضي الله عنه وأرضاه عند صاحبيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه .
هذا هو بالاجمال أيها الأخ المبارك ما تيسر قوله وتهيء إيراده في هذا المجمع المبارك.
وأخيرا :(18/13)
الله أسأل أن أكون قد وفقت في تفريغ المحاضرة فما كان من صواب فبتوفيق من الله،وماكان من خطأ فمني والشيطان ،وأستغفر الله منه.
أختكم ..
(( أم اويس ))(18/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .....
أما بعد
كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله ـ جل وعلا ـ :
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون }
ووافقت أن كان ذلك في آخر الحلقة مما نجم عنه أن المعنى لم يتحرر تحررا كاملا ، فكان لزاما أن نستفتح به لقاءنا هذا ...
فنقول أولا المسلك اللغوي ، فلو انتهينا من المسلك اللغوي نعيد معنى مجمل الآية ، فنحرر ما قاله المفسرون ثم نذكر رأينا إن كان لنا رأي غير ما قالوا.
الله ـ تعالى ـ يقول : { وإذ قال } أي اذكر إذ قال ، لأن إذ هنا ظرفية تحتوي الحدث .
{ إبراهيم } أبو الأنبياء ، وأفضل خلق الله بعد نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال عليه الصلاة والسلام : ( فأقوم مقاما يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم ) فقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ( حتى إبراهيم ) قرينة ظاهرة على أن إبراهيم أفضل الخلق بعد نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
{ لأبيه وقومه } قدم ذكر الأب ليبين عظيم تبرئ إبراهيم من الأصنام ، والخطاب لقوم يعبدون الأصنام فأخبرهم ـ تعالى ـ عن خليل الله إبراهيم .
أما القوم بأن إبراهيم أب لهم فيحتاج إلى إعادة نظر ، أما من حيث أصله فنعم ، ولكن ليس صحيحا ـ تاريخيا ـ أن ننسب الناس لكل أب لهم بمعنى لابد من شخصية ما فاصلة ما بعد وما قبل ،
ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ارموا بني إسماعيل ) ولم يقل
( بني إبراهيم ) لأنه لو قلنا : ارموا بني إبراهيم لدخل بنو إسرائل معنا ، وأصبحنا وإياهم لسنا أبنا عمومة ،
ولكن قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ارموا بني إسماعيل )(19/1)
حتى يخرج بنو إسحاق ، لأن بني إسحاق منهم يعقوب ، ويعقوب منهم بني إسرائيل ، ومن إسحاق كان العيس ، ومن العيس كان الروم ، فلو نسبنا الناس إلى إبراهيم ـ كما جرى عليه بعض المفسرين دون أن يلحظ هذا في معنى الآية ـ يقع الخطأ والخلط في فهم الآيات ، وهذا لا يتضح الآن إلا إذا أكملنا تحرير الآيات ، وأنا أقول سأبدأ بداية تروي في قضية اللغة .
{ إنني برآء } برآء لغة في بريء كان أهلها عالية نجد يستخدمونها آن ذاك كما يقولون ( طويل وطوال ) يقولون ( بريء وبرآء ) .
{ مما تعبدون } مما هذه مكونة من ( من وما ) ادغمت في بعضهم البعض فأما ( من ) فحرف جر ، لكن ( ما ) تحتمل هاهنا أن تكون :
* إما مصدرية . * وإما أن تكون موصولة .
ــ فإذا قلنا إنها مصدرية فيصبح المعنى ( إنني برآء من عبادتكم لغير الله ) لأن عبادة مصدر من الفعل عبد ، وهنا ( ما ) تصبح مصدرية
ــ وإن قلنا أنها موصولة يصبح المعنى ( إنني برآء من معبوداتكم ) موصولة أي من الذي تعبدونه .
ولا يتحرر من هذا كبير اختلاف ، فإبراهيم بريء منهم بسبب عبادتهم لغير الله .
{ إلا } هذا استثناء المنقطع في قول الجمهور وهو الحق بمعنى لكن .
لكن {الذي فطرني } أي خلقني { فإنه سيهدين } يبقى إشكال هنا أن السين جاءت هنا ولم تأتي في آية الشعراء حيث قال تعالى :
{ الذي خلقني فهو يهدين }
قال الشيخ الهروي ـ أمتع الله به حي مازال موجودا في مكة ـ قال بعد عناية ودراسة فيها : ( الذي يظهر أن هنا جيء بالسين لا للتسويف لكن للتأكيد ، لأنه هناك في آية الشعراء ذُكر أن الأصنام عدوة له )
{ قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ** أنتم وآباكم الأقدمون **
فإنهم عدو لي ......}
أما هنا فأراد إبراهيم أن يخبر بالبراءة من قومه ومن آلهتهم فجيء بالسين للتأكيد لا للتسويف ، ثم قال كلمة نرددها الآن
:( والله أعلم بأسرار كتابه )(19/2)
{ إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } إلى الآن لا يوجد خلاف بين العلماء في المعنى لأنه ظاهر .
{ وجعلها } الجاعل إبراهيم على الصحيح ، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الخلاف في فاعل ( جعل )
هل هو عائد على لفظ الجلالة أم أنه عائد على إبراهيم ؟
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون }
هنا يأتي الاختلاف في المعنى
المفسرون من حيث الجملة يقولون : ( إن هذه الكلمة العظيمة وهي البرآءة من الشرك وأهله ، وموالاة الله ـ جل جلاله ـ وهي في كلمة التوحيد لا إله إلا الله هذه الكلمة جعلها إبراهيم علامة وشعارا لقول دينه ، وجعلها باقية في عقبه رجاء أن قومه إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة )
{ بل متعت هؤلاء وآباءهم }
( هؤلاء ) أي المعاصرين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
( آباءهم ) أي الذين لم يشهدوا نبوته من آباء من كان حيا زمن النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والمعنى أي متعتهم بالنعم والعطاء ، ومن كثرت عليه النعم وطول الأمل يقسو قلبه ، فحادوا عن الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في العقب
{ حتى جاءهم الحق } أي القرآن { ورسول مبين } أي محمد
ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
نعود إلى قوله تعالى :
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون }
هذا الذي عليه أهل التفسير ، ونقول : إن المعنى هنا غير واضح لأننا نؤصل بأن هناك انفكاك وانقطاع تام بنص القرآن مابين نبوة إبراهيم ورسالته ومابين كفار مكة ، ولا يمكن أن يؤخذ القول هذا وجعل الأمر كالطريق الواحد ـ محال ـ لأن الله ـ جل وعلا قال في آيات محكمة :
{ وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير }
ومر معنا في اللقاء الذي قبله أن الله ـ تبارك وتعالى ـ قال
: { أم آتيناهم كتاب من قبله فهم به مستمسكون }(19/3)
وقلنا أن هذا دليلا نقليا على أنه ليس لديهم كتاب يخبرهم عن شيء فنفى الله عنهم النذارة ونفى الله عنهم الكتب انقطع اتصالهم الديني بإبراهيم ، فيكون قول الله ـ جل وعلا ـ فيما يبدو لي :
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه } أي في خواص عقبه في أقرب أهله إليه في إسماعيل وإسحاق ومن كان معاصراً له آن ذاك في العراق وبلاد الشام ، حتى يكون سببا في نشوء هذه البيئة الصالحة فتكون مؤثرة في من جاورهم ، وقلت في اللقاء الماضي أن من القرائن على صحة هذا الرأي أن الله لم يذكر أنه استأصل من كفر بإبراهيم بالكلية ، لم يرد في القرآن ـ فيما نعلم ـ ولا في السنة ـ فيما نحفظ ـ أنه جاء ذكر أن الله استأصل خصوم آل إبراهيم بالكلية ، فالله ذكر أنهم لما حاولوا حرقه ذكر أنه ـ سبحانه ـ نجاه ولم يذكر هلاكهم ، ولما ذكر النمرود ـ والنمرود فرد ـ وإبراهيم أصلا مر على العراق مر على الشام ، ومر على مكة وعلى مصر ..... كل هذه الديار طافها ولم يكن له بيضة معينة ـ بيضة بمعنى حوزة بمعنى مكان مستقر واحد ـ يستأصل أهله بينما كان طوافاً ولذلك تبنته الأمم كلها .....
فنقول على هذا إن قول ربنا : { بل متعت هؤلاء } أن ( بل ) هنا ـ نعم بالاضراب الانتقالي متفقون ـ لكنها ليست للإبطال ، لأننا لو قلنا أنها لإبطال أصبح هناك إلتصاق فهو يبطل المعنى ، لكن ( بل ) هنا للانتقال بمعنى يصبح الكلام بعد أن ذكر الله خبر إبراهيم يقول لنبيه :
( أما هؤلاء وآباؤهم فقد متعتهم بما شئتُ أن أمتعهم بدون نبي أو رسول ) ولا علاقة لهم بإبراهيم ....
{ حتى جاءهم الحق } أي القرآن .
{ ورسول مبين } أي أنت يا محمد .
ثم قال الله ـ تعالى ـ : { ولما جاءهم الحق } الكلام الآن عن كفار قريش ، ولا علاقة لإبراهيم بالمسألة .
{ قالوا هذا سحر وإنا به كافرون } وهذا مر معنا بأنهم وصفوا القرآن بأنه سحر بما ينجم عنه ـ بزعمهم ـ من التفريق بين الرجل وزوجته ، والوالد وولده ...(19/4)
ثم قال الله عنهم : { وقالوا } أي القرشيون
{ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }
الجار والمجرور ـ نحويا ـ تملك قوة في ضعفها ،
الآن المرأة أين قوتها ؟
في ضعفها ،
بعض الضعفاء قوتهم في ضعفهم كما لو يأتيك مكان لا يوجد فيه مقعد وتأتي معك بصبي صغير
أين قوة الصبي الصغير ؟
في ضعفه ، لأنه من السهل أن تجد له مكانا ...
مثلها الجار والمجرور ،
فهم قالوا : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }
فلو سُئلت : ما إعراب كلمة عظيم ؟؟
تقول : صفة لكلمة رجل ،
والمعنى ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من القريتين ) ومعلوم قطعا وجوب الاتصال ما بين الصفة والموصوف ،
ما الذي فصل بينهما ؟
الجار والمجرور ( من القريتين ) فالضعف لأنه شبه جملة أقحمها هنا ويعطي من الصياغة اللفظية والسبك بما لا مزيد عليه ...
{ من القريتين } القريتان المقصودتان هنا ( مكة والطائف ) بالاتفاق .
وكل قرية في القرآن تعني مدينة ، فقول الجغرافيين ليس له علاقة برب العالمين ، فتعريفهم للقرية بأنها كذا وكذا .... فهذا اصطلاح لا مشاحة فيه ، لكن القرية في اللفظ القرآني المدينة قال تعالى :
{ لتنذر أم القرى ومن حولها }
كانوا يزعمون ـ في قول جمهور أهل العلم ـ أن القرشيين كانوا يزعمون أن القرآن هذا أحق بذي رجلان :
الأول : عروة بن مسعود ـ من أهل الطائف ـ .
والثاني : والوليد بن المغيرة ـ من أهل مكة ـ .
وأيا كان من قصدوا هم ـ حتى في هذه الطريقة التي قالوها وهي باطلة في أصلها ـ أخطؤا في أنهم لم يعرفوا ما هو المعيار في قدر الرجال ،
لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى بالمقاييس غير الشرعية كان أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه .
نعود فنقول :
إنهم قالوا : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }(19/5)
مر معنا أن الجواب الإلهي يتحرى ويتوخى إقحام الخصم ، وبينا في قضية { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } أنهم جمعوا بين نقيضين أنهم ارتقوا بالملائكة وفي نفس الوقت وصفوهم بأنهم إناث ...
هنا يقول الله لهم : { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } معنى الآية ـ مباشرة ـ : أن الله يقول لهم : ( أنتم تعترفون الأرزاق إنما يقسمها الله وهذا لا خلاف فيه عندكم ، ومعلوم أن عطاء النبوة أعظم من عطاء الأرزاق ، فإذا كنا لم نسند إلى أحد من الخلق تقسيم الأرزاق فكيف نسند إليه تقسيم النبوة ؟! )
فهذا هو المعنى المقصود من الآية ...
إذا كلمة { رحمة } في الأول بمعنى النبوة ...
{ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ }
اللام للتعليل ، ولهذا نصب الفعل ..
{ بعضهم بعضا سخريا } أي أن الله ـ جل وعلا ـ لم يجعل الناس على منزلة واحدة ، خادم ومخدوم أمير ومأمور ملك ومملوك عبد وحُر ، حتى تستقيم الحياة ، وعلى هذا طُبعت الدنيا وجُبل الكون حتى يستقيم الأمر ويندفع الناس جميعا ..
{ ورحمة ربك خير مما يجمعون }
أما ( الرحمة ) هنا فالصواب ـ عندنا ـ أنها بمعنى الجنة
ثم إن هذه الآية ممهدة للآيات والمقاطع التي بعدها وهي قضية إظهار حقارة الدنيا ، فلما أراد الله أن يظهر حقارة الدنيا قال مخاطبا عباده
((ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر برحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون *وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ))
لابد من تقدير شيء ما في المسألة
والتقدير ((لولا أن يكون الناس أمة واحدة )) التقدير لولا كراهة أن يأتي الناس الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ...
المعنى :
الله جل وعلا يبين أن الدنيا إعطاؤها للكافر يدل على حقارتها عنده
مجرد أن الله جل وعلا أذن للكافر أن ينعم في الدنيا
هذا دلالة على أنها حقيرة عند الله(19/6)
لأن الكفار ليس أولياء لله
فتنعهم في الدنيا يدل على أن الدنيا ليست بشيء
ليست**ليست بشيء
فالله جلا وعلا يقول مخافة أن الناس يظنوا أن الكفر هو سبب في النعيم
لو كان هذا الأمر صنعته لظن الناس أنه السبب بأنهم كفار
فأصبح الناس لذلك كلهم كفار رجاء أن ينعم لهم
لكن كراهة أن يظن الناس ذلك منعنا الأمر على اطلاقه بدون تقيد
((ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر برحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ))
(معارج) جمع معراج بمعنى السلالم
مرت معنى قبل في آيات سابقة
(يظهرون ) يصعدون .
(( وليبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون *وزخرفا ))
هذا كله المقصود منه اظهارالمتاع الذي يعيشه الناس في حياتهم
((وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ))
ثم بين الله جل وعلا أن الحقيقة التي لامناص منها
أن المتاع الباقي هو متاع الآخرة
فقال ربنا (( والآخرة عند ربك ))
وليس هذا محل خلاف لكن يأتي محل تساؤل
لمن ؟
فجاء الجواب القرآني (( والآخرة عند ربك للمتقين ))
ثم قال الله(( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ))
(يعش) هنا جملة شرطية بمعنى يعرض ويصد .
جواب الشرط (نقيض له )
(نقيض) بمعنى نهيء وهو فعل مستقى من اسم جامع
وأصل التقدير ذلك الذي يحيط بغشاء مخ البيضة
(( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ))
((وإنهم )) أي الشياطين ((ليصدونهم عن السبيل )) عن الهدى
(( فيحسبون أنهم مهتدون )) وهذا قمة البلاغة
فإن قال قائل ألا يكون هذا عذرا لهم أنه يتأول على جهل
يقال في الجواب على هذا لايعد هذا عذرا لأن جهلهم هنا بسبب اعراضهم عن ذكر الله
لأن جهلهم بسبب اعراضهم عن ذكر الله .
(( حتى إذا جاءنا )) وفي قراءة ابن نافع (( حتى إذا جاءانا ))
(( قال ياليت بني وبينك بعد المشرقين))
لماذا قال بيني ويبنك ؟
ولماذا قال بعد المشرقين ؟
(أما بيني وبينك)
كان يغني عنها أن يقول بيننا(19/7)
لكن أراد قمة البراء منه ويسعى حثيثا لتخلص منه ففصل حتى في الألفاظ
((قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين ))
معلوم أن هناك مشرقان ومغربان
والأمر لتغليب ومر معنا نظائره
لكن لماذا اختار المشرقين دون المغربين ؟!
قال بعض أهل العلم من اللطائف
أن المشرق
ق يكون منه ظهور قرن الشيطان
يكون منه ظهور قرن الشيطان
فلهذا قال(( ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ))
اسلوب ذم لأن بئس فعل ماضي جامد ...
(( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ))
هذا من أعظم ماعذب الله به أهل النار
لأن الله قطع عنهم حتى التأسي بغيرهم
فإن المصائب في الدنيا يهونها أن تجد أحدا مثلك أو أعظم منك
في المصيبة
لكن أهل النار حرمهم الله جل وعلا من التأسي الذي يخفف منه العذاب
وهذا له نظائر في كلام الناس وأحوالهم
فإنكم تسمعون تقرؤون عن الخنساء
صحابية يقال لها تماضر كان لها أخ غير شقيق يسمى صخر
وكان بارا بها وكانت وفية به
وقد جرت عادت الفضلاء والعقلاء أنا الإنسان إذا أحسن إليهم سبقا دون نعمة يريدها فقد طوق أعناقهم
وتقول العوام في أمثالها الأول لا يلحقه شيء
صاحب النعمة الأولى لايدرك
وهذا صخر أثنى على أخته الخنساء قبل أن يعرف قدرتها الشعرية
وقبل ان يموت قطعا وقبل أن ينال منها فضلا فهو غير شقيق
فلما وقع من قلبها هذه المكانة بجله لها
مات في حروبه فلما جاءت ترثيه قالت فيه رثاء جما
قذى بعينيك أم بالعين عوار أم ذرفت اذ خلت من أهله الدار
ثم أطنبت في ذكره إلى يومنا هذا والناس تردد
هباط أودية شهاد أندية حمال ألوية للجيش جرار
إلى آخر القصيدة
ما العلاقة بين الآيات والأبيات ؟
العلاقة التأسي
قالت في مقطوعة لها
يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل مغيب شمسي
ولولا كثرت الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
و ما يبكون مثل أخي ولكن أعزي نفسي بتأسي
فالتأسي بمن ترى حولها من أخوات وقريبات وجارات فقدن أخوانهن
كما فقدت أخاها جعلها تتأسى(19/8)
فالتأسي بالغير نوع مما يخفف به الكلأ والمصيبة والجرح
هذا محروم منه أهل النار
قال الله جل وعلا ((ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم ))
اشتركتم في الظلم فخفف عنكم تحملتم الأعباء بعضكم عن بعض فما قمتم به من ظلم ربما مات فأصبح بينكم تعاون في تحمل أعبائه
لكن ليس ثمة تعاون في تحمل البلاء
قال الله جل وعلا
(( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ))
نعوذ بالله من جهنم وحرها بالكلية
هذا ما تيسر حول هذه الآيات ذات المقاطع الواحد ه
الآن نعيد الكره في قراءتها تاريخيا بعد أن قرأناها تفسيريا
لأن مابعدها منفك عنها
نعود لقضية إبراهيم عليه الصلاة والسلام
هذا ينفعنا تاريخا في أن نقول
أنك تسمع بأن الله جل وعلا قال في القرآن (( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر))
ولقد رجحت في اللقاء الماضي بأن آزر لقب له وأن اسمه تارخ
لماذا اختلف العلماء ؟
من حيث الصناعة العلمية يجب أن تعلم أنه في الغالب لا يمكن أن يكون هناك اختلاف إلا لوجود سبب قوي له .
ومن سبق كانوا أتقى منا وأشد علما وأعلم باللغة
فلا يمكن أن يكون حملهم على الأقوال مجرد هوى
عندما لايكون لك إلا خال واحد فإنك لاحاجة أن تسميه إذا تحدثت عن خالك
أما إذا كان من يحوط بك يعرف أن لك عدة أخوال فلابد أن تعينه باسمه
حتى تميزه عن باقي أخوالك
فالذين قالوا إن آزر ليس أبا لإبراهيم بل هو عم له
قالوا إن الله قال ((وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر)) قالوا لو كان أبوه لصلبه
لا حاجة لأن يسميه لأنه ليس للإنسان إلا أب واحد
فأما الذين قالوا أن اسمه آزر قالوا هذا صريح القرآن ولا انفكاك عنه
ومن أعظم الأدلة على أنه أبوه لصلبه أن الله ذكره في عدة مواضع
ولم يقل أنه عمه (ولم يقل أنه عمه)
فلو قال أنه عمه لأمكن أن يصبح لقولهم حجة قوية
لكن الله جل وعلا ذكر أبا إبراهيم في مواطن عدة
ولم يقل في واحدة منها أنه عم
دل على أنه أب له لصلبه
هذه واحدة(19/9)
إبراهيم عليه الصلاة والسلام ترك إسماعيل وهو الأكبر وإسحاق وترك العيس
من ذرية اسماعيل جاء نسل ينسب إلى عدنان
من عدنان إلى إبراهيم مات آباء وأجداد قطعا
لكن لا يوجد دليل ثبت على أسمائهم
أما من عدنان إلى هاشم
جد النبي صلى الله عليه وسلم
فهذا متفق عليه بين علماء الأمه
أحيانا يمر معك في تكرار التاريخ كلمة معد وعدنان
وتطلق أحيانا بمعنى واحد
لماذا ؟!
لأن ليس بين معد وعدنان أحد فمعد الإبن المباشر لعدنان
فيقال معدي ويقال عدناني والمعنى واحد
والمعنى واحد
قال روح بن زباع
يوم اليمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معديا (فماذا ) فعدناني
أعيد
هذا روح بن زباع هرب روح من عبد الملك بن مروان فأهدر دمه
فأصابه خوف
قال : قد ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
أي عبد الملك
واضح !
لما أصابه خوف يقول أنا إذا قابلت رجلا من أهل اليمن قلت أنا يمني
أي قحطاني من العرب العاربة
فإذا لقيت رجل عدنانيا قلت أنا عدناني أي من العرب المستعربة
فجاء الشاهد أنه قال
يوم اليمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معديا( ما قال فمعديا)
قال فعدناني
لأن معد هو اين عدنان
هو ماذا؟
هو ابن عدنان
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الخطباء والكتاب في مدحه
الصلاة والسلام على سيد ولد عدنان
هذه اللفظة تنبه إليها الشعراء
أحيانا أيها المبارك تكون المعلومة والمعنى مطروح
من يستله ويصوغه هذا هو العاقل
الخامة واحده لكن التعامل مع الخامة هو الذي يفرق الناس
هو الذي يفرق الناس ويفاضل بينهم
التعامل مع ماذا ؟
مع الخامة
إن كانت في العلم كمعلومة أو كانت في اللفظ
فالنبي صلى الله عليه وسلم اطبق الناس على أنه من ولد عدنان
فجاء ابن الرومي الشاعر العباسي فقال :
إن الناس إذا انتسبوا يفتخرون
بمن ؟
بآبائهم
فيقول فلان أنا من قبيلة قريش أنا هاشمي أنا قرشي
أنا من بني سهم
كل بحسبه
فقال أما عدنان ففخرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم منها
فهذا فخر والد بولد لا ولد بوالد(19/10)
قال ابن الرومي في آخر البيت :
كما علت برسول الله عدنان
كما علت برسول الله عدنان
فالذي جعل مزية عدنان على قحطان هو أن النبي صلى الله عليه وسلم
فهذا إن أطنبت في الفهم يريك الله جل وعلا أن رحمته مقسمة
فالعدنانيون ليسو عرب عاربة فعوضوا بأن منهم محمد صلى الله عليه وسلم
والقحطانيون ليس منهم النبي صلى الله عليه وسلم
فعوضوا بأنهم عرب عاربة
فعوضوا بأنهم عرب عاربة
ومثل هذا قد تظنه ليس كثير علم
لكن هذا إذا كان متوقدا في ذهنك وأنت تسير في الحياة
يجعلك تقل الطمع
لماذا تقل الطمع ؟
تعلم أنه من الصعب أن تجمع الحسنيين
من الصعب أن تجمع الحسنيين
إذا الله قال لنبيه ((وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين))
((هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ))
هذا يجعلك حتى في مسيرتك لا تحاول أن تكون كل شيء محال
فاتخذ شيئا جما وامضي عليه وتقلده واجعل ما بقي فروعا وحواشي
لا تهدم ذلك الحلم الذي تريده
فإن الذي يريد كل شيء لن يحصل على شيء
خرج حسين ابن علي ينشد الخلافة والحسين إذا تكلم يقول جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أمي يقول عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم ((بضعة مني ))
من فقه المسألة ؟
ابن عمر
قال له وهو يودعه إنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولن يعطيكم الله الملك والنبوة
لن يعطيكم الله النبوة والملك
لن يكون لك حظ فيها
فوقع كما قال ابن عمر حُرم الحسين باستشهاده في العاشر من محرم
من الوصول إلى الحكم
فيأتي الاستثناء
الاستثناء يكون في الخواتيم
لأن الأمور إذا تمت (ماذا ) انتهت
المهدي من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه علامة من علامات الساعة
يكون بها الخواتيم
وهذا من سنة الله في خلقه
كم تفضل المشرق على المغرب في أن الشمس تشرق منه
فإذا جاءت الشمس من المغرب
ماذا يحصل ؟؟
تقوم الساعة
هذا ماتيسر إيراده وتهيء إعداده وأعان الله على قوله
وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد الله رب العالمين(19/11)
تأملا ت في سورة النساء ج2
الشيخ صالح بن عواد المغامسي
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق فسوى وقدر فهدى ، وأخرج المرعى ،فجعله غثاءً أحوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد . أيها الأخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
حديثنا اليوم إكمال لما فسرناه من كتاب ربنا في الدرس الماضي من سورة النساء , ووقفنا عند قول الله عز وجل : (( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً{163} وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً{164} رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً{165} )) .
هذه الثلاث الآيات هي التي سيدور عنها الحديث في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله تعالى .
ومبدئياً نقول :
إن الإنسان وهو يسير إلى ربه لابد له منهج يسير عليه ولابد له من نفس الوقت من أئمة يقتدي بهم , وحتى يكون المسير إلى الله جل وعلا حقاً على بينةٍ وعلى صراط مستقيم لا بد أن يكون المنهج مِن مَن ؟(20/1)
مادمنا نعبد الله لا بد أن يكون المنهج الذي نسير به إلى ربنا يكون من لدن ربنا وإلا لن نستقيم في السير على صراطه ولا في الطريق إليه .
الأمر الثاني : ينبغي أن يكون القدوة والإمام الذي نضعه نصب أعيننا لابد أن يكون معصوماً حتى لا تختلف علينا الأهواء والزيغ . ولا معصوم إلا أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ولذلك عندما يكون الإنسان وهو يتحدث وهو يعمل وهو يقول وهو يفعل يحتج بفعل الأنبياء والمرسلين لا تجد لأحد طريقاً عليه لأن الله جل وعلا عصم الأنبياء والمرسلين من الزيغ ومن الضلال فهم عليه الصلاة والسلام لا يصدرون من آرائهم إنما يصدرون من وحي الله جل وعلا إليهم , فإذا اجتهدوا في أمر ليس فيه وحي لا يقرهم الله جل وعلا على خطأ إذا أخطؤا .
كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام أعرض عن عبد الله بن مكتوم رضي الله عنه نزل القران يعاتبه : ((عَبَسَ وَتَوَلَّى{1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى{2})) . أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له أسرى يوم بدر واستشار أصحابه أنزل الله جل وعلا : (( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ )) الأنفال 67. إلى غير ذلك من الدلائل التي لا تحتاج إلى كثير شواهد ،وعظيم قرائن .
المقصود قص الله جل وعلا في كتابه الكريم بعض من أخبار رسله وبعضا طواه عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعنا .
وفي الآيات التي تلوناها التي بين أيدينا التي هي موضوع درس اليوم يتكلم الله جل وعلا عن جملة من أنبياء الله ورسله ممن اصطفاهم الله وأنبأهم , وكل المذكورين في هذه الآية هم رسل وليسوا أنبياء فقط . بمعنى بعثوا إلى أقوام ودعوا إلى الله جل وعلا بشرع جديد .
هؤلاء الرسل أوحى الله جل وعلا إليهم قال سبحانه : )) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) .(20/2)
الوحي : هو الفارق الأعظم بين الأنبياء وبين المصلحين من البشر . نحن نعترف أن البشرية شهدت علماء ومصلحين وقادة عبر تاريخها الطويل في كل الأمم ولكن هؤلاء القادة والمصلحين والأئمة في أي ملة لن يسلموا من خطأ لأنهم غير موحى إليهم وليسوا بمعصومين , لكن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الوحي كفل لهم العصمة فهذا هو الفارق العظيم بين أنبياء الله ورسله وبين من شهدتهم البشرية عبر تاريخنا الطويل .
نسمع بسقراط وأرسطو وغيرهم وأفلاطون في الحضارة اليونانية وغيرهم , نعم كان كثير منهم أجلاء فيهم عقل فيهم حكمه أسسوا حضارة لكنها لم تسلم ولن تسلم من زلل ما دامت جهداً بشرياً . أما جهد أنبياء الله ورسله فهو فرقان ووحي ينزل من الله لا يقبل أنصاف الحلول لأنه (( مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ )) هود 1, قال الله جل وعلا في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} )) النجم .
نأتي لهؤلاء الأنبياء سنقف على مجمل سيرتهم عبر ما سردهم الله جل وعلا , منهم من مر معنا ومن مر معنا في دروس لاحقة لا حاجة للتكرار ومن لم يمر معنا سنقف عنده لنتبين بعض سيرة حياته وكيف نقتدي به , مع البيان الشافي أنهم جملة بعثوا بدين واحد وهذه أهم قضية ولذلك قال الله : (( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )) البقرة 285.(20/3)
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا )) " إن " هذا كلام رب العزة . والنون للتعظيم " نا " الدالة على الفاعلين لتعظيم الرب جل جلاله , تسمع في الأوامر الملكية في السعودية مثلا : " نحن فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية " ثم يأتي الأمر هذه " نحن " للجماعة لكنها تقال في السياق اللغوي للتعظيم . ويجوز إطلاقها على البشر ويجوز إطلاقها على الله , لكنها في حق الله بلا شك أعظم منها في حق البشر كما تقال فلان حكيم والله جل وعلا حكيم , لكن فرق ما بين حكمة العباد وحكمة رب العباد جل جلاله , إن اتفقا في المسمى لا يتفقان في دقائق الوصف .
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) وأوحينا الفعل" أوحى " كذلك أسند إلى " نا " الدالة على الفاعلين لبيان العظمة الإلهية .
(( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) المخاطب هنا النبي صلى الله عليه وسلم نبينا محمد مع اليقين أنه عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء لكنه قدم هاهنا لعلو شرفه وجليل منزلته وعلى أنه أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بلا شك .
وحتى يستفيد الإنسان فالإنسان إذا خطب أو ألقى محاضرة أو أرد أن يقول درساً كطالب علم مثلا يحاضر أو شيء من هذا يقول : " وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأولهم يوم القيامة شأنا وذكرا " .
يقول : " وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا ـ من حيث الزمن هو آخر الأنبياء ( أنا آخر النبيين وأنتم آخر الأمم ) ـ آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأولهم يوم القيامة وأرفعهم شأنا وذكرا صلوات الله وسلامه عليه .(20/4)
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) ثم جاء الله بكاف التشبيه " كما " أي كالذي (( كَمَا أَوْحَيْنَا )) ثم ذكر الله جملة من الأنبياء على ما سيأتي بيانهم على التفصيل . (( كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) نوح عليه الصلاة والسلام أول رسل الله جل وعلا إلى الأرض , وقد أثنى الله جل وعلا عليه في القرآن وأسماه ((عَبْداً شَكُوراً )) الإسراء 3 . والأصل أن الله خلق الناس على فطرة واحدة منذ أن كان أبوهم آدم عليه السلام , مكثوا على هذا الحال كما يقول ابن عباس وجمهرة المؤرخين عشرة قرون ثم اجتالتهم الشياطين صرفتهم عن طاعة الله فبعث الله جل وعلا وأرسل أول ما أرسل أرسل إليهم مَن ؟
نوح عليه الصلاة والسلام والدليل على أنه أول الرسل ثابت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر قيام الناس وحديث الشفاعة قال : ( إن الناس يأتون نوحاً ويقولون يا نوح أنت أول رسل الله إلى الأرض وسماك الله في كتابه عبدا شكورا ) . فهو أول رسل الله إلى الأرض بالاتفاق , وهو أطول الأنبياء عمراً عاش ألفا وتزيد قيل إنها ألف ومائه وخمسين , وما ذكره الله جل وعلا في كتابه أن الله قال : (( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً )) العنكبوت 14 . هذا العمر الدعوي وليس عمر حياته كلها قول الله جل وعلا : (( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً )) يدعو إلى الله بدليل أن الله قال بعدها : (( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ )) . (( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ )) و (( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ )) هذه كلها دلالة على أن نوحاً عاش بعد هذه المدة ويحسب معها المدة التي كانت قبل أن ينبأ صلوات الله وسلامه عليه , والمقصود أنه شيخ المرسلين وهو الأب الثاني للبشر بعد آدم والأب الأول للأنبياء صلوات الله وسلامه عليه .(20/5)
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) ولم يذكر الله جل وعلا من النبيين الذين بعد نوح عليه الصلاة والسلام .
ثم قال سبحانه : (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ))
بيان هؤلاء على النحو التالي :
ذكر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد مرت معنا سيرته وهو الأب الثاني للأنبياء ويطلق عليه أبو الأنبياء من باب التجوز إذا أطلقت أبو الأنبياء يراد بها إبراهيم وإذا قيل شيخ الأنبياء يراد بها نوح عليهم الصلاة والسلام , وإذا قيل كليم الله يراد بها موسى مع أن الله كلم محمداً وكلم آدم لكن إذا قيل كليم الله تنصرف إلى موسى عليهم الصلاة والسلام , وإذا قيل شيخ المرسلين تنصرف إلى نوح لأنه الأبُ الأول للأنبياء ولأنه أطولهم عمراً , وإذا قيل أبو الأنبياء تنصرف إلى إبراهيم لأن إبراهيم ما بعده جميع الأنبياء كانوا من ذريته قال الله تعالى : (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب )) هذا يفيد الحصر إلا أنه يشكل أن لوطاً ابن أخي إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .(20/6)
(( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ )) إسماعيل الابن الأكبر لمن؟ لإبراهيم من زوجته هاجر وهاجر كانت جارية عند من ؟ عند سارة فجارية أمه وسارة حرة . لما لم تنجب سارة أهدت إبراهيم هاجر فلما ولدت إسماعيل أصابها ما يصيب النساء من الغيرة فما طاقت أن تمكث هي وسارة في مكان واحد , فهاجر إبراهيم بزوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى واد غير ذي زرع أي إلى مكة ووضعها في مكة بأمر الله في القصة المشهورة ومضى عنهما , رجع إلى أين ؟ رجع إلى مصر إلى زوجته سارة . لما رجع إلى سارة أنجبت له سارة إسحاق وجاء في الآية : (( إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ )) . فصار إسحاق الابن الثاني لمن ؟ لإبراهيم .(20/7)
لما ترك إبراهيم إسماعيل في واد غير ذي زرع التي هي مكة اليوم تركه ولم يترك معهم إلا شيئا يسيراً من زاد وماء ثم فني الإثنان فلما فني الإثنان والقصة المشهورة أن بعثت ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل . وجود الماء يجلب القبائل جاءت قبيلة جرهم وهي قبيلة قحطانية من العرب العاربة تزوج منهم إسماعيل بعدما شب وبلغ مبلغ الرجال تزوج منهم , بعدما تزوج منهم ماتت أمه قبل أن يأتي أبوه ماتت أمه هاجر بعد أن تزوج من قبيلة جرهم ثم مكث ما شاء الله ,جاء إبراهيم يبحث عن زوجته وابنه , لما جاء عرف أن الوالدة توفيت أي والدة إسماعيل , فسأل عن ابنه كان إسماعيل وقتها في الصيد فلما دخل على المرأة الجرهمية التي تزوجها إسماعيل في أول الأمر سألها عن إسماعيل قالت : " خرج يصطاد لنا " فسألها عن حالهم فذكرت شيئا عسيراً ولم تحسن الخطاب وقالت : " نحن في ضيق وشدة كرب ولم تذكر شيئا حسنا " فقال لها إذا جاء إسماعيل فأقرئيه مني السلام وقولي له : " غير عتبة بابك " . جاء إسماعيل من الصيد كأنه آنس شيئا , قال لزوجته : " هل من خبر ؟ " أخبرته القصة رجل كبير أخذت تصف إبراهيم وهي لا تدري أنه والد إسماعيل . هل قال شيئاً أخبرك بشيء ؟ أخبرته بالقصة , قال : " ذاك أبي وقد أمرني أن أطلقك فالحقي بأهلك فطلقها " , ثم تزوج امرأة أخرى من نفس جرهم لأنه ما كان فيه قبيلة إلا جرهم , فلما تزوج وافق أن جاء إبراهيم بعدها بفترة وكان إسماعيل في الصيد فقابل المرأة الزوجة الجديدة سألها عن حالهم أين إسماعيل قالت : " في الصيد " سألها عن حالهم أخبرته بأنهم : " بأحسن حال " فدعا لهم بالبركة وقال : " إذ جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له ثبت عتبت بابك " , لما جاء إسماعيل سأل زوجته وأخبرته الخبر قال : " ذاك أبي وقد أمرني أن أبقي عليك " , ثم جاء في المرة الثالثة وحصل ما حصل من بناء الكعبة .
هذا من؟ هذا إسماعيل عليه الصلاة والسلام .(20/8)
حث الأبناء على الصلاة من هدي الأنبياء
نعته الله جل وعلا في القرآن بأنه : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً{54} وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً{55} )) مريم . المقصود أن إسماعيل كان يحث أهله على الصلاة وهذا أعظم الفوائد في هدي الأنبياء .
حث الأبناء على الصلاة من هدي مَن؟ من هدي الأنبياء هذه الغاية من ذكر الأنبياء . نأخذ من كل نبي الفائدة المرجوة . حث الأبناء على الصلاة من هدي الأنبياء . فالإنسان وهو يعمل يوقظ أهل بيته يتذكر هذه الآية يتلوها : (( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ )) ويأمر أهله بالصلاة وينادي علَّ الملكين أن يكتباها له .
إسحاق عليه الصلاة والسلام تكلمنا عنه وقلنا إنه والد يعقوب ويعقوب هو مَن ؟ هو إسرائيل .
(( وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ )) الأسباط أبناء يعقوب على الأظهر . اختلف فيهم : جمع سبط والأظهر أنهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام , إذا قلنا إنهم أولاد يعقوب فهم إخوة مَن ؟ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب هذا أظهر ما قيل في أن الأسباط وهم أخوة يوسف تاب الله جلا وعلا عليهم وهناك أقوال غير ذلك .
(( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى )) الأصل أن عيسى عليه الصلاة والسلام في الترتيب ليس بعد يعقوب والأسباط وإنما عيسى آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وفي هذا فائدتان :(20/9)
الفائدة الأولى : أن الله ذكر عيسى مقدماً هنا لأن الخطاب هنا أصلا موجه للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب بني إسرائيل لأن مر معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجادل من ؟ نصارى نجران قلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجادل نصارى نجران والآيات قريبة مما قبلها تتكلم عن النصارى فتقديم عيسى هنا لمناسبة الآية بما قبلها هذا واحد .
الفائدة الثانية : بما أن عيسى ليس الأول فهذا دليل على أن " الواو العاطفة " لا تفيد الترتيب . وإن كان في المسألة أقوال للعلماء لكن " الواو العاطفة " لا تفيد الترتيب .(20/10)
ثم قال الله جل وعلا : (( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ )) أيوب عليه الصلاة والسلام من ذرية يعقوب أي من بني إسرائيل . وقد جعله الله جل وعلا قدوة ومثالاً وموعظة للصابرين . وهو عبد صالح ونبي مرسل بنص القرآن كما في هذه الآية , هذا النبي ابتلاه الله جل وعلا بعد أن كان حسن الخلقة ابتلاه الله بمرض في الظاهر والباطن , ومكث في المرض عليه الصلاة والسلام ثمانية عشر عاماً وهو صابر محتسب حتى كان ذات يوم فقد أبناءه طبعاً في الفترة هذه فقد بعض أهله تخلى الناس عنه لم يبقى له إلا صاحبان وزوجته . وكانت بارة فيه وغضب عليها مرة فحلف بالله أن يضربها إن شفاه الله مائة جلدة , إذ أن الإنسان مع المرض يحدث منه أشياء عاجلة , بقي له صاحبان خرجا من عنده ذات يوم وأخذا يتحدثان فيه , رواه أبو يعلى والحاكم في مستدركه بسند صحيح وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة , خرجا من عنده ثم أخذا يتحدثان عنه فقال أحدهما للأخر : " ألا ترى أن أيوب قد أذنب ذنباً عظيما وإلا يمكث ثمانية عشر عاماً ولم يشفه الله ؟ ـ حتى تعلم أن الناس في تقبلها للآخرين يبقى مهما بقي تصورها ماذا ؟ تصور ضيق والأمور مردها إلى الله تنظر حسب ما ترى , ولا يمكن أن يعطى إنسان العلم كله , هذان صاحبان حميمان ومع ذلك يقولان عنه هذا القول وهو نبي مرسل ـ لما رجعا إليه ما صبرا أخبراه قالوا : " إننا تحدثنا في شأنك وقلنا إنك أذنبت ذنباً عظيماً وإلا لا يعقل أن تمكث في البلاء ثمانية عشر عاما لا يشفيك الله " , فقال عليه السلام : ( لا أدري ما تقولان إلا أنني أمر على الرجلين ـ وهنا تأمل كيف يعظم أنبياء الله ربهم ـ أمر على الرجلين يتنازعان فيحلفان الإثنان بالله فأعلم أن أحدهما كاذب ـ لأنه لا يعقل أن يصدق الاثنان وهما متنازعان ـ فأذهب إلى بيتي فأكفر عن أحدهما كراهية أن يذكر الله إلا بحق ) , فخرجا من عنده , وكان عندما يقضي حاجته تذهب معه زوجته , أخذته ليقضي(20/11)
الحاجة وأوصلته إلى منتهى المكان الذي تريد أن يقضي فيه الحاجة وتركته يتكئ عليها لضعفه , ثم انتظرته كالعادة , وهو في الطريق أصابه ما أصابه من الهم فسأل الله جل وعلا كما قال الله جل وعلا عنه : (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )) الأنبياء 83 , وفي الآية التي في سورة " ص" : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )) 41. ففجر الله من تحته عيناً وقال له اشرب واغتسل (( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ )) فركض (( هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )) فشرب فبرئ باطنه كل وجع داخلي انتهى , واغتسل فبرئ ظاهره . فأصبح تام الخلقة حسن الوجه فرجع معافى إلى من ؟ إلى زوجته , لكنها لم تعرفه , فقالت : " يا فلان أمر معك هذا النبي المبتلى فوالله إنه عندما كان غير مريض من أشبه الناس بك " فقال لها : ( أنا نبي الله أيوب ) . رجع معها صلوات الله وسلامه عليه .مكثه ثمانية عشر عاما من أعظم وأجل أنواع الصبر ولذلك لما نعته الله جل وعلا في القرآن قال : (( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) .
قال العلماء الربانيون :
" إن نِعم الثناء من الله ليس بالأمر الهين " . أن يقول الرب الجليل جل جلاله عن أحد عباده (( نِعْمَ الْعَبْدُ )) إلا لعلم الله بسريرة ذلك العبد وأنه أهل لهذا الثناء والمدح الإلهي . وقد من الله على أيوب عليه الصلاة والسلام بهذا العطاء .(20/12)
زيادة في الخير كان له أندران يعني بيادر كبيرة فيها قمح وشعير , فجاءت سحابتان ـ وهذا حديث صحيح ـ فأفرغت إحداهما على مكان القمح ذهبا وعلى مكان الشعير فضة فضلاً من الله جل وعلا عليه وإكراما لصبره صلوات الله وسلامه عليه . من مات من ذريته وأولاده وأهله أحياهم الله جل وعلا إكراماً له .فالله جل وعلا إذا أعطى لا يسأله أحد عما يفعل تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا .
قال سبحانه : (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا )) هذه لأيوب (( وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ{84} )) أي لمن صنع في صبره صنيع من ؟ صنيع أيوب . هذا أيوب عليه الصلاة والسلام .
قال الله جل وعلا : (( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ )) أما يونس عليه الصلاة والسلام فهو يونس ابن متى عليه الصلاة والسلام بعثه الله جل وعلا إلى أرض نينوى من أهل الموصل من بلاد الموصل في أرض العراق حالياً . هذا النبي خرج مغاضباً في قصة مشهورة مرت معنا مراراً لا حاجة لذكرها لكن الذي يعنينا أنه عليه الصلاة والسلام قال الله جل وعلا عنه : (( وَذَا النُّونِ )) أي وصاحب الحوت (( إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )) الأنبياء 87 .
وجاء في السنة كما في البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقل أحدكم أنا خير من يونس ابن متى ) هذا الحديث مشكل لأن له مفهومين :(20/13)
المفهوم الأول : أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام لا يقل أحدكم ( أنا خير ) " أنا " هذه عائده على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا بها يصبح المعنى لا يفضل أحد بيني أي النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الأنبياء . وهذا بعيد في ظني لأن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من كل الأنبياء ولا حاجة لتأكيد يونس لوحده وإن قال به فريق من العلماء .
أما المفهوم الثاني : وهو الأرجح معناه لا يقل أحد من الناس عن نفسه يرى صلاحه وتقواه وصلاته و صيامه أنه أفضل من يونس . طيب ما لذي يدفع الناس لأن يقول أحدهم أنا أفضل من يونس . ما ذكره الله جل وعلا عن يونس من نوع عتاب فإن الله قال في كتابه : (( وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )) القلم 48 , فقالوا هذه الآية تشعر أن يونس ليس بذلك الكمال , فيأتي إنسان يرى في نفسه الكمال العظيم فيظن أنه خير من يونس . فقال عليه الصلاة والسلام حسماً للباب : ( لا يقل أحدكم أنا خير من يونس ابن متى ) . فيونس عليه الصلاة والسلام نبي مرسل قلنا أرسله الله إلى أرض نينوى من أرض الموصل من أرض العراق حالياً .
(( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ )) أما يونس بيناه أما هارون فهو الأخ الأكبر لموسى عليهم الصلاة والسلام وكان فرعون لما اشتكاه الأقباط أنه إذا أفنى بني إسرائيل لا يبقى لهم خدم أصبح يقتل عاماً ويبقي عاماً , فولد هارون في العام الذي لا قتل فيه وولد موسى في العام الذي فيه قتل .
هارون كان أكبر من موسى وجعله الله جل وعلا رسولاً نبياً بشفاعة موسى قال الله جل وعلا : (( وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً{53} )) مريم . وقال الله عن موسى (( وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً )) الأحزاب 69.(20/14)
جاء في حديث الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنه رأى في السماء الخامسة : ( ورأيت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته قلت من هذا يا جبرائيل قال : هذا المحبب في قومه هارون ابن عمران ) .
كان هارون سمحاً ليناً ولذلك كان محبباً في بني إسرائيل .
وافترقت بني إسرائيل على ولايته لمّا ذهب موسى يكلمه ربه كما سيأتي . هذا هارون ابن عمران عليه الصلاة والسلام .
ثم قال الله : (( وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ )) سليمان ابن داوود وسيأتي بيان داوود عليهم الصلاة والسلام ، أما سليمان قلنا إنه ابن داوود وقد منّ الله جل وعلا عليه بأن استجاب دعائه عندما قال : ((رب اغفرلي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أنك أنت الوهاب )) إذا جئت تسأل الله فلا تسأل الله على قدر ما تظنه في الناس ولكن اسأل الله على قدر ما تظنه في ربك . الله جل وعلا أعظم مسؤول .هذا سليمان يفقه هذه جيداً فلما سأل ربه سأل ربه على قدر ما يعلمه عن ربه لا ما قدر ما يستحقه , فنحن لا نستحق شيئا لكننا نسأل الله على قدر علمنا بعظمة ربنا وجلال قدرته وأن خزائنه لا تنفد سبحانه وتعالى .
فهذا النبي الصالح قال : (( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )) ص 53 , فمن الله جل وعلا عليه وأعطاه ما سأل فسخر الله تعالى له بعدها (( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ )) ص 36 .
حتى أصبح في الأمثال يقال : " ملك سليمان " كناية عن الملك العظيم الذي لا يعطى لأي أحد وهذا فضل من الله جل وعلا له .
ثم قال سبحانه : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) داوود والد من ؟ والد سليمان وهذا دلالة كذلك على أن الواو لا تعني الترتيب وإن كانت هذه : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) ممكن أن تكون واو استئنافيه .(20/15)
داوود عليه الصلاة والسلام أحد أنبياء بني إسرائيل وهو الذي يسمى عند النصارى اليوم : " ديفيد " . وكلمة " كامب ديفيد " معناها مخيم داوود . داوود عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل وعلى يديه قتل جالوت (( وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ )) البقرة 251 , كما قال جل وعلا .
هذا النبي لما مسح الله جل وعلا كما عند الترمذي بسند صحيح على ظهر آدم وخرج من ظهر آدم ذريته رأى آدم كل نسمة كائنة من ذريته إلى يوم القيامة . فرأى فيما رأى منهم غلاما أزهر فيه " وبيص " نور بين عينيه , قال : ( يا رب من هذا ؟ ) ـ طبعاً هو أبو البشر لكن لا يعرفهم هذا عالم الأرواح الأول ـ قال له ربه : (( هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يقال له داوود )) ، قال : ( كم جعلت عمره ) قال : (( ستين عاماً )) فقال : ( يا رب زده أربعين ) فقال الله : (( إلا أن يكون من عمرك )) فوافق آدم , وكان الله قد أعطى آدم ألف عام , فلما جاء ملك الموت ليقبض آدم نسي آدم أنه أعطى ابنه داوود أربعين عام . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته ) فأتم الله الألف لآدم والمائة لداوود عليهم الصلاة والسلام .
هذا النبي قال الله عنه : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) ص 17 , كلمة (( ذَا الْأَيْدِ )) جمع الله له قوة القلب وقوة البدن في الطاعة .
الإنسان أحيانا يكون عنده رغبة في الطاعة لكن الكسل يكون بدني مثلاً مهدود ، رجل كبير، شاب مريض ،قادم من عمل مضني متعب فالرغبة لا يطيقها البدن , وأحيانا يكون في الإنسان عافية وقدرة لكنه نائم يعني ما كان وراءه تعب لكن ما عنده قلب يريد أن يقوم الليل , فاجتمع في داوود قوة القلب على الطاعة وقوة البدن . وهذا من أفضال الله جل وعلا على عباده .(20/16)
لو أراد شخص في يوم واحد أن يطبق سنة داوود عليه الصلاة والسلام ما لذي يلزمه ؟
(( ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) منّ الله عليه بخصلتين حسن الصلاة وحسن الصيام قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( أحب الصلاة إلى الله صلاة داوود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) . الآن آذان المغرب يؤذن الساعة السابعة وصلاة الفجر تكون الساعة الرابعة أي أن الليل تسع ساعات بالضبط ، لو أراد شخص في يوم واحد أن يطبق سنة داوود عليه الصلاة والسلام ما لذي يلزمه ؟
ينام بعد صلاة العشاء إذا اعتبرنا الليل من بعد صلاة العشاء تصبح سبع ساعات لأنه ما فيه قيام ليل إلا بعد صلاة العشاء فكان ينام نصف الليل،هذه السبع ساعات ثلاث ساعات ونصف فإذا نام الساعة التاسعة يقوم الساعة الثانية عشر والنصف ويصلي إلى كم يبقى من السدس؟ الآن إذا وصل إلى الساعة الثانية عشر والنصف هذا نصف الليل في أيامنا هذه إذا اعتبرناه من اثنا عشر ونصف إلى أربعه كم ساعة ؟ ثلاث ساعات ونصف إذا قسمت على ستة ثلاثة في ستين مائة وثمانين ونصف ثلاثين مائتان وعشره ، مائتان وعشره دقيقه لو قسمت على ستة يصبح فيها حوالي أربعين أو خمسه وثلاثين دقيقه فتبقى الخمسة وثلاثين دقيقه قبل أربعه يصبح يبدأ يقوم اثنا عشر ونصف وينتهي الساعة الثالثة وخمسه وعشرين دقيقه . هذه قل ما يطيقها أو يفعلها أحد في عصرنا مرة في العمر هذا النبي كان يصنعها كل ليلة وقال صلى الله عليه وسلم : (وأحب الصيام إلى الله صيام داوود كان يصوم يوما ويفطر يوما ) وتمام الحديث وهو في الصحيحين : ( وكان لا يفر إذا لاق ) لأنه كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر صلوات الله وسلامه عليه .(20/17)
أعطاه الله جل وعلا حسن الصوت ولذلك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال : ( أعطي مزمارا من مزامير آل داوود ) . كان إذا قرأ الزبور , والزبور هو الكتاب الذي أعطاه الله داوود عليه السلام والزبور كله مواعظ , وقال بعض العلماء ليس فيه أي حكم شرعي وإنما كله رقائق ومواعظ تذكر بالله ، كان يتلوها بصوت حسن فتجتمع الطير تنجذب إلى صوته وقراءته للزبور فتمكث إذا طال بعضها يموت جوعا ينسى الأكل وهو مؤتلف منسجم مع ترتيل داوود .
قال الله: (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) والزبر في اللغة : الكتاب المجموع بعضه إلى بعض . (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) الزبور الكتاب الذي أنزله الله جل وعلا على داوود عليه السلام وقلنا إنه مواعظ كله وحكم . الآن أنظر إلى التفكير ما بين أهل الدنيا وأهل الآخرة .
سنأتي بفائدة أدبية حتى أريك الفرق بين الناس :
تسمعون بالفرزدق أبو فراس شاعر أموي كان من أهل الفسق جاء ذات يوم على كلمة زبور ، جاء ذات يوم عند مسجد يقال له مسجد بني زريق في الكوفة هذا المسجد يجلس عنده شعراء ينشدون شعر , فذكر رجل ينشد شعراً ذكر شعر للبيد بن ربيعه ، لبيد له معلقه :
عفت الديار محلها فمقامها
بمنٍ تأبد غولها فرجامها
*فيها بيت يقول:
وجل السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متونها أقلامها
يتكلم عن السيل عندما يأتي يمسح الوادي كأنه يعيد كتابتها من جديد , هذا الشاعر واقف يتكلم والفرزدق عابر فقال :
وجل السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متونها أقلامها(20/18)
سجد هذا الفرزدق , فلما سجد ورفع رأسه قالوا : ما هذا يا أبا فراس ؟ قال : أنتم تعرفون جَيِّد القرآن فتسجدون وأنا أعرف جيد الشعر فأسجد له . الآن هذا يبين لك أن عقلية الناس تختلف من شخص إلى شخص . الفرزدق لا ينقصه ذكاء وإلا ما يقول هذا الشعر لكن لا يوجد قلب يتعلق بماذا ؟ يتعلق بالآخرة . الناس كلها ترى منظر واحد لكن كيف ترى هذا المنظر ؟ كلما كان قلبك أخروياً ربطته بالآخرة . سليمان بن عبد الملك خرج ومعه عمر بن عبد العزيز وهما واضع يده بيد بعض أمير المؤمنون سليمان ومعه عمر ماشين في الطائف , والطائف معروف البرق والرعد فيها , جاء رعد وبرق انتفض سليمان ـ والذي يعرف جبال الهدا والشفا يعرف هذا ـ فلما رأى البرق والرعد قال عمر : " يا أمير المؤمنين هذا صوت رحمته فكيف إذاً بصوت عذابه ؟ " هذا الذي أنت خائف منه صوت رحمه يأتي منه مطر فكيف إذاً بصوت عذابه . فربطها رحمه الله بالآخرة مباشرة وإلا المنظر يبقى واحد لكن الناس الذي يرونه تلقي المنظر، تلقي الكلام ، تلقي الخطاب ، يختلف من زيد إلى عمرو لأن الناس يتفاوتون في إدراك الأشياء بحسب قلوبهم .
قال الله جل وعلا : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) ثم قال سبحانه : (( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) . الله هنا يقول لنبيه هؤلاء رسل قصصناهم عليك . ممن قصه الله جل وعلا صالح ، وشعيب ، وهود ،وهم غير مذكورين في هذه الآية (( وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ )) طبعا لا نعرفهم لأن الله لم يقصصهم على نبيه (( وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) إفراد موسى عليه السلام هنا بالذكر تشريف له صلوات الله وسلامه عليه .
موسى أعظم أنبياء بني إسرائيل .(20/19)
وهو كليم الله وصفيه قال الله عنه : (( قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي )) الأعراف 144 .
فيه شيء في اللغة يسمى مفعول مطلق يأتي على ثلاثة أنواع :
إما يأتي مبيناً للعدد تقول مثلا : " ضربت فلان ستاً " أي ست ضربات .
وإما مبيناً للنوع تقول : " أكرمت زيداً إكراماً كثيراً " أي كثير الإكرام .
وإما أن يأتي مؤكداً يؤكد حدوث الفعل كما في هذه الآية : (( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) هذا تأكيد أن الله كلم موسى أما كيف كلمه لا ندري . لكن كلمه بلا شك . لأنه فيه فرق حادت عن الصواب وقالت إن الله لم يكلم موسى .
متى كلم الله موسى ؟
كلم الله موسى في بدء النبوة عندما خرج من أرض مدين وأظنه مر علينا هذا كلمه الله عند جبل الطور وكان لا يدري أنه نبي ولا يدري أنه رسول فكلمه ربه .
الحالة الثانية : كلمه الله جل وعلا عندما وعده تبارك وتعالى قال تعالى : (( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ{142} وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي )) الأعراف .
هذه (( لَن تَرَانِي )) نذكر منها فوائد مهمة إن صح الخطاب :(20/20)
هذه " لن " للنفي وقد مرت معنا ، ظهرت فرقه يقال لها المعتزلة سأخصص الحديث عنها الآن . تقول إن الله جل وعلا لا يُرى في الآخرة ومن حججهم هذه الآية يقولون إن الله قال لموسى (( لَن تَرَانِي )) بمعنى لن تراني أبداً , فقالوا يستحيل أن يُرى الله في الآخرة . ونحن معشر أهل السنة نؤمن أن الله جل وعلا يُرى في الآخرة لدلالة الكتاب ودلالة السنة قال الله جل وعلا : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{23})) القيامة , وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) في حديث الصحيحين وفي غيرهما .
نأتي لقضية المعتزلة وهذا من باب الفوائد .
المعتزلة فرقة ظهرت في أواخر القرن الأموي وازدهر قولها وسلطانها في عصر بني العباس أيام المأمون والمعتصم أخو المأمون .
تقوم أركان المعتزلة على خمسة بنود :
أولاً : التوحيد . الثاني : الوعد والوعيد . الثالث : العدل . الرابع : المنزلة بين المنزلتين . الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . طبعاً حسب فهمهم هم .
لماذا سموا المعتزلة ؟
قالوا من أسباب تسميتهم أن الحسن البصري رحمه الله وهذا مر معنا كثيرا كان يدرس في الحلقة وجاءه رجل سأله يا أبا سعيد ما تقول في مرتكب الكبيرة ؟ كان في أيامها فيه جدال صراع بين الناس هل مرتكب الكبيرة يكفر أولا يكفر؟
كان الخوارج يقولون : إن مرتكب الكبيرة يكفر كفراً أكبر مخرج من الملة فيستبيحون قتله . وأهل السنة يقولون إن مرتكب الكبيرة فاسق لكن الكبيرة لا تخرجه من الملة وبالتالي لا يستبيحون قتله .
فجاء رجل يسأل الحسن البصري رحمه الله وكان من أعلام الناس , فبينما الحسن يريد أن يجيب ظهر رجل في الحلقة اسمه واصل بن عطاء من أعظم من أسس مذهب الاعتزال فقام وقال هو في منزلة بين المنزلتين .(20/21)
سنرد عليهم عقلاً هم جاؤوا بها عقلاً سنرد عليهم عقلاً , فقال : هو في منزلة بين المنزلتين ، ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ قام وجلس تحت سارية ثانية يشرح : ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ ـ طبعاً إي إنسان يقوم يشرح الآن حتى لو إي واحد الآن زعل علي في الدرس وجلس هناك يتكلم لا بد واحد أو اثنين يروحوا وراه يشوفوا ماذا يقول ـ لما ذهبوا ناس معاه قال الحسن رحمه الله : " اعتزلنا واصل " فسموا بالمعتزلة .
قرر واصل مذهب الاعتزال . واصل هذا من أفصح خلق الله رغم أنه كان فيه لظغه ما يعرف ينطق حرف الراء ما تجيء على لسانه هذا شيء ليس في يده من الله , يجلس يتكلم بالساعات ولا أحد يعرف أن فيه لظغه في الراء لا يأتي ولا بكلمة فيها راء , هذا إنسان يعرف في اللغة أشياء لا تعقل يتكلم بالساعات يقول الحمد لله القديم بلا ابتداء الباقي بلا انتهاء يذكر يعظ بالله ويصف ويشرح ويتكلم ويخرج وأنت لا تدري أنه ما يأتي بالراء لأنه ما قال ولا كلمة بالراء لقوة بلاغته , ومع ذلك أضله عقله ، لأنه حكم على الناس بأن الفاسق ترد شهادته وأنه منزلة بين المنزلتين .
من أعظم ضلاله أنه قال وبئس ما قال : " إن علياً رضي الله عنه والحسن والحسين وعمار حاربوا عائشة وطلحة والزبير " . ورد هو كل النصوص التي جاءت في فضل هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم , وقال : " بالعقل واحد فيهم فاسق وواحد ظالم وواحد مظلوم ". قال : " وأنا ما أدري من الظالم ومن المظلوم إذاً لا أدري من الفاسق ؟ فقال : " لو شهد عندي عليٌ والحسن والحسين وعائشة وطلحة والزبير وعمار لما قبلت شهادتهم ولا في حتى في بقل ولا بصل لأنهم فساق ترد شهادتهم " . هل يقول هذا عاقل ؟ وهو يزعم أن مذهبه قام على العقل .
الآن سنبين بالعقل أن مذهبه باطل .(20/22)
قالوا له : اشرح ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ قال : بسيطة أنا ما أقول مثل الخوارج إنهم كفار يقتلون في الدنيا ولا أقول مثل ما تقولوا أنتم أهل السنة أنهم مؤمنين مسلمين أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم , قال : " في الدنيا تجري عليهم أحكام أهل الإسلام فهم مسلمون وفي الآخرة كفار مخلدون في النار تجري عليهم أحكام أهل الكفر لأنهم لم يتوبوا ـ وهذا معنى الوعد والوعيد عندهم يقول الله ملزم على أن يعذبهم لأن الله عدل ما يترك واحد ما يعذبه وهو قد عصاه ـ هذا معنى منزلة بين منزلتين معناها : تجري عليه في الدنيا أحكام أهل الإسلام ما يقول مثل الخوارج نقتله وفي الآخرة قال مستحيل كافر مباشرة إلى جهنم ويخلد فيها ولا يدخل الجنة أبدا " . الآن بالعقل بلاش يا آية و بلاش يا حديث , عندما نجري عليه أحكام الدنيا وهذا سيموت طب الميت المسلم كيف تجري عليه أحكام الدنيا يغسل ويكفن ويصلي عليه هذه أحكام الدنيا على المسلم , صلينا عليه وهو مرتكب الكبيرة على مذهب واصل ماذا نقول في الدعاء اللهم اغفر له وارحمه وعافه ونحن عارفين إنه كافر داخل النار ما صار دعاء , فصار هو يدعوا على المسلمين دعاء يعلم أنه باطل وأنه عبث وهذا أكبر دلالة على أن المذهب كله باطل . هذه جابت دليل أن الزمخشري أحد أئمة الاعتزال يقول : " إن الله لن يرى في الآخرة " وله تفسير اسمه تفسير " الكشاف " يباع موجود في المكتبات هذا التفسير آية في البيان الرجل كان فصيحاً لكنه ضيعه بما فيه من مذهب الاعتزال والدعوة إليهم , هذا المذهب قلنا كان في عصر بني أميه ثم انتشر في عهد بني العباس تبناه المأمون ومات ثم كتب لأخيه المعتصم أن يتبنى المذهب فتبناه المعتصم وبسببه أوذي وعذب الإمام أحمد رحمه الله حتى جاء الواثق أو المتوكل أحدهما اختلط علي فألغى مذهب الإعتزال وتبرأ منه وأعاد مذهب أهل السنة بعد أربعة عشر عاماً من انتصار المذهب ثم بعد ذلك ظهر المذهب كرة(20/23)
أخرى في دولة بني بويه دوله شيعية عام 334 هـ وجعلوا القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة جعلوه قاضي القضاة في ذلك العصر , هذا إجمالاً على مذهب الإعتزال .
قال الله سبحانه : (( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) ثم قال الله : (( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) أي هؤلاء الرسل يبشرون الناس بالجنة وينذرونهم من النار وهذه الغاية الأساسية لمن ؟ للأنبياء والرسل . لماذا ؟ (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )) إذا موضع الشاهد أن الله لا يعذب من لم تقم الحجة عليه لأن الله جل وعلا قال : (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) .
هذا مجمل ما أردنا بيانه ونسأل الله أن يبارك فيما قلناه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(20/24)
تأملات في سورة يونس (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا،وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره،واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.أمابعد ....فهذا واحد من اللقاءات المتجدده مع كتاب ربنا جل وعلى وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي ماأردنا أن نعلق عليه من سورة التوبة ونشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة يونس واختيار بعض الآيات منها للتعليق عليها كما جرت العادة وقبل أن شرع فيها نستذكر بعضاً مما ذكرناه في سورة التوبة وقد بينا أن الله جل وعلا قال فيها (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله....)وقلنا إن إنما/أداة من أدوات الحصر وقلنا إن الله جل وعلا هنا جعل الزكاة الشرعية منصرفة إلى ثمانية أقسام عدَّى في بعضها باللام وعدَّى في بعضها بفي والفرق بالتعدية باللام والتعديه بفي أن اللام تقتضي التمليك أما في فلا تقتضي التمليك وحتى تظهر المسألة لوأن إنسانا أراد أن يخرج زكاة ماله فأراد أن يعطي فقيرا فإنه يلزمه شرعا أن يسلم الفقير المال بنفسه يعني يصل المال إلى الفقير بأي واسطة كانت فلابد أن يملكه الفقير حتى تصبح هذه الزكاة وصلت وهذا مقتضى قول الرب جل وعلا(إنما الصدقات للفقراء.....)أما التعديه بفي فلا يلزم أن يقبضها من صرفت له بنفسه فمثلا لو وجد مجاهدون متطوعون كما في الزمن القديم مثلا فأراد إنسانا أن يزكي فاشترى بزكاة ماله فرسا فوضع الفرس في حظيره تعطى للمجاهدين هذا يكفي لايلزم تسليمها إلى مجاهد بعينه هذا الفرق بين الأمرين وقلنا اختلاف العلماء في قوله جل وعلا(وابن السبيل)ورجحنا أنه المجاهد المتطوع في أصح(21/1)
أقوال العلماء وللعلماء في ذلك كما قلنا أقوالا عدة وتكلمنا عن مسجد الضرار وقلنا إن الله يقول(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون)وقلنا إن المكان المعتبر في الشيء أصل تأسيسه.فالمسجد هذا رغم أنه بني مسجدا لكن لما أسس لغير الغاية المنشودة من المساجد أسس ضرارا وكفرا لم ينفعه أنه مسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه واحراقه ولايقال أن تغير نيته فلو كان كذلك لبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو غيرهما من وجهاء الصحابه وأقاموا فيه الصلوات وغيروا الطريق التي من أجلها أنشيء لكن ماأنشيء على باطل يبقى منشأ على باطل وماأنشيء على حق يبقى منشأ على حق ولو دخله بعض.(لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)وقلنا إن الصحيح إن المقصود هنا/مسجد قباء(من أول يوم)أي أول يوم في الهجرة وليس معنا أول مسجد أسس في العالمين فإن أول مسجد أسس في العالمين هو المسجد الحرام لكن أول مسجد أسس في الإسلام هو مسجد قباء من الفوائد اللغويه إن الله قال(لاتقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)بعدها (فيه رجال يحبون أن يتطهروا)وهذه كلمتان متشابهتان لم يفصل بينهما فاصل (فيه)بعدها مباشره(فيه رجال يحبون أن يتطهروا)هذه إحدى الفوائد اللغويه في القرآن ومثلها قول الله في الأنعام(وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ماأوتي رسل الله)بعدها (الله أعلم حيث يجعل رسالته...)فجاء لفظ الجلاله لايفصل بينهما بفاصل إلا المعنى فتقف عند قول الله جل وعلا (وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ماأوتي رسل الله)بعدها تقف وتقول (الله أعلم حيث يجعل رسالته) هذه كفائده(21/2)
الفائدة الثانية:جاءت ثلاث هاءات في القرآن متواليه.لايفصل بينهما فاصل وهي قول الله جل وعلا(أريت من اتخذ إلهه هواه)فإلهه مختومه هاءين والكلمه التي بعدها مبدوءة بهاء.فأصبحت ثلاث هاءات متواليه.هذه كفوائد تعينك وتحفز همتك على تدبر كلام الله وتدبر كلام الله أيا كان فهو نافع.لأن الإنسان لابد أن يشغل نفسه بحق أو بباطل حتى لو ذهنيا يفكر فلإن تنقضي الأعمار في التفكر في كتاب الوحد القهار خير من أن تنقضي في شيء آخر أيا كان وهذا سر أن علم القرآن أشرف العلوم هذا ماتكلمنا عنه في الأسبوع الماضي اليوم نتكلم عن سورة يونس وسورة يونس عدد آياتها فوق المائة وكنا قدمنا في الدرس الأول أو الثاني من هذه اللقاءات أن العلماء يقسمون القرآن جملة كسور إلى أربعة أقسام:ــ
1/ يسمى السبع الطوال..
2/ يسمى المئون جمع مائه..
3/ المثاني...
4/ يسمى المفصل ويقال له/ المحكم..(21/3)
هذا التقسيم السبع الطوال والمئون وإذا نصبت أو جرت تقول: المئين والمثاني والمفصل هذه الأربع العلاقه بينها وبين سورة يونس أن سورة يونس عند قوم من العلماء من السبع الطوال وعند ءاخرين: من المئين فسورة يونس لا تنفك إما من المئين وإما من السبع الطوال ومرد هذا الإختلاف نحن قلنا في دروس سابقه أن السبع الطوال هي: البقره، آل عمران، النساء، المائده،الأنعام، الأعراف..هذه الست متفق عليها على أنها من السبع الطوال بقينا في السابعه من العلماء من يرى أن التوبة والأنفال سورة واحده كما مر معنا فهذا يجعل التوبة والأنفال هي السابعه وعلى هذا يكون عدد سور المصحف بهذا الترتيب مائه وثلاثه عشر ومن لا يرى أن التوبة والأنفال سورة واحده وهذا هو الذي عليه الجمهور يجعل السابعه من السبع الطوال يجعلها يونس فيقفز التوبه ويقفز الأنفال هذه السبع الطوال قلنا بعد الطوال يأتي المئون..المئون عند العلماء ما جاوزت أو قاربت المائة آيه ومن طرائق العلم أن الإنسان نقول مرارا لا بد أن يفهم تصور عام للعلم الذي يريد أن يدخل فيه أما الإكتفاء بالجزئيات لا يمكن أن يبني علما فلا بد أن تتصور المسأله عموما ثم حتى الجهل بالجزئيات لا يضر لكن إذا كان الإنسان يفقهه الجزئيات ويجهل الكليات هذا ليس بعلم، العلم أن تفهم الأمور بكلياتها مثلا رجل غريب من غير السعوديه فتريد أن تصف له مثلامسجد نفرض المسجد الذي على الطريق يسمى جامع النزاوي نفرض تريد أن تصف له تقول له عند دوار القبلتين مثال هو أولاً هذا ليس بجواب أول شيء تقول له في السعوديه ثم تقول له في المدينه ثم تقول له في الجهه الغربيه من المدينه ثم تقول له عند دوار القبلتين فلا تبدأ بالجزئيات. الجزئيات لا تقدم علما فإذا أردت أن تعرف كلام الله يجب أن تعرف أولا أنه مائة وأربعةعشرسورة وأنه مقسم إلى أربعة أقسام من حيث جمع السور بعضها إلى بعض وأنه مقسم من حيث النزول إلى مكي ومدني ومقسم من(21/4)
حيث الحكم إلى ناسخ ومنسوخ ومقسم من حيث الإيمان إلى محكم ومتشابه ومقسم من حيث الجمله إلى عام وخاص إذا فهمت هذا تفهم القرآن أما أن يدخل الإنسان من جزئيات لن يفقه شيئا في دين الله هذه معلومات تقال في كتب مسابقات ثقافيه يجيب عليها إنسان يقرأ ورقة تقويم يستفيد معلومه يدخل مسابقة يأتي السؤال الذي قرأه في التقويم فيجيب فيقول الناس فلان عالم أو هذا مثقف هذا ليس بعلم العلم الشرعي الذي يتصدر به الإنسان للناس ينبغي أن يكون مؤصلا بهذه الطريقه فقلنا إن القرآن يقسم إلى السبع الطوال وذكرناها ثم المئين ثم يقسم إلى المثاني فيأتي السؤال المئين عرفنا لماذا مئين لأنها تصل المائه والطوال لماذا طوال؟ لطولها بقينا في المثاني / معنى ثنى الشيء كرره إذن تسمى المثاني بالمثاني لأنها تقرأ في الصلوات أكثر من غيرها هذا القسم الثالث .والقسم الرابع المفصل وقد بينا اختلاف العلماء في بداية المفصل قيل من" ق" وقيل من "الحجرات "الذي يعنينا أن المفصل سمي بالمفصل لأنه كثيرا مايفصل فيه مابين سوره بقول(بسم الله الرحمن الرحيم) جاء في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند صحيح أن المفصل يسمى المحكم ويسمى المفصل بالمحكم لأنه لا يدخله النسخ كثيرا لأنه مسائل عقديه لاتقبل النسخ.النسخ يأتي في الأحكام والأحكام في السور المدنية في البقرة في أمثالها في الأعراف في الأنعام يأتي النسخ أما أحكام العقائد أن الله جل وعلا واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول واليوم الآخر بعث هذا لايقبل النسخ يسمى محكم أو يسمى مفصل أتينا الآن إلى سورة يونس قلنا إن العلماء يتراوح قولهم مابين أنها من السبع الطوال أو من المئين وهي بحسب ترتيب المصحف لابحسب النزول أول سورة في القرآن سميت باسم نبي. والقرآن بالنسبه للأعيان ورد فيه أسماء سور بأسماء أنبياء وسور للقرآن بأسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم فما ورد بأنه أسماء أنبياء أول سورة يونس وتعقبها مباشرة(21/5)
سورتان هود ويوسف أصبحت ثلاثة طبعا لاأحد يقول" طه" ولا"يس" لاختلاف العلماء في( طه ويس ) ثم بعدها "إبراهيم" وهو الرابع بقيت اثنتان "محمد" صلى الله عليه وسلم ولها اسم ثان هي" سورة القتال" وسورة "نوح" إذن أسماء الأنبياء التي أطلقت على السورست ثم جاءت سور باسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم مثل أول سورة" آل عمران" فإنهم قوم صالحين بالإتفاق(إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران ...)وسورة "مريم "بعدها بعده سور سورة "لقمان"فمريم ولقمان وآل عمران هؤلاء قوم صالحون ليسوابأنبياء اللهم أن يقال إن من آل عمران عيسى ممكن لكن إذا قلنا بالجمله فإنهم قوم صالحون هذه سورةيونس مما يتعلق بالسورة أنها اسم للنبي اشتهرت قصته ولايوجد داع لقول قصة يونس لأنها معروفه ونحن نتكلم هنا في درس علمي لافي درس وعظي لكنها سميت بهذا الاسم لأن الله ذكر اسم هذا النبي فيها فقال (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلاقوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)قلنا في دروس سبقت إن سنن الله لا تتبدل ولاتتغير فإذا استثنى الله شيئا ينبه على أنه خارجا عن سنته فإذا خرج الشيء عن سنة الله التي جرت في الخلق لا يجوز لأحد أن يستشهد بها من الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في أصح قولي العلماء حارب وقاتل ومكة سنة الله في خلقه أنها محرمة فقال صلى الله عليه وسلم يرد هذا الباب يردم هذه الفجوه قال:" إن الله حرم القتال فيها فإن احتج أحد "هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم"بقتالي فيها فقولوا... أي قولوا له:" إن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار ولم يحلها لك .هذا دلاله على أن السنه لايستشهد بها قلنا مراراأن الإيمان .
1/إيمان اضطراري.
2/إيمان اختياري.
وقلنا إن الله لايقبل الإيمان الإضطراري أبدا والإيمان الإضطراري له حالتان .(21/6)
الحالة الأولى :ـ عامه لم تأتي وهي طلوع الشمس من مغربها .والدليل عليه قول الله تعالى (يوم يأتي بعض ءايات ربك لاينفع نفسا)مفعول به مقدم(إيمانها)فاعل يعني لاينفع الإيمان النفس .
والحاله الثانيه:ـ إذا حق العذاب ونزل فلا يقبل كما قال فرعون (ءامنت أنه لاإله إلا الذي ءامنت به بنواسرائيل وأنا من المسلمين)ومع ذلك لم يقبل الله منه إيمانه هذه الحاله العامه السنه الكونيه العامه أخرج الله منها قوم يونس لحكم أخفاها الله لكن أثبتها أثبت الواقعه قال الله (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها )أي معنى الآيه إذا آمنت قريه وقت حقوق العذاب لايقبل (لولا كانت قرية)يعني لايوجد قرية ءامنت فنفعها إيمانها ثم سمى ربنا فقال(إلاقوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين )ولهذا اختلف العلماء هل إيمانها هذا يقبل في الآخره أولايقبل والصواب إن شاء الله أنه يقبل مادام الله أكرمهم في الدنيا سيكرمهم في الآخره وقلنا إن يونس أحد أنبياء الله من بني اسرئيل ولاحاجة للإخبار عن قصته لإشتهارها نأتي الآن إلى هذه السورة قلنا إنها أول سورة بدأت باسم نبي كما أنها أول سورة ذكر فيها الحلف الذي أمر الله به نبيه أن يحلف وقد أمر الله نبيه أن يحلف في ثلاثة مواضع في القرآن على شيء واحد وهو تحقيق البعث وهذا فيه دلاله على من قال إن كثرة الحلف ليست بقادح يعني بعض الناس يقول كثرة الحلف لاتصلح لكن هذا فيه رد قالوا إن الله أمر نبيه أن يحلف ثلاثة مرات أول مرة في سورة يونس (ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين)هذا في يونس والثانيه في سبأ(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب...) والثالثه في التغابن (زعم الذين كفروا ألن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن)وكل القسم جاء بكلمه (وربي)إلاأنه في يونس قال الله (قل إي وربي)هذه (إي) عند النحويين حرف جواب بمعنى نعم إلا أن(21/7)
النحويين يقولون إنها لايؤتى بها إلا إذا جاء بعدها قسم معنى الكلام أنك لوأردت أن تقول إي فقلتها فلابد أن تلحقها بقسم هذا مايتعلق عن السورة اجمالا ثم نختار كالعاده آيات منها الآيه الأولى قوله جل وعلا (وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم...)الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والبشاره أمر معروف لكن العلماء رحمهم الله اختلفوا في معنى قوله جل وعلا(قدم صدق عند ربهم)على أقوال كل يعضدها دليل قال بعض العلماء:" قدم الصدق":ـ المقصود به الجنه يعني المكان والمدخل أو المقام وحجة هؤلاء قول الله جل وعلا (وقل ربي أدخلني مدخل صدق..)فقالوا إن المدخل والقدم كلها بمعنى واحد والمقصود بالآيه هنا الجنة وهذا يظهر أنه بعيد .الأمر الثاني قالوا:ـ إن المقصود بها شفيع قبلهم وهذا الشفيع هو الذي يجعل هؤلاء المؤمنين يتكئون على شيء قبل أن يصلوا إلى ربهم وهؤلاء قالوا إن المقصود به شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم واحتجوا بما جاء في السنه الصحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال(أنافرطكم على الحوض)ومعنى فرطكم أي سابقكم إلى الحوض هذه حجة من قال أن القدم هنا الشفيع وبعضهم أبعد قليلا وهوقول الحسن البصري رحمه الله أبوسعيد الإمام المعروف قال إن "قدم الصدق" وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدلاله عنده أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبه وصبر المؤمنين على هذه المصيبه هي قدم صدق عند الرب هذا القول الثاني وتفرع عنه قول الحسن البصري كما بينا القول الثالث:ـ أن قدم الصدق المعنى ماكتب الله في الأزل في القدم أن هؤلاء كتب الله لهم الجنه من قبل وهؤلاء حجتهم آية الأنبياء (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)فقول الله جل وعلا (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)دليل على أن الحسنى سبقت لهم من قبل فقالوا إن معنى قول ربنا جل وعلا (وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق)أن المقصود بها ماكتبه الله جل وعلا في الأزل من أن لهم الجنه(21/8)
وهذا قوله قول قوي جدا القول الرابع: أن المقصود بقدم الصدق:ـ العمل الصالح وهذا هو قول مقاتل بن سليمان أحد أعظم المفسرين واختاره الإمام الطبري رحمه الله وحجة هؤلاء أنه جاء في كلام العرب أن العرب تكني عن النعمه باليد تقول فلان له علي يد يعني له علي نعمه وتقول عن الثناء الحسن تكني عنه باللسان جاء في القرآن(واجعلي لسان صدق في الآخرين)معنى لسان صدق يعني ثناء حسنا في الآخرين وتكني بالقدم عن السعي وهذا ثابت عندهم وفيه أشعار لهم كقول حسان : إليك قَََََََدمُنا وخَلْفُنا لأوَلِنا تابِع ....(21/9)
فالمقصود منها أن السعي هو القدم لكن لما قال قدم صدق أصبح السعي بالعمل ..بالعمل الصالح وهو الذي يظهر والله تعالى أعلم لكن قلنا إنك لست ملزما بقول من يملي عليك فما تختاره لك فيه إمام سابق هذه الآيه الأولى ثم قال سبحانه وتعالى لما ذكر أهل الجنه قال (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) دعواهم هنا بمعنى دعاؤهم لكن يأتي الإشكال من جهتين الإشكال الأول :ـ أن الجنه بالإتفاق ليس فيها تكليف ليس فيها عمل فكيف يقال (دعواهم فيها)هذا أجابت عنه السنة أنهم يلهمون التسبيح كما يلهم أحدكم النفس الآن صوره طبيعه الإنسان يتنفس بصورة طبيعيه يلهم إلهام صوره طبيعيه مافيه أحد يتكلف النفس هذا شيء يقع بصورة طبيعيه من الله فأهل الجنة يلهمون التسبيح من غير كلفه كما يلهم أحدنا النفس لكن قال بعض العلماء وهذا لادليل عليه لكنه موجود قالوا إنهم إذا اشتهوا شيئا يقولون سبحانك الله فيأتيهم مايشتهيه وهذا غير بعيد لكن لا نملك دليلا على صحته أورده وقلنا إن الغيب لايتكلم فيه إلابنص ظاهر، هذا اشكال بسيط .الإشكال الثاني:ـ عندما نقول الآن سبحانك اللهم هل أنت طلبت شيء ومع ذلك سماه الله جل وعلا دعاء نأتي إلى مسألة تقع في رمضان سنوياً وهو أن الإمام إذا أثنى على الله مثلا نصلي وراء مشايخنا حفظهم الله الشيخ الحذيفي وإخوانه من الأئمه يدعون..(اللهم اهدنا فيمن هديت) إلى أن يقول الإمام (اللهم إنه لايعز من عاديت ولا يذل من واليت)أو يقول "ربا وجهك أكرم الوجوه "أو يثني على الله فيقول من في الحرم سبحانك...وقد قلنا مرارا في هذا المسجد وفي غيره إن هذا القول لايوجد أي دليل عليه لأن الثناء على الله نوع من الدعاء وإذا دعاالإمام فإن موقف المأموم واحد من اثنين إما أن يسكت وإما أن يؤمن ولايوجد شيء في الدعاء أن يقول الإمام شيئا ويقول المأموم سبحانك لايوجد في السنة فيما نعلم ولافي القرآن دليل على(21/10)
أن الإمام إذا قال شيئا يقول المأموم سبحانك.المأموم حاله مع إمامه واحد من اثنين إما أن يؤمن وإما أن يسكت أما قول سبحانك أوحقا أونشهد كما يقول بعض إخواننا المصريين فهذا لايوجد عليه دليل من أدلتنا عموما على أن الدعاء يأتي بمعنى الثناء هذه الآية فإن الله قال(دعواهم فيها)أي دعاؤهم فيها سبحانك اللهم وهذا ليس فيه طلب ومن السنه كثير منها أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا عند حلول الكرب بهذه الكلمات (لا إله إلا الله العظيم الحليم لاإله إلا الله رب العرش العظيم لاإله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)وليس في هذه طلب فلا يلزم من الدعاء أن يكون طلبا بل إن من الطلب أن تثني على الله وأنت أمثل حتى مع العامه الآن تخرج من المسجد تقابل رجل يشحذ حتى هؤلاء الشحاذين يختلفون فيأتي إنسان يقول أنامسكين يريد ريال فيه آخر يقول أعطني ريال فيه آخر أعطني لله لايسمي فيه آخر يقول لك أنت أنت رجل كريم أنت طيب مامعنى أنت طيب ،أنت كريم،أعطني فالثناء نوع من الدعاء وممايدل عليه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي (خيرالدعاء دعاء يوم عرفه وخير ماقلت أنا والنبيون من قبلي -الآن يتكلم عن الدعاء- قال:(لاإله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)هذا مدح وثناء على الله فسماه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء.الثالث ماثبت بعدة طرق عند النسائي وعند أحمد أن سعدا بن أبي وقاص رضي الله عنه مر على عثمان بن عفان فلما مر سلم فلما سلم نظر إليه عثمان وملأ عينيه منه يعني نظر عثمان في سعد وحدق فيه النظر ولم يرد السلام فذهب سعد إلى عمر رضي الله عنه فقال ياأمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء قال لا لماذا تسأل قال إنني مررت على عثمان فسلمت عليه فملأ عينيه مني ولم يرد السلام فبعث عمر إلى عثمان واستدعاه وقال له مامنعك أن ترد السلام على أخيكزقال لم أره فحلف سعد أنه سلم وأن(21/11)
عثمان رءاه وحلف عثمان أنه لم يرى سعدا ولم يدري أن سعدا سلم عليه طبعا لايمكن أن يكون أحدهما كاذب فحلف الإثنين ثم تراجع عثمان وقال استغفر الله وأتوب إليه تذكرت الآن وهذا دليل أنك لاتعجل على الناس قال تذكرت الآن لكنني كنت أفكر في مسألة إذا تذكرتها تصيبني غشاوة قال إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول سأدلكم على دعوة وسكت فكمل سعد قال أنا أكمل لك القصه فأراد أن يقول لنا الدعوه ثم جاء أعرابي فشغله فمضى قبل أن يخبرنا بها فأسرعت وراءه سعد يسرع وراء الرسول صلى الله عليه وسلم قال فلما أراد أن يدخل الدار يعني البيت فضربت بقدمي على الأرض بقوة حتى أشعره أن أحدا وراءه فلما ضرب سعد الأرض بقوه التفت صلى الله عليه وسلم قال: مه .مه /كلمه للإستفهام تقولها العرب قال أبو إسحاق وهذه كنية سعد(أبوإسحاق)قال نعم يارسول الله ثم قال يارسول الله إنك أردت أن تقول لنا دعوة فجاء الأعرابي فشغلك فقال نعم دعوة أخي ذي النون(لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)مادعى بها مسلم في كرب إلااستجاب الله له.موضع الشاهد من القصه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى قول ذي النون (دعاء)وقد سماه الله من قبل في القرآن دعاء قال الله:(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى)اسماه الله نداء دعوة ذي النون ماذا فيها(لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)فليس فيها طلب وإنما فيها ثناء على الله يتحرر من هذاكله من هذه الشواهد أن قول دعوة(سبحانك اللهم)فيها نوع من المسألة (وتحيتهم فيها سلام)هذه التحيه المقصود بها إجمالا لكن قلنا إن القرآن مايجمل في موقف يفسر في موقف ثاني السلام هنا تحية الله لهم والدليل (سلام قولا من رب رحيم)وتحية الملائكه لهم ودليلها (سلام عليكم بما صبرتم فنعما عقبى الدار)وتحيتهم في بعضهم لبعض وهذا دليله حياتهم في الدنيا لأنهم إذا كانوا يسلمون على بعضهم في الدنيا فمن باب أولى أن يكون بينهم سلام في(21/12)
الآخره (وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)وقلنا إن الرجل إذا أراد أن يحرر خطبه أو أراد أن يحرر محاضره أو أراد أن يحرر شيء فمن المناسب أن يقول (الحمد الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته )أي في الفاتحه "وآخر دعاء لأهل جنته"أي قوله تعالى(أن الحمد لله رب العالمين)الآيه الثالثه التي سنقف عندها قول ربنا جل وعلا(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ماكانوايعملون)هذه الآيه هي إحدى آيتين في القرآن باستقراءنا والله أعلم قد تجد غيرها التي وردت فيها كلمة واحدة ترددت ثلاث مرات وجاءت عليها الثلاثة الأحوال النحويه أي أن هذه الأيه إحدى كلمتين في القرآن كلمة (الضر)إحدى كلمتين في القرآن جاءت في ءاية واحدة ومرت عليها الأحوال الثلاث قال الله (وإذا مس الإنسان الضرُ..)إعراب الضر هنا/فاعل (فلما كشفنا عنه ضرَّه)وقعت مفعول به منصوب(مر كأن لم يدعنا إلى ضرٍّّّّّّّ)فمر عليها الرفع والنصب والجرولايوجد حاله للإسم غير هذه الثلاث إما أن يرفع وإما أن ينصب وإما أن يجر والكلمه الثانيه في البقرة الله يقول (الحجُّّّّّّّّّّّّّّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحجَّ فلا رفث ولافسوق ولاجدال في الحجِّ)هذا كفائده نحويه وقد تجد أنت في القرآن غيرها لكن هذا الذي وجدته أنا نعود للآيه الآيه تتكلم عن الإنسان وهنا(أل)للإستغراق للجنس وقلنا إن (أل)إما أن تأتي للإستغراق والجنس وإما تأتي للعهد فإذا جاءت للعهد تنقسم إلى قسمين :
1ـ عهد لفظي.
2ـ عهد ذهني.(21/13)
عهد عقلي شيء في العقل أو عهد لفظي وإذا جاءت للجنس وهو أكثر ماتأتي في القرآن يقصد بها الإستغراق يعني جنس الإنسان فكلام الله هنا عن كل إنسان الله يقول(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما...)يعني لايفتأ يدعوا ربه على كل حال(فلما كشفنا عنه ضره)أي معناه (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ماكانوا يعملون)هذا يسمى يابني اطلاق .س/هل كل أحد إذا مسه الضر ودعاالله وكشف الله عنه ضره يغفل عن الله؟مستحيل ليس كل أحد فالمسلم المؤمن الصادق في إيمانه لايمكن أن يغفل وإذا احتج أحد عليك بالآية؟ترد عليه بالقرآن.وقلنا إنه يجب أن ينظر إلى القرآن على أنه كله كل لايتجزأ.ماأطلقه الله هنا قيده في هود قال(ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور)هذا نفس الإطلاق الذي في يونس ثم استثنى جل وعلا(إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)فيصبح هذا المؤمن مستثنى من هذا الإطلاق الذي في سورة يونس بالقرآن ومستثنى بالسنه في حديث(عجبا لأمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرا له)هذا الإستثناء الذي أطلقه الله جل وعلا في يونس قيده تبارك وتعالى في هود وقيدته السنه نأتي للمعنى /المعنى أن الإنسان بطبيعته كافرا أو مؤمن إذا جاءه الضر يلجأ إلى الله وهذه حاله يستوي فيها أهل الكفر مع أهل الإيمان ولكن الإبتلاء يكون بعد رفع الضر فالله يقول عن جنس الإنسان عموما(فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)نسأل الله العافيه فمن الناس أعاذنا الله وإياكم من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنه انقلب على وجهه والمؤمن يعبد الله على كل حال مؤمنا بالله راضيا بقضاء الله وقدره ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه وأن ماأصابه لم يكن ليخطئه وماأخطأه لم يكن ليصيبه وأن ماكان لك سيأتيك على ضعفك ومالم يكن لك لن(21/14)
تناله بقوتك جفت الأقلام وطويت الصحف،وحرم النبي صلى الله عليه وسلم على الأمه أن تقول لو لأن لو تفتح عمل الشيطان والمؤمن يرضى بقضاء الله وقدرته والرضا بالقضاء والقدر هو الحياة الطيبه التي قال الله عنها لأهل الإيمان (فلنحيينه حياة طيبة)فالرضا بقضاء الله وقدره هو معنى الإيمان الحق وكم من منحه يعني عطيه في طيي محنه والحبل إذا اشتد انقطع والسحاب إذا تراكم همع يعني ينزل ماء فالأمور كلما ازداد ضيقها دل على قرب الفرج والإنسان لايدري ماهو مكتوب لكن يستقدر الله الخير ويرضين بقدر الله ويأخذ بالأسباب ويتوكل على الله فإن جاءه مايؤمل فالحمد لله وإن لم يأته مايؤمل فكذلك الحمد لله لكن لايعم يقول الحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه هذا كفائده إيمانيه كفائده دنيويه لاتؤمل في الناس خيرا أكثر من اللازم فقد تحسن إلى إنسان فلا يكافئك على إحسانك فلا تتعجب لأن الإنسان إذا وجد من الناس من الله يكشف عنه الضر فيمر كأن الله لم يكشف عنه شيئا إذا كان هذا تعامله مع خالقه من باب أولى أن يكون تعامله مع عبد مثله ومخلوق مثله أردى من ذلك وأسوأ والعاقل أصلا لايؤمل مافي أيدي الناس شيئا يزرع الجميل ولو في غير موضعه فإن الجميل يحصد في أي مكان وينفع والعرب تقول :لايذهب العرف بين الله والناس ،إن أضاعوه الناس يبقى عند الله لكن الذي يعنينا في الآيه أن من دلائل أهل الإيمان أن لهم مع الله طريقين وكل طريق لهم فيه مطيه فطريق الإبتلاء مطيتهم فيه الصبر وطريق النعماء مطيتهم فيه الشكر والحمد ،وهما في كلا الحالتين معترفون مقرون لله جل وعلا بالحمد والفضل والمنة... هذا ماأردنا بيانه هذه الليلة على عجل حول سورة يونس .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين.(21/15)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا و نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كنا قد بدأنا بسورة البقرة وبعد أن أخذنا مقاطع من آيات منها ننتقل بكم إلى سورة آل عمران . ونبين لماذا اتخذنا هذا المنهج ــ للملاحظة هذه المادة هي من درس الشيخ الأسبوعي في مسجد السلام بالمدينة النبوية ــ قلنا أن السبب في هذا المنهج أن بعض طلاب العلم الفضلاء قالوا لو أننا أخذنا القرآن آية آية لطال بنا الأمد والوقت ــ بحمد الله الآن للشيخ في قناة المجد العلمية برنامج يسمى " محاسن التأويل " يفسر القرآن فيه آية آية ــ وبعضنا دارسون لا يمكن لهم الاستمرار لسنوات عديدة والدرس أسبوعي فيكون التحصيل فيه رتيباً لأنه هناك فترة طويلة , فقال الفضلاء من باب المشورة أنه لو اتخذنا لكل سورة من سور القرآن درسين أو ثلاثة ننم على أعظم ما فيها كان أولى حتى نخرج جميعاً بفائدة جمة , فيكون الطالب قد مر على شيء من سورة البقرة وعلى شيء من سورة آل عمران وعلى النساء وهكذا . ثم إننا نقول ونكرر أن الإنسان كلما زادت حصيلته العلمية ومعارفه كان ذلك أدعى لارتباطه في العلم . ثم إن في بعض السور مسائل فقهيه وهذه في الغالب لا نعرج عليها قلنا حتى لا يكون هناك نوع من التكرار بين درسنا ودروس الآخرين من فضلاء العلماء في الحرم النبوي أو في غيره .
على هذا بعد أن اتضح المنهج نقول أن الآيات المختارة من سورة آل عمران هي :(22/1)
من قوله تعالى : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) إلى قوله تعالى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) . والحديث عن ذلك كله على النحو التالي :
أولاً : قال العلماء : " إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين وإبطال عناد المعاندين وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية . وقالوا أن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله عليهم بإدراك مغازي كتابه " . جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل .
هذا السبب هو الذي جعلنا نختار هذه الآيات للتفسير .
أما هذه الآيات فالحديث عنها كالتالي :
مناسبة الآيات لما قبلها : أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله عليه الصلاة والسلام , فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم وكيف أنها حملت بعيسى عليه الصلاة والسلام وكيف وضعته و ما كان له من آيات وبراهين وكيف أنه دعا قومه وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه وسينزل في آخر الزمان بعد أن ذكرها جل وعلا . ثم ذكر قوله تعالى : (( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ{58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ )) إذن هذه مناسبة الآيات لما قبلها .(22/2)
أما سبب نزول الآيات : فالمشهور عند العلماء أن عام الوفود كان العام التاسع للهجرة وهو بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وانتهت غزوة تبوك أتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم . من جملة الوفود التي حضرت وفد نجران وكانوا على الديانة المسيحية ومنهم السيد والعاقب وهم من رؤوسهم , هؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له مالك : " تشتم صاحبنا ". قال ( وما ذاك ) صلى الله عليه وسلم , قالوا : " تقول إن عيسى عبدالله ورسوله " قال : ( نعم هو عبدالله ورسوله ) فجادلته النصارى بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لا أب له , قالوا : فقل لنا من أبو عيسى عليه الصلاة والسلام وأتنا بأحد له أب غير عيسى عليه الصلاة والسلام ؟ فأمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام , فأنزل الله جل وعلا على نبينا عليه الصلاة والسلام قوله هذه الآيات التي نريد أن نشرحها : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) فهذا هو سبب النزول .
بعد هذا نبدأ في تفسير الآيات :
قال الله جل وعلا : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ )) ليس كلمة مثل هنا المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء , وإنما كلمة مثل هنا بمعنى حاله أو صفه . فيصبح معنى الكلام حالة و صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عند الله كحال آدم عليه الصلاة والسلام .(22/3)
ما حال ادم عليه الصلاة والسلام ؟ قال الله تعالى : (( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) النصارى تقول : إن من أدلة أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أنه لا أب له باتفاق أهل الأرض والرد عليهم , وقلنا هذا من علوم القرآن الرد على كشف شبه الظالمين , أن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم زيادة على عيسى عليه الصلاة والسلام . أي إن كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم , وإن كان عيسى خلق بكلمة كن بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله فإن آدم كذلك قال الله له كن فكان كما أخبر الله في كتابه . فإذن مقارنة عيسى بآدم عليهما الصلاة والسلام ضربها الله جل وعلا دليلاً على بطلان حجج النصارى . لأنه لو كان قولهم إن مجرد أن عيسى لا أب له دليلاً على أنه ابن الله فمن الذي أولى بالبنوة ؟ آدم لأنه لا أب له ولا أم . والنصارى وغير النصارى كل أهل الأرض لا يقولون إن آدم ابن الله . فلما اعترفتم أن آدم ليس ابن الله يجب أن تعترفوا أن عيسى ليس ابن لله . وان الله لم يلد ولم يولد فدمغت حجة النصارى .(22/4)
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ )) والهاء في خلقه عائدة على آدم خلقه من تراب ثم قال له أي قال لآدم كن فيكون , أي كن فكان . واختلف العلماء لماذا عبر الله بالمضارع بدلاً من الماضي يعني كان السياق أولى أن يقال : خلقه من تراب ثم قال له كن فكان . قال بعضهم ــ من الأجوبة ــ إن العرب تجري المضارع مقام الماضي إذا عرف معنى الحال . هذا جواب ربما فيه شيء من الركاكة . وقال بعضهم ولعل هذا أظهر أن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع , بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في رحم مريم عليه السلام لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه وإنما تكون لحماً وعظاماً حتى حملت به تسعة أشهر على الصحيح , ثم ولدته صبياً رضيعاً ثم كان عيسى ابن مريم . فلم يقل الله كن فكان مباشرة إنما قال كن فيكون ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) هذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على الوجه الصحيح .
قال تعالى : (( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ )) يعنى هذا الحق الذي أتاك من ربك . وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً للنبي صلى عليه وسلم .
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) أي لا تكن من الشاكين . وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترنٍ أو شاك , فهذا منتفٍ أبداً . إنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه ويعض عليها بالنواجذ هذا تخريج . وقال بعض العلماء تخريج آخر إنه وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فإن المخاطب الحق هو أمته وكل من يسمع القرآن . لكن لا تعارض بين هذين التخريجين .(22/5)
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ )) الهاء عائدة على من ؟ عائدة على عيسى وخلقه .
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ )) العلم أي البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
يزعم النصارى أنهم مسلمون من قبل ويمنعهم من ذلك :
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد النصارى نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا , قالوا : نحن مسلمون من قبل فقال صلى الله عليه وسلم :
( يمنعكم من الإسلام ثلاث :
1ـ أكلكم لحم الخنزير .
2ـ وسجودكم للصليب .
3ـ وزعمكم أن لله ولد . )
هذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون . فلما طال الأمر بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم احتكم إلى المباهلة .
ما معنى المباهلة ؟(22/6)
والمباهلة أصلها مأخوذ من الابتهال وهو الدعاء ويكون غالباً لإظهار الحجة . وقد ربما يخصص كما في الآية في نزول اللعنة وأصل المسألة أنه لما طال الجدال لا هم يقتنعون ولا هم قادرون على أن يقنعوا لأنهم على باطل , احتكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلاً لهم كما أمر الله : (( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ )) أي ندعوا ونقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم . فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين , وقال : ( إذا أنا دعوت فأمنوا ) . قبل أن نكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة . وخوفهم من المباهلة دليلٌ على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقاً لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة .
العلة من جلب علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين :
وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعوا إليه , لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده ويقول أنا وأنتم ندعوا على بعض أهلك أنا أو تهلكون أنتم , لكن لما أتى بابنته وهي أحب بناته إليه عليه الصلاة والسلام وزوجها علي والحسن والحسين ثم بعد ذلك يدعوا على الجميع دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقاً من حفظ الله له وكان على برهان ويقين أن ما عند الله هو الحق .
(( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) الاستطراد هنا وأنا قلت أن الدروس ليس المقصود منها الحرفيات وإنما المقصود منها الفوائد العلمية .
وآية المباهلة تدل على أمور عدة :(22/7)
الأمر الأول : فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم , وهؤلاء الأربعة مع النبي صلى الله عليه وسلم يسمون أصحاب الكساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم جللهم أي غطاهم ذات مرة بكساء وقال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هؤلاء بيتي فإذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) . فهؤلاء آل بيته صلى الله عليه وسلم . وعلي ابن عمه نسباً وهو زوج ابنته فاطمة تزوجها بعد منقلب النبي صلى الله عليه وسلم من معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة , قيل تزوجها في شوال وقيل تزوجها في أول ذي القعدة . وتعيين التاريخ هنا تحديداً لا يهم , وأنجب منها عليٌ الحسن والحسين . أراد علي أن يسمي ابنه حرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسن ) , ولما ولد الحسين أرادوا أن يسموه حرباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسين ) . فالذي سمى الحسن والحسين من ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم .
والحسن رضي الله عنه عاش حتى كانت خلافة معاوية رضي الله عنه , فتنازل عنها لمعاوية رضي الله عنه ليحقن دماء المسلمين . ثم سكن المدينة ومات فيها أيام معاوية . أما الحسين رضي الله عنه فامتد به العمر حتى مات معاوية رضي الله عنه , وولي من بعده ابنه يزيد فخرج من مكة إلى العراق حتى وصل إلى كربلاء المدينة العراقية المشهورة , فلما وصل إليها سأل عنها ؟ قيل له كربلاء قال بل كرب وبلاء , أخذ اشتقاقها من اسمها فكان ما كان . قتل رضي الله عنه في يوم عاشوراء العاشر من محرم , ولذلك الشيعة يحيون هذا اليوم كما هو معلوم .
وإحيائهم لهذا اليوم باطل من عدة أوجه :
باطن بالنقل : لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعه ولا يقوم دين إلا إذا شرعه الرسول لأنه أعلم الخلق بشرع الله .(22/8)
وباطل بالعقل : لأنهم لو كانوا صادقين في المناسبة العقلية لكانوا أقاموا مأتم على مقتل علي أبي الحسين رضي الله عنهم , وهم يقولون أن علياً أول أئمتهم والحسين الثاني فلو كانوا صادقين عقلياً لأقاموا مأتم على مقتل علي كما قتل الحسين قتل من قبله علي . فهم يمرون على مناسبة علي رضي الله عنه دون ذكر مع أنه مات مقتولاً كما قتل ابنه الحسين رضي الله عنه , ثم يأتون عند مقتل الحسين رضي الله عنه فيقيمون ما يقيمونه . فهذا من الدلائل العقلية والأول دليل نقلي على بطلان ما يصنعه الشيعة في يوم عاشوراء .
الذي يعنينا أن الحسين رضي الله عنه قتل في يوم عاشوراء وقتل معه أكثر من ثمانين من آل بيته ولم ينجوا إلا النساء وابنه علي الملقب بزين العابدين قتل ابنه علي الأكبر وقتل ابنه عبدالله معه وإخوانه الأربعة وبعض آل بيته . وبقى ابنه علي كان مريضاً لم يستطع أن يحارب مع أبيه , فأبقى الله جل وعلا ذرية الحسين رضي الله عنه بنجاة علي هذا الصغير المريض , فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الحسين فهو من ولد علي زين العابدين كل الحسينية ينتسبون إلى علي الملقب بزين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة ابن محمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء كما قلت آله ولهم في الشرع حق عظيم وينبغي لا إفراط ولا تفريط قال تعالى : (( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )) . الشورى23. وقال عليه الصلاة والسلام لما شكا إليه العباس رضي الله عنه أن بعض قريش يجبوا بني هاشم قال عليه الصلاة والسلام : ( والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ثم لقرابتي ) .
الأمام أحمد رحمه الله و دليل فقهه في الدين :(22/9)
والمعتصم الخليفة العباسي , عباسي أي من ظهر العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ليس من ظهر النبي وإنما من ظهر العباس . والعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وليس ابنه . المعتصم سجن العالم السني المشهور أحمد بن حنبل رحمه الله . فلما سجنه أُخرِج أحمد بعد موت المعتصم وكان أحمد بعد خروجه يجتهد في الدعاء للمعتصم ويسأل الله أن يعفو عنه , فلما كلمه الناس قال رضي الله عنه وأرضاه ورحمه " لا أريد أن أقف بين يدي الله وبيني وبين أحد من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة " . وهذا من فقه الدين في أن الإنسان يتجنب أن يكون بينه وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم خصومة كما بينا في قضية الإمام احمد .
الأمر الثاني : في الآية أن الله قال في القرآن على لسان نبيه : ((َ قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بعد هجرته ابنٌ من صلبه , يعني ليس له ابن ذكر من صلبه ومع ذلك قدم الحسن والحسين رضي الله عنهم , استدل بها فريق من العلماء على أن أولاد البنات في منزلة أولاد الأبناء . يعني مثلاً نفرض رجل اسمه محمد وله بنت اسمها سلمى وله ولد اسمه خالد فأولاد خالد هم أولاده باتفاق الناس لم يخالف في هذا أحد , لكن الخلاف في أولاد البنت هل يعتبرون أبناء أو لا يعتبرون ؟ المسألة خلافية لكن من أدلة القائلين بأن أولاد البنت يعتبرون أبناء هذه الآية فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ((َ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) , والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الحسن والحسين رضي الله عنهم , وقال في حديث آخر ( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة ) . يقصد الحسن رضي الله عنه . فهذا قول من قال من العلماء .(22/10)
وهذه المسألة بالنسبة لطالب العلم متى تظهر ؟ تظهر في الميراث وتظهر في الوقف وكلاهما متقارب فهل ينزل الجد منزلة الأخوة في الميراث ؟ من يقول أن ابن البنت ابن أعتبر الجد كالأب . وعندما يوقف الإنسان حديقة أو مزرعة أو بيتاً فيقول هذه لأبنائي وأبناء أبنائي ولا يحدد فإن قال أبناء أبنائي بمقتضى الآية يدخل من؟ يدخل أولاد الأبناء وأولاد البنات , وقال بعض العلماء بخلاف هذا وهذه المسائل تنظر في المحاكم , لكن أنا أردت أن أبين كيف يستنبط طالب العلم الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
((َ فقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) أي نقول اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . الذي حصل أن النصارى خافوا من المباهلة تشاوروا ثم تراجعوا , قال قائلهم والله إنكم لتعلمون إنه نبي ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي ناراً , فقالوا ما الأمر بيننا وبينك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( واحدة من ثلاث : الإسلام ـ أي تدخلوا الإسلام ـ أو الحرب أو الجزية ) فاختاروا الجزية فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة صفراء تقدم له في شهر صفر وألف حلة تقدم له في شهر رجب . فقالوا ابعث لنا رجلا أميناً من أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام : ( لأبعثن معكم أميناً حق أمين ) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , فقال عليه الصلاة والسلام : ( قم يا أبا عبيدة ثم قال لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه ) .
ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال : " لو كان أبا عبيدة حياً لوليته هذا الأمر فإذا سألني الله عن ذلك قلت سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ) " .(22/11)
نأتي للآية التي بعدها قال الله عز وجل بعدها : (( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا قوله وأعرضوا عن الدخول في الإسلام فإن الله عليم بالمفسدين . وقوله تعالى : (( فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) يجري مجرى التهديد لأنه إذا كان الله عليم بهم وهو قطعاً عليم بهم فإنه سيعاقبهم جل وعلا , وهذا معنى قول الله تعالى : ((فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) .
ثم قال الله جل وعلا : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) .
هذه الآية قبل أن نفصل معناها يتعلق بها فائدتين :
الفائدة الأولى : أن هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكتبها في كتبه التي يبعثها إلى ملوك العرب والعجم وهو يدعوهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم .(22/12)
الفائدة الثانية : في حياتنا العملية جميعاً وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح كان يقرأ بها أي بهذه الآية في ركعة الصبح الأخيرة من سنة الفجر , ومعلوم أن لصلاة الفجر سنة قبلية والسنة فيها أن تخفف , النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها فاتحة الكتاب وبقول الله تعالى : (( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )) . البقرة136. ويقرأ بالثانية بهذه الآية : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) . إذاً يتحرر من هذا من الناحية العملية أن هذه الآية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في الركعة الأخيرة من سنة الفجر ويقرأ بغيرها ولو قرأ أي مسلم بأي سور القرآن أو آياته جاز ذلك , لكن أوفق للسنة أن تقرأ هاتان الآيتان .
أما معناها : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )) أهل الكتاب يندرج فيها اليهود والنصارى لأنهما أنزل عليهما الكتاب . على اليهود التوراة على موسى عليه السلام وعلى النصارى الإنجيل على عيسى عليه السلام .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء )) سواء هنا بمعنى عدل وإنصاف .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ )) هذا إجمال . هذا الإجمال فسرته ما بعدها : (( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) .
إذاً ما الكلمة السواء ؟(22/13)
هي : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) . فقول ربنا جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هي الكلمة السواء التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى إليها .
اليهود يقولون عزير ابن الله والنصارى تقول المسيح ابن الله وكلا الفريقين على خطأ معلوم , فدعاهم النبي إلى كلمة يتفق عليها الجميع وهذه الكلمة لابد أن تكون كلمة عدل (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) .
(( وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) تأكيد للآية التي قبلها لقوله جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) لأن المعنى واحد (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) أسلوب حصر فيه نفي واستثناء . (( أَلاَّ نَعْبُدَ )) هذا نفي , (( إِلاَّ اللّهَ )) هذا استثناء .
(( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هذا من بديع أسلوب القرآن لأنه عندما قال سبحانه : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً )) دلالة على أننا كلنا من جنس واحد , فكيف يعقل ونحن متفقون على أننا من جنس واحد أن يصبح بعضنا آلهة خارقة وبعضنا مخلقون , هذا لا يستقيم لا بالعقل ولا بالنقل .(22/14)
(( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) والاتخاذ هنا ليس معناه ولم يقع أنهم كانوا يعبد بعضهم بعضاً بالسجود والركوع والصلاة وإنما كان يعبد بعضهم بعضاً بطريقة أخرى وهي أن أحبارهم ورهبانهم يحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع ويحلون ما حرم الله فيحلُه الأتباع , وهذه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( تلك عبادتهم ) . قال سبحانه : ((اتخذوا احبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله )) . وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعدي ابن حاتم : ( أليسوا يحلون ما أحل فتحرمونه قال بلى قال فتلك عبادتهم ) . فهذا معنى قول الله : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) .
من هنا نعلم أن التشريع لله والرسول مجرد مبلغ صلوات الله وسلامه عليه . فمن الله التشريع وعلى الرسول البلاغ وعلينا السمع والطاعة لأننا عبيد مخلوقون لله تبارك وتعالى .
(( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا هذا الذي عرضته عليهم (( فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) أي نحن باقون على ما نحن عليه من الإسلام واتخاذ الله جل وعلا آله واحد لا رب غيره ولا آله سواه .
ثم قال الله جل وعلا : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{65} هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) ثم قال (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) .(22/15)
مناسبة الآيات عموماً : من العقل والنقل يا أخي أن الإنسان إذا كان متقناً في شيء ما يتبناه الجميع وكلٌ ينتسب إليه وينسبه إلى نفسه . إذا كان الشخص محسن متقن جيد في أمره كل من حوله يتبناه وينتسب إليه ويقول إنه مني وأنا منه لأنه مصدر فخر . إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة كما أخبر الله جل وعلا . فاليهود تقول إن إبراهيم منا والنصارى تقول إن إبراهيم على ملتنا وحتى كفار قريش كما سيأتي يقولون منا والمسلمون يقولون منا , في أول الآية الله عز وجل يقول لما اختصمت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام , قال الله لليهود والنصارى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ )) . لمَ تجادلون وتخاصمون في إبراهيم (( وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ )) . بين إبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام مئات السنين وبين إبراهيم وعيسى عليهم الصلاة والسلام أكثر لأن عيسى بعد موسى عليهم الصلاة والسلام . فمحمد عليه الصلاة والسلام عند اليهود والنصارى خبر منه لأنه مذكور في التوراة والإنجيل . فكون اليهود والنصارى عندهم خبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هذا حق , لكن الحق أيضاً أن ليس عندهم علم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنهم جاؤوا بعده وما أسست اليهودية وهي محرفة في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ولا أسست النصرانية وهي محرفه من شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام إلا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكيف يكون عندهم علم عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا لا يمكن عقلاً , ولذلك قال الله عز وجل : (( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) معنى يعلم : يعلم حال إبراهيم وأنتم لا تعلمون عن إبراهيم شيئاً .
العقل مكتشف للدليل وليس منشىء له .(22/16)
وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يستخدم عقله . وقد يقول قائل أن العقل ليس له علاقة بالنقل .
يجب أن تفهم يا أخي ملحظ دقيق يميز من يتبع منهج العقل عن غيره . المسلمون مدركون من أهل السنة أنه لا يمكن للعقل أن ينشىء دليلاً . والدليل في النقل لكن العقل يكتشف الدليل . بمعنى تأتي بمصحف وتأتيه لرجل ذي باع في العلم أعطاه الله عقل , فهو إذا قرأ المصحف يستنبط الأدلة من المصحف . لا يأتي بدليل من عقله لكن قدرته العقلية تمكنه من أن يستنبط الأدلة من القرآن . إنسان ليس عنده حظ من عقل حتى لو نظر في المصحف لا يستطيع بأن يأتي بأدلة يكتشفها من المصحف هذا الفرق . لا يوجد عقل يسير الناس , الوحي هو الذي يسير الناس لكن العقل يكتشف الدليل الموجود الذي في الوحي . ولذلك قال تعالى للنصارى : (( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )) أي لو عرضتم هذا الأمر على عقولكم الحقة لما قبلته لكن لأنه ليس لديكم عقول تقولون بغير هذا .
الشافعي رحمه الله كيف بعقله اكتشف الدليل ؟(22/17)
الشافعي رحمه الله وهو صبي في السادسة عشر وكان من أذكى الناس مر في السوق فوجد رجلان يختصمان فتدخل لثقته برأيه , قال : ما بالكما ؟ قال أحدهما : هذا كان يبيع طيراً ـ ببغاء ـ ويقول وهو يبيعه : هذا الطائر لا يسكت يتكلم طوال الليل والنهار , قال الذي اشتراه : فأنا اشتريته بناءً على هذا الشرط فلما ذهبت به إلى البيت إذا هو يتكلم أكثر الوقت لكنه يسكت أحياناً فأنا أريد أن أرده . والذي باع يقول : لا ترده أنا لم أقصد الليل والنهار أنه لا يسكت , تخاصما والشافعي رحمه الله كان في السادسة عشر من عمره , فقال للمشتري : ليس لك حجة عليه . فأستصغره قال من أين لك هذا ؟ قال لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لإحدى نساء المؤمنين لما أخبرته أن فلاناً خطبها , قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أما فلان فلا يطرح عصاه من كتفه ) . والمقصود إما كثرة الضرب وإما طول السفر ـ لكن لا يوجد إنسان يضرب أربع وعشرون ساعة ولا يوجد إنسان يسافر أربع وعشرون ساعة وإنما المقصود غلبة الأمر والكثرة ـ , فاقتنع المشتري فأخذ الطائر وذهب . فالشافعي هنا لم يأتي بدليل من عقله لكن عقله مكنه من أن ينظر في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام . وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم لأنه إن لم تكن لديه آله عقلية في النظر في كتاب الله لا يمكن أن يكون قادراً على أن يفقه أو يفهم أو يستنبط من كتاب الله شيئاً كثيراً .(22/18)
ثم قال سبحانه وتعالى : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) قلنا إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إماماً وإليه تنسب الملة وهو أعظم النبيين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام . اليهود تقول إننا على ملة إبراهيم وقالوا لنبينا عليه الصلاة والسلام : " إنك تعلم أن اليهود أولى بإبراهيم ولكن الحسد منعك أن تجهر بهذا " , والنصارى تقول نفس العبارة , حتى عباد الأوثان وعباد النار يقولون " إن إبراهيم منا " . وذلك لأن إبراهيم يشرف كل إنسان أن ينتسب إليه والمسلمون يقولون " إبراهيم منا " . ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة عندما نظر إلى الكعبة قبل أن يدخلها وجد كفار قريش على كفرهم وضعوا صورة لإبراهيم صنعوها من عقولهم وهو يستقسم بالأزلام , وهي الطريقة التي كانوا يفعلونها مع آلهتهم حتى يخرج أحدهم لسفر أو لغيره , فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام وقد جعلوا صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام قال عليه الصلاة والسلام : ( قاتلهم الله والله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام ) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( ما لشيخنا وللاستقسام بالأزلام ) . المقصود أنه حتى عباد الأوثان نسبوا إبراهيم أنه منهم . فلما كانت المسألة خلاف نزل الحكم من الله والله عليم .
قال الله جل وعلا : (( مَا كَانَ )) وهذا نفي . (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً )) كما تزعم اليهود ولا نصرانياً كما تزعم النصارى . (( وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً )) كما يزعم محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه . (( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) كما يزعم عبدة الأوثان .
من الذي هو أولى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟(22/19)
ثم بين الله بعد أن بين منهج إبراهيم عليه الصلاة والسلام . بين من الذي هو أولى بإبراهيم قال سبحانه : ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . ذكر كم فئة ؟ ثلاثة .
وهذا الظهور حسب الترتيب الزمني لأن الذين اتبعوا إبراهيم من قومه كان ظهورهم قبل النبي عليه الصلاة والسلام , قال تعالى ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ )) حسب تسلسلهم الزماني ((ِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ )) الذين ءامنوا به وقت نبوته ورسالته صلوات الله عليه . (( وَهَذَا النَّبِيُّ )) ذكره مفرداً . قال العلماء : " هذا تعظيم وتشريف لنبينا عليه الصلاة والسلام " . (( وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ )) من أي أمة ؟ من أمة محمد عليه الصلاة والسلام على الصحيح من أقوال العلماء .
فأصبح إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه ثلاثة :
المؤمنون الذين معه , ونبينا عليه الصلاة والسلام , والمؤمنون من هذه الأمة .
لكن النبي عليه الصلاة والسلام أفرد قلنا تعظيم له لأنه عليه الصلاة والسلام أولى بإبراهيم من جهتين :
الأولى : لأنه من ذريته .
والثانية : لأنه موافق له في ملته .
لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذريته .
إبراهيم عليه الصلاة والسلام من إكرام الله له لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم , قال تعالى في آية حصر : (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ )) العنكبوت27. فما بعث نبي ولا رسول بعده عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام .(22/20)
(( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . قال العلماء : " دلت الآية أيضاً على أن المؤمنين مهما تباينت أقطارهم المكانية وتفاوت ظهورهم الزماني فإنهم أولياء بعضهم لبعض لأنهم جميعاً يفيئون إلى ملة واحدة , وهي ملة إبراهيم القائمة على توحيد الله تبارك وتعالى . واليوم أعداء المسلمين لا يحاولون شيئاً أن يثيروه بين المسلمين أكثر من تفريق الكلمة وإيثار النعرات القائمة إما على عرق أو على مذهب أو على مكان أو على ظهور زماني حتى يتشتت شمل الأمة , فإذا تشتت شملها انشغل بعضها ببعض , وأرادت كل فئة منها أن تقيم لواءها , فاقتتلوا وكفوا غيرهم مهمة القتال فأصبح غيرهم قادراً على أن يحتلهم بيسر وسهولة . وفي مواضع الفتن العظمى كما هي في عصرنا هذا وفي الأحداث الأخيرة في العراق فإن جمع الكلمة وتوحيد الصف وغض الطرف عن كثير من الخلافات مقدم على أكثر الأمور , لأن الدين قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد . ولكل مرحلة من مراحل عمر الأمة ما يتماشى مع أوامر ونواهي وتطبيقات وأحكام شرعية تختلف من حال إلى حال ومن زمان إلى زمان , والمعيار في ذلك كله مصلحة الأمة وعدم تمكين عدوها منها .
(( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) طائفة تطلق على الجماعة من الناس . والود هنا بمعنى الرغبة .(22/21)
(( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ )) يعني كان مراد بعضٍ من اليهود و بعضٍ من النصارى أن يردوكم عن إسلامكم لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الإسلام حق , لكن الإنسان إذا حسد غيره لا يتمنى الخير له . جرت سنة الله في خلقه أن الهالك يتمنى أن يهلك الناس معه . فالذي واقع في سلك المخدرات , والواقع في سلك النساء , والواقع في سلك كذا و كذا من المعاصي والجرائم هو لا يريدك أن تكون معه حباً فيك أو يريد لك الخير , ولكن يدفعه إلى ذلك أن كثرة الناس في الشر تهون الشر على نفسه .
وأنت خذها بمثال واقعي بسيط لو أن ابنك أخبرك أن نتيجته في الامتحان غير موفق لَلُمْتَهُ كثيراً , ولكن لو أن هذا الابن أخبرك أن الفصل كله على هذا النحو لخف لومك على ابنك . وهذا من سنة الله في خلقه ولذلك إبليس لما غوى وتمت عليه اللعنة هَمَّ أن يعصي بني آدم كلهم . يريد ويرغب في ذلك حتى لا يقع في الهلاك لوحده . فأهل الإشراك وأهل الكفر من أهل الكتاب لما وقعوا فيما وقعوا فيه ومنعهم الحسد أن يتبعوا نبينا عليه الصلاة والسلام رغبوا في أن يضلوا المؤمنين , والله جل وعلا يقول : (( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) لأن الله تبارك وتعالى يحمي أولياءه وينصرهم ويمنع عنهم كيد الأعداء .
ثم قال الله جل وعلا (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) أي تشهدون . ومفعولها هنا محذوف . والمعنى : أنكم تشهدون البراهين العقلية والنقلية التي تدل على أن الله جل وعلا حق . وكفركم مع كونكم تشهدون الآيات من أعظم الدلالة على العناد والمرض المستقر في قلوبكم . لأن كون الإنسان يكفر ولما تظهر له الأدلة بعد . أمر هين لكن إذا ظهرت له الأدلة و تتابعت وتظاهرت ومع ذلك أصر على كفره فذلك دلالة على الران الذي في قلبه وعلى أنه أبعد إلى الحق منه إلى الباطل .(22/22)
من أساليب تسمية كتاب الله جل وعلا سور القرآن :
وهذا الذي كنا فيه قلنا إن سورة آل عمران سورة مدنيه , ونبين إن من أساليب تسمية كتاب الله جلا وعلا سور القرآن يسمى الشيء باسم بعضه . وهذا أمر كانت العرب تستخدمه في كثير من الأمور . فسميت سورة البقرة بسورة البقرة لأنه جاء ذكر قصة البقرة فيها , وسميت سورة آل عمران بسورة آل عمران لأن الله جل وعلا ذكر فيها عمران وآله وعلى هذا يقاس كثير مما في كتاب الله وهو ظاهر بين . وإنما الخلاف بين العلماء هل إن تسمية سور القرآن كان من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه رضي الله عنهم أو غير ذلك , والذي يظهر والله جل وعلا أعلم أن تسمية سور القرآن تسمية توقيفية بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم سموها بإشارة وأمر وإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم .
وسورة آل عمران تكلمت كثيراً عن أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وبحثتْ كثيراً في مواضيعهم . وسبب ذلك أمران :
الأمر الأول : قدوم وفد نجران كما بينا في الأسبوع الماضي قدوم وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل بينهما من مجادله انتهت إلى الإقرار بالصلح بينهما وكانت تلك الأسئلة التي طرحها وفد نجران سبب في نزول كثير من آيات سورة آل عمران .
الأمر الثاني : ما كان من أحداث من أهل الكتاب من اليهود المجاورين للنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فكان القرآن ينزل ليبين كثيرا من أمورهم ومعايبهم وما يكون بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام من أحداث . فجل ما في السورة من ذكر أهل الكتاب كان هذا سببه وفي السورة آيات أخر لا علاقة لها بأهل الكتاب كغزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما مما هو معروف في مظانه . لعل الله جل وعلا أن ييسر شرحه .(22/23)
أما الآية التي بين أيدينا فإن الله يقول : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) حب المال أمر مفطور في النفوس قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) الفجر ( 20 ) . وقال جل وعلا عن بني آدم : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) العاديات ( 8 ) . والأمانة في إنفاذها وفي إعطاءها لا علاقة لها بالإيمان والكفر إلا شيء يسير . فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كذب أعداء الله ـ يقصد اليهود ـ كل أمور الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى بر و فاجر) تؤدى إلى البر والفاجر فلو قدر أن لأحد من الناس له أمانة عندك وإن كان فاجراً فإن فجوره لا يمنعك من تأدية الأمانة إليه فمسألة كونه كافر أو فاجر أو فاسق لا علاقة له بأحقية الأمانة التي له عندك هذا كمفهوم عام للآية .
الآية فيها وقفات عدة منها:(22/24)
إنصاف الرب تبارك وتعالى . وأن الله جل وعلا حكم عدل فبرغم أن اليهود قوم بهت نعتوا ربهم بأقبح المعايب تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيرا , ومع ذلك فإن الله جل وعلا يقرر في هذه الآية أن من هؤلاء اليهود على ما فيهم من معايب منهم من لو أمنته وضعت عنده قنطار والقنطار آلاف من الدنانير يعني مبلغاً كثيراً من المال لو وضعت عنده قنطار آلاف من الدنانير ثم طلبتها منه يردها إليك رغم أنه يهودي . وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الرب جل وعلا وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة فقول الله جل وعلا : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ )) إن وضعت عنده قنطار أمانه رده إليك كما هو تام رغم أنه كتابي إما يهود وإما نصارى وهذا كفر لكن كفره لم يمنعه من تأدية الأمانة .
سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة :
ثم قال سبحانه : (( وَمِنْهُم )) و (( مَّنْ )) في الحالتين بعضيه .
وقلنا إننا سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة . العلم يا أخي كالبنيان . والبنيان لا يعرف من أول يوم وإنما يعرف بعد تمامه . فما تأخذه من علم في هذه الحلقة أنت لوحدك به , وإنما تقوم على علم تأخذه من هاهنا ومن غير هذه الحلقة , وشيء تقرأه و شيء تسمعه وآخر تدونه حتى يجتمع لديك علم جم . لكن لا تحسبن أن أحدا يمكن أن يعطي الناس العلم كاملاً لوحده هذا لن يقع ولم يقع لأن الله عز وجل قسم العلم وفضله بين الناس . لكن أنت تأخذ أمور ترشدك بعضها على بعض .
أقول إن ( من ) هنا بعضيه وحتى يتم المعنى وحتى تعرف الفرق بين ( من ) البعضيه و( من ) أخرى .
( من ) أخرى بيانيه , معنى الكلام لو جاء إنسان ضفته أنت في بيته فأعطاك فاكهة , الفاكهة هذه منوعه ثم غاب عنك ثم جاء يسألك من أي الفاكهة أكلت قلت من كذا , نفرض قلت من البرتقال هذه ( من ) ما هي ؟(22/25)
بيانيه فأنت بينت أي نوع من الفاكهة أكلت .
أما ( من ) التي بين أيدينا (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) هذه ( من ) بعضيه , بمعنى بعض من أهل الكتاب وليس الكل .
(( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ )) لا يساوي شيء (( لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) ما دمت عليه قائماً هذا كناية , كناية عن الإلحاح والمواجهة وشدة الطلب وأنت تتعقبه من مكان إلى آخر حتى يؤدي إليك ماذا ؟ الدينار والذي قبله يؤدي إليك القنطار رغم انه أضعف وأكبر من الدينار مرات عديدة لكن الأول أمين والثاني خائن . وقلنا أن الأمانة تؤدى لكل أحد يستحقها إن كان باراً أو إن كان فاجراً , (( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) كناية عن الإلحاح كثره المواجهة كثره الطلب تنتقل معاه من مكان حتى يؤدي إليك حقك .
(( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) هذه (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ))
جملة تعليليه ينجم عن الآية ما يلي :
أن في اليهود قوم مؤتمنون وهم قلة وقم خائنون وهم كثرة . وهؤلاء الخائنون علتهم في الخيانة يعنى إذا قيل لهم لماذا لا تؤدوا الأمانات ؟ قالوا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) .
(( الأُمِّيِّينَ )) جمع أمي وهو في اللغة من لا يقرا ولا يكتب .
أما المقصود بها هنا فهم أمة العرب من يقرأ ومن لا يقرأ قال الله عز وجل وقلنا إن القران يفسر بعضه بعضاً (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ )) الأميين من ؟(22/26)
أمة العرب فقول اليهود : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) اليهود يقولون إن هؤلاء العرب قوم أميون لا دين لهم ولا يرونهم شيئاً لأن اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار , ويقسمون الناس غيرهم طبقات فلا يرون العرب شيئاً ويقولون إن المال الذي في يد العرب أصله لنا فإن حصل بيننا وبينهم تقاضي بيع وشراء وأمانه فلا حاجه أن يرد إليهم المال لأن المال أصلاً لنا .
فالمعنى الحرفي لقول الله جل وعلا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) أي ليس علينا إثم ولا حرج ولا وزر أن نأكل أموال الأميين فما من طريق يصل إلينا بها المحاسبة (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) وقلنا أن الأميين يطلق على العرب لأن الأصل أن العرب أمة لا تقرأ ولا تكتب . قال صلى الله عليه وسلم : ( إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب , الشهر هكذا وأخذ يشير صلى الله عليه و سلم بأصابع يديه ليفهم من حوله ) , والنبي عليه الصلاة والسلام نعت في القرآن بأنه نبي أمي قال شوقي :
يا أيها الأمي حسبك ربتة فالعلم أن دانت بك العلماء
أما لماذا بعث النبي أمي ؟(22/27)
فليقطع الله جل وعلا ألسنه المشككين وشبه المعاندين فإن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن من عند ربه أبلغ كتاب وأعظم عبارات وأجل كلام فلو كان عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب من قبل لقال عنه الكفار إن هذا الكتاب الذي أتى به أخذه عن من ؟ أخذه عن غيره لأنه يقرا ويكتب فما زال يطالع أربعين سنة ثم بعد أربعين سنة من المطالعة والقراءة والكتابة والاستكتاب خرج إلينا بهذا القرآن فبعث الله جل وعلا نبيه أمي لا يقرأ ولا يكتب , قال سبحانه : (( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ )) يعني لو كنت تقرأ وتكتب (( إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )) العنكبوت ( 48 ) . لكنه النبي عليه الصلاة والسلام كان أمي لا يقرأ ولا يكتب وهذا من فضل الله جل وعلا عليه .
نعود إلى مسألة مهمة فالأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم منقبة وفي حق غيره مثلبة .
يحسن بالرجل أن يقرأ ويكتب ولذلك قال الله جل وعلا : (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )) العلق ( 1 ) . فلا يأتي إنسان ويقول نحن ننتسب إلى أمة أميه فلا حاجه لأن نقرأ ولا نكتب , هذا النبي عليه الصلاة والسلام أمي حتى يقطع الله على يديه ألسنة المعاندين أما نحن ففي حاجة ملحة لأن نقرأ ونكتب ونزداد علماً .
وليس الأمي المقصود بها النبي عليه الصلاة والسلام عدم العلم وإنما قلت القراءة والكتابة وإلا العلم شيء آخر , فقد يكون من العلماء من لا يقرأ و لا يكتب يأخذ علمه بالتحصيل ويعطيه بالتلقين .
ثم قال سبحانه : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يعلمون أنه لهم وعليهم في الأميين سبيل ثم قال سبحانه : (( بَلَى )) هذه (( بَلَى )) جواب من الرب سبحانه على دعوى أهل الكتاب ليصبح المعنى بلى عليكم في الأميين سبيل .(22/28)
ثم قال سبحانه : (( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) هذه من (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى )) جملة استئنافية و (( بَلَى )) منقطعة عنها جواب من الرب سبحانه لما قبلها . أما معنى قول الله جل وعلا : (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) أي من عاهد إنساناً على أمانة وردها وأتم العهد فإنه قد أتم الشيء الذي عليه واتقى ربه ,
وهذا من أسباب حصول محبة من ؟ محبة الله سبحانه وتعالى قال الله جل وعلا : (( فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) .
ينجم عن الآيات كلها فوائد عدة لأن القرآن إنما أنزل ليكون منهجاً يسير عليه الناس :
الفائدة الأولى : ينبغي أن تفر في عباراتك وكلامك من ألفاظ العموم لأن ألفاظ العموم تجمع ما بين البر والفاجر والمخطئ والمصيب وليس هذا من العدل في شيِ . فقلنا هؤلاء يهود ومع ذلك لما تكلم الله عنهم سبحانه فصل ولم يقل جل وعلا إن اليهود كلهم لا يؤتمنون , وهذا أسلوب قرآني يعرفه كل من تدبر القرآن وسيأتي في آل عمران أن الله قال : (( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ )) . فالإنسان العاقل عندما يتكلم أو يحكم على قوم أو على جماعة أو على دار أو على مدرسة أو على أي شيء أو على أمة لا يحكم حكماً عاماً ولا حكماً جماعياً وإنما يفر من ألفاظ العموم على منهج القرآن الذي بينه الله جل وعلا للناس .(22/29)
الفائدة الثانية : الحق من قول أو فعل يقبل من أي أحد . دل على هذا هذه الآية عن طريق التلميح ليس عن طريق التصريح , ودلت آيات أخر عن طريق التصريح أن الحق يقبل من أي أحد , بلقيس كانت تحكم اليمن وكانت تعبد الشمس كما قال الهدهد : (( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ الله )) النمل ( 24 ) .لما حصل ما حصل من بعث سليمان عليه السلام الخطاب لها وأخذت تستشير قومها قالت لهم : (( قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً )) هذا كلام من ؟ كلام بلقيس في كتاب الله قال الله بعدها : (( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون )) فالله جل وعلا صدقها على قولها رغم أنها عابدة ماذا ؟ عابدة شمس . الكفار القرشيون قال الله عنهم : (( وإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا )) الأعراف ( 28 ) . فذكروا سببين لفعل الفاحشة فلما رد الله عليهم قبل الله الأولى ولم يردها رغم أنهم عباد وثن يعبدون اللات والعزى لكن الله قبل قولهم أنهم وجدوا عليها آباءهم فلم يرد عليهم لكن رد في الثانية جاءت الآية (( قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )) الأعراف ( 28 ) . لأنهم كذبوا في قولهم أن الله أمرهم بها لكن عندما قالوا (( قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا )) كانوا صادقين فلما كانوا صادقين أن آباءهم ورثوا هذا الشيء من آباءهم لم يرده الله جل وعلا عليهم .
فالحق يا أخي يقبل بصرف النظر عن قائله , وأما الخطأ فانه يرد بصرف النظر عن قائله .
فالخطأ يرد لكن إن كان قائله معروف بالعلم والصلاح والتقوى فانه يعتذر له ولسْتَّ ملزم بقبول القول لكنك لا تقع في عرضه .(22/30)
الفائدة الثالثة : أنه يجب تأدية الأمانات إلى أهلها فالدَّين شأنه عظيم عند الله تبارك وتعالى ومن يستدن ليأكل أموال الناس يضيعه الله جلا وعلا كما يريد أن يضيع أموال خلقه , ومن استدان ليسد ثغرة وإنما منعه العجز عن رد الدين فهذا يسدد الله جل وعلا عنه ولا يأثم . وكيف نعرف أن فلاناً يستدن من أجل تضييع أموال الناس أو من أجل الرد ؟ هذا يظهر من طبيعة المعاملة , فمثلاُ لو أن إنساناً تاجراً احتاج إلى مئة ألف ثم اقترض من رجل ما مئة ألف وقامت تجارته ثم انكسرت تجارته ثم لم يبقى في يديه إلا أموال يسيره ألف , ألفين , ثلاثة , فجاء اشترى بهذه الألف أو الألفين شيئاً لبيته فلا نقول له يجب أن تسدد المائة ألف , لأن هذه الألف والألفين ريال مثلاً لا تنفع صاحبها , وإنما تنفع الرجل في بيته وهي لا تنفع صاحبها الأول , لأن المبلغ زائد عن الحد عن قدرة هذا المستدين , لكن إذا كان الإنسان ينفق في شيء زائد عن حاجته بمقدار أكثر قليلا أو أقل مما هو مستدينه يدخل في من لم يفي بحق الأمانة بينه وبين الناس . وإذا كانت الشهادة ترفع بها كل إثمٍ إلا الدين كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أخبرني به جبريل آنفاً ) فهذا يبين أن الأمانات بين الناس شأنها عظيم ومن حاول وجاهد في تأدية الدَّين عن نفسه أدى الله جل وعلا عنه وأعانه ربه تبارك وتعالى .
ثم قال الله سبحانه في الآية التي تليها : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(22/31)
المناسبة بين الآيتين السابقة واللاحقة : الآية السابقة بيان للمعايب المالية وأما الآية التي بعدها بيان للمعايب الدينية في اليهود في عقائدهم . قال الله جل وعلا : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) اللي هو الميل تقول لوا فلان يدا فلان أي أمالها . (( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) أي يحرفون الكتاب لفظاً ومعنى وينطقونه على هيئة من يغررك أنه من كلام الله .
(( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ )) اللام للتعليل والفعل بعدها منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وأصل الكلام تحسبونه بالنون لكن حذفت النون لدخول لام التعليل . (( لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) إذاً (( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) ( ما ) هذه ما نوعها ؟ نوعها نافيه .
(( ومَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ )) المعنى أنهم لم يكتفوا فقط بأنهم يحرفون في الكلم حتى يلبسوا على الناس أن ما يقولونه من عند الله بل زادوا على ذلك إثماً فلم يكفيهم التلميح وإنما لجؤوا إلى التصريح وصرحوا كفراً وكذباً بأن ما يقولون هو من عند الله وهم يعلمون يقيناً أنه ليس من عند الله , قال سبحانه : (( وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يفعلون ما يفعلون من كذب وخداع وتمويه على الناس وهم يعلمون حقيقة أنهم يأتون الباطل بعينه فلا يرتدعون عنه وهذه نعت مما نعت الله جل وعلا به اليهود .
فتَحَصَّل من الآيتين معيبان : المعيب الأول مالي والمعيب الثاني ديني (( وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(22/32)
ثم قال سبحانه : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) نعود لقضية المال الناس يتعاملون بالمال , حب الدنيا العاجل يدفع البعض والعياذ بالله لأن يحلف كذباً حتى ينال شيء من حطام الدنيا الزائلة وهذا أكثر ما يكون في التجار وهو وإن كان في اليهود يظهر إلا أنه ليس مختص بهم وحدهم وإنما يكون في كل صاحب سلعه في الغالب يريد أن ينفقها ويكون في غير أصحاب السلع . والمعنى أن الحلف بالله شيء عظيم وإعطاء العهد بالله تبارك وتعالى شيء أعظم .
فإذا كان الإنسان يبيع هذين العهد والحلف بالله من أجل أن يشتري شيئاً من الدنيا يعلم انه زائل كذباً وميلاً وزوراً فهذا توعده الله جل وعلا برواعد وزواجر عدة من أهمها :
أن الله جل وعلا لا يجعل له في الآخرة حظاً ولا نصيباً وهذا معنى قول الله جل وعلا : (( لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ )) فالخلاق هنا بمعنى الحظ والنصيب فلا حظ لهم ولا نصيب , (( وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ )) وهذا والعياذ بالله منتهى الحرمان , (( وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) وهذا اشد , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ )) أي لا يطهرهم وتطهير الله لعباده يكون بغفران ذنوبهم وستر معايبهم , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .
ويتحصل من هذا فقهياً ما يلي :
أن الأيمان ثلاثة :(22/33)
الأولى : يمين اللغو : تجري على ألسنة الناس لا يتعمدونها ولا يقصدونها فهذه قال الله جل وعلا عنها : ((لاَّ يُُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ )) , يقول الرجل " بلا والله " , " كلا والله " , " اجلس والله " فهذه تجري على اللسان لم يتعمدها العبد فهذه أسماها الله جل وعلا لغواً وأخبر جل وعلا أنه لا يؤاخذ عليها .
اليمين الثانية : تسمى اليمين المنعقدة : وهي التي قال الله جل وعلا عنها (( وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )) وهذه تكون في الأمور المستقبلية " تفعل أو لا تفعل " , " تترك أو لا تترك " , فهذه إن وقعت على خلاف ما قلت يلزم منها كفاره اليمين .
وكفارة اليمين : واحد من ثلاث على التخيير إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة . فإن أعتق رقبة أو أطعم عشرة مساكين أو كسا إنساناً ما يكفيه لأن تقام بلباسه الصلاة يستر عورته في الصلاة . هذه الثلاثة على التخيير فإن لم يستطع أن يحرر رقبة ولم يستطع أن يطعم عشرة مساكين ولم يستطيع أن يكسوهم ينتقل في حالة العجز عن هذه الثلاثة بالتخيير ينتقل إلى الصيام , والمشهور عند العامة أن الصيام مواز لهذه الثلاثة وهذا خطأ . فإن هذه الثلاثة بينها التخيير قال الله جل وعلا : (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ )) أي واحد من هذه الثلاثة (( فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ )) المائدة ( 89 ) . فلا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن واحدة من هذه الثلاث .
هذان الاثنان لا علاقة له بالآية , الأخير هو الذي له علاقة بالآية .(22/34)
اليمين الثالثة : التي يحلفها الإنسان على شيء قد مضى , " يحلف على شيء لم يكن على أنه كان وعلى شيء قد كان على أنه لم يكن " هذه تسمى يمين غموس ولأنها من كبائر الذنوب لم يجعل الله جل وعلا لها كفارة , فتسمي يمينٌ غموس يمينٌ فاجرة , يلزم فيها التوبة النصوح والتخلص من المظالم والأوبة إلى الله جل وعلا . قال صلى الله عليه وسلم كما عند الستة من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( من حلف على يمين فاجرة وهو كاذب ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو عليه غضبان ) عياذاً بالله . وكفى بالمرء إثماً أن يلقى الله جل وعلا وربه تبارك وتعالى غضبان . وبالاستقراء أي في النظر في أحوال الناس عبر التاريخ أن كل من يحلف على يمين كاذبة يعاقبه الله جل وعلا قبل أن يموت . وهذا في محلات السيارات وأمثالها كثير خاصة إذا كان في قسمه وأيمانه مضرة على إنسان مسلم , كشهادة الزور تودي بأخيه المسلم وتضر به في الدنيا فهذه اليمين تبقى ملتحقة به وينتقم الله جل وعلا منه .(22/35)
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أبو إسحاق أحد العشرة المبشرين بالجنة . بعثه عمر رضي الله عنه أميرا على الكوفة فمكث فيها ما شاء الله , ثم جاء وفد من الكوفة فسألهم عمر رضي الله عنه عن سعد ؟ فكأن بعضهم ألمح على أنه لا يريده ,فبعث عمر رضي الله عنه و كان حاكماً عادل أشبه ما يسمى في أيامنا هذه بلجنة تتقصى الحقائق , فجاءت هذه اللجنة إلى الكوفة فأخذت تسأل الناس عن سعد في المساجد فيأتون المسجد يقولون كيف أميركم سعد ؟ فيدلي الناس بإجاباتهم حتى دخلوا مسجداً لبني عبس اللذين سكنوا الكوفة من بني عبس فلما دخلوا فيه سألوهم عن سعد ؟ فقام رجل قال : أما وقد سألتنا عنه فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية فقال كلمة أخرى كلها يرى أنها عيوب في سعد رضي الله عنه , وكان سعد رضي الله عنه حاضراً مع اللجنة فلما سمعه سعد رضي الله عنه وكان سعد رضي الله عنه يعلم أن هذا كاذب وقد حلف قال رضي الله عنه " اللهم إن كان عبدك هذا قد قال ما قال كذباً ورياءً فاللهم أطل عمره وعرضه للفتن " . فعاش هذا الرجل ما شاء الله له أن يعيش حتى طال عمره وأصبح رجلاً أبيض الحواجب مع بياض الشعر حتى تساقطت حاجباه على عينيه من شدة الهرم وكبر السن ومع ذلك في هذا السن التي يعقل فيها كل ذي خبل كان يقف في شوارع الكوفة وأحياءها وأسواقها يتعرض للنساء ويغمزهن ويلمزهن وهو قد تجاوز المئة فإذا قال له الناس يا رجل اتق الله يقول شيخٌ مفتون أصابته دعوة سعد . فلا يجد في نفسه قدره على أن يمتنع عن هذا . موضع الشاهد إن اليمين الفاجرة من أعظم ما حرمه الله ومن كبائر الذنوب وقد دلت الآية عليها : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .(22/36)
ثم قال سبحانه : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) هذا عود على بدء . والمعنى قلنا في الدرس السابق إن آية المباهلة نزلت بسبب وفد نجران وقلنا إن وفد نجران يقولون إن المسيح ابن الله فيعبد كما يعبد الله حسب زعمهم , هنا الله جل وعلا يقول رداً عليهم أنه لا يمكن أن يقع ولا ينبغي أن يقع أن الله جل وعلا يعطي بشراً الحكم أي الحكمة والكتاب المنزل ويجعله نبيا ثم هذا العبد يقول للناس اجعلوني رباً من دون الله , هذا لا يمكن أن يقع شرعاً ولا قدراً , لسبب بسيط وهو أن (( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) الأنعام ( 124 ) . هؤلاء الأنبياء الجم الغفير الله جل وعلا قبل أن يبعثهم علم تبارك وتعالى ما في قلوبهم . ولذلك لا يمكن أن يقع منهم خلاف ما أراده الله جل وعلا أن يكونوا عليه , لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القدرية , من الناحية القدرية كل الناس في هذا سواء ولكن لا يقع منهم لا شرعا ولا قدرا . ولذلك قا ل الله جل وعلا : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ )) طيب ما الذي يقع ؟ جاء الجواب ولكن أي الذي يقع والذي يقوله النبي (( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) كلمة رباني نسبة إلى الرب فزعم بعض العرب أنها لفظ غير عربي وأنها غير مسموعة بلغة العرب والأكثرون على أنها عربيه .
والمعنى اختلف العلماء فيه في معنى (( رَبَّانِيِّينَ )) وجميع ألفاظ العلماء تدل على معناً متقارب فمجملها أن يقال :(22/37)
إن الرباني هو : العالم الفقيه الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمه ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره .
إن جمع الإنسان هذا كله قدر له أن يكون من الربانيين في العلم . والحوادث المعاصرة ميزت كثيراً من الربانيين عن غيرهم . فالربانيون من العلماء لا يلقون الناس في المهالك . والشاطبي رحمة الله في الاعتصام وفي الموافقات وهي كتب في التأصيل العلمي بين كثيراً في معنى الربانية وتكلم على ما ينبغي أن يكون عليه العالم الحق الذي يسوس الناس في أيام الفتن العالم . الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال وإنما يهمه أن ينظر في المآل . أعيد العالم الرباني الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال حتى يقال عالم ويتخلص منها وإنما يهمه أن ينظر في المآل قبل أن يتكلم . فينظر مآل قوله مآل فتواه وعاقبتها على عامة الناس قبل أن يتفوه بها حتى يكون الناس على بينه من أمرهم في دين الله جل وعلا وتلك منازل الكل يطلبها وقليل من يحصل عليها بلغنا الله وإياكم إياها .
(( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) الباء في الحالتين سببيه . والمعنى بما أنكم رزقتم الكتاب تعلمونه وتَدرسونه وتُدرسُونه فإنه ينبغي عليكم أن تكونوا ربانيين وأنتم تسوسون الناس .(22/38)
ثم قال سبحانه (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الواو هنا عاطفة على الصحيح . والمعنى إن هذا النبي يقول لقومه إن الله لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً , ذلك أن لب دعوة الرسل هي إقامة التوحيد , فلو جاء نبي وطلب من الناس أن يعبدوا الملائكة ويعبدوا النبيين لخالف هذا جوهر الرسالة التي بعث من أجلها . فما أنزل الله الكتب ولا بعث الله الرسل ولا نصب الله الموازين ولا أقام البراهين إلا ليعبد وحده دون سواه . فعلى هذا كان بدهياً أن الأنبياء والمرسلين يأمرون الناس أن يفروا من الربوبية العبودية إلا أن يعبدوا الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه .
(( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الناس إذا علموا الكتاب وعلموا الحكمة تحركت الفطرة التي في أنفسهم وأصبحت مقبلة على الله , فكيف يعقل أن هذا النبي بعد أن أسلم الناس وأصبحوا مقبلون على ربهم جل وعلا يطلب منهم أن يعبدوا الملائكة أو أن يعبدوا النبيين هذا لا يمكن أن يقع كما بينا كما قال الله : (( مَا كَانَ )) أي ما ينبغي ولا يمكن أن يقع . (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ{79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون )) .(22/39)
ثم قال سبحانه : (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على طريقين :
فريق يرى وهم الأقل من العلماء أن هذه الآية شاملة لجميع الأنبياء , والمعنى عندهم أن الله جل وعلا بعث النبيين بغاية واحده هي عبادته سبحانه فيأخذ الله جل وعلا من كل نبي أن يبين هذا للناس وأن يعينه من بعده على هذا الطريق هذا ما فهمه بعض العلماء . والفريق الثاني وهم الأكثرون من العلماء وهم المحفوظ المنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن هذه الآية منقبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ,
ويصبح معنى الآية على النحو التالي : إن هناك ميثاق وهناك من أخذ الميثاق , وهنا ك من أُخذ عليهم الميثاق . فأما الذي أخذ الميثاق فهو من؟ الرب جل وعلا وهذا واضح .
(( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ )) . والذين أحذ منهم الميثاق النبيون وأتباعهم وإنما ذكر النبيين فقط وأن من درج فيهم الأتباع لأن الأنبياء رؤوس الناس . مالذي أخذه الله منهم ؟ أخذه الله منهم أنه متى ظهر نبينا صلى الله عليه وسلم في زمانهم يجب عليهم أن يتبعوه (( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ )) المقصود به نبينا صلى الله عليه وسلم (( مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )) والإصر بمعنى العهد (( قالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
ينجم عن هذا أمور فهو المقصود من درس التفسير اليوم :(22/40)
النبي صلى الله عليه وسلم حضنا من النبيين ونحن حظه من الأمم ولا نبي بعده ولا أمة بعدنا , وهذا النبي خصه الله جل وعلا بأمور منها ما يشترك مع إخوانه من النبيين ومنها ما هو خصيصة له صلوات الله وسلامه عليه .
فمما يشترك فيه مع النبيين مر معنا أن النبي تنام عينه ولا ينام قلبه وأنه يخير عند الموت وأنهم يدفنون حيث يقبضون وأنهم مؤيدون بالوحي هذا كله يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنبياء .
ثم خصه الله جل وعلا بخصائص عده صلوات الله وسلامه عليه , منها هذه الخصيصة وهي أن الله أخذ العهد والميثاق من النبيين من قبل أنه متى ظهر صلوات الله وسلامه عليه في زمانه أن يتبعوه . وهو صلى الله عليه وسلم ظهر و ليس هناك نبي وآخر الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام عيسى ابن مريم عليه السلام وبين عيسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة والسلام قرابة ستة قرون وهو آخر الأنبياء أي عيسى عليه السلام قبل نبينا عليه الصلاة والسلام , يقول عليه الصلاة والسلام : ( لو أن موسى ابن عمران كان حياً لما وسعه إلا أن يتَّبِعني ) .
ولذلك الذين قالوا إن الخضر حي ـ الخضر صاحب موسى المعروف ـ في قول للعلماء أنه حي هذا وإن كان مرجوحاً نقول من أعظم الأدلة على أن الخضر غير حي أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في لواء يوم بدر ويوم بدر جمع الله جل وعلا فيه على تلك الأرض على أرض بدر خيرة الله جل وعلا من خلقه تحت اللواء في يوم بدر , وذلك اللواء كان تحته النبي عليه الصلاة والسلام وجبرائيل . فلو أن الإنسان صنع ما صنع من الدين والمناقب والعطايا و الإمامة وغير ذلك لا يمكن أن يصل إلى الدرجة التي أعطاها الله جل وعلا أهل بدر يوم بدر , فإن الله جل وعلا أخرجهم من بيوتهم ليكونوا مع نبيه عليه الصلاة والسلام . وحسان بن ثابت قال مفتخراً في شطر بيت لم تعرف العرب فخراً أعظم منه أنه قال :
و جبريل تحت لوائنا ومحمد(22/41)
موضع الشاهد لو كان الخضر حياً لوجب عليه شرعاً أن يكون مع نبينا صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يومها في أعظم الحاجة إلى النصرة . ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى أهل بدر من أصحابه : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً ) . وقال عليه الصلاة والسلام لعمر في قصة حاطب : ( أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ) . فلا يعدل مقام النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر وأصحابه أي مقام لأي أحد بعدهم من أهل الدنيا لا من الصحابة ولا من غير الصحابة فإن لم يكن من الصحابة فمن باب أولى كل ما يصنعه الناس بعد الجيل الأول للصحابة لا يمكن أن يرقى لصنيع المسلمين الثلاث مئة والأربعة عشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر . موضع الشاهد كنا نتكلم على أن الخضر يجب أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم . هذا العهد أول خصائص أو واحد من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم .(22/42)
من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الرسول يبعث إلى قومه خاصة وهو عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة . من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الجن كذلك بعثه الله جل وعلا إليهم , ولما عاد عليه الصلاة والسلام في وادي نخله بعد خروجه من الطائف وأخذ يقرأ القرآن ويقوم الليل يتلوا آيات ربه جاء الجن فاجتمعوا عليه قال الله جل وعلا : (( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ))عبدالله يعني من ؟ نبينا صلى الله عليه وسلم يدعوا من ؟ يدعوا ربه (( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً )) الجن ( 19 ) . اللبد الشيء إذا تجمع . فالجن لما سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم وتوسله إلى ربه في ظلمة الليل في وادي نخله أقبلت رغم شدة جبروتها وأنها مخلوقه من نار أحاطت به صلى الله عليه وسلم وأخذت تسمع ما يقوله وأخذت تسمع ما يتلوه ويقرؤه صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل رغم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ولم يرى الجن وهم يستمعون إليه ولذلك قال الله له : (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ )) أي أنا لا أدري (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً )) الجن ( 1 ) . وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه اجتمعوا حوله وسمعوا قراءته وتلاوته وتهجده وتعبده لربه ودعائه لله وهو لا يعلم عنهم شيئا , فلما مضى صلوات الله وسلامه عليه أخبره ربه بان الجن كانت تستمع إليه . من خصائصه صلى الله عليه وسلم رحلة الإسراء والمعراج وهذه أشهر من أن تُعرف . ومن خصائصه صلوات الله وسلامه عليه أن الله يعطيه يوم القيامة مقام الوسيلة وهو المقام المحمود قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزله في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح وأرجوا أن أكون أنا هو ) صلوات الله وسلامه عليه , فالوسيلة حق له صلوات الله وسلامه(22/43)
عليه من ربه وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام . والمقام يطول لكن الذي يعنينا أن يكون الفرد محبا متبعا لنبيه صلى الله عليه وسلم . وفي عصرنا هذا كثر المشاهير من أهل الحق ومن أهل الباطل وبالغ الناس فيهم بالذات مبالغات الناس في أهل الباطل , والمؤمن التقي العاقل الذي يعلم ويتلو كتاب الله حقا لا يقبل أن يعظم في قلبه إلا من ؟ إلا الله .
القلب يا أخي مثل الكعبة فالكعبة لا يليق أن يكون عليها صور لأنها بيت الله وقلب المؤمن لا ينبغي أن يعلق بأحد إلا بمن ؟ إلا بربه جل وعلا أو من أمرنا الله جل وعلا أن نحبه كنبينا صلى الله عليه وسلم فنحن نحبه صلوات الله وسلامه عليه لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه , ولا يمكن أن يرقى حبنا له كحبنا لربنا تبارك وتعالى .
كما أن المبالغة في مدح أهل الحق يخرج بهم كذلك , قد يدخلهم في الفتن وهذا حاصل في عصرنا فإن الإنسان من طلبة العلم يحمد له حبه للعلماء وحبه للدعاة وهذا شئ من فضائل الأمور ولكن لا يحصل المبالغة في تعظيم الدعاة ولا العلماء ولا المدرسين ولا غيرهم مبالغة يتجاوزون بها عن الحد لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن , وربما أعجبت الإنسان نفسه من كثره مبالغة الناس في تعظيمهم له وثنائهم عليه وتقبيلهم لرأسه يوم بعد يوم مرحله بعد مرحله فيدخله والعياذ بالله ما يدخله ما يكون سبب في هدم دينه وهدم دين أتباعه , وقد ذكر بعض العلماء الثقات رحمه الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعلم كيف يبلغ الناس أحياناً بهم الضلال إلا ما لا نهاية ,(22/44)
أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يضن نفسه أنه من أولياء الله من أصحاب الطرائق المذمومة فرءاه رجل من العامة كان يجلس بجانب هذا العالم المتوفى الذي كتب هذا بيده وأنا قرأته كان يجلس بجواره فلما جاء هذا الرجل قام هذا العامي وأجلس هذا الرجل مكانه , فلما فرغت الصلاة وهذا في الحرم النبوي قال هذا العالم وهو من أساطير العلماء قال له : يا هذا مرة أخرى لا تقم من مقامك في الحرم لأحد ولو كان القادم أبو بكر وعمر قالها للعامي والرجل يسمع فما ذا أجاب العامي وانظر إقرار الرجل قال العامي هذا أفضل ممن ذكرت أفضل من أبي بكر وعمر , قال الشيخ رحمه الله يقول وهذا يسمع ولا ينكر شيئاً عياذاً بالله , هذا الذي قال هذا عامي جاهل وهذا الذي قبل هذا رُبي يومياً عياذا بالله تدريجيا من مبالغات الناس وثنائهم حتى وصل إلى هذه المرحلة فصدق كذب الناس . من هذا يفهم أن أحياناً بعد الدرس بعض الطلاب جزاهم الله خيرا يسلمون ويقبلون الرأس لا داعي لهذا إذا كانت ولا بد أن تسلم على الشيخ صافحه . إذا قدم الإنسان من سفر لا بأس , لكن أن يقبل كل شيخ بعد كل درس على رأسه أو على غير ذلك هذا لا يحسن , فتنة للمحاضر وذلة للمتبوع والعاقل من حرر نفسه وحرر الناس من رقة أحد إلا لمن ؟ إلا الله جل وعلا .(22/45)
انتهينا من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما بينا وقلنا إن محبته عليه الصلاة والسلام مندرجة في حبنا لربنا تبارك وتعالى . ثم إن هذه المحبة ينبغي أن تنقلب إلى سلوك فكما ينبغي أن تستقر في القلب ينبغي أن تنقلب إلى سلوك كيف تنقلب إلى سلوك ؟ إن الإنسان ينظر أين هديه من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم وليس الدين أن تأخذ من الدين ما يناسبك وتترك ما لا يناسبك ولكن الدين أن تعلم أنه مبنيا على قاعدة واحده , القاعدة هذه قالها صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإن أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) . القدرات تختلف أما النهي الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم يجب أن تنتهي عنه نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الزنا عن شرب الخمر عن إيذاء المؤمنات عن أمور عده من المحرمات هذه لا مجال للأخذ والعطاء فيها ينتهي المؤمن . أما ما أمرنا الله به فالناس يختلفون لا يمكن أن نطالب الناس بالأمر الكلي ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتوا منه ما استطعتم ) . فمثلا صيام ثلاثة أيام من كل شهر .صيام يوم وإفطار يوم هذا أمر محمود لكن ليس كل الناس يطيق الصيام , الأمر بالإنفاق أمر محمود لكن ليس كل الناس يملك المال وعلى هذا قس أمورك أن ما أمرك النبي صلى الله عليه وسلم افعل منه ما تستطيع أن تفعله , أما ما نهاك النبي صلى الله عليه وسلم عنه فانتهي عنه بالكلية حتى يكون اتباعك لنبينا صلى الله عليه وسلم طريقاً لك إلى رحمه الله جل وعلا ومغفرته ثم في جناته جنات النعيم .(22/46)
ثم قال الله تبارك وتعالى : (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{80} وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ{81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) أي بعد أن بين الله هذه الحجج وأوضح الله تلك الطرائق وأقام الله جل وعلا تلك البراهين فجاء من الناس من أعرض وتولى ولم يقبل نداء الله تبارك وتعالى له , فلا ريب أنه من الفاسقين .
وقد قلنا أن الفسق ينقسم إلى كم قسم ؟ إلى قسمين :
قلنا فسق يخرج من الملة كقول الله : (( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ )) وفسق غير مخرج من الملة قال الله جل وعلا : (( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ )) الحجرات ( 7 ) . ومن القواعد العلمية " أن العطف يقتضى المغايرة " . والله عطف الكفر والفسوق والعصيان بعضها على بعض فدل على أن الكفر غير الفسوق والفسوق غير العصيان (( فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) .
ثم قال سبحانه : (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) .(22/47)
(( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ )) الهمزة للاستفهام ونوع الاستفهام هنا استفهام إنكاري أي المعنى : كيف يبغون ديناً غير دين الله . من عرف هذه الحجج وعرف هذه البراهين واستبانت له لا يمكن أن يقبل ديناً غير دين الله تبارك وتعالى . ثم ذكر الله جل وعلا أن مما يدلهم على أنه ينبغي أن يتبعوا الله أن الله جل وعلا قال : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) اللام هنا للملكية وقد جاءت معنا في آية الكرسي لما قلنا إن الله يقول : (( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) .
وقلنا أن الملك كم قسم ؟ قسمان : ملك حقيقي وملك صوري .
وقلنا إن ما يجري في الدنيا اليوم هو ملك صوري وأن الملك الحقيقي أصلاً لله وقلنا أن ما تملكه اليوم إما أن تذهب عنه و إما أن يذهب عنك , ولذلك قال الله جل وعلا : (( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ )) الفرقان ( 26 ) . مع أن الملك يومئذ واليوم لله وقال الله جل وعلا في آخر الانفطار : (( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ )) ولاشك أن الأمر كل يوم لله لكن المقصود حتى الحالة الصورية تغيب وتذهب (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ )) أي انقاد وخضع واستسلم لله تبارك وتعالى (( طَوْعاً وَكَرْهاً )) هذا من الأضداد ويسميه البلاغيون طباق إذا جاءت الكلمتان متضادتان يسميه البلاغيون طباق مثلاً الليل والنهار, طوعا وكرها .
طوعا معروفه وكذلك كرها .
ولكننا نفرق ما بين كَرها بفتح الكاف وكُرها بضم الكاف وهذه من اللغويات وهذه شرحناها في دروس متفرقة :
نقول أن الكَره هي المشقة الخارجة عنك التي لا تريدها الأمر الذي تجبر عليه وأنت لا تريده هذا يعبر عنه بماذا؟ بالكَره .
وأما الكُره بضم الكاف فهي المشقة التي تريدها رغم أن فيها مشقه , المشقة التي تطلبها أنت لأن فيها منفعة رغم مشقتها .(22/48)
وبالأمثال يتضح الحال : الحال الكَره مثل قول الله تبارك وتعالى في هذه الآية : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )) وقول الله تبارك وتعالى : (( لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً )) أي وهن غير راضيات . أما الكُره بضم الكاف فإن الله كتب الحمل على بنات حواء وقال سبحانه وتعالى : (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً )) الأحقاف ( 15 ) . فالمشقة التي تأتي للمرأة مشقة الحمل مشقة مرغوبة أو غير مرغوبة ؟ مرغوبة طبعاً ما من امرأة إلا وهي تريد أن تلد وتحمل فهذه مشقة مرغوبة لذلك عبر الله عنها بالكُره . أما عند ما تكون غير مرغوبة تسمى كره بفتح الكاف . قال الله جل وعلا عن الجهاد في سبيله : (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ )) البقرة ( 216 ) . بضم الكاف والجهاد فيه مشقة لأنه فيه ذهاب أرواح وذهاب أبدان وذهاب أموال ويرى الناس فيه من العناء والمشقة الشيء العظيم لكن ما فيه من أجر ما يتعلق به من ثواب ما ينال المسلم فيه من قربات عند الله هذا يجعله محبوباً إلى النفوس , لذلك عبر الله جل وعلا بضم الكاف .
ثم بين سبحانه وتعالى دلالة ملكه وعظيم عطائه فقال جل ذكره : (( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) أي أن مآبهم ومردهم إلى الله تبارك وتعالى وهذه آية من مثاني القرآن سيأتي عنها الحديث تفصيلاً .
قال ربنا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه :(22/49)
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) المعنى الإجمالي للآية : أن الله جل وعلا يخبر أن معالي الأمور والجوامع لكل خير التي هي رأس كل غاية وأمل كل مؤمن لا تنال إلا بإنفاق الإنسان لأشياء يحبها , والله جل وعلا جبل القلوب على حب المال قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) سورة الفجر( 20 ) وقال جل ذكره : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) سورة العاديات ( 8 ) .
والمال هنا ليس وقفا على النقدين الذهب و الفضة وإنما المال كل ما يتمنى الإنسان ويملكه من نقدين أومن عقار أو أراض أو من غير ذلك كعروض التجارة , هذا كله يدخل تحت مسمى المال كالخيل والفرس وما أشبه ذلك مما يملكه الإنسان .
فالله جل وعلا يقول إن النفوس جبلت على حب المال فإذا بلغ الإنسان مرتبة يتخلى فيها عما يحب لشيء أعظم وهو حبه لله جل وعلا كان ذلك موصل لطريق الخير والبر .
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) لن تحصلوا عليه لن تدركوه . (( حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) أي حتى يتخلى الإنسان عن محبة الدنيا والتعلق بها ويصل بنفسه إلى مرحلة يتخلى عن ما يحب من أجل ما عند الله جل وعلا من ثواب وعطاء وجزاء .
ثم قال سبحانه : (( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) كل ما أنفقه الإنسان مهما عظم أو حقر فإن الله جل وعلا يعلمه ويكتبه له إن خيراً فخير وإن كان غير ذلك فغير ذلك .
جيل الصحابة أعظم جيل بلا شك :(22/50)
هذه الآية لما نزلت كان جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أعظم جيل بلا شك , ناصروا نبينا صلى الله عليه وسلم وأيدوه ووقفوا معه , هم شامة في جبين الأيام وتاج في مفرق الأعوام رضي الله عنهم وأرضاهم , لما نزلت هذه الآية تسابقوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم في الإنفاق مما يحبون , ومما نقل نقلاً صحيحاً ما في الصحيحين من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه كما روى عنه أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة هذا الصحابي الجليل كانت له نخلٌ في مقدمة المسجد النبوي تسمى بئر بالنبر وبير بالياء " بئر حاء " كانت في مقدمة المسجد وكان ماؤها عذب طيب كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ذلك النخل ويشرب من ذلك الماء الطيب , فلما نزلت هذه الآية عمد هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه وأشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا النخل صدقة في سبيل الله فقبلها عليه الصلاة والسلام وقال له : من باب الإرشاد ( اجعلها في أقربائك ) , فجعلها أبو طلحة رضي الله عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده في اثنين من الأنصار هما حسان بن ثابت وأبي بن كعب وكانا ذا قرابة من أبي طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه . كما نقل من وجه آخر أن زيد بن حارثه الذي جاء ذكره في القران أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت له فرس تسمى" سَبَل " وكانت أثيرة عنده مقربةً لديه فلما أنزل الله جل وعلى قوله : (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) جاء زيد رضي الله عنه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وقال : يا نبي الله إن فرسي سبل أحب مالي إلي وقد أشهدتك أني جعلتها صدقة في سبيل الله وأعطاها النبي عليه الصلاة والسلام ليتصدق بها فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أسامه بن زيد وأعطاه الفرس فلما أعطاه الفرس قال صلى الله عليه وسلم : ( اقبضه يا أسامه ) تغير وجه زيد لأنه ما كان يريد أن يأخذها ولده حتى يشعر أنه أنفق بعيداً , فلما رأى(22/51)
النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه زيد قال : ( يا زيد إن الله جل وعلا قد قبل صدقتك منك ) . موضع الشاهد أن المقصود إخراج حب المال من القلوب , أما أين يقع المال مسألة لا تهم إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده , قد يقع في قرابة قد يقع في غير قرابة يجتهد الإنسان , والإنسان مأمور أن يجتهد أين يضع ماله لكن المهم إخراج الدنيا من القلوب .
ينبغي على الإنسان أن يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو :
وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان لشيء يتقوت به وينفق به على عياله ولا يملك غيره ثم ينفقه كما نسمع بين الحين والآخر فإن هذا قد يكون في بعض الأحايين مخالفاً للصواب قال الله جل وعلا : (( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً {29} إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً{30} )) سورة الإسراء . فالإنفاق أن ينفق الإنسان من أحب ما لديه نعم , ولكن ينظر نظرة توازن في أهله وذويه وأبناءه ومن لهم حق عليه , والناس في هذا يختلفون اختلافاً جذرياً , ليس معنى أنهم يختلفون في الإيمان , نعم هم كذلك لكن في هذا الشأن لا , إنما يختلفون في قضية أن من الناس من يستطيع أن يعوض ومن الناس من لا يستطيع أن يعوض , ولو ذهب ليقترض لا يقرضه أحد . فهذا لو أنفق ماله كله أصبح أشد ممن أنفق عليه وأشد ممن طلبه مالاً فأعطاه ولا يقول بهذا عاقل لكن يوجد إنسان له جاه و له قدره أن يستدين يحبه الناس و معروف , إمام مسجد , خطيب , مدير , موظف كبير هذا لو أعطى ماله كله يستطيع أن يعوضه , أو رجل تاجر حتى لو أنفق اليوم ماله كله غداً يكسب شيء آخر . على هذا يحمل ما فعله الصحابة , لا يأتي إنسان يقول أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله . نعم أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله لكن أبو بكر رضي الله عنه كان تاجراً ما ينفقه(22/52)
اليوم يعوضه غداً, لكن لا يأتي الإنسان كما نسمع في بعض الحملات في بعض المناسبات كحملة الانتفاضة أو غيرها يأتي الإنسان سمعت هذا بأذني لا يملك إلا السيارة التي ينقل عليها الماء يسميها العامة " وايت " , فلما تبرع بها قال : يعلم الله أنني لا أملك غيرها وبها أقتات لأبنائي , ثم قال : جعلتها في سبيل الله , هذا ليس بحق ولا برشد وليس بعقل نسأل الله أن يتقبل منه نعم , لكن هذا أمر لا يقبل لماذا ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ) . هذا الرجل إذا أمسى وأبناءه لا يجدون طعاماً وبناته في ظل هذا الزمن الذي يحتاج فيه الناس إلى الدينار والدرهم كره أبناه الدِّين لأنهم يشعرون أن الدين هو السبب في إنفاق المال كله , المقصود أن الإنسان يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو , إنما كما فهمها الصحابة رضي الله عنهم , أبو طلحه رضي الله عنه رجل غني رجل ثري من ماله المحبب إليه مزرعة بجوار المسجد أحب ماله إليه معنى أن ماله كثير ولكن هذا أحب ماله إليه . كإنسان عنده مزرعة وعنده قصر أفراح وعنده عمائر وعنده أبناء يقوتهم . وأحب ماله إليه المزرعة أو قصر الأفراح فتصدق بقصر الأفراح تصدق بالبناية تصدق بالمزرعة هذا طبق السنة .
أما أن يأتي إنسان وهذا يمر علينا بحكم مخالطتنا للناس يأتي شاب لا يملك إلا راتبه وقد يأتيه الراتب أحيانا أو موظف في شركه مرة يثبت ومرة لا يثبت ثم يأتي ويقول : أنفقت مالي كله لمؤسسة كذا أو جمعية كذا أو لسبب كذا , هذا يا بني الإنسان يكون راشداً عاقلاً لا يتكلف مفقود ولا يرد موجود يمشى بخطى والله أعلم بما في صدور العالمين , ولا حاجة لأن يرى الناس ماذا تصنع .(22/53)
نقول : عموماً أن الإنفاق من أعظم أسباب حصول الخير , لكن كما قلت بضوابطه الشرعية . وكلما كان في السر كان أعظم وأبلغ قال عليه الصلاة والسلام لما ذكر السبعة : ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) و ليست العبرة بالكثرة بقدر ما العبرة أن يصيب مال الإنسان ذا فاقة يحتاجها وكلما كان ذا قرابة كان أولى و أحرى لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا طلحه أن يضعها في قرابته فوضعها كما ذكرنا عند حسا ن وعند وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
هذا المعنى الإجمالي للآية أما ما يتعلق بها علمياً :
فإن " لن " : حرف ناصب يفيد نفي المستقبل كما أن " لم " : حرف جازم يفيد نفي الزمن الماضي , وأنت طالب علم ستمر عليك " لن و لم " كثيراً , " لن " ينفى بها المستقبل و " لم " ينفى بها الماضي وكلاهما يؤثر في الفعل بعده .
فـ " لن " تنصب الفعل و " لم " تجزمه . وإذا طبقتها على الآية الله عز وجل يقول : (( لَن تَنَالُواْ )) أصل الفعل تنالون بنون زائدة في آخر الفعل و تسمى نون علامة ثبوت النون من الأفعال الخمسة .
لما دخلت " لن " حذفت النون فأصبحت (( لَن تَنَالُواْ )) بدون نون ثم توضع ألف للدلالة على أن هذه الواو " واو الجماعة " .
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) اختلف العلماء في المقصود بالبر قيل إنه الجنة وهذا رأي ابن مسعود وابن عبا س رضي الله عنهم والسدي رحمه الله وغيرهم من أئمة التفسير , وإذا قلنا أنه الجنة يصبح تقدير الآية : لن تنالوا ثواب البر الذي هو الجنة . فوضع المقدر مكان ما قدر به . وقيل إن البر اسم جامع لكل خير واختاره ابن السعدي في تفسيره على أن المعنى أن يصل الإنسان إلى الاسم الجامع لكل خير .
والغاية أن يقال إن البر سواءً قلنا إنه الجنة أو الطريق إلى الجنة فالمعنى متقارب لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الصدق قال : ( وإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ) ,(22/54)
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) " حتى " هذه يقول عنها بعض النحاة , والنحاة معروفون جمع نحوي وهم مشتغلون بعلم النحو مثل سيبويه و أقرانه , أحدهم قال قبل أن يموت : " أموت وفي نفسي شئ من حتى " .
والمعنى أن " حتى " حرف غريب في تأثيره فيما بعده , وذلك أنهم لما نظروا إلى الأحرف وجدوا أن عملها واضح جلي بعضها ينصب و بعضها يجزم و بعضها عطف وبعضها استئنافيه ولها طرائق . ولما جاؤا عند "حتى " وجدوا أنها تقبل الجميع ويمثلون ــ وأنا قلت أني مضطر أن أتكلم هكذا لأنك ستفسر القرآن بعدنا فلابد أن تتضح عندك الطرق ــ يقولون مثلاً : " أكلت السمكة حتى رأسها " أكلت فعل وفاعل والسمكة مفعول به , وبعدها " حتى رأسها " قالوا : إن قلت أكلت السمكة حتى رأسُها بالرفع صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر صح . هذا الذي أشكل على النحاة وقال قائلهم : " أموت وفي نفسي شيء من حتى " .
فعلى القول أكلت السمكة حتى رأسُها تصبح " حتى " حرف استئناف و يصبح المعنى أكلت السمكة حتى رأسها أكلت , فتعرب رأسها مبتدأ وأكلت المقدر المحذوف خبر . وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب جعلت " حتى " حرف عطف فعطفت كلمه رأس على السمكة . وإذا قلنا أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر تصبح " حتى " حرف جر وما بعدها اسم مجرور .(22/55)
(( حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) وهذا أحد معاني كلمة " ما " وقلنا فيما سبق أن " ما " تتكرر في القرآن ولها بحسب سياقها معاني عده فتأتي نافية وتأتي استفهامية , وهنا أتت شرطيه (( مَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) إذن الجملة جملة شرط . أداة الشرط : ما , وفعل الشرط : تنفقوا , وجواب الشرط : الجملة الاسمية (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) , على هذا " الفاء " في قول الله : (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) واقعة في جواب الشرط .
قصة بني إسرائيل ومن هو إسرائيل ؟
ثم قال تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) .
نبين قصة إسرائيل ثم ندخل في مناسبة الآية :
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ورزقه الله بعد ما كبر ذريه نص الله على اثنين من هؤلاء الذرية الأكبران الأجلان إسماعيل وإسحاق عليهما السلام , إسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة , ومن إسماعيل جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ومن إسحاق جاء يعقوب عليهما السلام .
إلا أن يعقوب عليه السلام الأظهر أنه كان توأماً لأخ له يقال له " العيس " لما ولدتهما أمهما على ما يقول جمهرة المؤرخين ولدت العيس أولاً ثم أعقبه يعقوب فسمي يعقوب لأنه جاء في عقب أخيه . والعيس كان محبباً إلى إسحاق أكثر من يعقوب وكان يعقوب محبب إلى أمه أكثر من العيس .(22/56)
من يعقوب هذا ؟ بعدما كبر بفترة قابله مََلَك , المَلَك هو الذي سمى يعقوب إسرائيل على معنى أن كلمه إسرائيل عابد الرب ككلمه عبدالله أو حولها . إذن يعقوب عليه السلام له اسمان : يعقوب الاسم الذي سماه به أبوه والاسم الثاني إسرائيل . وبهما جاء القرآن قال الله عز وجل : (( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )) سورة هود ( 71 ) . وقال الله عز وجل : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) .
من ذريه إسرائيل هذا جاء بنو إسرائيل الذين من هم اليوم ؟ هم اليهود .
ومن ذريه إسماعيل جاء العرب المستعربة الذين هم نحن , ومن ذريه العيس جاء الروم الذين هم الأوربيون والأمريكيون اليوم ـ أغلب من هاجر إليها من الأوربيين ـ . إذن الأمريكيون و الأوربيون واليهود والعرب كلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام , إلا أن إسحاق وإسماعيل كانا نبيين بنص القران أما العيس فلم يكن نبياً وإنما كان محبباً لوالده ودعا له كما يقولون أبوه أن يملك غلاض الأرض وأن يرزقه من الثمرات وهذا حاصل كل من يرى ما هم فيه من الثمرات يتذكر دعوة إسحاق عليه السلام لابنه العيس . إلا أن من ذرية إسحاق جاء يعقوب الذي اسمه إسرائيل . فعندما يقال بنو إسرائيل ينسبون إلى جدهم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام . هذا إسرائيل " يعقوب " تخاصم مع أخيه العيس فخرج , عندما خرج بعد ما تخاصم مع أخيه العيس لم يكن له ذرية ثم رزقه الله ذرية , لما رزقه الله ذرية بارك الله له في ذريته حتى حصل ما حصل من قصة نبي الله يوسف عليهم السلام . ولم يكن يوسف وحيداً ليعقوب وإنما كانوا جملة أخوه ثم تاب الله على إخوة يوسف عليهم السلام .(22/57)
وعلى الصحيح أن إخوة يوسف هم الأسباط , فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب قال الله جل وعلا : (( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً )) سورة الأعراف ( 160 ) . أي : قبائل متفرقة كلهم يفيئون إلى الأسباط الإثنى عشر ولد الذين هم من ذرية إسرائيل . من هذه الذرية جاء أنبياء لا يعدون ولا يحصون منهم أيوب واليسع وذو الكفل سليمان وداود حتى وصلوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام . فبين موسى وإسرائيل نفسه أمم لا تعد ولا تحصى أو فتره زمنية طويلة أكثر من ستمائة عام .
موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر , وهم سكنوا أرض مصر عند ما جاء يعقوب إلى ابنه يوسف عليهم السلام (( وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ )) سورة يوسف ( 100 ) .
أنا أريد أن أصل إلى قضية وهي قضية أنه توجد مسافة زمنية طويلة بين بني إسرائيل وبين موسى عليه السلام . التوراة أنزلت على موسى عليه السلام .
الآن نرجع للآية الله جل وعلا يقول : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) اختلف في سببها لكن جملة يقال :(22/58)
إن اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إن النسخ هذا شيء باطل , إذ ليس من المعقول أنت تأتي تنسخ شريعة موسى عليه السلام وشريعة عيسى عليه السلام وتقول : أنا أتيت بشريعة جديدة , و قالوا إنك تقول أن الله جل وعلى حرم علينا لأن الله في القرآن قال : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً )) سورة النساء ( 160 ) , و جاء قوله تعالى في سورة الأنعام الآية ( 146 ) : (( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ )) فقالوا : أنت تقول هذا الكلام وهم يقولون ـ وناقل الكفر ليس بكافر ـ يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم قولك هذا كذب هذه الأشياء محرمة علينا منذ إسرائيل بل هي محرمة منذ نوح وإبراهيم , ـ وهذا زعمهم ـ هنا الله جل وعلى يقول القول الفصل ولذلك قال بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .(22/59)
الله يقول لهم : إن الطعام كله كان مباحاً طيباً ليعقوب إلا جزئية بسيطة لم يحرمها الله . من الذي حرمها ؟ حرمها يعقوب على نفسه . لماذا حرمها ؟ ولم يذكر الله لما ذا حرمها , لكن ورد في السنن وفي الآثار أن يعقوب عليه السلام اشتكى عرق النساء ـ مرض معروف ـ فلما اشتكى عرق النساء نذر إن الله إذا شفاه من عرق النساء أن يحرم على نفسه أحب شيء إليه فكان يحب لحوم الإبل وألبانها , فلما شفاه الله حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها . إذاً تحريم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبانها كان باجتهاد شخصي منه, ولم يحرم الله على إسرائيل ولا من بعده شيء من الطعام إنما حرمه على قوم موسى لما بغوا حرم الله عليهم ما ذكره الله جل وعلا لنبيه , فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن ربه : (( كُلُّ )) وهي من ألفاظ العموم في القرآن , (( كُلُّ الطَّعَامِ )) أي : أي مطعوم كان حلاً أي حلالاً وجاءت منصوبة لأنها خبر كان . (( كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) . كذبتم فيما تزعمون (( إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) . قلنا لحوم الإبل وألبانها لأمر عارض .
(( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا)) إذا أتيتم بالتوراة ستجدون فيها أن الله لم يحرم على إسرائيل شيئاً لأن التوراة أنزلت في عهد موسى وإنما المحرم فيها ما حرمه الله على بني إسرائيل وفق ما نصه الله جل وعلا في كتابه .
قال الله بعدها : (( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) وهذا منتهى التحدي . و لم يأتوا بالتوراة وإنما بهتوا وألجموا ولم يقبلوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم .(22/60)
ثم قال الله جل وعلا وهذا قول فصل وكلام رب العالمين لا يقبل الرد : (( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ )) من قال وتَّزعم كذباً بعد أن بينه الله (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) وقطعاً هم ظالمون لأنه قد ظلم نفسه وجاوز حده وافترى على الله من رد على الله جل وعلا كلامه وكذب قوله لذلك قال الله بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .
بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم :
وعندما يقول الله (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) يأتي إنسان في هذه (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وفي (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) ويسأل : لماذا النبي صلى الله عليه وسلم قرأها : ((قل صدق الله )) ؟ ألم يكن من المفترض أن يقرأها (( صَدَقَ اللّهُ )) و (( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و ((أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) وهذا سؤال يرد بلا شك على الذهن .
و الجواب عليه : أن هذا فيه بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأتي بشيء من عنده وإنما هو مجرد مبلغ , ولله المثل الأعلى . يأتي إنسان عظيم ويبعث بشخص عزيز عليه مقرب لديه إلى قوم و يقول لهم : يقول لكم مثلاً الوالد تفضلوا عندنا على الغداء , أيهما أوقع على نفس المدعوين ؟ لو قال هذا تفضلوا على الغداء يأتي في قلوب الناس شك الدعوة هل هي من الولد أو من الوالد ؟ ولكن عندما يقول لهم : يقول والدي تفضلوا على الغداء , فإنه سوف يعرف المدعوين أن الابن ليس عليه إلا البلاغ وأن الدعوة فعلاً من الوالد .
فعندما يقول الله جل وعلا (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وينقلها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا بيان أنه بشر لا علاقة له بالأمر والنهي والأمر والنهي والبلاغ من عند الله و إنما هو عليه الصلاة والسلام ليس أكثر من مبلغ بشيراً ونذيراً لقوم يؤمنون .(22/61)
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) صدق بلا شك بكل ما يقول لكنها هنا تبنى على خصوص وعموم , تبنى على الخصوص (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) في قوله تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) و تبنى على العموم في أن الله صادق بكل ما يقول .
ولذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي المكنى بأبي عبدالرحمن إذا حدث غالباً يقول : " أخبرني الصادق المصدوق " , أو يقول : " سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم " , كما في الصحيحين من حديث الخلق النطفة والعلقة . فقوله صادق أي : فيما يقول . ومصدوق أي: فيما يقال له .
وهو عليه الصلاة والسلام لما بعث علي وجمع من الصحابة رضي الله عنهم إلى روضة خاخ عندما يدركوا الخطاب الذي بعثه حاطب بن بلتعه مع المرأة لتبعث به إلى كفار مكة , بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً و المقداد و جمعاً من الصحابة قال : ( ائتوا روضة خاخ تجدون فيها امرأة معها كتاب من حاطب إلى قريش فائتوني بالكتاب ) , لما ذهب علي رضي الله عنه وقبض على المرأة أنكرته , فقال علي : " والله ما كَذبنا ولا كُذبنا " بمعنى : نحن ما افترينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال هذا الكلام وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكذب علينا ويقول لنا إن معك كتاب وليس معك كتاب . وهذا هو معنى " ما كذبنا ولا كذبنا " .
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) فلما ظهر الصدق لم يبقى إلا الإتباع , قال الله جل وعلا : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً )) والخطاب لليهود على وجه الخصوص وعلى كل من يقرأ القرآن ويصله البلاغ على وجه العموم .(22/62)
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) ومن الذي ما كان من المشركين ؟ عائدٍ على إبراهيم عليه السلام ولماذا جاء به قلنا في سياق سابق أن الله جل وعلا نزه إبراهيم عليه السلام عن كل إثم لأن جميع الأمم ادعت أن إبراهيم منها وهي تنتسب إليه ولذلك قال الله جل وعلا فيما مر معنا : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) آل عمران ( 67 ) .
يتحقق من هذا كله أمور بيناها فيما سبق ونربطها فيما لحق وهي :
أن هذه السورة سورة آل عمران لها علاقة قوية باليهود فأغلبها رد على مزاعم اليهود فكل ما زعمه اليهود يفنده الله جل وعلا و يبين لنبيه صلى الله عليه و سلم مكمن الصواب فيه .
تحرر من ذلك كله أن بني إسرائيل وبني إسماعيل وبني العيس كلهم يفيئون إلى رجل واحد هو إبراهيم . وما زال الناس بذلك ينتسبون ويلتقون في سام وحام ويافث أبناء نوح عليه السلام ثم يلتقون في نوح ثم في الإثنى عشر الذين كانوا مع نوح ثم يلتقون في أبيهم آدم عليه السلام . ولهذا عنصر التفضيل القبلي مرفوض وإنما كما قال الله جل وعلا : (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )) سورة الحجرات ( 13 ) , كلكم لآدم و آدم من تراب .
ثم قال الله عز وجل : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ{96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .
أول بيت وضع للعبادة :(22/63)
(( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) وضع لماذا ؟ وضع للعبادة وإلا البيوت قديمة . وليس الكلام عنها سواء كانت قديمة أو حديثة , وإنما يتكلم الله جل وعلا عن أول بيت وضع للعبادة . هذه الآيتان فيها كلام طويل نحاول قدر الإمكان أن نجمله :
أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض للعبادة قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه لما سأله : يا رسول الله أي بيت وضع في الأرض أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) , قال ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) , أو بيت المقدس , قال : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ) . من الذي قال بينهما أربعون سنة ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم . والمشهور أن الذي بنى بيت المقدس هو سليمان بن داود عليهما السلام والمشهور الذي بنى البيت الحرام هو إبراهيم عليه السلام . و إذا أخذنا بهذا المشهور فلن يتفق الحديث مع الآية , لأن بين إبراهيم وسليمان ثلاثة قرون تقريباً والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربعون سنة ) .
إذاً فالصحيح إن شاء الله : أن آدم عليه السلام هو أول من وضع الكعبة وبيت المقدس . ولا يمكن أن ينطبق الحديث إلاّ على آدم , ويصبح الكلام أن الله جل وعلا أمر آدم أو ملائكةً قبله أن يبنوا الكعبة ثم أمره بعد أربعين سنة أن يبنى بيت المقدس , ثم بين الله لإبراهيم مكان الكعبة ولذلك قال الله : (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ )) سورة الحج ( 26 ) , أي: مكان الكعبة فأعاد بنائها , ثم بين لداود وسليمان عليهما السلام مكان بيت المقدس فأعادا بنيانه .
المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي هي الثلاثة التي تشد إليها الرحال ـ وأنا أتكلم هنا بلا ترتيب لأنني قلت أن ما يتعلق هنا من الفوائد كثير ـ .
المسجد الأقصى وقصة مسجد قبة الصخرة :(22/64)
المسجد الأقصى فيه صور تنقل كثيرة , هناك مسجد اسمه قبة الصخرة و هناك مسجد اسمه المسجد الأقصى , فالمسجد الأقصى هو الذي ليس عليه قبة وهو الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم و ربط فيه دابته البراق , أما قبة الصخرة فالصخرة هذه كانت تعظمها اليهود وتصلي إليها في غابر الأزمان , ولما جاء بختنصر من بابل من العراق وأهلك اليهود أعانه النصارى , ولذلك فالعداوة بين اليهود و النصارى عداوة قديمة .
الصخرة كانت تعظمها اليهود في حين أن النصارى يعظمون كنيسة القيامة وما حولها بيت المقدس عموماً . إذاً فبيت المقدس متفق عليه بين اليهود والمسلمين والنصارى على أنه أرض مباركة وكل منهم له فيه غاية . وبيت المقدس كانت فيه الصخرة لما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس و خرج من المدينة صلحاً وسلمت إليه مفاتيح بيت المقدس كانت النصارى مسيطرة على المدينة وكان اليهود أذلة , كانت هذه الصخرة يجعلها النصارى نكاية في اليهود مجمع للنفايات , وكان مع عمر رضي الله عنه كعب الأحبار ـ يهودي أسلم في المدينة ـ فسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار فقال : " أين تراني أصلي؟ " فقال : " أرى أن تصلي خلف الصخرة " , حتى يصبح عمر رضي الله عنه مستقبل الكعبة وأيضا مستقبل الصخرة , فقال له عمر رضي الله عنه : " ما فارقتك يهوديتك تريدني أن أستقبل الصخرة حتى يرتفع شأن اليهود " , فتقدم و جعل الصخرة خلفه . وهو يعلم عمر رضي الله عنه أن الصخرة معظمة وأخذ يمسح النفايات عنها ولكنه لم يرد أن يصلي فيجعلها في قبلته فتفتخر بها اليهود . فالصخرة في بيت المقدس و بيت المقدس كله مبارك بلا شك لكن عمر رضي الله عنه لم يرد أن يجعل للصخرة خصوصية تزيد على خصوصية بيت المقدس فتقدم وجعل الصخرة خلفه .
السياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته :(22/65)
بقيت الصخرة على هذه الحالة حتى كان عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي وكان الذي ينازعه الخلافة خصمه عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في مكة , والعرب كانت تحج إلى مكة فيلتقون بابن الزبير رضي الله عنه .
والسياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته . ولذلك العاقل لا يأخذ آراء السياسيين حتى لو كان أتقى خلق الله . فلا تكن إمعة كل من يحمل راية سياسية تعتقد أنها راية دينية , أصبح الناس يأتون ابن الزبير رضي الله عنه خصيم عبد الملك بن مروان ثم يعودون راجعين إلى الشام يقولون لعبدالملك بن مروان : " أن الناس وأمراء القبائل يحجون و يقابلهم ابن الزبير " . فأمر عبدالملك بن مروان أن يبنى على الصخرة قبة تكسى مثلما تكسى الكعبة وزينها لعل الناس أن يأتوها لسبب سياسي واحد هو أن ينصرفوا عن ابن الزبير رضي الله عنه .
ففهم الأمور في سياقها يريحك كثيراً عندما تستمع إلى أي خطاب سياسي . السياسة فيها شيء اسمه مراحل فالورقة هذه تنفع اليوم ما تنفع غداً , فلما انتهت القضية هذه بقتل عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه على يد الحجاج بن يوسف واحتل العراق , عبد الملك لم يبالي بالصخرة ولم يكسها ولم يهدمها وإنما تركها على حالها الذي هي عليه اليوم , وجاء بعده ملوك لم يفهموا لماذا بناها وأخذوا يزينوها . هذه قصة بيت الصخرة , في قول الله تعالى : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) هذه الفائدة الأولى .
الفائدة الثانية : قال تعالى : (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) والاسم الآخر مكة .
فهل هما بمعنى واحد أم المعنى يختلف ؟
القول الأول : قال بعض العلماء إن " الباء والميم " في اللغة كثيرة الإبدال بعضها عن بعض , فيقولون هذا طين لازب وطين لازم بالميم والمعنى واحد , على هذا القول تصبح مكة وبكة معناهما واحد ويصبح الباء والميم بينهما بدل .(22/66)
القول الثاني : أن بكة المقصود بها المسجد الحرام نفسه , ومكة يقصد بها الحرم كله , هذا قول وكلا القولين لا يمكن أن يكون تنافي بينهما ولا يتعلق به كثير اختلاف .
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً )) ولاشك أنه مبارك بدليل أمور لا تعد منها : ))
أن الله جل وعلا يضاعف فيه الحسنات . 1ـ
أن من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه . 2ـ
أن الله شرع فيه الطواف ولا يشرع إلا فيه . وغيرها كثير . 3ـ
والله نعته بأنه مبارك (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) .
(( فِيهِ )) أي : المسجد الحرام (( آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ )) لم يذكر الله الآيات وإنما ذكر واحدة فقال : (( مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) إذاً يصبح تقدير الكلام فيه آيات بينات كثيرة منها مقام إبراهيم . هذا أرجح ما قيل في إعرابها أنه مبتدأ لخبر محذوف مقدم تقديره منها مقام إبراهيم , وقيل غير ذلك لكن هذا الذي نراه والله اعلم .
من هذه الآيات الموجودة في الحرم المكي مقام إبراهيم .
والسؤال ما مقام إبراهيم ؟(22/67)
إبراهيم عليه السلام قلنا هو الذي رفع جدار الكعبة بناه وساعده ابنه إسماعيل عليه السلام . لما ارتفع البنيان وهذا مشهور قدم إسماعيل حجراً لأبيه ليرتقي عليه , حتى يبقي الله هذه المزية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أصبح الصخر رطباً فآثار قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقيت في الصخرة ظاهرة بينةً على مر الزمان . حتى إن قبيلة في العرب تسمى بني مدلج معروفة بالقفاية ـ يعرفون الأقدام والأرجل ـ وكانوا يطوفون بالبيت ويرون أقدام إبراهيم عليه السلام , وذات يوم عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم صغير في حجر جده عبدالمطلب خرج يلعب رآه أحدهم فحمله إلى جده وقال له : من هذا منك , قال هذا ابني , فقال : حافظ عليه فإنه أقرب شبهاً إلى قدمي من في المقام , يقصدون إبراهيم عليه السلام . ولما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى إبراهيم عليه السلام قال : ( ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم ) .
المقصود أن مقام إبراهيم حجر وطئ عليه إبراهيم لما أراد أن يبني الكعبة بعد أن ارتفع بنائها بقيت آثار قدميه إلى يومنا هذا , وقد شرع الله الصلاة عند هذا المقام قال تعالى : (( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )) سورة البقرة ( 125 ) .
(( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) ثم قال تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) دخله عائدة على المسجد أو على مكة عموماً .
(( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) ما المقصود من الآية ؟
واختلف العلماء في معنى قول الله تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) مكمن الخلاف أنه قد يدخل الإنسان الحرم ويؤذي فقد يأتي الحرم مجرم يخرج خنجر أو مسدس ويستطيع أن يقتل الناس في الحرم وهذا مر عبر التاريخ كله , فالتوفيق ما بين الآية وما بين الواقع مشكلة لأن الله تعالى قال : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) لذلك اختلفت كلمة العلماء في المعنى :(22/68)
القول الأول : إن هذا خبر عن الماضي بمعنى أن أهل الجاهلية قديماً كانوا يدخلون الحرم فلا يؤذي بعضهم بعضاً لحرمة البيت التي وضعها الله في قلوبهم وهذا معروف وإن كان ليس بصحيح على إطلاقه لأنه قد وقع في الجاهلية أذىً وسط الحرم والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي وسط الحرم .
القول الثاني : قول ابن عباس واختاره الأمام ابن جرير الطبري إمام المفسرين وغيره أن الإنسان إذا جنى جناية خارج الحرم ثم دخل استجار بالحرم فإنه لا يقام عليه الحد ولا يقبض عليه ولكن يضيق عليه في المعاملة لا يبتاع معه ولا يشترى ولا يطعم حتى يضطر إلى الخروج فيقام عليه الحد . هذا قول وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
القول الثالث : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) أي آمناً من عذاب النار أي جعل الحج والعمرة سببان في النجاة من النار .
القول الرابع : وهو اختيار المظفر السمعاني رحمه الله في تفسيره أن المعنى أن الله جل وعلا أمَّن قريش في جاهليتهم لأنهم أهل الحرم قال تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )) سورة العنكبوت ( 67 ) , فلم يكن يؤذون لأنهم أهل حرم الله , وكل من رامهم بأذى قسمه الله كما حصل لإبرهه وجنده , وهذا في ظني أقرب الأقوال إلى الصحة والله تعالى أعلم .
ثم قال الله جل وعلا : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .(22/69)
اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك كنت تصلي إلى بيت المقدس , ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس وهو في مكة ويصلي إلى بيت المقدس وهو في المدينة , أما في مكة فكان عليه الصلاة والسلام يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس يصلي في جهة بحيث تكون الكعبة أمامه وبيت المقدس وراءها ويصبح استقبل بيت المقدس و الكعبة في آن واحد , هذا المشهور عن ابن عباس رضي الله عنه .
لما قدم المدينة هذه ما يمكن أن تجتمع لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في الشمال فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً كما في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه عند البخاري وغيره ثم أنزل الله جل وعلا : (( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) سورة البقرة ( 144 ) , فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة إلى وقتنا هذا .(22/70)
اليهود قالوا : هذا أكبر دليل أنك مضطرب في عبادتك . فبين الله جل وعلا لهم في جواب قرآني قال تعالى : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ )) سورة البقرة ( 142 ) , كل الجهات ملك لله والله جل وعلا يختص منها ما يشاء ويتعبد عباده بما يريد , حتى لو تعبده كل شهر من جهة هو ربهم وهم عبيده والجهات جهاته والملك ملكه وليس لليهود ولا لغيرهم قول ولا برهان : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) .فالله جل وعلا ابتلاءً للناس وتمحيصاً واختباراً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم جل وعلا أزلاً أنه سينقلهم إلى الكعبة , في هذه الفترة يمحص الله جل وعلا عباده يبتلي خلقه من يثبت ومن لا يثبت كما قال الله جل وعلا : (( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ )) سورة البقرة ( 143 ) , أي هذا الأمر عظيم إلا على من يسره الله جل وعلا إليه .
المقصود أن بيت المقدس كان معظماً , مبالغةً في تعظيم الكعبة أمر الله جل وعلا في رده على اليهود أن يكون الحج إلى الكعبة لما كانت الكعبة تفضل على بيت المقدس بوجوه كثيرة كان اختيارها مكان للحج أمر لا مناص منه قال تعالى : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )) " اللام " في (( وَلِلّهِ )) من حيث النحو حرف جر , من حيث المعنى للإيجاب والإلزام . فأوجب الله وألزم عباده حج البيت , ولم يكتف الله باللام بل جاء بحرف " على " , أتى بمؤكدين " اللام و على " وكلاهما تدل على الإيجاب والإلزام . تقول لفلان عندي كذا , على فلان عندي كذا , أي يجب علي له .
كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه :(22/71)
(( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة (( النَّاسِ )) عامة ثم جاء التخصيص (( مَنِ اسْتَطَاعَ )) فمن لم يستطع الوصول إلى البيت سقط عنه فريضة الحج .
الله جلا وعلا لم يحدد كيفية الاستطاعة وهذا من بلاغة القران لأنه لا يمكن عقلاً تحديد الاستطاعة بشي واحد من كل الأزمنة . ومن قال من العلماء رحمهم الله أن الزاد والراحلة فهذا قول مرجوح لا يمكن أن يكون صحيح لأنه قد يقع عارض أشد من الأول . ونأتي بعارض عصري لو أن المرض كفانا الله وإياكم شره المعروف بـ " سارس " انتشر في أمة مسلمة في بلاد ما حتى أهلكهم , ثم رغب أناس من هذه الأمة أن يحجوا إلى البيت يملكون زاداً ويملكون وراحلة .
هل من الحكمة أن يؤذن لهم بالحج ؟ قطعاً لا , لأنه قد يأتي منهم من يحمل المرض فيفتك بالحجاج كلهم . فلذلك من الحكمة منعه والحج يعتبر ساقط عنه ومعذور شرعاً , لأنه لا يستطيع الوصول إلى البيت فيمنع . هذا المنع لا علاقة له لا بالزاد و لا بالراحلة , فتبقى (( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة مفتوحة كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه .
(( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) أي طريقاً .
(( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) هذه (( وَمَن كَفَرَ ))للعلماء فيها ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن الآية على ظاهرها , والمعنى أن من لن يحج وهو قادر فهو كافر بظاهر الآية وهذا مذهب الحسن البصري رحمه الله ووافقه عليه بعض العلماء .
الوجه الثاني : أن من أنكر فريضة الحج فهو كافر وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وعليه جماهير العلماء .(22/72)
الوجه الثالث : أن الآية جرت مجرى التهديد والتغليظ والوعيد والزجر في بيان أهمية الحج إلى بيت الله وأنه كالكافر وهذا القول اختاره بعض العلماء وهو الذي إليه نميل والله أعلم .
و هذا له قرائن في الكتاب والسنة :
أما في القرآن : قال تعالى : (( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) سورة النساء ( 93 ) , مع اتفاقنا أن هذه الآية تحمل على أنها مبالغة في التهديد وإلا من قتل نفس ومات على التوحيد لا يخلد في النار .(22/73)
ومن السنة : قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل : ( عبد بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة وقاتل نفسه في النار ) وما إلى ذلك مما جاء في قصة الانتحار , والصحيح أن من مات منتحراً ولم يأتي بناقض شرعي ومات على لا إله إلا الله فإنه لا يخلد في النار ويُحمل هذه الأحاديث والآية (( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) النساء (29 ) , وغيرها على المبالغة في التهديد والزجر والوعيد وإلا قاتل نفسه لا يخلد في النار وإنما يسن لإمام المسلمين أو نائبه أن لا يصلي عليه , أما أنه يخلد في النار فلا يخلد في النار لما روى مسلم في الصحيح أن رجل من الصحابة اشتد عليه مرض ما فعمد إلى عروقه فقطعها فسال الدم فلما سال الدم أخذ ينزف حتى مات فرءاه ابن عم له في المنام وعليه ثياب بيض و قد غلت يداه أي أحكمت , قال : ما صنع بك ربك ؟ قال : عفا عني . قال : فما بال يديك ؟ قال : إن الله قال لي : (( إننا لا نصلح منك ما أفسدته من نفسك )) ـ لأنه قطع يديه ـ بعد ذلك الرجل لما استيقظ قص الرؤيا على الرسول عليه الصلاة و السلام فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( اللهم وليديه فاغفر , اللهم و ليديه فاغفر , اللهم وليديه فاغفر ) قالها ثلاثاً . قال النووي رحمه الله في شرح مسلم وغيره من العلماء في الآية دليل واضح على أن قاتل نفسه لا يخلد في النار .
لكن هذا يخاطب به طلبة العلم فقط ولا يقال للعامة حتى لا يستهينوا بقتل النفس لا بقتل غيرهم ولا قتل أنفسهم .
طالب العلم والتفريق في الخطاب :(22/74)
وطالب العلم ينبغي أن يفرق بين الخطاب إلى العامة و الخطاب إلى طلبة العلم , وبيان الحكم الشرعي غير الوعظ , ولذلك عندما تقرأ في كتب ابن قدامه رحمه الله أو غيره من أئمة الدين الفقهاء لا يتكلمون مع بعضهم بـ " اتقي الله , وخاف الله , واخش الله " هذا كلام وعظ ليس له علاقة بالأحكام الشرعية . وعندما يتكلم بالوعظ لا يتكلم عن تفسيرات اختلافات العلماء .
يعني ما يأتي إنسان مثلاً في مسألة يخالف فيها آخر ويقول : " اتق الله خاف الله كيف تقول بهذا " الكلام العلمي أنت تقول له : " اتق الله " هو لم يتق الله ما يقول هذا الكلام لأنه يعتقد أنه صحيح , فلأنه يتق الله يقول هذا الكلام لا علاقة له بالتخويف من الآخر لأنه يعتقد أن هذا صحيح فهو يقوله لأنه يتقي الله فما في مجال لكلمة اتقي الله وخاف الله , لكن في إنسان يعلم شيء أنه معصية تقول له اتقي الله لأنه يعلم أنه معصية ويعصي الله جل وعلا , يعني مثلاً : " بسم الله الرحمن الرحيم " قلنا في درس سابق أنه يوجد اختلاف بين العلماء هل هي آية من الفاتحة أو ليست بآية ما تأتي لإنسان يعتقد أنها ليست بآية وتقول له اتق الله وخاف الله خاف عذاب النار قول : " بسم الله الرحمن الرحيم " , هو لأنه يخاف الله لم يقولها لأنه لا يعتقد أنها آية والعكس . هذا أهم شئ تفهمه في قضية النزاع العلمي . ولذلك أنت اقرأ مناضرات العلماء كلام ابن قدامه وغيرهم من أئمة العلم في كتب الفقهاء وغيرهم لا تجد فيها الأسلوب الوعظي ولا ذكر الجنة والنار لأن كل فريق يعتقد صحة ما يقوله , إنما يبنى الكلام على الأدلة . كلٌ يحاج الآخر بالأدلة .ولذلك يشتهر ما بين صغار طلبة العلم تقول له ما رأيك في أبو فلان ؟ يقول لك هذا ما يخاف الله . لماذا لا يخاف الله يفتي بكذا وكذا ويقول بكذا , هذا ليس بكلام رجل عاقل لأنه هو يخاف الله يقول ما يعتقده . وهذه أهم ما في الدرس وإلا لو طبقت هذا الكلام الذي يتناقله اليوم البعض(22/75)
لو طبق على الصحابة لهلكنا جميعاً , فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبادلون الرأي ويقول كل منهم بقول , لا يأتي إنسان لآخر ويقول له اتقي الله لأن كلاً منهم يقول ما يعتقد أنه صواب , لكن كل منهم يقارع الآخر بالحجة وبالنظر وبالدليل ثم إذا المسألة استبانت لك لم تكن لتستبين لأخيك والعكس صحيح .
هذا ما تيسر إيراده والفضل لله في أوله و آخره , سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(22/76)
تأملات قرآنية
في سورة البقرة
الشيخ :
صالح بن عواد المغامسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , و أشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى 0
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
جميع العلوم تفيء إلى القرآن الكريم
نذكر بأمور وهي أن القرآن أم العلوم كلها وأن الإنسان إذا قدر له أن يفقه كتاب الله أصبح بيده مقاليد العلم كلها ذلك أن جميع العلوم تفيء إلى القران على أننا ونحن نشرح قد نطيل الوقف عند آية ونتجاوز أية أخرى على هيئة أسرع والمقصود أن الآيات تتفاوت فيما نريد إيصاله لك كطالب علم في المقام الأول .
وقد نقل الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله عن شيخه الإمام الشنقيطي صاحب كتاب أضواء البيان رحمه الله نقل عنه انه سئل الشيخ "أي الشيخ عطية سأل الشيخ محمد الأمين عندما كان يفسر القران في مسجد رسول الله صلى الله علية وسلم قال له: إنك رجل ذو باع عظيم في العلم فلماذا اخترت التفسير دون سائر العلوم مع قدرتك على إتيان كثير من المسائل وشرحها ؟(23/1)
فقال الشيخ ـ رحمه الله ـ وهو العارف بكتاب الله قال : إن العلوم كلها تفيء إلى القران أو نحو ذلك من المعنى والمقصود إن هناك مسائل في العقيدة ومسائل في الفقه ومسائل في التربية ومسائل في الدعوة متنوعة متعددة نقف عند كثير منها قدر المستطاع ونحاول أن نكثر من بعضها ونقلل من بعضها بحسب ما يمليه الموقف وبحسب ما تمليه الآية كما أننا نخاطب في المقام الأول طلبة العلم فلذلك قد لا يغلب الوعظ على الدرس كله وإن كان لابد منه ولكن المقصود أن مما يعين طالب العلم على طلب العلم بعد الاستعانة بالله إن يجد مادة علمية يعقد عليها خنصره وبنصره فإذا وجد شيء يعقد عليه وزاد الكم الذي يأخذه مع مراجعته إياه استمر في الطريق ولكن إن وجد طالب العلم نفسه يقول ويكرر مسائل معدودة بعينها تمر عليه الشهور والأيام وهو مازال رهين مسائل معدودة أصابه سآمة وملل من العلم نفسه وهذا ما نحاول قدر الإمكان تلافيه .
هذا التأصيل أحببت أن أبينه قبل الشروع في التفسير ....
حقيقة البعث والنشور
يبين الله جل وعلا في قوله في سورة البقرة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{22} "
قلنا المناسبة :. إن الله لما ذكر أصناف الخلق الثلاثة ( المراد بهم المؤمنون , الكفار , المنافقون ) خاطبهم أجمعين بعبارة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ . . . إلى آخر الآيتين " أراد الله من هذا أن يبين حقيقة البعث والنشور.
و ذكر في هذه الآيتين ثلاثة براهين على وجود البعث والنشور(23/2)
البرهان الأول: هو ( الإيجاد و الخلق الأول ) وهذا بقوله " اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " ومعلوم قطعاً أن من قدر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني وهذا بينة الله في غير سوره .
وقلنا نحن نبين لك كيف تفسر كتاب الله لا نريد أن نلقن وتحفظ كيف تفسر كتاب الله , هذه الطريقة بينها الله في أشياء عدة قال الله جل وعلا في سورة يس : " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ " وقال أيضاً في سورة الإسراء : " فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " فالاتكاء في الدليل على الإيجاد الأول هذا أول البراهين على أن هناك بعث ونشور .
البرهان الثاني:( ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان) , وفائدة الذكر أن من قدر على خلق الأعلى قادر على أن يخلق ما هو دونه , والله جل وعلا خلق السموات والأرض فمن باب أولى هو قادر على أن يحي الناس بعد موتهم ودليل هذا في القران في سورة فاطر " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ " وقوله في سورة يس : "أَوََلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ "(23/3)
البرهان الثالث :( القياس ) و أن الله جل وعلا قال " وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ " فالأرض كونها ميتة وينزل عليها من السماء "أي من السحاب "مطراًً فتحيى من جديد هذا يدل على أن من أحياها قادراً على أن يكون على يديه البعث والنشور وهذا يفسره القرآن قال الله جل وعلا في سورة فصلت : " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فبين سبحانه بأنه القادر على أن يحي الأرض بعد موتها قادر بقدرته وعظمته وجبروته وعزته وسلطانه على أن يحي الناس ويعيدهم بعثاً ونشوراً بعد أن كانوا أمواتاً .
فاجتمعت في هاتين الآيتين ثلاثة براهين على إثبات حقيقة البعث والنشور
هذا التفسير المجمل للآيتين.
أما التفسير التفصيلي مما يتعلق بالمفردات وغيرها فقوله جل وعلا " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " هذا تلازم مابين العبادة والتقوى فالعبد إذا عبد الله فقد اتقاه وإذا اتقاه فقد عبده " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً " أي تطئون عليها ممهدة ميسرة وهذا ظاهر لكل ذي عينين " وَالسَّمَاء بِنَاء" الأصل أن السماء في اللغة كل ما أضلك فهو سماء
وأرضك كل مكرمة بنتها *** بنو تيم وأنت لها سماء
أي وأنت لها سقف , كل ما أضلك فهو سماء لكن المقصود بالآية هنا السماوات السبع وسيأتي تفصيلها في آيات أخرى ,(23/4)
" وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ " السماء هنا ليس المقصود بها السموات السبع المقصود به السحاب بالقرينة الموجودة وهو أن المطر ينزل من السحاب , " وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ " الباء هنا سببية أي فأخرج لك بسبب الماء من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعمون لما قال الله جل وعلا هذه البراهين الثلاثة التي تدل على قدرته وعلى ربوبيته وعلى أنه لا ريب غيره ولا إله سواه قال مطالباً عباده بقوله " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً " .
الند هو الشريك ـ المثيل ـ النظير ولا يوجد لله شريك ولا ند ولا مثيل ولا نظير" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " لذلك ما بني الدين إلا أنه لا يعبد إلا الله وما أرسلت الرسل وما أنزلت الكتب وما أُقيمت الموازين ولا نصبت البراهين إلا ليعبد الله وحده دون سواه من أجل هذا خلق الله جلا وعلا الخلق كلهم قال سبحانه في سورة الذاريات : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ " .
أكبر الكبائر(23/5)
** " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " قبل أن تتلوها لا تفهم أن " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " هذه متعلقة " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً " لأنك إذا علقت " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " ونسيت أن هناك محذوف يصبح مفهوم الآية في ذهنك لا تجعل لله أنداداً وأنت تعلم كأنك تقول يجوز أن تجعل لله نداً وأنت لا تعلم , قطعاً ليس هذا المقصود لكن المعنى " ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس له أنداداً " فهناك مفعول به للفعل تعلمون حذف لدلالة المعنى عليه وهذا كثير في القرآن هناك مفعول به محذوف دل عليه المعنى أي لا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس لله جل وعلا نداً ولا شريك ولا نظير ولا ظهير ولا نصير ولا أي شيء من ذلك أبداً بل الله واحد أحد فرد صمد ليس له شريك ولا ند ولم يكن له كفواًً أحد " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " يفهم من هذا أن الشرك والعياذ بالله أعظم الكبائر وهو الذنب الذي لا يغفره الله أبدا والناس قد لا يكون الشريك الذي اتخذوه صنم يعبد ولا يعبد عزرائيل ولا المسيح ولا غيرهما مما عبده غيره في الجاهلية لكن قد يعبد المرء هواه وقد يعبد المرء شيء آخر لا حاجة للتفصيل وقد يعبد المرء شيء آخر بحيث يصبح هذا الشيء يتعلق به القلب حتى يصرفه عن طاعة الله جل وعلا فهذا قد جعل لله ندا سواء علم أو لم يعلم ولكن لا يقال بكفره كفراً أكبر لأن مسألة التكفير سيأتي الكلام عنها أمر يحتاج إلى تفصيل وإلى تأني وتبين ,
آيات التحدي(23/6)
ثم قال سبحانه " وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ{24} " هذه الآيات تسمى في لغة القرآن آيات التحدي وهي أول آيات التحدي في القرآن حسب ترتيب المصحف وآيات التحدي في القرآن خمس , ومعنى آيات التحدي أن الله جلا وعلا تحدى العرب على فصاحتهم وبلاغتهم أن يأتوا بمثل هذا القران وقلنا إن آيات التحدي في القرآن خمس هذه الآية من سورة البقرة وقوله الله جلا وعلا في آية 38من سورة يونس " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " و الآية 13من سورة هود وهي قوله جلا وعلا " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{13} "
و الآية 88 من سورة الإسراء قوله جلا وعلا " قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً{88} " والتحدي الخامس جاء في سورة الطور في الآيتين 33 و 34قال جلا وعلا " أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ{33} فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ{34} " اجتمع بهذا خمس آيات حسب ترتيب المصحف توالى بعضها بعضاً في تحدي كفار قريش .
لماذا التحدي ؟(23/7)
مسألة التحدي هذه نقول فيها أن العرب كانوا ليس لهم هماً ولا بضاعة إلا بضاعة الكلام نُصبت على ذلك أسواقهم وقامت على ذلك أنديتهم وكانوا أهل بلاغة وفصاحة وشعر وخطابة ليس لهم تباري و لا تنافس ولا نقد إلا في الشعر والخطابة على هذا قامت حياتهم فجاء نبينا صلى الله علية وسلم بالقرآن من عند ربه وهو يقول إن هذا القرآن من عند الله وهذا الكلام كلام الله فكذبوه قائلين إن هذا الكلام من عندك إن هذا إلا أساطير الأولين فلما كذبوه أخبره الله جلا وعلا إن كان هذا القرآن من عندي كما تقولون فأنا بشر مثلكم وعربي مثلكم وأنتم أهل فصاحة وأهل بلاغة فأتوا بمثله أن كنتم صادقين فاستفزهم الله أيما استفزاز وتحداهم أيما تحدٍ قال الله عنهم " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ " ثم قال " وَلَن تَفْعَلُواْ " ثم ساوهم بالحجارة فقال " فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " وأخبر أن وقودها الناس والحجارة كل ذلك ليلهب مشاعرهم ويوقظ الهمم فيهم حتى يتحدوا القرآن ومع ذلك أثبتوا عجزهم وأنهم غير قادرين على أن يأتوا لا بآية ولا بجزءْ من آية فضلاً عن سورة أو عشر سور أو عن القرآن كله فهذا معنى التحدي في الآيات , واختلف الناس لماذا لم يستطيع العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن ؟
- قيل لإعجاز في ذاته. هذا الذي لا ينبغي أن يقال في غيره.(23/8)
- قيل لمفهوم الصرفة، ومفهوم الصرفة مسألة بلاغية لا نحب أن نطيل فيها، ولكن نقولها على سرعة، قالها رجل معتزلي اسمه إبراهيم بن سيار النظام، قال: إن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لكن الله صرفهم لحكمة أرادها على أن يأتوا بمثله. وهذا قول باطل حتى مشايخ المعتزلة خالفوه على هذه المسألة، و إلا أجمع المسلمون على أن العرب عجزت على أنه تأتي بمثل هذا القرآن لنظمه لأمور عديدة لا تحصى، ومن أراد أن يرجع في مثل هذه المسألة، في كتاب اسمه ( النبأ العظيم ) لرجل عالم اسمه محمد عبد الله دراز من أئمة الدنيا له قدره بلاغية، لكنه مات قبل أن يكمل الكتاب، لكن الكتاب موجود يطبع ويباع كثيراً، اسم الكتاب: النبأ العظيم، وهذا الكتاب مزيته الكبرى أن الرجل أعطاه الله جل وعلا بلاغة وفصاحة عز نظيرها وقل مثليها فمن أراد أن يستزيد في البيان، والقدرة على الكتابة، والقدرة على الخطابة فليكثر من القراءة في هذا الكتاب، فهذا الكتاب ألهم الله جلا وعلا كاتبه قدرة بيانية يعجز الناس في هذا القرن أن يأتوا بمثلها , وله أسلوب غريب وعجيب في قضية أنه يتأسى بالقرآن كثيراً، فلما ذكر قضية الإعجاز مثلاً قال: نحفظ بعض كلامه.[أي كلام دراز ـ رحمه الله ـ ]
قال: فما كان جوابهم، إلا أن ركبوا متن الحتوف ، واستنطقوا السيوف بدل الحروف لما عجزوا عن الإتيان بالبرهان وهذا حيلة كل عاجز يعجز عن الدفاع عن نفسه بالقلم واللسان !!
إلى غير ذلك مما قال والمقصود نحن في مجلس علمي ندل على ما ينفع الناس، قلنا الكتاب اسمه النبأ العظيم، واسمه عبد الله دراز، وأحياناً يكتب محمد عبد الله دراز كما يفعل إخواننا المصريون، يضعون اسم محمد قبل أسمائهم من باب التبرك، نعود للآيات هذه أول ما دلت عليه الآيات.
معاني كلمة عبد في اللغة والشرع(23/9)
دلت الآيات أيضاً على صدق رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم كما أن في قوله جلا وعلا " وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا " أن مقام العبودية أرفع مقام وأجل منزلة , وكلمة عبد تأتي في الشرع واللغة على ثلاثة معاني:
العبودية الأولى : عبد" بمعنى مقهور: وهذا يستوي فيه المؤمن والكافر.
كل الناس المؤمنون والكافرون عبيد لمن ؟
عبيد لله والدليل في سورة مريم : " إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً " . هذه عبودية مطلقة يستوي فيها المؤمن والكافر والملائكة والجن والإنس.
العبودية الثانية: وهي عبودية بالشرع، وهي ضد كلمة حر، قال الله جل وعلا في سورة البقرة " الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ " . هذا الذي يسترق في الجهاد ويؤخذ كأسير بصرف النظر عن لونه فيسمى عبد بالشرع.
العبودية الثالثة: عبد بالطاعة والإتباع: وينقسم إلى قسمين:
1 ـ طاعة لله، وهذا الذي يتنافس فيه عباد الله الصالحون.
2ـ عبد لغير الله أعاذنا الله وهذا بابه وساع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم )) ، أي: الذي يطيع هواه يطيع ديناره، يطيع درهمه وهذا مصيره الضلالة والخسران .
" وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُوا ْ" قمة الإعجاز لأنه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل القرآن ,اتقوا النار التي وقودها من الحجارة .
أما وقودها الناس: فمعروف.
وأما وقودها الحجارة للعلماء فيها قولان :
قوم قالوا: أن الحجارة هنا حجارة من كبريت في النار .
هذا عليه الأكثرون وهو فيما نرى أنه رأي مرجوح.(23/10)
وقوم قالوا: إن الحجارة هنا: هي الأصنام التي كانوا يعبدونها في الجاهلية فتقرن معهم في النار.وهذا هو الراجح إن شاء الله ودليله من القرآن في سورة الأنبياء " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ " .
ثم قال جلا وعلا " فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " اتقوا النار بماذا :
بالإيمان والعمل الصالح .
قال العلماء: في قول الله جلا وعلا : أن النار أعدت للكافرين دليل على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد .
من مات على لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وجاء بأركان الإيمان الست، فهذا لا يخلد في النار.
قال العلامة السفاريني وغيره : وتحقيق المقال أن خلود أهل التوحيد في النار محال .
فإن من مات من أهل التوحيد مهما عذب في النار على قدر ذنبه، مصيره أن يخرج منها لأن الله قال: " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " والموحد غير كافر. والله جل وعلا قال في سورة الليل " لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى{16}" فما دام كذب وتولى هذا كافر فمن لم يكذب ولم يتولى فيعذب في النار إن كان عاصياً، إن لم تدركه رحمة الله من قبل أمداً محدوداً، ثم يخرج منها إلى الجنة، أعاذنا الله وإياكم من النار على العموم.
ثم من أسلوب القرآن أنه يجمع ربنا ما بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد بعد أن ذكر أهل النار، قال جلا وعلا."وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{25} " .
هذه الآية فيها مبشّر وفيها مبشر وفيها مبشّر به وفيها سبب للبشارة.(23/11)
أما المبشِر: فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يقوم مقامه بعده من أمته في الدعوة إلى الدين من أمته.
وأما المبشَّر : فهم المؤمنون .
وأما المبشَّر به : فهي الجنات، على ما وصفها الله جلا وعلا.
وأما أسباب البشارة فهي الإيمان والعمل الصالح.
البشارة للمؤمنين/
" وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وهذه البشارة يا أخي، تأخذ طرائق تأخذ مسالك . ومن أعظمها أن الإنسان إذا وفق في الدنيا وهو حي يرى نفسه موفق للخيرات،
أول البشارة: أن توفق للإيمان والعمل الصالح.
وثاني البشارة:أن تبشر بالجنة عند موتك على يد الملائكة .
وأما تحقيق البشارة : فيكون بعد الموت، وقلنا أن هذا جرى مجرى البشارات بعد أن ذكر الله جلا وعلا الترهيب، ذكر الترغيب.
أما التفصيل في الآية: " وَبَشِّر " أي يا نبينا : صلى الله عليه وسلم.
" وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ". وجاءت جنات مجرورة لأنها جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة. لأنه وقع اسماً للحرف الناسخ أن وأصل الكلام، أن جنات لهم.
ثم ذكر الله جلا وعلا وصف الجنات.
أنهار الجنة/
فقال في أول وصفها: " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ " لم يذكر الله جلا وعلا هنا ما هي الأنهار، وقلنا أن القرآن يفسر بالقرآن.
لكنه ذكر الأنهار في سورة محمد، وهي أنهار من ماء، وأنهار من لبن، أنهار من خمر وأنهار من عسل مصفى.
وتجري من تحتها الأنهار: أي أنهار الماء وأنهار اللبن وانهار الخمر وأنهار العسل.
ثم إنه جلا وعلا ذكر أن تجري من تحتها الأنهار أول صفاتها لأن القاعدة كلما كان الأمر ملتصقاً بذات الشيء كان تقديمه أولى بمعنى: الله قال بعدها: " كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ " ، يتكلم عن أهلها، لكن لما قال: " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ " يتكلم عن الجنة نفسها فقدم هذه الصفة لأنها متعلقة بالجنة، مثلاً تأخذها من باب العبارات .(23/12)
الطواف حول الكعبة عباده، وكلما أقترب الإنسان من الكعبة كان أولى، لكن عندما يأتي الإنسان، في طواف القدوم، وطواف القدوم من سننه الرمل، أن الإنسان يسرع في الخطوات، فإذا كلما اقترب الإنسان من الكعبة يفوت عليه أن يسرع، نقول هنا: ابتعد عن الكعبة، وآت بالإسراع خير من أن تقترب من الكعبة ولا تأتي بالإسراع، لماذا ؟
لأن الرمل من ذات العبادة، أما القرب من الكعبة ليس من ذات العبادة، أمر منفك عن العبادة .
إنسان قبل أن يسكن في هذا الحي، وأقيمت الصلاة، ثم حرك سيارته ليدرك الصلاة في الحرم، نقول إن إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام في حيك أفضل من إدراك بعض الصلاة في الحرم.
لأنه إدراك تكبيرة الإحرام فضل يتعلق بذات الصلاة، لكن الصلاة في الحرم يتعلق بمكانها لا بذاتها، واضح،لا يتعلق بذاتها إنما يتعلق بمكانها، وكلما كان الفضل يتعلق بذات العبادة كان أكمل وأفضل وأولى.
لذلك الله جلا وعلا، قدم الأنهار على ذكر غيرها من الصفات لأن ذكر الأنهار يتعلق بذات الجنة، قال جلا وعلا : " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ".
نحو ياً نقول : كلمة " كُلَّمَا " لا تتكرر كما هو مشهور ، الناس يقولون كلما أتيتني كلما أطمعتك هذا خطأ، يؤتي بـ كلَّما في أول الكلام ولا تكرر، كما قال الله: " كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ " . ولم يقل: كلما قالوا وأكمل، هذا ناحية نحوية .
ناحية المعنى : للعلماء في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
فريق يقولون: " قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ " . أي في الدنيا، لأنه قبل جاءت مضمومة منقطعة عند الإضافة فلم يذكر الله جلا وعلا المضاف إليه، فوجب إحرازه قدر الإمكان، هذا قول:(23/13)
فيصبح أن هؤلاء المؤمنين جعلنا الله وإياكم منهم يرون ثمار الجنة، فإذا رأوها قالوا: هذه الثمار تشبه الثمار التي كنا نأكلها في الدنيا هذا قول.
القول الثاني: أن الثمار إذا أخذوا منها تبدل غيرها، أن الثمار إذا قطفوا منها تبدل بغيرها، فإذا رأوا الثاني قالوا: هذا مثل الأول الذي قطفناه من قبل لتشابه ثمار الجنة، ما بين هذين يدور أكثر المفسرين،
لكننا نقول والله أعلم إن المعنى :أن أهل الجنة إذا قطفوا ثمرة في أول النهار تبدل بغيرها تشبهها في آخر النهار فإذا جاءوا يقطفونها - مثلاً لما تأتي لإنسان يأكل طعام متكرر، يقول بالعامية ما في جديد العشاء مثل الغداء مثل الفطور – فإذا جاءوا يقطفونها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل يعني هذا نفس طعام الصباح فإذا أكلوها وجدها تختلف عن الطعم الأول.
وأظن الشوكاني رحمه الله في الفتح القدير مال إلى هذا القول ولست متأكداً، ولكنه قول مذكور.
" وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا " ، واللام هنا للملكية، ولهم فيها أي في الجنة " أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ " ولم يقل الله مطهرة من ماذا.
لم يقل الله مطهره من ماذا ؟ لفائدة عظيمة، أنها مطهره من كل شيء مطهرون في خلقهم ومطهرون في أخلاقهم.
هؤلاء الأزواج أي النساء مطهرات في خلقهن و في أخلاقهن، في الخلق الخُلُق.
مطهرات من كل عيب ونقص لا يشينهن شيء , وأزواج مطهرة وهم فيها : ( أي في الجنة ). خالدون وهذا الخلود خلود أبدي لانقطاع منه أبداً دل عليه القرآن والسنة.(23/14)
أما ما دل عليه القرآن، فقد قال الله جل وعلا في أكثر من سورة " خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً " . وأما دلت عليه السنة في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار أوتي بالموت على صورة كبش أملح فينادي يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا، فيظرون فزعين خوفاً أن يقال لهم أخرجوا منها ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا، فيظرون فرحين علهم أن يقال لهم: أخرجوا منها.
فيقولون جميعاً: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، وينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، قالت عائشة: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة فرحاً، ولو أن أحداً مات حسرة، لمات أهل النار، حسرة، وفي رواية البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا بعدها " وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{39} إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" . تحرر من هذا أن دخول الجنة أعظم الأماني وأجل الغايات وأن الإنسان ما يناله من نصب أو تعب أو جهد أو إنفاقه من ماله أو بدله أو وقته في سبيل تحقيق إيمان وعمل صالح، إذا دخل الجنة نسي كل بؤس وجده في الدنيا، وقد قيل للإمام أحمد متى يستريح المؤمن، قال: إذا خلف صراط جهنم وراء ظهره، وفي رواية أخرى أنه سئل فقال: إذا وضع قدمه في الجنة , والمقصود أن أهل الجنة لا يعبدون، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عنهم: لا يفنى شبابهم، و لا تبلى ثيابهم، والإنسان إذا أراد أن يقوم من الليل فأضجعته نفسه ودعته نفسه الأمارة بالسوء إلى أن يخلو إلى الفراش يتذكر يوم الحشر ويوم الحساب ويوم يقال لأهل الجنة: كلوا وأشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.(23/15)
يتذكر يوم أن يطرق النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة، فينادي الخازن من أنت ؟ فيقول: أنا محمد، فيقال: أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها عليه الصلاة والسلام، ثم يدخلها بعده الأخيار والمؤمنين الأنقياء الأبرار من أمته.
يتذكر المؤمن وهو يرى ما يثبطه عند العمل الصالح ويدعوه إلى الشهوات، ويدعوه إلى أن يعصي الله جل وعلا، خروج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً بهماً أشد ما يكونون إلى ماء يروي ظمأهم، فإذا خرجوا وجدوا النبي عليه الصلاة والسلام على حوض يسمى : الحوض المورود، فيقبل عليه صلوات الله وسلامه عليه المؤمنون الأنقياء من أمته، فيردون من حوضه ويشربون من يده شربة لا يعطشونه بعدها أبداً.
إذا تذكر الإنسان حال أهل الجنة و ما فيها من نعيم وتذكر حال أهل النار عياذاً بالله وما فيها من جحيم، دعاه ذلك إلى زيادة الإيمان في قلبه والمسارعة في الخيرات والإتيان بعمل الصالحات، ولم تلقي الله جل وعلا بشيء أعظم من سريرة صالحة وإخلاص في قلب ومحبة للمؤمنين، وعدم بغض لهم لا في قلبك حسد ولا غل على مؤمن كائناً من كان ترى من ترى من أفضل الله عليه فتسأل الله من فضله ولا يخلوا إنسان من عثرة ولا من زلل ولا من خطأ، لكن المؤمن إذا آب إلى الله كفل الله جل وعلا به قال الله جل وعلا في نعت خليله إبراهيم في سورة التوبة " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ". وقال الله جل وعلا عنه في آية أخرى في سورة هود " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ " . أي: كثير الرجعة إلى الله، فكثرة التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله، مع الإيمان والعمل الصالح وهما مندرجتان فيه كل ذلك يهيئ للمؤمنين أن يدخل جنات النعيم، رزقنا الله وإياكم إياها بأمن وعفو وعافية منه، ثم قال جل وعلا:(23/16)
" إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ " . لما ذكر الله جلا وعلا الأمثال السابقة عن المنافقين، استنكروا أن يضرب الله أمثالاً بهذا الوضع، فرد الله جل وعلا، عليهم بقوله: " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " . شيء عظم أم شيء حقر ، لأنه العبرة بما ينجم عن المثل لا بعين المثل.
والناس في تلقيهم للمثل القرآني فريقان : قال الله : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ " . أي المثل : " الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ " . لأن قلوبهم مؤمنة تتلقى ما عند الله جل وعلا " وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ً" أسلوب التشكيك والظلمات التي في قلوبهم ، تبقى على ألسنتهم كما هي موغلة في قلوبهم.
ثم أخبر الله أن المثل كالقرآن يظل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً. وقد قلنا في الدرس الماضي أن القرآن كالمطر المعطي، لا ينبت في كل أرض ينزل عليها، وقال الله في سورة الإسراء : " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ " . لمن ؟ " لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ً " . وقال في سورة فصلت : " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء " .
وذكر الذين كفروا فقال: " وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى " . كذلك الأمثال التي يضربها الله جل وعلا في القرآن ينتفع بها المؤمنون ولا ينتفع بها أهل الفسق والكفر والفجور.
" يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً " . ثم قال الله " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ " .(23/17)
معنى الفسق/
الفسق: يأتي على معنيين:
- يأتي بمعنى الكفر، ويكون مخرجاً من الملة ومنه قول الله جل وعلا في سورة السجدة " أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ " .
- ويأتي بمعنى الكبيرة أو العصيان الذي لا يخرج من الملة ومنه قول الله جل وعلا في سورة الحجرات " إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا " .
فهذا فسق لا يخرج من الملة، وأصل الفسق الخروج، فكل من خرج عن طاعة الله فهو فاسق والناس في هذا بلا شك درجات عدة.
" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ "
صفات الفاسقين /
ثم ذكر الله صفات الفاسقين، "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" وأعظم عهد لله توحيده والإيمان به.
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ " والذي أمر الله به أن يوصل كثير، ولكن أعظمه صلة الرحم .
" وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ " . أي بالمعاصي وأنا قلت أجمل أحياناً في التفسير، لأن القرآن مثاني يعني يتكرر فأطنب في مجالات وأتوقف في مجالات عمداً حتى يأتي البيان في سورة ثانية.
" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " .
ثم ذكر الله جل وعلا خطاباً موجهاً لأهل الكفر خاصة، على هيئة أسلوب استفهامي إنكاري توبيخي فقال سبحانه: " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " .
الموتتان والحياتان /
يتحرر من هذا كم موت ؟ موتان، وكم حياة ؟ حياتان.
الموت الأول: المقصود به العدم، قبل الخلق، قال الله تعالى في سورة الإنسان : " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً " .(23/18)
والحياة الأولى : هي نفخ الروح في الجنين في بطن أمة وهي الحياة التي نعيشها الآن .
والموت الثاني: مفارقة الروح الجسد.
والحياة الثانية: عودة الروح للجسد.
وهذا ينجم منه أن الروح لا تموت، وإنما موتها خروجها من الجسد.
والروح تخرج من الجسد، بعد أن تكون قد دخلت فيه، ودخول الروح إلى الجسد ليس وضعاً اختيارياً لها، فلا يوجد إنسان اختار جسده، ولا جسده اختار روحه، لكن ينجم مع الأيام تآلف ما بين الجسد والروح، فإذا جاء نزع الروح، يكون نزع الروح صعب على الإنسان لما وجد من تآلف ما بين الجسد والروح :
هبطت إليك من المحل الأرفعِ ... ورقاء ذات تعزز وتمنعِ
هبطت على كره إليك وربما كرهت ... فراقك وهي ذات توجُّعِ
يعني يصبيها تمنع وتوجع وعندما تريد أن تفارقك، هذا معنى قول الله في " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم إليه ترجعون" .
والمقصود أن من كان وليي هذا وربه وهو القادر عليه وجب أن لا يكفر به، فمن كفر به استحق التوبيخ والإنكار.
الأصل في الأشياء الإباحة/
ثم قال الله جل وعلا " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعا " هذه مسألة يقول عنها الأصوليون دلت على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة،و أكدها الله جلا وعلا بقوله "جميعا ً" فالمخلوقات الأصل فيها الطهارة والإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو على حرمته.
فالناقل عن الأصل وهذه المسألة أصولية هو الذي يحتاج إلى دليل .
فالأصل في البيوع مثلاً الحل، قال الله جل وعلا : " وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ " . فمن جاء قال هات دليل على أن هذا البيع حلال، نحن لا نحتاج إلى دليل أنت إن قلت إنه حرام تحتاج إلى دليل، والعبادات الأصل فيها المنع إلا ما دل الدليل على شرعيته، قال الله تعالى في سورة الشورى : " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ " .(23/19)
" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " .
معنى ((استوى))/
نأتي في الفعل استوى لأنه هذا المسألة تحتاج كطالب علم إلى تحريرها، اسمع يا أخي: العرب تقول هناك فعل لازم وفعل متعدي .
يعني على مهل: تقول: أكل الرجل الطعام.
يقولون: هذا أكل فعل، والرجل فاعل، هذا الفعل أكل تعداه إلى مفعول به الذي هو ماذا ؟ الطعام.
- المتعدي، يقولون هذا المتعدي يتعدى بأحد طريقين:
إما أن يتعدى مباشرة، مثل: أكل الرجل الطعام. وإما أن يتعدى بحرف جر، تقول جلس الرجل على الكرسي. جلس ، فعل، والرجل: فاعل: وعلى الكرسي: جار ومجرور، تعدي بها الفعل ما هو ؟ جلس... جار ومجرور.
أما الفعل استوى، جاء في القرآن على ثلاثة أحوال: جاء لازماً غير متعدي، وجاء متعدياً بحرف الجر على. وجاء متعدي بحرف الجر إلى .
وفي كلا الثلاثة أحوال، في كل حال له معنى ، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى في سورة القصص : " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى " . هل بعد استوى شيء ؟ ما في شيء.
إذا جاءت استوى وليس بعدها شيء معناه: الكمال والتمام.
أي: موسى هنا تمت وكمل عقله ورجولته. هذا إذا لم يتعدى بشيء،
بقينا في الحالة الثانية التي تنقسم إلى قسمين، إذا تعدى بحرف، قال الله جل وعلا في سبع مواضع من القرآن " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " . فتعدى بحرف الجر على . إذا تعدى بحرف الجر على يصبح معناه العلو والارتفاع ، " لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ " إذا تعدى بحرف الجر إلى يصبح معناه القصد يعني قصد من شيء إلى شيء آخر، وهو الذي بين أيدينا .
قال الله جل وعلا " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء " . حتى تفهم الآية جيداً.(23/20)
خلق الله الأرض قبل السماء .
خلق الأرض في يومين ، ثم قبل أن يتمها جل وعلا وهو القادر قصد السماء ، فخلقها في يومين ، " قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ " .
فخلق الأرض في يومين، بعد أن خلق الأرض في يومين عاد جل وعلا وهو القادر على كل شيء فأكمل خلق الأرض ، فأصبح خلقت السموات والأرض جملة في كم يوم ؟ في ستة أيام، لكن السماء خلقت في يومين والأرض في أربعة أيام.
بدأ الله بالأرض خلقها في يومين، ثم استوى إلى السماء أي قصد السماء، تعدى بحرف الجر إلى ، ثم لما أكمل خلق السماء عاد جل وعلا وأكمل خلق الأرض ولذلك قال جل وعلا في سورة النازعات " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " . ولم يقل والأرض بعد ذلك خلقها، لأن خلقها تم من قبل، لكن تركها جل وعلا غير منتهية لحكمة أرادها ثم أكمل خلقها.
نقول: يتحرر من الآية أن استوى فعل يأتي على ثلاث صيغ يأتي غير متعد فيصبح، معناه الكمال والتمام.
ويأتي متعدي بحرف الجر على، فيصبح معناه العلو والارتفاع.
ويأتي متعدياً بحرف الجر إلى ، فيصبح معناه القصد، وهذا المقصود به في الآية هنا.
السماوات السبع /
" ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " . ذكر الله في القرآن أن السموات سبع، ولم يذكرا في القرآن نصاً صريحاً كلمة سبع أراضين ، لكنها جاءت في السنة ، ودل عليها القرآن.
دل عليها القرآن، في سورة الطلاق، لما قال الله تعالى في آخر الآية " وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ " .
وجاءت به السنة أن من اغتصب شبراً طوق من سبع أراضين، ولا يوجد جواب شافيٍ لماذا لم يذكر الله كلمة سبع أراضين في القرآن فيما نعلم.(23/21)
هذه السموات السبع بعضها فوق بعض أدنى سماء إلينا، تسمى السماء الدنيا، وأعلى سماء تسمى السماء السابعة، ولكل سماء خزنة وأبواب وسكان , أما الأبواب فإن الله يقول في سورة الأعراف " لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء " , وأما السكان فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( أطت السماء وحق لها أن تئط والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ) , وأما خزنتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج أن جبريل كان يستفتح فيسأله الخزنة من أنت فيقول أنا جبريل ومعي محمد وهؤلاء القائمون على شؤون السماوات . هذه السماوات تفتح لأقوام وتسد في وجه أقوام , تفتح للإيمان والعمل الصالح و الدعوات الصالحات ودعوة المظلوم هذه كلها تفتح لها أبواب السماء قال الله جل وعلا في سورة فاطر " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " .
وتسد عياذاً بالله في وجه أرواح أهل الكفر وأهل الفسق " لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء " وتسد في وجه الأعمال التي يخل الإنسان فيها كمن ضيع الصلاة أو فرط فيها وفي الدعوات كقطيعة الرحم والبغي وفي كل ما نهى الله عنه لا تفتح لهم أبواب السماء فتح الله لنا ولكم أبواب السماء .
ثم قال جل وعلا " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " الباء هنا للإلصاق , وعليم اسم من أسمائه الحسنى .(23/22)
ثم قال الله تعالى في سورة البقرة : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " .
هذه الآية جاءت بعد قول الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم " تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ " فناسب الله بعد أن ذكرالمرسلين في ختام الجزء الثاني أن يبدأ بالرسل , وقال الله تلك ولم يقل هؤلاء كما قال في أول القرآن " ذَلِكَ الْكِتَابُ " بياناً لعلو قدرهم ورفيع مكانتهم وجليل منازلهم , أشار الله جلا وعلا إليهم بقول " تِلْكَ الرُّسُلُ " جم غفير أخبر الله نبيه أنهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً أرسلهم الله جلا وعلا .
يتنزل على الآية التي ذكرناها مسائل عدة أولها :.
الفرق بين الرسول والنبي:
أكثر المصنفين في كتب العقيدة وغيرها يقول : أن النبي والرسول بينهما فرق , فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول , ويقولن أن الفرق :
أن الرسول من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه والنبي من أوحي إلية وحي ولم يؤمر بتبليغه , قلنا هذا علية أكثر من صنف لكنه خلاف الحق خلاف الصحيح لأن الله عز وجل أعز وأجل من أن يوحي إلى عبدٍ علماً ويكون هذا العبد سرير الكتمان في صدر ذلك الرجل يموت بموته ولا يؤمر ببلاغة وهذا أمر يتنافى مع الشرع , إذن نقول :
إن هذا التعريف غير مستقيم ولابد من تعريف مستقيم , فنقول :
إن الرسول من أوحي إليه شرع جديد و أما النبي من بعث على تقرير شرع من قبلة. حتى يتضح المثال :(23/23)
موسى وعيس عليهم السلام , موسى جاء بالتوراة وجاء بعده أنبياء لا يسمون رسل لأنهم كانوا يحتكمون إلى التوراة فهم أنبياء وليسوا رسل , وعيسى عليه السلام لما جاء بالإنجيل خرج عن كونه نبي إلى كونه نبي رسول لأن الإنجيل فيه شريعة غير الشريعة التي جاء بها موسى عن ربه والمدونة في التوراة مع اتفاقهم عليهم الصلاة والسلام أجمعون على أنهم كلهم بعثوا بالتوحيد وباتفاقهم على البعث والنشور واليوم الآخر , فهذا اتفقت علية كلمة النبيين اتفقوا جميعاً أنهم جاؤا بدين واحد و إنما الإختلاف كان اختلافاً في الشرائع فإذا جاء نبي وقرر شرع الذي قبلة فهذا نبي وإذا جاء رسول وجاء بشرع جديد فهذا رسول هذه المسألة الأولى في الفرق بين النبي والرسول.
الرسل بشر لكنهم تميزوا عن البشر بخصائص منها :
أولها وأعظمها : الوحي , وثانيها أنهم يخيرون عند الموت وثالثها أنهم يدفنون حيث يموتون , ولذلك النبي كان يخير وسمعته عائشة وهو يقول : " بل الرفيق الأعلى " لأنه كان يخير ودفن في نفس موطن موته في حجرة عائشة كما هو الظاهر اليوم لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون , ورابعها أن الأنبياء لا تأكل الأرض أجسامهم قالوا يا رسول الله كيف نصل عليك وقد أرمت قال إن الله أوحي إلى الأرض أن لا تأكل أجساد الأنبياء فالأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم . الخصيصة الخامسة أنهم أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بها , وقد مر الرسول صلى الله علية وسلم بموسى وهو يصلى في قبره كما أخبر بذلك صلوات الله وسلامه علية .(23/24)
قال الله في الآية " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " هذا قول الله فضلنا بعضهم آية محكمة صريحة واضحة أن التفضيل قائم بين من؟ بين الأنبياء لكنه ثبت عن نيبنا صلى الله علية وسلم في الصحيحين عن حديث أبي سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهم وغيرهم أنه قال : " لا تفضلوا بين الأنبياء" وقال عليه السلام " لا تخيروا بين الأنبياء " إذن يوجد ما يسمى بالنطاق العلمي (( إشكال )) لابد من حل ذلك الإشكال , قلنا الإشكال ما بين منصوص الآية وأن الله يقول " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وبين منطوق الحديث " لا تخيروا بين الأنبياء " أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا بأجوبة من أشهرها أن هذا كان قبل أن يعلم علية السلام أنه قال ذلك القول قبل أن يعلم بأن هناك تفاضل وهذا أضعف الأقوال في حل الإشكال أنه قال هذا الحديث قبل أن تنزل عليه الآية وقلنا هذا أضعف الأقوال في حل الإشكال .
القول الثاني : قال بعض العلماء انه التفاضل يكون ممنوعاً في حالة أن يكون معتمداً على عصبة وحمية أن يأتي كل مسلم يناصر الرسول الذي من الأمة التي هم منها وينتسب إليها عرقاً أو غير ذلك قالوا إذا كان التفاضل مبنياً على حمية وعصبية هذا ممنوع ويجوز فيما سواء ذلك وهذا القول مال إليه كثير من العلماء وعندما نقول كثير غير كلمة أكثر عندما نقول كثير لا يعني الغلبة لكن قال عدد غير محدود من العلماء أما الأكثر فإننا نوازي بين الطرفين .
القول الثالث : ممن أجاب هذا من العلماء الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان قال أن حل الإشكال أن يقال أن الأنبياء يتساوون في أصل النبوة ويكون التفاضل في الأعطية التي خص الله بها بعضهم على بعض .(23/25)
والقول الرابع : قول ابن عطية رحمة الله كما نقله عن القرطبي وهو الآن موجود ومطبوع وهو أصوب الآراء فيما نعتقد أنه قال رحمه الله أن التفاضل يكون ممنوعاً إذا كان مخصوصاً بين نبياً بعينه ونبي آخر , ويكون مخصوصا يعني بين نبي ونبي , تقول موسى وعيسى ومحمد وإبراهيم وموسى ونوح قال هذا ممنوع لأن هذا يورث شيئاً في الصدور ولكن أن تبين فضل الله على نبي بخلاف ما علية غيره من الأنبياء هذا هو الذي أراده الله في قوله : " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وإلى هذا الرأي نميل والله تعالى أعلم , هذا أجوبة العلماء تبين الإشكال القائم بين الآية وبين قول النبي " لا تفضلوا.." وفي رواية كما في الصحيحين "لا تخيروا بين الأنبياء" قال الله " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ " منهم عائدة على من؟ عائدة على الرسل , من كلم الله إذا أطلق التكليم ينصرف إلى موسى عليه السلام لأن الله قال له في سورة الأعراف : " قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ " .
وقال الله جلا وعلا في سورة النساء " وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً " لكن الذين كُُلموا أكثر من واحد , الثابت منهم ثلاثة ( آدم علية السلام ؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه سُئل عن آدم أنبي هو قال " نعم نبي مكلَّم " ) وهذا نص في المسألة نفسها سُئل عن آدم فقال نبي مكلم ( وموسى بنص القرآن) و (محمد في ليلة الإسراء والمعراج) فهؤلاء الثلاثة منصوص على أن الله كلمهم , والتكليم من أرفع المنازل وأجل العطايا وأسخى الهبات من الرب جل وعلا :(23/26)
" مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ " , فإن الله رفع الأنبياء وميز بعضهم على بعض , كلم موسى وقال في إدريس في سورة مريم : " وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً " وأعطى داود الزبور وكان نديَّ الصوت به , وجعل نوح أول الرسل إلى الأرض وجعل إبراهيم خليلا , فكل منهم صلوات الله وسلامه عليهم وهبه الله جل وعلا مزية أو فضيلة مع الاتفاق على أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء جميعاً بل أفضل الخلق كلهم جناً وإنساً صلوات الله وسلامة علية .(23/27)
يتحرر من المسألة أن أفضل الأنبياء جملة أُلوا العزم , قال تعالى في سورة الأحقاف : " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ " وأُلوا العزم هم خمسة قال أكثر العلماء على أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ورَتَّبتُهم حسب ظهورهم حسب أزمنتهم , هؤلاء قال الله عنهم في سورة الأحزاب : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " , فهذا النص على أنهم أُلوا العزم وأنهم أرفع الأنبياء مقاماً , أهل السنة متفقون على أن الأنبياء جملة أفضل البشر وأنه لا يوجد أحد من البشر أبو بكر فمن دونه لا يرقى أبداً إلى أي نبي من الأنبياء فالنبوة منزلة لا تعدلها منزلة ولا يعدلها شئ , ذهب الشيعة الأمامية إلى أن أئمتهم أفضل من الرسل بخلاف أُلوا العزم من الرسل على قول وعلى قول آخر أنهم أفضل من أُلوا العزم بخلاف نبينا محمد وهذا نقوله من باب العلم وإلا هو قول باطل بلا شك ولا يحتاج إلى دليل لنقضه لأن النبوة مسألة منتهية ثابتة بالكتاب و السنة وأما الإمامة التي يزعمون فلم تثبت بالكتاب ولا بالسنة قال الله : " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " ذكر عيسى بعد الأنبياء عموماً يسمى ( ذكر خاص بعد عام ) لأن عيسى ابن مريم يندرج في الأولين يندرج في قوله تعالى " تِلْكَ الرُّسُلُ " لكن الله خصه بالذكر هنا لحكمة هي أن أهل الكتاب ( اليهود،النصارى)اختلفوا فيه ما بين إفراط وتفريط , فالنصارى بالغوا فيه حتى جعلوه إلهاً مع الله , واليهود ذموه حتى حاولوا قتله وكلا الفريقين أخطأ السبيل ولذلك حدد الله جل وعلا ذكره هنا قال سبحانه " وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ " و(23/28)
البينات جمع بينه وهي الأمارة والدلالة والبرهان والوضوح وقد منَّ الله على عيسى بعدت بينات منها انه تكلم في المهد وأنه يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراَ بإذن الله هذا بعض ما من الله به على عيسى .
" وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " جمهور العلماء على أن روح القدس المقصود به هنا هو جبرائيل ويؤيده من السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم " اهجوهم وروح القدس معك " أي جبرائيل وذهب بعض العلماء كابن السعدي رحمة الله في تفسيره إلى أن المقصود بروح القدس الإيمان واليقين في قلب عيسى عليه السلام .
ثم قال " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ " الأنبياء لما جاءؤا أتوا بالحق فطبيعي أن يختصم الناس فيما جاء به الأنبياء فلما اختصم كل قوم فيما جاء به النبي انقسموا إلى فريقين مؤمن وكافر, كونهم مختلفين يولد بينهم الحرب الاقتتال والحرب فلما جاء الأنبياء والرسل بالعلم من الله بالوحي بالتوحيد بالإسلام أثار ذلك الناس فانقسموا إلى فريقين سواء كانوا قلة أم كثره هذان الفريقان أصبح بينهم اقتتال لعلة الاختلاف ثم أخبر الله جل وعلا أن منهم فريقان منهم من آمن ومنهم من كفر ثم أراد الله أن يبين أن السبب قد يوجد أحياناً ولا يعمل حتى لا تنصرف أذهان الناس أن السبب قد ينفع أحياناً ويضر من غير الله .(23/29)
قال الله بعدها " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " هذا التكرار فهمه بعضهم أنه توكيد وقد نتسامح ونقول أنه توكيد لكنه ليس توكيد لمجرد التكرار وإنما المقصود من الآية البيان التالي: الله أخبر أن وجود الإختلاف سبب للقتال ثم كرر وقال ولو شاء الله ما اقتتلوا ليبين انه قد يوجد خلاف ولكنه لا يوجد قتال بإذن من الله بمعنى أن الله يلغي السبب تماماً مثل النار جعلها الله سبحانه للإحراق وقد يدخل إنسان النار ويخرج منها كما حصل لإبراهيم دون أن تؤثر فيه لأن الله لم يرد للنار أن تعمل . أبو مسلم الخولاني تابعي أدرك عمر رضي الله عنه لما ظهر الأسود العنسي في اليمن أمر بنار ليحرق أبو مسلم وهو رجل تابعي من أهل اليمن فأدخله في النار فخرج منها أبو مسلم دون أن يصيبه أي شيء , الأصل أن النار سبب للحرق لكن من الذي جعلها لا تعمل وعطل سببها الرب سبحانه ولذلك كرر الله قوله " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " فنحن كمؤمنين نأخذ بالأسباب وبعلمنا أن الذي بيده كل شيء هو الله فنحن وإن أخذنا بها أخذنا بها لأننا مأمورون أن نسلكها لكننا متفقون على أنها لا تضر ولا تنفع إلا بيد الله , سبحانه وتعالى وقد يسقي إنساناً زرعاً فيحصده غيره وقد يجمع إنساناً المال ليأكله فيموت ويأكله غيره وهذا أمر كل عاقل يدركه ليلاً ونهاراً بكرةً وعشياً فيما يراه وينظر إليه , وأنا قلت مراراً إن هارون الرشيد الخليفة العباسي أوكل الخلافة من بعده لابنه الأمين والمأمون وثالثاً آخر منهم وترك المعتصم , وكان له أكثر من أربعة عشراً ابناً , وكان المعتصم في العدد الأخير من أبنائه أي في الثامن أو التاسع ثم أخذ الوثيقة و علقها على الكعبة أخذ فيها العهد من العلماء والمسلمين على أن الخلافة من بعده لابنه الأمين ثم المأمون ثم الثالث وحجبها عن المعتصم لأن أمه لم تكن عربيه(23/30)
فشاء الله أن يموت الأمين والمأمون يقتتلان فيقتل المأمون الأمين على يد طاهر الخزاعي ثم يرث المأمون الخلافة ويموت الثالث في خلافة أخيه المأمون ثم يطول المأمون قليلاً يموت مابين المأمون والمعتصم ثم في ذروة مجده يموت المأمون ثم تأتي الخلافة منقادة إلى المعتصم بخلاف ما أراد والده ولم يأتي بعد ذلك خليفة عباسي إلا وهو من ظهر المعتصم ولم يبقى للأمين والمأمون ولا غيرهم أبناء ولا أحفاد يتولون الحكم انصبت كلها في المعتصم , فأنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد , العاقل لا يعطل الأخذ بالأسباب لكنه يتوكل على الملك الغلاب وهذه أمور تجري بقدر الله والله جلا وعلا الملك ملكه والأمر أمره يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد .
ثم قال سبحانه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ " .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " يسميه العلماء نداء كرامه لأن الله تعالى نعت فيه عباده بوصف , ونعت الإيمان أحبُ وصف ونعت إلى قلوبهم , ثم طالبهم بالإنفاق وجعله مبهماً لأن المقصود منه الإنفاق الفرضي والإنفاق النفل على الصحيح مجرد إنفاق إن كان قرضاً أو كان نفلاً هذه تفسره السنة يعتبر في كتب الفقهاء , لكن الله بين هنا سبب الإنفاق وأن الإنسان ينفق في الدنيا حتى يهون عليه الموقف يوم القيامة .
قال سبحانه " مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ " وسنبين لماذا قال الله البيع والخلة والشفاعة وقلنا دائماً ضرب الأمثال من الواقع يقرب , لو أن إنسان إي إنسان عليه ذمه عليه حق يريد أن يسدده لغيره هذا الحق حتى تتخلص منه لن تتخلص منه إلا بأحد طرائق ثلاث :(23/31)
الطريقة الأولى : أن تشتريه _تدفع ثمن_ وينتهي الحق مثلاً عليك ألف ريال من فلان صدمت سيارته فإما أن تبيع شيءً أو تشتري منه هذا كم تقدر العطل يقول بألف تعطيه ألف ريال وتنتهي القضية
الطريقة الثانية : تعجز أنت عن الألف فتعمد إلى صديق يعينك على دفع الألف _صديق أو قريب أو أي إنسان آخر _ .
الطريقة الثالثة : لا تجد أحد يُدينك أو يعطيك ولكن تعرف شخص ذو وجاهه يعرف هذا الرجل يذهب إليه كشفيع يتشفع عند هذا أن يتنازل عن الحق ولا يوجد حل ثالث .
هذه الثلاثة كلها منتفية يوم القيامة أنت لا تستطيع أن تشتري ذنوبك بأي ثمن ولا تستطيعُ أن تذهب إلى أحد ليحملها عنك ولا يوجد شفيع ذو وجاهه من غير الله يستطيع أن يشفع يومئذ إلا ما أذن الله جل وعلا أن يشفع لذلك قال الله " البَيْعٌ " يفسر بالشراء وقال "الخُلَّة" وهي الصداقة و المعرفة وقال "الشَفَاعَةٌ " وهي الوجاهة وكلها منتفية إلا الشفاعة المثبتة شرعاً وسيأتي بيانها .
" لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" لأنهم عدلوا مع الله غيره وهذا من أعظم الظلم .
ثم ذكر الله الآية الشهيرة المعروفة بـ (( آية الكرسي )) وهي أعظم آية في كتاب الله ثبت عنه عليه السلام أنه سأل أُبي ابن كعب الصحابي المعروف قال " يا أبي أي آية في كتاب الله أعظم فقال أُبي الله لا إله ألا هو الحي القيوم " فضرب الرسول على صدر أُبي بن كعب وقال " ليهنك العلم يا أبا المنذر "
يتحرر من الحديث أن آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله وهذا لا خلاف فيه بين العلماء , يتحرر من الآية نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما رواه ابن حبان بسند صحيح "أن من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" هذا ما جاء في فضلها أما في معناها فإنا نقول على هيئة نقاط حتى لا نطيل :(23/32)
صدرها الله بلفظ الجلالة " الله " وهو علم على الرب سبحانه وتعالى ولم يطلق على غيره , ثم نعت الله سبحانه وتعالى نفسه باسمين من أعظم أسمائه وهي قوله جل وعلا " الحي القيوم " والحي القيوم قال أهل العلم كل أسماء الله الحسنى مردها إلى معنى هذين الاسمين و يقال أن معنى الحي أن حياة الله جلا وعلا حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال حياة الله حياة تامة كاملة , ومعنى القيوم أنه جلا وعلا مستغن عن كل أحد وكل أحد مفتقر إليه , فلا قوام لأحد إلا بالله , والله جلا وعلا غني كل الغنى عن جميع خلقة " اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " .
ثم قال سبحانه " لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ " بما أن الله جلا وعلا قائم على كل أحد فإن من كمال قيموميته على كل أحد أنه لا تأخذه سنه ولا يأخذه نوم قال صلى الله علية وسلم "أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام بيده القسط يخفضه ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه منتهى إليه بصره من خلقة" فكل من يخطر ببالك فالله غير ذلك " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " .
" لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ " اللام هنا لام الملكية المطلقة وقد قلنا أن هناك ملك حقيقي وملك صوري هذه اللام لام الملكية أي جميع من في السموات ومن الأرض عبيد مقهورون للرب تبارك وتعالى .
" مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ " هذا استفهام إنكاري أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء .(23/33)
العلوم أربعة : علم ماضي وعلم حاضر وعلم مستقبل وعلم لم يكن كيف يتصور كونه . وهذه الأربعة كلهن يعلمهن الله تعالى قال تعالى في هذه الآية " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ " يشمل كل شيء يشمل كل علم , أما العلم الرابع قلنا يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون فيدل عليه قول الله تعالى " لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً " الله يتكلم عن المنافقين أن هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلا خبالا مع أن المنافقين لم يخرجوا لكن الله أخبر لو كان منهم خروج كيف سيكون الوضع وقال الله عن أهل النار في سورة الأنعام " وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " ومعلوم أن أهل النار لن يخرجوا من النار ولن يعود إلى الدنيا , لكن الله يخبر حتى لو عادوا على أي حال سيتصرفون وهذا معنى قولنا أن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون .
" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء " كل من لديه علم فالذي علمه هو الله ولا يمكن لأحد أن يأتي بعلم لم يشاء الله له أن يعلمه(23/34)
" وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً " فإذاً أول طرائق طلب العلم ما هو ؟ أن تطلبها ممن ؟ من الله لا يأتي العلم بمداد ولا بصحيفة ولا بالتتلمذ ولا بأي شيء أكثر مما يأتي بالإستعانه بالرب عز وجل فمن أخلص لله النية واستعان بربه على الوجه الأتم علمه الله جل وعلا وساق إليه العلم ماء زُلالا ومن والعياذ بالله ساءت نيته أو اعتمد على قلم ومحبرة وصحيفة ومداداٍ وزيدٍ وعمرٍ وشريط وشيخ اعتماداً كلياً واغفل جانب الاعتماد على الله لم ينل من العلم إلا بقدر ما يريده الله جلا وعلا فمن قرة عينه بالله قرة به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات أعاذنا الله و إياكم من ذلك .(23/35)
" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " اختلف في معنى الكرسي فقيل أنه العرش وهذا بعيد وهو قول الحسن البصري , وقيل أنه موضع القدمين للرب عز وجل وهذا فيه حديث صححه بعض العلماء , وقيل أن الكرسي معناه العلم معنى الكرسي أي العلم وسع كرسيه السموات والأرض يصبح معنى الآية وسع علمه السموات والأرض وهذا المشهور عن ابن عباس واختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله في تفسيره , وبعض العلماء يقولون أن الكرسي شيء ولا يقتحم لجج معرفة معنى الكرسي , الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان تجاوز الآية والعلامة ابن السعدي لم يعرج عليها تعريجاً يبين فيه معنى الكرسي , وابن جرير كما قلت اختار طريق ابن عباس انه العلم , وبعض العلماء كابن كثير وغير مال إلى تصحيح الحديث وقال أن الكرسي موضع القدمين للرب عز وجل وقال بعض العلماء منسوب إلى أبو هريرة أنه موضع أمام الرب عز وجل وقيل غير ذلك وهذا مجمل ما تبناه أهل السنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم .
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " الذي نريد أن نبينه أن الكرسي شيء عظيم وعظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق وهذا هو الأمر المهم عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق .
تأمل في نبات الأرض وانضر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على ورق هو الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ " أي لا يعجزه ولا يثقل عليه حفظهما .
" الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " العلي العظيم اسمان من أسماء الله الحسنى , الله جلا وعلا علي في ذاته وعلي في مكانه وعلي بقهره لسائر خلقه وله العلو من الوجوه جميعها بالجر توكيد الوجود .(23/36)
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " هذه آية الكرسي على وجه الإجمال وهي من أعظم آيات كتاب الله كما صح الخبر وبينا عن الرسول صلى الله علية وسلم , لا أظن مسلم يخلوا من انه يحفظها , تحفظ للأبناء للأمهات الكبار التي لا يقرأن ولا يكتبن ينبهن على أنها تقرأ كل دبر صلاه حتى ندخل في قوله صلى الله علية وسلم: " من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاه لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " جاء في الصحيح عن أحاديث أبي هريرة عند البخاري وغيره " أنها حفظاً وحرزاً من الشيطان" يقرأها المؤمن صباحاً ومساءً غدواً ورواحاً فهي من أعظم آيات كتاب الله المبين .
ثم قال سبحانه : " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " .(23/37)
العقائد والشيء القلبي لا يأتي بالقوة أنت الآن تريد أن تجبر إنسان على أن يأكل تستطيع من خلال الضرب أن يأكل أو تريد أن تسقيه شيء لا يريد أن يشربه , بالعقاب تستطيع أن تجعله يشرب لكن الشيء القلبي لا يمكن أن يأتي بالإكراه لأنك لا تدري هل وقع في قلبه أو لم يقع , مثل معلم يأتي بعصا يجبر طلابه أن يحبوه حتى لو قال أحد الطلاب: أنا أحبك لا يستطيع أن يتبين هذا لأن هذا شيء قلبي فلا يمكن الإكراه في المسألة القلبية حتى لو أن الإنسان يتظاهر أمامك أنه يفعلها قد لا يفعلها فالله يقول" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " , العقائد ما تأتي بالإكراه ومن معنى الآية كذلك أن دين الإسلام دين فطره لا يحتاج أن يُكره الناس عليه , وما يحصل في بغداد أعظم شاهد كانت بغداد تحت رهينة الحكم البعثي وعقائدهم الكافرة , ثم جاء الأمريكان وهم أسوأ حالاً بعقائدهم الضالة وتجبرهم على المسلمين فلما لم يستطع أهل بغداد أن يتكلموا أمام حاكمهم الأول جاء هؤلاء المغفلون وأعطوهم الحرية , خرج الناس بعد صلاة الجمعة يطلبون الإسلام وهذا الذي لا إكراه فيه والفطر لا تريد إلا الإسلام , وكم من بلد عربي مقهور تحت سلطانه يمنع فيه كثيراً من الطاعات لو قُدر لشعوبه أن تتكلم لطالبوا بالإسلام , فالإسلام دين الفطرة ولذلك موسى وإخوانه من النبيين عليهم السلام كانوا يقولون لفرعون وأمثاله نحن لا نريدك أن تسلم ولكن خلي بيننا وبين الناس نحن إذا دعونا الناس واثقون أنهم سيدخلون في الإسلام , موسى عليه السلام يقول في سورة الدخان " أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ " ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يحارب أبو جهل وأمثاله لأنهم كفار وحتى اليهود كانوا هنا كفار لكن حاربهم لأنهم كانوا يمنعونه أن يبلغ رسالة ربه وإلا لو حال هؤلاء الطغاة المعاندون في كل زمان ومكان مهما تلبسوا لو حاولوا وتركوا أن يكون حائلاً بين الدعاة و بين لناس(23/38)
لآمن الناس وقبل الناس دين الله جلا وعلا ولكن الطغاة والمعاندون والكفرة والظلمة وعلى اختلاف منازلهم في كل عصر يحولون بين العلماء والدعاة وبين عباد الله فتصبح الدعوة مخنوقة فلا يهتدي الناس لأن فيه حائل بينه وبين الدعوة , وبلادنا مثلاً أمثل شاهد على النقيض لما لم يوجد منع للدعوة كما في هذا الدرس مثلاً يأتي الناس طواعية وكراهيةً , لماذا لا توجد مثلاً في تونس وغيرها من الدول العربية لا لأننا أحسن منهم لكن لأن الناس حيل بينهم وبين دعوة ربهم جل وعلا وإلا لو تُرك الناس على حالهم لما ابتغوا غير صراط الله والله يقول " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " , الرشد الإيمان , والغي هو الكفر والباطل , وقال بعض العلماء كما نُقل عن الشعبي أن تفسير الآية مخصوص بالنصارى واليهود أهل الكتاب والمعنى أنهم لا يكرهون على الدين إذا دفعوا الجزية لكن الأول اشمل واظهر والله تعالى أعلم ثم قال سبحانه" قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ " العروة الوثقى قيل معناها لا إله إلا الله وقيل الإسلام ولا تعارض بينهما , الطاغوت كل ضال يدعو إلى غير دين الله كل ما عُبد برضاه من غير الله .
والإيمان بالله واضح فمن كفر بالطاغوت وآمن بالله يخبر الله أنه استمسك بالعروة الوثقى المؤدية إلى جنات النعيم التي هي مطلب كل مؤمن ,(23/39)
ثم قال الله بعد ذلك : " لاَ انفِصَامَ لَهَا " يا أُخي فيه فصم وفيه قصم , الفرق بين الفصم والقصم كلاهما يعني النزع ولكن الفرق يمثل بشيء محسوس لو أخرجنا هذه الحديدة بالكلية من هذا فهذا يسمى قصم لأنها بانت بالكلية لكن لو أخرجناها وبقي شيء يسير منها معلق بالأصل يسمى انفصام فالشيء إذا بان عن أصله لكنه بقي متعلقاً بخيط ولو رفيع بالأول يسمى انفصام فإذا قضمته بالكلية وصار بينونة منتهية يسمى فصم فالله يقول إن الذي يفعل هذا استمسك بالعروة الوثقى دون انفصام فإذا نفي الانفصام من باب أولى أن ينفى القصم بالكلية .
" َقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " سميع بالأقوال عليم بالأفعال .
ثم قال سبحانه" اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
قبل إن نشرح الآية وعظياً نشرحها بلاغياً يوجد في اللغة إفراد وجمع غالب استعمال القرآن إذا وجدَ مفرد مقابل جمع فإن الله يوازن بين فاضل و مفضول أو بين حق وباطل وتأمل القرآن , الله سبحانه يقول " الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ _جمعها _ وَالنُّورَ " _ أفردها _ وقال في النحل " أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ _أفرد اليمين _ وَالْشَّمَآئِلِ _جمعها _ سُجَّداً لِلّهِ " جمع الشمائل لأن اليمين أفضل من الشمال .(23/40)
هنا قال " يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ "_ جمع الظلمات وأفرد النور _ وقال سبحانه " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي _مفرد_ مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُل _جمع سبيل_ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ " دائم الحق واحد والكفر أجناس متعددة يجمعها الباطل فالله يقول في هذه الآية : " اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " الله يا أخي يجيب من سأله ويعطي من طلبه ويأوي من التجأ إليه ومن حسن الظن بالله أن تعلم أن الله لا يضيع من لجأ إليه , الإكثار من صلاة الليل والدعاء في ثلث الليل الآخر والتضرع بين يدي رب العالمين والتماس رحمة الله تبارك وتعالى مع عدم اليأس والقنوط والإلحاح على الله تعالى من أعظم ما ينال به الإنسان خيري الدنيا والآخرة فإن جعلت الله وليك بحق تولاك الله تبارك وتعالى ومن تولاه الله لا يضيع وأنت حينما تردد مع أئمتك أو مع نفسك قول المؤمنين في دعائهم " اللهم إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت "رددها وأنت تفقه معناها ولا يعجبك آخر التاءات والسجع وتنشغل به أو بلحن الكلام إنما انشغل بمعنى الكلام اللهم لا يعز من عاديت من عادى الله لا يمكن أن تكتب له العزة مهما بلغ ومن تولى الله فإنه عزيز ولو أراد أن يذله الناس, اللهم لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت قلها في وترك في سجودك في أدبار الصلوات وأنت موقن بها والتمس من الله الرحمة والغفران أن يكون الله وليك فإن كان الله وليك فاعلم أنه لا يقدر على غلبتك أحد وليس غلبتك أن تظهر منتصرا على أقرانك ولكن العبرة بالمآل العبرة بالعاقبة العبرة بالوقوف بين يدي الله تعالى العبرة أن لا تعض يديك يوم القيامة يقول الله في(23/41)
سورة الفرقان : " وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً " زوال الحسرة يوم القيامة من أعظم المكاسب وأعظم المفاوز وأعظم الهبات وأعظم العطايا وهذه لا يعطاها إلا من تولاه الله تعالى " يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ " يكون الإنسان حيران مبهم مدلج عليه الأمر فإذا لجأ إلى الله أنار الله له الطريق وأظهر الله له السبيل وأنت لا تعلم الغيب وقد يختار لك الله شيئاً لا تريده ولكنه يظهر لك بعد مرور الأيام وتوالي الأعوام أن ما اختاره الله لك خيرا مما اخترته لنفسك .
قال الله جلا وعلا بعدها : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء وإليه تنسب الملة قال الله جلا وعلا :
" مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ " فيه لفته قبل أن نذكر المحاجه , كلمة حنيف في اللغة معناها الميل والإنسان الأعرج يقال له أحنف فكيف يوسم الدين بأنه مائل وكيف يوسم رجلاً كإبراهيم بأنه يميل والجواب عن هذا أن الرسل عليهم السلام بُعثوا والناس معوجون عن الطريق أي مائلون عن الحق فلما جاء إبراهيم أوأي رسول بعده جاء والناس معوجه فلوا سار معهم سيصبح معوج فلم اعوج عنهم أصبح مستقيم .
فحنيف معناها الميل عن الميل إستقامه , فبان من هذا إن مخالفة المعوجين يصبح اعتدال واستقامه هذا معنا الحنيفيه في اللغة .(23/42)
نعود إلى القصة قال العلماء أن هذا الرجل اسمه النمرود بالذال وقيل النمرود بالدال النمرود ابن كنعان ولا يهمنا اسمه والمُؤرخون نقلاً عن مجاهد يقولون أن الذين حكموا الأرض من المشرق إلى المغرب أربعه اثنان مسلمان والآخران كافران فالمؤمنان سليمان بن داود والثاني ذو القرنين والكافران بختنصر والنمرود ابن كنعان , هذا النمرود كان الناس يمرون عليه أيام الجدب يأخذون منه الميره يعني المؤونه فكل ما يمر عليه شخص يسأله من ربك فيقول ذلك الضال أنت فيعطيه المؤونه ويمشي فلما مر عليه إبراهيم قال النمرود لإبراهيم من ربك قال ربي الذي يحي ويميت وإبراهيم يقصد الذي أحيا الناس من إماتتهم ويفنيهم إذا شاء فقال هذا النمرود فرارا من الإجابة أنا أحيي وأميت , وفي رواية أنه جاء باثنين محكوم عليهما بإعدام قال أنت سامحتك , قال هذا أحييته وجاء بشخص ماله ذنب فقتله وقال أمته وإبراهيم ما قصد هذا والنمرود يعرف أن إبراهيم ما قصد هذا لكن توارياً منه فبقي إبراهيم على نفس المجادلة فيأتي بما هو أعظم منها , وقلت من يتولى الله يتولاه , قال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب قال الله فبهت الذي كفر ولم يقل الله فبهت الكافر لو قال فبهت الكافر يصبح مجرد نعت عام للرجل الذي مر ذكره لكن لما قال فبهت الذي كفر بين الله أن خذلانه في الإجابة كان بسبب كفره , ولذلك الإنسان يصلي الفجر في الجماعة فيخرج وهو مستعين ويردد" لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله " جاء في الحديث الصحيح "إذا قال الإنسان لا إله إلا الله يقول الرب عز وجل صدق عبدي لا إلا أنا وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقول الرب عز وجل صدق عبدي لا حول ولا قوة إلا بي " فإذا خرج الإنسان في حياته اليومية وهو يردد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يعقد عليها أصابعه فيأتيه موقف مفاجىء هو نفسه لم يستعد له فيلهم إجابة لو جلس عشرين سنه يستعين(23/43)
بالناس لا يعطاها , و يأتي إنسان لم يصلي الفجر ولم يعرف الله إلا قليلا ولا يذكره . فيأتي في موقف يجيب عنه الطفل الصغير فيبهت ولا يستطيع الإجابة لماذا ؟ لعدم الإستعانة بالله , فهذا الرجل ما بهت لأن إبراهيم أفصح ولكن لأن إبراهيم موحد وهذا كافر قال الله " فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ " والدليل أن الله قال بعدها " وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " من ظلم وجعل لله ندا ولم يجعل لله تبارك وتعالى قدرا ولا معرفه ولا مكانه لا يمكن أن يوفقه الله ويهديه لأن الهداية مردها إلى الأيمان والعمل الصالح .
ثم قال الله تعالى : " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(23/44)
القرية هي بيت المقدس والذي هدمها وخربها بختنصر والذي مر عليها أختلف فيه قيل إنه عزير وهو بعيد والشاهد أن رجلا مر على تلك القرية وقد خربت فلما رءاها قد خربت وسقطت سقوفها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فهم البعض أن مقصود هذا الرجل أن الله يعيد هذه البلاد تعود من جديد هذا بعيد , لأن أي ديار على ما ترى وأنت في سفرك كثير من الديار تمر عليها قد خربت ثم تعود عاديه , وكم من ديار مبنية عاديه ثم تعود خربه كما في بغداد لكن هو لم يقصد القرية كبنيان لكن هو يقصد أهل القرية كيف يحيون بعد أن يموتون أنى يحيي هذه الله بعد موتها , فالله جلا وعلا رحمة به ورحمة بالناس بعده جعله هو آية فأماته الله بعث إليه ملك الموت قبض روحه مكث مئة عام ميت ثم عاد إليه ملك الموت فأحياه ثم سأله ملك الموت كم لبثت قال لبثت يوما فلما رأى الشمس لم تغيب قال لا بل لبثت بعض يوم فأخبره ملك الموت بل لبثت مئة عام ثم أنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه لم يتغير.
لم يتغير هذا يردنا إلى القصة الأولى لما قلنا أحيانًا الله يعطل السبب لأن مرور الأيام سبب في تغيير الطعام والماء ولكن الله أبقاه وعطل السبب وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه .(23/45)
وانظر إلى حمارك لأنه كان ميتا وأحياه الله , ولنجعلك أية للناس وانظر إلى العضام كيف ننشزها وقرئت ننشرها ولا خلاف في المعنى لأن النشر هو الإحياء والإنشاز هو الرفع وانظر إلى العضام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال الكلمة التي يقولها كل مؤمن " أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ولو أن الناس وثقوا بهذه الآية لأراهم الله من عجائب قدرته قالوا أن المنصور أبي عامر أحد الملوك الطوائف في الأندلس كان يعمل حمّاراً يسوق الحمير ومعه اثنين على نفس صنعته قال لهم يوماً ماذا تودون مني لو أصبحت أمير للمؤمنين فأخذوا يسخرون منه قال أنتم تمنوا فقال أحدهم وكان عاقلاً أنا أريد قصور وجواري , قال الثاني أنا أريد أن تحملني على حمار وتجعل وجهي عكس الحمار ويطوّف بي على القرية ويقال إني مجنون , ترك هذه الصنعة والتحق جندياً ثم مازال يترفع حتى صار حاجباً للخليفة يعنى الذي يجلس على الباب مثل قائد الحرس الملكي في عصرنا , وكان لهذه المكان منزلة عظيمة عند الناس قديماً بعد ذلك مات الخليفة وكان له ابناً صغيراً لا يصلح للخلافة أُعطي ولاية العهد فصنع له مجلس وصاية مثل ما يقال في عهدنا ولي العهد من عدة مجموعة الوزير والأمير والحاجب منهم المنصور بن أبي عامر , مع الأيام بقدرته وشطارته وبإرادة الله تغلب على الجميع فأصبح هو الأمير قال ائتوني برفيقي فوجدوهما في نفس المكان فأتى بهم فقال الأول ماذا قلت قال قلت قصور وجواري قال أعطوه قصور وجواري قال لثاني ماذا قلت قال أعفني يا أمير المؤمنين أنا نسيت فألح عليه فقال فأمر أن يوضع على حمار ويطوف به على البلاد , تشفع الناس وقالوا أنت حقق الله أمنيتك ماذا تستفيد أن يحمل هذا على حمار مخلوف قال لشيء واحد حتى يعلم أن الله على كل شيء قدير.(23/46)
فا أعلم يا أخي أن الله على كل شيء قدير هؤلاء الذين ترونهم الأمريكيون في ارض بغداد وغيرها نعم ظاهرهم الطغيان وهم ما جاؤوا إلا ليفسدوا في الأرض لا يمكن أن يبيت بوش وأقرانه خيراً لأمة محمد لكن هذا الذي يريدونه هم والذي يريده الله بهذه الأمة من خير عظيم والله ثم والله ثم والله لا يمكن أن يرده بوش ولا غيره قال الله عز وجل في سورة الطور : " أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ " فنصر الله قادم شاؤا أم أبوا رضوا أم غضبوا كيف سيكون لا نعلمه لكن الذي نعلمه يقيناً أنه سيكون كيف سيكون لا نعلمه ؟ متى لا نعلمه ؟ وأرجوا الله أن يكون قريباً لكن ثقوا أنه كم من محنه في طياتها منحة وعطية من الله والأمور كلما ضاقت دل ذلك على أول الفرج .
قال شاعر مسلم :.
وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفاً خزائنه بعد الخلاص من السجن
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين .(23/47)
تأملات في سورة [ الأعراف ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون فهذا هو اللقاء الأول في هذا المسجد المبارك ، حول تفسير كلام ربنا جل وعلا و قبل أن نشرع فيما نود تفسيره نبين أمورا بأن هذه التفسيرات أشبه بالتأملات والتعليقات على كتاب رب العالمين جل جلاله ، والمقصود الأسمى منها الناحية العلمية وتبقى الناحية الوعظية فيها تبعا للناحية العلمية ، فالمخاطب بهذا الدرس طلبة العلم في المقام الأول ولهذا فإن التفصيل في بعض القضايا أمر ملح ، فليس المقصود الوعظ المحض وإنما المقصود إيجاد جيل علمي يفقه كلام الرب تبارك وتعالى ومتى وجد هذا الجيل تبوء الصدارة في الأمة ونفع الناس لأنه لا يعقل أن يتصدر إنسان لتعليم الناس وهو يجهل ما جاء في الكتاب العظيم من آيات بينات وعظات بالغات يهذب الله بها خلقه ويرشد الله جل وعلا بها عباده ولقد قال الله جل وعلا في كتابه " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكِر " قال العلماء في تفسيرها : إن من تفسيرها أن علم التفسير علم يعان عليه صاحبه . وهو أجل العلوم وقد بينا هذا كثيرا في دروس سابقة نشرت وإنما أجدد التذكير بها ، على أننا ونحن نفسر سنقف عند آيات معينة نختارها من السورة التي نفسرها وربما تستغرق السورة الواحدة عدة دروس وربما تستغرق السورة درسا واحدا بحسب ما فيها والله جل وعلا ذكر أن كتابه مثاني أي يثني .. يذكر .. يفصل ما كان فيه إجمالا ويبين ما كان فيه مبهما ، ويبسط الله جل وعلا الحديث عن موضوع ، ثم يقوله باختصار في سورة أخرى وهكذا ... فعلى هذا سنقف عندما نرى أن(24/1)
الوقوف عنده ملزم ، وما كان غير مكرر في القرآن فهذا يجب الوقوف عنده فمثلا : في سورة يوسف لم تتكرر قصة يوسف إلا في سورة واحدة فلا ينبغي تجاوزها إذا وصلنا إلى السورة بخلاف غيرها كقصة موسى مثلا : وردت في عدة سور من القرآن الكريم .
هذه مقدمة يظهر من الواجب التذكير بها ، أما السورة التي سنبدأ بها هذه الدروس سورة الأعراف .
ونبدأ بسورة الأعراف لأننا انتهينا في المدينة إلى سورة الأنعام ، فنستهل هنا سورة الأعراف وإن كنت قد بدأت في المدينة قبل أسبوع تفسير الجزء السابع والعشرين وأنهيناه ، والآن نبدأ بسورة الأعراف في هذا المسجد المبارك ونمضي بها إلى ما شاء الله تبارك وتعالى .
وقبل أن نشرع في اختيار الآيات من السورة يجب أن تعلم أنه حتى تفقه القرآن تبدأ به بنظرة كلية ثم تصغر هذه النظرة حتى تصل إلى الزبدة التي تريدها ، وسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية إلا بضع آيات منها وهي قول الله تبارك وتعالى:" واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر .." فهذه القصة ذكر أنها نزلت في المدينة ، أما السورة إجمالا فهي سورة مكية ، والقرآن المكي له خصائص تختلف عن القرآن المدني لأن القرآن المكي يهتم بقضايا ثلاث :
1ـ إثبات التوحيد والربوبية والألوهية لله .
2ـ ذكر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
3ـ البعث والنشور وأهوال اليوم الآخر .(24/2)
هذه هي قضايا القرآن المكي على وجه الإجمال ويندرج فيها قضايا : كتذكير الله بنعمه على خلقه وهذا يندرج في إثبات التوحيد ، أما القرآن المدني : فإن أكثره تشريع وأحكام وفقهيات كما في البقرة وآل عمران وحديث عن السير والغزوات التي كانت في أيامه صلوات الله وسلامه عليه في المدينة ، وقد بينا في دروس سابقة أن القرآن المكي والقرآن المدينة أو السور المكية أو السور المدينة ، أو بتعبير أقل اختصارا الآيات المكية والآيات المدينة ، في تسميتها هذه خلاف طويل بين العلماء لكن المقصود بالمكي : ما نزل قبل الهجرة .
والمقصود بالمدني ما نزل بعد الهجرة ،هذا أرجح الأقوال على هذا قلنا مرارا إن قول الله جل وعلا :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " آية مدنية رغم أنها نزلت في جوف الكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم آخذ بعضدتي باب الكعبة أنزل الله جل وعلا قوله :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " فخرج إلى الناس ونادى عن بني شيبة وأعطاهم مفتاح الكعبة تنفيذا للآيةفالآية نزلت في مكه بل في الكعبه لكنها تسمى آية مدنية لأنها نزلت بعد الهجرة ، فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية وهي من أطول سور القرآن المكي وعدد آياتها مائتان وست آيات .
قلنا : إنها جملة مكية إلا بضع آيات منها ، هذه السورة بدأها الله جل وعلا في إثبات صدق هذا الكتاب وما فيه من خير عظيم وختمها بقوله تبارك وتعالى :" إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " وختمها بآية سجدة وبحسب ترتيب المصحف هذه الآية ـ آية السجدة في الأعراف ـ جاءت آخر آية في السورة لكنها من حيث ترتيب المصحف هي أول سجدة في القرآن .
وما بين فاتحة السورة ومابين خاتمتها تضمنت السورة جملة من القضايا منها :(24/3)
خلق آدم عليه السلام،أبو البشر وما ذكر الله ـ جل وعلاـ فيها من قصته مع إبليس،ثم بعد ذلك خاطب الله ـ جل وعلا ـ بني آدم بصفة أن آدم أبوهم ، خاطبهم - جل وعلا- وناداهم بأربع نداءات :
1ـ " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا .."
2ـ " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة .."
3ـ " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد .."
4ـ " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي .." إلى آخر الآية .(24/4)
وذكرهم الله - جل وعلا- بأربع نداءات ، ثم إنه - جل وعلا- فصل ما أجمله في الأنعام لكن هنا التفصيل ليس بترتيب النزول ، أنا أتكلم عن ترتيب المصحف و إلا الأعراف سورة مكية والأنعام سورة مدنية ، فعلى هذا سورة الأعراف جاء فيها ما أجمله الله في الأنعام ، الله في الأنعام ذكر الرسل جملة :" وتلك حجتنا آتيناه إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين " هؤلاء ذكرهم الله جملة ثم جاء في الأعراف بحسب ترتيب المصحف بدأ يفصل فلم يذكر في الأنعام قصة نوح ولا موسى ولا غيرهما ، ثم بدأ يفصل بدأ بالأعراف ففصل فيها قصة نوح وقصة هود إلى عاد وقصة صالح إلى ثمود وقصة لوط إلى أهل سدوم وقصة شعيب إلى أهل مدين وقصة موسى إلى فرعون وبني إسرائيل ، فهؤلاء ستة من الأنبياء ذكر الله - جل وعلا- خبرهم تفصيلا فيصبح ترتيب المصحف أنه أجمل في سورة الأنعام ، وفصل في سورة الأعراف ، ثم ذكر الله - جل وعلا- في السورة بعضا من آياته الدالة على عظيم خلقه وأعاد فيها أن أحدا لا يملك نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، تأكيدا للتوحيد ، هذا كله عن سورة الأعراف جملة ، بعد هذا التصور الكامل عن السورة ننتقل إلى اختيار بعض الآيات المتعلقة بتفسيرها
قال الله جل وعلا : بسم الله الرحمن الرحيم :" المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين "(24/5)
هذا أول السورة وأنا لا أبدأ تفسيرا قبل أن أفسر أول آية في السورة نفسها لأنها مفتاح ، قد نتجاوز بعض الآيات نعم ، لكن أول آية في السورة لا بد من تفسيرها لأنها مدخل ( المص ) هذه من الحروف المقطعة وقد مرت معنا في دروس سابقة وأنا أتكلم إجمالا باعتبار التدريس العام ، مرت بأنها من الذي اختص الله بعلمه هذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر .
" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين "
معنى الآية : هذا كتاب وحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه على قول الكسائي ومن تبعه ، والمعنى أن هذا الكتاب المقصود به : القرآن ، وقد نُكٍّرت هنا ( كتاب ) لدلالة التعظيم ، أي أن هذا الكتاب أعظم من أن يعرف ، فإذا عرف في آية أخرى فباعتبار علانيته واشتهاره ،(24/6)
" كتاب أنزل إليك " المخاطب في المقام الأول هنا النبي صلى الله عليه وسلم :" فلا يكن في صدرك حرج منه " فسر ( الحرج ) بأحد تفسيرين: 1/ فسر بالشك ، فيصبح معنى الآية هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه . وإذا قلنا بهذا التفسير يصبح هذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى :" فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك .." لكن اختار جمهور العلماء على أن المراد بالحرج هنا الضيق ، فيصبح معنى الآية فلا يكن في صدرك ضيق منه ، هذا الضيق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جبل على ضيقة الصدرهذا محال ، لأن الله هيئه صلى الله عليه وسلم لأن يختم الله به النبوات ويتم به الرسالات ، وليس في القرآن أصلا ما يدعوا للضيق في المؤمنين ، إذا أين ينجم الضيق ؟ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل لا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله فالعرب أفصح البلغاء وأبلغ الفصحاء ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، أين ينجم الضيق؟ ينجم الضيق مثالا: كالطالب الذي عندك تعلمه فأنت لا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، المسألة الواضحة التي بينة ظاهرة لا تحتاج إلى علم فيأتي إنسان لا يفقها يصيبك ضيق أو حرج في صدرك ، فالضيق الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة ومع ذلك لم يؤمنوا به ونجم عن هذا ضيق في صدره فالله يقول له : فليكن صدرك منشرحا بهذا القرآن لأنه أجل كتاب وأعظم منزل به الهداية والرحمة لكل أحد ، أراد أن ينتفع به وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك،" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه " ثم ذكر العلة من إنزاله " لتنذر به " فاللاام هنا :لام التعليل ولهذا جاء الفعل بعدها منصوبا:" لتنذر به وذكرى للمؤمنين " لم يقل الله هنا تنذر به من ؟ أي(24/7)
لم يقل الله من المنذَر في القرآن لكن لما ذكر الذكرى قال :" وذكرى للمؤمنين " إذا من المنذر بالقرآن ؟ أعظم قواعد العلم :أن القرآن يفسر بالقرآن ، والله يقول :" فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا " المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم " لتنذر به قوما لدّا " أي لتنذر به الكافرين، وذكرى للمؤمنين ، والإنذار في اللغة : هو الإعلام المقرون بالتهديد، على هذا تنجم قاعدة أن كل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار، فإن قال قائل : إن الله قال في آية أخرى أنه يُنذر بالقرآن المؤمنين ، قال الله جل وعلا :" إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم " فيجاب عن هذا بأن الإنذار على قسمين :
1/ إنذار عام 2/ إنذار انتفاع .
الإنذار العام ينصرف إلى الكفار، أما إنذار الانتفاع ينصرف إلى المؤمنين " لتنذر به وذكرى للمؤمنين " هذه هي الآية الأولى .
ثم قال الله جل وعلا :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين " فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يسألان يوم القيامة :
1/ المُرسَلون 2/ المُرسَل إليهم .(24/8)
لكن الله لم يقلهنا ماذا يسأل هؤلاء ولا ماذا يسأل أولئك ؟ فأين قال الله ماذا يسأل المرسلون ، وماذا يسأل من أرسل إليهم ؟ هنا الله يقول :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين " لكنه لم يقل ماذا يسألون ؟ أما الجواب : فإن الله قال عن الأول :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم " قال عنها في سورة القصص :"ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين" فيكون السؤال للأمم ماذا أجبتم المرسلين؟وهو من تفسير القرآن بالقرآن.هذا حل الإشكال الأول:"فلنسئلن الذين أرسل إليهم" بقي حل الإشكال الثاني قال الله : " ولنسئلن المرسلين " ماذا يسأل المرسلين ؟ قال الله في سورة المائدة :" يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " فالإشكال ( الإجمال ) الذي وقع في الأعراف فصل في موضعين : 1ـ فصل في القصص . 2ـ وفصل في المائدة . وهذا من تفسير القرآن بالقرآن " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم .." الله جل وعلا حكم عدل يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها قط ، وليس في تلك الأرض معلم لأحد ، الآن تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلقى به في مكان ما فتجعل له أمارة مستشفى إشارة علامة دار مبنى محل تجاري بينك وبينه تذهب إليه هذا المكان المعلم هو سبب التقائكما ، يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد ليس فيها شئ بارز تجتمع عنده الناس، والناس يحشرون حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شئ ، إذا كان في الدنيا فيه ملك صوري تملكه بيديك ثيابك دابتك سيارتك ، في يوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئا الله يقول في القرآن :" يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " وقال في سورة أخرى :" كأنهم جراد منتشر " ولا يستقيم الجراد مع الفراش لأن الجراد منتظم والفراش يموج بعضه في بعض ، والجمع بين الآيتين أن الناس عندما يخرجون ، يخرجون أول الأمر(24/9)
كالفراش لا يعرفون أين يذهبون ، فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي قال الله :" يومئذ يتبعون الداعي " انتظموا خلف إسرافيل فأصبحوا انتقلوا من حالة الفراش إلى حاله الجراد،هذا كله يكون يوم القيامة،يوم القيامة له أهوال عظيمة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :لابن عباس : ومع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع .
مما يكون يوم القيامة الميزان ، وأهل السنة يقولون سلك الله بنا وبكم سبيلهم يقولون أنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان ، والله جل وعلا يقول :" ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " والله يقول هنا :" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه " والقصد بكلمة الحق : أن لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق ، ميزان حق يكفي أن الله جل وعلا قائم عليه وهوتبارك وتعالى أعدل الحاكمين ، وأحكم العادلين . على هذا اختلف العلماء ما الذي يوزن ؟ مع اتفاقهم جملة أهل السنة على أنه يوجد ميزان له كفتان لكن ما الذي يوزن على أقوال أشهرها :
1ـ أن الذي يوزن العمل نفسه .والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم :" الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان " وموضع الشاهد أنه قال أن:" الحمد لله تملأ الميزان " وهذا معناه أن العمل نفسه يوزن وقال صلى الله عليه وسلم :" اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غايتان أو فرقان من طير صواف تحاج على أصحابها " فهذا من أدلة من قال أن الذي يوزن هو العمل .(24/10)
2ـ وقال آخرون أن الذي يوزن صحائف العمل وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح :" إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له ربه أتنكر مما رأيت شيئا فيقول لا يا رب ، فيقول الله جل وعلا له :أظلمك كتبتي الحافظون فيقول :لا يا رب ،فيقول الله :إن لك عندنا بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله،فيقول: يا رب وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات ، فتوضع البطاقة في كفه والسجلات في كفه ،قال صلى الله عليه وسلم :" فطاشت السجلات ورجحت البطاقة " وفي زيادة عند الترمذي :" ولا يثقل مع اسم الله شئ " فهذه أدلة من قال أن الذي يوزن صحائف العمل .
3ـ القول الثالث : أنه يوزن صاحب العمل ، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :" يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة ( والمقصود الكافر) فلا يزن عند الله جناح بعوضة ثم قرأ عليه الصلاة والسلام :" فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " هذه أحد أدلة من قال أن الذي يوزن صاحب العمل واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رِجل عبد الله ابن مسعود ، قال صلى الله عليه وسلم :" أتعجبون من دقة ساقيه فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد " أي رجلا ابن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد ، هذه أدلة من قال أن الذي يوزن صاحب العمل .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله جمعا بين الأدلة قال : لا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة ،والأظهر والله تعالى أعلم أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعا بين الأحاديث وجمعا بين الآثار وهذا هو الذي تستقيم به الحجة وتستقيم به الآيات والله تعالى أعلم .(24/11)
" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون" والذي يعنينا هنا كخطاب قرآني أن يعني الإنسان بأعماله الصالحة وأن يسعى فيما يثقل به الميزان ومن أعظم ما يثقل به الميزان حسن الخلق ، الذي تتعامل به مع الناس، قال عليه الصلاة والسلام :" الدين معاملة " ولم يكن صلوات الله عليه وسلامه عليه فظا وغليظا في خطابه وليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين ، ولكن الدين جملة معاملة مع إخوانك المؤمنين ، مع والديك مع أبنائك .. مع زوجاتك .. مع جيرانك .. مع عامة المسلين تحب لهم ما تحب لنفسك .. تؤثرهم على نفسك .. تقبل اعتذارهم وتقبل عثراتهم .. وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه وما أمر به رسولهم صلى الله عليه وسلم كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، أي أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان أو مساكن معينة كالمساجد وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان ، وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا ، نكون بها إن شاء الله عباد الله إخوانا كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال الله جل وعلا كذلك في هذه الآيات :" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين "(24/12)
هذه تكلمنا عنها في تفسر سورة البقرة وأنا أتكلم إجمالا ، خلق الله جل وعلا أبينا آدم من قبضة قبضت من الأرض، وورد أن الله بعث ملكا يقبض هذه القبضة ، فلما جاء الملك ليقبضها ، قالت له الأرض : أعوذ بالله منك ، فرجع الملك إلى ربه ،فقال له ربه: ما صنعت وهو أعلم ، قال يا رب : استجارت بك فأجرتها ، فبعث الله ملكا آخر وهو أعلم فلما جاء ليقبض قبضة من الأرض، قالت الأرض : أعوذ بالله منك ، فرجع إلى ربه، فسأله ربه كما سئل الأول فأجاب كما أجاب الأول ،فبعث الله ملكا آخر،وهذا الفرق في العلم ،فلما جاء ليقبض من الأرض قبضة، قالت له الأرض : أعوذ بالله منك كما قالت لأخويه، فقال لها الملك: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره لأن الله أمرني أن أقبض قبضة ، فقبض قبضة من الأرض مجتمعة مختلطة فلذلك تفاوت طبائع الناس فحملها إلى الله تبارك وتعالى، من هذه القبضة الترابية خلق أبانا آدم لكن هذه القبضة الترابية مزجت مع ماء فأصبحت طين ثم تركت مدة فأصبحت صلصال ( فخار ) وكلها ذكرها الله جل وعلا في القرآن ، قال :" خلقناكم من تراب " وقال :" خلقناكم من طين " وقال : "من صلصال كالفخار " فذكر الله في القرآن المراحل الثلاثة التي مر بها خلق أبينا آدم ،ثم أكرم الله جل وعلا آدم بأن نفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شئ كما هو نص القرآن وقد بينا هذا مفصل في موضعه ثم قال جل وعلا هنا :" ولقد خلقناكم ثم صورناكم " لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة فأين أثبت الله حسن خلق آدم ؟ في سورة التين " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "(24/13)
ولهذا قال بعض الفقهاء لو أن رجلا قال لامرأته أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر، أنها لا تطلق ولو كانت من أقبح الناس وجها لأن لله يقول " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ثم وقع من أبينا المعصية بالأكل من الشجرة ، وأهبط إلى الأرض، فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية إلى بني آدم فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات :
قال في الأولى " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير " ، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان ، واللباس هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة ، والرِّيَش : هو اللباس الزائد عن الضروري الذي يجمل به الإنسان " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم " أي عوراتكم ، وسميت العورة سوءة لأن العاقل يسوءه أن تظهر عورته للناس ، فالله يقول في باب الامتنان على عباده " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا " لباسا ضروريا ولباسا زائدا تتزينون به ، فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال الله جل وعلا " ولباس التقوى ذلك خير " أي خير من كل شئ خير من كل الباس ، "ولباس التقوى " أن يكون الإنسان مكتسيا بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه ، يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه يجتنب نواهيه ويأتي أوامره ، هذا هو المؤمن حقا الذي ارتدى خير لباس ،
إن الجمال معادن ومناقب ليس الجمال بمئزرٍ
فاعلم إن رُديت بُردا إن الجمال معادن ومناقب أورثنا حمدا
فاللباس الحسي يبلي يبيد ولا ينفعك في الآخرة ، تستر به عورتك في الدنيا، أما لباس التقوى هو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة.(24/14)
وقال الله :" يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم .." سنتكلم كلام علمي وكلام وعظي حول هذه الآية " يا بني آدم " هذا خطاب ويسمى نداء علامة ويسمى نداء كرامة إذا قال الله :" يا أيها الذين آمنوا " وإذا قال :" يا أيها الناس " أو " يا بني آدم " هذا نداء علامة لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر ، وإنما عُلِّموا بنسبتهم إلى أبيهم " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " وهو العدو الأول " كما أخرج أبويكم من الجنة " الأبوان هنا آدم وحواء وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب وقد قلنا في دروس عدة مكررة أن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني تُغلب ، لكن معيار التغليب تختلف من مثنى إلى مثنى فقالوا في الأبوين الأبوان ، غلبوا الرجل على المرأة لأن الذكر أفضل من الأنثى ،وقالوا في المدينة ومكة المكتان ، لأن مكة أفضل عند الجمهور من المدينة وقالوا في الحسن والحسين الحسنان ، لأن الحسن أكبر ، وقالوا في الشمس والقمر القمران القمر مذكر والشمس مؤنث
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
فلو كل النساء كمن فقدن لفضلت النساء على الرجال(24/15)
لأن القمر مذكر قالوا القمر ، فهنا قول الله جل وعلا :" لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليرهما سوءاتهما " لما ذاقا من الشجرة حصل أن بدأت السوءتان لآدم وحواء فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم ،من هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس فأول طريق للمعاصي نزع الحياء من قلب المؤمن ، فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته لجأ إلى أول قضية أن يريهما عورتهما فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر واستمرأ النظر إليها تصبح النفس والعياذ بالله هين لين عليها ما ترى فتسمر أ كل الفواحش فتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم ،ولهذا تعلم أن ما صنعه الشيطان قديما يضعه شياطين الإنس حديثا فأكثر ما يسعى إليه القائمون على القنوات الفاجرة أن يبثوا أشياء تكشف من خلالها العورات حتى تعتاد الأسرة المسلمة أبا وأما وأحفادا وأبناء أن ينظروا إلى تلك العورات وأن يصبح أمرا بدهيا مستساغا لدى الأسرة ككل ، أن تنظر إلى الفواحش والإغراءات وما يكون من اتصالات محرمة وكشف العورات إما عن سبيل رقص أو سبيل غناء أو سبيل تمثيل أو غير ذلك فتصبح الأسرة والعياذ بالله بعد ذلك أي معصية تهون وتسهل على الجميع ويصبح أمر الله جل وعلا عياذا بالله هينا لينا على تلك القلوب فمن أراد الله جل وعلا أن يعصمه أول ما يعظم فيه مسألة الحياء في قلبه والإنسان إذا جبل على الحياء يقول عليه الصلاة والسلام :" الحياء لا يأتي إلا بخير " والإنسان قد ترى أنت بعض الناس على مسألة تستغرب كيف يصنعها والفرق بينك وبينه ليس العلم ، فهو يعلم وأنت تعلم لكن الفرق بينك وبينه أن مسألة الحياء شجرة نابتة في قلبك والحياء في قلبه غير موجود ،لما ذهب الحياء من نفسه من قلبه سهل عليه أن يأتي المعاصي قال صلى الله عليه وسلم :" كل أمتي معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم يستره ربه على معصية فإذا أصبح قال يا فلان ، أما علمت أن البارحة فعلت(24/16)
كذا وكذا، يقول صلى الله عليه وسلم يمسي يستره الله ويصبح يكشف سترالله عنه " نعوذ بالله من فجأة نقمته وزوال نعمته ، وهذا الذي يصل هذه المرحلة طبع على قلبه تماما كمن يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق فيقع في المعاصي والفجور وبنات الزنى وأشباه ذلك ثم والعياذ بالله مع أن الله قد ستر عليه يصور نفسه ثم يأتي بتلك الصورويجمع أقرانه وخلطائه وأثاله ليعرض عليهم تلك الصور و ويريهم إياها ، هذا قد يصل إلى حد الكفر لأن في الغالب لا يصنع امرؤ مثل هذا إلا وهو يستحل ما حرم الله ، وإن كنا لا نكفر أحدا بعينه ، لكن نقول : إن هذا من أعظم الدلائل على ذهاب الخشية من القلب واستيلاء الشيطان على تلك القلوب يقول صلى الله عليه وسلم :" من ابتلي من هذه القاذورات في شئ فليستتر بستر الله عليه " والمؤمن يسأل الله دائما الستر والعافية ومحو الذنوب في الدنيا والآخرة ، لكن المقصود من الآية أن نبين أن من أعظم طرائق إبليس لإغواء الناس أن ينزع عنهم لباسهما كما قال الله :" ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " فالله كتب أن الإنس لا ترى الجن ، والجن ترى الإنس ، وقد قلنا في دروس سابقة أن العرب تسمي الجن خمسة أسماء أو ست . يسمون الجن العادي : جني فإذا كان مما يسكن البيوت يسمونه عمار وإذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونها أرواح فإذا كان فيه شئ من التمرد يسمونه شيطان فإذا ازدادت تمرده يسمونه عفريت (ذكر هذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى )(24/17)
" إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " يستنبط من هذه الآية أن عقد الولاية ما بين الإنس والشيطان قائم على عدم الإيمان لأن الله قال :" أولياء للذين لا يؤمنون " فعدم الإيمان بالله عقد بين الإنسي والشيطان ، ثم قال تبارك وتعالى :" يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءاياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بئاياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " حتى قال الله جل وعلا بعد ذلك بآيات " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها " " كذبوا بآياتنا " أي لم يصدقوا الرسل " واستكبروا عنا " أي لم ينقادوا لها " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة .." الإنسان تخرج روحه من جسده ، بعد أن تكون هذه الروح قد ألفت الجسد فإذا خرجت كانت روح مؤمنة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت روح كافرة أو منافقه أغلقت في وجهها أبواب السماء عياذا بالله ، فالله يقول هنا :" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء " هذا الجزاء الأول وهذا قبل البعث ، ثم قال :" ولا يدخلون الجنة " يعني : بعد البعث ، على هذا الآية نص على أن الكافر لا يدخل الجنة " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .." الجمل الحيوان المعروف ، سم الخياط : الخرم الذي في الإبرة ، فالخرم الذي في الإبرة من أضيق الأشياء والجمل من أعظم المخلوقات جسما ، والمقصود من الآية : تعليق على الاستحالة فكما أنه محال أن يدخل الجمل في هذه الخلقة العظيمة في سم الخياط ، فمحال أن يدخل الكافر الجنة . " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " ولن يلج الجمل في سم الخياط " وكذلك نجزي المجرمين * لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش(24/18)
وكذلك نجزي الظالمين " لما ذكر الله حال أهل الكفر ذكر حال أهل الإيمان والأصل في القرآن أنه يبدأ بالكفار ويختم بالمؤمنين ، قال سبحانه :" والذين آمنوا وعملوا الصالحات " جعلنا الله وإياكم منهم " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " ذكر الله جل وعلا هنا " لا نكلف نفسا إلا وسعها "وقد استنبط العلماء من هذه الآية وأمثالها قاعدة فقهية : وهذه القاعدة تقول : لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة فمثلا الله جل وعلا جعل من واجبات الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين فلو أن أحد الناس من حادث مثلا قطعت يده ، فهذا ليس عنده يد ، لذا يسقط عنه واجب الوضوء للعجز لأنه لا يوجد له يد أصلا وقد يكون العجز أقل من ذلك ، الإنسان يجب عليه أولا أن يتوضأ بالماء فإذا عجز عن الوصول إلى الماء أو أضره الماء رغم وجوده هذا الواجب يسقط وينتقل إلى مسالة أخرى إلى التيمم حتى قد يصل أحيانا أنه يصلي بدون وضوء بدون تيمم إذا كان عاجزا فلا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة وهذا معنى قول الله :" ولا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " ثم قال سبحانه :" ونزعننا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " الناس يبقون بشر مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات لا يخرجهم عن كونهم بشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الذرة من البشر وهو يقول عليه الصلاة والسلام :" أنا أغضب كما تغضبون " ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال حلقى قعرى تغير كلامه صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله عنه نقل أنه يغضب وعمر رضي الله عنه كل الناس يغضبون . فالإنسان مهما بلغ يبقى بشرا إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم وغيره من الناس غير(24/19)
معصوم ، على هذا أحيانا يبقى في الصدر شيء ، ولو خفيف تبقى مؤمن تدخل الجنة لكن في الصدر بينك وبين زيد شئ . الله من إكرامه لأهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة وهم ماضون ذاهبون إلى الجنة يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار هذا الغل الباقي القليل الذي باقي في القلوب ينزعه الله منهم قبل أن يدخلوا الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم :" يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص منهم بينهم مظالم كانت بينهم في الدنيا " قال علي رضي الله عنه أمير المؤمنين المعروف حصل بينه وبين الزبير بن العوام شئ من سوء التفاهم ، وكاد يقتتلان في المعركة فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم فترك الزبير أرض المعركة ، قناعة منه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل يقال له ابن جرموز فقتله ، وممن نازع عليا طلحة بن عبيد الله صحابي جليل أحد العشرة المبشرين وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره ، فقال عليه الصلاة والسلام أُوجب طلحة يعني وجبت له الجنة ، ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط ما بين طلحة والزبير وعلي كل منهم يرى الصواب معه ، وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة قال علي رضي الله عنه : إني لأرجو الله أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم :" ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار " فالكمال عزيز والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه ولا ينبغي لعاقل أن يدخل فيما كان بينهم كلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " هذا الكلام يقوله أهل الجنة ، اعترافا منهم بأن الهداية من الله جعلنا الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة ، وهذا يؤكد على أمر عظيم على أن من يطلب الهداية فليطلبها من الله(24/20)
ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ولا يشمت الإنسان بأحد خوفا من أن ينتكس كما انتكس غيره ، وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد ويأل الله غفران الذنوب وستر العيوب ورحمته حتى نلقاه ." ولقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا " أي هؤلاء المؤمنين نودوا " أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" يوجد باء عوض ويوجد باء سبب أي باء تختص بالعوض وباء تختص بالسبب مثال : لو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر بكم هذا القلم؟قال : بريال ، فأعطيته ريال فأعطاك القلم فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى مكافئ له الريال مكافئ لهذا القلم ولو هذا القلم أحسن كان أصبح الريال أكثر من ريال يصبح مثلا بعشرة ، فهذه باء عوض، تسأل إنسان بكم اشتريت هذا القلم يقول لك بريال يصبح هذه الباء باء العوض .يوجد باء أيها الأحبة اسمها باء السبب تأتي لصاحب متجر فيسألك: من أين أنت ؟ فتقول له مثلا من جدة ،ويكون هو قد سكن جدة قديما ،فتسأله :من أي حي؟يقول : من النزلة مثلا .. يكون هو ساكن النزلة قديما .. فتطلب ماء فيقول هذا الماء خذه لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر سبب في الحصول عن الماء ، مثال آخر/ تعفوا عن إنسان لأنه صاحب أخيك ، يحصل لك سيارة يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضبا فعندما ترى من صدمك تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفوا عنه، أنت عفوت عنه لأنه أعطاك عوض بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه يقول الله جل وعلا :" أورثتموها " أي الجنة " بما كنتم تعملون " هذه الباء سببية : أعماكم سبب في دخول الجنة و إلا الأعمال لا يمكن أن تكون عوضا عن الجنة لأن الجنة أكبر من أعمالنا ، لكن قال بعض العلماء من السلف كلمه جميلة في هذا الباب قالوا : إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله ويدخلون برحمة الله ويرثون(24/21)
منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات
النداء الأول : نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار.
والنداء الثاني : نداء أصاب الأعراف لأصحاب الجنة .
والنداء الثالث : نداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار.
والنداء الرابع : نداء أصحاب النار لأصحاب الجنة .
في هذه السورة الذي سميت سورة الأعراف لأن الله ذكر فيها الأعراف ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة ، قال الله :" ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعد ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون "(24/22)
هذا النداء الأول يكون من أصحاب الجنة إلى أصحاب النار ، أن أصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حقا ، فيسألونهم هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حق فيقولون نعم ،فيستمعا الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن يقول : أن لعنة الله على الظالمين ،قال طاووس بن كيسان رحمه الله عن هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف قال : يا أمير المؤمنين اذكر يوم الآذان قال وما يوم الآذان قال : يوم أن الله يقول :" فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " فصعق هشام رحمه الله فقال طاووس بن كيسان : سبحان الله هذا ذل الصفة فكيف بذل المعاينة أي صعقت وأنا مجرد وصف لك اليوم فكيف لو عاينته ورأيته بعينك ثم قال الله جل وعلا :" وبينهما " أي بين الجنة والنار " حجاب " هذا الحجاب جاء مفسرا في سورة الحديد " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " قال الله جل وعلا :" وبينهما حجاب وعلى الأعراف " مكان مرتفع " رجال " الله أعلم بهم قيل أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وهذا قول حذيفة واختاره أكثر المفسرين وقيل : أنهم أنبياء وقيل: أنهم ملائكة ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه " و بينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " يعني : يعرفون أهل الجنة ويعرفوا أهل النار .
" بسيماهم " أي بعلاماتهم ، فإن الله قال عن أهل الجنة " تعرف في وجوهم نظرة النعيم " وقال عن أهل الكفر : "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " أي أعينهم زرقا فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم ويعرف المؤمنون جعلني الله وإياكم منهم بما عليهم من نظرة النعيم .(24/23)
هؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها معهم نور هذا النور يجعلهم يطمعون أن يدخلوا الجنة ، فيقفون حكما بين الفريقين قال الله :" ونادوا أصحاب الجنة " المنادِي : أصحاب الأعراف ، والمنادَى : أصحاب الجنة ، " أن سلام عليكم " وتقف ثم ينقطع الكلام " لم يدخلوها " والمعنى أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال " وهم يطمعون " أي ويطمعون في دخولها ، وهذا الطمع الرغبة في دخولها حث عليها أنهم مازالوا يملكون النور ولم ينقطع ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار قال الله :" وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " إذا رأوا أهل النار وما فيهم من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " ثم قال الله جل وعلا :" ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم " أي رجالا كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله " قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء " أي الضعفاء الفقراء المساكين ـ المطاوعة في لغة العصرـ " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته " كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " ثم قال الله جل وعلا " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء " جعلنا الله وإياك في هذه الحالة ممن ينادَى لا ممن ينادِي فإن الله جل وعلا بقدرته يجعل لأهل النار إطلاعا على أهل الجنة فإذا رأوها أحوج ما يكونوا إليه أهل النار الماء قال الله جل وعلا :" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" فيجيبهم أهل الإيمان قالوا : " إن الله حرمهما " الماء والرزق " إن الله حرمهما على الكافرين " فلا يوجد شئ يحتاجه أهل النار أول الأمر أكثر من(24/24)
احتياجهم إلى الماء لأنهم إذا استسقوا في النار يسقون ماء حميما كما قال الله :" فقطع أمعاءهم " فقد أخذ العلماء من هذه الآية أن من أفضل القربات إلى الله سقي الماء ، وقد قال العلماء : إنه ثبت في الصحيح أن الله جل وعلا غفر لرجل لأنه سقى كلبا فكيف بمن سقى مؤمنا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ولما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما يابن عم رسول الله ما أفضل الصدقة ؟ قال : أن تسقي الماء أين أنت من قول الله :" أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " ثم ذكر الله بعضا من نعوت الكافرين ، قال" الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون " وليس الله ينسى أبدا قال :" علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " ولكن هذا في لغة العرب يسمى المشاكلة في الكلام وإنما يتركهم الله جل وعلا من غير نصرة من غير ظهرة من غير معين حتى يتساقطون في جهنم ، ثم بين جل وعلا عظيم كتابه قال :" ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل " أي في الدنيا " قد جاءت رسل ربنا بالحق " فيتمنون أمرين " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " وهذه قطعها الله بقوله " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وطلبوا أمرا ثانيا " أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " وهذه قطعها الله جل وعلا عنهم أن الله لن يخرجهم من النار " قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " فلما ذكر الله تبارك وتعالى حال الفريقين وذكر الحالة الثالثة وهي حالة أهل الأعراف عرف الله جل وعلا بذاته العلية والقرآن أيها المؤمن كله فاضل ، لكن آياته فيها فاضل وفيها مفضول ، أما كونه فاضل فلأن القرآن كله من عند الله وأما كونه فاضل ومفضول فإن من آيات الله ما تتكلم عن الله فجمعت الفضل(24/25)
من وجهتين الوجه الأولى : لأنها كلام الله ، والوجه الثانية : أن تتحدث عن الله، وليس هناك أعلم من الله ،ولذلك من أراد أن يرق قلبه وتدمع عينه فليقرأ ما تكلم جل وعلا عن ذاته العلية كخواتم سورة الحشر وأوائل سورة الحديد ، وهذه الآيات التي في سورة الأعراف وفي الفرقان يتكلم الرب جل وعلا عن ذاته العلية أو آية الكرسي فكل آية تحدث الله فيها عن ذاته العلية فإن الله جل وعلا لا أحد أعلم به منه قال الله جل وعلا :" ولا يحيطون به علما " وقال :" أأنتم أعلم أم الله " فالآيات التي يتحدث فيها الرب جل وعلا عن ذاته العلية هي أعظم آيات القرآن قدرا لأن جمعت المجد من طرفين كونها من الله وكونها تتحدث عنه جل جلاله قال الله :" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " هذه مجمل ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية .(24/26)
(تأملات في سورة الأنفال)
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وعلى أصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. فإننا نستعين الله جل وعلا في تفسير كلامه جل وعلا كرةً أخرى... وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى سورة الأعراف وسنشرع اليوم في تفسير سورة الأنفال على أننا قبل أن نشرع فيها نذكر ببعض مما كنا قد تأملناه حول سورة الأعراف التي تمت دراستها عبر درسين، وكنا قد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الله جل وعلا ذكر ثلة من أنبيائه ورسله بسورة الأعراف بدءاً بنوح وانتهاءً بموسى عليهم السلام ووقفنا عند اثنين منهم هما لوط وموسى عليهم الصلاة السلام وذكر نا عن قوم لوط أن الفطرة انتكست عند هم فكانوا يأتون الذكران من العالمين ولذلك لم يكن بينهم وبين رسولهم أخذ ولاعطاء فإن الله جل وعلا ذكر أن الأنبياء أخذوا وأعطوا وتحاوروا مع من بعثوا إليهم من الأمم فقوم ثمود قالوا لصالح:(ياصالح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا...)
*قالوا لصالح :(قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)(25/1)
*وقال قوم شعيب كذلك قريباً منه. إلى غير ذلك مما ذكره الله من محاورات الرسل لأممهم وأما قوم لوط مما انتكست الفطرة عندهم، لم يكن لديهم عقل يحاورون من خلاله قال الله عنهم أنهم قالوا:(وماكان جواب قومه إلاَّ أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )فعاملهم الله جل وعلا بلمثل قال الله تبارك وتعالى:(فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود)وهذه الأيه في هود ثم ذكرنا بعضاً مما كان من خبر نبي الله موسى مع فرعون وآله أوفرعون وملائه وذكرنا أن الله جل وعلا قال عنهم(وقالوا مهما تأتنابه من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين*فأرسلناعليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدَم...)فهذه خمس آيات،وقال قبلها جل وعلا:(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات)هذه اثنتان مع الخمس سبع آيات وبقيت اثنتان هما .الأول:العصا . والثاني:اليد . فهذه تسع آيات التي قال الله جل وعلا عنها أنه بعث بها موسى إلى فرعون وملائه والقرءآن ينظر إليه جمله واحدة ويفسر بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاًوكله كلام رب العالمين جل جلاله. كما ذكرنا أن قول ربنا جل وعلا: (وأرسلنا عليهم الطوفان و الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) أن كلا من كلمتي آيات وكلمه مفصلات أعطت معنا فقلنا إن كلمه آيات دلت على أمر خارج عن المألوف لأن الجراد والقمل والضفادع يوجد في كل زمان ومكان لكن الله جل وعلا جعل وجودها في زمن موسى آيه له خارقه عن المألوف وقوله تبارك وتعالى "مفصلات"يدل على أنها كانت لم تكن جملة واحدة وإنما كانت يتبع بعضها بعضا وكان بينهم مرحله زمنيه ثم قلنا إن الله جل وعلا قال: (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة......)وقلنا إن القاعده في ذكر الأيام والليالي أن الأيام تحسب بها المنافع الدنيويه فالمزارعون مثلا إنما يحصدون بناء على البروج الشمسيه وليس لهم علاقة بالأهلة وأما الأهلة والليالي فإنما يحسب بها المناسك الدينيه قال(25/2)
الله جل وعلا: ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) وهذه قلنا فيها فائدة كبرى أن يعرف الإنسان أن ما يتعلق بالأيام فيه المنافع الدنيويه وما يتعلق بالليالي فيه المنافع والمناسك الدينيه ثم قلنا إن الرب تبارك وتعالى قال : ( وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين * ولما جاء موسى لميقاتنا....) فذكرنا أنه كان هناك ميقاتان:ــ
فالأول: ميقات مكاني..
والثاني: ميقات زماني..(25/3)
الميقات المكانيي:الوادي المقدس أو بتعبير أقرب جبل الطور قال الله جل وعلا في سورة القصص:(وما كنت بجانب الغربي إذا قضيناإلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين)والجبل الطور هو الجبل الذي كلم الله عنده موسى مرتين المرة الأولى: في أول أيام الوحي..والمرة الثانية: في وقت الميقات الذي وعده الله جل وعلا إياه هذا هو الميقات المكاني أما الميقات الزماني فإن الله كلم عبده موسى بن عمران في اليوم العاشر من ذي الحجه فإن الله وعده ثلاثين يوماً عند جماهير العلماء هي ثلاثين شهر ذي القعده ثم زاده الله عشراً قال الله:(فتمت ميقات ربه أربعين ليله)فاليوم الأربعون:هو اليوم العاشر من ذي الحجة المتمم لثلاثين ذي القعده وعشرذي الحجه ثم قلنا:(فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربي أرني أنظر إليك)رغب عليه السلام في مقام الرؤيا بعد أن أعطي مقام التكليم فقال الله جل وعلاله:(لن تراني) وقلنا إن رؤية العبد المؤمن للرب جل وعلا تكلمنا عنها في الدنيا وفي الأخره وقلنا يحرر الخطاب على أنه يقال: أن رؤية الله جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً ومعنى قولنا جائزة عقلاً: أنه يمكن بقدرة الله أن يعطي الله عباده قدره على أن يروا ربهم في الدنيا لأن الله على كل شيء قدير فهذا لاينافي العقل لكن أخبر في كتابه أن هذا لن يقع إذ قال لكليمه موسى:(لن تراني)فقلنا إن وإن كانت جائزة عقلاً إلا أنها ممتنعه شرعاً هذا في الدنيا أما في الأخرة: فقد قلنا مادامت جائزة عقلاً في الدنيا فمن باب أولى أن تكون جائزه عقلاً في الأخره لأن الأبصار في الأخره أقوى منها في الدنيا قال الله جل وعلا(فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ...) ولكنا قلنا : إنها في الدنيا ممتنعة شرعاً ونقول في الآخرة واقعة شرعاً للمؤمنين في الجنة وقد نص القرآن والسنه على هذا قال الله جل وعلا في سورة القيامه:( وجوه يومئذ ناضره ) بالضاد أخت الصاد والمعنى تعلوها النظره (إلى(25/4)
ربها ناظره ) أي تبصر ربها من غير إحاطه لأن الله يقول:( لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فالله جل وعلا لايدركه بصر خلقه على هذا ماتحرر... وقلنا: إن من العلماء من قال أنها ممتنعة في الدنيا والآخرة وهذا قول (المعتزلة) وقلنا نص عليه جار الله الرمخشري في تفسيره المشهور باسمه: (تفسير الكشاف) فإنه قال إن العباد لايرون ربهم لافي الدنيا ولافي الآخرة واحتج بحرف النفي (لن) وقلنا الجواب العلمي أن يقال أن الله جل وعلا قال عن اليهود أنهم لايتمنون الموت فقال عنهم:( ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ) أي الموت ومع ذلك قال الله عن أهل النار واليهود قطعاً من أهل النار قال :( وقالوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) يتمنون الموت فدل على أن (لن) هنا تجري على أحكام الدنيا لاتجري على أحكام الأخرة ثم إن النصوص الصريحة في رؤية المؤمنين لوجه ربهم لايمكن تأويلها ولادفعها بحال في رؤية وجه ربهم تبارك وتعالى منها آيه القيامة التي مرت معنا ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغير هما (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)منَّ الله علينا وعليكم برؤية وجهه الكريم ثم قلنا بعد ذلك أن الله جل وعلا قال لموسى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما ءاتيتك وكن من الشاكرين) وقلنا إن هذه الكلمه [على الناس]ليست على إطلاقها وإن من الآله العلميه في تفسير كلام الله أن يكون الإنسان مطلعاً على اللغة مطلعاً على الأحاديث مطلعاً على التاريخ فقول الله جل وعلا لموسى: (إني اصطفيتك على الناس) لا يمكن أن تكون على اطلاقها لعموم الناس لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى عليه السلام بالإتفاق فموسى عليه السلام أفضل أهل زمانه أما من قبله فإبراهيم أفضل من موسى بل إن موسى عليه السلام من ذريه إبراهيم جميع الأنبياء الذين من بعد إبراهيم من(25/5)
ذرية إبراهيم باستثناء لوط على الخلاف أنه ابن أخيه لأن الله قال: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) وما بعث نبي من الأنبياء كما بُينَ هذا في غير درس ولا أُنزل كتاب من السماء إلا على رجل من ذرية إبراهيم المقصود أن موسى عليه السلام أفضل أهل زمانه لكنه ليس أفضل من كان من قبل فإبراهيم أفضل منه ولا أفضل من بعد لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم. هذا ما انتهينا إليه حول سورة الأعراف ونشرع اليوم إن إنشاء الله تعالى في تأمل خمس آيات من سورة الأنفال وقد جرت العاده أننا نقدم السوره بأكملها قبل أن نشرع في تفسيرها سورة الأنفال سور مدنية ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أن قول الله جل وعلا: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ...)هذه مكيه والله أعلم . لكن السورة في جملتها سورة مدنية وهي من أوائل السور المدنية التى نزلت . ومن أواخر السور المدنية التي نزلت سورةالتوبة.وكلتا السورتين عنيتا بالغزوات بالذات سورة الأنفال . فسورة الأنفال تكلمت عن بدر ولذلك يقولوا بعض العلماء إنها سورة (مدنية بدرية)أما التوبة فتكلمت عن غزوة تبوك وجيش العسرة وهذا كان في السنة التاسعة والنبي صلى الله عليه وسلم مات في العاشرة على هذافالتوبة من آخر ما أُنزلَ جملة من السور المدنية والأنفال من أوائل ما نزل من السور المدنية (مدنية بدرية ) وحتى نفقهه هذه السورة نزلت بعداختصام المسلمين في غنائم بدر وحتى تكون أنت في إطارعلمي حول السورة الرسول علية الصلاة والسلام خرج بأصحابه إلى بدر وكان أول أمره يريد عير قريش وقال لأصحابه لعل الله أن ينفيكموها ))أي يهبها لكم فلما نجا أبو سفيان بالعير وجاءت قريش تحاد الله ورسوله التقى الجمعان في يوم الفرقان في بدر في الموضع المعروف ما بين مكة والمدينة .وهوإلى المدينة أقرب، وقعت المعركة وهي أول معركة وقعت في الإسلام (يمكن أن تطلق عليها غزوة(25/6)
بالمعنىالحقيقي)وكان قبلها بدرالصغرى لكن لم يقع فيها قتال ووقعت تلك المعركة وأعلى الله فيها كلمة الإسلام ونصرالله جل وعلا محمداًصلى الله عليه وسلم وأصحابه وردالله القرشيين ردهم على آدبارهم فغنم المسلمون غنائم هذه الغنائم أن الجيش بعدالغزوة في آخر الغزوة انقسم إلى ثلاثه أقسام:.
1/قسم أخذ يحرس النبي صلى الله عليه وسلم خوفاًعليه أن يأتيه أحد من المشركين.
2/وقسم أخذ يجهزعلى من بقي ويتبع فلول أهل الإشراك.
3/وقسم أخذ يجمع الغنائم.فلما انتهى الأمرووقع من وقع من القرشيين في الأصل وقتل منهم من قتل وفر منهم من فر انقضت الحرب ووضعت الحرب أوزارها اختصم المسلمون في الغنائم ممن يأخذها هل أولى بها من حرس النبي عليه الصلاة والسلام أومن جمعها أومن تبع فلول أهل الإشراك.فلما اختصموا فيها لجأواإلىالنبي صلى الله عليه وسلم يسألونه فقال الله:((يسألونك عن الأنفال))قبل أن نشرع في تفسيرالأية النفل هو: الزياده علىالأصل،فالغنيمه:زيادة علىالنصرفي المعركه لأن المطلوب الأول في المعركه النصر فالغنيمه زيادة عليها وولد الولد زيادة على الولد،
ولذلك قال الله عن يعقوب لأن من ذرية اسحاق قال عن إبراهيم (ووهبنا له يعقوب نافلة )أي زيادة على اسحاق لأن اسحاق بن إبراهيم ،فوهب الله يعقوب زياده لإبراهيم على إسحاق الذي هو ولده،فأصبح وهبه ولد الولد والسنن التطوع (صلاة التطوع )زيادة على الفريضة ولذلك تسمى الأولى فريضة ويسمى مايزاد عليها نافله قال الله تعالى:(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) فهذا أصل كلمة:نافله في اللغة وإيرادها في الشرع إذاً السؤال هنا عن أي نافلة؟ عن الغنائم والغنائم زيادة على النصر نقسم معنى الغنيمه ومعنى الفيء؟(25/7)
الغنيمة:مايناله المسلمون من عدوهم بسعي وإيجاف خيل وركاب. وماناله المسلمون من عدوهم من غير سعي ولاإيجاف خيل ولاركاب كخراج الآراضين أو جزية الجماجم هذا يسمى فيء .إذاً يوجد قسمان يناله أهل الإسلام هما الغنيمة والفيء والمقصود بالأنفال: غنيمة المسلمين يوم بدر بإجماع العلماء أن قول الله جل وعلا:(يسألونك عن الأنفال) أي ماغنمه المسلمون يوم بدر وقلنا إن هذه السوره(مدنيه بدريه) نأتي لكلمة (يسألونك) وردت في القرءآن مراراً مرة بدون واو ومرة بالواو قال الله جل وعلا في البقرة(يسألونك عن الأهلة) وقال جل وعلا في البقرة أيضاً:(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) وقال جلا وعلا:(يسألونك عن الخمر والميسر...) هذا كله بدون واو وقال جلا وعلا في المائدة :(يسألونك ماذا أحل لهم...) وقال تبارك وتعالى الأعراف (يسألونك عن الساعه...) وقال جل ذكره في الأنفال:( يسألونك عن الأنفال...)وقال تبارك وتعالى في الإسراء:( يسألونك عن الروح) وقال جل وعلا في الأحزاب:( يسألك الناس عن الساعه) وقال تبارك اسمه في النازعات (يسألونك عن الساعه) فهذه سؤلات وردت من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير واو وجاءفي القرءآن يسألونك مقرونة بالواو قال الله تعالى في البقرة:(ويسألونك ماذا ينفقون) وقال جل وعلا في البقرة :(ويسألونك عن اليتامى) وقال جل ذكره في البقرة: (يسألونك عن المحيض) وقال جل ذكره في الكهف :(يسألونك عن ذي القرنين) وقال تبارك وتعالى في طه:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)فهذا ماتحرر بالواو وما قبلها تحررمن غيروا وبعض العلماءيقول:إن الفرق بينهما:أن يسألونك إذا لم تكن مقترنه بواو يكون السؤال قد وقع من الصحابه وإما إذاكان مقترناًبالواو فإن الله يخبر به لعلمه جل وعلاأنه سيقع والله أعلم .وأنا أقول إذا قلت والله أعلمأو سكت،معناه:أنالاأرجح في المسألة إذا لم نرجح معناه: أن الأمر لم يثبت لدينا بياناً شافياًفيه كدليل(25/8)
والله أعلم، هذامعنى حول كلمه:(يسألونك)كان المفترض:(الله يقول:(يسألونك عن الأهله)الله قال بعدها (قل هي
مواقيت للناس والحج)و(يسألونك ماذا ينفقون)(قل ماأنفقتم من خير فللوالدين والأقربين )(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)(ويسألونك عن الروح)(قل الروح من أمر ربي) يأتي الجواب مباشرة.لكن هنا:.قال الله (يسألونك عن الأنفال)ولم يأتي جواب جاء الجواب بعد أربعين آية،أي في الآيه(41)قال الله:)واعلمواأنماغنمتم من شيءفأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله وماأنزلناعلى عبدنا يوم الفرقان يوم يلتقى الجمعان والله على كل شيء قدير)جاءالجواب بعد أربعين آية وهذا من تربية الله للصحابة؛لماذا؟الخطأمن الرجل العظيم ليس كالخطأمن هو أقل منه ترى شاب يلعب بالكرة والمغرب يؤذن لايجوز لكن لأنه شاب تأتيه بيسرلأنك تعرف من عين القدر ومن عين الشرع هذاشاب،فتأديه باللين لكن لايقبل أن تأتي رجل إمام مسجد والآذان يؤذن وهو يلعب كرة.ما يمكن أن تقبل.فيكون تأنيبك للأمام ليس كتأنيبك لشاب... صفوة الأمة هم أهل بدر.والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أما علمت أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم )والبدريون هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، المهاجرون/الذين تركوا ديارهم وأهليهم في مكة من أجل نصرة الدين.والأنصار/الذين قبلوا أن يأتوا هؤلاء من مكة فيؤونهم ويحمونهم ويتقاسمون معهم الأموال والله يقول:((والذين تبوءا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) فهم هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم من المهاجرين والأنصار أعظم أصحاب النبيين على الإطلاق وهم صفوة الأمة والرسول صلى الله عليه وسلم قال في ليلة بدر ينظر إليهم ثلاث مائة وأربعة عشرا رجلاً قال اللهم ))إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في(25/9)
الأرض أبداً)) فهم رضي الله عنهم وأرضاهم خير أهل الأرض بعد النبيين والمرسلين. فهؤلاء الصفوة يأتي منهم أنهم ما إن تنتهي المعركة يختصمون فيما بينهم على الغنائم أمر لايقبل . فرباهم الله جل وعلا وعاتبهم عتاباً شديداً قال: ((يسألونك عن الأنفال)) ولم يقل هي كذا وكذا وكذا(قل الأنفال لله وللرسول )) أي ليس لكم فيها أي اختصاص والصحابه يعلمون أن كل شيء أمره لله وللرسول عليه الصلاة والسلام يحكم فيه لكن أراد الله أن يؤدبهم(قل الأنفال لله والرسول فاتقوا)إذا علمت هذا أن الله قال في حق بدر (أهل بدر)(فاتقواالله) وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب :((ياأيها النبي اتق الله )) إذاًلا يستكبر أحد عن كلمة اتق الله ولا يوجد أحد فوق مستوى النقد كل إنسان عرضه للخطأ وكل إنسان يخطئ يُنقد ويقال له أخطأت ولو كان منزلته أيا كانت،لكن كيف تنقده يختلف، فلا تأتي لإمام مسجد أمام عشرات الناس يصلون وراءه والمئات وتقف تنقده أمام الناس ،هذا ليس من النصيحة في شيء ،ولا تأتي لمعلم أمام طلابه وتوبخه أو تنهره أمام طلابه ولا تأتي لأمير ولا حاكم في خطبة جمعه،تنقده لتذهب هيبته في الناس ولاتأتي لأب تنقده أمام أولاده ولاأم أمام بناتها،من أخلص النية في النقد سيوفق في الطريقه السليمه التي ينقد بها،لكن هنا لماذا اختلف الأمر لأن المعاتب هنا الله،فألمسألة تختلف جذرياً،ليس اختلاف كفؤ لكفؤ ليست نقد كفؤاً لكفؤ،وإنما هذا عتاب من الله لأهل بدر فقال الله جل وعلا لهم:"يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"أنتم انتصرتم على المشركين والأهم أن تنتصروا على ما في النفوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصرعه وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"انتصار الإنسان على هوى نفسه وعلى شهواته وعلى حبه للمال ولحب لأن يكون أفضل من غيره وما يدفعه للإستئثار بالشيء هذا الذي ينبغي أن ينتصر(25/10)
عليه فإذا انتصر الإنسان على شهواته نفسه وحبه للكبروالاستعلاءعلى الغيرحقق الإنتصارالعظيم فالله يقول لنبيه ولأصحابه:(فاتقواالله وأصحوا ذات بينكم ) فالصلح:وصفه الله جل وعلا بأنه خيرويقع على عدة طرائق:أولاً: يقع الصلح مابين أهل الإيمان وأهل الكفر ودليله من نفس السوره(وإن جنحوا للسلم فا جنح لها وتوكل على الله) وهذا مرده لولي أمر المسلمين.ثانياً: وصلح يقع مابين فئتين من أهل الإسلام تحترب فيسعى ما بينهمافي الصلح قال الله تعالى:(وإن طائفتان من المؤمنين اقتلوا فأصحوا بينهما).ثالثاً:وصلح يقع مابين الزوج والزوجه قال الله فيه: (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما....)رابعا: وصلح يقع ما بين الرجل والرجل في خصومات ماليه وهذا لابد فيه من التنازل أي صلح لا بد فيه من التنازل إن لم يتنازل كلا الطرفين عن بعض حقه لا يسما صلح والسعي بين الناس في الصلح من أعظم طرائق الخير قال الله جل وعلا: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقه أو معروف أو إصلاح بين الناس) فالسعي في الإصلاح حتى مما يجوز الكذب فيه شرعا فالصلح بين الناس مما يجوز الكذب فيه شرعاً... فنعود إلى قول ربنا جل وعلى: (فأصلحوا ذات بينكم)أي كونوا أمة متحابة متآلفة لا تفرق بينكم الدنيا ولا الغنائم وهذا تربيه لصفوة الأمة وهم أهل بدر من لدن العليم الخبير جل جلاله (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله والرسول إن كنتم مؤمنين) قبل أن نأتي الآية التي بعدها ننتقل إلى الآية الإحدى والأربعين التي فسرت هذه الأية ثم بعد ذلك بين ألله جل وعلا قسمة الغنائم فقال: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)هنا قسم الله الغنائم ،حب المال فطرت عليه النفوس،الله يقول:(وتحبون(25/11)
المال حباًجماً)وقال:(وإنه لحب الخير لشديد)وتفسير الخير هنا/المال والله يتكلم عن الإنسان فلا يعقل أن كل الناس يحب الخير الخيرالمعروف الذي هو ضد الشر،لكن الله هنا يتكلم عن المال،(وإنه لحب الخير لشديد)ولذلك لما علم الرب جلاوعلا أن النفوس جبلت على حب المال كان المال الذي يأتي للمسلمين على ثلاثة طرائق:.وكل هذه الثلاث تولى الله جل وعلا بنفسه تقسيمها ولم يكلها إلى أحد ولا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.وهذه الثلاث:.أولاً:الميراث.ثانياً:الغنيمة في الحرب.ثالثاً:الصدقات(الزكاة)والجزيه تدخل في الغنيمه.فهذه كلها تولى رب العالمين تقسيمها فالله جل وعلا قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه،وقسم جل وعلا الغنائم.قال(واعلموا أنما غنمتم...)إلى آخر الآيه.وجاء إلى الزكاة الشرعية وقال:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)فهذه الثلاثة.(المصادر المالية)لم يكل الله تقسيمها لأحد وتولى جل وعلا تقسيمها بنفسه لعلمه تبارك وتعالى بحب الناس وتقاتلهم على المال جعلنا الله وإياكم ممن المال في يده وليس في قلبه ، الذي يعنينا / أن هذا الأمر تولى الله جل وعلا قسمة الغنائم . فجعلها تبارك وتعالى ، جعل الخمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)وقد اختلف العلماء في التوزيع لكن نختار منها قول مالك رحمه أنه يسند أمرها إلى الإمام فيعطي القرابة مايراه مناسبا ًلهم ويقسم الباقي ويضعه في المجاهدين الذين معه ، بالطريقة التي يراها مناسبة وقالوا : إن هذا فعل الخلفاء الأ ربعة من بعده صلى الله عليه وسلم نأتي هنا إلى قضية : تقسيم الغنائم على ذوي القربى ، والمقصود بذوي القربى/ قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الله ))واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربى)) أي قرابة النبي صلى الله عليه وسلم(25/12)
، واختلف العلماء في قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتم تقسيم خمس الغنائم عليه ،على ثلاثة أقوال :ـ أولاً:قول أنهم قريش كلهم.باعتبارأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وهذا أضعف الأقوال .ثانياً:وقول آخر: أنهم بنوهاشم فقط وهذا قول مالك رحمه الله والأوزاعي ومن تبعهما من العلماء . ثالثاً:وذهب الإمام أحمد والشافعي وكثير من العلماء وهو الصحيح إن شاء الله أن المقصود بهم بنو هاشم وبني المطلب وليس عبدالمطلب . تفصيل هذا علمياً :.أن النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، هذا هاشم ابن عبد مناف هذا عبد مناف والد هاشم ترك أربعة: ترك هاشماً وعبد شمس ونوفل والمطلب ، ليس عبد المطلب ، هؤلاء أربعة أبوهم واحد.هو عبد مناف،أصبحوا إخوة الأربعة النبي صلى الله عليه وسلم جاء من هاشم فالآن بنو هاشم استحقوا الخمس لأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معروف.بقينا في الثلاثه:.
1/المطلب.
2/ونوفل.
3/عبد شمس.(25/13)
تركوا أبناءلما جاءت قريش وحاصرت بني هاشم في شعب بني طالب حاصرت النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته من بني هاشم في الشعب وكان لهم ثلاثة أبناء عمومه لهم بنو المطلب،وبنو عبد شمس وبنو نوفل.بنو عبد شمس وبنو نوفل اتفقوامع قريش،بقينا في بني المطلب فقد دخلوا مع بني هاشم في الشعب ليناصروهم،فحفظها النبي صلى الله عليه وسلم لهم،فلما جاء يقسم الغنائم بعد خيبر جاءه من ذرية عبد شمس عثمان بن عفان رضي الله عنه وجاءه من ذرية نوفل/جبير بن مطعم رضي الله عنه وقالا يارسول الله لما وزع الغنائم أعطى بني المطلب وأعطىبني هاشم قالارضي الله عنهما يارسول الله:كونك تعطي بني هاشم هذه لا نعترض لأن الله عزهم بك لكن ما دمت أعطيت إخواننا من بني المطلب فنحن وبني المطلب إخوة فلماذا فرقت بيننا؟فقال صلى الله عليه وسلم:(إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام)لأنهم دخلوا معهم في حصار الشعب.ثم شبك بين أصابعه،وقال:إنما بنوالمطلب وبنو هاشم شيء واحد.فأصبح هذاالحديث حجه ظاهره في أنهم يعطون من الخمس كما يعطي بنوهاشم.وفيه مثل يقول:إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل.فما دام هذا الحديث نص في الموضوع يعتذر الذين قالوا أنها محصورة في بني هاشم أوعامة في قريش كلها.هذا توزيع الغنائم كما أمر الله جل وعلا وقد بيناه. نعود للسورة الآن .قال جل وعلا ذلك ، بعد أن ذكرنا قضية بدر. وقلنا إن معركة بدر هي أول معركة بين أهل الحق وأهل الباطل .بين المسلمين وبين الكفار. والنبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر بعد أن ألقي فيه الجمع منهم وأخذ يسألهم هل وجدتم ماوعد ربكم حقاً ، فأني قد وجدت ماوعدني ربي حقا،فجاءه عمررضي الله عنه وقال يارسول الله : كيف تكلم أقوام قد جيفوا فقال: يا عمر ماأنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لايملكون جوابا قال حسان :
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا
أصبت وكنت ذا رأي مصيب(25/14)
لكن كتب الله عليهم ما كتب عياذاً بالله هذه معركة بدر وهذه سورة الأنفال التي نزلت تبين الموقعة وتذكر جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك المعركة.نعود للسورة نفسها ثم قال الله جلا وعلا انتهى من هذه القضية يربي عباده الصالحين على الإيمان قال:"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون*الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون *أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"ذكر الله جل وعلا هنا أصحاب المنازل العالية من أهل الإيمان،المقربون ، أهل الدرجات الرفيعة ،أهل الإيمان الحق الذين اصطفاهم واجتباهم سواء من النبيين أو من أتباعهم إلى يوم الدين.فلم يذكر الله أعياناًًًًًًًًًًًًً باسمائها وإنما ذكر صفات يتحلون بها،جعلتهم مؤمنين حقاً،فقال في أولها " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " والوجل هو الخوف والمعنى: أنهم يصيبهم من الخوف والوجل والطمع والرغبة فيما عند الله ما تقشعر له الأبدان وترتجف له القلوب ثم لا تلبث قلوبهم أ ن تسكن وجوارحهم أن تهدأ بعد ذكر الرب تبارك وتعالى وهذا من أعظم دلائل الإيمان أن يجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى وهذا من أعظم دلائل الإيمان أن يجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى فإذا خوف بالله خاف وإذا ذكربالله ذكر وإذا اتعظ بالله وعظ وإذا قيل له اتق الله لم تأخذه العزة بالإثم هذا الذي قال الله عنهم (إنما الؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم....)ثم قال: وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا) فالإيمان يزيد وينقص ينقص بالمعاصي ويزيد بالطاعات وأن مما يزيد إيمان المؤمن تلاوة كلام الرب جلا وعلا بل هذا من أعظم مايزيد الإيمان قال الله تعالى:(وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلاخساراً) والمؤمن ينبغي عليه أن يكون يومه خيرمن أمسه وغده خيرمن يومه،(25/15)
يزداد إيماناًكلما تلى هذا الكتاب العظيم وعلم أن هذا القول قول الله جل وعلا وهذه مناقب ذكرها الله جلا وعلا في الأنبياء وذكرها الله جل وعلا في الرسل وذكرها الله جل وعلا في العامة.قال الله في الأنبياء:(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن خروا سجداًوبكيا)وقال جلا وعلا عن أهل العلم:"قل ءامنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً* ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا* ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) وقال الله عن عامة الناس (إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا ءآمنا فاكتبنا مع الشاهدين *ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين* فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها وذلك جزاء المحسنين)) فالمؤمن يحاول قدر الإمكان أن يرقى بنفسه إلى مستوى من وصفهم الله ونعتهم من أهل الدرجات العالية ممن وعدهم الله جنانه ومغفرته والرزق الكريم ،جعلني الله وإياكم منهم. ثم قال جل ذكره ( وعلى ربهم يتوكلون ) وهذا متصل بما قبله فإن من رزق الإيمان ومعرفة الله وما لله من كمال عظيم الرحمة وكمال القدرة وجلال العطاء وأن الله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه يجيب من دعاه ويؤي من لجأ إليه وأنه لا ملجأ ولا منجأ منه تبارك وتعالى إلاإليه صدق توكله على الله ، فذكر الله جل وعلا في الأول ثلاثة من صفات القلوب وهي:أولاً:الوجل أي الخوف . ثانياً:ثم ذكر زيادة الإيمان ثالثاً:ثم ذكرالتوكل وكلها أعمال قلوب . ثم انتقل جل وعلا إلى أعمال الجوارح وقال:(والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) والصلاة أعظم ما افترضه الله جل وعلا على عباده وخلقه بعد(25/16)
الشهادتين بها يتقرب العبد إلى ربه ولذلك فرضت الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج فلما كان صبيحتها كما قال سعيد بن جبير وغيره. صبيحة ليلة الإسراء المعراج بعد أن زالت الشمس يعني عند حلول وقت الظهرنزل جبريل من السماء فأم النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت فكانت أول صلاة فرضت من الصلوات الخمس صلاة الظهر أمَّ بها جبريل نبينا صلى الله عليه وسلم ليومين متتاليين صلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في أول وقته ثم صلى به كرة أخرى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في آخر وقتها وقال له بعد ذلك وهو يعلمه الصلاة ما بين هذين الوقتين أي ما بين هذين كله كله صلاة. والمؤمنون حتى في الصلاة يختلفون: من الناس والعياذ بالله من لا يصليها وهذا محال أن يطلق عليه مؤمن ومن الناس والعياذ بالله من يصليها في بيته من غير عذر ومنهم من يأتي إلى الجماعة ومنهم من هو أرقى درجة وأرفع منزله يسابق إلى التكبيرة الأولى قال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند حسنه العلامة الألباني رحمه الله:(( قال من صلى لله أربعين يوماً يدرك التكبيرة الأولى .(أي تكبيرة الإحرام ) كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق)) وفقنا الله وإياكم لهذا العمل ثم قال جل وعلا يختم أعمالهم ((ومما رزقناهم ينفقون )) فالإنفاق مما آتاك الله حسن ظن بالرب جل وعلا وأن الله قادر على أن يعوضك وقد جاء في الأثر. لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله قال:ورجل تصدق بصدقه فأخفاهاحتىلا تعلم شماله ماتنفق يمينه ثم لما ذكر الرب تبارك وتعالى صفاتهم ونعوتهم والسرائر أمرها إلى الله،ذكر الله جل وعلا ما أعد لهم فقال عنهم(أولئك هم المؤمنون حقاً)ولا يعني ذلك أن من لم يبكي بخشية الله ليس بمؤمن، لأن الله يتكلم هنا عن أهل المنازل العالية ولايتكلم عن الإيمان الذي يفرق به من الإيمان والكفر فربما رجل هذه الخمس(25/17)
تجتمع فيه بعضها،ولا يجتمع فيه كلها فلا يقال عنه/أنه ليس بمؤمن،كل من شهد أن لاإله إلا الله وأن محمداًرسول الله ورضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا فالأصل أنه مؤمن،ثم أهل الإيمان يتفاوتون والأعمال قرينة الإيمان لا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح.ثم قال الله(أولئك هم المؤمن حقاً لهم درجات عند ربهم..)أي لهم درجات عالية في الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب في صورة أفقية ويأتي عليها يوم وهي كضيض من الزحام وفي داخل الجنة درجات متفاوتة ولقد سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عن أهل الدرجات العلى فقال الله جل وعلا كما في الحديث القدسي(أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي،فلم تسمع أذن ولم ترى عين ولم يخطر على قلب بشر)وقال الله في سورةالسجدة(فلا تعلم نفس ماأخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)والله لو أن ملكاً من ملوك الدنيا أجرى مسابقة وقال لمن يفوزبها أعطيه جائزة يتوقعها لتسابق الناس إليها لعلمهم أن هذا الملك لايمكن أن يعطي جائزة وضيعة يعير بها وأن الناس يتوقعون أن ينال هذا الفائز أعظم شيء مادام الملك قد أخفاه لأن الملك سيعطي على قدر ملكه فكيف إذا كان المانح والمعطي ومخفي الجائزة رب العالمين جل جلاله،من بيده خزائن السموات والأرض وله جل وعلا السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى فقال الله:(أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي)"فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" كما في الآية.ثم قال:(ومغفرة) دلالة على أن هؤلاء الذين هم المؤمنون حقاً لا يمكن أن يكون قد خلوا من الذنوب كلها هذا محال لا يمكن أن يوجد أحد خلى من الذنوب كلها،كلنا متكلم وسامع ومن قبلنا ومن بعدنا كلنا ذو خطأ ولن ندخل الجنة بأعمالنا لكن المؤمن شبه النبي صلى الله عليه وسلم كالفرس المعقود حبله في مكان ثابت مهما بعد يعود إلى مكانه ، مهما نأى يعود إلى مكانه كذلك المؤمن ،فالمسلم مهما نأت به(25/18)
المعصية أحياناً يفئ إلى ربه ويرجع إلى مولاه ويجدد التوبة ويسأل الله غفران الذنوب ويأتي بالحسنات علَّ الله أن يكفر بها ما سلف من الخطايا قال الله:(( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى لذاكرين)) وإن كنت قد ابتليت بنوع من المعاصي فليس الحل أن تبقى على أن تبقى على تلك المعاصي وتداهن أهلها وتبقى معهم الحل :
أن تتوب وترجع ولأن تلقى الله وأنت خلطت عملاً صالحاً وآخرسيئاً خير لك من أن تلقى الله وليس لك من العمل الصالح شيء ، والمؤمن حصين عاقل يعلم أن الله يغفر الذنوب ويقبل التوبة والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأن أغفر الذنوب جميعاًً فاستغفروني أغفر لكم) فالله جل وعلا وسعت رحمته كل شيء وباب توبته مفتوح وهو جل وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل فلا انفكاك من التوبة والأوبة والرجوع إلى الله جل وعلا ثم قال سبحانه :((ورزق كريم )) وهذا الرزق جاء بعضه في القرءآن قال الله عن أهل الجنة: ((كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة )) يقطف أحدهم الثمرة فما أن يقطفها وتقع في يده إلا وتحل محلها أخرى مثلها تماما فإذا أخذوا الثانية ورجعوا إلى الثالثة قالوا : ((هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها ))كما قال الله ((ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيهاخالدون))اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أنت ربنا لا إله إلا أنت لا رب لنا غيرك ولا إله سواك أنت خالقنا ورازقنا ، ولي نعمتنا وملاذنا عند كربتنا ، نسألك اللهم في هذه الليلة المباركة أن تصلي على محمد وعلى آله وأن تسلم تسليماً كثيرا وأن تغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها سرها وعلانيتها أولها وآخرها اللهم تب على من تاب من يارب العالمين(25/19)
اللهم تب علينا جميعاً ياذا الجلال والإكرام اللهم من حضر درسنا هذا يريد أن يتقرب إليك ويسدرف إليك فاللهم تب عليه وأعنه على نفسه يا ذا الجلال والإكرام وأكرم مجيئه يا حي يا قيوم وارزقه التوبه النصوح الصادقه إليك يا ذا الجلال والإكرام اللهم إن لنا من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه غيرك ولا يعرفه سواك فاغفر اللهم لنا ذنوبنا أجمعين ياذا الجلال و الإكرام واجعلنا اللهم مباركين أينما كنا لا إله إلا أنت اغفرلنا ولوالدينا ولمن له حق علينا ورزقنا اللهم من فضلك واغننا بفضلك عمن سواك اجعلنا اللهم من افقر خلقك إليك واغنا عبادك بك لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين (سبحان ربك رب العزة عما يصفون *وسلام على المرسلين * والحمد لله ربالعالمين ) .(25/20)
تأملات في سورة التوبه(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلىآله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ...أما بعد..فهذا هو اللقاء المتجدد حول تأملات لنا لكتاب ربنا جل جلاله وقد كنا قد انتهينا إلى سورة الأنفال وسنشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تأملات في سورة التوبة سائلين الله جل وعلا التوفيق لما يحبه ويرضاه والعون والسداد على التأمل فيها ...على أنني أكرر ما أقوله دائما إن المخاطب في مثل هذه التأملات هم طلبة العلم في المقام الأول ولهذا يهمنا جدا أن نعرج على مافي الآيات من مسائل علميه يحسن تدوينها والمقصود من هذه الدروس وأضرابها المقصود من ذلك كله إنشاء جيل قرءآني يتدبر القرآن وهذه مساهمة لا أكثر ولا أقل في إحياء جيل ينشأ على تدبر القرآن لأن الله جل وعلا نعى إلى أهل الإشراك إغفالهم عن القرآن بقوله (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)فإننا نقول مستعينين بالله جل وعلا سورة التوبه سورة مدنيه وعدد آياتها/مائتان وتسع وعشرون آية وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن كما ثبت عند البخاري في صحيحه في كتاب التفسير من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه (أن سورة براءه من آخر مانزل) وليس المقصود بأنها آخر ما نزل كآيه وإنما كسورة مجمله هي آخر ما نزل وإلا كآيه قد عرجنا عليه في مسائل عدة .اختلاف العلماء في آخر مانزل منهم من قال (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) وهو الأظهر.ومنهم من قال إنها آية المائدة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقيل غير ذلك لكن هذين هما المشهوران الذي يعنينا أن سورة التوبه هي آخر مانزل وقبل أن نشرع في تفسير الست(26/1)
الآيات الأول منها نقدم اجمالا عن هذه السورة، النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه القرآن أول ما أنزل (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فكان لم يؤمر صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه إلى الناس كان يقرأه بينه وبين نفسه ومن سنة الله في خلقه التدرج وعدم اعطاء الشيء دفعه واحدة فمن رام شيئا دفعه واحدة سيسقط عما قليل ولكن الله جل وعلا له سنن لاتتبدل ولا تتغير والله لايعجل لعجلة أحد من خلقه والله يقول لعبده (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) فلا يعطى الإنسان العطايا مره واحدة وإنما يتدرج فيها على هذا بنيت الدنيا... على هذا أجرى الله السنن في الكون، فهذا النبي الكريم أنزل عليه (اقرأ باسم ربك الذي خلق)ولم يقل له (ادع الناس) ولم يقل له"اتل القرآن على الناس"ولم يقل له شيء من ذلك فلما نزل من ذلك الجبل خائفا وجلا وضمته زوجته خديجه رضي الله عنها وءآوته واطمأنت نفسه أنزل الله جل وعلا عليه (يا أيها المدثر* قم فأنذر) ينذر من؟أنزل الله عليه(وأنذر عشيرتك الأقربين) الذين حوله ولم يؤمر بأكثر من هذا ثم بعد ذلك أمر بالعرب الذين في مكه وحولها قال الله (لتنذر أم القرى ومن حولها) والقرآن يجب أن يفهم مقرونا بالسنة لأن من أخطاء من وقع في كتاب ربنا جل وعلا أنهم فهموا القرآن مجزوءا ولم ينظروا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته حتى يفهم القرآن ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنه ومن غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يفهم شيئا وهذا هو الذي وقع فيه الخوارج الأولون لما حاربوا حتى الصحابه لأنهم يفهموا مراد الله على ماأراده الله من رسوله صلى الله عليه وسلم فالله يقول(لتنذر أم القرى ومن حولها)لكن لايقصد الله بهذا نهاية النذارة وإنما التهيئه تدريجيا ثم أمره الله بأن ينذر العرب قاطبة ثم لما مكن الله له في الأرض صلوات الله وسلامه عليه وعقد صلح الحديبيه مع أهل مكة واطمأن من مقاومتهم أخذ صلى(26/2)
الله عليه وسلم يأتي بعالمية الدعوة ويراسل الملوك والزعماء آنذاك ليحقق قول الله جل وعلا(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وقوله جل وعلا(وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين) في ظل هذا المفهوم يفهم الإنسان المقصود من سورة التوبة هذه السورة قلنا إنها من آخر مانزل في عام تسع من الهجره في شهر رجب خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك وقد قلنا في أكثر من درس أن هذه الغزوة سميت في القرآن بغزوة العسرة قال الله جل وعلا (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) وسماها النبي صلى الله عليه وسلم في السنه/ غزوة تبوك ولذلك الإمام البخاري رحمه الله لما تكلم عنها قال "باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة"حتى يجمع بين تسمية السنه وتسمية القرآن. المقصود في عام تسع من الهجرة خرج صلى الله عليه وسلم في جيش العسرة إلى تبوك هذا الظرف الذي كان في جيش العسرة، كان فيه شح في المال وظهور في الثمار وحرا في المناخ أصاب الناس فتن فانقلبت الناس، كانوا أقسام في اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم .منهم المثبطون، المحبطون، الناصرون، البكاؤون...فرق شتى فنزلت هذه السورة تبين حال المجتمع المدني وقت أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة واستنفر الناس إلى غزوة العسرة بينتهم بجلاء فكشف الكثير من الأسرار كما سيأتي ثم بعد ذلك بعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك لما عاد من... تخوم البلغاء وأذعن له الروم عامة بمعنى أنه لم يحصل حرب لكن اطمأن صلى الله عليه وسلم أن الروم لن تغزوه فرجع من تبوك لما لم يجد قتالا رجع إلى المدينة أراد صلى الله عليه وسلم أن يحج في العام التاسع ثم قال: إن العرب تحج وهي عراة وأنا لاأريد أن أحج على هذا الوضع فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يخرج بالناس حاجا .أمير على الحج لأن مكه كانت قد فتحت في العام الثامن ونحن نتحدث في العام التاسع فبعث النبي صلى(26/3)
الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج ثم بعد ذلك اتبعه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ليظهر في الناس مقدمة سورة براءه فمقدمة سورة براءه الآيات الأول من سورة براءه الخمس الأول أوالست الأول من سورة براءه وإن كانت في مقدمة السورة إلا أنها من آخر مانزل في نفس السورة ،لأن السورة تكلمت عن المنافقين وعن حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم مابين رجب إلى ذي الحجه ثم جاءت مقدمة السورة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها في المقدمه فالقرآن ترتيبه الآن الذي نقرأه ليس على ترتيب نزوله من أهم مايجب أن تعلمه أن ترتيب القرآن على مانقرأه ليس على ترتيب نزوله فالفاتحه مثلا أول القرآن لكنها ليست أول سورة فالآيات الخمس من سورة العلق هي أول مانزل، فترتيب القرآن ليس ترتيبا حسب النزول وإنما لحكمه توقيفيه آرادها النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كان يملي الكتبه ويقول افعلوا كذا... واتركوا كذا... وضعوا الآيه في مكان كذا... والسورة بعد كذا... فترتيب القرآن ترتيب سور المصحف ترتيب توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم نفذه الصحابه .الذي يعنينا هذا هو المناخ العام لفهم سورة التوبه إذا ينجم عن هذا أن سورة التوبه ذكرت مواضيع عدة لكنها يمكن أن يقال أن موضوعين رئيسيين تضمنتها سورة التوبة:ـ الموضوع الأول :ـ علاقة المسلمين بالمشركين وأهل الكتاب.(26/4)
الموضوع الثاني:ـ كشف أسرار المنافقين وحال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينه وفي جيش العسرة على وجه الخصوص .هذان الموضوعان الرئيسيان اللذان تعرضت لهما سورة التوبه قال الله جل وعلا (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين *فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين*وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم...)إلى آخر الآيات إلى أن قال الله (وإن أحد من المشركين استجارك...) الأيه السادسه هي سنتكم عنها في لقاء هذا اليوم أول ما يلفت النظر في هذه السوره أنها ليست مصدره بالآيه الشهيره (بسم الله الرَّّحمن الرَّحيم) ولذلك اختلف العلماء لماذا لم تصدر سورة براءه بـ (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم) على أقوال عده:ــ
أشهر هذه الأقوال ثلاث:ــ
وسنبدأ بالأضعف ثم الأقوى ثم ما نره راجحا على عادتنا في التفسير..
*أما الأضعف: فقد قيل إن من أسباب عدم ذكر( بسم الله الرحمن الرحيم) في أول سورة براءة أنها جرت عادة العرب أنه إذا كان ما بين قوم وقوم عهد فأراد أحدهم أن ينقضه كتبوا إليهم كتابا غير مصدر بالبسمله وهؤلاء يعنون بكلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) (باسمك اللهم) هذا قول ذكره العلماء وهو أضعف الأقوال...
القول الثاني:ــ(26/5)
ما رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:ــ أن ابن عباس سأل عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال له: لما جعلتم سورة الأنفال وهي من المثاني وبعدها سورة التوبة وهي من المئين ولم تجعلوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه لابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت إذا نزلت عليه السوره أو الآيه يقول ضعوها في مكان كذا في سورة كذا بعد كذا وكذا وإن سورة الأنفال من أول ما نزل بالمدينه وإن سورة التوبة من آخر مانزل فمات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يبين لنا هل هما سورة واحده أم لا فاختلف الصحابه فمنهم من قال إنهما سورة واحده ومنهم قال إنهما سورتان فلم يفصلوا بينهما وجعلوا بينهما فرجه حتى يعرف أنهما سورتان منفصلتان ولم يكتب بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يبقى قول من قال إنهما سورة واحده يعني/ الصحابه تراضوا على هذا القول أنهم جعلوا بينهما فرجه حتى يرضوا من قال أنهما سورتان ولم يكتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) بينهما حتى يرضوا من قال: أنهما سورة واحده هذا القول اختاره العلامه الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان وقال: كعادته قال: مقيده عفى الله عنه وهو أظهر الأقوال عندي "عند الشنقيطي رحمه الله" هذا بناء على صحة الحديث والحديث رواه الحاكم كما قلت وقال صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه (أي على شرطي البخاري ومسلم) ولم يخرجاه معناه/ لم يذكراها في الصحيحين هذا على صحة الحديث وقلت رواه أحمد في المسند ورواه البيهقي في السنن لكن قال الألباني رحمه الله: إن الحديث ضعيف وأغرب منه قال العلامه أحمد محمد شاكر محقق كتاب المسند قال: إن الحديث موضوع لا أصل له وهذا صعب أن يقال لكني لم أطلع إلى الآن على نص كلامه لكن كلامه مثبت في مكان آخر. قال: إن الحديث موضوع لا أصل له والحق أن المتن يؤيد قول أحمد محمد شاكر رحمه الله لأن(26/6)
الحديث فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يبين لنا هل هما سورة أو سورتان هذا صعب أن يقال فمتن الحديث يساعد على قول العلامه أحمد محمد شاكر أن الحديث لا أصل له وقلت: إن الألباني رحمه الله يقول إن الحديث ضعيف أما من رأى صحة الحديث من العلماء كالترمذي حسنه أخذ به وذهب إلى أنه ما دام حسنه فهو صحيح عنده والأثر مقدم على العقل مقدم الأثر على الرأي عند كثيرين فلذلك اختار الشنقيطي رحمه الله القول بأن أظهر الأقوال هو هذا القول المحكي عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه...
القول الثالث:ـــ(26/7)
مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن سفيان بن عينيه المحدث المشهور وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء وهو الذي نراه ونرجحه ونختاره والله أعلم، وهو أن سورة براءة نزلت بالسيف و (بسم الله الرحمن الرحيم) فيها أمان ورحمه والأمان والرحمه لا يتفق مع السيف وسورة براءة نزلت بالسيف والبراءه من أهل الإشراك وقوة الحجه على المنافقين وهذا لايتفق مع قوله جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا مجمل الأقوال الثلاثه التي ذكرها العلماء رحمهم الله في قضية لماذا لم تصدر سورة براءة بقول الرب جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) وخلاف العلماء فيه بقية... الأقوال يجب أن لا ينظر فيها لأنها بعيده جدا فيما نحسبه عن الصواب والله تعالى أعلم نعود إلى السوره:ـ قال الله في أولها: قبل أن نذكرها تفسير تفصيلي نقول: هذه السورة من أسمائها سورة الفاضحه وهذا مروي عن ابن عباس لأنها فضحت أحوال أهل النفاق وقد قال سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس أحد مشاهير التابعين خرج على الخليفه عبد الملك بن مروان فقتله الحجاج بن يوسف بأمر من عبد الملك بن مروان في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث طبعا أنا أؤكد على من هم المفسرون وأذكر طرفا من أخبارهم لأنك تدرس تفسير فينبغي أن تعرف الأحاديث المعينه في التفسير والعلماء الذين تصدروا أهل التفسير وسعيد بن جبير هذا عرض القرآن على ابن عباس من أوله إلى آخره ثلاث مرات ، يستوقفه عند كل آيه ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير بعد ذلك بسنين قال الإمام أحمد رحمه الله: قتل الحجاج سعيدا وما من أحد من أهل الأرض إلا وهو مفتقر إلى علم سعيد وقلنا إن سبب قتل الحجاج لسعيد بن جبير أنه خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث على عبد الملك بن مروان الخليفه الأموي المعروف الذي يعنينا أن سعيد بن جبير يقول: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: هي الفاضحه ما زال ينزل ومنهم... ومنهم... ومنهم... يعني يذكر الله فيها(26/8)
المنافقين (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا....) إلى آخر الآيات فما زال ينزل ومنهم ومنهم ...حتى خفنا ألا تدع أحد منهم فلذلك سميت بالفاضحه لأنها فضحت أحوال أهل النفاق عياذا بالله هذا ما يتعلق بتسمية السورة وقد أوصل الزمخشري رحمه الله في كتابه [الكشاف] عدد أسماء السورة إلى أربعة عشر. والزمخشري عالم لغوي شهير لكن عقيدته عقيدة المعتزله فجار الله الزمخشري رحمه الله وعفا عنه من مشاهير المعتزله ودافع عن مذهبهم دفاعا صلبا وإن كان من أفذاذ العلماء في اللغه والذي يعنينا الآن الرجل مات وأفضى إلى ما قدم الذي يعنينا العلم وقد ذكر أربعة عشر اسما في السوره لكنها كلها يدور في فلك واحد كلها يدور حول قول سعيد ابن جبير أنها الفاضحه هذا ما ذكرناه في سبب عدم تصدر السوره (بسم الله الرحمن الرحيم) وقلنا إن من أسمائها الفاضحه قال الله فيها: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) يوجد مُتَبَرِئْ ويوجد مُتَبَرَأْ منه فالمُتَبَرِئْ/" الله ورسوله..."
والمُتَبَرَأْمنه/" من الذين عاهدتم من المشركين..."
البراءه/ الإنفكاك والتخلص من الشيء ولا تكون البراءه من شيء إلا إذا كنت لا تريده بالكليه وهي أعظم صفات الإنفكاك من الأشياء فأنت إذا تعاملت مع أحد وأخذت صك براءه فلا يستطيع خصمك أن يطالبك بأي شيء لانفكاك تماما عنه فالله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس هذه طبعا براءه: خبر لمبتدأ محذوف تقديره/"هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" النبي عليه الصلاة والسلام كان الناس حوله ثلاثة أقسام:ــ
1/ أهل حرب.. 2/أهل ذمه.. 3/ أهل عهد..
1/أهل الحرب:ـــ
الذين يحاربونه والذين مازال بينهم وبينه حروب....
2/أهل العهد:ـــ
الذين في الأصل هم محاربون لكن يوجد عهد لمده معينه....
3/ أهل الذمه:ـــ(26/9)
غير مسلمين يعيشون تحت حكم المسلمين، كاليهود الذين كانوا أفرادا في المدينه هؤلاء يسمون أهل ذمه.
الخطاب هنا ليس موجها لا لأهل الحرب ولا لأهل الذمه موجه لأهل العهد (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) هذه البراءة فيها (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) معنى الآيه يأخي: أن من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد أو لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فقد جعل الله لهم أربعة أشهر هذه الأربعة أشهر حرم الله فيها على المسلمين قتال أهل الإشراك قال لهم (فسيحوا في الأرض) الخطاب/ للمشركين سيحوا في الأرض أي اقبلوا وادبروا...سافروا...اذهبوا كيفما شئتم..لن ينالكم أذى من المسلمين هذا بأمر من الله لكن بعد الأربعة أشهر ينتهي الأمان..كما سيأتي..(26/10)
(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ثم قال الله (واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي وإن أذن الله قدرا وشرعا أن تبقوا أربعة أشهر تسيحون في الأرض إلا أن ذلك لا يعني أبدا خروجكم وانفكاككم عن سلطان الله لأن هذا العطاء من الله أصلا (وأن الله مخزي الكافرين) الخزي في الكافرين واقع لامحاله في الدنيا والآخره واقع في الدنيا/ بالحرب والقتل والأسر وبما يقع فيه من التعذيب والنكال. ويقع في الأخره قطعا/بشيء واحد هو عذاب النار(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)يجب أن تعلم أن المخاطب بها :المشركين لذلك لايجوز نزع الآيه من سياقها والاحتجاج به وقد قرأت مرة لأحدهم يكتب عن السياحه وعلى أنه يجوز للمؤمن من السياحه مطلقا في أي ديار فقال فإن السياحه مباحه قال الله جل وعلا (فسيحوا في الأرض) وهذا إخراج النص من سياقه ووضعه في موضع غير موضعه هذا (فسيحوا في الأرض)مخاطب بها/المشركون والمقصود أنه لكم أمان من الله .أن تبقوا في الأرض أربعة أشهر أعطاكم الله إياها حتى يراجع المرء منهم حسابه ويتدبر في أمره ربما يفيء على أمر الله،بعد ذلك ينتهي الأمان الذي أعطاهم الله جل وعلا لهم ثم قال الله (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الكافرين بعذاب أليم) الأذان في اللغه/ هو الإعلام ،هذا الأذان تولاه علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه النبي صلى الله عليه وسلم قدمنا أنه بعث أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج فلما وصل أبو بكر رضي الله عنه إلى ذو الحليفه بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعده علياً وأبو بكر رضي الله عنه حج بالناس وهو على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العظباء أميرا على الحج في العام التاسع فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة سورة براءة أعطاها لعلي رضي الله عنه فأخذها علي رضي الله عنه حتى لحق بأبي بكر رضي الله(26/11)
عنه لذي الحليفه المسماه اليوم (بأبيار علي) طبعا لا علاقه لعلي بها وإنما التسميه هذه جاءت متأخره أما على عهد الصحابه والتابعين لم تسمى (أبيار علي) وإنما هذه سميت متأخره للرجل اسمه علي مجهول لا يعرف لكنها مذكوره في التاريخ القديم الذي يعنينا وصل علي رضي الله عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر لعلي وهذا من أدب الصحابه بعضهم مع بعض قال له: أمير أم مأمور فقال علي رضي الله عنه: بل مأمور هذه البراءه لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من أهل الإشراك وأن يبين حاله مع مشركي العرب، والإسلام دين واضح لا خداع فيه ولا تمويه لما أمر الله نبيه أن يفعل هذا جرت العاده أن مثل هذه الأمور لا يبلغها إلا الرجل بنفسه أو رجل من عصبته ولا شك أنه من حيث القرابه والعصبه واللصوق بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن عليا أقرب للنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه وإن كان أبو بكر أفضل من علي رضي الله عنه قطعا لكن علياً ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر بل ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من كل أحد لأنه زوج ابنته وتربى في حجره وابن عمه وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لم يجمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص ما جمع لعلي رضي الله عنه وهو الذي تولى غسله عليه الصلاة والسلام فالصحابه الذين من آل البيت كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أيام وفاته كانوا إما يحملونه صلى الله عليه وسلم يعني العباس كان مسند يده ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأسامه كان يسكب الماء لكن كان الذي يباشر الماء علي رضي الله عنه ولما نزلوا في حفرته عليه الصلاة والسلام كان علي من باشر دفنه صلوات الله وسلامه عليه فعلي من حيث القرابه ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم من كل رجل وإن كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وله مزيه لكن تأخر إسلام العباس جعل لعلي تلك المنزله فالرسول صلى الله(26/12)
عليه وسلم حتى يبين للعرب الذين لهم أعراف وعادات يحكمها النظام القبلي القديم أبقاه النبي صلى الله عليه وسلم وبعث عليا بالبراء بفواتح سورة براءة مع أبي بكر رضي الله عنه فكان الأمير هو أبو بكر رضي الله عنه وإنما تبليغ البراءه مسند إلى علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه الله يقول :(وأذان من الله ورسوله إلى الناس) الآن لم يقل الله ما هو الآذان ما هو الإعلام (إلى الناس) ذكر الله الزمن تشويقا (يوم الحج الأكبر) واختلف العلماء رحمهم الله بما هو المقصود بيوم الحج الأكبر على أقوال: لكن هذه الأقوال تزدحم أخيرا في قولين وقولنا دائما من قواعد العلم..ضيق المسافات حتى تصل إلى قمة الهرم فذكرت أقوال عده تضيق منها من قال :أنه يوم عرفه وهو منقول عن كثير من الصحابه والذي عليه أكثر العلماء وأهل التحقيق أنه يوم النحر وسمي يوم الحج الأكبر لأنه لا تجتمع أعمال الحج في يوم كما تجتمع في يوم النحر والذي يظهر والله أعلم أنه يوم الحج الأكبر هو يوم النحر الآن إلى هنا لم يقل الله ما هو الأذان قال الله:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله..) والغايه المجمله من الآيه براءة الرب جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم من أهل الإشراك وهذا يدل على أنه ليس بين المؤمن والمشرك في الأصل أي عقد من الولايه وبين كل مؤمن ومؤمن عقد من الولايه بأصل الإيمان فمهما اختلفت اللغات والجنسيات وتباعد الديار وما أحدثه الإستعمار من فرقه إلا أن الله يقول: (إنما المؤمنون إخوه) فأنت ومنهم في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب إخوان في المله والدين ولو أن أخاك من أمك وأبيك لا قدر الله كان كافرا فليس بينك وبينه أي ولايه لا ترثه ولا يرثك والله يقول عن إمام الحنفاء إبراهيم:(فلما تبين له) أي أن أباه (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) والمقصود من هذا أن الله جمع المؤمنين بتوحيده وخالف بينهم(26/13)
وبين أهل الإشراك لأنهم أشركوا فقال الله:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) هذه البراءه لم يكن وحدها التي ذهب بها علي وإنما أمر علي أن ينادي في الناس بأربعة أمور: 1/أن لا يطوف بالبيت عريان وكانت قريش تسمى نفسها الحمس ويقولون لمن يقدم عليهم من خارج مكه لا يجوز أن تطوف في ثياب فأنت واحد من أمرين:ــ إما أن تشتري ثوبا قريشا أو تأخذ ثوبا من أحد قريش أو أن تطوف عريانا فكان الناس بعضهم يطوف عراة على فقه قريش فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن ينادي بألا يطوف بالبيت عريان..2/ أن لا يدخل مكه بعد هذا العام مشرك وهذه قالها الله في كتابه: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) فلا يقرب المسجد الحرام مشرك..3/ من كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته.4/ أنه لا يدخل الجنه إلا نفس مؤمنه..ختم الله لنا ولكم بالإيمان وأدخلنا الله وإياكم الجنه.هذه هي التي أذن بها علي رضي الله تعالى عنه في الحج (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله...)نأتي عند "ورسوله" وقلنا هذا الدرس علمي هذه "ورسوله" الواو هنا تحتمل احتمالين:ـالإحتمال الأول/ أن تكون عاطفه والإحتمال الذي عليه القراءه اليوم وهي أن تكون:ـ استئنافيه فإن كانت عاطفه فلها من حيث التصور احتمالان: الإحتمال الأول/ والإعتقاد به كفر أن يقرأها القاريء (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولِه..) فتعطف الرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين فيصبح معنى الآيه في غير القرآن أن الله متبرأ من المشركين متبرئ من رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قرأها أعرابي بهذه الصوره/ سمع رجلا يلحن لا يعرف قواعد اللغه وعنده أعرابي قليل الفقه الرجل العامي يقرأ: (أن الله برئ من المشركين ورسولِه) فقال الأعرابي: برئت(26/14)
من رسول الله برئت فيمن برأ الله منه هذا السبب كان فيه سبب أحد أسباب قيام علم النحو فإن أبا الأسود الدولي يقولون/ أنه لما سمع هذا الأعرابي ذهب إلى علي رضي اله عنه وأخبره الخبر فقال له: انحُ للناس نحوا فصنع علم النحو طبعا هذه لا يقولها مسلم إلا جهلا ولا تجد مسلما يعتقدها أو يقولها هذا الإحتمال الأول من حيث النحو لكنه لا يمكن أن يقع شرعا..الإحتمال الثاني/أن تكون رسوله معطوفه على لفظ الجلاله فتؤتى بالنصب فيصبح المعنى (أن اللهَ برئ من المشركين ورسولَهُ) فتصبح "ورسوله" معطوفه على لفظ الجلاله والمعنى هنا يستقيم وبه قراءة..الحاله الثالثه:ـ (أن الله بريء من المشركين) وتقف وتأتي الواو استئنافيه كلام جديد والمعنى: ورسوله كذلك بريء من المشركين.وهنا الواو تسمى استئنافيه وحق الاسم هنا أن يرفع لأن مابعد واو الإستئنافيه يعرب مبتدأ . (فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله)والخطاب للمشركين.(وبشري الكافرين بعذاب أليم)ثم قال الله جل علا (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد )هذه الآية قبل أن أفصل فيها تسمى آية السيف.طبعا عرفنا أن فيه سور من القرآن لها أسماء لكن ينبغي أن تعلم أن هناك آيات من القرآن لها أسماء وأنا سأراجع اليوم معكم أربع من آيات القرآن المسماه أشهر آية في القرآن مسماه :آية الكرسي وهي قول الله جل وعلا (الله لاإله إلا هو الحي القيوم....) الآية الخامسه والخمسون بعد المائتين من سورة البقره ثم بالترتيب :آية الدين أو آية المداينة اسم واحد وهي الآية الثانيه والثمانون بعد المائتين من سورة البقره (يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ...)إلى آخر الآية.والآية الثالثة:آية المباهلة الواحدة والستون أوالثالثة والستون من سورة آل عمران .(فمن حاجك فيه من بعد ماجاءك من العلم فقل(26/15)
تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)الآيه الرابعه:ـ آية السيف وهي الخامسه من سورة براءة.سميت آية السيف لأن الله أمر فيها بالقتال وقال بعض العلماء /إن هذه الآية ناسخة لكل مافي القرآن من أمور الكف والإعراض الله يقول (فاصفح عنهم وقل سلام)وقال (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا)وأمر نبيه بالصبر لكن قالوا هذه الآية ناسخه لكل ذلك وقال بعضهم إن آية سورة محمد (فإما منا بعد وإما فداء)ناسخه لآية السيف .وقال آخرون : إن آية السيف ناسخه لسورة محمد والحق أن لا أحدهما تنسخ الأخرى . وإنما العمل بهما جميعا وكل منها توضع في موضعها الذي سيظهر في سياق الكلام .الذي يعنينا أن هذه الآيه اسمها آية السيف وهي الآيه الخامسه من سورة التوبة.قال الله تعالى(فإذا انسلخ الأشهر الحرم )انسلخت / يعني مرت وانتهت.لكن ماهي الأشهر الحرم؟تحتمل معنين :الأول :ـ الأشهر الحرم التي في الذهن"ذوالقعده ـ وذوالحجةـ ومحرم ـ ورجب" ثلاثة سرد وواحد فرد ، ثلاثة سرد"ذوالقعده ـ وذوالحجه ـ ومحرم"وواحد فرد "رجب"هذا في الذهن.الثاني:ـ اللفظ الآن في (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)يعود على الأربعة أشهر التي مرت معنا (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) فالعودة إلى المذكور أصح من العودة إلى المقدر . فنعيد هذه الأربعة إلى قول الله جل وعلا (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر...)وأخذت كلمة حرم لأنه هو الذي حرم فيها على المسلمين قتال المشركين من هذا المعنى أخذت كلمة "حرم".(فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ربنا يقول (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)من هنا أخذ العلماء أن هذه الآيه اسمها آية السيف لكن يوجد في القرآن عام وخاص ويوجد في القرآن ناسخ ومنسوخ وبينهما فرق دقيق لايظهر إلا بالتطبيق لكن عموما النسخ لايقع في الأخبار ويقع التخصيص في الأخبار ،النسخ يقع في الشرائع لكن التخصيص لايقع بين شريعه وأخرى هذا من حيث الإجمال.أما(26/16)
من حيث التفصيل العام له ألفاظ اللفظ العام له من أشهر ألفاظه "كل"كلمة "كل"من أعظم ألفاظ العموم في القرآن وهي أم الباب يتبعها أدوات الشرط "من" ويتبعها بعد ذلك الأسماء الموصوله"الذي"ثم المضاف إلى معرفة...أمور طويله نبقى في الثلاث الأوائل.أما التخصيص فيقع على قسمين:الأول:ـ مخصص متصل.الثاني:ـ مخصص منفصل. سأضرب مثال على المخصص المتصل والمخصص المنفصل سنأخذه في آية السيف.المخصص المتصل:الله يقول (كل شيء هالك)هذه "كل"من ألفاظ العموم لكن هذا العموم خصص بقول الله تبارك وتعالى (كل شيء هالك إلا وجهه)فوجه الله ـ تعالى الله عما يقول الظالمون ـ ليس بهالك لأن الآية خصصته من كلمة"كل" خرج منها بحرف الإستثناء "إلا" استثني وجه الله تبارك وتعالى .فالإستثناء طريقه من طرائق التخصيص .فكل من ألفاظ العموم وخصص وجه الله جل وعلا من ألفاظ العموم هذا التخصيص وقع كله في آية واحدة لذلك اسماه العلماء تخصيص متصل .والشق الثاني:تخصيص منفصل هو الذي بين أيدينا يقول الرب جل وعلا (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) سأبدأ من النهايه (حيث وجدتموهم )يدل عموم على أن المشرك يقتل في أي مكان .لكن هذا الكلام لايصح هذه الآيه مخصصة بآية أخرى أنه توجد أمكنه لايجوز قتل المشرك فيها (في الحرم المكي)الله يقول (ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) إذا كيف يجمع مابين الآيتين ؟ أن يقال أن آية التوبة عامه وآية البقرة مخصصة لعموم آية التوبة فالمشرك يجوز قتله في أي مكان إذا لم يكن هناك عهد أو لم يكن هناك ذمه يجوز قتله حيث وجدناه إن لم يكن له عهد ولا ذمه ولا ميثاق إلا في المسجد الحرام فلو جاء إنسان وقتل أحدا في المسجد الحرام وقال إن الله يقول (حيث وجدتموهم)قلنا له إن هذه الآيه العامه خصصت بقول الرب جل وعلا(ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه)هذا تخصيص مكان.نرجع قليلا الله يقول(واقتلوا(26/17)
المشركين)تعم كل مشرك لكن هل يجوز قتل كل مشرك؟هنا مخصصه بالسنه لا يجوز قتل النساء ولايجوز قتل الرهبان ولايجوز قتل الأطفال دلت السنه في آثار عده متعاضدة أنه لايجوز قتل النساء ولاقتل الصبيان ولاقتل الرهبان إذا العموم الذي وجد هنا في قوله جل وعلا(المشركين)خصصته السنة فأخرجت السنة النساء وأخرجت الأطفال وأخرجت الرهبان وفي روايه أخرجت الشيخ الكبير الهرم إن لم يكن له دور في المعركه أما إن كان له دور حيث أنه مدبر أو مفكر أو مخطط للمعركه فيجوز قتله ولو كان شيخا فانيا مثل: دريد بن الصمه كان شيخا كبيرا فانيا وكان ذا عقل وتدبير وهو أحد فرسان العرب أدرك الطائف وهو كبير لكن العرب عفا الله عنا وعنهم فيهم أنفه كانوا يقدمون رجلا يقال له مالك أو كعب ذاعلم بالمعركه ودريد أشد خبره من مالك هذا فلما أعمى يقودوه في المعركه وهو أعمى يتحسس الأرض ويسأل أين نحن؟قالوا أنت في ديار كذا قال ماتصلح ديار حرب أخرجوا فخاف الزعيم وهو من نفس القبيله أن يأخذ دريد الأمر عنه فما أراد أن يكون لدريد فيها نصيب فجاء بالسيف ووضعه على يد يعني وضع السيف وجعل نصل السيف قائم وثنى بطنه على السيف وقال إن لم تطعني هوازن قتلت نفسي يريد أن يخرج منها دريد بالكلية فهوازن كانت متعاطفه معه القبيله قالوا أنت الزعيم الذي تقوله هو الذي يمضي لن نأخذ برأي دريد فرفع نفسه عن السيف ووقعت الهزيمه عليه وكان رأي دريد أشد صوابا لكنه لم تأخذ به العرب.وهو القائل المثل
المشهور:
وهلْ أنَا إِلا مِن غَزِيةُ إِن غَوتْ.
غَوَيتُ وإنْ تَرْشُد غَزيةُ أَرْشُد.(26/18)
هذا دريد بن الصمه قتله المسلمون وهو شيخ كبير لأنه كان يخطط وله دور في المعركه أما الشيخ الكبير الذي ليس له يد في المعارك فهذا يترك .نعود اللآيه.قلنا إن هذا تخصيص فالله يقول (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)وهذا كله أمر بتضيق الخناق عليهم.ثم قال الله جل وعلا(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)هذه الآيه استدل بها بعض العلماء/على أن تارك الصلاة كافر وحجتهم/قالوا إن الله ذكر ثلاثة أسباب هي العودة من الشرك وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.وقالوا إن إيتاء الزكاة خرج بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث(ثم ينظر في سبيله تارك الزكاة هل هو إلى الجنه أو إلى النار)ويبقى تارك الصلاة صاحب الشرك على حاله.وهذا رأي جيد وإن كان هذا ليس محل تفصيله لكن أنا أذكره لمناسبة الآية(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) ثم قال سبحانه (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) بعد أن ذكر الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم كيفية التعامل مع أهل الإشراك قال له (إن أحد من المشركين) طلب أن تجيره أن يلجأ إليك فالله يأمر نبيه أن يقبل تلك الإجاره وأن يجير ذلك لسبب عظيم وهو (حتى يسمع كلام الله)فإذا سمع كلام الله ومافي كلام الله من وعد ووعيد وثواب وعقاب ربما كان ذلك سبب في اسلامه بدليل أن الله قال بعدها (ذلك بأنهم قوم لايعلمون)الذي ينبغي أن تفهمه من الآية أن تفهم أن أهل الكفر وإن كان الكفر ملة واحدة لكن الكفار تختلف أسباب كفرهم فمنهم كافر عنادا ومنهم من هو كافر جهلا لو قدر له أن يسمع كلام الله لكان ذلك سببا في إيمانه فالله يقول لنبيه(حتى يسمع كلام الله)وهذا دلاله على أن المؤمن واثق من الدين الذي يدعوا له فينبغي أن نحرص على أن نسمع من كان علته الجهل أن يسمعه كلام الله وهذا يوجد في(26/19)
بلادنا مايسمى "بتوعية الجاليات"هذا أمر محمود لأن كثيرا من الناس لمن يأتون لهذه البلاد بغير قصد الإسلام فإذا اختلطوا بالناس ورأوا الإسلام كان ذلك سببا في اسلامهم وقد يأتي إنسان يريد أن يكون لاعب كرة فيحتك بالمسلمين هنا ثم يرى عظمة الإسلام فإذا تلي عليه القرآن يصبح ذلك سببافي اسلامه كذلك مايقال على حال الأفراد يقال على حال الأمم والدول فليست كل دول الكفر السبب في كفرها شيء واحد وإنما تختلف اختلاف واضح منها ماهو محارب للإسلام عقيده ،ومنهم من هو محارب للإسلام عملا، ومنهم من يحارب الإسلام لمصلحة ومنهم من لامصلحه له في حرب الإسلام فلا يحارب الإسلام فيجب أن نتعامل مع أهل الكفر بحسب أصل كفرهم أو بحسب سبب كفرهم مثلا قبل يومين وزيرة التربيه والتعليم في الدنمرك قررت تطبيق تدريس القرآن الكريم في مراحل التعليم العام في الدنمرك من دون أي ضغط دولي اسلامي هذا من أعظم الفتوح في عالم الإسلام اليوم ولما جاءت المعارضه واحتجت عليها في بلادها على أنها قررت تدريس القرآن قالت: إن الكثير من الدنمركيين مسلمين وأنا قلت أن كلمة كثير لاتعني الأكثر لاتعني الغلبة يوجد مسلمون دنمركيون وأصحاب لهم من الدنمركيين الغير مسلمين فنريد منهم أن يتعرفوا على الإسلام وهذه حضارات لايوجد شيء يمنعها فهذا الفكر العلماني هنا خدم الإسلام بما يسمى سياسيا تقاطع المصالح فيجب أن ينظر من يدعوا إلى الله ينظر إلى حال أهل الكفر فليس أهل الكفر وإن كان الكفر مله واحده ليس حالهم في معاداة الإسلام على حال واحدة بل يوجد بينهم أمور عظيمه من الخلافات فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه كيف يدعوا إلى الله مستشهدا بالآية (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لايعلمون)قال العلماء:ـ ربما كان سبب كفرهم الجهل فإذا رفع عنهم الجهل دخلوا في دين الله تبارك وتعالى أو دخل في الإسلام بتعبير أوضح.المقصود من هذا أن(26/20)
الإنسان يفرق مابين من يدعوهم في تعامله مع الأفراد....تعامله مع الأمم...تعامله مع الدول ... بنص القرآن الآيه فيها دليل كذلك واضح على أن القرآن كلام الله وفيه رد عقدي على المعتزله الذين يقولون أن القرآن مخلوق وغير منزل والله جل وعلا قال (حتى يسمع كلام الله) فأضاف كلمة(كلام)إلى لفظ الجلاله وهو مايسمى بإضافة صفة إلى موصوف فالله جل وعلا من صفاته تبارك وتعالى أنه يتكلم بماشاء متى شاء له جل وعلا الأمر كله وهذا من أدلة أهل السنه وأدلتهم كثيره علىأن القرآن منزل غير مخلوق والآيه من حيث قواعد اللغه "إن"هذه شرطيه "وأحد"مبتدأوقلنا مراراهذه جمل شرطيه (فأجره)الفاء واقعة في جواب الشرط وسبب وقوعها أنها مبدوءه بفعل أمر.هذا ماأردت بيانه في هذا اللقاء وأنا أكثرت فيه من الناحيه العلمية لكن كما قلت المقصود أن يخرج من هذه الحلقه من يحمل تفسير كلام الله جل وعلا إلى غيره وليس المقصود الوعظ على وجه الخصوص وإن كانت ستأتي آيات خاصة بالوعظ نعرج عندها ونطيل أكثر من اليوم لكن أنا جرت العادة حتى وأنا أدرس في الكلية أن أول المحاضرات تكون أقل وآخر المحاضرت تكون أقل وهذا عين السنة .النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ويختم بواحدة ويجعل الإطاله في الوسط ولن تجد هديا أعظم من هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأنا كنت أصرف الطلاب في آخر العام وأذهب للوكيل وأقول له هذه السنة.لن تكون آخر حصة كمثل أوسط الحصص آخر العام يأخذ كلمتين مراجعة ويذهبون وكذلك بداية العام الله يقول على لسان نبيه (قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا)
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك"
.(26/21)
تأملات في سورة التوبة (2)
أما بعد فما زلنا وإياكم نتفيؤ دوحة سورة التوبه في التعليق عليها وقد سبق الحديث عنها أولا حول مجمل عدد آياتها وأسمائها وماتعلق بها من موضوعين رئيسيين في الدرس السابق .وقلنا إن هذه السورة هي السورة الوحيده في القرآن التي لم تصدر بقوله جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) وذكرنا أن للعلماء في هذه أقوال عدة خلصنا منها إلى ثلاثة أقوال ثم قلنا إن من أرجح الأقوال فيها أنها نزلت بالسيف وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تتضمن الرحمه والآمان وهذان لايتفقان وقلنا إن هذا القول منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وإلى سفيان ابن عيينه رحمه الله تعالى وهذا قلنا هو الذي يظهر لنا ترجيحا والله تعالى أعلم وذكر رأيين دونهما في القوة كما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا ابن أبي طالب رضي الله عنه ملحقا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه في مسيرة أبي بكر رضي الله عنه أميرا للحج في السنة التاسعه للهجرة وقلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يحج في ذلك العام لأن العرب كان يطوف بعضهم عريان فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بأربعة أمور ذكرناه فيما سبق وأنا أقولها اجمالا حفاظا على الوقت أمره بأن من كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ،وأنه لايدخل الجنة إلا نفس مؤمنه،وأنه لايطوف بالبيت عريان،وأن لايحج بعد هذا العام مشرك،وأنزل الله قوله (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ثم شرعنا في بيان الآية الخامسه منها وهي آية السيف وتكلمنا عنها وشرحنا ماتعلق بها من عام وخاص وفق ماسلف قوله .اليوم إن شاء الله تعالى نختار كالعاده بعضا من آيات هذه السورة ونحن نكرر في سائر دروسنا أنا لانفسر جميع آيات السور وإنما نختار منها بحسب الحال حتى نحاول أن نعرج على القرآن كله وقد بدأنا ولله الحمد بالبقرة ونحن الآن في سورة التوبة فنقول سنقف(27/1)
اليوم عند قول الرب تبارك وتعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون *ولوأنهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون*إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم*ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ....)إلى آخر هذه الآية،ثم سنقف إن شاء الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى(والسابقون الأولون...)وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين)هذه مواضيع لقاء هذا اليوم نسأل الله جلت قدرته أن ييسر إلقاءها والنفع بها للقائل والسامع .فنقول الله جل وعلا في هذه السورة ذكرنا فيما سلف أنه ذكر فيها المجتمع المدني الذي كان يعم بالأخيار لكن لم يكن يخلوا من المنافقين وأن المنافقين كانوا مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينه ممن مردوا على النفاق كما أخبر الله جل وعلا في القرءان وهذه السورة سميت بسورة الفاضحه لأنها فضحت المنافقين وقلنا إن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقول مازال ينزل من هذه السوره ومنهم....ومنهم....ومنهم حتى لاتكاد تدع أحدا منهم نسأل الله العافيه،فقوله(منهم)هذه من:بعضيه وليست بيانيه.فقول الله تعالى(ومنهم من يلمزك في الصدقات) معنى الآية:وبعض منهم أي بعض من المنافقين يلمزك في الصدقات وأصل الآية:أن النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من حنين قسم الغنائم فأعطى أقواما حديث عهد بالإسلام وبعضهم مشركين أعطاهم من الغنائم يتآلفهم بها صلوات الله وسلامه عليه فجاءه رجل يقال له ذو الخويصره التميمي قال له يارسول الله اعدل كما أمرك الله فقال عليه الصلاة والسلام ويحك إن لم اعدل فمن يعدل فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال يارسول الله إذن لي أن أضرب عنقه فقال عليه(27/2)
الصلاة والسلام لاحتى لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وهذا أخذ بما يسمى في السياسه المعاصره/أخذ باعتبار الرأي العام .فقال حتى لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ثم لما ولى قال عليه الصلاة والسلام سيخرج من ضئضئي هذا أقوام يقرؤن القرءان لايجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فكان هذه أول نبته تاريخيه لما يسمى بعد ذلك بالخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.وقد اختلف العلماء في أي أول فرق الإسلام ظهورا من أهل البدع؟قال بعضهم الخوارج وقال بعضهم الشيعه والصواب أنهم أشبه بالمتلازمين مع بعضهما البعض وإن كان الأصل في الخوارج إذا اعتبرنا ذوالخويصرة منهم بأنه رأسهم لاشك أنهم أقدم تاريخا لأنهم ظهروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال الله (ومنهم)أي من المنافقين (من يلمزك) أي يعيبك وينتقصك وهذا رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله.فلما فسد القلب فسد اللسان فسد التعبير قال عثمان رضي الله عنه "ماأسر أحد سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه"جعلنا الله وإياكم ممن يسر الخير فهذا الرجل شارك مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حنين وحارب وغزى لكنه كان يسر الشر في قلبه فلما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أمين من في السماء واستأمنه الله جل وعلا على أعظم منزل وهو القرءان ومع ذلك لما أخذ عليه الصلاة والسلام يقسم الغنائم بحسب المصلحه العلياللإسلام يأتي هذا من بين الناس ويقول له يامحمد اعدل كما أمرك ربك أو كلمه نحوها فقال عليه الصلاة والسلام ويحك إن لم أعدل فمن يعدل.فهذا الرجل أسر السريرة المريضه في قلبه وهي سريرة النفاق وأظهر مايخفه وأظهر خلاف مايبطنه خلاف مايخفيه فلما جاء هذا الموقف لم يصبر فأخرج السريرة التي من قلبه فأخذ يعترض على حكم وتقسيم نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ائتمنه الله تبارك وتعالى من فوق سبع سموات والله جل وعلا(27/3)
يقول(الله أعلم حيث يجعل رسالته)الله تبارك وتعالى في هذه الآية يقول لنبيه (ومنهم من يلمزك في الصدقات)أي يعيبك (فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)ومن دلالة القبول قبول الإنسان للحق أو مراده للهوى أن ينظر في تصرفه حال المنع والإعطاء فمن الناس من يأتي يسأله وقد بيت الإجابة من قبل إجابه يريدها فإن وافقت إجابتك له الإجابه التي يريدها خرج يمدحك بين الناس ويرفعك على أقوام تعلم أنت أنك لاتصل إلى علمهم وإن قلت له إجابة لايريدها تخالف هواه تخالف مراده خرج يقدح فيك ويقول فيك من المعايب ويظهر مافيك من النقائص لأن إجابتك لم توافق هواه فهو لايريد الحق يريد أن يجبرك على أن يوافق هواك أنت هواه هو،فالله يقول عن هؤلاء(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)فهم لايريدون نصرة دين ولا إعلان كلمه ولا إقامة حق إنما يردون أن يتبعوا أهواءهم فإن اعطيتهم أثنوا عليك وقالوا محمدكذا ومحمد كذا صلى الله عليه وسلم يمدحونك وإن لم تعطهم أطلقوا لألسنتهم العنان في أن ينتقصوك لأنهم أصلا لايريدون الميزان الحق وإنما يريدون مايتبع أهواءهم هذه إحدى خصال النفاق أعاذنا الله وإياكم منها لكن هنا نتكلم عن قوم منافقين حقا فليس أمر نطبقه على الغير معاذ الله نحن نتكلم عن قوم وجدوا بأسمائهم وأعيانهم تكلم الله جل وعلا عنهم فهؤلاء ليسوا مثلا يضربه الله للناس وإنما هذا قوم حصل منهم هذا الأمر ووقعت منهم الواقعه (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)وقلنا إن من ذرية هذا الرجل ظهرت فرق الخوارج بعد ذلك والخوارج والشيعة كما قلنا متلازمان وعلى وجه الإجمال نتكلم بعض المقارنة العلمية المحضه بين الفريقين كلاهما فيه الغلو لكن الفرق أن الخوارج يغالون في الأحكام فيتشددون فيها على غير علم والشيعة يغالون في الأشخاص .فلما غالى الشيعه في الأشخاص(27/4)
غالوا في علي وآل البيت حتى أوصلوهم إلى منازل ليست لهم حتى قال الخميني في كتاب له اسمه "الحكومه الإسلامية"يقول :وإن من أصول مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لاينالها ملك مقرب ولانبي مرسل طبعا يقصد بأئمتهم الأئمه الإثني عشريه من آل البيت فهؤلاء آل البيت قوم مرضيون عنهم صالحون لكن هؤلاء غلوا فيهم مغالاة فاحشة فوق منازلهم الخوارج يغالون في الأحكام يأتون للحكم فيتشددون فيه على غيرفهم ولاغير علم ينزلونه جبرا على الناس هذا الأمر الأول..الأمر الثاني:ــ الخوارج يعتمدون على الصدق والمكاشفه ولا يضمرون شيئا والشيعة يعتمدون على التقيا والمواراة والإلتفات والخوارج قوم يظهرون ما عندهم ولذلك جابهوا الأحكام عبر الدهور ،جابهوا عليا...جابهواالأمويون جابهوا عبدالملك لا يوارون شيئا لا يستترون بشيء لكن الشيعه قوم يتحايلون لأنهم يؤمنون بالتقيا حتى خروج المهدي الذي يزعمون أو يرتقبون خروجه ينجم عند هذا: إن الخوارج يعتمدون على الصدق لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر فلا يكذبون في حين أن الشيعه يعتمدون على الكذب لأنهم يعتقدون بجواز التقية والخوارج لا يرون الكذب أصلا لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر فيعتمدون على الصدق ولذلك عمران بن حطان أحد زعماء الخوارج وشعرائهم وأخرج له البخاري في الصحيح اعتمادا على أنه لا يكذب أبدا في كلامه لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر هذه من الفوارق ما بين الشيعه والخوارج..الأمر الثالث:ــ الخوارج أشد شجاعة لا يخافون الموت لا يهابونه عبر التاريخ كله..يقول قطري بن الفجاءه..
أَقولُ لها وقدْ طَارتْ شَعَاعا
مِن الأَبْطال وَيحَكَ لنْ تُراعِي
... فَإِنكِ لَوْ سَألتَ بَقَاءَ يَومٍ
عَن الأَجلِ الذِي لكِ لَنْ تُطاعِي
فَصَبْراً في مَجالِ المَوتِ صَبرَا(27/5)
فَمَا نَيْلُ الخلُودِ بِمُسْتَطاعِ .....هذه الأبيات كلها لرجل من أكبر زعماء الخوارج اسمه: قطري أن الفجاءه في حين أن الشيعه يعتمدون على بقاءأنفسهم عبر التاريخ ويحافظون على سلامة أنفسهم مستطاعوا إلى ذلك سبيلا هذه مقارنه سبيطه علمية ما بين الفريقين دفع إلى القول بها حديثنا عن ذي الخويصره ثم قال الله:(ولو أنهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقال حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) يبين الله جل وعلا هنا المنهج الحق في الإنسان إذا أعطي أو منع..الإنسان عبدلله والمؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم ليكن ليصيبه وأن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها كما قال صلى الله عليه وسلم (فاتقوا الله وأجملوا بالطلب) فالله جل وعلا يقول كان المفترض الموقف الشرعي لهؤلاء (ولو أنهم رضوا ماءاتاهم الله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) لو قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله علقوا أنفسهم بالله طبعا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا/ لأنه كان حيا ولا يقال هذا اليوم. (إنا إلى الله راغبون) أي ينقطعون إلى الله فلو أنهم انقطعوا إلى الله وسلموا بأمره ورضوا بحكمه جل وعلا وقالوا حسبنا الله كان خيرا لهم وأعظم وأهدى سبيلا وهذا هو الموقف الذي ينبغي على المسلم أن يتبعه على كل حال، في حال الفقر... وحال العطاء... وحال المنع... وحال الأخذ... وحال السراء...وحال الضراء...وعلى كل حال. ثم قال الله وهذه الآيه الآن (إنما الصدقات للفقراء....) آيه عارضه داخله في مجمل بيان لأحوال الناس وإنما دفع القول بها قطعا لأطماع المنافقين أن يكون لهم حظا من المال. قال الله تعالى:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) "إنما" لغويا تفيد الحصر وهي أحد أساليب الحصر(27/6)
في لغه العرب وبالتالي أحد أساليب الحصر في القرآن فقول الرب تبارك وتعالى (إنما الصدقات للفقراء) ثم ذكر باقي الثمانيه دليل على أنه لا يجوز أن تعطى الصدقات لغير هؤلاء الثمانيه "الصدقات" هنا المقصود بها الزكاة الشرعيه وليس المقصود بها/ صدقة التطوع وإنما الزكاة التي هي قرينة الصلاة التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم....)أنا سأشرح الآن لن أشرح فقهيا لأن هذا الدرس تفسير لكن سأذكر إجمالا ما يمكن أن تستفيد منه من هذه الآيه دلت الآيه على أمور:ــ 1/ حصر أصحاب الزكاة الثمانيه..(27/7)
2/ أن الله جل وعلا تولى تقسيم الزكاة والله قد خلق النفوس وهو جل وعلا أعلم بحبها للمال. وقال تبارك وتعالى (وتحبون المال حبا جما) وقال (إنه لحب الخير لشديد) والخير هنا بمعنى المال. فالمواريث والزكاة لأنها حقوق ماليه تتعلق بها أنفس الناس لم يكل الله توزيعها لأحد وإنما تولى الرب جل وعلى مصارفها وتقسيمها قال الله: (يوصيكم الله في أولادكم لذكر مثل حظ الأنثيين...) وقال: (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد..) فقسم تبارك وتعالى المواريث وقسم تبارك وتعالى وحدد أصناف الزكاة وجاءت السنه ففصلت ما أجمله القرآن كل ذلك حتى لا يبقى لأحد مشاحه في أحد ولايبقى تطلع أكثر مماهو مذكور في القرآن فعلى هذا علم الله جل وعلا وهو أعلم بخلقه تطلع النفوس للأموال فحسم الرب تبارك وتعالى تعلق العباد بها فقال جل وعلا(إنما الصدقات للفقراء...) الأصناف المذكورون هنا ثمانية كما هو ظاهر الآية وقرن الله جل وعلا بين كل صنف وصنف بواو العطف.الأمر الثالث:ـ ذكر الله جل وعلا أربعة "باللام" وأربعه بحرف الجر "في"فقال (للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفه قلوبهم)هؤلاء "باللام"وقال (وفي الرقاب والغارمين )ثم أعاد العطف قال(وفي سبيل الله وابن السبيل)مجمل مايراد قوله هنا /أن اللام تعني التمليك فيملك الفقير ويملك المسكين ويملك العامل ويملك المؤلفة المال ولايقال له نشترط عليك أن تضعه في كذا أو تضعه في كذا وإنما تعطي الفقير أو المسكين أو العامل أو المؤلفة هؤلاء الأربعه الأوائل المال بيده فيقبضه فيدخل ملكه وهو حر في أن يفعل به مايشاء أما قول ربنا(في الرقاب)(في الغارمين)(في سبيل الله وابن السبيل) فهذه لايشترط أن تعطى لهم وإنما إنسان مثلا غارم يعطى دينه لمن له عليه الدين يعني:للدائن (وفي الرقاب) فك الرقاب:العتق سوف يأتي فيعطى لصاحب الرقبه حتى يعتقها أو للمكاتب حتى يفسح عنه كما سيأتي فالفرق بين "اللام" و"في"يختلف اختلافا(27/8)
جذريا كما بينا .الأمر الرابع:ـ ذكر الله الأهم فالأهم لأن الأصل الواو لاتعني الترتيب الصحيح لكن دلت السنه عموما على أن هناك خصائص في التقديم فالنبي عليه الصلاة والسلام(صعد الصفا وقال:أبدأ بما بدأ الله به (إن الصفا والمروة من شعائر الله)فقدم الصفا لأن الله قدمها في كتابه وإلا الأصل أن الواو في لغة العرب لاتعني الترتيب لكن قلت تقديم الله جل وعلا هنا يدل في الغالب على تقديم الأهم فالأهم .قال الله (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين لكن الآية تدل عموما على أن الفقير أشد حاجة من المسكين وهذا الذي نرتضيه وإن كان في المسألة أكثر من عشرة أقوال لاحاجة لذكرها لكن الفقير من كان أشد حاجة من المسكين .الفقير والمسكين/لاحاجة للشرح .وهما شخصان غلبت عليهما المسكنه والحاجة إلى المال إلا أن أحدهما أشد من الآخر.ثم قال جل وعلا (والعاملين عليها)العاملين/القائمين على الزكاة....السعاة...الجباة...المسؤولين.... الإداريين عن جمع الزكاة هؤلاء هم العاملون ثم قال جل وعلا (والمؤلفة قلوبهم)المؤلفة قلوبهم لم يرد في القرآن كله ذكر لهذا الصنف من الناس إلا في آية الزكاة فيوجد في القرن مشركون...كفار....منافقون...مؤمنون..مجاهدون...توجد أصناف كثيرة ...تتكرر لكن كلمة مؤلفة قلوبهم لم ترد في القرآن هذه الطائفه إلا في ذكر مصارف الزكاة نعود إليهم المؤلفة قلوبهم قد يكونون أهل إيمان وقد يكونون أهل كفر والجامع بينهماأن في اعطائهما مصلحه للإسلام فمثلا:ـ إما كافر يعطى ولوكان كافرا دفعا لشره أو كافرا يعطى تأليفا لقلبه أن يسلم أو مسلم ضعيف الإيمان يعطى وله شوكه مسموع الكلمه مطاع يعطى زيادة في إيمانه أو مسلم لتوه داخل في الإسلام وله نظراء من الكفار فإذا اعطيناه طمع غيره ونظراؤه من الكفار في الدخول في الإسلام . واختلف العلماء في هذا السهم،سهم المؤلفه قلوبهم باق أو منسوخ .فقال بعضهم إن(27/9)
هذا منسوخ لأن الله عز دينه وهذا كان في أول الإسلام والحق الذي عليه المحققون من العلماء والجمهور/أنه غير منسوخ لأن الأحوال تختلف والعصور تتباين فيطبق في كل عصر مافيه مصلحة المسلمين العليا وإن أسقطه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. هؤلاء الأربعة ثم قال جل وعلا(وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)الرقاب :ـ تحتمل أمرين.الأمر الأول:ـ أن يشتري صاحب الزكاة "المزكي"من زكاة ماله عبدا أو أمه مملوكا لغيره "عبدا أو أمه مسلمان طبعا"فيملكها ثم يعتقها. مثلا:ـ عليه زكاة عشرة آلآف ريال فذهب إلى بلد كموريتانيا حاليا يوجد فيها رق فذهب للموريتانيا واشترى بعشرة آلآف ريال عبدا أو جارية مملوك لغيره ثم أعتقه هذا قول ربنا وفي (وفي الرقاب) وهو الأظهر .الأمر الثاني:ـ يوجد في الشرع مايسمى بالمكاتب والمكاتب وهذا غير موجود في عصرنا ،المكاتب رجلا مملوك فيأتي لسيده ويقول أنا أدفع لك مالا معينا أسعى في تحصيله على أن تعتقني فيوافق السيد فيأخذ هذا العبد يجمع في المال هذا إما من الناس أو بجهده حتى يكون ذلك المبلغ الذي يخرج به من سيده فيصبح حرا.فإعانة هذا المكاتب تجوز شرعا وهي داخلة في قوله تبارك و تعالى :(وفي الرقاب) عند أكثر العلماء لا عند كلهم .في عصرنا هذا نسمع كثيرا ما يقال إن من فك الرقاب أن يذهب انسان إلى السجن ،شخص محكوم عليه بالإعدام "بالقصاص" بتعبير الشرع .فيعطي الورثة "ورثة القتيل" المقتول المطالبين بالمال مثلاً الدية:مائة ألف يقول أنا أعطيكم مليون،ولكن اتركوا هذا...سامحوه...س/هل هذا فك رقبة داخل في الزكاة؟*لا يدخل في الزكاة .هذا عمل خير نعم هذا فضل...صدقة نعم.لكنه لا يدخل في الرقاب.فأنت تتعبد الله بلغة القرآن لا باللغة السائرة بين الناس . فالقرآن أنزل عربيا فمن يعرف لغة العرب يستطيع أن يتعامل مع القرآن ،أما اللغات الدارجة التي تتغير هذه لا تحكم بها ،القرآن وإن كان(27/10)
المشهور في بلادنا أنهم يسمونها:فك رقبة لكنها غير داخلة. قال الله:(والغارمين)الغارم :أصل الغرم في اللغة /اللزوم.والله قال عن جهنم أعاذنا الله وإياكم منها :"إن عذابها كان غراما" يعني لازم لأصحابها.والغارم:هو من عليه الدين،والغريم :هو الذي له الدين ويسمى غريم ؟لأنه ملازم للمدين ،والدين العرب وأهل العقل والفضل يقولون إنه هم بالليل وذلُّ بالنهار.وقالوا:إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى رجلا متقنعا فقال له عمر:أما بلغك أن لقمان الحكيم يقول :إن التقنع هذا تهمة بالليل أو ريبة بالنهار أو كلمة نحوها ،تذم التقنع .فقال هذا الرجل :يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين فهذا يتقنع حتى لا يراه أصحاب الدين ويطالبونه ولذلك قال الفقهاء :إن من عليه دين ويخشى من غرمائه في المسجد قد تسقط عنه صلاة الجماعة . الذي يعنينا هذا الغارم والغارم شرعا قسمان:ـ
1/غارم لنفسه.
2/غارم لغيره .
الغارم لنفسه هو من يستدين لمصلحة نفسه .يريد أن يتزوج ...يريد أن يطلب علما...يريد أن ييبني بيتا...يريد أن يؤثث بيته...هذا غارم لنفسه .(27/11)
أما الغارم لغيره/ رجل جاء لقوم صار بينهم شجار واقتتال وفساد في الأموال فأصلح بينهم وتكفل باصلاح ما أفسدته الخصومة بين الفريقين. فأخذ يطلب أموالاً...غرم أموالاً تكلف المسألة مثلاً:خمسين ألف...سبعين ألف...مائة ألف...فأخذ يطلبها من الناس. فهذا غارم لغيره ليس غارماً لنفسه .وكلا الفريقين يعطى من الزكاة بقدر الذي يحتاج إليه ،وقد قال العلماء:إن الإسلام حث على عدم الدين ومن الدلائل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من عليه دين ،حتى فتح الله جل وعلا له الفتوح وقال في الجهاد وهي من أعظم الأعمال ..وقال في الشهاده وهي من أعظم القربات إن الشهاده تكفر الذنوب إلا الدين أخبرني به جبريل ءانفا لكن العلماء يقولون:إن الإنسان إذا كان يستدين ترفا فلايعطى من الزكاة .فمثلا إنسان راتبه أربعة آلاف ريال فهذا أنه كونه عنده سياره هذا حق من حقوقه ولايخرج من كونه فقير لكن بالعقل إنسان"لانريد أن نسمي نحن في مسجد"راتبه أربعة آلاف ريال ففيه نوع من السيارات لاحاجه للتفصيل يلائم حاله لكن لوجاء وطلب سياره استدان ليشتري سياره فارهة جدا لايركبها أمثاله فهذا دين ترف فمثل هذا لايعطى من الزكاة هذا من قول الله تبارك وتعالى(والغارمين)ثم قال الله جل وعلا (وفي سبيل الله)وسبيل الله كثير كما قال مالك واختلف العلماء في كلمة(في سبيل الله)على أقوال عدة لكن أنا أقول الرأي الراجح فيما أراه .الرأي الراجح أن في سبيل الله الغزاة المجاهدون في سبيل الله المتطوعون هم المقصود بقول الرب تبارك وتعالى(وفي سبيل الله)وقال بعضهم طلبة العلم ،وقال بعضهم أهل الحج ،وقال بعضهم غير ذلك .لكن هذا الذي نرتضيه والله تعالى أعلم.(وابن السبيل)هذا أسلوب عربي. العرب تنسب الشيء إلى من يلازمه يقولون(ابن السبيل)للمسافر لأن السبيل هو الطريق ،الله يقول في الحجر(وإنهما لبسبيل مقيم )أي هذه الديار موجوده في طريق مقيم ثابت عن قوم ثمود.فقول الرب جل(27/12)
وعلا (وابن السبيل)هذا أسلوب العرب يقولون بنات الدهر للمصائب. عبد الله ابن الزبعرة يقول :وبنات الدهر يكعبن بكل...."يعني المصائب"تأتي على الفريقين .ويقولون نبات أفكاره يعني آرائه وشعره يسمونه/نبات أفكاره، الذي يعنينا (ابن السبيل)هو الرجل الذي انقطعت به السبل وإن كان غنيا في دياره ، الغريب الذي انقطعت به الحال حتى أصبح محتاجا للمال فيعطى بمقدار مايوصله إلى أهله هؤلاء اجمالا وأنا قلت لن أفصل كثيرا أقسام أهل الزكاة الثمانيه الشرعيون.إذا ذكرنا من يستحق الزكاة يجب أو يلزم أن نذكر من لايجوز أبدا أن يعطون من الزكاة ونبدأ بالأول :أولهم:ـ الكفار والملاحدة سائر أمم الكفر لايعطون من الزكاه إلا المؤلفه قلوبهم وهذا ظاهر فليس معقولا أن تعطي كافر من زكاة مالك لكن يجوز اعطاؤه من صدقة التطوع لقول الله(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) والأسير لايكون إلا كافر .الأصل أنه كافر.الثاني:ـ بنوهاشم آل النبي صلى الله عليه وسلم وقد مر معنافي تفسير سورة الأنفال أن الكلام عن آل البيت أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام منهم من قال أن آل البيت هم قريش كلها وقلنا هذا بعيد.وقلنا الفريق الثاني:ـ أنهم قالوا بنوهاشم وقلنا هذا أقوى من الأول.ثم رجحنا أن المقصود ممن لايعطون الزكاة هم بنوهاشم بالإضافه إلى بنوا المطلب وليس عبدالمطلب وقلنا إن هاشم بن عبد مناف وإن عبد مناف هذا ترك أربعة من الولد نوفل،وعبد شمس،وهاشم،والمطلب.وقلنا إن هاشم هذا منه كان النبي صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لماذا منع من الزكاة وأن هؤلاء الثلاثه لما حاصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب جاء أبناء المطلب فدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقي بنونوفل وبنوعبد شمس خارج الأمر فقال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري قال:" إن بني المطلب لم يفارقون في جاهليه ولافي إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك صلى الله عليه وسلم بين(27/13)
أصابعه" وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مذهب الإمام أحمد وهو الحق إن شاء الله أن هؤلاء لايعطون من الزكاة لأنها من أوساخ الناس لكن اختلف العلماء فيما لوكان موالي بني هاشم من العاملين عليها هل يعطون أو لا يعطون قال فريق :ـ يعطون والأظهر أنهم لايعطون لحديث رافع وهو مولى للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل من بني مخزوم قال اذهب معي نسعى في الزكاة حتى نكسب لأن العاملين عليها يأخذون منها فقال: دعني استشير النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم عليه الصلاة والسلام "مولى القوم منهم"فموالي بني هاشم كذلك لايعطون من الزكاة أما صدقة التطوع فالمسألة فيها خلاف كثير بين العلماء والذي يظهر أنهم لايعطون .الأمر الثالث:ـ أصول الرجل "آباؤه فما فوق"و"أمه فما بعدها"فلا يعطي الرجل من الزكاة لاأباه ولاأمه وإن قال شيخ الإسلام ابن تيميه أنهم يعطون لكن القول الذي عليه أكثر العلماء أنهم لايعطون لأنه يجب عليه نفقته.الأمر الرابع:ـ بعد الأصول يأتي الفروع فلا يجوز لرجل أن يعطي ابنه ولاابن ابنه ولاابن ابنته ولاابنته فلا يعطي فروعهم والله ذكر في القرآن الفروع والأصول في آية غير الزكاة وذكر الحواشي .الحواشي/الإخوان.وفيهم نظر.ولكن الأرجح إن شاء الله أنه يجوز إعطاءهم من الزكاة لأنه لاتجب نفقتهم في الأصل.الأمر الخامس/أعمال الخير المطلقه لايجوز أن يبني مسجد أويعمل جمعيه خيريه تعنى بتكفين الميت وإن كان هذا خير أو تبني قناطر خيريه أو تبني مطاعم أو ما أشبه ذلك من الصدقات العامه كإفطار صائم ومايقال في مثل هذا في بلادنا وفي غيرها هذا كله لايجوز إعطاء الزكاة منه لأنهم لايدخلون في الأصناف الثمانيه وقلنا إنما:ـ تفيد الحصر.وأنا أقول إذا تريد أن تعطي الزكاة الشرعيه أعطها شخصا بعينه وإرتاح لا تسلمها أحد.أما أمور الصدقات التطوع العامة هذه ترجع لك تعطيها أي مؤسسة تطمئن إليها .أما الفرض تريد أن تعطي مثلا أخ لك قريب من(27/14)
جماعتك...طالب يدرس في حييك ...فقير في الحي تعرفه...أحد جيرانك...أحد قرابتك...اذهب إليه واعطها بنفسك تبرأ ذمتك وتتأكد من أنها وصلت إليه .أما صدقة التطوع هذه تحتاج إلى جهد مثال:ـ الطعام،وأمثال الكسوه.وهذا صعب أن تقوم أنت بها بمفردك .لكن هذه الجمعيات الخيريه،المؤسسات الخيريه،أقدر على إصالها ،ففرق مابين الأمرين أفضل لنفسك هذه مايمكن أن نقوله حول الصدقات.ثم قال الله جل وعلا في الآيه التي نريد تفسيرها (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)هذه الآية مما يفتح لكل مسلم باب الترغيب في العمل الصالح لأن الله جل وعلا ذكر فيها ثلاثة أصناف.
1/ذكر المهاجرين.
2/وذكر الأنصار.
3/وذكر جل وعلا التابعين لهم بإحسان وهذا يدخل فيه كل مؤمن إلى يوم القيامه.فذكر الله هنا ثلاثة أصناف قال جل وعلا(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في الحديث الصحيح(أمتي كالمطر لايُدَرى خيره أوله أم آخره) والله يقول في الجمعه (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)فباب الرحمة مفتوح واللحوق بهؤلاء أمر مقدور عليه لكن كان عمر رضي الله تعالى عنه يظن أن هذا محال وكان يقرأ هذه الآية هكذا (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ) فأصبحت على قراءة عمر رضي الله عنه فريقان:ـ
1/الأنصار.
2/والمهاجرين.(27/15)
وقال ماأظن أنه كان أن يبلغ أحد مبلغنا فلما قرأها على زيد وزيد أعلم من عمر رضي الله عنه بالقرآن .قال:ياأمير المؤمنين يوجد واو قال ليس فيها واو قال يوجد واو فقال عمر رضي الله عنه ادع لي أبياً أبي بن كعب،فصدق أبي قول زيد وقرأها:"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان..."فقال عمر ماكنت أعلم أن أحداً سيبلغ مبلغنا. يعني/ما أظن أن الباب مفتوح ،لكن رحمة الله واسعة والنبي عليه الصلاة والسلام قال: وددت لو أني رأيت أخواني قالوا يارسول الله:ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي ولكن إخواني لم يأتوا بعد.وهذا داخل فيه كل من اتبع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان.نأتي عند قوله تعالى :"والسابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار" المهاجرين /أطلقت على من هاجر قبل الفتح إلى مكة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا هجرة بعد الفتح" يقصد لا هجرة من مكة وإلا الهجرة قائمة إلى الآن. يترك الإنسان ديار الكفر ويأتي ديار الإسلام ممكن. لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الهجرة من مكه "لاهجرة بعد الفتح"الذي يعنينا أن هؤلاء المهاجرين هم أعلى الأمه مقاما لأنه بدأ بهم لكن اختلف في معنى كلمة السابقين .فمنهم من قال من صلى إلى القبلتين وقد فرض تحويل القبله بعد ستة أو سبعة عشر شهرا من الهجره إلى المدينه فيصبح من ءامن قبل هذا يصبح من السابقين على هذا القول.وءاخرون قالوا من شهد بدرا هذه أوسع زمنا.ومنهم من قال من شهد بيعة الرضوان وأظنه أرجح وأرحم من شهد بيعة الرضوان في السنه السادسه في صلح الحديبيه وهاجر إلى المدينه قبل هذا الوقت يدخل في قوله تعالى(والسابقون الأولون من المهاجرين)هذا الكلام عن المهاجرين وهم رضي الله عنهم وأرضاهم كثرمن أشهرهم الخلفاء الراشدون الأربعة .ثم قال جل وعلا(والأنصار)الأنصار:ـ تسميه شرعية وليست تسمية نسبيه وإنما سموا أنصارا لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم(27/16)
وهي إذا أطلقت يراد بها /الأوس والخزرج .والأوس والخزرج رجلان أخوان اسمهما الأوس ابن حارثه والخزرج ابن حارثه والحارثه هذا من أزد اليمن ممن هاجروا من اليمن بعد وقوع السد وسكنوا المدينه وكانت قبائل اليمن قد تفرقت في مواطن شتى منهم الأوس والخزرج سكنوا المدينه فإذا قيل الأنصار ينطلق في أول المقام إلى الأوس والخزرج وكان بينهما من النزاع والنفره مالله به عليم.قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث صلوات الله وسلامه عليه آخى بينهم وسماهم الأنصار.وقد جاء في الأحاديث الصحاح الكثير من مناقبهم قال عليه الصلاة والسلام "لولا الهجره لكنت امرأ من الأنصار"وقال"اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"وقال"إن الناس يكثرون والأنصار يقلون"وأوصاهم بالصبر. وقال لهم "إنكم ستجدون أثره بعدي فاصبروا حتى تلقوني،وموعدكم الحوض"رضي الله عنهم وأرضاهم فهم قدموا أنفسهم ودورهم ومهجهم وأموالهم من أجل نصرة الله ورسوله وهم كما قلنا في الأصل قبيلتان الأوس والخزرج من أشهر الأنصاريين من الأوس/سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ومن أشهر الأنصاريين من الخزرج/سعد بن عبادة،وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه،وبنوعوف الذين نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دارهم في أول هجرته كما سيأتي في قوله تعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ) ثم قال الله (والذين اتبعوهم بإحسان)وهذا القيد لابد منه لأن الله لما قال(السابقون الأولون من المهاجرين)أطلق ولم يقل قيدا وقال(والأنصار)ولم يقل قيدا لكن لما قال(والذين اتبعوهم)جاء جل وعلا بقيد والقيد هو(بإحسان)والإحسان/الإتقان والمعنى:ـ أن ينظر في صنيعهم وهنا لم يذكر الله قضية (اتبعوهم)فيه أشياء يدل عليها العقل فالمقصود أن هؤلاء المهاجرين والأنصار وقع منه هفوات وزلات وأخطاء فلايجوز أن نتبعهم فيها وإنما المقصود اتباعهم فيما اصابوا فيه من الإعتقادات(27/17)
والأقوال والأعمال رضي الله عنهم ورضوا عنه ولايوجد نعمه أعظم من رضوان الله قال الله تعالى في كتابه(ورضوان من الله أكبر)والمعنى/ورضوان من الله أكبر من كل نعمه.رضوان من الله أكبر :ـ أي لايعدل رضوان الله جل وعلا شيء .والله جل وعلا يخاطب أهل الجنه آخر الأمر فيقول :أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.فلا يعدل رضوان الله شيء بلغنا الله وإياكم رضوانه فقال الله تعالى(رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها)هذه قراءة الأكثرين بدون حرف الجر "من"وقراءة أهل المدينه على قراءة ابن كثير (تجري من تحتها)يوجد "من"لكن الذي عليه الأكثرين عدم حرف الجر ولا يختلف هذا في المعنى كثيرا(وأعدلهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)والمقصود من هذه الآيه أننا كما تكلمنا عن أهل النفاق نتكلم عن أهل الفضل كما أمرنا الله أن نجتنب أحوال أهل النفاق أمرنا الله أن نتبع أحوال أهل السبق من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وأن نقتفي سيرهم ونلتمس هديهم ونتبع آثارهم ونكون كما كانوا. يوجد آيه تركتها نسيانا مع أنني قلت في أول الدرس أنني سوف أفسرها وهي قول الله جل وعلا(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)هذه الآيه نزلت أن قوما من أهل النفاق كانوا يتحادثون في مجالسهم الخاصه فيعيبون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول بعضهم لبعض نخشى أن يصله كلامنا فيقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن أي يصدق كل شيء.فإذا بلغه أننا تكلمنا فيه نذهب إليه فنعتذر فيصدقنا يسيمون النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاهه يريدون أن ينتقصوه فالله هنا يدافع عن نبيه ويناصره ويتولاه يقول(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)والأذن: الجارحه المعروفه.والمقصود/أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويصدق كل مايقال له(27/18)
حسب زعمهم ويقولون هو أذن فقال الله(قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)والنبي صلى الله عليه وسلم أرفع مقاما وأكمل أخلاقا وأجل سيرة مما افتراه هؤلاء المنافقون عنه بل كان عليه الصلاة والسلام يتغافل عما لايشتهي ولم يكن فيه إلا الرحمه والخير للناس عموما قال الله عنه:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"فقال الله هنا (قل أذن خيرلكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين )فجاء بالفعل يؤمن وعدى في الأول بحرف الجر الباء وعدى في الثاني بحرف الجر اللام .والمعنى/الفرق في التعديه هنا:لأن قوله جل وعلا (يؤمن بالله) فإيمانه بوجود ربه تبارك وتعالى أمر لا يخالطه فيه شك بوحدانية ربه وألوهيته وأن الله موجود لكن قوله تعالى :"ويؤمن للمؤمنين"النبي ليس مسؤل عن سرائرهم ، وإنمايسلم أمرهم لله فيؤمن بما ظهر منهم ويكل سرائر الناس إلى خالقهم .فقال الله في الأولى "يؤمن بالله"وقال في الثانية"ويؤمن للمؤمنين"ثم قال جل وعلا :"ورحمة للذين ءامنوا منكم "ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة في بعثته ...رحمة في هديه...رحمة في سيرته...رحمة في كل من يقتفي أثره ويتبع سنته.ثم قال الله(والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)إذا كان المسلم أصلا مطالبا بأن يؤمن ويحب ويوالي ويناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يؤذيه عليه الصلاة والسلام فأذيته عليه الصلاة والسلام وانتقاصه حيا أو ميتا ولو بمقدار شعره مع اعتقاد ذلك كفر مخرج من الملة يقتل صاحبه ولو تاب وتراجع يقام عليه حد القتل وقد بينا ذلك مرارا ويهرق دمه لكن يقيمه ولي أمر المسلمين،وأمره إلى الله تبارك وتعالى إن صدق في توبته أو لم يصدق لكن حتى ولو أظهر صدق التوبه يقام عليه الحد ويقتل إذا انتقص شيئا من نبينا صلى الله عليه وسلم ومستند العلماء في هذا مابيناه مرارا كما أخرج أبوداوود بسند صحيح من حديث ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له جارية أم ولد تقوم برعايته وأنجب منها طفلين(27/19)
كالؤلؤتين يحبهما وهذه المرأه كانت تحبه رغم أنه أعمى وشفيقه به ...رفيقة تقدم له كل حاجة إلا أنها كانت تقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم فينهاها هذا الأعمى فلا تنتهي فوجدت ذات مرة هذه المرأة مقتولة قد بقر بطنها ولطخ دمها الجدار فقام صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس قال:أنشد الله رجلا لي عليه حق ويعلم عن هذا الأمر شيئا إلا أخبرنا به فقام هذا الأعمى من آخر المسجد يقطع الصفوف ويضطرب في مشيته حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:يارسول الله أنا صاحبها أنا قتلتها فتعجب منه صلى الله عليه وسلم وقال:ولما؟قال:إنها كانت تقع فيك فأنهاها فلاتنتهي وازجرها فلاتنزجر فالبارحه وقعت فيك فنهيتها فلم تنتهي وزجرتها فلم تنزجر فقمت إلى الموغل"والموغل السيف القصير"فأتيت حتى وصل إليها وهو أعمى يعني لايراها حتى علم أنه أصاب بطنها فتكأ على الموغل حتى بقر بطنها وقتلها فلما أتم حديثه قال صلى الله عليه وسلم"اشهدوا أن دمها هدر"من هنا أخذ العلماء ومن غيره من الأحاديث أنه لايجوز أبدا أذيته صلوات الله وسلامه عليه وقد فصلنا هذا في مواطن كثيرة باستطراد أكثر فالذي يعنينا أن الله توعد بالعذاب الأليم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن على الناحيه الأخرى لايجوز للمؤمن أن يغلوا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام بشر وليس له من خصائص الألوهية ولا الربوبية شيء وإن كان أفضل الخلق مقاما وأعلاهم منزلة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم لكن في الأمه بعد سقوط بغداد على يد هولاكو أصاب الأمه مرحله من الضعف سياسيا واقتصاديا وعقديا وعلميا حتى ظهر مايسمى بأدب التصوف أو بأدب المدايح النبويه فجأ أقوام يبالغون لقلة العلم العقدي فيه صلى الله عليه وسلم فأنشأت قصائد لايمكن أن تجوز شرعا في حقه صلى الله عليه وسلم منها قصيدة البصيري المشهوره.
أَمِنْ تَذكُر جيران بِذي سَلَم(27/20)
مَزَجْت دَمْعا جَرى من مُقلةٍ بِدمِي
أَمْ هَبتْ الريحُ من تَلْقاءِ كاظِمةٍ
أَو أَومَضَ البرقُ بالظَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّلماءِ من إِضَمِي
إلى آخر القصيده وقد سماها"الدرر البهية في مدح خير البرية"أو كلمة نحوها وهو رجل مات في آخر القرن السابع وأمره إلى الله أنا أتكلم عن القصيده .قال في القصيده عفا الله عنا وعنه.
قال:ياأكرمَ الرسلِ مَالي مَن أَلوذُ بِه
سِواكَ عند حُلول الحَادث العَممِ
ولاريب أن هذا عين الشرك وعين الكفر الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه ونقضه...قال الإمام الشوكاني رحمه الله معلقا على هذا البيت قال:إنالله وإنا إليه راجعون انظر كيف غفل عن الله ولاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم والنبي عبد بالله ورسول من رسل الله صلى الله عليه وسلم فمثل هذا لايمكن أن يقبل ولايمكن أن يجوز لا ماقاله البصيري ولا ماقاله أترابه وأقرانه ممن غالوا فيه صلوات الله وسلامه عليه وهو عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من المناقب في غنى عما قاله هؤلاء ضعفاء الإيمان والجاهلون عنه فله صلى الله عليه وسلم المقام الرفيع لكن لايجوز لأحد أن يغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه ثم نختم بقول الرب تبارك وتعالى(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون*لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) النبي عليه الصلاة والسلام أول مانزل المدينه نزل في قباء عند المسجد المؤسس اليوم وكانت هناك دار الرجل يقال له كلثوم بن الهدم أحد الخزرج من بني عمر بن عوف وهو عليه الصلاة والسلام دخل المدينه يوم الإثنين فمكث الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس صبيحة الجمعة قبل الزوال خرج من دار كلثوم بن الهدم حتى وصل إلى مكان المسجد الآن المسمى بمسجد الجمعه(27/21)
فصلى فيه ثم أتى مسجده الموجود الآن فأناخ راحلته فيه هناك أسس صلى الله عليه وسلم المسجد مسجد التقوى مسجد قباء لكنه لم يبنيه وإنما بناه بنوعمرو بن عوف بعد ذلك .هذا المسجد كان لبني عمرو بن عوف جيران من الخزرج وهم بني عمرو بن عوف هؤلاء من الأوس من هؤلاء قوم نشأوا على الشرك والضلاله وأكثرهم منافقون فبنوا مسجد ضرارا منازع لهذا المسجد لأن هذا المسجد كان يغص بالمصلين فتجتمع الكلمه فتتآلف القلوب ويتوحد الصف فبنوا ذلك المسجد وزعموا أنهم بنوه لذي العلة والليله المطيرة والليله الشاتيه وللحاجة وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنما بنينا مسجدا بهذه الأوصاف ونريد منك أن تأتيه وتصلي فيه كما صليت في مسجد قباء لإخواننا من بني عمرو بن عوف فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه على شغل وأنه على جناح سفر وأنه ذاهب إلى تبوك فلما قدم من تبوك أوحى الله جل وعلا إليه بقوله(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا...) فانتدب صلى الله عليه وسلم نفرا من الصحابه منهم رجل يقال له مالك ومنهم وحشي قاتل حمزة حوالي أربعة فبعثهم ليحرقوا ذلك المسجد ويهدموه فهدموا المسجد وأخرج مالك من بيته شعلة نار وأحرق المسجد وهدمه ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في روايه أن يكون المسجد مكانا كناسة :يعني توضع فيه القمامات وفضلات الناس نكالا بهم.هذا هو مسجد الضرار قال الله فيه (والذين اتخذوا مسجدا ضرار...) الضرار:ـ المنازعه..العمل الذي يدفع إليه الحسد.هذا قوله (ضرارا) (وكفرا) لأنهم أرادوا بذلك زيادة النفاق الذي في قلوبهم .(وتفريقا بين المؤمنين)تدل الآية على كل عمل يراد به تفريق الناس أمر محرم شرعا يؤدي إلى الكفر ولو كان في مسجد.فلايوجد مصلحة في الدين أعظم من اجتماع كلمة الناس وكل من حمل لواء يريد فيه أن يفرق بين المسلمين يجب نبذه وتركه ولوتستر بألف ستار فإذا كان هذا مسجد كان بالإمكان أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابه أن يأتوه ويلقوا فيه(27/22)
دروس ويغيروه ويحولوه لكنه مادام أسس على باطل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه واحراقه ومن هنا نحن نقول والله أعلم إن القنوات المعاصره اليوم لاتخلوا من أحد أمرين :ـ إن أسست على باطل فلا نرى جواز الخروج فيها ولوظن من يخرج فيها أن هناك مصلحة في الخروج. أما إذا أسست على حق:فيجوزالخروج فيها وإن خالطها شيء من الحرمه فمثلاً جاء إنسان وأسس قناة تبث أفلاماً ثم قال للشيخ والشيخ والشيخ ثلاثه أو أربعه قال نحن نريد منكم دروس في هذه القناة نحن والله تعالى أعلم نقول أنه لا يجوز شرعاُ الخروج في مثل هذه القناة لأن هنا تقرير الصحه ما بنيت عليه القناة أمرها أما إن وجدت قناة أصلاًُ قناة اسلاميه كالمجد مثلاُ ونحن لا نمدح المجد لمصلحه نمدح المجد لأنها المنارة الوحيدة الموجودة الآن التي تبث الإسلام كما نريد فيما نعلم. يقرن إليها قناة الفجر إن وجدت(قناة القرآن الكريم تبقى قنوات رسميه لبعض الدول فهذه لا أسست لا على حق ولا على باطل هذه لمصلحه فهذه يجوز الخروج فيها لتوسطها أما قناة تؤسس لبث دعارة أو بث أفلام فلا يعقل أن تأتي قناة تبث فلما إباحيا أو فلما يكاد يقرب من دوافع الفحشاء ثم يؤتى برجل يحدث ثم ينتهى هذا الرجل ويؤتى بفلم آخر على نفس المنوال هذا عبث هذا مثاله في الواقع كرجل أراد أن يصنع حفلة فرح (زواج) وجاء براقصات ومغنين عراة فجاء ناس ينكرون عليه قالوا: هذا حرام لا يجوز قال:ليست مشكلة هذا الفرح من التاسعة إلى الساعة الثانية من الساعة الحادية عشر إلى الساعة الواحدة أنا أسمح لكم أن تأتوا على نفس المسرح وتلقوا أي حديث.هل يجوز لهذا الرجل أن يأتي هذا الفرح ويلقي هذا الحديث ويخرج وهو يعلم يقيناً أن قبله محرم وبعده محرم لا يمكن لأنك أنت إذا فعلت جعلت الناس يكفرون ويأتون هذا فيما نعتقدة لكن يوجد مسأله مهمه لا يعني ذلك أن من خرج من علمائنا وفضلائنا في مثل هذه القنوات أنه يتهم بشيء ونحن نقول ما ندين(27/23)
الله به لكن كما قلنا إن ما قد نراه نحن حق خطأعند غيرنا ونراه نحن خطأ صواب عند غيرنا نحن نبين الحكم على مانرتضيه لكن لا يجوز لنا ولا لغيرنا أن نقدح في أحد من علماء المسلمين رأى أنه توجد مصلحه في الخروج في تلك القنوات.لكن أنا أقول ما أدين الله به من هذه الأيه (والذين اتخذوا مسجداًضراراً) لأن هذا مسجد بني وسقف ووجد وكان له إمام سيأتي قصته فلو كان الشيء الذي أسس على باطل يمكن قلبه إلى حق لكان هذا المسجد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل أبي بن كعب إمام له وتنتهي القضيه هذا الذي ندين الله به من هذه الآيه نعود إلى الآيه:(وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل)الإرصاد/التربص والترقب وكان هناك رجل يقال له أبو عامر الفاسق وكان يقال له في الجاهليه أبو عامر الراهب وهذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد:لا أجد قوما ًيقاتلونك إلا قاتلتهم فقاتل حتى مع هوازن يوم حنين ثم خرح إلى قيصر وقال للمنا فقين الذين في المدينة أنتم ابنو المسجد وترقبوا عودتي من قيصربالجنود حتى نخرج محمدا ًوأصحابه منها صلى الله عليه وسلم فهذا معنا قول الله:(وإرصاداً لمن حارب الله ورسول من قبل) والمقصود أبو عامر الراهب وسبحان الهادي هذا أبو عامر هو والد حنظله ابن أبي عامر غسيل الملائكة فسبحان من يخرج الحي من الميت وليس هناك حياة أعظم من حياة الإيمان ولاميت أعظم من ميت ميت الكفر الذي يعنينا(وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحفلن إن أردنا إلا الحسنى) ولا يوجد إنسان يريد أن يضل الناس يقول لهم أنا أريد أن أضلكم الله يقول:(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)(وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) فقال الله لنبيه (لا تقم فيه أبداً)فأحرقه صلى الله عليه وسلم ثم قال له:(لمسجد أسس على التقوى) وهو مسجد قباء على الصحيح (من أول يوم)أي من أول يوم حضرته المدينه (أحق أن تقوم فيه) لكن يستنبط من(27/24)
هذا إذا كان مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه هذا الفضل وقلنا إنه مجرد أنه أسسه أما مسجده فهو الذي أسسه وهو الذي شارك في بنيانه فهذا أعظم لأنه إذا ورد هذا في حق ماأسسه فمن باب أولى أن يكون تعظيم المسجد النبوي أعظم لأنه أسسه وشارك صلى الله عليه وسلم في بنائه (أحق أن تقوم فيه)المراد بالقيام هنا الصلاة (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ثم ذكر الله القاعدة:(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهد القوم الظالمين) قال العلامه ابن سعدي رحمه الله:.إن المعصيه تؤثر في المكان كما تؤثر فيه الطاعة فذلك المسجد لما بناه قوم عصاه خرج عن كونه مسجد فمسجد قباء لما صلى فيه قوم طائعون مصلحون ازداد نورا على نور هذا ماأردنا بيانه على وجه الإجمال في وقفاتنا هذه الليله مع سورة التوبه وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا وإياكم لباس العافيه والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله.
*ملاحظة: لم تذكر مقدمة الدرس في الشريط.(27/25)
رحماء بينهم
الحمد لله الذي له الملك والملكوت وله العزة والجبروت وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الذي لا يموت
وسع كل شيء رحمة وعلماَ وقهر كل مخلوق عزة وحكماَ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماَ ..
وأشهد أن محمداَ عبده ورسوله صفيه من خلقه وخيرته من رسله بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب فهدى به من الضلالة وعلم من الجهالة أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياَ عن أمته
وصلى وسلم عليه وعلى آله أصحابه ومن سلك مسلكهم وأقتفى أثرهم وأتبع نهجهم بإحسان إلى يوم الدين :
أما بعد
أيها المؤمنون ففي هذا اليوم الثالث عشر من الشهر العاشر لعام خمسة عشر وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتجدد لقاء كان قد أنقطع لأمر لابد منه ألا و هو انشغال المؤمنين بالتعبد والتلاوة في شهر رمضان المبارك أسأل الله أن لا يخلي أيامنا وأيامكم من عمل بار ٍ مرفوع إليه ولا من دعاء مسموع لديه
ونحن إذ نجدد اللقاء في هذه الليلة لنبين أن دروس التفسير فيما سلف كانت تنصب على وقفات مع سور بأجملها أما المرحلة الثانية من هذه الدروس والمبدوءة من مساء هذا اليوم فإنها تنصب على آيات معنية من كتاب ربنا جل وعلا يحسن الحدث عنها ويجمل الذكر بها وهذا اليوم مع درس قول ربنا جل وعلا
" رحماء بينهم "
وهذا الجزء من الآية حكاه الله جل وعلا في القرآن منبأ بأنه وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذلكم الجيل الأمثل و الرعيل الأول الذين أيد الله بهم دينه ونشر الله بهم ذكرهم في الأرض وآثر بهم العرب خير الأنبياء والمرسلين محمدا ً صلى الله عليه وسلم فقال ربنا وأخبر أنه أثنى عليه في كتابين من قبل القرآن من التوراة والإنجيل فقال جل جلاله(28/1)
" محمد رسول الله والذين معهم أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا ً سجدا ً يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانا ً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا ً عظيما "
وهذا الوصف الرباني والنعت الإلهي الذي وصف الله به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نحن مقتفون على أثارهم وملزمون بهدي محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبع هديه من أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .. لذلك فإن الحديث عن الرحمة وأساليب الرحمة بين المؤمنين ترى والله تعالى أعلم من الأمور التي توجب نشرها للناس وتعليمها للعامة و الخاصة وإلا كيف لنا أن نقتدي بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ونقتدي بأصحابه ونحن نجهل أقوالهم ولا ندري عن أفعالهم فأن التشبه بالصالحين يقرب منهم والمؤمنين إنما يتعبدون الله جل وعلا بما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم كذلكم هو الدين الذي أمر الله عباده بأن على محمد يتبعوه وأن يتعبده به .. والحديث عن الرحمة أيها المؤمنون لا يمكن أن يتحدث به أحد دون أن يتكلم فيه عن أمرين جليلين عظيمين
الأول الحديث عن سعة رحمة ربنا جل جلاله .
والثاني الحديث عن سعة وما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم من رحمة فطره الله عليها وجبله الله تبارك وتعالى عليها.(28/2)
أما الحديث عن رحمة أرحم الراحمين جل جلاله .. فإنه ما رحم أحد أحداً إلا بفضل من الله ورحمة و إن الله جل وعلا خلق الرحمة مائة كما صح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فأثبت ربنا تسعة وتسعين جزءاً عنده وأنزل جزءاً واحداً يتراحم به الخلائق قال صلى الله عليه وسلم " حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " من ضمن هذه الرحمة التي أنزلها الله جل وعلا للخلق يتراحمون بها فيما بينهم والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله تبارك وتعالى كتب في كتاب فهو عنده تحت العرش " أن رحمتي تغلب غضبي "
" قل لله ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون "
فأخبر جل وعلا أنه كتب على نفسه الرحمة .. بل أخبر جل جلاله أن رحمته لا يليق بها شيء أبداً قال عذابي أصيب بها من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء " ولذلك قال الصالحون من قبلنا في دعائهم اللهم إن لم تكن أهل لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا " وقد صدقوا فيما قالوه فإن رحمة الله كما أنبأه وسعت كل شيء شملني الله وإياكم برحمته الواسعة ..
أيها المؤمنون مظاهر رحمة الله قد تنقسم إلى قسمين رحمة شملت المؤمنين والكفار الأبرار والفجار الخلائق أجمعين إنساً وجناً وحيواناً وطيراً وما إلى ذلك .. فهذه رحمته تبارك وتعالى الشاملة ومن أعظم الدلائل عليها خلق الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر وجريان الفلك في البحر بأمر الله تبارك وتعالى .. تسخيراً لعباده وإنزال المطر ليحيا به الخلائق كل ذلك من رحمة الله الشاملة للعباد أجمعين " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً * ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيرا *وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشورا ً* لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاما ً وأناسي كثيرا ً "(28/3)
فهذا من مظاهر رحمته تبارك وتعالى الواسعة لجميع خلقه .. أما رحمته تبارك وتعالى بالمؤمنين فإن أعظم رحمة منّ الله بها على عباده المؤمنين أن هداهم للإيمان فلا يعدل الأيمان أي نعمة لأن نعمة الإيمان هو القسيم بين أهل الجنة وأهل النار فمن منّ الله جل وعلا عليه بالهداية للدين فقد رحمه الله جل وعلا رحمة عظيمة من عنده ونحن أيها المؤمنون شملنا الله برحمة أخف ألا وهي أنه جعلنا برحمة منه وفضل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورحم الله من قال :
ومما زادني شرفاً تيهاً
وكدت بأخمصي أطاء الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيرت لي أحمد نبياً
فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حظنا من النبيين ونحن حظه من الأمم صلوات اله وسلامه عليه بكرة وأصيلاً فمن رحمة الله جل وعلا لعباده المؤمنين أن هداهم للإيمان وأن وفقهم للعمل الصالح وأن تقبل منهم إذا تقبل ذلك العمل الذي يرفع إليه تبارك وتعالى
" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه "
على أن رحمة الله لعباده المؤمنين إنما ينال المؤمنون منتهاها إذا زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة قال ربنا " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " فهذا هو الفوز العظيم ..
ورحمة الله تبارك وتعالى إنما تتجلى أعظم في يوم الفزع الأكبر وفي عرسات يوم القيامة عندما يقف الخلائق أجمعين بين يدي رب العالمين جل جلاله .(28/4)
وهناك حديث طويل أخرجه الشيخان في صحيحهما وأخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة والطوارفي في مسنده وغيره عنه صلى الله عليه وسلم ولعظم هذا الحديث فإن إيراده بطوله أمر نرى أنه أقهر أنه مسألة حتمية لأن فيه ما بين للعباد أن التوحيد أجل ما تعبد الله به الخلائق وهو السبب الأعظم والأجّل في رحمة الله تبارك وتعالى قال البخاري حدثنا يحيى بن مكير حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي العمري عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : (( قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة . قال هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانا صحوا قلنا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما .. ثم قام كل قوم إلى ما كانوا يعبدون فمنهم أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر وغبرات
من أهل الكتاب ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب فيقال لليهود ما كنتم تعبدون قالوا : كنا نعبد عزيراً بن الله فيقال : كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد
فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال أشربوا فيتساقطون في جهنم
ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح أبن الله ..
فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد ..
فما تريدون قالوا : نريد أن تسقينا فيقال أشربوا .. فيتساقطون في جهنم
حتى يبقى من كان يعبد الله من براً أو فاجر فيقال لهم ما يحبسكم وقد ذهب الناس فيقولون فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم وإنا سمعنا منادياً ينادي ليلحق به قومه بما كانوا يعبدون وإنا ننتظر ربنا
قال فيأتيهم الجبار في صورة غي صورته رأوه أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا
فلا يكلمه إلا الأنبياء(28/5)
فيقولون هل بينكم وبينه آية تعرفونها ..فيقولون الساق فيكشف عن فيكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعة فيذهب كيما يسجد ويعود ظهره طبق واحدا ً ثم يؤتى بالجسر
فيجعل بين ظهرانّي جهنم قلنا يا رسول الله وما الجسر قال : مضحدة مزلة
عليها خطاطيف كلاليب و حصفة لها شوكة عطيفة يقال لها السعدان
فالمؤمن عليه كالبرق والطرف وكالريح وأجاود الخيل والركاب فناجي مسلم وناجي مخدش و ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحباً فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار و إذا رأوا أنهم قد نجوا في أخواتهم يقلون ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا و يصومون معنا ويعملون معنا فيقول الله تعالى اذهبوا فمن وجدهم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه ..
فيحرم الله صورهم على النار فيأتي لبعضهم وقد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون فيقول أذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا قال أبو سعيد فإن لم تصدقوني فقرؤوا ((إنا الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ..)) فيشفع النبيين والملائكة والمؤمنين فيقول الجبار بقيت شفاعة
فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوام قد امتحشوا
فيلقون بنهر أفواه أنهار الجنة يقال له نهر الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الجبة في حميل السيل
قد رأيتها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة
فما كان من الشمس منها أخضر وما كان منها إلى الظل كان أبيض فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون فيقول لأهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلوا الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه فيقال لهم لكم ما أريتم ومثله معه ))..
خرجاه في الصحيحين وخرجاه غيرهما
أيها المؤمنين إن هذا حديث منبئ من سعة رحمة ربنا جل وجلاله وإنه حري بعبد يتحدث عن الرحمة
أن لا يغفل ذكر هذا الحديث ..(28/6)
كما أننا نبين ما كان عليه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم من رحمة فإن الله جل وعلا نعته بقوله " بالمؤمنين رءوف رحيم " فوصف رسالته كلها بقوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " ووصفه تبارك وتعالى بقوله " وإنك لعلى خلق عظيم " ومن عرف ما هو الخلق العظيم عرف أن من أعظم جوانب الخلق أن يكون الإنسان رحيماً ورءوفا بمن حوله ونبينا صلى الله عليه وسلما رحيما بأزواجه رحيماً بأهل بيته قطع خطبته من أجل الحسن والحسين حمل أمامة بنت أبي العاص وهو يصلي ويحملها إذا قام ويضعها إذا ركع وسجد صلوات الله وسلامه عليه .. كان يزور الأنصار في دورهم ويمسح على رؤوس أطفالهم يداعب بعضهم .
بل إن الموتى في قبورهم كان صلى الله عليه وسلم يأتي إلى بقيع الغرقد فيدعو الله لأهله ويستغفر الله لهم .. فعل ذلك مراراً وتكراراً ..
فلما كان في أخريات حياته صلوات الله وسلامه عليه زار حتى الشهداء الذين كانوا قد شهدوا أحداً واستشهدوا فيها فزار قبر حمزة بن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم وزار إخوانه من الشهداء الذين قبروا جواره فرحمته صلى الله عليه وسلم شملت القريب والبعيد والعدو والصديق بل شملت الإنس أجمعين والحيوان والطير(28/7)
نهى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ الطير غرضاً وأخبر أن امرأة أدخلت النار بسبب هرة عذبتها حبستها فلا هي بالتي أطعمتها ولا بالتي تركتها تأكل من خشاش الأرض فمن تأمل سيرته العطرة صلوات الله وسلامه عليه وجد هذه الأمر التي ذكرناها إجمالا وجدها مفصلة مبينه تنبئ عما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه من رحمة بالخلق بل كان صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق وأنصح الناس بالناس , ثم أيها المؤمنون إننا نقول إن الله جل وعلا أراد من المؤمنين أن يكونوا متوادين متراحمين يحب بعضهم بعضاً فلما .. كان الله لم يترك عباده سدى ولم يخلقهم عبثاً شرع لهم من الحدود والطرائق والأساليب ما يعينهم على تطبيق هذا الأمر وما يجعلهم متوادين متراحمين وهذا هو لب درس هذه الليلة ..
ومن تلك الطرائق وتلك الأساليب الشرعية صلة الرحم وإطعام الطعام ورعاية اليتيم والعفو عند المقدرة وقضاء حوائج المساكين والمقعدين وعيادة المرضى وما إلى ذلك مما حول هذا الأمر من الطرائق جعل الله جل وعلا مناط وطريقاً إلى التواد والتراحم بين عباده
أما صلة الرحم فقد جاءت الآيات الصريحة في بيان أنها من أعظم ما أمر الله به أن يوصل والرحم جامع لمن كان يجمعهم في رحم واحدة من ذوي القرابة قال الله تبارك وتعالى في وصف عباده الخلص " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " وقد أجمع أهل العلم على أن أعظم ما أمر الله به أن يوصل صلة الرحم وقد بين أهل العلم جمعهم الله أن الإنسان في هذا الأمر واحد من ثلاث : أن يصل الإنسان قوم قطعوه وهذا في منزلة العالية من الصلة
الأمر الثاني أن يصل الإنسان قوماً من رحمه وصلوه فهذا في منزلة المكافئ
والمرحلة الثالثة أن يقطع الإنسان قوماً قطعوه فهذا آثم ..
هناك مسألة رابعة أشد إثماً وهو أن يقطع الإنسان رحم أقوام وصلوه وهذا والعياذ بالله في منزلة الأقل وفي الإثم الأعظم(28/8)
والإنسان إذا تأمل حال المسلمين اليوم وجد أنهم فرطوا في هذا الأمر أيما تفريط .. بل أن لو خطيباً من الخطباء وإماماً من الأئمة متحدثاً بعد الصلاة تكلم في هذا الأمر لظن الناس أنه تكلم في مسائل عفا عليها الزمن وأنها لا تناسب لغة العصر .. ولا مستجدات الفكر وأن دين الله جل وعلا الذين أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم إن الذي تعبد الله به نحن اليوم وهو الذي تعبد به الخلائق إلى قيام الساعة بل الله جل وعلا أخبر أن قطيعة الرحم فساد في الأرض فلذلك قال صلى الله عليه وسلم (( أن الله لما فرغ من الخلق قالت الرحم .. فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال لها ربنا جل جلاله نعم .. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت نعم قال فهذا لك ..))
قال صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين اقرؤوا إن شئتم
" فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم .. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم "
يبقى سؤال يطرحهم الناس كثيراً .. ما الميزان الذي نربط في صلة الرحم فتقول والله تعالى أعظم لا تحفظ فيما نحفظ ميزاناً دقيقاً لهذا الأمر لكن أهل العلم قالوا إن أقل الكلام والسلام والتحدث على أنه ينبغي أن يعلم أن ذوي قرابتك يتفاوتون فيما بينهم فإذا كان لك ذوي قرابة في يسر من العيش وكثرة من الولد وأمن من الحياة فإن صلتهم تكون المواسم والأعياد وما بين ذلك أما إن كان لك ذوي قرابة فيهم من الفقر المغدق والحاجة إلى العون والنأي قي السكن وما إلى ذلك فإن الصلة هنا تتأكد في حقهم .. فينبغي على المؤمن أن يكون أرحامه وأقربائه أولى الناس به فيسعى في قضاء حوائجهم والقيام بشؤونهم وتفقد أمورهم وكثرة السلام عليهم وزيارتهم الاطمئنان عليهم يرتجي بذلك رحمة الله وفضله وخوفاً أن يدرج فيمن قطعوا أرحامهم(28/9)
وإنه حري بالشباب الخلص الذين اصطفاهم الله جل وعلا ومن عليهم بالاستقامة والالتزام على شرعه أن يعطوا هذا الأمر الأهمية فإنه الانشغال بطلب العلم وحضور الدروس وتحفيظ القرآن وما إلى ذلك أمر أثنى الله على فاعله .. ولكن الدين يؤخذ جملة ولا يؤخذ جزء منه .. وإن طالب العلم ينظر الناس إليه نظرة قدوة وأسوة
فإذا كان طالب العلم والقائم بشرائع الله التعبدية المحضة كالصلوات والصيام وما إلى ذلك يغفل عن هذا الأمر ..فإن اقتداء الناس به يضعف ونظرة الناس إليه لا تكون نظرة مقبولة تنبئ عن نظرة كاملة إليه فبذلك حي بالمؤمنين عامة وبمن مّن الله عليهم بالعلم الشرعي خاصة أن يعنوا بهذا الأمر و أن يعرفوا حقه وأن يتفقدوا ذوي قراباتهم وأن يسألوا عنهم عملا ً بما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ..
كذلك من الأساليب الشرعية التي يكون به المؤمنون متراحمون
إرشاد الناس وتعليمهم ..وقد يظن البعض أن إيراد إرشاد وتعليمه في قضية الرحمة إيراد متكلف وهذا خلاف الصحيح لأنك لا يمكن أن تهدي أحدا من الناس أمرا ا خيرا من أن تدله على شرع الله ولا يمكن أن تهدي لأخيك هدية أعظم من أن تكون سبباً في أن يترك منكرا ً كان عليه
يقول صلى الله عليه وسلم لابن عمه علي رضي الله تعالى عنه قال
( لئن يهدي بك الله رجلا ً واحدا ً خيراً لك من حمر نعم)
ولما سأل معاذ رضي الله تعالى عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم
دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار
قال له صلى الله عليه وسلم : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه
فسّم النبي صلى الله عليه وسلم الفوز بالجنة والنجاة من النار سماه أمر عظيم وإن المؤمن إذا حرص على تعليم الناس و إرشادهم إلى طرق الحق والصواب دخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة عند الطبراني وغيره بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام(28/10)
(( إن الله وملائكته و أهل سماواته وحتى النملة في جحرها والحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير ))
وليس تعليم الناس الخير مقتصر على المحاضرات والدروس المعلنة بل هذا قد يمّن الله به على فئة من الناس ولكن طرق الخير لم تكن يوما ً من الدهر مقصورة على أحد فإن الكلام الموجز بعد الصلوات والرسائل الكتابية الخاصة وتكليم الناس مشافهة فرادى و جماعات وإهداء شيء من الأشرطة و الكتيبات النافعة للمؤمنين كل ذلك داخل في عموم تعليم الناس وإرشادهم ..فقد يكون الإنسان غير قادر على أن يبين للناس علة عنده قد يعطي الكتابة أكثر مما يعطي في الحديث فيكتب لمن حوله وقد يعطي في المال ما يعينه على أن يهدي بالمال أمورا ً نافعة تعينهم على أمور دينهم ودنياهم على أن هناك لباسا ً يجب أن يتحلى به من تصدى لتعليم الناس وإرشادهم ألا وهو الرفق
يقول صلى الله عليه وسلم وقد مر عليه ملأ من اليهود فقالوا السام عليك أي "الموت"
فقال صلى الله عليه وسلم : وعليكم !!
فغضبت أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكانت حاضرة فقالت : وعليكم اللعنة أو كلمة نحوها
فقال صلى الله عليه وسلم لعائشة كان غير هذا أولى بك ..
ثم قالت أما سمعت ما قالوا ؟!
قال : أما سمعت ِ ما قلتْ ؟!
ثم قال :
إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه .(28/11)
وإن كثيرا من إخواننا الذين مّن الله عليهم بالتعليم في المباني الحكومية و الخاصة وجعل الله تعالى بين أيديهم طلاب فإنه حري بالمعلم أن يكون ذا شخصية قوية وهيبة حتى يقبل الناس منه ..لكن لا بد أن يخالط شخصيته نوع من الرفق ونوع من الرحمة ادع هم إلى الله جل وعلا وأنت تتحلى بزينة الرفق حتى يقبل الناس منك لأن من بغضك وكرهك لا يمكن إن يقبل منك ألا نسمع قول ربنا في نعت محمد صلى الله عليه وسلم " فيما رحمة من الله لنت لهم .. ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " فإن الناس لا تجتمع قلوبهم ولا تجتمع أرواحهم على شخص يكثر من السخرية بهم والاستهزاء بهم ويكثر من تحقيرهم وتقليل ما يصنعون فإنه حري بالمؤمن المتصدر بتعليم الناس أن يكون دأبه الرفق فيمن يعملونهم ..
كذلك من الطرائق والأساليب التي جاءت من الشرع المطهر لكي يكون المجتمع مجتمعا راحماً " العفو عند المقدرة " الإنسان أيها المؤمنون في هذه يعيش وحوله أعداء وحوله فساق وحوله أصحاب وحوله أحباب وخلان وحوله من سائر الناس ما لا يمكن إحصاء عددهم .. فيحدث بينه وبينهم شيء من العداوة لا نظن أن مجتمعاً يخلو منه ..
ولكن أرباب الهمم العالية والذين يتطلعون إلى الملكوت الأعلى والذين يطمعون في أجر الله جل وعلا
يترفعون على أن يجاروا السفهاء في صنيعهم ويترفعون على أن يعاملوا أهل السفاهة بالمثل :
إذا جاروك في خلق دنيئاً
فأنت ومن تجارية سواء
رأيت الحر يجتنب المخازي
ويمنعه من الغدر الوفاء
فإن الطبقة العليا من الناس لا ينزلون إلى من يكثر التربص بهم والحقد عليهم واتهامهم بما ليس فيهم ..
وهنا ندخل إلى القول " العفو عند المقدرة " فقد يمكنك الله جل وعلا ذات يوم ممن آليت فإن رددت عليه بالمثل فما تجاوزت قال الله جل وعلا " وجزاء سيئة.. سيئة مثلها " ولكنك إن عفوت عنهم كنت الله أقرب ولأجر الله قال الله جل وعلا " وجزاء سيئة.. سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله "(28/12)
والله جل وعلا لم يحدد الأجر في الآية قال أهل العلم إن إبهام الأجر في هذه الآية يدل على عظمته لأنه أضيف إلى الله جل وعلا ..
ولا ريب أن الإنسان يطمع في كثير من عفو الله جل وعلا ..
ولهذا شواهد كثر فنبي الله يوسف آذوه أخوته آذوه وهو في كنف أبيه ثم تآمروا عليه وألقوه في غيابة الجب ثم لما زاروه في أرض مصر دون أن يعرفوه اتهموه بالسرعة " قال أن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " يعنون يوسف ثم الله جل وعلا أظهر عزته عليهم فمكنه من أخوته فلما سقط في أيديهم وظنوا وعلموا أنهم أخطئوا في حقه قال "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم "
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم آذاه الملأ من قريش عشرين عاماً أخرجوه من بيته ووضعوه على رأسه الشريف سلا الجزور تربصوا به تآمروا على قتله .. دخلوا عليه حتى في مدينته جمعوا عليه الأحزاب اتهموه بالجنون .. وما إلى ذلك مما لا يخفى على أحد من أصناف العداوة التي رموا بها رسول الله صلى اله عليه وسلم ..
فأظهره الله وأعزه من قبل وبعد ودخل صلى الله عليه وسلم على رأسه المعطف معززاً مكرماً وجعل الله جل وعلا كل أولئك الملأ بين يديه وفي قبضته قال يا معشر قريش " ما ترون أني فاعل بكم "
قالوا : "أخ كريم وابن أخ كريم" ..
وقد أحسنوا فيها..
فقال صلى الله عليه وسلم وهو أحلم الناس " لا تثريب عليكم اليوم .. اذهبوا فأنتم الطلقاء "
فعفا عنهم صلوات الله وسلامه عليه و إنه حري بالمؤمن أن يكون كذلك .. وإن آذاك أحد أو حسدك حاسد فليكن لسان حالك ومقالك :
وما أشكو تلون أهل ودي
ولو أجدت شكايتهم شكوت
إذا جرحت مساؤهم فؤادي
صبرت على الإساءة وانطويت
ورحت إليهم طلق المحيا
كأني ما سمعت ولا رأيت
ولا والله ما أضمرت غدراً
كما قد أضمروه ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا وتبدو
صحيفة ما جنوه وجنيت
بذلك تغلب على خصومك وأعدائك وهذا(28/13)
الأمر أو العفو عند المقدرة قد يتأكد عند الملوك والأمراء والولاة والسلاطين وذوي الجاه أكثر مما يتأكد عند العامة .. لأنه الله مكن لهم في الأرض وآتهم من المادية المحسوسة ما يعينهم على البطش ولذلك ذكر أن المعتصم الخليفة العباسي الثامن المعروف قدم إليه برجل يقال له تميم الأوسي والظاهر أن تميماً قد أجرم جرماً في حق المعتصم ربما خرج عليه أو اتهمه بشيء أو ما إلى ذلك .. فكان المعتصم قد بيت النية في نفسه أن يقتله فأمر حراسه وجنوده أن يأتوا بالنطع أي الجلد و السيف وأظهره على الملأ وأتى بتميم الأوسي ووضعه على ليضرب عنقه ثم أراد أن يختبر أن جلاله فقال يا تميم كيف أنت الساعة .. فقال ذلك الرجل وقد كان فصيحاً ثابت الجنان . قال :
أرى الموت السيف والنطع كامنا
يلاحظني من حيث ما أتلفتُ
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي
وأي امرئ مما قضى الله يفلتُ
يعز على الأوس بن تغلب موقف
يسل علي السيف فيه واسقط
وما جزعي من أن أموت وإنني
لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلقي صبية قد تركته
و أكبادهم من حسرة تتفتتُ
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وفوتوا
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة
أذود الردى عنهم وأن مت مُيتوا
فرق المعتصم لحاله وقال قد تركناك لله أولاً .. ثم للصبية
على أنه أحسب مما قلناه كله قول ربنا جل وعلا " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميد وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه السميع العليم""
قال العلماء عدو الرجل الواحد من اثنين إما إنسي إما جني وقد بينهما الله في الآيات التي قد سمعتم فإن كان إنسي فادفع بالتي هي أحسن فينقلب ذلك صديقاً حميماً لك اللهم إلا أن يكون تكون عداوته الحسد فإن من عاداك بالحسد غالب الظن أن لا ترجى مودته أبداً فتنقلب عداوته إلى صداقة ومحبة فيكون ولياً حميماً(28/14)
وإن كان جنياً أي من الشياطين فاستعذ بالله جل وعلا منه ..
"وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون "
فهذا حال الرجل المؤمن أمام خصومه وأعدائه على أن هناك نقطة مهمة ينبغي أن تلاحظ لأن الأمر ليس على إطلاقه قد يكون من عاداك عدواً لله عدواً لرسوله فليس الذي هو أحسن إكرامه بل الذي هو يحسن إهانته
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم .. أسر أحد مشركي قريش في معركة بدر على ما أحفظ الساعة ثم عفا عنه صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله رجل كبير لي صبية وما إلى ذلك فعفا عنه صلى الله عليه وسلم فأخذ يمشي لهم طرقات مكة ويمسح عارضيه ويقول سخرت من محمد صلى الله عليه وسلم ثم لما قبض عليه في معركة أخرى قال يا رسول الله أن ورائي صبية ورائي ووارئي و قال لمن الصبية يا محمد؟! .. فقال صلى الله عليه وسلم لهم النار .
فالرد كان حازماً محكماً .. لأن ليس كل شخص ينفع معه الأمر الحسن .. لكن قدم الحسن في الأول وثانياً . ثالثاً ولكن أخر الداء الكي .. وهذا يكون مع أعداء الله وخصومه ومن يناهضون شريعة الله .. فإن غالب الظن أن لا تجدي معهم الرحمة إلا إن غلب على الظن أنه الرحمة مجدية معهم فإن لكل حال تصرف خاص به
كذلك أيها المؤمنون من الطرائق التي يكون فيها تواد المؤمنين وتراحمهم
الإحسان إلى اليتامى واليتيم في الاصطلاح من فقد أباه وهو صغير هذا معناه الاصطلاحي والعرفي والله علم حال هؤلاء اليتامى وعلم حاجتهم إلى الرفق لأن قضيتهم قضية إجبارية فلا يوجد يتيم فقد أباه بطوع منه واختبار فلذلك أمر الله عباده أن يحسنوا إلى اليتامى قال الله جل وعلا
" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم أن الله عزيز حكيم "(28/15)
وقد تواترت الأحاديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في أم الإحسان إلى اليتامى منقبة عظيمة من ذلك وهو أرفعها مقاماً أن يكفل العبد المؤمن يتماً في بيته فيطعمه ويسقيه ويقوم بقضاء شؤونه وحوائجه ويحرص على تعليمه وإرشادهم وهذا في المنزلة الأعلى قال صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار إلى أصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما "
وأي امرئ يأنف ويستكبر ويرغب أن لا يكون جاراً لمحمد صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم بل إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن منزلة أدنى على أن الإنسان قد لا يكون في بيته يتيم ولكن قد يمر به
أو يرى يتماً في الطرقات فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه من مسح بيده على رأس يتيم له بكل شعرة لمستها يده حسنة كما في مسند أحمد
بل إن رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه فقال صلى الله عليه وسلم له أمسح على رأس اليتيم وصل رحمك " فجعل المسح على رأس يتيم مما ترقق به القلوب وتذرف به العيون ويقرب به العبد من رضوان الله جل وعلا .. ويحفظ اليتيم في الإسلام حذر الله الأوصياء على أموال اليتامى أن يقربوا تلك الأموال .. ثم خفف الله عن الأمر فسمح الله للأوصياء أن يأكلوا من أموال اليتامى بالمعروف إن كانوا فقراء وأن يصرفوا عليهم المال مختلط إلا أن الله جل وعلا حذر الأوصياء على أموال اليتامى من الأمرين
الأول / أن يأكلوا من أموال اليتامى بغير وجه حق قال جل ذكره " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا ً ولا سيصلون سعيرا ً"
والأمر الثاني/ حذرهم الله من أن يبدلوا أموالهم الخبيثة بأموال اليتامى الطيبة قال الله جل وعلا (( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا ً كبيرا ً))(28/16)
فمسألة الوصاية على مال اليتامى مسألة عظيمة بل إن أهل العلم اختلفوا في الزكاة الشرعية لأموال اليتيم فذهب جماهير أهل العلم إلى أن الزكاة واجبة .. واجبة في حق اليتيم وأن لم يبلغ!!
والذي أدين به والله تعالى أعلم أن الزكاة في مال اليتيم غير واجبة خلافاً لما قاله الجمهور وعملا ً بما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وإن كانت المسألة مسألة فقهية ليس هذا مورد إيرادها ولكننا أوردناها لبيان أن اختلف أهل العلم في وجوب الزكاة الشرعية في مال اليتيم يدل دلالة صريحة على أن غير الزكاة الشرعية من باب أولى أحرى أن لا يقرب من أموال اليتامى في هذا المجتمع المسلم المترابط لا يعدم المؤمن أن يجد يتيما ً يحسن إليه على أن كثيرا ً من ذوي الجاه و المال والثراء يشرعون في الإحسان إلى اليتامى في خارج هذه بلاد هذا الأمر وإن كان أمرا ً حسناً عظيما مقبولا ً جاءت به الشريعة إلا أنه حري بالمرء أن يتفقد اليتامى من ذوي قرابته أولى ..
قال الله جل وعلا (( وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ))
وقال جل وعلا :" الأقربون أولى بالمعروف "
والإنسان إذا تجاوز قرابته وجيرانه وأرحامه إلى أمور بعيدة خلت القرابة والجيران والأرحام ممن يحسن إليهم لأن الناس يظنون أن هذه مسؤولية قرابات مسؤولية جيران فحري بالمؤمن أن يجمع المحسنين فإن لم يتمكن إحسانه إلى ذوي قرابته من اليتامى مقدم على اليتيم البعيد عنه وفي كل خير
**
كذلك أيها المؤمنون من الأمور التي تعين على الترابط والتواد بين المؤمنين الإحسان إلى الجار
أغفلته المدينة الحضارية الحديثة ونظام السكن في العصر الحاضر كان سببا كبيرا في قضية إغفال المؤمنين لهذه المسألة المهمة وهي مسألة الجار رغم أن الله جل وعلا وصى بها في كتابه ((و الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ))
إلى غير ذلك من الأحاديث والآيات المستفيضة يقول صلى الله عليه وسلم(28/17)
( والله لا يؤمن والله لا يؤمن و الله لا يؤمن !!
قال الصحابة على وله وشغف: من يا رسول الله ؟!
قال: من لا يأمن جاره بوائقه .. قالوا وما بوائقه يا رسول الله ؟!! قال : شره ))
فإن كثيرا ً من الناس قد يجاورك لكنك وتذهب تخرج من بيتك وأنت على خوف ووجل قد ينالك شر ..
وإن المدنية المعاصرة كما بينا أغلقت الكثير من مسألة حقوق الجار وإن المتأمل لسيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من ترابط وحدوي وتآلف في جيرانهم وبين قلوبهم صدورهم وأفئدتهم ..
بكى حسرة ودمعا ً على حال المؤمنين اليوم :
فليست عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خل عيناك تدمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الشيب أسبلتا معا
ولكن ما زال في الأمة بقية من خير و إن الإحسان إلى الجار يتمثل في أمور عدة
الأول أن تشاركه في طعامه قال صلى الله عليه وسلم يوصي أبا ذر رضي الله تعالى عنه يا أبا ذر إذا طبخت مرقها فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك .
الأمر الثاني :
أن لا ينال جارك منك شر وأذى
الأمر الثالث أن تحرص على الإهداء له
الأمر الذي بعده أن تحرص على أن تتفقد جارك بين الحين والآخر فإن رأيت فيه في بيته أو على بعض أهله شيئا من النكرات فإنه حري بك أن تتقي الله في دينه فتذهب إليه وتنصحه في فسقه وتذكره الله والدار الآخرة
وتقدم له الدلائل القرآنية و السنة النبوية ما يعينه على ترك الأمر فإن أصر على معصيته فحاول مرارا وتكرارا فإن بقي على حاله فسقه وعصيانه فإن ذلك لا يفسد حق جواره
قال أهل العلم :
الجار له ثلاثة حقوق
إن كان مسلما قريبا فله حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة
وله حقان إن كان مسلماً له حق الجوار وحق الإسلام وإن جاراً كافراً فيسقط عنه الإسلام وحق القرابة ويبقى له حق الجوار ..(28/18)
وقد النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً يهودياً وكان ذلك الغلام في سكرات الموت فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام .. فكان والد الغلام واقفاً على رأس الصبي فقال والد الغلام للصبي يا بني أطع أبا القاسم فقال الرجل الغلام أي الصبي أسلم .. فقال صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أنقذني به من النار ..
وقد بوب البخاري في صحيحه " باب زيارة الجار الكافر " ولأن كثيراًُ من الناس الآن قد يكون جار تارك للصلاة أو يكون له جار على غير مذهب أهل السنة أو يكون له جار يكون فيه من العصيان ما فيه .. فيقاومه ويحاربه ويعاديه وهذا خلاف ما أمر الله به ورسوله .. تعبد الله أيها المؤمنون بالشرائع ولا تعبدوه بالوقائع .. وإن الإحسان إليه عملاً بحقوق الجار ودعوته إلى الله بإلحاح وبيان طرق الحق له أمر حتمي وواجب عليك حتى تبرأ الذمة منه .. و إعذاراً الله جل وعلا في التقصير من أداء حقوقه
**
كذلك أيها المؤمنون والأمر مترابط بعضه في بعض في الأمور التي يكون فيها والتواد والترحم بإطعام الطعام والإحسان إلى الفقراء والمساكين .
الله جل وعلا هذه الحياة والدنيا فيها الأبرار وفيها الفجار فيها الغني المترف وفيها الفقير لمعدم فيها المسكين وذوي الحاجة وفيها بين ذلك من الناس وفيه بعض الثراء الفاحش والله لم يخلق يبتلي الفقير وينتظر إلى الغني يصير أو لا يصير والغني ينظر إلى حال الفقير يعطيه ويتصدق عليه قد لا يعطيه ولا يتصدق عليه " وجعلنا بعضكم لبعض فتنه أتصبرون وكان ربك بصيراً " إن إطعام الطعام والإحسان إلى الفقراء والمساكين أمْر أمَر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في هؤلاء والفقراء والمساكين الأجر العظيم من الله جل وعلا(28/19)
أما إطعام الطعام فقد كلن العرب في الجاهلية على كفرهم و عبادتهم للأوثان يعظمون هذا الأمر أيما تعظيم .. كان عبد الله بن جدعان في الجاهلية له ما يسمى بالجفنات توضع فيها فكان له جفنات عالية بأكل منها الراكب جفنات أدنى بأكل منها الماشي جفان أدنى بأكل منها القاعد .. ويذبح في يوم عرفة ألف تعبير يطعم فيها الناس .. لكنه لما لم يكن موحداً كان كل هذا العمل كله هباً منثوراً قالت عائشة رضي الله تعالى عنها .. أبنفعه عمله ذلك قال إنه يا عائشة لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين .
ولما جاء الإسلام حث المؤمنين على إطعام الطعام
قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب الأنصاري لما أطعام أبو أيوب وزوجه ذلك الضيف قال لهما عليه الصلاة والسلام .. لقد عجب الله من صنيعكما لضيفكما الليلة .
أما إطعام الفقراء والمساكين وتفقد أحوالهم .. فإن ذلك بيناً فيه أجر عظيم وحتى يكون الأمر عملياً فإنك لن تعلم في حي جاراً فقيراً تحرص على طعام
كذلك كلنا يعلم أن هناك أربطه فيها من الفقراء والمساكين ما لا يعلم حالهم إلا الله ماذا يشغل يا أخي لو خرجت يوماً من الدهر واشتريت وثلاثة من أخوانك ممن يعينونك على الطاعة .. ثم وقفت أمام ذلك البيت أو ذلك الرابط لا يعرفكم أحد .. فلا يعرف أسمائكم أحد تقربون به إلى الله فأطعموهم قد يجلس الوالد والوالدة والأبناء على الطعام ويدعون الله لكم بظهر الغيب وأي خير يرجى لكم أعظم من هذا
يقول صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة " ورجل تصدق بصدقه فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "
قال جل وعلا " فلقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة "
ثم بين الله جل وعلا قال وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة إطعام من ؟ يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة(28/20)
ذا مقربة أي ذا قرابة ذا متربة أي التصق بالتراب لشدة فقره وعوزه وحاجته للمال وذلك فإن من المبشرات في هذه البلاد أن تدفع بها الجمعيات الخيرية وجمعيات البر والمؤسسات الخيرية . فإن مثل هذه يجب دعمها ودعاء الله جل وعلا بالتوفيق لمن قام عليها .. كذلك مما يغبط ويحمد أن نرى كثيراً من الأفراد من الشباب يكونون مجموعات تحص على إطعام الناس في رمضان وفي غيره ومنظر الإطعام في شهر رمضان في الحرمين وما كان عليه كثيراً من الشباب مد السفر للمؤمنين الصائمين كل ذلك من جلائل الأعمال فإن إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس ينام قربات عظيمة
أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنها من أسباب دخول المؤمن الجنة ومن أسباب رضوان الله تبارك وتعالى على عباده
**
كذلك أيها المؤمنون من جملة ما يكون عوناً على تواد المؤمنين وتراحمهم قضاء حاجات ذوي الحوائج كلنا يعلم أن هناك طائفة من الناس ليس لهم واسطة لا يعرفون أحداً ولا يعرفهم أحد .. أرمله في بيتها حولها بنوها لا تتعدى حدود معرفتها البيتين أو الثلاثة التي حولها لا تسمع بأحد ولا يسمع بها أحد
رجل قدم من البوادي سكن في ناحية نائية من المدينة لا يعرفه أحد ولا يعرف أحد رجلاً غريباً ليس من أصل هذه البلاد استوطنها وسكنها رغبة في الأجر كثير من الناس فقراء مساكين لكنهم حاجتهم إلى الشفاعة المعنوية أعظم من حاجتهم إلى الشفاعة المالية هؤلاء لهم أبناء لهم حاجات لهم معاملات في الدوائر الحكومية لهم ملفات وأمور عند الأمراء وعند السلاطين وقد تكون عند الملك وقد تكون عند دونه من المسؤولين في الأمانة أو في الزراعة أو في غيرها من الذي يقوم بحوائجهم السلطان أو ولي الأمر من المستحيل أن يعرف كل الناس هذا مما لم يقيم به أحداً أبدا أنبياء الله ورسله لم يكونوا يعلمون جميع من حولهم فضلاً عن الملوك من البشر(28/21)
لكن هذا يقع كهلاً على أهل الجاه على أهل المكانة على أهل المعرفة على المسؤولين المشهورين المتصدرين من الناس إنه كما أن للمال زكاة مادية فإن للجاه والمعرفة زكاة معنوية يجب على كل مؤمن أن يقوم بها تفقد جيرانك ابن من أبناء جيرانك – أمه توفي زوجها منذ أمد بعيد تريد أن تدخل أبنها المدرسة لكنها لا تعرف أيبن بوابة المدرسة فضلاً عن أن تعرف الشروط وطلبات القبول ماذا يضيرك لو أخذت ذلك الملف وقمت بذلك الأمر وتقربت إلى الله جل وعلا وهو مستو على عرشه فوق سبع سموات بذلك العمل إن ربك ليرضي عنك
فإنه حري بالمؤمن ذوي الجاه ذوي الثراء أن يكون قائماً بشؤون المؤمنين ممن أقعدهم الفقر وأقعدتهم المسكنة وأقعدهم العوز وإن الشفاعة في كل هذه الأمور قال عنها صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما " اشفعوا تأجروا " ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء فقال الله جل علا في صحيح المسند " من يشفع شفاعة حسنة يكون له كفل منها " وقد يظن البعض أن الواسطة في هذا الأمر أمر محرم ..
إن الشفاعة إذا اصطلح الناس على بالواسطة يكون حراماً إذا كان فيه بخس غيره من المؤمنين حقه أما إن لم يكن فيه بخساً لحقوق فلا حرج فيه ..بل فيه خير العميم والفضل من الله جل وعلا فاحرصوا أيها المؤمنون كباراً وصغاراً وذوي الجاه وذوي المعرفة منكم أن يقوم بهذا الأمر على أكمل وجه ..(28/22)
ويتأكد هذا الأمر في حق الموظفين القاعدين على مكاتبهم وفي حق رؤساء الدوائر الموظفين ذي المناصب العالية إذا راجعهم من يغلب على الظن أنه مسكين أو فقير أو لا يستطيع أن يعود أو يعود مرة أخرى يتأكد في حفهم أن يساعدوه إنه من الجرم في حق يأتيك من مكان بعيد ولا يملك سيارة يأتي بها ويعلم الله من وقف في حر الشمس حتى وجد من يوصله إليك ثم تقول له وأنت متكئ على أريكتك وبين يديك ما تحتسيه من الشاي وغيره ائتنا غداً أو بعد غد أو هذه الورقة تحت إلى تصوير وماذا يضيرك لو قمت من مكانك وصورتها له إن كثيراً من الناس يظن أن النظام يمنع هذا .. والله أننا نعرف الأنظمة أولها وآخرها .. ليس فيها ما يمنع ذلك ..
ولكن الناس فطروا غالبهم وحاشاكم أن تكونوا منهم فطر غالبهم على أنهم يحبوا شيئاً من السلطة ويحبوا شيئاً من الكبر ويرى أنه لو دخل المعاملة للمؤمنين لما أصبح مشهوراً ولا أصبح لم يأتي لأحد عنده .. إنه ربما خرج من عندك ذلك المراجع وهو قريب من الله فدعا الله جل وعلا لك أن ييسر أمرك إن تيسر أمور المؤمنين واجب على ولي الأمر وواجب على من هو دونه من المسؤولين وواجب على عموم موظفي الدولة وواجب على كل من بوأه الله مكاناً سواء كان مكاناً حكومياً أو مكاناً خاصاً فإن الرحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمر واجب في حق الجميع
أيها المؤمنون إن الطرائق والأساليب الشرعية في هذه الأمر قد يضيق بها الوقت وهي أمور متعددة وأرجو أن يكون فيما قلناه النفع والفائدة ..
لكن يبقي أن تقول ماذا يجني الإنسان من هذا كله ..
وما الذي يناله الإنسان إذا حرص على هذا الأمر فبذل فيه طاقته وجهده .. يكفيك أن تعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال "أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
وأن نبيناً صلى الله عليه وسلم قال" لا يرحم من لا يرحم "
وقال صلى الله عليه وسلم لما قال الأقرع بن حابس أتقبلون أبناءكم ؟!
قال : نعم !!(28/23)
فقال الأقرع : أن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً قط
فقال صلى الله عليه وسلم : أو أملك إن نزع الله الرحمة من قلوبكم"
إننا جميعاً فقراء إلى رحمة الله جل وعلا وأن من الأسباب الموجبة لرحمة الله تبارك وتعالى فضله أن يكون العبد حريصاً على رحمة إخوانه المؤمنين قائماً بشئونهم متفقداً لأحوالهم يهمه ما أهمهم يحرص على منافعهم وإن العبد إذا وقف في عرسات يوم القيامة شاهداً بين يدي الله جل وعلا ..
وجد ذلك العمل شاهداً له بين يدي الله جل وعلا فينجيه الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته
أسأل الله جل وعلا في ختام المحاضرة أن ينفعنا وإياكم بما علّمنا وأن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا وأن يجعلنا جميعاً مؤمنين متراحمين متوادين نقوم بالرحمة ونعمل بها
ونسأله تبارك وتعالى أن يغفر لنا مواطن الزلل وأن يلبسنا من الأيمان الحلل سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
***
تم بتوفيق من الله وعون
تفريغ محاضرة رفقاء بينهم
للشيخ صالح بن عواد المغامسي
سدده الله
~~~
وعذرا أن وجدتم خللا
***
منتديات الصفوة_منتدى القطوف الدانية(28/24)
سورة الإسراء (15_ 36)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ، ولو عصمهم لما خالفوه ، ولو شاء ليطيعوه جميعا لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره ،واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
هذا اللقاء الثالث حول سورة الإسراء ، وكنا قد انتهينا إلى قول ربنا جل وعلا: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولاتزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}
قلنا أول الآية الجملة شرطية ظاهرة المعنى: أن الإنسان إذا وُفق للهدى فإن ثواب تلك الهداية عائد عليه، وكذلك إذا حاد الإنسان عن الهدى، وسلك طريق الضلالة فإن عاقبة ذلك و وباله، وخسرانه عليه.
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى }هذا من قواعد الشرع التي أخبر الله عنها في الحساب يوم القيامة ، ذلك أن العرض الأكبر على الله له قواعد: من أهم القواعد : أنه لاتُخذ نفس بجريرة نفس أخرى
قال الله {ولاتزر وازرة وزر أخرى}هذا من قواعد الشرع، من قواعد الحساب المتفق عليها
من قواعد الحساب : إقامة الشهود{{ وجيء بالنبيين والشهداء}}
من قواعد الحساب: أن الله جل وعلا لا يظلم الناس مثقال ذرة
نعود فنقول : ثم قال الله{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} أول ما نستفيده من هذه الخاتمة:{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}
إذا حررنا أن {ما } هنا نافية
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } دلالة ظاهرة على أن الدين يجب بالسمع لا بالعقل(29/1)
من يقول من الناس يكفيك بالعقل أن يُناط بهم التكليف، هذا خلاف للصواب، لابد من السمع عن الله عن طريق رُسله ، ولهذا قال الله { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} أي لا تقوم حجة حتى يكون هناك رسول، وهذا الخبر في القرآن هنا أثبته الله جل وعلا في أكثر من موضع قال الله جل وعلا{{ رُسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}}
معنى الآية : لو لم يكن رسل، لكان للناس على ربهم حجة
والله جل وعلا ذكر أهل النار وذكر أنهم يدخلون فيها أفواجا فقال: {{ كلما أُلقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جائنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء}}
وهذا دفع الناس أي العلماء للحديث عن من لم تبلغهم الرسالة، والآية محكمة {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وأنا لا أستطيع أن أقف حكما بين العلماء، لكني أعطيك طرائق العلماء:
الإشكال وارد أن نفرق بين نصوص صحيحة، الإخبار عن أفراد أنهم في النار رغم الإتفاق أنهم لم تصلهم رسالة ، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن لُحي الخزاعي يجر قصبه في النار، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن صاحب المحجن ، وإخباره عن غيرهما ،
مع أن الآية ظاهرة في أنه لا تعذيب بدون إقامة حجة ، هي إذا ضممناها إلى آية تبارك {{ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها}}
وبعض أهل العلم يقول: نتوقف ونأخذ بالحديث الصحيح ، الله أعلم فيما كانوا عاملين، وهذا لعله أقرب لأن القول بأن أهل الفترة الذين قبل النبي صلى الله عليه وسلم هم مطالبون برسالة إبراهيم وإسرائيل أمر يرده القرآن
كيف يرده القرآن ؟!
إن الله قال: {{وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير}}
فربنا يقول ليس لهم كتاب وليس لهم نذير
وقال {{لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك}} فالله جل وعلا يُخبر أنه لا نذير سبق إليهم
فهذا هو مجال البحث في الآية وقلت لن أقف حكما بين أقوال العلماء(29/2)
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}
ثم قال ربنا{ وإذا أردنا أن نُهلك قرية أمرنا مترفيها }قرئت بالتشديد( أمّرنا)وقرئت بالتخفيف( أمرنا) وهذه القراءة مجمع عليها بالتخفيف
والصواب حملها على التخفيف لماذا؟
ليصبح معنى الآية :{ وإذا أردنا أن نهلك قرية } أي إذا سبق في قضائنا وقدرنا أن قرية ما ستهلك أمرنا مترفيها، لكن الله لم يذكر بماذا أمروا ، لكن دل العقل عليه ، أي أمرناهم بالطاعة، ففسقوا فيها أي خرجوا عن الطاعة لم يطيعوا، { فحق عليها القول } أي العذاب { فدمرناها تدميرا} يصبح معنى الآية : أن الله جل وعلا إذا سبق في قضاءه وقدره الأزلي أن قرية ما ستُهلك فإن الله جل وعلا يأمرهم بأوامر ، والأسباب مرتبة على مسبباتها
ما الذي يقع: أن هؤلاء لا يستجيبون لتلك الأوامر فيفسقون ، يعني يخرجون عن الطاعة ، ويحيدون عن الهدى فيصبح بذلك حق عليهم العذاب قال الله : { فدمرناها تدميرا}
واضح؟!
وقال الله بعدها
{ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح}والقرن هو الجيل، بعضهم يقول هو قرابة 100 عام
وكم هنا : خبرية وليست استفهامية
وقلنا في دروس سبقت ،وأيام مضت أن الفارق الأشهر بين كم الخبرية وكم الاستفهامية، أن كم الخبرية لا تحتاج إلى جواب ، وكم الاستفهامية تحتاج إلى جواب ، ولا بدأن تُلم بلغة العرب حتى تملك الآلة في فهم القرآن، ويتفقان أي كم الخبرية، وكم الاستفهامية في أمور من أشهرها:
أن كلاهما مبني
وكلاهما له الصدارة في الكلام
{ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } ولم يذكر الله أمما وقرون أهلكها من قبل نوح لماذا؟
لأنه قبل نوح لم يكن هناك شرك، ولم يكن هناك رسل حتى يُكذَبوا وإنما نوح هو أول الرسل
{ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عبادة خبيرا بصيرا}(29/3)
ثم قال الله{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}عبّر الله أو كنى عن الدنيا بماذا؟ بالعاجلة
قال{من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء} لكن الله ذكر قيدا وهو قوله سبحانه { لمن نريد} والقيد هنا يجري سريان حكمه وتحقيقه على ما أطلقه الله في آيات أُخر قال الله {{من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون}} لكن هذا الإطلاق مقيد بآية الإسراء بقوله { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ثم: للتراخي والتعقيب
{جعلنا له فيها جهنم يصلها مذموما مدحورا} ولما ذكر الله بُغاة الدنيا ذكر طلاب الآخرة قال: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } والمعنى أن هناك سعي خاص بالآخرة {وهو مؤمن} والسعي الخاص بالآخرة هو موافقة شرع من؟ شرع نبينا صلى الله عليه وسلم
{وهو مؤمن } تحقيق الإخلاص
{ فأولئك كان سعيهم مشكورا}أي أن الله جل وعلا يثيبهم على صنيعهم
ثم قال{كلاً} والتنوين هنا عوض عن محذوف ، أي كل من يريد العاجلة ، وكل من يريد الآخرة { كلا نمد هؤلاء} طلاب الآخرة { وهؤلاء} بغاة الدنيا { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} أي من رزق ربك ، ثم قال الله { وما كان عطاء ربك محظورا} يجب أن نقول إن عطاء هنا المقصود بها العطاء أين؟ في الدنيا
يجب أن نقول إن قول الله { وما كان عطاء ربك محظورا } أي ممنوعا أنه المراد به الرزق في الدنيا ، فإن قال لك قائل علام جزمت ؟! نقول: إن الكافر ليس له حظ في الآخرة ، فلا يُعقل أن يُقال عنه{ وما كان عطاء ربك محظورا} لكن الله في الدنيا يرزق المؤمن ، ويرزق الكافر، ويرزق الشقي ويرزق السعيد ، ويرزق البر ويرزق الفاجر.
واضح؟؟
{وما كان عطاء ربك محظورا}
ثم جاء الخطاب لسيد الخلق وصفوتهم {أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}(29/4)
وهذا أمر مشاهد في الدنيا حتى طلاب الآخرة يتفاضلون فيما أعطوا من الإيمان والعمل الصالح، وطلاب الدنيا يتفاضلون فيما أعطوا من غنى ودونه
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}ثم لا تحسبن أن هذا نهاية المطاف قال بعدها:
{ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} فيقع التغابن في الآخرة لشدة ما يرى الناس من الفوارق ، ولهذا قال الله {{ يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن}}
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا}
والجنة مائة درجة، وهناك تفاضل عظيم مابين أهلها ، كما أن النار دركات، إلا أن الله برحمته يجعل لا حزن أبدا لأهل الجنة ، وإن كان صاحبها أقل أهل الجنة ثوابا ، وأقلهم منزلة، أما أهل النار فإن أدناهم منزلة عياذا بالله يظن انه لا أحد أشد عذابا منه وهذا وحده غاية النكال
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا}ثم قال: تجديدا لقضية إيمانية تتردد في القرآن كثيرا: وهي إن توحيد الله هي المقصود الأعظم
قال: {لا تجعل مع الله إله آخر فتقعد مذموما مخذولا}
ونُصب الفعل {تقعد} لأنه جاء بعد فاء السببية التي سبقها فعل مسبوق بنهي فالفعل المنصوب { تقعد} وقبله فاء السببية، والفعل المسبوق بالنهي قول{ لا تجعل} ف{تجعل} مسبوق ب{لا} الناهية، ولذلك جزم بالسكون
{لا تجعل مع الله إله آخر فتقعد مذموما مخذولا} ثم جاء في الآيات سلسلة من الأخلاق، وسورة الإسراء سورة مكية، لم يُنبه الله فيها إلا على أمور مقررة فقهيا في كل الملل التي سلفت
قال الله { وقضى ربك} وهنا {قضى} بمعنى: أمر
وقد مر معنا أن قضى تأتي بمعنى خلق كقوله سبحانه { فقضاهن سبع سماوات}
وتأتي بمعنى حَكم ، كقوله جل وعلا{ إن ربك هو يقضي بينهم بحكمه إنه هو السميع العليم}
نعود فنقول { وقضى ربك} أي أمر
{ ألا تعبدوا إلا إياه} وهذا تحقيق للتوحيد الذي تحدثنا عنه مرارا، وهو الغاية من خلق الثقلين(29/5)
{{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}}
{وبالوالدين إحسانا} قال العلماء وهذا ظاهر لكل أحد إن الله قرن بر الوالدين بوحدانيته ليُبين عظيم المنزلة للوالدين، وهذا إجمال
{ وبالوالدين إحسانا}
ثم بين
{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما}
نهى عن الأدنى تنبيها للأعلى
{ وقل لهما قولا كريما}القول الكريم: هو ما يستطيبه السمع ، وتستريح له النفس، وترغب في سماعه الأذن
{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }
هذا عند البلاغيين يُسمى :استعارة، ذلك أن الطائر إذا أراد أن يعلو خفق بجناحيه ، فإذا أراد أن يهبط خفضهما ،لكن الله قال ، وهذا من دقائق التعبير والفوارق القرآنية قال: {{ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}}
لكن هنا قال: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} فكلمة الذل، زائدة في حق الوالدين عن عموم الناس، لأن حق الوالدين ليس كحق بقية الناس فأنت مُطالب بأن تخفض جناحك للمؤمنين{{أذلة على المؤمنين}}لكن يكون خفضك لجناحك في تعاملك مع والديك أشد وأعظم
فقال الله جل وعلا {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا} وهذا تنبيه لك ليس المقصود منه أنه لو فرضنا أن أحدهما مات ، ولم ينل مشقة تربيتك أنك لا تدعوا له
هذا مُحال
ليس مقصود القرآن لكن هذا قيد أغلبي
لأن الأصل أن الوالدين هما اللذان يقومان بتربية الأبناء
{كما ربياني صغيرا}
{ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا}
من أخطاء الأئمة أنهم يقرأونها{ ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين}( سكت الشيخ)ثم يقول{ إنه كان للأوابين غفورا} الله أعلم بما في نفوسنا كنا صالحين أولم نكن صالحين
لكن ما معنى الآية؟
{ ربكم اعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين}(إن )شرطية { فإنه كان للأوابين غفورا}جواب الشرط
ما معنى الآية؟(29/6)
أحيانا هذا يقع، لو راجعت كثيرا من أوراقك القديمة، أو حتى في أيامك هذه، أحيانا تريد أن تبر والديك، أو احدهما فتقع في خلاف الذي تريد فيقع منك كلمة لا يرغبانها ، وأنت لا تقصد عقوقهما ، إنما تقصد برهما أو أن تقدما لهما شيئا ترى أنهما يُحبانه فإذا هما يكرهانه
تمر معك مع والديك مواقف، الموقف العام لا يُساعدك على أن تظهر كل ما في قلبك، أو أن تقول الأمر بجلاء، فأنت تريد أن تبره، وهو يرى أنك عاق به
نأتي بمثال، مثلا محسوس:
قد يكون أحد والديك يشعر بوهم كبير أنه مريض، فيُلح عليك أنه مريض، ويريد أن تذهب به إلى الطبيب، وأنت تمتنع لا عقوقا له، وإنما لماذا؟
لأنك لا تريد أن تعينه على نفسه فيصبح بداية وهم، لأنك لو أخذته واستجبت لندائه، واليوم ذهبت به للشيخ فلان ليقرأ عليه، وغدا ذهبت به للطبيب فلان ليكشف عليه باتت من قناعة الوالد ، أو الوالدة انه مريض وأنت تعلم أن الوالد أو الوالدة إنما هي قضايا نفسية لا أكثر ولا اقل
فكونك تمتنع عن الذهاب به إلى ما يريد ، إنما تُعينه على نفسه فينتصر على أوهامه، وإن كان الأب أو الوالدة ينظر إليك على أنك عاق، وربما أسمعك كلاما لا يسرك ، وربما قال لجيرانه، أو لأصدقائه أو لبعض إخوانه إني قلت لابني فلان : مرة ومرتين وثلاث لكنه لا خير فيه لا يريد أن يذهب بي إلى الطبيب
لأنه يجهل مصلحته، وأنت لم تقصد إلا الخير
فهذا خفي على الوالد، خفي على الوالدة، لكنه لا يخفى على رب العالمين.
هذا معنى قول الله{ ربكم أعلم بما في نفوسكم } بعد ذكره لبر الوالدين
{إن تكونوا صالحين}تقصدوا خيرا تريدوا صلاحا وبرا بوالديك{ فإنه} جل وعلا{ كان للأوابين غفورا}
ثم قال الله{ وآتي ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذير إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}
القرآن يُربي فينا فقه الأولويات
ثلاث آيات تتحدث فقط عن الوالدين مقرونا بالتوحيد، ثم ثلاثة حقوق تأتي في آية واحدة(29/7)
فالقريب له حق، والمسكين له حق، وابن السبيل له حق
لأن المسكين في الغالب يكون ابن بيئتك، وابن السبيل غريب، فحق القريب مقدم ، ثم ابن القرية أو المدينة التي تسكنها ثم المسافر الغريب
أما قول ربنا { ولا تبذر تبذيرا}فهذه أشبه في الجملة المعترضة إذا نظرت لما بعد
{ ولا تُبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}
هناك يا بني تبذير وهناك إسراف .
هناك ماذا وماذا ؟
تبذير وإسراف .
ما الإسراف ؟
الإسراف: الشيء في أصله يكون صوابا ,فإذا زدت عليه عن حده سمي إسرافا ً.
أما التبذير : هو الشيء الذي في أصله (ماذا ) باطل .
وأظني حضرت في هذا المقام أولا , لا أدري فإني أتكلم في عدة مواطن ,لكن إن كان فيه إعادة يتحملني من يشاهدني .
أعيد :
التبذير: هو الإنفاق أو البذل في شيء لا أصل له.
أمّا الإسراف: الزيادة على شيء له أصل.
نأتي بمثال معاصر :
من لوازم الحياة اليومية أن يكون لدى الإنسان جوال.
فكونه يشتري جوال لنفسه لا يسمى ذلك إسراف ،قد يحتاج أكثر من جوال بحسب وضعه الاجتماعي , لكنه إذا زاد عن هذا الحدث يسمى إسراف .
لو اشترى الإنسان ثلاث أربع أجهزة فهذا إسراف.
لماذا سمي إسراف ؟
لأن أصل القضية ( ماذا ) صحيح.
(أصل القضية صحيح .)
فحاجته للجوال الأول أو الثاني معقولة, لكن الزيادة عليها تسمى إسراف.
أما التبذير: فهو الإنفاق أصلاً في شيء لا داعي له.
(في شيء لا داعي له )
إنسان عنده ابن خمس سنوات، هذا لو أخرج له جوالاً، لا نقول هذا إسراف، نقول هذا تبذير, لأنه لا يعقل ولا يتصور أن طفلا أربع أو خمس سنوات يحتاج إلى جهاز جوال.
(واضح ) ولو واحدا لأنه يعرف يستخدمه ( فهمتم ).
وقس عليه ما تشاء في سائر حياتك .
هذا الفرق مابين التبذير والإسراف .
ولهذا الإسراف لم يأتِ إلا في الذنوب (تغليب ) بخلاف التبذير .(29/8)
قال الله {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } لكنه قال في الأعراف {{ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }}
لكنه هنا أغلظ ,قال{ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}أي أولياؤهم {وكان الشيطان لربه كفورا } هذه الأخيرة جملة اعتراضية ،ثم عاد الكلام للأول .
ما الأول ؟
{وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } قال بعدها ((وإما ))مركبة من إن وما
{وإمّا تعرضن عنهم }
عن من ؟؟
عفا الله عنكم .
قلنا{ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}هذي جملة اعتراضية
ما الذي قبلها ؟؟؟؟
{وآت ذا القربى } الوالدان انتهت قضيتهما { فإنه كان للأوابين غفورا } ثم ذكر أيها المباركون كم حق ؟؟
ثلاثة :- ذا القربى , والمسكين , وابن السبيل .
ثم أطنب لفائدة في الكلام عن التبذير ، ثم عاد السياق لـ ((وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ))
ماذا قال ؟
قال :- {وإمّا تعرضنّ عنهم } عن من ؟؟ هؤلاء الثلاثة .
{ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا }
ما معنى الآية يصبح ؟
يصبح معنى الآية – أنا يعذرني المشاهدون أتكلم باللغة قريبة من الناس.
ما بين يوم عشرين وخمس وعشرين موعد استلام الناس للرواتب
يقل ما في ذات يده, فإن جاءك مسكين سائل أو قريب أو ابن سبيل
يستدين منك مئة أو مئتا ريال فأنت هنا لا تجد .
بماذا يرشدك ربك ؟
الله يقول : {وإمّا تعرضن عنهم } ليس عندك شيء تواصلهم به .
{ابتغاء رحمة من ربك ترجوها }
ما الرحمة هنا ؟
الراتب الذي سيأتي بعد يوم خمس وعشرين .
{فقل لهم قولا ميسورا} لاطفهم بالقول حتى تأتيك(ماذا )الرحمة.
(واضح )
{ابتغاء رحمة من ربك ترجوها } هذه الرحمة ما وقعت أنت موعود بها .
(فهمتم )(29/9)
يعني أنت موعود بمال سواء كان مكافئة شهرية أو راتب أو ارث أو أي شيء تعرف أنه سيأتيك ,أوتاجر عند صفقة والصفقة هذه عارف أنها بعد اسبوعين تقريبا ستتم وسينال منها ربحا فجاءه سائل قبل أن تتم الصفقة .
فربنا يقول له {وإمّا تعرضن عنهم ابتغاء}(ماذا ) { رحمة من ربك ترجوها} الذي ترجوه هذه الصفقة ستقع .
{فقل لهم} أي هؤلاء السائلين { قولا ميسوراً} لاطفهم بالخطاب حتى يأتي اليوم الذي تتمكن من برهم كما أمرك الله.
(واضح )
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
هذا بيت للمتنبي لكن أين قول المتنبي من قول الله..
{وإمّا تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك }
فيها فائدة أن المؤمن دائما يُعلق رجاءه بالله .
وأنه لايقول أنني سأبقى معدوما إلى أن أموت فإن رحمة الله حلا وعلا قريبة , كما ينبغي على من أغناه الله ألا يعتقد أنه ربما سيبقى ثريا غنيا إلى أن يموت .
(واضح )
(يعني لا ييئسن فقير ولا يبطرن ويفخرن غني )
قال أبو العتاهية .
في هجاء عمرو بن سلم .
تعالى الله يا سلم ابن عمرو
تعالى الله يا سلم ابن عمرو أذل الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذلك للزوال
وأنا لم أقصد هذا البيت, في بيت آخر.
قال له:(أمر الله يحدث كل ليلة )
يعني أمر الله بين عشية وضحها يفقر غنيا ويغتني فقير.
نعود للآية :
{وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } ثم قال الله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } .
نبدأ بآخر الآية .
ما الحسير ؟؟؟؟
الحسير : الدابة في السفر إذا عجزت وعيت وانقطعت عن تكملة طريقها تسمى ناقة أو دابة حسير .
(واضح)
الحسير :هي الدابة في السفر التي تنقطع في سفرها وتعجز عن المُضي .
لماذا عجزت عن المضي ؟
لأنها بذلت جهدا فوق طاقتها في أوّل السفر .
فالمنبث لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع .
لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى .(29/10)
إذن ماذا يريد ربنا أن يرشدنا إليه ؟
ربنا يقول لا تكن شحيحا كمن يده مغلولة إلى عنقه ,لأن الذي يده مغلولة إلى عنقه لا يستطيع أن يضعها في جيبه حتى ينفق .
ثم قال {ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا}
لا تنفق إنفاقا كاملا,لأنك تحتاج فلا تجد وتنقطع بك السبل .
ودائما (كلا طرفي الأمور ذميم , والعبرة بالاتجاه والطريق الوسط )
حلّ نبينا صلى الله عليه وسلم ضيفا على أبي التهان – أبي الهيثم ابن التهان .رضي الله عنه وأرضاه الأنصاري المعروف .
فالرجل بدأ بعذق من النخلة فيه :بسر ورطب وتمر .فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وأخذ السكين, فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم- والسكين في يده فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يذبح طعامًا لنبي الله ,-والنبي جاء بالمنهج الوسط - .
ماذا قال له ؟
قال :- "إيّاك والحلوب ." (إياك والحلوب )
الآن افهم مقصوده عليه الصلاة والسلام .هو لم يقل لا تذبح لي ,لان في هذا منع للمضيف أن يكرم ضيفه .ولم يرخص له في أن يذبح أي شيء.
حتى لا يتضرر أهل الدار .
فلو ذبح حلوبا لتضرر أهل الدار كونهم كانوا يشربون من...
من لبنها . وربما انتفع بها ولدها .أي ولد الشاة .
فالنبي عليه الصلاة والسلام لجأ إلى حل أمثل يجعل الرجل يكرم ضيفه دون أن يتضرر أهله . هذه في القرآن منها .
{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}.
فإن قال قائل :ما تقول في فعل الصديق .
(تركت لهم الله ورسوله ).
تقول :
هذا فعل عارض . (هذا أولا).
الأمر الثاني.
2.أن أبا بكر رجل تجارة.
ومعلوم أن رجل التجارة قد يكون أحيانا في يده مال وأحيانا لا..يكون . وقد ينفق اليوم ثم يأتيه بيع آخر يدرُّ عليه .
{ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا *إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا}
الرزق بيد الله وما كتبه الله لك سيصل إليك على ضعفك
وما لم يكتبه الله لك لن تناله بقوتك .(29/11)
"إنّ روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها وتستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب "
ثم قال عليه الصلاة والسلام "ولايحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإنما عند الله إنما يطلب بطاعته ولا يطلب بمعصيته " ((ولايطلب بمعصيته ))
{إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } ثم قال {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا}
الآيات مكية تخاطب الظواهر الاجتماعية المعيبة المشينة التي كانت في المجتمع المكي ومن أعظمها :أنهم كانوا خشية إملاق يقتلون أولادهم .
ولهذا جاء في الحديث
"أي الذنب أعظم ؟
قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك .
قلت ثم أي .
قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ."
نعود فنقول الله يقول {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}
أنتم لا تشتكون فقرا, لكنكم تزعمون أن الولد إذا جاء ضيَّق عليكم ,فلهذا قدم الله ذكر الولد .قال:{ نحن نرزقهم و إياكم } ثم قال {إن قتلهم كان خطأ كبيرا }
ذنب وأي ذنب يكفي أن فيه إساءة الظن برب العالمين جل جلاله ,وأن الله عاجز عن أن يرزقه وهذا وحده عين الكفر ,
إذا ظن العبد أن الله عاجز على أن يرزق أحدا .
والله يقول {{وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها}}
ويقول {{وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم }} هنا يقول ربنا {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا }
{ولا تقربوا الزنا } أي : أيُّ طريق يدني من هذه الفاحشة المحرمة .
في جميع الشرائع ثلاث أمور نهى الله عنها :
1.الشرك .
2. قتل النفس بغير حق .
3. والزنا .
وقد ذكرها الله جميعا في الفرقان {{والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون }} وهذا محرم في الشرائع كلها.
قال الله {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } ثم قال{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق }(29/12)
والحق : أن يكون القتل قتلا شرعيا .
وقد بين صلى الله عليه وسلم "الكفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان والتارك لدينه المفارق للجماعة "
{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ثم قال الله {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل }
فلا يسرف ما قال فلا يبذر .
قلنا الإسراف له (ماذا ) له وجه -له أصل-.
فما الأصل ؟
أن يقتل واحدا بواحد فهذا حق لكن إذا زاد هذا إسراف.
ولم يسميه الله تبذيرا لأنه في أصله قائم على أصل له وجه حق.
{فلا يسرف في القتل } كان بعضهم يرون أن في أنفة وأنا فلان ابن فلان لا يمكن أن يقتل بواحد.
ومر معكم في حرب البسوس .لما قتل جساس (من ) كليب .
وأخبر مهلهل أخو(من )أخو كليب . أن جساسا قتل أخاه .
وقامت حرب البسوس بين ....
بين بكر وثغر .
وما اختلف الحيان بكر وثغر
وكلاهما من ربيعة أو مضر ؟
من ربيعة .
الحيان من ؟
بكر و ثغر كلاهما من ربيعة ,كان فيهم أنفة .
الشاهد أن أحدهم من الزعماء آن ذاك أظنه الحارث بن عباد أراد أن ينهي المسألة, فبعث ابنه ليُقتل بدلاً من كليب فيستريح مهلهل وتنتهي المسألة.
وكان الحارث زعيما –فلما بعث ابنه رفض مهلهل وقتل الابن وقال له بوء بشسع نعل كليب .
يعني رجل بالعامي:ها لطول أبوه يشوفه أحسن الأبناء ,هذا يقتله ويقول أنت تساوي شسع نعل كليب .
شسع النعل : ما يخرج من النعل الذي يوضع في الإصبع هذا شسع النعل .
فهوى يرى أن هذا الرجل لا يوازي إلاّ شسع النعل ليس النعل كاملة ,فما بالك بكليب !.
هذا الذي كان موجوداً عندهم.
فالله يقول {فلا يسرف في القتل } ثم قال {إنه كان منصورا }
واختلف العلماء في إنه :
1.تعود على أولياء الدم .
2. أو على المقتول .
والعامة تقول (النفس((ماذا )) منصورة ) .
يعني لابد أن يظهر قاتلها .
لكن الأقرب والعلم عند الله أنه يعود إلى أولياء الدم ولقد استنبط ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من هذه الآية :
وهذا من دقائق الفهم وعجيب العلم(29/13)
أن معاوية رضي الله تعالى عنه سيلي الخلافة.
لماذا ؟
لأن معاوية طالب بدم (من ) بدم عثمان, لأنه من قرابته فأصبح معاوية وليا لدم عثمان.
والله يقول:{ فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } وفراسة ابن عباس وتأويله ظهر جليّا في أن معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه آل الحكم إليه.
بصرف النظر كيف وصل الحكم إلي معاوية .
لكن الذي يعنينا هنا الخطاب القرآني .
أن الله جلا وعلا حرم الدماء وهذا قدم مستفيضا تكلمت عنه بإسهاب في قوله تعالى في البقرة {{ولكم في القصاص حياة }} ولا حاجة للتكرار .
لكن من أعظم الخطايا أن يتجرأ الإنسان على دم مسلم .
والنبي صلى الله علي وسلم يقول:
ونقل هذا عن عمر (لهدم الكعبة أهون عند الله من قتل مسلم )
على عظيم حرمة الكعبة
لماذ؟ (عقليا)
لماذا كان هذا عقليا مع اتفاقنا أن الكعبة بيت الله ؟
تُبنى الكعبة( أجابها أحد الطلاب الحضور فقال له الشيخ صالح: بيّض الله وجهك )
الكعبة لو تسلط عليها من تسلط بقدر الله إذا وقع وهدمها تبنى.
لكن المسلم لو قتل وسفك دمه لا سبيل إلى إعادة الحياة إليه .
فلهذا حرم الله حلا وعلا الدماء وأغلظ فيها ,وهي أول ما يقتص فيه في حقوق العباد يوم القيامة –عافانا الله وإياكم من دماء المسلمين -.
قال الله {ولا تقتلو النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن قتل مظلوما جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا}
أي له الحق أن يتكلم وله برهان أن يطالب . {ولا تقربوا مال اليتيم غلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا }
مال اليتيم ذكره الله جلا وعلا مجملا هنا تمهيدا لآيات ستأتي في سورة البقرة لأن الخطاب هنا خطاب للمجتمع المكي.
وحتى يبلغ أشده يتحقق بكم طريقة :
بطريقتين.
1. طريقة بدنية .
2. طريقة عقلية .
طريقة ماذا ؟
طريقة بدنية وطريقة عقلية .
الطريقة البدنية : بالقدرة على النكاح .
الطريقة العقلية : عبر الله عنها{{فإن آنستم منهم رشدا}}(29/14)
{{فإذا بلغوا النكاح }} هذه قدرة بدنية .
يملّك ماله .
اليتيم : من مات أبوه دون البلوغ .
هذا في بني آدم
أما في الحيوان من التيم ؟
مر معنا- من ماتت أمه . لأن الحيوان ما يعرف من أبوه .
وأما في الطير ؟
هي الباقية – الصورة الثالثة .
من مات أمه وأبوه .
شف لاحظ , :
شوف بني آدم , الطفل الآن أبوه الذي يتولاه .
يأخذه الخياط يفصل له ثياب .
يأخذه المدرسة يسجله .
يأخذه له حوالي مثل الطاقة .
في الحيوانات بهيمة الأنعام
الأم هي التي ترعى الإبن .
وأما الطير ماذا تلاحظ ؟
يشتركان والله الاثنان الأم والأب في رعاية وليديهما .
فيسمى من فقد والديه من الطير يتيم .
ومن فقد والده من بني آدم يتيم .
ومن فقد أمه من الحيوانات -بهيمة الأنعام- يتيم .
وهذه استطرادات لغوية تنفعكم ولا تضركم .
الله حذر من أموال اليتامى وهذه بينّاه وسيأتي بيانه تفصيلا .
وقال {{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا }} لكن هذه آيات مكية كتمهيد لما سيأتي من أحكام تفصيلية في المجتمع المدني.
{و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا }
والعهود يجب إيفاؤها مع الكافر أو مع المؤمن يسأل الإنسان عنها
كما قال الله {{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }} وبعض العقود تلزم ديانة ولا تلزم قضاء وبعضها تلزم ديانة وقضاء .
نأتي بمثال :
مثلا إن سان قال لإنسان أنا أريد أن أريد أن أشتري سيارة لكني لاأملك أمولا وأنت رجل ذو ثراء ولك في التجارة ,
فيقول له الآخر : إن اشتريت سيارة بنية بيعها لك هل ستشتريها .
قال الأول نعم
فاشترى الرجل سيارة لايرغبها لكن يريد بيعها .
فلما اشتراها نفرض بمئة الف ريال .
قال لصاحبه لقد اشتريتها وهي الآن في حوزتي وأريدك أن تشتريها .فرفض الأول قال لا أريدها .
فهذا قضاء ليس عليه إثم , لكن الديانة يأثم عند كثير من العلماء .(29/15)
عرفتم الفرق بين ديانة وقضاء (مايلزم قضاء ولا يلزم ديانة )
{وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا * وأوفوا الكيل إذا كلتم }
حقوق الناس وجاء فيها{{ ويل للمطففين }} {وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا } ثم قال الله وهي الآية التي نختم بها هذا اللقاء {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } يسأل الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده ومن أعظم ما يسأل عنه الإنسان إذا تجرأ على القول على الله جلا وعلا بلا علم .
وقد مر معنا إن عامر ابن ضرب أحد العرب كان في جاهليته كانت الناس تأتيه وفود يحتكمون إليه في المسائل فجاءه ذات مره قوم يحتكمون في ميراث خنثا هل يعطى من الميراث على أنه ذكر أو لا يعطى من الميراث على أنه أنثى , وكان عنده جارية تقوم على غنمه وفيها تأخر شديد إذا ذهبت بالغنم فهي لا تستيقظ باكرا ولا تعود في حينها وكان عامر يعاتبها- أظن اسمها صخيلة- فذات مرة لما جاؤا هؤلاء العرب يحتكمون إليه باعتباره رجل تشد إليه الرحال في مثل هذه المسائل , إقامهم في داره وأخذ يذبح لهم حتى كادت أن تفنى غنمه لأنهم يطعمون والمسألة لم تنتهي .
فسألته صخيلة وهي ترى سيدها يغدوا ويروح في البيت فأخبرها الخبر ساخرا منها .
وقد يوجد في النهر مالا يوجد في البحر
فقالت له متعجبة أتبع الكم المبال
أتبع الحكم المبال .
يعني إن كان هذا الذي مختلف فيه خنثا يبول من آلة ذكورية فهو رجل وإن كان يبول من آلة الأنوثة فهو امرأة وأعطه الحكم على هذا السياق . وأصبح يرددها فرحا بها, فحكم بينهم بعد أربعين يوما وهم في ضيافته وانصرفوا.
فصار وهذا من باب الطرافة يقول :
صبحي أو مسي يا صخيلة
يعني تأخري لا تتأخري معذورة دام نفعتيني في هذا الباب .
قد يقول قائل لك ما علاقة هذا في قول الله جلا وعلا { ولا تقف ما ليس لك به علم }
وهذه قلادة علمية , قال الإمام الأوزاعي معلقا على القصة :(29/16)
قال انظر هذا رجل جاهلي لا يرجو جنة ولا يخشى نارا وقف متوقف في حكم أربعين يوما ما تجرأ يحكم بينهم على شيء لا يفهمه
فكيف يأتيك أحد يتجرأ على مسألة ويفتي فيها مابين عشية وضحاها وربما لا يملك الآلة العلمية على الحكم فيها ويوقع فيها عن شرع الله جلا وعلا لأنه لم يفقه قول الله { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا }
وقد قلت مرارا أن شيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في آخر أيام حياته وهذا من أخبارنا المكررة لكن أحيانا الفوائد تلزم بالإعادة.
جاء ه وفد من الكويت يسألونه والشيخ رحمه الله في أخريات حياته توقف كثيرا عن الفتوى , فأخذوا يلحون عليه في السؤال وقد ضربوا له أكباد الإبل , وقد كنا نسكن بجوار الشيخ يعني بمقربة من داره وإن كنت لم أشهد الواقعة , فالشيخ بعد إلحاح قال أجيبكم
بكلام الله ففرحوا, وأصلح من جلسته ثم قال {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عن مسئولا}
فلما ألحوا عليه زيادة قال : قال فلان كذا وقال فلان كذا وقال فلان كذا وأنا لا أحمِّل ذمتي من كلام الناس شيئا أن لا أدري .
المقصود الأسمى أن طالب العلم أول ما يؤسس، يؤسس على الخشية من الله {{ إنما يخشى الله من عباده العلماء }} لكن إن طلب العلم وهو ينظر إلى الساعة التي يتصدر فيها فيسأل ويجيب وحتى لو تكلف ملا يعلم من أجل أن يسد فراغا في نفسه فهذا قد هلك من حيث لا يشعر.
وكان الأخيار قبلنا أسأل الله أن يغفر لنا يربي أحدهم نفسه على أن يقول لا أدري حتى لا تصاب مقاتله .
والآية ليست محصورة في هذا لأن الله قال بعدها { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا }
((نسأل الله أن بحفظنا في أسماعنا وأبصارنا وسائر جوارحنا
إن ربي سميع الدعاء .))
هذا ماتيسر إيراده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمد وآله
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(29/17)
الاسم: صالح بن عواد بن صالح المغامسي
تاريخ الميلاد 1383هـ بالمدينة النبوية
الدراسة:
مرحلة البكالوريوس ، جامعة الملك عبد العزيز
الدراسات العليا ، جامعة الملك سعود .
الوظيفة الرسمية:
محاضر بكلية المعلمين بالمدينة النبوية
وخطيب مسجد قباء بالمدينة النبوية
الأنشطة العلمية والدعوية :
درس تفسير أسبوعي بالمدينة النبوية.
درس تفسير شهري في جامع عثمان بن عفان بالرياض .
درس تفسير شهري في جامع بغلف في مدينة جدة .
درس تفسير بعنوان ( محاسن التأويل ) يبث أسبوعياً في قناة المجد .
برنامج ثقافي شهري يبث في قناة المجد بعنوان ( القطوف الدانية ) .(30/1)
شخصيات من القران الكريم
د. عائض بن عبد الله القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد ، الصمد ؛ الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير ؛ البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ؛ أما بعد.
فانه في خضم أزمات الحياة المادية ، يجب على المسلم أن يخلو بربه تعالى ، ويتمتع بلذة مناجاته ، والتشرف بالخلوة به ، والتنعم بتدبر رسالته الخالدة ؛ التي أنزلها لتكون نبراساً للعالمين ، القران الكريم ، وكان من جملة اهتماماتي بهذه الرسالة الخالدة ، أن يسر الله تعالى في كتابه بعض الكلمات عن بعض الشخصيات التي ورد ذكرها في القران الكريم ، فكانت هذه الرسالة (( شخصيات من القران الكريم )) سائلا الله تعالى أن يتقبلها مني ، وان ينفع بها المسلمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
كتب
د. عائض بن عبد الله القرني
هذه قصة أبينا آدم ، عليه السلام ، قصة الخلق وسجود الملائكة له ، وقصة الخطيئة ، ونحن مثله أو أكثر ، ومن شابه أباه فما ظلم ،وتلك شنشنة نعرفها من أحزم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}(البقرة:34)
هنا قضايا هائلة وأحداث عالمية ؛ عاشها آدم ، عليه السلام ، وسمعها الأنبياء والرسل والملأ الأعلى .
أولها : يقول سبحانه وتعالى : ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ)) أي : كلفنا وأمرنا وتعبدنا الملائكة أن يسجدوا لآدم .
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وفي هذه الكلمة قضايا :
أولها : ما هو هذا السجود الذي يريده ، سبحانه وتعالى ، من الملائكة ؟ وهل يصرف السجود لغير الله ؟(31/1)
في الحديث : أن معاذاً أتى من الشام قال : يا رسول الله ، رأيت العجم يسجدون لملوكهم وأنت أولى أن نسجد لك .
قال صلى الله عليه وسلم (( لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليه ولكن لا يكون إلا لله )) (1).
فلا يسجد إلا لله ، وهذه السجدة هي سجدة التشريف ، ويوم تضع جبينك في الأرض على التراب يرفعك الله درجات ، ففي حديث ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة))(2) ، وعن ربيعة الاسلمي قال: قلت يا رسول الله، أريد مرافقتك في الجنة ، فقال : ((فأعني على نفسك بكثرة السجود))(3) .
كلما سجدت كلما رفعك الله ، وكلما تحررت من العبادة لغير الله ، من عبادة الوظائف والطواغيت ، والمناصب ، والدراهم والدنانير ، ارتعت في مقامات العبودية .
فهل هذا السجود الذي أمر الله به الملائكة لآدم السجود على الأرض مثل ما نسجد للصلاة ؟
لأهل العلم رأيان أو قولان :
يقول الأول : معناه : الانحناء والخضوع ، وهو : أن يهدهد رأسه وان يخضع .
والقول الثاني : معناه : أن يسجد للأرض فالسجود لله ، ولكن تكريما لآدم ، وإجابة لأمر الله سبحانه وتعالى .
والرأي الثاني هو الصحيح ، وكان في شرع من قبلنا السجود للإكرام ، قال ، سبحانه وتعالى ، في قصة يوسف : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً } (يوسف: من الآية 100) أما عندنا في شريعتنا فلا يسجد إلا لله ، ولا يسجد لعظيم مهما كان ،ولا ينحني له ، فان الانحناء محرم.
وفي هذا : قضايا أثارها ابن تيمية وابن القيم ،وغيرهما ، هل الملائكة أفضل أو بني ادم أفضل ؟
__________
(1) صحيح .
أخرجه احمد (18913) ، وابن ماجه (1853) عن عبد الله بن أبي أوف رضي الله عنه ، وانظر : (( المشكاة))(3255).
(2) أخرجه مسلم (488).
(3) أخرجه مسلم (489).(31/2)
قال بعضهم : الملائكة أفضل ؛ لأنهم اقرب إلى الله ، ولان الله رفع أمكنتهم ، ولان الله ما جعل عندهم شهوات ، فأنهم عقول بلا شهوات ، وابن آدم شهوة وعقل ، والحيوان شهوة بلا عقل .
ومنها : أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وكل ما في السماء من ملك ، كلهم سجود إلى قيام الساعة ، وهناك ملائكة لهم اختصاصات عجيبة ومجال التوسع في بسط الكلام عنها يكون في موضوع الحديث عن الملائكة.
واستدلوا بأدلة : منها: أنهم يستغفرون لمن في الأرض ، والفضل يستغفر للمفضول ، ليس المفضول يستغفر للفاضل .
وقال قوم : بل بنو آدم أفضل ؛ لأنهم ركبت فيهم الشهوة ، وصارعوا الشهوات ، يعني : الصالحين ، أما الكفرة فلا يوازنون بالحمير ولا بالخنازير ولا بالكلاب { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: من الآية 44) .
والصالحون كما يقول بن تيمية : العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات .
فأما في الدنيا فالملائكة أفضل ؛ لأنها اقرب إلى الله ، ولأنهم لا يذنبون ولا يخطئون ولا يعصون الله ،وأما في الأرض فإذا قرب الله بني آدم ودخلوا الجنة – نسأل الله من فضله ، أصبحوا أفضل من الملائكة.
بالله لفظك هذا سال من عسل *** أم قد صببت على أفواهنا العسل
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسجدوا}
أولا : خلق الله آدم من طين لازب ، ما حمأ مسنون ،قالوا : من فخار ، والطين اللازب ، هو : الطينة اللزجة كالغراء ، فلما خلقه الله تركه أربعين يوما طينا ، تدخل الرياح من فمه وتخرج من دبره ، انظر إلى الخلق الضعيف ، وانظر إلى أصل النشأة ، وانظر إلى الناس جميعا ؛ ملوكا ومملوكين ، ورؤساء ومرؤوسين ، وأغنياء وفقراء ، كلهم من هذا الطين ، ثم انظر إلى المتكبرين المتجبرين في الأرض .
الذي ما ينظر بعين البصيرة ، إنما ينظر بعين البصر يتيه تيهانا ، ويهيج هيجانا ، ويمشي وكأنه ليس من ذاك الأصل .(31/3)
أحد وزراء بني أمية وزير متكبر متجبر ، عنده بغال ، وعنده خيول وسيوف ، وعنده حشم ، مر والحسن البصري جالس ، فقام له الناس إلا الحسن البصري .
فالتفت الوزير قال : ما عرفتني ؟
قال الحسن البصري لما عرفتك ما قمت .
قال : من أنا ؟
قال : أنت الذي خرج من مخرج البول مرتين ،أن تتحمل العذرة ، و أصلك تعاد إلى جيفة قذرة ، وأتيت من نطفة مذرة ، فسكت ، فكأنما أغشي على وجهه النار .
دخل المهدي العباس مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقام الناس له جميعا ، إلا ابن أبي ذئب المحدث الكبير ما قام ، جلس فسلم على الحضور ، ثم التفت إلى ابن ذئب قال : ما لك لا تقوم لنا وقد قام لنا الناس ؟ قال : أردت إن أقوم لك فتذكرت قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين : 6 ) فتركت القيام لذلك اليوم ، قال : اجلس ، والله ، لقد أقمت كل شعرة من رأسي .
عن طاووس بن كيسان العالم الثقة الزاهد العابد المحدث تلمي ابن عباس قال : دخلت الحرم فطفت ، ثم صليت ركعتين عند المقام ، ثم جلست انظر في الناس أتفكر في هذه الخليقة ، وهي ، والله ،عبرة من العبر ، انظر إلى المطارات إذا كنت في انتظار أو مغادرة ، وانظر إلى الصالات والمستشفيات ، اختلاف الصور ، اختلاف الأبدان ، اللمحات ، النظرات ، السمات ، كل واحد من الناس عالم مستقل في نفسه ، هموم وغموم وأحزان وأقطار ، شقي وسعيد ، فقير وغني ، سالم من الهموم ، ومتورط في المدلهمات ، فسبحان الباري .
ومع ذلك ، فالله يراقب كل حركة من الناس ، كل يوم هو في شأن ، ما تفعل من حركة ، ولا سكنة ولا كلمة ولا خطوة إلا والله معك ، يموت هذا بعلم من الله ، ويولد هذا بعلم من الله ، ويمرض هذا والله بعلمه ، ويشفى هذا والله يعلمه .(31/4)
فجلس طاووس ينظر فإذا بجلبة السلاح والحراس والرماح ، فالتفت قال : فإذا هو الحجاج ابن يوسف ، قال : فالتفت فإذا جلبة السلاح فسكنت مكاني وإذا بأعرابي ، إعرابي لكنه مسلم متصل بالله يطوف بالكعبة ، فلما انتهى من الطواف أتى ليصلي ركعتين ،فنشبت حربة في ثيابه فارتفعت فوقعت على الحجاج ، فمسكه الحجاج بيده .
فقال له الحجاج : من أين أنت ؟
قال : من أهل اليمن .
قال : كيف تركتم أخي ؟ وكان أخوه محمد بن يوسف عاملا على اليمن .
قال : من أخوك ؟
قال : أنا الحجاج أخي محمد .
قال : تركته سمينا بطينا – انظر إلى الإجابة ما أحسنها ..
قال : ما سألتك عن حالته وسمنه وبطنته سألتك عن عقله ؟
قال : تركته غشوما ظلوما .
قال : أما تدري انه أخي ؟
قال : أتظن انه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله ؟
قال طاووس : والله ، ما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت .
قال ابن عبد الهادي ك دخل ابن تيمية الإسكندرية ، دخل يريدون سجنه ، فأخرجوه من سجنه إلى سجن آخر ، لماذا يسجن ؟ يسجن لتثبت لا اله إلا الله في الأرض ، يرد على المبتدعة والملاحدة والزنادقة والمعتزلة والجهمية والاشاعرة ، فقال له أحد المبتدعة : يا ابن تيمية ، واله ، كل هؤلاء يطالبون بدمك ، ويريدون قتلك الآن .
فقال ابن تيمية أتخوفني بالناس ، ثم نفخ في كفه قال : واله ، كأنهم ذبان ، لكن من مثل ابن تيمية ؟
قال بعض المفسرين : لما خلق اله ، سبحانه وتعالى، آدم تركه أربعين يوما هكذا ، فكان يمر به الشيطان فينظر إليه من طين فينخ فيه فيجلجل نفخه فيه فعرف انه ضعيف لا يتماسك.
وقال الله عز وجل :{وَخُلِقَ الْإنسان ضَعِيفاً} (النساء: من الآية 28)وخلق ظلوما جهولا ، وخلق عجولا ، وهي في الإنسان طبعة إلا إذا رتبها ونقاها وسيرها بالكتاب والسنة فإنها تصلح ، بإذن الله .
فلما نفخ الله فيه من روحه ، سبحانه وتعالى ، وهذا شرف ، أحياه الله للملائكة : اسجدوا لآدم .(31/5)
ولنا إن نتساءل ، لماذا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ؟
أولا : يمتحنهم لطاعة هل يطيعونه أم لا ؟
ثانيا : يرى من يعصي منهم .
ثالثا : يرى الناس فضل آدم ، عليه السلام ، فقاموا فسجدوا جميعا إلا إبليس تكبر ، ولماذا تكبر ؟
قال ابن عباس : كان إبليس اعلم الملائكة لكن ما نفعه علمه ، بل زهى وتكبر وافتخر.
وقال في بعض الروايات – أوردها ابن كثير وغيره - : كان إبليس ملك السماء الدنيا ، هو مسؤول عن السماء الدنيا ، فأبى إن يسجد لما قال الله للملائكة اسجدوا ، فأتى يعترض ، ويقول لرب العزة الذي خلق السماوات والأرض ، ويعلم ما تحت الثرى . يقول : خلقتني من نار وخلقته من طين ، أأسجد وأنا اشرف العناصر ، عنصري من نار وعنصره من طين ؟ والنار اشرف من الطين فكيف تسجد النار للطين ؟ هذه الكلمة هي بداية الخذلان وبداية اللعنة وبداية الحرمان ، اعتراضه هو الكبر {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} (البقرة: من الآية 34) هذه اشد المفتريات ، رفض إن يسجد وأبى وامتنع ، وما كفى في اللفظ إن يقول : أبى ، بل قال : واستكبر ، ولذلك كانت أركان الكفر ثلاثة :
الحسد ،والكبر ، والكذب .
فمن كان فيه كبر ، فقد اخذ ثلث الكفر ، وما عليه إلا الباقي .
الكبر هذا هو شعار إبليس ، نعوذ بالله .
ومن علامات المتكبر : انه لا يستفيد من غيره ، ولا يرى الفضل لغيره ، ولا ينقاد للحق إذا عرفه ، ويعرف بلفظه ويعرف بمشيته ،ويعرف بنحنحته ، ويعرف بسعلته .
قالت العرب : أحمق الناس المتكبر ، ولذلك أحمق الطيور الطاووس ؛ لأنهم متكبر .
ذكروا لبعض الحمقى من السلاطين المتكبرين ، ما الله به عليهم ، سلطان من السلاطين عزل عن منصبه ، فذهب إلى قرية من قراه ، ففرشوا له ملاحفهم وعمائمهم في الطريق ؛ لأنهم جاد عليهم بمال وهو في عمله ، فالتفت إلى الناس وقال : لمثل هذا فليعمل العاملون .(31/6)
ومر وزير من الوزراء العباسيين على الجسر – جسر بغداد – وقف قبل الجسر ، وقال : والله ، إني أخشى إن لا يحمل الجسر شرفي ، وان ينكسر بي في النهر .
وذكروا عن الحجاج بن أرطأ : أحد المحدثين ، رحمه الله ، انه دخل المجلس فجلس في طرف الناس ، فقالوا : اجلس في الصدر ، قال : حيثما جلست فأنا صدر ، في أي مكان اجلس فأنا صدر ، وهذه من عبارات الكبر التي اكتسبت في أصل ذاك العنصر أو أخذت بالاقتباس .
وفي هذه الآية : { أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة: من الآية 34) .
قال المفسرون : كيف يقول : وكان من الكافرين ولم يكن هناك كافر ، بل أول الناس آدم ؟
قالوا : سوف يكون في علم الله انه من الكارين ، وهو الرأي الصحيح .
قال : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنت وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:35) سجد الملائكة ، و أراد الله إكرام آدم فأسكنه جنة الخلد ، وقد أورد ابن القيم وغيره في الجنة التي أسكنها وزجه أقوال ، هل هي جنة في الأرض وبستان في الأرض ، أم هي جنة الخلد؟
والصحيح : إنها جنة الخلد ، أدخله الله في جنة الخلد .
قالوا : فاستوحش ، عليه السلام ، وما كان معه أحد ، فجلس فارغا والتفت يريد إن يجلس مع أحد ، لكن من يجلس معه ؟ الملائكة لهم جنس خاص ، الجن جنس خاص ، وهو يريد من جنسه .
ولما استوحش آدم ، عليه السلام ، نومه الله ، كما يقول أهل التفسير ، - منهم ابن كثير - : نومه ، وأخذ من ضلعه الأيسر حواء ، ما أضعفنا ، وما أذلنا ،وما أقلنا ، وما أحوجنا إلى رحمة الله ، إنسان هذا خلقه ، وهذه أمه ، ثم يأتي الإنسان ، ويظن انه واحد العالم ، فريد العصر ، وان الناس ليسوا بشيء ، يركب الكبائر ، ويأتي بكل جرم ،وكل ما خطر له ، ويسنى تلك النشأة.(31/7)
خلق الله حواء ، فالتفت آدم إليها بعد إن استيقظ ، فرآها بجانبه فعرف انها زوجته فسكن إليها {وَمِنْ آياتهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفسكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } (الروم: من الآية 21) لماذا سميت حواء ؟ قالوا : لأنها من الحياة ، والله اعلم .
قال الله لهم : كلوا من الجنة واسكنوا في الجنة ،وتمتعوا في الجنة ، هذه قصورها ، وهذه أنهارها، وهذه ثمارها ، وهذا كل ما لذ وطاب ، لكن هذه الشجرة لا تأكلان منها ، لماذا ؟ امتحان وابتلاء من الله ليرى عودتهم ، وليرى صدقهم ، وليرى إيمانهم .
ما هي هذه الشجرة ؟ اختلف أهل العلم فيها على أقوال .
قيل: السنبلة .
وقيل : العنب .
وقيل : التين .
وذلك كله لا يهم ، يقول ابن جرير : إن الله لم يحددها أسما بعينها ، ولم يسمها لنا ، ولم يأت بها قران ولا سنة فلماذا نتكلم ؟
فأحب شيء للإنسان ما منع عنه الآن ، لو تدخله غرفة مكيفة مفروشة ، عنده ما لذ وطاب من الطعام والشراب ومرتاح ، فتقول : أحذر لا تخرج من هذه الغرفة ، وإن خرجت عاقبناك عقابا أليما ، فيأتي ويقول : منعني من الخروج ، حبسني في هذا المكان ، حسنا الله عليه .
قال علي بن أبي طالب : لو منع الناس من فت البعر لفتوه .
ولذلك انظر إلى الخمر الآن ، تذهب العقل واللب وتفسد الأسر ، وتسبب المذابح بين الأهل والأقارب ، وترتكب بها الطامات، ومع ذلك يسافر لها بعض الذين لا يرجون لله وقارا ، ولا يخافون لله هيبة ، ولا رقابة ، يسافرون إلى بلادها ، بل بعض الناس بلغ الثمانين من عمره ، وهو يعاقر الخمر ويشربها ، وقد ذهب لبه وعقله وأرادته ، وهو ممنوع منها ، وكذا الزنا وكذا النظر إلى المحرمات والربا وغيرها ؛ لأنه منع .
وهذه هي التكاليف ، ولو كانت المسالة بلا منع ولا حظر ، لما كان هناك ابتلاء ، وكان الناس في الجنة ، وما عرف الطيب من الخير والمؤمن من الكافر .(31/8)
فلما منعه الله ، أتى إبليس يوسوس له ، هذه العداوة ،والسؤال كيف دخل معه إبليس الجنة ؟
سبق ، وان ذكرنا ، أنهم كانوا في السماء ، وخلق الله آدم في السماء ،ثم اسجد له الملائكة ، ورفض إبليس ، وجعل الله عز وجل آدم وحواء في الجنة وإبليس بمنأى ، فلما حذرهم الله من الشجرة أتى إبليس يوسوس لآدم وحواء ، فأين وسوس لهما ؟
لأهل العلم ثلاثة آراء وأقوال :
القول الأول : قالوا : هو مطرود محروم ، لكنه دخل يوسوس ولا يتنعم ، فهو مطرود من رحمة الله ، لكن جعله الله يذهب ؛ لأنهم سال الله إن يمهله ليغوي آدم وذريته إلا قليلا ، فأنظره الله ، فهو يدخل بلا حجاب ، ويدخل بلا حرس ، ويدخل عليك وأنت في فراشك ، وأنت في السيارة والطائرة ، وهو معك يجري منك مجرى الدم .
والقول الثاني : قالوا : أخذته الحية ، حية شارقة مارقة ابتلعت إبليس ،ثم دخلت الجنة ، أوردها أهل التفسير .
والقول الثالث : قالوا : وسوس من بعيد ، ما دخل الجنة ، لكن اخذ يوسوس فوصلت الوسوسة .
والراجح، هو : الرأي الأول ، انه دخل مطرودا محروما لكن أتى يوسوس فانظر إلى وسوسته {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (لأعراف: من الآية 20) فصدقه آدم .
الإنسان يصدق إبليس ، حتى الآن ، ولو كان مؤمنا ، يأتيك فيقول مثلا : جارك ما تكلم عليك بتلك الكلمة إلا لمقصد في نفسه ، ما هو مقصده ؟ قال : امتهانك واحتقارك والازدراء بك ، فيقول : صدقت ،ويذهب بسيفه وخنجره يقاتل جاره .
يغض طرفه في السوق ،قال : أنت ما نظرت إلى السحر الحلال ، لو نظرت إلى الجمال نظرة واحدة فقط ، حتى ترد نفسك بنظرة واحدة ، ينظر النظرة فيكون هلاكه فيها .(31/9)
وتسمع الأغنية الماجنة يقول : ما عليك من الغناء ن هذا حلال ،والعلماء الذين قالوا بتحريمه ليس عندهم دليل ثابت ، اسمع وتمتع قليلا ، وأنت ما ارتكبت جريمة ، لا شربت خمرا ولا زنيت ، أنت تستمتع إلى أغنية ، فيسمع الذي يقول : هل رأى الحب سكارى مثلنا فيسكر ، ثم يزني ، ثم يرتكب الفواحش يدهده على وجهه في النار .
فوسوس لآدم ، فاستمع له آدم ، فأكل من الشجرة ،وأكلت حواء ، فلما أكلا سقط اللباس الذي يواري عوراتهما ، وعليهما لباس الجنة وحسن الجنة وحلي الجنة ، وبهاء الجنة تناثر في الأرض .
لا اله إلا الله ، ما أشده من موقف ، هذا موقف المسكنة ، موقف الذنب والخطيئة .
يقولون : إن يوسف ، عليه السلام ، لما هم بالمرأة وهمت به سمع هاتفا يقول : يا يوسف ، لا تزني فان من زنى كالطائر الذي عليه ريش نتف ريشه .
وهذه مغبة المعصية ، انظر كيف سلب الحياء والجمال والحلي وكل نعمة ، فأصبح في موقف هو وحواء عراة ، فأخذا أوراق الشجر ، عليه السلام ، وعليها السلام ، يغطيان عوراتهما من الناظرين إن كان ملائكة أو غيرهم ، فأتاهم الخطاب مباشرة {اهبطا} (طه :123) فالعصارة لا يجاورون الواحد الأحد ، وهذه ، والله ، أعظم مصيبة منينا بها .
يقول ابن القيم :
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
يقول : نحن سبينا من الجنة ، سبانا إبليس وأنزلنا في الأرض ، فيا ليت !! متى نعود لأوطاننا ، نحن أهل الأوطان أهل الأنهار أهل القصور .
يا راقدا يرنو بعيني راقد *** ومشاهد لأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي *** نزل النعيم وفوز خلد واحد
ونستي إن الله أهبد آدما *** من جنة المأوى بذنب واحد
فكيف بنا نحن وقد أتينا بعشرات من الذنوب ؟
فحي على جنات عدم فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم(31/10)
هبط ، عليه السلام ، وانظر إلى الهبوط من علو من جنة الخلد ن هبط ووقع في الأرض ، ارض يابسة ارض قاحلة .
نقل أهل العلم ، عن ابن عباس : أما آدم فهبط في الهند ، وبيده غصن شجرة ، وقالوا : وأما حواء فهبطت بجدة ، ونقل غيرهم : هبط آدم على الصفا وهبطت حواء على المروة ،ولا يهمنا هبط هنا أو هنا ، فان المقصود : إن الله أهبطهم إلى الأرض ، أما آدم ، عليه السلام ، فهبط بغصن شجرة ، فنزل هذا الغصن فنبت في الهند ،فقالوا : كل بخور ، وكل طيب يأتي من الهند من آثار ذاك العود.
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة} (البقرة: من الآية 35) .
اسكن لفظ فيه حياة ، ما قال : اقعد ، ولا قال : اجلس ، بل قال : اسكن ، وهذه الكلمة فيها من اليقين والطمأنينة والفرح والبشر ما الله به عليم{ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً } (البقرة: من الآية 35) هنا ليس الرغد إلا في الجنة، قد يطلق مجازا على الدنيا : عيش رغيد ، لكن إذا سمعت الإنسان يقول : أنا في عيش رغيد مستمر ، فلا تصدقه .
هشام بن عبد الملك قال لوزرائه : تعالوا نحصي الأيام التي أتاني السرور فيها منذ توليت الخلافة ، تولى سنوات الخلافة ، فحسبها فوجدها ثلاثة عشر يوما ، سنوات كلها تصفي 13 يوما سلم فيها من النكود والزلازل والفتن والمحن ، يعني 13 يوما استقر حاله فقط .
فقال لوزرائه : لا جرم – يعني : لا جرم : لا ريب ، لا شك – أخلون غدا في بستاني ، وعلي الحراسة لأسعد من الصباح إلى المساء .
قالوا : فخرج في بستان له في روضة دمشق وقال للحرس : لا تستقبلوا رسولا ، يعني : رسولا موفدا ، ولا تأذنوا لأحد ، ولا تسمعوني مشكلة واتركوني في هذا البستان يوما كاملا .(31/11)
فجلس في هذا المكان من الصباح ، فلما قرب الظهر وإذا هو بسهم فيه دم وقع بجانبه ، فرفع السهم فوجده طار من اثنين تقاتلا خارج البستان وأتى إليه السهم ، قال : ولا يوم واحد – حتى يوم واحد – ما نسلم من المشاكل .
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت بانيها
إن بناها بخير طاب مسكنه *** وان بناها بشر خاب بانيها
يقول أبو الفتح البستي أحد العلماء :
يا عامرا لخراب الدار مجتهدا *** بالله هل لخراب الدار عمران
ومن العجيب ، انك تجد الشيخ الكبير ، عمره يناهز الثمانين ، ومع ذلك تجده حريصا على طلب الدنيا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان : الحرص على المال . والحرص على العمر ))(1).
هذا هو الإنسان وهذه طبيعته ، ولا يعرف حقيقة الدنيا إلا من عرف الله ورسول الله والدار الآخرة .
عندما أتت هارون الرشيد سكرات الموت قال : أخرجوني أرى الجيش ، فخرج جيشه فإذا هم تسعون ألفا ، فنظر إليهم ، وقال : يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه .
الوليد بن عبد الملك بنى قصورا في دمشق ما يعلمها إلا الله ، وهو الذي وسع المسجد النبوي ووسع المسجد الأقصى ، وأتى بالمشاريع الهائلة ، بنى قصورا وحدائق لا يعلمها إلا الله ، فلما أتته سكرات الموت لبط وجهه في الأرض وضرب وجهه ، وقال : {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة:28 - 29) وهذا عبد الملك بن مروان عندما حضرته سكرات الموت سمع غسالا ، بجانب القصر ، قال : يا ليتني كنت غسالا يا ليت أمي لم تلدني ، قال سعيد بن المسيب لما سمع الكلمة : الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم .
__________
(1) أخرجه مسلم ( 1047) عن انس بن مالك ، رضي الله عنه .(31/12)
أما ميمون بن مهران وهو أحد الصالحين الكبار ، فقد حفر قبرا له في قعر بيته ، في حوشه في داره ، فإذا أراد أن ينام توضأ ونزل في القبر وبكى كثيرا ، ثم خرج من القبر قال : يا ميمون ، عدت إلى الدنيا فاعمل صالحا .
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً } (البقرة: من الآية35)
هذا الرغد لا يكون إلا في الجنة ؛ رغد لا هم ولا غم ولا حزن ، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمرضون ، ورشحهم المسك ، قلوبهم على قلب امرئ واحد ، خلا من كل حقد وحسد وغيظ وبغضاء ، لا يخافون موتا ولا جوعا ولا هرما ، ولا يصيبهم سوء أبدا {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أنفسهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) } الأنبياء (101-103).
( وقلنا يا آدم اسكن ... فتكونا من الظالمين . قربا من الشجرة فظلما أنفسهما ، فنزلا إلى الأرض .
أولهما : الوضوء دائما إن تكون على طهارة الوضوء هذا حصن حصين .
الأمر الثاني : الأذكار ، الأذكار دائما وأبدا ، خاصة آية الكرسي ، فهي تحرق الشياطين ، والمعوذات وقل هو الله أحد ، ولا اله إلا الله محمد رسول الله ، ولا اله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، مائة مرة ، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قالها في يوم مائة مرة كتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له عدل عشر رقاب ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ، إلا رجل عمل بعمله أو زاد عليه ))(1).
__________
(1) أخرجه البخاري (3293) ، ومسلم (2691) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .(31/13)
ومن الحروز من الشيطان : إن تتبع أمر الرحمن من غض البصر ، وحفظ الأذن ، وحفظ اليد ، وحفظ البطن ، وحفظ الفرج ، فهذه من الحروز.
ومن الحروز أيضا : إن إذا غضبت فلا تتكلم ، وان تسكت ليزيل الله عنك سبحانه وتعالى وسوسة الشيطان .
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} (البقرة: من الآية36) الشيطان من الجن على كل حال ، بعضهم يكون من الملائكة ، وبعضهم يكون من الجن ، لكن قال سبحانه وتعالى : {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف 50) هذا الشيطان .
والشيطان ، فيه حجم كبير ، وحجم صغير على كل المستويات ، إذا كان الإنسان ضعيفا يرسل له شيطانا من الدرجة الثالثة ، وإذا كان الإنسان من الغليظين يرسل له شيطانا أقوى ، والمؤمن شيطانه ضعيف ، ضعيف جدا يقول : أنهكه وأضناه كالجمل الضعيف ؛ لأنهم كلما حاول الشيطان أن هذا العبد قال : استغفر الله ، وعاد إلى الله وتاب إلى الله ، و أنهدم المبنى يجره معه ، فإذا أراد أن يدخله بيته ، قطع الحبال وفر ، فهو دائما في صراع.
ومن المؤمنين من لم يستطع لهم إبليس أبدا ،حاول وحاول ثم ترك ، أما بعض الناس فيأخذهم يمينا وشمالا .
رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول : ( كل منكم له قرين وكل به ) يعني: من الشياطين .
قالوا : حتى أنت ، يا رسول الله .
قال : ( حتى أنا ، لكن الله أعانني عليه فأسلم ))(1) ، أعانه الله على شيطانه فأسلم ، أعلن الإسلام فلا يأمره إلا بخير ، وأما نحن فالقرين مضاد دائما ، لكن نتحفظ منه بالآيات والأحاديث .
يقول ابن عباس : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم يأتي كالحية ، هكذا جاثم على القلب ، فإذا سكت وغل الإنسان وسوس ، وإذا ذكر الله خنس ، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم .
__________
(1) أخرجه مسلم(2814) ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه .(31/14)
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } (البقرة: من الآية36) من النعيم المقيم وقرة العين ، أخرجهما إلى الدنيا .
{ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، إذن : العداوة بين الناس قضاء كوني قدري من الواحد الأحد ، ولكن تزول العداوة بالإيمان ، والله عز وجل يقول : {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } [ هود : 118:119].
ولكل شيء آفة من ضده *** حتى الحديد سطا عليه المبرد
الحديد ، وهو الحديد ، سلط عليه الله المبرد ، وهذا يقسمه نصفين، كل شيء له عدو ، تجد الشاة ما تخاف من الحمار، ولا تخاف من الجمل ،لكن إذا رأت الذئب خافت وثبتت مكانها ، ولا تأخذ خطوة لأنهم عدوها ، والحمار له عدو وهو الضبع ، والثعبان للإنسان ، وهذه المواشي للأسود ولغيرها ، لكن هي فصائل .
يقول أهل العلم : من العداء الذي جعله الله في الأرض العداء الذي جعله بين الأجناس ، ولذلك نجد بعض الحيوانات تتوافق وبعضها تتعادى .
قال : ( بعضكم لبعض عدو ) فالله هو الذي جعل هذا العدوان لهذا الأمر ، والناس كذلك بينهم عداء ، والعداء على قسمين بين الناس :
قسم بحق ، وهو عداء أهل الحق لأهل الباطل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }[ الفرقان: 31 ] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ البقرة 251]
وأما العداء الباطل ، فعداء المؤمنين بعضهم لبعض وهذا يحصل ، ولكن على المؤمن أن يصلح ، وان يكظم الغيظ ،وان يحسن ، وان يحلم ،وان يصبر ، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران: 134 ](31/15)
ويقول سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [ الأعراف 199]
ويقول سبحانه وتعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت : 34 ]
يقول علي ، رضي الله تعالى عنه و أرضاه ، في معركة الجمل لما رأى طلحة مقتولا ، مسح التراب عن وجهه ،وقبله وقال : يعز علي ، يا أبا محمد ، أن أراك مجندلا على التراب ، ولكن أسال الله أن أكون أنا وإياك ممن قال فيهم الله عز وجل : {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47]
يعني : لابد من شيء بين المؤمنين ، حتى نجد من الدعاة والعلماء من يكون فيه غل ،لكنه ينزعه ، سبحانه وتعالى، يوم القيامة ، فيصبحون أصفياء إخوانا أصدقاء أحباء ، وهذا لا يكون إلا في الجنة ، ولكن في الدنيا لا بد أن يسود الإخاء ، يقول أبو تمام في مسالة الدين والإسلام :
إن كيد مطرف الإخاء فإننا *** نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ما الغمام فماؤنا *** عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا *** دين اقمناه مقام الوالد
هذا هو نسبنا ، نسب الدين .
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرة: من الآية36) تستقرون في الأرض ، ومتاع إلى زمن قريب ، ووالله ، انه زمن قصير ، وانه عيش بسيط سهل ، أنها كلمحة البصر .
عاش نوح ، عليه السلام ، ألف سنة ، فلما أتته سكرات الموت قالوا له : كيف وجدت الحياة ؟
قال : وجدت الحياة كأنها بيت له بابان ، دخلت من هذا وخرجت من هذا .
وقال علي ، وهو يبكي في ظلام الليل : يا دنيا يا دنية طلقتك ثلاثا ، عمرك قصير ، وسفرك طويل ، وزادك حقير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ،ولقاء الموت !!(31/16)
كل الدنيا ليست إلا لمحة {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ إنكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } [المؤمنون ]
{وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } هي : الدنيا متاع فقط ، يعني خير متاع تتمتع فيه إلى حين ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، أو إلى حين الموت {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)}[ ق ] ، فحين تفيض روحك فلا عليك من العالم أن يتأخر بعدك ، أو يتقدم إذا قامت قيامتك .
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:37) يا رب ، لك الحمد ، ولك الشكر ، ولك الثناء الحسن .
أذنب آدم وانزل واهبط ، فاخبره الله بكلمات يقولها ليتوب الله عليه ، قال له : قل : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)) [القصص ] ، وقال له ولحواء قولا : {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف : 23] ، فمد يديه ، عليه السلام ، وقال : ربنا أننا ظلمنا أنفسنا ، فان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، فتاب الله عليهما ، فمن فعل مثل أبيه في الذنب فليفعل مثله في التوبة .(31/17)
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } وقالوا : الكلمات ، هي : لا اله إلا الله سبحانك أني كنت من الظالمين .
وقولوا : الكلمات : لا اله إلا الله الحكيم العليم ، لا اله إلا الله رب العرش العظيم ، لا اله إلا الله رب السماوات والأرض رب العرش الكريم .
وقالوا : الكلمات قال : استغفر الله الذي لا اله إلا هو ، وكلها تدخل في الاستغفار ، إنما علمه الله كلمات فأنقذه بالكلمات ، وهذه هي التوبة ، وفي حديثه صلى الله عليه وسلم مرفوعا : (( يا ابن آدم انك ما دعوتني ورجوتني على ما كان منك ، غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، ولا أبالي ، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم جئتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة )) (1)
إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا *** وجميل عفوك ثم إني مسلم
وقال الأول :
سبحان من يعفو ونهفو دائما *** ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطئ ولا يمنعه *** جلاله عن العطا لذي الخطأ
انظر ما أكثر المعاصي : زنا ، وربا ، وقطيعة رحم ، وعقوق والدين ، وضياع أوقات ، وتفلت على أمر الله ، وترك للصلوات ، والرزق يأتينا من كل مكان.
يعطي الذي يخطئ ولا يمنعه *** جلاله عن العطاء لذي الخطا
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } فقالوا آدم وقالتها حواء ، فغفر الله لهما وتابا عليهما ، انه هو التواب الرحيم ، ما أحسن الكلمات .
النصرانية تفتك الإنسان إذا أذنب قالت له : خزيت وبعدت ليست لك توبة ، واليهودية كانت التوبة عندهم قتل أنفسهم .
__________
(1) صحيح
أخرجه الترمذي (3540) عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، وصححه ، وانظر تصحيح أهل العلم له في (( جامع العلوم والحكم )) لابن رجب الحنبلي .(31/18)
قال سبحانه وتعالى : {فَاقْتُلُوا أنفسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة :54] ، والإسلام يقول لك : إذا أذنبت توضأ وصل ركعتين ، واستغفر الله من الذنب ، وتب توبة نصوحا
ما أسهل الإسلام وما أيسر الإسلام ،وما أوسع باب الله ، عطاؤه ممنوح ، فضله يغدو ويروح ، وبابه مفتوح ، ولذلك أرهقتنا الذنوب ؛ لأننا ما عرفنا طريق التوبة {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم }{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أنفسهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[ آل عمران: 135] ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أنفسهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[ الزمر : 53 ] ، ويقول تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار ، وأنا أغر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم )) (1).
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:38) قلنا : اهبطوا منها جميعا من الجنة ، قيل : هبط آدم وحواء ، وبعضهم يقول : مع آدم وحواء الحية والشيطان { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً }(البقرة: من الآية38) ما هو الهدى ؟
الهدى : دين الله الذي يبعث به رسله ، كل الرسل اتوا بالهدى وكل له شريعة، وهم يتفقون أنهم أتوا بالإسلام { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: من الآية38) .
ما الفرق بين الخوف والحزن؟
__________
(1) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر ، رضي الله عنه .(31/19)
الخوف على أمر مستقبل تخاف من أمر يأتيك ، والحزن على أمر فات ، فلا خوف عليهم ،ولا هم يحزنون ،وهذا كقوله سبحانه وتعالى {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [طه : 123،124]
قال ابن عباس : كتب الله ، عز وجل ، على نفسه أن من اتبع هذا القران ، فاحل حلاله وحرم حرامه ، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}[طه : 124] معه دراهم ودنانير ودور وقصور وسيارات ، لكن عليه الضنك ، وعليه اللعنة ,وعليه الغضب {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آياتنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}[طه ]
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} ، وقد أتى والله .
والله لقد أسمعت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم راعي الغنم في الصحراء .
والله ، لقد سمعت بدعوته العجائز في بيوتهن ، وفي خدورهن.
والله ، لقد نفذ إلى العاتق من النساء ، إلى البكر من النساء ، إلى العذراء من النساء .
من دعوته ما وصل علماء الصحابة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم .(31/20)
والله ، لقد سارت دعوته مسير الشمس ، ومسير الليل والنهار ، فما هو عذرنا إذا قلنا ما آتانا ، ما بين لنا ، ما وضحت الطريق ،ولا والله قد وضحت كل الوضوح ،وقد بينت كل البيان {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس : 70] فمن هو الحي ؟؟ أهو الذي يأكل ويشرب ويزمر ويغني لياليه وأيامه ؟ هذا صحيح يسمى حيا مجازا ، حياة الشاة لأنه يأكل ويشرب ، لكن قلبه ليس بحي {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}[الأنعام : 122] لا سواء ، فالحياة هنا هي حياة الإيمان ، حياة القران ، حياة الذكر ، حياة الاتصال بالله ، حياة حفظ الوقت ، حياة طلب العلم ، حضور مجالس الخير ، واستماع إلى كلام الخير ، هذه هي الحياة أما غيرها فهي حياة (الخواجات ) .
والله ، كيف ينعم الإنسان كيف يهدأ باله وهو ليس مستقيما ؟ والله ليس راض عنه ، تجد عنده قصور ،عنده دور ، عنده مناصب ، لكن الله غضبان عليه من فوق سبع سماوات ، كيف يهدأ ؟ كيف يرتاح ؟ وبعد أيام يرتحل إلى الله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }[الأنعام : 94] أتى صلى الله عليه وسلم يخرج الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أطاعه اهتدى ، ومن عصاه تردى .
**************************************
حوار في السماء
يقول الله تبارك وتعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 29](31/21)
هذه الآية يستدل بها أهل العلم على أن كل ما في الأرض فيه الإباحة ،وانه مباح ، وهي قاعدة أصولية أخذوها من هذه الآية .
إن الله عز وجل قد احل الطيب المفيد وحرم الخبيث الضار ، وقوله تعالى:{خَلَقَ لَكُم} فلكم هنا للملكية أي : مباحا لكم وطيبا لكم ، ومهيئا لكم ؛ بشرط أن يكون هذا الشيء نافعا ومفيدا ، أما إذا كان ضارا فلا ، بل هو محرم .
وإنما ذكر الله هذه الآية ؛ كما قال أهل التفسير بعد قوله ، سبحانه وتعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} (البقرة: من الآية28) ليذكر منته على الخلق سبحانه وتعالى .
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: من الآية29) .
جميعا :تعود إلى ما في الأرض .
وبعضهم يقول : تعود إلى الناس : لكم أيها الناس جميعا .
والأقرب : أنها تعود على ما في الأرض .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (البقرة: من الآية29) فسبحان الخالق ! ولكن نحن لا نتدبر ولا نتفكر ولا نعي .
يقول بعض أهل العمل : إن المساس يبطل الإحساس ، فمن كثرة تعودنا على رؤية السماء ، ورؤية القمر ، ورؤية الشمس ، ورؤية النجم ، أصبحنا لا نتدبر ولا نتفكر ، لكن إذا خرج مصنوع جديد صنعه الإنسان تفكرنا فيه وتدبرنا.
أعرابي يمشي في ليلة من الليالي ، ليلة مظلمة ، وفجأة طلع عليه القمر ، والقمر أزهى شيء عند العرب ، فدائما يشيدون به في أشعارهم ،ودائما يصفون الجمال بالقمر والبدر ، فنظر في القمر ، وقال : سبحان من سواك ! سبحان من رفعك ! إن قلت : جملك الله فقد جملك الله ، وإن قلت : رفعك الله فقد رفعك الله ،وإن قلت : بهاك الله وحسنك الله فقد حسنك الله ، والمقصود أن ما يعتاده الإنسان لا يأبه به دائما لطول العهد.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } (البقرة: من الآية29) ربما يقول أحدكم : هذه تدل على استواء الله على العرش .(31/22)
فأقول : هذه الآية لا تدل على ذلك ، بل غيرها يدل على ذلك بوضوح ؛ كقوله ،سبحانه وتعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه : 5] فهذه هي التي تدل على ذلك.
أما هذه الآية فقالوا : أي : قصد ، سبحانه وتعالى ؛ لأنه عدى ذلك بإلى.
وهنا سؤال يطرح بين طلبة العلم : هل خلق الله الأرض خبل خلق السماء ؟ أم العكس ؟ فهو سبحانه يقول : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) فكأن الأرض خلقت قبل السماء .
لكن في آية أخرى يقول سبحانه وتعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت : 11] ، ويقول سبحانه وتعالى {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}النازعات : 30] ، وقبلها قوله : {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } .
فان في هذه الآية : دلالة على أن الأرض خلقت بعد السماء.
وفي آية البقرة : دلالة على أن السماء خلقت قبل الأرض . فما هو الجواب لهذا التساؤل؟
قد أجاب عن هذا حبر الأمة ، وترجمان القران ابن عباس ، رضي الله عنهما : بان الله خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء ، ثم دحا الأرض ، سبحانه وتعالى ، فالأرض أخذت مدة يومين ، والسماء أربعة أيام ، فكلها ستة أيام .
قال : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ }(البقرة: من الآية29) . هنا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، الأرض .
وذكر ، سبحانه وتعالى ، في القران {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}[ الطلاق 12] يعني : سبع أراضين مثلهن ، ومما اكتشف ، كما سمعنا من كثير من الثقات الذين اعتنوا بعلم الهيئة والجيولوجيا ، أن الأرض سبع طبقات طبقة على طبقة ، وكل طبقة لها لون آخر ، ولها مزاج آخر ، ولها تكيف آخر ، ولها تضاريس تختلف عن الأخرى .(31/23)
إما السماوات ؛ فهي سبع مرتفعة ، بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام.
وبعض أهل العلم يقول : سماء من حديد ، وسماء من نحاس ، وسماء من فضة ، لكن ما علمت على هذا دليلا من المعصوم صلى الله عليه وسلم ، لكنها كواكب تدور فيها.
وقد رأى صلى الله عليه وسلم السماوات السبع ، وقابل فيها الملائكة والأنبياء السابقين ، كما في حديث الإسراء .
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكته *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل *** أعظم بمثلك من هاد ومؤتمم
لما خطرت به التفوا بسيدهم *** كالشهد بالدر أو كالجند بالعلم
حتى بلغت مكانا لا يطار له *** على جناح ولا يسعى على قدم
فبلغ صلى الله عليه وسلم منزلة علية .
قال ، سبحانه وتعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة 29] فبعد أن خلق الله الأرض أتى إلى السماء ، فسواهن سبع سماوات وخلقها بلا عمد ترونها .
يقول بعض أهل العلم : {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [ لقمان 10] .
لها عمد لكن لا ترونها ، ولكن الصحيح بلا عمد ، هكذا قائمة على قبة الفلك.
فانظر : هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت ؟
فانظر : هل ترى فيها من فروج؟
فانظر : هل ترى فيها من عيب؟
لان الذي بناها هو الله ، ولو كان مخلوقا لرأيت النقص ولرأيت العيب.
ولذلك يقول بعض العلماء : لا يخلو عمل ابن آدم من نقص {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء : 82] .
أتى رسام هندي إلى ملك من ملوك الهند بلوحة ، قد رسم فيها سنبلة قمح ، ثم رسم على السنبلة عصفورة ، ثم عرضها للناظرين ، فأعجبت المشاهدين فهل الملك من حسن الرسمة.
فأخذها هذا الملك وعرضها للناس ، وأعطى ذاك الرجل جائزة ، وقال للناس : من أراد منكم أن ينظر فلينظر.
فاجمع أهل الهند على أن لا عيب فيها .
فأتى رجل من غير الهند اعور ، فدخل عند الملك وقال : رأيت عيبا باللوحة!.(31/24)
قالوا : ما هو العيب ؟
قال : العصفور إذا نزل على السنبلة تميل ولا تبقى مستقيمة ، وهذا لما رسمها جعلها مستقيمة!
قال الملك : صدقت وشطب على اللوحة ، واسترد الجائزة من الرسام !
قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: من الآية29) فيها قضايا :
أولها : أن هذا عام لا مخصص له ؛ فالله عليم بكل شيء .
وإذا قلت للإنسان : انك بكل شيء عليم ، فلا بد من مخصص ؛ لقوله تعالى : {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف : 76] .
ولكن من معتقد أهل السنة والجماعة : أن الله مع علمه بائن عن خلقه ، مستو على عرشه.
ومن زعم أن الله حال مع خلقه ، قد افترى على الله ، وكذب على الله .
بل الله ، عز وجل ، موصوف بصفات الكمال ، مستو على عرشه ، ينزل كل ليلة في ثلث الليل إلى سماء الدنيا ، فينادي فيقول : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من داع فأجيبه ؟ فإذا طلع الفجر عاد سبحانه عودة تليق بجلاله ، ونزولا يليق بجلاله ، لكن لا يغيب عنه شيء فهو يعلم السر وأخفى .
فما تناجى متناجيات إلا علم الله ما دار بينهما ، وما فكرت أنت فيه علم ما فكرت فيه ، وهو يعلم السر و أخفى.
قالوا : ما أخفى من السر ؟
قيل : الشيء الذي تريد أن تفكر به.
وقف صفوان بن أمية عند ميزاب الكعبة مع عمير بن وهب ، وهو يحاوره فقال : أتقتل محمداً؟
قال : اقتله ، لكن من لي بأطفالي وذريتي وزوجتي.
قال : اهلك أهلي ، وأطفالك أطفالي ، اذهب واقتله ، وأنا أكفيك أطفالك.
فذه وتسلح بسيفه ،ولكن غارة الله أقوى من عمير بن وهب.
يا غارة الله جدي السير مسرعة *** في سحق أعدائنا يا غارة الله
وصل إلى المدينة ، يحمل قلبا كله حقد ، وكله ضغينة ، وكله بغضاء ، يريد الانقضاض على سيد البشر ليقتله ، ليرتكب أعظم جريمة ، وأعظم لعنة في التاريخ ، فدخل المدينة ، رآه الرجل المسجد الملهم عمر بن الخطاب.
قد كنت اعدي اعدايها فصرت لها *** بفضل ربك حصنا من أعاديها(31/25)
فانطلق إليه عمر ، وكان رجلا سديدا ملهما ، فأخذ بتلابيبه وأتى يجره حتى ادخله المسجد.
فرآه صلى الله عليه وسلم فقال : (( اتق الله يا عمير بن وهب ما لك ؟))
قال : يا رسول الله أتيت لأفك الاسارى اسارى بدر ، وأفك أصحابي من الاسارى.
قال : (( كذبت وإنما جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة ، فقال لك : كيت وكيت ، وقلت له : كيت وكيت )).
قال : اشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد انك رسول الله(1) ! {يَا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[التحريم : 1] إلى قوله :{قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [التحريم : 3] فقد آخره تعالى بما تبيته عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، له .
يا من يرى مد البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم الاليل
ويرى نياط عروقها في جسمها *** والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من زلاته *** ما كان منه في الزمان الأول
فعلمه ، تعالى ، وسع المخلوقات ، وما علم الناس في علمه ، سبحانه وتعالى ، إلا كما يأخذ العصفور من البحر بمنقاره مرة واحدة.
ذهب موسى رضى الله عنه والخضر رضى الله عنه في رحلة بحرية ، فأتى عصفور فأخذ بمنقاره قطرة ماء .
فقال الخضر لموسى : يا موسى أتدري ما مقدار علمي وعلمك في علم الله ؟ قال : الله اعلم .
قال : كما أخذ هذا العصفور من هذا الماء(2) .
هذا علم المخلوق إلى علم الخالق ، سبحانه وتعالى .
__________
(1) أخرجه ابن هشام في (( السيرة )) (3/212) ، والطبري في (( التاريخ )) (2/44) ، والطبراني في (( الكبير )) (118) ، والأصفهاني في (( الدلائل )) (1/140) عن عروة بن الزبير ، وانظر : (( الإصابة )) (7/168، 169) ، وهو مرسل جيد.
(2) أخرجه البخاري (122) ، ومسلم (2380) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما.(31/26)
قال سبحانه وتعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30) الآن ابتدأت قصة أبينا المجهود التائب إلى الله ، ومن يشابه أباه فما ظلم!
فما معنى الخليفة ؟ قالوا : هو آدم .
والصحيح : أن الخليفة ، يعني : قوما يخلفون قوما ، وهذا الذي رجحه ابن كثير ؛ كما قال تعالى{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام 165] فبعضنا يخلف بعض قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وأمة بعد أمة .
قال الشاعر :
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض *** إلا من هذه الأجساد
صاح هذه قبورنا تملأ الرحب *** فأين القبور من عهد عاد
يقول : قبورنا ملأت الدنيا فكيف بالقبور التي سلفت وسلفت وسلفت ؟
وحكمة خلق الخليفة أن يسكن الأرض لمقاصد :
منها : أن يعمر الأرض كما قال تعالى : {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود :61] .
ومنها : أن يأتي من ذرتيه الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم والشهداء والعلماء والصائمون والمصلون .
ومنها : أن يبتليه ، سبحانه وتعالى .
كما قال:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان : 2].
ومنها : أن يظهر ، سبحانه وتعالى ، قدرته للعالمين ، لأنه لا يكون الملك ولله المثل الأعلى ملكا ، إلا إذا كانت له رعية يتصرف فيهم يقتل هذا ويعفو عن هذا ، ويعطي هذا ويولي هذا ويعزل هذا .
فالله أراد أن يظهر سلطانه في الأرض ، وحكمته البالغة وقدرته النافذة ، ويظهر رحمته وعقابه فأتى بآدم.
ومنها : انه أراد سبحانه وتعالى أن يظهر غفرانه ، ويظهر شديد عقابه ، فانه الغفور الرحيم شديد العقاب ، فكيف نعرف انه غفور رحيم إذا لم يغفر ؟(31/27)
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } (البقرة: من الآية30) هذا مجتمع من الملائكة الأطهار في السماء ، ومن حكمته سبحانه وتعالى انه لم يجعل في الأرض من الملائكة ، ولم يجعلهم من الجن ولا من الحيوانات ؛ لان الحيوان شهوة بلا عقل ، والملك عقل بلا شهوة ، والإنسان عقل وشهوة ، فإذا أطاع ارتقى إلى أفضل من الملائكة ، وإذا عصى انحدر تحت البهائم.
وذكر عن بعض المفسرين أن الملائكة قالت : يا رب ، لو أنزلتنا في الدنيا كنا حبسنا شهواتنا وما عصيناك أبدا .
فقال ، سبحانه وتعالى : ( إني اعلم ما لا تعلمون ).
فانزل الله ملكين ( هاروت وماروت ) وأعطاهم الشهوة مع العقل .
فلما نزلا في الأرض جلسا في المحكمة يحكمان بين الناس ، فأتت امرأة جميلة ، فتنت هاروت وماروت ، فبقيت بهما حتى زنيا بها.
فخيرهم الله ، عز وجل بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة .
قالوا : نريد عذاب الدنيا فنكسهما ، سبحانه وتعالى ، في بئر هاروت وماروت في العراق بأرجلهما .
والقصة ذكرها مجاهد بسند ضعيف كما في (( سير أعلام النبلاء )) ، وذكرها كثير من المفسرين (1) .
المقصود: أن الله علم انه لا يصلح للأرض إلا آدم وذرية آدم.
والقرطبي يذهب إلى أن إقامة الخليفة واجب بهذه الآية ، وفي استدلاله نظر ؛ لان الخليفة هنا هو الذي يخلف بعضهم بعضا .
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: من الآية30) 0
كيف تعترض الملائكة على الله عز وجل ؟
كيف وقد قال ، تعالى عنهم في آية أخرى : {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم : 6 ].
والصحيح : أن هذا ليس اعتراضا ، وإنما أرادوا أن يظهر الله لهم الحكمة .
__________
(1) انظر : (( مجمع الزوائد )) (5/68) ، و (( تفسير الطبري )) (1/479).(31/28)
قم لماذا قالوا : ( يفسد فيها ) فما هو دليلهم على انه سوف يكون فساد؟
قال بعضهم : إن الجن عمرت الأرض فترة من الفترات ، فتقاتلوا وافسدوا في الأرض ، فظنت الملائكة أن آدم سيكون مثلهم ، ذكر هذا ابن كثير وغيره.
والإفساد يكون بالمعاصي والظلم والمنكرات.
{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ} فكأنهم يقولون : نحن أولى منهم فنحن أهل التسبيح والتقديس.
قال سبحانه وتعالى : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ أي : اعلم حكمة لا تعلمونها ، واعلم سرا لا تدركونه ، واعلم مقصدا لا تصلون إليه .
قال أهل العلم : مما علمه ، سبحانه ، من هذا انه سوف يكون من ذرية آدم : رسل ، وأنبياء ، وشهداء ، وعلماء ، ودعاة ، وصالحون ، كإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ومحمد ، عليهم الصلاة والسلام ، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي ومعاذ وزيد بن ثابت ، ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ، وابن تيمية وابن القيم وابن كثير ، وأمثالهم كثير .
قال تعالى : {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأسماءَ كُلَّهَا } (البقرة: من الآية31) أراد الله ، سبحانه وتعالى ، أن يجعل خصيصة لآدم ، فعلمه الأسماء كلها : أسماء البشر والحيوانات والمخلوقات .
قال ابن عباس : علمه اسم كل شيء : البقرة والحمار والفرس ، فهذا الجبل اسمه جبل، وهذه سارية ، وهذا مسجد ، وهذه شجرة ،وهذه زهرة ، وهذا ماء ، وهذا رجل ، وهذا طير ، وهذه دابة إلى غير ذلك من الأسماء .
ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن موسى عليه السلام التقى بآدم فقال له: يا آدم أنت أبونا خلقك الله بيده ،و أسكنك جنته ، وعلمك أسماء كل شيء ))(1).
لأن الخليفة والمسؤول لا بد أن يكون على علم وبصيرة ،ولذلك لما اختار الله لنبي إسرائيل طالوت قالوا : كيف يكون علينا ملكا ، ولم يؤت سعة من المال ؟
__________
(1) أخرجه البخاري (7440) ، ومسلم(182) عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه .(31/29)
قال الله : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة 247] ففي العلم عالم ، وفي الجسم كذلك طويل يصلح للملك .
والحسن من كرم الوجود وخيره *** ما أوتي القواد والزعماء
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} (البقرة: من الآية31) أتى سبحانه وتعالى بالحيوانات والحشرات والدواب والعجماوات ، وقال للملائكة : ما أسماء هؤلاء ؟
فسكتوا ، ثم قالوا : لا ندري ، اله اعلم ، { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأسماءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: من الآية31) أي : صادقين في إنكم أولى بالخلافة في الأرض ، وسكون الأرض من آدم .
أو إنكم اعلم من آدم .
{قَالُوا سُبْحَانَكَ}(البقرة: من الآية32) ما أحسن الرد، (سُبْحَانَكَ) تنزيه له تعالى عن النقص.
{لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: من الآية32) فهذا أدب طالب العلم أن يقول : لا علم لنا إلا ما علمنا الله ، والله اعلم ، ولا يتسرب بالفتيا ، ولا يفتي بجهل ؛ لأنهم سو يخطئ ، ويصيبه من الخذلان والحرمان ما الله به عليم ، وينطفئ نوره ، ويأخذ ذمم وحجج الناس على كتفه ، ويكون جسرا إلى جهنم للناس .
ولذلك كان الصحابة من اشد الناس حذرا من الفتيا ، فكانوا يتدافعون الفتيا .
ويقولون : كان يتغير وجه الواحد منهم إذا سئل عن مسالة يخاف أن يغلط فيها .
قال علي ، رضي الله عنه : ما أردها على صدري إذا سئت عن مسالة لا اعرفها ، فقلت : لا ادري .
قالوا : نضرب لك أكباد الإبل من العراق ، وتقول : لا ادري .
قال : اذهبوا إلى الناس ،وقولوا لهم : مالكا لا يعرف شيئا ! {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة:32) فعلم بلا حكمة اضطراب ، وحكمة بلا علم جهل ، والإنسان يجمع في اصله بين صفتين : ظلوما جهولا .
قال ابن تيمية : ظلوما : يحكم بلا عدل ،وجهولا : يحكم بلا علم .(31/30)
ولذلك يشترط في الحاكم أن يكون عالما عادلا ، وهما صفتان جميلتان جليلتان .
{قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأسمائِهِمْ } (البقرة: من الآية33) أي : بأسماء هؤلاء المخلوقات ،{ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: من الآية33)
فالباطن لا يعلمه إلا الله ، أما الظاهر فيعلمه الناس {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخرة هُمْ غَافِلُونَ } [الروم : 7] {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ }[النمل : 66] .
وفي هذه الآية : شرف العلم ، وانه من أعظم المطالب في الحياة ، وان من جلس في حلقة العلم عند أهل العلم جميعا هو أفضل ممن تنفل ، ومن يصلي ومن يقرأ القرآن وحده .
وأن من طلب مسالة ليعمل بها ، ويرفع الجهل عن نفسه فهو أحسن من أن يركع سبعين ركعة.
واللم له وسائل ، فلا يكفي القراءة وحدها ، ولا يكفي الجلوس عند العلماء ، ولا يكفي حضور الدروس والمحاضرات ، بل تجمع الجميع : التدبر والحفظ والجلوس مع العلماء ، ولو كانوا اقل منك علما وبصيرة ، فإن الله يمنحك بالجلوس في مجالس الذكر والعبادة فتحا عظيما ، حتى يقول معاذ في سكرات الموت : ما كنت أحب الحياة إلا لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر .
وكان معاذ يجلس في حلقة بعض الناس الذين هم اصغر منه علما واقل فقها ؛ ليفتح الله عليه من المعارف.
فعلى المسلم أن يحرص على طلب العلم ، وان يقوي علمه ومطالعته ، وان يكون عنده وسائل عديدة في العلم .
*************************************
الغريق(31/31)
قال سبحانه وتعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وأنتمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأنتمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)} [البقرة] .
لا زال الحديث مع بني إسرائيل ، ولا زال الخطاب لبني إسرائيل ، حيث يحدثهم الله بنعمه عليهم فيناديهم قائلا :
أما نجيناكم من آل فرعون ؟
أما واعدنا موسى وأعطيناه التوراة لمصلحتكم ؟
أما عفونا عنكم ؟
أما فرقنا بكم البحر ؟
أما فعلنا وفعلنا ؟
فلماذا هذه الجرائم ؟ ولماذا هذه العظائم ؟
فهي - ولله المثل الأعلى – كأن تؤدب ابنك ، فتقول : أما علمتك ؟ أما بنيت لك بيتا ؟ أما اشتريت لك سيارة ؟
وفي هذه دروس أولها :
مجمل القصة أن موسى ، عليه السلام ، يقاتل قتالا بريا وبحريا ، وصراعا ميدانيا وعلميا ، يرسله الله أي فرعون في ديوانه ، وفي إيوانه ، وفي قصره،ويجعل معه أخاه هارون ؛ لأنهم أفصح منه لسانا ،وهو لا شك أفضل من أخيه .
وقال بعض المؤرخين بأن هارون أكبر منه بسنة ، ولكن الله اصطفاه دونه .
فقال له : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} ، فقال : {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)} لأنهم أمر صعب وتكليف لا يحتمله .
تخيل انك راعي غنم ،ومعك عصا تهش بها على غنمك ، ثم تكلف بالدخول على طاغية من طغاة الدنيا ، هو فرعون حاكم مصر ، وحرسه كما قال أهل العلم : ستة وثلاثون ألفاً ، منتشرون في كل مكان ،بجوار القصر وخارجه وداخله.(31/32)
قال : {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)} ما أحسن الدعاء ! الله هو الذي ألهمه أن يدعو بهذا الدعاء ، {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} يا رب أنت تعلم أن لساني يتلعثم فحله لي .
قال الحسن البصري : رحم الله موسى ، ما سأل إلا أن تحل عقدة واحدة من لسانه .
وسبب طلبه من الله أن يحلل هذه العقدة ؛ كما قال موسى : {يَفْقَهُوا قَوْلِي} ليفهموا قوله ويفقهوه ، ولم يقل : اجعلني أعظم خطيب في مصر ، ولا أفضل متحدث في مصر ، ولكن {يَفْقَهُوا قَوْلِي} فقط لأبلغ الرسالة.
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29)} يساعدني ، ويكون من أهلي ؛ لأنهم لو كان من غير أهلي ربما كان حاقدا أو حاسدا .
ثم عينه باسمه ؛ لان أهله كثيرون ، كبار وصغار وأبناء عمومة وأقارب فقال : {هَارُونَ أَخِي(30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً (35)}.
فجاء الجواب مباشرة (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)) لم يقل سؤالاتك ، لأنها سؤال واحد في علم الله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أراد شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[يس : 82 ]
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)} فبدأ اله من هذه الآية يذكره بشريط حياته ، وبتلك النعم التي أسداها له في الماضي لعله يتذكرها ولا ينساها ، فيشكر ولا يكفر .
لما ذهبا واصبحا في عرض الطريق أوصاهما الله بأدب الدعوة ، فقال : {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} انتبهوا من الخبيث لينوا في الخطاب ، وعليكم بالأسلوب السهل ، والله يعلم في علم الغيب أن فرعون لا يؤمن فهو من أهل النار .(31/33)
لماذا؟ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:23] فيقول موسى وهو في الطريق وفرائصه ترتعد ، فهناك أمامه سيوف ورماح وخناجر ، وجيش وأسطول ، وفرعون وهامان وقارون ،فقال هو وأخوه : {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} (طه:45) أي : أن يستعجل بالعقوبة أو أن يطغى في الحكم.
قال الله – وما احسن العبارة - : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: من الآية46) .
لا إله إلا الله ! انتم في الإيوان ،وعلمي معكم .
أنتم في الصحراء ، وأنا معكم بعلمي وإحاطتي .
أنتم في البحر وأنا معكم بعلمي {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة 7] الله معكم بعلمه و إحاطته وشهوده.
ألزم يديك بحبل الله معتصما *** فانه الركن إن خانتك أركان
ثم كان اللقاء التاريخي المشهود بين فرعون رئيس الضلالة ، وبين موسى كليم الله ، فكان ما كان من إظهار الحجة أمامه ، ومشاهدته لمعجزة العصا واليد .
ففكر وقدر ، فاختار المبارزة في الميدان أمام الجموع الهائلة والحشود الضخمة ، لتكون النهاية الفاصلة : إما الهزيمة ، وإما الظهور في الأرض .
فتواعدا ضحى يوم الزينة ،وهو يوم العيد الأكبر عندهم .
فجاء السحرة من كل مكان تلبية لسلطان الزمان ، وربهم الأعلى فرعون ، واصطفوا متهيئين للانقضاض بسحرهم على عصا موسى ؛ التي سمعوا بها ، وما رأوها ، وظنوها كحبالهم التي معهم .
فاختار موسى أن يلقوا هم بالأول لكي تكون الخاتمة له ، وهذا من حكمته أن يجعلهم يخرجوا ما في كيدهم ،وآخر ما عندهم من حيل ومغالطات.
ثم يأتي هو فيقصم ظهرهم بعد أن عرف منتهاهم .(31/34)
فألقوا حبالهم ، فكانت تتراقص كالحيات ، وهذا أقصى ما لديهم أن يجعلوا الحبال تتراقص ويسحروا أعين الناس بها .
فألقى موسى عصاه بعد أن داخله شيء من خوف طبيعي ينتاب البشر لما رأى حياتهم الكثيرة .
فقال له تعالى : {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (طه: من الآية68) الأعلى مكانة ، والأعلى حجة وغلبة .
فألقى العصا ، فأخذت تلتقم سحرهم وحبالهم واحدة تلو الأخرى ، فدهش السحرة ؛ لأنهم لم يروا في حياتهم منظرا كهذا ، قد خبروا السحر وعلموه ، ولكنهم في حياتهم كلها التي ضاعت بين تلكم الخزعبلات لم يشاهدوا كمثل هذا اليوم .
فعلموا انه ليس بسحر ، وإنما معجزة من رب الأرباب .
فخروا سجدا لله رب هارون وموسى.
فكانت النهاية الأليمة لفرعون وحزبه ، عندما انهارت على رؤوسهم الحيل والتدابير .
فلما سقط الخيار الجدلي ، كان لا بد عند فرعون أن يختار الفصل والحسم العسكري ، أمر بمطاردة موسى وقومه بعد أن تشاور مع وزرائه ، فأتوه بذلك لكي لا يكسب مزيدا من الناس حوله .
فخرج فرعون بجيش قوامه كما يقال ألف ألف ، وأما موسى فلم يكن معه إلا بني إسرائيل من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ، ولكن الله معه.
فلما بلغ موسى وقومه البحر رأوا عجاجة في السماء ، فالتفتوا فإذا فرعون وجيشه ، وقد اقتربوا منهم ، فجزعوا وهلعوا من الموقف ، فالبحر أمامهم ، وفرعون وجنوده من خلفهم .. فأين المفر .
أما موسى فقد علمه الله طيلة تلك السنين انه ناصره في كل موقف .
فأصبح هذا عنده عقدية ويقينا فقال : {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} أي : لن يضيعني في آخر الجولة بعد أن كان معي سابقاً.
فاقترب موسى من البحر وضربه بعصاه انفلق ، وأصبح كالجبل العظيم ، وحسر عن القاع وبنو إسرائيل ينظرون مبهوتين دهشين من هذا المنظر .
فأمرهم موسى بالدخول في البحر والمضي ، بعد أن جعله الله طريقا يابسا ، فسلكوه وهم لا زالوا في عجبهم .(31/35)
وأما فرعون فانه اقترب من البحر ولم يعثر على موسى وقومه ، وإنما شاهد هذا المنظر الغريب الذي يشاهده لأول مرة ، فتقهقر في البداية .
وفي هذا الموضع يورد المفسرون بعض الأخبار الإسرائيلية التي لا باس بالاستئناس بها؛ لأنها لا تعارض نصا عندنا ، وإنما هي من جملة الأخبار .
قالوا : إن فرس فرعون رأى بغلة في البحر ، قيل : بغلة كان يركبها جبريل فأرادها ، لأن الفرس يهيج عند رؤية البغلة ، فاقتحم بفرعون البحر ، فتبعه الجنود لأنه قائدهم ، فلما اكتملوا في وسط البحر أنصك عليهم واضطرب ، فقتلوا جميعا جزاء نكالاً.
فقال فرعون في اللحظات الأخيرة : {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس :90] .
ولكن لم ينفعه ذلك {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}[يونس 91] فلفظه البحر جثة ميتة ليراها من خلفه ، ويعلموا انه رجل حقير لا يستحق أن يجعل ملكا ، فضلا عن أن يجعل ربا ألهاً .
فقال تعالى مذكرا بني إسرائيل بهذه النعمة العظيمة عندما اهلك عدوهم الطاغية فرعون وآله وجنوده {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } [البقرة : 49] .
والنجاة معنوية وحسية :
فالحسية أن تنجو من العذاب ، ومن السجن ، ومن المرض.
وأما المعنوية فان تنجو من الفسق ، ومن المعصية ، ومن المعتقدات الباطلة.
يقول حسان ن رضي الله عنه ، في هجو الحارث بن هشام ، الذي كان من سادات قريش:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني *** فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم *** ونجا بفضل طمرة ولجام
... أي : انه فر يوم بدر على خيل له ، وترك أهل بدر من المشركين يقتلهم المسلمون ، فلم يدافع عنهم .
وقال معاوية ،رضي الله عنه :(31/36)
نجوت وقد بل المرادي سيفه *** من ابن أبي شيخ الأباطح طالب
أي :أن الله نجاني يوم مقتل علي ، رضي الله عنه ؛ لأن الخوارج كان في مخططهم أن يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص ، رضي الله عنهم جميعا ، ولكنهم لم يستطيعوا إلا قتل علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، لحكمة قدرها الله .
فقال معاوية هذا .
قوله :{ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ} [ يعني: تلقون منهم شدة ومشقة وعنتا ، وهو اشد العذاب لا اقله .
يقول عمرو بن كلثوم في (( معلقته ):
إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا
يقول هذا عندما ذهب هو وأمه إلى عمرو بن هند ، فقال أم عمرو بن كلثوم لأم عمرو بن هند : ناوليني هذا الطبق ، تريد إذلالها .
فرفضت ، فضربتها كفا على وجهها ،فصاحت تنادي ولدها وتولول ، فقام ابنها وقتل عمرو بن هند ،وقال معلقته في تلك الساعة .
فكان الإسرائيليون خدما عند أهل مصر في ذلك الزمان ، يقومون بالأعمال الحقيرة عندهم ؛ من كنس وطبخ وتحضير للطعام وهكذا .
{يذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } (البقرة: من الآية49) أي : بعد أن علم فرعون بواسطة السحرة ، انه سيقتل في مصر على يد طفل ذر لبني إسرائيل يولد بعد ذاك الزمان .
فأخذ لغبائه يقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل ، ولكن الله تعالى بإرادته غلب إرادة هذا السفيه ، فجعل الله موسى يتربى في قصر فرعون إذلالا له وتحقيرا .
{ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (البقرة: من الآية49) ، أي : نقمة شديدة حلت بكم ، فلا تنسوها ولا تنسوا نعمة الله إذ نجاكم منها.
ولكنهم نسوا واعرضوا ، فلا زالوا في سخط من الله إلى اليوم
وفي هذا الدرس دروس وعبر :
أولها : أن اعتصامنا بلا اله إلا الله ، فلا اله إلا الله من اجلها الكتب نزلت ،ومن اجلها الرسل أرسلت ، ومن اجلها الدنيا دمرت خمس مرات ، ومن اجلها أقيمت المعالم ، وبثت .(31/37)
الأجيال ،وبذلت الأموال ، ورفعت السيف ، فلا اله إلا الله لا بد أن تسيطر على كل واحد منا ، على الملك ، على الأمير، على الوزير ، على العالم ، على القاضي ، على المسؤول ، لا بد أن يعتقد في ضميره أن لا إله إلا الله على الصحفي يوم يكتب ، على الشاعر ، يوم ينظر ، على الأديب يوم يتوج أن يكون عبدا لله ، وإذا لم يفعل ذلك فسوف يكون من أعداء الله ومن المحادين لله .
والقضية الثانية : أن الدين يكون بالصلاة ، ولا صلاة إلا بدين ، ولا دين بغير صلاة.
والقضية الثالث : أنا إذا لم نجعل في أذهاننا الإيمان باليوم الآخر ، فوالله لا نعيش في سلام ولا أمن ، ولا في استقرار ولا في طمأنينة ، لأن الذين نسوا اليوم الآخر تقاتلوا ودمروا بعضهم ، وأطلقوا صواريخهم وقتلوا الآمنين والنساء والأطفال ودمروا البيوت ، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
والقضية الرابعة: أن الله ، عز وجل ، ينصر أولياءه ، ولو ظهروا على الساحة انهم مهزومون ، أو انهم قليلون ، أو انهم مضطهدون ، فالنصر معهم والعاقبة لهم .
والقضية الخامسة : أن الله ، عز وجل ، يطلب من العبد أن يحفظ النعم والأيادي ، وان يتذكر المعروف ، وان يتذكر الجميل .
والقضية السادسة : أن على الداعية أن يعرف مداخل القلوب ، وان لا يكون عنيفا في أسلوبه مجرحا للشعور منتهكا للقيم.
دخل أحد الأعراب على هارون الرشيد ، الخليفة العباسي الكبير ، فقال الأعرابي : يا هارون .
قال : نعم .
قال : إن عندي كلاما شديدا قاسيا فاسمع له
قال : والله لا اسمع له .
قال : ولم
قال : لان الله أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني ، قال : {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) }.
فأسلوب الأدب ومراعاة الشعور ، و إقامة حقوق الناس مطلوبة في الدعوة ليصل الداعية إلى القلوب .(31/38)
والقضية السابعة : أن لا خوف على المسلم ، فالنفوس بيد الله ، والأرزاق في خزائن الله ، فهو الذي يحيي ويميت ، وهو الذي يغني ويعدم ،وبيده مقاليد الأمور سبحانه وتعالى .
هذا درس من دروس التوحيد ؛ لأن أغلبية سور القران دائما تحلق بنا مع موسى ، ولا تكاد تقرا سورة في الغالب إلا وتسمع {وَلَقَدْ أرسلنَا مُوسَى}[هود 96] فسلام على موسى في الأولين ، وسلام عليه في الآخرين ، وشكر الله سعيه يوم رفع لا إله إلا الله .
وأما فرعون ، وآل فرعون ، حالهم كما ذكر المولى ، عز وجل : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر : 46] .
**************************************
المناظرة
يقول تعالى : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام : 74 ] إمام التوحيد يريد أن يثبت التوحد أولا ، وهو قد أثبته في نسه قبل أن يثبته لأبيه ثم يثبته للناس .
إمام التوحيد يعيش صراعا رهيبا في نفسه ، حتى يعلم أن لا إله إلا الله .
والله ، إذا أراد أن يرسل رسولا من الرسل ابتلاه بالمصائب والأزمات ، حتى يعلم أن لا إله إلا الله ، ولا نافع إلا الله ، ولا ضار إلا الله ، ولا محيي ولا مميت إلا الله .
مكث صلى الله عليه وسلم يذوق التوحيد ، ويتجرع التوحيد من صغره ، فلما بلغ الأربعين انزل الله عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد : 19] .
يقول أهل التفسير : خرج إبراهيم ، عليه السلام ، إلى البحر وجد جيفة حيوان قد ألقيت على الشاطئ ، فأتت الذئاب والوحوش والكلاب والطيور تفترسها.
فوقف متأملا وقال : سبحان الله ، أيعيد هذه الله بعد أن تأكلها الطيور والوحوش؟(31/39)
ثم التفت ورفع يديه وقال : {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة : 260] .
هل شك في القدرة ؟ وقدرة الواحد الأحد ثابتة وهو يعرف ذلك ، وهو الذي علم الناس بان الله قدير ،وهو الذي أتى بهذا العلم( علم التوحيد الخالص ).
عند البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((نحن أحق بالشك من إبراهيم )) (1).
ولأهل العلم معنيان في هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم :
1- المعنى الأول : لو كان إبراهيم يشك ، لكنا نحن أكثر منه شكا ؛ لأنهم ارفع منا إيمانا .
2- والمعنى الآخر : انه لا يسلم من الشك أحد حتى نحن ؛ لأن إبراهيم وهو أفضلنا قد انتابه شيء منه ، والأول اصح وأولى .
قال : {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة : 260] بعد أن أصبحت في بطون الوحوش والطيور والعجماوات والكلاب والزواحف .
قال الله ، عز وجل : { أولم تؤمن } ؟
أفيك شك من لا إله إلا الله ؟ ومن قدرة القدير ؟ وقدرة الواحد الأحد ؟ الذي يقول فيها الإمام مالك : تعدد الأصوات والنغمات واختلاف اللغات يدل على قدرة الله .
وقيل لأحدهم : ما دليل القدرة ؟
قال : نقض العزائم .
أي : انك تعزم على أمر ، ثم ينق عزيمتك . مثلا : تصمم على السفر ثم يلقى سفرك لسبب أو لآخر.
يقول أبو العلاء المعري ، وهو من أحسن أبياته – ولو أن له أبياتا قبيحة -:
تقضون والفلك المسير ضاحكا *** وتقدرون فتضحك الأقدار
يقول : انتم في الأرض خفافيش تقدرون ، وتتوقعون ، ويأتي الله فيلغي تقديراتكم ويفنيها {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }[الأنعام : 62 ] {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام : 115].
قال ابن كثير : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام
وهذا التعريف من الدرر ، وهذا هو الإكسير والمعنى القليل .
(قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)
__________
(1) أخرجه البخاري (3372) ، ومسلم (238) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .(31/40)
يعني : أريد أن يطمئن القلب ، وهو دليل على أن درجة الإحسان أعلى من درجة الإيمان ، وان من رأى الشيء كان أكثر يقينا ممن سمع به .
يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي:
خذ ما رأيت ودع شيئا سمعت به *** في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
وهذا مثل ما يذكر أن علي بن أبي طالب قال : والله ، لو كشف لي الله الغطاء، فرأيت الجنة والنار ، ما زاد ما عندي من إيمان مثقال ذرة . يعني : انه بلغ درجة اليقين .
يقول حافظ الحكمي عنه :
هو رسوخ القلب في الإيمان *** حتى يكون الغيب كالعيان
ما دام بان هناك جنة ، فقد صدقوا بذلك وأيقنوا ، وهذا كحال الصحابة الذي يقول أحدهم في معركة أحد : ( إياك عني يا سعد ، والذي نفسي بيده أني لأجد ريح الجنة من دون أحد ).
هذا هو اليقين ، لا علم الدكتوراه التي جعلت الإنسان في القران الخامس عشر لا يعرف يصلي جماعة في المسجد ، ثم يقول : هذا هو العلم !! {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخرة هُمْ غَافِلُونَ } [الروم : 7] .
قال : ( ولكن ليطمئن قلبي ) فقال له الله : {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إليك} (البقرة: من الآية260) وسبق أن قلت : لا يهمنا استطرادات المفسرين في ذكر نوع الطيور ، هي بط أو حمام أو إوز ؟ إنما هو طير ، ولو كان هناك مصلحة ، لكان سمي لنا الطير .
{فَصُرْهُنَّ} قيل : قطعهن ، فقطعها إبراهيم وخلطها ونثرها على أربعة جبال ونزل في وسط الوادي .
قال :{ ثم ادعهن } {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} (البقرة: من الآية260) فنزل فدعاهن ، وأحياها الله ورد الأرواح فيها ، فكان إبراهيم يقدم الرأس للطائر لا يقبله ؛ لأنه ليس رأسه ، ويقدم الرجل للطائر فلا يقبلها ؛ لأنه ليست رجله.
ثم قال : { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: من الآية260) .(31/41)
لماذا قال الله قبلها في قصة صاحب الحمار : {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: من الآية259) ، وهنا قال : ( عزيز حكيم ).
قال أهل العلم : لأن إبراهيم هو أستاذ التوحيد وصاحب العقيدة ، وهو لا يصل إلى أن لا يعلم أن الله على كل شيء قدير ، ولكنه بعد القصة ازداد علما بعزة الله وحكمة الله فقيل له : {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة :260] .
فذهب إبراهيم إلى أبيه ، وهو أول ما يدعو أباه .
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ } (الأنعام: من الآية74) قيل : انه ليس بأبي بالنسب ، والصحيح انه أبوه بالنسب .
قال : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} (الأنعام: من الآية74) هذه القضية الكبرى .
إن من مبادئ الجدل : انك إذا أردت أن تهدم شيئا أن تورث الشك في نفس من تجادل.
فإذا أردت أن تجادل معتنقي النصرانية مثلا ، فتقو لهم : هل الله ثالث ثلاثة ؟ هل يعقل أن الواحد ثلاثة ؟ تعالوا بنا إلى الحساب ، هل سمعتم أن الواحد يصبح ثلاثة ؟ من هنا نهدم عقائدهم .
قال : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} أتتخذ الحجارة آلهة ؟ فهل هي تسمع أو تعقل أو ترى ؟
{ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
نعم ! يطلب من الداعية أن يكون حكيما ولا يواجه بعنف ، لكن إبراهيم هنا استخدم الأسلوب المناسب للموقف المناسب ، وهذا لا ينافي الحكمة ، فان الله لما أرسل موسى وهارون قال :{ فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } مع العلم أن موسى يقول لفرعون :{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً } [الإسراء : 102] ، لأنه سمع اليقين والعلم والخبر ولكنه تكبر ، فاستدعى ذلك الإغلاظ معه.
كحال إبراهيم ، عليه السلام ، هنا.(31/42)
{وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام : 75]
ما الذي يدل على الله ؟ الشجر والزهرة والغدير والسماء والأرض .
وفي كل شيء له آية *** تدل على انه واحد
كلها تشير على الوحدانية {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[يونس : 101] الرابية : الهضبة ، والتل والماء كلها تدل على الله .
يقول علماء الكلام : لا بد قبل أن تقول اشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أن محمدا رسول الله ، فانه عليك أن تتفكر بالنظر والاستدلال حتى تشهد .
وهذا خطأ عند علماء السنة ، ونبه عليه الشيخ عبد العزيز بن باز ، رحمه الله ، في تعليقه على (( فتح الباري )) وقال : لا ، بل الواجب أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وتشهد أن محمدا رسول الله ، لا النظر والاستدلال .
قال صلى الله عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أني رسول الله ))(1).
وقال سبحانه : {وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهذا دأب الأنبياء ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ما كان يقرأ ، ولا يكتب ، لكنه كان يقرأ في الكون وفي كتاب الكون ، وقيل في قوله تعالى : {اقْرَأْ} وهي أول سورة نزلت عليه ، أي : اقرأ في الكون.
ولذلك يكثر القران من التذكير بآيات الله في الآفاق وفي الأرض {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية]
( وليكون من الموقنين ) هذه درجة الرسوخ واليقين .
واليقين له شروط:
منها : أن تتدبر آيات الكون .
ومنها : أن تكثر من العبادة ،وهو طريق أهل السنة ؛ لان المناطقة لم يكونوا متعبدين ، بل كان يهم فجور .
__________
(1) أخرجه البخاري (25) ، ومسلم (22) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما .(31/43)
والمعتزلة من افجر الناس ، حتى أن بعضهم كان ممن يشرب الخمر .
قال : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً}.
جن معناها : ستر ، وإنما سمي الجن جنا ؛ لأنهم يستترون .
وقال عمر بن أبي ربيعة:
وكان مجني دون ما كنت اتقي *** ثلاث شخوص كأعيان ومعصر
قال : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} هذا أسلوب القران وهذا إبداع القران ، من يستطيع أن يصوغ مثل هذا الكلام ؟
الله وحده جل جلاله .
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} فلا تظهر الكواكب إلا في الليل ، وإبراهيم أراد أن يجري الحوار أمام الناس ، وهو يدري أن الله هو الواحد الأحد ، وهو النافع الضار ، كان يريد أن يلفت أنظارهم إلى أن هذه الكواكب لا تنفع ولا تضر ولا تدبر أمرا هي لا تستحق العبادة.
{هَذَا رَبِّي} يقول إبراهيم : الكوكب ربي ، فسمعه قومه سكتوا ما أنكروا ، لأن أمته كانت تعبد الكواكب ، وتعبد الشجر والحجر ، وتعبد صبرة التمر .
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أفل : أي : غاب .
لماذا قال هذا ؟ لأنه يريد أن يثبت لهم أن الله حي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وهذا سر الأسرار ، بان الحي الذي لا يموت هو الله .
أما غيره أحياء يموتون.
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} فكأن قومه وافقوه وسكتوا ، فما دام إبراهيم لا يحب الآفلين فقد أصاب إبراهيم .
{فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام] هذا في الليلة الثانية .
{فَلَمَّا أَفَلَ} قال : وهذا أيضا لا يصلح للعبادة ؛ لأنه يختفي فلا يراقب عباده .
{قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} .
{فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر} لأنه يبحث عن الكبير ، ولذلك من صفات الواحد الأحد انه الأكبر .(31/44)
وكانت العرب تأخذ أكبر الحجارة لعبادتها!
{فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .
أخيرا قال : هذه كلها خزعبلات ؛ لأن قومه يعبدون الكوكب والشمس والقمر ، فلما أفلت جميعها صرف نفسه عن هذا وقال : {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} الحنيف : المائل من الشرك إلى التوحيد.
وهذا هو الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب كل الأنبياء والرسل ،كان يحب إبراهيم حبا خاص {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ } [آل عمران : 68] .
ويقول في حديث الإسراء : (( ورأيت إبراهيم عليه السلام وكان أشبه الناس به صاحبكم ))(1) أي : هو صلى الله عليه وسلم .
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} الآن بدأت المناظرة .
{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} يقول : أنا اهتديت والحمد لله ، ولكنكم تريدون أن تزيلوني عن هذا المعتقد الحق ، وهذا من الخبث بأنهم لم يكتفوا بضلالهم ، بل يريدون أن يضلوه معهم كشأن بعض الناس الذين يريدون غواية الصالحين.
{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} سبحان الله !.
بعض أهل العلم له تعليق على هذه الآية ؛ بأن إبراهيم يعلم أن الله لو شاء لجعله مثلهم ،ولم يهده إلى التوحيد ،ولكنه عصمه سبحانه وتعالى.
معنى ذلك : أن العبد مفتقر إلى الله مهما بلغ في الهداية .
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحد أبدا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور :21] .
__________
(1) أخرجه ملم (172) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .(31/45)
والله ، سبحانه وتعالى ، إنما عصم الرسول صلى الله عليه وسلم من القتل بآية في سورة المائدة هي: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة : 67] فهو العاصم سبحانه من كل شيء .
ثم قال إبراهيم :{ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (الأنعام: من الآية80).
و أهل السنة والجماعة يقولون : ( يعلم الله ) ، ولا يقولون ( يعرف ) ؛ لأنه ليس من الألفاظ الشرعية أن تقول : ( عرف الله هذه المسالة ) مثلا ، بل تقول : ( علم الله هذه المسالة ؛ لان العرفان يسبقه جهل ، فهو علم نسبي مؤقت ،أما علم الله هو مطلق لا محدود.
وقد علم الله الغيب واختص به سبحانه دون غيره فقال {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل : 65] .
وقد جاء في السنة والآثار عدة حوادث تبين سعة علمه تبارك وتعالى ، وقد مر بنا بعضها في دروس سابقة ، كقصة عمير بن وهب الذي اجتمع مع صفوان بن أمية عند البيت يخططان لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ، أخبر الله رسوله بمخططهم ، فلما جاء عمير في المدينة اخبره صلى الله عليه وسلم بما تم بينهما وهما في مكة وهو في المدينة فأسلم عمير رضي الله عنه .
وهكذا في قصة خولة بنت ثعلبة التي اشتكت زوجها ، فان عائشة كانت في طرف البيت ، لكنها لم تعلم حرفا مما كانت تقوله المشتكية للرسول صلى الله عليه وسلم ، فانزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة : 1] .
قال إبراهيم : {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام : 81] أي : أن المؤمن لا يخاف هذه الخرافات الوثنية في كل زمان ومكان .
قيل للإمام احمد : أيخاف المؤمن ؟
قال : لو اخلص لما خاف .
ولذلك لم نسمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر في معركة ما -وحاشاه ذلك- ؛ لأنه أعظم المخلصين والموحدين.
يقول علي : كنا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم .(31/46)
قال إبراهيم : {وَلا تَخَافُونَ إنكم أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنعام: 81 ] . أي : إنكم انتم أولى بالخوف مني ، لأنني أنا موحد وأنتم مشركون .
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }[الأنعام : 82] ، لما نزلت هذه الآية قال الصحابة : اينا لم يظلم نفسه يا رسول الله ؟ .
قال : ((ليس ما تظنون ألم تسمعوا قوله سبحانه : {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم)}[لقمان : 13] (1) ؟
أي : أن الظلم في هذه الآية المقصود به الشرك لا المعاصي والكبائر التي قد يعاقب بها الإنسان في الآخرة ، لكنه يكون من أهل الجنة أخيرا .
وبهذا انتهت مناظرة إبراهيم مع قومه ، حيث أبطل لهم عباداتهم وطقوسهم الوثنية ، وأثبت لهم التوحيد الخاص ، وأنه مصدر عزة المؤمن وشجاعته .
وأنهم الأحق بالخوف منه والحذر من عذاب الله في الآخرة أن استمروا على شركهم .
فثبت بهذا أن ( التوحيد أولا ) هو بداية الرسل وانطلاقتهم ، لا كما يظن بعض المجتهدين منا ، حيث يقدمون أولويات أخرى غيره ، فلعلهم أن يراجعوا مسلكهم في قادم الأيام.
الذبيح الأول
عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : أول من تمنطق من النساء : هاجر ، وذلك لتخفي أثرها عن سارة لما هاجر بها إبراهيم ، عليه السلام ، إلى مكة ، فنزل بها مكة قريبا من رابية وهو مكان البيت اليوم ، فكانت هذه الرابية مرتفعة عن الأرض .
فلما أنزلها ، عليه السلام ،هناك ، كان معها جراب من تمر ،وسقاء من ماء ، ومعها ابنها إسماعيل ، فتولى وتركهم .
فالتفتت إليه هاجر ، وهي مولاة ، وقالت : لمن تتركنا يا إبراهيم ؟
فلم يجبها بشيء.
فقالت : آلله أمرك بهذا ؟
قال : نعم .
__________
(1) أخرجه البخاري (32) ،ومسلم (124) عن عبدالله بن مسعود ، رضي الله عنه .(31/47)
قالت : إذا لا يضيعنا ربنا .
فلما اختفى وراء الجبل التفت ، ودعا اله عز وجل ، ورفع يديه ، وقال : {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليهم وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] ثم تولى عنهم وتركهم .
فنفد الماء ، ونفد الطعام من التمر ، عن هاجر وابنها ، فذهبت لترى في جبال مكة أين تجد الماء .
قال ابن عباس : لكأني بها تسعى بين الجبلين ، يعني : بين الصفا والمروة سبعة أشواط.
فطافت سبعة أشواط فهو طوافنا اليوم ، فعادت إلى مكانها ، وأخذ ابنها يضرب الأرض برجله من شدة العطش.
فنزل ملك من السماء – قيل : جبريل ، وقيل : غيره – ففحص بجناحه فخرج الماء ، فأخذت هي تعدل الماء وتقيم التراب حول الماء وتقول : زم زم .
وهذا من عادة قبائلهم أنهم إذا اشتغلوا يتسلون بالكلام .
قال صلى الله عليه وسلم : (( رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لصارت عينا معينا )) (1)
ثم نزل هناك ركب من جرهم ،وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة ، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل .
نزلوا في طرف مكة ، فرأوا غرابا عائفا فوق ماء زمزم.
فقال هؤلاء الركب : إن هذا الطائر معه الماء .
فاقتربوا ، فلما رأوا هاجر ، قالوا : ننزل حول الماء .
قالت : لا .
فاصطلحوا معها أن ينزلوا على حسن الجوار .
فنزلوا ، فأعطوها الطعام ، وأعطتهم الماء .
فلما شب إسماعيل ، عليه السلام ، تزوج منهم .
وكان شابا ظريفا عاقلا ، قد آتاه الله الحكم صبيا ، فأصبح أرحامه قبيلة جرهم .
__________
(1) أخرجه البخاري (2368 ، 3364) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .(31/48)
فلما شب فيهم ، عليه السلام ، أتاه أبوه بعد حين يزوره ، فوجد امرأة إسماعيل ، عليه السلام ، وهي في البيت ، فطرق عليها ، وهو شيخ حسن الهيئة ، عليه هندام الوقار والسكينة ،وعليه بشريات التوحيد.
فقال : أين زوجك ؟ وهو ابنه ، ولكن لم تعرفه .
قالت : خرج يطلب لنا صيدا .
قال : كيف انتم ؟
قالت : في حالة ضيقة وفي شر حال ؟
قال : إذا أتى زوجك فأقرئيه مني السلام ، ومريه أن يغير عتبة بابه أو بيته .
فأتى إسماعيل فسألها : هل أتاكم من أحد؟قالت : أتاني شيخ حسن الهيئة ، سألنا عن هيئتنا وطعامنا ، وأمرني أن أقرئك منه السلم ، وان تغير عتبة دارك
قال : ذلك أبي ،ويأمرني بفراقك ، فالحقي بأهلك .
ثم تزوج زوجة أخرى صالحة ، فأتاهم إبراهيم يزورهم مرة ثانية .
فخرجت المرأة .
قال : أين زوجك ؟
قالت: خرج يطلب لنا الصيد .
قال : كيف حالكم ؟
قالت بأحسن حال ، والحمد لله .
قال : إذا أتى زوجك فأقرئيه مني السلام ، ومريه أن يثبت عتبة داره .
فأتى إسماعيل فأخبرته ن وقالت :يقرئك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة دارك.
قال : ذلك أبي وهو يأمرني أن أمسكك فانك زوجة صالحة(1) .
أول مسالة : زواجه ،علي السلام ، من سارة .
كانت سارة امرأة صالحة جميلة ، تزوجها إبراهيم ، عليه السلام ، وعلمها التوحيد ، وأرضعها لبن لا إله إلا الله منذ الصغر ،فنشأت موقرة .
قال ابن كثير : أجمل النساء في العالمين سارة ومريم
وقيل : عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنها وأرضاها.
هاجر إبراهيم ، عليه السلام ، بسارة ،فمر بملك من ملوك الدنيا جبار عنيد ، كان كل ما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها .
فلما وصل إبراهيم بزوجته هذه ، وهو في الطريق سمع بها الملك ، فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة.
ولكن من يعتمد على الله ، ومن استحفظ بحفظ الله حفظه .
__________
(1) أخرجه البخاري (3364) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .(31/49)
فتوجه إبراهيم إلى الله ، عز وجل ، ودعاه أن يحفظ زوجته.
فأخذوها من بين يديه ، فقال لها بينه وبينها : إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك ، فقولي : أنا أخت إبراهيم .
وصدق ، فإنها أخته في العقيدة والدين ، وأخته في النسب الأول ، فكلهم من آدم وحواء .
فوصلت إلى هذا الجبار ، ودخلت عليه ، فاقترب منها ، وهي متوضئة طاهرة .
فدعت الله عليه فجفت يده وجفت رجله .
قال : ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي .
فدعت له .
فأتى يقترب .
فدعت عليه فجفت يده ورجله .
فاقترب ثالثة.
فدعت عليه فجف الثالثة.
فقال : أتيتموني بشيطانة ، اذهبوا بها .
فذهبوا بها أخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل .
فقالت لإبراهيم : منع الله الفاجر واخدمنا وليدة (1) .
فقال لها إبراهيم لما عادت : والله ، لقد رأيتك منذ ذهبتي إلى الآن .
فلما اخذ هاجر أتت بإسماعيل فغارت منها سارة، والغيرة في طبيعة النساء ملاحظة ؛ كأن الغيرة ولدت مع النساء منذ خلق الله المرأة إلى اليوم .
فذهب إبراهيم بهاجر إلى مكة .
وسبحان الله ! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض وبلاد المعمورة لتكون مهبط الوحي ، وليكون منها الإشعاع الرباني والرسالة الخالدة ، وليتخرج منها أساتذة التوحيد ؛ الذين رفعوا علم لا إله إلا الله ، فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها ، وبشظف عيشها ، فتخرجهم رجالا يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
فمكة مسقط رأس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ، ومكة ولد فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد ، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم .
وصل إبراهيم ، عليه السلام، إلى مكة .
قالوا : كان البيت في رابية مرتفعة .
وقيل أن يأمره الله بالبناء اختار الله ذاك الموقع .
__________
(1) أخرجه البخاري (2217 ) ، ومسلم (2371) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .(31/50)
قال بعض أهل العلم : لأنها وسط الدنيا ، وقد اثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا ، أن من صعد على سطح القمر رأى أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها ، ووسط الدنيا هي الكعبة .
ولذلك سماها الله أم القرى ، فهي تبث الإشعاع في كل مدينة.
فلما وصل إبراهيم هناك وضع الأهل والمتاع وتولى إلى الله ، عز وجل ،واختفى وراء الجبل ، وابتهل إلى الله ، كما سبق .
تزوج إسماعيل ، كما مر ، من جرهم ، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول :
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله *** رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما *** على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان ، وقيس بن زهير لما تداركا عبسا وذبيان في حروبهم .
وفي أول زيارة من إبراهيم لإسماعيل ، كان قد بلغ إسماعيل مبلغ الصبيان ودرج على الأرض ، فأحبه إبراهيم وشغف به وأصبح كالخليل لخليله .
قد تخللت مسلك الروح مني *** ولذا سمي الخليل خليلا
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب ، ومن هذا الابن له سبحانه وتعالى لأنه خليل الرحمن .
فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم ا قائلا يقول له : اذبح ابنك .
فتعوذ بالله من الشيطان وتوضأ وصلى.
فرأى الرؤيا مرتين .
فعلم إنها رؤيا حق .
ولذلك قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى : ( باب ) رؤيا الأنبياء حق .
فقال إبراهيم لإسماعيل :{ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] .
ويا لها من مصيبة !
ويا لها من مسالة شاقة على الأنفس !
ومثل في نفسك أن تؤمر أن تذبح بيدك وسكينك أحب أبنائك إليك .
ما هو شعورك ؟
وما هي عواطفك ؟
فقال إسماعيل في هدوء صبر وإيقان : {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [الصافات : 102] .
قال أهل التفسير : خاطبه بالأبوة في مقام الحنان حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل .(31/51)
{ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: من الآية102) قالوا : ما أحسن هذا الاعتراض .
لم يقل : ستجدني من الصابرين ، وإنما قال : (إِنْ شَاءَ اللَّهُ).
فصبري بالله واتكالي على الله .
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل ،اسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد ، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى .
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قال أهل التفسير : ما استطاع أن يبطحه على ظهره فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه .
لماذا ؟
خشية أن يرى وجه ابنه فتدركه الرحمة والرأفة فيعصي أمر الله .
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قال أهل العلم : ولم يقل :أجلسه وأقعده ، إنما (وَتَلَّهُ) بقوة ليرى الله انه ينفذ الأمر بحماس وقوة .
وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القران ، فهو صاحب الروغتين : روغة الكرم وروغة الشجاعة {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [الذاريات : 26] {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ }.
لان المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله ، وتنفيذ أوامر الله بالقوة .
أما البرود ، وأما الكسل ، وأما الخنوع ، فهو ليس من دين الله .
ولذلك يقول الله ليحيى : {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ }.
ويقول الله عن المنافقين : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } .
فلما أرسل السكين عليه أتى لطف الله عز وجل ورحمته ، سبحانه وتعالى ، فما أصبحت السكين تذبح ، ومن عادة السكين أن تذبح ،ولكن حكمة الله عز وجل أن منعها من الذبح .
فالبحر يغرق ، ولكن قدرة الله منعته أن يغرق موسى عليه السلام .
والنار تحرق ، وهذه من سنن الله الكونية، ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام .
والسكين تذبح ، ولكن قدرة الله عز وجل تجعلها لا تذبح أبدا .
فمنعتها من عنق إسماعيل ؛ لأنه بريء طاهر عفيف.
فقال سبحانه : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات:107)(31/52)
( نزل عليهم من الجنة ، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم ( الكبش ) ورد السكين إلى نصابها .
فمدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} (الصافات:106) فهو بلاء خالد ، لكن خلد الله ذكره يوم قال : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء:84) فرفع الله ذكره ابد الدهر .
فيأتي إبراهيم في المرة الثانية ليبني بيت الله سبحانه وتعالى ،وكان إسماعيل قد شب وأصبح فتى يستطيع البناء معه .
فقال له إبراهيم : يا إسماعيل إن الله يأمرني أن أبني البيت .
قال : وأمرك ربك ؟
قال : نعم ، وتعينني على ذلك .
قال : نعم ، أعينك عليه .
قال ابن عباس : كأني بإبراهيم ، وقد ارتفع على الجدار ،وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهو يضعها ويبني .
أتدرون ماذا كان نشيدهم الخالد؟
كانا يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: من الآية127) .
والفاجر يفجر ويعصي ويزني ، ويكذب ويغتاب ، ويقول : رحمة الله وسعت كل شيء !
فلما بقي مكان الحجر أمر الله ، عز وجل ، إبراهيم أن يبقي مكانه .
فالتفت إلى الحي القيوم ،ودعا أن يبارك الله ، عز وجل ، في هذا البناء .
فأتاه جبريل بالحجر الأسود أبيض كاللبن ، كالجوهرة البيضاء من الجنة ، فسلمه إلى إبراهيم وقال : ضع هذا الحجر في هذا المكان ليستلمه الناس .
قال صلى الله عليه وسلم :(( نزل الحجر من الجنة ابيض من اللبن فسودته خطايا بني آدم ))(1).
__________
(1) حسن أخرجه احمد (2792 ،2935، 3038) ، والترمذي (877) ، وحسنه عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وانر : (( المشكاة )) (2577).(31/53)
وصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث انه قال : (( إن لهذا لحجر لسانا وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق ))(1).
فمن استلم الحجر الأسود أو قبله ، وهو صادق ومشتاق ومخلص ، انطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسان ناطق يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا .
والحجر الأسود له قصة في التاريخ ، فانه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عصر القرامطة ،يوم أن وفدوا من الإحساء إلى البيت العتيق ، ووفد معهم الفاجر ( أبو سعيد الجنابي ) وأخذ بسيفه يقتل الحجيج ، ويقول : يخلق الخلق وأفنيهم أنا .
يقول : إن الله يخلق الخلق وأنا أفنيهم .
ثم تقدم بدبوس من حديد في يد فقال : يا معشر المسلمين ، يا أيها الحمير ، تقولون إن الله يقول : ( ومن دخله كان آمنا ) ، نحن دخلناه الآن فأين الأمن ؟
فقال له بعض العلماء : هذا من باب الأمر لا من باب الخبر .
يعني : أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت ، وأنت قد أخفته .
فتقدم بخنجر فطعم العالم فقتله ، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذا الدبوس ، فانفلق منه ثلاث فلق .
وأخذوا الحجر ، واركبوه على سبعمائة جمل ، كلما مشى الجمل قليلا أصابه الجرب ، وأهلك الله الجمل فسقط الحجر من عليه ، فيركبونه على جمل آخر ، يموت الجمل ، الآخر حتى مات سبعمائة جمل .
ووصل إلى الإحساء ، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ،ودفعوا مبلغ هائلا من الدراهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه .
ولله حكم في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر.
وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ ، فهو الحكيم سبحانه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء:23)
... وبني إبراهيم ، عليه السالم ، البيت، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم.
__________
(1) صحيح . اخرجه احمد (2394) ، والترمذي (961) ، وصححه ، وابن ماجه (2944) ، والدارمي (1839) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وانظر: ((المشكاة )) (2578).(31/54)
فقال الله عز وجل : {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } (البقرة: من الآية125) .
فوقف هناك ودعا الله كثيرا .
فأمره الله أن ينادي في الناس جميعا أن يحجوا إلى هذا البيت ،وان يأتوا إلى بيت الرحمن ، فبيت الرحمن جل جلاله فيه الهداية والنور ،وفي السماء الدنيا ببيت آخر كالكعبة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ابد الدهر ، فيأتي غيرهم فيطوفون ... وهكذا .
فارتفع إبراهيم على جبل من جبال مكة فنادى في الناس .
قال ابن عباس : فسمعه الناس في أصلابهم {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يأتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ} [الحج 27-28].
{يَأْتُوكَ رِجَالاً } قالوا : أي أنهم مترجلين ماشين .
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي : على كل بعير ضامر من شدة السفر .
فعاد إبراهيم بعد ذلك إلى فلسطين لأمر يعلمه الله .
وأما إسماعيل فأقام هناك ، وتزوج من جرهم ، فهو جد رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث ضعيف في سنده كلام ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( أنا ابن الذبيحين ))(1) فالذبيح الأول هو إسماعيل الذي عرضه لذبح إبراهيم ، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة .
فان عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذرا إذا اخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه ، وكانوا عشرة منهم : عبد الله والحارث وحمزة وأبو طالب والعباس وأبو لهب .
فلما خرج الماء اقرع بين العشرة فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففداه .
فأتى السهم الآخر فوقع على عبد الله ، ففداه بعشرين ، حتى وصل مائة ناقة ففداه بها.
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين .
__________
(1) أخرجه الحاكم في (( المستدرك )) (4048) ، وانظر : (( كشف الخفا )) (1/230) ، و(( الضعيفة)) للألباني (331).(31/55)
والذبيح الأول على الصحيح هو إسماعيل ن لا إسحاق كما يدعي اليهود حسدا لنبينا أن يكون ابنا للذبيح المختار .
هذه لمحات عن قصة هذين النبيين الجليلين ، وبقي في حياة إبراهيم، عليه السلام ، عبر ومواقف ، كمحاجته مع النمرود ، وطلبه أن يرى كيفية أحياء الموتى من الله ، عز وجل ، وقد ذكرت هذا في مواضع أخرى .
*****************************************
الكريم ابن الكريم
قصة يوسف فيها عبر وفوائد جمة لمن تأملها .
وفيها متعة وتشويق للنفس البشرية
فهي تحكي أطوار حياة نبي من أنبياء الله ، منذ الصغر إلى أن تقلد المنصب الكبير في عصره .
وفي هذه الورقات نقوم بجولة عجلى على مقطعين من مقاطع السورة نستلهم منها العبر والدروس النافعة لنا .
يقول سبحانه : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رأيت أحد عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإنسان عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} [يوسف] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ))(1).
دخل عمر ، رضي الله عنه ،مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد قاصا يقص على الناس من أخبار الجاهلية والأمم السابقة فقال عمر : من هذا ؟
قالوا : قاص يقص علينا .
فعلاه عمر بالدرة وقال : أتقص يا عدو نفسك والله يقول : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } (يوسف: من الآية3).
__________
(1) أخرجه البخاري (3390،3382،4688) عن ابن عمر ، رضي الله عنهما .(31/56)
ومن أحسن القصص : قصة يوسف ، عليه السلام .
وبطلها هو : يوسف صلى الله عليه وسلم الذي مر بأربع مشاهد:
1- مشهد الفراق لأبيه عندما فارقه أربعين سنة لم يشاهده فيها .
2- ومشهد الفتنة مع امرأة العزيز التي تعرضت له ، وهي من أجمل خلق الله .
3- ومشهد السجن عندما سجن في ذات الله ،ومحص ليخرج برضوان الله .
4- ومشهد الوزراة والملك عندما اعتلى على مناصب القوة ومراكزها في عصره .
قال تعالى في أول السورة ( الر ) فمن هذه الحروف نتكلم .
ومن هذه الحروف نقول كلماتنا.
فيا أيها الفصحاء .. يا قريش اللسناء .. يا قريش البليغة . تعالوا فصوغوا من هذه الحروف قرانا ، كما صغنا قرآننا .
فالمادة موجودة والخام معروف.
ولكن هل تستطيعون ؟
لا !!! لن تستطيعوا ، { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } (البقرة: من الآية24) .
ثم قال تعالى : { تلك آيات الكتاب المبين } كتاب بين واضح ، { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (يوسف:2) فيا من نام وما استيقظ ... استيقظ بهذا القران .
ويا من غفل ولم يصح ... اصح بهذا القرن .
ويا من فقد عقله ... أعقل بهذا القران .
ثم يقول ، تبارك وتعالى ، مقدما للقصة المدهشة التي ما سمع الناس بمثلها{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: من الآية3)، فأروع القصص وأصدق القصص هي قصص القران.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف:3). كنت أميا لا تقرا ولا تكتب .
كنت في صحراء مع أمة أمية جاهلية ليس عندها أي قصص ، وليس عندها علم ، فاسمع الآن القصص .
ثم ينتقل بنا القران إلى يوسف صلى الله عليه وسلم ، والى أبيه يعقوب ، إلى الأنبياء المطهرين والأسرة العريقة ذات الكرم والجود والتقوى .
وما كان من خير آتاه فإنما *** توارثه آباء آبائهم قبل(31/57)
وهل ينبت الخطى إلا وشيجة *** وتغرس إلا في منابتها النخل
يصحو يوسف ، عليه السلام ،وهو غلام فيما يقارب العاشرة فيجلس أمام أبيه ، ومن أجب الأعاجيب عند الطفلان يرى في النوم رؤيا ليفرح بها ويقصها على أبيه وأمه ، وبعضهم يزيد فيها وينقص .
وأما يوسف صلى الله عليه وسلم فما زخرف وما زاد ، بل جلس أمام أبيه ، وقال : يا أبتاه !! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكبا في السماء والشمس والقمر .
ولو سكت لما كان في القصة عجب ؛ لأن الكل يرى النجوم والكواكب والشمس والقمر ، ولكن سر الرؤيا كان في الخاتمة {رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: من الآية4).
ففزع يعقوب بهذه الرؤيا ، وفطن لأنه من الأنبياء ، وعلم أن ابنه هذا سوف يكون له شأن أيما شأن ، وسوف يكون وارثه في النبوة .
فخاف أن يخبر إخوانه بهذه الرؤيا ، فيأتي الشيطان فيفسد ما بينهم وبينه .
فقال : ( يا بني ) للتحبيب {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} (يوسف: من الآية5) حذاري حذاري أن يسمعوا هذه القصة ، فلا تخبرهم أبدا انك رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون لك .
ولكن يوسف ، عليه السلام ، نسي لصغره الوصية ، فأخبر بها إخوانه عندما جلس معهم .
ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أن أحدنا إذا رأى رؤيا أن لا يقصها إلا على من يحب (1).
فثار الحقد والحسد في قلوب إخوانه ، وبدءوا يدبرون له المكايد .
فعلم يعقوب بأنهم علموا الرؤيا فتضايق وخاف منهم على أخيهم .
ثم قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيات لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)} فهم إضافة إلى تلك الرؤيا التي أثارتهم ، قد ازدادوا بغضا ليوسف عندما رأوا أباهم يقربه ويحبه ويبش له دونهم .
__________
(1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (7044) ، ومسلم (2261) عن أبي قتادة ، رضي الله عنه .(31/58)
وفي هذا : تنبيه للآباء بأن لا يفضلوا أحد أبنائهم على الآخرين ؛ لأنه في النهاية إن لم يصرفه الله عن السوء سيكون مثل إخوة يوسف ، ولا شك .
ولا تغررك الأفعال الظاهرة ، فإن بعض القلوب والنفوس تكتم شعورها لتفرغه في الوقت المناسب .
المهم : أنهم دبروا لأخيهم مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها .
فهو طفل صغير عاقل تقي ورع من أبناء النبوة ،لكنهم قرروا قتله أو إخفاءه .
{يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً}
لماذا كل هذا ؟
{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي : سوف تختلون بأبيكم وينفرد بحبكم ، {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} فتتوبون من الخطأ ، وتستغفرون الله من الجريمة ،ويتوب الله عليكم .
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : نووا التوبة قبل الذنب .
{قَائِلٌ مِنْهُمْ} وهو أكبرهم {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} فالقتل جريمة نكراء عند هذا الأخ الذي تحركت غيرته على أخيه نوعا ما ، فجعلته يختار عدم القتل ، ولكن {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ } ي : في بئر عميقة ، {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي : مصممين على هذه الفعلة .
فلما اجتمعوا، اجمعوا أمرهم على هذه المكيدة.
ولكن ، من يخرج يوسف من بيد يدي أبيهم ، عليه السلام :
فأتوا يوما وقالوا : {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} أنحن خونة ؟ أتشك فينا ؟ هل ضربناه ؟ هل حسدناه ؟ {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} فنحن نحبه والله ، وننصح له ، ولا نريد إلا الخير له .
ثم أكدوا طلبهم وقرنوه ببعض الأعذار المغرية والتطمينات فقالوا : {أرسلهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي : يرعى معنا الغنم ، بل ويلعب أيضا ؛ لأن الصغار دائما يحبون اللعب ، ولا تخف فنحن سنحفظه من اللصوص ومن الذئاب لأننا عصبة كثيرون.(31/59)
فقال ، عليه السلام : {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} أجد وحشة والله على هذا الابن أن يذهب من بيتي ، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لما كانوا قالوا في الأخير : {أَكَلَهُ الذِّئْبُ} لأن هذا ليس في أذهانهم منذ البداية ، فهو ، عليه السلام ، قد سهل لهم العذر والمكيدة.
فخرجوا به، فلما أصبحوا في الصحراء ، والغنم ترتع وتأكل وهم يلعبون ، والجو ساكن وهادئ ، والطيور تغرد وتزغرد ، والنسيم يعل وينهل على الأعشاب ، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ الحبيب القريب والصغير .
فأخذوه ، وقيدوه بحبل ، وأنزلوه في البئر .
فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون ، وقد خيروه بين القتل وبين أن يلقى في البئر .
كفى بك داءان ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا أن يكن امانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى *** صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
فأنزلوه ، وهو يتشبث بالحبل ، ويبكي .
قال ابن عباس ، وهو يبكي ، حينما قرأ سورة يوسف : هدأت الحيتان في البحر من التسبيح ، ولم يهدأ يوسف ، عليه السلام ، من التسبيح.
فلما نزل في قعر البئر ، قطعوا الحبل ، فبقي في حفظ الله ، وفي رعاية الله .
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالحوادث كلهن أمان
قطعوا الحبل ، وتركوه في البئر ، وهو يلهج بذكر الله في الصحراء ، وحيدا ليس معه إلا الله .
الذئاب حوله ، والجو مكفهر ، لا خبز ولا ماء ولا طعام ، ولا أهل ولا جيران ولا أحبة ولا مؤنس يؤنس ، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية.
عوى الذئب استأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكدت أطير
وإخوته بفعلهم هذا قد أخطأوا في ثلاث مواطن:
الأول : أنهم نفذوا جريمتهم في أول يوم يذهب فيه معهم ،وهذا دليل على شدة تعجلهم بالانتقام منه ، وإزالته من أمام أعينهم .
ولو أعادوه ليطمئن أبوهم لما شك فيهم ، ولكنها حكمة الله التي فضحتهم .
الثاني : أنهم خلعوا قميصه ،ولم يمزقوه ، وقالوا : أكله الذئب .(31/60)
وهذه غفلة منهم ؛ لأن الذئب إذا أراد الأكل لا يخلع القميص بل يمزقه !!
الثالث : أنهم عندما عادوا لأبيهم وأخبروه قالوا: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}(يوسف: من الآية17 ) أي : بمصدق.
وهذا كقولهم في المثل : ( كاد المريب أن يقول خذوني ).
فأوحى الله إلى يوسف {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: ستمر الأيام وتخبرهم بهذا الصنيع منهم بعد سنين طويلة .
فعاد الإخوة إلى أبيهم في العشاء يبكون .
ولماذا العشاء ؟
لماذا لم يعودوا في العصر ؟
قيل : لئلا يرى أبوهم الدم بوضوح ،فيكتشف انه ليس بدم آدمي.
وقيل : ليتوهم أنهم تأخروا في مطاردة الذئب !
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فقالوا : (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) أي : نتسابق ونجري (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا) لكي لا يصل أو يبعد عن أعيننا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) أي : جاء الذئب وأكله ونحن لاهون في مسابقتنا ولعبنا .
ثم قالوا : حتما لن تصدقنا {أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} لكن انظر إلى الدليل : أخرجوا له القميص وجعلوه قريبا منه ليلمح آثار الدم عليه . لكنه ، عليه السلام ، علم المكيدة من اللمحات والنظرات والريبة ، و القميص الذي لم يمسسه مزق واحد ، فقال : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أنفسكُمْ أَمْراً} لقد كدتم مكيدة {جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
قال ابن تيمية ، رحمه الله : الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه .
والصبر الجميل : هو الذي لا تظهر فيه الفقر والمسكنة إلا لله .
والصبر الجميل : أن تتجمل أمام خلق الله .
قيل لأحد العباد : ما هو الصبر الجميل ؟
قال : أن يقطع جسمك قطعة قطعة ، وأنت تبتسم.
وقال آخر : الصبر الجميل أن تبتلى ، وقلبك يقول : الحمد لله .
ثم تولى يبكي حتى ابيضت عيناه.(31/61)
وبالفعل صبر يوسف ، عليه السلام ، حتى أرسل الله ، عز وجل ، برحمة منه قافلة تمر من ذلك المكان ،وبالقرب من البئر ، فذهب و أردهم وأدلى دلوه في البئر يستقي الماء ، فتعلق يوسف ، عليه السلام ، بالدلو ، فلما سحب الرجل الدلو رأى غلاما جميلا قد أوتي شطر الحسن ، فقال لأصحابه : {يَا بُشْرَى} فانتبهوا ، فقال : {هَذَا غُلامٌ} أي : خادم وعبد لي ، سوف أبيعه .
ثم يقول عز من قائل : {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} قيل : أخفاه بعضهم عن بعض وجعلوه بضاعة .
وقيل : أخفوه من الناس ، خوفا أن يجدوا أباه أو أقاربه ، وما علموا أن إخوانه هم الذين تركوه وهم الذين طرحوه وهم الذين هجروه و أبعدوه .
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فالله يتابع سيرة هذا النبي ، وقصة هذا الرسول الكريم ، عليه الصلاة والسلام .
وذهبوا به {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} وشرى هنا : بمعنى باع .
{بِثَمَنٍ بَخْسٍ} لأن الدنيا وما فيها لو دفعت في مثل يوسف عليه لإسلام ، لكانت بخسا ، ولكانت غبنا ، ولكانت خسارة .
{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} ولم يقل موزونة ، لأن المعدود دائما اقل من الموزون ، {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أي : لا يرغبون فيه ، ولا يريدون أن يكون معهم .
{الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} ولم يسمه الله باسمه .
قيل : لأن القصة ليوسف ، عليه السلام ، فما كان لأحد أن يزاحمه فيها .
وقيل : لأن كلمة العزيز لا يستحقها العزيز ؛ لأن العزيز من اعزه الله بطاعته ،والشريف من دخل في عبودية الله.
ومما زادني شرفا وفخرا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا
فقال لامرأته : {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} وهذا مبالغة في الإكرام ، أي : أحسني طعامه وشرابه وكسوته ومنامه ، {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} فيخدمنا في أغراضنا ، ويقضي لنا بعض حوائجنا ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) لأن العزيز كان حصورا لا يأتي النساء ، وكانت امرأته عقيما.(31/62)
فأراد أن يتخذ هذا الغلام ولدا يترعرع في بيتهم ، يهدؤون ويرتاحون إليه ، وهم لا يشعرون انه لن يكون لهم ولدا ، بل سوف يكون نبيا من الأنبياء ، ورسولا يحمل رسالة السماء إلى الأرض ، وداعية إصلاح يحرر الشعوب ويقود الأجيال إلى الله .
ومكث ، عليه السلام ، في قصر العزيز تقيا عابدا متألها متعلقا بالحي القيوم .
وتمر الأيام ، ويزداد حسنا إلى حسنه ،وجمالا إلى جماله .
فتراوده المرأة التي عاش معها تلك السنين الطويلة.
فيا للفتنة!
ويا للمحنة!
شاب أعزب فيه الشهوة ، وليس له أهل يعود إليهم ، وغريب لا خشى على نفسه من السمعة القبيحة ، كما يخشى صاحب الوطن ، {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} تعرضت له كثيرا ، وتجملت له دائما ؛ لأنها ذات منصب وذات جمال ، فهي كملكة في قصر ملك .
ولكن الله معه يحفظه ويسدده .
وفي يوم من الأيام عملت على إغلاق الأبواب كما قال تعالى : {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} وكانت سبعة أبواب ، فغلقت كل باب ، ولم يقل سبحانه : أغلقت ، وإنما {وَغَلَّقَتِ} زيادة في المبنى ليزيد المعنى .
فخلت معه ولكن الله سبحانه وتعالى يراهما {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء] .
{هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} .. فخلا بالمعصية ، لكن ما خلا عن عين الله .
وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
استحيي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
{وَهَمَّ بِهَا} أي : هاجت الشهوة في قلبه ، عليه السلام ، {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.
فما هو برهان ربه يا ترى ؟
تلك أقوال المفسرين ، أعرضها عليكم ، ثم نخرج بالراجح ، إن شاء الله :
1- قال ابن عباس ، رضي الله عنه : لما هم يوسف بها سمع هاتفاً يهتف يقول : يا يوسف ، إنني كتبتك في ديوان الأنبياء ن فلا تفعل فعل السفهاء.(31/63)
2- وقال السدي : سمع هاتفا يهتف ويقول : يا يوسف ، اتق الله ، فانك كالطائر الذي يزينه ريشه ، فإذا فعلت الفاحشة فقد نتفت ريشك.
3- وقال بعض المفسرين : رأى لوحة في القصر مكتوب عليها {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } [الإسراء : 32]
4- وقال غيرهم : رأى كفا مكتوبا عليه {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}[الانفطار : 10] أي : إننا نحفظ تصرفاتكم وحركاتكم وسكناتكم.
5- وقيل : بل رأى يعقوب أباه في طرف الدار قد عض على إصبعه وهو يقول : يا يوسف ، اتق الله ، أورده ابن جرير وابن كثير .
6- وقال بعض أهل العلم من المفسرين أيضا : لما همت به وهم بها قالت : انتظر ، فقامت إلى صنم في طرف البيت فسترته بجلباب على وجهه .
قال : ما لك ؟
قالت : هذا الهي استحي أن يراني.
فدمعت عينا يوسف ، وقال : أتستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ، ولا يملك ضرا ولا نفعا ، ولا حياة ولا نشورا ، ولا أستحي من الله الذي بيده مقاليد الأمور .
7- ويرى ابن تيمية ، شيخ الإسلام ، وغيره من أهل العلم : أن برهان ربه الذي رآه ، هو : واعظ الله في قلب كل مؤمن ، فقد تحرك واعظ الله ، والحياء من الله ، والخجل من الحي القيوم في قلب يوسف ، عليه السلام ، فارتدع عن المعصية وعاد منيبا إلى الله {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات] فتذكر الوقوف بين يدي الله فتراجع.
فهل آن لشباب الإسلام أن يتحرك واعظ الله في قلوبهم ؟
وهل آن للمسلمين أن يجعلوا من يوسف ، عليه السلام ، قدوة لهم ؟
فيا من يتطلع على عورات المسلمين ، أليس لك في يوسف ، عليه السلام ، قدوة ؟
يا من يعامل ربه بالمعاصي ! ويرتكب الجرائم ! ويحرص على الزنا! أما رأيت يوسف؟؟ وقد خلا بامرأة جميلة ذات منصب ، فتذكر واعظ الله في قلبه ؟(31/64)
ويا من دعا إلى التبرج والسفور !! أما رأيت ما صنعت الخلطة بالنبي المعصوم الذي كان أن يزل وان يهلك ؟ وأنت تنادي المرأة أن تتبرج وتسفر عن وجهها وتخالط الرجال !!.
يقول صلى الله عليه وسلم : (( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما))(1) .
ويقول صلى الله عليه وسلم : (( لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ))(2).
ثم قال الله له : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} لنعمر مستقبله باليقين ، ولنجعله من ورثة جنة رب العالمين مع المؤمنين الخالدين {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ، وإذا اخلص العبد لله حماه الله من الفتن ، ووقاه المحن ، وجنبه الشرور .
يقول سعيد بن المسيب ، رحمه الله : إن الناس في كنف الله وستره ، فإذا أراد أن يفضح بعضهم رفع ستره ، سبحانه وتعالى ، عنهم ثم قال الله عز وجل : {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} هو يهرب من الفاحشة وهي تلاحقه .
يهرب إلى الله ، ويفر إلى الحي القيوم وهي تلاحقه (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) شقت قميصه وهي تلاحقه وتدعوه إلى نفسها ، وهو يلتجئ إلى الله ويصيح بأعلى صوته ، وصوته يدوي في القصر {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ }قال بعض المفسرين : يعني بذلك زوجها الذي أحسن مثواه ، وهو يسمي (ربا) عندهم أي : سيدا ، كقولنا : ( رب الناقة ) أي : سيدها.
وقال السدي وغيره : إنه الهي الحي القيوم ،اجتباني ورباني وعلمني وحفظني وحماني وكفاني وآواني فكيف أخونه في أرضه ؟
يا من أراد أن يتجاوز المحرمات ويتعدى الحرمات تذكر معروف الله .
__________
(1) صحيح . أخرجه احمد (115) ، والترمذي (2165) ، وصححه ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وانظر (( المشكاة )) (3118).
(2) صحيح . أخرجه احمد (22465) ،وأبو داود (2149) ، والترمذي (2777) ، وصححه ، عن بريدة بن الحصيب ، رضي الله عنه .(31/65)
{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}إن هذه القصة مذهلة ومدهشة ، فكلها مفاجآت وبغتات.
فبينما هي تلاحقه ، وإذ بسيدها أو بزوجها عند الباب .
ولكن انظر إلى كيد النساء ومكرهن ، فهي قد سبقت يوسف بالكلام ، واتهمته بأنه يريدها عن نفسها! ثم أصدرت الحكم عليه وقالت : {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أراد بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال ابن عباس : يضرب بالسياط.
فقال يوسف بلسان الصادق الناصح الأمين التقي الورع الزاهد العابد : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وصدق لعمر الله ، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أهلها} قيل : من أبناء عمها ، وقيل : رجل من الخدم .
والصحيح الذي عليه الجمهور : انه طفل صغير ، كان بالغرفة لا يتكلم أنطقه الله الذي أنطق كل شيء .
ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( أربعة تكلموا في المهد : ماشطة امرأة فرعون ، والغلام الذي مع جريج ، وعيسى عليه السلام ، والغلام الذي شهد ليوسف عليه السلام ))(1) وسنده جيد.
وقال لهم : انظروا إن كان القميص قد شق من خلفه فهي الكاذبة ، وهو الصادق ؛ لأنها هي التي مزقته ، فهي التي تجري خلفه .
وإن كان قد شق من الإمام فهو الكاذب – وحاشاه – وهي الصادقة ، لأنه سيكون هو الذي هاجمها .
فوجدوا انه هو الصادق ، عليه السلام ، فنصحه زوجها بأن لا يخبر أحدا ، ولا يشيع الخبر في الناس ، فقال : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} .
وأما المرأة فنصحها برفق ولين ، على الرغم من جريمتها!!
فقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) فقط استغفري وتوبي !
__________
(1) سنده جيد . أخرجه احمد (2817) ، والبيهقي (2/389) ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، بنحوه . وقال ابن كثير في (( التفسير )) (3/16) : إسناده لا باس به .(31/66)
فأنقذه ، سبحانه وتعالى ، من البئر عندما كاد له أخوته ، وأنقذه ، سبحانه وتعالى ، من الفتنة عندما كادت له امرأة العزيز .
ولكن بقيت محنته القادمة التي سيتعرض لها في السجن ، ولعلها تأتي في موضع آخر .
* فوائد من قصة يوسف :
ولكن نستفيد من هذين المقطعين من قصة يوسف ، عليه السلام ، امورا عظيمة ، تهم حياتنا في البيت أو في المجتمع .
أولا: أن هذا القران معجز وبليغ ، وقد تحدى به الله العرب الفصحاء فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله .
قال سبحانه : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء : 88].
ثانيا : أن الرؤيا منها ما يكون حقا ، ومنها ما يكون باطلا ، فإذا كانت من الرجل الصالح ، ولم تكن بأمر مستحيل ، فهي صادقة ، بإذن الله .
ثالثا : أن على المسلم إذا رأى رؤيا أن لا يخبر بها إلا من يحب ، ولا يخبر بها كل الناس.
أما الرؤيا السيئة ، فلا يخبر بها أحدا ؛ لأنها لن تضره ، بإذن الله .
رابعا : أن الناس قد فطر كثير من منهم على الحسد.
قال الحسن : ما خلا جسد من حسد ، ولكن الكريم يخفيه ، واللئيم يبديه .
وهو من أعظم الذنوب ؛ لأنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب.
وهو يذهب بالتقوى ، ويغضب الرب سبحانه ، قال سبحانه : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء : 54] وهو أول أمر عصي به الله ، وذلك عندما حسد إبليس آدم.
والواجب على الحاسد : أن يتقي الله ، وان يعلم أن الأمور بيد الله ، والفضل له يعطيه من شاء ، فانك إذا حسدت أحدا فقد اعترضت على قضاء الله وحكمته .
يقول الشاعر:
ألا قل لمن ظل لي حاسدا *** أتدري على من أسأت الأدب
أسات على الله سبحانه *** لأنك لم تر لي ما وهب(31/67)
وواجب الحاسد : أن يستغفر ويتوب ، ويدعو لأخيه بخير ، وأن لا ينافسه إلا على أمور الآخرة المقربة عند الله ، أما الدنيا فإنها تأتي وتذهب.
خامسا : عدم تفضيل بعض الأبناء على بعض ، كما سبق ؛ لأن هذا يورث الحسد والبغضاء بينهم ، وعدم إعطاء أحدهم شيئا دون الآخر .
ولذلك لما أتى النعمان بن بشير يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على عطيته لأحد أبنائه ، قال له صلى الله عليه وسلم : (( أأعطيت كل أبنائك مثله ؟)).
قال : لا
قال : (( لا تشهدني على جور ))(1).
سادسا : أن الحافظ ، هو : الله سبحانه دون غيره ، فالجأ إليه في الضوائق والشدائد ليحفظك سبحانه ، ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
سابعا: وجوب الصبر عند الفتنة ، خاصة فتنة النساء ، والالتجاء إلى الله ليصرفها عنك ، وخير ما يصرفها كما قال سبحانه هو التقوى والإخلاص.
هذه أبرز الفوائد من هذين المقطعين من هذه السورة العظيمة.
*****************************************
جولة مع بني إسرائيل
قال تعالى : { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأنتمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)} [البقرة].
وقال سبحانه في سورة الأعراف : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (لأعراف: من الآية 142).
كيف واعده سبحانه ؟
يقول الرازي وغيره : إما انه واعده قبل أن يلتقي ، سبحانه وتعالى ،بموسى في اللقاء التاريخي ليتلقى كلام الله .
وهذا أمر عجيب !
فقبل أن يكلمه الله واعده أن يأتي بعد أربعين.
وقيل بل مدة المكالمة أربعين ليلة ، أي : أن الوقت والزمن الذي تستغرقه المكالمة مع الله هو أربعون ليلة.
__________
(1) أخرجه البخاري (2650) ، ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير ، رضي الله عنه .(31/68)
فلما نجى الله موسى ، عليه السلام ، قال لبني إسرائيل مكانكم اجلسوا ، وكانوا ستمائة ألف ، لكنهم خبثاء حقراء ، أهل تمرد على الله ، إلا من رحمه الله .
قالوا : أين تذهب
قال : اذهب آل الله ليكلمني.
قالوا : لا بد أن تأتي معك بشيء لنعلم هل كلمك أم لا .
فذهب ، عليه السلام .
وفي بعض السير انه مكث ثلاثين يوما صائما .
فلما كان في الطريق وجد ثار الصيام ( الخلوف ) في فمه .
فأخذ سواكا فتسوك.
فلما كله الله ، قال يا موسى ، وتستاك ؟
قال لأكلمك يا ربي ، وأنا طاهر الفم .
لأن في الحديث الصحيح : (( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ))(1).
قال : يا موسى ، إما تعلم أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك.
عد فصم عشرة أيام ثم تعال
فلما أتم الأيام عاد فكلمه ، وأوصى إليه ما أوصى .
فقال : { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إليك} (لأعراف: من الآية 143) .
قال الله : { لنْ تَرَانِي } (لأعراف: من الآية 143) .
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً } (لأعراف: من الآية 143)
فاستفاق وقال : { سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (لأعراف: من الآية 143).
حينها عاد موسى ، وقد أعطاه الله الألواح ، وكب الله له التوراة بيده كما في ((الصحيح )).
أما بنو إسرائيل في تلك الفترة ، فقد جمعهم رجل مجرم ،اسمه : ( السامري ).
وكان رجلا داهية منافقا ، يزعم أن جبريل رباه بالوحي الذي ينزل به من عند الله .
وكان اسمه الحقيقي ( موسى ) أيضا .
فلذلك يقول الشاعر :
فموسى الذي رباه فرعون مؤمن *** وموسى الذي رباه جبريل كافر
أتى هذا السامري ، فقال لبني إسرائيل : عندي لكم نبأ عجيب.
قالوا ما هو النبأ العجيب ؟
__________
(1) صحيح ، أخرجه البخاري معلقا في كتاب الصوم ، باب سواك الرطب ، ووصله احمد (23683) ، والنسائي (5) ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، وانظر : الإرواء (66) ، وهو صحيح .(31/69)
قال : موسى ذهب يبحث عن إلهه ، وإلهه هنا .
قالوا : أين ؟
قالوا : هذا العجل .
وكان قد أخذ حلي النساء ، وذهب النساء ، وفضة النساء ، ثم سبكها ، ثم صور لهم عجلا ، فكان ينفخ فيه فإذا هو يصلصل .
قال :{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (طه: من الآية 88) أي : نسي موسى ألهه وتركه هنا .
سبحان الله !
عجل ، لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يرد لهم قولا ولا رشدا ولا حكمة .
ولكن العقول السخيفة .
فأتى موسى ، عليه السلام ، وإذا هم عاكفون على العجل ، فقال : ما هذا ؟
قالوا : هذا إلهنا .
فألقى الألواح من الغضب .
انظر إلى الغضب ماذا يفعل ؟
فكلام الله لا يلقى في الأرض .
وعمد إلى هارون أخيه ، وهو أكبر منه سنا ، فأخذه بلحيته أمام الناس ، وأراد أن يقتله .
فقال : لا تشمت بي الأعداء لقد استضعفوني ؛ لأن موسى كان يرهب بني إسرائيل إذا كان فيهم ، فلا يستطيعون المخالفة ، بخلاف هارون ،عليهما السلام جميعا .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في عمر بأن فيه شبها من موسى.
ولذل فبعض المؤمنين يكون قويا في الحق ، وبعضهم يكون ضعيفا لا يستطيع قول الحق أو إنكار المنكر .
ذكروا في التاريخ أن الخليفة المعتضد كان من ابرز خلفاء بني العبا ، فأتى عالم من العلماء فوجد الخمر يباع في السوق .
فاخذ سكينا وعمد إلى جرار الخمر فقطع مائة قربة ، ثم أتى إلى الطبول فشقها .
فذهبوا إلى الخليفة ليخبروه فقال : افصلوا رأسه عن جسمه .
فدخل على الخليفة ، فقال له الخليفة : ما هبتني ؟
قال : والله ، ما أقدمت عليها إلا من بعد ما تصورتك اقل من الذباب .
قال : أما علمت إني المعتضد؟
قال : علمت .
قال : ماذا تصورت إني افعل بك ؟
قال : تصورت انك تفصل رأسي عن جسمي ، والمصير الجنة .
قال : لماذا شققت مائة قربة ، وتركت قربة واحدة ،وقطعت الطبول وتركت طبلة ؟
قال : لما بدأت أشق القرب والطبول أعجبتني نفسي ، فرفعت السكين خشية من الرياء في إنكار المنكر .(31/70)
فسامحه الخليفة ، وقال :علمت انك صادق .
فقال هارون لأخيه موسى : { ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (لأعراف: من الآية 150) .
فاستغفر له ولأخيه .
فقال موسى لهم : لقد كلمني ربي وهذه الألواح .
وسيأتي إكمال ذلك ، ولكن نعود إلى الآيات .
يقول ، سبحانه وتعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأنتمْ ظَالِمُونَ} (البقرة:51)
الظلم ظلمات يوم القيامة .
والظلم على قسمين .
1- ظلمك لنفسك وهو أن تحرمها طريق السعادة .
فأظلم الناس من ظلم نفسه .
إذا رأيت الإنسان يشرك بالله فقد ظلم نفسه ظلما ما بعده ظلم ، وهكذا إذا كان يعطل الصلاة في المسجد ،ويعق والديه ، ويقطع رحمه ، ويرتكب المعاصي .
2- وظلم الناس هو النوع الثاني .
والظلم ظلمات يوم القيامة .
والله عز وجل لا يفصل في العرصات يوم العرض الأكبر ، حتى يفصل بين الناس في المظالم .
حتى أن الشاة القرناء يقتص منها للشاة الجلجاء الجماء التي لا قرون لها .
قوله : {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:52)
بعدما عبدوا العجل .
وقد ورد في القرآن العفو ، وورد الرضا ، وورد المغفرة . فما الفرق بينهما ؟
الرضا أعظم المنازل ، نسأل الله أن يرضى عنا وعنكم .
الرضا أن يعفو عنك ، ولا يعاتبك ، ولا يقررك بشيء ، بل يعفو عنك أبدا ، ويرضى عنك ، ولا يعاتبك في شيء .
وهذا مثل – ولله المثل الأعلى – إنسان أخطأت معه ، فأتيت عنده فرضي عنك رضاء تاما ، وقال : إنما رضيت عنك لأني احبك .
أما المغفرة فيقول : غفرت لك ،لكن قلبي يعلمه الله ، لكن ما أجازيك وأتعرض لك ، اذهب .
أما العفو فهو المسامحة مع العتب .
يعفو عنك فيقول : أنا عفوت عنك ، لكن لماذا فعلت هذا الفعل ؟ فيأخذ في معاتبتك.(31/71)
قال سبحانه وتعالى : {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ } لماذا لم يقل : ثم رضينا عنكم .
كيف يرضى عن بني إسرائيل أهل الفضائح في التاريخ ؟
لكن قيل : بان هؤلاء الذين عاشوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ، رضي الله عنهم وعفا عنهم ، أما غيرهم فلا ، كما سيأتي .
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
للشكر أقسام : شكر بالقلب ، وشكر باللسان ، وشكر بالجوارح .
فتشكر الله ، سبحانه وتعالى ، بلسانك فتقول : لقد انعم الله علي ، فلله الحمد والشكر والمنة والفضل .
وهذا معروف عند العرب ، فإن العربي أو السلطان من العرب ، أو الملك من العرب إذا أعطى عطية فإنه يشكر عليها عندهم .
وهكذا غيره من الكرماء ومن الناس المشهورين .
كما فعل زهير بن أبي سلمى مع هرم بن سنان ؛ الذي مدحه بقصائد طويلة شكرا له على ما قدم ، وفدى بماله في الحرب التي وقعت .
فقال فيه زهير :
لمن الديار بقنة الحجر *** اقوين من حبي ومن هجري
دع ذا وهات القول في هرم *** خير البداة وسيد الحضر
لو لم يكن شخصا سوى رجل *** كان المنور ليلة البدر
والشكر بالقلب : أن تعتقد أن هذه النعمة من الله .
قال داود : يا رب كيف أشكرك ؟ وقد أنعمت علينا بالنبوة .
قال : يا داود أتعرف أن ذاك مني ؟
قال : نعم يا رب .
قال : فقد شكرتني ، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: من الآية 53)
وهذا شكر القلب
وشكر الجوارح أن تستعملها في مرضات الله عز وجل .
انعم الله عليك بالشباب ، فانك تستخدمه في طاعته سبحانه ، إما إن استخدمته في معصيته فما شكرته .
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: من الآية 6) لكن ما شكروا الله .
ثم قال سبحانه وتعالى : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة:53)
هل هناك فرق بين الكتاب والفرقان ؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم :
قيل : الفرقان هو جزء من التوراة .
وقيل : هو كتاب مستقل .(31/72)
وقيل : هو التوراة ، أي : من باب الترادف.
والصحيح : انه يدخل في التوراة ، وانه من باب الخاص بعد العام ، أي : أن الفرقان جزء من التوراة .
والفرقان على قسمين :
فرقان ظاهر ، وفرقان باطن .
فالفرقان الظاهر ، هو القرآن ، وهو السنة ، وهو العلم النافع .
وفرقاننا ، يا مسلمون ، هو الكتاب والسنة ؛ نفرق به بين الحق والباطل .
وأما الفرقان الباطل ، فهو فرقان في القلب يأتي من التقوى {يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (لأنفال:29)
ويحصل الفرقان كلما اتقيت الله ، وأكثرت من النوافل ، وصدقت مع الله ، وأخلصت نيتك ، رزقك الله فرقانا به بين الخير والشر والصادق والكاذب والهدى والضلال .
قال سبحانه وتعالى {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة:53) هداية القرآن وهداية الفرقان.
لكن ما اهتدوا .
أتدرون ماذا فعل بنو إسرائيل بهذا الميراث ؟
يقول سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (البقرة:78) أي : يتمتمون بالتوراة ، فحرفوها وبدلوها واشتروا بها ثمنا قليلا ، فغضب الله عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة.
إذا لا يوثق بمعلوماتهم أبدا ؛ لأنهم بدلوا وغيروا .
والمقصد من الكتاب والفرقان : الهداية .
والهداية لا تحصل عندنا إلا بالقران وبالسنة .
وهنا أقف وقفة بسيطة ، وهي انه وجد من غلاة الصوفية من يقول : علمنا علم الخرق ، وعلمكم علم الورق ، أي : أن علمهم يأتيهم مباشرة من الله دون حاجة إلى تعلم الحديث والفقه وغيرها.
حتى نقل ابن القيم أن أحد علمائهم يقول : أنتم تأخذون علمكم من عبد الرزاق ، ونحن نأخذ علمنا من الرزاق .(31/73)
أي : عبد الرزاق بن همام أحد المحدثين الكبار ، وقد جاء عبد الرزاق ، ما عرفتم الخلاق .
قال سبحانه :{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنكم ظَلَمْتُمْ أنفسكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أنفسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:54)
يقول موسى لهم : كفارتكم عند الله من الذنوب : أن تقتلوا أنفسكم .
فلله الحمد والشكر أن جعل توبتنا أن نعود إلى الله دون حاجة لقتل أنفسنا .
مهم عصى العبد وتاب ، تاب الله عليه ، بأن ينزع من الذنب ويستغفر ويصلي ركعتين {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أنفسهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)
لكن بنو إسرائيل توبتهم تكون بقتل النفس .
فقالوا : كيف نقتل أنفسنا ؟
قال : خذوا سكاكين .
فأنزل الله عليهم غمامة ، كما قال ابن كثير : حتى لم يعد يعرف الواحد منهم ولده من أخيه من خاله .
فأخذوا يتقاتلون بالسكاكين ، ثم كشف الله عنهم الغمام ، فإذا القتلى سبعون ألف قتيل !
هذه توبتهم .
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فتاب عليهم ربهم .
وأن بنو إسرائيل إذا أذنب العبد منهم ذنبا كتبت خطيئته على جبينه ، فيأتي في الصباح أمام الناس ليجلس معهم في المنتدى ، أو في المجلس ، أو في السوق ،وإذا مكتوب عليه : ( سرق البارحة ) (سرق عشرة ريالات) ( شرب الخمر ) (زنى)... الخ .
لكن نحن سترنا الله ، وحفظنا من الفضيحة ،وآوانا الله .
فلله الحمد والشكر .
يذنب العبد فلا يعلم بذنبه إلا الله .
تصور في نفسك أن عليك رقيبا من الناس ، أو أن والدك دائما يراقب حركاتك وسكناتك ، فهل تعصي ؟
هذا هو بشر ، فما ظنك بالمحيط بل شيء سبحانه ؟(31/74)
ولذلك صح في الحديث أن الله يقرر العبد بذنبوه فعلها في الظلام ، وليس عنده إلا الله الذي يشاهده يوم ارتكب ذنبه ، فيغفرها الله له .
أما المجاهر بالمعاصي فإنه يهلك عند الله ؛ لأنه تبجح بمعصية الرحمن ولم يستح ، قال صلى الله عليه وسلم : (( كل أمتي معافى إلا المجاهرين )) (1)، فالواجب على العبد أن يستر ذنبوه وعيوبه عن الناس ، ويتوب فيما بينه وبين مولاه ، قبل أن يفضحه فيفتضح أمامهم.
وواجب على المسلم أيضا أن لا يحاول نشر وإشاعة المعاصي والنكرات ، بالتحدث عنها بان يقول : حدثت جريمة قتل البارحة ، أو زنا أو لواط ، أو غير ذلك من الجرائم.
بل يبلغ الجهات المختصة دون نشرها على الناس .
لأن مثل هذا الفعل يجعل النفس تستمرئ سماع هذه الأخبار فتستهين بالمعصية .
ولأنها تحبط بعض النفوس عن الخير والعمل الصالح .
ولذلك في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : (( إذا قال الرجل : هلك الناس ، فهو أهلكهم ))(2) روي بالنصب (( أهلكهم )) ، ورويت بالرفع (( أهلكهم )).
أما على النصب فمعناه من الفعل الماضي ، أي : هو الذي تسبب في إهلاكهم بكثرة نشره للسيئات .
وأما على الرفع فهو أهلكهم ، يعني : أشدهم هلاكا ، لأنه أعجب بنفسه .
فكأنه بذلك يزكي نفسه .
فيا من أذنب في الليالي والأيام .
ويا من ترك الصلاة والصيام.
ويا من هجر البيت الحرام .
ويا من رآه الظلام عاصيا للواحد العلام .
عد إلى الله .
إن الملوك إذا شابت عبيدهم *** في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا رما *** قد شبت في الرق فأعتقني من النار
قال سبحانه وتعالى : {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأخذتكُمُ الصَّاعِقَةُ وأنتمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة : 55) .
دائما بنو إسرائيل مثل الأطفال .
__________
(1) أخرجه البخاري (6069) ، ومسلم (2990) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .
(2) أخرجه مسلم (2623) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .(31/75)
طفلك الآن إذا أجلسته في حجرك ارتقى إلى كتفك .
فإن أجلسته على كتفيك صعد على رأسك .
لقد آذوا موسى ، عليه السلام ، كثيرا .
ضرب لهم الحجر ، فتفجرت اثنتا عشرة عينا .
فقالوا : أعطنا الطعام .
فدعا الله لهم ، فأنزل المن والسلوى فأكلوا .
فقالوا : لا نريد المن والسلوى ، أعطنا فولا وبصلا وكراثا .
فقال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } (البقرة: من الآية 61) .
فهبطوا مصر .
فلما أرادوا أن يدخلوا الباب ، طلب منهم أن يقولوا : حطة .. أي : اغفر يا رب ذنوبنا وحطها عنا.
فدخلوا يزحفون ويقولون : حبة في شعيرة ، استهزاء واستهتارا .
فلما دخلوا قال لهم : هناك عدو نريد أن نقاتله .
قالوا : { فَاذْهَبْ أنت وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: من الآية 24) .
وهكذا شأنهم في كل أحوالهم معه لمن تأمل سورة البقرة .
قال سبحانه وتعالى : {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة: من الآية 55) أتى موسى : بالصحف – كما سبق – وقال : كلمني الله وهذه هي الصحف .
قالوا : لا ، حتى نرى الله .
سبحان الله !
فهذه الأمة تتوارث الخبث صاغرا عن صاغر .
قال بعضهم : معنى جهرة ، أي : عيانا .
وقيل : علانية .
فقال الله عن نفسه { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (الأنعام: من الآية 103).
والناس في إثبات الرؤية ثلاثة أقسام :
1- المعتزلة قالوا : لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وقد كذبوا .
أما في الدنيا فلا يرى ، وأما في الآخرة فيرى، كما قال سبحانه : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (القيامة:22- 23)
فنسأل الله أن يرينا وجهه .(31/76)
واستدل الشافعي بقوله تعالى : {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (المطففين:15) فلما حجب أهل المعصية عن النظر إلى وجهه علم أن أهل الطاعة ينظرون إليه ، سبحانه وتعالى .
2- والصوفية أو بعض غلاة الصوفية قالوا : يرى في الدنيا والآخرة .
وقد كذبوا ، أما في الدنيا فلا يرى ، وأما في الآخر فيرى كما سبق .
3- وأما أهل السنة ، فقالوا وقد صدقوا : انه سبحانه لا يرى في الدنيا لقوله تعالى : {لَنْ تَرَانِي} (لأعراف: من الآية 143) ، ولكن يرى في الآخرة ، ولا يراه إلا الصالحون المؤمنون .
نسأل الله من فضله
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأخذتكُمُ الصَّاعِقَةُ وأنتمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة:55)
قيل : الصاعقة صوت نزل عليهم من السماء
ومعنى :{وأنتمْ تَنْظُرُونَ} قال أهل العلم : ينر بعضكم إلى بعض .
وقيل : قتل بعضهم بالصاعقة ، فلما ماتوا أحياهم الله ، ثم قتل الآخرين ثم أحياهم .
{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:56)
بعثهم الله فأحياهم بعدها أخذتهم الصاعقة ليشكروا .
فما شكروا .
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} (البقرة:57) وهذه من النعم الجليلة أن يكون الجو جميلا معتدلا .
الهواء بارد ، والظل وارف ، والماء سلسال ، والجمال في الطبيعة ، والشجر تتظلل به ، وزقزقة العصافير في كل مكان .
فكن الغمام يسير معهم إذا ارتحلوا وإذا حلوا .
{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}.
المن : شبه الحلوى .
والسلوى : طير يشوى لهم .
فكان يأتيهم رغدا من كل مكان ، يجدونه على الشجر ، ينزل دون عناء أو تعب منهم .
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ولم يقل : كلوا مما رزقناكم . ليبين انه حلال ؛ لأن الرزق قد يكون حراما ، وقد يكون حلالا .
ولكن الطيب هو الحلال .(31/77)
{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أنفسهُمْ يَظْلِمُونَ}
الله ، عز وجل ، لا تنفعه طاعة الطائع ، ولا تضره معصية العاصي .
قال سبحانه في الحديث القدسي : (( يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على افجر قلب رجل واحد ما نقص ذلكم مما عندي شيئا ))(1).
وإما الإنسان هو الذي يظلم نفسه بمعاصيه وذنوبه .
نسأل الله أن لا يجعلنا من الظالمين .
هذه جولة عجلى على بعض أحداث هؤلاء القوم الأذلاء ؛ لنعرف ماضيهم وتاريخهم من قرآننا ؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فنعلم أنهم أمة ظالمة قد غضب الله عليها ؛ لأنها كثيرا ما عصت رسله وأنبياءه .
ونعرف شيئا من طباعهم ، وعلى رأسها المكر والخديعة وعدم الوفاء بالعهود.
فلا نثق بهم اليوم ، ونحاول أن نقيم معهم العهود ؛ التي هي سرعان ما تنتقض كما علمنا ذلك القرآن .
بقرة بني إسرائيل
سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن ، ويصفها بعض العلماء بأنها سورة النسف والإبادة لبني إسرائيل ، واحتوت على كثير من أحوالهم مع أنبيائهم .
ومن تلك الأحوال ما سميت السورة باسمها ، ألا وهي قصة ( البقرة ) ، فإن بني إسرائيل تعنتوا فيها وعقدوا الأمور ، وتشددوا فشدد الله عليهم .
وملخص القصة : أن أحد بني إسرائيل كان غنيا جدا ، وكان له أبناء أخ يحقدون عليه لغناه ، فتآمروا على قتله وسلبه ماله ، فقتلوه في ظلام الليل دون أن يشعر بهم إلا رب السماوات .
ثم أرادوا أن يخفوا جريمتهم ، فتباكوا في الصباح على عمهم .
وذهبوا إلى موسى نبي الله ، وأخبروه ، وتحاكموا إليه ليبحث لهم عن قاتل عمهم !
فقام موسى فابتهل إلى الله بان يخبره بقاتل الرجل ، فأوحى الله إليه بان يأمرهم بقتل بقرة ، وأخذ شيء من أعضائها، وضرب الميت بها ليقوم ويخبرهم بقاتله .
__________
(1) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر ، رضي الله عنه .(31/78)
فقال لهم موسى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة:67) ولو ذبحوا أي بقرة لانتهى الأمر ونفذوا الطلب .
لكنهم تعنتوا وتشددوا مع نبيهم ، وقالوا : {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً}
أي : أنهم استغربوا هذا الحكم ، وهذه الطريقة لإظهار القاتل ، وهذا من الاعتراض على الله .
فقال لهم موسى : {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
فعلموا انه صادق .
ثم قالوا :{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} (البقرة:68) .
فقال {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}.
أي : ليست بالكبيرة المسنة ، ولست بالصغيرة البر ، بل بينهما .
فتعنتوا أكثر وأكثر ، وقالوا : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} (البقرة:69) .
فقال : { إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
وهذا من أجمل الألوان .
فذهبوا ثم عادوا وقالوا متعنتين : {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (البقرة:70) .
قال : {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} (البقرة:71) أي: ليست مهيئة للزرع ولا للحرث ، فهي معززة، أي : لا تحرث ولا تزرع .
ثم قال : {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي : ليس فيها علامات تخالف الأصفر الفاقع.
{قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي : كأنهم يقولون أنت في الأول لم تأت بالحق ، سبحان الله ، فمن يأت بالحق إذا لم يأت به نبي الله ؟
ثم ذهبوا فوجدا البقرة عند عجوز في إحدى النواحي ، ليس لها إلا هي ، فتغالت في ثمنها ، حتى ملؤا لها جلد البقرة ذهبا .
فلما ذبحوها ضربوا ببعضها القتيل ، فقام من ميتته بإذن إله ، واخبر بقاتله ، ثم مات من جديد .(31/79)
هذه هي القصة باختصار .
وفعل بني إسرائيل مع نبيهم في هذه القصة ، هو من التعنت والتشدد والأذى لرسول الله .
وهم لم يفعلوا كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ الذين قالوا قبل بدر : والله ، لو سرب بنا إلى برك الغماد ( موضع ) لسرنا مع .
وكان الواحد يسمع كلامه صلى الله عليه وسلم فيصدقه ، وينفذه دون أن يراجعه صلى الله عليه وسلم ، أو يكثر عليه .
ومعلومة لديكم : قصة عمير بن الحمام لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يبشر بالجنة ، وأنهم ما بينهم وبينها إلا أن يقتلهم المشركون ، فرمى التمرات التي بيده وقاتل حتى قتل تصديقا له صلى الله عليه وسلم(1) ، ولم يتعنت كما تعنت أحفاد القردة والخنازير .
وفوائد هذه القصة ( بقرة بني إسرائيل ) عديدة منها :
أولا : أن العقل لا يحق له أن يعترض على الوحي الآتي من السماء ، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك تبدأ اللعنة ويحل الغضب .
ثانياً : أن على المسلم أن يتقلى الأوامر والرسالة باستسلام ، وان يسلم وجهه طوعا لله ، ويرخي قيادة لمولاه .
ثالثا : فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل ،كما سبق .
رابعا : انه لا تعايش بين المسلمين ، وبين هؤلاء الأنجاس ، مهما كان الأمر ؛ لأننا نختلف عنهم في جميع أمورنا .
لا كما يزعم البعض من إمكانية التعايش السلمي معهم ؛ لأن الحية لا تلد إلا حية .
فما دام أولئك أجدادهم ، فإن الأبناء سيكونون مثلهم ، أو شرا منهم في التعنت والخبث .
خامسا : من فوائد القصة ، كما ذكر الإمام احمد ، أن البقرة تذبح ولا تنحر .
وقد استشهد الإمام بهذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة: من الآية 67) ولم يقل : تنحروا .
وهذا من اللطائف .
__________
(1) أخرجه مسلم (1901) عن انس ، رضي الله عنه ، وانظر (( الإصابة )) (7/162).(31/80)
سادسا : استدل بها الإمام مالك على جواز بيع ( السلم ) أي : البيع بالصفات دون حضور السلعة ؛ لأن الله ذكر لهم الصفات فقط ، فاستجابوا بالصفات فأقرهم الله .
سابعا : أن على المسلم أن لا يتعنت في أموره الدينية والدنيوية ،ولا يتشدد ؛ لأن التشدد مصيره الهلاك أو التعب في الحياة .
ثامنا : أن الله إذا أمر بأمر فهو على ظاهره ، ولا نبحث ونستفسر عن أشياء لم يردها الله ، فنصرفه عن ظاهره بسببها .
تاسعا : أن من نفذ الأمر في أول وقته فهو المأجور ، مثل الصلاة في أول وقتها .
قال ابن مسعود : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟
قال : (( الصلاة على وقتها ))(1).
وهكذا الحج في أول العمر أفضل ممن يؤخره إلى ما بعد المشيب .
إخوان
القردة والخنازير
قال الله ،سبحانه وتعالى : {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ( البقرة:97 )
قال انس ، رضي الله عنه : أتى عبد الله بن سلام اليهودي الذي اسلم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة فقال : يا رسول الله إني أسألك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي
قال : (( ما هي ؟)).
قال : ما هو أول اشراط الساعة ،وما هو أول طعام أهل الجنة ،ولماذا يشبه الولد أمه أو أباه .
فقال صلى الله عليه وسلم ، وهو يجيب على الأسئلة الثلاثة العويصة المشكلة ، التي لا تعلم إلا بوحي من فوق سبع سماوات .. قال : (( أخبرني بهن جبريل آنفا )).
قال ابن سلام : جبريل عدو اليهود من الملائكة .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( أما أول اشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب )).
(( وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت )).
(( وأما أن الابن يشبه أمه أو أباه ، فإذا سبق ماء الرجل أشبه أباه ، وإذا سبق ماء المرأة أشبه أمه )).
__________
(1) أخرجه البخاري (527، 5970) ، ومسلم (85).(31/81)
قال عبد الله : صدقت بابي و أمي، والله ما علمها إلا نبي ، اشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أن محمدا رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت يبهتون ( أي : أهل زور وافتراء ) فاسألهم عني .
فجعله صلى الله عليه وسلم في مشربة ( وهي الغرفة الصغيرة ) ، وجمع أحبار اليهود وقال : (( كيف ابن سلام فيكم ؟)).
فقالوا : سيدنا وابن سيدنا ،فقيهنا وابن فقيهنا ، خيرنا وابن خيرنا .
قال : أفرأيتم إن اسلم .
قالوا : أعاذه الله من ذلك .
فرد عليهم ابن سلام ، وقال : اشهد أن لا إله إلا الله ، وان محمدا عبده ورسوله .
فانخنسوا ، وقالوا : شرنا وابن شرنا ، وسيئنا وابن سيئنا ، وخبيثنا وابن خبيثنا (1) .
ساق الإمام البخاري هذا الحديث على هذه الآية ؛ لأنه يريد أن يفسر كل آية تفسيرا صحيحا بسنده ؛ لأنه اشترط الصحة حتى في التفسير .
والشاهد في الحديث أن اليهود يعادون جبريل .
فلما قال صلى الله عليه وسلم : إن جبريل اخبرني بها آنفا ، قال ابن سلام : ذلك عدو اليهود من الملائكة.
ولماذا عادى اليهود ، عليهم اللعنة ، جبريل ، عليه السلام .
لثلاثة أسباب قالها أهل العلم .
الأول: انه نقل الرسالة منهم إلى غيرهم ، فظنوا أن عندهم صكا شرعيا على الرسالة لا تنزل إلا فيهم ، فغضبوا لذلك وعادوه .
الثاني : لأنه ينزل بالخسف والتدمير ، فالله ، عز وجل ، إذا أراد أن يدمر أمة أرسل إليهم جبريل ، وله ستمائة جناح ، ومن ذلك انه دمر قرى قوم لوط ، عليه السلام ، وكانت أربع قرى ، وفيها أربعمائة ألف ، وقيل : ثمانمائة ،فرفعها في الجو إلى السماء حتى سمع الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكهم ، ثم أنزلها على وجهها في الأرض .
فهم يقولون : انه ليس مثل ميكائيل ، يأتي بالنبات والمطر والغيث في تؤدة وسكينة.
الثالث : انه فضح مفترياتهم واخبر بأباطيلهم ، واخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأسرارهم من تحريف للكتاب وقتل للأنبياء .
__________
(1) أخرجه البخاري (4480)(31/82)
والآن لنقرأ القرآن والحديث النبوي ، وهما يتحدثان عن بني إسرائيل ، و أول سورة في القرآن ذكر فيها هؤلاء الخبثاء هي سورة البقرة التي من قرأها ظن أنها عن بني إسرائيل .
ولا بد من معرفة صفات هؤلاء الأعداء الماكرين ؛ لأنه من أعظم الأشياء التي تبصر الملم والمؤمن بألاعيبهم الحديثة التي لا تتبدل عن القديمة ، وتكشف له عن المزيد من خططهم وكيدهم .
وهي تزيد المؤمن يقينا بالله ، سبحانه وتعالى ، وبهذا الدين .
قال تعالى {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:55)
ولذلك من عرف الجاهلية ، أو مسالك المفسدين كان اشد تمسكا بهذا الدين القويم بخلاف من لم يعرف إلا الإسلام .
قال عمر ، رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشا في الإسلام أناس ما عرفوا الجاهلية .
ولذلك كان الصحابة من اشد الناس إيمانا ؛ لأنهم عرفوا مسالك الجاهلية ومفاسدها .
وقبل أن نتعرف على صفات أحفاد القردة والخنازير ، لا بد أن نلم بسبب هذا الحديث السابق .
لقد هاجر صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، فأمست مكة في ثوب حزن وفي حداد من مفارقة الحبيب ، وبكى عليه الغار الذي صاحبه أيام الشباب .
فانطلق صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكانت في جاهلية جهلاء ، فلما قدم علها :
استفاقت على أذان جديد *** ملؤ آذانها أذان بلال
فكان عبد الله بن سلام الحبر اليهودي من الذين أبصروه صلى الله عليه وسلم عند مجيئه ، وعبد الله بن سلام هذا هو الذي نزل في فيه قوله تعالى : {قُلْ أَرأيتمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } (الاحقاف: من الآية 10) .(31/83)
فذهب عبد الله لما رأى الناس يجتمعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فنظرت في وجهه فإذا هو ليس بوجه كذاب ؛ لأن وجه الكذاب يعرف بالنظر إليه ، وأما الصادق فنظراته صادقة ولمحاته صادقة .
لو لم تكن فيه آيات مبينة *** لكان منظره ينبيك بالخبر
قال ابن سلام ، فسمعته يتكلم صلى الله عليه وسلم ، واسمع إلى الكلمات التي كأنها الدر أو الجواهر ، بل أغلى من الجواهر .
بالله لفظك هذا سال من عسل *** أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها *** أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاشته *** ولو رآها غريب داره لسلا
قال صلى الله عليه وسلم : (( أيها الناس أطعموا ، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام ،وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام ))(1) ، فلما سمع عبد الله هذا الكلام آمن .
قال صلى الله عليه وسلم : (( لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي اليهود))(2) ، لكنهم لم يكملوا عشرة لأن الله كتب عليهم اللعنة .
* مكائد اليهود ومفاسدهم :
1- فمنها دخولهم مع الباب يزحفون بعد أن قال لهم الله عز وجل : {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ } (البقرة: من الآية 58) قال بعض المفسرين : هي بيت المقدس ، وقيل : بل أريحا .
فلما فتح الله على موسى ، عليه السلام ، تلك البلاد ، قال لهم : إن نعمة الله عليم يوم نصركم ، ويوم أنقذكم من فرعون الطاغي أن تدخلوا متواضعين سجدا من باب المدينة ، كما دخل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، قيل في بعض الروايات : بان دموعه سالت تواضعا لله فرفعه الله ؛ لأن من يتواضع لله يرفع.
فقال لهم موسى ، عليه السلام : ادخلوا لله متواضعين لما نصركم وأنقذكم ، فأبوا ..
__________
(1) صحيح . أخرجه الترمذي (3485) وقال : هذا حديث صحيح ، وابن ماجه (1334،3251) ،والدارمي (1460) عن عبد الله بن سلام ، رضي الله عنه .
(2) أخرجه البخاري (3941) ، ومسلم (2793).(31/84)
وقال الله ، عز وجل ، لهم : {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي : يا ربي احطط عنا ذنوبنا، كقولك: (غفرانك)
فقال لهم موسى : قولوا: حطة ،وهي كلمة خفيفة.
فدخلوا يزحفون ويقولون : حنطة في شعيرة ! {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } (البقرة: من الآية 59) .
لما بدلوا هذا الكلام غضب الله عليهم ، سبحانه وتعالى ، من فوق سبع سماوات ، وأخزاهم وأذلهم .
2- ومن جرائمهم وكيدهم : أنهم قتلوا في غداة واحدة عشرات من الأنبياء ؛ لأنه كان يبعث لهم جملة من الأنبياء في زمن واحد .
وأتوا بيحيى ، عليه السلام ، فذبحوه وقطعوا رأسه ،عليه السلام ،وألقوه في حضن أبيه زكريا ، فانتفض زكريا ، عليه السلام ، فطاردوه بالسيف ، وفي (( التفسير )): انه هرب منهم ، واختفى في شجرة في وسطها معجزة من الله .
فلما علموا انه في الشجرة شقوها نصفين ، وشقوا معها زكريا ،عليه السلام.
فكانوا يقتلون الأنبياء ، لذلك قال الله ، س ، لهم : {قَتْلَهُمُ الْأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } (آل عمران: من الآية 181)، ولكن هل هناك قتل للأنبياء بحق ما دام قد قال سبحانه وتعالى : {قَتْلَهُمُ الْأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ} !
لا ، ولكن هذا من ظلمهم وعتوهم فهو سبحانه يقول لهم : ليس عندكم جزء ، ولو صغير من الحق لتقتلوهم .
3- ومنها : قتلهم النفس في قصة البقرة، فقد كان هناك أخوة لهم عم غني ، فأتوا إلى عمهم فذبحوه ، وأخذوا تركته ، وخافوا أن يكتشف نبي عصرهم الجريمة، فتباكوا على عمهم بأنه قتل ولا يدرى من قتله ، فأوحى الله للنبي أن يأمرهم بذبح بقرة،ويأخذوا شيئا من أطرافها ويضربوا به على الميت فإنه سوف يتكلم ويخبرهم بمن قتله .(31/85)
4- ومنها: قصة القرية حاضرة البحر ، وهي قصة محزنة،عندما قال الله لبني إسرائيل : {لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} (النساء: من الآية 154) يعني : لا تصيدوا السمك يوم السبت ، اصطادوا في كل الأيام ، لكن يوم السبت لا تصطادوا الحوت والسمك ، فقالوا : سمعنا وعصينا ، وهم دائما يقولون سمعنا وعصينا .
فقالوا : يا أيها الناس ، نخاف أن الله يخسف بنا ، إن عصيناه ، فلا تصطادوا السمك يوم السبت .
فابتلاهم الله بان كان يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لا يأتيهم فيه أي سمكة ،أما في السبت فتكثر الأسماك وتأتي شرعا ، ففكروا طويلا في الأمر ،حتى هداهم مكرهم إلى حيلة على الله ، سبحانه وتعالى ، بزعمهم الفاسد.
فقالوا : الله ، عز وجل ، نهانا عن الصيد مباشرة يوم السبت ، لكن لو حفرنا أخاديد حتى تقع فيها الأسماك فلا تذهب ، فنأتي يوم الأحد ونصيدها لكان أولى لنا .
فحفروا الأخاديد ومجاري المياه ، فأخذت الأسماك تدخل ، وهم يسدون عليها طريق البحر .
ويأتون يوم الأحد فيأخذونها.
فقال لهم الصالحون منهم : يا أيها الناس ، قد ألحدتم في دين الله ، وعصيتم الله ، وتجاوزتم حد الله ، فلم يسمعوا منهم ، واستمروا في غيهم .
فكان هؤلاء الصالحون هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهم حفاظ المجتمع وعباد الله ، وأما أولئك فهم أهل الفساد في المجتمع .
ولكن قد ظهر فريق ثالث معهم ، هم : أهل السلبية ؛ الذين لم ينكروا ولم يفعلوا ، وإنما نصحوا أهل الإنكار بان يتركوا إنكارهم ،فقالوا { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} (لأعراف: من الآية 164) أتركوهم .. دعوهم ،الله يحاسبهم ، فلستم المسؤولين عنهم .
فرد عليهم أهل الأمر والنهي قائلين : إنما نفعل هذا {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (لأعراف: من الآية 164) .
وهذا واجب الداعية أن يأمر وينهى لأمرين :(31/86)
الأمر الأول : أن يعذر عند الله بان بلغ النصيحة والرسالة .
والأمر الثاني : لعل العصاة أن يتقوا الله ، عز وجل ، ويعودوا عن معاصيهم .
وفي الصباح الباكر سمع الصالحون صياحا مثل صياح القردة والخنازير ، فأشرفوا على السور ، فإذا بالمفسدين قد انقلبوا إلى قردة وخنازير ! سبحانك ربي .
وفي بعض الروايات من (( التفسير )): أنهم كانوا يعرفون بعضهم من مناظرهم .
والسؤال عند أهل العلم : هل القردة التي نراها الآن هي من نسل إخوان القردة التي نراها الآن فهي من نسل آخر وخلق آخر .
وقد ورد في الحديث (( إن الله إذا مسخ شيئا لم يجعل له نسلا ولا عقبا ))(1).
وقد ورد في الحديث : (( إن الله إذا مسخ شيئا لم يجعل له نسلا ولا عقبا )).
5- ومن كيدهم وإفسادهم انهم قالوا لموسى : {فَاذْهَبْ أنت وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: من الآية 24) فنحن لا نريد الحرب والقتل ، فدعا عليهم ، عليه السلام ،بان يتيهوا في الأرض .
فتاهوا أربعين سنة ، يأتون إلى طرف سيناء يريدون أن يخرجوا ، فيقولون : أخطأنا الطريق فيعودون ،فإذا وصلوا إلى الناحية الأخرى من جديد.
أتدرون ماذا فعل الله بهم ؟
لقد تكفل الله بهم ، وأنعم عليهم نعمة ما أنعمها على أحد من الناس ، فقد فجر لهم من صخرة مربعة اثنتي عشر عينا ؛ لأنهم كانوا اثني عشر سبطا ( أي : قبيلة).
فقالوا : أين الطعام يا موسى ؟ هذا ماء بارد يا موسى ، لكن أين الطعام ؟
قال : ماذا تريدون ؟
قالوا : نريد أحسن طعام .
قال : المن والسلوى، فأعطاهم الله المن والسلوى.
فقالوا : هذا الماء وهذا الطعام لكن أين الظل ؟ فظلل الله عليهم الغمام، فكان الغمام يسير معهم أفواجا.
فقالوا : ادع لنا ربك يخرج من نبات الأرض ، لقد مللنا المن والسلوى .
__________
(1) أخرجه مسلم (2663) عن أم حبيبة ، رضي الله عنها.(31/87)
فقال موسى : {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: من الآية 61) ، فهم أمة لم تعتد على الخير والمعروف ، وإنما تربت على الفساد والتعنت . فطلب منهم أن يهبطوا مصرا فإن لهم ما سألوه .
6- ومنها : أنهم آذوا موسى واتهموه بما برأه الله منه ، فقالوا : هو مصاب بمرض في موضع عورته ؛ لأنه لا يتكشف أمامنا ، فموسى كان حييا ستيرا ، لا يتكشف إذا أراد الغسل ، فظن هؤلاء الخبثاء انه مريض أو به إذ في موضع من جسمه .
ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن موسى عليه السلام اخذ عليه إزارا ، فلما نزل يغتسل وضعه على حجر ، ففر الحجر بالثوب ، فخرج على أثره ، فأتى الحجر جهة بني إسرائيل ، فأقبل موسى فعلموا انه ليس به داء . فقال موسى : ثوب يا حجر وأخذ يضرب الحجر ))(1) .
7- ومن مفاسدهم ومكايدهم : أنهم كانوا يقيمون الحد على الضعيف ويعطلونه عن الشريف .
قال صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يشفع لمن استحق حدا من حدود الله : (( إنما هلك الذين من قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها ))(2). وحاشاها أن تسرق .
أما هؤلاء فكانوا مثلا إذا زنى فيهم الرجل وكان شريفا أخذوه وحمموه بالفحم وطافوا به ، أما إذا كان الزاني ضعيفا فأنهم يقيمون عليه الحد فيرجمونه حتى يموت .
8- ومن مفاسدهم وكيدهم: عبادتهم العجل .
قال يهودي لأمير المؤمنين علي بنابي طالب مستهزئا : كيف تطلبون من رسولكم أن يجعل لكم شجرة ذات أنواط كالمشركين؟
__________
(1) أخرجه البخاري (278،3404،4799) ، ومسلم (339) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .
(2) أخرجه البخاري (3475) ، ومسلم (1688) عن عائشة ، رضي الله عنها .(31/88)
فقال علي ، رضي الله عنه : وأنتم ما خرجتم من البحر إلا وقلتم لموسى : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } (لأعراف: من الآية 138) !
الشاهد : أنهم عبدوا العجل بتخطيط ومكر من زعيمهم السامري ؛ الذي كان مرافقا لموسى ،عليه السلام .
وفي هذا حكمة نستفيدها بأنه ليس من شروط الصلاح أن ينشأ المرء في بيت صالح ، فهذا السامري نشأ على الوحي مع موسى يسمعه صباحا ومساء ، فكأن جبريل قد رباه ، ولكنه في نهاية الأمر يصبح من المشركين الملحدين الذين يصدون عن سبيل الله .
فلا تدهش إذا رأيت أكبر المفسدين يخرج من بيت أحد المصلحين ، ولا يغيب عن بالك قصة نوح مع ابنه .
وهكذا العك ، فقد ينشأ الصالح في بيت فاسد ، كموسى ، عليه السلام ، الذي تربى عند فرعون في قصره ، فكان أحد رسل الله .
الشاهد : أن السامري خرج مع بني إسرائيل ، وصنع لهم من حلى الذهب الذي أخذوه من الفراعنة عجلا ذهبيا يخور بسبب الريح ، ويخرج أصواتا توهم السذج بأنه يتكلم . فعبدوه من دون الله .
فلما عاد موسى من مخاطبة ربه تعالى ، غضب عليهم لما رآهم يسجدون لهذا العجل الذي لا ينفع ولا يضر .
كيف هذا ؟ وهو قد تعب في تعليمهم وتوضيح الحق لهم وتربيتهم .
فسبحان الله ! هذه هي النهاية مع هؤلاء القوم الفسدة .
وفي هذا حكمة لنا : بان لا نيأس إذا رأينا الناس بعد تعبنا في الدعوة وإلقائنا المحاضرات والدروس تلو الدروس ، ثم وجدناها لم يستفيدوا شيئا مما قلنا ، لا نيأس ؛ لأن علينا البلاغ ، والهداية منه سبحانه وتعالى .
فنصحهم موسى وغضب على أخيه هارون الذي تركهم يعبدون العجل ، ولم يواجه السامري بحزم.
فأخبرهم ، عليه السلام ،بان توبتهم أن يقتلوا انفهم ، بان يظلهم الله بالغمام حتى لا يرى بعضهم بعضا فيتقاتلوا ، ففعلوا ذلك ، وتقاتلوا في الظلام ، حتى قتل بعضهم بعضا جزاء لعبادتهم العجل ،فتاب الله عليهم .(31/89)
9- ومنها : انهم كانوا يذيبون الشحم ويبيعونه وهو محرم عليهم ، قال صلى الله عليه وسلم : (( قاتل الله اليهود ، لما حرم الله عليهم الشحوم أذابوها فجملوها فباعوها ))(1) ، لأن الشحوم محرمة عليهم .
10- ومنها : أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ،وهذا ما نخشى الوقوع فيه . قال صلى الله عليه وسلم : (( إنما اهلك الذين من قبلكم أن الرجل كان يلقي الرجل فيقول : يا عبد الله، اتق الله ولا تفعل كذا، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار))(2).
أي : أنهم داهنوا أهل المعاصي ، وانساقوا معهم ، فلم ينكروا عليهم ، أو أنكروا إنكارا لطيفا جدا لم يصل إلى درجة الموالاة والمعاداة التي أمر الله بها .
قال الله : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة:78){كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة:79) .
فمن رأى المنكر ، ولم ينه ، ولو بقلبه فهو كبني إسرائيل .
وقد ورد أن الله أمر جبريل أن يزلزل قرية عن مكانها فقال : يا رب فيها رجل صالح يعبدك ويكبر ويسبح .
فقال سبحانه وتعالى : فيه فأبدا ، فإنه لم يتمعر وجهه من اجلي(3).
__________
(1) أخرجه البخاري (4633)، ومسلم (1581) عن جابر ، رضي الله عنه .
(2) صحيح . اخرجه أبو داود (4336) ، والترمذي (3047) ، وصححه ، وابن ماجه (4006) عن ابن مسعود ، رضي الله عنه.
(3) انظر : (( تفسير القرطبي ) (6/237).(31/90)
11- ومنها : أنهم لم يستفيدوا من علمهم ، يقول عز من قائل : {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} (الجمعة: من الآية 5) فالحمار تأتي به ، وتركب عليه المجلدات العلمية الثمينة ، ((كفتح الباري )) و (( المغني )) و (( رياض الصالحين )) ، فهو لن يدري بما فيها ، ولن يستفيد أي فائدة منها . فهو كبني إسرائيل حفظوا التوراة ، لكن ما نفذوا أحكامها {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (المائدة: من الآية 13).
وهذا تنبيه لهذه الأمة الإسلامية أن لا تكون كبني إسرائيل ، تعلم ولا تعمل ، بل لا بد من العمل مع العلم ، وإلا فما فائدة العلم ؟
وأنا أعجب من أناس حازوا على الشهادات العالية في الشريعة، ولكنهم لم ينزلوا إلى ساحة الميدان بعد ، ولا زالوا يحبسون علمهم عن كثير من الناس الجهلة ؛ الذين يحتاجون لعلمهم في البوادي والقرى ، وهذا من تثبيط الشيطان لهم ، عافاني الله وإياكم .
12- ومنها : أنهم قالوا{ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه} (المائدة: من الآية 18) .
وهذا كذب وزور ، فالله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب أو صلة، إنما هو الأمر والنهي .
فرد الله عليهم قائلا سبحانه : {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} (المائدة: من الآية 18).
13- ومنها : أنهم قالوا : بان الله فقير ونحن أغنياء ، وكذبوا أخزاهم الله ، بل الله أكرم الكرماء و أغنى الأغنياء .
قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} (آل عمران: من الآية 181) .
14- ومنها : أنهم قالوا : بان يد الله مغلولة ،{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: من الآية 64)(31/91)
فليس هناك أكرم منه ،سبحانه ، ولكنه الخبث والنفوس الوقحة حتى مع مولاها تبارك وتعالى .
15- ومنها : أنهم قالوا : { لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} (البقرة: من الآية 113) وهم أيضا ليسوا على شيء ،بل كلاهما مخرف مبدل ، فهم مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون كما قال تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: من الآية 7).
16- ومنها : أنهم قالوا : {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: من الآية 30) وافتروا عليه ، سبحانه وتعالى ، فهو { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (الإخلاص : 3 ) .
17- ومنها : أنهم قالوا : {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } (البقرة: من الآية 111)، فقال تعالى ردا عليهم : { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } (البقرة: من الآية 111).
أي : أنها أماني خيالية، لا حقيقة لها في الواقع ، إلا لمن آمن برسوله صلى الله عليه وسلم .
18- ومنها : أنهم قالوا : { قُلُوبُنَا غُلْف} (البقرة: من الآية 88) أي : لا نحتاج إلى علمك يا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى :{ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} (النساء: من الآية 155).
19- ومنها : أنهم قالوا : { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أياماً مَعْدُودَة} (البقرة: من الآية 80) فرد تعالى عليهم قائلا سبحانه : {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: من الآية 80).
فهم كاذبون في زعمهم هذا ، بل يدخلون النار ، ويعتق الله كل مسلم بواحد من هؤلاء الأنجاس .
نسأل الله العتق من النار .
وهناك صفات أخرى ومكايد ومخازي يعلمها من تدبر كتاب الله الذي فضحهم ، لاسيما سورة البقرة .
والله اعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
**********************************(31/92)
( طبت حياً وميتاً : للشيخ صالح بن عواد المغامسي )
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه ... كما يحب ربنا ويرضى ... واشهد ان لااله الا الله وحده لاشريك له ... شعار ودثار ولواء أهل التقوى .. واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله نبيُ سلم الحجر عليه ونبع الماء من بين إصبعيه وحن الجذع إليه .. فصلى الله وسلم وبارك وانعم عليه اللهم وعلى اله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان الى يوم الدين .. أما بعد...
أيها الاخوه المومنون ... فإن المتصدر لتدريس شخصيه ما وذكر أحوالها ومناقبها وما آلت إليه وما قدمته للناس يجعل النقد أول معاييره حتى يضع الناس على بينه من أمرهم في الصواب والخطاء والهداية والضلالة والسداد وعدم التوفيق .. لكن الذي يريد ان يتحدث عن سيد الأنبياء وإمام الأتقياء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليس عليه الا ان يطاطاء رأسه ويخشع قلبه وتسكن جوارحه .. اذا انه يتحدث عن رحمه مهداه ونعمه مسداه عن سيد البشر وخيره خلق الله وصفوتهم عن رسول الهدى ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وينبغي ان يعلم في أول الأمر ان السيرة واحده لاتزويد ولا تنقص فلا يستطيع احد ان يزيد شيئاً لم يثبت فيها ولا يستطيع احد ان ينقص شيئاً مما ثبت فيها لكن المسلمين في استسقاهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواراتهم ومناهلهم ومصادرهم فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون وينهل القادة ويغترف السياسة وينال العلماء ويبحث الفقهاء وبجد كل مراء له حظا من سيرته صلى الله عليه وسلم والأمر كما قيل :-
وكلهم من رسول الله ملتمسُ
غرف من البحر أورشف من الديم
صلوات الله وسلامه عليه(32/1)
ثم إني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد ان تخرج به هذه المحاضرة على النحو الأتم والوجه الأكمل على مايسعى الإنسان ان ينال به رضوان الله ثم نفع إخوانه المسلمين فبدى لي والإنسان ناقص مهما سعى الى الكمال ان عرض السيرة إجمالاً من الميلاد الى الوفاة والوقوف بعد ذلك عند الفوائد والعظات والعبر الى فقه سيره رسولنا صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل والنحو الأتم ... نبنا محمد صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة الكاملة والاحتفاء التام من ربه جل جلاله وحفاوة الله بانبياءه سنه ماضيه قال الله جل وعلا في حق نبيه إبراهيم ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيا ) وقال الله جل وعلا في حق موسى ( واصطنعتك لنفسي ) وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل الحفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا فلقد مهد الله جل وعلا لذلك من قبل يقول صلوات الله وسلامه عليه (إني لعند الله لخاتم النبيين ان ادم المجندل في طينته ) ثم لما بعث الأنبياء وبعث المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين اخذ الله جل وعلا الميثاق ان اذا بُعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون ان يصدقون ويؤمنوا به ( وإذا اخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمه ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ااقررتم واتخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ثم كانت دعوه ابيه إبراهيم عندما وقف عند البيت ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة انك أنت العزيز الحكيم ) ثم كانت بشارة عيسى ( ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدِ اسمه احمد ) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( انا دعوه أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى ورويا أمي حين رأت ان نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام ) وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه انه صلى الله عليه وسلم قال ( انا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب خلق الله الخلق(32/2)
فجعلني في خير فرقه ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقه , ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة , ثم جعلهم بيوتاً فجعلني خيرهم بيتاً , فانا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً ) صلوات الله وسلامه عليه
هذا كله قبل ولادته صلى الله عليه وسلم فلما أراد الله جل وعلا ان يولد في العام الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم كان في ذلك العام إرهاصات وأحداث عظام تدل على شيئاً ما سيقع وان حدث عظيم سيكون فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزء فيه ابرهه بيت الله العتيق وأب من ذلك الغزو خائباً خاسراً كما هو معروف ككل احد ..
ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب اختلف العلماء هل مات قبل ولادته او بعده والأرجح الأول .. ثم ان الله جل وعلا أرد ان يبين لسائر الناس ان محمد بن عبد الله لم يكن يوماً تلميذا لشيخ ولا طالب في مدرسه ولا ربيباً لأبوين وانما تولته عناية الله في أصلاب الرجال وأرحام النساء ثم بعد الولادة الى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم , ثم توفيت أمه وهو صغير لم يبلغ ست من الأعوام وعاش طفولته بعيداً عن أسرته في بادية بني سعد حتى لا يقولون بعد ذلك ان رجل او شخصيه ما تولت رعايته وكونت شخصيته وألهمته الدروس وأعطته العبر وعلمته الكتاب ( وما كنت تتلوا من قبله كتاب ولا تخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه كان عناية إلهيه وفضل رباني محض ليس لأحد من البشر كائن من كان فيه حظ او نصيب ....(32/3)
عاش صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أسرته , ثم عاد الى مكة فكفله جده عبد المطلب ثم مالبث ان توفي ذلك الجد ثم كفله عمه أبو طالب ولم يكن دور أبو طالب أكثر من راعي معيشي له صلى الله عليه وسلم , فلم يكن لدى أبي طالب حض من علم او أثره من كتاب يسقي من خلالهما او ينهل من خلالهما رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى تكونت شخصيته فنشاء بعيداً عما عليه قومه ...
وكذلك العاقل اذا رأى مجتمعات الفساد وأوديه الظلاله ومنتجعات الغواة ... نأى بنفسه عنها ولو عاش وحيداً قال الله جل وعلا ( فلم اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبيا ) فالبعد عن أهل الغواية الفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح .. أول طرائق النجاح ...(32/4)
لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيداً عن محافل الخير فشهد حلف الفضول وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجيا شيئاً فشيئاً من غير ان يعلم صلى الله عليه وسلم فلم يحدث نفسه ذات يوم انه سيكون نبياً لأنه لاعلم له بذلك أصلاً , لكنه صلى الله عليه وسلم كان يرى رؤيا ... ولا يرى رؤيا الا واتى مثل فلق الصبح حاضرة ناصحه كما رآها في منامه حتى دنت البعثة فكان يمشي في طرقات مكة فيسلم عليه الحجارة :- سلام عليك يانبي الله , فيلتفت يمينا وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً فيسكت ويبقى على حاله حبب إليه الخلاء فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد ثم انه صلى الله عليه وسلم في ليله الواحد والعشرين من شهر رمضان على الأرجح لما تم له أربعين عاما جاءه الملك بالنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية للكون كله إذ بعثه الله رحمه للعالمين .. رحمه من لدنه كما اخبر جل وعلا , جاءه الملك فلم يكن صلى الله عليه وسلم له عهد بالملك اصلاً فأصابه من الرعب والفزع مااصابه قال له الملك :- اقرأ 0 قال :- ماانا بقارئ- أي لا أجيد القراءة اصلاً .. فردد الملك :- اقرأ – ورسول الله باقي على جوابه ( ما انا بقارئ ) فضمه الملك ثم يتركه ويضمه ثم يتركه حتى يشعره في تلك اللحظات ان الملك خارج عن حديث النفس فليست تلك رؤيا يراها او حديثاً في نفس يريد ان يتأكد فكان الملك يضمه ثم يتركه حتى يبين له ان هذا الحدث منفك ظاهره منفكة عن حديث النفس منفكة عن رؤى الأحلام منفكة عن أحلام اليقضه ثم قال له :- (اقرأ بسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم *علم الإنسان مالم يعلم ) نزل صلى الله عليه وسلم خائفا وجلا الى زوجته خديجة .. خديجة ترك عندها صلى الله عليه وسلم عندها أبناءه وبناته فلم تحدث ماذا صنع البنين وماذا أصاب البنات لم تحدثه عن الجوع الذي قاسته(32/5)
وانما نسيت همومها في جانب همه صلى الله عليه وسلم .. آوته الى صدرها وضمته إليها ثم قال لها :- لقد خشيت على نفسي , فطمنته رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة دارها ومثواها .. وقالت :- والله لن يخزيك الله ابداً ثم عددت مناقبه انك لتطعم الفقير , وتعين على نوائب الدهر وتقول الصدق وأخذت تسرد له مناقبه وفضائله صلى الله عليه وسلم ....
فقدمت بذلك أنموذج لما ينبغي ان تكون عليه المرأة مع زوجها ان من كثير من الناس قد يأتي إليك محمول بالهموم مثقل بالخطايا ليس من الصواب ان تسرد عليه أنت وترده وتصده ولكن ينبغي ان تنسى همومك بجانب همه اذا أردت له النفع والفائدة ...(32/6)
ثم أخذت بيده الى ورقه بن نوفل ابن عمها وكان رجل له حظ من العلم واثر من كتاب فقال له :- ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى .. فشتاق الرسول صلى الله عليه وسلم الى الوحي لأنه سمع القران لكن الوحي انقطع ولم يأتي حتى يذهب الرعب ويبقى الشوق الى كلام الله جل وعلا تربيه من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تلك اللحظات قال أهل العلم انها بقيت ستة أشهر وهي مرحله فتور الوحي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن ما لله به عليم حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري ( ان النبي صلى الله عليه وسلم ربما يصعد الى شواهق الجبال يريد ان يتردى منها مما أصابه من حزن ومن شك في النفس عن الحادثة الأولى ) لكن بعض المحدثين من العلماء يقولون ان هذه الرواية على هيئه البلاغ وهي لا تصح وتنافي عصمه الأنبياء والله تعالى اعلم , وان كان نفيها اقرب الى الصحة أين كان الأمر عاش النبي صلى الله عليه وسلم فتره عصيبة وهي فتره انقطاع الوحي عنه حتى أصبح يشك في نفسه مما راءه في السابق , فلما أصبحت نفسه ذات شوق عظيم الى كلام الله اذا به صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث جابر يمشي في طرقات مكة فإذا الملك يناديه فيلتفت فإذا الملك على كرسي بين السماء والأرض قد سد مابين المشرق والمغرب يقول له ( ياايها المدثر * قم فانذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر ) ثم نزل الوحي فتتابع وحمي بأعظم من ذلك قال الله جل وعلا في إيه يبين فيها علو قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه فاقسم الله بمخلوقاته إرضاء له صلى الله عليه وسلم ( والضحى * والليل اذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى ) هذا الإشعار الإلهي الذي جاء على هيئه أيه قرانيه فيه من الإثبات من مكانه العظمى لرسولنا صلى الله عليه وسلم مكانه لايرقى إليها احد من الخلق كائن من كان الا انها في نفس الوقت لاتعطيه صلى الله عليه وسلم أي حظ من الالوهيه او الربوبية(32/7)
فالالوهيه والربوبية كمالها وتمامها لله عز وجل وحده لاشريك له فيها ابداً ...
اخذ صلى الله عليه وسلم يقوم بواجب الدعوة شيئاً فشيئاً وهو ما عرف تاريخياً بالدعوة في مرحلتها السرية تغير وجه قريش له ونالوا منه صلى الله عليه وسلم وساموه وأصحابه سوء العذاب .. وهو صلى الله عليه وسلم صابر محتسب يدعو الى ربه بالحكمة والموعظة الحسنه يدعو الناس الى التوحيد فكان أبو جهل يحمل راية السوء ضده حتى انه بلغ من أذى أبو جهل لرسولنا صلى الله عليه وسلم كما أورد البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود :- ان جزوراً نحرث بالأمس فلما كان في الغد جاء صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وصلى فقال أبو جهل وقريش في أنديتها :- أيكم يقوم الى جزور بني فلان فيصنع سلا الجزور على كتفي محمد صلى الله عليه وسلم فانبعث أشقى القوم عقبه بن أبي معيط فحمل الجزور فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فوضع سلا الجزور بين كتفيه الطاهرين صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود :- فلو كانت لي منعه لرفعته عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم انه ذهب إنسان الى فاطمة رضي الله عنها وأرضاها واخبرها الخبر فجاءت وهي جويريه يوم إذ فرفعت سلا الجزور عن كتفي نبينا صلى الله عليه وسلم فلما أتم صلاته دعى ثلاثاً وكان إذ دعى دعى ثلاثاً وسال الله ثلاثاً ثم قال ( اللهم عليك باابي جهل وعتبه بن أبي ربيعه وشيبه بن أبي ربيعه والوليد بن أبي عتبه وعقبه بن أبي معيط وأميه بن أبي خلف ) وسمى سبعه صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود فو الله لقد رأيت من سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر كما وعده الله صلى الله عليه وسلم ..(32/8)
إن وقفنا عند هذا الحدث هناك ياأخي أعراف وتقاليد تتغير من مجتمع إلى آخر والعاقل من يستفيد من تلك التقاليد والاعتراف ولا يصادمها ابن مسعود كان يعلم ان الأعراف الجاهلية لاتسمح للضعفاء ولا عديم الظهر من ان يكون لهم حظ من الناس فكان يعلم انه لا يمكنه ان يصل الى النبي صلى الله عليه وسلم الا وهو ميت فبقي على نفسه ولم يأتي ليرفع سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو من الإيمان والتقوى لا يعلمها الا الله وكانت الأعرف الجاهلية تنص عن حفظ المرأة وعدم العرض لها ولو بدأت بالأذى وكان موقف لفاطمة انها تقدمت بين صفوف الرجال وحملت سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم دون ان يصيبها أذى فالعاقل من الدعاة والحكيم من أهل الاستقامة من يتعامل مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بما يتوافق معها وهذه التقاليد والأعراف لاتبقى في كل زمان على هيئه واحده وانما تتغير الأعراف والتقاليد من عصر الى عصر ومن مكان الى مكان والشاهد والمقصود ان يوظفها الإنسان لصاع الدعوة والصالح هداية الناس الى طريق الله المستقيم ...(32/9)
عجزت قريش عن الأذى الجسدي الفردي فعمدوا الى الحصار العام فقدموا على أبي طالب فطلبوا منه ان يسلم إليهم ابن أخيه صلى الله عليه وسلم فأبى فقرر القرشيون مقاطعه بني هاشم لايناكحونهم ولا يبتاعون إليهم ولا يبتاعون منهم فآوى أبو طالب لبني هاشم وبني عبد المطلب في شعب لهن يقال له شعب بني هاشم ومكث الحصار ثلاث سنين والرسول صلى الله عليه وسلم وآله مؤمنهم وكافرهم ينالهم من الأذى ما الله به عليم ، بقي الحصار ثلاث سنين كان خلال مدة الحصار أبو طال على كفرة إذا هجع الناس وناموا يعمد على رسولنا صلى الله عليه وسلم فيأخذه لينام عنده ويأمر أحد بنيه أن ينام في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو همّا أحد بقتله يقتل أبنه بدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومع ذلك كله والله الحكمة البالغة لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله جل وعلا ومات على الكفر ولذلك حكمة لايعلمها إلا الله جل وعل
قبل أن ينتهي الحصار لايخلو صراع بين الحق والباطل من نشؤ أقوام كما يسمى في عرف السياسيين اليوم دول عدم الانحياز كانت في عصرنا هذا على هيئة دول لكنها في العصر السابق على هيئة أفراد فينشأ في المجتمع قوم حياديون ليسوا مع قريش وليسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان مادعى إليه رؤساء قريش وزعمائهم فتعاونوا على نقض المعاهدة ..
وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم أن يروا أهل المرؤات الذين لايخلو منهم زمان ولا مكان فيستفيدوا منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة ويوظف طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا ولايصادمهم حتى لايخسر الدعوة سند وقوة له هؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان لكن كان في قلوبهم رحمة وفي أنفسهم شهامة وخلال خصالهم مروءة وظفوها لنقض المعاهدة وتم لهم ما أرادوا ..(32/10)
ونقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار ..بعد الخروج من الشعب من شعب بني هاشم مات أبو طالب وماتت خديجة في عام واحد وقيل بين موتهما ثلاثة أيام ..فبدا له صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان لعل وعسى ...فخرج إلى الطائف فكانت أقرب الحواضر إلى مكة . خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله جل وعلا فلم يكونوا بأحسن حظاً من كفار قريش فسخروا منه وأمروا صبيانهم أن يرجموه فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه صلى الله عليه وسلم ولجأ على حائط في الطائف فلما لجأ إليه صلوات الله وسلامه عليه رق له بعض الكبراء فأرسلوا له غلام نصراني يقال له عداس ومعه قطف من عنب فلما وضع العنب بين يديه قال صلى الله عليه وسلم :بسم الله فقال الغلام : هذا شيء لايقوله مثل أهل هذه البلد فقال صلى الله عله وسلم : من أنت ومن من ؟ قال :أنا نصراني من أهل نينواء فقال صلى الله عليه وسلم :من بلدة النبي الصالح يونس بن متى قال الغلام : وما يدريك ما يونس أبن متى قال هو نبي وأنا نبي . فأكب الغلام على رسولنا صلى الله عليه وسلم يقبله حتى لامه سادة ثقيف يوم إذ .
ثم نزل صلى الله عليه وسلم وحيداً ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة فإذا انقطعت أسباب الأرض لجأ صلى الله عله وسلم إلى ربه فورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم بث إلى الله شكواه ورفع إلى الله نجواه وهو يعلم انه نبي مرسل لكن البلاء فيمن يستمع إليه فناجى ربه قائلاً (اللهم إليك اشكوا ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ارحم الراحمين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أن لم يكن بك عليّ سخط فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي ,أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت منه الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولاحول ولاقوه إلا بك )(32/11)
فتحت لهذا الدعوات أبواب السماء فما كان صلى الله عليه وسلم ينزل من الطائف من وادي نخلة حتى بعث الله إليه نفر من الجن مؤمنين به حتى تطمئن نفسه ويسكن قلبه ويعلم أن العاقبة له ( وإذا صرفنا إليك نفر من الجن القرآن ) فطمئنت نفسه شيئاً فشيئا صلوات الله وسلامه عليه ثم بعث إلى الملأ من قريش يخبرهم في رغبته في دخول مكة ويريد أن يدخل في حلف أحدهم فرده ثلاثة منهم ثم قبل المطعم بن عدي أن يدخل في جواره فدخل صلى الله عليه وسلم بجوار المطعم بن عدي رغم أنه مشرك استبقاء للمسلمين حتى لا يتعرضوا لأذى ثم بعد رحلة الطائف منّ الله عليه برحلة الإسراء والمعراج فجاءه جبرائيل وهو نائم في الحجر فشق صدره وغسل قلبه بماء في طست من ذهب ثم أفرغ في قلبه الطاهر إناء مليء إيمان وحكمة ثم قدم له البراق ثم اسري به صلى الله عليه وسلم إلى البيت المقدس حيث المسجد الأقصى وربط دابته في مربط الأنبياء هناك ، ثم عرج به على سدرة المنتهى لما صدّ أهل الأرض أبوابهم أمامه فتح الله له أبواب السماء فستقبله هنالك سادات الأنبياء بدأ بآدم ثم ابني الخالة يحي بن زكريا وعيسى بن مريم ثم يوسف بن يعقوب عليهم السلام ثم إدريس ثم هارون ثم موسى ثم أبوه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ثم وصل صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى جبرائيل مرة أخرى على هيئته التي خلقها الله عليها ..
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكته * والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك التفوا بسيدهم * * كا الشهد بالبدر أوكالجلد بالعلم
صلى ورأك منهم كل ذي خطر* ومن يفوز بحبيب الله يأتمم
ركوب لك من عز ومن شرف ** مافي الجياد ولافي الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته** وقدرت الله فوق الشك والتهم(32/12)
ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مضجعه الشريف ، ثم توالت الأحداث فلتقاء صلى الله عليه وسلم برهط من الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى ثم إلتقى برهط آخرين فكانت بيعه العقبة الثانية ثم أذن الله له بالهجرة إلى هذه المدينة مدينته صلوات الله وسلامه عليه .
هاجرت قبله جمع من أصحابه ثم تأمرت قريش وقررت قتله في مؤامرة مشهورة معروفة ثم أخرجه الله جل وعلا من بين أظهرهم دون أن يروه وهو يتلو (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا وأغشيناهم فهم لايبصرون ) ثم إلتحق بصاحبه أبي بكر وأوى إلى غار في جبل ثور عرف بغار حراء ومكث في الغار والطلب والرصد تبع له مرة بعد مرة ورسولنا صلى الله عليه وسلم في الغار
أمرغ في حراء أديم خدي *** دوام في الغداة وفي العشي
لعل ان أنال بحر وجهي *** تراب مسه قدم النبي
مكث صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام وقريش تبعث الطلب والرصد فيه فوقفوا على مقربه من الغار وأبو بكر يقول :يارسول الله لو أن احدهم نظر أسفل قدميه لرآنا فيقول : يا أبا بكر ما بالك بثنين الله ثالثهما ) هذا نصر الله جل وعلا على هيئة كتمان آتاه الله جل وعلا نبيه فلما سكن الرصد وقل الطلب خرج صلى الله عليه وسلم من الغار وصاحبه متوجهاً نحو هذه المدينة المباركة كانت الأنصار قد بلغهم خروجه صلى الله عليه وسلم فيخرجون كل يوم ينتظرون آوبته ينتظرون قدومه حتى إذا أشتد عليهم وهج الشمس رجعوا إلى دورهم فلما كان اليوم الذي وصل فيه صلى الله عليه وسلم خرج رجل من اليهود على آطام من آطام المدينة فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عرفهم فنادى بأعلى صوته :يابني قيله ـ وهو جد يجتمع فيه الأوس الخزرج ـ هذا جدكم الذي تنتظرون فسمع في المدينة التكبير وأبتدر القوم إلى السيوف وخرجوا يستقبلون نبيهم صلى الله عليه وسلم .(32/13)
بالأمس خرج من مكة شريداً طريداً في ظلمة الليل ثم مالبث أن نصره الله فدخل المدينة كأعظم مايدخلها الملوك والأنصار من حوله كلما مر على ملاْ قالوا هلّم إلى العدد العدة هلّم على العز والمنعة يارسول الله وهو يقول : خلوا سبيلها فإنه مأمورة حتى بركت الناقة في موطن مسجده اليوم صلوات الله وسلامة عليه على مقربة من بيت أبي أيوب فعند أبو أيوب إلى متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله في بيته وقال له عليه الصلاة والسلام المرء مع رحلة بنى مسجده وبدا يضع النواة الأولى لدولة الإسلام صلوات الله وسلامة عليه ثم جاءت الغزوات فكانت غزوه بدر وهي حدث عظيم ولكن من أعظم مايلفت النظر فيها انه صلى الله عليه وسلم بعد ان اخذ بالأسباب المادية وجهز الجيش واعد العدة لجاء الى ربه ...
فاللجوء الى الله جل وعلا لايستغني عنه احد كائن من كان مهما عظمت قدرتنا وبلغ حولنا مابلغ وزادت قوتنا وحاجتنا الى الله حاجه ابديه ملحه لأننا فقراء الى الله جل وعلا مهما بلغنا ...
مكث صلى الله عليه وسلم في العريش يناجي ربه حتى سقط رداءه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأتيه من خلفه ويضمه ويقول :- بعض مانشدت ربك يارسول الله, فانزل الله ( اذا تستغيثون بربكم فستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) فكان النصر له صلى الله عليه وسلم ..(32/14)
فلما قّّر الله عينيه بالنصر ووضع القتلى في قليب بدر نظر إليهم صلى الله عليه وسلم واخذ يقول :-يافلان ابن فلان , يافلان ابن فلان واخذ يناديهم بأسماهم هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فاني وجدت ماوعدني ربي حقاً فتعجب أصحابه وقالوا :- يارسول الله تكلم قوماً قد جيفوا ؟ قال :-ياعمر والله ماانتم بما اسمع بما أقول منهم ولكنهم لايملكون جواباً .. وعاد صلى الله عليه وسلم كان هذا النصر أعظم مايكون المسلمون في حاجه إليه حتى تطمئن أنفسهم ويثقوا بنصر الله لأنها أول نزال بين أهل الكفر وأهل الإيمان بعد ان إذن الله للقتال ثم كانت احد وما أدراك ما احد فيها من العظات الشيء الكثير لكن فيها ان وجهه صلى الله عليه وسلم كان نوراً يتلالاء كأنه فلقت قمر ومع ذلك يريد الله ان يثبت ان الكمال المطلق لله وحده سبحانه فيشاع في ارض المعركة انه صلى الله عليه وسلم قتل فيشج رأسه وتكسر رباعيته ويسيل الدم على وجهه الشرف ثم يمسح صلى الله عليه وسلم وجهه الطاهر بيديه ويقول ( كيف يفلح قوم خفضوا وجه نبيهم وهو يدعوهم للإسلام ) فينزل الله جل وعلا عليه قوله ( ليس لكم من الأمر شيء او يتوب عليه او يعذبهم فإنهم ظالمين ) فالأمر كله لله جل وعلا وحده ..(32/15)
وليت بني قومي اليوم اذا سمعوا بهلاك احد او بموت احد لايشغلوا أنفسهم هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار فهذه أمور لله تبارك وتعالى وحده ولم يكلفنا الله تبارك وتعالى بان ندخل من نشاء الى الجنة او نحرم من نشاء فيها او ان ندخل من نشاء الى النار او ان نمنع من نشاء فيها الجنة والنار بيد الله العزيز الغفار والله جل وعلا اعلم بخلقه واعلم بما تكنه صدورهم هو تبارك وتعالى أسرع الحاسبين وقد قال بعض الصالحين لابنه ينصحه ( يابني ان الله يسألك لما لم تلعن فرعون مع ان فرعون ملعون في كتاب الله لكن المؤمن العاقل مثل هذه الأمور لايلقي لها بال ولا يشغل بها نفسه فالجنة والنار بيد أسرع الحاسبين وبيد رب العالمين وبيد ارحم الراحمين ولن يسألنا الله منهم أهل الجنة ومنهم أهل النار لكننا لأنفسنا نسال الله الجنة ونستجير بالله تعالى من النار وفي مسند البزار ( ان لا اله الا الله كلمه كريمه على الله من قالها في الدنيا صادقاً دخل الجنة ومن قالها في الدنيا كاذباً حقنت دمه وحسابه على الله جل وعلا فالعاقل لايشغل نفسه بما لايعنيه لكنه في حوادث الدهر يحكم فيهن ما أمر الله فيه ورسوله أما الحوادث الأخروية فلسنا مسؤلون عنها لان علمها عند ربي في كتاب لايضل ربي ولا ينسى ....(32/16)
في غزوه احد أراد الله جل وعلا ان يربي المسلمين على ان القادة العظماء والزعماء الأفذاذ لايربون الناس بالتعلق بذواتهم وعلى حبهم والمبالغة في الغلو بهم ولكنهم يربون الناس على التعلق بالله جل وعلا فلما أصاب المسلمين مااصابهم يوم احد قال الله جل وعلا معاتباً أهل الإيمان ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقيبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) ( وما كان لنفس ان تموت الا بإذن الله كتابا موجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤتيه منها ومن يرد ثواب الآخرة نوتيه منها وسيجزي الله الشاكرين ) فالعاقل لايربي الناس على التعلق به وانما يربيهم على التعلق باله الكون وحده فلا اله الا الله تعني ان الكمال المطلق والحب المطلق والتوحيد المطلق والتكبير المطلق لا يكون الا لله جل وعلا وحده فإذا كان سيد الخلق وجوده رحمه وعدمه لا يضر المسلمين شيئاً اذا اعتصموا بما جاء به كان غيره أولى وأجدر ان تطبق عليه القاعدة فكان صلى الله عليه وسلم حيه الدين حي الدين الذي جاء به أما هو صلى الله عليه وسلم فيجري عليه قم القضاء ( انك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) فهذه أعظم ما خرج المسلمون منه يوم احد من تربيه إلهيه لهم , ثم كانت غزوه الأحزاب تجمعت قريش ثم قدموا الى رسولنا صلى الله عليه وسلم في مدينته فستشار الناس فأشار عليه سلمان الفارسي ان يحفر الخندق والخندق وسيله حربيه مجوسية أخذها سلمان من أهل فارس لم يكن للعرب عهد بها او علم ان ذلك ...
وهنا نأتي بما عرف بعصرنا بصراع الحضارات ينبغي أهل التقوى مابين التقارب الديني وما بين التقارب الحضاري الدين ياأخي صنع الهي لا يمكن لأحد ان يزيد فيه او ينقص والحضارة صنع إنساني قابله بالزيادة والنقصان قابله لأخذوا العظمى قابله للتلاقح بين الأمم اذا تقاربت وتنافست ..(32/17)
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورة سلمان وعمل بالخندق لما رأى فيه مصلحه يقوم به صلاح أمته ولم يقل حينها صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم ) من تشبه بقوم فهو منهم محول على من تشبه بهم في أمور الدين أما الصناعات الانسانيه فليس ملكاً لأحد ولقد كانت العرب لا تأتي المرأة وهي مرضع خوفاً على ان يؤثر الإتيان على الرضيع فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان فارس والروم تصنع ذلك ولا يضر أبناءها شيء لم ينهى أمته عنه كما روى مسلم في الصحيح عن حديث جابر رضي الله عنه .
فالحضارات حق مفتوح وأمر مشاع يجوز للامه ان تأخذ منه اذا رأته ان في ذلك مصلحه والحكمة ضالة المؤمن ان وجدها أخذها , أما الدين (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ما عندنا من الدين يمنعنا ان نأخذ ولو قطره من سقى من أي دين او مله على وجه الأرض لان الله يقول ( ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )(32/18)
ثم توالت الأمور حتى كانت السنة السادسة فعزم صلى الله عليه وسلم على التوجه الى مكة معتمراً واخذ معه رهطاً من أصحابه معهم السيوف في رقابها , فلما دنو من البيت العتيق منعتهم قريش ان يدخلوها فجرى وأجرى من التفاوض تريد قريش ان تطمئن ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتي للقتال فكان ان بعث صلى الله عليه وسلم عثمان لأنه كان منيعاً عزيزاً في بني أميه وكان أكثرهم مشركاً حين ذاك ثم أشيع ان عثمان قد قتل فبايع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم نبينا صلى الله عليه وسلم على الموت تحت ظل شجره مثمره والذين بايعوه ألف وأربع مائه رجل كلهم الا الجد ابن قيس كان رجل منافق لم يحضر البيعة قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء انتم خير أهل الأرض وقال لهم :- لا يدخل النار بايع تحت الشجرة , ثم انه صلى الله عليه وسلم بسط يمينه وقال هذه عن عثمان ثم بسط يساره يبايع نفسه بنفسه قال العلماء ( وكانت يد رسول الله لعثمان خير من يد عثمان لعثمان نفسه ) بعد هذه البيعة وبعد مداولات اقر الصلح بين المسلمين والكفار والصلح ظاهر ان فيه إجحاف بحق المؤمنين فباطنه الرحمة اذا وضعت الحرب وألقت أوزرها وخمدت الناس واخذ ذوي العقول يفكرون في الطرائق المثلى للحصول الى الإيمان ..
ان هناك أناس يرزقهم الله جل وعلا عقولاً ويمنعهم من الاستفادة منها حجب التقليد التي يضعونها أمامهن ..(32/19)
أبو جهل كان يعلم ان محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ورأى من الآيات ما يشهد له بذلك لكن الحسد والتقليد الأعمى منعه وكان سبباً في حرمانه عن دخوله الإيمان أما سرقه بن مالك لما تبع النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الايه لما ساخت قوائم فرسه او من ان النبي صلى الله عليه وسلم حق وعرف الايه ونبذ التقلد رأى ظهره خلال هذه الفترة بعد الصلح رجع عقلاء الناس الى أنفسهم واخذوا يناقشونها ويحاسبونها ودخل كثير من الناس أفواج في دين الله فانقلب ذلك العدد من ألف أربع مائه الى عشره آلاف يوم فتح مكة كما سيأتي ثم عاد صلى الله عليه وسلم الى المدينة وفي العام الذي بعده كانت عمره القضاء ثم انه صلى الله عليه وسلم غزى خيبر ثم لما كان العام الثامن كانت من بين شروط صلح الحديبية أن شاء أن يدخل في حلف محمد دخل ومن شاء ان يدخل في حلف قريش دخل فدخلت بني بكر في حلف قريش ودخلت خزاعة في حلف النبي فأعانت قريش بكراً على خزاعة فقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنصر بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : نُصرت ياعمرو بن سالم ثم جهز صلى الله عليه وسلم جيشه وقدم على مكة في عشرة آلاف من أصحابه ودخلها صلى الله عليه وسلم دخول عظيم أظهره الله عز وجل فيه دخلها من أعلاها من كداء وعلى يمينه أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه يحمل اللواء لكنه صلى الله عليه وسلم طوال دعوته وجهاده لم يكن يطلب حظاً لنفسه وإنما كان يريد أن يبلغ رسالة ربه فلما أظهره الله دخل صلى الله عليه وسلم مكة مطأطأ رأسه حتى أن لحيته الشريفة كانت تمس وسط راحلته تواضع لله عز وجل حتى يعلم الخلق أن التواضع لله أعظم أسباب النصر فدخل صلى الله عليه وسلم وهو مطأطا رأسه متواضع لربه على بغلته طاف بالبيت العتيق سبعاً وأشار إلى الأصنام في عود بيده وهو يردد (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )ثم سال عن عثمان بن أبي طلحة وكانت الحجابة البيت عندهم يوم(32/20)
إذ ومازالت وفتح له باب الكعبة ودخل بها صلى الله عليه وسلم ووجد فيها صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فخرجت ثم كبر في نواحي البيت وصلى ركعتين ثم خرج فلما خرج بادرة علي رضي الله عنه قائلاً : يارسول الله أجمع لنا السقاية والحجابة فقال صلى الله عليه وسلم : - أين عثمان بن أبي طلحة ؟ قال : أنا يارسول الله فأعطاه مفتاح الكعبة وقال : اليوم يوم بر ووفاء خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم فإلى اليوم مفتاح الكعبة بيد بني شيبة يفتحون البيت متى شاءوا (وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمّر على مكة عتاب بن أُسيد قبل أن يدخلها أسلم أبو سفيان جيئا به إليه فقيل له يارسول الله ان أبا سفيان رجل يحب الفخر فقال صلى الله عليه وسلم :- ومن دخل دار أبو سفيان فهو امن ...
الزعماء من الناس الذين تربوا على القيادة من الصعب ان تسلبهم حقهم بالكلية فان ذلك يحدث تغير في أنفسهم ونحن مابعثنا لنخاصم الناس في دنياهم إنما بعثنا كدعاة علماء لان تنقذ الناس من الضلالة فترك للناس دنياهم يتركوا لك دينك ..(32/21)
قال صلى الله عليه وسلم ( من دخل دار ابوسفيان فهو امن ومعلوم ان دار أبو سفيان لا تحمل أكثر من عشره نفر ولكن عندما يعلن في الملا وفي بيوت مكة من دخل دار أبو سفيان فهو امن يصيب أبا سفيان من الرضى مايصيبه ويناله من الفخر مايناله دون ان يضر الإسلام شيئا ثم عرج صلى الله عليه وسلم على هوازن وعلى ثقيف فكانت غزوه حنين وغزوه الطائف غر كثير من المسلمين ماهم فيه من كثره العدد ثم ثبت الله نبيه صلى الله عليه وسلم وال الأمر الى نصره صلى الله عليه وسلم وعند منقلبة من الطائف بدأ له ان يقسم الغنائم فأعطى أربعه من روساء الناس يوم إذ ممن اسلم حديثاً ألف بعير لكل واحد وقسم كثير من الغنائم على عدد بلغ الستين عند جمهره المورخين ولم يعطي الأنصار شيئاً صلى الله عليه وسلم فحز ذلك في انسفهم وتغيرت بعض قلوبهم فقال حدثاء الأسنان منهم :- ( يغفر الله لرسول الله يعطي قومه وان سيوفنا لتقطر من دماءهم ) فبلغ ذلك القول رسولنا صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم من العلم والقدوة بمكان عظيم لايرتقي إليه احد ...
ياأخي القادة العظماء لايتركون الحزازات في النفوس لكل إنسان مشاعر وأحاسيس وأراء لو أننا كبتناها لنقلبوا علينا لكن لا يمكن ان ينجح أمير في بلدته ولا زعيم في دولته ولا أب في بيته ولا معلم في فصله ولا مربي في حلقته اذا كان لايستمع الى مشاعر وأحاسيس من هم تحته فالله جل وعلا كلم موسى واستمع إليه وهو مخلوق من مخلوقاته ( قال ربي إني قتلت منهم نفساً فاخف ان يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فارساه معي رداء يصدقني ان اخف ان تكذبون ) والله يعلم كل ذلك من قبل ان يخل موسى ومع ذلك استمع إليه فهو الله جل وعلا ولله المثل الأعلى ...(32/22)
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في قبة ثم قال لهم في معالجه تربويه تقصر عنها بيان البلغاء قال ( مامقوله بلغتني عنكم الم تكونوا إضلالا فهداكم الله الم تكونوا عاله فأغناكم الله الم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا :- بلى يارسول الله , لله ورسوله المنة والفضل . فقال :- الا تجيبوني ؟ قالوا :- بما نجيب يارسول الله فتولى الاجابه عنهم وقال ( إنكم لشئتم لقلتم فلتصدقتم ولصدقتم أتيتنا طريداً فآويناك وعائلاً فاسيناك ومخذولاً فنصرناك ثم قال صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار :أوجدتم في أنفسكم عليّ في لعاعة من الدنيا أسلمتها إلى قوم حديثو عهد بإسلام وأوكلتكم إلى ما جعل الله في قلوبكم من الإسلام يامعشر الأنصار أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ) فبكى القوم رضي الله عنهم وأرضاهم وقالوا : رضينا بالله ربا وبرسول الله قسماً وحظا فقال صلى الله عليه وسلم : (اللهم أغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) فانقلبوا راجعينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن حاجتنا الملحة لأن نستمع إلى الغير وإن من أعظم الأخطاء في التربية والدعوة أن يجعل الإنسان من نفسه سلطان على الغير يفكر بدل منهم ويشعر بدل منهم ويرى ماحولهم بدل منهم ذلك أسلوب فرعوني نقله القرآن قال فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) وقد قيل :
زمان الفرد يافرعون ولى * * * ودالت دولة المتجبرين
وأصبحت الرعاة بكل أرض * * * على حكم الرعية نازلين(32/23)
قصر الرسول صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المدينة ،وفي ذلك العام كان عام الوفود فبدأت وفود العرب تقدم إلية صلوات الله وسلامه عليه وكانت من الوفود التي قدمت وفد جيزان وكان وفد جيزان مسيحي يعبدون المسيح عيسى أبن مريم فلما قدموا عليه صلوات الله وسلامه عليه أخذوا يجادلونه ويقولون له كيف نتبعك وأنت تنتقص صاحبنا وتقول إنه عبد الله ورسوله قال :نعم عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فقالوا :كيف يكون عبداً لله ورسوله أرأيت ولداً ولد من غير أب فأنزل الله جل وعلا قوله (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين ) فلأن كان عيسى ولد من غير أب فإن آدم خلق من غير أب وأم فجاءوا بالغريب فجاءهم الله بما هو أغرب رد على حجتهم فلما قال لهم صلى الله عليه وسلم ذلك أبوأ أن يسلموا له فدعاهم إلى المباهلة فدعي علي والحسن والحسين وفاطمة وقال :إن أنا دعوت فأمنوا وأنزل الله قوله ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعوا أبنائنا وأبنائكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) فعرفوا أنه النبي الله حقا لكنهم لم يؤمنوا وخشيوا من المباهلته ثم إنهم صالحوه على ألف حلة تؤدى له صلى الله عليه وسلم مرتين في العام وأشياء أخر.(32/24)
وفي عصرنا هذا نشأ مايسمى بتقارب الأديان وبحوار الأديان فأما حوار الأديان فلا حرج فيه شرعاً إذا أراد المحاور المسلم أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله جل وعلا رب لارب غيره ولاشريك معه أما تقارب الأديان فأمر مرفوض لأنه لايمكن أن تلتقي الأديان في شيء واحد فإن ذلك فيه تنازل عقدي والمسلمون أمرهم الله أن يقولوا ( قل يأيها الكافرون لاأعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد )فالمسلم على ملة حنيفية بيضاء لاينبغي أن يحيد عنها مثقال ذرة وليس هناك مصلحة ترقى على مصلحة التوحيد ولامفسدة أعظم من مفسدة الشرك وما يسمى بتقارب الأديان يفضي إلى ترك التوحيد وإلى القرب من الشرك وقد قال الله جل وعلا ( ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .
ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان العام العاشر فأعلن لناس عزمه على الحج فلما أعلن عزمه على الحج صلوات الله وسلامه عليه تسارع الناس لذلك وقدموا إلية حتى يأتموا به فخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن أحرم من ذي الحليفة مهللاً مكبراً حتى وصل مكة وطاف في البيت سبعاً ثم رقى الصفا وقال أبدأ بما بدأ الله به ثم أتم نسكه صلى الله عليه وسلم حتى أتى يوم الثالث عشر فنزل بعد أن رمى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر ثم نزل في حيف بنى كنانة صلوات الله وسلامه عليه وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم أضطجع ثم لما كانت صلاة الفجر نزل إلى الحرم قبل صلاة الفجر ثم طاف طواف الوداع ثم صلى بالناس صلاة الفجر ثم قفل راجع إلى المدينة يكبر على كل شرف من الأرض لما دنى منها ويقول :آئبون تائبون عابدون ولربنا حامدون ) صلوات الله وسلامه عليه .(32/25)
ثم أشتكى الوجع وبدأ يشعر بتغير حالة واشتدت عليه الحمى فلما شعر بدنو أجله خرج صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فستغفر لأهله ثم خرج إلى أحد فشهد لشهداء معه ثم تصدق صلى الله عليه وسلم بدنانير كانت عنده وأعتق غلمانه ثم إن صلوات الله وسلامه عليه مكث ينتظر أجل ربه يوماً بعد يوم والحمى تشتد عليه حتى كان صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على الأظهر والأصح من ربيع الأول فكان صبيحتها اطل من ستار بيته فرأى أصحابه يصلون صلاة الفجر مأتمين بابي بكر فقرت عينه وسكنت نفسه بعد أن رآهم مجتمعين على إمام واحد خاشعين لربهم وبذلك أرسل ولذلك دعي ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد على فراشه واشتدت عليه وطئت الحمى ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي فمه سواك ثم أستاك صلوات الله وسلامه عليه ثم مازال يردد : بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى .ثلاثاً ثم فاضت روحه وأنتقل إلى رحمة خالقة ومولاه ،خير من أرسل وأجل من بعث صلوات الله وسلامه عليه بعد إن أدى الأمانة ونصح وبلغ الرسالة ونصح الأمة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك.
ولاينبغي لمن يقف مع السيرة وينظر في مسيرتها أن يغفل عن شيء مهم وهو انه صلى الله عليه وسلم كان له من كريم الصفات وجميل النعوت ما تحبب الناس إليه وأجتمع عليه صلوات الله وسلامه عليه وكان في كل حينه منقطع إلى ربه دائم الصمت عليه من السمت والوقار ماعليه حتى إنه صلى الله عليه وسلم تفقده عائشة ذات ليلة فإذا هو في المسجد منتصبة قدماه يقول في سجوده ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)(32/26)
أيها المؤمنون هذه قطوف من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم منّ الله علينا وعليكم وأبحرنا خلالها من خلال ساعة كاملة وإننا مهما قلنا مقصرون ومهما تحدثنا لن نبلغ الصواب كله ولن نبلغ الكمال كله لكن إن كان من وصية أختم بها فإن الله جل وعلا شرفنا بأن جعلنا من أمه محمد صلى الله عليه وسلم وفي عصرنا هذا من أسباب الفجور وأسباب البعد عن الله ما لايخفى على أحد والبعد عن أسباب الفجور والسلامة منه
إن السلامة من سلمى وجارتها * * * أن لاتمر على سلمى وواديها
ويحتاج الأمر هذا كله إلى صبر على هدي محمد صلى الله عليه وسلم فليوطن أحدنا نفسه على الصبر وليؤطنها على إتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعلم أن هذه الفتن التي تتابع شررها وتفاقم خطرها إنما هي بلاء وفتنة يصف الله جل وعلا به من يشاء فمن أخلص لله نيته وصلح قلبه واستقامة سريرته ووفق للصواب وهدي إلى سبيل الرشاد وهذا والله تعالى أعز وأعلم وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين .
.. أمل الأمة(32/27)
( طبت حياً وميتاً : للشيخ صالح بن عواد المغامسي )
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه ... كما يحب ربنا ويرضى ... واشهد ان لااله الا الله وحده لاشريك له ... شعار ودثار ولواء أهل التقوى .. واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله نبيُ سلم الحجر عليه ونبع الماء من بين إصبعيه وحن الجذع إليه .. فصلى الله وسلم وبارك وانعم عليه اللهم وعلى اله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان الى يوم الدين .. أما بعد...
أيها الاخوه المومنون ... فإن المتصدر لتدريس شخصيه ما وذكر أحوالها ومناقبها وما آلت إليه وما قدمته للناس يجعل النقد أول معاييره حتى يضع الناس على بينه من أمرهم في الصواب والخطاء والهداية والضلالة والسداد وعدم التوفيق .. لكن الذي يريد ان يتحدث عن سيد الأنبياء وإمام الأتقياء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليس عليه الا ان يطاطاء رأسه ويخشع قلبه وتسكن جوارحه .. اذا انه يتحدث عن رحمه مهداه ونعمه مسداه عن سيد البشر وخيره خلق الله وصفوتهم عن رسول الهدى ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وينبغي ان يعلم في أول الأمر ان السيرة واحده لاتزويد ولا تنقص فلا يستطيع احد ان يزيد شيئاً لم يثبت فيها ولا يستطيع احد ان ينقص شيئاً مما ثبت فيها لكن المسلمين في استسقاهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواراتهم ومناهلهم ومصادرهم فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون وينهل القادة ويغترف السياسة وينال العلماء ويبحث الفقهاء وبجد كل مراء له حظا من سيرته صلى الله عليه وسلم والأمر كما قيل :-
وكلهم من رسول الله ملتمسُ
غرف من البحر أورشف من الديم
صلوات الله وسلامه عليه(33/1)
ثم إني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد ان تخرج به هذه المحاضرة على النحو الأتم والوجه الأكمل على مايسعى الإنسان ان ينال به رضوان الله ثم نفع إخوانه المسلمين فبدى لي والإنسان ناقص مهما سعى الى الكمال ان عرض السيرة إجمالاً من الميلاد الى الوفاة والوقوف بعد ذلك عند الفوائد والعظات والعبر الى فقه سيره رسولنا صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل والنحو الأتم ... نبنا محمد صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة الكاملة والاحتفاء التام من ربه جل جلاله وحفاوة الله بانبياءه سنه ماضيه قال الله جل وعلا في حق نبيه إبراهيم ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيا ) وقال الله جل وعلا في حق موسى ( واصطنعتك لنفسي ) وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل الحفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا فلقد مهد الله جل وعلا لذلك من قبل يقول صلوات الله وسلامه عليه (إني لعند الله لخاتم النبيين ان ادم المجندل في طينته ) ثم لما بعث الأنبياء وبعث المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين اخذ الله جل وعلا الميثاق ان اذا بُعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون ان يصدقون ويؤمنوا به ( وإذا اخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمه ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ااقررتم واتخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ثم كانت دعوه ابيه إبراهيم عندما وقف عند البيت ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة انك أنت العزيز الحكيم ) ثم كانت بشارة عيسى ( ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدِ اسمه احمد ) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( انا دعوه أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى ورويا أمي حين رأت ان نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام ) وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه انه صلى الله عليه وسلم قال ( انا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب خلق الله الخلق(33/2)
فجعلني في خير فرقه ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقه , ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة , ثم جعلهم بيوتاً فجعلني خيرهم بيتاً , فانا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً ) صلوات الله وسلامه عليه
هذا كله قبل ولادته صلى الله عليه وسلم فلما أراد الله جل وعلا ان يولد في العام الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم كان في ذلك العام إرهاصات وأحداث عظام تدل على شيئاً ما سيقع وان حدث عظيم سيكون فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزء فيه ابرهه بيت الله العتيق وأب من ذلك الغزو خائباً خاسراً كما هو معروف ككل احد ..
ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب اختلف العلماء هل مات قبل ولادته او بعده والأرجح الأول .. ثم ان الله جل وعلا أرد ان يبين لسائر الناس ان محمد بن عبد الله لم يكن يوماً تلميذا لشيخ ولا طالب في مدرسه ولا ربيباً لأبوين وانما تولته عناية الله في أصلاب الرجال وأرحام النساء ثم بعد الولادة الى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم , ثم توفيت أمه وهو صغير لم يبلغ ست من الأعوام وعاش طفولته بعيداً عن أسرته في بادية بني سعد حتى لا يقولون بعد ذلك ان رجل او شخصيه ما تولت رعايته وكونت شخصيته وألهمته الدروس وأعطته العبر وعلمته الكتاب ( وما كنت تتلوا من قبله كتاب ولا تخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه كان عناية إلهيه وفضل رباني محض ليس لأحد من البشر كائن من كان فيه حظ او نصيب ....(33/3)
عاش صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أسرته , ثم عاد الى مكة فكفله جده عبد المطلب ثم مالبث ان توفي ذلك الجد ثم كفله عمه أبو طالب ولم يكن دور أبو طالب أكثر من راعي معيشي له صلى الله عليه وسلم , فلم يكن لدى أبي طالب حض من علم او أثره من كتاب يسقي من خلالهما او ينهل من خلالهما رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى تكونت شخصيته فنشاء بعيداً عما عليه قومه ...
وكذلك العاقل اذا رأى مجتمعات الفساد وأوديه الظلاله ومنتجعات الغواة ... نأى بنفسه عنها ولو عاش وحيداً قال الله جل وعلا ( فلم اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبيا ) فالبعد عن أهل الغواية الفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح .. أول طرائق النجاح ...(33/4)
لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيداً عن محافل الخير فشهد حلف الفضول وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجيا شيئاً فشيئاً من غير ان يعلم صلى الله عليه وسلم فلم يحدث نفسه ذات يوم انه سيكون نبياً لأنه لاعلم له بذلك أصلاً , لكنه صلى الله عليه وسلم كان يرى رؤيا ... ولا يرى رؤيا الا واتى مثل فلق الصبح حاضرة ناصحه كما رآها في منامه حتى دنت البعثة فكان يمشي في طرقات مكة فيسلم عليه الحجارة :- سلام عليك يانبي الله , فيلتفت يمينا وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً فيسكت ويبقى على حاله حبب إليه الخلاء فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد ثم انه صلى الله عليه وسلم في ليله الواحد والعشرين من شهر رمضان على الأرجح لما تم له أربعين عاما جاءه الملك بالنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية للكون كله إذ بعثه الله رحمه للعالمين .. رحمه من لدنه كما اخبر جل وعلا , جاءه الملك فلم يكن صلى الله عليه وسلم له عهد بالملك اصلاً فأصابه من الرعب والفزع مااصابه قال له الملك :- اقرأ 0 قال :- ماانا بقارئ- أي لا أجيد القراءة اصلاً .. فردد الملك :- اقرأ – ورسول الله باقي على جوابه ( ما انا بقارئ ) فضمه الملك ثم يتركه ويضمه ثم يتركه حتى يشعره في تلك اللحظات ان الملك خارج عن حديث النفس فليست تلك رؤيا يراها او حديثاً في نفس يريد ان يتأكد فكان الملك يضمه ثم يتركه حتى يبين له ان هذا الحدث منفك ظاهره منفكة عن حديث النفس منفكة عن رؤى الأحلام منفكة عن أحلام اليقضه ثم قال له :- (اقرأ بسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم *علم الإنسان مالم يعلم ) نزل صلى الله عليه وسلم خائفا وجلا الى زوجته خديجة .. خديجة ترك عندها صلى الله عليه وسلم عندها أبناءه وبناته فلم تحدث ماذا صنع البنين وماذا أصاب البنات لم تحدثه عن الجوع الذي قاسته(33/5)
وانما نسيت همومها في جانب همه صلى الله عليه وسلم .. آوته الى صدرها وضمته إليها ثم قال لها :- لقد خشيت على نفسي , فطمنته رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة دارها ومثواها .. وقالت :- والله لن يخزيك الله ابداً ثم عددت مناقبه انك لتطعم الفقير , وتعين على نوائب الدهر وتقول الصدق وأخذت تسرد له مناقبه وفضائله صلى الله عليه وسلم ....
فقدمت بذلك أنموذج لما ينبغي ان تكون عليه المرأة مع زوجها ان من كثير من الناس قد يأتي إليك محمول بالهموم مثقل بالخطايا ليس من الصواب ان تسرد عليه أنت وترده وتصده ولكن ينبغي ان تنسى همومك بجانب همه اذا أردت له النفع والفائدة ...(33/6)
ثم أخذت بيده الى ورقه بن نوفل ابن عمها وكان رجل له حظ من العلم واثر من كتاب فقال له :- ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى .. فشتاق الرسول صلى الله عليه وسلم الى الوحي لأنه سمع القران لكن الوحي انقطع ولم يأتي حتى يذهب الرعب ويبقى الشوق الى كلام الله جل وعلا تربيه من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تلك اللحظات قال أهل العلم انها بقيت ستة أشهر وهي مرحله فتور الوحي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن ما لله به عليم حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري ( ان النبي صلى الله عليه وسلم ربما يصعد الى شواهق الجبال يريد ان يتردى منها مما أصابه من حزن ومن شك في النفس عن الحادثة الأولى ) لكن بعض المحدثين من العلماء يقولون ان هذه الرواية على هيئه البلاغ وهي لا تصح وتنافي عصمه الأنبياء والله تعالى اعلم , وان كان نفيها اقرب الى الصحة أين كان الأمر عاش النبي صلى الله عليه وسلم فتره عصيبة وهي فتره انقطاع الوحي عنه حتى أصبح يشك في نفسه مما راءه في السابق , فلما أصبحت نفسه ذات شوق عظيم الى كلام الله اذا به صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث جابر يمشي في طرقات مكة فإذا الملك يناديه فيلتفت فإذا الملك على كرسي بين السماء والأرض قد سد مابين المشرق والمغرب يقول له ( ياايها المدثر * قم فانذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر ) ثم نزل الوحي فتتابع وحمي بأعظم من ذلك قال الله جل وعلا في إيه يبين فيها علو قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه فاقسم الله بمخلوقاته إرضاء له صلى الله عليه وسلم ( والضحى * والليل اذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى ) هذا الإشعار الإلهي الذي جاء على هيئه أيه قرانيه فيه من الإثبات من مكانه العظمى لرسولنا صلى الله عليه وسلم مكانه لايرقى إليها احد من الخلق كائن من كان الا انها في نفس الوقت لاتعطيه صلى الله عليه وسلم أي حظ من الالوهيه او الربوبية(33/7)
فالالوهيه والربوبية كمالها وتمامها لله عز وجل وحده لاشريك له فيها ابداً ...
اخذ صلى الله عليه وسلم يقوم بواجب الدعوة شيئاً فشيئاً وهو ما عرف تاريخياً بالدعوة في مرحلتها السرية تغير وجه قريش له ونالوا منه صلى الله عليه وسلم وساموه وأصحابه سوء العذاب .. وهو صلى الله عليه وسلم صابر محتسب يدعو الى ربه بالحكمة والموعظة الحسنه يدعو الناس الى التوحيد فكان أبو جهل يحمل راية السوء ضده حتى انه بلغ من أذى أبو جهل لرسولنا صلى الله عليه وسلم كما أورد البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود :- ان جزوراً نحرث بالأمس فلما كان في الغد جاء صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وصلى فقال أبو جهل وقريش في أنديتها :- أيكم يقوم الى جزور بني فلان فيصنع سلا الجزور على كتفي محمد صلى الله عليه وسلم فانبعث أشقى القوم عقبه بن أبي معيط فحمل الجزور فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فوضع سلا الجزور بين كتفيه الطاهرين صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود :- فلو كانت لي منعه لرفعته عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم انه ذهب إنسان الى فاطمة رضي الله عنها وأرضاها واخبرها الخبر فجاءت وهي جويريه يوم إذ فرفعت سلا الجزور عن كتفي نبينا صلى الله عليه وسلم فلما أتم صلاته دعى ثلاثاً وكان إذ دعى دعى ثلاثاً وسال الله ثلاثاً ثم قال ( اللهم عليك باابي جهل وعتبه بن أبي ربيعه وشيبه بن أبي ربيعه والوليد بن أبي عتبه وعقبه بن أبي معيط وأميه بن أبي خلف ) وسمى سبعه صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود فو الله لقد رأيت من سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر كما وعده الله صلى الله عليه وسلم ..(33/8)
إن وقفنا عند هذا الحدث هناك ياأخي أعراف وتقاليد تتغير من مجتمع إلى آخر والعاقل من يستفيد من تلك التقاليد والاعتراف ولا يصادمها ابن مسعود كان يعلم ان الأعراف الجاهلية لاتسمح للضعفاء ولا عديم الظهر من ان يكون لهم حظ من الناس فكان يعلم انه لا يمكنه ان يصل الى النبي صلى الله عليه وسلم الا وهو ميت فبقي على نفسه ولم يأتي ليرفع سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو من الإيمان والتقوى لا يعلمها الا الله وكانت الأعرف الجاهلية تنص عن حفظ المرأة وعدم العرض لها ولو بدأت بالأذى وكان موقف لفاطمة انها تقدمت بين صفوف الرجال وحملت سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم دون ان يصيبها أذى فالعاقل من الدعاة والحكيم من أهل الاستقامة من يتعامل مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بما يتوافق معها وهذه التقاليد والأعراف لاتبقى في كل زمان على هيئه واحده وانما تتغير الأعراف والتقاليد من عصر الى عصر ومن مكان الى مكان والشاهد والمقصود ان يوظفها الإنسان لصاع الدعوة والصالح هداية الناس الى طريق الله المستقيم ...(33/9)
عجزت قريش عن الأذى الجسدي الفردي فعمدوا الى الحصار العام فقدموا على أبي طالب فطلبوا منه ان يسلم إليهم ابن أخيه صلى الله عليه وسلم فأبى فقرر القرشيون مقاطعه بني هاشم لايناكحونهم ولا يبتاعون إليهم ولا يبتاعون منهم فآوى أبو طالب لبني هاشم وبني عبد المطلب في شعب لهن يقال له شعب بني هاشم ومكث الحصار ثلاث سنين والرسول صلى الله عليه وسلم وآله مؤمنهم وكافرهم ينالهم من الأذى ما الله به عليم ، بقي الحصار ثلاث سنين كان خلال مدة الحصار أبو طال على كفرة إذا هجع الناس وناموا يعمد على رسولنا صلى الله عليه وسلم فيأخذه لينام عنده ويأمر أحد بنيه أن ينام في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو همّا أحد بقتله يقتل أبنه بدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومع ذلك كله والله الحكمة البالغة لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله جل وعلا ومات على الكفر ولذلك حكمة لايعلمها إلا الله جل وعل
قبل أن ينتهي الحصار لايخلو صراع بين الحق والباطل من نشؤ أقوام كما يسمى في عرف السياسيين اليوم دول عدم الانحياز كانت في عصرنا هذا على هيئة دول لكنها في العصر السابق على هيئة أفراد فينشأ في المجتمع قوم حياديون ليسوا مع قريش وليسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان مادعى إليه رؤساء قريش وزعمائهم فتعاونوا على نقض المعاهدة ..
وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم أن يروا أهل المرؤات الذين لايخلو منهم زمان ولا مكان فيستفيدوا منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة ويوظف طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا ولايصادمهم حتى لايخسر الدعوة سند وقوة له هؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان لكن كان في قلوبهم رحمة وفي أنفسهم شهامة وخلال خصالهم مروءة وظفوها لنقض المعاهدة وتم لهم ما أرادوا ..(33/10)
ونقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار ..بعد الخروج من الشعب من شعب بني هاشم مات أبو طالب وماتت خديجة في عام واحد وقيل بين موتهما ثلاثة أيام ..فبدا له صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان لعل وعسى ...فخرج إلى الطائف فكانت أقرب الحواضر إلى مكة . خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله جل وعلا فلم يكونوا بأحسن حظاً من كفار قريش فسخروا منه وأمروا صبيانهم أن يرجموه فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه صلى الله عليه وسلم ولجأ على حائط في الطائف فلما لجأ إليه صلوات الله وسلامه عليه رق له بعض الكبراء فأرسلوا له غلام نصراني يقال له عداس ومعه قطف من عنب فلما وضع العنب بين يديه قال صلى الله عليه وسلم :بسم الله فقال الغلام : هذا شيء لايقوله مثل أهل هذه البلد فقال صلى الله عله وسلم : من أنت ومن من ؟ قال :أنا نصراني من أهل نينواء فقال صلى الله عليه وسلم :من بلدة النبي الصالح يونس بن متى قال الغلام : وما يدريك ما يونس أبن متى قال هو نبي وأنا نبي . فأكب الغلام على رسولنا صلى الله عليه وسلم يقبله حتى لامه سادة ثقيف يوم إذ .
ثم نزل صلى الله عليه وسلم وحيداً ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة فإذا انقطعت أسباب الأرض لجأ صلى الله عله وسلم إلى ربه فورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم بث إلى الله شكواه ورفع إلى الله نجواه وهو يعلم انه نبي مرسل لكن البلاء فيمن يستمع إليه فناجى ربه قائلاً (اللهم إليك اشكوا ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ارحم الراحمين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أن لم يكن بك عليّ سخط فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي ,أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت منه الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولاحول ولاقوه إلا بك )(33/11)
فتحت لهذا الدعوات أبواب السماء فما كان صلى الله عليه وسلم ينزل من الطائف من وادي نخلة حتى بعث الله إليه نفر من الجن مؤمنين به حتى تطمئن نفسه ويسكن قلبه ويعلم أن العاقبة له ( وإذا صرفنا إليك نفر من الجن القرآن ) فطمئنت نفسه شيئاً فشيئا صلوات الله وسلامه عليه ثم بعث إلى الملأ من قريش يخبرهم في رغبته في دخول مكة ويريد أن يدخل في حلف أحدهم فرده ثلاثة منهم ثم قبل المطعم بن عدي أن يدخل في جواره فدخل صلى الله عليه وسلم بجوار المطعم بن عدي رغم أنه مشرك استبقاء للمسلمين حتى لا يتعرضوا لأذى ثم بعد رحلة الطائف منّ الله عليه برحلة الإسراء والمعراج فجاءه جبرائيل وهو نائم في الحجر فشق صدره وغسل قلبه بماء في طست من ذهب ثم أفرغ في قلبه الطاهر إناء مليء إيمان وحكمة ثم قدم له البراق ثم اسري به صلى الله عليه وسلم إلى البيت المقدس حيث المسجد الأقصى وربط دابته في مربط الأنبياء هناك ، ثم عرج به على سدرة المنتهى لما صدّ أهل الأرض أبوابهم أمامه فتح الله له أبواب السماء فستقبله هنالك سادات الأنبياء بدأ بآدم ثم ابني الخالة يحي بن زكريا وعيسى بن مريم ثم يوسف بن يعقوب عليهم السلام ثم إدريس ثم هارون ثم موسى ثم أبوه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ثم وصل صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى جبرائيل مرة أخرى على هيئته التي خلقها الله عليها ..
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكته * والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك التفوا بسيدهم * * كا الشهد بالبدر أوكالجلد بالعلم
صلى ورأك منهم كل ذي خطر* ومن يفوز بحبيب الله يأتمم
ركوب لك من عز ومن شرف ** مافي الجياد ولافي الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته** وقدرت الله فوق الشك والتهم(33/12)
ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مضجعه الشريف ، ثم توالت الأحداث فلتقاء صلى الله عليه وسلم برهط من الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى ثم إلتقى برهط آخرين فكانت بيعه العقبة الثانية ثم أذن الله له بالهجرة إلى هذه المدينة مدينته صلوات الله وسلامه عليه .
هاجرت قبله جمع من أصحابه ثم تأمرت قريش وقررت قتله في مؤامرة مشهورة معروفة ثم أخرجه الله جل وعلا من بين أظهرهم دون أن يروه وهو يتلو (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا وأغشيناهم فهم لايبصرون ) ثم إلتحق بصاحبه أبي بكر وأوى إلى غار في جبل ثور عرف بغار حراء ومكث في الغار والطلب والرصد تبع له مرة بعد مرة ورسولنا صلى الله عليه وسلم في الغار
أمرغ في حراء أديم خدي *** دوام في الغداة وفي العشي
لعل ان أنال بحر وجهي *** تراب مسه قدم النبي
مكث صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام وقريش تبعث الطلب والرصد فيه فوقفوا على مقربه من الغار وأبو بكر يقول :يارسول الله لو أن احدهم نظر أسفل قدميه لرآنا فيقول : يا أبا بكر ما بالك بثنين الله ثالثهما ) هذا نصر الله جل وعلا على هيئة كتمان آتاه الله جل وعلا نبيه فلما سكن الرصد وقل الطلب خرج صلى الله عليه وسلم من الغار وصاحبه متوجهاً نحو هذه المدينة المباركة كانت الأنصار قد بلغهم خروجه صلى الله عليه وسلم فيخرجون كل يوم ينتظرون آوبته ينتظرون قدومه حتى إذا أشتد عليهم وهج الشمس رجعوا إلى دورهم فلما كان اليوم الذي وصل فيه صلى الله عليه وسلم خرج رجل من اليهود على آطام من آطام المدينة فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عرفهم فنادى بأعلى صوته :يابني قيله ـ وهو جد يجتمع فيه الأوس الخزرج ـ هذا جدكم الذي تنتظرون فسمع في المدينة التكبير وأبتدر القوم إلى السيوف وخرجوا يستقبلون نبيهم صلى الله عليه وسلم .(33/13)
بالأمس خرج من مكة شريداً طريداً في ظلمة الليل ثم مالبث أن نصره الله فدخل المدينة كأعظم مايدخلها الملوك والأنصار من حوله كلما مر على ملاْ قالوا هلّم إلى العدد العدة هلّم على العز والمنعة يارسول الله وهو يقول : خلوا سبيلها فإنه مأمورة حتى بركت الناقة في موطن مسجده اليوم صلوات الله وسلامة عليه على مقربة من بيت أبي أيوب فعند أبو أيوب إلى متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله في بيته وقال له عليه الصلاة والسلام المرء مع رحلة بنى مسجده وبدا يضع النواة الأولى لدولة الإسلام صلوات الله وسلامة عليه ثم جاءت الغزوات فكانت غزوه بدر وهي حدث عظيم ولكن من أعظم مايلفت النظر فيها انه صلى الله عليه وسلم بعد ان اخذ بالأسباب المادية وجهز الجيش واعد العدة لجاء الى ربه ...
فاللجوء الى الله جل وعلا لايستغني عنه احد كائن من كان مهما عظمت قدرتنا وبلغ حولنا مابلغ وزادت قوتنا وحاجتنا الى الله حاجه ابديه ملحه لأننا فقراء الى الله جل وعلا مهما بلغنا ...
مكث صلى الله عليه وسلم في العريش يناجي ربه حتى سقط رداءه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأتيه من خلفه ويضمه ويقول :- بعض مانشدت ربك يارسول الله, فانزل الله ( اذا تستغيثون بربكم فستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) فكان النصر له صلى الله عليه وسلم ..(33/14)
فلما قّّر الله عينيه بالنصر ووضع القتلى في قليب بدر نظر إليهم صلى الله عليه وسلم واخذ يقول :-يافلان ابن فلان , يافلان ابن فلان واخذ يناديهم بأسماهم هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فاني وجدت ماوعدني ربي حقاً فتعجب أصحابه وقالوا :- يارسول الله تكلم قوماً قد جيفوا ؟ قال :-ياعمر والله ماانتم بما اسمع بما أقول منهم ولكنهم لايملكون جواباً .. وعاد صلى الله عليه وسلم كان هذا النصر أعظم مايكون المسلمون في حاجه إليه حتى تطمئن أنفسهم ويثقوا بنصر الله لأنها أول نزال بين أهل الكفر وأهل الإيمان بعد ان إذن الله للقتال ثم كانت احد وما أدراك ما احد فيها من العظات الشيء الكثير لكن فيها ان وجهه صلى الله عليه وسلم كان نوراً يتلالاء كأنه فلقت قمر ومع ذلك يريد الله ان يثبت ان الكمال المطلق لله وحده سبحانه فيشاع في ارض المعركة انه صلى الله عليه وسلم قتل فيشج رأسه وتكسر رباعيته ويسيل الدم على وجهه الشرف ثم يمسح صلى الله عليه وسلم وجهه الطاهر بيديه ويقول ( كيف يفلح قوم خفضوا وجه نبيهم وهو يدعوهم للإسلام ) فينزل الله جل وعلا عليه قوله ( ليس لكم من الأمر شيء او يتوب عليه او يعذبهم فإنهم ظالمين ) فالأمر كله لله جل وعلا وحده ..(33/15)
وليت بني قومي اليوم اذا سمعوا بهلاك احد او بموت احد لايشغلوا أنفسهم هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار فهذه أمور لله تبارك وتعالى وحده ولم يكلفنا الله تبارك وتعالى بان ندخل من نشاء الى الجنة او نحرم من نشاء فيها او ان ندخل من نشاء الى النار او ان نمنع من نشاء فيها الجنة والنار بيد الله العزيز الغفار والله جل وعلا اعلم بخلقه واعلم بما تكنه صدورهم هو تبارك وتعالى أسرع الحاسبين وقد قال بعض الصالحين لابنه ينصحه ( يابني ان الله يسألك لما لم تلعن فرعون مع ان فرعون ملعون في كتاب الله لكن المؤمن العاقل مثل هذه الأمور لايلقي لها بال ولا يشغل بها نفسه فالجنة والنار بيد أسرع الحاسبين وبيد رب العالمين وبيد ارحم الراحمين ولن يسألنا الله منهم أهل الجنة ومنهم أهل النار لكننا لأنفسنا نسال الله الجنة ونستجير بالله تعالى من النار وفي مسند البزار ( ان لا اله الا الله كلمه كريمه على الله من قالها في الدنيا صادقاً دخل الجنة ومن قالها في الدنيا كاذباً حقنت دمه وحسابه على الله جل وعلا فالعاقل لايشغل نفسه بما لايعنيه لكنه في حوادث الدهر يحكم فيهن ما أمر الله فيه ورسوله أما الحوادث الأخروية فلسنا مسؤلون عنها لان علمها عند ربي في كتاب لايضل ربي ولا ينسى ....(33/16)
في غزوه احد أراد الله جل وعلا ان يربي المسلمين على ان القادة العظماء والزعماء الأفذاذ لايربون الناس بالتعلق بذواتهم وعلى حبهم والمبالغة في الغلو بهم ولكنهم يربون الناس على التعلق بالله جل وعلا فلما أصاب المسلمين مااصابهم يوم احد قال الله جل وعلا معاتباً أهل الإيمان ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقيبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) ( وما كان لنفس ان تموت الا بإذن الله كتابا موجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤتيه منها ومن يرد ثواب الآخرة نوتيه منها وسيجزي الله الشاكرين ) فالعاقل لايربي الناس على التعلق به وانما يربيهم على التعلق باله الكون وحده فلا اله الا الله تعني ان الكمال المطلق والحب المطلق والتوحيد المطلق والتكبير المطلق لا يكون الا لله جل وعلا وحده فإذا كان سيد الخلق وجوده رحمه وعدمه لا يضر المسلمين شيئاً اذا اعتصموا بما جاء به كان غيره أولى وأجدر ان تطبق عليه القاعدة فكان صلى الله عليه وسلم حيه الدين حي الدين الذي جاء به أما هو صلى الله عليه وسلم فيجري عليه قم القضاء ( انك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) فهذه أعظم ما خرج المسلمون منه يوم احد من تربيه إلهيه لهم , ثم كانت غزوه الأحزاب تجمعت قريش ثم قدموا الى رسولنا صلى الله عليه وسلم في مدينته فستشار الناس فأشار عليه سلمان الفارسي ان يحفر الخندق والخندق وسيله حربيه مجوسية أخذها سلمان من أهل فارس لم يكن للعرب عهد بها او علم ان ذلك ...
وهنا نأتي بما عرف بعصرنا بصراع الحضارات ينبغي أهل التقوى مابين التقارب الديني وما بين التقارب الحضاري الدين ياأخي صنع الهي لا يمكن لأحد ان يزيد فيه او ينقص والحضارة صنع إنساني قابله بالزيادة والنقصان قابله لأخذوا العظمى قابله للتلاقح بين الأمم اذا تقاربت وتنافست ..(33/17)
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورة سلمان وعمل بالخندق لما رأى فيه مصلحه يقوم به صلاح أمته ولم يقل حينها صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم ) من تشبه بقوم فهو منهم محول على من تشبه بهم في أمور الدين أما الصناعات الانسانيه فليس ملكاً لأحد ولقد كانت العرب لا تأتي المرأة وهي مرضع خوفاً على ان يؤثر الإتيان على الرضيع فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان فارس والروم تصنع ذلك ولا يضر أبناءها شيء لم ينهى أمته عنه كما روى مسلم في الصحيح عن حديث جابر رضي الله عنه .
فالحضارات حق مفتوح وأمر مشاع يجوز للامه ان تأخذ منه اذا رأته ان في ذلك مصلحه والحكمة ضالة المؤمن ان وجدها أخذها , أما الدين (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ما عندنا من الدين يمنعنا ان نأخذ ولو قطره من سقى من أي دين او مله على وجه الأرض لان الله يقول ( ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )(33/18)
ثم توالت الأمور حتى كانت السنة السادسة فعزم صلى الله عليه وسلم على التوجه الى مكة معتمراً واخذ معه رهطاً من أصحابه معهم السيوف في رقابها , فلما دنو من البيت العتيق منعتهم قريش ان يدخلوها فجرى وأجرى من التفاوض تريد قريش ان تطمئن ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتي للقتال فكان ان بعث صلى الله عليه وسلم عثمان لأنه كان منيعاً عزيزاً في بني أميه وكان أكثرهم مشركاً حين ذاك ثم أشيع ان عثمان قد قتل فبايع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم نبينا صلى الله عليه وسلم على الموت تحت ظل شجره مثمره والذين بايعوه ألف وأربع مائه رجل كلهم الا الجد ابن قيس كان رجل منافق لم يحضر البيعة قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء انتم خير أهل الأرض وقال لهم :- لا يدخل النار بايع تحت الشجرة , ثم انه صلى الله عليه وسلم بسط يمينه وقال هذه عن عثمان ثم بسط يساره يبايع نفسه بنفسه قال العلماء ( وكانت يد رسول الله لعثمان خير من يد عثمان لعثمان نفسه ) بعد هذه البيعة وبعد مداولات اقر الصلح بين المسلمين والكفار والصلح ظاهر ان فيه إجحاف بحق المؤمنين فباطنه الرحمة اذا وضعت الحرب وألقت أوزرها وخمدت الناس واخذ ذوي العقول يفكرون في الطرائق المثلى للحصول الى الإيمان ..
ان هناك أناس يرزقهم الله جل وعلا عقولاً ويمنعهم من الاستفادة منها حجب التقليد التي يضعونها أمامهن ..(33/19)
أبو جهل كان يعلم ان محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ورأى من الآيات ما يشهد له بذلك لكن الحسد والتقليد الأعمى منعه وكان سبباً في حرمانه عن دخوله الإيمان أما سرقه بن مالك لما تبع النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الايه لما ساخت قوائم فرسه او من ان النبي صلى الله عليه وسلم حق وعرف الايه ونبذ التقلد رأى ظهره خلال هذه الفترة بعد الصلح رجع عقلاء الناس الى أنفسهم واخذوا يناقشونها ويحاسبونها ودخل كثير من الناس أفواج في دين الله فانقلب ذلك العدد من ألف أربع مائه الى عشره آلاف يوم فتح مكة كما سيأتي ثم عاد صلى الله عليه وسلم الى المدينة وفي العام الذي بعده كانت عمره القضاء ثم انه صلى الله عليه وسلم غزى خيبر ثم لما كان العام الثامن كانت من بين شروط صلح الحديبية أن شاء أن يدخل في حلف محمد دخل ومن شاء ان يدخل في حلف قريش دخل فدخلت بني بكر في حلف قريش ودخلت خزاعة في حلف النبي فأعانت قريش بكراً على خزاعة فقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنصر بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : نُصرت ياعمرو بن سالم ثم جهز صلى الله عليه وسلم جيشه وقدم على مكة في عشرة آلاف من أصحابه ودخلها صلى الله عليه وسلم دخول عظيم أظهره الله عز وجل فيه دخلها من أعلاها من كداء وعلى يمينه أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه يحمل اللواء لكنه صلى الله عليه وسلم طوال دعوته وجهاده لم يكن يطلب حظاً لنفسه وإنما كان يريد أن يبلغ رسالة ربه فلما أظهره الله دخل صلى الله عليه وسلم مكة مطأطأ رأسه حتى أن لحيته الشريفة كانت تمس وسط راحلته تواضع لله عز وجل حتى يعلم الخلق أن التواضع لله أعظم أسباب النصر فدخل صلى الله عليه وسلم وهو مطأطا رأسه متواضع لربه على بغلته طاف بالبيت العتيق سبعاً وأشار إلى الأصنام في عود بيده وهو يردد (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )ثم سال عن عثمان بن أبي طلحة وكانت الحجابة البيت عندهم يوم(33/20)
إذ ومازالت وفتح له باب الكعبة ودخل بها صلى الله عليه وسلم ووجد فيها صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فخرجت ثم كبر في نواحي البيت وصلى ركعتين ثم خرج فلما خرج بادرة علي رضي الله عنه قائلاً : يارسول الله أجمع لنا السقاية والحجابة فقال صلى الله عليه وسلم : - أين عثمان بن أبي طلحة ؟ قال : أنا يارسول الله فأعطاه مفتاح الكعبة وقال : اليوم يوم بر ووفاء خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم فإلى اليوم مفتاح الكعبة بيد بني شيبة يفتحون البيت متى شاءوا (وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمّر على مكة عتاب بن أُسيد قبل أن يدخلها أسلم أبو سفيان جيئا به إليه فقيل له يارسول الله ان أبا سفيان رجل يحب الفخر فقال صلى الله عليه وسلم :- ومن دخل دار أبو سفيان فهو امن ...
الزعماء من الناس الذين تربوا على القيادة من الصعب ان تسلبهم حقهم بالكلية فان ذلك يحدث تغير في أنفسهم ونحن مابعثنا لنخاصم الناس في دنياهم إنما بعثنا كدعاة علماء لان تنقذ الناس من الضلالة فترك للناس دنياهم يتركوا لك دينك ..(33/21)
قال صلى الله عليه وسلم ( من دخل دار ابوسفيان فهو امن ومعلوم ان دار أبو سفيان لا تحمل أكثر من عشره نفر ولكن عندما يعلن في الملا وفي بيوت مكة من دخل دار أبو سفيان فهو امن يصيب أبا سفيان من الرضى مايصيبه ويناله من الفخر مايناله دون ان يضر الإسلام شيئا ثم عرج صلى الله عليه وسلم على هوازن وعلى ثقيف فكانت غزوه حنين وغزوه الطائف غر كثير من المسلمين ماهم فيه من كثره العدد ثم ثبت الله نبيه صلى الله عليه وسلم وال الأمر الى نصره صلى الله عليه وسلم وعند منقلبة من الطائف بدأ له ان يقسم الغنائم فأعطى أربعه من روساء الناس يوم إذ ممن اسلم حديثاً ألف بعير لكل واحد وقسم كثير من الغنائم على عدد بلغ الستين عند جمهره المورخين ولم يعطي الأنصار شيئاً صلى الله عليه وسلم فحز ذلك في انسفهم وتغيرت بعض قلوبهم فقال حدثاء الأسنان منهم :- ( يغفر الله لرسول الله يعطي قومه وان سيوفنا لتقطر من دماءهم ) فبلغ ذلك القول رسولنا صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم من العلم والقدوة بمكان عظيم لايرتقي إليه احد ...
ياأخي القادة العظماء لايتركون الحزازات في النفوس لكل إنسان مشاعر وأحاسيس وأراء لو أننا كبتناها لنقلبوا علينا لكن لا يمكن ان ينجح أمير في بلدته ولا زعيم في دولته ولا أب في بيته ولا معلم في فصله ولا مربي في حلقته اذا كان لايستمع الى مشاعر وأحاسيس من هم تحته فالله جل وعلا كلم موسى واستمع إليه وهو مخلوق من مخلوقاته ( قال ربي إني قتلت منهم نفساً فاخف ان يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فارساه معي رداء يصدقني ان اخف ان تكذبون ) والله يعلم كل ذلك من قبل ان يخل موسى ومع ذلك استمع إليه فهو الله جل وعلا ولله المثل الأعلى ...(33/22)
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في قبة ثم قال لهم في معالجه تربويه تقصر عنها بيان البلغاء قال ( مامقوله بلغتني عنكم الم تكونوا إضلالا فهداكم الله الم تكونوا عاله فأغناكم الله الم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا :- بلى يارسول الله , لله ورسوله المنة والفضل . فقال :- الا تجيبوني ؟ قالوا :- بما نجيب يارسول الله فتولى الاجابه عنهم وقال ( إنكم لشئتم لقلتم فلتصدقتم ولصدقتم أتيتنا طريداً فآويناك وعائلاً فاسيناك ومخذولاً فنصرناك ثم قال صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار :أوجدتم في أنفسكم عليّ في لعاعة من الدنيا أسلمتها إلى قوم حديثو عهد بإسلام وأوكلتكم إلى ما جعل الله في قلوبكم من الإسلام يامعشر الأنصار أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ) فبكى القوم رضي الله عنهم وأرضاهم وقالوا : رضينا بالله ربا وبرسول الله قسماً وحظا فقال صلى الله عليه وسلم : (اللهم أغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) فانقلبوا راجعينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن حاجتنا الملحة لأن نستمع إلى الغير وإن من أعظم الأخطاء في التربية والدعوة أن يجعل الإنسان من نفسه سلطان على الغير يفكر بدل منهم ويشعر بدل منهم ويرى ماحولهم بدل منهم ذلك أسلوب فرعوني نقله القرآن قال فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) وقد قيل :
زمان الفرد يافرعون ولى * * * ودالت دولة المتجبرين
وأصبحت الرعاة بكل أرض * * * على حكم الرعية نازلين(33/23)
قصر الرسول صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المدينة ،وفي ذلك العام كان عام الوفود فبدأت وفود العرب تقدم إلية صلوات الله وسلامه عليه وكانت من الوفود التي قدمت وفد جيزان وكان وفد جيزان مسيحي يعبدون المسيح عيسى أبن مريم فلما قدموا عليه صلوات الله وسلامه عليه أخذوا يجادلونه ويقولون له كيف نتبعك وأنت تنتقص صاحبنا وتقول إنه عبد الله ورسوله قال :نعم عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فقالوا :كيف يكون عبداً لله ورسوله أرأيت ولداً ولد من غير أب فأنزل الله جل وعلا قوله (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين ) فلأن كان عيسى ولد من غير أب فإن آدم خلق من غير أب وأم فجاءوا بالغريب فجاءهم الله بما هو أغرب رد على حجتهم فلما قال لهم صلى الله عليه وسلم ذلك أبوأ أن يسلموا له فدعاهم إلى المباهلة فدعي علي والحسن والحسين وفاطمة وقال :إن أنا دعوت فأمنوا وأنزل الله قوله ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعوا أبنائنا وأبنائكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) فعرفوا أنه النبي الله حقا لكنهم لم يؤمنوا وخشيوا من المباهلته ثم إنهم صالحوه على ألف حلة تؤدى له صلى الله عليه وسلم مرتين في العام وأشياء أخر.(33/24)
وفي عصرنا هذا نشأ مايسمى بتقارب الأديان وبحوار الأديان فأما حوار الأديان فلا حرج فيه شرعاً إذا أراد المحاور المسلم أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله جل وعلا رب لارب غيره ولاشريك معه أما تقارب الأديان فأمر مرفوض لأنه لايمكن أن تلتقي الأديان في شيء واحد فإن ذلك فيه تنازل عقدي والمسلمون أمرهم الله أن يقولوا ( قل يأيها الكافرون لاأعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد )فالمسلم على ملة حنيفية بيضاء لاينبغي أن يحيد عنها مثقال ذرة وليس هناك مصلحة ترقى على مصلحة التوحيد ولامفسدة أعظم من مفسدة الشرك وما يسمى بتقارب الأديان يفضي إلى ترك التوحيد وإلى القرب من الشرك وقد قال الله جل وعلا ( ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .
ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان العام العاشر فأعلن لناس عزمه على الحج فلما أعلن عزمه على الحج صلوات الله وسلامه عليه تسارع الناس لذلك وقدموا إلية حتى يأتموا به فخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن أحرم من ذي الحليفة مهللاً مكبراً حتى وصل مكة وطاف في البيت سبعاً ثم رقى الصفا وقال أبدأ بما بدأ الله به ثم أتم نسكه صلى الله عليه وسلم حتى أتى يوم الثالث عشر فنزل بعد أن رمى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر ثم نزل في حيف بنى كنانة صلوات الله وسلامه عليه وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم أضطجع ثم لما كانت صلاة الفجر نزل إلى الحرم قبل صلاة الفجر ثم طاف طواف الوداع ثم صلى بالناس صلاة الفجر ثم قفل راجع إلى المدينة يكبر على كل شرف من الأرض لما دنى منها ويقول :آئبون تائبون عابدون ولربنا حامدون ) صلوات الله وسلامه عليه .(33/25)
ثم أشتكى الوجع وبدأ يشعر بتغير حالة واشتدت عليه الحمى فلما شعر بدنو أجله خرج صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فستغفر لأهله ثم خرج إلى أحد فشهد لشهداء معه ثم تصدق صلى الله عليه وسلم بدنانير كانت عنده وأعتق غلمانه ثم إن صلوات الله وسلامه عليه مكث ينتظر أجل ربه يوماً بعد يوم والحمى تشتد عليه حتى كان صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على الأظهر والأصح من ربيع الأول فكان صبيحتها اطل من ستار بيته فرأى أصحابه يصلون صلاة الفجر مأتمين بابي بكر فقرت عينه وسكنت نفسه بعد أن رآهم مجتمعين على إمام واحد خاشعين لربهم وبذلك أرسل ولذلك دعي ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد على فراشه واشتدت عليه وطئت الحمى ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي فمه سواك ثم أستاك صلوات الله وسلامه عليه ثم مازال يردد : بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى .ثلاثاً ثم فاضت روحه وأنتقل إلى رحمة خالقة ومولاه ،خير من أرسل وأجل من بعث صلوات الله وسلامه عليه بعد إن أدى الأمانة ونصح وبلغ الرسالة ونصح الأمة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك.
ولاينبغي لمن يقف مع السيرة وينظر في مسيرتها أن يغفل عن شيء مهم وهو انه صلى الله عليه وسلم كان له من كريم الصفات وجميل النعوت ما تحبب الناس إليه وأجتمع عليه صلوات الله وسلامه عليه وكان في كل حينه منقطع إلى ربه دائم الصمت عليه من السمت والوقار ماعليه حتى إنه صلى الله عليه وسلم تفقده عائشة ذات ليلة فإذا هو في المسجد منتصبة قدماه يقول في سجوده ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)(33/26)
أيها المؤمنون هذه قطوف من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم منّ الله علينا وعليكم وأبحرنا خلالها من خلال ساعة كاملة وإننا مهما قلنا مقصرون ومهما تحدثنا لن نبلغ الصواب كله ولن نبلغ الكمال كله لكن إن كان من وصية أختم بها فإن الله جل وعلا شرفنا بأن جعلنا من أمه محمد صلى الله عليه وسلم وفي عصرنا هذا من أسباب الفجور وأسباب البعد عن الله ما لايخفى على أحد والبعد عن أسباب الفجور والسلامة منه
إن السلامة من سلمى وجارتها * * * أن لاتمر على سلمى وواديها
ويحتاج الأمر هذا كله إلى صبر على هدي محمد صلى الله عليه وسلم فليوطن أحدنا نفسه على الصبر وليؤطنها على إتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعلم أن هذه الفتن التي تتابع شررها وتفاقم خطرها إنما هي بلاء وفتنة يصف الله جل وعلا به من يشاء فمن أخلص لله نيته وصلح قلبه واستقامة سريرته ووفق للصواب وهدي إلى سبيل الرشاد وهذا والله تعالى أعز وأعلم وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين .
.. أمل الأمة(33/27)
علماء المدينة
للشيخ صالح بن عواد المغامسي
الحمد لله الذي أحسن كل شئ خلقة وبدأ خلق الإنسان من طين وأشهد أن لااله إلا الله وحده لاشريك له إله الأولين وإله الآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .....
أما بعد
فإن الله جل وعلا اصطفى أنبيائه من سائر خلقه قال جل ذكره وعلا اسمه ((الله أعلم حيث يجعل رسالته )) وقال عنهم (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )) وختم الله جل وعلا أولئك الصفوة ببعثة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى " ما كان محمد أبا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما " فلما تعلقت النفوس بذلك الهدي الذي علمه الله جل وعلا أنبيائه قال صلوات الله وسلامه عليه " العلماء ورثة الأنبياء " فمن أراد أن يكون على منهجهم ويسير على طريقهم لزمه أن يطلب العلم الشرعي فيزدلف بذلك إلى ركب الأنبياء وسِير الأخيار من المرسلين وكلهم ذو خير...
أيها المؤمنون(34/1)
بعض المحاضرات الترتيب الأكاديمي فيها يذهب بهجتها ويضيع البغية منها،، فحديثنا اليوم قد لايكون ذو ترتيب أكاديمي صرف رغم انه يخاطب وينادي في المقام الأول طلبة العلم والمحبين للعلم والمحبين للعلماء فنقول والله المستعان يجب أن يحرر أولا أن العلم فضل من الله ليس محصورا في احد ولا قبيلة ولا مدينه ولا عنصرا ، وجد في الأمة علماء من العرب ووجد في الأمة علماء من الموالي ووجد في الأمة علماء من جزيرة العرب ووجد في الأمة علماء من غيرها فعرف الناس الإمام البخاري ومسلم وغيرهم وبعض العلماء عرف نسبه العربي بل بعضهم هاشمي وبعضهم مطلبي كالشافعي رحمة الله لكن العلم مع ذلك ليس محصورا في احد كائن من كان وإنما هو فضل من الله جل وعلا يؤتيه من يشاء والرب تبارك وتعالى لايخص به احد دون سواه لفضلٍ في ذاته على هذا ساحة العلم مفتوحة لكل احد ليست محصورة في مدينة ولا قرية عن قرية لكن المحاضرة التي نحن بصددها اليوم الترتيب لها قُدّر أن يكون عن علماء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يقيننا وعلمنا إن العلم ليس محصورا في هذه المدينة المباركة رغم أنها مدينة سيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه 0
الأمر الثاني إن سير العلماء إذا أراد الإنسان أن يتأملها فإن أهل التحقيق يقولون إن هناك ثلاث جهات للنّظر في حياة العلماء هذا النظر ينقسم إلى ثلاث جهات :
الوجهة الأولى : وجهة سيرهم وأخلاقهم وتعاملهم مع الناس .
الجهة الثانية :جهة المنهج العلمي الذي اتبعوه.
الجهة الثالثة :التراث العلمي الذي تركوه .(34/2)
فمن أراد أن ينظر في سير الأمة الكبار والعلماء الأفذاذ فلينظر من هذه الثلاث فلينظر من سيرهم وأخلاقهم ولينظر في منهجهم ثم لينظر فيما تركوه من تراث علمي والمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام اختارها الله مُهاجرا لخير خلقه وصفوة رسله دخلها صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين وكان قد هاجر من مكة يوم الاثنين ومكث في الطريق أسبوعين ثم بعد ذلك يوم الجمعة من نفس الأسبوع على الصحيح دخلها بلدةً لأنه كان قد أناخ مطاياه أول الأمر بقباء فبنى مسجده عليه الصلاة والسلام فالمسجد النبوي هو المُنطلق الأول لعلماء المدينة عبر القرون كلها ، هذا المسجد أول من درس فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم وسيبقى بإذن الله شامخا يُتلقى العلم فيه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، هذا المسجد شهد الصحابة وهم يتحلقون حول نبينا عليه الصلاة والسلام والنبي عليه السلام يعلمهم ويحث على العلم ويرغب فيه ويدل الأمة عليه ويقول " أما الأول فأقبل فأقبل الله عليه وأما الثاني فاستحيى فاستحيى الله منه وأما الثالث فأعرض فاعرض الله عنه " لما ذكر الثلاثة الذين رأو حلقته صلوات الله وسلامه علية .
ولهذا كان الإمام عبد العزيزبن باز رحمة الله عليه أيام ماكان عندنا في المدينة قبل أن يذهب إلى دوامه في مكتبة في الجامعة الإسلامية كان يصلي في الصف الأول من الحرم فإذا خرج وبدأت حلقات العلم كان يمُر رحمه الله على كل حلقه حتى يخرج من عهدة حديث " وأما هذا فاعرض فاعرض الله عنه " ثم ينطلق رحمه الله إلى عمله في الجامعة .
هذا المسجد شهد منارات شامخة هذه المنارات الشامخة العلمية هم أحد فريقين :
إما رجلٌ أصلاً من أهل المدينة مولده ووفاته .
وإما رجل قدم إليها ثم سكنها وجاور فيها ونشر ما أفاء الله عليه من علم بها .
وهذا من حيث الإطلالة العامة 00000(34/3)
التاريخ الإسلامي إذا ذكر والأئمة الأربعة إذا دون تاريخهم لا يمكن أن يهجر أو يترك مالك رحمه الله ومالك رحمة الله قطعا ليس من المعاصرين والمحاضرة عن المعاصرين لكن نبدأ به رحمة الله لأنه عالم المدينة الأول من حيث الشهرة ولذلك يسمى بإمام دار الهجرة وإلا شهدت المدينة من الصحابة ومن غيرهم علماء أعظم من مالك علما لكن مالك ارتبط اسمه بالمدينة لأنه ما تركها وكان يدرس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أحيانا البيئة والمكان يساعد المتكلم كثيرا فمالك يقول عن العلماء ما منّا إلا واردٌ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر لا يتأتى لأحد إلا إذا كان يدرس في الروضة التي كان يدرس فيها مالك رحمه الله أو ينقل قول مالك على سبيل الحكاية لكن لايستطيع احدٌ في أقصى الأرض أن يقول مامنا إلا وارد ومردود عليه علاما يشير وإلى ما يرفع يده لكن مالك رحمة الله كان قريبا من قبر نبينا صلى الله عليه وسلم .
موضع الشاهد من ذلك إن مالك يقول الشافعي رحمة الله إذا ذكر العلماء فمالك النجم شرح مالك رحمة الله في المدينة الموطأ ومنه أي من المدينة انتشر الموطأ في أصقاع الأرض وكان أبو جعفر المنصور رحمة الله قد قال لمالك [ وطأ لناس كتابا تجنب فيه شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس ] وطالب
العلم الحق المؤصل يفقه هذه الوصية جيدا [ وطأ لناس كتابا تجنب فيه شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس ] ومنذ أن كان الناس كان هناك علماء يحملون طابع الشدة في الله ، وهناك علماء يحملون طابع الرخص في الله على بينه على علم ولا يقال لفريق انه متنطّع ولا يقال للأخر انه قد ميع الدين .
لكن الناس في زماننا بعضهم عفا الله عنّا وعنهم إذا غلبت عليه الشدة قال فلان ضيع الدين وإذا غلب عليه الأخذ بما يمكن أن يسمى بالرخص تجوّزاً - ليس بالرخص ذات البعد الآخر - يقول فلان تنطّع وعقد الدين.(34/4)
لكن منذ إن كان الناس كان الاختلاف موجود إما اختلاف تنوع أو اختلاف على حسب فهمهم للنصوص وكلما كان الإنسان في بيئة علميه زاخرة كان الإنكار العلمي عنده قليل جداً وإنما يُكثر من الإنكار العلمي من كان قليل البضاعة في العلم أو كان في بيئة غير مليئة بالعلم لأنه لا يسمعُ إلا رأياً واحدا ، أما المسجد النبوي كان زاخرا بالعلماء مع تنوع رؤيتهم للإحداث وللنصوص فلهذا نشأ القبول من طرف لطرف كما في عهد التابعين والعهد الذي عاش فيه مالك رحمة الله تعالى عليه .
ومالك رحمه الله وطأ للناس كتابا خالف فيه غيره وخالفه غيره لكن كانت الساحة الإسلامية العلمية تتسعُ الجميع لأنه ليس قول فلان بأولى من قول فلان إنما هي نظرات علميه وقد حرر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه {رفع الملام عن أئمة الأعلام } الأسباب التي من اجلها اختلف العلماء وليس هذا موطن ذكرها لكن المقصود بيان البيئة العلمية في المدينة آنذاك ولهذا الطلب العلمي يحتاج إلى نفس ذات روي تخطو خطوةً خطوة لا تُعالج أمورها باندفاع والإنسان كلما كثرُ علمه قلّ إنكاره قل إنكاره للمسائل ذات طابع الخلاف ليست المسائل المقطوع بنُكرانها التي حرمها العلماء مثل الغناء وما أشبه ذلك هذه قضية أخرى أنا أتكلم عن القضايا العلمية التي اتسعت فيها أراء المذاهب الاسلاميه منذ القدم..
فمثلا حلي الزكاة المستعمل هذا منذ أن كان الناس والخلاف فيه مشهور.
ومثلا الجلوس لتشهد الأخير وكيفيته .(34/5)
هذا في المذاهب الأربعة فيه أربعة أقوال كل إمام استبان فيه قول فهذه المسائل واضرابها لايمكن لمن طلب العلم حقا أن يكثر من الإنكار فيها وإنما في ساحة العلماء يحصل البحث والمناظرة والاستقصاء رفعاً للخلاف و علواً بالهمم وكسباً في المعارف وهذا الذي كان مؤصلا في مجتمع المدينة آنذاك لمل قال أبو جعفر لمالك [ احمل الناس على كتابك قال يأمير المؤمنين لاتفعل فإن أصحاب محمد علية الصلاة والسلام ورضي الله عنهم تفرقوا في الأمصار] ولكل رأيه ودليله ولايمكن جمع الناس إليه ولذلك بعض العلماء لايخوض في الأفضل لان الأفضل كل بحسب رؤيته .
وشيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى عليه حج مفردا فلما حج مفردا ناقشه سماحة المفتي محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى عليه لماذا تفعل هذا قال أنا لا افعله لأنه الأفضل لان الأفضل مسألة لا تُناقش كل عالم يرى أن الأفضل من وجه ولكنني فعلته عمدا لأرد على من يقول انه يجب أن يتحلل الإنسان من عمرته ولهذا كما قلت انه كلما قل الزاد العلمي كثر الإنكار وترى أحدا يتصدر في مجلس أو على منبر أو على خطبة فيبطل شئ مضى عليه فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا يُعقل أن يكون فهمك أعظم من فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
والمقصود من هذا عندما يطرح الإنسان هذا يكون دل على قلة البضاعة في العلم نحن لا نقول انه يجب أن تأخذ برأي زيد أو عمر لا لكن ليس من حق احد أن يفرض على الناس رأياً يعتقد أنه الصواب ويعتقد أن الحق محصورا فيه بل كان الأكابر من العلماء يخشون من هذا وهذا المعنى الحقيقي لقول الأمة الأربعة [ إذا خالف مذهبي قول الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط].
المقصود من هذا تحرير الأمر أول قبل الخوض في ذكر سير علماء المدينة وتحرير مسائل علمية يجب أن يتنبه لها من يطلب العلم .(34/6)
العلمُ كذلك يحتاج إلى نقل وعقل يحتاجُ إلى نقل صحيح والى فهم وإدراك لهذا النقل قال صلى الله عليه وسلم " رب حامل فقه لمن هو افقه منه " ومالك رحمه الله - ونحن ما زلنا في الحديث عن مالك - أشار إلى سوار المسجد وقال والله أدركت في هذا المسجد أكثر من سبعين والله يستسقى بوجههم الغمام يعني قوم صالحون لا يفارقون المسجد وإن منهم لو أؤتمن على بيت مال المسلمين لوجدته أمينا ولم أأخذ عنهم حديثا واحدا قالوا له لما يا عبد الله قال إنهم ليسوا من أصحاب هذا الشأن يعني عُباد لا يعرفون كيف ينقلون العلم قد يُغرر بهم فكل مجال خلقه الله جل وعلا في فنون الحياة خلق له رجال يحسنونه فليس من الصواب أن يطلب من الأمة كلها أن تكون علماء لان العلماء في الأمة هم الرؤس هم الأكابر ولا يُعقل أن الأمة كلها تصبح على مستوى واحد .
بل قال الله جل وعلا في الجهاد وهو ذروة سنام دينها قال ((وما كان المؤمنون لينفروا كافه )) فالله جل وعلا وزع القدرات فيجب أن يستصحب الإنسان هذا قبل أن يقدُم هو على العلم أو قبل أن يُشير عليه به فليس كل احد يصلح أن يطلب العلم وليس كل احد يجد في نفسه الرغبة والتأهل إلية وإن كان العلم منزلة ذات شرف لا يُضاهى ومجد لا يُبارى ...
نعود فنقول بدأنا بمالك كتوطئة قبل الخوض في علماء أهل المدينة كان شيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه يقول إن استنباط مالك يوافق الكتاب بل أكثره مأخوذ من كلام الله جل وعلا ولذلك شدد مالك على الرافضة وقال [ ليس لهم في الإسلام شيء من الفيء] محتجا بأن الله ذكر في القران الفيء للمهاجرين ثم قال (( والذين تبوءُ الدار والإيمان )) ثم لما ذكر الفيء في هاذين الفريقين قال جل ذكره بعدهما قال ((والذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمن )) فمن لم يترضى عليهم ولم يستغفر لهم فليس داخلاً في عمُوم المسلمين الذين يُعطون من الفيء ..(34/7)
وهذا المنهج في الفهم أخذه الأمين الشنقيطي كما سيأتي في الحديث عن سيرته رحمة الله تعالى . المقصود هذه المدينة كأجواء في عهد مالك رحمة الله والله جل وعلا إذا أراد شيئا هيأ أسبابه فإذا أراد أن ينشر علم احد هيأ أحدا أو غير ذلك مما يساعد على نشر ذلك العلم بشتى الطرائق .
لكن ينبغي أن يعلم انه وإن عرفة الأمة عُلماء مشاهير إلا إن العلم ليس محصورا في فقط في من اشتهر فكم من عالم جليل القدر لايعرفه الناس ولايعني ذلك قدحا في النيات وهذا من الأخطاء الشائعة إن الناس يظنون أن الشهرة مبنية على صلاح النية وان عدم الشهرة مبنية على فساد النية وهذا ليس من الصواب في شيء النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنما الأعمال بالنيات " أي اجر النية على اجر العمل أما إفادة الناس من العمل فليس معلقا شرطا بالنية.
وحتى تتضح المسألة وبضرب الأمثال يتضح المقال :
لو إن إنسانا عنده مال ثريا جدا وقال أريد أن ابني مسجدا يقول في نفسه فقدرته المالية جعلته يتخذ طريقا أو مكان أو قطعة ارض في كثافة سكانية كبرى ثم بنى فيها المسجد وهو يقول في نفسه بل ربما قال لأقرانه إنا لا أُريدُ بهذا وجه الله إنا أُريد الشهره فكتب على المسجد مسجد فلان بن فلان عمداً قد يكتبها رجل لله ، وقد يكتبها رجل لغير الله وبقدرته المالية جعل مواقف للسيارات وداراً لتحفيظ وأتى بأئمة يحرصُ الناس على الصلاة ورائهم وأتى بمحاضرين يحبهم الناس وأتى بموظفين وانفق عليهم أمولا فحيي المسجد .
فالناس الأمام يرغبون في القراءة ورائه والمسجد مخدوم من حيث المواقف وغيرها وحلقات التحفيظ تعطي مكآفات وهناك سيارات وتقدم وتُؤخّر للمسجد فالناس انتفعوا وإن كان صاحب المسجد لم ينتفع لأنه ما أراد به وجه الله .
وقد يأتي إنسان أراد بعمله وجه الله لكنه لم يوفق للمكان ولم يعان في أمور عدّة فلم يأتي احد مسجده.(34/8)
فهذه أمور لا ينبغي أن من رأيناه مشهوراً ظاهراً حكمنا عليه جزما بأنه صالح النية نعم نرجو الله أن يكون صالح النية لكن لا يحكم عليه ،، ومن رأيناه مغمورا لا يعرفه احد نُشكك في نيته فهذا كله تطاول وأمور لاسبيل لنا عليها والله تعالى يقول (يوم تبلى السرائر )ولنا من الناس ظاهرهم .
هذا كله ساقنا إلى قضية إن مالك أراد الله أن ينشر علمه وكان من أسباب انتشار علمه أمور عدة لعل من أشهرها:
أن يحيى ابن يحيى الذي قدم إليه من بلاد الأندلس بلاد المغرب طلب العلم أدرك مالك في آخر حياته وكان يحيى هذا منصرفا للعلم وحده وذات يوم جاء فيلٌ في المدينة والفيل حيوان غير مألوف في جزيرة العرب رؤية فانصرف الناس خرجوا من المسجد يشاهدون الفيل يتسامعون ويتناقلون هناك فيل ومالك كان ذا سمت ووقار وهيبة في مجلسه يقال عنه كما في مقدمة الموطأ 00
يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسألون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المهاب وليس ذا سلطان(34/9)
فخرج كل من في المسجد إلا مالك ويحيى ابن يحيى رحمة الله بين يديه قال يُبني علاما لا تخرج إلى ما خرج إليه الناس قال إنني قدمت من بلادي لأراك واخذ عنك العلم ما قدمت لأرى الفيل فأُعجب به مالك فصار يدخله بيته فأخذ علما عن مالك وقُدّر له أن يرى الليث ابن سعد قرين مالك لكنه سكن مصر وكان الليث على دابته فقام يحيى هذا وهو يومئذ شاب فقاد الدابة لليث وهو لا يعرفه - أي الليث لا يعرف يحيى - فدعا له - ولعلها وافقت ساعة إجابة - قال له يا بُني أُنظر دعاء العلماء قال [ يا بُني خدمك العلم] - هو الآن قدم عالما - قال[ يا بني خدمك العلم] فلمّا توفي مالك وفرغ يحيى ابن يحيى من رحلته عاد راجعا إلى بلاد المغرب وفي الطريق مرّ على بغداد فجلس يحدث بها مأخذه عن مالك فأخذ مسلم ابن الحجاج كثيرا من علم يحيى ولهذا جلّكم قرأ في الصحيح ترى أن مسلم يقول حدثنا يحيى ابن يحيى ثم يسوق السند عن مالك مثلا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رجع إلى المغرب أي إلى الأندلس - تُسمّى المغرب آنذاك - وسكنها يحيى ابن يحيى كان رجلا محبوبا فحصلت له بعض القضايا مع السُلطان فقربة السلطان فأصبح السلطان لا يعين أحدا في قضاء إلا بتزكية من من ؟ إلا بتزكيةٍ من يحيى ابن يحيى فيضطر الطلاب أن يدرسوا عند يحيى ابن يحيى وهو يدرسهم علم مالك فانتشر علم مالك في المغرب إلى اليوم وظهر هناك ابن عبد البر رحمة الله تعلى عليه أعظم من خدم المذهب المالكي كما في التمهيد.
الذي يعنينا هذه جملة عن الأحداث التأصيليه عن رجلٍ ولد في المدينة وتوفي بها هو مالك رحمه الله تعالى رحمة واسعة وهو مدفون بالبقيع رحمه الله تعالى رحمة واسعة .....(34/10)
أما المعاصرون من العلماء فلا ريب إن الله جل وعلا منّ على جزيرة العرب بلّم شملها على يد الملك عبد العزيز غفر الله له ورحمه والأمن السياسي إذا وُجد أعظم ما يعين على طلب العلم لأن الناس إذا خافوا أو جاعوا انصرفوا إلى ما يزيل خوفهم أو إلى ما يزيل جوعهم فيقّل شغف الطلاب بالعلم .
من ابرز العلماء:
الإمام الشنقيطي رحمة الله تعالى علية وهذا الرجل أصله من بلاد شنقيط وموريتانيا كبلد يسكنها عرب وعجم يخدمون العرب واللغة العربية لكلا الفريقين وفيها قبائل بعضها انشغل بالإغارة على عادة القبائل والتنافس بينها والتنازع ،، وبعضها انشغل بالتجارة مع طلب العلم ،، ومن القبائل التي في موريتانيا التي انشغل أبنائها بطلب العلم الجكنيون الذين منهم الشيخ وأصولهم من حمير من اليمن.
هذا الرجل رحمة الله تعالى علية ولد هناك ثم حفظ القران بعد أن عاش يتيما وعهدة به أُمة وعنيت به عناية عظيمة وهي رسالة للآباء والأمهات أول من يغرس طلب العلم في الأبناء هم الآباء والأمهات بالتشجيع فلمّا حفظ القران رحمه الله فرحت به أُمة فرحا شديدا ثم بعثته يأخذ بعض الفنون فهو يقول رحمه الله تعالى زودتني بمتاعين أو مركبين : مركب فيه كتبي ومركب فيه زادي ومتاعي وجعلت معه خادما معه بقرات وأرسلته إلى القرى والمدن التي فيها العلماء آنذاك في شنقيط فحصل على علم جمّ فرحت به امة و أخواله وكان له خال عالم يُعلمه والإنسان أحيانا يبغض من يحسن إليه دون أن يشعر لان أي إنسان يمر بمراحل زمنية فالشيخ رحمة الله ذات يوم مرض خالة فارتاح قليلا من عناء الطلب فمر على خاله وهو مريض فأضحى يقول متى يموت حتى ارتاح من الطلب ثم برئ الخال وأكمل المهمة ،المهم أخذ العلم عن غيره .(34/11)
أعظم ما عني به الشيخ وهذا لُب الحديث في اللقاء كله أن الله وفقه لأن يعرف قدر القران فكانت عنايته التامة بكلام الله جل وعلا ومن أراد الله به خيرا جعله يفقه كلام ربه تبارك وتعالى إذ أن أعظم مقصود من العلم هو العلم بالله جل وعلا ولايمكن أن يعرف الله إلا بكتابه إذ لا أ حد أعلم من الله ولا أحد أعلم بالله من الله .
فالسبيل الأول الذي كل سبيل مندرج فيه هو معرفة ايآت الكتاب حتى تدلك على الملك الغلاب جل جلاله فعُني الشيخ رحمه الله برجز كان لعلاّمة شنقيطي اسمه العلامة محمد يعرف بالبحر هذا الرجز ذكر فيه العالم ذلك منظومة في قضية الآيات المتشابهة في القران رسماً أو تلاوة لفظا أو تلاوة التي يتكرر أكثر من مرة فعُني بها وهو شاب فلما أكملها مالم يتعرض له العالم دوّنه الشيخ وتبع العالم البحر على نفس منواله وزاد عليها رحمة الله تعالى عليه .
فمثلا قال الله جل وعلا في سورة سبأ ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ) فكلمة أشياع تكررت في سوره القمر ( ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مّدكر ) في سورة القمر جاءت بضمير المخاطب (أشياعكم ) وجاءت منصوبة لأنها مفعول لأهلك ،
وفي سورة سبا جاءت للغيبة (كما فعل بأشياعهم ) وجاءت مجرورة لأنها مسبوقة بالباء فالشيخ رحمة الله زيادة على تلك المنظومة التي عني بها قال رحمه الله
في سورة القمر خاطب وانصبَ وجُرهُ وغيبنهُ في سورة سبأ
أي أن هذا الفظ في سورة القمر خاطب به وانصبه وفي سورة سبأ اجعله على ضمير الغيب وجرة كما هو صريح القران .
المقصود بدأت العناية بالقران ثم منّ الله عليه بعلم التفسير ثم قرر أن يقدم إلى الحجاز حاجاً وإذا أراد الله بأحد خيراً أعطاه فوق ما يؤمل بلقيس خرجت من اليمن إلى بلاد فلسطين تبحث عن ماذا ؟ كيف تحافظ على مُلكها تطمئن سليمان أنها لا تنازعه فردّها الله وقد أسلمت أعطاها الله فوق ماتؤمل ،،،(34/12)
وبعدها الكليم موسى عليه السلام ذهب يبحث عن جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهار فالله جل وعلا ذو منة وفضل على عباده فهذا الرجل خرج من بلاد شنقيط كل الذي يريد أن يحج ويعود فقُدّر له أن يحج فلما حج في منىً بقدر الله تكون خيمته بجوار خيمة الأمير خالد السد يري وعبد الرحمن السديري وفي أيام منى حصلت مناقشات علميه حول الأبيات فسمعهم قد اختلفوا فأستأذنهم أن يدلو بدلوه فأذنوا فلما اذنوا وجدوا علما جمّا وبحراً لا ساحل له فقرّبوه وعُرض أمره على الملك عبد العزيز رحمة الله تعالى فأمر له بالجنسية له ولمن في كفالته ومن قرابته ثقةً في الشيخ وإكراماً له فكانت سببا في أن يستوطن الحجاز ثم منّ الله جل وعلا بعد ذلك لمّا لم تكن في ارض موريتانيا الكتب منتشرة كانتشارها ها هنا وليست مطبوعة متداولة في كثير من الأمور لم يقع على يد الشيخ المغني لأبن قدامه وهو هناك وأهدي له من قبل إمام الحرم آنذاك الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله تعالى عليه فكان نظره في تفنن المذاهب زاد على حصيلته التي حصل عليها في موريتانيا فأسهمت في إيجاد حصيلة علمية له رحمة الله تعالى عليه.(34/13)
هذا من حيت الإجمال وسنقف وقفات مُعينه مع سيرته أعظم السير ، أعظم ما جاء في سيرته رحمه الله عنايته بالقران كان يقول السنة كُلها في أية واحدة (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوه ) درّس في الرياض ها هنا وحاضر مرة في مسجد وممن حضر المحاضرة الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله فشرح العقيدة شرحاً علميا مؤصلاً فلمّا فرغ والعلماء يعرفون بعضهم بعضا قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله جزى الله عنا الشيخ محمد الأمين خير الجزاء - ثم ماذا قال ؟- قال الجاهل عرف العقيدة يعني من حضر المجلس وهو ليس معدوداً من العلماء الآن عرف العقيدة الجاهل تعلم العقيدة طبعاً الشيخ عبد اللطيف عالم لا يستطيع أن يقول والعلماء تعلموا العقيدة كيف صاروا علماء وهم لا يعرفون العقيدة قال رحمه الله والعالم تعلم الطريقة والأسلوب أي التي يُعلم بها الناس لكن هذا مبني على حرص الشيخ على علم الآلة لا يمكن لأحد أن يطير قبل أن يُريش هناك طرائق وأساليب حتى تصل إلى غايتك لكن الإغراق في علوم الآلة يُضيع الهدف فإذا علم الآلة أخذ شطر عمرك ماذا بقي للهدف وإن لم يأخذ علم الآلة من جهدك شيئا مُحال أن تصل إلى هدفك لابد الإنسان أن يجمع ما بين علم الآلة في التقديم الأول يؤصل نفسه ثم بعد ذلك ينتقل إلى العلم الشرعي محال أن يتصدر الإنسان وهو لايعرف شيئا عن لُغة العرب ولاعن شعرهم ولا عن آدابهم ولا أسلوب كلامهم هذا محال ولا أن يعرج على شيئا عن تاريخهم الشيخ الأمين قبل البلوغ له أقران يتنافسون فألف منظومة في النسب في نسب بني عدنان وسماها {خالص الجمان } فلما بلغ وجرى عليه قلم التكليف أخذها وحرقها ودفنها فلامه مشايخ عصره فقال رحمه الله إنني لم أدونها لله دونتها لمنافسة الأقران فلذلك أخفيتها فقال له العلماء يمكن تحسين النية لكنه رفض وبقيت مخفيه إلى يومنا هذا لأنه عندما صنعها كان يغلب عليه انه كان ينافس أقرانه في الطلب 0(34/14)
أقول العلم بالقران قبله العلم بالآلة والعلم بالقران مفتوح يقول على رضي الله عنه وأرضاه "إلا فهما يؤتيه الله من يشاء في كتابه " فباب العلم في القران مفتوح لان الله جل وعلا كتابه اجّل من أن يحوي فهمه صدر رجل واحد لكنه يبقى على مر العصور ينهل منه العلماء فهو كلام رب العزة والجلال .
نقول عني الشيخ عناية عظيمة بالقران تأصيلاً وشرحاً ويستطرد كثيراً حتى يستفيد الطلاب من شتى الفنون ويجعل القرآن هو المرجع وقد خاطبه الشيخ عطية سالم رحمة الله تعالى عليه وهو تلميذه النجيب الأول فقال إن القرآن هو جامع العلوم ومنه انطلق إلى شتى فنون العلوم إذا أردت أن اشرح فأتكلم في الفقه وأتكلم في الأصول وأتكلم في التاريخ وأتكلم في الحديث وأتكلم في اللغة وكلٌ يأخذ منا بطرف وهذا يحتاج إلى رجل ذي سعة في العلم كما كان الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه.
هذه العناية بالقران هي التي فيما يغلب على الظن ولا نزكي على الله أحدا أسهمت في وصول الشيخ إلى تلك المنزلة العلمية العظيمة التي وصلها في عصره مع هذا كله كان الرجل يتقي الله في الفتوى تقوىً عظيمة بل في أخريات حياته كان يتحرج من الفتوى وكان يقول إن الفتوى نوع من البلاء والعاقل يكون من البلاء في عافية.(34/15)
وقد قلت في محاضرات عدة إن وفد من الكويت حضر إليه رحمه الله في أخر أيامه يسألونه عن مسألة أظنها كانت عن البرلمانات فلما دخلوا علية يسألوه وهم قد شدو إلى علمه الرحال اعتذر عن الإجابة فلما أكثروا علية كان مضطجعاً كما يقول ابنه الشيخ عبد الله وهو حاضر وهوالذى أخبرنا بهذا يقول فأصلح جلسته ثم قال أُجيبكم فيها بكلام الله فكأنهم فرحوا فقال قال الله قال الله تعالى (ولا تقف ماليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل اؤلئك كان عنه مسؤلا) فلما أكثروا عليه وهذه الكلمة لازمته في آخر حياته قال قال العلماء كذا وقال فلان كذا ويضع أصبعه على رقبته ويقول أما أنا فلا أُحمّل ذمتي من كلام الناس شيئا لا ادري.
وأنت ترى اليوم من يبحث عن من يسأله ومن يتجرأ على السؤال ومن يكون لديه قدره على المجابهة لكن ليس لديه قدره على أن يرجح وحتى أن وصل إلى أن يرجح تجده يسُفه أقوال غيره.
يقول أحد أعضاء هيئة كبار العلماء حججت معه لقيته في الحج مرة يقول درسنا الشيخ في الرياض في كلية الشريعة فذكر قول لأبي حنيفة فكأنة أطال فأعترض أحد الطلاب وأراد أن تمضى المسألة قال يا شيخ وان قال أبو حنيفة فغضب الأمين رحمة الله تعالى عليه يقول وضرب اللوح بيده مراراً وقال للطالب أنت لا توازي شراك نعل أبو حنيفة أبو حنيفة أمام رضيت أو لم ترضى ثم قال بعد أن هدأ روعه وخف غضبه قال يابنى أبو حنيفة إمام وليس لزاماً أن نأخذ بقوله لكن عليك أن تحترم رأيه فالأمة شهدت له بالعلم والقبول وشهد لهُ أفذاذ من العلماء ليس أنت عندهم بشيء والعاقل ما يهدم شيئا قد تم ولا يجابه شيئاً أُجمع عليه ولا يواجه تيار صعب فكيف يضع نفسه أمام هذه القمم الشامخة يُسّفهها ويُقلّل من علمها ويُقلّل من علو منازلها التي أعطاها الله جلا وعلا إياها .(34/16)
والحرص على احترام من سبقك من العلماء أو من عاصرك من أعظم الدلالة على تأصُل العلم فيك ، رُزق الرجل مع هذا العلم تقوى من الله عجيبة كان يقول قدمت من بلادنا بكنز لا أريد افقده أو أن أضيعه وهو القناعة ولذلك لم يُقدم يوما طلباً في زيادة مرتبة ولا في رفع درجته ولم يسأل يوما أحدا مالا وما أعطي من مال من غير سؤال أخذه وقبله ثم يوزعه ومات ولم يورّث شيئا وقد كنت اسكن على مقربة تامة من داره وعندما مات كنت تقريبا في الثاني عشر أو الحادي عشر من العمر آنذاك غفر الله له ورحمه .
الذي يعنينا الآن قضية حياة العلماء وهي قضية الاتصال بالله تبارك وتعالى
والعظيم من يستشعر الأمر قبل أن يقوله للناس جلس مرة والله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يُريد أن يفسر قول الله (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وكان من طريقته إن هناك تالي للقران يتلو القران ثم الشيخ يفسر فردد الشيخ الآية (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وأخذ يبكي حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء لم يفسر أية واحدة .
إن من أعظم ما يرزقه العالم القناعة أو العلم التام بما يقول لكن إذا كان الرجل يتكلم من لسانه حتى ولو انتفع به الناس لا ينتفع هو بأجر علمه فقد يكون هناك لبيب خاشع خاضع في المجلس ينفعه الله جل وعلا بما قلت لكن أيُ كرامة هذه عند الله ضائعة إذا كنت ينتفع الناس بما تعلم ولا تنتفع أنت به بين يدي ربك.
والله جل وعلا لما أراد من أنبيائه العظام أن يقول شيئا على علم به حقا قال في حق إبراهيم (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ) .
ولما أراد أن يتم نعمته على نبينا صلى الله عليه وسلم عرج به إلى سدرة المنتهى فرأى صلى الله عليه وسلم الجنة والنار حقاً حتى إذا حدّث عن الجنة وعن النار أصبح صلى الله علية وسلم يُحدث عن علم صلوات الله وسلامه عليه.(34/17)
ليس العلم أن يأتي المحاضر أو الداعية أو الخطيب أو الموفق إلى كلمات يقرأها يحضرها قبل المحاضرة ثم يقولها للناس ، العلم الحق أن يستشعر بها في نفسه وأن يعمل بها بينه وبين الله حتى إذا قالها للناس خرجت من قلبه قبل لسانه فالإمام أحمد رحمه الله لما كتب المسند مر على حديث أن النبي إحتجم وأعطى الحجام كذا درهم فذهب واحتجم وأعطى الحجام مثل ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم كتبه في مسنده رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة
معشر القراء يا ملح البلد من يصلح الناس إذا الملح فسد
والله جل وعلا يقول (( واتلوا عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها )) ثم قال جل وعلى يضرب مثلا لعالم السوء الذي عنده علم ولم يعمل به قال الله (( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث )) قال بعض أهل العلم والعلم عند الله في بيان هذا أن الله جل وعلا لما أهبط آدم إلى الأرض أمر إبليس نزغ في السباع أن تؤذي آدم فكان الكلب يوم إذاٍ سبع كاسر فجاء جبريل وأوصى آدم أن يمسح على رأس الكلب حتى يتقي شره فمسح آدم على رأس الكلب فمات قلبه أي مات قلب الكلب فخرجت منهُ السبعيه التي أوجدها الله فيه ولهذا الكلب الآن إذا غلبت عليه مسحة أدم يحرسك وإذا غلبت عليه نزغات الشيطان يفترسك فيقع منه النفع ويقع منه الأذى ولا يوجد هذا إلا في الكلب .
أما الحيوانات بعضها أليف وبعضها سبع وفوارس كاسرة مؤذية إلا الكلب يجمع مابين كونه سبعي ومابين كونه أليف ولهذا أباح الله جل وعلا صيده فهو ميت القلب لا يركن إلى طبع فجعل الله جل وعلا عياذاً بالله عالم السوء كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث .(34/18)
وهذا العلم الذي يحفظه العلماء في صدورهم إما أن يكون لهم بين يدي الله حجه لهم يؤجرون على ما قالوه أو أن يكون عياذ بالله حُجه عليهم وقد قال الله جل وعلا (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) لكن الناس يقرؤن هذه الآية من آخرها ويعلقونها في الفصول والمدارس والكليات والسيارات ولا تُقرأ هكذا إنما يقرأ أولها وهذه الآية جاءت تذييل ولم تأتي تأسيس فمن الذين يعلمون الذين قال الله إنهم لا يستوون مع الذين لا يعلمون ليس الذين يحفظون المتون ويتكلمون ارتجالا أو ما أشبه ذالك قد يكونون منهم لكن العالم الحق من وقف يبن يدي الله عز وجلا في ظلمات السحر يسأل ربه ويرجوه ويدعوه ويتوسل إليه كما كان شأن محمد صلوات الله وسلامه عليه.......
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أتاكه الله انتفعت
فإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس انك قد رؤست
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملت
نعود فنقول هذه العناية الأولى ...
والعناية بلغة العرب وهي مبنية على الأول وقد تكلمنا عنها استطراداً في إن الشيخ رحمه الله كانت له عناية كبيرة بلغة العرب لأنها الطريق إلى القران وقد ذكر في سيرته انه لما مرّ على السودان سأله بعض طلبة العلم عن أخر كتاب قرأه فقال أخر كتاب قرأته{ ديوان عُمر ابن أبي ربيعه} فأغتاظ الناسُ غضبا لأن ديوان عمر ابن أبي ربيعه في الغزل وهو لا يُظن به أن يقرأ في مثل هذا فقال رحمه الله مجيباً استعين به على فهم كلام ربي فالعلم بما دونه الشعراء العرب خاصة في عصر التدوين الأول الذي يُستشهد به يُعين المرء على فهم كلام الله تبارك وتعالى .(34/19)
الشيخ رحمه الله توفي في مكة المكرمة كان معه سائقه في ليلة مزدلفة قال له السائق أو في صبيحة العيد إنني رأيت رؤيا رأيت النبي قد مات فتوقف الشيخ قليلا فقال السائق إنني رأيت النبي قد مات لكنه ليس النبي كأن الشيخ غضب قليلا قال ما أدراك انه ليس النبي قال عندما نظرت لم يكن هيئة النبي صلى الله عليه وسلم فتغير وجهه فأحس السائق الذي قص الرؤيا انه أحرج الشيخ فقال لعلها ليست رؤيا لعلها أضغاث أحلام قال لا لا هي رؤيا ويقضي الله ما شاء خيرا إن شاء الله ثم مات بعدها بثلاث ليالي أو أربع.
وتعبيرها أن العلماء ورثة الأنبياء والشيخ كان يعلم من نفسه انه اعلم أهل زمانه وان كان لا يدّعي هو بنفسه فلما اخبر أن النبي قد مات أي أن عالم هذه الأمة آنذاك سيموت خاصة إن الرائي قال لم أرى هيئة النبي صلى الله عليه وسلم لكن وقع في نفسي انه نبي فمات رحمه الله في مكة المكرمة وبها دفن وترك علماً جمّا ونحن لا ندعي لا له ولا لغيره العصمة لكن نذكر رجلاً علما نحسبه عند الله كذلك والله اعلم بسريرته نسأل الله لنا وله غفران الذنوب وهذا واحداً من أشهر علماء المدينة في هذا العصر .(34/20)
ومن علماء المدينة في هذا العصر علماء آخرون لكننا نذكر إجمالا عن بعض ماقدموه منهم الشيخ صالح الزغيبي وهذا كان إماما في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُضرب به المثل في قضية المحافظة على الإمامة صلّى في مسجد رسول الله 25 سنه لم يغب فرضاً واحداً وكان يصلى الفروض الخمسة كلها وذات يوم جرت عادته أنهُ يدخل المسجد قبل الآذان الأول فيُوتر ثم بين الآذان والإقامة ينتظر الإقامة ثم يصلى ووضع وقتا محدد يعرفه الناس متى يقيم الصلاة فلما قام ليتوضأ بين الآذان والإقامة لدغته عقرب فشعر فلما توضأ أخذ يتصبر حتى يصلي بالناس وعجز أن يبعث أحداً إلى الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله الذي أخذا الإمامة بعده إلى أن يصلى بالناس ولم يُرد أن يقدم إقامة الصلاة حتى لا يتضرر من تعود على وقت الإقامة ثم صلى بالناس فلما فرغ من الصلاة خارت قواه وسقط ثم أُسعف رحمة الله تعالى عليه .
ويقولون عنه خلال 25 سنة انه لم يسهو قط في صلاته ولم يُنقل عنه انه سها مرة واحدة وهو يصلي بالناس الفروض الخمسة 25 سنة و زاره ذات مرة إمام الحرم المكي في زمانه وقال أنا ارغب أن أصلى فرض واحداً هنا حتى اشعر إنني صليت في الحرمين إماماً فمنعة وقال لا يُقدم ولا أوثر بهذا المكان احد حتى ضعف في أخر أيامه.
فصلى بعده الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله وقد صليت ويمكن بعض منكم كثيرا صلى وراءه وهو توفي تقريبا قبل حوالي عشر سنوات والشيخ عبد العزيز رحمه الله صلى في حرم رسول الله 45 سنه وهو أكثر أهل زماننا وأكثر أندادنا وأقراننا صلى وراءه وهذا الرجل يقول عنه الشيخ عبدالله آل بسام في ترجمته لعلماء نجد انه رجل غلبت شخصيته على علمه كان قوي الشخصية جدا ًوهذه بين قوسين تحملوها ( كان أحب خلق الله إليّ إلى يومنا هذا)، وأنا نشأت متأثرا ًبه إلى ابعد درجه رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة .(34/21)
وكان فيه قوة شخصيه لا يمكن أن تراها في أحد وله في ذلك أخبار وقصص ليس هذا موردُها لكن منّ كان عالماً عارفاً ببعض الأمور الخاصة يعرُفها عنه رحمةُ الله تعالى عليه رحمةً واسعة كان رجُلاً مُهاباً بشيءٍ لا يكاد يتصورهُ أحد ، إلا أنّ أعظم مزيةٍ فيهِ يقول الشيخ إبراهيم الأخضر القارىء المعروف يقول لو أنّ هُناك جسد خُلي من الحسد لكان الشيخ عبد العزيز بن صالح .
الإنسان جبلّة يا أُخي لا يُحب يحب أن ينافسه احد في شيء عُرف به وهذا الرجل كان إماما في حرم رسول الله فالذي أذن لكثير من المشايخ أن يدرسوا رغم اختلاف أعراقهم وبعدهم بعضهم ليس من السعودية أصلا وسعى في تمكينهم هو الشيخ عبد العزيز بن صالح .
صلى ذات مرة في مسجد قباء وكان الشيخ على الحذيفي حفظه الله الإمام الآن يصلي إماما في قباء فأعجبه أداء الشيخ وصوته فلما فرغ يقول الشيخ علي نفسه يقول قُمت أسلم عليه فلمّا سلّمت قال لي يا بُني إن شاء الله نجيبك في الحرم ثم يقول بعد مدة اتصل بي وقال ترى كلمنا المسؤلين ووافقوا تعال صلي في الحرم .(34/22)
العادة أن الأئمة من جهة ثانيه يُكلفون بالحرم فإن يأتي إنسان مسئول عن الحرم يأتي بأئمة لا حرج لكن إمام الحرم نفسه يبحث عن أئمة حسن الصوت قوي الأداء متقن هذا قليل ثم في عام 1411 هـ أو 1410هـ الشيخ محمد أيوب لم يكن يعرفه أحداً من الناس إلا أهل المدينة في المساجد والشيخ يوم ذاك كان يصلى بالناس التراويح فقال له احد أبنائه إن الشيخ محمد أيوب شيخٌ حسنُ الصوت وهو لا يعرفه قال يا بني اسمعني صوته هذا الكلام 28 شعبان حتى تعرف القوة فلمّا سمعه ارتاح لقرأته قال لابنه أأتني بالشيخ محمد أيوب يقول الشيخ محمد أيوب فاستدعاني يوم 28 شعبان وأنا انتظر التكليف أن أصلي إماما في مسجد القبلتين قال يا بني إن شاء الله تصلي معانا بكره ليلة رمضان تصلي بالناس فأنظر شخص يناديك طبعا أنت تعرف إمامة الحرم هذه تمر بوزارات في الدولة معروفه ويحتاج إلى إذن لكن الشيخ كان من قوتهِ وسلطانة ونفوذ كلمته في البلد واحترام ولاة الأمر له ، له شأن عجيب ولأجل ذلك قلنا لم ترى أعيننا كلنا أهل المدينة رجل في مثل شخصيته قال إن شاء الله بكره تأتي تصلي في الحرم إمام فجاء الشيخ لما نودي برؤية الهلال قدمه يصلي فجاءت بصراحة كذا بعض الاعتذارات من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العلم فأبقاه حتى نهاية الشهر قال له يا بني من صلّى هو الذي يُختّم وهو يستطيع أن يُختّم الشيخ فدعاه لأن يختم القران ويختم بنا وصلينا وراءه تلك العام رحمة الله تعالى عليه ..
وهذه الأمور تدل على عظمه في النفس وجلاله في القدر وحب الخير للناس وأنا ذكرتُ شيئا مما يُستساغُ نشره و إلا ثمّة أمور كثيرة تُبين علو قدر الرجُل وهيبة لا يعلمها إلا الرب تبارك وتعالى في ذلك العبد الصالح وكان الناس يحبونه حبا جمّا لقدرته على تغيير المنكر ولنفوذ أمرة وقوة سلطانه رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة ...(34/23)
من علماء المدينة كذلك الشيخ محمد المختار الشنقيطي رحمه الله والد الشيخ محمد المختار المعاصر الفقية الواعظ هذا والده توفي عام 1405هـ وكان يدرس السُنن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رحمة الله به وهي ذُريه بعضُها من بعض أن الشيخ محمد المختار الآن الأبن يدرس في حرم رسول الله صلى الله علية وسلم .
الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى ومتع به وختم له بخير له قرابة 50 عام يدرس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رجل عليه نور الإيمان ولا نُزكي على الله أحدا وله فضل واسع خاصة في وعظه للعامة وله أثرٌ كبير في كل من يحضر دروسه تُرقق القلوب وتُذرف العيون في درسه وقد منّ الله علية بان هدى الله جل وعلا على يديه خلقاً جمّاً رحمه الله تعالى رحمه واسعة....
هذه نتف وشذرات من هنا وهناك عن بعض علماء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نُريد أن نصل أليه ختاماً أننا لا نريد أن نذكر أقوالا أو تواريخ لكن نقول لكل من يطلب العلم يكون حريصاً في أخلاقه وسيره مع الناس لا يتشوّث بالمال فان المال من أعظم مُهلكات طالب العلم ،، وفي نفس الوقت يحرص على ألا يكون يبتغي الشهرة ولا يلتمسها على أن التأصيل العلمي الذي دوناه في الأول ينفع كذلك هذا ماتيسر إيراده وتهيئ إعداده وأعان الله على قوله..
تم بحمد الله وتوفيقه
اللهم إنّا نسألك القبول في الدُنيا والآخرة(34/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وبعد
فهذا لقاء أُجري مع الشيخ صالح المغامسي - سدده الله - في برنامج أيام التشريق
علما بأني لم أتمكن من تسجيل أول البرنامج.
قال مقدم البرنامج الأستاذ عبد الرحمن العمري - وفقه الله - :
ألا يمكن أن نستلهم من هذه المناظر التي خلفنا الآن وفي عرفة كما ذكرتم أنه لابد لنا بعد أن طال الأمد في تصنيفاتنا، واختلافاتنا المذهبية، وتفرعاتنا، ألا يمكن أن يكون هذا الحج دافعا لنا للاقتراب من بعضنا أكثر؟؟
قال الشيخ المغامسي -وفقه الله- :
الحج لعل من أعظم معانية أستاذ عبد الرحمن أنه يقطع علينا اليأس، لا يقطع علينا الأمل،يقطع علينا اليأس، كلما يأسنا أن نجتمع ورأينا أنفسنا في الحج تجدد الأمل وازداد بأننا يمكن أن نجتمع ، كلما رأينا أنفسنا تحت هذه الخيام نجتمع جميعا، لا يوجد في منى شيء يميز أحدا عن أحد، نعم تأتي مسألة الفئات بالحج لكن هذه مسألة نسبية جدا
لكن الناس في ذهابهم إلى المرمى ، مرمى الجمرات تجدهم أفواج، ولذلك نحن نفاجأ نقابل مسئول نسلم عليه، نقابل عالم، نقابل داعية، نقابل أخ قابلناه في محاضرة، نقابل جار، لأن صعيد المرمى واحد، فالناس يتقابلون، نقابل شخص قابلناه مثلا في دولة ما زرناها ذات يوم ، فيتجدد اللقاء في هذه الأماكن فجأة، بعض المشاهير من الناس الذين يظهرون في الإعلام يراهم الناس يغدون ويروحون بينهم
هذه اللقاءات تبُين أن تلك القيود التي وضعها المستعمر، ورمى بها أهل الفكر في مطية الاستشراق، أو في غيره لتفريق الأمة أنها تذوب
وقلنا أن الحج يقطع علينا اليأس لا يقطع علينا الأمل، وإنما يُجدد فينا أنه يمكن للأمة أن تجتمع وتلتقي، وتتحد قلوبها(35/1)
كذلك ينبغي أن يُعلم أن الحج ُيشعر من المعاني قضية الرحمة ، قضية الرحمة : أن الناس في مسيرتهم إلى عرفات أو إلى مزدلفة ،قد يرى بعضهم شيء من القصور ، يعني أخ لم يتسع مكانه يأتي من يُعينه، أهل الخير في الغالب يُسهمون في قضايا الإنفاق
وقبل أن أتي إلى هنا وأنا في الطريق إلى هذا المكان المبارك، والله رأيت امرأة بعباءتها تحمل سلة فيها ماء بارد
وهي واقفة ،تُحافظ على أمرين: تؤدي أمرين في آن واحد:
تحافظ على حجابها _ هكذا تصنع _ [ أي ترفع عباءتها على رأسها] وتقدم للناس الماء ، والناس يأخذون منها الماء، فلا هي بالتي نقضت حيائها ، وهذا والله رأي العين ، ولاهي بالتي حرمت الناس من الماء الذي تحمله ، وهي طبعا تعطي من لا تعرفهم ، لكنها تعرف أنها في حرم وفي أشهر حُرم ، وأنها في أيام عِظام، فجمعت مابين ذكر الله ، وبين حفظها لحيائها،وغير ذلك من معاني الإيمان العظيمة، وبين سخائها للآخر ، وهذا كله يُدلل على أن التراحم مطلب عظيم في الحج، والنبي عليه الصلاة والسلام حين انصرافه من عرفة إلى مزدلفة، كان يقول: السكينة السكينة، لأن النفس البشرية تجمح ، وتميل مهما بلغت من سمو في الخُلق، لكن إذا وجد عقلاء ،أهل فضل،أهل رأي بين الناس يُصلحون حالهم ، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام حج على ناقته ظاهرا ، بيّنا، فيدل هذا ويرشد هذا ويعطي هذا، حتى ذلك الذي وقصته ناقته وسقط لم يكن في غيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يسير مع الناس ، فمر، وهم مجتمعون ، ما بالكم؟! فلان وقصته ناقته وسقط، دلهم فقهيا على ما يصنعون، أنه يبُعث يوم القيامة مُلبيا، مضى في سبيله(أي النبي عليه الصلاة و السلام)، تكفل أهل الميت بالميت، هذه كلها معاني رحمة،و لك أن تتخيل كيف أن يرى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيهم في ميتهم ،ثم يدلهم كيف يصنعون به ، ثم يمضي هذه كلها معاني رحمة(35/2)
ولذلك معاني الرحمة تُستلهم أعظم ما تُستلهم من حجة الوداع.
النبي عليه الصلاة والسلام كان في حجة الوداع كان قد أردف أسامة بن زيد كان شاب أسمر نحيل يومها كان أسامة في السابعة عشر، وناقة القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم باركة في الأرض ، والناس في وجوه أعراب لتوهم مسلمين ، وفي ظنهم أنه سينتقل الناس وينفرون من عرفة إلى مزدلفة ، ويقول بعضهم لبعض في أنفسهم: علام بقي هذا الرجل ؟ لماذا لا ينفر؟!
والرسول عليه الصلاة والسلام يرتقب شيئا يحدث، فيأتي أسامة غلام أسمر، نحيل، فيركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضم النبي من الخلف، ثم تسير الناقة
والرحمة النبوية ليست مخصوصة بأحد، بل هي منوعة، وصلت الناقة إلى مزدلفة، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى الفجر، ووقف في المشعر الحرام ، وأدى النسك ، غيَّر، أنزل أسامة وصار يجري أمام الناقة ، وأردف الفضل بن العباس، ابن عمه، فركب الفضل بن عباس، الفضل وأسامة متقاربان في السن، وأبو بكر على ناقته ، فالكبير مثل أبو بكر هو لا يحتاج أن يردفه لأن العلاقة بين الرسول والصديق علاقة لا تحتاج إلى مثل هذا النوع من الحنان،لأن كلاهما في السن متقارب بينهما سنتان ، لكن مثل الفضل ،ومثل أسامة يحتاجون إلى شيء من هذا ، فوزع الرحمة النبوية ،
في مزدلفة يقول لسوده ، وكانت امرأة ثبطه: أنت روحي ارمي قبلنا، تستأذنه فيأذن لها، ويأخذ أبناء العباس الصغار ،عبد الله بن عباس أقل من الفضل ويضرب على فخذه ، ويقول: أي بني عبد المطلب لا ترموا حتى تُشرق الشمس، فيمضون، هذه الرحمة النبوية موزعة
نحن لو جئنا للحج بعد أن نقرأ سيرته العطرة ، وأيامه النظرة، وكيف حج؟يمكن أن نحج،ونُشيع تلك الارحمة(35/3)
تلقى أخ لنا فيه شيء من قلة العلم ، فيه من الضغط النفسي، يسمع عن الحج أشياء عظيمة ، جاء مشحونا ،نحتويه بعطائنا، إذا دفقنا عليه الرحمة ، وقبلنا خطأه، هو بعد عام بعد عامين، إذا حج سيُصبح مثلنا تشيع رحمته بين الناس، ولو قُدر له أنه لن يحج، فسيأخذ تلك الرحمة التي أخذها من تلك البقاع محسوسة معنويا ثم ينشرها في بلاده ، وهذه من أعظم المعاني التي دل عليها الحج
.
قال الأستاذ عبد الرحمن:
العائد من هذه الأماكن ، وهذه المشاعر ،وهذه الأصعدة الطيبة الشيخ صالح ، يعود لأهله فرحا بلقائهم، يقص عليهم أحاديث الحج، ولياليه ، وأيامه وما حصل فيها، ولا يلبث أن يشتاق إلى هذه الأماكن ، ويشده الشوق إليها، ويتمنى لو عاد قريبا إليها، ما سِرُّ هذا الاشتياق؟ وهذا الحرص للعودة لهذه الأماكن؟
له عدة أسباب ، سنقول سببا قد لا يكون مشهورا،آدم خُلق من تراب ، هذا التراب أيها ألأخوة المباركون والأخوات المباركات، وجميع من يسمعني ،هذا التراب أخذه الملك من قبضة قبضها من الأرض، من أين قبضها؟؟
من عرفات،ثم هذه قبضة التراب التي أُخذت من عرفات مُزجت بماء ، فأصبحت طين ، ثم هذا الطين، خُلق منه آدم ، فأصبح فخار ، فأصبح في أجسادنا نحن جينات كما نسمع أهل العلوم يسمونها بذلك، سمها ما تُسمها، أي مخلوق على الفطرة يحن أن يقف على الأرض التي خُلق منها
قال أهل العلم : من بقي على فطرته يحن إلى الوقوف بعرفات
وأنت تعلم يا شيخ عبد الرحمن ، أن عرفات من الحل ، بخلاف الكعبة ومنى و مزدلفة ،هذه كلها من الحرم، إلا وادي مُحسّر بين مزدلفة ومنى هذا برزخ ليس بحل ولا يحرم ، لكن عرفات من الحل، ولا يقوم في الدين حج ولا عمرة إلا أن يجمع الإنسان مابين الحل، والحرم
لماذا يجمع بين الحل والحرم ؟
لأن الله يقول {يأتين من كل فج عميق} فإذا كان في الحرم ما أتى، ولهذا يتنبه أهل مكة ومن في حقهم، أهل مكة في العمرة من أين يحرمون؟(35/4)
يحرمون من خارج مكة، من الحل حتى يجمعون بين الحل والحرم في عمرتهم، فيخرجون للحل.
في الحج: لا نُطالب فقهيا أهل مكة أن يُحرموا من الحل، يحرموا من مكة، طيب أين الحل؟ سيخرجون إلى عرفات في حجهم ، فيجمعون ما بين الحل والحرم .
أما الأولون لأن العمرة ليس فيها عرفات ليس فيها حل، فنحن نُطالبهم فقهيا ، يعني الشرع يُطالبهم فقهيا أن يخرجوا إلى الحل
فائدة أخرى:
الجعرانة يقول بعض المالكية : وأنا أميل على هذا : إلى أنها أفضل حل على وجه الأرض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم من حل إلا من الجعرانة، وبقية إحرامه كان كله من حرم، لأن ذا الحليفة في المدينة من الحرم، واعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمرات: عمرة في الحج، وعمرة الحديبية ، وعمرة القضاء، وكلها أحرم من ذي الحليفة وهي حرم ، وأحرم بعد حنين من جعرانة ، وهي حل، ولذا قلنا ذهب بعض المالكية ، أظنه عن بعض المالكية ولا يعنيني الأسماء، يعنيني المعلومة ، أنها أفضل حل على وجهه الأرض ، وهذا الذي أختاره.
الذي يعنينا _ نحن استطردنا كثيرا _ لكن هذه من أعظم المعاني التي تدعوا الإنسان إذا غادر هذه الأماكن أن يعود إليهاسريت من حرم إلى حرم كما سرى البرق في داج من الظُلمي
هذا وإن قيل في المعراج إلا أنه ينطبق شيئا يسيرا منه
ثم إن الله قال في بيته { مثابة للناس وأمنا }
قال العلماء في تفسير كلمة مثابة: أن الإنسان كلما غادره حن إليه.
وقد جاء في الآثار أن امرأة خرجت للحج، فلما أقبلت على المسجد، أصبحت تنادي، تصرخ، والناس يسمعون، أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟
والناس يُشيرون أمامك، أمامك، حتى وصلت إلى البيت
فلما وصلت للبيت جثت على ركبتيها وسقطت وماتت، وهذا لعله في ظاهر الأمر من دلالة الصدق
الذي يعنينا أيها المبارك، هذه كلها تدفع الإنسان إلى أن يحن(35/5)
وهذه دلالات إيمان، من ذا الذي يبيت في مزدلفة ثم لا يتشوق أن يبيت فيها مرة أخرى؟!!!!
من ذا الذي لا يأتي ها هنا في هذه المشاعر المباركة ثم لا يحن أن يأتي إلى خيامها، ولو كان يعيش في أعظم القصور؟؟!!!
والله يريد من عباده أن يؤمنوا به قلبا، وأحيانا الإيمان القلبي ينجم منه ترك الترفع العقلي
يعني أحيانا يقول الإنسان: أنا فلان بن فلان أبيت ليلة على رصيف والدنيا برد، وأنام متجاورا مع زيد وعمرو، كما ينام الناس متجاورون في مزدلفة؟؟!!!!
من حيث الناحية العقلية، نعم ، مو معقول!!!، لكنه يُقبل إذا عُلم أن فيه مرضاة الله، وأن الناس ما خفت دوابها إلا من أجل رضوان ربها تبارك وتعالى، وهذا وعد إلهي {يأتين من كل فج عميق}
قال الأستاذ عبد الرحمن:
هذا الحج، وهذا الركن ، وهذه الطاعة لله سبحانه وتعالى، وقد أتى كما ذكرتم الملاين من أماكن شتى ، ومن فجاج كثيرة أتوا طاعة لله سبحانه وتعالى، هناك أيضا أنواع كثيرة من الطاعات فيما سوى الحج ، من الصلاة ، والصدقة ، والصيام ،وغيرها، كيف يمكن للإنسان ،سواء الحاج وغير الحاج أن يستلذ بهذه الأنواع، ويشاق إليها كاشتياق ذلك الحاج إلى مرابع الحج؟
نعم، هذا شيء حسن، العبادات كلها ما شُرعت إلا لتقرب إلى الرب تبارك وتعالى، فاستلهام العبادة شرعت لغاية عُظمى يجعل المرء يُكثر منها ، والله يقول لخير خلقه{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}
والإنسان الذي يريد أن يكون قريبا من الله لا بد أن يكون له حظ من الطاعة
و الله ذكر داود عليه الصلاة و السلام وهو نبي يوحى إليه ،وملك في نفس الوقت ، فذكر الله صلاته ، وصيامه، وترجيعه للزبور، وذكره، وتلاوته،وهذا كله كانت له عليه الصلاة والسلام حظ من العبادة.
في الحج يقول العلماء تجمع قضايا العبادة البدنية ، والعبادة المالية، مع الذكر الذي هو أعظم ما يُقال في الصلاة، إلا أن في الحج مزايا قد لا توجد في غيرها،فمثلا : لا يمكن أن يُصلي أحد عن أحد(35/6)