خطبة يوم الجمعة
12/2/1428هـ
الخطبة الأولى
سماحة الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد عباد الله :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن, وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة, فإن تقوى اهله أزين ما أظهرتم وأكرم ما أسررتم وأعظم ما ادخرتم , وهي وصية الله لكم وإلى الذين من قبلكم { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } النساء: 131
عباد الله : رحلة الإسراء والمعراج ؛ رحلة من العطايا الإلهية والمنح الربانية لرسولنا صلى الله عليه وسلم , أظهر الله فيها علو درجة نبيه صلوات الله وسلامه عليه شهدت تلك الرحلة المباركة في برهة من الليل أحداثاً عظاماً وعطاءات ممتدة ومقاماً كريماً أعطاه الله جل وعلى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه .
ألا وإن مما حوته تلك الرحلة أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء السادسة لقي أخاه موسى بن عمران فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته فلما عرج به صلوات الله وسلامه عليه بكى موسى عليه السلام قيل له ما يبكيك قال أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي .
قال العلماء رحمهم الله في هذا بيان للغبطة الحومودة والتنافس في الخير الذي كان وأذن اهحت فيه بين أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
وقال صلى اهصي عليه وسلم في حديث آخر لما ذكر الأنبياء قبله قال " وإني لأرجو اه أن أكون أكثرهم تابعاً " صلوات الله وسلامه عليه .(1/1)
فتكثير سواد الأمة مقصود شرعي عظيم وبغية ومنية من أماني رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ولقد فقه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والتابعون لهم بإحسان ممن جاء بعدهم فقهوا هذا المقصد العظيم والمنية النبوية لنبينا صلى الله عليه وسلم فتمثلوا سماحة الإسلام في كل ما يأتون ويذرون حتى يكونوا سببا في هداية الناس إلى الإسلام ومن ذلك ينجم تكثير سواد الأمة وفرحه صلوات الله وسلامه عليه بكثرة أتباعه .
طبقوا ذلك في معاملتهم مع أنفسهم ومع معاملتهم غيرهم ممن لم يدن بدين الإسلام جعلوا ذلك نبراساً لهم في حروبهم وفي معاملاتهم وتجاراتهم وفي كل من عايشوه حتى يبينوا للناس عظمة الدين الذي ختم الله بنبيه الرسالات وأتم الله به صلوات الله وسلامه عليه النبوات .
من هنا يقرأ المؤمن في معترك الحرب والسياسة ما صنعه الفاروق رضي الله عنه وأرضاه يوم دخل بيت المقدس وما صنعه القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي يوم دخل بيت المقدس فاتحاً حرباً رحمة الله تعالى عليه .
ويقرأ المؤمن يوم أن قضى شريح القاضي وحكم لليهودي على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وخير أهل الأرض يومئذ فكان ذلك سبباً في إسلام اليهودي ودخوله في دين الإسلام .
ولما كان من سنة الله في خلقه أن الخير لا بد له من شر ينازعه , والحق لا بد له من باطل يصارعه , وفي الناس دووا عدل وإنصاف وفيهم فسقة مجرمون .
ومن هنا كان بدهياً أن يكون في كل عصر ومصر أقوام لهم أعمال شنيعة وجرائم فظيعة , يقابلون بها الخير وينازعون بها الحق وتنبئ عن سوء معتقدهم وانحراف أفكارهم .
ومما وقع في زماننا هذا قبل أيام غير بعيد عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل بعض المقيمين الفرنسيين منهم المسلمون ومنهم أهل الذمة في حادثة شنيعة تمجها العقول السليمة وترفضها القلوب التي تعرف الله وتعرف المنهج القويم , الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم .(1/2)
أيها المؤمنون : لسنا معينين في مقامنا هذا لذكر الأسباب ومن تلك الأيادي فهذا مهمة رجال الأمن وفقهم الله لكل خير وأعانهم وكتب الله لهم الأجر.
لكن المقام في هذا المسجد المبارك مقام تبيين شرعي لحادثة لا يمكن أن يتغافل عنها من تصدر لمحراب أو ارتقى منبراً .
هذا العمل باطل في فكرته .
باطل في تنفيذه .
عظيم جليل الأثر في آثاره .
أما كونه باطل في أصل فكرته , فإن سفك الدماء المعصومة حرمه الله في كتابه وحرمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حرام بإجماع المسلمين من بعد على ضوء كتاب الله وسنة نبيه .
قال ربنا { ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } النساء: 93
وقد كان في هؤلاء الفرنسيين مسلمون . كما أن قتل أهل الذمة , حرمه نبي الرحمة الناطق بالشرع قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في المسند والبخاري في الصحيح والنسائي في السنن من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليكون من مسيرة أربعين عاماً " .
ففكرة القتل أصلاً لهؤلاء المقيمين فكرة باطلة بأصل فكرتها بصرف النظر عن الأيادي التي قامة بها .
أما كونها سيئة باطلة في تنفيذها فإن الأعراف التي كانت سائدة في الجاهلية وهم يومئذ عبدت أوثان وعاكفون على أصنام كان الرجل يأنف منهم أن يقتل رجلاً أعزل لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً ولا قوة .
بل إن القرشيين الذين حاربوا نبينا صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم يومئذ أئمة كفر لعنهم الله في كتابه وذكر مآلهم وسب خروجهم وأنهم خرجوا بطراً ورئاء الناس مع ذلك كله قالوا يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من بني قومنا نقاتلهم ونبارزهم .(1/3)
يريدون الحرب أن تكون علانية بينة واضحة هذا في ساحات الحرب فكيف في المدن المستأمنة التي لها حاكم وولي مسلم وإجماع على بيعته بل على مقربة من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كانت الأعراف الجاهلية تقوله فكيف بهدي محمد صلوات الله وسلامه عليه وقد قال : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .
إن قتل هؤلاء العزل باطل سيء في أصل فكرته نجم عنه شر مستطير بعد تنفيذه إن الناس يقرؤون التاريخ اليوم والمدن والعوالم كلها تقاربت بما من الله به على العالم من وسائل اتصال حديثة نعكف أزمنة نقرأ على الناس أن هذه المدينة , وأن هذه البلاد أرض الحرمين وأن هذه المدينة المباركة هي المدينة التي شع منها نور الإسلام , فيأتي أراذل من الناس وإن كانوا أفراداً معدودين ليسوا من المجتمع في شيء إلا أنهم بهذه الصورة القاتمة لا يشوهون الإسلام فالإسلام ثوب ناصع لا يرقى إليه هؤلاء الأراذل وإنما يشوهون نظرة الغير إلى الإسلام ما يبنيه العلماء والدعاة والمخلصون سنين عديدة يأتي هؤلاء المجرمون الفسقة أيا كانت دوافعهم يهدمونه في برهة لا بلغهم الله جل وعلا مرادهم .
نسأل الله جل وعلا أن يهتك سترهم ويمكن منهم ويفضح أمرهم ويهلك كل من كان وراءهم وسببا في تدمير النظرة الحسنى للإسلام .
عباد الله : فإذا ثبت هذا وجب على المسلم أن يتقي الله جل وعلا فيما يقول ويفعل وإن أمثال هذه الحوادث لا يكفي عرضها على الناس لا ينبغي أن ينتبه الشاب المسلم على الخصوص أنه اليوم بين فريقين :
فريق تلبس بالعلمانية ,أغرته الحضارة المعاصرة يريد من شباب المسلمين أن يتركوا الصلاة وأن ينحلوا من أخلاقهم وأن ينبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .(1/4)
وآخرون يريدون باسم الإسلام أن يكون شباب المسلمين حطباً لنيرانهم وطريقاً إلى غاياتهم البذيئة وإلى مرادهم الذي يخفونه ويضمرونه فيقع الشاب بين هؤلاء وهؤلاء وترك الفريقين أمر واجب محتوم على كل عاقل بل المسلم شاباً كان أو غير شاب إنما يلتزم بجماعة المسلمين يبايع بيعة شرعية ويعرف ما لأمته ووطنه وأهله من حق ويعلم أنه لا هدي ولا طريق إلى الله إلا ما أنزله الله جل وعلا في كتابه أو جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه على منهج سلف الأمة لا إفراط ولا تفريط على طريق واضحة بينة ترك صلى الله عليه وسلم الأمة إليها على هذا فلنتق الله جميعاً أئمة وعلماء وآباءً ومربين ومعلمين أياً كان دورنا في أن نغرس الإسلام الحق في أنفس من تحت أيدينا وأن نقوم بتبيين الباطل حتى لا يتلبس به الغير وينطلق إليه الشباب دون وعي أو إدراك مبينين للناس خطر كلا الفريقين حتى يستقيم الناس على الجادة ويصلوا إلى هدي وإلى طريق الله المستقيم هذا ما ترك عليه محمد صلى الله عليه وسلم أمته وما سلكه الصالحون من سلف الأمة بعده صلوات الله وسلامه عليه جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه , أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(1/5)
(وما قدرُ الله حق قدره)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً ومًرشدا واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره واشهد أن سيدنا ونبينا محمدً عبدهُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
فُسبحانك اللهم ربنا وبحمدك ولك الحمد أنت وحدك من يجبرُ كسرنا ويجمعُ شتات امرنا ويُثبتُنا على طريق ديننا نستغفرُك ربُنا ونتوب إليك ونستعينُ بك ونحنُ نزدلفُ إليك لذكرك في بيتٍ من بيوتك .
أيُها المؤمنون
إن كل مجلسٍ فيه حكمةٌ تُنشر أو سُنةٌ تُحيى أو علمٌ يُذكر فانه مجلسٌ يفدُ إليهِ العُقلاء ويؤُمهُ الفُضلاء ولكن أعظم المجالس أثرا وارفعها درجةً واجلّها بركة المجلسُ الذي يُذكرُ فيه الله ربُ العالمين جل جلاله كما أن الله جل وعلا لا أحد مثله فانه لا مجلس أبداً كمجلسٍ يُعظمُ الله فيه ويُذكر جل وعلا الذكر الحسن ويُثنى بهِ ويُثنى عليه جل وعلا بما هو أهلهُ من المحامد ..
أيُها المؤمنون
لما كان عبدة الأوثان والعاكفون على الأصنام قد جعلوا مع الله جل وعلا شريكاً ولم يعرفوا لربهم قدرا كانت قلُوبهم تشمأزّ وأنفُسهم تنفُر إذا ذُكر غير الله قال الله جل وعلا ( وإذا ذُكر الله وحدهُ اشمأزّت قلُوب الذين لا يُؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )
وقال جل ثنائهُ وتباركت أسمائهُ ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا )(2/1)
على هذا يتبين أننا في هذا المجلس المُبارك نتفيأُ ظلال آيةٍ كريمة نعت الله جل وعلا بها مُنكراً أحوال قومٍ ساووا بين الخالق والمخلوق جعلوا الآلهة والأوثان والأصنام التي لا تُسمعُ ولا تُبصرُ ولا تنفعُ ولا تضرُ ولا تملك موتاً ولا حياةً ولا نشورا جعلوها أنداداً مع ربهم تبارك وتعالى .
قال الله جل وعلا وقولهُ الحق : ( ما قدروا الله حق قدرهِ إن الله لقويٌ عزيز ) وعلى هذا يتبين أن من علم حقيقة قدر الله جل وعلا فهو الفائزُ بجنات النعيم .
أيُها المؤمنون
هذا الشأنُِ العظيم والمنزلُ الكريم والمطلبُ الجليل لهُ شواهد تدلُ عليه كما أن هُناك قرائن تدلُ على من نئى عنه وبعُد عنه وقبل ذالك وهذا هُناك طرائق تُرشدُ إليه وتدلُ عليه وهي التي بها نستفتحُ خطابنا هذا ...
أيُها المؤمنون
من أعظم ما يُعين العبد على معرفة قدر ربه تبارك وتعالى أن يتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته مُستصحباً الفطرة السليمة التي أودعها الله جل وعلا في قلب كُل أحدٍ في أن يعرف ربه ، قال الهدهد لمّا رأى قوم بلقيس يعبدون الشمس ويأنفون من عبادة خالقها قال ( ألاّ يسجدوا للهِ الذي يُخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تُخفون وما تُعلنون * الله لا إله إلا هو ربُ العرش العظيم )
فبموجب فطرته التي خلقهُ الله تعالى عليها أنكر هذا الطائرُ على بلقيس وعلى قومها أن يسجدوا لغير الرب تبارك وتعالى وإذا استصحب الإنسانُ تلك الفطرة السليمة مع ما أفاء اللهُ جل وعلا عليه من العلم مما أنزلهُ الله في كتابه وسُنة نبيهِ صلى الله عليه وسلم وتأمل في شواهد وحدانيتهِ و دلائل ربُوبيتهِ تبارك وتعالى قادهُ ذالك إلى العلم بالله ،
فالله الذي خلقنا من العدم وربّانا بالنعم وهدانا للإسلام .(2/2)
ذكر الله جل وعلا كثيراً من أخبار خلقهِ في طيات كتابهِ ، أخبر جل وعلا أنهُ حملهُم بفضلهِ في البرّ والبحر ورزقهم جل وعلا من الطيبات وما كان لهُم أن يصلُوا إلى ذالك لولا فضلهِ .
ثم أخبر جل وعلا أنهُ بأكبادهم الغليظة وأنفُسهم السقيمة وعقُولهم التي لا تعي تجدهُم عياذاً بالله إذا ركبوا في البحر فمسّهم ما يمسّوا من الضُر لجأوا إلى الله وحده فلّما أمنوا جعلوا لله وحدهُ أنداداً يعبدونها قال الله جل وعلا ( وإذا مسكُم الضُرّ ضل من تدعون إلا إياها فلّما نجاكُم إلى البر أعرضتُم وكان الإنسانُ كفُورا * أفأمنتُم أن يخسف بكُم جانب البر أو يُرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكُم علينا وكيلاً * أم أمنتُم أن يُعيدكُم فيهِ تارةً أُخرى فيُغرقكُم ويُرسل عليكم قاصفاً من الريح فيُغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكُم علينا بهِ تبيعا )
أخبر جل وعلا انهُ يُنشىء السحاب ثم يُؤلف بينه ثم يجعله رٌُكاما ،،
أخبر جل وعلا أنهُ يحكُمُ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد .
ومن أعظم دلائل وحدانيتهِ وشواهد ربُوبيتهِ :
أنه جل وعلا وحده من يخلُق وغيرهُ شاء أم أبى فهو مخلُوق وقد قُلنا مراراً في دروسٍ عدة أن القرآن يقوم على مبدأٍ عظيم كل من يستطيع أن يُثبت أن هناك خالقاً غير الله فليعبُد هذا لكن لا احد يخلُق إلا الله فوجب ألا أحد يُعظم التعظيم الكامل وألاّ يُعبد أحدٌ من دون الله أبدا .
على هذا أُسست دعوةُ الأنبياء صلواتُ الله وسلامهُ عليهما أجمعين
لا خالق إلا الله فبالتالي لا معبُود إلا الرب تبارك وتعالى لأنه لا أحد غيرهُ يخلُق .(2/3)
غابت هذه الحقيقة عن كفار قريش جاء العاص ابن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدهِ عظامٌ قد أرمت ثم نفث فيها في يومٍ رائح ثم قال يا محمد أتزعم أن ربك يُحيى هذهِ بعد ما أرى أي بعد ما أصبحت عظيماً باليا فقال صلى الله علية وسلم وهو البملغُ عن ربه قال نعم يُميتُك الله ثم يُحيك ثم يبعثك ثم يُدخلك النار فأنزل العلي الأعلى قوله : ( أو لم يرى الإنسان أنّأ خلقناهُ من نُطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مٌبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يُحي العظام وهي رميم * قُل يُحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكُل خلقٍ عليم * الذي جعل لكُم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتُم منه توقدون ) إلى أواخر سورة يس التي فيها أجلت البراهين على أن الله جل وعلا وحدهُ يخلُق وبالتالي لا يُعبدُوا ولا يُعظم التعظيم الكامل إلا هو سُبحانه وتعالى .
غايةُ الأمر :
أن يُعلم أن التأمُل في شواهد وحدانيتهِ ودلائل ربوبيته يدلُ على عظمتهِ جل وعلا وبالتالي يستقرُ في القلُوب وفي العقول أن الله جل وعلا عظيمٌ قدرهُ جليلُ الشأن تنزّه عن الصاحبة والولد وتقدّس فلم يلد ولم يُولد .
من الطرائق التي يصلُ بها المرء إلى أن يعظم ربهُ جل وعلا حق التعظيم :
التأمُل في سير الصالحين وأخبار السابقين مّمن ذكر الله جل وعلا أنهُم عرفُوا قدره وعظّمُوه تبارك وتعالى حق التعظيم قال الله تبارك وتعالى : ( إذ قالت امرأة عمران ربي إني نذرتُ لك ما في بطني مُحررا فتقبّل مني إنك أنت السميعُ العليم * فلّما وضعتها قالت ربي أني وضعتُها أُنثى واللهُ أعلمُ بما وضعت وليس الذكرُ كالأُنثى وأني سميتُها مريم وأني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )
أهلُ الله المحبون له المعظمون له يتدرجون في حظوظهم يبدأُن من الحظ المُباح ثم ينتقلون إلى أعلى الفلاح .(2/4)
هذه امرأة كان همُها أن يكون له ولد رأت طيراً يُطعمُ طيراً فحنّت إلى الولد فطرةً فسألت ربها أن تحمل فرزقها الله الولد فلّما اطمأنت على أنها رُزقت حملاً دون أن تدري أيكون ذكراً أم أنثى بدأت تتخلى عن حظها المُباح وتدرّج إلى أعالي الفلاح فنذرت ما في بطنها أن يكون للهِ ( قالت ربي إني نذرتُ لك ما في بطني مُحررا ) والمعنى حظي من الولد من بُهجة النفس والأُنس والخدمة والنُصرة لا أُريدُهُ ولا أحتاجه لكنّني أبتغي من هذا الولد أن يكون خادماً لك في بيتك فانتقلت من حظٍ مُباحٍ إلى أن تجعل من ابنها أن يكون خادماً للهِ جل وعلا في مسجدهِ .
ما يُريدهُ الوالدان من أبنائهم لا تُريدهُ تُريد من ابنها أن يكون خادماً لرب وهذا أمرٌ ليس لزاماً عليها بل قد لا يرقى إليه أحدٌ في زماننا لكن المقصود التنبيه على أن للهِ جل وعلا عباداً فطرهم الله جل وعلا على تعظيمه ومحبتهِ وعلى إيثار ربهم جل وعلا على كُل أحد فقال الله جل وعلا عنها ( قالت ربي إني نذرتُ لك ما في بطني مُحررا ) أي خالصا .
فلّما وضعت إذا بها تُصاب بالدهشة أن المولود أنثى فهو أمرٌ متوقع لكن كان انصراف ذهنها في الأول إلى أن يكون المولود ذكرا فلما كان المولود أُنثى قالت مُعتذرةً إلى ربها ( قالت ربي إني وضعتُها اُنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكرُ كالأُنثى )فلّما فاتها أن يكون ذكراً وليس هذا بيدها لجأت لشيء الذي بيدها وهو التسمية فسمتها مريم بمعنى خادمه عند الرب لمّا فات حظُها من كونهِ ذكراً ما أرادت أن يفوت حظُها من الاسم ( قالت ربي إني وضعتُها أُنثى والله أعلمُ بما وضعت وليس الذكرُ كالأُنثى وأني سمّيتُها مريم وأني أُعيذها بك وذُريتها من الشيطان الرجيم )(2/5)
هذا أنموذج ذكرهُ الله جل وعلا من بيوتٍ صالحات أصحاب أعمالٍ زاكيات كيف أن قلُوبهم فُطرت جُبلت على تعظيم ربها تبارك وتعالى وعلى هذا نقول إن التأمُل في سير الصالحين وأنباء الغابرين وأنباء السابقين ممّن زكى الله أو زكى رسُولهُ صلى الله علية وسلم يُعين على أن يُعظم المرءُ ربهُ تبارك وتعالى ويعي ما للهِ من كمال الجبروت وجلال النعوت وأن الله جل وعلا وحده الحيُ الذي لا يموت .
من الطرائق إلى تعظيم الرب تبارك وتعالى :
التأمُل والتدبُر في أسمائهِ الحُسنى وصفاتهِ العلى فإن الله يقول وقولهُ الحق : ( ولله الأسماء الحُسنى فادعُوهُ بها وذرُوا الذين يُلحدون في أسمائهِ سيُجزون ما كانُوا يعلمون )ربُنا تبارك وتعالى لهُ الاسم الأعظم والوجهُ الأكرم والعطيةُ الجزلا لا يبلغُ مدحتهُ قولُ قائل ولا يجزي بآلائه أحد .قال القُرشيون لنبيُنا صلى الله عليه وسلم يا مُحمد أُنسُب لنا ربك فأنزل الله
( قُل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يُولد )
تدبُر الأسماء الحُسنى يُعظمُ به اللهُ جل وعلا في القلب وهذا من أجل الركائز .
ومن أسمائهِ جل وعلا العُظمى الجليلة أُسم {الله } فهذا الاسم لم يتسمّى بهِ أحد حتى ممّن نازعوا الله في أُلوهيتهِ وربُوبيتهِ كقول فرعون ( أنا ربُكم الأعلى ) أو ما قالهُ النمرُود أو ما قالهُ غيرهُما منعهُم الله أن يُسلطوا على هذا الاسم العظيم الجليل فيتسمّوا بهِ .
قال الله جل وعلا على لسان الملائكة : ( وما نتنزلُ إلا بأمر ربك لهُ ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذالك وما كان ربُك نسياً ربُ السماوات والأرض وما بينهُما فاعبدهُ واصطبر لعبادتهِ )(2/6)
ثم قال جل شأنهُ وهو أصدقُ القائلين ( قال هل تعلم لهُ سميا ) أي لا أحد تسمى بهذا الاسم العظيم الذي تسمّى الله جل وعلا بهِ ولهذا صدّرهُ الله جل وعلا في أعظم آيةٍ في كلام الله ( اللهُ لا إله إلا هو الحيُ القيوم ) بدأت بلفظ الجلاله الذي هو علمُ الأعلام وفي فواتح آل عمران
( ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحيُ القيوم )
ومن هنا ذهب بعضُ العلماء إلى أنهُ اسمُ الله الأعظم وليس المقامُ مقام بسط لكن إخبار بعض أسماء الله الحُسنى وصفاتهِ العُلى .
ألا وإنّ من أسماء الله الحُسنى وصفاتهِ العُلى { الحي القيوم} وهذان الاسمان جاء ذكرهُما سوياً في كلام الله في ثلاثة مواضع في فاتحة آل عمران ومن قبلها في آية الكُرسي ومن بعدهما في سورة طه وأما يُمكن أن يُقال حول معناهُما :. فإن الله جل وعلا حيٌ حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال وأنهُ تبارك وتعالى هو الحيُ حين لا حي وهو الحي يُحي الموتى .
أمّا القيوم فكُلُ أحدٍ غير الله فقيرٌ إلى الله والله جل وعلا غنيٌ عن كُل أحد ربُنا جل جلالهُ مستوٍ على عرشهِ استواءٍ يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ ومع ذالك هو سُبحانهُ مُستغنىٍ عن العرش ومُستغنىٍ عن حملة العرش ومُستغنىً عمّن يطوفون حول العرش ومن يطوفُ حول العرش ومن يحملُ العرش والعرش كُلهُم وغيرهُم فقراء إليهِ تبارك وتعالى كُل الفقر
( يا أيُها الناس أنتُم الفُقراء إلى الله واللهُ هو الغنيُ الحميد ).
من الطرائق أيُها المؤمنون التي يصلُوا بها المؤمنُ إلى تعظيم الله :
أن يعلم الضعف في العباد فإن رُؤياك لنّقص في الخلق يسوقُك لأن ترى الكمال في الخالق .
شُجّ رأسُ نبيُكم صلى الله عليه وسلم يومُ أُحد وسال الدمُ على وجهه حتى يرى الناس وجه نبيهم صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهو يعتريهِ ما يعتري وجوه المخلوقين فيقعُ في القلوب والعقول أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول هو وجه الله الحيُ القيوم .(2/7)
يرى الإنسان النقص حتى في الملائكة يقولُ الله جل وعلا عنهم بلسانٍ مقالهم ( وما منّا إلا ولهُ مقامٌ معلوم ) ويقولُ جبريل ( وما نتنّزلُ إلا بأمر ربك ) فنحنُ وإن كُنّا ملائكةٍ كراما وخلقاً عظاما لما لنا من المنزلة والقوة فإن لنا مقام لا نتعداه وأُمور لا نتجاوزُها ولا نملكُ لأنفُسنا حولاً ولا طولاً ولا قوة حتى في تنزُلنا من السماء إلى الأرض وهي بالنسبة لهم أمرٌ هين كطرائقنا المُعتادة التي نسيرُ عليها إلا أنهُ لا يُمكنُ أن يقع إلا بأمرٍ من الله .
بل إنّ الذين يعصون ربهُم في الأرض لا يعصونهُ إلا بإذنهِ القدري جل جلاله
( ولو شاء ربُك لجمعهُم على الهُدى )
( ولو شاء الله لجعل الناس أُنةً واحدة )
( ولو أنّنا نزّلنا عليهم الملائكة وكلّمهُم الموتى وحشرنا عليهم كُل شيءٍ قُبلاً ما كانوا ليُؤمنوا إلا أن يشاء الله )
فلا الذين أطاعوهُ جل وعلا أطاعوهُ بفضلهِم ولا الذين عصوه جل وعلا عصوه بقُدرتهم ولا الذين أطاعوه زادوا في مُلكهِ ولا الذين عصوه أنقصوا شيئاً من مُلكه .
فهو جل وعلا لا تنفعهُ طاعة طائع ولا تضرهُ معصيةُ عاصٍ لهُ الأسماء الحُسنى والصفاتُ العُلى
والمقصُود أن رؤيا النقص في الخلق يدلُ العبد على كمال خالقهِ تبارك وتعالى .
يُفتن المُسلمون بنبيهم صلى الله عليه وسلم يُنصر بالرُعب مسيرة شهر يُصيبُ الوجل والخوف أعدائهُ ومع ذالك يأتيهِ الموت وهو على فراشهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ ويرى السواك فلا يقدر أن يقول أعطوني السواك يُرينا الله الضعف في نبيهِ حتى نرى كمال القوة في ربنا جل جلاله ، فإذا كان هذا حالُ سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فما بالُك بحال من دونهِ حتى تعلم عظيم قُدرة ربك جل وعلا .(2/8)
ولهذا قال الله ( ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) وقال ناعيً على أهل الكتاب ( وما قدروا الله حق قدرهِ إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء بهِ موسى نوراً وهُدى لناس تجعلونهُ قراطيس تُبدُونها وتُخفون كثيرا وعُلّمتُم ما لم تعلمُوا أنتُم ولا آباءكُم قُل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )
والمقصُود هذهِ الحقيقة الرابعة في أن الإنسان إذا رأى النقص في غيرهُ من المخلوقين أو في نفسهِ رأى الكمال والعزة والجلال في ربهِ تبارك وتعالى .
ممّا يزيدُ المؤمن يقيناً بعظمة ربهِ :
رُؤياه لأفضال ربهِ على خلقهِ ذالك الفضلُ الخاص إن كُنّا حررنا في الأول الفضل العام بما حمل الله به الناس في البرّ والبحر يرى العبدُ فضل الله جل وعلا الخاص على بعض خلقهِ كيف أنّ الله جل وعلا اصطفاهم واجتباهم وما كان لهُم أبداً أن يصلوا إلى ما وصلوا إليهِ من العطاء ولن ينالوا هذهِ المنح الربانية والعطايا الإلهية إلا بفضل الله جل وعلا .
اختلف الناس في المسيح عيسى ابن مريم شرّقوا فيه وغرّبوا قالت فيه اليهود ما قالت ، وزعمت النصارى فيهِ ما زعمت قال الحقُ تبارك وتعالى عنه
( إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليهِ وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )
فما المسيح إلا عبدٌُ لكنهُ قيد بأن الله جل وعلا انعم عليه فنعمة الله عليه هي التي جعلته آيةً لناس مُحتفىً به في السماوات العُلى وينزلُ في آخر الزمان هذهِ كُلها عطايا ربانية ومنحٍ إلهية والله يقول
( الله أعلم حيثُ يجعلُ رسالته )(2/9)
يرى العبد ما أفاء الله على خليله إبراهيم وكيف كان إبراهيم عبدٍ مُجتبى وحبيباً مُصطفى ونبياً مُرتضى صلواتُ الله وسلامهُ عليه أثنى الله عليه حتى على ألسنة أعدائهِ وخُصومه ( ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مُسلما وما كان من المُشركين * إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين أتبعوهُ وهذا النبي والذين أمنوا واللهُ وليُ المؤمنين ) كُلها آيات تدلُ على عظيم قدرهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
قبل أن تُبحر في معرفة فضل إبراهيم وعلو منزلتهِ استبق إلى ذالك بأن تعلم أن الله جل وعلا هو الذي تفضل عليه ونظير هذا أن تنظُر فيمن أتاهُم الله القدرة فإذا رأيت عظيم قُدرتهم تأملت في حق قُدرة ربك جل وعلا .
قال الله جل وعلا على لسان نبيهِ سُليمان ( أيكُم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مُسلمين قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقويٌ أمين قال الذي عندهُ علمٌ من الكتاب ) سواءً كان إنسياً أو جنياً أو سُليمان أو غيرهم ( قال الذي عنهُ علمٌ من الكتاب أنا آتيك بهِ قبل أن يرتد إليك طرفُك فلّما رآهُ ) أي رأى سُليمان العرش (فلّما رآهُ مُستقرٍ عندهُ قال هذا من فضل ربي )
أيُها المُبارك :
إذا كانت قُدرةُ مخلوق أن يأتي بعرش بلقيس من أرض اليمن إلى أرض فلسطين فكيف بقُدرة الله جل جلاله .
هذا ممّا يقود العبد ويسُوقهُ إلى معرفة بعض العلم إلى ربهِ تبارك وتعالى ..(2/10)
وعلى الجناب الآخر والنظير مثله يتأمل العبد لمن أهلكهُم الله من عصوه .من الأُمم الغابرة والأزمنة السابقة من نازعوا الله في ربُوبيتهِ وحاربوا أولياؤهُ وكذبوا رُسلهُ كيف أن الله جل وعلا أذاقهم ما أذاقهم ممّا يُدلّلوا على عظيم جبروتهِ وسُلطانه ( ولا تحسبن الله غافلٍ عمّا يعمل الظالمون إنّما يُؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار ) وليس هلاكُ عادٍ وثمود والمؤتفكات وغيرهم بخافٍ على أحد حتى يُحرّر ويُسطّر لكنّها كُلها تدلُ على عظمة الجليل العظيم الأجل تبارك وتعالى ..
من الطرائق التي يعلمُ بها العبد عظمة ربهِ :
أن يتأمل في كلامهِ جل وعلا ( قُل لأن اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ ولو كان بعضهِم لبعضٍ ظهيراً )
فالقرآنُ تحدى اللهُ بهِ بلاغة البُلغاء وفصاحة الفُصحاء .
قالوا إن أبي العلاء المعري الأديب اللغوي المعروف كان آية في الفهم والذكاء والحفظ يحفظُ أشعار العرب وكثيراً من مُفردات لُغتها وأيامها وتاريخها بدا لهُ لمّ وصل إلى هذهِ المرحلة أن يُنازع القرآن وأن يُنشىء قُرآناً يُباهي كلام الله فكتب أبياتً ختمها بقولهِ:
أن الموت لا يُبطىء والخُلد في الدُنيا لا يجوز ثم تذكر عظمة الله فتلا قول الله جل وعلا :
( إنّ في ذالك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة ذالك يومٌ مجموعٌ لهُ الناسُ وذالك يومٌ مشهود وما نُؤخّرهُ إلا لأجلٍ معدود يوم يأتي لا تكلّمُ نفسٌ إلا بإذنهِ فمنهُم شقيُ وسعيد )
فجثا على رُكبتيهِ وبكاء بُكاءً طويلاً ثم رفع رأسهُ وأخذ يقول : سُبحان من هذا كلامهُ سُبحان من تكلم بهذا في القدم.
وهذهِ شهادةٌ لها اعتبارُها لأنها جاءت من رجُلٍ يعلم حقائق اللُغة ودقائق البيان وأساليب الرعب في سبك كلامها اعترف بالعجز التام أمام كلام ربنا وتعالى وأصدق منهُ خبراً قولُ الله ( قُل لأن اجتمعت الأُنسُ والجنُ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ ولو كان بعضهُم لبعضٍ ظهيرا )(2/11)
هذهِ أيُها المباركون جُملة من الطرائق ذكرنا بعضها ولا يتسعُ الوقت لذكر أخر منها ....
ونُعرجُ بعد هذا على الأمارات والعلامات التي يغلبُ على الظن فيما يظهرُ لناس وكلُ أحدٍ مسؤلٌ عن سريرتهِ فيما يغلبُ على الظن أنها تدلُ على أن العبد يعرفُ لله جل وعلا حق قدره أو شيءٍ عظيماً من ذالك كُلهِ .
أعظمُها :::
توحيدهُ تبارك وتعالى فإنّ من وحدّ الله فقد عرف قدره وتوحيدُ الله جل وعلا الحسنةُ التي ليس بعدها حسنة كما أن الشرك السيئةُ التي ليست بعدها سيئة ولا مصلحة بعد التوحيد ولا مفسدةَ بعد الشرك فمن وحد الرب تبارك وتعالى ولم يجعل للهِ نداً في قلبهِ فقد عظّم الله جل وعلا وقد عرف قدرة .
فالمخاطبون بقول الله جل وعلا (ما قدروا الله حق قدرهِ ) هم أُولئك الذي جعلُوا للهِ أنداداً ساووا تلك الأنداد بربهم تبارك وتعالى جعلُوا من لهُ الأمر كُله كمن لا يملكُ من الأمر شيء تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيرا .
ثم تأتي بعد ذالك أُمورٌ لسلوك المرء في الحياة تدلُ على تعظيمه لربهم تبارك وتعالى ومنها على سبيل الإجمال والطريقة السردية لا الترتيب الأبجدي :
الوجل عند ذكر الرب تبارك وتعالى فإنّ وجل القلوب عند ذكر علاّم الغيوب من دلائل معرفة العبد بربهِ تبارك وتعالى وهذا كنهُ ما أثنى الله بهِ على عبادهِ الصالحين وأولياءه المُتقين في كتابهِ .
ذالك أن القلب إذا كان يجد مع محبة لذالك الذكر يفرحُ كُل الفرح ويُحبُ كل المحبة مجلساً يُعظم الله فيه ويُذكرُ الله فيه فإنّ ذكر الله حياةُ الضمائر وأُنسُ السرائر وأقوى الذخائر فالمؤمنُ إذا كان يجدُ في نفسهِ فكلُ امرئٍ حسيبُ نفسهِ يجدُ في نفسهِ حُب المجالس التي يُذكر الله فيها ويُحبُ أن يُعظّم الله ويُبجّل ويُحمد ويُثنى عليه جل وعلا بما هو أهلهُ مع وجلهِ وشوقهِ إلى ربهِ تبارك وتعالى إذا ذُكر الله هذا من القرائن والبراهين على أن ذالك العبد يُعظم الله رب العالمين ..(2/12)
كما أن من قرائن تعظيم اللهِ جل وعلا ومعرفة قدرهِ:
أن يُقدم المرء ما قدّمهُ الله وأن يُعظم المرء ما عظّمهُ الله وأن يتحرّى الإنسانُ العمل فيما وصىّ اللهُ جل وعلا بهِ هذهِ هي القلُوب التي عرفت ربها حقاً فإذا كان الإنسان قد جعل في طريقهِ في مسلك حياتهِ في غدّوهِ ورواحهِ ومُخالطتهِ لناس يُعظّم من عظّم الله ويُبجّل من بجّل الله فيُعظّمُ المُصلين لأنهُ يرى فيهم القُرب من الله بصرف النظر عمّن هم ويأتي بالوصايا الإلهية فلا يُقدّمُ على والديهِ أحدا فإذا عظّم والديهِ لا يُعظّمهُما على أنهُما أبواه وإنّما يُعظّمهُما لأن الله جل وعلا وصى عليهما في كلامهِ لأن الله جل وعلا وصى عليهما في كلامهِ.
ثم يزدلف ويُطبّق عملياً ما وصى الله جل وعلا بهِ فيجعلُ للوالدة ما لا يجعلُ للوالد ولو كانت الوالدة أشدّ قسوةً عليهِ من والدهِ ولو كان والدهُ حفياً بهِ لكنّ أُمهُ لا تصلُ في حنانها عليهِ إلى والدهِ يطرّحوا ذالك جانباً ويُقدّمُ ما قدّم الله وقدّم رسُولهُ صلى الله عليه وسلم .
ثم هذا الأمر يظنّهُ البعضُ خطاباً عارضاً لكنّهُ قرينة خفيه على أنك تُعظّمُ ربك وأنت تصدرُ إليهما تذكر قولُ الله : ( وأخفض لهُما جناح الذُل من الرحمة ) فأنت لا تخفضُ جناحك لأنهُما كبيران وإنّما تخفضُ جناحك امتثالاً لأمر ربك تبارك وتعالى تزدلفُ إليهما وقبل أن تُخاطبهُما بخطابك تتذكر أن ربك الذي خلقك وصاك بهما ولو صنعت هذا الصنيع مع والديك ومع كُل أحد وفق شرع اللهِ وأخذت بوصايا الله فإنك لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تُطيع الله فيهِ إنك لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تُطيع الله فيهِ فإنّ إتباع وصايا الله لا يقودُ إلا للفلاح .
لكن أين يكونُ الخطأ ؟؟(2/13)
يدخلُ الشكُ في المرء في أن هذا الطريق ليس بصحيح فيبحث عن طرائق أُخر يبتدعُها هو قد لا تكون بدعةٌ بمعنى البدعة المحضة ولكنّها فراراٌ عن منهج اللهِ ويُطبقُ منهجه وهو يظنُ أنهُ سيصلُ إلى مقصُودةِ ولن تصل إلى مقصُودك الشرعي إلا بالطريق التي اختصها الله جل وعلا لك وهنا يتميز من هو واثقٌ من منهج اللهِ عمّن هو غيرُ واثقٍ من منهج الله فإذا خاطب الإنسانُ والديهِ مثلاً المرة بعد المرة وخفض لهُما الجناح ولم يتغيرا لجأ إلى طريقٍ آخر يقول هذان والدان لا ينفعُ معهُما مثلُ هذا الخطاب فيبحث عن طرائق أُخر كأنهُ يقولُ ولو لم يُصرّح ودون أن يفعل ذالك عمداً كأنهُ يقول دون أن يشعُر أنني سأخططُ منهجاً أفضل من منهج الله .
يتعاملُ الإنسانُ مع ولاة أمرهِ وقد وصّاهُ الله جل وعلا بطاعتهِم فإذا رأى هنةً هُنا أو هُناك غيّر طريقته و أراد أن يخرُج عن وضع السمع والطاعة بحُجة أنهُ يُريد الإصلاح و لا يُمكنُ أن يكون هناك إصلاحٌ حق على أي مستوٍ إلا بإتباع شرعِ اللهِ جل وعلا وهذا وأمثالهُ منازل يُختبر فيها الناس وليس الأمر مقصُوراً على طاعة ولاة الأمر والوالدين لكن في شتى شؤون حياتك مع خصمك مع عدوك مع رئيسك في العمل مع جارك في الحي مع كُل خلقهِ جعل الله وصايا لكُل أحد فالزم ما وصّى اللهُ جل وعلا بهِ تنل ما وعد اللهُ جل وعلا إياك ما وعدك الله إياه أمّا إذا خرجت عن طريق الله فلا تنتظر ما وعدك الله بهِ وقد خالفت طريقتهُ ومنهجهُ تبارك وتعالى .
قالُو إنّ أمير المؤمنين عُمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مرّ على حائطٍ للأنصار ــ أي بُستان ـ وفيهِ رفاق شباب يشربون الخمر فتسلق السُور ودخل عليهم فقالوا يا أمير المؤمنين جئنا بواحدة شُرب الخمر وأنت جئت بثلاث :
تجسست والله قد نهى عن ذالك ،،
تسوّرت والله قد نهى عن ذالك ،،
لم تستأذن واللهُ قد نهى عن ذالك ،،
فعاد وهو يعلمُ خطأه لكنّهُ أكبر حُجتهم لأنهُم قارعوه بالقرآن .(2/14)
قال حافظ :
وفتيةٍ أُولعوا بالراح وانتبذُوا
لهم مكانً وجدّوا في تعاطيها
ظهرت حائطهُم لمّا علمت بهم
والليلُ مُعتفرُ الأرجاء ساجيها
قالُوا مكانك قد جئنا بواحدةٍ
وجئتنا بثلاثٍ لا تُباليها
فأت البيوت من الأبواب يا عُمرُ
فقد يُذلُ من الحيطان آتيها
ولا تجسس فهذي الآيُ قد نزلت
بالنهي عنه فلم تذكُر نواهيها
فعُدت عنهُم وقد أكبرت حُجتهم
لمّا رأيت كتاب الله يُتليها
لوما أنفت وإن كانوا على حرجٍ
من أن يحُجك بالآيات عاصيها
إنّنا نُطأطئ رقابنا لأمر الله وأمر رسُولهِ صلى الله عليه وسلم فإن ذلّت رقابُنا لأحد فوالله ما ذلّت إلا لأن الله أمرنا بهذا وإن امتنعنا عن شيء فلأن الله جل وعلا أمرنا أن نمتنع عنه هذا هو العبدُ الحق العبدُ الصالح العبدُ الذي يعرفُ عظمة أمر سيدهِ تبارك وتعالى خالقنا ومولانا لا رب لنا غيرهُ ولا إله سواه ...
من براهين تعظيم الله :
حُسنُ الظن برب العالمين جل جلاله .
جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل ربهُ يا رب إني أراهم يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فعلامّ خُصّ هؤلاء بأن ذُكرُوا معك فأوحى اللهُ جل وعلا إليه يا موسى أمّا إبراهيم فما خُيّر بين اثنين أنا أحدهُما إلا اختارني ،،،،
وأمّا إسحاق فقد جاد لي بنفسهِ وهو بغيرها أجود ،،،،،
وأمّا يعقوب فكُلّما ازددتهُ بلاءً ازداد حُسن طنٍ بي،،،،
ووالله من يعرفُ عظمة الله وسعة رحمتهِ لا يملكُ إلا خياراً أوحدا هو حُسن الظن برب العالمين جل جلالهُ .نحنُ نُذنب وليس لنا إلا الله يغفرُ ذنُوبنا ،،،،،،، نحنُ نُطيعُ الله بتوفيقهِ وليس لنا إلا الله يُثيبُنا على طاعتنا ولنا عيوب تلبّسنا بها وليس لنا إلا الله يسترُها فمن أحسن الظن بربهِ تبارك وتعالى كان الله جل وعلا لهُ كظنّهِ بربهِ تبارك وتعالى ..
والمعنى كما جاء في الحديث "" أنا عند حُسن ظن عبدي بي أو أنا عند ظن عبدي بي فليظُنّ عبدي بي ما شاء ""(2/15)
ومن عرف الله وسعةَ رحمتهِ لا يملكُ إلا أن يُحسن الظن بربهِ .
اجتمع أبناء يعقوب عليهِ شيخٌ كبير شابت لحيتُهُ واحدُودب ظهرهُ وعميت عيناه ومع ذالك يذكرُ يوسف ( فتولى عنهُم وقال يا آسفا على يوسف وابيضت عيناهُ من الحُزن فهو كظيم * قالوا تاالله أنك لفي ظلالك القديم ) تمرُ أقوام وأحداث إلى أن يقول الله جل وعلا عنهم ( قال إنّي لأجد ريح يُوسف لولا أن تُفنّدُون * قالوا تاالله أنك لفي ظلالك القديم * فلّما أن جاء البشير فالقاهُ على وجههِ فارتد بصيرا )ماذا قال لهم ؟؟
ذكرهم بحُسن ظنّهِ بربهِ قال الله ( قال ألم أقُل لكُم إني أعلمُ من الله ما لا تعلمون )
وإنّني أُخاطبُ كُل مُبتلى والله إنّ الله أرحمُ بك من نفسك وأن الله جل وعلا قادرٌ على أن يغيثك وأن ما أنت فيهِ هو خيرةُ الله وخيرةُ الله لك خيرٌ من خيرتك لنفسك خيرةُ الله لك خيرٌ من خيرتك لنفسك ويحتاجُ المرء مع ذالك إلى أن يُكثر من ذكر الله ويُصّبر نفسهُ ويرى سير الأخيار والأبرار الذين صبرُوا على ابتلاء ربهم تبارك وتعالى ...
من القرائن الدّالة على أن العبد يعرف ربهُ ويعرف لهُ حق قدرهِ :
التذلُل وعدمُ التكبُر على الخلق قال الله لنبيهِ
( ولا تمشِ في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولا كُل ذالك كان سيئهُ عند ربك مكروها )
يُحبُ الله من عبادهِ أن يتواضعُوا ولا يعلو أحدٌ على أحد مُتكأًً على نسبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو حسب وهذه دعاوى كُلاٌ يدعيها حتى إذا اختلط الناس بعضهُم ببعض تميز أُولئك الأخيار الأبرار الذين يعرفون أن ما هُم فيهِ نعمة من الله جل وعلا أنعم بها عليهم .
حتى الضلالة والهُدى ينظرون إلى أهل الضلالة نظرة من يُريد أن يُنقذهُم ممّا هُم فيهِ .
قال أحدُ الصالحين من السلف:
قد كُنتُ أعذرُ في السفاهة أهلها
فأعجب بما تأتي بهِ الأيامُ
فاليوم أعذرهم وأعلمُ أنما
سُبلُ الضلالةُ والهُدى أقسامُ(2/16)
نختمُ أيُها المؤمنون بالشواهد عياذاً بالله على أن العبد لا يعرفُ قدر ربهِ عافانا الله وإياكم من هذا البلاء :
أعظمُ ذالك :
الشركُ بالله فمن أشرك مع الله غيرهُ لم يعرف لههِ جل وعلا قدره البتة ولهذا حكم الله على هؤلاء بأنهُم خالدون في النار لا يُمكن أن يخرجُوا منها حتى إذا استسقُوا إنّما يُسقون ماءً حميما وعلى هذا فالشركُ باللهِ جل وعلا كما بيّنّا آنفا مفسدةٌ لا تعدلُها مفسدة رتب الله جل وعلا عليها أربعة أُمور : ــ اثنان في الدُنيا واثنان في الآخرة ــ
قال الله جل وعلا ( لا تجعل مع الله إلهً آخر فتقعُد مذموماً مخذولا ) هذا في الدُنيا .
وقال بعدها بآيات ( فلا تجعل مع الله إلهٍ آخر فتُلقى في جهنّم ملوماً مدحورا ) .
فهذهِ الأربعة رتبّها الله جل وعلا نكالاً على من أشرك بهِ .
فإذا انتهينا ممّن تلبس بالكُفر يأتي دونهم من عرف قدر الله من حيث الأصل ويأتي عُصاة المؤمنين الذين ما قدروا الله جل وعلا حق قدرهِ لكنّهم لم يخرجوا عن دائرة الإيمان ...
ومن القرائن على هذا نسأل الله لنا ولكم العافية سأقولها سرداً لا يستطيعُ الإنسانُ أن يذكُرها فُراداً :
قسوةُ القلب .
تكبُر على الخلق .
البُعد عن قيام الليل .
بخسُ الناس حقوقهُم .
وظلمُ العباد وهذا تبعٌ للأول ، فبخسُ الناس حقوقهم وظلمهُم من أعظم الدلائل على أن العبد لا يعترف بسُلطان اللهِ جل وعلا عليه .
المُجاهرة بالمعاصي ، يقولُ اللهُ موبخاً من عصاه ( ألم يعلم بأن الله يره )
اليأس من رحمة الرب تبارك وتعالى .
القنوط من روحهِ جل وعلا .
هذهِ و أضرابها قُلت أعتذرُ عن التفصيل فيها تدلُ من حيث الإجمال على أن العبد ما عرف قدر ربهِ تبارك وتعالى ...
خاتمةُ المطاف أيُها المؤمنون :
كُلنا نملكُ أشياء لا يلبث أن تنفذ والله جل وعلا وحدهُ من لا تنفذ خزائنهُ والله جل وعلا وحدهُ من لا تنفذ خزائنهُ وحريٌ بعبدٍ نفذت خزائنهُ أن يسأل رباً لا تنفذ خزائنهُ .(2/17)
الإلحاحُ على الله جل وعلا في الدُعاء وانقطاعُ العلائق إلى الرب الخالق جل جلالهُ وأن يجمع الإنسانُ شتات أمرهِ ويضعها بين يدي اللهِ وأن يفزع الإنسانُ إلى ربهِ في المُلمّات مع شُكرهِ تبارك وتعالى في حال السراء قرائنُ عظيمة على أن العبد يعرفُ ربهُ جل وعلا .
فالجوء إلى الله تبارك وتعالى واستغفارهُ وكثرةُ التوبة تُعين على طاعة الرب جل وعلا .
وهذهِ فائدةُ نختمُ بها :
ذكر القرطبيُ رحمه الله :
أن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم اجتمعوا يتدارسون القرآن فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه لقد قرأتُ القرآن كُله من أولهِ إلى أخرهِ فلم أرى آيةً أرجى من قول الله ( قُل كلٌ يعملُ على شاكلتهِ ) ثم قال الصديق قال فإن شاكلة العبد العصيان ولا يُشاكلُ الرب إلا العُصاه أي أن الله جل وعلا حقيقٌ بهِ أن يغفر كما أن العبد عُرضة لأن يعصي الله جل وعلا ..
فقال عُمر رضي الله تعالى عنه لقد قرأتُ القرآن كلهُ من أولهِ إلى أخرهِ فلم أجد آيةً أرجا من قول الله ( حم * تنزيلُ الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب ) قال إن الله قدّم غُفران الذنوب على قبُول التوبة ...
قال عُثمان رضي الله عنه وأرضاه قرأتُ القرآن كلهُ من أولهِ إلى أخرهِ فلم أجد آيةً أرجا من قول الله تعالى ( نبىءعبادي أني أنا الغفُور الرحيم )وقال عليٌ رضي الله عنه وأرضاه و قرأتُ القرآن كُله فلم أجد آية أرجا من قول الله ( قُل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفُسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً )
قال القرطبيُ رحمه الله بعد أن حكى هذا الخبر والأقوال الأربعة قال : وأنا ــ أي القُرطبي ــ وأرجا آية في كتاب الله قول الله ( الذين أمنوا ولم يلبسُوا إيمانهُم بظلم أُولئك لهم الأمنُ وهو مهتدون )
هذا ما تيسر إيرادُهُ وأعان الله جل وعلا على قولهِ وأعتذرُ إن قصّرت وعفواً إن أطلت فما أردتُ إلا الخير ما استطعت(2/18)
ما بقي من الوقت قبل الآذان وبعدهُ نُجيبُ على أسئلتكُم لأنهُ قد يكون في الأسئلة مطالب لم تفي بها المُحاضرة
سُبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلامٌ على المُرسلين والحمدُ للهِ رب العالمين
****** جزا الله فضيلة الشيخ خير الجزاء ******
أمّا الأسئلة الموجة لفضيلة الشيخ :
فيقول السائل لا حرمكُم الأجر كيف لي أن أُعلّق قلبي بخالق الخلق سُبحانه وأترُكُ الخلق ؟
نحنُ ذكرنا نُتفً منهُ في المُحاضرة والإجابة عنه قد تطول لكن ازدد علماً بالله تجد نفسك لا تزدادُ تعلُقاً إلا بالله ازدد علماً بالله تجد نفسك لا تزدادُ تعلُقاً إلا بالله .
نعم
يقول أنا شابٌ أُذنب وأتوب وفي كل توبةٍ أُعاهد الله على أن لا أعود إلى هذا الذنب مرةً أُخرى ولكن سُرعان ما أعود إليهِ ثم أتوب منه مع العزم على عدم العودة إليهِ ومع ذالك أعود إلى ذنبٍ أول
سؤالي يا شيخ أخشى أن أكون قد أخلفتُ عهد الله فأكون ممّن قال الله فيهم ( فأعقبهُم نفاقاً في قلُوبهم إلى يوم يلقونه ) فماذا علي أن أفعل وهل رجوعي وعودتي إلى نفس الذنب مع مُعاهدتي لله عز وجل على عدم العودة يعني أن الله قد أعطاني فُرص للتوبة وأنا لم أستغلها فكان العقابُ من الله لي بالإمساكُ بهذا الذنب ؟
الجواب فيه تفصيل أما أن تكون ممّن قال الله فيهم ( فأعقبهُم نفاقاً في قلُوبهم إلى يوم يلقونه ) فأرجوا الله أن لا تكون لا نحنُ ولا أنت منهم نسأل الله لنا ولك العافية.
أما قضية الأمر نفسهُ فهذا يُنظر فيه أصلُ المرء إذا أذنب ليس لهُ إلا أن يستغفر قال الله ( والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفُسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ) .(2/19)
والأمر الثاني أن تحاول أن تنسى هذا العمل فقد يتلبس الإنسان بمعصية لا يستطيع الإنفكاك عنها من قريب وثمّة طرائق أُخرى لإقصائها وهو أن يُكثر من العمل الصالح وأن يأتي بأعمال صالحة تُرقق القلب قال الله ( إنّ الحسنات يُذهبن السيئات ) وأن يحرص على برّ الوالدة على وجه الخصوص فهي من أسباب التوفيق هذا وجود انكسار في القلب هذا كلهُ بإذن الله يُعينك ولو بعد حين على التخلُص من تلك المعصية نسأل الله أن يهدينا وإياك سواء السبيل وأن يُثبتنا عليه..
يقول أحسن الله إليكُم أُبتليتُ بأن تعلّقتُ بشابٍ مثلي وفقدتُ بذالك السيطرة على قلبي حتى أني أُشغل بالتفكير فيه حتى في الصلاة وحتى في قراءة القرآن فضيلة الشيخ إني أكتُب هذه الكلمات وبي من الندم والحسرة على خسارة أعظمُ لذةً كُنتُ أحسبُ أني أجدُها لذة الطاعة شيخي هلاّ دللتني وفقك الله على شيءٍ أتشبث به حتى ينجلي هذا الأمر ؟
إنّا لله وإنّا إليه راجعون قُل إنّا لله وإنّا إليه راجعون
لا توجد مُصيبة أعظم من أن يتعلّق قلب العبد بغير الله على هذا من ابتُلي بشيءٍ من هذا فليقُل بقلبٍ صادق إنّا لله وإنّا إليهِ راجعون لأن الله يقول ( والذين إذا أصابتُه مُصيبةٌ قالوا إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون أُولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمه ) وقل اللهم أجرني في مُصبتي وعوضني خيراً منها والله إنّ فقد الأولاد والأموال والزوجة والوالدين لا يعدل فقد الإنسان قلبهُ في أن يتعلّق قلبهُ بغير الرب تبارك وتعالى لكن لا نُريد أن نُقّرعك ونُكثر عليك اللوم فثمّةً طرائق قد لا يحسُنُ نشرُها على الملأ فلو استطعت أن تتصل بنا هاتفياً أو بغيرنا ممّن تظُنّ به الفضل يُرشدوك إلى طرائق لأن هذهِ قضية عين قضية فرديه وقد يكون فيك مكامن قوة في الصلاح والإيمان لو استُغلّت جيداُ يُعينك الله بها على أن لا يتعلّق قلبُك بغير الله جل وعلا .(2/20)
يقول أحسن الله إليكم شخصٌ يحفظ القرآن كاملاً وكان يرُاجعه ثم إنه لم يُراجعهُ حتى الآن منذُ سبع سنين فماذا تُوصيهِ علماًُ أنه قد نسي ؟
يُراجع القرآن يُحاول أن يجعل لنفسهِ جدولاً ويراجع فيه كلام ربه تبارك وتعالى إنسان يحفظ القرآن ثم يتركهُ لا يُترك أي شيء إلا لشيء أحسن منه فهذا الذي كان يحفظ القرآن ثم تركه لأي شيءٍ ذهب لا يوجد فنسأل الله جل وعلا أن يُعيدهُ إلى صراطه المُستقيم وأن يمُّن عليه بمراجعة القرآن .
أحسن الله إليكم يقول ورد في قول أحد الصحابة أنهُ قال كُنّا نتعلم الإيمان قبل القرآن فماذا يقصد بالإيمان ؟
نعم الإيمان هنا معرفة الله تبارك وتعالى وتعظيمه محبتهُ الخوف منه والرجاء فيه هذا كلهُ من دلائل الإيمان ثم يتعلّمون القرآن المقصُود به هنا الأحكام الشرعية لأن الإنسان إذا كان مُؤمناً حقاً سهُل عليه أن يعمل بتلك الأحكام أمّا إن كان يعلم تُلك الأحكام ويعرفُها ولا يُوجد إيمانٌ ولا علمٌ بالرب تبارك وتعالى فإنهُ لن يجد في نفسهِ باعثاً إلى أن يعمل بتلك الأحكام .
يقول كيف يُنمّي الإنسان في قلبهِ الأعمال القلبية كالتوكل والخشية والإخلاص وغيرها ؟
يختلف بعضُها بسؤال الله جل وعلا وبعضُها بمُدارستها بعضُ آيات القرآن التي فيها أعمال القلوب مع مشايخهِ أو أهل العلم في هذا الشأن وبعضُها بمحاولة التأمُل في الواقع وأحوال الناس وربط ذالك بآيات الكتاب المُبين هذا كُلهُ ممّا يُعينهُ على أن يُخلص قلبهُ النية لربه تبارك وتعالى وتعظم أعمال القلوب في قلبه .
أحسن الله إليكم يقول يستدلُ بعضُ القُبُوريين بأن الولي لهُ القُدرة على الخلق مُستدلاً بقوله ( تبارك الله أحسن الخالقين ) بأنّ الله أثبت عدة خالقين فما هو الرد على هذه الشُبهة ؟(2/21)
لا أحد أبداً يخلقُ إلا الله ( هل من خالقٍ غيرُ الله ) استفهام استنكاري أي لا أحد يخلقُ غير الله هذا أمرٌ أجمع الناسُ عليه حتى عبدة الأوثان وكُفّار قريش لم يكُن يقولوا أن أحداً يخلقُ غير الله.
قال الله تبارك وتعالى عنهم ( أم خُلقُوا من غير شيءٍ أم هُم الخالقون )
أحسن الله إليكم جاءت أسئلة كثيرة كُلها تسأل كيف يجد الإنسان رقة قلبهِ عند قراءة القرآن ؟
الباب الأول : اليقين أنهُ كلام الله من قرأهُ وهو يعلم أنهُ كلام الله حقاً وكُلنا يعلم ذالك لكن كُلّما ازداد الإنسانُ علماً بأن هذا كلامُ الرب تبارك وتعالى كان أقرب إلى أن يرقّ قلبهُ إذا قرأ آيات القرآن .
أحسن الله إليكم يقول امرأةً تُؤخر الصلوات عن وقتها وتُصلي هذي الصلاة في آخر الليل وأيضاً تُؤخر الغُسل لمُدة يومين وقد قمتُ بنُصحها فغضبت وطالبت بالطلاق فما الحل في ذالك مع العلم أنها قد قرأت بعض الكُتب في سوء المعصية إلى آخره ؟
هذهِ قضيةٌ فردية الأصلُ أنها تُطلّق لكن كما قُلت لا أستطيع أن أحكُم دون أن لأنها قضية بين اثنين ومثل هذا لو كان اتصل بمشايخٍ فُضلاء في الرياض الشيخ عبد الله الجبرين ، الشيخ عبد الكريم الخضير وأمثالهُما من أساطير العلم في هذه المدينة المُباركة يجد عندهم جواباً شافياً بس لا يكون في مسجد عام إنّما يذهب إليهما أو إلى أحدهما أو إلى غيرهما من أمثالهما فيجلس معه ويوضح لهُ الأمر بالكُلية وسيجد عندهما من العلم والرأي والمشورة ما ينفعهُ الله جل وعلا به .
جاءت أيضاً أسئلة كثيرة تسأل عن السبيل إلى قيام الليل ؟(2/22)
التخفيف من الأوزار في النهار يُعين على الوقوف بين يدي الواحد القهّار في الليل .كان بعضُ مشايخُنا يمشي في الطريق يذهب إلى الحرم ماشياً فلحقهُ أحدُ طلبة العلم وهذا الشيخ متّع الله به اسمهُ عبد الله عُمر في الستين من عمره وهو ذاهب إلى الحرم سألهُ أحدُ الناس يا شيخ كيف أحفظُ القرآن كيف أكونُ مُجيداً لحفظ القرآن ؟ فقال الشيخ وفقهُ الله قال قُم بهِ في الليل تحفظه أعظم طريق لتدبُر القرآن وحفظهِ وبقاءهِ في الصدر أن يقوم الإنسان به في الليل .
ومّما يُعينُ على قيام الليل مسألة أن الإنسان يتخفف من الذنوب والمعاصي في نهاره بل يترُكها بالكُلية لكن الذنوب ثقل كلّما خفف الإنسانُ منها قدُر على أن يقف بين يدي ربهِ جل وعلا في فلق الأسحار والناس في هذا يتفاوتون تفاوتاً كثيرا والمهم حضور القلب وأن يكون الإنسان يشعُر بذنبهِ ومعصيته وانكسارهِ بين يدي خالقه ويُلّح على ربهِ في الدُعاء ويسأل الله جل وعلا في تلك الساعات من فضلهِ ويتقرّب إليه تبارك وتعالى أن يرحمهُ هذا كلهُ بإذن الله إذا وجد ولو يسيراً منهُ في الليل كان الإنسانُ على خير عظيم وصراطٍ مًستقيم
يقول أحسن اللهُ إليكم أنا شابٌ مُلتزم ومكثتُ أكثر من شهرٍ لا أُصلي الفجر في المسجد وأندم على ذالك أشدُ الندم ثم أرجعُ على ما أنا عليه فما هو الحل ؟
الندم وحدهُ لا يكفي وإن كان مطلوباً لكن كما قُلت هذهِ الأسئلة أكثرُها قضايا فردية لابُد أن هناك خلل ما عقوق والده يحرمك من خيرٍ عظيم مُعاملتك لأجير من يغسلُ لك سيارتك والله تأخير الراتب شهر واحد عشرة أيام ينعكس عليك ينعكس على علاقتك بربك تبارك وتعالى والله تبارك وتعالى حكمٌ عدل وقد وضع طرائق تدلُ إليهِ وتُرشد إليه تبارك وتعالى فالمرء إذا كان يعلمُ قُدرة الله عليهِ خاف فيمن جعلهُم الله جل وعلا بين يديهِ .(2/23)
قُلنا مراراً في تفسيرنا للقرآن الله يقول ( يوم يفر المرء من أخيهِ وأُمهِ ,ابيهِ وصاحبتهِ و بنيهِ لكُل امرئٍ منهُم يوم إذاٍ شأنٌ يُغنيهِ )
تأتي الأسئلة تقول لماذا قدّم الله الأخ لماذا أخّر الله الأُم لماذا قدّم ؟؟؟
هذا ليس سؤالاً في مكانهِ لكن السؤال الذي في مكانهِ؟ لماذا يفر المرء من هؤلاء كلهم يوم القيامة حُكم عدل يوم ميزان يوم يقتصُ لكُل صاحب مظلمة والإنسانُ غالباً يظلمُ من يظلم من يحتك بهم كثيراً زوجتهُ أولادهُ أبويهِ عاملهُ خادمهُ من يعمل عندهُ في الدار الأجير هؤلاء الذي تُخالطهُم وتُعاملهُم ينشأ عنك بينك وبينهم مظلمة ....
مثلاً هذا يزيد يسكُن في الرياض وأنا أسكُن في المدينة لا يوجد معاملة بيني وبينه لأجل هذا إذا رأيتهُ يوم القيامة لا أخشى منه ولا يخشى مني لأني لا أتذكرُ أن هُناك معاملةً بيني وبينهُ أكون قد ظلمتهُ فأفرّ.
لكنّ الإنسان إذا رأى قرابتهُ وأهل بيتهُ ومن يخالطونه يفرّ خوفاً من أن يُطالبهُ بحقوقٍ ضيعُوها فيأتي المرء وقد ظلم أجيرهُ وقد ظلم خادمتهُ وأطلق لسانهُ على جاره أو قال في أحدٍ ما ليس فيهِ أو خصم من رجُلٍ ظلماً أو استغّل وظيفتهُ فرشى أو ارتشى ثم يأتي إلى المسجد فيقول الإمام قرأتهُ لا تجلب الخشوع هذا الإمام يحتاج تغيير هذا هذا المسجد هذا هذا والسرّ والقضية ليست قضية إيمان وليست قضية مسجد مُضاء أو مُكيف القضية قضية قلب القرآن هو القرآن لكنّ لمّا يأتي إنسان لا يعمل بالقرآن لا ينتظر أبداً أن يخشع عند قراءة القرآن لكن من يعمل بالقرآن يُكرمهُ الله جل وعلا ولا مُلزم على الله يُكرمه الله بأن يخشع إذا قرأ القرآن يُعظّم القرآن كتعظيم كما ذكرنا في خبر عمر إن الإنسان يأخذُوا آيات الله فيُعظمُها ويترُك رأيهُ وهواه ويدر رقبتهُ لأوامر الله ورسولهِ صلى الله عليه وسلم .(2/24)
زيدُ ابن حارثة كان متزوج من زينب بنت جحش والإنسان لا يجدُ أحد يخالطهُ ويحتكُ بهِ وتنفعُ بينهم الكلفة بين الزوجة فلما طلقها في القصة المعروفة أمرهُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب ـ أي زيدُ ـ ليخطُب زينب له ـ أي لنبي عليه الصلاة والسلام ـ يقول زيدٌ فذهبتُ إليها فوجدتُها تُخمّرُ عجينتها فلّما رأيتُها استعظمتُها وهي زوجتهُ سبق أن عاشرها و ضاجعها على فراشٍ واحد ومع ذالك وقعت في قلبهِ موقعً عظيمً قال لماذا قال لأنني علمتُ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فأدار لها ظهره وأصبح يُكلمها وهو يُلقّيها ظهره ولم يكتفي بأن تتحجب وتتخمّر وأن تختمر أن سمعت أنه موجود كل ذالك تعظيماً لأمر الله وتعظيماً لأمر رسولهِ صلى الله عليه وسلم .
ثم حاول أيها المُبارك أن تُصاحب عملك استشعاراً للجزاء قبل أن تُعطي من عمل أجيراً عندك وأنت تمشي إليه قبل أن تُخرج المبلغ الذي اتفقتما عليه تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أعطُوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه )
قبل أن تُوقف سيارتك في موقف جارك تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يُؤمن من لا يأمن جارهُ بوائقه "
هذا وأمثالهُ طبّقهُ في حياتك اليومية تدخُل المسجد تقفُ بين يدي الله يرزُقك الله جل وعلا طرائق القُربى من لدُنه لأنك عظّمت أمرهُ في النهار فيرزُقك الله جل وعلا حظاً عظيماً في الوقوف بين يديه في الليل .
يقول السائل أحسن الله إليكم أنا شابٌ في بداية التزام فبماذا تنصحُونني كما أردتُ من فضيلتكُم الدُعاء بالثبات على الهداية ؟
الزم قراءة القرآن وصُحبة الصالحين والترُدد على المساجد نسأل الله أن يُثبتنا وإياك على هذا .
يقول شيخي الفاضل أنا شابٌ مُلتزم ولكن قد لا أستطيعُ السيطرة على نفسي في الخلوات ؟(2/25)
اتقِ الله ما استطعت لكن لو وقعت في خطأ لا يدفعّنك هذا إلى ترك الطاعات ينبغي أن يُراقب الله جل وعلا جلياً جليلاً في الخلوات وهذا أمرٌ عظيم عظّمهُ الله لكن لو وقعت منك خطيئة أو معصية لا تمنعنّك من إتيان الطاعات والبقاء على ما أنت فيه علّ الله جل وعلا أن يدفع بالأثر الناجم عن الطاعة تلك المعصية ويتوب عليك .
أحسن الله إليكم يقول ما الفائدة المرجوّة من التأمُل في أحوال السلف الصالح مع أنّنا قد لا نستطيع القيام بما قاموا بهِ ؟
تشبهُوا إن لم تكونوا مثلهم
إنّ التشبُه بالكرام فلاحُ
هذا الرأي مما تُشحذ به الهمم ينظُر الإنسان في أحوال أهل الخير ولهذا قصّ الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيراً من أخبار الأنبياء والرُسُل قبله وقال جل ذكرهُ وتبارك اسمهُ ( أُولئك الذين هدى الله فبهُداهُم اقتده )
فالتأمُل في سيرة السلف الصالح والأنبياء والمُرسلين في المقام الأول ومن أثنى الله عليهم في كتابه من غير الأنبياء والمُرسلين كل ذالك ينجمُ عنهُ أثرٌ جم وخيرٌ عظيم .
أحسن الله إليكم يقول بالأمس حدث خسوفاً للقمر فهل يدُل حدوث الخسوف على عدم رضا الله عز وجل على عبادهِ ؟
لا يلزم من هذا لكن هذا ابتلاء من الله تبارك وتعالى أن يُسارع الناس للخيرات يُسابق الناس في الطاعات والله يقول وهذا من دلائل معرفة قدر الله جل وعلا وقد فاتنا أن نُنبّه عليها أن الناس يتفاوتون في النظر إلى مثل هذا الخسوف أو الكسُوف إذا وقع لكن من عرف أن هذهِ الأمور مُسيّره بقُدرة الرب تبارك وتعالى الله يقول ( وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وأتينا ثمود الناقة مُبصرة فظلموا بها وما نُرسلُ بالآيات إلا تخويفا وإذ قُلنا لك إنّ ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرُؤيا التي أريناك إلا فتنةً لناس والشجرة الملعونة في القرآن ونُخوّفهُم فما يزيدهُم إلا طُغيناً كبيرا )(2/26)
يرى العاقل الخسوف ويقرأ قول الله جل وعلا ( ونُخّوفهم فما يزيدهُم إلا طُغياناً كبيرا ) ويأخُذ قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنهُما آيتان يُخّوف اللهُ بهما عباده " فيحاول أن يكسر قلبهُ في ذالك الحين فراراً ممّن يكون ممّن قال الله فيهم ( ونُخّوفهم فما يزيدهُم إلا طُغياناً كبيرا ) نسأل الله لنا ولكم العافية .
أحسن الله إليكم يقول أرجوا من فضيلتكُم أن تُبين لنا معنى قولهُ تعالى ( وما أتاكم الرسول فخذُوهُ وما نهاكُم عنهُ فانتهُوا ) فإنّ كثيراً من الناس لا يُطبق السُنة في كثيرٍ من أحوله ؟
الآية هذهِ عامة قال العُلماء جمع اللهُ السُنة كُلها في آيةٍ واحدة ( وما أتاكم الرسول فخذُوهُ وما نهاكُم عنهُ فانتهُوا )
فما نهى الله عنه يُنتهى عنه بالكُلية أمّا ما أمر الله به فيُنظر ما أتانا الرسُول صلى الله عليه وسلم بهِ فيُنظر فبعضهُ فعلهُ على صيغ الوجوب وبعضهُ فعلهُ على صيغ السُنن وبعضهُ دلّت السُنة على أنهُ كراهةً تنزيه فيُعامل كُل حدثٍ بعينهِ أما الآية نفسُها فليس فيها دليلٌ تفصيلي وهذا من الأخطاء في فهم القرآن مُحاكمة الناس على أشياء الأصل فيها عدم فقه القائل بالدليل نسال الله العافية .
أحسن الله إليكم يقول ولله الحمد كما ترى في هذا المسجد وغيرها مُستقيمون كُثر هل من كلمةٍ في رفع الهمّةٍ لدعوةِ إلى الله جل وعلا لإصلاح الناس بعد إصلاح أنفُسهم ؟
من أراد أن يعرف أين مقامهُ عند الله فلينظُر فيما أستعملهُ الله جل وعلا فيهِ .(2/27)
وإنّ من أعظم ما يُمكن أن يدّخرهُ المرءُ لنفسهِ بعد وفاتهِ لحظات يُعرّف العباد فيهم بربهِم تبارك وتعالى إن دخلت مجلساً أو أتيت قوماً أو زُرت أحداً فلا يكُن همُك شيء أعظم من أن تُحبّبهُم في ربهم تبارك وتعالى أن يخرُج الناس بعد أن يخرُج من لقيتهُ بعد أن التقى بك وقد ازداد حُباً وتعظيماً وإجلالاً لله لا أن يقول إنك طليقُ اللسان قوي البيان لديك معلومات تفقهُ في علم كذا هذا كلهُ لا ينبغي أن يكون مقصُوداً ولو جاء تابعاً لا تلتفت إليه لكن المُهم أن يُعظّم الله جل وعلا على لسانك فيُعظّموا الناس ربهُم تبارك وتعالى على يديك والإنسان إذا أدرك هذا المُبتغى سعى في الدعوة إلى الله وكفى بقول الله ( ومن أحسنُ قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المُسلمين )
أحسن الله إليكم يقول إذا كانت الدعوة إلى الله تستلزم الاختلاط بغير المُلتزمين مما يُؤدي إلى ضعف إيمانهُم فهل أفضل اختلط بهم أم اتركهُم ؟
كلمة الاختلاط تختلف فلا ينبغي مُخالطتهُم أكلاً وشُرباً وغدُواً وروحاً هذا لا يُعقل لكن إذا كان الاختلاط عارض ينجُم فيه الدعوة الكلمة الطيبة مُشاركتهُم أفراحهم الوقوف معهم في أحزانهم هذا أمرٌ محمود ويختلف الناس علاقتهُ بأبويه علاقتهُ بجيرانهِ علاقتهُ بمن يسكُنُ عمارته علاقتهُ بأقربائهِ كلُ فريقٌ من هؤلاء لهُ حقٌ مخصوص ومُحدد شرعاً ينبغي أن يُنظر إلى الأمر بجدية تُرجح المصالح وتُبعد المفاسد .
أحسن الله إليكم يقول ما نصيحتكُم لمن يأتي إلى المُحاضرات مُبكراً حرصاً من القُرب من الشيخ ولكن إذا جاءت الصلوات فرُبما لا يأتي إلا والإمام في التشهُد ؟(2/28)
هو يُحمد على الأول إنهُ أتى مُبكراً الباطل لا يمنع قبول الحق كونهُ يأتي للمُحاضرات مُبكراً هذا أمرٌ محمود وأما إتيانه لصلاة مُتأخراً فلا شك أنهُ غيرُ محمود فنقول لهُ كما أتيت للمُحاضرات مُبكراً فإن القدُوم إلى الصلاة أعظم وأجلّ بلا شك فإن المُنافسة على الصف الأول ممّا رغّب النبي صلى الله عليه وسلم فيه فابقِ على الحظ الأول وازدد إليه الحظ الثاني فإنهُ أولى وأحرى .
أحسن الله إليكم يقول ما هي نصيحتكُم لطالب العلم في اقتناء أفضل التفاسير ؟
هذا يختلف بحسب منزلتهِ الآن أنا لا أدري السائل هل قرأ شيئاً لم يقرأ شيئاً ماذا قرأ ميُولهُ لغوية تاريخية عقدية يختلف لكن عموماً يختارُ الإنسان كل من الكتُب متنوعة الأساليب في التفسير ثم يحاول أن يُكثر من القراءة فيها كثيراً حتى يصل إلى مرحلةٍ ما تُهيأ لهُ بعد ذالك أن يقرأ أكثر فأكثر وقُلت مثل هذهِ الإجابات تصعُب لأننا نتكلمُ عن حالٍ فردية والناس تتفاوت قُدراتهُم تفاوتاً كبيراً ...
أحسن الله إليكم يقول قدّم الله السمع على البصر في كثير من الآيات إن في سورة السجدة حين ذكر نكوس رؤوس المشركين قالوا ( أبصرنا وسمعنا ) ؟
نعم هذهِ مسألة يتدارسها العُلماء وإنني قائلٌ إن الإنسان في مسألة السمع يُمكنُ للإنسان أن يسمع ما لا يرغب أما البصر فالغالب أنهُ لا يرى إلا ما يرغبهُ فأنت تستطيع أن تُحدد بصرك فلا ترى إلا شي تُريده .
تُريد أن تُبصر هذا العمود مثلاً ولا تُريد أن تنظُر إلى هذا هذا أمرٌ مقدورٌ عليه لكن بالنسبة لسمع فأنت كُل ما حولك تسمعهُ ولهذا قالوا قدّم الله جل وعلا السمع وأفردهُ أكثر من البصر .(2/29)
وأما قول ما ذكره الله جل وعلا على لسان أهل الإشراك فإنهُم كانوا يسمعون النقل وهو القرآن ولا يُؤمنوا بهِ وجاء في القرآن ( وكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليوم حديد ) فإذا جاء يوم القيامة ما كانوا يسمعون عنه رأوهُ بماذا رأوهُ بأعيُنهم وهُنا يُقدّمون البصر ( قالوا ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون ).
نعم .
أحسن الله إليكم يقول أو هذا سؤال من النساء تقول ما حُكم لبس البنجابي الفضفاض ؟
أسئلوا غيري إذا كان في البيت لا حرج مع والدتها وأخواتها فلا حرج فيه إن شاء الله أما المجامع العامة فتختلف .
أحسن الله إليكم يقول إذا كان ولدي لا يُصلي إلا الجُمع فماذا أفعل معهُ وهو كبير ؟
هذا ولدُك تُحاول نُصحهُ وإرشادهُ محاولة التأثير عليه تدُل عليه من لهُ كلمة عنده بأن يدعونهُ إلى صراط الله المستقيم .
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاتهِ العُلى أن يهدي لك ابنك .
بعضٌ من الشباب الذين ظاهرهم الصلاح نراهم أو نسمع عنهم أنهم من أسوء الناس أخلاقاً مع زوجاتهم ومع أهليهم فما نصيحتكم لهؤلاء ؟(2/30)
إن شاء الله يكون هذا لو وُجد يوجد قليل لكن كما قُلنا تعظيمُ الأمر النبوي " خيركُم خيركُم لأهلهِ " إذا تكلّمنا بلُغة الناس ليس محموداً أن يُظهر الإنسانُ رُجُلتهُ على امرأة ليس منّا يُفرح بهِ ولا يدلُ على قوة شخصية ولا على علو قدر النبي صلى اله علية وسلم تظاهر عليه نساؤه تهابهُ أعدائهُ ويتظاهر عليه نساؤه فقال صلى الله عليه وسلم اعتزل في مشربه شهراً كاملاً قبل أن تأتي آية التخيير ( إن كُنتنُ تُردن الحياة الدُنيا وزينتها ) فلّما أعتزلهم صلى الله عليه وسلم وقد البيت في ختام تسعه وعشرين يوم قابلتهُ عائشة رضي الله عنها وأرضاها المرأة أصلاً تجد في نفسها دلالٌ على زوجها خاصةً إذا كانت تثق بعقلهِ فلّما عاد بدل أن تُظهر فرحتها بهِ قالت باقي يوم يعني أنت جيت بدري فقال صلى الله عليه وسلم إن الشهر يكونُ تسعةً وعشرين ويكونُ ........(2/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
الشريط الرابع
من ألبوم
(أعلام القرآن)
لفضيلة الشيخ:
صالح بن عواد المغامسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فنحن ماضون بإذن الله في قضايا أعلام القرآن: ـ
ـ أولى أعلام القرآن أولى أعلام القرآن في هذا اللقاء المبارك لقمان عليه السلام ولقمان عند أكثر العلماء على أنه غير نبي وذهب عكرمة من السلف فيما يروي عنه إلى أن لقمان كان نبيا والذي عليه أكثر العلماء أنه عبد صالح أحب الله فأحبه الله وأعطاه الله جل وعلا الحكمة والمشهور أنه عاش في زمن داود عليه السلام قال الله جل وعلا :(وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) وهذا قسم من الرب تبارك وتعالى أنه أعطى هذا العبد الصالح الحكمه وهي :ـ
الصواب في الأقوال والأعمال ومعرفة حقائق الأمور هذا مجمل مايمكن أن يقال عن الحكمه والحكمة لها تعريفات عده وإنما تعرف بحسب قرائنها فقول الله جل وعلا : ( وَاذْكُرْنَ مَايُتَلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ....). تفسر الحكمه هنا /(3/1)
ـ بأنها السنة والوحي الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لكن هذا التفسير غير مضطرد في كل معنى للحكمه وإنما بحسب القرائن نعود إلى لقمان فنقول إنه عبد صالح أحب الله فأحبه وأعطاه الله جل وعلا الحكمة بنص القرآن وجاء القرآن العظيم سورة مكية كريمة سميت باسم هذا العبد الصالح لأن الله جل وعلا ذكره في القرآن ذكر قصته فيها وقلنا إن العلماء أكثرهم على أنه غير نبي وقال عكرمة والشعبي من السلف فيما ينقل عنهما أنه نبي وعلى هذا التحرير العلمي للمسأله أن يقال: إن لقمان أحد الشخصيات ذكرها القرآن اختلف الناس في نبوته وهذه الشخصيات منها ذوالقرنين ومنها لقمان ومنها حواء ومنهم مريم ومنهم تبع فهذه أعلام خيره بالإتفاق ذكرها الله جل وعلا في كتابه إلا أن العلماء اختلفوا وأكثر أهل العلم على التوقف وقيل على الترجيح بأنهم غير أنبياء.
ـ قال السيوطي رحمه الله في منظومة له:
واخَتلفَتْ في خِضْر ٍأَهلُ النُقول
قِيل نَبيٌّ أو وَلِيٌّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ أَو رَسُول
لقمانَ ذِي القَرنين حواء مريمِ
والوْقفُ في الجميعِ رَأي المُعْظمِ
معنى الكلام / أن هذه الشخصيات اختلف الناس فيها هل هي أنبياء ؟ أو رسل ؟ أو أولياء ؟ ثم قال السيوطي رحمه الله في آخر في عجز البيت الثاني قال:
والوْقفُ في الجميعِ رَأي المُعْظمِ
أي الوقف التوقف في الحكم هو رأي معظم الأنبياء لكن هذا القول لايسلم للسيوطي عموما لأن التوقف حاصل في ذي القرنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا أدري أكان ذو القرنين نبيا أم لا) أما غيره فلاينبغي التوقف في أن مريم أو حواء أنهم غير أنبياء لأن الله لم يبعث نبيا امرأه ( وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّّّّّّّّّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ) فالمقصود قوله التوقف فيه نظر ورغم جلالة علم السيوطي رحمه الله تعالى .(3/2)
ذكر الله جل وعلا في هذه السوره الكريمه وصايا لقمان لأبنه وليس المقام مقام تفسيرها لكن جملة نقول إن لقمان في وصاياه جمع أصول الشريعة الأربعة . جمع أصول الشريعة الأربعة: ـ
ـ الإعتقادات وهذا في قوله ( لاَتُشْرِكْ بِاللهِ )
ـ والأعمال في قوله ( يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفَ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ )
ـ وأدب المعامله في قوله ( وَلاَتُصَعَّر ْخَدَّكَ لِلنَّاسِ )
ـ والأدب مع النفس في قوله ( وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ) وقوله ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) وقوله ( إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصُوتُ الْحَمِيرِ ) وهذه الأربع الإعتقادات والأعمال وأدب المعامله وأدب النفس هن أصول الشريعه التي جاء بها الأنبياء عن ربهم جل وعلا حُفِظ عن لقمان أقوال في غير القرآن فلقمان شخصية حكيمة شهيرة ولهذا خاطب الله القرشيين به لأنهم يعلمون عنه ويسمعون عنه تاريخا فهو شخصية حكيمة شهيرة معروفة لدى الأمم ولهذا نزل القرآن بخبره وقصته مماحُفِظ عنه أنه قال :
ـ ثمانيه حفظتها عن الأنبياء ثمانيه حفظتها عن الأنبياء:ـ
ـ إذاكنت في الصلاة فاحفظ قلبك . إذاكنت في الصلاة فاحفظ قلبك.
ـ وإن كنت في الطعام فاحفظ بطنك .
ـ وإذا كنت في بيت غيرك فاحفظ عينيك .
ـ وإذا كنت في الناس فاحفظ لسانك.(3/3)
ـ واذكر اثنتين وانسى اثنتين أذكر الله ـ لا إله إلا الله ـ واذكر الموت أي لا تغفل عن ذكر الله ولاتغفل عن ذكر الموت وانسى اثنتين إحسانك إلى الغير وإساءة الغير إليك إحسانك إلى الغير وإساءة الغير إليك هذه أمر بنسيانها وقوله رحمه الله نسيان الإساءه إلى الغير ونسيان الإحسان إلى الغير هذا يندرج في باب ممكن يجمل يسمى باب المروءه والمروءه باب طويل جدا لكن لمن ؟ لطلبة العلم لمن أراد أن يستفيد هناك كتاب اسمه " المروءة " وهو قلما يؤلف أحد فيه كان قديما المروءه تأتي في الكتب في عيون الأخبار لابن قتيبه آشار إليها ابن عبد ربه في العقد الفريد وقلما أفردها أحد بكتاب لكن أفردها في هذا العصر الشيخ / مشهور بن حسن سلمان أحد تلامذة العلامه الألباني وهو من كبار المؤلفين في العصر غير كبير في السن لكنه كبير في العلم له كتاب اسمه / المروءه مطبوع مشهور فاقتناؤه لطلبة العلم ينفع كثيرا وللشيخ كذلك مؤلفات أخر لكن هذا الذي يعنينا في مقامنا هذا هذا ما أوصى به لقمان في وصاياه التي نقلت في غير القرآن .
ـ كما من وصاياه التي نقلت في غير القرآن أنه أوصى ابنه فقال : أي بني إياك والتقنع وهو ما يسميه العامه اليوم التلثم إياك والتقنع فإنه مخوفة بالليل مذلة بالنهار مخوفة بالليل مذلة في النهار وفي بعض الرويات ريبة في النهار .(3/4)
ـ وقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: رأى رجلا متلثما مقنعا فقال له أما علمت أن لقمان يقول : إن التقنع ريبة بالنهار مخوفة بالليل فقال الرجل : يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين . إن لقمان لم يكن عليه دين الذي جعله يتقنع ويتلثم خوفه من مطالبة الدائنين له هذا أمر ظاهر في الحياة الإجتماعيه بين الناس مما يمكن أن يقال عن لقمان أن الله جل وعلا قال عنه :( وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُر ْلِلَّهِ ) فشكر الله تبارك وتعالى من أعظم استزادة النعم بل إن شكر الله جل وعلا دلالة على حصول الإنسان على الحكمه لأنه لايمكن أن يوصف أحد غير شاكر بأنه حكيم وإنما رأس الحكمة مخافة الله ومخافة الله مبناها على شكره تبارك وتعالى وشكر الله جل وعلا تبارك وتعالى قائم على قواعد منها : ـ
ـ الخضوع له .
ـ والإعتراف له بالنعمه.
ـ ومحبته جل وعلا .
ـ والثناء عليه بها .
ـ وعدم استعمالها فيما يكره ويبغضه تبارك وتعالى .
مما ذكره لقمان في وصاياه التي قلنا ليس المقام مقام تفسير إنما نتكلم عن أعلام نتوف تاريخيه... أدبيه حولها مماذكره الله جل وعلا قال أنه قال لإبنه : (يَابُنَيَّ لاَتُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظَيمٌ) وقد مر معنا في دروس عدة أن الظلم وضع شئ في غير موضعه وعبادة غير الله من أعظم الظلم لأنه أعظم وضع لشئ في غير؟ في غير موضعه.(3/5)
ـ وهذه الآيه يدخلها العلماء فيما يسمى تفسير القرآن بالقرآن ؟ لأن الله قال : ( الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّّّّّهْتَدُونَ ) فالصحابه لما نزل الآيه فزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين وأينا لم يخلط إيمانه بظلم قال : ليس الذي إليه تذهبون أي ظلم الناس أما سمعتم قول العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظَيمٌ) فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم الذي في سورة الأنعام بالظلم الذي في سورة لقمان وهذا من تفسير القرآن بالقرآن وهو أرقى درجات التفسير ولهذا الشيخ الشنقيطي رحمه الله سمى كتابه "إيضاح القرآن بالقرآن" ولهذا الشيخ لم يفسر القرآن كاملا لأن ليس كل ءايات القرآن مفسرة بالقرآن وهو التزم أن يفسر الآيات بماذا ؟ بالآيات من القرآن نفسه...
هذا ماوصى به أولا ثم قال الله جل وعلا ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) الذي يعنينا في هذه القضية لا حاجة للحديث عن بر الوالدين فهذا معروف لكن قول لقمان ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) هو موضع الشاهد هناك أربعة أمور :ـ
ـ هناك بِر و موده في آن واحد.
ـ وهناك مصاحبه.
ـ وهناك مداهنه.
مصاحبه ومداهنه ومودة: المودة لاتجوز إلا مع المؤمن وأرقى منها البر لمن له حق لكنها مخلوطه بمحبة ولاتجوز إلا مع مؤمن أو مع مؤمنه فإذا كان الطرف الثاني كافرا لكن له حق كالأب أو الأم أو الأخت أو الخاله أو الجار فهذا التعامل معه يسمى مصاحبه.(3/6)
ـ لأن الله قال ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وهذا قيد أغلبي لامفهوم له لأنه لا يوجد شرك فيه علم مثاله في القرآن قول الله جل وعلا في آخر سورة المؤمنون قال الله جل وعلا (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لاَبُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) لايوجد إله معه برهان وإنما هذا قيد أغلبي لا مفهوم له المقصود إذا كان الكافر له حق كالجار أو كالوالد أو كالولده عياذاً بالله كمن أمة نصرانية أو أمة يهودية طبعاً لا يمكن أن يكون أبوه لأن المسلمة لا تتزوج يهودياً أو نصرانياً فهو يصاحبها في الدنيا معروف أو كحديث العهد بالإسلام إنسان أسلم من عائلة كافرة فتعامله مع أبويه يسمى مصاحبه ويتأكد في حق الوالدين ثم يقل تدريجياً فيمن له حق ولا يسمى بِرًّا ولا مودة لأن البر والمودة يشترط فيها المحبة وإن كان البر جاء بتعبير القرآن أن لا يشترط فيه لكن إذا أطلق يراد به مايشترط فيه المحبه أما لمداهنة / فهي التنازل عن أصل شرعي التنازل عن أمر عقدي هذا لايجوز بأي حال من الأحوال وهو الذي قال الله فيه ( وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) وهو الممنوع شرعا قال الله جل وعلا في هذه الآيات .
( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) هذا ذكر للرضيع لما ذكر الله جل وعلا قضية الولاده ذكر أن فصاله في عامين .
ـ وقد فهم العلماء منها :ـ
أن مدة الرضاعة أربعا وعشرين شهرا وقد قال الله في آية أخرى (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ) فقرنوا مابين الآيتين أو جمعوا بينهما فاتضحا كما هو متضحا طبيا اليوم أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن أعلى الرضاعة سنتين أربعة وعشرين شهرا قال الله جل وعلا (لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) أي أن الأم ليست مجبورة على إتمام السنتين .(3/7)
ـ واختلف فيما بعد السنتين بأقوال عده ليس هذا تفصيلها أنا قلت أتكلم إجمالا ثم ذكر الصلاة هذا كله داخل في الأعمال ( يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفَ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأَمُورِ) ثم بين الأشياء التي تتعلق بأدب المعامله قال ( ولا تصغر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) وهذا كله قد مر معنا في دروس عده .
ثم ذكر أمورا تخصه قال ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصُوتُ الْحَمِيرِ) هذه نقف عندها ينتشر في المجلات الإسلاميه سؤال وقرأته كثيرا يُسأل به الطلاب في المراكز الصيفيه وفي غيرها يسألون:
ـ مالشئ الذي خلقه الله ثم أنكره ثم يجعلون الجواب صوت الحمار وهذا غير صحيح :
ـ لأن معنى أن الله خلقه ثم أنكره أن الله يقول أنه لم يخلقه وهذا محال لأن كل شئ مخلوق إنما خلقه الله إنما الصواب أن يقال مالشئ الذي خلقه الله ووصفه بأنه منكر ؟ وكلمة إن أنكر الأصوات ليست منكر التي هي ضد المعروف ليست منكر التي ضد المعروف وإنما هي ضد الشئ المألوف منكر يعني مستوحش هنا نكر بمعنى مستوحش وليست منكر التي هي ضد المعروف حتى تألفها يعني تتضح لك بصوره أوضح :(3/8)
موسى عليه السلام قال للخضر ( لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ) أي غير مقبول وقال الله جل وعلا على لسان ذي القرنين (.... أَمَّامَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ...) آخر الآيه ( فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْراً ) أي أمرا يستوحش منه النفوس لامعنى أنه ضد المعروف غير جائر ضد المعروف المنكر الذي ضد المعروف هو الأمر الحرام غير الجائز أما النكر هو الشئ غير المألوف الذي تستوحشه النفوس ولا تألفه الطباع هذا هو المراد من هذه الآيه الكريمة هذا مايتعلق بهذا العبد الصالح ومن هنا تفهم أن أفضال الله جل وعلا ليست مخصوصه على أحد ليست وقفا على أنبياءه ورسله إنما هي فضل عام يعطيه الله جل وعلا من شاء متى شاء في كل عصر أو مصر النبوة انتهت ( مَّاكَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ) أما غير ذلك تبقى أفضال الله جل وعلا على العباد بعطاياه تبارك وتعالى العلميه والماليه وغير ذلك وأفضال الله لاتعد ولاتحصى لكن لايوجد وحي يخبرنا ببعض ممن تفضل الله جل وعلا عليهم هذا الأول في لقاء الليلة.
ـ العلم الثاني في لقاء الليلة كما كان لقمان على عبد صالح نأخذ المسجد الأقصى علم على ماذا ؟ على مكان لكنني سأتكلم عن نقاط لأن المسجد الأقصى معروف قصته وتكلمنا عنه كثيرا في حديث الإسراء والمعراج بداية نقول الله جل وعلا خالق كل شئ وهو يسصطفي ونبينا صلى الله عليه وسلم في المدينة أوديه ومع ذلك لما أتى العقيق قال :"آتاني آت من ربي فأمرني أن أصلي ركعتين في هذا الوادي ـ أجيبوا ؟ـ المبارك " فالنبي صلى الله عليه وسلم سماه واد مبارك فوادي العقيق واد مبارك بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن من ؟ عن ربه والمعنى أن تفهم أن الله جل وعلا يقدم من يشاء بفضله يؤخر من يشاء بعدله ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.(3/9)
ـ من المساجد التي من الله على الناس باسصطفائها ثلاثة والمساجد قلنا إنها تنسب لله جل وعلا ماذا ؟ من يتذكر؟ تشريفا وتنسب لغير الله تعريفا فهذا المسجد مثلا اسمه مسجد السلام ليُعَرَّف ويفرق مابين مسجد ومسجد لكن كل المساجد يقال لها بيوت الله فتضاف إلى الله جل وعلا تشريفا وتضاف إلى غيره تعريفا فقول الله في كتابه المسجد الأقصى هذا ماذا ؟ هذا تعريف لكن ليس بالإضافه تعريف بماذا ؟ بالوصف تعريف بالوصف لأن كلمة الأقصى وصف لكلمة المسجد كلاهما معرفة معرف بأل .
ـ الذي يعنينا المسجد الأقصى أحد المساجد ثلاثه بداية نقول تشد إليها الرحال بل بتعبير أوضح لا تشد الرحال إلا إليها :
ـ المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي الله جل وعلا قال ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) رغم أنه عندما نزلت هذه الآيات وهي مكية لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى؟ إلى المدينه فهذا يشعر أن ثمة مسجد سيكون مابين مكة ومابين المسجد الأقصى في بيت المقدس وهو المسجد النبوي.
ـ العروج به صلى الله عليه وسلم أو بالإسراء به إلى المسجد الأقصى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم المجد من أطرافه الثلاثه ورث إبراهيم أين؟ في مكه فولد في مكه وبعث في مكه ليرث إبراهيم وصلى بالمسجد الأقصى إماما ليرث من ؟ جميع الأنبياء وقد صلوا خلفه وجاء في بعض الروايات أنه لما سلَّم رأى إخوانه من النبيين فقال لهم إن الله أمرني أن أسألكم هل أرسلكم الله لتدعوا إلى أحد غيره قالوا: لا إنما أرسلنا الله لندعوا إليه قال الله في الزخرف ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ) في قراءة و (يَعْبُدُون ) في قراءة أخرى والمعنى واحد .(3/10)
ـ والمقصود : أنه صلى به إماما ليرثهم في الأرض المقدسه كما سيأتي المكان ثم خصه الله جل وعلا بهذه البلده الطاهره فورث المجد من أطرافه الثلاثه صلوات الله وسلامه عليه .
ـ بيت المقدس أرض تختصم فيها الأديان السماويه الثلاثه اليهوديه والنصرانيه والإسلام.
أريحا / هي البلده التي أمر الله جل وعلا بني إسرائيل أن يدخلوها كقريه ويقولوا حطه فحرفوا الكلم وهي عند كثير من المؤرخين أقدم مدينة مأهولة مسكونة في العالم موسى عليه السلام هو الذي خرج أنا أتكلم كنقاط هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر إلى بيت المقدس لكنهم امتنعوا من محاربة الجبارين ودخول أريحا فحكم الله عليهم بأن يبقوا في التيه أربعين عاما فمات هارون ومات موسى بعده وبنو إسرائيل في أرض التيه.(3/11)
ـ من الذي دخل ببني إسرائيل الأرض المقدسه؟ يوشع ابن نون دخلها بدأ حربه يوم الأحد وانتهى مساء الجمعه واليهود تجعل أيام عيدها يوم السبت ففي مساء الجمعه خاف أن الشمس تغيب قبل أن ينتهي من حربه فقال لها كما في الخبر الصحيح ( إنك مأموره وإنني مأمور اللهم احبسها علي ) فبقيت الشمس تأخر غروبها حتى فتح يوشع ابن نون الآن من الأحد إلى الجمعه هذا مهم أن تفهمه كم يوم ؟ ستة أيام هذه يعني اعقد عليها قليلا سنأتي لها بعد ذلك دخلت الأرض المقدسه بيت المقدس دخل في ولاية المسلمين في عهد من؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم تكن أرض المقدس عندما دخلها عمر بيد اليهود إنما كانت بيد؟ بيد النصارى كانوا هم المسيطرين عليها والحاكمين لها دخلها عمر بعد أن اشترط البطريق الذي كان يفاوض أباعبيده ألا يدخلها أحد قبل عمر فخرج عمر على بعير له ومعه غلام له يتناوبان الطريق عمر يركب حينا ويركب غلامه حينا آخر حتى وصلوا إلى دخول بيت المقدس وافقت النوبه بينهما أن يركب الغلام ولايركب أمير المؤمنين وكان على أرض مخاضه يعني فيها طين فنزل عمر وركب الغلام وعمر يقود الغلام وهو حامل نعليه حتى لا تتسخان بالطين والنصارى على الشرفات والدور يرون أمير المؤمنين الذي هذه الجيوش التي كانت تحاصر البلده تأتمر بأمره وهو في المدينه فلما قدم إليهم ظنوه سيأتي في موكب مهيب فأتاهم عمر ببعير له عليها غلامه وهو يقود البعير ويرفع نعليه حتى لا يخون في الطين في فبالطبع من اعتز بالله أعزه الله فكانت هيبة عمر عند النصارى أعظم من هيبته لو جاءهم على آرائك أو جاءهم على مراكب غير ذلك.
ـ هذا يفهم منه أن قول الله جل وعلا ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) لاينطبق على من ؟(3/12)
ـ لا ينطبق على عمر لأن عمر دخلها سلما لذلك بعض القصائد الموجوده الآن التي يقولها الأخوه الفلسطينيون يقولون مثلا :
فِي القُدسِ قَد نَطقَ الحَجَر
أَنَا لاَ أُرِيدُ سِوى عُمر
ردا على الصلح وبهذا لايرد على الصلح هذا يضع المسأله في أعظم تعقيدا لأن عمر لم يدخلها حربا وفهم التاريخ يعينك على التصرف في الأحداث .المقصود أن عمر دخلها سلما احتلها الصليبيون في الحمله الصليبيه الأولى عام 492 هجريا دخلها الصليبيون مكثوا فيها إلى عام 583 دخلها صلاح الدين ليلة 27 رجب وقد كان مشهور عند العلماء أن ليلة 27 رجب هي ليلة الإسراء والمعراج عند العلماء قديما فتأكد عند الناس بهذا الحدث أن ليلة 27 من شهر رجب هي ليلة الإسراء والمعراج رغم أن هذا لم يثبت بسند صحيح فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن أحيانا تأتي أحداث تاريخيه تؤكد أشياء موجوده في أذهان الناس دخلها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى فاتحا لها محررا لها من أيدي الصليبين الصلبيون الذين دخلوا بيت المقدس أذلوا المسلمين وأذلوا اليهود يعني تسلطوا على المسلمين وتسلطوا على؟ وتسلطوا على اليهود لأن الصراع مابين اليهوديه والنصرانيه صراع قديم قال الله جل وعلا ( وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) ولئن تقاطعت مصالحهم في بعض العصور إلا أنها تبقى العداوه أزليه لايمكن جمعها.(3/13)
ـ بعد ذلك حدثت أحداث تاريخيه شهيره ليس هذا موطنها لكن نتكلم عن المسجد الأقصى ماأمكن إلى ذلك سبيلا معلوم للجميع أن البريطانيين هم الذين مكنوا لليهود في بيت المقدس على مايسمى بوعد بلفور المشهور الساسه الصهاينه قرأوا التاريخ جيدا كسياسة مو كدين والله قال حبل من الله وحبل من الناس (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذََِّلَّةُ ) ثم قيد قال ( إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ) فالحبل الذي مع الله أضاعوه بقتلهم الأنبياء وكفرهم بقي الحبل الذي مع ؟ مع الناس هذا الحبل الذي مع الناس الساسه اليهود قرأو أن قوة بريطانيا إلى(...............) رغم أنها كانت بلدا لاتغرب عن محمياته الشمس وعند دوله وعن استعماراته فاتصلوا بالولايات المتحد الأمريكيه وأقاموا هناك أموالهم وسلطانهم حتى استطاعوا أن يصلوا إلى القدره على التغيير في القرار الأمريكي وجعلوا بريطانيا وراء ظهرهم رغم أن بريطانيا هي التي مكنت لهم لكنهم نقلوا رحالهم إلى أمريكا رغم أنهم كانوا منبوذين في الأول حتى وصلوا إلى ماوصلوا إليه حاليا قلت قبل قليل إن يوشع ابن نون دخلها في كم يوم ؟ في 6 أيام دخلت القدس طبعا عام 1948 أعلنت دولة إسرائيل دخلت القدس في حكم اليهود في ما يسمى في حرب 67 كم مدة الحرب ؟ 6 أيام تعمد اليهود أن تكون الحرب 6 أيام فهي في الإذاعات العربيه يقال نكست الخامس من يونيو حزيران.
ـ لكن في الإعلام الإسرائيل لايقولون حرب 5 حزيران وإنما يقولون حرب الأيام السته(3/14)
ـ ليذكروا الشعوب اليهوديه في إسرائيل وفي غيرها أن دولة إسرائيل قائمة على إرث عقدي يهودي وهي أن المسأله مسألة تذكر بما صنعه يوشع ابن نون من قبل بأنه دخل الأرض المقدسه ووصل إليها في كم يوم ؟ في ست أيام فتعمد الإسرائليون أن تكون الحرب ست أيام بعد ست أيام أغلقوا الباب أغلقوا باب الحرب كانوا قد انتهوا دخلو سيناء والجولان واحتلوا الضفه الغربيه مايسمى الآن بقطاع غزه ودخلت القدس ضمن الحظيره اليهودي هذا إحدى المصطلحات التي ينبغي التنبه لها عند سماع الأحداث .
ـ وقعت حرب 73 حرب العاشر من رمضان لكن كما هو معلوم يعني حصل فيها نوع من التقدم لكن لم يظفر المسلمون فيها بدخول المسجد الأقصى إلى الأحداث التي مرت دالة ولتي لاحاجه للكلام عنها إلى يومنا هذا.
ـ الذي يعنينا من هنا كله أن هذا المسجد مسجد مبارك الصلاة فيه بكم ؟ 250 كررناها مرارا وقلنا إن الدليل على أن الصلاة فيه 250 صلاة مارواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح من حديث أبي ذر( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتذاكرون كم الصلاة في المسجد الأقصى أيهما أفضل الصلاة في المسجد الأقصى أم الصلاة في المسجد النبوي فقال صلى الله عليه وسلم :"ولنعم المصلى هو و صلاة في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه ) قال ماذا ؟ نعم المصلى هو وصلاة في مسجدي هذا ـ أي المسجد النبوي ـ بأربع صلوات فيه ـ أي في المسجد الأقصى ـ فتحرر من هذا أن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة يتحرر من هذا أن الصلاة في المسجد الأقصى مائتين وخمسين صلاة.
ـ معلوما جدا وإن كان الإحتلال اليهودي للمسجد الأقصى أمر غير محمود لكن الحق أن احتلال اليهود للمسجد الأقصى هو الخيط الذي يجمع يجمع من ؟(3/15)
ـ يجمع المسلمين الخيط الذي يجمع المسلمين اليوم الرايه التي المسلمين العاطفه التي تجمع المسلمين في كل دولهم عربا وعجما كل من ينتسب للمله لايمكن أن يختلف معك في أن أمنيته أن يصلي في المسجد الأقصى وقد تحرر وهذه نعمة من وجه آخر وإن كان احتلالهم له نقمه إلا أنها نعمه من وجه آخر تبقي على المشاعر والأمور محموده.
ـ على هذا يفهم أن من يحتج بقضية المهدي المنتظر لايقبل احتجاجه لأن لو قلنا للناس إن المسجد الأقصى لن يحرر إلا على يد المهدي المنتظر لثبطت عزائم الناس ولمات الجهاد في الأمه ولما بقي هناك أحد يعمل لإصلاح المجتمع والناس كلهم ينتظرون المهدي المنتظر لكن أضر بالأمه شيئا كررناه مرارا أنهم ينتظرون غيبا منشود وينسون واقعا مشهود ينتظرون غيبا مشهودا وينسون واقعا مشهودا وإنما الغيب لايعني بالضرورة أننا نترك ما نحن فيه فالله جل وعلا أخبر الناس كلهم أنهم ميتون وقال لنبيه ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) هذا غيب لايعني أن تذهب إلىالموت إنما عش حياة طبيعيه عش حياه عاديه كما أمر الله حتى يأتيك الموت فالمسجد الأقصى يفتح على يد المهدي يفتح علىيد عيسى يفتح على غيرهما هذا لا يخصنا نحن مسؤلون شرعا عن هذا المسجد الأقصى أن نأخذ الطرائق الشرعيه نجمع مابين الأسباب الكونيه والأسباب الشرعيه في الوصول إلى غاياتنا اللتي نشدها لأهل الإسلام إن قدر هذا على يد المسلمين المعاصرين اليوم كان خيرا كثيرا إن لم يقدر برئت الذمه ووقعت المعاذير والأمر غيب ولايقع إلا ما أراد الله وكتبه جل وعلا في الأزل هذا العلم الثاني
ـ العلم الثالث ذوالقرنين:(3/16)
وقبل أن نتكلم عن ذي القرنين أقول ثمة كتاب ظهر لدكتور اسمه : حمدي أبو زيد . اسمه " فك أسرار ذي القرنين ويأجوج ومأجوج " " فك أسرار ذي القرنين ويأجوج ومأجوج "يعني فك أسرار ذي القرنين وفك أسرار يأجوج ومأجوج والكتاب فيه فرضيات وأمور كثيره جدا كبير جدا وحمدي أبوزيد مؤلف سعودي عضو في مجلس الشورى لكن هذا لمن أراد أن يتوسع أما أنا فأبقى على ما أنا عليه من القضيه أني أتناولها من جانب القرآن لامن جانب الفرضيات المعاصره وإن كانت محموده والكتاب قيم لكنني لن أتكلم فيه لامدحا ولاذما ولاسلبا ولاإجابا ومن كان منكم ذو بحث تاريخي يأخذ الكتاب وممكن يستفيد منه كثيرا.
ـ نعود لذي القرنين:
ذوالقرنين عبد صالح قلنا اختلف فيه وهو أحد من اختلف فيهم كما بينا ماذكره السيوطي وغيره قال الله جل وعلا :( وَيَسْئَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ) والسائل : قريش بناء على رأي من اليهود قال الله: (وَيَسْئَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً ) ومن هذه تبعيضيه أي لن أقول لكم كل شئ عن ذي القرنين لأن القرآن ما أنزل لهذافذكر الله جل وعلا ذي القرنين اختلف الناس فيمن هو ذي القرنين ؟ واسمه / ذوالقرنين وذو بمعنى صاحب قال الله جل وعلا:(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ) أي وصاحب الحوت وهذا الإسم كونه قيل ذي القرنين جعل بعض المؤرخين يقول إنه من اليمن لأنه اشتهر في ملوكهم التسمية بكلمة ذو .
فَمعذرةُ الإِلَهَ لذو رعين
أحد ملوك اليمن. وقال غيره غير ذلك...(3/17)
ـ واختلف في السبب الذي سمي من أجله ذي القرنين: فقيل لأنه حكم المشرق والمغرب وقيل لأنه حكم فارس والروم وقيل كانت له ظفيرتان والقرآن سكت عن هذا والبحث عنها نوع من التلكف لكنه مضمار تجري فيه أقدام العلماء الذي يعنينا في قضية ذي القرنين كمال عقليته وأنت تعرف كمال عقلية الإنسان من أمور عده من أهمها أنه يختلف تصرفه باختلاف من أمامه فذوالقرنين مر في حربه وغزواته على أمم هذه الأمم تتفاوت في عقلها وقدرتها وعلمها فكانت تعامله معها يختلف من أمه إلى أمه كل بحسب؟ بحسب عقله قال الله جل وعلا :( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) الكتاب وغيره من المؤلفين نظروا من هذا الباب إلى أن ذا القرنين وصل إلى مغرب الشمس وقلت مرارا هذا لايمكن أن يصح يعني لايلزم منه قول الله جل وعلا: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) لأن الله قال :( وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) فأسند الوجد إلى ذي القرنين ولم يسنده الله جل وعلا إلى الشمس والمعنى أنه كل إنسان يرى مغرب الشمس بحسب الحال التي هو فيها فمن مكث في البحر عند جده مثلا شاطئ البحر في جده أين يرى الشمس تغيب؟ في البحر ومن مكث في صحراء نجد مثلا يرى الشمس تغيب في الصحراء ومن مكث في جبال الحجاز وجبال تهامه يراها تغيب في الجبال فكل إنسان بحسب مكانه يرى مغيب الشمس فقول الله جل وعلا :( وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) أنه وصل إلى منطقه فيها عين حمئه يجد الشمس تغرب بعدها صحيح يحتمل أنه وصل مغرب الشمس لكن لايلزم فرق مابين الإحتمال ومابين اللزوم:( وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) فيه مثل عند العامه يقولون" لايجوع الذيب ولا تفنى الغنم " والمعنى :(3/18)
يعني أي معلم في الفصل إذا كان الطلاب كلهم يطمعون في أنه ينجحهم غير ناجح معلم غير ناجح وإن كان الطلاب كلهم يآئسون من أنه ينجحهم فهو معلم غير ناجح لكن أين المعلم الموفق ؟ من الطلاب على خوف ورجاء منه لماذا ؟ لأن أنت هب أنك مديرا وأحد موظفيك يآئس منك تماما فهذا لن يكترث بك لأنه يآئس من أي شئ أن تعطيه إياه فهو يقول أنا اشتغلت ولا ما اشتغلت لن يرفعني عملت أو ماعملت لن يعطوني مكافئه إذا لماذا أعمل ويأتي خارج والعكس لوكلهم تكافئهم وكلهم راجين فأصبح الذي يعمل يقول إذا كان يعطون فلان وهو مايشتغل أنا من باب أولى ما اشتغل مو كل آخذينها آخذينها المكافئه زي المدرسين يقولون العلاوة ثابته... ثابته هذا خطأ في السياسه العموميه في أي سياسة حتى الرجل في بيته إذا الزوجه لا تخاف من زوجها على كل حال أو ترجوه على كل حال لم يصب في قضية سياسته لبيته فهنا قال الله جل وعلا عن هذا الملك الموفق ): قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) الملوك يتركون أثر (قَالَ أَمَّامَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْراً * وَأَمَّامَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) فيظهر أن هذه الأمه التي غلب عليها ذي القرنين تحتاج إلى هذا النوع من السياسه في الحكم ثم قال الله جل وعلا :( بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) ولم يذكر الله خبره معهم قال :( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ) ثم ذكر الله أقواما قال :( وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) يعني ليس لهم عقول فلما كان ليس لهم عقول لم يعذب ولم يكافئ لأن وش تعذب وش تكافئ في قوم ليس لهم عقول أصلا مايفهمون من دلالة أنهم لايفهمون أنهم قالوا :( قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ(3/19)
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) .
ـ أين الدليل على أنهم لا يفقهون ؟
ـ هم يرون ملكا عظيما وماساد الدنيا وتنقل في الأمصار إلا وحوله جيوش ومعه أموال ووزراء والله يقول مكنا له في الأرض ثم يأتون هاذولي الضعفاء اللي ماهم قادرين ـ أنا أتكلم أحيانا بالعاميه عمدا ـ ليسوا قادرين على يأجوج ومأجوج يقولون لذي القرنين أنت حل مشكلة يأجوج ومأجوج وحنا نعطيك أجر (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) هذا ليس بمعقول زي من ؟ يعني عنده مشكله في البلديه والاّمشكله في أي مكان فيذهب إلى إنسان مسؤول كبير يقول تكفى يالأمير حل مشكلتي هذه وأنا والله أعطيك مثلا ألف ريال ولا خمسمائة ريال سيفهم الأمير إن هذا ليس له عقل لأنه مايعرض هذا العرض رجل له عقل ولهذا قال الله:( لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) ( قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ماذا أجابهم ؟(3/20)
( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) يعني ما أنا فيه ايش تعطوني خرج ولا تعطوني أموال ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) لكن أنا ما أبغى منكم أموال لما كانوا ليس لهم عقول ووضفهم في ماذا ؟ في الخدمه لأن القوة البدنيه لاتحتاج إلى عقل قال :( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) زي هذه عاد مثال سياسي تحملوه يقولون في بعض القطاعات في بعض الدول إذا يبختاروا نوعيه من الحرس الحرس اللي بس بيضرب على طول فيجمعون الناس في فناء يقولون يعلنون أن فيه قسم كذا في الأمن هذا الذي يريد أن يشترك يأتي يأتون الناس كل من ماعنده وظيفه يأتي من قرى تلك البلدان أو محافظاتها أو مدنها يأتون الناس فيقولون لهم انقسموا قسمين الذي يقرأ ويكتب يذهب إلى جهة اليمين والذي لايقرأ ولا يكتب أمي طبعا بلغتهم يقولها اذهب إلى جهة اليسارـ على أذنكم يأهل اليسار ـ يذهب إلى أهل اليسارمن يختاروا ؟ لايختارون لا اليمين ولا اللي يسار يختاروا البُلهه اللي مايدري هذا اللي يتكلم وش يقول لاراحوا يمين ولاراحوا يسار هذولي يختارونهم لأن هذا إذا أخترته أنت لابد(..............) تستخدمه في أي شئ جندي ـ واضح ـ على هذا يبنى شئ أهم منه لأن القرآن مايقرأ لمجرد إنك يعني لابد تفهم مافي القرآن أهم منه أنك لاتقبل أن تكون أداة لأي أحد هذه أهم منها لاتقبل أن تسلم رقبتك لأي أحد يسيرك كيفما يشاء فليس العاقل من لا يملك عقلا هذا الله عذره ليس المجنون من لا يملك عقلا هذا غير مكلف شرعا لكن المجنون الذي لايستخدم؟ لا يستخدم عقله وأنا قد قلت مرارا أن أحد الرجال في عهد بني أميه أيام الصراع مابين عبدالملك بن مروان وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم جاء عبدالملك لرجل فأعطاه أموال قال : روح أقتل ابن الزبير قال هذا : هذا عاقل قال طيب قتلنا ابن الزبير مات ابن الزبير ايش حصل حصل أنت تنفرد في الملك وهذا ابن الزبير يموت(3/21)
شهيدا وأنا مالها غير وصف واحد ..أهبل لأني لاحصلت ملك في الدنيا ولا حصلت شهادة ألقى الله وأنا قاتل نفس ماوجدت شئ يعني أنت لو قتلت أنت ياعبدالملك ابن الزبير ابتاخذ ملكه تتمتع فيه لكن أنت ما قتلته وتأخذ ملك وأنا قتلت وآخذ عقاب ولاآخذ ملك
وَلسُتُ بقَاتلٍ رَجُلاً يُصَلَّي
عَلى سُلطانِ آخَر مِن قريشِ
لَه سُلطانُهُ وعليَّ إثمِي
مَعاذا الله مِن جَهلٍ وَطَيشِ
نعود إلى ذي القرنين قال الله جل وعلا عنه ): إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ) هذا التمكين شئ من الله يعطيه الله جل وعلا من يشاء وإذا أراد الله بعبد خيرا سخرله خلقه قال الله ): وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو ) وإذا أراد الله بعبد سوء قتله الله جل وعلا بأ قرب أنصاره إليه وإذا أراد الله بعبد سوء قتله الله بأعظم جنده وأقرب خواص أهله إليه يكون سببا في قتله هذا الذي يمكن أن يستفاد من حديث ذي القرنين عموما وقد تكلمنا عن هذه الأمور في مواطن كثيره....
هذا ماتيسر إراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله. سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين .
تم بحمد الله
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول
في القول والعمل
أخواتكم
الْمُخْبِتَات(3/22)
سورة المدثر
قال تعالى { يا أيها المدثر(1) قم فأنذر(2) وربك فكبر(3) وثيابك فطهر(4) والرجز فاهجر(5) ولا تمنن تستكثر(6) ولربك فاصبر(7) فإذا نقر فى الناقور(8) فذلك يؤمئذ يوم عسير(9) على الكافرين غير يسير(10) ذرنى ومن خلقت وحيدا(11) وجعلت له مالا ممدودا(12) وبنين شهودا(13) ومهدت له تمهيدا(14) ثم يطمع أن أزيد(15) كلا إنه كان لإياتنا عنيدا(16) سأرهقه صعودا(17) أنه فكر وقدر(18) فقتل كيف قدر(19) ثم قتل كيف قدر(20) ثم نظر(21) ثم عبس وبسر(22) ثم أدبر واستكبر(23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر(24) إن هذا إلا قول البشر(25) سأصليه سقر(26) وما أدراك ما سقر(27) لا تبقى ولا تذر(28) لواحة للبشر(29) عليها تسعة عشر(30) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنه للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين أمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هى إلا ذكرى للبشر(31) كلا والقمر(32) والليل إذ أدبر(33) والصبح إذا أسفر(34) إنها لأحدى الكبر(35) نذيرا للبشر(36) لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر(37) كل نفس لما كسبت رهينة(38) إلا أصحاب اليمين(39) فى جنات يتساءلون(40) عن المجرمين(41) ما سلككم فى سقر(42) قالوا لم نك من المصلين(43) ولم نكن نطعم المسكين(44) وكنا نخوض مع ا لخائضين(45) وكنا نكذب بيوم الدين(46) حتى آتانا اليقين(47) فما تنفعهم شفاعة الشافعين(48) فما لهم عن التذكرة معرضين(49) كأنهم حمر مستنفرة(50) فرت من قسروه(51) بل يريد كل امري منهم أن يؤتى صحفا منشره(52) كلا بلا لا يخافون الآخرة(53) كلا إنه تذكره(54) فمن شاء ذكره(55) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة(56) }
****************************(4/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثرة واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
• أما بعد:-
فالسورة التى سنشرع إن شاء الله تعالى فى تفسيرها فى هذا المقام هى سورة المدثر ويظهر جليا أننا نتتبع أوائل ما أنزل وسورة المدثر سورة مكية باتفاق لا يعلم لها اسم آخر إلا هذا الاسم وهو موجود فى المصاحف التى بين أيدينا ولا يعلم فيه خلاف .
قوله تعالى { يا أيها المدثر** قم فأنذر } :-(4/2)
من المدثر ؟ هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا مناداة له لوصف حاله وقلنا قد قلنا فى لقاء ماض عند حديثنا عن قول الله تبارك وتعالى {اقرأ بسم ربك الذى خلق} ذكرنا قضية أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل من الجبل يرجف فؤاده ووصل إلى خديجة رضى الله عنها وأرضاها وقد من الله عليها بالعقل والروية والحكمة ولأمر ما جعلها الله زوجه لنبيه صلى الله عليه وسلم رغم أن سنها أكبر منه ولكن الله ادخرها لفترة ومرحلة عصيبة فى عمر الدعوة قامت بها رضى الله عنها وأرضاها على أكمل وجه فلما قدمت عليه ذكرته بصنيعه عندها والإنسان قد يظهر للناس شخصية أخرى غير شخصيته لكن خلطائة وأصحابه وأهله وأبنائه طلابه لا يخفى عليهم كثيرا من شخصيته وإذا كان الإنسان كاملا أو شبه كامل أو عظيما فى نظر أبنائه فى نظر زوجته فى نظر قرابته فى نظر خواص طلابه خواص رفقائه فهذا من أعظم الدلالة العظمة لأن هؤلاء يرونه على حقيقته فخديجة رضى الله عنها تر النبى صلى الله عليه وسلم على حقيقته ولما جاء يفاجئها أن ملك انزل علية وألقى عليه وحيا ولما ما تعرفه من خصيصه أحواله واطلاعها على أسراره جعلها تقبل الأمر بكل رضى لأنها على علم أن هذا الرجل الذى هو الآن بعلها أهل لأن يكون نبي هذه الأمة فأيدته وقالت إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الحق وتقرى الضيف وأخذت تعدد مآثره ومناقبه قبل أن يبعث صلوات الله وسلامه عليه.
بل إنهم قالوا فيما نقلوه ما قاله ابن إسحاق بسند مرسل يعنى فيه انقطاع وهو من أعجب ما نقل .
• فائدة من أعجب ما نقل :-(4/3)
من أعجب ما نقل قالوا : إن من وسائل التثبيت التى ادخرتها خديجة رضى الله عنها للنبى صلى الله عليه وسلم فى مرحلة ما من مراحل الدعوة تريد أن تثبته يا ابن عم إذا جاءك الملك هذا فأخبرنى فلما رأي النبى صلى الله عليه وسلم جبريل قال لخديجة إننى أراه قالت يا ابن عم أجلس هاهنا على فخذها الأيمن ثم قالت له يا ابن عم أتراه قال نعم قالت له يا ابن عم تحول تعالى على فخذى الأيسر قالت أتراه قال نعم قالت له يا ابن عم تحول تعالى فى حجري فجلس فقالت يا ابن عم أتراه قال نعم فنزعت خمارها وحصرت عن شعر رأسها ثم قالت يا ابن عم أتراه قال لا قالت يا ابن عم اثبت فو الله إنه لملك وليس بشيطان .
هذا نقل بعدة طرائق رغم أن الطرائق التى نقل عنها فيها انقطاع .
• الشاهد من هذا :-
يبعد وقوعه مما عرف من رجاحة عقلها وهى المرأة الوحيدة التى أبلغها الله السلام ووحيه جبريل وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال له جبريل هذه خديجة إذا أتتك فأقرئها من ربها ومنى السلام ورغم أنه فى أول الإسلام ما بعد انتشر الفقه والدعوة والعلم لكنها ماذا قالت : وعليك وعلى جبريل السلام ولم تقل وعلى الله السلام لأن الله هو السلام .
فهذا إذا علمته تلك المرأة فى المرحلة الأولى من الدعوة هذا برهان آخر عظيم
على عقلها ورفيع قدرها .
• مسألة :-
س: من هو المدثر؟
ج: هو النبى صلى الله عليه وسلم .
س: الثياب تكون شعار وديثار فما المقصود بكل منهما ؟
ج: الشعار هو ما يلبس ويكون ملاصق للجسد .
ج: الديثار هو ما يلبس فوق الثوب الملامس للجسد .
والنبى صلى الله عليه وسلم عندما دخل على خديجة وقال دثرونى كان عليه ثياب أم لا ؟ قطعيا كان عليه ثياب وكيف دثرته خديجة أعطته ثياب أخر يتغطى بها فأصبح ما أعطته خديجة ديثارا وليس شعارا لأنه صلى الله عليه وسلم كان عليه شعارا .
• مسالة :-
س: ما أصل المدثر من ؟
ج: من المتدثر من الفعل تدثر لكنها اضغمت لقرب المخرج .(4/4)
فلما أصبح النبى صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة ناداه ربه بالحال والوصف الذى هو عليه فنداه نداء ملاطفه لقوله تعالى { يا أيها المدثر** قم فأنذر** وربك فكبر }.
• مسالة :-
س: ما هى الوصايا الخمس التى أوصى الله بها رسوله فى هذا المقام ؟
ج: قال له :-
1- { قم فأنذر } 2- { وربك فكبر } 3- { وثيابك فطهر ** والرجز فاهجر} 4- {ولا تمنن تستكثر } 5- {ولربك فاصبر } .
- الوصية الأولى :-
قوله تعالى { قم فأنذر } أى قم من مضجعك وأنذر قومك فى المقام الأول .
• مسألة :-
س: لماذا قال ( قم فأنذر ) ولم يقل ( قم فبشر )؟
ج: لأن الناس كانوا على معاص وهو فى حاجة للنذاره أكثر من حاجتهم للبشارة، فقال الله تعالى { قم فأنذر } وكونه صلى الله عليه وسلم سيصبح نذير للعالمين هذه مهمة صعبة فأوصاه الله بوصايا خمس .
- الوصية الثانية :-
قوله تعالى { وربك فكبر } أى تعظيم الله وليس المقصود فقط قول كلمة الله أكبر لأن الصلاة لم تكن فرضت وإنما الآن تهيئه هذا النذير والبشير صلى الله عليه وسلم ، فتعظيم الله سبحانه وتعالى الممهد له أصلا على جبل حراء يترفع عن البلايا وأهلها فجاءه الأمر صريحا { وربك فكبر } أى عظمه وأجله وكل ما عظم الله فى قلبك عرفت قدر المخلوقين، فمن أعظم ما يعينك على الطاعة ويذهب بك عن المعصية ويجعلك صبورا على طاعة الله علمك بعظمة الجبار جلا جلالة
قوله تعالى { وربك فكبر } : وقد جاءت فى أخر الإسراء { وكبره تكبيرا } وتسمى هذه الآية التى فى الإسراء ( آية العز ) .
- الوصية الثالثة :-
قوله تعالى { وثيابك فطهر ** والرجز فاهجر } .
• مسألة :-
س: أختلف العلماء فى قضية الثياب .
ج: فمنهم من قال إنه القلب ومنهم من قال أنه الثياب المعهودة والصواب أن يقال أن المقصود كل ذلك طهارته صلى الله عليه وسلم حسيا ومعنويا .(4/5)
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم كذلك فأمره جلا وعلا أن يبتعد عن المعايب والمناقص وهذا الأمر للتأكيد فقط وأن الله قد هيأه وأعده لذلك .
- ولكن أنت المتبع لهدى محمدا صلى الله عليه وسلم هممت بأمر صعب وليت الإمامة بالمسجد أو الخطابة أو الدعوة إلى الله أو الشروع فى طريق العلماء فيجب أن تكون محمد الخصال كريم الأخلاق تنأي بنفسك عن كل مواطن الرذائل ولو كانت مباحة حتى لا تقع فى دائرة الشبهات فإن الناس تذم بالحق وبالباطل ومن دعى الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل .
قوله تعالى { والرجز فاهجر } : الرجز يعنى المعاصى والمقصود فى هجرانها توخي الحذر من غضب الله جلا وعلا والبعد عن غضبه لا يكون إلا بالبعد عن معاصيه لأن المعاصى هى أسباب النقم قال جلا وعلا { فلما أسافونا انتقمنا منهم } فى قضية موسى وفرعون .
- الوصية الرابعة :-
قوله تعالى { ولا تمنن تستكثر } من طرائق الهبات أن الإنسان أحيانا يعطى عطية رجاء أن يكافأ أعلى منها طريقة استثمارية فى الناس ويبلغكم أن بعض الناي يعطون بعض الأمراء أو الوجهاء بعض الهدايا حتى يكافئه الأمير أو الوجيه بأكثر من هذا، فالنبى صلى الله عليه وسلم يعد لشأن عظيم أى فينبغى أن يبعد أى شائبة فهذا وإن كان هذا الشأن مباح للأمة إلا أنه لا يجوز بحقه صلى الله عليه وسلم .
• وإن أردت أن تكون عظيم بحق لا تجعل لأحد من الخلق عليك خاصة فى قضية المال منا فالناس ثلاث ( رجل أنت أميرة أحسنت إلية فأصبح أسير لك وإن هو أحسن إليك أصبحت أسير إليه خرجت من كونك أمير إلى كونك أسير وإن لم تحسن إليه ولم يحسن إليك فأنت وهو نظراء ) .
هذا النبى صلى الله عليه وسلم معد بأن يفئ الناس إلى رشده وعقلة وحلمة وكرمة فلا يحسن بأن يكون أحد من الخلق له عليه منه.
• مسألة :-
س: لماذا عاش النبى صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين ؟(4/6)
ج: حتى لا يكون لهما حقا عليه فحق الأبوة واجب وحق الأمومة واجب فمات أبوة وهو حمل وماتت أمة وهو ابن ست سنوات فنتفي بذلك إيجاب حق علية صلى الله عليه وسلم لأن للوالدين حق فالله جعلهما سبب لإيجادك فلما ماتا أنتهي السبب الذى تكون به الولاية لهما فأصبح صلى الله عليه وسلم يمشى على الأرض ليس لأحد عليه فضل إلا ربه سبحانه وتعالى .
وقد جاء دور أبى بكر ، لكن دور أبى بكر فى الدين ليس على النبى صلى الله عليه وسلم ولهذا ادخر أبى بكر النياق للهجرة فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبلها إلا بحقهم وأعطى أبا بكر دنانير مقابلها والمقصود أنه اشتراها حتى يركب ذلولا هى لهم وليس لأحد، فمن الحر الذى ليس لأحد عليه يد .
• مسألة :-
س: فإذا وقع عليك فضل الأحرار ماذا تفعل ؟
ج: تكافئهم بأعظم حتى تدفع عن نفسك أن تكون فى رقة أحد إذا أعطاك .
ومن هنا نفهم أن النبى صلى الله علية وسلم يقبل الهدية ولكن يكافئ بأعظم منها حتى لا يكون لأحد عليه فضل صلى الله عليه وسلم .
• هذا لا يمكن أن يفترض فى كل أحد و لكن نتكلم عن عظماء الرجال وأنتم طلبة علم فيجب أن تكونوا كذلك .
- وهذه الأربع محتاجه إلى الصبر ولهذا قال:-
- الوصية الخامسة :-
{ ولربك فاصبر } ولم يجعلها مطلقة إنما جعلها مقرونة بالله لماذا لأن كل من يصبر رجاء عطاء أحد أو فعل أحد أى إن كان ذلك الموعود يدب إليه اليأس أما من كان يرجوا فرج الله فلا يمكن أن يدب إليه اليأس أبدا لأن ما عند الله مضمون موثوق لا يخلف الله وعدة .(4/7)
فالنبي صلى الله عليه وسلم وعدة جبريل ذات يوم أن يأتيه ولما أن جاءت الساعة التى واعدة فيها كان بيده صلى الله عليه وسلم عصا فمازال يروح ويغدوا فى البيت ويلقى عصاه ويقول ما يخلف الله وعدة ورسوله لماذا لم يأت جبريل، ثم أبصر تحت سريرة فإذ1 جرو ( أى كلب ) قيل للحسن أو الحسين قال منذ متى وهذا الجرو قالوا : ما ندرى يا رسول الله قال : أخرجوه فلما أخرجوه فجاء جبريل فلما سأل جبريل قال : إننا معشر الملائكة لا ندخل بيت فيه كلب ولا صورة .
• الشاهد :-
أن الله لا يخلف وعدة .
لكن التعامل مع الناس فإنه حتى فى موعد اللقاء تنتظر ساعة أو ساعتين تصبر ثم لا تلبس أن تيأس لأنك تتعامل مع مخلوق لا تتعامل مع خالق .
- مثال ذلك :-
ابن الحطيئة شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام بديع اللسان مشكوك فى نسبه ، موضع الشاهد جاءه أقوام بغية أن يعطوه والشعراء يفتنون بشعرهم فما أكرموه الإكرام اللازم حصل شئ من التقصير ومازال ينتظر وكان لهؤلاء القوم جيران ينافسونهم فى الخير والمعروف وكان يطلبون من الحطيئة أن يأتى ويتنقل إليهم حتى يكرموه فيصبح بذلك العار على الآخرين ولكن ابن حطيئة بقى على جواره حتى لم يجد شئ أصابه اليأس انتقل إلى الآخرين فلما انتقل إلى الآخرين لامه الأولون فقال لهم البيت المشهور .
فالله سبحانه وتعالى لا يخلف وعدة كما قال جلا وعلا على لسان نبيه يعقوب { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } .
هذا ما حكاه الله فى وصاياه لنبيه ثم ذكر جلا وعلا بعد أن قال { ولربك فاصبر } ذكر الساعة كنوع من الإشارة
. سورة المدثر تكمله(4/8)
فإذا نقر في الناقور" أي في الصور" فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير" بعض الفضلاء من المفسرين إذا مروا بهذه الآية يجتنبونها بناء على أن أساس الفهم كان خطأً "يوم عسير" "غير يسير" يقولون المعنى واحد والثانية مؤكدة للأولى...هناك فرق بين "وصف اليوم " ووصف " من سيكون في ذلك اليوم" ... والمعنى: أن يوم القيامة عسير بطبعه ـ عسير وصف لليوم ـ ليست وصفاً لأهل ذلك اليوم لا للمؤمنين ولا للكفار...أما الثانية" غير يسير" فذكر للحساب الواقع على الكافرين...
ثم ذكر الله رجلاً وهو الوليد بن المغيرة...رجل من كبار قريش سناً جاءت البعثة وقد شاخ وهرم وكان له نفوذ مستمد من أمرين:كثرة ماله وكثرة أولاده...وقد عبّر الله تعالى عنه بقوله"مالاً ممدوداً" وهذه الكلمة تعطي مد بصري... أي جنان تتبعها جنان... وأيضا ممتدة من مكة إلى الطائف ومابينهما وما جاورهما...وكان رجلاً جريئاً حتى أن قريش لما أرادت هدم الكعبة لتعيد بنائها هابت أن تصل للبيت أول من تجرأ على أن يهدم الكعبة ويقلع حجرها هو الوليد بن المغيرة... وهذا كله جعل منه رجلاً عظيماً تلجأ إليه الناس بطبيعتها...
قال تعالى" ذرني ومن خلقت وحيدا" أي خلي بيني وبين من خلقت وحيداً...
ووحيدا من حيث اللغة "حال" من فاعل أو مفعول ؟ اختلفوا
فإذا قلنا من فاعل: خلقت "وحيداً" عائده إلى الله...أي خلقته لوحدي ليس معي شريك في خلقه...وهذا إذا كانت اللغة تحتمله فإني أستبعده
فتكون "وحيداً" حال من المفعول به الذي هو الوليد...واختلفوا في معناها على قولين:
1. "وحيدا" أي خلقته منفرداً وحيداً ضعيفاً في أول أمره...
2. " وحيدا" أي جعلته رجلاً لا نظير له في قومه...
ولا يمتنع الجمع بين القولين...
" وجعلت له مالاً ممدوداً * وبنين شهوداً "
أي حاضرين... من كثرتهم أولاده لايمكن ؟أن يغيبوا مجتمعين...
أسلم منهم ثلاثة خالد واثنان اختلفوا في أسمائهم...وهو مخزوميّ كأبي جهل...(4/9)
"ومهدت له تمهيداً" أي وطأت له في أن يصل إلى الرئاسة والجاه...
" ثم يطمع أن أزيد" قال الله " كلا " لماذا كلا ؟ لأن السبب في استدامتها رضوان الله... وهذا عصى الله قال تعالى" إنه كان لآياتنا عنيدا" " سأرهقه صعوداً" أي سأكلفه عذاباً شديداً شاقاً لا يطيقه...في الدنيا وفي الآخرة...ثمّ علل هذا... قال تعالى" إنه فكر وقدّر" ثم لعنه الله تعالى قال " فقُتل" لعْنَه " كيف قدر"
أي أنه رجلاً ليس سهلاً..." ثم قُتل" تكررت اللعنة عليه..." كيف قدر" هذا كله تعجب من قدراته...قال تعالى " ثم نظر" ونظر تأتي متعدية بحرف الجر إلى... نظرت إلى الشيء ـ أي أبصرته ـ ونظرت في الأمر بمعنى تفكرت وتمعنت فيه...ونظر بدون حرف جر بمعنى تمهل وانتظِر وبكلٍ جاء القرآن هنا بمعنى التدبر والتفكر " ثم نظر" أي في أمر الرسالة
" ثم عبس وبسر" وهذه صورة لوجهه تدل على مافي قلبه ثم قال تعالى" ثم أدبر" أي عن الحق... " واستكبر" أي عن الإيمان... ثم قال ـ وقريش كلها تنتظر حكمه لأنه اجتمع بهم وقال"إن وفود العرب تأتيكم فإذا رأوا اختلافكم في محمد قالوا يا أبا المغيرة احكم أنت ـ هذا زاده استكبار ـ قال " إن هذا إلا سحر يؤثر" كأن القرشيين ما رضوا ـ قريش تريد أن يفصل ويقول أنه ليس كلام الله ـ فقال " إن هذا إلا قول البشر" فزادوه تعظيماً وهلك بعد البعثة بقليل...
قال تعالى " سأصليه سقر " أي النار... ثم قال وما أدراك ـ بصيغة الماضي ـ وفي القرآن وما أدراك وما يدريك...
إذا قال الله " وما أدراك" يخبر نبيه عن ذلك الشيء...وإذا قال وما يدريك لا يخبر نبيه عن ذلك الشيء..." وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً" ولم يخبره متى الساعة..." وما أدراك مالحطمة" بيّن قال " نار الله الموقدة"
قال " وما أدراك ماسقر" بينها قال" لا تبقي ولا تذر" " لوّاحة" أي حرّاقة
" للبشر" ليس الناس وإنما جمع بشرة وهي الجلد الظاهر...(4/10)
" عليها " أي على هذه النار " تسعة عشر" مبتدأ مبني على فتح الجزأين مؤخرـ والأعداد من أحد عشر إلى تسعة عشر مبنية دائما على فتح الجزأين في أي موضع كانت إلا إذا ثنّيت مثل اثني عشر فتعامل معاملة المثنى ـ " عليها تسعة عشر أي من الملائكة
كأن هذا القول استخف به أهل الإشراك...
" ليستيقن الذين أوتوا الكتاب" لأن العدد تسعة عشر هو العدد الموجود في التوراة والإنجيل...فإذا قرأوها في القرآن وفي التوراة والإنجيل استيقنوا..." ويزداد الذين آمنوا إيمانا" المؤمن أصلا مؤمن أنهم تسعة عشر فهو يقبل كلام الله...
" ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون" ينفي الله تعالى عنهم الريبة بعد أن أعطاهم الله اليقين
" وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا"
يتعجبون من قلة العدد الذي يقبض أرواح الخلائق كلهم ملَك واحد فكيف يعجز أهل النار تسعة عشر ملَكاً...والأمر الذي أكثر توكيداً أن الله يعطي القدرة من يشاء من عباده وأنه لو جعل خزنة النار واحد لقام بهذه المهمة لكن مرض القلب مبني أساساً على عدم تعظيم الله والعلم هو الذي يبعد ما يأتي من شبهات والإيمان يبعد ما يأتي من شهوات... قال تعالى " كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو " لا ينبغي حصر كلمة جنود في الملائكة... فالله تعالى له جنود لا يعلمها إلا هو كما قال... " وما هي إلا ذكرى للبشر"
اُختلف في "هي " عائدة على ماذا؟ هل هي على التسعة عشر خزنة النار أم النار نفسها؟ والأظهر والله أعلم أن ذكرنا لهذا الأمر إنما جعله الله ذكرى للبشر يعنى بني آدم...
قال تعالى " كلا والقمر" كلا كلمة ردع وقال الكسائي كلا هنا بمعنى حقاً وقال بعضهم بمعنى نعم والصواب أن كلا هنا بمعنى ألا الاستفتاحية لأن حقاً لا يصح أن تكسر إن بعدها...(4/11)
" كلا والقمر * والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر" هذه الثلاث مخلوقات عظام لن أفصل الكلام فيها لأننا سوف نتعرض لذلك في سورة الليل... وهنا قسم من الله تعالى بهذه المخلوقات الثلاث...
" إنها لإحدى الكبر * نذيراً للبشر" والراجح أنها التذكرة بالآخرة أو جهنم نذيراً للبشر... " لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر " من هنا فهم العلماء لا يوجد في طريق السير إلى الله أحد واقف فإما متأخر وإما متقدم...
" كل نفس بما كسبت رهينة* إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون عن المجرمين * ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين"... الذي عليه الجمهور وأكثر ما اطلعنا عليه من كتب التفاسير أن معنى الآيات أن كل إنسان مرتهنٌ بعمله...لا ينفك إلا إذا كان عمله صالحاً... وأهل اليمين انفكوا لكونهم عملوا الصالحات وأنهم سيمكثون في الجنة يتساءلون عن أهل الكفر الذين يمكثون في النار... هذا ما قاله أهل العلم... والحق أن هذا غير مقنع لأن كل من ألفاظ العموم فاستثنى الله منها أصحاب اليمين لكن أين المقربون؟ وهو السؤال الذي يجعل الرأي السابق غير مقنع...الله ما استثنى إلا أصحاب اليمين وهم الذين خلصوا بأعمالهم... والمقربون أولى من أصحاب اليمين... فلابد للآية من معنى غير الذي فهمه جمهور أهل العلم... وجدت عند القرطبي نقلاً عن علي ابن أبي طالب أنهم أطفال المسلمين والحق أن هذا خيط يقود إلى حل الإشكال... معنى الآية
" كل نفس بما كسبت رهينة" أي كل نفس مرهونة والعمل لا يخلص أصلاً إلا أصحاب اليمين لأنهم لا عمل لهم فهم ماتوا قبل التكليف...
فأصحاب اليمين عام أريد به الخاص...أريد به من مات على الإسلام من صغار المسلمين... ومما يستأنس به لصحة هذا الرأي أنه لو قلنا إنهم أصحاب اليمين الكبار هؤلاء لا حاجة لهم في الأصل أن يتساءلوا فيما بينهم عن أهل النار لماذا دخلوها والرأي الثاني أقرب لأنهم ماتوا صغار لا يعلمون لأي سبب عذب أولئك...(4/12)
ذكروا أربع أسباب عدم الصلاة لأنها عمود الدين وعدم إطعام المسكين أي قسوة القلب والخوض مع أهل الباطل ثم ذكروا قاصمة الظهر وهو التكذيب بيوم الدين... وانظر إلى دقة القرآن" وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين " لابد أن يكونوا قد ماتوا على الكفر حتى لا يخلدوا في النار... وثمة قول جميل " ليست العبرة بعثرة البدايات إنما العبرة بكمال النهايات "
وإذا كان هذا حالهم " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " نحن نتكلّم عن القرآن عند بدء نزوله وسيأتي بعد ذلك منهم الذين حق لهم أن يشفعوا ليس صوابا أن نقتحمها الآن
" فما لهم " استفهامية " عن التذكرة معرضين..." كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " كأنهم أي أهل النار " حمر مستنفِره "(4/13)
قُرأت " مستَنْفَرًة " ـ بفتح الفاء ـ على أنها اسم مفعول... وقرأت مستنفِرة " ـ بكسر الفاء ـ على أنه اسم فاعل..." قسورة " قيل الأسد في لغة الحبشة وقيل مجموعة من الرماة أي مجموعة مخيفة للحمر الوحشية إما أسود تريد أكلها أو رماة يريدون صيدها هذه الحمر إذا قلنا مستنفَرة ـ بفتح الفاء ـ أي استنفرت من قبل تلك القسورة... وإذا قلنا مستنفرة ـ بالكسر ـ معنى ذلك أن الخوف بلغ منها مبلغاً حتى أصبح بعضها يستنفر بعض... أما الحمر فهي معذورة في ذلك لأنها تفر مما يهلكها أما هؤلاء فيفرون مما فيه صلاحهم ونجاتهم... " بل يريد كل امرئ منهم أن يعطى صحفاً منشرة" بلغ من طغيانهم في طلبهم أنهم يريدون أن ينزل على كل فرد منهم كتابا خاصا ولا يكون مطوياً حتى لا يكلفون فتحه إنما كتاب منشور مفتوح... وهذا كله رد بالباطل فانظر إلى حلم الله على عباده...ثم ذكر الله العلة وهي عدم إيمانهم بالآخرة " كلا بل لا يخافون الآخرة " " كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره " ثم بين أنه مهما كان قولهم فإن القرآن حق إنه تذكرة..." ثم ذكر الله تعالى لنفسه المشيئة الشرعية والقدرية... " ومايذكرون إلا أن يشاء الله " أثبت لهم المشيئة فمن شاء ذكر ثم قيدها بمشيئته " هو أهل التقوى وأهل المغفرة " كل مطلوب لا يطلب إلا بحول الله وكل مرهوب لا يدفع إلا بحول الله ولهذا عظمت كلمة لاحول ولا قوة إلا بالله... ومن جميل الدعاء أن يقال" اللهم لست بريئاً فأعتذر ولا قويا فأنتصر ولكن لا حول ولا قوة إلا بك "
كان بالإمكان أن تكون الآية هو أهل التقوى والمغفرة... لماذا كرر كلمة أهل ؟ كررها لأن "أهل" الثانية غير "أهل" الأولى... الله جل وعلا أهل لأن يتقى بمعنى أنه لازم على الخلق أن يتقوا ربهم دون سواه... أما أهل المغفرة فليس لزاما على الله أن يغفر لكل أحد...(4/14)
يستفاد من هذا أنه يجعلك تجنح إلى ربك فتعبده دون غيره وأهل المغفرة يجعلك تجنح إلى ربك فتطمع فيه أن يعينك على تقواه... هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله... وقد لاحظت أنني تجاوزت بعض المسائل لأن حينها لم ينزل بعد والأفضل أن تفصل في الموضع الذي نزلت فيه...
بلغنا الله وإياكم من الخير فوق ما نؤمل, وصرف الله عنا وعنكم من السوء فوق ما نخاف ونحذر... هذا والله أعز وأعلى وأعلم, وصلى الله على محمد وآله وصحبه...
انتهى,(4/15)
بسم الرحمن الرحيم
تأملات في سورة الشمس
سورة الشمس
(بسم الله الرحمن الرحيم)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا أشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين....
أما بعد
في هذا اللقاء المبارك من محاسن التأويل سنشرع معكم في تفسير سورة الشمس وضحاها وهذه السورة المباركة سورة مكية باتفاق
وهي من أوائل ما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم وهي مصدرة بالقسم على نمط أكثر السور المكية كما مر معنا في سورة الضحى وسيمر معنا إن شاء الله تعالى والليل إذا يغشى والفجر وغيرهما من السور التي صدرهنَّ الله جل وعلا بالقسم قال الله جل ذكره لاحظ أن الله قال (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) )
هذا قسم بالشمس والواو عاطفة.(5/1)
فقوله جل شأنه وضحاها هذا قسم أخر أي أقسم الله بالشمس حال كونها مشرقة أو غاربة , يعني سواء كانت ظاهرة أو غير ظاهرة أقسم بها كجرم وأقسم بها حال خروجها للناس وقت الضحى الذي مر معنا في سورة الضحى فأصبح في هذه الآية وحدها قسمان
ثم قال الله تعالى (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) هذا قسم واحد لكنه مقيد بقوله (إِذَا تَلاهَا) قال سبحانه(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) ثم قال ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا ) وقال ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) وهنا نتنبه لما سيأتي ,أقسم الله بالشمس وأقسم الله بالقمر حال كونه تالياً للشمس لكن حول كونه تاليا تبينه قرينة (وَضُحَاهَا) والمعنى يكون تالياً للشمس بالمعنى الصحيح إذا كان مضيئاً , ولا يكون كذلك مكتملاً إلا في الليالي الثلاث ليالي البدر البيض وما بعدها وما قبلها بقليل , لكن لا تعد الليالي الأولى ليالي المحاق ولا في الليالي الحالكة التي في الأخير لا تعد داخلة في القسم لهذا قال الله تعالى (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) أي خالفها في الضياء, والقمر لا يكون مضيئاً في الليالي الحالكة وإنما هنا الأمر قسم مقيد (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) أي إذا خالفها في الضياء.
(وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا) طبعاً الشمس هي التي تجلي النهار لكن المقصود من هنا إنه وقعت الشمس عليه فأصبح النهار وهو محل أصبح كأنه قائم بما حل به.
وهذا مجاز في لغة العرب على خلاف العلماء هل في القرآن مجاز أو لا (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا)
قال الله (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) هنا قلنا لما قال والشمس هذا قسم بها حال كونها ظاهرة وغير ظاهرة
وقلنا وضحاها حال كونها ظاهرة , حال كونها ظاهرة أناب عنه قوله سبحانه (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا)
بقي حال كونها غير ظاهرة وهذا أناب عنه قول الله جل وعلا (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا)(5/2)
فيصبح جاء القسم بالشمس حال ظهورها وحال مغيبها , وبالقمر حال كونه خلفاً للشمس في ضياءه وحال كونه غير خلفاً لها في ضياءه في الليالي الحالكة كالمحاق الذي في أول الشهر وفي الليالي الحالكة في التي آخر الشهر ,
ويظهر هنا الأمر تجلى.
الليل لن نتحدث عنه كثيراً لأنه سيأتي في سورة خاصة به .
لكن الشمس هذه سورتها, الشمس مخلوق من مخلوقات الله , ويقال لها وللقمر تغليباً القمران ومنه قول المتنبي ::
عدوك مذموماً بكل لسان
ولو كان من أعداءك القمران
والعرب من جنس كلامها ما يسمى بالتغليب والتغليب أن يذكر اثنان بينهما رابط , فيذكران بأحدهما , يثنى أحدهما ويندرج فيه الأخر تبعاً ,إلا أن أسباب التغليب تختلف من حالة إلى حالة
فيقولون للشمس والقمر القمران , رغم أن الشمس أكبر لأن القمر عندهم لفظ مذكر والشمس لفظ مؤنث فغلبوا جانب التذكير على جانب التأنيث قال المتنبي ::
وما التأنيث أسم للشمس عيباً
ولا التذكير فخراً للهلال
ولو كل النساء كما فقدن
لفضلت النساء على الرجال
المقصود هذا سبب التغليب.
ويقال للشيخين الجليلين الصحابيين المعروفين أبي بكر وعمر , يقال لهما العمران مع أن الاتفاق على أن أبا بكر أفضل من عمر لكن التغليب هنا ليس في ذاتيهما وإنما التغليب لأن أسم أبي بكر مركب وأسم عمر مفرد وأسم أبو بكر مركب تركيب إضافي ,فثنوا الاسم المفرد لأنه أيسر ولم يثنوا الاسم المركب فقالوا العمران يقصدون بهما الشيخين أبا بكر وعمر قالت الخوارج لعثمان أعطنا سنة العمرين يعني أصنع بنا صنيع الشيخين أبي بكر وعمر.
ويقولون كذلك الحسنان لسبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا ريب أن الحسن والحسين كلاهما مذكر كلاهما أسم مفرد فلجأوا إلى سبب أخر للتغليب وهو أن الحسن أكبر من الحسين ولم يكن بينهما إلا طهر واحد لفاطمة , فقالوا الحسنان ..
وعلى هذا يقولون المكتان لمكة والمدينة لأن مكة عند الجمهور أفضل من المدينة , وهذا سياق..(5/3)
المقصود أقسم الله هنا بالشمس وأقسم الله بالقمر عرّض الله جل وعلا للشمس والقمر أن يزولا زوالاً عارض وزوالاً دائم .
فالزوال العارض يسمى باللغة الأفصح للقمر كسوف وللشمس خسوف ويجوز أن يقال لهذا هذا ولذاك الأول.
الزوال النهائي يكون عند قيام الساعة قال الله جل وعلا (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)
وقال جل ذكره (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وقال جل وعلا(وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) هذا كله ظاهر أنهما مخلوقان من مخلوقات الله سيضمحلان ويذهبان مثلهما مثل سائر المخلوقات
إلا أن الشمس تأتي للناس من المشرق وتغيب في المغرب على هذا درجت سنة الله جل وعلا فيها , وسيأتي يوم تستأذن تحت العرش فلا يأذن العلي الكبير لها , فيقول لها عودي من حيث طلعتي فتطلع على الناس من المغرب فإذا رآها الناس آمنوا قال الله جل وعلا (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)
هذه الشمس والقمر ,يقولون أو ثبت شرعاً أن الله حبس الشمس ليوشع بن نون , و يوشع بن نون نبي من أنبياء بني إسرائيل ساس بني إسرائيل بعد موت موسى ,وهارون مات قبل موسى ثم ساسهم موسى من قبل لكنه بقي وحيداً ,فلما مات دخل بهم يوشع بن نون الأرض المقدسة , سنعطيك الآن فريدة في العلم , دخل بهم الأرض المقدسة حارب يوم الأحد وخاف أن يأتي يوم السبت ولم ينتهي
وخاف أن تغرب شمس الجمعة ولا حظ فخاطب الشمس قائلاً إنك مأمورة وأنا مأمور
أقرأنه عبد وأنه مخلوق ثم دعا الله فقال اللهم أحبسها علي فحبسها الله عليه بقدرته فتأخر مغيبها فحارب وأنتصر .
قلنا الفريدة هنا ! أين الفريدة ؟ أن الحرب استمرت ستة أيام ,(5/4)
في عصرنا هذا حدث ما يسمى بنكسة حزيران عام 76م هذه الحرب أنتصر فيها الصهاينة على بعض دول المحيطة بها , على مصر والأردن وسوريا ,و احتلت الجولان وسيناء من أرض مصر والضفة الغربية وقطاع غزة ودخل في تلك الحرب دخل فيها اليهود المسجد الأقصى.
الشاهد منها حرص اليهود على أن الحرب تستمر ستة أيام..
الإذاعات العربية إذا تكلمت الآن والإعلام المعاصر إذا تكلم عن الحرب يقول نكسة الخامس من حزيران , لكن اليهود الصهاينة أعلامهم إذا تكلم يقولون حرب الأيام الستة ليلبسوها لباساً عقدياً وليربطوا مع جماهيرهم مع من يستمع إليهم من أتباعهم اليهود أن هؤلاء قادة المعاصرين صنعوا ما صنع يوشع بن نون , وأن ما يقال عن الجبارين الذين هم سكان فلسطين الذين حاربهم يوشع بن نون هم الجبارون الذين هم ينعتون المسلمين بهم بأنهم الجبارين , لذلك كانت بعض الأخطاء السياسية لبعض القادة الفلسطينيين المعاصرين يقولون عن دولة فلسطين أرض الجبارين وهذا خطأ لأن هذا يتمناه اليهود أن يقال أنها أرض العمالقة وأرض الجبارين حتى يصبح الحرب حرب عقدية شرعية بحتة , ولهذا يقولون في إعلامهم حرب الأيام الستة .
طبعاً الدافع لهذا الحديث كله هو حديثنا عن قضية الشمس وقول الله جل وعلا { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا }وهذا كله قسم يتبعه قسم لأمر عظيم سيأتي بعده قال الله بعدها { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } والسماء في اللغة كل ما علا وأرتفع ، قال أمية بن الصلت :
وأرضك كل مكرمة بنتها
بني تيم وأنت لها سماء
أي قبة أي عالي أي سقف , عالي السماء , هذه السماء جعل الله لها أبواباً بنص كتابه قال الله جل وعلا { وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا } ولها خزنة يسكنونها قال صلى الله عليه وسلم : (( أطت السماء وحق لها...)) [خبر] [حال](5/5)
هذه السماء لها أبواب يصعد منها عمل العبد , في مواقف يصعد منها عمل العبد , فالصالحون من الخلق ترفع أعمالهم من أبواب معينة , فيصبح هذا الباب وقف على زيد وعمراً من أهل الصلاح , فإذا مات هذا العبد أنقطع العمل , فإذا أنقطع العمل ما أصبح يدخل أو يرفع من هذا الباب شيء , فيبكي عليه موضعه من السماء , وهذا معنى قول الله جل وعلا { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } فطوبى لعبد إذا مات وأنقطع عمله بكى عليه موضعه من السماء وموضعه من الأرض , وما أشقى عبد عياذاً بالله يموت فلا يفقده موضع بالسماء ولا موضع بالأرض أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله وجعلنا ممن يتلبس بالصالحات أنما حل ونزل , هذه السماء.
قال الله جل وعلا { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } الطحو هو نفسه الدحو في قوله { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } والمعنى بسطها , والأرض مقدم خلقها على خلق السماء قال الله جل وعلا : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ } وقال جل وعلا { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } ولم يقل بدأ خلقها.
والمقصود من هذا كله أن الأرض والسماء مخلقتان عظيمتان من مخلوقات الله أقسم الحق تبارك وتعالى بهما في هذا الموطن , والذي يعنينا هذا القسم من جنس القسم الأول , القسم بالمخلوقات المتابع , وكل ما أقسم الله به من شمس وقمر وليل ونهار وسماء وارض وما يتعلق بهما كلها غير مكلفة , غير عاقلة , ثم قال {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } والنفس جاءت نكرة , فهل المقصود به نفس آدم أم نفس بني آدم أو جميع الأنفس , الأظهر والله أعلم أنفس المكلفين من الجن والأنس , بدليل أن الله قال بعدها { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } ولا يخاطب بهذا إلا المكلف .(5/6)
ما النفس , النفس هي ذات الروح أو هي الروح ذاتها , لكن الإنسان إذا اتصلت روحه بجسده يقال لها نفس , وإذا انفكت النفس عن الجسد وخرجت يقال لها روح , قال صلى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون لما مات كان عيناه مفتوحتين فأغمضهما صلى الله عليه وسلم وقال : (( إن الروح إذا صعد يتبعه الجسد )) وجاء في القرآن { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } فعلمها غيبي لا يعلمه إلا الله , لكن الله هنا قال { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } ليبين أن هذه النفس عظيمة الخلق وفيها من الأسرار والأمور والعجائب ما لا يعلمها إلا الله , وجاء في ذكرها في القرآن مقسمة إلى ثلاثة أقسام , نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء ونفس لوامة , وهذه النفس أسند الله لها الكلام والجدال { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } وأسند الله لها الحسرة { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ } إلى غير ذلك مما مر معنا وسيمر معنا ولا حاجة للإستفاض فيه.(5/7)
قال سبحانه { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } يقولون أن الأصل في الإلهام يكون في الخير , ولا يقال في الشر أنه إلهام , والسؤال المطروح هنا كيف يقال { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا } والجواب أن الإلهام هنا إلهام إعلام حتى تجتنب فجورها , بمعنى أن الله جل وعلا ألهم النفس أن فيها فجوراً ومرجعاً للشر يجب أن تجتنبه حتى تعلم ,فإذا علمت أن هناك مرجعا للشر فيها وحذرت منه تكون أقدر على تركه فيكون الحساب قائم على بينة وعلى علم .{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قدم الله الفجور على التقوى , والآن سيأتي تسلسل غريب في العرض تسلسل بديع , قدم الله الفجور لأنه لا تحليه إلا بعد التخليه , قدم الله الفجور لأنه لا تحليه للتقوى إلا بعد أن تخلى النفس من الفجور { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا } فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يشرع عيدي الأضحى والفطر منع الأنصار من يوم بُعاث , ثم أتى بالبديل عليه الصلاة والسلام وهو عيدا الفطر والأضحى , نقول { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا } بدأ الله بالفجور قبل فضيلة التقوى حتى يكون التخليه قبل التحليه ثم أتى بالتقوى قال { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ثم قال وهذا جواب القسم { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } فلما جعل التقوى هي الأخير بدأ الآن بالتزكية حتى تكون ملتصقة بماذا ؟
بالتقوى كأنها سلسة , بدأ بالفجور لأنه قلنا التخليه ثم ثنى بالتقوى ثم قال بالتزكية حتى تكون التزكية متصلة بالتقوى لأن التزكية لا تتصل بماذا ؟(5/8)
لا تتصل بالفجور { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }والسلسلة البديعة لم تنتهي بعد سيأتي بعدها ولنستعجل ثم نعود , ثم قال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } فالطغيان بثمود مناسب لقوله { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } فالدسيسة في قوله { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } ترتبط بالسلسلة الآية التي بعدها { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } فيصبح أول كل آية له وجه بديع في التناسب مع أخر كل آية .
نأتي لمعنى قول الله جل وعلا { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }
القرآن نزل أصلاً على أمة عربية , وهذه الأمة العربية لها طباع , البيوت بيوت الكرام تكون في الأماكن العالية , حتى توقد النار فيراها الطارقون , وبيوت اللئام تكون بخبايا حتى لا يراها المنصرفون , عامل الله جل وعلا النفوس البشرية بمثل أوضاعها الحقيقية في حياتها , فالتزكية الارتفاع , زكى بمعنى نمى , والدسيسة أخفيت الشيء بمعنى دسسته , فقال الله { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } لا يمكن أن ترى إنسان محرم يريد أن يذهب إلى العمرة يستحي أ يخرج بين الناس بإحرامه بل بالعكس لو رآه الناس لجنحوا إليه يدعون له بالتوفيق ويسألونه الدعاء , فهو في موطن شرف لا يريد أن يخفيه , بينما من يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق ومواطن الفجور المخصوصة يتوارى عنك , فهو يلبس زي الأعاجم زي الكفر يضع الأساور والسلاسل ومعه أغراضه , لكن إن كان فيه شيء من الفطرة ستجده مطأطئ رأسه لا يريد أن يراه أحد , فيأبى الله إلا أن يذل من عصاه , لا يستحي أحد منكم ولا من غيركم من المؤمنين(5/9)
أن يقال أنه رؤيا في حرم صلى الله عليه وسلم أو رؤيا يطوف حول الكعبة , لكنك تجد أهل المعاصي يدفع أموالاً باهظة لمن وجده في موطن ريبة رجاء أن لا يحدث بها أحد , لأن المعصية تكسره وتذله أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله , هنا الله يقول { قَدْ أَفْلَحَ } فجعل الله جل وعلا الفلاح مرتبطاً بتزكية النفس , وأعظم ما يسمو به الإنسان نفسه
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
هبطت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات توجهي
والمعنى أن روحك ونفسك لم تختر هي بنفسها هذا الجسد لكنها لما أُحكمت مع هذا الجسد وارتبطت صار بينهما أُلفة وعِشرة , ثم إذا جاء قبض الروح تجد الروح صعبة المخرج كأنها تقول لك إنني قد ألفت هذا الجسد ولا أستطيع الانفكاك عنه , لكن الحق أن الأمر مبني على الإيمان والعمل الصالح , وأعظم ما يزكى به النفوس أمور :: من أهمها
1- أن يُعلم أنه لا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح , سيد الأصحاب الصديق رضي الله عنه وأرضاه ( من أصبح منكم اليوم صائما قال أبو بكر أنا , من تبع منكم اليوم جنازة قال أبو بكر أنا , من أطعم منكم اليوم مسكيناً قال أبو بكر أنا , من عاد منكم اليوم مريضاً قال أبو بكر أنا أعمالاً صالحة متنوعات في قلباً قال عنه صلى الله عليه وسلم لو وضع إيمان أبي بكر في كِفة و إيمان الأمة في كِفة لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه , والمقصود لا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح .
2- من أسباب تزكية النفوس الرضا بقضاء الله وقدره وهذا من أعظم منازل الإيمان , ويعلو على هذين الأمرين محبة الله جل جلاله , ومحبة الله من أعظم أسباب تزكية النفوس , محبة الله جل وعلا ثم محبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإتباع هدية صلوات الله وسلامه عليه .(5/10)
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وقال الله { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أي خسر { دَسَّاهَا } أي أخفاها وجعلها وضيعة بتركه للعمل الصالح , إن كانت هذه الآيات عند قوله سبحانه { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } والخطاب في الأصل للقرشيين , أمة تحيط بالكعبة , فأراد الله أن يضرب لهم أنموذجاً لمن خاب وخسر فقال لهم{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } من ثمود؟
قبيلة عربية تسكن شمال الجزيرة , أو بالأحرى كانت تسكن شمال الجزيرة العربية ومواطنهم بالحجر , قال الله { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ } أي بطريق واضح ظاهر ما تغير شيء , وإلى اليوم هي لبسبيل مقيم , جهة العلا .
قال الله { كَذَّبَتْ ثَمُودُ } قبيلة عربية عند المؤرخين يسمون عرب بائدة , ويضاف إليهم قوم عاد , هؤلاء عرب بائدة وصالح نبيهم , والله لم يذكره هنا , ذكره في آيات مكية أخرى , لكن هذه الآيات المكية التي بين أيدينا قصار { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } كذبت من ؟
كذبت الرسول الذي بعث إليهم , الخطاب الآن توضيحه لأهل مكة ضرب مثل حتى تنقطع الأعذار { بِطَغْوَاهَا }الباء هنا سببية , أي كذبت ثمود بسبب طغيانها , والطغيان تجاوز الحد , قال الله جل وعلا { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } هذا إجمال , جاء التفصيل { إِذْ انْبَعَثَ } من الذي أنبعث ؟ { أَشْقَاهَا } الهاء في أشقاها عائدة إلى من ؟
عائدة إلى ثمود بحسب تسلسل كلام
لكن الحق أنها عائدة إلى الأولين أجمعين , ومعناها أشقى الأمم السابقة كلها , أين الدليل ؟(5/11)
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أشقى الأولين عاقر الناقة) وأسمه قضار بن سالف ويقال له أُحيمر ثمود , كان رجلاً عزيزاً منيعاً في رهطه , هذا الرجل , كانت كل ثمود الكافرون منهم يحدثون أنفسهم بعقر الناقة , قال الله جل وعلا { إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ } قبل أن ينبعث { رَسُولُ اللَّهِ } الذي هو صالح { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } منصوبة على التحذير , أي أحذركم ناقة الله, وهذه الناقة جعلها الله جل وعلا آية لقوم ثمود قال سبحانه { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً } هذا على حذف , حذف ماذا ؟
أصل الآية ( وأتينا ثمود الناقة آية مبصرة ) يعني آية واضحة, وليس المقصود أن الناقة ليست عمياء , وإنما الناقة إذا أطلقت ورد أنها بصيرة, وإنما المقصود آية مبصرة لهم , هذه الناقة جعل الله لها شرب يوم محدد وجعل لثمود شرب يوم آخر , لها شرب ولكم شرب يوم , استبقوا العذاب قال الله { إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا *فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ }
فوقع منهم التكذيب مرتين ::
التكذيب الأول تكذيب بالرسالة كلها .
والتكذيب الثاني بأن هددهم بالعقاب وحذرهم أنهم إذا قتلوا الناقة سيأتيهم الوبال.(5/12)
قال الله جل وعلا { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا } العقر في اللغة هو جرح البعير في يديه ليبرك حتى ينحر , قطعاً إن أولئك القوم لم يكونوا ينحروا الناقة نحراً شرعياً , لأنهم لا شرع لهم أصلاً لا إيمان لهم أصلاً حتى ينحروها معقولة يدها اليسرى , وإنما عبر الله بالعقر هنا وأراد النحر للتلازم ما بين الفعلين , بمعنى أنه عقر البعير فلما جثا البعير نحره في وعدته , وقلنا عبر الله بالعقر لأنه تلازم كامل بينه وبين النحر , قال الله جل وعلا { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا } طبعاً قال الله فعقروها والمقصود ثمود كلها لأنها كانت راضية بفعل الأشقى منهم , لأنهم كانوا أي ثمود راضين بفعل الأشقى منهم , وإن كان الذي تولى كِبر الأمر تسعة , ومن هؤلاء التسعة خرج هذا أُحيمر ثمود فعقروها , قال الله { فَدَمْدَمَ } بمعنى أطبق { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ } تكرار للسبب حتى يُعلم أن الله لا يظلم الناس { بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا } أي سواهم بالأرض كأقوام لا كديار لأن الديار باقية , ثم قال الله قولاً لا يوصف إلا الله به ’ فلا يصنع أحد صنيعاً إلا ويرجوا به أحد أو يخاف به أحد إلا الله جل وعلا لا يرجوا بصنيعه أحد ولا يخاف جل وعلا أحدا فقال الله { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا } أي عقبى وتبعة ذلك الصنيع لا يمكن لله جل وعلا أن يخافه أو يحسب له أمرا لأنه تبارك وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون يجير ولا يجار عليه , وكل نعوت الكمال وأوصاف الجمال له تبارك وتعالى دون سواه والنقص إنما على خلقه أجمعين هذا المعنى العام لقوله { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا }.(5/13)
إذا عُرف أشقى الأولين دلت السنة في نفس الحديث على أشقى الآخرين , قال صلى الله عليه وسلم يسأل علياً ( أتدري من أشقى الآخرين [ في رواية أنه قال الله ورسوله أعلم ] قال : من يضرب هذه عن هذه أو من يفصل هذه عن هذه وأشار إلى رقبة علي والذي حاز على هذا هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي الذي قتل علياً , أشترى سيفاً فيما تقول مجمل الروايات ووضعه في إناء فيه سم حتى أن الحديد لفظ السم .
وأحياناً يزين للإنسان سوء عمله , ,اخذ يدعوا الله ويعتقد أنه مجاب وهو مجاب من وجه آخر , قال اللهم أقتل بهذا السيف شر خلقك , ثم عرض لعلي وعلياً ذاهباً غادي إلى صلاة الفجر , فضربه ضربة وكان فاتكاً , ثم حُمل بعد أن أطبق عليه فسأله علي رضي الله عنه عن الذي صنع وكان في علياً بقية من حياة قبل أن يموت , قال أنني اشتريت السيف بكذا وأصلحته بكذا وعرضته على الناس ومازلت أقومه بكذا ثم سالت الله أربعين صباحاً أن يقتل به شر خلقه , ولهذا نفهم أن القضية ما هي قضية أماني ونوايا قضية علم , فلما غاب العلم أتكل على أمانيه ورؤاه وأمثال ذلك مما وقع فيه وجهله التام , فقال علي رضي الله عنه وأرضاه ما أراك إلا مقتول به , ثم قتل بنفس السيف أو قيل أنه قتل بهذا النفس , هذا عبد الرحمن بن ملجم , أختلف الناس فيه , اختلفوا فيه أولاً إلى فريقين , فريق قيل له وهم أتباعه من الخوارج , وهؤلاء كانوا يرون أن هذا الصنيع قربة إلى الله .
يا ضربة مِن تقيٍّ ما أراد بها
إلا ليبلغَ مِن ذِي العرش رِضواناً
إني لأذكره يوماً فأحسبُه
أَوفىَ البرية عند الله ميزاناً(5/14)
هذا قول عمران بن حطان أحد زعماء الخوارج , وعمران هذا كان طالب علم فأراد أن يقنع امرأة من الخوارج أن ترجع عما هي عليه , فأقنعته وغلبته بجماله فتبعها في مذهبها , لا أريد أن أستطرد نعود إلى الفريق الثاني وهم أهل السنة , اتفقوا على أنه في أعظم درجات الباطل لكنهم اختلفوا هل يكفر بهذا العمل أو لا يكفر , والمشهور والله أعلم أنه لا يكفر , لماذا يؤتى بالقضية يعني كيف عرف أنه يكفر أو لا يكفر , المبني عليها مسألة فقهية , وهو أن الحسن والحسين قتلاه مباشرة .
وجه الإشكال أين ؟
أنت طالب علم , وجه الإشكال إنه كان لعلياً أبناء صغار لم يبلغوا الرشد , فكونهم قتلوه الحسن والحسين قبل أن يبلغ أبناء علي الصغار , لا يحتمل إلا أحد أمرين , قول فقهي وهو أنه لا ينظر للصغار حتى يرشدوا يسقط حقهم وهذا ليس الجمهور عليه .
وقول ثاني تخريج فعل الحسن والحسين أنهم قتلوه باعتباره كافر , لا يلزم منهم أن يستشيروا أخوتهم الصغار , واضح(5/15)
لكن إذا قتلناه باعتباره مؤمن تبقى المسألة أن الصغار لهم حق , وما قتل عبد الرحمن بن ملجم دون أن ينظر في رأي أبناء علي الصغار , قد يقول قائل قطعاً سيقولون لكن هذا أمر لا يبنى عليه مسألة شرعية , والمقصود هذه نوعاً من الثورة المعرفية التي تزداد حول قول الله جل وعلا { إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } نستفيد من الآية أن الناس منهم أئمة بالخير ومنهم من هو إمام بالشر , لذلك كلمة إمام وحدها لا تدل على فضل حتى تظهر بقرينة قال الله {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } وقال { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا } فكلا الحالين نعت الله المتقدمين منها أنهم أئمة , لكن من القرائن عرفنا أن أولئك في الخير وأن أولئك في الشر , والناس يعني أن تكون ذيلاً في الخير خيراً من أن تكون إماماً في الباطل , والمقصود أن يتبع الإنسان الخير وأهله أينما كانوا وهذا المعنى الحقيقي لقول الله جل وعلا { إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } كذلك يفهم من الآية أن الإنسان الذي يجنح إلى الشر غالباً لا يكون فيه تؤده , يكون فيه محاولة التخلص من الأمر ولهذا قال الله { انْبَعَثَ } الانبعاث يدل على السرعة لأنه يخشى أن يرجع في الأمر , ما إن يزين له سوء العمل إلا ويبادر به حتى يبقى على تمجيد رهطه له ولا يترجح , لكن بالنسبة لك كأخ مؤمن الأمور عندك تنقسم إلى قسمين , ما ثبت شرعاً هذا لا يحتاج إلى تؤدة قال الله جل وعلا على لسان عبده موسى {...} وما لم يكن ثابتاً بنص هذا يحتاج الإنسان فيه أن يتبين وأن يتريث وأن يكون في خطواته على تؤدة وعلى مهل في قضية غدوه ورواحه وأين ذهابه ومشيته , هذا مجمل ما من الله به علينا في سورة الشمس ..
نعود فنجمل ما أردناه من السورة فنقول ..(5/16)
هذه أقسام متتابعة يتبع بعضها بعض ,كلها ذات شأن عظيم ومعناً جليل أقسم الله بها لأمر جليل وعظيم من أجل نُصبت الموازين وأقيمت البراهين إلا وهو سوق الجنة وسوق النار المبني على الفلاح والخسران , لهذا قال الله في جواب القسم { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } ثم ذكر الله أمة بادت وأقوام مضوا بُعث لهم نبي كما بُعث لنا نبي أهلكهم الله جل وعلا بسبب طغيانهم , ردوا الآيات وكان ردهم للآيات بياناً أن الإيمان بيد الله جل وعلا , وأن الآيات لا تغني أصحابها شيئا , ولهذا لما طلب القرشيون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا أراد الله عليه الصلاة والسلام أن يدعوا بذلك فجاءه جبريل وقال له إن الله يخيرك في أنه إذا أظهر لهم الصفا ذهبا ولم يؤمنوا أن يطبق عليهم الأخشبين , وأن شئت أرجأنا أمرهم لعل الله أن يخرج منهم ذرية صالحة , فأختار صلى الله عليه وسلم الأمر الآخر , وهذه سنة كانت ماضية في الأنبياء قبل نبيا صلى الله عليه وسلم قال الله { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا }
هذا ما تيسر إيراده وما تهيأ إعداده حول سورة الشمس , وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى..
وصلى الله محمد وعلى آله ..
والحمد لله رب العالمين ..(5/17)
بداية سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحدهُ حمداً كثيراً طيباً مباركاً كمَا يُحب ربُنا ويرضى وأشهدُ أن الله لا إله إلا هو وحدهُ لا شريك له شعارُ ولواءُ ودثارُ أهل التقوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمدً عبدُ ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ..
فاللقاء في هذا اليوم قٌد يأخذُ نقلةً نوعيةً بعض الشيء فقد اعتدنا على السور المكية وكنا قد ذكرنا في أول اللقاءات أن هذا البرنامج يُعنى أول ما يُعنى بترتيب السور حسب نزولها على ما حرّره أهل العلم في ذلك لكننا ارتأينا رغبة في تحقيق رغبة كثيرٍ ممن لهم اتصالٌ بالبرنامج أن نعرض على السور المدنية رغبةً في أن يشمل الحديث الأحكام كما شمل العقائد وبناءً على هذا فإن السورة التي سنُعنى بها في هذا اللقاء المبارك هي } سورة النور{ وهذا الاسم هو اسمٌ توقيفيٌ لا يُعرفُ لسورة أسمٌ غيره جاء مدوناً في المصاحف ونُقل عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال " علّموا نسائكم سورة النور" ونُقل عينُ هذا القول أو قريبٌ منه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، والسورة مدنيةٌ باتفاق أي بإجماع المسلمين ممن يعنون بعلم التأويل وهذه السورة صدرها الحقُ جل وعلا بقوله :
)) سورةٌ أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بيّناتٍ لعلكم تذكّرون((
وهو افتتاحٌ غير مألوف في القُرآن فلا يُعلمُ أن سورة من القرآن افتتحت بمثل هذا الافتتاح .
السورة في اللغة : المنزلة الشريفة العالية و حُقَّ لسور القرآن أن يُقال لها ذلك وقد شرُفت وعظُمت تنزيلاً ولفظاً ومعنى والعربُ تطلقُ ذلك على ما عظُم وشرُف قال قائلهم :
ألم ترى أن الله أعطاك سورة ** ترى كُل ملكٍ دونها يتذبذبُ
فإنك شمسٌ والملوك كواكبُ ** إذا طلعت لم يبدُ منهن كوكبُ(6/1)
القرآن كله منزلٌ من عند الله لكنّ الله قال هنا (سورةٌ أنزلناها) وقد أجاب عن هذا العلماء بقولهم : إن هذا للفت الانتباه وإرشاد العناية لما تتضمنه هذه السورةُ المُباركة من عظيم الأحكام الشرعية قال الله جل وعلا بعدها )سورةٌ أنزلناها وفرضناها ) قُرء بالتخفيف وقُرء بالتشديد والمعنى قُرئت وفرَضناها و وفرّضناها بتشديد الراء والقراءة الأخرى أي الثانية المقصود منها أنها أحكامها نزلت مُنجمة أي أن السورة لم تنزل كاملة و أياً كان المعنى فإن الأفضل في أن يُقال جواباً عن هذا كُله أن هذه السورة عَنيت بالأحكام وعَنيت بتعريف العباد بربهم فما يتحدثُ عن الأحكام عبّر الله جل وعلا عنه بقوله ( فرضناها ) وما يتعلق بالعقائد والتعريف بالرب عبّر الله جل وعلا عنها بقوله ( وأنزلنا فيها آياتٍ بيناتٍ لعلكم تذكّرون ) والقرينة التي تدلُ على صحة هذا المنحى في التفسير قول الله جل وعلا ) لعلكم تذكّرون ) فإن الدعوة إلى تذكرُ الشيء يلزم منه أن يكون الشيء مُستقراً من قبل ومعلومٌ أن الأحكام لم يكن في المسلمين علمٌ بها من قبل فلا ينطبقُ عليها قول الله (لعلكم تذكّرون ) وإنما ينطبق على الآيات التي عُنيت بالتعريف بالرب والإرشاد إليه ومنه في هذه السورة قول الله جل وعلا ( ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً ثُم يؤلف ُبينه ).
وقول الله جل وعلا ( والله خلق كل دابة من ماء ) والآيةُ التي من أجلها سُميت السورة بسورة النور وهي قول الله جل وعلا ( الله نورُ السماواتِ والأرض (
فهذه الثلاث التي ذكرناها كنماذج لا تحمل أحكاماً فلا ينطبقُ عليها قول الله) فرضناها ) وإنما ينطبقُ عليها قول الله (وأنزلنا فيها آياتٍ بيناتٍ لعلكم تذكّرون ( وقُلنا أن قرينة ( لعلكم تذكرون ) تؤيد هذا المنحى فقد جاءت عقب الآيات البينات ولم تأتي عقب فرضناها.(6/2)
هذه الآية التي صّدر الله جل وعلا بها هذه السورة هذه توطئه وتمهيد فبدأ الله بالأحكام قال ( فرضناها ) وأجل الحديث عن الآيات ولهذا جاء ما بعدها مناسبً لتمهيد فبدأ الله بالأحكام قبل أن يبدأ بأمور العقائد في هذه السورة لا أن العقائدُ أهم من الأحكام لكن نحنُ نتكلمُ عن سورة مدنيه وقد استقرت العقائدُ شيئاً كثيراً في أنفس المسلمين ولا غنى للخلق عنها لكن هنا في هذه السورة المدنية بدأ الله جل وعلا بالأحكام بعد أن وطأ ومهّد .
قال سُبحانه :
( الزانيةُ والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلدةٍ ولا تأخُذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين )
دائماً يا أُخي تصور الأشياء تصوراً كُلياً يُعينُ على فهمها ..
والمدخلُ في هذه الآية تتحدثُ عن حدّ الزنى ، الآية تتحدث عن حدّ الزنى وقبل أن أشرع في الحديث عن تفسير الآية أُأصل المسألة فنقول إنّ الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس : الدين ، والعقل ، والمال ، والنفس ، والعرض ثُم شرع حدوداً تحفظُ هذه الخمس فبحد السرقة أيُها الأخُ المُبارك ماذا يُحفظ ؟ يُحفظ المال ، وبالقصاص وأمور الجنايات تُحفظ الأنفُس ، وبحدّ الزنى والقذف تُحفظ الأعراض ، وبحدّ السُكر يُحفظ العقل وبهذه الأربعة جميعاً بإقامتها كُلها يُحفظ الدين . هذا التحرير الأول .
الحدُ : عقوبةٌ مُقررةٌ شرعاً في معصيةٍ استيفاءً لحق الله جل وعلا ومما يجري معها القصاص ، لكنّ ثمة فارق ما بين القَصاص وما بين الحد .
القصاص ترك الله جل وعلا أمره لأولياء الدم أو الجناية فلا يُصبح وضع ولي الأمر إلا بتنفيذه .
ومثالهُ :..
أن رجلاً قتل رجلاً فإنه يتعلقُ بقتل ذلك الرجل ثلاثة حقوق :
حقٌ لله العلي الكبير وهذا يسقطُ بالتوبة .
و حقٌ للمقتول عينه لذات المقتول وهذا لا يسقط أبداً يكون يوم القيامة .
و حقٌ لأولياء الدم وهذا هو الذي يدور كلام الفُقهاء في فلكه.(6/3)
حدُ أولياء الدم مُخيرون هؤلاء أولياء الدم مُخيرون في القصاص أو القبول في الدية زادت أو نقصت بحسب التراضي أو العفو ، فيُصبح ما دور ولي الأمر؟ تنفيذُ القِصاص أو عدمُ تنفيذه أو إجراء آلية قبضُ الدية لكن الحدود تختلف عن القِصاص في هذا المعنى أن الحدود حقٌ لله لا تسقطُ لا بعوض ولا بدون عوض ولا تجوز الشفاعةُ فيها بينما تجوز الشفاعة أين ؟ في القِصاص كما نسمعُ ونرى في صُحفنا ونقرأ أنه قد يأتي ثريٌ أو وجيه لأولياء دم فيُرضيهم بأموال تزيدُ عن الدية رغبةً في حفظ دم الآخر فها يجوز شرعاً يقول ربُنا (فمن عُفي لهُ من أخيه شيء ) وهذه الأمور اتفق أهلُ العلم على أنها تكون بعوض أو بدون عوض زاد أم نقُص المقصود منه التراضي ، لكن الحدود في منأى عن هذا فلا حد الزنى ولا حدُ القذف ولا حدُ الخمر ولا حدُ السرقة يدخلُ فيها شيءٌ من هذا يجبُ استيفاؤها إذا رُفع الأمر إلى السُلطان ولا تجوز الشفاعةُ فيها . هذا التمهيد موطأٌ ممهد مهمٌ لك قبل أن تشرع في فهم الحدود هذا الذي بين أيدينا الآن حدُّ الزنى ، و الزنى أمرٌ معروف ويقولون إن من أكبر المُعضلات توضيحُ الواضحات والله لم يُعرّف الزنى لأن الزنى معروف ولم يُعرّف القتل لأن القتل معروف من قبل أن يُنزّل القرآن لكن قبل أن أشرع أنا في الفهم الفقهي لهم أُريد أن أُبين لك مسألة مهمة ثمة أمور .. هناك حديثٌ يقول يُسمونها بغير اسمها في شُرب الخمر يتعلق بعضُ من لا باع عالي له في الفقه فيأتي للأشياء فقط ينظرُ إلى جوهرها ويحتجُ بهذا الحديث ولا يجوز بحال إمرار الحديث إمراراً كُلياً وإنما الفقه أوسع من ذلك وحتى تتضح الصورة لك ولمن يرانا نقول مثلاً إن الرجل له وطرٌ يقضيه من النساء والنساء لهُنّ وطر تقضيه من الرجال هذا الوطر وهو الجماع الوطء إذا تحقق عن طريق إيجاب وقبول ومهرٍ ووليٍ وشاهدين وأُعلن سُمي ماذا ؟ سُمي نكاحً شرعياً من سُنن الأنبياء والمرسلين والغاية منه الوطء(6/4)
وقضاء الوطر ،
وإذا تحقق عن طريق أن الرجل أرغم المرأة تحت تهديد السلاح مثلاً امرأة لا تحل له فأرغمها تحت تهديد السلاح فإن الرجل هذا يُسمى مُغتصباً زانياً يُقام علية الحد و المرأة لا يلحقها شيءٌ من الشرع لأنها مُجبرة مُكرهه لا خيار لها ،
في حالة أن يتم نفس الحالة وهو قضاء الوطر الجماع الوطء تتم بالتراضي ما بين امرأة ورجلٍ بالتراضي سراً هذا يُسمى زنى جاء فيه الحد .
نفس القضية يتم التراضي ويتم من غير إعلان نكاحٍ ولا غيره ولا يُسمى نكاحاً لكن المرأة تشترط مالاً يُسمى بغاء فتُعتبر المرأة التي تصنع هذا الصنيع بغيّ أما الأولى تُعتبر زانية فالزانية من لا تطلُب أجرا لأنها تستفيد من قضاء وطرها وأما من تشترط الأجر وتتخذهُ مهنة تُسمى بغيّ . أين موضع الشاهد في هذا كُله ؟ أن المقصود في الأحوال الأربعة المُتعة الجنسية في المقام الأول ومع ذلك أحدُهُما من أعظم السُنن و أحدُهُما لا يلحق المرأة شيء و أحدُهُما زنى يجلبُ الحد ولآخر والرابع زنىً يجلبُ الحد لكن المرأة تُسمى فيه بغيّ ، والمقصود من هذا أن الإنسان قبل أن يحكُم على الشيء فلينظر واديه في الشرع مجراهُ في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله علية وسلم ولا يصحُ أن يُعملَ بنصً ويُهمل آخر أو أن ينظر إنسانٌ إلى نصوص الشرع نظرة جُزئية فيجعل بعض النصوص مُهيمناً على النصوص كُلها هذا خطأ منهجي وإنما قبل أن يتفوه الإنسانُ بالحكم الشرعي يجلبُ كل الأحاديث التي في الباب وينظرُ في الشرعية إجمالاً فيتبين له بعد ذلك الحق من غيره والله يقول : ( وما كان الله ليُضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يُبين لهم ما يتقون ) هذا مدخل .(6/5)
الحد هُنا حد الزنى أو حد الزنى الذي يتعلق بالزاني أو الزانية البكر غير المُحصن وإنما أخرجنا المُحصن من هذه الآية لأن حد الزاني أو الزانية المُحصن إنما هو الرجمُ بالسنة المتواترة التي لا تقبل الدفع عن رسول الله صلى الله علية وسلم رواه أبو بكرٍ وعمرُ وعليٌ وأبن مسعود وخالدٌ وغيرهم من الصحابة فلا تقبل الدفع خلافاً لمذهب الخوارج الذي لا يرون إقامة الرجم ويحتجون بأنه لم يوجد في كلام الله ونحنُ لا نُريدُ أن ننحى بالتفسير منحىً فقهياً تاماً فهذا خطأ منهجي في النظر إلى الآيات لكننا نُعرج على ما نحتاجُ من كلام الفُقهاء فنقول بدايةً:
إن الحد المقصود به هُنا هو حد الزاني أو الزانية البكر غير المُحصن إن كان رجُلاً وغير المُحصنة إن كانت امرأة هذا حدده الله نصاً ولم يترُك لحد تحديده قال ربُنا ( فاجلدوا كُل واحدٍ منهما مئةً جلده ) وهذا أعلى حدود الجلد في الإسلام والجلدُ مئة جلدهَ أعلى حدود الجلد في الإسلام يأتي بعدهُ حدُ القذف سيأتي وقدرهُ ثمانون جلده .
قال ربُنا ( الزانيةُ والزاني )
بدأ الله بالمرأة هُنا لأن الزنى لا يتمُ لو لم توافق المرأة فقُلنا يُفرّق ما بين الزنى و الاغتصاب فالاغتصاب زنىً في حق الرجل ليس زنىً في حق المرأة لا يُقامُ عليها حد ، لكن الزنى الذي بالتراضي هذا لا يُمكن أن يُقام ويقع بدون رضاً من المرأة فهي المُطاوعة ولهذا قدمها الله ) والزانيةُ والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلده ) والجلدُ يكون بسوطٍ لا جديد و لا خلِق لأن المقصود التأديب وليس المقصود الإهلاك فلا يكون السوط جديداً حتى لا يكون سبباً في هلاك الرجل أو المجلود ولا يكون خلقٍ فلا يتضرر منه فلا يُصبح هناك معنى لإقامة الجلد وفي نفس الوقت من يقوم بعملية الجلد لا يرفعُ يدهُ عالياً و بالذي يُرخيها وإنما وسط ،
كذلك ما الذي يُجلد ؟(6/6)
الأصل أن يُجلد الظهر لقول النبي صلى الله علية وسلم " أو حدٌ في ظهرك " لكن جُملة قال أهل العلم يتجنب مواطن المَقاتِل ويتجنب الرأس والعورة وما يُخشى أن يُؤدى إلى إهلاك فيضربُ في البطن مثلاً أو يضربُ في أعلى الظهر وأسفله وأوسطه وما أشبه ذلك وفي أسفل رجليه هذا كُلها مواطن يتمُّ فيها الجلد .
قال الله تعالى
) فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلده ولا تأخُذكم بهما رأفةٌ في دين الله(
الرأفة مصدرٌ من رأفَ وهي حالةٌ تنتابُ الشخص إذا رأى ما يُحزنهُ في المرؤف به والمعنى أن إقامة حد الله جل وعلا وما ينجُم عن ذلك من مصالح أعظمُ من المصلحة عن الرفق بذالك الذي سيُحد .
) ولا تأخُذكُم بهما رأفةٌ في دين الله إن كُنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر (
هذا قيدٌ المقصود منه إثارة ما في القلب من نُصرة لدين لكنه(( لا يُطبقُ حرفياً)) وهذه ضعها بين قوسين ما معنى لا يُطبقُ حرفياً ؟ بمعنى لا يأتينا أحد فيقول لمن أصابته رأفة على مجلود أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فيُخرجه من الملة [ واضح ] لا يُمكن أن يقول عاقلٌ بهذا فلا نأتي نفهم القلب وهذه نُقطه يقع فيها كثيرٌ من الفُضلاء فيأتون للقيد فيقلبُونه فيحتجّون به على مسائل عديدة ولو استقام القلبُ لاستقام في كُل شيء لكنه لا يستقيم لابد أن يُنظر في قرائن أُخر حول النص [ واضح ] وهذا مُهم جداً لأن الآية هنا لا يُمكن أن يؤخذ مفهوم مُخالفتها .. أن إذا أخذتنا رأفةٌ في ذلك المجلود أننا معنى ذلك أننا لا نؤمن بالله واليوم الآخر مُحال .. لكن نقول أن كمال الإيمان مُنتفيٍ لوجود قرائن أُخر تمنع أن نقول بكُفر من يصنعُ ذلك وأنا أقول المقصود من هذا التريُث قبل إطلاق الحكم هذا الذي دلّ علية كتاب الله وسنة نبيه صلى الله علية وسلم .
( ولا تأخُذكُم بهما رأفةٌ في دين الله إن كُنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر و ليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين )(6/7)
إنما المقصود بإقامة الحدود زجرُ الناس و إيجادُ مجتمع مُسلم يمتثلُ أفراده وآحاده لشرع الله فإن كانت الحدود تُطبق في الستر وفي الخفاء فلا معنى لإقامتها لأن المقصود من إقامتها لن يتحقق ولهذا نصّ الله أمر وجوبيهً قال (ليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين ) واختُلف في مقدار هذه الطائفة حتى قيل يكفي واحد ويكفي اثنان وأعدل الأقوال والعلمُ عند الله أن يُقال عشرة أقل شيء أن يراهُ عشره وأحسبُ والعلمُ عند الله أن هذا يختلف باختلاف الجماعة التي يُقام فيها الحد فما يُقام في المُدن غير الذي يُقام في المحافظات غير الذي يُقام في القرى القليلة السُكان هذا كلٌ بحسبه فأحياناً الكثرة تُعتبرُ كثرة في مكان وتُعتبرُ قلة في مكانٍ آخر .
لم يذكُر اللِه هُنا إلا الجلد فهل يُكتفا به ؟
** جمهور أهل العلم و الخُلفاء الراشدون على أن يُضافُ إليه تغريب عام لنُطقه صلى الله علية وسلم بهذا في قضية ذلك الرجل الذي كان يقول له إن ابني كان أجير عند هذا فزنى بامرأة فالنبي علية الصلاة والسلام قال " على ابنك جَلد مئة وتغريب عام " تغريب عام بمعنى النفي هذا قول جمهور أهل العلم .(6/8)
** وقال بعضهم إن هذا يعود إلى الإمام وهذا قول أبي حنيفة قضية التغريب جعلوها تعود للإمام والسبب عنهم في ذلك أصول مذهب أبي حنيفة الذي يرى أن الزيادة في النص تعني النسخ وهذه حاكمة للمذهب ثُم إنهم بعد ذلك اختلفوا فإذا كان الزاني أو الزانية الذي يُقام علية الحد امرأة هل يُغرّب أو لا يُغرّب فذهب مالكٌ رحمه الله إلى أن التغريب لا يقع على المرأة والحجة عنده ما جاء من النصوص أنه لا يوجد جبرٌ على أن النبي صلى الله علية وسلم قال" لا يحلُ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُسافر مع غير ذي محرم " أو بدون محرم النصوص الحاكمة من هذا الباب وقد يقول قائل نُجبر المحرم وهذا لا دليل علية أن نُلزم المحرم أن يتغرب من محارمها معها والأظهر والعلم عند الله أن التغريب يقع على الرجال دون النساء لأنه يُخشى من تغريب النساء مفسدة أكثر من الشيء الذي جلدناه من تغريبه لكن إذا ثبت أن أحد الشيخين أبا بكر أو عمر فعله فلا ريب أن رأيهما أو رأى أحدهما مُقدم على رأى من بعدهم وهذه مسألة أصلً في الأصول .
هل إذا اتفق الشيخان أبو بكر و عمر يُعتبر اجماعهما حجة أو لا و أظُنّها مرت معنا وقُلنا أنه لا يُعد قولهما حجه لكن نقول من ذا الذي يقدر على أن يُعارض قولاً اتفق عليه الشيخان قال جرير يسخر من الأخطل :
ما كان يرضى رسول الله فِعلهُمُ *** والطيبان أبو بكر ولا عمر
الذي يعنينا هذا ما يُتحدثُ فيه عن التغريب وهو قضية الزنى وتكلمنا عن الزاني المُحصن قُلنا خارج عن المسألة لأنه يتكلم ويتحدثُ فيه عن الرجم .
ثُم قال ربُنا جل وعلا في الآية التي بعدها
)الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا ينكحها إلا زانٍ أو مُشرك وحُرّم ذلك عن المؤمنين ((6/9)
بدايةً نقول هذه الآية من آياتٍ معدودات اضطربت فيها أقوال أهل العلم اضطراباً شديداً بل هي من أعظم آيات القرآن إشكالا هذه الآية من أعظم آيات القرآن إشكالاً باتفاق المفسرين كل من نحى في تفسيرها لا يستقيم كلامه على إطلاقها ويُمكن أن تُبحث بعدة طرائق لكن الترقيم البحثي واحد ، اثنين ، ثلاثة لا أوده ولا أراهُ سائغاً قد ينفعُ في مكان ولا ينفعُ في مكانٍ آخر لكن نقول إن الإشكال الوارد عندهم أي الأكابر الذين نظروا لكتاب الله من قبلنا أنهم يعني اختلف عليهم فهمُ قول الله جل وعلا ( الزاني لا ينكح ) كلمة النكاح هل المقصود بها عقد النكاح أو المقصود بها الجماع والوطء ؟ بمعنى هل الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا زانية أو مُشركة أو المقصود أن الزاني لا يُجامع ولا يطأ إلا زانية أو مُشركة من غير زواج ؟ يعني لا يزني إلا بزانية أو مُشركة ...
... قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما صح عنه في نقل صحيح أن المقصود بالنكاح هُنا الوطء قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المقصود بالنكاح في هذه الآية الوطء والسند إليه صحيح . قال ابن القيم رحمه الله وينبغي أن يُنزّه كلام الله عن مثل هذا ــ الآن انظروا إلى التعارضُ إلى القولين . قال ابن القيم رحمه الله وينبغي أن يُنزّه كلام الله عن مثل هذا وقال الزجاج أن القول بأن النكاح هنا بمعنى الوطء مُخالفٌ لكلام الله بمعنى أنه لا يُعرف في القرآن لكن الآخرين الذين لم يذكروا هذا دافعُ عن قول ابن عباس بحُجج عده :
أولها : قالوا رداً على الزجاج ثبت في كلام الله ما يُثبت أن النكاح يُراد به الوطء لقول الله تعالى ( حتى تنكح زوجاً غيره ) فسرتها السنة حتى تذوقي عُسيّلته فعبّر عنها بالوطء والجماع هذا واحد .(6/10)
وأجابُ عن كلام ابن القيم رحمه الله إن هذا القول يجبُ أن يُنزّه عنه كلام الله ، قال الشنقيطي رحمه الله وقال غيره من قبل قالوا إن القائل بهذا القول هو تُرجمان القرآن وحبرُ الأمة وهو من أعلم الناس بكلام العرب، و الذي دفع ابن القيم رحمه الله إلى أن يقول ينبغي أن يُنزّه كلام الله عن مثل هذا ،أنه يرى كما رأى غيره أنه لا تتأتى أي فائدة من الآية لأنه يُصبح معنى الآية أن الزاني أصلاً لا يزني ولا يطأ إلا بزانية أو مُشركة والزانيةُ لا يطأُها إلا زانٍ مُثلها أو مُشرك فقالوا أين الجديد في المعنى ؟ هذا شيء مألوف شيء معروف هذا الذي دفع ابن القيم أن يقول يُنزه كلام الله عن مثل هذا ، الذي دفع ابن عباس وأمثاله لهذا القول منعهم القول أنه النكاح الاتفاق على انه لا يجوز للمؤمن أن يتزوج مُشركة ولا يجوز للمرأة المُسلمة الزانية أن تتزوج مُشركاً هذا الذي دفعهم على القول بعدم أن المُراد به العقد المعروف [ فهمتم] هذا الذي منعهم جعلهم يفرون عن هذا المعنى .(6/11)
بعضُ أهل الفضل من العُلماء يقول إن الآية مسوقة في ما يجري مجرى الغايات والمعنى من الآية أن الله أراد أن يقول أن الزاني لا يرغب في نكاح إلا الزانية مثله أو مُشركة و الزانيةٌ لا يرغب في نكاحها إلا رجلً زانياً مثلها أو رجل مُشرك لا يؤمن بالله واليوم الآخر فقالوا هذا يجري مجرى الغالب لأنه يحاجّون بأنه يوجد من الزناة من يرغب في الحرائر العفيفات وتوجد من النساء الزواني من ترغب في الرجل العفيف بل إننا نقول إن هذا هو العكس . إن الذين يكثُر فيهم الشك فقي بيوتهم هم الذين كانوا على طرائق مُحرمة من قبل فقول هؤلاء الأفاضل في هذا المعنى يُنافي الواقع طبعاً لابد من حل قال ابن تيمية رحمه الله فيما نُقل عنه إن القضية يأتون بما يُسمى بالمشترك الفظي ، المشترك الفظي يقولون إذا يحتملُ معنيين نقبلهما جميعاً فنجعل بعضهما على أمر والآخر على شيء أخر [ واضح ] فيقولون إن النكاح هنا بمعنيين بمعنى العقدِ وبمعنى الوطء فيقولون الوطء نحمله على المُشركات والمشركين لأن النكاح ما يجوز والنكاح نحمله على المؤمنين والمؤمنات وهذا القول قال الشنقيطي مُعقبً علية قال وإن كُنا نميل إليها ـ أو كلمة نحوها ـ إلا أن فيه من التعسُف وهذا المثال له مثال في العربية الجائز هذا يقولون تقول في كلامك " أغارَ اللصوص على عين زيد " يُطبقون الآن المُشترك اللفظي يقولون تقصد أن اللصوص فقأُ إحدى عينيه فأغاروا على عينه الباصرة وطموا أو أبروا بماء عينه ماء العين التي يُشرب منها جعلوها غائرة يعني وضعوا فيها ما لا يُستفاد منها وفي نفس الوقت سلبوه الذهب والفضة أي عينُ ماله والحقُ إن هذا القول بعيدٌ جداً الله يقول ( ولقد يسرنا القُرآن لذكرِ فهل من مُدكر ) وحمل المُشترك اللفظي بهذه الأمثلة على كلام الله بعيدٌ جداً خاصة أن القرآن مُخاطبٌ به عموم الناس والله يتكلم عن مسألة اجتماعية يحتاجها البر والفاجر وسائر الناس لا يتكلم عن مسألةٍ عظيمة(6/12)
التعقيد وإنما يتكلم عن مسألةٍ اجتماعية يُهذب بها المجتمع رجالاً ونساء فيبعُد أن يكون هذا هو الحل .
بقي قولٌ فيما يبدوا لنا أنه أقرب الأقوال إلى الصواب لكن الذين ردوه لم يتأنوا والله في الرد ولو تأنوا لأبصروه جيداً هذا القولُ هو قول سعيد ابن المسيب رحمه الله وأخذه عنه الشافعي وأيده وهو أن الآية منسوخة الله يقول ( الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا ينكحها إلا زانٍ أو مُشرك وحُرّم ذلك عن المؤمنين ) قالوا ــ الذين لم يرضوا بأنها منسوخة ـ قالوا الآية في الخاص لأن وصف الزنى المرأة والرجل هذا وصف خاص وقول الله جل وعلا ( وانكحوا الأيامى ) هذه آية عامة وقد اتفقوا جمهور على أٌصل مذهبِ أحمد ومالك والشافعي على أن العام لا ينسخ الخاص فقالوا ( وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم إمائكم ) لا تنسخ آية الزاني لأن آية( الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً ) آية خاصة والعام لا ينسخ هذا من حيث الأصل نعم لكن من حيث قرائن أُخر تدلُ على صدق الأمر لكن تحتاج إلى تريُث تأخذها عقده عُقده ــ سأحاول قدر الإمكان أن أُبينها لك ــ ينبغي أن يُفهم أن هذه السورة الأصلُ أنها نزلت في العام الخامس والعام الخامس كانت فيه حادثت الإفك غزوة المريسين وسورة النور تكلمت عن حديث الإفك ، إذا أردت زمن السورة في الغالب تأخذ أن النكاح وقت نكاح المُشركين من المؤمنات كان قائماً ونكاح المؤمنات من المُشركين كان قائماً أين الدليل ؟ الدليل أن الآية التي نسخت نكاح المؤمنات من المشركين في سورة المُمتحنة وسورة المُمتحنة بالاتفاق نزلت بعد الحُديبية ( فإن علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهم إلا الكُفار لا هنّ حلٌ لهم وهم يحلون لهنّ ) فالله عندما تكلم في سورة النور لم يكن في ذلك الوقت قد حرم الله جل وعلا نكاح المؤمنات من المُشركات وأما نكاح المؤمن من المُشركة فإننا نقول حرمتها آية البقرة ( ولا تنكحوا المُشركات حتى يؤمن(6/13)
) وهذه نقول أوجه الأقوال أن نقول إنها نزلت بعد سورة النور فيُصبح على هذا إننا نقول إن النكاح هنا بمعنى العقد ، بمعنى ماذا ؟ بمعنى العقد وهو الكثيرُ المُستعمل في اللغة فيُصبح معنى الآيات أنه لا يليقُِِ بالمؤمن ولا يجوز له ــ هذا في أول الأمر ـ أن ينكح زانيةً ولا يجوز للمؤمنة أن تنكح زانٍ بل الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً مثله أو مُشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ مثلها أو مُشرك ثُم هذا الأمر جُملة نُسخ ، نُسخ قضية نكاح المؤمنات من المشركين بآية المُمتحنة ، ونُسخ نكاح المؤمنين من المُشركات بآية البقرة ، ونُسخ نكاح الزواني أنه مُحرم يعني الدليل على أنه جائز عموم قوله تعالى ( وأُحل لكم ما وراء ذلكم فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله جل وعلا (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم إمائكم ) [ واضح ] هذا القول في ظني والعلمُ عند الله أظهرُ أدلة من غيره لأن غيره يحتاجُ إلى مزيد تعسف قد يكون صعب القبول به وقد قُلتُ إن هذا مذهبُ الشافعي لسعيد ابن المسيب ويؤيده عقلاً أننا نقول:
|| أنه ينبغي أن يُرى في حال القائم فإن لحال القائم دورٌ في القبول لا يصح إلغاؤه بالجملة وسعيد ابن المسيب أحدُ أجلاء التابعين وكان يحفظُ كثيراً من الآثار المنقولة عن عُمر بل احتج بمراسيله الشافعي وبعضُ العلماء خاصة إذا حدث عن عمر فهو ــ سعيد ابن المسيب ــ يُقبل قوله ونقول إن الذي دفع سعيدً بالقول بأنها منسوخة علمه بالآثار وقد تكون هذه الآثار ليست موجودة لديه لكنه نقول غالبُ الظن أن يتجرأ سعيدٌ رحمه الله على القول بأنها منسوخة دون أن يعضدهُ أثر ٌقد سمعه لما عُلم من تقوى الرجل هذه واحده .(6/14)
|| كذلك قُلنا إن الآخرين من الفُضلاء الذين ردوا هذا النسخَ ردوه بالقواعد التي سبق أن بينّها أن العامة لا تنسخُ الخاص لكن هذه حررنا أن العامة ليس آية واحده لكن عدة آيات تكاتفت على أنا أخذنا بها تنسخ الخاص هذا واحد ، وبينا أنه ينبغي النظرُ في زمن نزول السورة تقريباً قدر الإمكان ففهمنا من سورة المُمتحنة أن نسخ نكاح المؤمنات من المُشركين كان بعد الحديبية والأول صحيح أننا في آية البقرة لا نملكُ زمنه لكن نستطيع أن نقول به من حيث الإجمال العام الذي يتفقُ مع تفسير هذه الآية هذا ما يُمكن أن يُحرر عن قول الله جل وعلا (( الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا ينكحها إلا زانٍ أو مُشرك وحُرّم ذلك عن المؤمنين ))
قال بعضُهم إنما هذا هو خبرٌ أُريد به تشنيعُ الأمر وبيان قضية الزنى و فضاعته عند الله هذا كُله يسوقنا إلى أن نقول ما يلي :(6/15)
ما تكلمنا عنه سابقاً كان يُعنى بتذليل المسألة فقهياً والقرآن لا يُخاطب العقل فقط يُخاطب العقل والقلب فإن الله جلا وعلا لم يتعبدنا بالمعرفة فقط وإنما تعبدنا بالعلم بالمعرفة ، فكل الناس يعلمون أن الخمر تُسكر لكن الإنسان لا يُثاب على علمه أن الخمر تُسكر و لا يُعاقب على علمه أن الخمر تُسكر لكنه إذا تركها من أجل الله وإذا فرّط فيها وشرب منها ولم يُعظم حُرمة الله لها يُعاقب فالله لا يتعبد أحدٌ بالمعرفة الآن ما بين أيدينا كانت معارف فلابد من مخاطبة القلوب ، مُخاطبة القلوب تُفهم من سياق الآية أن الله يبدأُ بسورة ينزل بها ملكٌ عظيمٌ مثل جبريل من السماوات السبع ويقول في التمهيد لها (سورةٌ أنزلناها وفرضناها ) ويُمهدُ للقول بها ثم يٌشنعُ على أصحاب هذه المعاصي فيقول ( الزانيةُ والزاني فاجلدوا ) وهو أرأفُ بنا من أنفُسنا ويقول (الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً) ويقول في خاتمتها (وحُرّم ذلك عن المؤمنين ) كل ذلك يُبصر المؤمن إذا جمعه مع غيره من الآيات على عظيم هذه الفاحشة قال الله في الإسراء ( و لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلا ) وقد قال أهل العلم إن هناك ثلاثة معاصي حرمها الله جل وعلا في جميع الشرائع والأديان : الشركُ بالله ، وقتل النفسُ بغير حق ، و الزنى وجمعها الله في سورة الفرقان ( والذين لا يدعون مع الله إلهً آخر و لا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقى آثاما)(6/16)
على الوجه الثاني في قضية تعظيم الزنى تأتي نصوص شرعية تُرغب في العفاف وتُبين عظيم أجره ومآل أهله عند الله ترغيباً لهم في تركِ هذه الفاحشة يقول صلى الله علية وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هُريرة " سبعةٌ يُضلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .. وذكر منهم رجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله " ويقول الله جل وعلا عن نبيه يوسف ابن يعقوب علية السلام ( وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يُفلحُ الظالمون وقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى بُرهان ربه ) قال الله ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) أشتهر عند العلماء إن الزنى أشبه بالدين وأن الإنسان إذا صنعه في أهل بيت رُد ذلك في أهل بيته وهذا يُنس للشافعي :
إن الزنى دينٌ فإن أقرضته ** كان الوفاءُ من أهل بيتك فأعلمِ
والحقُ هذا برنامجٌ يراهُ الكثيرون أننا لا نؤمنُ بقول الشافعي هذا على عظيم إجلالنا له وحُبنا إياه لأن الله يقول ( و لا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى ) ثم إن القول هذا يدفع الناس إلى باب شرٍ عظيم فقد يوجد أحدُ الناس كانت له سابقةٌ في الزنى في الفواحش عياذاً بالله ثم يمن الله جل وعلا علية بالتوبة بعد أن ستره فإذا قررنا ما قاله الشافعي رحمه الله إن صحت نسبة الأبيات إليه أضحى ذلك الرجلُ شاكً مُرتابً لزوجته أو بناته وهذا غير حق غير عدل لكن نقول من حيث الجملة إن الزنى والعياذُ بالله من أعظم الفواحش وأجل الكبائر حرّمه الله وحرمه رسوله صلى الله علية وسلم ومما جاء في التغليظ فيه أن النبي علية الصلاة والسلام رأى الزواني والزُناة رآهنّ رجالاً ونساءً في تنور تحت نارٌ تُقد من أسفله ضيقٌ من أسفله واسعٌ من أعلاه وهم فيه عُراة قال بعضُ العلماء كالحافظ وغيره قال إن هذا من جنس صنيعه فكما هتكُ ستر الله عنهم في الدنيا هتك الله عنهم الستر في حياة البرزخ .(6/17)
هذا الزنى له طرائق و أسباب تؤدي له من أعظمها كثرةُ رؤية الرجل للمرأة أو كثرةُ مُخالطة المرأة للرجال وستر المرأة مقررٌ شرعا ً لكن يقدر فلا يُترك على إطلاقه ويُنفى ولا يُغلق أبداً لكن الأمور تختلف من بيئةٍ إلى بيئة و من مكانٍ إلى مكان وتُقيد بقيود الشرع لكن :
إن السلامة من سلمى وجارتها ** أن لا تمر على سلمى وواديها
وهذه الفضائيات والقنوات وما تبثهُ الشاشات من صور خليعة وأفلام ماجنة وغيرها لا ريب إنها من أعظم أسباب انتشار الفاحشة بين الناس عياذاً بالله فالذي يُكثر من النظر إليها يكون أقرب للوقوع في الحرام والنبيُ صلى الله علية وسلم يقول : ذكر الحمى وقال أنه من يرعى حولهُ يوشكُ أن يقع فيه وهذا حقٌ لا ريب أو قول النبي صلى الله علية وسلم ثم إن الواقع يشهد له شهادةً عظيمة هذه الثلاث آيات ذكرت حد الزنى في فواتح سورة النور كما بينها وذكرنا في أولها الفرق ما بين الحد والقصاص ،
من الفوارق كذالك إن الله جل وعلا وإن جعل الحد لا يسقط ولا تجوز فيه الشفاعة لكن يسر الله على لسان رسوله أن يُدفع الحد بالشُبهات قال صلى الله علية وسلم :" إدرأوا الحدود بالشُبهات " ويقولون إن جماعة من الناس جاءوا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وكان يوم ذاك رجلاٌ ماجنٌ شاعر يُقال له النجاشي والنجاشيُ هذا غير النجاشي صاحب الحبشة وإنما هو رجلٌ من العرب كان يقول الشعر فاسقٌ في لسانه فهجا قوماً يتهمهم بما ليس فيهم فكان عمر يدرأُ الحد عنه بالشبهة ، البت يُقصد به شيء وعمر رضي الله عنه مع أنه ضلعٌ في لغة العرب لكنه يفهمه فهماً آخر فالرجل يقول :
قو قبيلةٌ لا يخفرون بذمةٍ ** ولا يظلمون الناس حبة خردلِ
فقال عمر ليت آل الخطاب كانوا كذلك طبعاً قصد الرجل شيئاً وقصد عمر شيئاً آخر فقالوا يا أمير المؤمنين إنه يقول :
ولا يردون الماء إلا عشية ** إذا صدر الورادُ عن كل منهل ِ(6/18)
فقال عمر هذا أخف عن النّكاك وأصفى للماء وهو أراد ضعفهم وعجزهم وأراد عمر أن يُغير الوضع فقالوا يا أمير المؤمنين إنه يقول :
تعافُ الكلابُ الضارياتُ لحومهم ** وتأكلُ من كعب ابن عوفٍ و نهشل ِ
فقال عُمر" أجن القوم موتاهم" يعني هؤلاء قومٌ طيبون يدفنون موتاهم فلا تصل الكلاب إليهم ، قالوا يا أمير المؤمنين إنه يقول :
وما سُمي العجلان إلا لقولهم ** خُذ القعب واحلق أيها العبد وأعجل ِ
فقال عمر رضي الله تعالى عنه و أرضاه "خادم القوم سيدهم" وكلما ذكروا بيتً خرج به عمر منحى آخر وهو يعلم مقصدهم لكن هذا من باب" إدرؤا الحدود بالشُبهات " والذي يعنينا أن الإنسان قدر الإمكان يدرءوا الحدود بالشبهات ومن أجل هذا أيضاً رفع عمر أو علق عمر حد السرقة في عام الرمادة لأن شُبهة الجوع والفقر وحاجة الناس كانت طاغية عامه من البلاء العام فلم يقام ذلك الحد في ذلك العام علّقه عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ولا يُقالُ ألغى عمر فهذا ليس لعمر ولا لغيره لكن علّقه رضي الله عنه وأرضاه اجتهادً لحاجة الناس آنذاك من باب قوله صلى الله علية وسلم " إدرؤا الحدود بالشُبهات " هذا أيها الأخُ المُبارك ما تيسر قوله حول الثلاث الآيات الأول من سورة النور ،
في اللقاء القادم إن شاء الله سنُعرّجُ على حدين آخرين أو على قضيتين أُخريين وهي قضية حدُ القاذف وقضية المُلاعنة ونكتفي بهما في لقاءٍ موسعٍ مثل هذا بإذن الله تبارك وتعالى ...
هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ قوله وأعان الله على أن نُمليه وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين .........
تفريغ سورة النور من 4 إلى 10
بسم الله الرحمن الرجيم(6/19)
أن الحمد لله نحمدهُ و نستعينهُ ونستغفرهُ ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مُرشدا وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له اعترافا بفضله وإذعانً لأمره وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصاحبه وعلى سائر من اقتفى أثره وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد ..........
فغنيٌ عن القول أن يُقال إن هذا اللقاء له ارتباط ٌ وثيقٌ بالذي سبق ونحنُ قد شرعنا في اللقاء الأول في تفسير فواتح النور وأخذنا الثلاث الآيات الأُول منهُنّ وبيّنا أن الله جل وعلا قال ( وفرضناها ) إشارةً إلى الأحكام وتكلم الله جل وعلا فيها عن حد الزنى والآن ينتقلُ بنا القُرآن إلى حُكمٍ آخر وهو حدُ القذف قال الله جل وعلا :
( و الذين يرمون المُحصنات )
وذكر أنه طلب منهم أربعة شُهداء ثُمّ قال
(ثُمّ لم يأتوا بأربعة شُهداء فاجلدوهم ثمانين جلده ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأُولئك هم الفاسقون)
هذا الحدُ شرعاً يُسمى حد القذف ، في حد الزنى كان الرجلُ يتلبس بالمعصية فتثبُت عليه ويثبُت الزنى بواحد من ثلاث : إما باعتراف المرء بنفسه وهذا الذي ثبت به الزنى في عهد النبوة كقصة ماعز و المرأة التي من غامد ، ويثبُت بشهود أربعة وهذا لم يقع في عهد النبوة ، ويثبُت بأن تكون المرأةُ ذات حملٍ وليس لها زوجٌ معروف ، وهذا الثالث ليس محل اتفاقٍ بين العلماء هذا ما يتعلقُ بحد الزنى .
أما الآيةُ التي بين أيدينا فتتكلمُ عن حد القذف والله جل وعلا أمر من قذف أن يأتي بأربعة شُهداء فإن لم يقع تلك الشهادة على الوجه الذي أمر الله جل وعلا به ترتب على هذا الأمر ثلاثة أحكام :
الحلُ الأول : أن يُجلد القاذف ثمانين جلدة .
الأمر الثاني : أن لا تُقبل لهُ شهادةٌ أبدا .
والأمر الثالث : أن يُعتبر فاسقً . هذه الثلاثة
ثُمّ جاءت استثناء(6/20)
( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا )
وقبل أن نشرعُ فيها نصلٌ هذا اللقاء باللقاء الأول وهو قضية ـ قُلنا في اللقاء الأول الذي حررنا الآن الكلام عنه أن الزنى يثبُت بواحدٍ من ثلاث وذكرنا اعتراف المرء هذا الاعتراف على إطلاقه إلا بقيد واحد فيمن إذا اعترف الشاعرُ شعراً أنهُ ارتكبَ ما يوجب علية الحد هل يُقام علية الحد أو لا ؟ وهذا الكلام ليس مُرتبطاً بالآية التي بين أيدينا الآن وإنما مُرتبطة بالأولى لكن قناعةً أن هذه الآية مُرتبطة بما قبلها لأن الزنى والقذف يدوران في فلكٍ واحد حول فاحشة الزنى أكثرُ العلماء من أهل التحقيق على أن الشاعر إذا اعترف في شعره ما من خلاله يوجب الحد علية لا يُقام الحد علية لأن الله جل وعلا برأهم بقوله ( ألم ترى أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) ومما يُستأنسُ به خبراً أن عُمر رضي الله تعالى عنه ولى رجُلاً يُقال له النعمان ابن عدي ولاهُ ميسان من أرض البصرة وذات يوم خلى النُعمان الوالي هذا بنفسه وكان يُحب الشعر ويقوله فطفح به الكيل وفق تعبيره فقال يتغنى شعراً :
ألا هل أتى الحسناء أن حليلُها ** بميسان يُسقى من زُجاجً و حنتمِ
فإن كُنت ندمانً فبالأكبر اسقني ** ولا تسقني بالأصغر المُتثلمِ
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ** تنادُمنا بالعوسج المُتهدمِ
بلغ عُمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ما قاله النعمان فقال والله إنهُ ليسوؤني ومن لقيهُ فليُخبرهُ أنني عزلته ثم كتب له " بسم الله الرحمن الرحيم .. ( حم * تنزيلُ الكتاب من اله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إلية المصير ) أما بعد فلقد بلغني قولك
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ** تنادُمنا بالعوسج المُتهدمِ(6/21)
و والله إنهُ ليسوؤني وقد عزلتُك فقدم النُعمان من أرض ميسان من أرض البصرة إلى المدينة فواجههُ عُمر بالشعر الذي بلغه فقال يا أمير المؤمنين يعلم الله أنني ما شربتُها قط ولكنه شيءٌ طفح به شعري ــ يعني قُلته قولاً ــ فقال عُمر رضي الله عنه وأرضاه وأنا أظنّ ذلك ـ أي أعتقدُ صحة قولك في أنك لم تشرب ـ لكنك لن تليِ لي عملاً لأنك تحدثت في شعرك عن الخمر " موضعُ الشاهد منه قال أهلُ العلم أن عُمر رضي الله عنه وأرضاه وهو عُمر مكانتهِ المعروفة لم يُقم الحد عليه رغم أن هذا الوالي في شعره كان صريحاً في أنه شرب الخمر فهذا الاستثناء يخرُج من قولنا أن الزاني إذا اعترف بزناة يُقام عليه الحد ما لم يكن قد قاله شعراً وثمة روايةٌ أُخرى تؤيدُ هذا المنحى للفرزدق مع سُليمان ابن عبد الملك لكنّ الذي قالهُ الفرزدق ظاهرُ الفُحش عظيمُ البذاءة لا يمكن أن يُقال في محفلٍ كهذا .
هذا تحرير قضية استثناء الشُعراء من الاعتراف .
نعود لمسألة القذف(6/22)
الله جل وعلا هنا يتكلمُ عن ما يحفظ المُجتمع المُسلم والله جعل لنا أعيُن وألسُن والإنسانُ بمقدار سترهِ لمعايب الناس يكونُ ستر الله جل وعلا لمعايبه وقد نصّ أهلُ العلم كما قال سعيد ابن المُسيب وغيرهُ أنه لا يخلوا أحدٌ من أهل الفضل مهما بلغت درجته من معايب فيه لكن لا يحسُنُ إشهارُها لناس على هذا يجب أن تفهم أن كثيراً ممن أعلى الله قدرهم إنما أوقعهم الله على معايب لغيرهم فلمّا ستروها وقد وقعوا عليها ورأوها ولو قدراً ستر الله جل وعلا عليهم معايبهم وكثيرٌ ممن تسلط على أخطاء الناس وعوراتهم سلط الله جل وعلا عليه ، بل إنهُ قد لا يصلُ أحياناً إلى حد الفواحش لكن حتى في النهج العلمي فابن حزمٍ رحمة الله تعالى عليه كان يُقال" إن لسان ابن حزمٍ وسيف الحجاج صنوان " فابنُ حزمٍ في المحلا أجلب بخيله ورجله على الأمة الأربعة وعلى مالك على وجه الخصوص يُقال إن السبب في إعراض الناس عن مذهب الظاهرية ــ من حيثُ الجملة ــ وكُتب ابن حزم على وجه الخصوص ما جعلهُ فيها من جلبٍ على غيرهُ من الأمة ولو كان مُنصفاً رحمه الله مع أُولئك لجعل الله له إنصافاً عند الناس هذه سُنة لله جل وعلا ماضية و إلا لا يختلفُ اثنان ممن ذاقوا رحيق العلم في أن ابن حزمٍ كان إماماً عظيماً جليلاً لكن غلبت عليه هذه الصفة فنجم عنها نُفرة الناس عن كُتبه وهذه لله جل وعلا سُنن لو تأملتها بتأوده وتريُث لوجدت أمُّراً عظيمة وخبايا عديدة يمُنّ الله علينا وعليك بفقهها .
نعود للآية الآيات التي قبلها حدُ الزنى الآن حدُ القذف(6/23)
حدُ الزنى حددهُ الله بمائه ، حدُ القذف قال الله ( فاجلِدوهم ثمانين جلدة) فلا يُمكن أن يُغير هذا حدٌ شرعي فجعل الله حد القذف ثمانين وجعل الله تعالى حد الزنى مئة جلده (والمُحصنات) أي العفيفات وليس ذكرُ النساء هُنا المقصود منه الحصر فقذف الرجال كقذف النساء ، قذفُ المُحصنين كقذفُ المُحصنات لكن لما جرت غالب القذف أنه يُقالوا في حق النساء جعلهنّ الله جل وعلا هنا مذكورين دون الرجال فإن حآجك أحد في أن الرجال لم يُذكروا فقُل له أجمعت الأُمة على أن الرجالَ داخلين وما دامت قد أجمعت الأُمة لا سبيل إلى نقل ذلك الإجماع ولهذا من العلم عندما تُريدُ أن تبحث لا تبحث في مسألة أجمع الناسُ عليها ولكن أُنظر في مسائل الخلاف علّك تجدُ دليلاً تُرجحُ به قولاً تختارُه أما ما اتفق الناسُ عليه فليس به مجال لبحثً أبدا "لا تجتمعوا أُمتي على ضلاله " خاصة إذا كان الإجماعُ مُشتهراً معروفاً مُقرراً كإجماعهم هُنا على أن القذف يقعُ في حق الرجل كما يقعُ في حق المرأة وإن لم يُسمي الله الرجل على أن بعض أهل التأويل يقول ( والمُحصناتُ ) هنا ليس المقصود بها النساء وإنما المُحصناتُ من الأنفُس رجالاً ونساءَ وهذا تخريجٌ جيد لكن لو فرضنا بعدم قبوله فإننا محكُمون بالإجماع الذي حررناهُ من قبل .
( والذين يرمون المُحصنات ثُمّ لم يأتوا بأربعة شُهداء فاجلدوهم ثمانين جلده)
وقد حررنا عملية الجلد من قبل ، هذه الثمانون هي الحدُ الثاني بعد حدُ الجلد أما الترتيب الآخر قال الله ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) وأبدا تأتي في نفي المُستقبل ويُقابِلُها في نفي الماضي قط تقولُ { لن أفعلهُ أبداً } وتقولُ عن شيءً محكي { ما فعلته قط } وقط أحياناً تُزاد بفاء التزيين فتُكتب فقط
(ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأُولئك هم الفاسقون) .
ثُمّ قال ربُنا
)إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفورٌ رحيم ((6/24)
وقع الإشكالُ بين العلماء في هذا الاستثناء مرّت ثلاثة أحكام أيُها يرفع الاستثناء ؟ ــ يعني إذا تاب الإنسان أيُها المرفوع من الاستثناء ـ
اتفقوا على أنه لا يُرفع الجلد لماذا ؟ لأن الجلد حقٌ لمن ؟ حقٌ للمقذوف فإذا رفعناهُ ما استفاد المقذوف من توبة القاذف فلو جاء رجُلاً وقذف رجُلاً بالزنى فكونه يتوب بينهُ وبين الله لا ينتفعوا هذا المقذوف بشيء لابد من إقامة الحد هذه واحده .
واتفقوا على أن الفسق يخُرج يعني إذا تاب لا يُعدُ فاسق .
لكن أين وقع الإشكال وقع في قول الله (ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً ) فإذا تاب هذا الذي قذف بعد أن أُقيم الحدُ عليه هل إقامتُنا للحد عليه ثم توبته بعد إقامة الحد تجعلُنا نقبل شهادته بعد ذلك أو لا ؟
هذا المثار في الاستثناء هل يشملهُ قول الله جل وعلا ( ألا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفورٌ رحيم ) أو لا يشملهُ ؟
قُلنا اتفقوا على أنه يشمله في أنه يُخرجه من دائرة الفسق لأنه أخر المذكورات لكن هل يدخُل في ما قبلها أو لا يدخُل ؟ للعُلماء فيها قولان :
مذهبُ الجمهور أنه تُقبلُ شهادته .
ومذهبُ أبي حنيفة رحمه الله أن شهادتهُ لا تُقبل وجعل الاستثناء فقط مُخرجاً له من دائرة الفسق .
قال الله جل وعلا بعدها :
) والذين يرمون أزواجهم ولم يكُن لهم شُهداءُ إلا أنفُسهم (
تعال في الأول وقارنها بالآخر هذه الثانية التي للأزواج جعلها الله مخرج للأزواج لماذا ؟(6/25)
لأن الإنسان إذا رأى امرأة مع رجُل غير زوجته فإنه قد يُصيبهُ شيءٌ من الغيظ لكن لا يصلُ إلى مرحلة أنه يرى زوجته فأقل ما يقول الله يستر علينا وعليكم ويذهب ، لأنه يلزم منه حتى يُقام الحد أن يأتي بكم شاهد ؟ بأربعة شهود وقد يتعذر عليه ذلك ويقول الرجُل أخرُجُ منها أنا لا أستطيعُ أن أأتي بشهود وهذا أمرٌ لا يخُصني فهذه ظاهره لكن أين الحرج عياذاً بالله وعافانا الله وإياكُم ومن يسمع ويرى ، القضية قضية لو رأى الرجُل رجُلاً مع زوجته فهو في أحدِ ثلاثة أحوال :
إن قتل قُتل ، وإن تكلم على الأول طُلب بأربعة شُهداء ، وإن سكت سكت على غيظ .
أُعيد
إن سكت سكت على ماذا ؟ على غيظ ، وقتل قُتل ، وإن تكلم ـ الآن لم تنزل آية المُلاعنة علشان تعرف الارتباط ـ وإن تكلم وقذف هذا الرجُل زوجته طُلب بأربعة شُهداء مثلُ الأوُلى فيُقام عليه الحد لأنه لا يجدُ أربعةٌ شُهداء ، حتى يأتي بأربعة شُهداء فرّت الزوجة وفرّ الرجُل هذا الأمر ضيق على الرجُل فوجد الله جل وعلا المخرج بقوله (والذين يرمون أزواجهم ) هذا تخصيصٌ عن التعميم السابق .
)الذين يرمون أزواجهم ولم يكُن لهم شُهداءُ إلا أنفُسهم ((6/26)
أما إذا كان لهم شهود آخرين فالمسألة مُنتفية حُلّت من قبل في آية القذف لكن هذه آيةُ المُلاعنة وليست آيةُ القذف فجعل الله جل وعلا آية المُلاعنة فك خناقٍ عن من ؟ عن الأزواج لأنها لمّا نزلت آية القذف وطُلبوا بأربعة شُهداء وإنهم إذ لم يأتوا بهؤلاء الأربعة تحصُل عليهم تلك الأحكامُ الثلاثة ضيق ذلك على الناس ويُقال أن هلال ابن أُمية ـ وفي رواية ـ عويمر العجلاني واختلف الناس هل هي قصةُ عويمر أو هي قصة هلال أو أنها قصة اختلاف الرواة في تشعُب رجالها أم قصتان مُنعزلتان بكلٍ قيل ، لكن ليس هذا مقام التحرير مقام التحرير أن تعلم أن أحد الصحابة والأظهرُ والعلمُ عند الله أنه عويمر العجلاني هذا عويمر أرسل رجُلاً يُقال له عاصم ابن عدي من الصاحبة يسأله بعد نزول آية القذف كيف يصنعُ الإنسان لو رأى رجُلاً مع امرأته فذهب عاصمٌ لنبي صلى الله علية وسلم وطرح علية التساؤل فأغلظ عليه النبيُ عليه السلام في الجواب فلمّا رجع عاصمٌ إلى عويمر وسأله عويمر ما الخبر أخبره عاصمٌ بأنه لم يلق خيراً من سؤاله هذا لكن عويمر لم يصبر وكأنه يرتابُ في زوجته فأتى لنبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال علية الصلاةُ والسلام " البينةٌ أو حدٌ في ظهرك " فلما رجع وجد الذي كان يخشاه فعاد لنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله جل وعلا هذه الآية المعرفة بآية المُلاعنة فيها نُصرة لعويمر من حيث الإجمال لأن الأنصار لما قال عويمر أتهم زوجتهُ لم تنزل الآية في نفس الليلة بات الأنصارُ وهي تقول ليُقامنّ غداً حدُ القذف على من؟ على عويمر لأنهم الآن على الآية الني قبلها آية حدُ القذف فلما نزلت هذه الآية قُلنا فكُ خناق قال الحقُ سُبحانه (الذين يرمون أزواجهم ولم يكُن لهم شُهداءُ ) من غير أنفُسهم (إلا أنفُسهم ) يعني إلا هُم.
( فشهادةُ أحدهم أربعةُ شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسةٌ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين )(6/27)
جيء بعويمر وجيء بزوجته بعد أن نزلت الآية فأقسم عويمر قائلاً : أشهدُ بالله أنني لمن الصادقين فيما رميتُه بها والخامسة وهي الموُجبة قال أشهدُ أن لعنة الله عليّ إن كُنتُ من الكاذبين فيما رميتُه بها .
وجيء بالمرأة فقالت أشهدُ بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به وأشهدُ بالله أن غضب الله عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به .
نُقل أنها قبل أن تقول الخامسة خُوفت لأن هذه الموجبة فتلكأت ثُمّ قالت والله لا أفضحُ قومي سائر اليوم ومضت في يمينها فقال صلى الله علية وسلم كما روى أنس " قال إن جاءت به كذا وكذا و كذا ذكر أوصافً في عويمر فقد ظلمها وإن جاءت به سابغ الإليتين خُدلّج الساقين أكحل العينين فهو لما رماها به لأن شريك ابن سحماء الذي رماها عويمرٌ به كانت هذه صفاته ثُمّ إنها وضعت ـ لأنها كانت ذات حمل ـ وضعت على الصيغة التي خوّف منها النبي صلى الله علية وسلم فجاء الوليدُ شبيهاً بمن رماه به فقال صلى الله علية وسلم " لولا كتابٌ من الله كان لكان لي معها شأن " ومعنى هذا أن الحدود إذا أُقيمت ينتفي والقضاء إذا تمّ تنتهي المسائل والمقصود إقامةٌ حد الله أما إصابةٌ عين الحق هذا ليس في كُنه البشر جميعاً إنما المقصود إقامة الحد .
هذه الآية يا أيُها الأخُ المُبارك تُسمى آية المُلاعنة ، ما الذي ينجمُ عنها ؟
ينجمُ عنها أنك تعلم أن الإنسان إذا طلق زوجته فإن الطلاق يقع على ثلاث صور :
إما أن يقع طلاقاً رجعياً ، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة صُغرى ، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة كُبرى . فأما إذا طلّقها طلاقاً رجعياً طلقتين أو واحده أقل من ثلاث فله أن يُراجعها ما دامت في العدة و هو أولى بها وهذا لا خلاف فيه فإن طلّقها طلقة أو طلقتين وقُضيت العدة ولم يُراجعها بانت منه لكنّ هذه البينونة يا بُني تُسمى بينونة صُغرى بمعنى أنه لهُ أن يعود إليها لكن بعقدٍ جديد ومهرٍ جديد.(6/28)
الحالة الثالثة أن يُطلقها ثلاثاً فتبين منه بينونة كُبرى فهذه قال الربُ فيها
( فلا تحلُ لهُ حتى تنكح زوجاً غيره )
فلابُد أن تتزوج غيرهُ ثم تتزوجه لماذا عرّجنا على الطلاق هُنا لنقول لك أن المُلاعنة إذا وقعت بعدها لا تحلُّ المرأةُ لزوج أبداً ولا يحلُ لها ولا يُمكن أن يجتمعا مرةً أخرى ولو تزوجت عشرات الأزواج بعدهُ فلهذا حررنا الكلام في الطلاق حتى يُفرق ما بين قضية الطلاق وما بين قضية المُلاعنة لأنه إذا وصل الأمرُ بهما إلى أن يُشكك أحدُهما بالآخر أو أن ينتفي الرجُل من ابنة فإن هذا معناهُ قطعاً أنه مُحال أن تعود المياهُ بعد ذلك إلى مجراها بينهم هذا الذي ينجُم عن آية المُلاعنة ، هذا الصغيرُ الذي تمت المُلاعنةٌُ من أجله يُلحق بأمه ولا يُنسب إلى أبيه .
بعضُ الفُضلاء من أهل العلم يستعجل في فهم قضية اللعن والغضب فيقول حتى بعضُ المعاصرين ممن ـ يعني ـ هم إلى الثقافة أقرب منهم إلى التأصيل فيقولون إن الإسلام يُشدد على المرأة فالله قال هنا في حق الرجُل
( والخامسةُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) وقال في حق المرأة( ويدرأُ عنه العذاب أن تشهد أربعة شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسةٌ أن غضب الله عليها )
فقال في حق المرأة الغضب وهو السُخط وهو أشدُ من اللعن فهم يفهمون بادي الرأي أن المسألة تتكلم ميلاً لرجُل ضد المرأة وليس الأمرُ كذلك لو تأملته كيف تتأملهُ؟
تتأملهُ دائماً أعكس الأمور كيف تعكسُها؟ الآن الرجُل قذف امرأته فلو قدرنا أنه كان كاذباً ما غايةُ ما يُمكن أن يوصف به الرجل
أُعيد
أنتظرُ جواباً ؟
لو قدرنا أن الرجُل قذف امرأته وكان كاذباً ما غايةُ أن يوصف به ؟ أنه كاذب قاذف فما الحدُ في حقه حد القذف يعني موازٍ لحد القذف(6/29)
لكن المرأة لو قدرنا أن الرجُ ل كان صادقاً في ما رماه به وكاذبة في البراءة ما غاية الأمرُ عنده تُصبح ماذا ؟ ما تُصبح قاذفه تُصبح زانية [ واضح ] المرأة إذا كان صادقاً في ما رماها به فهي زانية لكن هو إذا كان كاذباً فهو غاية الأمر إنه قاذف و أيُهما أعظم القذفُ أو الزنى ؟ الزنى فاللعن مُناسباً للقذف ليس للرجُل والغضب مُناسبٌ لزنى ليس للمرأة [ واضح ] فليست القضية قضية تفريق ما بين رجُلٍ وامرأة إنما القضية الموقف أن الرجُل هذا إذا كان كاذباً في دعواه فغايةُ الأمر أنه قذف زوجته بما ليس فيها فهو وصل إلى مرحلة القذف فهذا حقهُ اللعن لكن المرأة إذا كانت كاذبة في دعواها البراءة فهي لا تُصبح قاذفة كزوجها لا تُصبح قطعاً يقيناً زانية فإذا أصبحت زانية الزنى أشدُ من القذف هاذاك مئة وهذا ثمانين فاللعن يوافق الثمانين والغضب يوافق المئة فليست القضية قضية مُمالئة رجُل ضد امرأة وإنما القضية قضية أن الغضب يوافق الزنى واللعن يوافق القذف [ واضح ] وهذا أمرٌ يحسُنُ تحريرهُ .
من القضايا التي يُتكلم عنها في هذه الآيات المُباركة جُملةً يعني قضايا نحوية يقول الله )فاجلدوهم ثمانين جلدةً ( هذه جلدةً تُعربُ تمييز لماذا تُعربُ تمييزاً ؟ لأنها تُزيلُ الإبهام المُتصل بالعدد ويُسمى عند النحويين تمييزٌ ملحوظ والشقُ الآخر له ما يُسمى بالتمييز الملفوظ ،التمييز الملحوظ يُزيلُ إبهاماً عددياً يُبينُ عدداً مساحةً كيلاً ، أما الثاني يدخُل في باب المعاني غالباً تقول { ازدانت المدينةُ مدخلاً } { طاب محمدٌ نفساً } وهذا التمييز الملفوظ يصحُ فيه القذف تقول طابت نفسُ محمد وازدان مدخل المدينة هذه القضايا النحوية نراها ضرورة في فهم كلام الله تبارك وتعالى .
نعود للآيات قُلنا أن الله تبارك وتعالى تكلم في الأولى عن حد القذف وتكلم في الثانية عن حد المُلاعنة وقُلنا إن المُلاعنة إنما هي تخصيصٌ عن حد القذف .(6/30)
ماذا لو قذف الوالدُ ولده ؟
هذه المسألة تتعلق بالقضية حق الوالد على الولد شيءٌ عظيم كأصل للمسألة " أنت ومالُكَ لأبيك " لما ذكر البيوت قال بيوت آبائكُم وقال إخوانكم و عماتكم وخالاتكم وصديقُكم وليس في الآية ذكرُ بيوت الأبناء لماذا ؟ لأن هذا حق مُشاع بالنسبة لك لم يذكُرهُ الله جل وعلا يندرج تحت بيتك فحقُ الابن شيء عظيم فإذا قذف الوالدُ ولدهُ فمن الذي يُطالبُ بالحد الولد فهل له أن يُطالب بالحد أو ليس لهُ على قولين للعُلماء ؟
من قال بأنه يُطالب أخذ بعموم الآيات .
ومن قال أنه لا يُطالب أخذ بالآيات الدالة على وجوب الإحسان للوالدين ولا شك أن إقامة حدٍ على والد بسبب ولده يُعارض الإحسان لكن يبقى الناس خلق فتسمع أحياناً أو تقرأ أقوالاً تتعجبُ كيف تُقال لكنك لا تعجب إذا علمت أن الله كتب النقص على عباده قال بعضُ المالكية قالوا إنه له أن يُطالب بالحد حد القذف للابن أن يُطالب بحد القذف ثم إذا أُقيم الحدُ على الوالد يُعتبروا الولدُ عاقاً والعقوق كبيرة فهل يُعقل أن يقول قائل إن حدود الله إذا نُفذت تقود إلى الكبائر ؟ هذا مُحال فالقول هنا لا يستقيم تفهم من هذا أن الإنسان إذا أراد أن يُملي قولاً أو أن يُظهر رأياً أو أن يُحرر مسألة قبل أن يعرضها على الناس يعرضُها على نفسهم فيُدخل عليها خوارم ويُحاكم نفسهُ بنفسه وينصب العداء لنفسه في هذه المسألة ويأتيها من كُل شق ويرميها بكُل نبل فإن ثبتت وتحررت وبقيت أخرجها لناس خيرٌ له من أن تُرمى والناس جبلة يصنعون هذا من غير أن يشعروا يصنعونه فقلّما يركبُ أحدً دابةً أو يأخُذ قلماً إلا وقد حررهُ أو جربه قبل أن يأتيه فما يُقالُ في الأمور المحسوسة ينبغي أن يُقال في الأمور العلمية .(6/31)
تأتي قضية أُخرى في قضية القذف وهي قضيةُ أنه العلماء ذكروا أن العبد إذا زنى ـ إذا كان بكراً ـ يُقام الحد نصف الجلد المئة تُصبح خمسين فإذا قذف العبدُ أحداً هل تُصبح الثمانين أربعين أم لا ؟ الجمهور أخذوا بالقياس قاسوها على الأول ونُقل عن عُمر ابن عبد العزيز وأختارهُ الإمام الشنقيطي في تفسيره أن القياس هُنا غير صحيح وأنه لا يُقاس حدُ القذف على حد الزنى أما الزنى فلأنهم قالوا إن الله قال في الإماء ( فعليهنّ نصفُ ما على المُحصنات من العذاب ) فقالوا هذا قسناه على حد الزنى أو هو نفسهُ الأصلُ في حد الزنى فقسنا عليه الرجال لكن قالوا إن حد القذف غيرُ حدُ الزنى فلا يرى بعضُهم ـ وقُلنا هذا رأي عُمر ابن عبد العزيز ـ لا يرى أن حد القذف يُقسم وإنما يُجلدُ العبد إذا وقع منه القذفُ ثمانون جلدة كما يقعُ على الحُر هذه المسألة تتعلق بمسألة حد القذف .
نأتي لقضية الوليد الذي ينشأ من زواجٍ غير شرعي أو من جماعٍ غير شرعي هذه مسألة تكثُر في كل زمانٍ ومكان وقد ساد أقوام أُختلف فيهم ومن أشهرهم تاريخياً تسمعون بزياد ابن أبيه هذا زيادٌ أحد أُمراء العرب في عصر بني أُمية استعملهُ عليٌ رضي الله تعالى عنه وأرضاه وكان جباراً فتاكاً فلما آل الأمرُ إلى معاوية طلبه وألحقه به وقال إن أبى سُفيان أبوه هو الذي كان سبباً في ولادته من امرأة كان يأتيها في الطائف فكان يُعرف بزياد ابن أبيه لأنه لا يُعرف له أب ثم عُرف بزياد ابن أبي سُفيان هذا زيادٌ ولي البصرة ولي العراق في أيامِ بني أُمية وهو صاحبُ الخطبة المشهورة بالبتراء والبتراء بمعنى الأقطع ( إن شانئك هو الأبتر ) فصعد على المنبر دون أن يحمد الله ويُثني علية ويُصلي على الرسول فقال أما بعد إن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء ما عليه سُفهائكم وأشتمل عليه عُلمائكم وأخذ يُهددُ ويوعدُ ويزبد هذه تُسمى عند اللغويين ــ هذه الخطبة ـ تُسمى موقف لغوي كامل.(6/32)
ما معنى موقف لغوي كامل ؟
ــ هذا استطراد ــ
المواقف اللغوية تتكون من ثلاثة عناصر :
مُرسل ، ورسالة ، ومُستقبل
يكون الموقف اللغوي مُتكاملاً إذا أدت الرسالة غرضها استطاع المُرسل أن يُتقن الرسالة وصلت الرسالةُ إلى المرسل إليه ففهموها فالرجلُ صعد عند قومٍ ذوي ثورة ذوي تمرُد على ولاتهم لا يحسُن معه الشفقة فالموقف اللغوي يتطلب منه أن يُقدم رسالة يُظهرُ فيها حزمهُ فلهذا بدأها من غير أن يحمد الله ولا يُثني عليه ولهذا لو قستها حتى في الشرع فإن المرء منّا يتقربُ إلى الله يوم العيد بالأضاحي فلا يقول باسم الله الرحمن الرحيم لأننا لو قُلنا باسم الله الرحمن الرحيم ما ذبحناها وما نحرنا ما بين أيدينا من الضأن لكن نقول باسم الله ، الله أكبر لمُناسبة الموقف ويزعمون فيما يزعمون أن أبا عمر ابن العلاء أحدُ النحويين كان على دابته فمرّ على السوق سوق النخاسية فجُملة من في السوق قومٌ لا يفقهون من اللغة إلا اليسير وكان قد اختلط العرب بالعجم وهو ضليعٌ في النحو مُغرقٌ في مسائل الألفاظ العويصة فلما سقط من دابته أجتمع الناسُ عليه خوفاً أن يكون قد أصابه مكروه فقال لهم ما لكُم تكأكأتُم عليّ كتأكأكُم على ذي جنة افرنقعوا لا أبا لكم بالطبع لم يقُم أحد لماذا ؟ لأن الموقف اللغوي هنا ناقص لأن النحويين بعسى ولعل يفهمون مُرادهم فكيف يفهمُها العامة هو أراد أن يقول ما لكم تجمعتم عليّ كتجمعُكم على رجلٌ مجنون انصرفوا ـ هذا الذي أراد أن يقوله ـ لكن الناس لم ينصرفوا ولم يتحركوا ولم يُسعوا له الأمر لأنهم لم يفقهوا شيئاً مما يقول ـ غاية ما أردتُ أنا بيانه وخرجتُ عن زياد وأتيت إلى قضية ـ حتى هذه القصة التي بين أيدينا عويمر العجلاني هذا قيل إن هذا الصبي الذي حصلت فيه المُلاعنة جاء في المُسند بسندٍ فيه ضعف لكن يُقبل في مسائل الأخبار أنه رؤيا أميراً على إحدى الولايات في مصر أن هذا الابن رؤيا أميراً على إحدى الولايات في مصر(6/33)
بعضُ العلماء حتى وهو يُفسر القرآن يعني يبدأ يُلاحظ هذه القضية فجاء عند قول الله تعالى ( يوم ندعوا كُل أُناسٍ بإمامهم ) هي طبعاً بكتابهم لأن الإمام ورد في اللغة بمعنى الكتاب ورد في القرآن ( وكُل شيءً أحصيناهُ في إمامٍ مُبين ) فقال بعضُ المُفسرين وأظنّه محُمد ابن كعبُ القرُضي قال بإمامٍ يعني بأُمهاتهم فقيل له لماذا بأُمهاتهم لماذا لا يدعون بآبائهم قال حفظاً على أبناء الزنى عدمُ إحراجٍ لأبناء الزنى لأنه لا يُعرفُ لهم أباء وإظهاراً لشرف الحسن والحُسين في نسبتهم إلى فاطمة لأن فاطمة بنت نبيُنا صلى الله علية وسلم المقصود هذه الاستحضارات يستحضرُها الناس أحياناً في الكلام عن القواعد والتفسير علمٌ مفتوح تلتقط أوراقه من هاهنا وهناك هذا كُله يدخُل فيما قُلته في اللقاء الأول في باب المعرفة .
بقي الآن ما أراده الله من تحريك القلوب لماذا ذكر الله القذف وأوجب فيه الحد لماذا ذكر الله جل وعلا المُلاعنة نقولُ جملةً ما حررناهُ في الأول لكننا لا نعود نقول عوداً على بدء إن الإنسان كُلما منّ الله عليه بحفظ لسانه من الخوض في أعراض الناس كان أقرب إلى ربه وأدنى إلى شرف المعالي و لا يليقُ برجُلًٍ يؤملُ يوماً أن يكون ذا شأن يشغل نفسهُ بالآخرين .
وليس زعيم القوم من يحملُ الحقدَ
الذين يحملون الحقد والحسد هم أكثر الناسُ حديثاً عن الغير لأنه يُضيرهم ما يرون من نعم الله جل وعلا على غيرهم فيدفعهم ذلك الحسدُ الذي في قلوبهم إلى أن يُلفقوا الأخبار ويصطنعوا الأحاديث على سواهم فينجُم عن ذالك انقاصُ الناس فيُسلط الله جل وعلا عليهم كما حررنا في أول اللقاء من يكشفُ لهم عيوباً لكن العظيم الشأن الذي أرجوا الله أن تكونوا منهم العظيم الشأن من الرجال يترفع عن مثل هذه الأمور ولا يعبأُ بها ولا ينظُر وإنك لن تُغيظ عدوك بأكثر من أن تُظهر عدم مُبالاتك بهم يقول المتنبي :(6/34)
أفي كل يوم تحت إبطِ شويعرٌ ** ضعيفً يقاويني قصيرٌ يطاولُ
وأتعب من ناداك من لا تُجيبه ** وأغيظُ من عاداك من لا تُشاكله
فالإنسانُ إذا أراد أن يقهر عدوهُ لا يجدُ شيئاً يقهر به عدوه من مثل ترفُعه عن مُجاراته وقد قال أبو تمام :
إذا جاريت في خُلقٍ دنيءٍ ** فأنت ومن تُجاريه سواءُ
رأيتُ الحُر يجتنب المخازي ** ويحميه عن الغدر الوفاءُ
هذه جُملة بعضُ الآداب و أللفتات المعرفية والعلمية حول هذه الآيتين المُباركتين من سورة النور .
يسر الله جل وعلا أن نقولها ونُمليها والله المُستعان وعليه البلاغ وصلى الله على آله والحمدُ لله رب العالمين ...........
النور من الآية 11 إلى الآية 27
بسم الله الرحمن الرحيم
أن المحمود هو الله جلّ جلاله والمُصلى والمُسلم علية محُمدٌ وآلهُ
أما بعد(6/35)
فهذا لقاءٌ مُمتد تبعاً لما كُنا قد تكلمنا فيه عن سورة النور وقد ذكرنا في لقاءين سابقين ما كان فيهما من أحكام في صدر السورة والآن ننتقلُ إلى الآيات المعنية بقصة الإفك وهي آياتٌ تنتهي عند الآية السادسة والعشرين من هذه السورة المُباركة وقصةٌ الإفك تناولها أصحابُ السيرة كما تناولها المُفسرون لعلاقتهما بالأمرين بالنبي صلى الله علية وسلم ولأن القُرآن هو الذي نزل ببراءة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها وقبل أن أشرع في التأمُلات والتفسير وبيان ما ذكرهُ العليٌ الكبير في كلامه نقول أن النبي علية الصلاة والسلام جاء بدينً جديد على خلاف ما كان عليه قومه فواجههُ قومهُ بأن اتهموه بالسحر والكهانة والجنون وغير ذلك ومثلُ هذه الاتهامات وطنّ النبي صلى الله علية وسلم نفسهُ على مُقابلتها فهي من جنس ما كان يتوقع من أذى وصدود ورد لدعوته من لم يؤمن بها لكنّ حديث الإفك ابتلاءٌ من نوعً آخر ولا يوجد ابتلاءٌ في السيرة العطرة والأيام النظرة في حياته صلى الله علية وسلم مثيلٌ لهُ ولهذا قال الله ( يعظكُم الله أن تعودوا لمثله أبداً) فهو حدثٌ فريدٌ لم يتكرر كنوعٌ من البلاء لم يقع إلا مرةً واحده في غزوة المُرسيع واستصحابُ هذا عند تفسير القرآن أو تفسير هذه الآيات المعنية بحديث الإفك أمرٌ مُهمٌ جداً لطالب العلم في التأمُل في كلام الله جل وعلا فبعضُ الآيات الأحداث أو القضية تتكرر لأن نوع الابتلاء ينضوي تحت خيمة واحده أما هذا الابتلاء الذي بين أيدينا لا ينضوي تحت أي خيمة إنما هو مُستقلٌ فردٌ لوحده لم يعهدهُ النبيُ في مكة ولم يعهدهُ في المدينة إلا ذالك الحين ثُمّ انجلى بعد شهرٍ من الأسى بإنزال الله جل وعلا قوله
) إن الذين جاءوا بالإفك عُصبة منكم ( وهو أولُ ما سنُفسرهُ إلى قوله سُبحانه وتعالى
) أولئك مُبرءون مما يقولون لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريم (
هذا التأصيل الأول .(6/36)
الأمر الثاني : أن الناظر في القرآن لا ينبغي عليه أن يحكُمهُ شيءٌ واحد وإنما هي معاني تُقرب لناس بحسب فهمنا لكلام الله و إلا لن يصلَ فهمُنا أو تعبيرُنا عن مُراد الله إلى المعنى المقصود الأسمى لأن تعبيرنا وفهمنا لكلام الله لن يصل أبداً إلى نص القرآن نفسه فنصُ القرآن مُقدس و مُقاربةٌ العُلماء لذالك النص غير مُقدسه.
ستكلم ابتداءً عن الشخصيات التي تتعلقُ بقصة الإفك حتى إذا شرعنا بعد ذالك في تفسير الآيات تكون الصورة واضحة جلية لك :
@ أولها : بالطبع رسول الله صلى الله علية وسلم وهو غنيٌ عن التعريف .
@ ثُمّ الصديق بوصفه والدٌ لعائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها .
@ وأُم رُمان أُمُ عائشة رضي الله عنها وزوجةُ من ؟ زوجةٌ أبي بكر
وهؤلاء الثلاثة قد لا يكونون مقصودين أصلاً بالأمر وإنما الأمر أول ما ينصرف إلى عائشة وإلى صفوان ابن المُعطلّ .
@ عائشة هي الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها وهي كذالك أشهرُ من أن يُعرف بها لكن ّ نُعرّف بالشيء الذي يتعلق بالقضية رُزق النبي صلى الله علية وسلم حُبها وآتاهُ جبريل بصورتها ــ يعني وضع في رواية سرقة من حرير وفي رواية كفهُ ـ وفي تلك القطعة من الحرير كانت صورة عائشة فعرف النبي صلى الله علية وسلم أنها ستكون زوجتهُ أو شيءً من هذا وقال " إن يُرد الله خيراً يُمضه " أو " إن يُرد الله شيءً يُمضه " ثُمّ كانت زوجته رضي اله تعالى عنها وأرضاها بعد الهجرة بنى بها النبيُ في شوال هذه المُباركة أنزل الله جل وعلا فيها هذه الآيات بيانً ببراءتها وتوفي النبي علية الصلاة والسلام بين سحرها ونحرها ودُفن في حُجرتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها .(6/37)
@ أما من رُمي بها أو رُميت به فهو صفوان ابن المُعطلّ السُلمي أحدُ خيار الصحابة ومما يدلُ على أن الله جل وعلا أراد به خيراً أنه مات شهيداً والظفرُ بالموت شهادة ليس بالأمر الهين فقلما يُعطاهُ كُل أحد والله يقول ( ويتخذ منكُم شُهداء ) ليس كُل الناسُ يُتخذ شهيداً فصفوان ابن المُعطل لمّا رآها قال " إنا لله وإنا إلية راجعون " فكان ذالك سبباً جعلهُ الله في نجاته كما سيأتي .
من الشخصيات شخصياتٌ خاضت في الأمر بشدة وبعضُها دخلهُ مُقارنة
@ تولى كبر الأمر على الصحيح عبدُ الله ابن أُبي منافق خزرجي النسب قدم النبيُ علية الصلاة والسلام المدينة وكان القومُ من الأوس والخزرج قد أجمعوا أمرهم على أن يولوه أن يكون ملكاً عليهم اصطلحوا على أن يولوه ملكاً ولهذا اغتاظ من قدوم النبي علية الصلاة والسلام إلى المدينة.
@ حسان ابن ثابت شاعر رسول الله صلى الله علية وسلم والمشهور عند العُلماء أنه وقع في الأمر وشارك في نشرة .
@ و حمنةٌ بنتُ جحش و حمنة أًُختُ زينب من زينب ؟ زينب بنتُ جحش زوجة النبي صلى الله علية وسلم المُنافسة لعائشة حضوةً عند رسول الله علية الصلاة والسلام فلو قُدر أن زينب هي التي شاركت لكان الأمرُ فيه بعضُ العُذر لا بعضُ الجواز لكونها مُنافسة لعائشة لكن الورع عصمها ولم تقُل كلمةً واحده في عائشة لكن حمنة أُختها انتصرت لها وأحياناً الإنسان تغلبُ عليه العاطفة فيُريدُ أن ينفع غيره فيضرُ نفسهُ ويضرُّ غيرهُ وربما لا يصلُ إلى ضرر غيره كما فعلت حمنة فحمنة لا علاقة لها بعائشة هي زوجةٌ لطلحة لكنها أرادت أن تنصُر أُختها أمام عائشة فشاركت في النقلِ لعلها تُصيبُ من ذالك نقصً في عائشة وهي لا تعتقدُ صحة ذالك لأن الله قال ( إذ تلّقونه بألسنتكُم وتقولون بأفواهكُم ) لا يوجد شيءٌ مُستقرٌ في القلب لكن المُراد أنها أردت نُصرة أُختها فنُصرتُها لأُختها أعمت بصيرتها عما تنظُرُ إليه .(6/38)
@ مسِطح ابنُ اثاثة ابنُ خالة لأبي بكر فقير مُستضعف كان أبو بكر يُنفق علية هذا شارك في قضية إشاعة الأمر كان أبو بكر يُنفق عليه وهو بدريٌ والنبيُ صلى الله علية وسلم قال لأهل بدر قال الله جل وعلا اطلع على أهل بدر فقال { اعملوا ما شئتُم فإني قد غفرتُ لكُم } وليس المعنى أنني قد أذنتُ لكُم بالمعاصي لو كان المقصود هذا لما عُتبَ مسطح وغيره ولا ما حُد على قول أهل العلم وأُقيم عليه الحد هذا مسطح أحدُ الذين شاركوا .
@ أبو أيوب الأنصاري أحدُ الذين عصمهُم الله هو وزوجتهُ وقالوا خيراً وقالوا عن ذالك الإفك هو الكذبُ بعينه .
@ الجارية التي سألها النبي علية الصلاة والسلام بعضُ أهل العلم يقول إنها بريرة وبعضُهم ينفي يقول إن بريرة لك تكُن بعدُ في عُهدت عائشة و أياً كانت تلك الجارية فإنها امرأةٌ عصمها الله قالت يا رسول الله " أهلُك ولا أعلمُ إلا خيرا " وذكرت إنها امرأةٌ ــ عن عائشة ـ أنها امرأةٌ تغفلُ عن عجين أهلها فيأتي الداجن فتأكُله .
@ أُسامة ابنُ زيد مولى رسول الله صلى الله علية وسلم من الشخصيات الحاضرة في القصة استشارهُ النبي علية الصلاة والسلام فقال يا رسول الله "أهلُك ولا نعلمُ إلا خيرا " وعبارة ولا نعلمُ إلا خيرا تدلُ على كمال عقله فهي ليست مُفرطة في المدح ولا تُقارب الذمّ أبدا لكنها في نفس الوقت فيها شيءٌ من التزكية وهي عبارةٌ استخدمها المزكون اليوم تكونُ جيدةً .(6/39)
@ علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه خاتم الخُلفاء ورابعُ الحُنفاء رضي الله عنه وأرضاه هذا الصحابيُ الجليل قال يا رسول الله " النساءُ غيرُها كثير " وليس المقصود اتهام عائشة لكن ّ علياً ليس كأُسامة أُسامة مولى لا يلحقهُ عيب لو وقع الأمرُ حقاً أمّا عليٌ ابنُ عمٍ لرسول الله صلى الله علية وسلم كلاهُما ينتسب إلى بني هاشم فهو عصبة لرسول والرسول صلى الله علية وسلم عصبةٌ لهُ فهو ينظُر من باب أن الأمر يتعلق ببني هاشم وزوجاتهم وهو يُريدُ أن يُغلق الباب ويسُد على الناس طرائق أقوالهم ولم يُرد أن يتهم عائشة لكنهُ ملفٌ يُريدُ أن يُغلقه وقضيةٌ لا يُريدُ لها أن تُثار هذا المقصود من قول عليٌ رضي الله تعالى عنه " النساءُ غيرُها كثير " يعني تعلق قلبُك بها حُباً تزوج غيرها يُنسيك إياها وأنفك من مسألة أن يقدح الناسُ فيها هذا مقصود قول عليٌ رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقد قال في الصديقة بنتُ الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها بعد سنين من هذه الحادثة أن عليٌ لم يكُن بيني وبينهُ إلا ما يكون ما بين المرأةِ و أحمائها أي من قرابة زوجها .
هذه الشخصيات التي يأتي خبرُها في قصة الإفك.
ثُمّ شخصيات غير مُسماة وهم عامة المؤمنين وعامة المُنافقين لكن هذه أحاد ذُكرت وأفراد مُميزون جاء ذكرهم في القصة .
هذا كُله قبل أن نعرف ما هي القصة قبل أن ندخُل على التفسير.
ــ تاريخياً كانت في غزوة المُريسيع غزوة بني المُصطلق في السنة الخامسة تقريباً .
ــ المكان قبل دخول المدينة في منطقة تُسمى اليوم العشيرة إلى الآن حوالي عشرين ثلاثين كيلو بعد الخروج من المدينة بطريق الهجرة الجديد .
هذا الزمان وهذا المكان وهؤلاء هُم أفرادُ القصة
أما القصة إجمالاً على وجه الإجمال لأنني أُفسر لا أشرحُ سيرتُها قبل أن أدخُل في الآيات ...(6/40)
النبي صلى الله علية وسلم أقرع بين نساءه ابتغاءً للعدل يذهبُ إلى غزوة جاءت القُرعة على عائشة بقدر الله خرج علية الصلاةٌ والسلام بعائشة أتى المريسيع حصل ما حصل سبيٌ ، بعضُ قتال ، اقتتالٌ على الماء ، مناوشة بين المُهاجرين والأنصار أراد أن يُثيرها عبد الله ابن أُبي أراد النبي صلى الله علية وسلم أن يُنهي القضية أمر الركب بالرحيل بغير ساعة يرحلون فيها تفقدُ أُم المؤمنين عقدً كان عليها العقد أي شيء يُحيط بالعُنق يُرادُ به الزينة يُسمى عقد فإذا أُحيط بالمعصم يُسمى سوار فإذا أُحيط بالإصبع يُسمى خاتم هذا في حالة كسر العين وإذا فتحتها قُلت عَقد فهو أيُ اتفاقً بين طرفين ــ هذه لغويات ـــ ذهبت إلى ذالك المكان الذي يُرجى فيه ِ أن تكون فقدت فيه عقدها في تلك اللحظات رحل الجيش هُناك مسؤلون عن هودج أُم المؤمنين امرأةٌ نحيلة آنذاك حوالي في الرابعة عشرة من عُمرها قليلاً ما تأكُل اللحم لا يُقد في بيت رسول الله صلى الله علية وسلم نار ليس لها متزوجة إياها إلا ثلاث سنين أو أربع على الأكثر مازالت خفيفة اللحم فالهودج هي فيه أو غير فيه لا يكادُ يتغير على أشداء الرجال عندما يكون الذي يحملُ ضعيفاً يُميز لكن أشداءُ الرجال حتى يحملوا امرأة في الرابعة عشر لن يظهر لهم فرق حملوا الهودج وهم لا يشكون لحظة أن أُم المؤمنين فيه وهي خارجه عادت لم تجد نبي الله علية الصلاة والسلام لم تجد القوم جميعاً ماذا تصنع لا يُمكن أن تغدوا وتروح لا يوجد وسائل اتصال ذهبت إلى شجرة في نفس المكان أخذت عليها لثامها وغطائها وجلست غلبها النوم بقدر الله ، صفوان ابن المُعطل كُلّف بساقة القوم على الأظهر تأخر عن الجيش لأي سبب ليمضي قدرُ الله ولا نوغلِ في البحث عن هذه الأسباب لأنه تأخر تأخُر بصرف النظر عن سبب تأخُره أتى إلى المكان الذي فيه الجيشُ أصلاً وجد الجيش قد ذهب هو يعلمُ ذالك أصلا لكنهُ وجد شبحاً خيالاً اقترب منه فإذا هي أُم(6/41)
المؤمنين مع نومها أُنيط اللثام عن وجهها فعرفها وكان يرها قبل الحجاب فلما عرفها ولن تخفى عليه فمجتمع المدينة مُجتمع صغير قد لا يعرفُ كُل صغيرة وكبيرة فيها لكن الإنسان لا يجهلُ إن هذه امرأة فُلان إذا رآها مرة أو مرتين فاقترب منها بقدر الله أُلهم أن يقول " إنا لله وإنا إليه راجعون " وإذا أراد اللهُ شيئاً هيأ أسبابه ومن أراد اللهُ أن يرحمهُ فتح له طرائق الرحمة وألهمهُ ما يقول وأعانه على ما يفعل وينبغي أن تعلم أنه ما يُرفع شيء من الأرض إلى السماء أعظم من الإخلاص ولا ينفذ شيء من السماء إلى الأرض أعظم من التوفيق المقصود قال رضي الله عنه وأرضاه إنا لله وإنا إلية راجعون سمعت عائشة استرجاع صفوان أفاقت على استرجاعه فلم تتكلم أناخ الناقة ركبت أُم المؤمنين ركبت ــ وسأقول بعد ذالك ماذا قالت عندما ركبت لكن في آخر الأمر ــ ثُمّ أخذها لم يُكلمها ولم تكُلمه وهو يعلمُ قطعاً أنه سيتعرضُ للبلاء أما هي صغيرة في الرابعة عشرة رُبما لم يدُر في خلدها هذا الجيش قبل أن يصلوا إلى المدينة أناخوا المطايا في عزّ الظهيرة قُلت في منطقة تُسمى العشيرة الآن لما أناخ الجيش وقت الظهيرة وقت مكشوف ومنطقة أصلاً وادٍ مكشوف فإذا بصفوان يُقبل وأُم المؤمنين على ناقته وهو يسوق الناقة رآهم عبدُ الله ابن أُبي فطار بها فرحاً فقال بصوتٍ يُسمع ولا يُسمع ـ يعني يسمعهُ الضُعفاء الذين لا يُمكن أن يُثبتوا أمام الشهادة وقادرون على أن ينقلوه ــ ولا يسمعهُ من يستطيع أن يأتي شاهدً عليهم فوقف يقول امرأةُ نبيُكم مع رجُل والله ما نجت منه ولا نجى منها كلمة تكادُ تُسقط بعض الجبال ولا أقول الجبال كُلها لآن هذا يُقال في حق الله فقط فلما قال انتشرت الكلمة كُل هذا وأٌُم المؤمنين لا تدري فلما رجعت إلى بيتها أصابتها وعكة في بيت رسول الله صلى الله علية وسلم رُبما كونها عائدة من سفر لكن الأمر أُذيع وأُشيع وبلغ النبي علية الصلاة والسلام فرأت في(6/42)
النبي علية السلام تغيُراً في مُعاملته وذالك اللُطف الذي كانت تعهدهُ منه قلّ أو ارتخى قليلاً لكن لم يدُر بخلدها أن يكون ذالك بسبب شيءٌ سمعهُ عنها قُدّر لها أن تتعافى تدريجياً خرجت مع أُم مسطح أحدُ الذين أسهموا في نشر الأمر خرجوا إلى الصحراء إلى الكُنف لقضاء الحاجات ولم يكُن العرب يوم ذاك عهدٌ بتلك الأمور فلما خرجتا هذه المرأة الأُم تُريد أن تُدخل عائشة في القضية علمت أن عائشة لا تعلم بدليل أنها لو كانت تعلم لسألتها لماذا ابنُها يخوضُ فيّ لكنها لم تسألها فأرادت أن تُشركها في القضية فأصبحت تتعمد السقوط فإذا سقطت ـ الإنسان جبلِة إذا سقط تصدُر منه كلمات يُعبر ردة فعل ـ فلما تسقُط قالت تعس مسطح ولا يوجد ارتباط بين تعس مسطح وما بين سقوطها في البرية فعائشة أنكرت ولو قالت كلمةً مألوفة لما أنكرت عائشة وهي لا تُريدُ أن تقول كلمةً مألوفة تُريدُ أن تُقحم عائشة في القضية تُريدُ أن تفتح بابً للحديث رددتها مرة مرتين تعجبت أُم المؤمنين قالت سُبحان الله رجلٌ شهد بدراً تدعين علية أو كلمة نحوها قالت يا هنتاه ـ هي أين عائشة عنها ـ بجوارها هنتاه كلمة تُقال للبعيد لكن تُريد أن تُبين لها أنها امرأة تعيش في عالم آخر لا تدري ماذا يحصُل في الساحة والمفروض تقول يا هذه فقال يا هنتاه أما علمتي ثُمّ أخبرتها قالت سُبحان الله وتحدث الناسُ بهذا قالت نعم فرجعت تزدادُ بكاءً كان مرضاً جسدياً الآن أصبح هماً أصبح غماً أصبح مرضاً قلبياً فرجعت فسألت أُمها فقالت لها أُمها تُريدُ أن تُخفف وطأ الأمر عليها " يا بُني إنه قلّ أن تكون امرأة وضيئة ـ يعني مثلُك ـ لها حضوة عند زوجها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها فقالت هُنا ــ رُبما نسيتُ في الأول ـ أو تحدث الناسُ بهذا قالت نعم فازدادت حُزناً على حُزن رضي الله عنها وأرضاها كُلُ هذا يحصُل والوحي لا يتدخلُ بشيء ولا ينزلُ قرآناً من السماء ونبي الأمة ورأسُ الملة يُتهم في زوجته لكن(6/43)
أراد الله جلّ وعلا أن يُمحص بشريتهُ علية السلام من نبوته .
أي شيء عظيم تُريد أن تكشفه إذا كان مُختلط بغيره وتُريد لمعانه الحق أخرجهُ عن غيره حتى يظهر جلياً بيناً لكنه وسط الأشياء التي تشوبه وتختلط معهُ لا يظهر
فالله جل وعلا أراد أن يُميز نعمة النبوة على رسول الله صلى الله علية وسلم بأن تكون مُنفكة بعض الشيء عن بشريته ففي بشريته ذهب يستشير دعا الجارية دعا أُسامة دعا علياً يغدوا ويروح صعد المنبر من يعذُرني في رجُل أذاني في أهلي يختصم الحيان الأوس والخزرج فلا يلبُث أن ينزل ويحاول إسكاتهُما علية الصلاة والسلام ويقولُ في حق صفوان ـ والأمور عند الحكُم لابد أن تكون هناك خلفية سابقة في الظن الحسن أو في الظن السيئ ـ فقال لقد ذكروا لي رجُلاً ـ يقصد صفوان ـ لا أعلم عنهُ إلا خيراً ولا يدخُل على أهلي إلا معي هم لا يتحدثون عن رجُل اغتبتُ فيه مرة أو ارتبتُ فيه مرتين أو وجدتهُ مرة وأنا غير موجود أو رأيتهُ لحظات يتحسسُ على أهلي يتكلمون عن رجُل لا أعلم عنه إلا خيراً لا يدخُل على أهلي إلا معي يتجنب أن يأتي البيت وأنا غير موجود فبعيدٌ جداً أن يُتهم وهذا كُله كلام بشر كلام يحصُل في أي مُجتمع يقولهُ أي فرد لأن هنا مُحمد ابن عبد الله ليس محمدٌ النبي الرسول النبي الأُمي الوحي الآن مُنفك في القضية هذه ليس النبي صلى الله علية وسلم ليس نبياً تلك الفترة مُحال هو نبيٌ على كُل حال لكن نكلم في مُعاملته مع هذا الحدث هنا يتعامل على كونه بشر علية الصلاة والسلام فلما استُفرغ الجُهد البشري جاء الوحيُ الرباني والتنزيلُ الإلهي ليفصل في القضية دخل علية الصلاة والسلام على عائشة وقد استأذنت منه من قبل أن تُمرّض عند أبويها ولك أن تتصور خيرُ الأصحاب يعرفُ النبي منذُ أن كان عُمرهُ ثمانية عشر عاماً وصديقٌ له اثنين وعشرين عاماً أو عشرين عاماً لما جاء الإسلام كان الصديق عمره ثمانية وثلاثين سنة ثُمّ بعد ذالك ليس صديقاً(6/44)
صاحباً بتعبير الشرع ومعهُ كل سنين العذاب في مكة بالدعوة بمرحلتيها السرية و الجهرية ثم معه المدينة في بدرٍ وأُحد والخندق ثُمّ زوجة ذالك الصاحب النبي تعود إليك بوصفك أباً لها مُتهمة بأنها خانتهُ في عرضها شيءٌ مُذهلٌ بالنسبة لصديق لكن الأدب لما سكت الله من الذي سكت ؟ سكن النبي فلما سكت النبي سكت أبو بكر لما سكت الله ما أنزل شيئاً سكت رسول الله ما حكم بشيء فلما سكت رسول الله سكت أبو بكر ما أستطاع أن يُدافع عن ابنته وقطعاً لن يتهمها لكنه سكت بسكوت رسول الله صلى الله علية سلم تعود إليه أبنتهُ فلا يزالُ يبكي رضي الله عنه وأرضاها حتى ورد في بعض الروايات أنهُ كان يقرأ القرآن على سطح المنزل يسمع ابنتهُ تبكي وهو يبكي فوق لكن الأدب منعهُ أن يتكلم بكلمة واحده دخل نبيُنا صلى الله علية وسلم يعرض الأمر مكشوفاً على عائشة إن كُنت أذنبتي فاستغفري وإن كُنت كذا فكذا وهي لا تزيدُ على أن تقول فصبرٌ جميل تقول كما قال أبو يوسف نسيت اسم يعقوب في هذه اللحظات انقطعت كُل الطرائق الدنيوية فمن حول النبي قال مشورته وأبو بكر سكت والنبي صلى الله علية وسلم لا يدري كيف يفصلُ في القضية و المرأةُ تبكي فأنزل الله جل وعلا قوله
( إن الذين جاءوا بالإفك عُصبةٌ منكم )
وما زال الوحيُ يتنزلُ علية حتى انفصم عنه صلوات الله وسلامه عليه وإن جبينهُ لينزلُ عرقاً مع أنه في يوم شات هذه كانت براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها ونهاية شهر الأسى في حياة سيد الخلق صلى الله علية وسلم فقال لها احمدي الله ففرح الأبوان أبو بكر وأُم رومان قومي إلى رسول الله قالت والله ما أقوم إليه ولا أحمدُ إلا الله.(6/45)
طبعاً ليس المقصود أنها تغيرت على نبي الله صلى الله علية وسلم حاشاها هذا لا يقعُ في قلب أي أحد من المسلمين الصادقين لكنها أرادت أن تُبين دلالها وفضلها وحقها على رسول الله صلوات الله وسلامهُ عليه المُهمُ أن النبي صلى الله علية وسلم تلا القرآن وأظهر بما تلاهُ من كلام الله براءة أُم المؤمنين وصفوان ابن المُعطل رضوان اله تعالى عليهم .
هذا مُجمل حديث الإفك كما هو قائم في صحيح الأخبار وصريح الآثار
الآن نعودُ إلى التفسير
طبعاً هذه المرة خلاف للعادة سنحمل المصحف وربما يعني من باب الفوائد قد يكونُ هيأة الإنسان وهو يفسر و ليس في يده قرآن في عين الناس أعظم لكن ربما يكون ونحن نحمل القرآن عند الله أفضل
والمقصود ما عند الله ما عند الناس وقد أشار علينا بعض الفضلاء بفعله وامتثلنا له لأن فيه خير فيما نحسب
نقول قال الحق تبارك وتعالى
(إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم )
جاءوا بالإفك ابتدعوه لأنه ليس له أصل والإفك ليس له أصل وهو أقبح الكذب لأن الإفك القلب قال الله جل وعلا ( والمؤتفكة أهوى )
من المؤتفكة قوم لوط وسموا المؤتفكة لأن الله قلب عليهم الأمر جعل عاليها سافلها فالصديقة رضي الله عنها وأرضاها أهلٌ لكل فضيلة فكيف يُنسب إليها أعظمُ شيء في الرذيلة هذا قلبٌ للحقائق ولهذا سماه الله جل وعلا إفكاً
( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم )
العصبة قالوا الجماعة دون الأربعين
(لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما أكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)(6/46)
الله يقول في سورة القمر ( وكل أمرٍ مستقر ) العبرة يا أُخي بالنهايات فالنقص في البدايات لا يضر في النهايات على ما استقر الأمر هو المطلوب هو المقصود وقد استقر الأمر على براءة عائشة وصفوان قال الله ( لا تحسبوه ) والعلماء هنا رحمهم الله بعض منهم يقول إن المقصود صفوان وعائشة لكن الله جمع من باب أساليب لغة العرب هذا بعيد صحيح أن هذا الأسلوب موجود في لغة العرب لكن لا يُمكن حمل المعنى عليه بل المعنى أن الأمة كلها تستفيد من هذا وكيف تستفيد؟ أما الذين ظلموا في الإفك فهو رفع درجات لهم وشرف لهم أن يذكروا في القرآن وأن تنزل براءتهم في القرآن ، وأما الذين لم يذكروا من المؤمنين المعاصرين للحدث أو المؤمنين التالين للآيات كأهل عصرنا فإن في ذلك موعظة وأدب و كمالات لهم باختيار طرائق الله جل وعلا في تربية المجتمع على أنه ينبغي أن يُعلم
أنه لا يوجد خيرٌ محض ولا شرٌ محض بل الأمور بالغالب الخير المحض في الجنة والشر المحض في النار ( لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيرُ لكم لكل امرئ منهم ) من الذين خاضوا في الإفك ( ما أكتسب من الإثم ) وأكتسب توافق كسب إلا أن العرب تستعمل أكتسب في الآثام وكسب في الخيرات ، العربُ في فصيح كلامها تستعملُ كسب في الخيرات وأكتسب في الآثام ( لكُل امرئً منهم ما أكتسب من الإثم والذي تولى كبره ) تولى أصل القضية حرص على إذاعتها تبنى إشاعتها ( لهُ عذابٌ عظيم ) وهو المقصود به عبد الله ابن أُبي ابن سلول هذا ذكرٌ للحدث .
أما الآداب الناجمة عن الحدث فجاء تفصيلُها بعد أن ذكر الله الحدث جُملةً وبين أن الأصل فيه أنه خير للناس.
قال جل ذكره
( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)(6/47)
كلمة أنفُس هنا تعبير على أن المجتمع المسلم مجتمع واحد و هذه طريقة القران ( ولا تلمزوا أنفسكم ) ( اقتلوا أنفسكم ) تكررت في أكثر من مرة أن مجتمع المؤمنين كالمجتمع الواحد ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) وهذا الذي وقع من ماذا ؟ من أبي أيوب الأنصاري كما بينا ولهذا أنا حرصت على أن أُقدم شخصيات القصة قبل أن اشرح حتى يصبح الشرح مجرد تحرير ألفاظ يسيرة ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) فإذا كان الإنسانُ أصلاً يظن بنفسه الخير فكيف الظن بأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها
) وقالو هذا إفك مبين (
يعني كان الواجب أن يُقال إن هذا إفك واضح ظاهر بيّن لا أن نخوض فيه بعد أن خاطب الله جل وعلا المؤمنين فيما ينبغي عليهم أن يفعلوا خاطب جل وعلا أولئك الذين تولوا الأمر.
قال الله تبارك وتعالى
) لولا جاءوا علية بأربعة شُهداء فإذا لم يأتوا بالشُهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (
وقد بينا أن هذا مرتبط بأول القصة لأن الله ذكر في أول السورة قضايا القذف وأن القذف يُشترط فيه أربعةٌ من الشهود وإنما استثنى الله جل وعلا من هذا الإجمال الزوج إذا رمى زوجته أما هُنا فليس هناك زوج يرمي زوجته وإنما أُناس خارجون عن القضية يرمون زوجة نبيهم فالإعتبارات والمعايير الشرعية المطلوبة هنا أربعة شهداء قال الله ( فإذا لم يأتوا بالشُهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) والكذب على الله أعظم الذنوب ثم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الكذب على الناس.
قال الله جل وعلا
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا و الآخرة لمسكم فيما أفضتُم فيه عذاب عظيم )
هذه لولا حرف امتناع لوجود وهي عند سيبويه يوجدُ اسمها أي يوجد المبتدأ بعدها ولا يُقال اسمها وخبرها يُحذف وجوبا حرّرهُ ابن مالك بقوله :
وبعد لولا واجبا حذف الخبر *** كما تقول لولا زيدٌ في هجر
يعني لولا زيد موجود في هجر(6/48)
المعنى هنا أن فضل هي مُبتدأ لكن جواب لولا قول الله تعالى ( لمسكم فيما أفضتُم فيه عذابٌ عظيم ) أي أن الله جل وعلا رحمكم وأعطاكُم مُهلة لتوبة وعفا عنكُم كونكم لم تُنكروا إنكاراً جلياً واضحاً على من خاض في الإفك و إلا ما وقعتُم فيه أمرٌ يستوجبُ أشد العذاب لكن أشد العذاب رُفع عنكُم بسبب فضل الله جل وعلا ورحمته لكم .
( إذ تلقونه بألسنتكُم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونهُ هيناً وهو عند الله عظيم)
قُلنا في الابتداء في أول الدرس ( إذ تلقّونهُ بألسنتكُم ) ومعلومٌ أن الإنسان يتكلم بفمه ( وتقولون بأفواهكُم ) لكن الله جل وعلا لم يُرد أن يُبين الجارحة التي نتكلم بها إنما أراد أن يتكلم أن هذا الأمر لم يكُن مُستقراً في القلوب ولا توجد لهُ حقيقة أصلاً حتى يستقر وإنما شخصٌ ينقُل وشخصٌ يحملهُ وشخصٌ يُذيعُ وشخصٌ يزيدُ علية شأنُ أكثر الضُعفاء أكثر الناس وقد خاض في هذا الأمر كبار المُنافقين وبعضُ الصحابة وقد عفا الله تبارك وتعالى عنهم والكلام عن الصحابة حتى لو أخطأوا يجبُ أن يكون مُقيداً بوفق تعبير القرآن ولا نقذف أنفُسنا في أمواج لا نستطيعُ أن نواجهُها ونترضى عليهم أجمعين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم .
( ولولا إذ سمعتموه) هذا تأديبٌ لناس ( قُلتُم ما يكون لنا أنا نتكلم بهذا سُبحانك هذا بُهتانٌ عظيم )
الأصل فيه تنزيه الله جل وعلا عما لا يليقُ به فلماذا قيل التسبيحُ هنا قيل التسبيحُ هنا أي سُبحانك أن تكون زوجة نبيُك فاجرة المقصود من ذكر سُبحانك هنا أي سُبحانك ربُنا أن تكون زوجة نبيك امرأةً فاجرة
قال ربُنا تبارك وتعالى ( ولولا إذ سمعتموه قُلتُم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا)
أي بهذا الإفك
( سُبحانك هذا بُهتانٌ عظيم يعظُكم الله أن تعودوا لمثله أبداً )(6/49)
لا يكون العود لمثله إلا بشيءً واحد إما قذفُ عائشة أو قذفُ من ؟ إحدى أُمهات المؤمنين لا يكون العود لمثله إلا بشيءً واحد إما قذفُ عائشة مرةً أخُرى أو بقذف إحدى أُمهات المؤمنين .
(يعظُكم الله أن تعودوا لمثله أبداً ) هل (إن كُنتم مؤمنين) هنا يجري عليها الحُكم الذي يجري على ما ورد في السُنة " من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفة " فلو لم يُكرم ضيفهُ لا ينفي عنه كُل الإيمان " ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فلو زنى مؤمن لكن ليس كامل الإيمان فهل هذا هو المقصود بالآية ؟
هذا الذي علية جمهور أهلُ التفسير وذهب بعضُهم إلى أن العودة إلى قذف أحدٍ من أُمهات المؤمنين كُفرٌ بالله جعلوا الشرط على مفهومه الواضح .
قال الله تعالى بعدها
( ويُبينُ الله لكم الآياتِ والله عليمٌ حكيم إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين أمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُنيا والآخرة والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون )(6/50)
أولاً نربط ما بين ذيل الآية وما بين صدر الآية أو ما ختم الله به الآية بتعبير أوضح وما بين صدر الآية ( إن الذين يُحبون ) المحبة شيء أين يقع ؟ في القلب شيء خفي كامن فناسب أن يقول الله جل وعلا بعدها ( والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون ) قد يُجدُ بيننا من يُحبُ الفاحشة من يُحبُ أن تنتشر لكنهُ لا يتصرف تصرُفاً يدلُ على تلك المحبة المستوطنة في قلبه فلا سبيل لنا علية أن نُنكر أو نؤدب أو نُعزر أو نمنع ربُما بوأناه مكاناً قيماً فنجم عن تبويئه ذالك المكان مفسدة في الأمر لذالك قال الله جل وعلا ( والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون ) فإذا كان الذين في قُلوبهم محبة لإشاعة الفاحشة في المؤمنين توعدهم الله جل وعلا بهذا فكيف بمن يحملُ الأمر برُمته ويسعى في الناس والعياذُ بالله في إشاعة الفاحشة كأرباب القنوات التي تبعثُ الشرور وتنشُر الفجور أو أصحابُ المجلات أو أصحابُ الصُحف التي تبُث شيئاً مُحرماً يدخلون في هذا من بابً أولى أو الذين يُحبون أن يُجدوا أو يُقيموا أسواقً أو أي أمورٍ يقصدون من ورائها أن يكون هنالك نوعٌ من الفاحشة ظاهر واختلاطٌ بين الرجال والنساء و دعواتٌ في الفجور هؤلاء يدخلون بصورة أوليه في قول الله جل وعلا (إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين أمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُنيا والآخرة والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون ) .
ثُمّ قال الله جل وعلا
( ولولا فضُل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم )
الآن عُد إلى الأولى قال في الأولى ( ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته في الدُنيا والآخرة لمسّكُم ) هنا لم يقُل شيئاً فجواب لولا هنا مُصرّح به أو محذوف ؟ محذوف لم يذكُرهُ الله جل وعلا وأختلف العُلماء في تقديره والأظهر ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتهُ لهلكتُم ، هذه واحده لكنها عامة .
وبعضُ أهل العلم يقول ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته لشاعة الفاحشة وذاعت لكن الله جل وعلا برحمته لكم منع الفاحشة أن تذيع وتشيع.(6/51)
ثُم قال جل شأنهُ
( يا أيُها الذين أمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتبع خُطوات الشيطان فإنه يأمرُ بالفحشاء والمنكُر ولولا فضلُ الله عليكُم ورحمته ما زكى منكُم من أحدٍ أبدا ولكن الله يُزكي من يشاء والله سميعٌ عليم )
هذه دعوة بعد أن بين الله جل وعلا أن الفاحشة لا يجوز نشرُها ولا محبةٌ نشرها بين جل وعلا أن السبيل إلى الخلاص من إشاعة الفاحشة عدمُ إتباع خطُوات الشيطان لأن في إتباع خطوات الشيطان والمقصود بخطوات الشيطان طرائقهُ مسالكُهُ ما يدعوا إلية الشيطان هذا المقصود بخطواته وخَطوة بفتح الخاء إذا كانت مُفرده فإذا جمعت تضُم الخاء
أُعيد
إذا أردت الإفراد تقول خَطوة خطوتُ خَطوةً بفتح الخاء وإذا جمعت تقول خُطوات كما هو نصُ القرآن
( لا تتبعوا خُطوات الشيطان ) لماذا ؟ لأن الشيطان أصلاً لا يدعوا إلا إلى الفحشاء والفحشاءُ تُطلق على العمل الرذيل إذا كان فعلاً أما إذا كان قولاً يُسمى عورات ومنه قول بعضهم :
ولا استعذب العوراء يوماً فقالها
في مدح أحد الفُضلاء الصالحين .
قال ربُنا جل شأنهُ (ولولا فضلُ الله عليكُم ورحمته ما زكى منكُم من أحدٍ أبدا ولكن الله يُزكي من يشاء والله سميعٌ عليم )
باختصار العملُ الزاكي هو العمل الذي يرضى الله عنه العملُ الزاكي هو العمل الذي يجلبُ رضوان الله فمن هو الشخصُ المُزكى ؟ من عملِ عملاً رضي الله عنه به ولا سبيل إلى معرفة هذا فلهذا لا نستطيع أن نُزكيَ أحدً ولا سبيل إلى معرفة هل رضي الله عن صاحب هذا العمل بذالك العمل وعلى هذا يمتنع أن نُزكي أحدً تزكية باطنةً وظاهرة لكن عندما نُحرر ورقةً أو نقول قولاً في تزكية أحد فإنما نُزكي ماذا ؟ ظاهرهُ ونكلُ سرائرهُ إلى الله جل وعلا .
ثُم قال جل شأنهُ
(ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة أن يُؤتوا أُلي القُربى والمساكين ((6/52)
أجمع المُفسرون على أنها نازلةً في حقِ أبي بكر وهذه الآية تأخر نزولها لم تنزل هذه الآيات الست عشر جُملةً واحده هذه الآيات لم تنزل جُملة واحده فماذا صنع أبو بكر سكت ولم يتصرف فلما نزلت الآيات ببراءة عائشة ـ وهذا من فرائد العلم ما ينجُم عنه ـ لما نزلت الآيات ببراءة عائشة تصرف أبو بكر كيف تصرف ؟ منع إنفاقً ورزقً كان يسوقهُ على من ؟ على مسطح لأن مسطح ممن شارك في المسألة ـ هذا ظاهر الكُل يعرفه ـ أين فرائد العلم عاتب الله الصديق لما منع مسطح من رزقه قال أهلُ العلم حررها بسجعها ما صنعهُ مسطح يُنزل النجم من أُفقه فمنعهُ الصديقُ من رزقه فعاتب الله الصديق في حقه .
أُعيد
ما صنعه مسطح وتقول به يُنزل النجم من أُفقه يعني يحطُ من أي شرف من أي شيء فمنعهُ الصديق من رزقه أيُ رزق ؟ الذي كان يُنفق به علية ماذا جرى بعد ذالك ؟ عاتب الله الصديق في حقه في حق من ؟ في حق مسطح
واضح ]ٍ
ماذا تستفيد ؟ تستفيد لا تكُن سبباً في منع أرزاق الناس إذا أردت أن تؤدب أحدً أدبه بأي طريقً كانت إلا أن تمنعهُ رزقه لأنهُ لو كان منعُ الرزق سائغاً لساغ في حق مسطح لكن الله جل وعلا عاتب الصديق فيه . ماذا قال الصديق أقسم حلف يمين أنهُ لا يُنفق على مسطح ماذا قال ربُِنا ( ولا يأتلِ ) جمهورُ المُفسرين على أن يأتلِ هُنا بمعنى يحلف (( ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة) وهذه تزكيةٌ من الله لصديق لأن الله سمّاهُ بأُولي الفضل ، لكن لاحظ تعبير القرآن قال الله ( ( ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة ) ما قال والنعيم والترف والثراء والغنى كُلها مُفردات رُبما تؤدي نفس المعنى لكن قال ( والسعة ) لأنه يُسعُ على نفسه ويُسعُ على غيره وقد قال العُلماء وسيأتي هذا إن التقوى قرينةٌ العفو فالناسُ الذين فيهم خصيصةٌ العفو قريبون من التقوى يقولون إن التقوى والعفو مُتلازمان سيأتي تحرير هذا .
قال الله جل وعلا(6/53)
( ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة أن يُؤتوا أُلي القُربى والمساكين والمُهاجرين )
والمقصود مسطح وهذا دليلٌ ظاهرٌ بينُ بالإجماع على أن الكبائر لا تُحبطُ العمل الصالح إذ لو كانت الكبائر تُحبُط العمل الصالح لكان أولى أن يُحبط عملُ مسطح لأنه خاض في عرض أُم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها ومع ذالك أسماهُ الله جل وعلا مُهاجرا فأبقى الله جل وعلا على هجرةً مسطح وجعلها عملاً صالحاً زاكياً لهُ وأقرها ولم يحبطها دلالة على أن الكبائر مهما بلغت لا تُحبطُ العمل الصالح .
قال الله تعالى
( وليعفوا وليصفحوا )
الخطابُ لمن ؟ في المقام الأول أجيبوا ؟ لأبي بكر ( وليعفوا وليصفحوا ) الخطاب لمن لأبي بكر وقال الله لنبيه في سورة أُخرى في غير هذه القضية قال ( فاعفوا عنهم وأصفح ) قال العُلماء خاطب الله أبا بكرٍ بما خاطب به نبيه حتى يُبين للخلق أن الصديق فعلاً ثانيَ اثنين [ واضح ] هذه استنبطها العُلماء لكنني لا أجزمُ بها .
( وليعفوا وليصفحوا ألا تُحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )
هذه فيها مُلاطفة من الله لأبي بكر فيها دعوة وفيها حُجة كما أنت تُريدُ العفو من الله والمغفرة من الله كذالك الناس يُريدون منك أن تعفوا عنهم ويُريدون منك أن ترزُقهم فعامل الناس بما يُحبُ أن يُعاملوك به وقد قُلنا مراراً إنك إذا أردت أن تتعامل مع أحد وخرجت قضية الحدود الشرعية فعاملهُ بما تُحبُ أن يُعاملك الله جل وعلا به ولا تُسدرُ رحمة الله بشيءً أعظم من هذا .
ثُم قال جل شأنه
(إن الذين يرمون المُحصنات الغافلات المؤمنات لُعنُوا في الدُنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيم )
العُلماء في هذه الآية على قسمين هل هذه الآية عامة ؟(6/54)
وهذا قول الجمهور و هو الأظهر في كُل قاذف (إن الذين يرمون المُحصنات الغافلات المؤمنات لُعنُوا في الدُنيا والآخرة ) فإذا قُلنا بهذا القول إنها عامة لكُل قاذف فيُصبح معنى اللعن هنا إقامةٌ حد القذف عليهم وأما إذا قُلنا بالمعنى الآخر الذي قالهُ العُلماء وهو أن المعنى الآخر: أن الآية في عائشة وأُمهات المؤمنين وإن المُخاطبين في هذه الآية المُنافقون فقالوا لعنهم في الدُنيا بطردهم من رحمة الله ولعنهم في الآخرة بعذاب النار فجعلوا إن هذه الآية خاصة فيمن قذف أُمهات المؤمنين ولذالك قالوا لم يذكُر الله جل وعلا بعدها توبة فكون الله لم يذُكر بعدها توبة قرينة لمن قال إنها في أُمهات المؤمنين ومن قال إنها عامة هذا الأصلُ في الخطاب الشرعي .
(لُعنُوا في الدُنيا والآخرة ) نبقى في اللعن ــ كفائدة ــ يعني اختلف الناس كثيراً تسمع هذا جيداً في قضية لعنً مُعين لكن أرجح الأقوال ما قالهُ الحافظُ ابن حجر رحمة الله تعالى علية وحرره وهو قول جيدٌ لمن تدبرهُ وهو أن اللعن إذا أُريد به الدُعاء وإخرجُ الإنسان من رحمة الله فهذا لا يقعُ على مُعين إلا على كافرٍ مات أما إذا أُريد به شدة النكال شدة التضييق عليه فيجوز لعنُ المُعين [ واضح ]
نأتي بمثال
مثلاً أأُتونا برجُلً آذى المُسلمين كثيراً في العصر من الكُفار ـ مثلاً شارون ـ شارون لم يمُت بعد فإذا أردت باللعن التشديد عليه والتضييق وشدة النكال جاز وإذا أردت بأنك تدعوا بأن لا يرحمهُ الله بمعنى أنه يموت على الكُفر لا يجوز لأن ليس لأحد أن يتدخلّ في أين تقع رحمة الله [ واضح ] وهذا القول لأبن حجر قولٌ مُحرر علمياً يحلُ إشكالاً قائماً في القضية جزاهُ الله خيراً وعفا الله تبارك وتعالى عنه .
نقول قال الله تعالى بعدها
(إن الذين يرمون المُحصنات الغافلات لُعنوا في الدُنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيم * يوم تشهدُ عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجُلهم بما كانوا يعملون )(6/55)
هذا يكون يوم القيامة وقد حررنا قرائن له كثيرة من قبل
( يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق )
مُحال أن يكون دين الكُفار حق فكلمة دين هُنا ما معناها ؟
الجزاء كلمة دين هُنا معناها الجزاء فيئُصبح المعنى يومئذٍ يوفيهم الله جزائُهم الحق وكيف يكون جزائهم الحق ؟ إن مُعاقبة المُسيء على إساءته عينُ ماذا ؟ عينُ الحق ، إن مُعاقبة المُسيء على إساءته عينُ الحق كما أن الإحسان إلى المُحسن لإحسانه كذالك هو عينُ الحق .
(يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحقُ المُبين الخبيثاتُ للخبيثين و الخبيثون للخبيثات والطيباتُ لطيبين والطيبون للطيبات)
للعُلماء فيها قولان :
قولٌ يقول إنها في الأقوال وقولٌ يقول إنها في المُشاكلة ومعنى أنها في الأقوال المقصود من الآية أن الخبيثات من الأقوال تليق بالخبيثين والخبيثات من الرجال والطيبات من الجُمل المادحة المُعبرة تعبيراً حسن تليق بماذا ؟ بالطيبين من الرجال والطيبين من النساء هذا قول الجُمهور .(6/56)
وقال آخرون إن من سُنن الله الإلهية المُلائمة ما بين كُل مُتفق فالخبيثات من النساء لا تُلائم إلا الخبيث من الرجال والخبيث من الرجال لا تُلائمهُ إلا الخبيثة من النساء وعلى الضد الطيبات من النساء لا يُلائمُها إلا الطيبات من الرجال والطيبُ من الرجال لا تُلائمهُ إلا الطيبات من النساء وحملُ هذا المعنى عندي أقرب ولكن يرد إشكال عند الناس منعهم من هذا القول إذا خالطتهم يقولون إنك ترى الآن امرأة صالحة صوامة قوامة مُحسنة إلى أولادها وزوجها الله أعلمُ به فيه من الخُبث والشرور بل رُبما يُتاجر في المخدرات ويسعى في المُسكرات وكيف تقول لي ( الطيباتُ لطيبين) بهذا المعنى نقول يجب أن تُفرق ــــ وهذا القول فيه نوع من المُجازفة لأني لا أعلمُ أحدً نصّ عليه بهذا التعبيرـ نقول ينبغي أن يُفرق ما بين الحياة المُعايشة وحياة المُلائمة فالزوجات الطيبات الصالحات المُقترنات بأزواج مُرتكبون للكبائر لا يكون هناك تلاءُم روحي وإنما المرأة هنا صابرة إما لبنيها أو تحتسب تغيير زوجها والعكس إذا كان الرجُل هو الطيب و المرأة هي السيئة ويمنعهُ من طلاقها خوفه على شتات أبنائها ولا توجد مُلائمة روحية أما ما كان ما بين رسول الله صلى الله علية وسلم وعائشة فقد كان تآلفٌ جمّ وتلائمٌ تام ومحبةٌ قائمةٌ بين الطرفين ولهذا قيل لهُ من أحبُ الناس إليك قال عائشة واضح الفرق بهذا الأمر يعني استبعد الإشكال القائم على أن الذي منعهم كونه أن الواقع وهو أعظم الشهود كما يقولون يمنع أن يكون المعنى التلاؤم لكن قُلنا يُفرق ما بين التعايُش ما بين التلاؤم وقد قال المُتنبي :
ومن نكد الدُنيا على الحرّ أن يرى *** عدوً له ما من صداقته بُردُ(6/57)
هذا ما تيسر قولهُ وتهيأ إيراده وأنا قُلت سأُأُجل الكلام عن ماذا قالت عائشة عندما ركبت هذه فائدة لمن يُشاهدُنا لنا في المقام الأول وهو أمرٌ لا يحتاجُ إلى أن نُجّربه يقولون إن زينب بنت جحش رضي الله عنها تُنافس عائشة كما مرّ معنا وأحياناً يحصُل بينهما تفاخرٌ محمود وعندما أُمهات المؤمنين يحصل بينهما تحاور ينجُم عن ذالك علم نشأن في بيت النبوة فقالت حفصه أنا التي أنزل الله تزويجي من فوق سبع سنوات فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأنا الذي أنزل الله براءتي لما حملني صفوانٌ ابن المُعطل على راحلته هُنا نسيت زينب قضية المُحاورة صارت تتكلم بالفائتة قالت يا عائشة ماذا قُلتي عندما ركبتي الراحلة ؟ قالت قُلت حسبي الله ونعم الوكيل ماذا قالت ؟ حسبي الله ونعم الوكيل قُلنا هذا الأمر لا يحتاجُ إلى تجربة والله الذي لا إله غيره جبال تعرفون جبال تهُدها كلمة حسبُنا الله ونعم الوكيل وكُلما أُغلق عليك أمر لم تجد مثلَ حسبُنا الله ونعم الوكيل .
أنا أعرفُ رجُلاً صالحاً كان عندهُ طالب علم فكان دائماً يوصيه بحسبُنا الله ونعم الوكيل فذات يوم كأن الطالب يعني استقلّها فعاتبهُ قائلاً : يا بُني حسبُنا الله ونعم الوكيل هذه تهُد جبال فكُلّ أحدٍ منّا إذا وقع في مُعضلة أو رأى شيئاً أقبل عليه مما لا يُطاق فليعتصم بقول حسبي الله ونعم الوكيل فإنه لن يكفيك أحدٌ مثلَ الله ولا وكيل بعد الله .
جعلنا الله وإياكم ممّن توكل عليه فكفاه واستهدى به فهداه
هذا ما تيسر إيرادُه وأعان الله على إملائه وصلى الله على مُحمدٌ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين ................
تفريغ سورة النور من27 إلى 31
بسم الله الرحمن الرحيم(6/58)
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أم لا إله إلا الله وحده لا شريك له وارد ما لعباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعوه جميعاً لأطاعوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدً عبده ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من إقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . وبعدُ
فهذا هو اللقاء الرابع من لقاءاتنا في تأمُلنا في سورة النور ، وسورة النور قد بينا من قبلُ أنها سورة قد جمعت أحكامًا وأدابا وكان الصحابة كما هو المنقول عن عمرَ وعائشة أنهم يوصون الناس بتلاوتها وتدبرها وقد مضى الحديث في اللقاءات الأول أكثر ما كان يتعلق عن قضية فاحشة الزنا . فتعرض الله جلّ وعلا لأحكام فاعليها ، ومآلهم ، وحد القذف
ثم ذكر الله بعد ذلك كما شرحنا في اللقاء الماضي براءة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها .(6/59)
الكلام عن الزنا والفواحش ناسب أن يكون بعده آداب تبين للمؤمنين الطرائق المثلى لنجاة من تلك الفواحش والقرآن مرسى أهل الملة يلجئون إليه لأن الله جلّ وعلا جعل فيه خبر الغابرين وأنباء السابقين و أحكام أنزلها على سيد المرسلين صلى الله علية وسلم فلما كان الزنا بريده الخلوات والنظر والإطلاع على العورات ناسب بعد ذلك أن يبين الله جلّ وعلا الطرائق المُثلى والسبل العليا في غض البصر وحفظ الفرج وسلامة البيوت وستر العورات حتى يكون المؤمنون على بصيرة من أمرهم . والرب جل ّ وعلا يقول في كتابه العظيم ( إِنَّ اللهَ لاَ يَستَحىِ أن يضرب مثلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوقَهَا ) ومن أراد أن يبين لناس الحق ويدلهم على الرشد لا يستحي من أمر دون آخر وإنما يكشف الأمور بجلاء وكذلك القرآن وكذلك تنزيل ربُ العالمين جل ّ جلاله . وقد يقول قائل عُني بالتاريخ وما فيه من أحداث كيف يتكلم الله عن العورات ، كيف يتكلم الله عن البيوت ، كيف يتكلم الله عن المحيض هذا الكتاب جعله الله جلّ وعلا هُدى بين فيه لناس ما يهمهم في أمر دينهم ودنياهم ، ولما كان يوم القيامة يوم حساب ويوم يُعرض الأعمال فيه على الله كان حقاً على الله من قبل ذلك ولا ملزم على الله أن يبين لخلَقَِه كل أمر حتى يكون الحساب على بينةً من الأمر قال الله جلّ وعلا ( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)
الآيات التي نحنُ بصددها اليوم قول الله جلّ وعلا
( يا أيُها الذين ءآمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بُيوُتكم حتّى تستأنسُوا وتُسلموا على أهلها ذلكم خَيرٌ لكم لعلّكُم تذكرون)
الياء هُنا حرف ماذا ؟ حرف نداء ، من المنادى ؟ الذين أمنوا ،(6/60)
وقد مر معنا أن النداء للذين أمنوا يُسمى نداء كرامه في حين" يا أيها الناس "أو" يا بني آدم" هذا نداء علامة بحسب ما أتصفُ به فيا" أيها الذين أمنوا" نداء كرامه والمؤمنُ كريمٌ على الله ومن أعظم الدلائل على أن المؤمن كريمٌ على الله مُستنبط من كلام الرب جلّ وعلا قالوا أن خلف ابن عمر قراء على أحد الصالحين القرآن فلما وصل إلى قول اللهِ جلّ وعلا
( الذين يحملون العرش ومن حولهُ يُسبحون بحمدِ ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين أمنوا ) بكى الرجل الذي يٌقرأ علية القرآن فقُلتٌ له ما يُبكيك ـ هذا خلف المقول ـ قال يا خلف أُنظر كرامة المؤمن عند الله نائمٌ على فراشه وتستغفر له حملة العرش أو ويستغفرُ لهُ حملةً العرش فيا أيُها الذين أمنوا نداء كرامة والياء حرفُ نداء وهي من عدة أحرف تقولها العرب في النداء .
( لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم )
الملكية هُنا يا أُخي جنّبها
فغير بُيوتكم أي غير التي تسكنون وهذا واقعٌ في العصر والمعنى البيت هُنا مضاف ليست إضافة تمليك وإن كان جرى مجرى الغالب لكن المقصود البيت الذي تسكنه فالبيت الذي تملكه وقد أجرته على غيرك ويسكنه غيرك لا يُعتبرُ في عُرف الآية الآن بيتً لك لا يُعتبر في عُرف الآية ودلالتها بيتً لك ، الله يُخاطبك ، يُكلمك ، ينهاك عن البيوت التي لا تسكنها بصرف النظر عن تملكها أو لا تملكها أو أنت في بيت ملك أو بيت أجار العبرة هُنا بالسكنى
( يا أيُها الذين أمنوا لا تدخلوا بُيوتاً غير بيوتكم حتى)
هذه حتى تأتي لإبتداء الغاية وتأتي لإنتهاء الغاية والنحويون يقولون على لسان أحدهم " أموت وفي نفسي شيءٌ من حتى " ــ أظنها ــ لأبي عمر بن العلاء أحدُ النحويين درس النحو وتعمق فيه وهذا من الأقدمين من شيعة سيبويه الأولين يقول أموت وفي نفسي شيءٌ من حتى لأن ما بعدها يصلح له كل شيْ فلم يستبن له الأمر فيها نعود فنقول حتى هُنا لإنتهاء الغاية أو إبتدائها هذا كُله حسب سياق القرآن(6/61)
( لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها )
هذا أدبٌ رباني يُعلم الله به المؤمنين لكن الإشكال قائمٌ عند العلماء ما معنى الاستئناس السلام معروف لكنهم إختلفوا في الاستئناس
فقال قومٌ الاستئناس هو الاستئذان نفسه .
وقال آخرون إن الاستئناس أن تُحدث صوتاً قبل أن تستأذن كأن تتنحنح أو ترفع من صوت سيارتك إذا قرُبت أو تُقفلها بقوة تُشعر أن هُناك رجل ٌ قادم .
والعلماء يقولون إن الاستئذان ثلاث أطوار المرة الأولى حتى يُنصتوا ــ يعني أهل الدار ــ
والمرة الثانية حتى يستصلحوا يُغيروا في أوضاع البيت
والمرة الثالثة حتى يأذنوا أو يقولوا لك أرجعِ يأذنوا أو لا يأذنوا والمرة الثالثة حتى يُقرروا يأذنوا لك أو لا يأذنوا.
فقلنا تحرر أن الاستئناس فيه خلاف هل هو الاستئذان أو هو إحداثُ صوت ، بعض العلماء يقول لا هذا ولا ذاك الاستئناس ما ضُدها قالوا الاستيحاش والاستيحاش معناه الوحشة والقادم على أي دار يجد في نفسه وحشة وغربة هل سيقبله ُ أهلها أو لم يقبلوه فإذا قُبلا زالت عنه تلك الوحشة ولذلك حريٌ بمن يستقبل أن يقول مرحباً ، أهلاً وسهلاً فغُربتك تُشفى بكلمة "أهلاً " يعني وجدت لك أهلاً يُذهبون عنك الوحشة هذا الذي دفع أقواماً أن يقولوا أن الاستئناس هو من الأنس وإبعاد الوحشة يعني لابد أن يتبين لك هل أهل الدار راغبون بإستقبالك أو غيرُ راغبين ، فإن فهمت منهم ولو أذنوا أنهم غير راغبين فالأولى والأحرى ــ وهذا لم تتعرض له الآية لكن هذا استنباطات العلماء ــ نُفرق ما بين النص وما بين تعليق العلماء على النص ، التقديس أين يذهب ؟ لنص . وعدم التقديس يذهب لغير النص .(6/62)
نقول ويدل علية قول الله جلّ وعلا ( آنس من جانب الطور نارا ) فإن موسى علية السلام كان في حالة وحشة فلما رأى النار ورأى النور زالت تلك الوحشة كإنسان غريب ضائع ، تائه في صحراء مظلمة يخشى ، يخاف ، يستوحش فلما يرى عن بعد شيء ما تزول عنه تلك الوحشة تدريجياً
( حتى تستأنسوا وتُسلموا على أهلها )
أهلُ من ؟ أهل الدار وقد قُلنا أن الاستئذان دلت السنة على أنه ثلاث كما في حديث عمر لما أستأذن على النبي صلى الله علية وسلم وقد اختزن النبي علية الصلاة والسلام نساؤه في تلك المشرهه فإنه بعث عبداً يستأذنُ النبي علية الصلاة والسلام فردهُ مرتين لم يُجب وفي الثالثة قبلهُ . ودلت نصوص أُخر تدل على أن الاستئذان يكون ثلاث مرات وسيأتي في حالة عدم الرفض لكن في حينه .
( ذلكم خيرٌ لكم لعلكم تذكرون )
أي هذا التشريع الرباني والنص الإلهي والأدب القرآني خيرٌ لكم ولابد أن يكون فيه خير لأنه من عند اللهِ والتذكر والتبصر لا يكون إلا لتعاليم الكتاب وتعاليم السنة .
مر معنا كثيراً قضية عمر رضي الله تعالى عنه في قضية الاستئناس والاستئذان واحتجاج بعض من سمعه لقول الله تعالى هاهُنا ـــ وقُلنا من باب الفائدة لتكرار ــ أن عمر رضي الله تعالى عنه مر على حائط فيه فتية من الأنصار يشربون الراح والراح هي الخمر فسور الحائط بعد أن تبين له أن هُناك سُكارى خلفهُ فداهمه و أنكر عليهم فقالوا يا أمير المؤمنين ــ إن صحت الرواية ــ جئنا بواحدة وهي شُرب الخمر وجئتنا بثلاث وهي أنك تجسست والله قد نهى عنه ، ولم تستأنس تستأذن ، والله يقول )و أتو البيوت من أبوابها ) وأنت تسورت علينا الحائط فرجع عنهم وهو يقول " كل الناس أفقه منك يا عمر " وقد قيل أن عمر رضي الله تعالى عنه ــ وهذا هو الأظهر ــ قبل قولهم من باب أنهم إستندوا على القرآن .(6/63)
قُلنا من علامة التقوى أن يقبل الإنسان الأمر الرباني ولو جاء من أقل منه وقد قال حافظٌ رحمه الله تعالى يصور هذا الموقف :
وفتيةٍ ــ الواو واو ربُ ، لذلك جاء ما بعدها مجرور ــ
وفتيةٍ أُلعوا بالراح وانتبذوا *** لهم مكانً وجدُّ في تعاطيها
ظهرت حائطهم ــ علوته ــ لما علمت بهم
والليل معتكرُ الأرجاء ساجيها ـ في الظلام ـ
قالوا مكانك ـ يعني اثبت لا تتقدم ـ قد جئنا بواحدة
وجئتنا بثلاث لا تُباليها
فآت البيوت من الأبواب يا عمر *** فقد يُذل من الحيطان آتيها
ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت *** بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها
ثم قال حافظ ــ وتدخل الشاعر هُنا هو الذي يدل على قُدرته ــ قال :
فعدت عنهم وقد أكبرت حُجتهم *** لما رأيت كتاب الله يُمليها
يُملي ماذا ؟ أجيبوا .. يُملي الحجة
وما أنفت وإن كانوا على حرجِ *** من أن يحجك بالآيات عاصيها
ما دام من يُخاطبك ويجادلك يُخاطبك بهذا النور المبين يجب أن تقبلهُ ولو كان هو لا يعمل به لأنه ما دام أقام الحُجة إليك ودعاك بهذا القُرآن وهذه القصيدة تُسمى " بالعُمريه " وهي موجودة في ديوان حافظ أكثر من مأتي بيت ـــ كُنا نحفظها في زمن الصبا ـــ قسمها حافظ قسمها باعتبارات أحداث ، تسمعون بنصر ابن الحجاج نصر ابن الحجاج كان وسيماً نفاه عمر إلى الكوفة أو إلى البصرة أتى بالقضية قال في أولها :
جنى الجمالُ على نصرٍ فغربهُ *** عن المدينة تبكيهِ ويبكيها
ثم ذكر الأبيات وذكر قضية رسول كسرى لما قدم على عمر قال في أولها :
وراع صاحب كسرى أن رأى عمر *** بين الرعية عُطلاً وهو راعيها
ثم لمّا قال صاحب كسرى حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر قال حافظ بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ *** فنمت نوم قرير العين هانيها
مر معكم تاريخياً قضية عمر وعزلهُ لمن؟ عزلهُ لخالد فقال :
سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت *** لهُ الفتوح وهل أغنت تواليها(6/64)
وذكر قضية عزل عمر ، ذكر عمر وجوعهُ في عام أيُ عام؟ عام الرمادة فذكرها قال :
يا من صدفت عن الدُنيا وزينتها *** فلم يغُرك من دُنياك مُغريها
ذكر قضايا عديدة ونحنُ استطردنا وإن كُنا في كتاب تفسير لكن قُلنا أن المنهج في تعليمنا لناس أننا نتفرع ُ كثيراً حتى نُبين أن جماع التفسير العلم بشتى الفنون يقودك لأن تكون إماماً في التفسير لكن من كان معتمداً على فنً واحدٍ دون سواه قلّما يستطيع أن يجري أو يمضي في مضمار علم التفسير لأن ما دام القُرآن أُمٌ للعلوم كُلها لابد أن يكون القائمُ به مطلع على شتى الفنون قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله " بل السنة كُلها في آية واحده ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)
نعود فنقول على قضية الاستئناس والاستئذان كما بينا
قال ربُنا جلّ وعلا بعدها
( فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم (
إن لم تجدوا فيها ما هي ؟ البيوت لم يقلُ الِله فإن لم يكن ، قال ) فإن لم تجدوا ( وفرق ما بين فإن لم تجدوا وما بين فإن لم يكن لماذا ؟
لو قال جلّ وعلا فإن لم يكن معناها أن البيت لا يوجد أحدٌ فيه أصلاً لكن لما قال ) فإن لم تجدوا ( قد يكون فيها أحد لكنه لم يتبين لك هل فيها أحد أو لا
** مثاله ... أتيت إلى بيت أحد أصدقائك فطرقت الباب وهم موجودون فهم إما نائمون أو منشغلون أو أنهم سمعوا الطرق ولا يُريدوا أن يُجيبوا لكن ماذا يحصل بالنسبة لك لا تدري هل هم موجودون أو لا ما الذي يحصل لك بعد طرقه أو طرقتين أو ثلاث تكاد تقتنع أنهم غير موجودين فهذا الفرق ما بين قوله جلّ وعلا ( فإن لم تجدوا ) وهو نصُ الكلام لربنا وبين لو قال فإن لم يكونوا فالفرق ظاهرٌ بين .
( فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها )(6/65)
لو قُدر رأيناها مفتوحة هل ندخل أو لا ندخل ؟ أجيبوا ، لا ندخل . لماذا ؟ لأنها مفلقةٌ بأمر الشرع لا بالمفتاح لأن ما هي مغلقةٌ بالمفتاح ٌ قُلنا مفتوحة لكنها مغلقةٌ بماذا ؟ بأمر الشرع وهو قول الله جلّ وعلا ( فلا تدخلوها حتى يُؤذن لكم) ولهذا البيوت عورات لا يجوز أحداً أن يقتحمها حتى إذا أُظطر بعضُ من استضافك أن يُدخلك بيتهُ ويُقدم لك طعاماً في قعر البيت فلا تلتفت ميمنة ولا ميسرة ولا تنظر فيما لا يُعنيك وإنما أُدخل مطأطأً رأسك غاضً بصرك حتى تصل إلى المكان الذي أدخلك فيه والإنسان إذا كان في سُلطان أحد من الأدب الإلهي والنبوي أن يستأمر بأمر ذلك الذي بيده السُلطان بمعنى أنّ صاحب البيت أدرى أين يضعُك فلو وضعك في صدر المجلس أِجلس ، لو وضعك ميمنة ً أو ميسرةً داخل أو قعر أِجلس حيث وضعك لأنهُ هو أدرى بالمكان الذي يضعك فيه .
فنعود فنقول قال ربُنا ( فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم أرجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ) قبل أن أُفسر أقول قال أحد الصالحين كما ذكر الحافظ ابن كثير يقول قضيت عمري كُله أطرق أبواب الناس أُريد أن يقول لي أحدٌ من أصحابي أِرجع حتى أظفر بقول الله ( هو أزكى لكم ) ولا يوجد أحدٌ قال له أِرجع ،
وبعض الناس اليوم لا يفقهُ هذه المعاني العظيمة في القرآن لو قيل لهُ أِِرجع لأخرج جوالهُ وبعث عشرات الرسائل لأصدقائه كيف أن فلان ابن فلان طرقتُ بابه وقال لي أِرجع مع أن رب العزة يقول .
( وإن قيل لكم أِرجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)
أزكى لكم من أي شيء ؟ لأن ترجع خيرٌ من أن تقف بباب أحدٍ لا يُريد منك أن تدخل ، فالكريم لا يدخل إلا في مجالس لهُ فيها مقام ومكانه أما الأماكن التي لا تليق به أو لا يُريد أصحابه أن يدخلها أو يأتيها أو يزورها فهو من باب أولى أن ينأ عنها .
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفي بيت آخر لأحد علماء شنقيط(6/66)
وما حرٌ يُقيم بأرض هونٍ *** ولو كانت مقر الوالدينِ
لأن الإنسان العزيز النفس المتأدب بآداب القرآن لا يقبل أن يدخل مكاناً ليس له ُ فيه مقام ، والعامة يقولون في أمثالهم الدارجة المقبولة يقولون " من يأتي بلا عزومة يقعد بلا فراش " والمقصود بيان أن الإنسان لا يذهب إلا على بينة لكن هذا يختلف في العادات والتقاليد والأعراف ومدى أصحابك وخلانك .
نعود للآية قال الله تعالى ( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم )
كيف يُقال لك أِرجع ؟ لها ثلاثة أحوال ، لها ماذا ؟ ثلاثة أحوال :
## الحالة الأولى : الحالة الصريحة التي نص عليها القرآن وهي أن يقول لك أِرجع صريح الخطاب ، أن يُقال لك أِرجع بصريح الخطاب وهي التي نص عليها القرآن .
## الحالة الثانية : تكون ظمنية أن تستأذن فلا يُؤذن لك فيأتيك من بعثتهُ ويقول أنا قُلت لهم فلان عند الباب ما ردوا [ واضح ] هذه أقل من الأولى .
## الحالة الثالثة : ظمنية وهو أن يكونوا موجودين فلا يجيبونك[ واضح ].
الحالة الثانية قد يكون فيها غموض تجد حارس على باب العمارة تبعثهُ يعود يقول قُلت والله فلان عند الباب ما حد رد ، هل قالوا لك أنا أذهب ، يقول لك لا لم يقولوا هذا .
الحالة الثالثة تطرق الباب مره بعد مره ثلاث قُلنا الاستئذان ثلاث فهم يكونون موجودين ــ خبر يكون ــ لكنهم لا يُريدون ، فهذا رد ماذا ؟ ظمني
أما الرد الصريح وهو أن يقول لك أرجع أو لا أستطيع أن أستقبلك هذه التي قال الله فيها
( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ) وقُلنا ما معنى أزكى هُنا
(والله بما تعملون عليم )
والمقصود من ( بما تعملون عليم ) إن الله جلّ وعلا مُطلعٌ على كل شيء لماذا هذا رُد ، ولماذا هذا صُد ، ولماذا هذا قَبل ، ولماذا هذا رفض .(6/67)
( ليس عليكم جُناحٌ أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاعٌ لكم )عندما تُريد أن تُفسر القرآن إإتي بالآية ــ إذا كُنت تُفسرها لغيرك وأبعد المعنى غير الصحيح المتبادر ، أحياناً يستقر معنى غير صحيح هذا المعنى غير الصحيح يسيطر عليك فإذا سيطر عليك حتى تقترب من الآية أبعد المعنى غير الصحيح فإذا أبعدته ستفكر تفكيراً جديداً أولياً ستغير النظرة ، الله يقول ( ليس عليكم جُناحٌ)أي إثم طبعاً
( أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم ) الإشكال في كلمة متاع لا تفهم من كلمة ( متاع ) المتاع المعروف يعني أغراض موجودة لك في المنزل ليس المقصود متاع يعني أغراض بالعامية بين قوسين يعذرني المشاهد وأنتم ليس المقصود " عفش" المتاع هُنا بمعنى المنفعة على إطلاقها ( قُل متاع الدنيا قليل ) اش معنى متاع الدنيا قليل ؟ منفعة الدنيا هذا معنى المتاع . إذا تحرر هذا يتحرر بعد ذلك معنى قول الله جلّ وعلا ( ليس عليكم جُناحٌ أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاعٌ لكم )غير مسكونة : أي غير مسكونة سُكناً أهلياً بتعبير قريب مراعاة للمشاهدين يعني ليست فيها عوائل ، ليس فيه أُسر ، ليس فيها قوم يسكنونها متخذينها بيوت .(6/68)
إذاً يبقى السؤال إلى الآن وأنا أبعد أبعد لابد نُقرّب شي حتى تتضح الصورة . أنت تُسافر فيه دورات مياه ، فيه فنادق ، فيه إستراحات في الطريق هذه بيوت غير مسكونة لا يُلزم الاستئذان لا يُلزم فيها الاستئذان [ واضح ] هذا معنى الآية . وقد كانت العرب في تاريخها القديم تضع دور وخانات يرتاح فيها المسافرون ليست ملكاً لأحد تقيهم البرد والحر يبنيها أرباب الأموال وهذي ليست ملكاً لأحد لا تحتاج إلى استئذان ومثلُها في عصرنا إنسان مرّ على فندق أراد الاستراحة فطبعاً لا يحتاج إلى أن يدق ـ يطرق ـ باب الفندق حتى يستأذن أدخل أو لا أدخل لأنهُ أصلاً ما وضعِ إلا لطريقة هذه أنك تدخل من غير إذن لأن هذا المقصود من بنائها أو دورات المياه أو ما أشبه ذلك لذلك قُلنا كلمة منفعة على ماذا ؟ على إطلاقها
وحتى يبقى المعنى صالحٌ لكل زمان ومكان أيّ مكان فيه منفعة لك فالغالب يحتاجه الناس أنه لا يُلزم فيه الاستئذان ( ليس عليكم جُناحٌ ) قُلنا جُناح بمعنى أثم
( أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاعٌ لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) قال العلماء لتذييل هُنا ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون)
قالوا هذا وعيدٌ شديد من الرب تبارك وتعالى لأصحاب النوايا الخبيثة والسرائر البغيضة المحبين لتطلّع على عورات المسلمين ،هذا وعيدٌ شديدٌ من الله لأصحاب النوايا الخبيثة وما أشبههم من السرائر البغيضة الذين يُحبون أن يتطلعوا على عورات الناس فقال ربُنا مهدداً لهم ولغيرهم ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) بدا الشيء بمعنى ظهر ، والكتمان ضد البدو . قال اله تعالى ( يوم تجدُ كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينهُ أمداً بعيدا ) والمقصود الأشياء القلبية والأشياء الظاهرة .
ثم قال ربُنا تبارك وتعالى ( قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما تصنعون)(6/69)
انتقل الآن الرب جلّ وعلا في تأديب العباد إلى مرحلة أعلى منعنا ربُنا من دخول البيوت من غير استئذان فلما كانت الأبصار هي السبب هلاك القلوب،
وأنت متى أرسلت طرفُك رائداً *** في ا لقلوب أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا أنت كُلهُ أنت قادرٌ *** عليه ولا عن بعضهِ أنت صابرُ
المقصود أن النظرة سهمٌ من سهام إبليس فأراد الله أن يؤدب عباده فانتقل معهم إلى مرحلة أُخرى فقال ( قُل ) أي محمد ( للمؤمنين ) الممتثلين لأمر ربهم ( يغضوا من أبصارهم ) لكن ما قال ويحفظوا من فروجهم لماذا ؟
* ما أُذن لك أن تراه أكثر مما حرّم عليك أن تراه " فمن" على الصحيح بعضيه ــ أُعيد ــ ما شرعه الله لك وأباحهُ أن تراه أكثر مما حرّمهُ الله عليك أن تراه فالمحرم } العورات { لكن النظر إلى غير العورات جائز
أما الفروج فإنما الأصل فيها أنها حرام فما أباحهُ الله لنا من الفروج أكثر مما حرمهُ علينا فلهذا قال ( ويحفظوا فروجهم ) هذه واحده .
* غض البصر أخبر النبي صلى الله علية وسلم " أن العين تزني وزناها النظر " ولا ريب أن النظر أُولى المهلكات والإنسان إذا أكثر من النظر تعب قلبهُ لأنهُ لا يملأُ فمُ ابن آدم إلا التراب ، والإنسان ما يزال يتنقل في المناظر ويرى ميمنة وميسرة ولا ريب أنهُ لا توجد امرأة إلا وفي من هو أجمل منها وهذا خيطٌ أو سلسةٌ لا تنتهي فالعاكفون مثلاً في زماننا على القنوات في كل حقبه أو مده أو يوم أو ليله يظهر له شيء آخر ويبقى لاهثاً ولن يرتوي ولهذا منع الشرع العباد من إطلاق العنان لنظر بل إن الرجل عياذاً بالله عافانا الله وإياكم إذا أكثر من النظر كالذين يذهبون إلى بلاد للسياحة العاجلة فيذهبون في شواطىء العُراة وأمثالها فيرى منظراً تلو منظراً تلو منظر يذهب إليه عمداً هذا ينجم عنهُ مفسدتان :
المفسدة الأولى : سيزهد في أهله وهذا خلاف المقصود شرعاً .(6/70)
الأمر الثاني : هذا يجعل قوتهُ فيها نوعٌ من التشتيت لا يجمع عليه ذهنه لإنفكاكه وتفرقه في مجامع ما يراه على أنه ينبغي أن يُعلم ــ وهذا استطراد ــ ينبغي للعاقل وهذا الخطاب للرجال الآن ينبغي للعُقلاء من الرجال أن يعلموا أن القضية في جمال المرأة ــ ولا أدري إن كان قد بينتُ هذا من قبل أو لا حتى لو كان مكرراً أرجوا قَبُله ــ نقول أن القضية الأساسية قائمة على أن المرأة حسب ما تكون زينة في عين زوجها بمعنى أن الإنسان قد لا تكون امرأتهُ ذات جمال يُضرب به المثل لكن الله جلّ وعلا يُزينها في عينيه كما أن الله يُزينهُ ولو لم يكن مسلماً في عينيها وأنا كُنتُ أُوصي الشباب إذا سألوني ماذا نقول إذا تزوجوا أقول لهُ " قُل اللهم زيني في عينيها وزينها في عيني" فإنها إذا زانت في عينيك وزانك الله في عينيها أفلحتما وهذه أمور بصرف النظر عن الأشياء الجمالية البدنية الخلقية لها علاقة كذلك بالأخلاق بالجمال الروحي فإن هذا مما يُزين به لصاحبه وأنت تعلم أن قيس ابن الملوح الذي فُتن بليلى العامرية وجُن بها حتى هام على وجهه في الصحراء كل أهل زمانه يقطعون بأن ليلى هذه لم تكُن أجمل نساء الدنيا لو كانت أجمل نساء الدنيا ما تركها الأُمراء والملوك وأهلُ الثراء له قاتلوه عليها لكن القضية أن الله جلّ وعلا زيّن ليلى في عيني من ؟ في عيني قيس وهو قال المؤنسة إحدى قصائده قال :
فيارب إن صيرت ليلى هي المُنى *** فزنيّ بعينيها كما زنتها ليَّ
وقد خبروني أن تيماء منزلٌ *** لليلى إذا ما الليل ألقى المراسيَ
فهذي شهور الصيف عنا قد إنقضت *** فما لنوى ترمي بليلاً مراسيَ
طبعاً تيماء ديارٌ معروفه ، متى الليل يُلقي مراسيه في الصيف و إلا الشتاء ؟ في الشتاء الليل يطول
فهو يقول فهذي شهور الصيف عنا قد أنقضت(6/71)
يعني جاء الليل الطويل ومع ذلك لم تعد ليلى إلى تيماء . المقصود من هذا أن الإنسان بهذه النظرة يفهم الشرع فلا يأتيك من يأتيك يُزهدُك في أهلك أو في فتاة خطبتها أو في قبيلة بعينها القضية قضية ما يُرثهُ الله جلّ وعلا في قلبك من زينة تلك المرأة هُنا قال الله جلّ وعلا ( قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) لأن هذا وادً مُهلك وأنت ترى من حولك ممن يتيهُ والعياذُ بالله فيه ويضيع وليتهُ يغنم شيء محسوس شيء يعقد عليه أنامله أو إصبعه لا يوجد لأن هذا أمر ما ينتهي وقُلنا قال علية الصلاة والسلام "ولا يملأ فمُ ابن آدم إلا التراب " فهو بطريقته هذه لن ينتهي ولن يبني قلباً خاشعاً ولا لساناً ذاكراً أبداً .
(ويحفظوا فروجهم ) اختلف العلماء في المعنى :
فقال بعضهم يحفظوها عن النظر إليها ، وقال بعضهم يحفظوها عن الزنا والصواب أن يُقال يحفظوها عن النظر إليها وعن الزنا كما في قوله تعالى ( قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ) هذا الطريق الذي رسمه الله جلّ وعلا لعباده وهو حفظ الفرج مع غض البصر هو السبيل إلى نقاء النفس وطهارتها وسموها بدليل القُرآن ( ذلك أزكى لهم ) أي المؤمنين ( إن الله خبير بما يصنعون)
كما أمر الله الرجال أمر النساء وهذا قطعاً خلاف أسلوب القرآن لأن القرآن يجمع ففي البيوت الآن ما قال الله للمؤمنات لأنهم دخلوا في الذين أمنوا ولكن لما كان أمر النظر أمرٌ عظيم تُبنى علية مفاسد إذا تُرك خاطب الله الرجال والنساء كُلاً لوحده فقال جلّ وعلا ( وقُل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) وهذا قد مضى القول فيه كما قيل في الرجال.
( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمورهن على جيوبهن ولا يُبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) هذا فيه تفصيل على ما يأتي :
نتكلم في المفردات أولاً .
الخمار تُجمع على خُمر وهي ما تُغطي به المرأة رأسها كقولنا كتاب تُجمع على كُتب .(6/72)
طيب بقينا في الجيوب ما الجيوب ؟ الجيب هذا ــ تلفاز ما نقدر نفتح ــ مقدمة النحر والصدر هذا يُسمى جيب الموضع الذي تدخل منه ثوبك ، الفتحة هذه تُسمى جيب طبعاً لم يكن بالطريقة هذه آنذاك , طيب ما الجيب الذي نضع فيه دراهمنا هذا ليس في كلام العرب صحيحٌ من حيث المعنى لكنه ليس مقصود القرآن ليس من كلام العرب الذين أُخذ عنهم اللغة أن الجيب ما يوضع على جوار الثوب أو أعلاه يوضع فيه ما يُحفظ هذا ليس من كلام العرب وإن كان صحيحاً في المعنى ، الجيب في القرآن الفتحة التي منها يُلبس الثوب والرداء.
فجبريل علية السلام نفخ في جيب درع من ؟ مريم درعها أشبه بالعامية اليوم يقولون روب تلبسه والأخوة الموريتانيون يقولون الدراعه وهذه كلمةٌ فصيحة فهذا الجيب .
(وليضربن بخمورهن) قال الرب تبارك وتعالى ( على جيوبهن ) فهي كانت تُغطي رأسها فأمرها الله أن يشمل ماذا ؟ مع الرأس الجيب فلا تُظهر شعرها ولا صدرها ولا نحرها .
هذا من حيث الإجمال أنا إلى الآن أتكلم إجمالاً
(ولا يُبدين زينتهن )
القرطبي يقول رحمة الله تعالى علية المفسر المعروف الزينة قسمان : خلقية ومكتسبه . كم قسم ؟ قسمان خلقية ومكتسبه فيقول رحمه الله و تبعهُ على ذلك بعض الفقهاء أن الخلقية أصلها الوجه و المكتسبة ما يوضع من زينة خارجة عن أصل الخلقة [ هذا واضح ]
قسمها القرطبي قسمان إلى كم قسم ؟ قسمين قال خلقية وأصلها الوجه ومكتسبه وهو ما يوضع من زينة وهو معروف .
نقول والعلم عند الله اللغة لا تُساعد على هذا لأن كلام الله دلّ على أن الزينة إذا أُريدت في القرآن يُراد بها غير الشيء المُزين ـــ أُعيد ـــ(6/73)
الزينة في القرآن يُراد بها غير الشيء المُزيّن بمعنى أنها منفكة خارجة عنه قال الله تعالى ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ) ما زينة الأرض ؟ ما عليها من النبات فهذا النبات لا يُقال له أرض فالمزيّن غير الزينة منفك عن الزينة فكلام القرطبي له وجه من النظر لكن كما قُلت اللغة لا تُساعد عليه .
( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) إلى الآن نتكلم في الآية ما معناها
(وليضربن ) هذا أمرٌ من الله ( بخمورهن ) قُلنا الخمار الغطاء( على جيوبهن ولا يُبدين زينتهن)
ثم حدد الله من يرين الزينة . هذه الآية الإشكال فيها في قول الله تعالى
( ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها )
واختلف العلماء في هذا اختلافً كثيراً جداً لكن أنا أُحرر ما أدين الله جلّ وعلا به فنقول ما قاله ابن عطية رحمه الله تعالى عليه ــ معنى كلامه ــ إن ظاهر الآيات يدل على أن الله جلّ وعلا أمر المرأة بإخفاء نفسها بالكلية إلا ما ظهر منها بسبب حركة ضرورة فذلك المعفو عنه لنساء ــ بتعبير أوضح ــ نحنُ نعتقد أن وجه المرأة لا يجوز إظهاره وإن قال فضلاءُ علماءُ أجلاء من الأمة لهم باعٌ في العلم من السلف والخلف عبروا عن قول الله ( إلا ما ظهر منها ) بأنه الوجه لكننا نقول إستدراكاً لا يُمكن لنا ولا لغيرنا أن يرفع الخلاف في الأمة لكن نُعقب تعقيبات لابد منها لأن الأخيار من العلماء من السلف والخلف الذين قالوا أنه يجوز ظهور الوجه لم يقولوا بما حدث في مثل هذا العصر ــ وحتى تتضح الصورة ــ
* الذين قالو بجوازه لم يقولوا بأن سترهُ محرم ولم يقولوا أن سترهُ بدعه ولم يقولوا إن كشف الوجه سنة هذا واحد .(6/74)
* ولم يقولوا أنه يجوز أن تتزين المرأة في وجهها كما يحصل بحجة أنه في قول بأن وجه المرأة جائز إظهارهُ والأهم من هذا كله وهذا بيت القصيد لم يقل أحد ممن يقول بجواز أن تكشف المرأة وجهها أنه يجوز النظر إليها [ واضح ] وهذا يُبطل صنيع كثير مما تراه امرأة تقرأ الأخبار ولا يظهر إلا وجهها فإذا سُئلت قال هذا حجاب شرعي على قول طائفة من العلماء نقول نعم هو حجابٌ شرعيٌ على قول طائفة من العلماء لكن أولئك الأخيار الذين قالوا بهذا إما أن يُؤخذ قولهم جملة أو يُترك جملة فلم يقولوا بجواز أن تظهر المرأة بهذا الوجه على الناس جميعاً فيرونهُ هذا لم يقل به أحد [واضح ] و إلا أصبح لا معنى لقول الله ) قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم )} فهمتم
هذا الذي يجب أن يُنتبه إليه ، لكن الإنسان أحياناً يغلب عليه هواه فلا يأخذ الشرع بمأخذٍ حسنٍ عن أهل العلم على الجانب الآخر هذه المبالغات أو عدم الفهم الصحيح لشرع الله قد يُقابلهُ أحيانا أقوامٌ يأتون لفضلاء من العلماء قالوا بأنهُ يجوز كشف الوجه فيقولون فيهم قولاً شنيعاً من غير برهان وهذا خطأٌ ليس ببعيد عن خطأ ماذا ؟ الأولين فقد قال بالجواز عُلماء أجلاء لا مطعن في دينهم ولا في علمهم ولا في عقيدتهم وإن كُنا نرى فقهياً خلاف الذي يقولون لكن لا نتهم مؤمنً في دينه بأنهُ استبان لهُ من دين الله أو من كتاب الله شيء لم يستبن لنا على أن تكاد تكون الكلمة مجتمعة اليوم على أن الفتن التي يعيشها أهل العصر تُنبأ على أنهُ من الخطأ العظيم أن يقول أحدٌ اليوم بجواز نقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول فلا شك أن تغطية الوجه أمرٌ فاضل بالاتفاق وأن على القول عند من يقول بجواز كشف الوجه أمرٌ مفضول وليس من النصح لا لله ولا لرسوله صلى الله علية وسلم ولا للمسلمين أن يحاول أحدٌ أن ينقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول على القول بأنهُ يجوز [ واضح ](6/75)
ثم قال ربُنا جلّ وعلا ( ولا يُبدين زينتهُن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أُلي الأربة من الرجال أو الطفل)
في نقطة هُنا مهمة جداً .. القرآن حتى تفهمه لابد أن تستصحب أمور عقلية ونقليه فالتمسك فقط بالحرفية لا يُؤدي إلى علم بدليل : لو جاء إنسان هُنا وقال يجوز للمرأة أن تظهر شبه عارية أمام أبيها هل يقول بجواز هذا أحد ؟ تكلموا أنتم . لا يقول بهذا أحد قال يا أخي الله يقول جعل الزوج كماذا ؟ كالأب.
لكن لابد أن نفرق ما أذن الله به للبعل غير الذي أذن الله به للأب وما أذن الله به للأب غير الذي أذن الله به للخال والعم وابن الأخ وما أذن الله به للخال والعم وابن الأخ غير الذي أذن الله به للأربة والطفل [ واضح ] فكلٌ بحسبه و إلا تجرأ على كلام الله من لا يفقه فيه لكن الإنسان يستصحب أشياء عديدة ولذلك الشرع يُؤخذ بنظرة كُلية تُعرف مداركه وطرائق العلم فيه قبل أن يتكلم الإنسان فيه بدين الله . ليس القرآن معاني كلمات تُقرأ وينتهي الأمر .
القرآن أجلّ وأعظم من ذلك و إلا لغاص في هذا العلم كلُ أحد ، فنقول هذه قضية يجب استصحابها وفهمُها
استثنى الله جلّ وعلا . قُلنا البعل في لغة العرب هو السيد ويُطلق على الزوج والآباء وغيرهم معروفون لكن تُلاحظ أن الله ما ذكر طائفتان ، ما ذكر الله طائفتين من هما ؟ الأعمام والأخوال وقد قال العلماء أنهم يجرون مجرى الآباء وهذا اتفاق يعني الأمة أجمعت على جواز إبداء الزينة للأعمام والأخوال(6/76)
استثنى الله جلّ وعلا كذلك ( أو ما ملكت أيمانهنّ أو التابعين غير أُلي الأربة من الرجال (وأهل العلم يقولون أنهُ يجوز لرجل ــ لعلي ارجع المعنى بتعبير أصح ــ يجوز لذكر أن يرى أمتُه لكن لا يجوز للمرأة أن ترى عبدها [ واضح ] يعني المرأة الأمة تُبدي زينتها لسيدها [ واضح ] لكن المرأة الحُره لا تُبدي زينتها لعبدها [ فهمتم وإن قال بهذا طائفة لكن هذا بعيد
) أو التابعين غير أُلي الأربة من الرجال ( شوف من كلمة التابعين يعني هؤلاء ناس لا يدرون أين يذهبون ضُعفاء إما عقلياً أو جسدياً لأن أصلاً أيُ تابعٍ فيه ضعف طبعاً يأتي إنسان يقول أنل تابعٌ لله فيّ ضعف نعم فيك ضعف ، ضعف بشري خلقي لأن لولا الله لهلكنا ، تابعٌ لنبي صلى الله علية وسلم نعم تابعٌ لنبي صلى الله علية وسلم لماذا ؟ لأنه ضعيفون نحن ُهدياً لأنه لولا سنتهُ ما عرفنا الدين مع غيرهما ضعف عقلي لا يكون الإنسان تابعً في كل شيْ محال لا يوجد أحد نمشي ورائه في كل شيء إلا إذا كان هذا المضي مقيد بكتاب وسنة.
هؤلاء الله يقول ( أو التابعين غير أُلي الأربة ) قومٌ يتبعون ، يدخلون معك الدار ضُعفاء عقليا وجسدياً ليس لهم رغبةٌ في النساء . قد تأتي عشرات الكلمات الآن العامية في لسانك لكنها لا تُقال في محفلٍ مثل هذا لكن نكتفي بتعبير القرآن ( أو التابعين غير أُلي الأربة ) ما الأربة ؟ الحاجة ( وليَ فيها مآرب أُخرى ) أي حاجات أُخر يعني ليس له مطلب في النساء لا من قريب ولا من بعيد بصرف النظر عن السبب .(6/77)
(غير أُلي الأربة من الرجال أو الطفل ) هذا اسم جنس ) الذين لم يظهروا على عورات النساء ( هذا قيد لا بد منه الذين لم يظهروا على عورات النساء ليس مجرد الطفل فلا تأتي لإنسان قبل البلوغ بثلاث أيام تُكشف المرأة عنده تأخذ راحتها في المضي أمامه والغدو وإذا سألناها تقول هذا ما بلغ خمسة عشر هذا يميز ، يفهم وإنما قال الله ) الذين لم يظهروا على عورات النساء ( وهذا تقديرهُ في السابعة ، في الثامنة ، في التاسعة على الأكثر لكن إذا كان الفتى والصبي يميز ويفهم ويصف وينقل فلا يجوز للمرأة أن تُبدي زينتها أمامه .
) أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجُلهنّ ليُعلم ما يُخفين من زينتهنّ(
هذا كلام رب العزة وهو دليل عظيم وظاهر لمن قال بأن تغطية الوجه عوره فإذا كان الساق وهو ساق أمر الله بإخفائها ولم يأمر فقط بإخفائها أمر بعدم إحداث صوت، ما يوضع في القدم يُسمى خلخال وما يُوضع في اليد يُسمى سوار وما يُوضع في الإصبع يُسمى خاتم وما يُوضع في الرقبة يُسمى عقد ، هذه الأصوات لا يجوز أن تُخرجها المرأة فيُعلم فيكون ذلك سبباً في تحريك شهوة الرجال إليها . والدين ـ قاعدة ـ لا يُفرق بين متماثلين ولا يجمع بين نقيضين . الدين الشرع لا يُفرق بين متماثلين ولا يجمع بين نقيضين فلا يُعقل أن يمنع الله المرأة أن تُحدث صوتاً من خلخال قدمها ثم يأذن لها أن تكشف وجهها وإن كُنا نقول يعني كلامنا هذا كلام المفسرين كلام العُلماء ليس كلام الله عشان نتحرز .
( وتوبوا إلى الله جميعاً أيُها المؤمنون لعلكم تُفلحون )
صدرُ الآية لمن ؟ أجيبوا ( قُل) الخطاب لمن ؟ لنبي صلى الله علية وسلم ( وتوبوا ) الخطاب لمن ؟ للمؤمنين والمؤمنات هذا الانتقال في الخطاب من المفرد إلى الجمع تُسمى عند البلاغيين / الإلتفات / ماذا يُسمى ؟ الالتفات . ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيُها المؤمنون لعلكم تُفلحون )(6/78)
التوبة وظيفة العُمر ولهذا قال الله ( جميعاً ) ولم يستثني أحداً ولما ذكر الله تبارك وتعالى هذه الأحكام علِم جلّ وعلا أن عباده وأن حرصوا على الإمتثال بها إلا أنه لن يخلوا أن يقع منهم شيء فدلهم جلّ وعلا على ما يجبر ذلك الكسر وهو التوبة إلى الله جلّ وعلا كما كررتُ مراراً وظيفة العُمر وأفضل القُربات وهي مشروعة في كُل آن وحين بها يُزدلف إلى الله ويُتقرب إليه..
رزقنا الله وإياكم الاستغفار والتوبة والإنابة إليه أينما كُنا وحيثُما ارتحلنا
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يُحبه ويرضى وأن يُلبسنا لباسيِ العافية والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله . والحمد لله رب العالمين ......
تفريغ سورة النور من 32 إلى 38
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأراد ما لعباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدً عبده ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
ما زلنا نشرع بعون الله تعالى في تفسير سورة النور سائلين الله أن يرزقنا وإياكم نوراً نهتدي به . قال الله جلّ وعلا وهو أصدق القائلين ( و أنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمآئكم إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ واللهُ واسعٌ عليم)(6/79)
هذه الآية جاءت تبعاً لما قبلها، وما قبلها ذكر الباري جلّ وعلا فيه ما يدعوا إلى غض البصر وحفظ الفرج وتحصين العورات وقد جاء القُرآن مسلسلاً ذلك الأمر تسلسلاً منطقياً حسب أحوال الناس فمنع الله جلّ وعلا دخول البيوت بلا استئذان وأمر بغض البصر ثم أمر بحفظ الفرج ثم حتى تكون هُناك نواة لمجتمع مسلم لابد من وجود أسرة ، وبعض أهل العلم والفضل يقول إن هُناك أمرين لابد للإنسان أن يطّلع شرعياً عليهما وهما : أحكام النكاح وأحكام البيوع لأن الإنسان في حاجة إلى الغذاء الذي يتحصل علية عن طريق الأخذ والعطاء وبحاجة إلى أن يكون لهُ أسرة ويعبرون عنه بالنكاح أو بالزواج أو بالأنثى فيحتاج إلى أن يكون ذا علم بأحكام النكاح وهذا من باب الجملة .
الرب جلّ وعلا هُنا يقول
(وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمائكم )
هذا أمر ووجود فعل أمر لابد أن يكون هُناك مأمور فالسؤال من المأمور أولاً بهذه الآية ؟
المأمور بهذه الآية قطعاً وفق قواعد اللغة هم الأولياء والسادة وليس كل خصيصة أحدٍ نفسه لأنه لو كان المأمور كلُ أحد بنفسه لجاء الفعل" وانكحوا " من غير همزة قطع لكنّهُ جاء هُنا بهمزة قطع ( و أنكحوا ) وهذا في المقام الأول يُخاطب به الولي ويُخاطب به السيد من لديه عبيدٌ وإماء .
قال ربُنا
(وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمائكم )
الأيامى يدخلُ فيه الرجال والنساء والأصل أن الأيّم هي من لا زوج لها أو فقدت زوجها ثم اُستخدمت مجازاً أو استعارة أنتقل الأمرُ إلى الرجال فأصبح يُطلق على الرجل أ و المرأة إذا كان أحدهما لا أُنثى له إن كان ذكراً ولا ذكر لها إن كانت أُنثى يُطلق عليها أو عليه أيّم أي أنه خالٍ من فراش الزوجية والأصلُ إطلاقه على النساء وهو الأكثر وقد جاء في أبيات شعر :
وأزواج سعدٍ ليس فيهنّ أيّمُ(6/80)
وهو بيت قُدح فيه بسعدٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ابن أبي وقاص فدعا على من قال فيه هذا البيت فداهمهُ جملٌ شاردٌ فقتله ، موضوع الشاهد كلمة
" أيّم " فالأيامى جمع أيّم وهذا خطابٌ للأحرار والدليل أنه خطاب للأحرار أن الله قال بعده ما يتعلق بالأرقاء والمماليك من العبيد و الإماء فقال جلّ ذكرهُ ( وانكحوا الأيامى منكم ) أي زوجوهم والنكاح اتفقت كلمة العُقلاء على أنه أفضل وأعظم المباحات ظهوراً فالمباحثات يُتردد فيها منها ما اُتفق على أنه مباح ، ومنها ما اُختلف فيهن ومنها ما يدور حول الكراهة ، لكن الإجماع منعقد على أن النكاح من أفضل المباحات ظهوراً من حيث الحكم الشرعي جعله الله سنة من سُنن الأنبياء والمرسلين كما قال جلّ وعلا
( وجعلنا لهم أزواجاً وذرية ) والنبي علية الصلاة والسلام يقول في حق من تبنى هدياً غير هديه أو استحدث هدياً غير هديه قال علية الصلاة والسلام
" وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " قال قائل من العرب في شواهد شعرية نحوية شهيرة الذي يُعنينا منها هُنا ليس قواعد الشعر القواعد النحوية لكن قوله :
سلام الله يا مطرٌ عليها *** وليس عليك يا مطرُ السلام ُ
فإن كان النكاحُ أحلّ شيءٍ *** فإن نكاحها عمراً حرامُ
فطلقها فلست لها بكفءٍ *** و إلا يعلو مفرقك الحسامُ
موضوع الشاهد قوله : فإن كان النكاحُ أحلّ شيءٍ .
النكاح أعظم ما أباحه الله جلّ وعلا لعبادة يترتب علية مصالح عظيمة وقد قال بعض الفقهاء إن النكاح تدور علية الأحكام الفقهية الخمسة والعلم عند الله .
قال الله ( وانكحوا الأيامى منكم ) نكاح الإماء والعبيد جاء مقروناً مقيداً بقوله جلّ وعلا ( والصالحين ) واختلفت كلمة المفسرين في المقصود بمعنى الصالحين هُنا على قولين :
قولٌ أن الصلاح المقصود به الصلاح الإيماني الصلاح بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات وهذا ظاهر الرأي .(6/81)
وقال آخرون وهو الذي أُرجحه أن المقصود أنهم صالحون لنكاح صالحون لأن يفتحوا أُسرا صالحون لبيت الزوجية لأن الصلاح الأول عام لا يُمكن تخصيص الإماء والعبيد فيه دون الأحرار لكن الثاني يحسُن التخصيص لماذا ؟
لأن الإنسان إذا رأى في عبده أو أمته قُدرة على النكاح وإقامة بيت زوجية رغّبه في ذلك الأمر و إلا فالأصل يُبقيه على ما هو عليه من نطاق الرق له.
قال الله جلّ وعلا :
(و أنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمآئكم إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ )
هذه الآيات توافق ما كان عليه الناس آنذاك فالنبي علية الصلاة والسلام ورث إبراهيم علية الصلاة والسلام نبوته ، على هذا العرب في جاهليتها كانت تخشى الفقر وكانت تظن أن من أسباب الفقر كثرة العيال . قال الله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحنُ نرزقهم وإياكم ) والمقصود في ظل هذا الجو المشحون الخائف من الفقر عند فتح باب الزوجية إذا كثر العيال وتغير الحال
قال الله جلّ وعلا
(إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ)
والمعنى أيُها الولي إن أتاك فقيراً يطلبُ نكاحاً وكُنت تثق في دينه وأمانته فلا يردنك كونه فقير ، فلا يجعلنك كونه فقيراً أن تردهُ وإنما أعطه . قال الله (إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ ) والنظر في قول الله جلّ وعلا (إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ ) لا خلاف على أن الجملة شرطيه وإن أداة شرط وأدوات الشرط تنقسم إلى قسمين إلى أحرف وهي(6/82)
" إن " وإلى أسماء مثل " متى، وأين ، وأنّ ، ومن " هذه أدوات شرط لكنها أسماء أما إن فهي حرف ، هذا الشرط ُ اختلف الناس في فهمه هل المعنى أنه وعد من الله جلّ وعلا أن المنكح المتزوج إذا كان فقيراً يُغنيه الله قطعاً أو أن المقصود منه لا يمنعنكم كونه فقيرٌ من أن تردوه وهذا الذي تميل إليه النفس وإن كان الأكثرون على الأول من أهل التفسير ولهم حُججٌ ظاهرة بينه أظهرها أن النبي صلى الله علية وسلم ذكر الذين حقٌ على الله أن يُغنيهم ويُعينهم وذكر منهم الناكح الذي يُريد العفاف وذكر منهم المكاتب وذكر منهم المجاهد هذا قول نبيُنا صلى الله علية وسلم وقد أجاب القائلون بهذا القول عن ما وجّه لهم من سؤال أننا نرى واقعاً والواقع لا يُمكن رده لأن الواقع في كل عُرف أهل العقل في كل ذي عرف الفضلاء والعُقلاء الواقع أعظم الشروط والجيل لا يُمكن أن يُصادم الواقع أبداً وقد ألف شيخ الإسلام } درء تعارض العقل والنقل { والمقصود بالعقل في المقام الأول الشيء المشهود ــ الواقع ـ لأنه لا يُمكن أن يُطالب الناس بأن يتخلّوا عن أعينهم وبصيرتهم ويمتنعوا عن قبول الشواهد التي يرونها عياناً فأجاب هؤلاء الفُضلاء عن القول بأننا نرى ممن ينكح وهو فقير ولا يغتني ؟ قالوا إن هذا مقيد ، الإطلاق في سورة النور مقيد بنظائره في سور أُخرى ( وسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) في سورة التوبة فقالوا هذا القيد يسري على هذا لكن صناعة الأصول تقتضي عدم حمل هذا التقييد في هذا الإطلاق لاختلافهما في السبب واختلاف السبب لا يجري أحكام الإطلاق والتقييد على منحىً واحد وإن كان المسألة أخذٌ وردٌ بين العُلماء لكننا هُنا نُثير القضية بمجملها ولا يُلزمنا الفصل لكنني قُلت أختارُ أن المسألة المقصودة من الآية أن المخاطب الولي والمراد لا يمنعنك فقر ذلك الرجل الطالب النكاح أن تردهُ لفقره لأن الدنيا عرض زائل ولا ينبغي أن يمنعك ذلك .
ثانياً : إن فضل الله واسع .(6/83)
لا يعني هذا أنه لا يُعان لكن من الصعب أن نقول إن هذا وعدً ربانيناً من الرب تبارك وتعالى لكن نقول إن أسلوب المقطع هذا في نفس الآية لا يُساعد على القول أن يكون وعدً من الله )إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ واللهُ واسعٌ عليم (.
ثم قال جلّ شأنه :
) و ليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يُغنيهم الله ُ من فضله(
الألف والسين والتاء لطلب ) وليستعفف( يطلبون العفة في حالة عجزهم عن تحقيق أمر النكاح . ما سبب العجز ؟
هُنا المقصود به السبب في الوصول إلى فتح باب الزوجية إما لفقر وهو الأظهر وإما لحالة اجتماعية يمنع من خلالها الناس أن ينكحوه وأمثال ذلك .
ولا يمكن لنا أن نقيد ما أطلقه القرآن لأننا إذا قيدنا ما أطلقه القرآن لم نجعل هذا القرآن حاكماً على كل زمن والأصل أن القرآن حاكمٌ على كل زمن ومهيمنٌ على كل كتاب ومثال ذلك :
قد يخرج إنسان من السجن وهو مُتيأُ شباباً وثري عنده مال ومع ذلك لا يُنكح ولا يُعطى من أهله أو من قبيلته أو أبناء جلدته فلو حاصرنا أن عدم الوصول في النكاح محصوراٌ في المال. ماذا سنقول في هذه الصورة ؟ هل نقول أنها غير موجودة في القرآن ، لكن قول الله ( فسوف يُغنيهم الله من فضله ) كلمة واسعة بمعنى إن كانوا فقراء سيغنيهم وإن كان عارضٌ آخر سيزيل الله جلّ وعلا ذلك العارض وقد قُلنا مراراً أن المفسر للقرآن يحتاج إلى تأني وتريث وإطلاع على أحوال الناس قبل أن يخوض في الحكم على آيات الله ويبين مراد الرب تبارك وتعالى منها .
( وليستعفف) ما الطريقة في الاستعفاف ؟
مفتوحة أي أن الناس تختلف لكن هُناك طريقة منصوصاً عليها وهي ما أخبر بها النبي صلى الله علية وسلم عندما قال " فمن لم يستطع منكم فعليه بالصوم فِإنه له وجاء" أي مانع والمقصود أن الإنسان أدرى بنفسه فكل ما يستطيع أن يعفّ به نفسه فليفعله .
قال الله تعالى(6/84)
( و ليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يُغنيهم الله ُ من فضله ) ثم قال ربُنا ( والذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً )
هذا استطراد لمّا ذكر الله العبيد والإماء في المقام الأول نبّه جلّ وعلا على أحد الأساليب التي يكون بها العبيد والإماء أحراراً ، فقال ربُنا (والذين يبتغون) يطلبون ( الكتاب ) أي يطلبون الحرية عن طريق المكاتبة والأصلُ أن العبد وما ملك ملكٌ لسيده فإذا كان هذا العبدُ صاحب حرفة تدرّ عليه مالاً فإن الله جلّ وعلا يضع صورة من صور المكاتبة ألا وهي أن يطلب العبد من سيده أن يُكاتبه والمكاتبة على وزن مفاعله وهي أمرٌ يخصُ بين اثنين فيقوم هذا العبد بصنعته تلك يجمع مالاً في المقام الأول ويمكن أن يستفيد مالياً من طرائق أُخر ثم يجعل هذه الأموال منجمة على أقساط تُقدم لسيده على أقساط يتفقون عليها وقتاً وزمناً ويحددونها مالاً فإذا أتم العبدُ ما أشترطه عليه سيده أصبح بعد ذلك حُراً
قال ربُنا يُفصّل ذلك كله )والذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم(
) ممّا( مدغمه من زائد وما أي من ما ملكت أيمانكم و) ملكت( ملك اليمين يُكنى به عن الأرقاء الذين تحت أيدينا ) ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا(.
) إن علمتم فيهم خيراً (
أي إن علمتم أن لديهم حرفة يستطيعون بعدها إذا أصبحوا أحراراً أن يدرّوا بها على أنفسهم أما إن لم تعلموا فيهم الخير فلا تجعلوهم عُرضةً لأن يكونوا أحراراً فيتكلوا على أوساخ الناس ويأخذوا من الصدقات وأمثالها ويمتهنوا التوسل ، لكن قال أهل العلم ولا أعلم في هذا خلاف " لو فرضنا أنه لم يعلم فيه خيراً لا يوجد مانعاً من أن يُكاتبه " .
)فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ( ثم قال ربُنا ) وءاتوهم من مال الله الّذي ءاتاكم ( اختلفت كلمة المفسرين في من المخاطب بقوله جلّ وعلا(6/85)
( وءاتوهم ) على ثلاثة أقوال واجمعها أن نجمع بين الأقوال الثلاثة لأن الآية تحتمل ذلك كله فنقول إن المخاطب به
* ولي أمر المسلمين والسيد وعامة الأثرياء وأصحاب الزكوات والصدقات من المسلمين
ـــ أُعيد ــ
ولي أمر المسلمين والسيد وعامة الأثرياء وأصحاب الزكوات والصدقات
تنزيل الأمر عليهم يكون على النحو التالي :
أما ولي الأمر فيعين العبد المكاتب من بيت مال المسلمين
وأما السيد فهذا يُعينه بأن يُسقط عليه أحد ما اتفقوا عليه من التنجيم أو أكثر
وأما أصحاب الثراء والمال فإنهم يعطونه من الزكوات أومن الصدقات
وإجراء الكلام على هذا المنوال أفضل من تخصيصه لأن الله أطلقه وقد قُلتُ من الصعب أن نُقيد ما أطلق الله .
( وءاتوهم من مال الله الّذي ءاتاكم )
ثم قال ربُنا
( ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناًً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يُكرههّن فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم )
نقول أولاً لا يأتين في ذهنك أن مجتمع المدينة في عهد النبوة كان البغاء فيه ظاهر فحريٌ بتلك الحقبة زماناً ومكاناً أن تتحرر في أذهاننا أنها أفضل حقبة وأن ذلك الجيل أمثل جيل وأكمل رعيل لكن هذه فئة من المنافقين كانت تسكن المدينة على رأسهم عبد الله ابن أُبي وكان لدية جاريتين يُكرههّن على البغاء وورد أنهنّ اشتكينهُ إلى النبي صلى الله علية وسلم فأنزل الله جلّ وعلا هذه الآية رحمة بالفتاتين وتوبيخاً لعبد الله ابن أُبي . فالله يقول له كيف تقبل وأنت سيد ، الأصل فيك أن تُحافظ على من تحت يديك على أن تُكرههّن على البغاء وهن أنفسهن لا يُردنه وإنما يُردن التحصّن و إلا لو طلبت المرأة البغاء بذاتها فهذا أصلاً لا يُسمى إكراه(6/86)
فالقيد هُنا جاء مخاطباً للواقع والقيد إذا جاء مخاطب للواقع يُصبح لا مفهوم له لا ننظر إلى ما يُخالفه كيف ننظر إلى ما يُخالفه ؟ لو اعتبرناه قيد له مفهوم لأصبح لزاماً أن نقول يجوز أن يكون هناك بغاء من غير إكراه لكن هذا القيد لا مفهوم له كقول الله جلّ وعلا في حق ذاته العلية ( ومن يدعوا مع الله إله آخر لا بُرهان له به فإنما حسابه عند ربه ) لا يعني ذلك أنه يجوز أن تدعوا إله آخر لك فيه بُرهان لماذا؟
.لأنه لا يوجد إله غير الرب تبارك وتعالى [ واضح ] هذا قيدٌ مخاطب للواقع .
(ومن يُكرهُنّ فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم )
قُلنا المخاطب بهذا هاتين الفتاتين على وجه الخصوص من كان مثلهما ممن لم يأتي النبي علية الصلاة والسلام و يشكي إليه ودخول المخاطب بسبب النزول يدخلُ دخولاً أولياً عند الجمهور ومالكٌ يرى أن دخولهم من نزلت بسببهم الآية يدخلُ دخولاً ظنيناً وهذا لا يتضحُ هُنا لكن سيتضح في آية الأحزاب في قول الله جلّ وعلا ( إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيرا) هل تدخل أُمهات المؤمنين أو لا يدخلن هُنا يتضح المسألة قال في المراقي:
واجزم بإدخالٍ ذوات السببِ *** وانقل عن الإمام ظناً تُصبِ
واجزم بإدخالٍ ذوات السبب هذا مذهب الجمهور
وانقل عن الإمام ظنا تُصبِ يقصد مالك
أي أن الإمام يرى أن دخولهم دخولا ظنياً في حين أن الجمهور يرى أن دخولهم دخولا قطعيا وقد قلت أن هذا لا يتضحُ لك هنا بجلاء يتضحُ لك إن شاء الله في حينه بسورة الأحزاب
ثم قال الله تبارك وتعالى
( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلو من قبلكم وموعظةً للمتقين((6/87)
نقف عند قول الله جل وعلا )ومثل من الذين خلو من قبلكم ( القران ذكر الله فيه جل وعلا براءتان براءة مريم وبراءة يوسف ثم ذكر الله في هذه السورة الكريمة براءة عائشة فهذا معنى قول الله على الأظهر ( ومثلا من الذين خلو من قبلكم ) أما قول ربنا قبلها ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ) و قوله جل وعلا )و موعظةً للمتقين( هذا مضطرد موعظة القرآن موعظة لكل مؤمن في أي زمان وفي أي مكان وهذا ظاهر
ثم قال الله جل وعلا
) الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زُجاجه الزُجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تمسسه نار نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضربُ الله الأمثال لناس والله بكل شيء عليم(
نقول هنا نستصحب قولا أو نستشهد بقولا لابن القيم رحمة الله والكلام إذا كان نفيسا حسنٌ أن يُستشهد به بصرف النظر عن قائلة فمن عُرف فضلهُ و إمامتهُ زاد ذلك الأمر قبولا عندك وعند الناس
قال ابن القيم رحمة الله : قال الله جل وعلا من أسمائه النور ومن أوصافة النور و حجابة النور وكتابة النور وشرعه النور ورسوله النور والجنة التي وعدها عبادة نورا يتلألأ هذا فتح باب في القبول (واضح)
(الله نور السماوات و الأرض ) قال العلامة ابن السعدي رحمة الله علية في تفسيره نور السماوات و الأرض حسا ومعنى ( الذين اهتدوا) اهتدوا بماذا ؟ بنور الله
و الأرض والسماوات إنما تشرقان بنور الله واستنار بنور الله حتى العرش و أركان العرش فا الله جل وعلا نور السماوات و الأرض حسا ومعناً
ثم ضرب الله المثل والمثل جرت العرب في كلامها أنها تضرب الأمثال بثلاثة أسباب :
ــ اكتبها لان هذا يعني لزاما من غير أمر ــ
الثلاثة الأسباب التي من أجلها ذكرت العرب أمثالها في كلامها شعراً ونثرا
إصابة المعنى
إيجاز اللفظ
وحُسن التشبيه
وبتعبير أصح ـ نالت العرب بالأمثال أموراً ثلاثة :J(6/88)
إصابة المعنى وإيجاز اللفظ وحُسن التشبيه ، على أن من نظم العرب في كلامها أنها إذا قالت المثلَ لا ترى أن أحد يملك الحق غي تغييره فالمثلُ يُقال كما قيل أول مره تسمعون بالمثل = الصيف ضيعت اللبن=
هذا المثل يُقال بهذه الطريقة خاطبت به ذكراً أو خاطبت به أُنثى خاطبت به فرداً أو خاطبت به مثنىً أو خاطبت به جماعه ويقولون أصلهُ أن امرأة كانت تحت رجلٌ طاعن مسنً لكنه ذا مال فأصرت علية أن يُطلقها فطلقها في الصيف فتزوجها شابٌ من بني قومها لكنهُ كان فقيراً فذات يومٍ أمسيا هي وزوجها فقيرين فرغبت في اللبن فبعثت إلى زوجها الأول تطلبهُ لبناً فلما وصل المبعوث المرسول إلى الزوج الأول قال له إن فلانه تطلبُك لبناً فأجابه = الصيف ضيعت اللبن = لماذا قال الصيف لأن الطلاق كان في الصيف وهو نظر الزمان لأجل ذلك جاء مبني أياً كان المثل يُقال كما هو والعرب لها أمثالها والله جلّ وعلا ساق الأمثال في القرآن وقال في خاتمة هذه الآية ( ويضرب الله الأمثال لناس والله بكل شيء عليم ) وضرب الله أمثله كثيرة في القرآن وقال جلّ وعلا ( إن الله لا يستحيى أن يضرب مثل ما بعوضةً فما فوقها )
نعود لنور قال ربُنا ) الله نور السماوات والأرض ) وبينا كلام ابن القيم في القضية والنبي صلى الله علية وسلم نورٌ بنص القرآن ذكر الله جلّ وعلا في كتابه أنه نور وقد جاء في مدحه علية الصلاة والسلام عند من يقول بصحة نسبة قصيدة كعب ابن زُهير وهي قصيدةٌ لا يملك أحدٌ الجزم بصحة سندها لكن تواترها وانتقالها ما بين أهل السير والأخبار والآثار وقبولهم لها يدلُ على أن لها أصلً عظيماً وكعبٌ هذا من عائلةً أصلاً ذاتُ شعر كانت بينه وبين النبي صلى الله علية وسلم عداوة أهدر النبي علية والسلام دمهُ دخل المدينة وأنشد بين يدي رسول الله :
بانت سُعادٌ فقلبي اليوم متبول ُ *** متيمٌ إثرها لم يُفدى مكبولُ
وما سُعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلا أغنوا غضيض الطرف مكحولُ(6/89)
تجلوا عوراض ذي ظنً إذا ابتسمت *** كأنه منهلٌ لراح معلولُ كانت مواعيد عرقوب لها مثلا *** وما مواعيدهُ إلا الأباطيلُ
إلى أن قال :
إن الرسول لنورٌ يُستضاءُ به *** مهندٌ من سيوف الله مسلولُ
هذه روايات ابن قُتيبه وأمثاله ، في روايات أُخر :
إن الرسول لسيفٌ يُستضاءُ به
الذي يعنينا الرواية الأولى لأنها هي التي تتفق مع ما نحنُ فيه :
إن الرسول لنورٌ يُستضاءُ به
فالنبي صلى الله علية وسلم نورٌ قطعاً وما جاء به النور وكان يسأل من ربه النور خاصةً إذا خرج في ممشاه إلى الصلاة وإذا قام من الليل كل ذلك ثابتٌ عنه صلوات الله وسلامه عليه
.(6/90)
قال الله ( مثل نوره ) هذا تقريب ( كمشكاة فيها مصباح ) المشكاة على الأظهر تكاد تجتمع الكلمة عليها أنها الكوة التي في الجدار ( المصباحُ في زجاجة ) لكننا في زماننا نُطلق المصباح عليه كله على الجرم كامل لكن الآية لا تقصد الجرم كامل لماذا؟ لو كان يقصد الجرم كامل لا يصُح أن يُقال المصباح أين؟ في الزجاجة ما يصح أن يقال المصباح في زجاجة لكنفي زماننا هذا نحنُ نُطلق المصباح على الجرم كامل أما في لغة القرآن فالمصباح المراد به الفتيلة وهذا ظاهر لأن الله قال بعدها ( كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زُجاجة ) والزجاجة أين تقع أو الفتيلة أين تقع ؟ داخل الزجاجة ( المصباحُ في زجاجة الزجاجة كأنها كوكبٌ دري ) لصفائه لنقائه ( يوقد من شجرة مباركة ) فالله يشهد أن هذه الشجرة مباركة أي كثيرة الانتفاع ) زيتونة ) هذا تبيين لنوع ماذا ؟ الشجرة لأن الشجر المبارك كثير لكن لما قال الله ) زيتونة ( عرفنا أنها شجرة الزيتون وأهل التاريخ يقولون إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ودعا لها بالبركة سبعون نبياً وموطنها الأرض المقدسة في الأرض المباركة في موطن الأنبياء موطنها الأول في الشام الله يقول هذا الزيتُ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ) والشجرة الشرقية ) هي التي لا تتعرض لشمس في حالة الغروب والغربية عكسها وأما الشجرة التي تتعرض لشمس دائماً فهذه تُسمى لا شرقية ولا غربية
قال الله تعالى ) لا شرقية ولا غربية يكادُ زيتُها يضيء ولو لم تمسسهُ نار ( ثم قال الله ) نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء(
وأظهر جملة خاصة الأمر الكوة قلب المؤمن المشكاة قلب المؤمن ويجتمع فيه نوران نور الفطرة ونور الوحي والعلم من عند الله ففطرتهُ ظاهرة عليه وهذا معنى قوله جلّ وعلا ) يكادُ زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار )( نور على نور ( نور العلم الوحي الإيمان على نور الفطرة ) يهدي الله لنوره من يشاء ((6/91)
لماذا قال الله ( يهدي الله لنوره من يشاء) ؟
حتى لو قال قائل إن الأمر جاري واضح فنحن نهتدي بأن الأمر واضح فأخبر الله جلّ وعلا بأن ليس الأمر كذلك وإن كان واضحاً جلياً قال بعدها( يهدي الله لنوره من يشاء) وقد قدمنا في عدة دروس لنا أن الإنسان ينبغي علية أن يُدرك أن أي مقصود لا يُطلب إلا بالرب تبارك وتعالى ( يهدي الله لنوره من يشاء ويضربُ الله الأمثال لناس والله بكل شيء عليم )هذا مُجمل ما دلت علية الآية بعض أهل العلم ينحى منحىً أخر في تفسير الآية فيعدل عن ظاهر القرآن ويقول أن المقصود به النبي علية الصلاة والسلام وأن المشكاة هو إبراهيم علية الصلاة والسلام وأن قول الله جلّ وعلا ( لا شرقية ولا غربية ( اليهود يُصلون جهة المغرب والنصارى يُصلون جهة المشرق ويقولون قصد بقوله ) لا شرقية ولا غربية ( أي لا يهودياً ولا نصرانياً وأن النبي علية الصلاة والسلام أخذ هذا من الشجرة المباركة التي هي إبراهيم بوصفه أباً لأكثر الأنبياء ، هذا القول من حيث معناه صحيح أن النبي علية الصلاة والسلام ليس يهودياً ولا نصرانياً ووارث إبراهيم ومتبعهُ هذا لا خلاف فيه لكن القول إن هو المقصود بالآية بعيدٌ جداً لابد أن تكون هُناك آله متفق عليها في التعاون مع آيات الكتاب ولا يحقُ لنا ولا لغيرنا أن نُغير من الآلة التي نتعامل بها في آيات الكتاب حتى نصل إلى مقصودنا على أنه ينبغي أن يُعلم أن المعاني أحياناً تكون صحيحة لكن الوصول إليها يكون بطريقة خطأ فلو أصاب إنسانٌ في المعنى لا يعني ذلك ضرورة أنه أصاب في الطريقة التي يتوصل بها إلى المعنى
قال ربُنا
) الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح ُفي زُجاجة الزجاجةُ كأنها كوكب ُدريٌ يوقد من شجرة مباركةٍ زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تمسسهُ نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضربُ الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ((6/92)
بينّا قضية المثل في القرآن وأن الله جلّ وعلا ذكرهُ في أكثر من آية في كتابه هذا النور أين مضانّهُ أين أجده قال الله بعدها ( في بيوت أذن الله أن تُرفع ) أتضح المعنى الآن ، بعض العلماء أخذها حرفياً وجعل( في بيوت) معلقة بالمشكاة وتكلم عن المصابيح ثم قال هذا الكلام منتقض تاريخياً لأن مسجد النبي صلى الله علية وسلم لم يكن فيه مصابيح وهذا كلهُ نرى أنه لا حاجة لنا به وإنما الآية تتكلم عن نور الهداية ولهذا قال الله (يهدي الله لنوره من يشاء ) فإذا كان الإنسان بعد ذلك رغب فيما عند الله وعلم أن الله هو الهادي حُق له أن يبحث عن الأمكنة التي يجد فيها نفحات الله ونوره وهدايته فأجاب الله جلّ وعلا ( في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يُسبح له فيها بالغدو و الآصال) وهي المساجد ، والعُلماء بعضهم يقول إن هذه المساجد كلمة( بيوت ) محصورة في المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء وما المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء ؟ المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي ــ بقي واحد لا تذهبوا بعيداً ـ مسجد قباء فهذه الأربعة بناها الأنبياء والصواب أن يُقال الأمر على إطلاقه فالمساجد كُلها بيوت الله سواءً بناها الأنبياء أم لم يبنها الأنبياء (في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه ) نبّه الله جلّ وعلا على قسمين : عمارتُها مادياً وعمارتُها معنوياً
** عمارتُها مادياً بتشييدها وبنائها وحفظها مما يضر بها .
** وعمارتُها معنوياً بإقامة ذكر الله جلّ وعلا فيها .(6/93)
والثاني هُنا أشرف من الأول وفي كلٍ خير من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاه بنى الله له بيتاً في الجنة وأول بيت وضع في الأرض المسجد الحرام ثم وضع المسجد الأقصى ثم جدده أي المسجد الأقصى سُليمان ابن داود علية السلام وهو الذي تزعم إسرائيل اليوم أن تحته هيكل سُليمان ثم كانت بعثة النبي صلى الله علية وسلم فدخل المدينة من جهة الجنوب فبنى مسجد قباء في بني عمر ابن عوف فكان أول مسجد أُسس في الإسلام ثم أتى بطن المدينة فبنى مسجده علية الصلاة والسلام ولم تكن تُقام الجمعة إلا أين ؟ في المسجد النبوي ثم جاءه وفد علية الصلاة والسلام من الإحساء من هجر بحرين سابقاً ثم ارتحلوا عنه فصلوا في محافظة في الإحساء الآن تُسمى جواثا هذه جواثا صلوا فيها ماذا ؟ صلوا فيها الجمعة فالكثير من الفقهاء على أن ثاني جمعة أُقيمت في الإسلام أُقيمت في جواثا لأنه لم تكن تُقام الجمعة إلا في المدينة في مسجده صلى الله علية وسلم وأُقيمت بعد ذلك في جواثا في الإحساء ــ مررتُ عليها قبل شهرين لكنني لم يتيسر لي أن أدخُلها لكن مررتُ مجاوراً لها ـ وهي ديارُ علمٍ وفضل يقول أهلُهل مفتخرون :
والمسجد الثالثُ الشرقي كان لنا *** والمنبران وفصل القول في الخُطب
أيام لا مسجداً لله نعرفهُ *** إلا بطيبة و المحجوجُ ذو الحُجب
يقصدون المسجد الحرام ، والمقصود من ذلك هذه ـ يعني ـ تفصيل تاريخي عام عن المساجد في الأرض ثم بُنيت لله جلّ وعلا مساجد في كل مكان قال النبي صلى الله علية وسلم " من بنى لله مسجداً " هذه دعوةٌ صريحة صحيحة لتسابق أهل الخير والفضل في بناء المساجد.
الحالة الثانية عِمارتُها شرعياً ودينياً وأعظمُ ذلك إقامة ذكر الله جلّ وعلا فيها وهذا الذي قال الله فيه (في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه يُسبح له فيها)جلّ جلاله ( بالغدو والآصال ) يُنزه عما لا يليق به ويحمده الحمد الذي يستحقه ويُثني علية أقوامٌ رُكع سُجد(6/94)
قال الله عنهم ) رجالاٌ لا تُلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار(
كلمة رجال هُنا وإن جاءت نكرة إلا أنها مخصوصةٌ بالوصف الذي بعدها فالجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات وكلمة رجال نكرات فجملة) لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع( وصفٌ لكلمة رجال وقد قال بعض السلف ويُنسب لابن مسعود أن المقصود بالآية في المقام الأول أصحاب الأسواق قال الله )لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع ( ما الفرق بين التجارة والبيع ؟
التجارة العمل برؤوس الأموال بحثاً عن الربح فلما يُقال فلان تاجر عنده رأس مال ينجم أن يتضاعف أما البيعُ أخصُ من التجارة فلا يلزم في كل أحد يبيع أنه يُريدًُ ربحاً فالإنسان قد تضطره ظروف أحياناً لأن يبيع شيء غالٍ نفيساً عليه له عنده مقام أو ذكرى حميدة فيبيعهُ بأقل من قيمته وهو لا يُريدُ ربحاً وإنما يُريدُ أصلاً مالاً
وقد تُخرج الحاجات يا أم مالكٍ *** كرائمُ من ربٍ بهنّ ظنيني
والمقصود هذا الفرق ما بين التجارة والبيع والمشهدُ يتحقق إذا رأيت أهل سوق فإذا سمعوا المؤذن تركوا ما في أيديهم وتسابقوا إلى المسجد وقد ورد أن ابن مسعود رأى أقواماً بهذه الصنيعة فقال هؤلاء الذين عنى الله بقوله (رجالاٌ لا تُلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)
لكننا نعود للقاعدة التي أصلناها قبل قليل أن وإن دخل فيها هؤلاء الرجال دخولاً أولياً وهم أهل الأسواق إلا أنه لا يمنع من دخولِ غيرهم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وما عُمّرت المساجد بأكثر من أن يُذكر الله جلّ وعلا فيها.
و الغدو والآصال وقتان لكنه يظهرُ لي أنه ليس المقصود حقيقة الوقتين وإنما المقصود جملة الأناء من أطراف الليل والنهار .(6/95)
(يُسبح له فيها بالغدو والآصال* رجالٌ لا تُلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار * ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيد هم من فضلِهِ والله يرزُق من يشاء بغير حساب)
أعمال الناسُ يا بُني على ثلاثة أقسام :
عملٌ أذن الله به وأباحه ولم يأمر به فهذا يُسمى حسن
وعملٌ أمر الله به وتعبد خلقهُ به فهذا يُسمى أحسن
الأول حسن وهذا يُسمى أحسن
وعملٌ نهى الله عنه وحرّمه وهذا يُسمى قبيحٌ مستهجن(6/96)
فإذا كان يوم القيامة على أي الثلاثة يُجازون ؟ على الأوسط على الأحسن هُنا تفهم معنى الله ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) فلا يأتين أحد فيقول إن العبد يعملُ عملاً حسناً وعملاً أحسن منه والله جلّ وعلا يُكافئه على الأحسن فهذا من غير أن يشعُر نسب إلى الله الظلم والله يقول ( إن الله لا يظلم الناس مثقال ذره ) لكن نقول إن هذا الذي صنفناه على أنه أحسن هو في ذاته ماذا؟ مراتب عده [ واضح ] ـ أرجوا أن تكون قد وعيت المسألة ــ الذي في الوسط الذي حررنا على أنه أحسن هو في نفسه يكون مراتب ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) ولا يقتصر فضل الله على المجازاة على ما وعد أو على أعمالنا قال الله ( ويزيد هم من فضلِهِ ) جاءت منصوبة لأنها معطوفة على الفعل يجزي والفعل يجزي جاء منصوباً لأنه جاء مسبوقاً بلام التعليل (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيد هم من فضلِهِ والله يرزُق من يشاء بغير حساب)هذا بيان فيه لفضل الرب تبارك وتعالى وأن الله جلّ وعلا لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون وقد تحرر معنا كثيراً أننا نقول إن الله جلّ وعلا يُقدم من يشاء بفضلِهِ ويُؤخر من يشاء بعدله ولا يسأله مخلوقٌ عن علة فعله ولا يعترضُ عليه ذو عقلٍ بعقله .. ما بعدها من آيات تتكلم عن أعمال الكُفار لا يتسع الوقتُ للحديث عنها فنجملُ ما قد حررناهُ في تفسير الليلة فنقول ما سلف في الأول كانت آيات أحكام تكلمت عن النكاح وأحكام المكاتبة ثم بين الله جلّ وعلا بآية فصلت ما بين القضايا الفقهية والقضايا الإيمانية بأن الله أنزل هذه القرآن موعظة ومثلاً ثم تكلم الرب جلّ وعلا عن نوره الذي ملأ أركان عرشه ثم قرب هذا المثال لناس بشيء يرونهُ بين أيديهم ويقولون وقد مرّ معنا هذا فيما أذكر أن أبا تمام الشاعر العباسي المسمى حبيب ابن أوس الطائي دخل على أحد الخُلفاء فمدحه بقوله :
إقامُ عمر في سماحةُ حاتمٍ *** في حلم أحنف في ذكاءِ إياسِ ِ(6/97)
هؤلاء مشاهير من العرب أحنف في حلمه وإياس القاضي في ذكائه وعمر في شجاعته وحاتمٌ في كرمه ، أي إنسان يظهر خاصةً في بلاط الأُمراء يكون له حُساد فقام أحد الناس يحسُد أبا تمام وقد أصبح له موضع عند الخليفة فقال إن الأمير أكبر وأشرفُ ممن ذكرت تصفُ أمير المؤمنين بأجلاف العرب طبعاً من الآن يُدافعُ عن أجلاف العرب من يستطيع أن يقول في مجلس الأمير أن هؤلاء ليسُ أجلافً ! لا يستطيعون فقال أبو تمام مبشرةً يُدافع عن نفسه :
لا تُنكروا ضربي له من دونهُ *** مثلاً شروداً في الندى والبأس ِ
فالله قد ضرب الأقل لنوره *** مثلاً من المشكاة والنبراس ِ(6/98)
وهذه تدلُ على توقد ذكائه ويقولون أن الطبيب الكندي كان حاضرا فلما فتشوا في أوراق أبي تمام لم يجدوا فيها هذين البيتين بمعنى أن أبا تمام ارتجلهما مباشرة ليُدافع عن نفسه فقال هذا رجلٌ سيأكل الذكاء دماغه أو كلمة نحوها فمات أبو تمام صغيراً في الأربعينات أي ما شارف على الخمسينات عندما مات قد يكون هذا بسبب ذكائه كما يزعم هذا الطبيب والأصلُ أنه بقدر الله وقد يكون هُناك أسباب أُخرى لم يطّلع عليها الطبيب وآياً كان فتخلص أبو تمام هُنا تخلص عظيم لهذا وإن كان المقام مقام تفسير تعجب من يأتيك أحياناً من يحاول أن يكتُبَ شعراً وهو لم يقرأ شيئاً لا قرآناً ولا حديثاً ولا شعر العرب فمن أين تأتي دُرر ومعلومات وألفاظ حتى تستطيع أن تُحررها إلى أبيات هذا مُحال هذا كمن ـ لا أدري ماذا أقول ــ ماذا يطلبُ في أي شيء أخر أي علمٍ له صناعه له طرائق تدلُ عليه عدم الأخذ بأسبابها يحول بينه وبين الوصول والله يقول عن ذي القرنين ( وأتيناهُ من كل شيء سببا) فماذا فعل هذا الملك الصالح قال الله ( فأتبع سببا)فمن رام مجداً لابد أن يعلم أن لكل مجدٍ طرائق وسُبل تُوصل إليه فيأخذ بها متوكلاً على الله جلّ وعلا يرجوا من الله لتوفيق والسداد ، نقول إن الله جلّ وعلا ذكر المساجد وحُرمتها وأن أعظم ما يمكن أن يُقال فيها هو ذكر الله تبارك وتعالى .
فطر اللهُ قلبي وقلبكم على توحيده وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده ، في اللقاء القادم بإذن الله تعالى نُعرج على أعمال الذين كفروا ثم نذكر ما ذكر الله بعد ذلك من دلائل قُدرته وجليل صنعته في قوله تعالى ( ألم ترى أن الله يُجزي سحاباً ثم يُؤلف بينه ) إلى ذلك الوقت نسأل الله التوفيق والسداد والعون والقبول وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ......
تفريغ سورة النور من 39 إلى 45
بسم الله الرحمن الرحيم(6/99)
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيرهُ ولم يسعِ الناس غيرهُ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسله شرح الله له صدره ورفع الله له ذكره ووضع الله عنه وزره وجعل الذلةً والصغار على من خالف أمره صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ......... أما بعد
فنشرعُ في تكملة ما كنا قد بدأناه في اللقاء الماضي في سورة النور وكنا قد انتهينا عن نعت الله جل وعلا لعبادهِ المؤمنين ووعده إياهم بقوله ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) وفي هذا اللقاء المبارك يقول الربُ تبارك وتعالى ( والذين كفروا أعمالهم كسرابً بقيعة يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه لم يجدهُ شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب )هذه أمثال وقد مرّ معنا حاجة الناس إلى المثل وقُلنا أن العرب أرادت به ثلاثة أمور :
إصابة المعنى ، وإيجاز اللفظ ، وحسن التشبيه(6/100)
هذا مثل ضربه الله جل وعلا لأعمال الكفار أنهم لا ينتفعون بها فهؤلاء المشركون صحيحٌ أنهم كفره لكن لديهم قُدرة في المجادلة ، فمن مُجادلتهم يقولون نحن لم نعكف في بيوتنا نحن لدينا أصنام نعبُدها ( ما نعبُدهم إلا ليُقربونا إلى الله زُلفى ) فإذا كان هناك موعد يوم القيامة سنجدُ حصيلة أعمالنا . نحن نُطعم كما تُطعمون ، نحن نُسقي كما تُسقون ، نحن نفعل الخيرات ، نحن نقوم بالواجبات فالله جل وعلا يُصور الآن تلك الأعمال التي اتكلوا عليها فقال ربُنا ( والين كفروا أعمالهم ) من حيث الصناعة النحوية هذا يُسمى بدل و أصلُ الكلام ـأعمال الذين كفروا و البدل من أي الأنواع هنا ؟ بدل اشتمال ، والبدل ينقسم إلى بدل اشتمال وبدل كل بدل بعض ، والبدل في ذاته أيها الأخ المبارك واحدً من التوابع ما معنى توابع ؟ تتبع ما قبلها ، فالصفة تُعرب إعراب الموصوف والبدل يُعرب إعراب المُبدل منه ، و المعطوف يُعرب إعراب المعطوف علية . نحنُ الآن أمام بدل اشتمال ( والذين كفروا ) مُبتدأ ( أعمالهم ) مرفوعة مثلها لأنها بدل اشتمال (والذين كفروا أعمالهم كسرابً بقيعة ) القيعة جمع ، جمعٌ لماذا ؟ جمعٌ لقاع ، ما القاع ؟ الأرض المنبسطة التي تنافر عنها الجبال والآكام أصبحت واضحة مرئية ، السراب إذا لاحت الظهيرة يُسمى سراب إذا لاح في أول النهار أو في أخر النهار لا يُسمى سرابا ماذا يُسمى ؟ يُسمى الآل وإذا كان في الظهيرة يُسمى سراب والمعنى واحد ها السراب يلوح لرائية كأنه ماء فإذا كان الرأي ظاميء فإنه سيتعطشُ للوصول إلية ولها قال الله حل وعلا (يحسبه الظمآنُ ماء ) أما غير الظمآن فهو سيرى السراب كما يراه غيره لكن لعدم وجود تعلق به لا يلتفت إليه ولا يُعطيه كبير اهتمام ولها قال جل وعلا (والذين كفروا أعمالهم كسرابً بقيعة يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه ) جاء إلى ماذا ؟ جاء إلى ما كان يعتقد أنه ماء ( فلم يجدهُ شيئاً ) وليته خلص لا له ولا علية ولم(6/101)
يتكلف إلا المجيء لكن الله قال موبخاً لهم ( ووجد الله عنده) وهو يزعم أنه لا رب لا إله وأن هذه الأعمال هي التي تنفعه فيفعل الكافر المشرك تلك الأعمال حتى إذا كان يوم القيامة لم يجد تلك الأعمال نظيره نظير من كان يبحث عن السراب لكن من كان يبحث عن السراب غاية الأمر عند انه لم يجد شيئاً لكن ها قال عنه ( ووجد الله عنده ) أي يوم القيامة ( فوفاه حسابه والله سريع الحساب أي أن الله جل وعلا لا يبطئ في حسابه إذا ظهر مُقتضاه والحساب قد وقته الله جل وعلا أن يكون يوم موعود محدود ( وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأتي لا تكلم نفسٌ إلا بإذنه فمنهم شقيٌ وسعيد).
ثم قال ربُنا ( أو كظُلمات ) أو حرف عطف بالاتفاق لكن هل هي لتنويع أو لتخيير ؟ الصواب عندنا أنها لتنويع فإذا قُلنا أنها لتنويع تُصبح لابد من إيجاد طرف ثانً فنقول إن المثال الأول للأمة من أهل الكفر والمثال الثاني فلإتباعهم ومُقلديهم ، المثال الأول لمن ؟ للأمة من أهل الكفر وأما المثال الثاني فإنه لأتباعه ومقلديهم.
قال الله جل وعلا )أو كظلُمات في بحر لُجي (
هُناك يا بُني لُجة بضم اللام وهناك لَجة بفتح اللام اللجة بالفتح كثرة الأصوات وارتفاعها فهذه لا علاقة لها بالآية و أما اللُجة فهي مُعظم البحر، والبحر اللجي هو البحر الكثير الماء البعيد القعر.
( أو كظلمات في بحر لُجيٍ يغشاه موجٌ من فوقه موج من فوقه سحاب)
ظلم جهل وكفر وعناد
مثاله
رجلٌ في قاع البحار موج فوقه موج الفرق بين الموج . والّلجة هي البحر نفسه أما الموج ما يخرجُ عن البحر ويرتفع يُسمى موج وهو شهيرٌ ظاهر
( من فوقه موجٌ من فوقه سحاب) قال ربُنا ( ظُلُماتُ بعضها فوق بعض ) ليست الظُلمات في الموج والسحاب وإنما هذا نظير مثال وإنما الظلمات الحق هي ماذا ؟ كُفرهُ وجهلهُ وعنادهُ .
( إذا أخرج يدهُ لم يكد يراها )(6/102)
في هذه الظلمات كُلها يحاول أن يُخرج يده فيُخرجها لأنها تتعلقُ بقدرته الذهنية بقدرته الحركية لا يتعلق بالرؤيا لكنه هل يراها أو لا يراها قال ربُنا (لم يكد يراها )
تحرير المسألة كاد فعلٌ عند النحويين يُسمى فعل من أفعال المقاربة أكثرُ المفسرين يقول إن المعنى ( لم يكد يراها ) أي لم يقرب أن يرها فكيف يراها.
ــ أُعيد ــ
أكثرُ المفسرين يقول إن المعنى ( لم يكد يراها ) أي لم يقرب أن يرها فكيف يراها. [ واضح]
ولهم في هذا أدلة لأبيات عند ذي الرمة وغيرة لكن الصواب أن يُقال إن كاد فعلٌ إذا أُثبت دلّ على النفي وإذا نُفي دلّ على الإثبات :
أنحوي َ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ *** جرت في لساني جرهم وثمود ِ
إذا استُعملت في صورة النفي أثبتت *** وإن أثبتت قامت مقام جحود ِ
لماذا قال جرهم وثمود ؟ لأنهم عرب أقحاح لا نزاع فيهم ، وإن أثبتت قامت مقام جحودِ أي مقام النفي والنُكران ما هي هذه اللفظة ؟ هي الفعل كاد . قال الله جلّ وعلا ( أكادُ أُخفيها ) هل أخفاها ؟ أجيبوا . لم يُخفيها مع أن الفعل مُثبت وإنما الله جلّ وعلا أخفاها عيناً وقتاً وقال ( فقد جاء أشراطُها ) الدجال ، المهدي ، عيسى، شروق الشمس و لهذا قال( أكاد أُخفيها) هُنا قال ( لم يكد يراها ) بحسب فهمنا للغة أنهُ يرى شيئاً يسيراً منها وهذه مُعضلة لماذا يرى شيئاً يسيراً منها ؟ كيف يُثبت الله جلّ وعلا لهُ قُدرة على النور ؟ هذا الذي منع الناس أن يقولوا بهذا المعنى [ واضح ] يعني الذي جعلهم يقولون أي المُفسرون أنهُ لم يقرُب أن يراها كيف يراها؟ لأنهم يقولون هذه ظُلمات هذا جاهل هذا كافر هذا عناد فقد كُنتُ والله أبحثُ عن جواب وأظنُ والعلمُ عند الله أن المقصود هذا الإظهار البين في النور اليسير هو من باب إقامة الحُجة أما الذي لا يرى بالكلية كالمجنون والصغير وأمثالهم فهؤلاء أصلاً لا حساب عليهم لأنهُ لم تقم عليهم حُجة والعلم عند الله .(6/103)
( أو كظُلمات في بحرٍ لُجيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب ظُلماتٌ بعضُها فوق بعض إذا أخرج يدهُ لم يكد يراها ومن لم يجعلِ اللهِ لهُ نوراً فما لهُ من نور )
كيف يراها ، كيف يهتدي ، كيف يصل ، كيف يبلُغ مُرادهُ أنى لهُ ذلك والربُ جلّ وعلا لم يجعل لهُ نوراً تجدُ رجُلين من أبٍ وأُم واحده يوفق أحدُهما لأعظم الطاعات ويغيبُ أحدهما عنها بالكلية وقد اتفقا في منشأهما وتربيتهما و أُصولهما و أعراقهما بل والرحم التي خرجا منها لكن جعل الله لأحدهما نور ولم يجعلِ اللهِ للأخر نورا فمن جعل الله له نوراً اهتدى ومن لم يجعل الله له نوراً عياذاً بالله ظلّ وغوي عن سواء السبيل .
ثم قال الله جلّ وعلا
( ألم ترى أن الله يُسبحُ لهُ ما في السماوات والأرض والطيرُ صافات كلٌ قد علم صلاتهُ وتسبيحه والله عليمٌ بما يفعلون )
هذا شيءٌ مُشاهد "من" للعاقل و هنا أُدخلت مقام التغليب من في السماوات ماذا تشمل ؟ الملائكة في المقام الأول و من في الأرض ؟ بنوا آدم وكلُ من يدب على الأرض ماذا بقي ؟ بقي الذي بينهما لهذا قال الله ماذا ؟ ( والطيرُ صافات ) [ واضح ] لماذا ذكر الله الطير ؟ لأنهما ليسَ في السماء وليسَ في الأرض هذا تخريج .
وآخرون قالوا لا هذا ليس بتخريج وإنما الطير يدخل في قوله جلّ وعلا ( من في السماوات والأرض ) يدخل عندهم قطعاً طب لماذا خرّجها الله ؟ قالوا أراد أن يُبين أنها تُسبح حال كونها صافات ولهذا قال ( والطير صافات ) قالوا لو قال" ألم ترى أن الله يُسبحُ لهُ من في السماوات والأرض والطير" من غير صافات لقُلنا بالأول لكن مادام قال ( صافات ) أراد حال كونهما صافات ولكلٍ من القولين ما يؤيدهُ من حيث النظر أما من حيث النقل لا يوجد بين أيدينا شيء .(6/104)
(ألم ترى أن الله يُسبحُ لهُ ما في السماوات والأرض والطيرُ صافات كلٌ قد علم صلاتهُ وتسبيحه ) الخلاف عند العُلماء أين فاعل علم ؟ و الأكثرون على أن فاعل علِم هو عائدٌ على كلمة "كل" أي كُل واحدٍ من هؤلاء علِم ماذا؟ علِم صلاته وتسبيحه وأما الربُ جلّ وعلا فهذا ذيلُ الآية قال الله جلّ وعلا ( والله عليمٌ بما يفعلون ) علمُ الله ذكرهُ الله جلّ وعلا في ذيل الآية قال ربُنا ( واللهُ عليمٌ بما يفعلون ) ثم بين جلّ وعلا عظيم مُلكه ( ولله مُلكُ السماوات والأرض ) أي ليس الأمر مُقتصراً على أن أُمة في السماء تُسبح وأُمة في الأرض تُسبح والطير هذا وحدهُ ليس حدودُ مُلك الله لكن كلُ ما في الكون لهُ قال الله ( ولله مُلكُ السماوات والأرض ) ويجبًُ أن يستقر في قلب كلٍ أحد أن الله جلّ وعلا مقاليدُ كُل شيء بيديه ورزقُ كُل أحدٍ عليه ومصيرُ كُل شيء إليه هذه القناعات اليقينيات المستنبطة من الكتاب والسنة هي التي تُرثُ قلب حياً ويقينياً راسخاً فينجمُ عن ذلك عملٌ صالح ( ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ) والآيات مازالت تُبين عظيم القُدرةُ الإلهية .
( ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً )
تسمعون إنسان أحياناً عندما يُقدم لهُ في احتفال فيريدُ أن يتواضع فيقول أصلاً أنا بضاعتي مُزجاه ـ مأخوذة من سورة يوسف ــ معنى مزجاه مدفوعة البضاعة المُزجاة هي التي لا يقبلها أحد كُلما عرضتها على تاجر يعترض عليك يعتذرُ لك ويعترضُ عن القبول فيعتذر ويقول اذهب إلى فُلان لعلهُ يأخُذها.(6/105)
فهذا معنى قولهم بضاعةٌ مُزجاه إذاً المُزجاة مأخوذة من السوق الدفع ( ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً ) من الذي يسوقه تسوقهُ الملائكة بواسطة الرياح (ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً * ثم يؤلفُ بينهُ) الأصلُ أنه كان قطع وقطع السحاب تُسمى قزع ( ثم يجعلهُ رُكاماً ) مُتراكماً بعضهُ فوق بعض ( فترى الودق ) أي المطر ( يخرُج من خلاله ويُنزلُ من السماء من جبالٍ فيها من برد )
كم من ؟ ثلاثة ـــ أُعيد ــ
ثلاثة كُلهنّ جاره بالاتفاق لكن ما معنى من الأولى وما معنى من الثانية وما معنى من الثالثة؟
) ويُنزل من السماء ) هذه من لابتداء الغاية ( من جبال ) هذه لتبعيض هذه لماذا ؟ هذه لتبعيض ليس كُلها ينزل ( ن برد ) هذه لبيان النوع والجنس ما الذي ينزل ؟ البرد
الثالثة لبيان النوع والجنس والثانية لتبعيض والأولى لابتداء الغاية
( ويُنزل من السماء من جبال فيها من برد فيُصيب به من يشاء ويصرفهُ عن من يشاء )
يُصيب بماذا ؟ بالبرد بالمطر بالصواعق بكل ما يخرُج من البرق والرعد
( يكادُ سنا برقه يذهب بالأبصار )(6/106)
هُناك سنا وهُناك سناء بالهمز السناء يا بُني الرفعة والعلو المعنوي والحسي والسنا اللمعان والضوء والنور والمقصود به هُنا أيهما ؟ اللمعان والبرق والنور (يكادُ سنا برقه يذهب بالأبصار ) أحياناً تجتمع الكلمتان السنا المعنوي المقصود به الرفعة والمقصود به اللمعان فأما إجتماعهما فقد وردت في شعر ابن زيدون من ابن زيدون ؟ شاعر أندلُسي عاصر انتقال الحكم من بني أُمية إلى ملوك الطوائف وبنوا أمية أسسوا مُلكهم في الأندلس على يد من عبد الرحمن الداخل المُلقب بصقر قُريش من الذي لقبهُ بصقر قُريش عدوه أبو جعفر المنصور و هذا من إنصاف أبي جعفر هذا عبد الرحمن ابن الداخل استمر الحكم الأموي في الأندلس ثم انتقل من بني أُميه إلى ملوك الطوائف يعني إلى مُسلمين من غير ذُرية بني أُميه في تلك الفترة ظهر ابن زيدون أصبح وزيراً وهو في الثلاثين من عُمره شخصٌ يُصبح وزيراً في الثلاثين ينجُم عنه ماذا ؟ الحُساد تعلق بامرأة اسمها ولادة بنت المستكفي قال فيها أطيب شعره الذي يعنينا من شعره هُنا لأجل الشاهد في قوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) قال :
ودّع الصبر مُحبٌ ودّعك *** ذائعٌ من سره ما استودعك
يقرعُ السن على إن لم يكن *** زاد في تلك الخُطى إذ شيعك
يا أخ البدر سناءً وسناً *** رحم الله زماناً أطلعك
فقصد بأخ البدر ماذا ؟ البدر القمر وقصد بأخ البدر معشُوقته ، سناءً وسناً أي أنت مثل القمر في برقه ونوره ولمعانه ومثل البرق في علوه وارتفاعه [ واضح ]
الله هُنا يقول ( يكادُ سنا برقه ) والعامة تُلغز تقول ما الشيء الذي يُسمع ولا يُرى وما الشيء الذي يُرى ولا يُسمع فيقصدون بالذي يُسمع ولا يُرى الرعد و يقصدون بالذي يُرى ولا يُسمع البرق والعرب قد جرت عادتُها أنها تشيم ما معنى تشيم ؟ تنظُرُ في البرق تقولُ أين صوبه أين سينزل هذا العمل إذا أردت من أحدٍ أن يعملهُ تقول له شم ومُضارعهُ يشيم قال الأعشى :(6/107)
فقُلتُ لشرب في درنا وقد ثملوا *** شيمُوا وكيف يشيمُ الشاربُ الثملُ
يقول أنا مع مجموعة سُكارى فرأيتُ بارقً
هل يا ترى بارقاً عارضً قد بتُ أرقبة *** كأنما البرقُ في حافاته شُعلُ
فقال لمجموعته شيمُ أي أنظروا إلى هذا البرق إلى أين سيسقُط ثم يقول مُستنكراً على نفسه كيف يسألهم هذا السؤال قال وكيف يشيمُ الشارب الثملُ يعني من كان غلبه السُكر أنى له أن يشيم ويعرف مواطن البرق المقصود من هذا هذا في لُغة العرب واصطلاحها .
( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) أهمُ ما يجبُ أن تعرفهُ أن الألف واللام في قوله جلّ وعلا ( الأبصار ) لا م الحقيقة قد تكون هذه أول مرة تمرُّ عليك لام ماذا؟ لام الحقيقة ما ضُدها ؟ لام المجاز ما المعنى لماذا قُلنا لام حقيقة ولام مجاز ؟ نقول الله جلّ وعلا يا بُني قال في سورة البقرة ( يكاد البرق يَخطف أبصارهم كُلما أضاء لهم مشوا فيه ) فرقٌ تام ما بين الآيتين
الآية الأولى أراد الله بها ضرب مثل عن هؤلاء المنافقين الذين يسكنون مدينتك ويرون تنزل الآيات فلا ينتفعون بها [ واضح ] ولهذا قال ( يكاد البرق يَخطف أبصارهم) أضاف الأبصار إليهم وليس المقصود إلا إظهارُ عدم انتفاعهم بالكتاب والسنة هذه آية البقرة .
أما آية النور هُنا فالله يتكلم عن لام الحقيقة عن البصر الحقيقي الذي هو مُخاطبٌ به كل أحد فكلُ إنسانٍ إذا تأمل البرق ونظر فيه وأمعن وحدق يكاد سنا البرق أن يذهب ببصره ولم يذهب ببصره لأنها جاءت مُثبته يكاد قد مرت معنا فهي الآن تُعتبر في حُكم المنفية ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) ولهذا قُلنا أن هذه اللام لام الحقيقة(6/108)
ثم قال الله جلّ وعلا( يُقلبُ الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار ) هذا من دلائل قُدرته وكمال صنعته جلّ وعلا أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل والله يقول في سورة آل عمران ( قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملم من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزُ من تشاء وتُذل من تشاء بيدك الخير إنك على كُل شيء قدير تولجُ الليل في النهار و تولجُ النهار في الليل وتُخرجُ الحي من الميت وتُخرجُ الميت من الحي وترزُق من تشاءُ بغير حساب ) قال بعضُ السلف هذه الآيتان من آل عمران هي التي صدّر الله جلّ وعلا بها التوراة التي أعطاها موسى علية السلام ويقولون إن آخر آية في التوراة هي آخر آية في سورة الإسراء ( وقُل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك ولم يكن له وليٌ من الذل وكبره تكبيرا) يقول الله جلّ وعلا هُنا ( يُقلب الله الليل والنهار ) فما الليل والنهار إلا مطيتان وهما مسخرتان بأمر الرب تبارك وتعالى فلما ذكر الله جلّ وعلا قُدرتهُ على تقلبُهما وعلى أنه جلّ وعلا يجعلُ هذا حيناً أطولُ من الآخر والآخر أطول من الأول قال سُبحانه جل ّ وعلا بعد ذلك ( إن في ذلك ) أي في هذا الأمر الذي يحصلُ ويُرى ( لعبرة للأولي الأبصار ) والمؤمن حريٌ به أن يتأمل ما خلق الله جلّ وعلا من حوله حتى يقودهُ ذلك إلى معرفة ربه .
ثم قال ربُنا وهو أصدق القائلين ( والله خلق كُل دابة من ماء )(6/109)
كُل من يميز ومن لا يُميز ويمشي على الأرض يُسمى دابة . قال الله ( والله خلق كُل دابة من ماء ) أهم ما ينبغي أن يُعرف في الآية أن الحُجة العظيمة الأُولى التي أقامها الله جلّ وعلا على أهل الإشراك كونهُ جلّ وعلا خالق وما سواه مخلوق هذه أهمُ قضيةً ناقشها القرآن قال الله ( أفمن يخلُق كمن لا يخلُق ) وقال ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ) وقال ( هذا خلقُ الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) وأراد الله من هذا كُله أ، يقول لهم إن العبادة ألحقه لا يستحقُها إلا من يخلُق فما دام أنه لا أحد يخلُق إلا الله فقطعيٌ أن يكون الأمرُ أن لا يُعبد أحدٌ بحق إلا الله . هذا الذي أرادهُ الله من إثبات قُدرة الخلق له حتى يُقيم الحُجة علة عبادة كيف تلتفتون إلى من لا يخلق وتعبدونهُ وتتركون من يخلُق وقد قال الله جلّ وعلا ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) هذه قالها في الحجر وقال العُلماء ( إلا بالحق ) أي لإثبات أن الله وحدهُ هو الخلاّق فبطبيعة الحال ينبغي أن لا يستحق العبادة إلا هو(6/110)
( والله خلق كُل دابة من ماء ) قال في الأنبياء ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) الماء في الأنبياء اسم جنس أما الماء هُنا ليس اسم جنس ولهذا جاء نكرة . في الأنبياء كلن يتكلم عن جنس المخلوقات أما هُنا لم يتكلم عن جنس المخلوقات كان يُحدد ما هي المخلوقات ( والله خلق كُل دابة من ماء ) بدليل قوله بعدها ( فمنهم من يمشي على بطنه ) ومن تُستخدم للعاقل فكيف صوّر استخدامُها لغير العاقل أن الله جلّ وعلا تكلم عن الدواب والدواب يدخلُ فيها العاقل مثلُ بني آدم فغلب ، فبالتغليب أُدخل غير العاقل قال الله تعالى ( فمنهم من يمشي على بطنه ) مثل الحيايا ( ومنهم من يمشي على رجلين ) مثلُ بني آدم وبعضُ الحيوانات ( ومنهم من يمشي على أربع ) فيأتي للإنسان مباشرة العنكبوت والعقرب وكونها ليست على بطنها ولا على اثنتين وعلى أربع فتُجيبهُ الآية ) يخلُق الله ما يشاء (
كأن الله يقول لك بل هُناك غير العنكبوت والعقرب لم ترهُ عيناك لا يحتاج أن تستدل علينا بعنكبوت وعقرب لذلك فصل الله الخطاب أو الأمر بقوله ( يخلُق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير وهذا التذييل بقول ألعلي الكبير( إن الله على كل شيء قدير) مُناسب لقول الله جلّ وعلا )يخلُق الله ما يشاء ( .(6/111)
وهذه (يخلُق الله ما يشاء ) هي في ذاتها درسٌ قائمٌ بذاتة أن الإنسان تعترضُ تساؤلات وتكون له أماني ورغبات فيمنعه من دعاء الله أن يُحققها له استحالةُ أن تقع فمما يحلُ الإشكال اليقيني هُنا قول الله جلّ وعلا ( يخلُق الله ما يشاء ) وهذه حصلت في الصديقة مريم فإن الملائكة بشرتها بعيسى ابن مريم ولم تقل لها عيسى ابن فُلان فعرفت أنه سيأتي من غير زوج لأنها لو قالت عيسى ابن فُلان لعرفت أن الأمر بدهي ستتزوج هذا المذكور وتُنجب منه ولدً ( إذ قالت الملائكةُ يا مريم إن الله يُبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدُنيا والآخرة ومن المقربين ) فلما أرادة أن تعترض قالت ( ربِ أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) فعرفت أنه سيأتي من غير مساس لأنه لو كان سيأتي بمساس لنُسب الابنُ إلى أبيه فأجابها الله جلّ وعلا بقوله ( قال كذالك اللهِ يخلق ما يشاء ) ولهذا سُقناها هُنا في رد هذا الاعتراض الذي توهمته مريم عليها السلام فحين أن الله جلّ وعلا أجاب زكريا بغير هذا ( قال ربِ أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبرُ وامرأتي عاقر * قال كذالك الله يفعلُ ما يشاء ) لأن القضية في زكريا وجد السبب لكن وجد عارض لحق أحد السببين وهو كبر الوالد وكون المرأة عاقر فكان إزالة ذالك العارض فعبّر الله عنه بقوله( كذالك الله يفعلُ ما يشاء ) .(6/112)
أما هُنا فليس هُناك أصلاً سبب آخر قائم حتى نقول به عارضٌ يحتاجُ إلى أن يُزال وإنما لا يوجدُ سببٌ يُعينُ على الولادة على الإنجاب لانفصال أحد السببين فقال الله جلّ وعلا ( قال كذالك اللهِ يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كُن فيكون ) وأنت أيُها الأخُ في هذه الحلقة أو في غيرها تقف في عرفات وهو موطن إجابة تُصلي في الليل تسجُد وهو موضعُ إجابة تدخلُ أحد الحرمين وهي مواطن فاضلة تقف عند باب الكعبة وهو موطنٌ عظيم تمر عليك أوقات تُقدم فيها طاعات تشعرُ فيها بقربك من الله فأزدلف إلى الله جلّ وعلا قبل أن تسأله بكلامه ردد ما أخبر الله جلّ وعلا فيه أنه قادرٌ على كُل شيء قُل اللهم إنك قُلت وقولك الحق ( كذلك الله يخلُق ما يشاء )(6/113)
،قُلت وقولك الحق ( إن الله على كُل شيء قدير ) ، قُلت وقولك الحق ( إنما أمرُنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون ) أنت الذي أرجعت يوسف إلى أبيه ورددت موسى على أُمه وجمعت ليعقوب بنية وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم أنت الله لا إله إلا أنت لا تُسألُ عما تفعل وهم يُسألون أنت الله لا إله إلا أنت تنزهة عن الصاحبة والولد تقدست فلم تلد ولم تولد تذكر هذه المعاني العظيمة التي حررها الله في كتابه و إلا لا معنى لأن تقرأ القرآن ثم لا تُطبقه تقول عائشة " كان النبي يتأول القرآن يقول في دُعائه يا برُّ يا رحيم قني عذاب السموم " مُستنبطٌ من القرآن ( إذا جاء نصرُ الله والفتح ) فكان يستغفر الله جلّ وعلا يأخُذها من الآية يتأول القرآن فالمقصود هذه المعاني العظيمة المقررة في قلبك أولاً وأخرا تستحضرُها ثم تقولها لأن الإنسان إذا كرر شيئاً يعتقدهُ بلسانه وأسمعهُ نفسهُ قلّما ألاّ يترُك هذا أثراً في قلبه فسيترُك هذا أثراً في قلبك وأثراً في عينك فإذا وصلت إلى مرحلة الإستكانة والانكسار والتذلل بين يدي الله هُناك أعرض على الله جلّ وعلا حاجتك وسلِ الرب تبارك وتعالى بُغيتك وألح عليها تبارك وتعالى في الطلب ثم أختم ذلك بعظيم حُسن ظنك وعظيم رغبتك في ما عند الله تبارك وتعالى فاذكر من أسمائه الحُسنى وصفاته العُلى ما يغلبُ على ظنك أنها مناسب بدُعائك حتى يكون ذلك أرفع لدعوتك وأسمع لصوتك والله جلّ وعلا بعد ذلك كُلهِ أرحمُ منك بنفسك وأقربُ إجابة ( إذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة ألداع إذا دعان ِ((6/114)
والمقصود من هذا أننا وأن كُنا نُحرر أحياناً مسائل علمية ونُعرج على أقوال النُحاة ونذكُر ما دونهُ الشُعراء لكن هذا إنما ندفعُ به سأم ويُطرد به ملل ويُقرب به بعيد و يتضحُ به معنى لكن الغاية الأولى من القرآن كُلهِ أن تلين قلوب العباد لربهم تبارك وتعالى ، أن يكون فيه موعظة ، أن يكون فيه مثاني تُحرك هذا القلب المسلم ، أن تكون فيه أشياء تجعلُ الإنسان قريبٌ من ربه ، تدفعهُ إلى الطاعة ، تُحجم به عن المعصية ، تُبين لهُ عظمة الله جلّ وعلا وجلالهُ ومن لم يهتدي بالقرآن فلن يهتدي بغيره قال الله ( ومن لم يجعلِ اللهِ لهُ نوراً فما لهُ من نور ) .
اللهم إنا نسألك نوراً نهتدي به ورزقاً حلالً طيباً مباركاً نكتفي به
هذا ما تهيأ إيرادهُ وأعان اللهُ جلّ وعلا على قوله وصلى الله على مُحمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ...........
تفريغ سورة النور من 46 إلى 57
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي أظهر لنا من فضله وكرمه ووهبنا من آلاءه ونعمه وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
فما زلنا نرتعُ في رياض الجنة وأعظمُ مقاماتُ الدنيا قال أهل العلم مقام التدبر في كتاب الله جل وعلا والسورةُ التي نحنُ بصددها ما زالت سورة النور.(6/115)
لكننا كُنّا قد وقفنا عند قول الله جل وعلا( لقد أنزلنا آيات مُبينات والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم ) وأُحبُ قبل أن أشرع وأبدأ بها أن أعود قليلاً إلى الآيات التي سلفت وكُنا قد جعلنا ذلك الدرس له حظٌ كبير من قضية الوعظ وهذا الأصل في القرآن فإن الله جل وعلا جعلهُ موعظة كما بين في كتابه لكن مرّ معنا قول الله جل وعلا ( ألم ترى أن الله يُجزي سحاباً ثمّ يؤلفُ بينه ثمّ يجعلهُ ركاماً فترى الودق يخرُج من خلاله ويُنزلُ من السماء من جبالٍ فيها من برد فيُصيب به من يشاء ويصرفهُ عن من يشاء يكادُ سنا برقه يذهبُ بالأبصار )(6/116)
الذي أُريدُ أن أقوله هُنا فيما لم أقولهُ من قبل هذه الآية من أعظم الآيات الدالة على قُدرة الله جل وعلا فالله جل وعلا ذكر مخلوقاً واحدا هو السحاب وضمنه أربعةً أضداد لا يُمكن أن تجتمع في مخلوقٍ واحد ولا يقدرُ على ذلك إلا الله ، فالسحابُ يكون منه الودق أي المطر الغيث وهو في كُل تحصيله ماء ، ويكون منه في نفس الوقت الصواعق التي تحرق وهي في تحصيلها جملة نار والماءُ والنار ضدان لا يجتمعان فجمعهُما الربُ في مخلوقٍ واحد وفي ذات الوقت الله جل وعلا يقول ثُمّ ( يجعلهُ ركاما) والسحابُ إذا تراكمَ وأطبق بعضهُ على بعض حجب نور القمر وضوء الكواكب وأصبحت الدُنيا ظُلمة ومع ذلك قرنهُ الله جل وعلا بالبرق قال سُبحانه ( يكادُ سنا برقه يذهبُ بالأبصار ) والبرق نور وضياء والنور والظُلمة لا يجتمعان فينجُم عن السحاب أربعةٌ أضداد : الماء والنار وهما ضدان ، والنور والظلمة وهما ضدان وهذا من دلائل قُدرة الله تبارك وتعالى والمؤمنُ إن كان موفقا ينظرُ إلى القرآن بمثل هذه الرؤية وإن كُنا ننهجُ في تفسيرنا تفسيراً موسوعياً ونُعرجُ على قضايا نحوية وبلاغية ومعرفية فهذا من باب أن يستفيد السامع والمُشاهدُ مما نقول وحتى تستقيم الطريقُ العلمية والمعرفية لكن قبل أن يُؤصل الإنسان نفسهُ معرفياً ليبُزّ أقرانهُ ويصل إلى مقصودة ، المقصود الأسمى أن تثبتُ القدم يوم العرض على الله ولن تثبُت القدم يوم العرض على الله إلا إذا مُلأت بموعظة وضياء القرآن فننظُر إلى القرآن نظر تدبُر وإيمان يستدلُ به العبدُ من خلال تدبُر الآيات على عظمة الواحد القهار جل جلاله فهذه الآيةُ كما حررنا من قبل من أعظم الآيات الدالة على عظيم قُدرة الرب جل وعلا .
ثُمّ نعودُ إلى ما كُنا قد وقفنا عنده قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين
( لقد أنزلنا آياتٍ مُبينات والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم )(6/117)
لاحظ يا أُخي التتابعُ في الآيتين يقول الله (لقد أنزلنا آياتٍ ) ظاهره جليّة تُخبرُ عن عظمتنا وتدلُ على وحدانيتنا وتُرشدُ إلى عبادتنا وحتى لا يتعلق الناسُ بها . ماذا قال الربُ بعدها قال (والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم ) فليس النظرُ فقط في الآيات المُبينات والتدبرُ فيها كافٍ لماذا ؟ كافٍ للهداية فلا بُد مع التدبُر والنظر في هذه الآيات التي أُنزلت أن يُصاحب ذلك توفيقٌ من الرب جل وعلا ولهذا قال الله (والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم ) و قد مرّ معنا تحريرُ ذلك في أكثر من موقف.
ثُمّ قال الله جل وعلا
(ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثُم يتولى فريقٌ منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)
بقدر الله جل وعلا أراد الله أن تكون المدينة المُجتمع الإسلامي الأول أراد الله لها أن تكون تجمعُ أخلاطً عده ويُنظر حُكم رسول الله صلى الله علية وسلم وتفاعلهُ مع تلك الأخلاط حتى لا يكُننّ مُجتمعٌ بعد ذلك بمعزلٍ عن مُجتمع المدينة الأول فيحقُ لكُل أحد أن يتأسى بهدية علية الصلاة والسلام فالمدينة كانت زاخرةً أكثر الأمر بالمُهاجرين والأنصار أعظمُ الناس إيماناً وكان هناك من دونهم في الإيمان ليسُ منافقين لكنهم دونهم في الإيمان من الأعراب وبعض الصحابة وكان هناك مُنافقون يُظهرون ما لا يُبطنون وكان هناك يهود وكان هناك نصارى يؤون إليها كما حصل من نصارى نجران وكان هناك أعراب جُفاه ينظرون إلى مصالحهم وكان هناك دول تُحيطُ بها تتربصُ بها تُعبر عنها عن قبائل وأبعدُ منها فارس والروم وقد حصلَ بعضُ المنازعات مع الروم كما هو معلوم ، هذا المُجتمع قرأتهُ قرأه صحيحة من الكتاب والسنة والسيرة الصحيحة يُعينُ الإنسان في أي موئل أو منصب يصلُ إليه أن يعرف حُكم الله وحُكم رسوله صلى الله علية وسلم في الحدث .(6/118)
الآن هنا يُخبرُ الله جل وعلا عن طائفة من المُنافقين لكن الخبر هنا جُزئي يتعلق بالحكُومات والناسُ تحتكم في ثلاث أمور : في الفروج والدماء والأموال ولا يوجدُ حُكمٌ في غير هذا أي مسألة فيها قضايا بين الناس إما في أمولهم يتنازعون وإما في فروجهم وإما في دمائهم يقول بعضُ أهل التفسير إن مُنافقً يُقال له بشر اختصم مع يهودي فطلب اليهودي أن يحتكما إلى رسول الله صلى الله علية وسلم فأبا بشرٌ هذا الذي هو في الأصل يدّعي الإيمان فأبى الاحتكام إلى رسول الله صلى الله علية وسلم و أرشد إلى كعب ابن الأشرف لعلمه أن النبي يقضي بالحق وهو يعلم أنه على الباطل قال الله عنهم ( ويقولون ) أي طائفة من المنافقين (أمنا بالله و بالرسول ) أي بألسنتهم ( وأطعنا ) ثم قال ( ثُمّ يتولى فريقٌ منهم من بعد ذلك وما أُولئك بالمؤمنين ) قال العلماء نفي الإيمان عنهم يدل على أن الإيمان لا يُقبل فقط من غير عمل لأن الله أثبت لهم أنهم قالوا الإيمان بألسنتهم ونفى عنهم العمل بقوله جل وعلا (ثُمّ يتولى فريقٌ منهم ) فقال بعد ذلك مُعقبا قال (وما أُولئك بالمؤمنين ) فالإيمانُ إيمانٌ بالقلب ونطقٌ باللسان وعملٌ بالأركان ، هذه الطائفة من المنافقين كانت تسكُن المدينة و الله جل وعلا من سُننه التمحيص فتأتي الطوارق والحوادث تتابع مرة على هيئة أفراد كما حصل مع قضية بشر ومرة على مستوى الأمة كما يحدث تكليف بالجهاد أو يحدثُ أمراً عام هذا يميز طائفة من طائفة وأحياناً أحداثٌ جزئية تُميز أفراداً عن أفراد ومع ذلك لم يأتي في القرآن اسم منافق واحد لأن القرآن أكبر من أن يتحدث عن أفراد فإذا تحدث عن أفراد إنما يتحدث عنهم لمصلحةٍ أرجح من كون إخفاءً فمريم مثلاً هي المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن لأنه حتى لا يقولنّ قائل في أن المقصود في النفي أن يكون إبناً لله ليس عيسى ابن مريم إنما شخصٌ آخر فذكره الله ـ أي عيسى ـ وذكر اسم أمه حتى لا يبقى تأويلُ ولا(6/119)
احتمالٌ يفزعُ إليه من يريد أن ينحى بالآية عما تقصده وهنا حديثٌ جزئي.
( ويقولون أمنا بالله و بالرسول وأطعنا ثُمّ يتولى فريقٌ منهم من بعد ذلك وما أُولئك بالمؤمنين ) من حيث الصناعة النحوية هذه ما الحجازية تعمل عمل ليس تنفي وعمل ليس وما مُتفق على أن كلاهما أداة نفي لكنّ الاختلاف في العمل ومعنى العمل الحرف أو الفعل له معنىً وله عمل فكلُ الحروف لها معنى إلا الحروف الأبجدية الجُزئية لا تُعرف إلا إذا اتصلت أما الحروف العادية كلها لها معنى لكن الخلاف هل هي عاملة أو مهملة لا تعمل ؟ فالحجازيون يُعملونها عمل ليسَ فترفع المبتدأ ويُسمى اسمها وتنصب الخبر ويُسمى خبرها ومن آية عملها أن يكون خبرها مُقترناً بالباء كما هو بين يديك ( وما أولئك بالمؤمنين ).
ثمّ قال ربُنا
( وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضون )
كم إذا بين يديك الآن ؟ اثنتان الأولى يا بُني إذا الشرطية ، وإذا الأُخرى إذا الفُجائية . ما الرابط بينهما ؟ إذا الفُجائية يأتي ما بعدها فجأة ولهذا سُميت إذا الفُجائية والمعنى أن هؤلاء القوم إذا دعوا ليحكم الله ورسوله بينهم لا يقبلون هذا العرض قبول مُتأني مُتريث ثمّ يُصدرون حُكما . لكن لما انطوت عليه سرائرهم من بُغض الله وبُغض رسوله وعدم قبول الله وعدم قبول رسوله يفاجئونك مُباشرة بالجواب دون حتى أن تُكمل أنت عرضك إلا وهم قد بادروا بالجواب هذا المنزع البلاغي المقصود من الإتيان بإذا الفُجائية في هذا الموطن .(6/120)
(وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم ) قال بعضُ العلماء ليحكُم جاءت بصيغة الإفراد وقد دعوا إلى الله ورسوله ومعلومٌ مقرر أن الدعوة إلى الله دعوةٌ إلى كتابه والدعوة إلى الرسول دعوةٌ إلى سُنته ، لكن يُقال إن الدعوةٌ هنا الدعوة إلى حُكم رسول الله الميداني العملي وإنما ذُكر اسم الله قبل اسم رسوله تشريفاً ومباركةً قبل اسم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ( وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضون)
ثمّ قال سُبحانه
(وإن يكُن لهم الحقُ يأتوا إليه مُذعنين )
الإذعان : الانقياد فلماذا يأتون عندما يكون لهم الحق يأتون لعلمهم أن النبي صلى الله علية وسلم سيقضي بالحق فإذا علموا أزلاً أنهم على الحق لم يجدوا بُداً من أن يذهبوا لرسول الله صلى الله علية وسلم ليأتوه وهذا إتباعُ هوى لا إتباعُ دين وقد يتلبسُ به بعضُ الناس من حيث لا يشُعر فيأتي إلى العالم يسأله يبتغي جواباً قد بيّته قبل أن يعرض سؤاله وهو يُريد أن يسمع جواباً يرتضيه ولا يُريد الحق هذا يحدُث في مسائل الحُكومات كما هو في الآية و يحدثُ في المسائل العامة .
ومن طرائف ما يُروى في هذا الباب أن رجلاً اختصم مع زوجته إلى الشعبي و الشعبي أحدُ رجال الصحيح يعني مُتفق عند جمهرة الناس على جلالته وتقواه وورعه وكان يقضي بين الناس فلما عرض الرجل وعرضت الزوجة خبرهما حكم الشعبي للمرأة لا للرجل فلما وجد الرجل أن الشعبي لم يحكُم إليه جعل ذلك مثلبةً في الشافعي قال :
فئُتن الشعبي لما رفع الطرف إليها ** سحرتهُ ببنانٍ و خاب في يديها
كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها ** لا جثا حتى تراهُ راكعً بين يديها(6/121)
هذه العبارات سرت في الناس والناس يفرحون بمثل هذه الأراجيز لأنها سهلة الحفظ وتُغطي أغراضاً اجتماعياً لديهم فانتشرت بين الناس فلما انتشرت قال الشعبي : والله ما حكمتُ إلا بالحق وما رفعت إليّ بنانً ولا خضاب ، والبنان رؤوس الأصابع ، و الخضاب كالحناء وأمثاله لكن الرجل لما شعر أنه مغلوب جعلها في القاضي فهذه صورة قبيحةٌ في الناس لكنها صورة مُتأصلة عند المنافقين قال الله جل وعلا ( وإن يكُن لهم الحقُ يأتوا إليه مُذعنين ) يأتوا إليه قُلنا مُهمٌّ جداً أن تعرف القيد أنهم يأتوا إليه لعلمهم أنهم على الحق لا ليقينهم أن النبي يحكم بالحق .
قال الله جل وعلا بعد ذلك في الآيات تُدّرج في أخلاقهم
( أفي قلوبهم مرضٌ أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله)
هذا الثلاث مُجتمعه فيها وليس المقصود تساؤل هل فيهم مرض ، هل فيهم ارتياب ، هل فيهم خوفً من حيث الله هذا غير مقصود إنما هذه الصفات الثلاث كلها موجودةٌ فيهم في قلوبهم علل ، أمراض ، شك وأعظم علتهم أنهم غيرُ موقنين أن رسول الله صلى الله علية وسلم رسولٌ من عند الله ونجم عن هذا ريب ونجم عن هذا الريب خوفهم من أن يجور النبي صلى الله علية وسلم عليهم لأنهم ماداموا غير مُقتنعين بنبوته فبدهيٌ أن يرموه علية الصلاة والسلام بالجور و الظُلم لأن ـ يعني ـ القول بأنه عدلٌ علية الصلاة والسلام تبعٌ على القول بأنه نبي وهم لا يقولون بنبوته أصلاً فبذلك لم يقولوا بعدله علية الصلاة والسلام لأنهم إذا كانوا مُقتنعين أنه كذب على الله فمن باب أولى أن يكذب على الناس لكن المهم أن الآية ليس المقصود منها إلا ذكر التدرُج في وصف أخلاقهم.
ثمّ أراد الله جل وعلا أن يقول قال
( بل أولئك هم الظالمون )(6/122)
والمعنى أن هذه الأخلاق جملة فيهم والتفصيل الدقيق في القضية ــ يعني بصورة مُبسطه ــ قد يكون في الإنسان عدة أمور: يحسدك ، بينك وبينه عداوة ، هو في الأصل كاذب ، فعندما يحيف عليك في أمر لا تدري لأي الثلاثة صنع بك ذلك الأمر هل حسداً أم للعداوة المتأججة أو لكذبه الذي أعتاد علية [ واضح ] لكن لا يعني نفي أحد هذه الثلاث الصفات لكن السؤال أين الباعث على هذا الأمر فجاء الجواب القرآني قال الله تعالى ( بل أولئك هم الظالمون ) نأتي لأمر قبل أن ننتقل إليها من باب الصناعة النحوية أم شبيهة العمل بأو فيقول أهل النحو إن بينهما منزِعاً دقيقاً تفصيلُ ذلك على ما يأتي :
ــ بين أو وأم ــ
إذا قدم قادم ترتقبهُ تؤمل أنّ أحدً يبعثُ لك أحد ً من طرفه يُشاركُك فرحُك سيبعثُ لك أخاه زيد أو أخاه عمر فأنت كُل الذي يهمك أو يأتي أحدهما لمُناسبتك فعندما يتأخرون وتغيب أنت عن الحفل لحظات وتعود تسأل تقول أجاء زيدٌ أو عمر ؟ وأنت لا تُريد أن تسأل من الذي جاء وإنما تُريد أن تسأل هل كان هُناك مجيءٌ أم لا ؟ فيكون الجواب هنا بماذا .. بنعم في حالة الإثبات ولا في حالة النفي ـ هذا في استخدام أو .
أما في استخدام أم فإنك على يقينٍ أنت أحدهما جاء لكنك لا تدري من الذي جاء فتقول أجاء زيدٌ أم عمر فيكون الجواب بحسبِ من جاء زيدٌ بحسب حالة إتيانه وعمرٌ إن كان هو الذي أتى [ واضح ] هذا المنزل الفارق ما بين أم وبين أو .(6/123)
هذه كُلها جاءت بعدها بل ، بل عند النحويين للإضراب ما معنى الإضراب ؟ الانتقال و الانتقال هذا أحياناً يكون استئناف كلام جديد وأحياناً تجمع بل ما بين الإضراب والإبطال ، ما بين ماذا وماذا ؟ ما بين الإضراب والإبطال فالإضراب مُتأصلٌ فيه أما الإبطال قد يقع وقد لا يقع ، ما معنى الإبطال ؟ أن تأتي فتنقل الجملة على أنها تستوعب إبطال الذي سبق ( وانطلق الملأُ منهم أن أمشوا و أصبروا على آلهتكم إن هذا لشيءٌ يُراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأُنزل علية الذكر من بيننا ) كل الذي مضى كلام صناديد قُريش. قال الله ( بل هم في شكٍ من ذكري )
هذا انتقالٌ وماذا ؟ وإبطال لما قد مضى انتقال في الحديث لأن ( بل هم في شكٍ من ذكري ) كلام الله حُكمه وإبطال لما قد سلف من قولهم لكنها لا تأتي على كل حال للإبطالِ وتأتي على كل حالٍ للانتقال.
( بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا )
بديةً نحوياً تُلاحظ أن( قول) عليها فتحه قد تُستدرك تُسأل كيف يُنصب اسم كان وهي هنا ليست اسم كان ، خبرُها مقدم فإذا قررنا أن قول هنا خبر كان مُقدم كان لابد من الإجابة أين اسمُ كانَ من قواعد العلم إذا دفعت شيئاً تأتي ببديله وإذا أخذت شيء تضع عوضً عنه حتى تستقيم الأمور أما الترك والغفلة لا يصنعُ منك عالماً فقول خبر كان مُقدم ولذلك نُصبت وأما اسم كان فالمصدر المأول من أن وما دخلت عليه وهي قول الله جل وعلا ( أن يقولوا سمعنا وأطعنا )
أما من حيث الصناعة التفسيرية فإن الله لما ذكر حال أهل النفاق ذكر حال أهل الإيمان وهذا من سنن وأسلوب القرآن المُتكرر في أكثر من موضع ( إ نما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأُولئك هم المُفلحون )(6/124)
ما الفلاح ؟ الفلاح تحقق المرغوب ودفع المرهوب فالإنسان إذا حصل على ما يؤمل وزال عنه الذي يخشاه ويكره تحقق له الفلاح فالله جل وعلا ربط الفلاح وقيده بطاعته وطاعة رسوله صلى الله علية وسلم .
ثمّ قال بعد ذلك تذييلا
( ومن يُطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون )
هنا نُفصل هناك حقٌ لله وهناك حقٌ للرسول وهناك حق مُشترك بين الله ورسوله
أعيد
هناك حقٌ لله وهناك حقٌ للرسول وهناك حق مُشترك بين الله ورسوله
فالإيمان والطاعة حقٌ مُشترك لله ولرسوله ، والخشية والتقوى حقٌ لماذا ؟ حق ٌلله، والتوقير بهذا اللفظ حقٌ لمن ؟ حقٌ لرسول . فالله لا يُقال لحقه توقيرا يُقال أعظم من ذلك يُقال عرف فُلانٌ قدر ربه [ واضح ] أما كلمة توقير تُستخدم في أسلوب التعامل مع المخلوقين ( وتُعزّروه وتوقروه ) وتوقروه هذا حق لمن ؟ حقٌ لرسول فالله جل وعلا هنا قال ( ومن يُطع الله ورسوله ) هذا حقٌ مُشترك ثمّ بعد أن ذكر الحق المُشترك قال الحق الخاص له جل وعلا الذي لا يرقى إليه النبي صلى الله علية وسلم فقال ( ويخشى الله ويتقه)
التقوى مرّ معنا تعريفها كثيراً لكنها من حيث الجملة فعلُ المأمور وترك المحظور ، من حيثُ الجملة ما التقوى ؟ فعل المأمور وترك المحظور لكن هذا الإطلاق لا يبقى على حاله تُصبح معنى التقوى أحياناً ترك المحظور وتوقي عذاب الله متى نقول إن التقوى يُصبحُ معناها ترك المحظور وتوقي عذاب الله إذا جاءت مقرونةً قبلها بالبرّ والإحسان والطاعة تنصرف التقوى إلى ماذا ؟ إلى ترك المحظور كما في الآية ( ومن يخشى الله ويتقه ) هذا تخريج بعض العلماء .
وبعض العلماء يقول يخشى في مسألة بمعنى الخوف من التقصير فيما مضى والتقوى الخوف من التقصير فيما يُستقبل (فأولئك هم الفائزون ) عاد الحديثُ بعد ذلك بعد أن ذكر الله جل وعلا النماذج الإيمانية العظيمة عاد الحديث إلى المنافقين فقال سُبحانه(6/125)
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لأن أمرتهم ليخرجنّ قُل لا تُقسموا طاعةٌ معروفه إن الله خبيرٌ بما تعملون )
من الذي أقسم المنافقين (جهد أيمانهم ) أي منتهى ما يبلغُنه من الحلف والأيمان ( لأن أمرتهم ) أيُها النبي ( ليُخرجنّ ) إذا قصصت عليهم وخصصتهم أو دعوتهم إلى قتالٍ عام أنهم سينفذون أجابهم الله ( قل ) الخطاب لمن ؟ لنبي وهذا يُسمى تلقينٌ إلهي لنبي وهذا أول التلقين من هذا النوع وسيأتي تلقينٌ آخر ( قُل أطيعوا الله ) ( قُل لا تُقسموا ) لا خلاف أن لا ناهية لكن ما المقصود بقوله جل وعلا ( لا تُقسموا ) هذا لا يتضح حتى يتضح ما بعدها
قال الله بعدها
( طاعةٌ معروفة )
إذا حُرر معناه يتحرر معنى قول الله جل وعلا ( لا تُقسموا ) قال بعضُ العلماء وهذا الذي علية الجمهور وهو الأظهر ونبدأُ به .
طاعةٌ معروفة أي أن لكم سوابق ونعلم من حالكم ونعرف من أخباركم ومع صنيعكم بنبينا صلى الله علية وسلم ما نعلم من خلاله بمُقتضى ما سبق منكم زيادة على مُقتضى علم الله الأزلي أن طاعتكم معروفة فليس منكم إلا الخُذلان والترك وعدمُ الاستجابة لأمر الله ورسوله فيصبح بعد هذا التحرير معنى قول الله جل وعلا ( لا تقسموا ) أي لا حُرمة لقسمكم لا داعي له ولا يتعلق به حرمه لأن طاعتكم معروفه لها سوابق من قبل . هذا التحرير الأول للمسأله .
التحرير الثاني : أن تُصبح طاعةٌ معروفه مبتدأٌ محذوف الخبر ما تقديرُ خبره يُصبح تقدير الخبر طاعةٌ معروفه أولى من الأيمان يعني لا حاجة لأن تُقسموا فلا يُصبح تهكُم مثل الأول ، الأول يجري مجرى التهكم هنا لا يُصبح مجرى التهكم إذا قلنا بهذا المعنى يُصبح المعنى لا داعي للأيمان لا نُريدُ منك أيمانً مُغلظة و لا جهد أيمان نُريدُ منكم أن تُظهروا طاعةً عمليه تُثبت بها صدق اتبعكم لنبيكم صلى الله علية وسلم.(6/126)
هذا المعنى يتحرر علية معنى أخر وهو كلمة معروفه من أين مُشتقه من العلم أو من العرف ؟ من ماذا أو ماذا ، من العلم أو من العُرف ؟ إذا قُلنا من العلم فيُصبح المعنى طاعةٌ معروفه أي طاعةٌ معلومةٌ ظاهرةٌ بينه تُثبتُ لنا صدق توجههم وأما إذ قُلنا من العرف فالمعنى أن الله جل وعلا لا يُريدُ منكم إلا شيءً معروفاً تعارف الناسُ علية أي أمراً يسيراً هيناً لا يُريدُ منكم أيماناً مُغلظة ومنه قول الله جل وعلا ( ولا يعصينك في معروف)
(قُل لا تُقسموا طاعةٌ معروفه إن الله خبيرٌ بما تعملون )
ونُرجح أن المقصود الأول مما ذكرناه .
ثمّ قال سُبحانه
(قُل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
هذا التلقين الثاني من الله لنبيه
( فإن تولوا فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمّلتم وإن تُطيعوه تهتدوا )
وهذه أسلوب شرط فربط الله الهداية بماذا ؟ بالطاعة ، ربط الله الهداية بالطاعة وقد قُلنا مراراً في درسنا هذا وفي غيره إن السيادة دُنيوياً لأهل الملة مُرتبطة بإتباع النبي صلى الله علية وسلم فأبو بكر وعمر وعُثمان وعلي وخالد وصلاح و غيرهما مجاهيل في الأصل وإنما سادوا لما منّ الله عليهم بإتباع نبيه صلى الله علية وسلم
فمن أبو بكر قبل الوحي من عُمر ** ومن عليٌ ومن عُثمان ذو الرحمِ
من خالدٌ من صلاح الدين قبلك من ** أنت الإمامُ لأهل الفضلِ كلهم ِ
وهذا رددناها مراراً لكن الحاجة تتأكدُ إليها أيُ سيادة دينيه إنما هي مقرونة بإتباع هدية صلى الله علية وسلم قال ابن القيم رحمه الله في نونيته :
وكمالُ شرع الله دينُ محمدٍ *** صلى علية مُنزل القرآنِ
[ واضح]
( وإن تطيعوه تهتدوا ) ثم قال ( وما على الرسول إلا البلاغُ المُبين)(6/127)
واكبرُ دليل أنه ليس على الرسول إلا البلاغُ المُبين أن الله قال له قبل قليل ( قُل أطيعوا الله الرسول ) فهو علية الصلاة والسلام مُبلغ ولما كان علية الصلاة والسلام يعلم أنه مُبلغ لما شعر بدنو الأجل وقُرب الرحيل كان لا همّ له إلا أن يتأكد هل أدى الأمانة وبلغ أم لم يؤدها ولم يُبلغ فاستشهد الناس بيوم عرفه " ألا هل بلغت " فقالوا رضي الله عنهم وأرضاهم ونعم الشاهدون هم قالوا { نشهدُ أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة } .
( وعد الله الذين ءامنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليُبدلنّم من بعد خوفهم أمناً)
هذه قبل أن أشرع في القضايا التاريخية أُحرر بعض المسائل العلمية المُباشرة(6/128)
ما المقصود بالأرض هنا؟ ( ليستخلفنهم في الأرض ) قال بعضُ العلماء إن المقصود بالأرض هُنا مكة لأن المُهاجرين أُخرجوا منها فكانوا يسألون الله إياها وقد تم فتحُ مكة فتحقق الوعدُ الرباني . هذا قول لطائفة من العلماء ( ليُمكننّ دينهُم الذي ارتضى لهم ) قبلها (ليستخلفنهم في الأرض ) فقالوا إن المقصود مكة (كما استخلف الذين من قبلهم ) أي بنو إسرائيل و لا خلاف في أن الذين من قبلهم هم بني إسرائيل لكن الخلاف أين الأرض ؟ وذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بالأرض هنا عموم الأرض أرضُ العرب وأرض العجم بل قالوا أن مكة بعيده وأجابوا لماذا قالوا إن مكة بعيده قالوا إن الأصل إن الله منع المُهاجرين أن يعودوا إلى أين ؟ إلى مكة وأين الدليلُ من السنة أن الله جل وعلا منع المُهاجرين أن يعودوا إلى مكة أن سعد ابن أبي وقاص لما مرض في عام الفتح زارهُ النبي صلى الله علية وسلم وكان يخشى سعدٌ أن يموت في مكة وقد هاجر منها فقال صلى الله علية وسلم " اللهم أمضي لأصحابي هجرتهم ، ثمّ قال لكنّ البائس سعدُ ابن خوله " جاء في تعقيب الراوي يرثي له صلى الله علية وسلم أنه مات بمكة ، سعد ابن خوله غير سعد ابن أبي وقاص فهذا دليلٌ على أنها ليس مقصود مكة وهذا القول رجّحهُ ابن العربي ومال إليه القُرطبُي رحمه الله في تفسيره هذا مدخلٌ للموضوع .(6/129)
من الموعود في الآية ؟ ذهب بعضُ العلماء إلى أن الموعود بالآية هم المُهاجرون الأولون وقالوا إن الآية أول ما تنطبق على الأربعة الراشدين الصديق ، والفاروق ، وعُثمان ، وعلي لأن هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا مغلوبين فأصبحوا غالبين وكانوا مقهورين فأصبحوا قاهرين وكانوا مطلوبين فأصبحوا طالبين وحقق الله لهم الوعد ويوم نزلت هذه الآية المباركة لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي أحدٌ منهم خليفة هذا وعد وإنما كانوا من المهاجرين الأولين يخافون فلما منّ الله عليهم بعد ذلك كُلهم هؤلاء الأربع الراشدون نالوا الخلافة ومكن الله جل وعلا لهم في الأرض وقد أخبر النبي صلى الله علية وسلم أن الخلاقة بعدهُ ثلاثون عاما ثُمّ تكون مُلكً عضوضا فمُعاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه أول مُلوك المسلمين أما الأربعة الراشدون فمُتفق على أنهم أبو بكر وعمر وعُثمان وعلي لكننا نقول أن هؤلاء الأربعة وإن دخلوا دخولاً أولياً في معنى الآية كما تحرر في التأصيل العلمي في دخول ذوات الأسباب نقول هُنا لكن المُخاطب بها كُل مؤمن .
لكننا إذا نزلّنا الآية على أصلنا يجبُ أن نعلم أن الله ربط العزة والقوة والظهور بالإيمان وعمل الصالحات ولم يربطها بالأعداء فبعضُ الناس اليوم يقول يتمنى أن يُهلك الله أعدائنا وهذا من حيثُ الجملة لا حرج فيه لكن ليس رِفعةُ شئننا مردُها إلى قوة عدونا ليس ضعفُنا اليوم مرده إلى قوة عدونا ولكن لبُعدنا عن الإيمان والعمل الصالح .(6/130)
ومن الطرائف السياسية يقولون إن أحد رؤساء أمريكا الجنوبية سُؤل لماذا أنتم مُتخلفون قال لسببين ؟ لقُربنا من أمريكا وبُعدنا عن الله ــ طبعاً بُعدنا عن الله وفق المنظور المسيحي ــ الذي يعنينا أن ليس الهم أن يذهب جُهدنا في الدُعاء على الأعداء بالهلاك وإنما الهم يجبُ أن ينصرف في أن نبني الأُمة بناءً صحيحاً فإذا بُنيت الأُمة بناءً صحيحا مهما بلغت قوة العدو فإن الله وعدنا بالنصر والتمكين والاستخلاف لكنه قرنه جل وعلا بقوله ( وعد الله الذين ءامنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) فالصحابة الأولون السابقون المهاجرون لما آمنوا و عملوا الصالحات مكنّ الله جل وعلا لهم
في الأرض (وليُبدلنّم من بعد خوفهم أمناً )
وهذا حصل لهم كُلهم رضي الله عنهم وأرضاهم ( يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً ) فإقامة التوحيد أعظمُ مقاصد الدين. ثم قرنها الله جل وعلا بالآيات ( وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم تُرحمون ) فأعظم أسباب الرحمة دلّ عليها القرآن منها : الإستغفار كما في سورة النمل ، ومنها التوحيد وهو أعظمُها ، ومنها العملُ الصالح كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .
وقبل أن أعود لقضية التاريخ وأُكمل ما تبقى من آيات
(لا تحسبنّ الذين كفروا مُعجزين في الأرض ومأواهمُ النارُ و لبئسَ المصيرُ )(6/131)
وهذا إستدركٌ ربانيٌ عظيم فإن الإنسان وهو يقرأُ الآيات يُقلب الطرف فيما يراه من حوله من بعض الأُمم فالله جل وعلا يُطمئنك ويُخبرك ويقول لك لا يُصيبنك جزعٌ ولا شكٌ ولا ارتيابٌ في دينك أن ترى علّو أهل الكُفر وأن يكون لهم أيامٌ ودول وهم مهما علو وقهروا ليس بمعجزين لرب تبارك وتعالى ويكفيهم بؤسا أن مصيرهم إلى جهنم قال الله تعالى (ومأواهمُ النارُ و لبئسَ المصيرُ ) نختم بأنهُ ينبغي للمؤمن خاصةً من يتصدر لطلب العلم أن يُدرك التاريخ العلم لأُمته وأن يكون لديه إلمام شامل لهذا الوعد الرباني والناس اليوم ما بين حاضرٍ مشهود ووعدٍ منشود ـ أو بتعبير أصح ـ غيب منشود يرتقبونه وهو علو المسلم وواقعٌ مشهود وهو ما فيه الأُمة من ضعف . هذه الأُمة مات النبي صلى الله علية وسلم والصحيح أنه لم يستخلف فاتفقت كلمة المُهاجرين والأنصار على الصديق رضي الله عنه و أرضاه فساس الأُمة عامين وأكثر قليلاً واستخلف بعدهُ عُمر فساس عمر الأُمة وفي عهده تمت الكثيرُ من الفتوحات ثم مات رضي الله عنه وأرضاه فأوصى أن تُجعل الخلافة في ستة وأشرك معهم عبد الله ابن عمر على ألا يكون له في الأمر شيء من هيئة التعزية لأبنه لأنه كان أكبر أبنائه هؤلاء الستة انتهى أمرهم إلى عُثمان قُتل عثمان غدراً دون أن يستخلف فأهلُ الحل والعقد في المدينة استخلفوا علياً ثم قُتل عليٌ رضي الله تعالى عنه على يد الخوارج تنازل الحسنُ ابن عليٌ رضي الله عنه بعد ذلك عن الخلافة لمعاوية فاجتمعت كلمة المسلمين على إمام واحد وهو معاوية رضي الله عنه وأرضاه فأسس معاوية المُلك الأموي وقد مرّ معنا أنه أول مُلوك المسلمين في عهده تمت كثير من الفتوحات جاء بعدهُ ابنه يزيد ابن معاوية ثم معاوية ابن يزيد ولم يكن له رغبة في الخلافة ثم استُخلف مروان ابن الحكم لما استُخلف مروان قُتل بعد ذلك على يد زوجته فتفرق البت الأموي بعده آل الأمر إلى أبنه عبد الملك والساسة والمؤرخون(6/132)
يعدونه المؤسس الثاني لدولة بني أُمية في ولاية عبد الملك انتقلت الخلافة من الفرع السُفياني إلى الفرع المرواني ومعنى انتقلت الخلافة من الفرع السُفياني إلى الفرع المرواني أن يزيد ومعاوية ابن يزيد ينتسبان إلى مُعاوية رضي الله تعالى عنه ابن أبي سُفيان الذي هو من بني أُمية أما مروان ابن الحكم فليس من ذُرية أبي سُفيان لكنه من ذُرية أُميه ابن عبد شمس هؤلاء وصلوا الخلافة إلى عبد الملك فرأى أنه يبول في محراب رسول الله صلى الله علية وسلم فعرض رؤياه على سعيد ابن المُسيب فأولها أن أربعة من أبنائه يحكمون فحكم بعده الوليد وسُليمان ثم انقطعت خلافته في النسب لولاية عمر ابن عبد العزيز ابنُ أخيه ثم عادت الخلافةُ إلى نسبه رجعت إلى يزيد ثم هشام ثم تتابعت دولةُ بني أُمية إلى تلك الفترة اضطهد الأمويون الموالي واضطهدوا آل البيت كثيراً فنشأ حنق في الناس عليهم وبالذات الموالي الذين دخلوا في الدين وكان منهم علماء وكان أكثرهم يسكن في خرسان فلجأت الدعوة إلى ما يُسمى من غير تحديد إلى الرضا من أهل البيت عموماً فقويت الدولة في خُرسان وخرج أبو مسلم الخرساني داعية لبني العباس في عهد مروان ابن محمد الملقّب بالحمار لصبره كان أخر خلفاء بني أُمية سقطت دولة ُ بني أُمية وقامت بعده دولة بنو العباس وأول خلفائهم أبو العباس السفاح ثم كانت خلاقة أبي جعفر المنصور والعباسيون يتفاولون بهذا اللقب بهذه الكنية كنية أبو جعفر فأكثر خلفاء بني العباس يُسمي ابنه الأكبر جعفر تيمُناً بأن أبا جعفر كان له صولة و جولة في خلافة بني العباس المقصود من هذا التاريخ الإسلامي.(6/133)
ثم تولى الكثيرُ منهم هارون قبلهُ الهادي والمهدي ثم هارون نشأ من هارون ذُرية الأمين والمأمون والمعتصم ثم انحصرت الخلافة انحصرت في ذُرية المعتصم ثم سقطت دولة بني العباس في أواسط القرن السابع ثم بعد ذلك ظهرت دول دولة المماليك كانت معاصرة تقريباُ لدولة بني العباس في أخرها في مصر و أصلهم كانوا أرقاء ثم اعتقوا ثم سادوا ولهم قضايا عديدة مع العز ابن عبد السلام ولهذا سُمي العز ابن عبد السلام سُلطان العلماء لوقوفه في بعض القضايا الفقهية المتعلقة بحكم المماليك ثم كانت دولة آل عثمان واستمرت قروناً على الشق الآخر في الأندلس خرج عبد الرحمن ابن معاوية المعروف بعبد الرحمن الداخل وهو من بني اُمية فرّ هارباً من الاضطهاد الذي أصاب بني أُمية على يد بني العباس وهناك أسس دولة إسلامية في الأندلس مكثت هذه الدولة قروناً طويلة ثم انتقلت من حكم الأموين إلى حكم ملوك الطوائف كما تكلمنا عنها في قضية ابن زيدون ثم ضعُفت دولة بني عثمان وظهر الغرب وجاءت حروب عده من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية ثم هؤلاء تسلطوا على دول الإسلام بعد أسقطت الخلافة على يد الأتراك أنفُسهم على يد كمال التتُرك الملقب بأبي الأتراك فسقطت الدولة حصلت مُعاهده تُسمى سايسبيكوا مُصطلح لوزيرين خارجيتين لدول الكُبرى تقاسموا العالم الإسلامي ثم منّ الله جل وعلا على هذه الجزيرة ظهر الملك عبد العزيز رحمة الله تعالى علية أعاد مُلكً سابقً لأجداده دعوة الإمامين محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن سعود هذا مُجمل تاريخ العالم الإسلامي.(6/134)
في فلسطين كانت معروفة تحت الاحتلال البريطاني ثم حصل كلمة خرجت من فم عمداً وزير الخارجية يًُقال له بلفور أن يُمكنّ لليهود في فلسطين فحصل ما حصل من قيام دولة إسرائيل أُقيمت دولة إسرائيل أو ظهرت عام 1948 م ثم دخلت الضفة الغربية وقطاع غزة والقُدس عام 67 الحرب المعروفة بنكسة حُزيران والأحوال المُعاصرة لا يحتاج الكلام عنها لأنها مشهودة معروفه لديكم هذا تاريخ الدولة الإسلامية من حيث الجملة .
الاستخلاف الرباني مربوط بالإيمان والعمل الصالح لكن ليس مربوط بتقوى خليفة أو تقوى عامة وإنما من تقوى الجملة أن تعود الأُمة من حيث الجُملة إلى دينها هذا الآن السبب الأول والرئيس في نُصرتها وعزها.
وعد النبي صلى الله علية وسلم أخبر بظهور المهدي فالضُعفاء من الناس ركنوا إلى ظهور المهدي ورضوا بالذُل ينتظرون أن يخُرج المهدي والمهدي لن يكون أقوى شكيمة ولا أشد علماً من رسول الله صلى الله علية وسلم ورسول بنى الأُمة في ثلاثة وعشرين عاماً فلا يُعقل أن يبنيها المهديُ في ليلة فالسعيُ والعمل و الحثّ في سبيل نُصرة الأمة أمرٌ دلّ علية القرآن ودلّ علية السُنة ونحنُ بين أيدينا آية فيها وعدٌ ربانيٌ بالاستخلاف فهي وإن كانت وعداً إلا أنه لا ينجمُ عنه أن نركن إلى الخمول بل الوعدُ يجبُ أن يحُث على العمل مثله تماماً في الآخرة وعدنا الله الجنة فهذا حتى يحُثنا ربُنا على أن نعمل من أجلِ أن نصل إلى الجنة .
نسأل الله أن يُقر أعيُننا وأعيُنكم بالاثنتين تحقيق وعد الاستخلاف في الأرض و وعد دخول الجنة هذا والله تعالى أعزُ وأعلى وأعلم وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين ...........
تفريغ سورة النور من الآية ( 85 ) إلى الآية (64 )
بسم الله الرحمن الرحيم(6/135)
الحمد لله الذي تقدّست عن الأشباه ذاتهُ ودلّت على وجودهِ آياتُهُ ومخلوقاتُهُ وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهُ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ..
أما بعد ...
فهذا خاتمة اللقاءات المُتعلّقة بسورة النور والمعنى أن سورة النور سوُرةٌ جليلةٌ عظيمة كُنّ قد منّ اللهُ علينا من قبل بالحديث عن ما فيها من أحكام وآدابٍ ومواعظ واليوم نختمُ في هذا اللقاء الحديث عن طيات هذهِ السورةِ المُباركة .
قال الله جل وعلا وهو أصدقُ القائلين :
( يا أيُها الذين ءامنوا ليستئذنكُم الذين ملكت أيمانكُم والذين لم يبلغُ الحُلم منكُم ثلاث مرّات ) إلى قولهِ تعالى ( والله عليمٌ حكيم )
هذهِ الآية آيةُ استئذان جاءت بعد آيات استئذانٍ سبقت النداءُ فيها كما مرّ معنا نداءُ كرامة وقد فصّلنا فيما قبل أن النداء يكون نداءً عاماً كقولهِ تعالى ( يا أيُها الناس ) وقولهِ تبارك وتعالى ( يا بني ءادم ) أما إذا قال الربُ جل وعلا يا أيُها الذين ءامنوا ) فهذا يُسمّى نداء كرامة لا نداء علامة لأن الله جل وعلا كرّم عبادهُ الأوفياء المُتقين لنهم ءامنوا بهِ .
( يا أيُها الذين ءامنوا ليستئذنكُم الذين ملكت أيمانكُم والذين لم يبلغُ الحُلم منكُم ثلاث مرّات )
المُخاطب الذين ءامنوا والمطلوب منهُم أن يستأذنوا طائفتان العبيد والجواري وعبّر عنهم (بالذين ملكت أيمانكُم) ، والأطفال الأحرار وعبّر عنهم بقولهِ ( لم يبلُغُ الحُلم منكُم ) أي من الأحرار من المؤمنين الأحرار وخصصناها بالأحرار لأن العبيد والجواري قد مضى القول عنها في قولهِ ( الذين ملكت أيمانكُم )
اللام في الفعل لام أمر لكن هل هذا الأمر للوجوب أو لتعليم والإرشاد بكُلٍ قال العُلماء وقولُ الجمهور أن اللام هنا لام أمر والأصلُ فيهِ الوجوب .(6/136)
الربُ تبارك وتعالى في هذهِ الآية يُعلّم عباده أن الأشياء درجات ولا يُمكن أن يُعطى أحدٌ كُل ما عندك بالكُلية ،
العرب تقول
ولكن من الأشياء ما ليس يُوهبُ
فمهما بلغت خُصوصية من حولنا من العبيد والجواري والأطفال إلا أنها تبقى حالات خاصة بنا لا يُمكن أن نفتح مجالاً للآخرين على علو مكانتهم وقُربهم منّا وحاجتنا إليهم وحاجتهِم إلينا إلا أن هناك أمور تبقى خطوط حمراء والقرآن هذا ما أُنزل ليوضع في آخر السيارات فقط تبرُك كما يفعلُ البعض وليس المقصود بيانُ حُكمِ هذا لكن المقصود الأسمى بيان أن نفقه أن القرآن أُنزل لمعانٍ عظيمة ومقاصد جليلة منها :
أن نعيش حياتنا وفق نُظم القرآن وفق آيات القرآن التعبيرُ بآيات هنا أجمل من التعبير بنُظم لأن نُظم تنصرف إلى القوانين الوضعية أكثر من غيرها .
فالربُ جل وعلا هُنا يُنادي عبادهُ نداء كرامة أنهُ لابُد من الاستئذان لكنهُ قال ( ثلاث مرّات ) هذهِ الثلاث مرّات هي خُصوصية من الوقت العام هؤلاء كما يأتي في آخر الآية ( طوّافون ) طوّافون بمعنى يدخلون ويلجون والدين جاء برفع المشقة فالأحكام وإن عُمّمت أحياناً لكن تأتي منها استثناءات فطالوت يقول لقومهِ ( إلا من أغترف غُرفةً بيدهِ ) ويعقوب يقول لبنيهِ ( غلا أن يُحاط بكُم ) لابُد من الاستثناءات وسُليمان يقول في قضية الهُدهد ( أو ليأتيني بُسلطانٍ مُبين )
لابُد من ترك مجال خط رجعة للآخرين هذا الاستثناءات الأصلُ أن الناس جميعاً يلزمهُم الاستئذان لكن الجواري والعبيد الخدم الأطفال الذين يدرجون إلى حُجراتنا مُستثنون من هذا الطلب العام .(6/137)
هُم أنفُسهم المُقربون هؤلاء تأتي أحوال تأتي ظروف تأتي أزمنة نحنُ فيها في حالةٍ خاصة جداً في هذهِ الحالة الخاصة جداً بدهيٌ حتى هذهِ الطائفة تبقى لها نوعٌ من التوقُف والعاقل في تعامُلهِ مع الآخرين يضع خطوط ومن حولك كلٌ منهُم لهُ خط يقف عندهُ والله يقول عن ملائكتهِ ( وما منّا إلا ولهُ مقامٌ معلوم )
سدرة المُنتهى ينتهي عندهُ ما يعرُج من الأرض إلى السماء تجاوزها صلى الله علية وسلم لأن قدرهُ ليس كقدر غيرهِ هذهِ خطوط عظيمة يضعُها القُرآنُ بين أيدينا لتعامُل مع غيرنا لكي نفقه الأشياء من حولنا .
من ظُلم القرآن أن يُلتفت فقط إلى القضايا البلاغية والنحوية وإن كانت مطلوبة لكن نظلمُ كلام الله نظلمُ أنفُسنا في فهم كلام اللهِ إن جعلناهُ محصوراً في هذهِ القضايا فقط وإنّما القرآن أشمل وأعظم وأجلُّ من ذالك هذا تشريع ولهذا قال الله بعدها ( كذالك يُبينُ الله لكُم الآيات واللهُ عليمٌ حكيم )
نعود للأول ( ثلاث مرّات ) قال الله جل وعلا ( من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكُم من الظهيرة ومن بعدِ صلاةِ العشاء )
هذا تعليلٌ للحُكم قال بعدها ( ثلاثُ عوراتٍ لكُم ) العورة سُمّيت عورة لأن إظهارها يجلبُ المذمّة والعار وتُسمّى سوءة لأن إظهارها يسوء الرجُل الحُر العاقل ( ثلاثُ عوراتٍ لكُم ) هذهِ سمّاه الله جل وعلا ثلاث عورات لأن غالب حياة الناس أن هذهِ الثلاث العورات هذهِ الأوقات يحصُلُ فيها من التكشُف والخلل في السترِ ما لا يحصُل في غيرها لأنها أوقاتُ راحة ونوم ومُغالبة أن يكون الرجُلُ مع أهلهِ .
فقولُ الله جل وعلا ( من قبل صلاة الفجر ) هذا وقتُ النوم ( وحين تضعون ثيابكُم من الظهيرة ومن بعدِ صلاةِ العشاء )
فإن قال قائل كيف تقول إن من قبل صلاةِ الفجرِ وقت نوم ؟
نعم هذا الأصل وإن كان سحراً لكنّ السحر قسمان :(6/138)
سحر مُرتبط بصلاة الفجر والأصلُ فيهِ النوم تقول عائشة عن هذا الوقت " ما ألفيتهُ إلا راقداً عندي " من ؟ النبي صلى الله علية وسلم وصلاةُ دواد كان يفصل ما بين قيامهِ لليل وما بين صلاة الفجر النوم .
( من قبلِ صلاةِ الفجرِ وحين تضعون ثيابكُم من الظهيرة )
لم يقُل ربُنا وحين تضعون ثيابكُم من قبل صلاة الفجر ولم يقُل حين تضعون ثيابكُم بعد صلاةِ العشاء
لماذا؟
لأن هذا وضعُ الثياب في هذين الوقتين أمرٌ معهود معلوم لكن وقت الظهيرة ذكرهُ اللهُ جل وعلا فدّل على غيرهِ من باب أولى دّل على غيرهِ من باب أولى فإذا كان التقليدُ السائد المُتفق مع الفطرة البشرية أن الناس تضعُ ثيابها عند الظهيرة فمن باب أولى أن توضع الثياب من قبل صلاة الفجر ومن بعد صلاة العشاء .
على هذا يُقال ــ أستطرد قليلاً في فهم القرآن ــ
القرآن غالباً الشيءُ الظاهر لا يُقدّمهُ وإنما يُقدّم ما هو خفي وهذا أصلاً صبغة يعني علّمها الله جل وعلا عبادهُ حتى يخرُج العُظماء من الرجال فالعُظماء من الرجال لا يقولون الكلام الذي عرفهُ كُلُ أحد .
فإن قُلت أين الدليل ؟!
الدليل في سورة واحدة في البقرة اللهُ جل وعلا قال في البقرة ( إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ) حدّد وقتها وقال في البقرة ( يا أيُها الذين ءامنوا كُتب عليكُم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكُم لعلّكُم تتقون ) ثُمّ قال ( شهرُ رمضان ) بعد أن قال ( أياماً معدودات ) فحدّد أن الصيام في رمضان عندما ذكر الحج في نفس السورة قال تباركت أسمائهُ وجل ثناءهُ ( الحجُ أشهرٌ معلومات ) ما هي الأشهُر المعلومات ما قال جل وعلا ذو القعدة ، شوال ، ذو القعدة وذو الحجة التي قال الفُقهاء أنها أشهُر الحج
لماذا؟(6/139)
لأن العرب لم تكُن تُصلي ولم تكُن تصوم فحدّد الله لهُم أزمنة الصلاة وأزمنة الصيام لكنّهم كانوا يحجّون ولهذا قال ( أفيضوا من حيثُ أفاض الناس ) فلمّا كانت أشهُر الحج لا يجهلُها أحد ممّن خُوطب في القرآن أولاً لم يقُل اللهِ ما هي أشهُر الحج قال ( الحجُ أشهرٌ معلومات ) أي أنها مُشتهرة معروفة لا تحتاجُ إلى بيان .
فوضعُ الثياب من الظهير ة هذا يختلفُ الناسُ فيه ِفحدّدهُ ودلّ على غيرهِ من بابٍ أولى ( ثلاثُ عوراتٍ لكُم ليس عليكُم ولا عليهِم ) ليس عليكُم أيُها المُخاطبون ولا عليهم أيُها المُطالبون بالاستئذان و ينصرفُ كما قُلتُ إلى العبيد والجواري والأطفال الأحرار .
( ليس عليكُم ولا عليهِم جناحٌ )
أي إثمٌ ولا حرجٌ ولا ضيق ( بعدهُنّ ) عائدة على الثلاث مرّات ( طوّافون عليكُم بعضكُم على بعض )(6/140)
طوّافون عليكُم بعضكُم على بعض الأصلُ أن الصبية والعبيد والجواري يدرُجن ويلجون إلى بيوت ساداتهِم وحُجراتهم وغُرفهم فأنت إمّا أن تحتاج إلى خادمٍ فتذهب إليهِ أو هو يأتيك ليُؤدي لك خدمة والطفلُ دون البلوغ جرت العادة أنهُ يدخُل ويخرُج على أبويهِ وأجدادهِ وسائرِ أهلِ البيت فاشتراطُ الاستئذان ِ هنا يجلبُ الحرج والدينُ من عمومياتهِ نفيُ ماذا نفيُ الحرج والدين من عمومياتهِ وكُلياتهِ نفيُ الحرج وقُلت أنا دائماً دلالة العلم ربطُ الأشياء بعضُها ببعض حتى تفقه أن هذا الدينُ واحد والله جل وعلا لا يُفرقُ بين مثيلين ولا يجمعُ بين نقيضين لا يُفرقُ بين مثيلين ولا يجمعُ بين نقيضين وهذا من دلالة حكمة الدين فمثلاً هذهِ الأشياء تُقاس عليها مثلاً أن الإنسان يُطلب منهُ إذا دخل المسجد أن يُؤدي تحية المسجد لكن تحية المسجد في عُرفِ كثيرٍ من الفُقهاء مرفوعةٌ عن من يكثُر دخُولهُ وخروجهُ على الناس كالبواب الحارس من وُكّل لهُ إصلاح شيءٍ من المسجد يخرُج ليُضيء ويغدوا ويروح فهذا لا يُطالب في كُل دخولٍ وخروج أن يُصلي تحية المسجد إذا كان خُرُجهُ مُتقارب .
مثالهُ في واقعنا المُعاصر الأخوة القائمين على السُفر والإفطار في المساجد أو في الحرمين الذين يخرجون من الباب كثيراً إمّا ليأتوا بالطعام أو يُقدّموا ضيفاً أو يأتوا بسائلٍ يُريدون منهُ أن يفطر في سُفرتهم حرجٌ كبير لو طالبناهُم بالتحية في كُل وقت [ واضح]
حتى يتضح الدين
قال ربُنا ( كذالك يُبينُ الله لكُم الآياتِ واللهُ عليمٌ حكيم )
ثُمّ قال جلّ ذكرُهُ
( وإذا بلغ الأطفال منكُم الحُلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهِم كذالك يُبين الله لكُم ءاياتهِ والله عليمٌ حكيم )(6/141)
هؤلاء الأطفال يكبرون والعاقل يعلم أن كُل صغيرٍ يكبُر وكُل قليلٍ يكثُر وكُل ضعيفٍ يقوى هذهِ لماذا لأدرجناها ؟ تنتبهِ في الأمور من حياتك لا تترُك الأشياء على ما هي عليهِ فإن تركتها فهذا الأصلُ فيها .
الاستئذانُ للأطفال رُفع عنهم إلا في تلك الثلاث الأوقات لكنّهُم مُقيد بكونهِم أطفالاً فإذا ناهزوا البلوغ وعبّر عنهُ هنا بالحُلم وهو رُؤيا الجماع في النوم فإنهُ يعودون مُخاطبين كما خُوطب الذي من قبل فقال الله جل وعلا (وإذا بلغ الأطفال منكُم الحُلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهِم) وهي آياتُ الأذن التي مرّت في أول سورة النور ( كذالك يُبين الله لكُم ءاياتهِ والله عليمٌ حكيم )
ثُمّ قال جلّ شأنهُ :
( والقواعد من النساء الآتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهُنّ جُناحٌ أن يضعن ثيابهُنّ غير مُتبرجاتٍ بزينة وأن يستعففن خيرٌ لهُن واللهُ سميعٌ عليم )
قواعد جمعُ ماذا ؟
جمعُ قاعد من غير تاء جمعُ قاعد من غير تاء .
لماذا قُلنا من غير تاء ؟
قُلنا من غير تاء لأن القاعدة بالتاء تدخُل فيها الكبيرة والصغيرة فكُل من جلست في بيتها لأي شيءٍ كان فهي قاعدة لكن القاعد هي المرأة الكبيرة التي قعُدت على قولين للعُلماء الأشهر منهُما :
القواعد جمعُ قاعد وهي التي قعدت عن الولد والحيض والزواج قعدت عن ماذا؟ عن الحيض والولد والزواج .
وقال ابنُ قُتيبة وهو إمامٌ في اللُغة يحتجُ بأقوال مثلهِ قال إنها الكبيرة في السنّ وسُمّيت قاعد وجُمعت على قواعد لأنها تكثرُ من القعودُ في البيتِ لكبرِ سنّها وعجزها عن الخروج .
وهذا قد يكون مُنتفيٍ في زماننا لوسائل النقل والإعانة الموجودة المُعاصرة هذا الأمر والعربُ أصلاً تقول للمرأة هذا حتى وإن كانت يعني شابة لكنّها جرت على ألسنتهِم أمور مثلاً قولُ الحُطيئة
اُطوّفُ ما أُطوّفُ ثُمّ أوى *** إلى بيتِ قعيدتهُ لكاع(6/142)
هنا يذُم زوجتُهُ لكن الذي يعنينا أن القواعد جمعُ قاعد وهي المراةُ التي قعدت عن الحيضِ والولدِ والزوج .
قال ربُنا:
( والقواعد من النساء الآتي لا يرجون نكاحاً)
معنى (لا يرجون نكاحاً) أي الغالب أنهُ لا يُطمعُ في مثلهِنّ فليس لرجالِ في أمثالهنّ مطمع وهذا كُلهُ مجرى الغالب و إلا فإن من القواعد المُحكمات أن لكُل ساقطة لاقطة أن لكُل ساقطة لاقطة والعربُ تقول :
تعلّقتُها شنطاء شاب وليدُها ** ولناسِ فيما يعشقون مذاهبُ
هؤلاء القواعد الآتي غلب على الظنّ أنهُنّ لا يُطمعُ في مثلهنّ قال الله عنهُنّ ( فليس عليهنّ جُناح ) حرج إثم ( أن يضعن ثيابهُنّ غير مُتبرجاتٍ) يضعنّ ثيابهُنّ يتخفّفن من الثياب الجلباب والرداء وليس المقصُدُ تركُ اللباس بالكُلية حتى تذهب العورة هذا لم يقُل بهِ أحد ولن يقول بهِ عاقل ( غير مُتبرّجاتٍ بزينة ) هذا قيد ما معنى هذا القيد ؟
أن يكون سببُ الوضع التخفيف لا التبرُج أن يكون سببُ وضع الجلباب أو الرداء التخفيف لا التبرُج وإظهارُ ما يجبُ سترُهُ فالمعنى الحقيقي لتبرُّج هو إظهارُ ما يجبُ إخفاؤهُ وسترُهُ المعنى الحقيقي لتبرُّج إظهارُ ما يجبُ إخفاؤهُ وسترُهُ .
فيُصبح المقصود من المرأة أنها عجوز مُقعدة كبيرة طاعنة في السنّ فلا بأس أن تضع ما ثقُل من الثياب عن نفسها تُريدُ بذالك التخفيفُ عن كاهلها ومشقّة لبس الجلباب لا تُريدُ بذالك إظهار ما خفي .
( غير مُتبرّجاتٍ بزينة) .
ثُمّ قال ربُنا :
( وأن يستعففن خيرٌ لهُنّ )
هُنا أعطيك جُملة تُكتب بماء الذهب
إذا كان الاستعفاف ورد في حقِ القواعد فما عسى أن يُقال في حق الكواعب
إذا ورد الاستعفاف طلبُ العفّة مندوباً إليهِ في حق القواعد فما عسى أن يُقال في حق الكواعب ومن الكواعب ؟ جمعُ كاعب المرأة إذا بدأ ثديها أو الفتاة إذا بدأ يظهر ثديها .
قال ربُنا ( وأن يستعففن خيرٌ لهُنّ والله سميعٌ عليم )(6/143)
يعلمُ ما تُكنّهُ الصدور ويسمعُ خفيّات الأصوات جل جلالهُ فإن كانت المرأةُ أرادت بذالك غير ما شرعهُ اللهُ لها فلن يخفى ذالك على ربُ العزّةِ والجلال .
هذهِ آياتُ الاستئذان مُتشابهة الثلاثة التي تتابعت في سورة النور وهي من حيثُ الإجمال تُبيّن حرص الإسلام على الحياة الاجتماعية وتنظيم سير الحياة فيها وما جاء في الإسلامِ من الحرصِ على حفظ العورات وسترها وتحديدِ ذالك وبيانُ الطرائق المُثلى في الأمور التي يحصُلُ فيها السترُ والعفاف .
ثُمّ قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين :
( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفُسكُم أن تأكلوا)
للعُلماء في النظر في هذهِ الآية طريقان:
الطريق الأول :
وأختارهُ أبو حيّان في البحر المُحيط وهو على أن الواو في قولهِ جل وعلا ( ولا على أنفُسكُم ) واو استئناف وإذا قُلنا إن الواو في قولهِ جل شأنهُ ( ولا على أنفُسكُم ) أصبح المعنى الأول غير مُرتبطٍ بالثاني لأن هذا معنى الاستئناف وخرّجوا معنى الآية ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) على أن المعنى ليس عليهم حرج في القعودِ عن الجهاد ليس عليهم حرج في القعودِ عن الجهاد وإن لم يسبق عندهُم للجهاد ذكرُ في الأول هذا منحى وهو في ظنّنا بعيد .
وإنما الواو واو عطفٍ في قولهِ جل شأنهُ ( ولا على أنفُسكُم ) وهذا الذي أختاره أبو حيّان الأول نترُكُهُ أو نُرجّحُ غيرهُ عليهِ .
أما غيرهُ فجماهيرُ أهل العلم على أن الواو عاطفة لكنّهُم اختلفوا في العلاقة بينهُما في المعنى فذهب بعضُهم إلى أن بعضُ الناس كان يتحرّج من الأكل مع ذوي العاهات فأنزل الله هذهِ الآية .(6/144)
وقال آخرون بغير هذا لكنّني قبل أن أقول الرأي أختارهُ أُمهّد بتمهيدٍ لابُد منه .... لا يُمكنُ أبداً فهمُ القرآن مجزوءةٍ عن السُنّة فهمُ السيرة النبوية بابٌ عظيم مدخلٌ كبير في فهم القرآن يمُرّ معك في السيرة كثيراً خاصةً في الغزوات والتداعيّات هذهِ مُعينة على فهم القرآن ملكة يمُرّ معك كثيراً في السيرة أن النبي كان يضعُ أحدً أميراً على المدينة بعد خُرُجهِ لماذا ؟ للغزو قطعاً لن يكون هناك أمير إلا إذا وجدت رعية لابُد في أُناس يرعاهُم هذا الأمير يُصلي بهم يقوم بهم لماذا أمير إذاً هؤلاء منهم هُم الذين يقعدون عن الجهاد والذين يقعدون عن الجهاد إنّما الأصلُ أنهم يقعدون لعُذر ومن الأعذار المرض والعرج والعمى [ واضح ] .
هؤلاء الذين يقعدون عن الجهاد يُملّكُهم الذين ذهبوا للجهاد مفاتيح البيوت ويجعلونهم وصايا على أهليهِم والجهاد لم يكُن يتم في ليلةٍ ونهار أحياناً يكون في سفر يمُر شهر أو أقل أو أكثر في هذهِ الفترة يحتاجُ الناس إلى الأكل وهؤلاء القاعدون عن الجهاد يدخلون تلك البيوت التي استُأمنوا عليها ويُخالطوا أبناء المُجاهدين فينشأ عن ذالك أكلٌ وإطعام فرُبما تحرّج أُولئك القاعدون من أُولي الضرر من ذالك الطعام والأكل فالله جل وعلا يُريدُ أن يُبين هُنا أن الأصل في المؤمنين أنهُم كالنفس الواحدة وأن المُأكلة وطيب النفس في الطعام أمرٌ محمود .(6/145)
فيُخبر أنهُ لا حرج ولا إثم على الجميع أن يأكُل بعضُهم من بيوت بعض ولهذا عدّد الأعمام والأخوال والبيوت القرابات والأصدقاء بعد ذالك لكنّهُ بدأ بالأعمى والأعرج والمريض لأن الأصل أن الخطاب مُوجّة إليهم وهو يُريدُ جل وعلا أن يُنبأ أُولئك الأخيار ذالك الجيل الأكثر والرعيل الأكمل الأول المُخاطب في القرآن أن الأصل فيكُم أنكُم كالجسد الواحد ولهذا سيأتي ( فسلّموا على أنفُسكُم ) على أنهُم كالشخص الواحد هذا الذي أفهمهُ من كلام الله وهذا القولُ من حيثُ الجُملة أشار إليهِ سعيدٌ ابن المُسيب رحمةُ الله تعالى علية .
نقول ( ولا على أنفُسكُم أن تأكلون من بيُوتكُم أو بيوت ءابائكُم أو بيوت أُمّهاتكُم أو بيوت إخوانكُم أو بيوت أخواتكُم ...) إلى أن قال جل وعلا ( أو ما ملكتُم مفاتحهُ أو صديقكُم )
وسأقف عند صديقكُم لكني قبل أن أصل إليها أقول لم يذكُر الله بيوت الأبناء وهذا ظاهر لأنهُ لا يحتاجُ إلى مزيد نظر العُلماء تكلموا فيهِ من قبل بلا استثناء وهم ذهبوا في هذا إلى أن الله لم يذكُر بيوت الأبناء لأنها مُندرجةِ في قولهِ جل وعلا بيوتكُم لأن بيت الولد مُلكٌ لأبيهِ قال النبي صلى الله علية وسلم { أنت ومالُك لأبيك } وهذا بيان عظيم الإنصاف ما بين الولدِ وبين والده أما ما عدا ذالك فهو ظاهر وقد بيّناه .
قولهُ تعالى ( أو ما ملكتُم مفاتحهُ )
مفاتح جمعُ مفتح ومفتاح تُجمع على مفاتيح ومفتح ومفتاح بمعنىً واحد ــ أُعيد ــ مفاتح جمعُ مفتح ومفاتيح جمعُ مفتاح لكنّ مفتح ومفتاح بمعنىً واحد ما يُتوصلُ بهِ إلى حلّ ما أُغلق .
( أو صديقكُم )
طيب ذكر الله كما ترى أيُها الفاضل إخوان أخوات أُمهات أعمام خالات مفاتح كُلها بصيغة الجمع في الصديق ذكرها بصيغة الإفراد السؤال هُنا
لماذا ذكرها بصيغة الإفراد ؟(6/146)
أما المعنى فواحد أما المعنى فواحد لكنّ قالوا ــ أي أهلُ العلم المعنيون بالبيان ــ قالوا الصديق هذا خفي يعني إشعار خفي أما الصداقة فشيءٌ نادر ولهذا أفردهُ الله ألا ترى إلى قول اللهِ على لسان الجهنّميين ( فما لنا من شافعين ) كثرة شافعين ( ولا صديقٍ حميم) لأن الصديق يعُز عزيز نادر
والعربُ تقول :
لما رأيتُ بني الزمان وما بهم ** خلٌ وفيٌ لشدائد أصطفي
فعلمتُ أن المُستحيل ثلاثةٌ ** الغولُ والعنقاءُ والخلُ الوفي
فهم يقولون إن الخل الوفي مُمتنع لكنّهُ ليس نادراً يعني ليس ممنوعاً .
المقصود من أجل ذالك قالوا أفرد الله جل وعلا كلمة الصديق .
ثُمّ قال ربُنا :
(ليس عليكُم جُناحٌ أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتا )
هذا دلالة على أن المؤانسة تقع و الموأكلة أمرٌ حسن سواءً أكلنا مُتفرقين وهو معنى أشتاتا أو مُجتمعين وهو معنى قولهِ جل وعلا ( جميعاً )
الآن أستطر بكُم ذهنياً
وقبل أن أستطرد أقول إنّ من وسائل جمع العلم ونفع الناسِ بهِ أن يكون لديك ذكاءٌ سيال وذهن وقّاد إن من وسائل جمع العلِم ونفعِ الناسِ بهِ أن يكون لديك ذكاءٌ سيال وذهن وقّاد .
ما علاقة هذا بقولهِ تعالى (تأكلوا جميعاً أو أشتاتا ) ؟(6/147)
يقولون إن ثلاثة رجال الأصلُ فيهم أنهُم رجُلان جلسا ليأكُلان ـــ هذهِ افهمها جيداً ــ أختبر فيه ذكاءك فقدّم أحدهُما خمسة أرغفة وأخرج الآخرُ ثلاثة وقبل أن يطعما جاء رجُلٌ ثالث عابر فطلبوا منهُ أن يجلس معهُما فجلس فأصبح ثلاثة أشخاص يُريدون أن يطعموا ثمانية أرغفة أحدُ الرجُلين الأولين أتى بخمسة والثاني أتى بثلاثة فأكلوا حتى أتمّوا أكلها جميعاً ثُمّ إن الرجُل كان من ذوي الجاه لا يقبل أن يأكُل دون أن يُكافأ فأخرج ثمانية دنانير فوضعها لهُما وأنصرف قال الذي جاء بالخمسة خمسةٌ لي وثلاثةُ لك وفق تقسيم الأرغفة قال الثاني الأصلُ أننا اثنان وهذا دفع ثمانية وأكل معنى أربعةٌ لي وأربعةٌ لك فتشاجرا والناس فيما يتشاجرون يتشاجرون في الدماء والأموال والأعراض احتكما إلى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وعُمرُ يقول " قضيةٌ ولا أبا حسنٍ لها " فكان رضي الله عنهُ يملكُ ذهناً وقّاداً سيظهرُ لك الآن فقالوا لهُ الخبر ففوراً قال رضي اللهُ عنهُ وأرضاه وعن أبنيهِ وزوجتهِ قال " سبعةٌ لصاحب الخمسة ودينارٌ واحد لصاحب الثلاثة " ومضى .
فجلسا ملياً يُفكرا كيف أتى بها علي مع قناعتهما أن قول علي صواب كما تُفكّرُ أنت الآن كما يُفكّر المُشاهد ثُمّ تبين لهُما صوابُ صنيعُ علي رضي الله عنه وأرضاه.
أنا سأُجيب لأن هذا ليس مطلعاً لسؤال(6/148)
الأرغفة ثمانية في كُل رغيف أي شيء في الدُنيا يقبل القسمة على ثلاثة المعنى أن ثمانية أرغفة في كُل رغيف ثلاث أثلاث فتجمّع لدينا أربعة وعشرون ثُلثا صواب أربعة وعشرون ثُلث هذا مجموع ما أكلهُ الثلاث الأشخاص والأصلُ أن كُل أحدٍ منهُم أكل مثل الآخر فيُصبح كُل واحدٍ منهُم قد أكل كم ثُلُث ؟ ثمانية أثلاث [ واضح ] فالرجُل الذي دفع الدنانير أكل ثمانية أثلاث بالاتفاق ووضع عوضاً عنها ثمانية دنانير فالثمانية دنانير عوضاً عن ثمانية أثلاث أكلها صاحبُ الثلاث كم ثُلثاً قدّم ؟ قدّم تسع ثلاثة أرغفة فيها تسعةُ أثلاث هو نفسهُ أكل كم ؟ ثمانية فلم يبقى شيء زائد قدّمه للآخر إلا ثُلثاً واحد ولهذا حكم لهُ عليٌ بدينارٍ واحد ، وصاحب الخمسة أرغفة الخمسة أرغفة فيها خمسة عشر ثُلثاً قدّمها هو نفسهُ صاحب الأرغفة الخمس أكل ثمانية منها لأننا اتفقنا أنهُ كُل واحدٍ منهم أكل ثمانية أثلاث فأكل هو ثمانية ليس لهُ فيها أجر فبقيت سبع أكلها الرجُ الضيف مع الثُلث الذي أخذهُ من الأول فاستحق أن يأخُذ سبعة دنانير [ واضح المسألة ]
تربية العالم طُلابهُ وتربية الطالب نفسهُ على مثل هذهِ الأمور يجعل منهُ ذهناً وقّداً وذكاءً سيّالاً يُعينهُ على جمع العلم يعني لو كان العلمُ فقط نظرُ في كتاب وحفظُه وإملائهُ لناس لأضحى جُلُّ الناس عُلماء لكن العلم ليس محصوراً في هذا [ واضح ]
هذا مهمٌُّ جداً أخذناه من قول الله جل وعلى (ليس عليكُم جُناحٌ أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتا ) .
ثُمّ قال ربُنا ( فإذا دخلتُم بيوتاً فسلّموا على أنفُسكُم تحيةً من عند اللهِ مُباركةً طيبة )
(من عند الله ) لأن الله هو الذي شرعها ( مُباركة ) لأنها تجلبُ الأجر والثواب ( طيبة ) لأنها تطيبُ نفس المُحيى والمُحيي بها .
أما قولهِ تعالى ( فإذا دخلتُم بيوتاً فسلّموا على أنفُسكُم )
أختلف الناس في المعنى فقالوا بيوتاً نكرة والمقصود إذا دخلتُم أي مكانٍ في قومٍ مُسلمين فسلّموا .(6/149)
وقالوا إن قول ربِنا ( على أنفُسكُم ) دلالة على أن المُسلم يُقام مقام النفس .
لكنّني أقول
هذا صحيحي وجيد لكنني أقول أنهُ يُستحسنُ والذي أفهمهُ من الآيةِ أن الإنسان إذا دخل دار ليس فيها أحد أن يُسلّم على نفسهِ ويقول السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين ، قال الله جل وعلا (فسلّموا على أنفُسكُم تحيةً من عند اللهِ مُباركةً طيبة ) ومن قواعد فهم القرآن أن يُصرف أولاً إلى ظاهرهِ .
قال ربُنا بعد ذالك ( كذالك يُبينُ اللهُ لكُم الاءيات لعلّكُم تعقلون )
هذهِ ظاهرة .
ثُمّ قال ربُنا :
( إنّما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسُولهِ وإذا كانوا معهُ على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه ُ إنّ الذين يستأذنونك أُولئك الذين يُؤمنون بالله ورسُولهِ فإذا استأذنوك لبعضِ شأنهم فأذن لمن شئت منهُم )
نقول نعود للقاعدة الأولى التي قُلنا إن القرآن لا يُفهم إلا عن الطريق السيرة
ما معنى أمر جامع ؟
الأمرُ الجامع من حيث الإجمال الأمرُ الجلل الأمر الجلل أما معناه هنا فإن النبي صلى الله علية وسلم مرّ معك في السيرة أنهُ يبعث مُناد " الصلاةُ جامعة " الصلاةُ جامعة تكونُ في الخطوب العظيمة .
الله جل وعلا هنا يقول إن الأصل أن النبي لا يدعوكُم لأمرٍ جامع إلا لأمرٍ ذي بال ذي شأن هو في حاجةٍ مُلّحة لرأيكُم ولأن تسمعوا وتأخُذوا عنه فإذا دعاكُم النبيُ صلى الله علية وسلم لا يحسُنُ بكُم أن تستأذنوا أن تخرجوا دون إذن لأن هذا يُنافي السبب الذي من أجلهِ جمعكُم فجعل الله جل وعلا الاستئذان من مجلس النبي صلى الله علية وسلم من دلائل صدق الإيمان الاستئذان من مجلس النبي صلى الله علية وسلم دلالة من صدق الإيمان (إنّ الذين يستأذنونك أُولئك الذين يُؤمنون بالله ورسُولهِ فإذا استأذنوك لبعضِ شأنهم فأذن لمن شئت منهُم )(6/150)
هذا يُسمّى تفويض وبعضُ العُلماء يقول هذهِ الآية تُسمّى المُفوّضة والمعنى أنهُ تقرّر في الأصول أن الله جل وعلا فوّض بعض الأمور إلى رأي نبيهِ فوّض بعض الأمور لرأي نبيهِ في مثل هذهِ الآيات (فأذن لمن شئت منهُم واستغفر لهُم الله )
وكلمة واستغفر لهُم الله تُشعر أن حدث منهُم ما يُجب الاستغفار ( إن الله غفورٌ رحيم )
ثُم قال جلّ شأنهُ :
( لا تجعلوا دُعاء الرسول بينكُم كدُعاء بعضُكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسلّلون منكُم لواذاً فليحذر الذين يُخالفون عن أمرهِ أن تُصيبهُم فتنة أو يُصيبهُم عذابٌ أليم)
أكثرُ الذين يُألفون في السيرة في ذكرِ خصائص النبي صلى الله علية وسلم يحتجّون بهذهِ الآية على أن الرسول لا يُنادى كما يُنادى غيرهُ .
فأمّا ما ذهبُ إليهِ فصحيح وأمّا ما استدلوا به فخطأ .
فالآية لا تتكلم عن كيف نُنادي الرسول أبداً وإنّ هذا جاء في الحُجرات ( لا ترفعوا أصواتكُم فوق صوت النبي ولا تجهرُ لهُ بالقول كجهرِ بعضكُم لبعض أن تحبط أعمالكُم وأنتُم لا تشعرون ) لكنّ المقصود هنا أن الرسول لا يدعوكُم لأمرِ جامع إلا لأمرِ عظيم لا يُقاسُ بدعوة غيرهِ فلا تجعلوا دُعاء الرسول لكُم كدًُعاء بعضكُم بعضاً والمعنى أن دُعاء بعضكُم بعضا لا حرج في أن تخرجوا أما الدعوة التي تتمّوا عن طريق النبي صلى الله علية وسلم فهي مُعظّمة مُجلّلة فلا يحسُنُ منكُم الخروج والدليلُ على صحة هذا القول القرينة في الآية فالله قال بعدها ( قد يعلم الله الذين يتسلّلون منكُم لواذاً )
لواذاً يعني قليلاً قليلا يلوذون خُفية يعني ينسلّوا هذا من هنا وينسلّوا هذا من هناك ويخرجُ هذا من آخر الصف وهكذا فالله جل وعلا يُأدبُ هؤلاء الصحابة أن الأمر الجامع عند النبي ليس كالأمر الجامعِ عند غيرهِ وليس المعنى ما ذهب إليهِ بعضُ الفُضلاء وإن كان موجوداً في كُتب التفسير لأن المعنى عند المُنادة هذا غيرُ مُستقيمٍ
لماذا؟(6/151)
لأن القرينة هنا تأباه والقرينة هي قولهُ (قد يعلم الله الذين يتسلّلون منكُم لواذاً) و لواذاً هنا حال .
ُثم قال الله جل وعلا (فليحذر الذين يُخالفون عن أمرهِ أن تُصيبهُم فتنة أو يُصيبهُم عذابٌ أليم)
يُخالفون عن أمرهِ أي عن هدية صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ ( أن تُصيبهم فتنة )
قال بعضُ العُلماء أنها تحتملُ ثلاثة معانٍ مع اتفاقهم على أنها تكونُ في الدُنيا ( أن تُصيبهم فتنة ) قالوا تحتملُ ثلاثة معاني مع اتفاقهم على أنها في الدُنيا قيل :
فتنة بمعنى الكُفر ،، وقيل بمعنى العقوبة وهذان عندي رأيان مرجوحان .
وأمّا الرأيُ الراجح فالمعنى تُصيبهُم برية تُظهرُ ما في قلُوبهم من النفاق تُصيبهُم برية تُظهرُ ما في قلُوبهم من النفاق .
( أو يُصيبهم عذابٌ أليم)
قيل في الآخرة قيل في الآخرة والأظهرُ عندي أنها تحتملُ الدُنيا تحتمل أن يكون هذا في الحياة الدُنيا .
هذهِ الآية كذالك تدلُ على أمرين هذهِ الآية الكريمة تدلُ على أمرين:
الأول :
أن الآية الكريمة هذهِ أصلٌ في إتباع السُنّة أن هذهِ الآية الكريمة أصلٌ في إتباع السُنّة وقد ذكروا أن مالكً رحمة الله أبا عبد الله إمامُ دار الهجرة جاءهُ رجُل فقال يا أبا عبد الله إنّني أُريدُ العُمرة فمن أين أُحرم ؟
قال من مسجدِ ذُو الحُليفة قال إني أُريدُ أن أُحرم من المسجد من القطر من عند القطر فقال مالكٌ رحمةُ لله أحرم من ذي الحُليفة فكأن الرجُل قال وماذا يُضيرُني قال ( فليحذر الذين يُخالفون عن أمرهِ أن تُصيبهُم فتنة أو يُصيبهُم عذابٌ أليم) فقال الرجلُ وما هي إلا أميالاً زدتُها يعني الفرق ما بين ذو الحليفة وما بين المسجد أميال فقال مالكٌ رحمهُ الله إنّني أخشى أن تكون بصنيعك هذا تظُنّ أن هديك أعظم من هدي مُحمدٍ صلى الله علية وسلم .(6/152)
فإتباعُ السُنة من أعظم ما يجلبُ البركة وما يدلُّ على صدق الإيمان والصالحون من قبلنا وممّن أدركنا رأينا وقرأنا عنهُم ممّن سبق ورأينا ممّن أدركنا حرصٍ عظيماً على إتباع السُنّة و التقيُد بها لأن الإنسان إذا تقيد بالسُنّة كأنهُ يُظهر عجزهُ في الوصول إلى العلم إلا عن طريق نبينا صلى الله علية وسلم وهذا هو الحق وهو الأصلُ الذي لا محيد عنه .
فقُلنا أن الآية أصلٌ في إتباع السُنّة .
في الآية دليلٌ آخر وهذا المعنى الثاني :
أن الأصل في الموازين الميزان الشرعي أن الأصل في الموازين والحُكم على الأشياء الميزان الشرعي فإذا أردنا أن نعرف فُلان أطال أم قصرُ في صلاتهِ نقيسُها على صلى الله علية وسلم ، أطال أم قصُر في خٌُطبتهِ نقيسُها على خُطبة النبي صلى الله علية وسلم وكذالك في كُل شأن .
( فليحذر الذين يُخالفون عن أمرهِ أن تُصيبهُم فتنة أو يُصيبهُم عذابٌ أليم)
ثُمّ ختم ربُنا جل وعلا هذهِ السورة المُباركة بقولهِ :
( ألا إنّ للهِ ما في السماواتِ وما في الأرض قد يعلم ما أنتُم عليهِ ويوم يُرجعون إليهِ فيُنبئهُم بما عملوا واللهُ بكُل شيءٍ عليم )
ما مرّ أيُها المُبارك أحكام ، مواعظ ، قصص ، نصرٌ في حديث الإفك ، تشريع لا يُمكن يأتي بها إلا القادرُ الربُ الواحد ولهذا قال جل وعلا (ألا إنّ للهِ) ألا استفتاحية ( ألا إنّ للهِ ما في السماواتِ وما في الأرض ) هو الرب هو الخالق هو الرازق هو المُدبّر هو الحكيم هو الأعلمُ بخلقهِ فبدهيٌ جداً أن يكون منهُ ذالك التشريع .
فالتشريعُ جاء ممّن لهُ حق وليس لأحدٌ حق التشريع إلا للهِ (قد يعلم ما أنتُم عليهِ ) قد هنا على التحقيق قولاً واحداً ولا ينبغي الإلتفات إلى قول النُحاة هنا إلى أن قد أحياناً تأتي تكثُر في زمن المُضارع ولو سلّمنا بهذهِ استخدامهِ في لغة العرب كثيرا لكنّها هنا لتحقيق قولاً واحدا.
(قد يعلم ما أنتُم عليهِ)(6/153)
يعني يعلمُ حالكُم من الموافقة والمُخالفة من النفاق والإخلاص فالقلوبُ لهُ مُفضية والسرُ عندهُ علانية لا رب غيرهُ ولا إله سواه لا تخفى عليهِ خافية (قد يعلم ما أنتُم عليهِ ويوم يُرجعون إليهِ ) أي جميعاً (فيُنبئهُم بما عملوا ) وهذا يوم يقوم فيهِ الأشهاد يُحشرُ فيهِ العباد ثُمّ ختم الله جل وعلا الآية بقولهِ (واللهُ بكُل شيءٍ عليم )
وقد مر ّ معنا أن الله جل وعلا وسع علمهُ كُل شيء وأنهُ جل وعلا يعلمُ ما قد كان وما سيكون وما هو كائن ويعلمُ ما لم يكُن لو كان كيف يكون .
بهذا أيُها المُباركون نختمُ تأمُلاتنا في سورة النور
أسأل الله أن يرزُقنا نوراً نهتدي بهِ ورزقاً حلالاً طيباً نكتفي بهِ
وهذهِ الآية مرّ معنا في أولها أنها سورةٌ مدنية وأن فيها من التشريع ما جعل عُمر يطلبُ من الناس أن يُعلّمُها أبنائهُم ونسائهُم على وجه الخصوص وتعلّقت فيها كثيرٌ من الأحكام و انجلت بها الغُمّة في نصر خطابهِ عن حديث الإفك وذكر الله جل وعلا فيها الآداب مع النبي صلى الله علية وسلم في الأمر الجامع وذكر الله جل وعلا فيها أشياء أُخر ومواعظ كُثر
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكُم ممّن يستمع القول فيتبعُ أحسنه والله المُستعان وعليهِ البلاغ .
هذا ما تيسر إيرادُهُ وتهيأ إعدادُه وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين .........(6/154)
تفريغ سورة الزخرف 1من الآية ( 1) إلى (5)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا هو وحدهُ لا شريك لهُ أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهُم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعُوهُ جميعاً لأطاعوه وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائرِ من اقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين*
أما بعد
في هذا اللقاء المُبارك سنشرعُ في تفسير سورة الزخرف وقبل أن نستفتح تفسيرها نُعرج إجمالاً على هذه السورة المباركة .
السورةُ مكية داخلةٌ فيما يُسمّى سور آل حم وسُور آل حم تُسمّى ديباج القرآن وسُميت بديباج القرآن لأنهُنّ حملن مواعظ ورقائق وأخبار وليس فيهنّ أحكام وكُلّهُنّ آل حم المبدوءة بغافر والمنتهية بالأحقاف بدأت بقول الله جل وعلا ( حم ) ولهذا تُسمّى آل حم .
وسورة الزخرف هي إحدى هذهِ السور المُباركات قُلنا أنها سورةٌ مكية ، و الزخرف في اللُغة كمال الزينة والحُسن كمالُ الزينة والحُسن وهذهِ اللفظة المُباركة وردت في القرآن في مواضع أُخر :
// وردت في الإسراء ( أو يكون لك بيتٌ من زُخرف ).
// ووردت ( زُخرف القولِ غرورا ) أظُنّها في الإنعام .
// ووردت كذالك ( حتى إذا أخذت الأرضُ زُخرفها وازيّنت ) .
فهذا الموضع الرابع لذكرها في القرآن وبها سُميت السورة .
قال الله جل وعلا في فاتحة السورة بسم الله الرحمن ( حم * )
وبيّنّا أن هذه فواتح القرآن وذكرنا أقوال العُلماء فيها في حلقاتٍ قد مضت .
قال ربُنا ( والكتاب المُبين )
هذا قسم والمُقسم بهِ كلامُ الله جل وعلا و( المُبين) الواضح البيّن .
سنقف إلى الآية الخامسة سُنُعرج على جملة من القضايا نبدأ بالأُولى :
قال اللهُ جل وعلا : ( إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلّكُم تعقلون )
ما الذي جعلناهُ قرآناً عربياً ؟
القرآن .(7/1)
تمسُك المُعتزلة بهذهِ الآية و أضرابها في أن القرآن مخلوق ، وليس التغافُل عن الرد على أهل الشُبهات مما يُردُ بهِ شُبههُم في مجالس العلم يُحرر الخطاب .
هم يقولون إنّ جعل في القرآن جاءت بمعنى خلق قال الله ( وجعل الظُلمات والنور ) بمعنى خلق الظُلمات والنور .
وقال هُنا ( إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون ) فيقولُ رؤساءُ المعتزلةِ وأئمتُهم لماذا هذا الكبر هذا نصٌ صريحٌ في أنّ جعل بمعنى خلق ، وقُلنا إنّ الزمخشري لمّا ألّف تفسيرهُ قال في مُقدّمتهِ [ الحمدُ للهِ الذي خلق القرآن ] فقيل لهُ أن أحداً لن يقرأهُ فقال [ الحمدُ للهِ الذي جعل القرآن] باعتبار أن الخلق بمعنى الجعل عند المُعتزلة.
حتى يستقيم الأمر نُنيخ المطايا بهدوء .
نأتي بنظائر ـ هذا منهجنا في التعليم ــ ثم نُطبق تلك النظائر على ما نحنُ فيهِ حتى يكون هُناك حياديةٌ في الطرح .
الأفعال أحياناً لا تظهر إلا من سياقها وتحتملُ أكثر من معنى ــ وأحبُ إلي أن لا تكتُب اليوم نحاول أن نفهم أنا كفيلٌ أن أُمليكُم بعد الدرس المهم أن تفهم ــ
الله جل وعلا قال على لسان أهل النفاق ( انظرُنا نقتبس من نُوركم) وكُلنا نحنُ والمعتزلة نفهم أن انظرونا هنا بمعنى تمهّلوا .
والفعلُ نفسهُ قال الله جل وعلا : ( انظروا إلى ثمرهِ إذا أثمر ) تعدى بحرف الجر إلى فتغير المعنى لا يأتي أحدٌ ويقول إن نظر هنا بمعنى تمهّل وإنّما المعنى النظر بعين الباصرة.
ويقولُ الرجلُ منّا نظرتُ في الأمر وليس المقصود أنني أبصرتهُ بعيني فقد يكون الأمر معنوي لكنني نظرتُ في الأمر معنى تدبّرتهُ وتأملتُهُ ومنهُ قول الله ( أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) أي يتدبروا ويتأملُ فاختلف المعنى مع أنّ الفعل واحد لاختلاف الاستعمال لكن هذا الاستعمال لابُد لهُ من ضوابط وقرائن تدلُ على كُل معنى.(7/2)
فعلمنّا أنّ الفعل نظرَ لمّا كان لازماً أصبح بمعنى تمهّل ،، ولمّا تعدى بحرف الجر إلى أصبح بمعنى النظر بعين الباصرة ،، ولمّا تعدى بحرف الجرّ في أصبح النظر بعين البصيرة وهو التروي والتمهُل أو التفكُر في الشيء والتدبرُ فيهِ .
قال الله جل وعلا ( لتذكروا نعمةِ ربكم إذا استويتم عليهِ ) أي ارتفعتُم .
وقال ربُنا ( ثم استوى إلى السماء ) أي انصرف وقصد .
ثم قال ربُنا ( ولمّا بلغ أشدهُ واستوى ) و لم يتعدى والأفعالُ متفقون نحنُ جميعاً على أن الفعل استوى في كُل آيةِ هنا بمعنى مختلفٍ عن الآخر ، والفعلُ جعل يُسمّى من أُمهات الأفعال ــ من أُمهات الأفعال أي التي تُستخدم في مواطن كثيرة مثل عَمِلَ ، فَعَلَ ، طفقَ ، وأخذَ ومنها جعلَ ــ .
فنقول إن جَعَلَ في القرآن يأتي على معانٍ بحسب السياق مُستصحبين شيئاً لابُد منه وهو أنّا نفيء بالمُتشابهة إلى المُحكم ولا نفيءُ بالمُحكم إلى المُتشابهة .
فلّما نص الله جل وعلا في مواطن كثيرة على لفظ التنزيل ما كان لنا أن نفرّ عن لفظ التنزيل ونحنُ نجدُ معنىً لجعل في غير الخلق فنقول نعم جاءت جعلَ بمعنى خلق في القرآن قال الله ( وجعل منها زوجها ) وقال ( وخلق منها زوجها ) وهذا من المُترادف لأنُ لا يُمكن التبديل هنا جعل هنا بمعنى خلق.
لكنّك تلاحظ ( وجعل الظُلمات ) ، ( وجعل منها زوجها ) تعدى الفعل جعل إلى مفعول واحد فإذا تعدى الفعل جعل إلى مفعولٍ واحد فهو بمعنى خلق .
ويأتي جعل بمعنى التسمية قال الله جل وعلا ( وجعلوا الملائكة الذين هُم عبادٌ الرحمن إناثا ) أي سمّوهُم إناث أين الدليل ؟ الله يقول ( وإنّ الذين لا يُؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكةَ تسمية الأُنثى ) فقول الله جل وعلا ( وجعلوا الملائكة الذين هُم عبادٌ الرحمن إناثا ) أي سمّوهم إناثاً .(7/3)
فإذا تعدى إلى مفعولين أصبح لا يعني معنى الخلق وإنّما يعني معنى التصيير يعني صيرهُ الله جل وعلا يقول عن لسان العرب الفُصحاء في كتابهِ الفصيح قال عنهم ( أجعل الآلهة إلهً واحدا) تعدت لمفعولين آلهةً ، إلهً لأن واحداً صفة ( أجعل الآلهة إلهً واحدا إنّ هذا لشيٌ عُجاب ) ومعلومٌ أن القرشيين لم يريدوا أن يقولُوا أبداً أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق ربهُ وخلق الآلهة هذا غير وارد أصلاً في الخطاب لأن الله أصلاً غير مخلوق فهو خالق .
والأمر الثاني : أن قُريش لم تزعُم أن النبي هو خالقُ آلهتُهم ، فليست جعلَ هنا بمعنى خلق واضح ليست جعل هنا بمعنى خلق إنّما بمعنى صيّر فالتصييرُ غيرُ الخلق قد يكون المُصير مخلوق وقد يكون غير مخلوق قد يكون مخلوقاً وقد يكون غير مخلوق ( وجعلنا الليل لباسا ) أي صيّرناهُ لباسا مع أنهُ في أصلهِ مخلوق لكنّها لوحدها لا تدلُ على أنهُ مخلوق لابُد من دليلٍ آخر واضح .
هُنا نقول لهُم ولمن سار على نهجهِم لأن المعتزلة تأثرت بها بعض الفرق في هذا المعنى نقول :
إنّ جعلَ هنا ليست بمعنى خلق لأمرين تأباهُ اللُغة تعدت إلى مفعولين ، والسياق القرآني يأباه .
ثم إنّ القرآن في مواطن كثيرة ذكر الله جل وعلا فيها التنزيل والإنزال والنزول بعدة طرائق ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) ،،، ( تنزيلٌ من الرحمن الرحيم ) إلى غيرها من الآيات ( إنّا نحنُ نزّلنا الذكر ) وهذهِ المُحكمات لا يُمكن أن نهدمها جميعاً ليس هذهِ القاعدة علمية لفعلٍ يحتمل أن يكون معنى الخلق مع أنّنا بيّنا إذا تعدى إلى مفعولين لا يُمكن أن يكون بمعنى الخلق واضح ــ هذه مهمة ـ ( إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلّكُم تعقلون ).
ثم قال الله وأنا قُلت أقف على القضايا ( وإنّهُ في أُم الكتاب لدينا لعليٌ حكيم)(7/4)
الأصل في كلمة أُم تأتي أيُها المُبارك بإزاء الأب بإزاء الأب هذا الأصل إذاً لفظة خرجت عن أصلها وأدت إلى شيءٍ آخر ودلت قرينة على أنّنا لا نُريد الأصل هذا ما يُسمّيه البلاغيُون استعارة هذا ما يُسمّيه البلاغيُن استعارة.
سأُقرب المعنى حفاظاً على فهم المُشاهدين .
عندما تذهب إلى رجُلٍ لديهِ فرح وتُشاهد هذا الفرح بجوار دارك لا نقول في قصر بجوار دارك ثم أعجبك ذالك الفرش الذي أنت جالسٌ عليه فظننت أن هذا الفرش ملكٌ لصاحب الدار ثم لم تلبث أن قلّبت الفراش فوجدت عليه علامةً أو ختماً أو أمارةً مكتوبٌ عليها مفروشات كذا وكذا أو محلات كذا وكذا لتأجير ماذا تفهم؟ تفهم أن هذا الفرش ماذا ؟ مُستعار ليس لصاحب الدار إنّما استعارة من صاحبة الأصلي ما القرينة ؟ تلك الورقة أو الختم أو الإشارة أو العلامة وضحٌ هذا .
كذالك في اللُغة الكلمة يكون لها اصل فإذا وجدناها استخدمت استخداماً غير الذي هو أصلُها وجدنا من خلال القرينة ما يدلُ على أنها استعارة ثم عاد تأتي استعارة تصريحية ، استعارة تبعية استعارة ، مكنية هذا بابٌ آخر لكن هذا نبدأ تدريجياً هذا معنى الاستعارة .
فالأصلُ في كلمة ( أم ) :
هي التي تلد.
قال الله: ( فرجعناك إلى أمك)
هل هناك استعار ة هنا ؟
ليست هناك استعارة, لأن أم موسى هي التي ولدته، هي التي ولدته.
لكن قول الله عز وجل ( وإنه في أم الكتاب ) المقصود أم الكتاب: أي أصل الكتب, أصل ما خط في اللوح المحفوظ, ( أم الكتاب ) اللوح المحفوظ , فهذا ما يسمى بالاستعارة, يسمى بالاستعارة .
قد تقولُ بمعنى يعني واسع هنا ولا أُريدُ أن أدخُل في حولها إشكال المهم المعنى,وأظنه ابن قُدامه أو ابن قُتيبه ألتبس علي الآن لأنهُ من الحفظ القديم يُعبر تعبيرات, يقول يعني: لا عبرة بالمصطلح الذي يتنازع عليه الناس, هذا كلام جيد، العبرة المعنى.
فكلمة أم في القرآن وردت على عدة معانٍ:
• وردت بمعنى الوالدة,( فرجعناك إلى أمك ).(7/5)
• ووردت بمعنى المرضعة, ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ), وتسمى في اللغة المرضعة ظئر, تسمى ظئر .
تسمى ماذا ؟ الأم المرضعة تسمى: ظئر. فنعود فنقول: وردت بمعنى: المرضعة.
• ووردت بمعنى: المآل, قال الله جل وعلا: ( فأمه هاوية ), أي مآله أن يهوي في جهنم.
وورد في معان عدة: منها قول الله جل وهلا هنا: ( وإنه في أم الكتاب ( وأطلقت على مكة أنها أم القرى.
وفي بمعنى الأصل ومنه قول الله تعالى في آل عمران: ( أم الكتاب ) أي أصل الكتاب.
وغير ذلك مما هو مشهور.
الذي يعنينا أن ( أم ) هنا اُستعير لها المعنى.
( أم الكتاب ) هو اللوح المحفوظ.
والفرق بينه وبين غيره من الكتب ما هو ؟
أن ما في أم الكتاب لا يمكن أن يبدل,
أعيد:
ما في أم الكتاب لا يمكن أن يبدل,
قال الله تعالى في سورة الرعد: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ) – جل وعلا) – أم الكتاب ), فقول الله تبارك وتعالى: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ما يمحى و يثبت خارج أم الكتاب إنما يمحى ويثبت ليطابق أم الكتاب.
(وإنه ) الهاء في ( إنه )عائدة على من ؟
على القرآن.
( في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )
أي: مذكور بالعلو والحكمة, ورفيع و رفيع المقام ولا شك هذا أصل القرآن
ثم قال الله: ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين )
هذهِ نختم بها.
الهمزة للاستفهام
والضرب في اللغة يُطلق على معانٍ:
• يطلق على الصنف من الأشياء, الصنف والنوع من الأشياء.
• ويطلق على الرجل الخفيف اللحم. الرجل الخفيف اللحم, قال طَرَفة:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني
خشاش كرأس الحية المتوقد
أنا الرجل الضرب – أي الرجل الخفيف البدن ،، هذا من حيث اللغة.
أما في القرآن فقد ورد الضرب على معانٍ عدة:
• ورد بمعنى السير في الأرض, قال الله جل وعلا: ( وآخرون يضربون في الأرض ) أي يسيرون في الأرض ( يبتغون من فضل الله ) .
وقال: ( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) أي لا يستطيعون سيرا في الأرض.(7/6)
• وجاء الضرب بمعنى الضرب المعروف سواء كان بالسيف كقوله جل وعلا : ( فاضربوا فوق الأعناق ) ويأتي بمعنى الضرب باليد كقوله جل وعلا: ( فاضربوهن ) في حق في حق ماذا؟ في حق النساء.
أما قول الله جل وعلا: ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين )
نحرر كلمة ( صفح ) الصفح التغافل عن الشيء. إما كبرا: تقول لويت لفلان صفحة عنقي.
أو أن يكون تجاهلاً بحيث يمر بك دون أن تدري عنه,.
أما الثاني فمنه قول الشاعر:
تمر الصَّبا صفحاً بساكنة الغضا
و يصدع قلبي أن يهب هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما
هوى كل نفس حيث حل حبيبها
ماذا قصد؟
الصبا ريح معروفة, فيقول هذه الصبا تأتي من ديار من أحب, فتمر على بني قومي الذين أعيش معهم صفحا: أي يتغافلون عنها, ليس كبرا, لأنه لا يوجد كبر مع الرياح لكن لأنها لا تعنيهم, أما أنا – يتكلم عن نفسه – ويصدع قلبي أن يهب هبوبها.
فهذا الصفح: هو الإعراض عن الشيء إما كبرا, وإما تغافلا.
( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين(
اتفقوا على أن المعنى: ليس إعراضكم بسبب مقنع لأن نترك إنذاركم ،، ليس إعراضكم بسبب مقنع أن نترك إنذاركم. لكن اختلفوا في معنى الذكر:
** فذهب ابن عباس في رواية عنه وبعض العلماء إلى أن الذكر هنا المقصود به: ذكرُ العذاب, فيصبح المعنى: أفيعقل أن نترك عذابكم لمجرد أنكم أعرضتم عن ذكر الله!
** وقال آخرون إن الذكر هنا بمعنى الوعظ والإرشاد, وهذا الذي أُرجحه, فيصبح المعنى: أنه كيف يسوّغ لكم أن تطالبون بأن نترك وعظكم وإرشادكم وبيان الحق لكم بسبب أنكم قوم بسبب أنكم قوم معرضون.
وهذه الآية قريبة من قول الرب تبارك وتعالى: ( أيحسب الإنسان أن يترك سُدى ) قريبة من قول الله جل وعلا: ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ).
هذان المعنيان رجحنا الآخر منهما.
( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ).(7/7)
ثم قال الله: ( وكم أرسلنا من نبي في الأولين * وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون )
هذه ( كم ) خبرية. وقد مرت معنا كثيرا. والمراد بها: التكثير.
) كم ( هنا خبرية, وهي مضادة لـ ( كم ) الاستفهامية.
والفرق الجلي بينهما: أن الثانية تحتاج إلى جواب.
الأولي – أي الاستفهامية – تحتاج إلى جواب, أما ( كم ) الخبرية لا تحتاج إلى جواب.
قال الفرزدق يهجو جريرا:
كم عمة لك يا جرير وخالة
فدعاء قد حلبت عليَّ عشارِ
أراد الكثرة
)وكم أرسلنا من نبي )
( من ) هنا: لبيان الجنس.
( في الأولين ) أي في الأمم التي سبقت.
( وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون ) هذه الآية و أضرابها داخلةٌ في باب التسلية والتعزية لنبينا صلى الله عليه وسلم.
جملة نقول:
هذه هي فواتح سورة الزخرف, تحدثت عن صدق القرآن وأنه منزل من عند الله جل وعلا, وقد أجبنا في الحديث, في حديثنا عن مسائل عدة, منها قضية الأساسية العقدية وهي قضية قول من كذب أن القرآن مخلوق.
و المعتزلة- من باب الاستطراد- بعض أهل الفرق أخذوا عنهم شيئا مما تبنوه.
والخوارج الأولون أقرب الناس إلى عقائد المعتزلة, فهم متفقون بأكثرهم على القول بخلق, بخلق القرآن, وبعض الخوارج الباقون في زماننا كذلك ما زالوا ينفون قضية أن الله يُرى يوم القيامة ويقولون بخلق القرآن, وأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار.
أما المعتزلة فيقولون أنه في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين, وفي هناك كتاب لأحد الخوارج الفرق المعاصرة تبنّى رأي الخوارج للسابقين اسمه: ( الحق الدامغ ) هذا الكتاب يقوم على ثلاثة مبادئ:
- إثبات أن القرآن مخلوق.
- وإثبات أن مرتكب الكبيرة كافر.
- وإثبات أن الله لا يُرى يوم لا يُرى يوم القيامة.
فأما الرد على أن القرآن مخلوق: حررنا كثيرا منه الآن.(7/8)
وأما الرد على أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة الذي هو قول أهلُ السُنة هذا بيّناه في دروس سلفت, كذلك بيّنا قضية أن الله تبارك وتعالى يُرى يوم القيامة, ورددنا على ما يسمى بـ " لن "الزمخشرية.
هذه بعض ما يسر الله إعداده, وأعان الله على قوله حول فواتح سورة الزخرف.
نفعنا الله وإياكم بما نقول, وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه..
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده, وأعان الله على قوله..
وصلى الله على محمد وعلى آله..
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
تفريغ سورة الزخرف 2من الآية ( 6 ) إلى (18 )
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمدهُ و نستعينه ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافا بفضله وإذعاناً لأمرهِ
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
نتفيأ في هذا اللقاء المبارك دوحة سورة الزخرف , وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى الآية الخامسة منها إلى قوله (( أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين)) اليوم بإذن الله تعالى نبدأ ونشرع مع قول ربنا جل وعلا (( وكم أرسلنا من نبي في الأولين * وما يأتيهم من نبي إلى كانوا به يستهزئون * فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ))
هذه الآيات تلونها الثلاثة مع بعضها البعض لارتباطها مع بعضها البعض .
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل كانت رُسُل قبله كما قال الله (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) وسنن الله جلا وعلا مع رسله التي آتها أقوامهم واحدة فأراد الله جلا وعلا في هذا المقطع من هذه السورة المباركة تسلية وتعزية نبيه صلى الله عليه وسلم(7/9)
فقال مخاطب إياه ( وكم ) وهي هنا خبرية ليست استفهامية المقصود بها الكثرة , وقد مر معنا أن كم تأتي خبرية وتأتي استفهامية وهي هنا خبرية لا تحتاج إلى جواب ، والفيصل في الفرق بينهما أن الخبرية لا تحتاج إلى جواب .
(( وكم أرسلنا من نبي في الأولين )) في الأمم التي غبرت والقرون التي سلفت (( وما يأتيهم)) وما هنا نافيه قطعا ((من نبي إلى كانوا به ))
أي تلك الأمم (( يستهزئون )) أي يصدون دعوته ويردون رسالته ولا يؤمنون به .
وهذه الآيات ولله الحمد ظاهرة المعنى مندرجة تحت قول ابن عباس رضي الله عنهما (إن من القرآن ما يفهمه كل أحد ) .
فقال الله (( فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ))
فما قريش إذا ما قرنت بالأمم التي سلفت , والقرون التي غبرت وكلهم عند الله واحدة . لكن من باب إظهار ضعف القرشين , وأن الله جل وعلا جعل من قبلهم عبرة وعظة وأخبار وأحاديث وأقاصيص يتحدث بها الناس في مجالسهم بعد أن أهلكهم الله جلا وعلا .
قال ربنا (( وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون * فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ))
ثم قال الله جلا وعلا وهذا التفاتٌ في الكلام
(( ولئن سألتهم )) أي يا نبينا واللام هنا ممهدة للقسم.
) ولئن سألتهم ) هؤلاء الذين يجادلونك ( من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) ظاهر الأمر والعلم عند الله أنهم سيقولون: خلقهن الله, لكن الله جل وعلا ذكر جوابهم بالمعنى لا باللفظ , ذكر جوابهم بالمعنى لا باللفظ, يبعد أن يقول القرشيون: ( خلقهن العزيز العليم ), لكنهم معترفون بأن الله جل وعلا الخالق الرازق.
وقد مر معنا أن القرآن يقوم على إثبات أن الله جل وعلا وحده هو هو الخالق, وبمقتضى هذا الإثبات يجب ألا تُصرف العبادة لغيره تبارك وتعالى.
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم(
ثم قال ربنا: ( الذي جعل لكم الأرض مهدا )(7/10)
وهذا القول: ( الذي جعل لكم الأرض مهدا ) صلة الاسم الموصول ( الذي ), هذا من كلام الله, ليس من جواب ليس من جواب القرشيين, ليس من جواب القرشيين, وإنما حكى الله الجواب بالمعنى دون اللفظ في قوله سبحانه: ( ليقولن خلقهن العزيز العليم ) تمهيدا لما سيأتي بعدها, تمهيدا لما سيأتي بعدها, وهذا الصنف من الآيات من أعظم ما في القرآن, وقد مر معنا أن القرآن كله عظيم, لكن أعظم ما في القرآن حديث الله عن ذاته العلية. فهذا مندرج في حديث الله عن ذاته العلية.
(الذي جعل لكم الأرض مهدا)
المهد في الأصل: ما يوضع فيه الصبي, فجعل الله الأرض بالنسبة للناس كالمهد بالنسبة للصبي, وهذا – يا بني – من حيث الصناعة البلاغية يسميه البلاغيون: تشبيه بليغ. تشبيهٌ بليغ.
ومعلومٌ أنه لا بد من مشبه, ومشبه به ، وأداة تشبيه, ووجه شبه. ووجه شبه.
ذكر الله هنا المشبه والمشبه به. المشبه والمشبه به.
) الأرض) بالمهد ،، شبه الأرض بالمهد.
لم يذكر الله الأداة. ؟
لم يقل الذي جعل لكم الأرض كالمهد, حذف الكاف, وحذف وجه الشبه وهي إيواؤها للناس كما أن المهد يأوي الرضيع ويحويه, فلما حذف ربنا في كلامه أداة التشبيه, ووجه الشبه؛ وفق منطق البلاغيين هذا يسمى تشبيها بليغا، يسمى تشبيها بليغا.
( الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا ) أي: طرائق,
( لعلكم تهتدون ) أي: من خلال هذه الطرائق لعلكم تهتدون بالمقدورات على القادر.
بالمقدورات المسخرة , المخلوقات المدبرة لكم تهتدون بها للدلالة على ماذا؟ على القادر.
وقد عرفوا ربهم لكنهم ما صرفوا العبادة له, فأتوا بتوحيد الربوبية وتوقفوا عنده فلم ينفعهم شيء بل ازدادت الحجة عليهم.
ثم مضت الآيات وهذا النوع يسمى إطناب, وقد مر معنا تقسيم الكلام إلى: - إيجاز – ومساواة ـ وإطناب, في حديث الله عن الله.
(والذي نزل من السماء ماءا ) الماء الذي جعله الله في الأرض على ضربين:
• ماء عذب فرات.
• وماء ملح أجاج.(7/11)
فجعل الله الماء المستقر: مالح . لماذا؟
حتى لا ينتن.
لو أن ماء البحار ليس مالحا لأنتن وظهرت ريحته.
وجعل الله الماء المتحرك الذي ينزل من السماء عذبا.
قال تعالى: ( عذب فرات وملح أجاج ), فجعل المياه الراكدة الثابتة على الدوام التي لا يحتاجها الناس شربا جعلها مالحة حتى لا تنتن.
وجعل الماء المتحرك الذي يحتاجه الناس سواء متحركا في أصله بنزوله من السماء أو في العيون والآبار جعله عذبا فراتا تبارك وتعالى بنعمته ورحمته بعباده.
) والذي نزل من السماء ماءا بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا )
هذا وفق الصناعة البلاغية يسمى استعارة تبعية ، استعارة تبعية.
استعارة : لأن لفظ { نشر} إنما يقال في الميت إذا أُحيي ، في الميت إذا أُحيي.
فجعل الله جل وعلا الأرض التي لا نبت فيها كالجسد الذي هو ميت لا روح فيه، كالجسد الذي لا روح فيه.
) فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تُخرجون ):
الذي استعصى على القرشيين فهمه؛ أن الله يحيي الموتى.
أعيد؛
الذي استعصى على القرشيين فهمه وإدراكه أن الله يحيي يحيي الموتى.
انظر!
كيف عالج القرآن هذه القضية.
قال ربنا: ( فأنشرنا ): والنون هنا؛ الـ { نا } { نا } الدالة على الفاعلين, جيء بها للعظمة, في الحديث عن الشيء الذي يرونه بأعينهم,
أما الشيء الخفي الذي هم مطالبون بالإيمان به لم يقرنه الله بـ { نا } الدالة على الفاعلين ليبين لهم أنه أمر هين عليه, لم يعظمه الله, لم يعظمه الله, عظم الله جل وعلا المقيس¸ولم يعظم المقيس عليه.
واضح!
عظم الله جل وعلا ما يرونه ( فأنشرنا به بلدة ميتا ), فلما أُلقموا في أفواههم حجرا وسقط ما في أيديهم قال لهم ربهم: ( كذلك تُخرجون ), ( كذلك تُخرجون ), ولم يقل كذلك أخرجنا, كذلك نخرجكم, قال: ( كذلك تُخرجون ) لبيان أن هذا من حيث مفهوم خطابكم أهون وإلا عند الله الأمر سواء.
( فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تُخرجون * والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون )(7/12)
الأزواج: مفردها زوج, وهي في التعبير اللغوي: كل ما صار به الواحد ثانيا.
الزوج: هو كل ما صار به الواحد ثانيا.
وبعض العلماء يجعلها في المعنويات.
وبعضهم يجعل الأزواج في المحسوسات.
والصواب جعلها هنا في المحسوسات والمعنويات. في المحسوسات والمعنويات,
مثلا: جعلها الله جل وعلا في:
الفقر والغنى.
والجسد والروح.
والذكر والأنثى.
والصحة والمرض.
والليل والنهار.
والفرح والحزن.
وكلاهما بعضهن معنويات وبعضهن محسوسات, وخالقهن جميعا واحد: هو الله تبارك وتعالى.
(والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون )
الفلك تركب كلها, أما الأنعام محدد ما يركب منها.
الفلك تركب كلها, و الأنعام محدد ما يركب منها, مقيد .
ولهذا جاء في الحديث: أن الرجل الذي ركب البقر اعترضت عليه,
قالت له: ما خُلقنا لهذا, مع أن البقر من بهيمة الأنعام,
لكن الله قال – والقرآن ضمائم إذا ضممت بعضه إلى بعض تبين لك –
قال ربنا: ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها ) ولم يذكر الله بعض الدواب الأخرى.
نعود هنا فنقول: لماذا قدم الله الفلك على الأنعام؟
قدم الله الفلك على الأنعام: لأن إظهار القدرة يتضح هنا أكثر.
فالفلك على ماذا تجري؟
على الماء.
والجريان على الماء أعظم إظهارا لقدرة الله من مشي الأنعام على أرض مستقرة.
فإن الأنعام تمشي على أرض مستقرة وإن ظهرت فيها القدرات, لكن ظهورها في الفلك أقوى من ظهورها على من مشي الأنعام على الأرض المستقرة, ولهذا قدم الله الفلك.
ثم قال ربنا – والقرآن يزاوج ما سلبه من لفظة يعطيها بدلا منها – قال الله تبارك وتعالى: ( والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره )
جاءت المزاوجة هنا الظهور من علائق الأنعام أكثر منها أن تكون من علائق الفلك.
أعيد.(7/13)
الظهور من علائق الأنعام أكثر منها من علائق الفلك, لأن الفلك في الغالب يسمى بطن, لا يسمى لا يسمى ظهر, وإن ظهر في الصناعات الحديثة فلكاً لها ظهر, لكن ذكرها الله من باب التغليب, ذكر الله الظهور هنا من باب التغليب.
قال ربنا: ( لتستووا على ظهوره ) وقد مر معنا أن الفعل استوى إما أن يتعدى بحرف الجر على, أو بحرف الجر إلى, أو لا يتعدى بحرف جر.
فإن تعدى بحرف الجر على معناه العلو والإرتفاع ومنه هذه الآية( لتذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) أي إذا ارتفعتم.
وإذا تعدى بحرف الجر إلى يصبح المعنى: القصد, ( ثم استوى إلى السماء ) أي قصدها.
وإذا لم يتعد بحرف جر لا على ولا إلى واكتفى بعدم التعدية وأصبح لازما دل على الكمال والتمام والنضج, قال ربنا عن كليمه وصفيه موسى: ( ولما بلغ أشده واستوى ) أي كمل ونضج وتم أمره.
) لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم )
بلسانكم أو بجارحتكم؟
بلسانكم وبقلوبكم؟
بقلوبكم.
فيقع في قلبك أولا تعظيم هذا الرب الجليل الذي سخر لك هذا.
والتسخير في اللغة: التذليل والتطويع.
التسخير في اللغة: التذليل والتطويع.
فإذا وقع في القلب الاعتراف بفضل الله, وأن القوة الجسدية التي نملكها ليست هي التي سخرت لنا الفلك وليست هي التي سخرت لنا الأنعام واستقر هذا في القلب, جاء الأمر الإلهي بأن يُترجم ما وقع في القلب من يقين إلى أن يكون نطقا باللسان منصوصا عليه قال ربنا: ( وتقولوا ) – أي بألسنتكم – ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) أي مطيِّعين, ( مقرنين ( أي مطيِّعين,مقرنين أي مطيّعين ليست مطِيْعِين, مُطَيِّعين. طوَّع الأمر بمعنى ذلله.
فنعود فنقول: قال الله: ( سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) وقد كان هذا يقالا على ظهور الدواب, واليوم يقال على مقاعد السيارات والطائرات.(7/14)
أما استخدامه أو قوله عند المصاعد فليس له دليل, لأن المصاعد حلت بديلا عن السلالم, ولم تحل بديلا عن الدواب, وأما السيارات والطائرات حلت بديلا عن عن الدواب, والتقيد بالنصوص أمر محمود وإن كان كل هذا سخر الله جل وعلا لنا.
(لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) الانقلاب في اللغة: عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه.
الانقلاب في اللغة: عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه.
وأين كان بدء خلق أبينا آدم؟
في السماء.
أين كان بدء خلقه؟ في السماء, عند ربه فلا بد من العودة إلى الله.
واضح؟
فيستقيم هنا المعنى الشرعي مع المعنى مع المعنى اللغوي.
الانقلاب عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه والأمر نسبي انقلبت إلى داري انقلب إلى بيته, أي عاد إلى بيته لأنه لتوه فارقه.
أما الانقلاب العام هو الأوبة والرجوع إلى الله, قال ربنا: ( إن إلى ربك الرجعى ) ( إن إلى ربك الرجعى ), ( وإنا إلى ربنا لمنقلبون )
وتذكر الإنسان للآخرة منهج قرآني, منهج قرآني عظيم, يجعله الله جل وعلا مطردا في كل أمر, أن يتذكر الإنسان اليوم الآخر.
حتى لما ذكر الله الطلاق, وذكر الرضاع وذكر غيرها كانت الآيات تأتي مقيدة ( ذلك لمن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ), ومن أعظم البواعث على العمل الصالح: تذكر الآخرة.
من أعظم البواعث على العمل الصالح تذكر الآخرة, قال الله جل وعلا في حق بعض من اصطفاهم من رسله: ( إنا أخلصناهم بخالصةً) جاءت منونة حتى تشرئب الأعناق إلى معرفتها وأتت منقطعة عن الإضافة
( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) والتقدير: هي ذكرى الدار. والتقدير: هي ذكرى الدار.
قال ربنا: ( وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين (
مازال الخطاب متوجها لكفار قريش.
(جزءا ) هنا الصواب أنها بمعنى حظا ونصيبا. حظا ونصيبا وقسما.
حظا, ونصيبا, وقسْما.(7/15)
إلا أنه ورد عن إمامين من أئمة اللغة, هما المبرد والزجاج, المبرد والزجاج, لماذا قدمنا المبرد؟
لأنه أقدم ظهوراً يعني حياة المبرد كانت قبل حياة الزجاج, وله كتاب مشهور اسمه الكامل في الأدب, واسمه محمد بن يزيد, وكان له حُساد, وقد قيل فيه أبيات يراد بها منقصته أيًّا كان هذان العلمان من علماء اللغة قالوا: إن ( جزءا ) في اللغة: بمعنى بنت, وأتوا بشاهد شعري.
ومن رد عليهم لم يطعن في إمامتهم في اللغة, لأن إمامتهم لا تقبل القدح, فهم متفق على إمامتهم في اللغة, فيكون الطعن ليس في ذاتهم لكن فيما قالوه, أو فيما نقلوه.
كيف يكون الطعن في مثل هذا؟
يقال: إن البيت مصنوع وليس قديما. إن البيت الذي استشهدوا به مصنوع, متقوّل, وليس قديما.
فإذا كان مصنوعا وليس قديما ما صح الاحتجاجُ ما صح الاحتجاج به.
وممن حمل راية إبطال ما زعماه الزمخشري في كشافه, أبطل ما زعموه أن ( جزءا ) بمعنى بنات.
والحق – بحسب دراية الإنسان البسيطة في علم اللغة – بعيد جدا أن يكون جزءا بمعنى بمعنى بنات, بعيد جدا أن يكون جزءا بمعنى بنات.
أما المعنى فصحيح – سيأتي – لكن اللفظ ( جزءا ) بمعنى بنات غير وارد.
ورد في القرآن ( جزء ) و ( بعض)
الجزء: شيء يمكن تحديده, يمكن إخراجه, يمكن انفكاكه.
أما البعض: لا يمكن تحديده لا يمكن تحديده.
فمثلا القرشيون زعموا أن الملائكة بنات الله, فسهلٌ جدا أن نميز الملائكة عن الإنس والجن لكن كلمة بعض تأتي في الأشياء الممزوجة, التي يصعب تحديد الفوارق بينها.
قال الله: ( وجعلوا له من عباده جزءا ) - أنا أتوقف هنا في قضية الملائكة بنات الله لأن سيأتي التفصيل فيها - ( إن الإنسان لكفور مبين )
قال بعض أهل التفسير: إن الإنسان هنا عام أريد به الخاص, وهم كفار قريش, لكن الصواب إبقاؤه على ما هو عليه فنقول إن الإنسان في أصله كفور مبين, لأن الله جل وعلا ذكر هذا في أكثر من موضع وأكثر من آية .(7/16)
لكن نُبقي على أن أول المخاطبين به, وأول ما ينصرف به هذا الوصف على كفار إلى كفار قريش, أول ما ينصرف هذا الأمر إلى كفار قريش.
) إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)
هناك مصطلحات أحيان يستخدمها أهل التفسير, مصطلحات يستخدمها أهل النحو.
أهل التفسير يتأدبون أكثر لأنهم يتعاملون مع ألفاظ قرآنية.
أما النحاة فلا يتوخون الأدب لأنهم يتعاملون مع أقرانهم مع أئمة في اللغة, أو مع شعراء, أو مع خطباء, فلا يكونوا مطالبين بالتأدب كما يطالب به أئمة التفسير.
(أم اتخذ مما يخلق)
أهل التفسير يقولون إن الميم هنا صلة,
يقولون ماذا؟ صلة.
( أم اتخذ ) تأدبا مع الله, لأن النحويين يقولون إن الميم هنا زائدة, يقولون زائدة.
إن أسميناها زائدة كما قال النحويون أو أسميناها صلة كما قال المفسرون فالمعنى واحد في مقصودهم يراد بها التوكيد. يراد بها التوكيد.
والاستفهام للاستنكار.
و الاستفهام لماذا؟ للاستنكار.
) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ) نكر البنات وعرف البنين ليطابق حال البنين والبنات عند العرب.
نكر البنات وعرف البنين ليطابق ماذا؟ حال البنين والبنات عند عند العرب.
) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ) وأنا هنا أؤكد على اللغويات أما المعاني سيأتي لها في قول الله تعالى ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) في نفس السورة حتى لا يتكرر الأمر.
) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (
ثم قال الله ( وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أومن ينشَّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين )(7/17)
هنا الله جل وعلا لما نقم عليهم أنهم جعلوا الملائكة بنات الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ذكر شيئا لا يرتضوه لأنفسهم ومع ذلك نسبوه إلى إلى ربهم لا يرتضوه لأنفسهم ونسبوه إلى ربهم فحكا عن بعض طوائف من العرب, ( وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ) هنا ذكرها بالكناية, أو بغير التصريح, وصرح بها في النحل ) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (.
الكظيم: هو من يكظم كربه وحزنه.
هو من يكظم ويكتم كربه وحزنه.
( وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا ) { ظل } هنا بمعنى صار, ( وهو كظيم )
قال الله: ( أومن يُنشَّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)
هنا نسيح لغويا, نسيح يعني من السياحة, لغويا معرفيا في هذه الآية التي نختم بها حلقة الليلة.
(أومن ينشَّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين )
يستفاد من هذه الآية أن الأصل في النساء أنهن يتجملن, والأصل في الرجل ألا ألا يتجملون.
فالزينة أليق بربات الحجال وأبعد عن الرجال.
وأبعد عن الرجال. هذه واحدة .
قول الله جل وعلا: ( أومن ينشأ ) يعني يربى ( في الحلية )
أي في الزينة) وهو في الخصام ) هذا قيد في ظني لا بد منه ( وهو في الخصام غير مبين )
متى يكون غير مبين؟ في الخصام ليس على إطلاقه، ليس على إطلاقه.
لا يقدح في المرأة على إطلاقه لكن المقصود من الآية أنكم نسبتم إلى الله من لو خاصم بقوله لما غلب, فكيف يغلب في الحروب.
فإذا كان لا ينفع لا في حرب ولا في خصام قولي
كيف تكون هناك منفعة من اتخاذه ولد؟! واضح؟
كيف تكون هناك منفعة من اتخاذه ولد. ؟!(7/18)
ونحن نعلم أن الله غني عن هذا كله لكن نتكلم من باب الفرض الجدلي, فإن الله يخاطبهم على فرضهم الجدلي, فإذا كانت الفتاة أو البنت جنسا نوعا لا تقوى على أن تظهر خصومتها القولية, فهي من باب أولى أن تضعف في المخاصمة الحربية العسكرية في ميادين القتال, فإذا كانت لا تُجدي نفعا في دفع ضر أو أذى عمن تتولاه, لا بلسانها ولا بسنانها, فلا منفعة إذا من اتخاذها ولدا, فإذا كانت ليس هناك منفعة أبدا في اتخاذها ولدا فكيف تنسبونها إلى ربنا جل جلاله! فالله منزه عن هذا كله.
نعود فنقول:
إنه ( وهو في الخصام غير مبين ) وهو في الخصام قلنا قيد لابد منه. لماذا قلنا قيد لا بد منه؟
لأننا نعلم ضرورة أن في النساء فصيحات بليغات شاعرات, والقرآن لا يمكن أن يخالف الواقع فالواقع أعظم الشهود وقد قال معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه في حق أم المؤمنين عائشة أنها كانت فصيحة أنها كانت فصيحة بليغة, وأنها ما فتحت بابا وشاءت أن تغلقه خطابا إلا فعلت, ولا أغلقت بابا وشاءت أن تفتحه خطابا إلا إلا فعلت.
ولئن قلنا إن المرأة لا تبين ولا تفصح ولا تُفهم , فكيف نقول في كثير من الأحاديث التي روتها صحابيات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا
ينجم عن هذا القول وحمل هذا الراية رد كثير من السنة .
لكن نقول أن التعبير القرآني جاء مقيدا.
قال الله جلا وعلا (( أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ))
أما في غير الخصام قد يكون مبين .
مثلا :أحيانا قد يكون الحديث – إن كان هذا في الأفراد - الإمام مسلم رحمة الله عليه روى في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( لا إله إلا الله ويل لعرب من شر قد اقترب فتح اليوم ...))إلى آخر الحديث المراد به يأجوج ومأجوج هذا الحديث من الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ زينب بنت جحش .
من زينب بنت جحش ؟ زوجة النبي صلى الله عليه وسلم
التي طلقها من ...؟ من زيد(7/19)
زينب أخبرت بهذا الحديث الذي أخذته من فيّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم من ؟
أخبرت به أم حبيبة
من أم حبيبة ؟ زوجة النبي صلى الله عليه وسلم
بنت من ؟ بنت أبي سفيان
أم حبيبة أخذته عن زينب,
وزينب أخذته عن من ؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أخبرت به أم حبيبة ؟ أخبرت به ابنتها حبيبة
من حبيبة ؟ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم
لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أمها فأصبحت من ربائبه
من أخبرت به حبيبة ؟ أخبرت به زينب بنت سلمة
من زينب بنت سلمه ؟بنت أم سلمة التي هي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. إذن حتى زينب (ماذا) ربيبة .
هذا حديث اجتمع في سنده أربع صحابيات ، حديث اجتمع في سنده أربع صحابيات اثنتان زوجتان للنبي صلى الله عليه وسلم من هما ؟
أم حبيبة و زينب بنت جحش
واثنتان من ربائب صلى الله عليه وسلم من هما؟
حبيبة وزينب بنت سلمة
حتى الأسماء تدور في فلك زينب وحبيبة
زينب بنت جحش , أم حبيبة ,حبيبة,وزينب بنت أبي سلمة
وهذا حديث مثلا في سنده أربع صحابيات .
لو قلنا أن الآية على إطلاقها لوقفنا ضعفاء في قبول هذا الحديث
لكن نقول أن الله قيد ويجب اعتبار قيد القرآن قال الله جلا وعلا ((أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين))
ينجم من هذا الأمر فقهيا أن الأصل في زينة النساء الإباحة .
ينجم من هذه الآية فقهيا أن الأصل في زينة النساء الإباحة .
إلا ما استثناه الشرع نصا ، إلا ما استثناه الشرع نصا
ما استثناه الشرع نصا في زينة النساء يُترك ويجتنب للنهي الشرعي
وما لم يأتي نص شرعي فيه يبقى على أصله ويأخذ بعموم هذه الآية
وهي قول الله جلا وعلا ((أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ))
جعلني الله وإيّاكم من إذا خاصم أبان ولا يفجر
فيدافع عن حقه ولا يقع فيما وقع فيه أهل النفاق .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وما أعان الله على قوله وفي اللقاء المقبل نبدأ - بإذن الله تعالى – نبدأ بقول الله :(7/20)
(( و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون ))
وصلى الله على محمد وعلى آله ...
والحمد لله ربع العالمين ....
تفريغ سورة الزخرف3 ( من الآية 19_ 29(
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
* أما بعد *
فنستأنف في هذا اللقاء المبارك دوحة سورة الزخرف وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا " أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " والآية التي بعدها شديدة الارتباط بها قال الله " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون "
كل من نازع الله مغلوب ..
والله يظهر ضعف عدوه وتناقضه قولاً أو عملاً
ما الذي صنعهُ القرشيون ؟
زعموا أمرين :
الأمر الأول :
زعموا أن الملائكة بنات لله .
والأمر الثاني :
بهذا الزعم ينجمُ عنهُ أنهم جعلوا الملائكة شركاء لله لماذا ؟ لأن الابن جزءٌ من والدة قال صلى الله عليه وسلم " إنّما فاطمةٌ بضعةٌ مني يُريبُني ما رابها " على هذا جمع هؤلاء القرشيون النقيضين أين النقيضان في قولهم : أنهم رفعوا أولاً الملائكة من مقام العبودية ولهذا قال الله ( الذي هم عبادُ الرحمن ) إلى مقام أنهم جعلوهم بوصفهم بنات لله جعلوهم شُركاء مع الله وهذا ارتفاع وارتقاء بمقام الملائكة وفي نفس الوقت جعلوُهم بنات والذكرُ أفضلُ من الأُنثى فرفعُوهم من وجه ووضعوهم من وجه آخر وهذا قمة التناقض .
قال الله جل وعلا ( وجعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن إناثا اشهدوا خلقهم )
الشهادة هنا بمعنى الحضور( ستُكتبُ شهادتهم ويُسألون )(7/21)
وهذا فيه تخويف لناس لأن الله علم من غير تدوين شهادتهم أن مآلهم إلى النار ومع ذالك حاكمهم الله على هذا الأمر فالكُفار جُرماً حتى لو لم يقولُوا هذا الأمر هم من أهل النار ومع ذالك قال الله ( ستُكتبُ شهادتهم ويُسألون )
(وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذالك من علمٍ إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتاب من قبله فهم بهِ مستمسكون )
احتج القرشيون بالقدر ومن احتج بالقدر يبطُل احتجاجهُ عقلاً ونقلاً كيف يبطلُ احتجاجهُ عقلاً ؟
كلُ من احتج بدليلٍ عقلي نُلزمهُ بالبقاء عليه في كل أحوالهِ وقد تبين عقلاً أن أي أحد لا يستطيعُ أن يحتج بالقدر في كل أحوالهِ وهم يقولون لو كان هذا الدين حقاً لما شاء الله أن نعبُد غيره قال الله جل وعلا عنهم (قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ) احتجوا بالقدر ، فنقول لهم من الناحية العقلية الآن : لو سلّمنا لكم بصحة هذا الاحتجاج هل تقبلون بهِ في كل أحوالكم ؟ لا يقبلون ، فلا يُمكن أن تأتي أعراضهم فتنتهكها أو أموالهم فتسرقها ويقبلون احتجاجك بأنك انتهكت أعراضهم وسرقت أموالهم بقدر الله ــ واضح ــ سيُعاقبُك ويثأرون لأنفُسهم فهذا يبطلُ بهِ الاحتجاجُ بالقدر ماذا ؟ عقلاً يبطلُ بهِ الاحتجاجُ بالقدر عقلاً .
أمّا ابطالهُ نقلاً فهو في الآية التي بعدها قال الله جل وعلا ( أم آتيناهم كتاباً من قبلهِ فهم بهِ مستمسكون )
وقطعاً ليس لهم كتاب من قبلهِ قال الله جل وعلا ( وما آتيناهم من كتُبٍ يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير )
على أن هذهِ الآية عُض عليها النواجذ وأعقد عليها خٌنصرك سيأتي الحاجة لها ملّحة فيما بعد ستأتي الحاجة إليها فيما بعد لكنّ الله ساقها لبيان رد دليلهم نقلياً فهم لا يملكون دليلاً نقلياً ولا دليلاً عقلياً لكن لديهم شُبهة والقرآن إذا حاكم يُحاكم بالتفصيل.
أين الشُبهة ؟(7/22)
هي قولُ اللهُ جل وعلا كما حكى الله عنهم : ( بل قالوا إنّا وجدنا ءابائنا على أُمة وإنّا على آثارهم مهتدون ) فشُبهتهم التي تمسكوا بها بعد أن أبطل الله احتجاجهم بالقدر ذكر الشُبهة التي تمسكوا بها وهي أنهم وجدوا آبائهم على أُمة وقالوا كما قال الله (وإنّا على آثارهم مقتدون ) قبل أن أعود ونخوض فيها معرفياً نُكمل مُرادفها أو ما جاء في سياقها ثم نعودُ إليها .
قال الله ( وكذالك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ من نذير إلا قال مُترفُوها إنّا وجدنا آبائنا على أُمة )
إذاً الاحتجاج بالقدر فيما يبدوا خصيصة قُرشية ، أمّا الاحتجاج بأنهم وجدوا آبائهم على أُمة ليست خصيصة قُرشية وإنما مضت في مللٍ وأُممٍ وأقوامٍ ماذا ؟ قبلهم وهذا أين الدليلُ عليهِ ؟
الدليلُ أن ألله لمّا حكى احتجاجهم بالقدر لم يقُل سُبحانهُ أنهُ كان موجوداً في الأُمم التي سلفت ولّما ذكر احتجاجهم في أنهم وجدوا آبائهم على أُمة قال سُبحانهُ وهو أصدقُ القائلين ( وكذالك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ من نذير إلا قال مُترفُوها إنّا وجدنا آبائنا على أُمة وإنّا على آثارهم مقتدون قال) من الذي قال ؟
قال كُل رسولٍ لأُمتهِ ، ماذا قال ؟
( قال أولو جئتكُم بأهدى مّما وجدتم عليهِ آبائكم قالوا ) أي كُل أُمةٍ لرسولها ( إنّا بما أُرسلتُم بهِ كافرون ) قال الله ( فانتقمنا منهم فانظُر كيف كان عاقبةُ المُكذبين )
الآن نعود للآية الماضية ونُنيخ المطايا فيما يجملُ عنها من فوائد :
أعظم الفوائدُ الدالة عليها :(7/23)
أن الله نهى عن التبعية بغير علم لأن الله قال ( قال أولو جئتكُم بأهدى مّما وجدتم عليهِ آبائكم) على هذا فبابُ الاجتهادُ في الشرعِ مفتوح ولا يلزمُوا والناسُ عندما فتحوا لأنفُسهم بابُ الاجتهاد ظنّوا أن الطريقة المُثلى إليهِ حفظُ المتون وهذا خطأً منهجيً عظيم فإن الحفظ وإن كان حسناً إلا أن الذي ينبغي في المجتهد أن يعرف مواضع الأحكام ويفهمها أمّا حفظها فليس لهُ علاقة بالاجتهاد أعيد..
الذي ينبغي على المجتهد أن يعرف مواطن الأحكام فيفهما أما حفظها فليس لهُ علاقة بالاجتهاد فإذا كان يسهلُ عليه أن يعرف موطن الحُكم ويفقههُ ويفهمهُ ويُنزّلهُ التنزيل الصحيح فهذا مُجتهد ، أما الحفظُ فلا علاقة لهُ لماذا لا علاقة لهُ ؟ لأننا لو قُلنا أن الحفظ رُكنٌ من أركان الاجتهاد لوصل إلى تلك المنزلة أو إلى نصفها أو قارب منها مئاتُ الحُفّاظ وأنت كما ترى كثيرٌ منهُم لا يملكُ الآلة العلمية وحسبُك مثلاً على ابنك في المرحلة الدراسية قد يكونُ في الثانية عشرة من عُمرة وحفظ القرآن أو حفظ الصحيين ولا يُمكنُ أن يكون قد خطى خطوةً واحدة في طريق الاجتهاد ــ واضح ــ ولا يكون قد خطى خطوةً واحدة في طريق الاجتهاد قال الناظم:
وموضعِ الأحكام دون شرطِ
حفظ المتون عند أهل الضبطِ
أعيد وموضعِ ـ هذي معطوف على منصوب ـ
وموضعِ الأحكام دون شرطِ
حفظ المتون عند أهل الضبطِ
والمعنى أن يعرف المجتهد موضع الأحكام دون أن يشترط حفظ المتون عند ماذا ؟ عند أهل الإتقان والصنعة .
وموضعِ الأحكام دون شرطِ
حفظ المتون عند أهل الضبطِ
واضح
فنجم عن هذا كُلهِ أن التقليد والإتباع من غير دليل أمرٌ مندوبٌ شرعاً دلّ قولُ الله جل وعلا إذا ضُمّ إلى غيرها ( وجدنا آبائنا على أُمة )
ما معنى أُمة هنا ؟ طريقة ومسلك يسيرون عليهِ وهديً كان عليهِ آبائهم مع أن كلمة أُمة جاءت في القرآن على معانٍ عدة لكن كيف عرفنها ؟ ممّا يُسمّى السياق .(7/24)
قال الله جل وعلا ( ولئن أخّرنا عنهُم العذاب إلى أُمةٍ معدودة ) أي إلى أجل إلى زمن ، وقال الله جل وعلا ( ولمّا ورد ماء مدين وجد عليهِ أُمةً من الناس ) أي جماعة قال بعضهُم دون الرجال .
( وإن من أُمةً إلا خلا فيها نذير ) جماعة يدخُل فيها الرجال والنساء .
( إنّ إبراهيم كان أُمة ) أي رجُلاً جامعاً لصفاتِ الخير .
إذاً يا من تُفسّر القرآن ثمّة ألفاظ تتفقُ في أحرُفها وتختلفُ في معناها وإن كان الجرم الأول لمعناها واحد لكن تأتي لها دلالات مثلاً قال الله جل وعلا ( فطوّعت لهُ نفسهُ قتل أخيهِ ) من أخوة ؟ أخوه لأبيهِ وأُمهِ لأن الحديث عن قابيل وهابيل .
وقال الله في هود ( وإلى عادٍ أخاهمُ هوداً ) وهو ليس أخوهم لأُمهم وأبيهم لكن أخوهم في القبيلة.
وقال الله تبارك وتعالى ( كُلّما دخلت أُمةٌ لعنة أُختها ) ما معنى أُختها هُنا ؟ أي شبيهتها مثيلتها في الجُرم .
وقال الله جل وعلا ( إنما المؤمنون أخوة ) أخوة الدين .
وقال الله تبارك وتعالى ( إنّ هذا أخي لهُ تسعٌ وتسعون نعجة ) أي شريكي وصاحبي .
وقال الله جل وعلا ( وإخوانهُم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرِون ) أي أوليائهم .
فاللفظُ واحد والمعاني مختلفة ونظائر أُخر كلمة آية قال الله جل وعلا ( إنّ في ذالك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة ) ما معنى آية هنا ؟ عبرة ( إنّ في ذالك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة ) ما معناها ؟عظةٌ وعبرة .
وقال الله جل وعلا ( ومن آياتهِ أن خلقكم من تراب) هنا آية بمعنى برهان ودليل .
وقال الله تعالى يُنبأ عن آية بأنها معنى البناء الرفيع ( أتبنُون بكُل ريعٍ آية تعبثون ) .(7/25)
وتأتي آية بمعناها في المصحف قال الله ( وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما يُنزّل قالوا إنّما أنت مُفتر) فندخُل هنا نُعرّج عاد احنا في علم التفسير على معنى آية في القرآن على معنى آية في الاصطلاح الشرعي إحنا أخذنا نماذج على معنى آية في الاصطلاح اللُغوي وقُلنا تأتي بمعنى عظة تأتي بمعنى برهان تأتي بمعنى بناء رفيع وتأتي في المصطلح الشرعي وأنت تُفسر القرآن الآية ــ أكتُب ــ جملةٌ من الكلام ذاتُ مبدأً ولها مطلعٌ ومقطع جملةٌ من الكلام ذاتُ مبدأً ــ أي بداية يعني ـ ولها مطلعٌ ومقطع مختومةٌ بفاصلة موجودةٌ في سورة . هذهِ الآية .
قُلنا في ضمن كلامنا كلمة مختومةٌ بماذا ؟ بفاصلة ما الفاصلة ؟
ــ نكتُب ــ الفاصلة جملةٌ من الكلام تختمُ بهِ الآية وهي قرينة القافية في الشعر واللازمة في السجع إلا أنا الفارق الأعظم أن الفاصلة في القرآن يُؤتى بها لمعنىً وقد قال أهلُ الصناعة ــ أي صناعة ــ التفسير الذين لديهم حظٌ في الُلغة وقد قال أهلُ الصناعة : إنّ الفاصلة سرُ من أسرار القرآن ، و يُمكنُ تقسيمُ الفاصلة إلى أربعة أقسام :
الأول : التمكين .... ويُقصد بها تلك الفاصلة التي يكونُ ما قبلها ممُهداً لها مثل قولهِ تعالى ( وردّ الله الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيرا ) طبعاً أنت أُكتب صدر الآية والفاصلة ( وردّ الله الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزا ) أين الفاصلة ؟ ــ أجيبوا ؟
جملة ( وكان الله قوياً عزيزاً) هي الفاصلة ، ما قبلها كان مُمهداً لها فحتى لا يُفهم أن ردّ الذين كفروا كان قدراً واتفاقاً جاءت الفاصلة لتُبين التمكين فظهر من لفظها قُدرةُ الله جل وعلا ليطمأن المؤمن ويُغاظ الكافر هذا أولُ أقسام مدلولات الفاصلة وهو التمكين .(7/26)
الثاني : التصديق ..... وهو أن يكون صدرُ الآية دالاً على أخرها فتُصبحُ أيها الأخُ المُبارك هذهِ الفاصلة مأخوذةٌ لفظاً من أين ؟ من صدر الآية أُعيد فتكون هذهِ الفاصلة الجُملة التي خُتمت بها الآية مأخوذة لفظاً من صدر الآية ( فقُلتُ استغفروا ربكم إنهُ ) هذهِ الآية ، أين فاصلتُها ؟ ( إنهُ كان غفارا ) مأخوذٌ لفظاً من صدر الآية ، أن تكون الفاصلة مأخوذةٌ لفظاً من صدر الآية مثل قول الله تعالى ( فقُلتُ استغفروا ربكم إنهُ ) .
الثالث : أيُها المبارك التوشيح ما التوشيح نظير التصديق لكنّ التصديق مأخوذٌ لفظا أما التوشيح مأخوذٌ معنى ــ أحسنت ــ مأخوذٌ ماذا معنى لكنّ التوشيح مأخوذٌ معنىً قال الله تعالى ( وأسرُوا قولكم أو اجهروا بهِ) ــ ماذا قُلتُ لك ــ (إنّهُ عليمٌ بذات الصدور) فالمعنى غيرُ اللفظ المعنى هنا مُستسقى من أول الآية مُستسقى من صدر الآية .
من يُعيدها الثلاث ؟
التمكين وتصديق وتوشيح.(7/27)
الرابعة : الإيغال .... طيب أنت الآن تسمع هذا المُصطلح أوغل فلانٌ في الأمر ما معنى أوغل ؟ دخل أو زاد تعمّق كُلها تدور في فلك الزيادة إذاً الإيغال في الفاصلة أن تتضمن الفاصلةُ معنىً زائداً على صدر الآية قال ربُنا مثلاً وهو أصدق القائلين ( قُل لأن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ) الآن انتهت الآية من حيث المعنى تمّ معنى الآية ( قُل لأن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ) انتهى المعنى ثم قال اللهُ بعدها في فاصلةً خُتمت بها هذهِ الآية (و لو كان بعضهُم لبعضِ ظهيرا ) هذهِ الفاصلة زادت معنى هو أنهم ولا يأتون بمثلهِ مُجتمعين أي حتى لو اجتمعوا لا يُمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن فهذهِ الفاصلة زادت معنىً عن صدر الآية يُسمّى إيغال يُسمّى ماذا ؟ إيغال ــ طيب هذا اليوم الدرس قد يكون في فنون التفسير ، هذا الإيغال جاء جزءٌ من أربعة وهو التوشيح والتصديق والتمكين فهنا لهُ علاقة ــ أنا أتكلم عن ماذا عن الفاصلة واضح ــ فهو نوعٌ من أنواع تقسيم الفاصلة لكن يأتي الإيغال أيُها المُبارك لهُ جُرم آخر وموضع آخر عند البيانيين وأهل البديع ضمن الإيجاز والإيغال أُمور أُخر غير علاقتهِ بماذا ؟ غير علاقتهِ بالفاصلة يأتي في الآية ؟
إذاً الإيغال وأنت تُفسر يأتي على كم ضرب ؟
على ضربين :
يأتي جُزءً من أقسام الفواصل .
ويأتي مُحسناً بديعياً في الآية نفسها .
كيف يأتي مُحسناً بديعياً في الآية نفسها ؟(7/28)
إنّ الآية تقطعُ على من يسمعها الزيادة فبعضُ الشُعراء وهذا ظهر عند ابنُ المعتز كثيراً يأتي بأبياتٍ تتضمنُ معانٍ تُلجمُك ألا تسأل ، كُل ما خطر ببالك سؤال ألجمك الكلام الذي تسمع ــ نأتي بمثال ــ يقول الله جل وعلا ( أيودُ أحدكُم أن تكون لهُ جنةٌ من نخيلٍ وأعناب ) معلوم أن الجنة لا بُد أن يكون فيها نخيل وأعناب فهذهِ (من نخيلٍ وأعناب) زيادة على أنها جنة قال الله تعالى ( أيودُ أحدكُم أن تكون لهُ جنةٌ من نخيلٍ وأعناب تجري من تحتها الأنهار ) تجري من تحتها الأنهار أصلاً من لوازم كلمة جنة لكنّ هذا إيغال زاد إيغالاً آخر قال ( ولهُ فيها من كُل الثمرات ) هذا إيغال آخر تكفي عنهُ كلمة جنّة لكنّ المقصود والمقصود غير الوصف يعني وصف هذا الأسلوب يُسمّى إيغال أمّا المقصودُ منه هنا إظهار شدة التأسُف والتحسُر على جنّة بهذا الوصف قال الله ( ولهُ فيها من كُل الثمرات فأصابهُ الكبر ) لمّا قال وأصابهُ الكبر يأتي السؤال أهم شي ترك ذُرية وإلا ما ترك ذرية قال الله ( ولهُ ذرية ) يأتي السؤال ضُعفاء وإلا أقوياء يأتي الإيغال ( ولهُ ذريةٌ ضعفاء ) قال الله ( فأصابها إعصار ) ولم يكتفي ( فأصابها إعصارٌ فيهِ نارٌ ) وكلمة فيهِ نار من لوازمها الاحتراق لكن قد يقول قائل ربُما لا تحترق يأتي السؤال هل احترقت قال ( فاحترقت ) هذا الإطناب الذي يُجيب عن كُل سؤال ربُما يخطرُ في على بال في الصانعة الشعرية يُسمّى إيغال والقرآن قُرآنٌ عربي فما يُقال من أساليب العرب في كلامها في الشعر يُنزّل على أساليب ماذا ؟ القرآن لكن لا يُقال في القرآن شعراً .(7/29)
وقد قُلتُ مراراً أن طه حُسين الأديب المعروف على ما فيهِ وليس هذا مقام القضاء بين عباد الله المقام استفادة من الكلام المقام استشهاد طه حُسين يقول عرّف الشعر والنثر قيل لهُ والقرآن شعر أو نثر ؟ أجاب بكلمة بريئة قال القرآن قرآن ليس لهُ اسم إلا قرآن القرآن ماذا ؟ قرآن لا يُسمّى شعراً ولا يُسمّى نثراً لكنك إذا كُنت قوياً في معرفة أساليب العرب في كلامها تُعطيك مفتاح من مفاتيح عدة لتدبُر كلام الله جل وعلا وأن تكون فارساً مُقدماً فيهِ واضح .
نعود لما بدأناها ...
( بل قالوا إنّا وجدنا آبائنا على أُمة وإنّا على آثارهم مهتدون * وكذالك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ من نذير إلا قال مُترفُوها إنّا وجدنا آبائنا على أُمة مُقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى ممّا وجدتُم عليهِ آبائكم قالوا إنّا بما أُرسلتُم بهِ كافرون * فانتقمنا منهُم فانظُر كيف كان عاقبةُ المُكذبين * وإذا قال إبراهيُم لأبيهِ وقومهِ إنني براءٌ مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنهُ سيهدينِ * وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ لعلّهم يرجعون * بل متعتُ هؤلاء وآبائهم حتى جاءهم الحقُ ورسولٌ مُبين )
إبراهيم خليلُ الله المعروف والمعنى واذكُر إذ قال إبراهيم لأبيهِ قيل اسمهُ تارخ أو تارح بالحاء وهذا قولُ أهل التاريخ ، وقال الله في القرآن أنهُ آزر واضبطُ الأقوال عندي أن يُقال أن اسمهُ تارخ ويُعرف بأزر خروجاً من الإشكال لأنّ جمهرة المؤرخين اتفقوا على أنهُ تارخ وهو قولُ ابنُ عباس والقرآن يقول ( وإذ قال إبراهيم لأبيهِ آزر ) ويُمكنُ الجمعُ بأنّ اسمهُ تارخ ويُعرف بأزر (وإذا قال إبراهيُم لأبيهِ وقومهِ إنني براءٌ مما تعبدون * إلا الذي فطرني ) هذا استثناء منقطع بمعنى لكن الذي فطرني أتولاه كما أتبرأ ممّا تعبدون أتولى من فطرني (فطرني فإنهُ سيهدينِ * وجعلها ) الفاعلُ من ؟
جمهورُ أهل العلم على أنهُ إبراهيم ، وبعضُ العلماء على أنهُ عائدٌ على لفظ الجلاله .(7/30)
ومن قال أنهُ يعودُ على لفظ الجلاله يُغلب بأنها جاء في آخر الآية (وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ لعلّهم) وكلمة لعلّ هنا لا تُناسب أن تُسند إلى رب العزة فنُرجّح أنّ ( جعلها) فاعلُها عائدٌ على إبراهيم ولها مفعولان الهاء في جعل وكلمةً مفعول ثاني أما باقيةً فهي حال أو فهي صفة أنا أسف فهي ماذا ؟ صفة .
(وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ) العقب في الُلغة مُؤخّر الرجل ، وفي الاصطلاح كُلُ قومٍ ليس بينهم وبين أبيهم أُنثى الرجُل إذا اتصل بأجدادهِ من غير أُنثى يُسمّى عقب .
( وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ لعلّهم يرجعون) الكلمة هي كلمة التوحيد والبراءة مما يُعبد من دون الله ـ أنا الآن أُفسّر حرفياً سأجمع شتات هذا كلهُ لأن هذهِ الآية تهُمّنا جداً في فهمها ـ
(بل متعتُ هؤلاء وآبائهم حتى جاءهم الحقُ ورسولٌ مُبين )
سنقول ما قال المُفسرون ثم نقولُ رأينا :
أهل التفسير يقولن أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من أهل الأوثان وهذا حق وتولى ربهُ وهذا حقٌ وظاهر وجعل هذهِ الكلمة في عقبهِ باقية يرجعون إليها إذا حادوا علامة إشعارٍ لهم ( وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ لعلّهم يرجعون) وقالوا من الدلائل أن الله قال ( ووصّى بها إبراهيم بنيهِ) معنى الكلام عندهم ( لعلّهم يرجعون ) أي أن على هذا قالوا أن هذا الأمر الذي رجاهُ إبراهيم لم يتحقق كلهُ فأمن بعضُ ذُريتهِ ولم يُؤمن بعضهم قال الله جل وعلا ( لا ينالوا عهدي الظالمين ) في خطابهِ لمن ؟ لإبراهيم .
ثم قال الله : (بل متعتُ هؤلاء وآبائهم حتى جاءهم الحقُ ورسولٌ مُبين )(7/31)
أي أنّ هؤلاء الآباء الذين هم أبناء آباء قريش لم ينتفعوا بكلمة من ؟ بكلمة إبراهيم باعتبار أن إبراهيم أبوً لمن ؟ لإسماعيل وإسماعيل أبوً لعدنان وهؤلاءِ عربٌ عدنانيون ــ واضح ــ لأن نسب النبي مثلاً ينتهي إلى معد ابن عدنان اتفاقً على وجودهِ ، على هذا ينجم أنهُم فهموا أن ثمّة شيء من الدين كانت قريشٌ مُطالبةً بهِ حتى توسّعوا فقال الطاهر بن عاشور غفر الله له ورحمه [ ومّما يُستروح من الآيات من قول الله ( وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ ) إلى قولهِ ( بل متعتُ هؤلاء وآبائهم ) أنهُ لم يكن هناك في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ أجدادهُ كان يَُضمرون الإيمان ويُخفونهُ ولم يُصرحوا بهِ مخافة الفتنة من قومهم]
وهذا أمرٌ عندي في غاية الغرابة والبُعد وقد قلتُ في درسٍ خلا لا أدري إن كان هذا أو غيرهُ تنبّه لقول الله ( أم ءاتيناهم كتاباً فهم بهِ مستمسكون ) وقُلنا أنّ هذا استفهام استنكاري أنه لم يأتيهم كتاب ولأن كان الأمر ينطبقُ عليهم كما قال الطاهر بن عاشور أو غيرهُ فهذا يكونون مُطالبين بالصُحف التي أُنزلت على إبراهيم واللهُ قد نفاها عنهم وبيّن أنهم لا يملكون دليلاً نقلياً ، والعلما يربطون ما بين قول الله جل وعلا (وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ ) وبين قولهِ ( بل متعتُ هؤلاء وآبائهم).
والذي أراه والعلم عند الله أن قول الله جل وعلا (وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ ) لا علاقة لها بقول الله ( بل متعتُ هؤلاء وآبائهم) في انفكاك تام .
والمعنى أن إبراهيم جعل هذهِ الكلمة في ذُريتهِ التي كانت على مقربة ممّن كفر بهِ لعلّها إذا شاعت في ذُريتهِ يرجع من لم يُؤمن بهِ يرجع عن الكفر من لم يُؤمن بهِ ، ومن أعظم القرائن على ذالك أن قوم إبراهيم لم ماذا ؟ لم يُهلكوا .
وبقي الأمور مُعلقة في أذهانكم لكن الوقت انتهى وسأُبينها تفصيلاً في أول اللقاء القادم .(7/32)
هذا ما تيسر إيرادُه وتهيأ إعدادهُ وأعان الله على قولهِ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين .........
تفريغ سورة الزخرف من الآية ( 26) إلى ( 39 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له شعُارُ ودثارُ ولواءُ أهل التقوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثرهُ واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد.......
كنّا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا ( وإذ قال إبراهيمُ لأبيهِ وقومهِ إنني براءُ مما تعبدون ) ووافقت أن كان ذالك في آخر الحلقة مما أنهُ نجم عنهُ أن المعنى لم يتحرر تحرُراً كاملاً فكان لزاماً أن نستفتح بهِ لقاءنا هذا .
فنقول أولاً: مسلك لغوي فإذا انتهينا من المسلك اللُغوي نُعيد إجمال معنى الآية ونُحرّر ما قاله المُفسّرون ثم نذكرُ رأينا إن كان لنا رأيٌ غيرُ ما قالُوا .
الله يقول ( وإذا قال )
أي أذكُر ما قالوا لأن إذ هنا ظرفية تحتوي الحدث ، إبراهيم أبو الأنبياء وأفضلُ خلق الله بعد نبينا صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام " فأقومُ مقاماً يرغبُ إلي فيهِ الخلقُ كُلهُم حتى إبراهيم " فقولهُ عليه الصلاة والسلام حتى إبراهيم قرينة ظاهرة على أن إبراهيم أفضلُ الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم .
( وإذ قال إبراهيم لأبيهِ وقومهِ )(7/33)
قدّم ذكر الأب ليُبين عظيم تبُرأ إبراهيم من الأصنام والخطابُ لمن ؟ لقومٍ يعبدون الأصنام فنسبهم الله جل وعلا أو أخبرهم عن خليل الله إبراهيم ، أمّا القول بأن إبراهيم أبوٌ لهم فيحتاج إلى إعادة نظر أما من حيث أصلهِ فنعم لكن ليس صحيحاً تاريخياً أن ننسب الناس لكُل أبٍ لهم بمعنى لابُد من شخصيةٍ ما فاصلة تكون فاصلة ما بين ما بعد وما قبل أو وما أعلى ما دون ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " أرموا بني إسماعيل " ولم يقُل أرموا بني إبراهيم لأنهُ لو قُلنا أرموا بني إبراهيم لدخل بنوا إسرائيل معنى وضرنا وإياهم لسنا أبناء عمومة لكن قال صلى الله عليه وسلم " أرموا بني إسماعيل " حتى يخرُج بنو إسحاق لأنّ بني إسحاق منهم يعقوب ويعقوب منهُ بني إسرائيل ومن إسحاق كان العيص ومن العيص كان الروم فلو نسبنا الناس إلى إبراهيم كما جرى عليه بعضُ المُفسرين دون أن يلحظ هذا في معنى الآية يقع الخطأ والخلط في فهم الآية وهذا لا يتضحُ لك الآن إلا إذا أكملنا تحرير المعنى وأنا قُلت سأبدأ بداية تروي في قضية الُلغة .
(وإذ قال إبراهيمُ لأبيهِ وقومهِ إنني براءُ)
براء لُغةٌ في بريء كانُ أهلُ عاريةٍ في نجد آنذاك يستخدمون هذا كما يقولون طويلٌ وطِوال يقولون بريءُ وبراء .
(إنني براءُ مما تعبدون ) مّما هذهِ مكونة من (من وما ) أُدغمت في بعضهما البعض فأمّا من فحرفُ جر لكن ما تحتملُ هاهنا إمّا أن تكون مصدرة وإمّا أن تكون موصولةً كيف يُحرّر المعنى ؟
إذا قُلنا إنها مصدرية فيُصبح المعنى أنني براءُ من عبادتكُم لغير الله لأن عبادة مصدرٌ من الفعل عبد وهنا ما تُصبح مصدرية ، وإن قُلنا إنها موصولة يُصبح المعنى إنني براءٌ من معبوداتكم موصولة أي من الذي تعبدونه ولا يتحررُ من هذا كبيرُ اختلاف فإبراهيم بريءٌ منهم بسبب عبادتهم لغير الله .
(إنني براءُ مما تعبدون * إلا الذي )(7/34)
هذا استثناءٌ منقطع في قول الجمهور وهو الحق بمعنى لكن لكن الذي فطرني ـ أي خلقني ـ فإنهُ سيهدين يبقى إشكال هنا أن السين جاءت هنا ولم تأتي في آية الشُعراء ( الذي خلقني فهو يهدين ) قال الشيخُ الهرري أمتع اللهُ بهِ حي ما زال موجود في مكة قال بعد عنايةٍ ودراسةٍ فيها الذي يظهر أن هنا جيء بالسين لا لتسويف لكن لتأكيد لأنهُ هناك في آية الشُعراء ذُكر أن الأصنام عدوةٌ لهُ قال ( أفرئيتُم ما كُنتم تعبدون أنتُم وآباءكم الأقدمون فإنهم عدوٌ لي ) أمّا هنا فأراد إبراهيم أن يُخبر بالبراءة من قومه ومن آلهتهم فجيء بالسين لماذا ؟ لتأكيد لا لتسويف ثم قال كلمةً نُرددها الآن والله أعلم بأسرار كتابه .
نقول ( إلا الذي فطرني فإنهُ سيهدين )
إلى الآن لا يوجد خلاف بين العُلماء في المعنى لأنهُ ظاهر .
( وجعلها ) الجاعلُ إبراهيم على الصحيح وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الخلاف قائم في الفاعل جعل هل هو عائدٌ على لفظ الجلاله أو عائدٌ على إبراهيم .
( وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ لعلّهم يرجعون )
هنا يأتي الخلاف الاختلاف في المعنى :
المفسرون من حيث الجملة يقولون إنّ هذه الكلمة العظيمة وهي البراءةُ من الشرك وأهلهِ وتولي مولاة الله رب العالمين جلّ جلالهُ التي هي كلمةُ التوحيد التي دل علّيها وقيلت بمعنى لا إله إلا الله هذهِ الكلمة جعلها إبراهيم علامةً وشعاراً لدينه وجعلها باقية في عقبه رجاءً أن قومه إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة رجاء أنهم إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة .
( وجعلها كلمةً باقيةً في عقبهِ لعلّهم يرجعون * بل متعتُ هؤلاء وءاباءهم )
(هؤلاء) أي المعاصرون لنبي صلى الله عليه وسلم ( وءاباءهم ) أي الذين لم يشهدوا نبُوتهُ من أباء من كان حياً زمن النبي صلى الله عليه وسلم .(7/35)
( بل متعتُ هؤلاء وءاباءهم ) أي بالنعم والعطاء ومن كثرُت عليه النعم وطول الأمد يقسو قلبهُ فحادوا عن الكلمة التي جعلها إبراهيم باقيةً في العقب .
( حتى جاءهم الحق ) أي القرآن ( ورسولٌ مُبين ) أي مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم .
( ولمّا جاءهم الحقُ قالوا هذا سحرٌ وإنّا بهِ كافرون ) هذهِ ستأتي.
نعود إلى قول الله جل وعلا:
( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون )
هذا الذي عليه أهل التفسير ، ونقول : إن المعنى هنا غير واضح لأننا نؤصل بأن هناك انفكاك وانقطاع تام بنص القرآن مابين نبوة إبراهيم ورسالته ومابين كفار مكة ، ولا يمكن أن يؤخذ بالقول هذا وجعل الأمر كالطريق الواحد ـ محال ـ لأن الله جل وعلا قال في آيات محكمة : ( وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير )
ومر معنا في اللقاء الذي قبله أن الله تبارك وتعالى قال ) أم آتيناهم كتاب من قبله فهم به مستمسكون ( وقلنا أن هذا دليلا نقلياً على أنه ليس لديهم كتاب يخبرهم عن شيء فنفى الله عنهم النذارة ونفى الله عنهم الكتب انقطع اتصالهم الديني بإبراهيم ، فيكون قول الله جل وعلا فيما يبدو لي :(7/36)
( وجعلها كلمة باقية في عقبه) أي في خواص عقبه في أقرب أهله إليه في إسماعيل وإسحاق ومن كان آنذاك معاصراً له في العراق وبلاد الشام ، حتى يكون سببا في نشوء هذه البيئة الصالحة في تكون سبباً ومؤثرة في من جاورهم ، وقلت في اللقاء الماضي أن من القرائن على صحة هذا الرأي أن الله لم يذكر أنه استأصل من كفر بإبراهيم بالكلية ، لم يرد في القرآن فيما نعلم ولا في السنة فيما نحفظ أنه جاء ذكر أن الله استأصل خصوم آل إبراهيم بالكلية ، فالله ذكر أنهم لما حاولوا حرقه ذكر أنه سبحانه نجاه ولم يذكر هلاكهم ، ولما ذكر النمرود ـ والنمرود فرد ـ وإبراهيم أصلا مر على العراق مر على الشام ، ومر على مكة وعلى مصر كل هذه الديار طافها فلم يكن له بيضة معينة ـ بيضة بمعنى حوزة بمعنى مكان مستقر واحد ـ يستأصل أهله بينما كان طوافاً ولذلك تبنته الأمم كلها.
فنقول على هذا إن قول ربنا : ( بل متعت هؤلاء ) أن ( بل ) هنا ـ نعم للإضراب الانتقالي متفقون ـ لكنها ليست للإبطال ، لأننا إذا قلنا أنها لإبطال أصبح هناك اتصال فهو يبطل المعنى ، لكن ( بل ) هنا للانتقال بمعنى يصبح الكلام بعد أن ذكر الله خبر إبراهيم يقول لنبيه أما هؤلاء وآباؤهم فقد متعتهم ما شئتُ أن أمتعهم دون نبي أو رسول ولا علاقة لهم بإبراهيم .
( حتى جاءهم الحق ) أي القرآن .
( ورسول مبين ) أي أنت يا محمد .
ثم قال الله ـ تعالى ـ ) ولما جاءهم الحق ( الكلام الآن عن كفار قريش ، ولا علاقة لإبراهيم بالمسألة .
(ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون )
وهذا مر معنا بأنهم وصفوا القرآن بأنه سحر بما ينجم عنه ـ بزعمهم ـ من التفريق بين الرجل وزوجته ، والوالد وولده ...
ثم قال الله عنهم ) وقالوا( أي القرشيون .
) لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (
الجار والمجرور ـ نحويا ـ تملك قوة في ضعفها ،
الآن المرأة أين قوتها ؟(7/37)
في ضعفها ، بعض الضعفاء قوتهم في ضعفهم كما يأتيك مكان لا يوجد فيه مقعد وتأتي معك بصبي صغير أين قوة الصبي الصغير ؟
في ضعفه ، لأنه من السهل أن تجد له مكانا .
مثلها الجار والمجرور ، فهم قالوا : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فلو سألت :
ما إعراب كلمة عظيم ؟؟ تقول : صفة لكلمة رجل ،
والمعنى ) وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من القريتين ( ومعلوم قطعا وجوب الاتصال ما بين الصفة والموصوف.
ما الذي فصل بينهما ؟
الجار والمجرور ( من القريتين ) فالضعف لأنه شبه جملة أقحمها هنا ويعطي من الصياغة اللفظية والسبك لما لا مزيد عليه ...
(وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم من القريتين )
القريتان المقصودتان هنا مكة والطائف بالاتفاق .
وكل لفظ قرية أيها المبارك في القرآن يعني مدينة ، وقول الجغرافيين ليس له علاقة برب العالمين ، قول الجغرافيين القرية كذا وكذا تقل عن المدينة في وصف معدود هذا اصطلاح لا مشاحة فيه ، لكن القرية في اللفظ القرآني المدينة قال الله تعالى : ( لتنذر أم القرى ومن حولها) كانوا يزعمون ـ في قول جمهور أهل العلم ـ أن القرشيين كانوا يزعمون أن القرآن هذا أحق بهِ رجلان :
الأول : عروة بن مسعود من أهل الطائف.
والثاني : والوليد بن المغيرة من أهل مكة.
وأيا كان من قصدوا هم ـ حتى بهذه الطريقة التي قالوها وهي باطلة في أصلها ـ أخطئوا في أنهم لم يعرفوا كيف أو ما هو المعيار في قدر الرجال ، وألا النبي صلى الله عليه وسلم حتى بالمقاييس غير الشرعية غير مقياسهم هو كان أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه .
نعود فنقول :
إنهم قالوا ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) مر معنا أن الجواب الإلهي يتحرى ويتوخى إقحام الخصم ، وبينا في قضية ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) أنهم جمعوا بين نقيضين أنهم ارتقوا بالملائكة وفي نفس الوقت وصفوهم بأنهم إناث ...(7/38)
هنا يقول الله لهم ) أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ) معنى الآية ـ مباشرة ـ : أن الله يقول لهم : أنتم تعترفون الأرزاق إنما يقسمها الله وهذا لا خلاف فيه عندهم ، ومعلوم أن عطاء النبوة أعظم من عطاء الأرزاق ، فإذا كنا لم نسند إلى أحد من الخلق تقسيم الأرزاق فكيف نسند إليه تقسيم النبوة ؟! واضح
فهذا هو المعنى المقصود من الآية .
فإذا كُنّا لم نُسند إلى أحدٍ من الخلق تقسيم الأرزاق وهي دون النبوة فكيف تزعمون أنّنا أسندنا إليكم تقسيم النبوة .
إذا كلمة ) رحمة ( في الأول بمعنى النبوة )أهم يقسمون رحمة ربك) هنا المقصود بها النبوة (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ ) اللام للتعليل ، ولهذا نصب الفعل ..
( ليتخذ بعضهم بعضا سخريا )
أي أن الله جل وعلا لم يجعل الناس على منزلة واحدة ، خادم ومخدوم أمير ومأمور ملك ومملوك عبد وحُر ، حتى تستقيم الحياة ، وعلى هذا طُبعت الدنيا وجُبل الكون حتى يستقيم الأمر وينتفع الناس جميعا ..
(ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون )
أما )الرحمة ( هنا فالصواب ـ عندنا ـ أنها بمعنى الجنة . الرحمة الأولى بمعنى النبوة ورحمة الثانية بمعنى الجنّة قال الله تعالى (ورحمة ربك خير مما يجمعون )
ثم هذه الآية ممهدة للآيات لمقاطع التي بعدها وهي قضية إظهار حقارة الدنيا.
فلما أراد الله أن يظهر حقارة الدنيا قال مخاطبا عباده:
(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر برحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * وليبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون *وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين )
لابد من تقدير شيء ما في المسألة
والتقدير(لولا أن يكون الناس أمة واحدة ) التقدير لولا كراهة أن يأتي الناس الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن .
المعنى :(7/39)
الله جل وعلا يبين أن الدنيا إعطاؤها للكافر يدل على حقارتها عنده مجرد أن الله جل وعلا أذن للكافر أن ينعم في الدنيا هذا دلالة على أنها حقيرة عند الله لأن الكُفار ليس أولياء لله فتنعمهم في الدنيا يدل على أن الدنيا ليست بشيء ليست ليست بشيء .
فالله جلا وعلا يقول مخافة أن الناس يظنوا أن الكفر هو سبب في النعيم لو كان هذا الأمر صنعته لظن الناس أنه السبب بأنهم كفار فأصبح الناس لذلك كلهم كفار رجاء أن ينعم لهم .
لكن كراهة أن يظن الناس ذلك منعنا جريان الأمر على إطلاقه بدون تقيد .
(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر برحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون )
(معارج) بيّنا جمع معراج بمعنى السلالم مرت معنى قبل في آيات سابقة
(عليها يظهرون ) يصعدون .
( وليبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون *وزخرفا (
هذا كله المقصود منه إظهار المتاع الذي يعيشه الناس في حياتهم .
)وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا (
ثم بين الله جل وعلا أن الحقيقة التي لامناص منها أن المتاع الباقي هو متاع الآخرة
فقال ربنا ) والآخرة عند ربك ( وليس هذا محل خلاف لكن يأتي محل تساؤل
لمن ؟
فجاء الجواب القرآني ) والآخرة عند ربك للمتقين (
ثم قال الله ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (
(يعش) هنا جملة شرطية بمعنى يعرض ويصد .
جواب الشرط (نقيض) أي نهيأ (نقيض) بمعنى نهيأ وهو فعل مستقى من اسم جامع
وأصل التقدير ذلك الذي يحيط بغشاء مخ البيضة
)ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم )
أي الشياطين (ليصدونهم عن السبيل ) عن الهدى
( ويحسبون أنهم مهتدون ) وهذا قمة البلاغة
فإن قال قائل ألا يكون هذا عذرا لهم أنه يتأول على جهل
يقال في الجواب على هذا لا يعد هذا عذرا لأن جهلهم هنا بسبب إعراضهم عن ذكر الله لأن سبب جهلهم إعراضهم عن ذكر الله
(حتى إذا جاءنا ) وفي قراءة ابن نافع ( حتى إذا جاءانا )(7/40)
(قال يا ليت بني وبينك بعد المشرقين)
لماذا قال بيني ويبنك ؟
ولماذا قال بعد المشرقين ؟
أما ( بيني وبينك( كان يغني عنها أن يقول بيننا ..
لكن أراد قمة البراءة منه ويسعى حثيثا لتخلص منه ففصل حتى في الألفاظ
(قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) معلوم أن هناك مشرقان ومغربان
والأمر لتغليب ومر معنا نظائره .
لكن لماذا اختار المشرقين دون المغربين ؟!
قال بعض أهل العلم من اللطائف أن المشرق يكون منه ظهور قرن الشيطان ، يكون منه ظهور قرن الشيطان .
فلهذا قال( يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين )
أسلوب ذم لأن بئس فعل ماضي جامد لا تستطيع .
(ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون )
هذا من أعظم ما عذب الله به أهل النار أن الله قطع عنهم حتى التأسي بغيرهم
فإن المصائب في الدنيا يهونها أن تجد أحدا مثلك أو أعظم منك في المصيبة
لكن أهل النار حرمهم الله جل وعلا من التأسي الذي يخفف عنه بهم العذاب
وهذا له نظائر في كلام الناس وأحوالهم فإنكم تقرؤون تسمعون عن الخنساء
صحابية يقال لها تماضر كان لها أخ غير شقيق يسمى صخر
وكان بارا ًبها وكانت وفية له.
وقد جرت عادت الفضلاء والعقلاء أنا الإنسان إذا أحسن إليهم سبقا دون نعمة يريدها فقد طوق أعناقهم وتقول العوام في أمثالها الأول لا يلحقه شيء صاحب النعمة الأولى لا يدرك
وهذا صخر أثنى على أخته الخنساء قبل أن يعرف قدرتها الشعرية
وقبل أن يموت قطعا وقبل أن ينال منها فضلا وهو غير شقيق فلما وقع من قلبها هذه المكانة ببره لها مات في حروبه فلما جاءت ترثيه قالت فيه رثاء جماً :
قذى بعينيك أم بالعين عوار ***** أم ذرفت إذ خلت من أهله الدار
ثم أطنبت في ذكره إلى يومنا هذا والناس تردد
هباط أودية شهاد أندية ***** حمال ألوية للجيش جرار
إلى آخر القصيدة
ما العلاقة بين الآيات والأبيات ؟
العلاقة التأسي قالت في مقطوعة لها
يذكرني طلوع الشمس صخرا ***** وأذكره لكل مغيب شمسي(7/41)
ولولا كثرت الباكين حولي ***** على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ***** أعزي نفسي بتأسي
فالتأسي بمن ترى حولها من أخوات وقريبات وجارات فقدن أخوانهن كما فقدت أخاها جعلها تتأسى فالتأسي بالغير نوع مما يخفف به الكلء والمصيبة والجرح هذا محروم منه أهل النار .
قال الله جل وعلا (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم )
اشتركتم في الظلم لكن خفف عنكم تحملتم الأعباء بعضكم عن بعض فما قمتم به من ظلم ربما أصبح بينكم تعاون في تحمل أعبائه لكن ليس ثمة تعاون في تحمل البلاء .
قال الله جل وعلا :
( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (
نعوذ بالله من ظلالٍ في جهنم وحرها بالكلية
هذا ما تيسر حول هذه الآيات ذات المقاطع الواحدة
الآن نعيد الكره في قراءتها تاريخيا بعد أن قرأناها تفسيريا لأن ما بعدها منفك عنها
نعود لقضية إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا ينفعنا تاريخا في أن نقول
أنك تسمع بأن الله جل وعلا قال في القرآن ) وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر(
ولقد رجحت في اللقاء الماضي بأن آزر لقب له وأن اسمه تارخ
لماذا اختلف العلماء ؟
من حيث الصناعة العلمية يجب أن تعلم أنه في الغالب لا يمكن أن يكون هناك اختلاف إلا في وجود سبب قوي له .
فمن سبق كان أتقى منا وأشد علما وأعلم باللغة فلا يمكن أن يكون حملهم على الأقوال مجرد هوى عندما لا يكون لك إلا خال واحد فإنك لا حاجة أن تسميه إذا تحدثت عن خالك
أما إذا كان من يحيط بك يعرف أن لك عدة أخوال فلابد أن تعينه باسمه حتى تميزه عن باقي أخوالك .
فالذين قالوا إن آزر ليس أبا لإبراهيم بل هو عم له قالوا إن الله قال )وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر( قالوا لو لم يكن لو كان أبوه لصلبه لا حاجة لأن يسميه لأنه ليس للإنسان إلا أب واحد(7/42)
وأما الذين قالوا أن اسمه آزر قالوا هذا صريح القرآن ولا انفكاك عنه ومن أعظم الأدلة على أنه أبوه لصلبه أن الله ذكره في عدة مواضع ولم يقل أنه عمه ولم يقل أنه عمه
فلو قال أنه عمه لأمكن القول يصبح لقولهم حجة قوية لكن كون الله جل وعلا ذكر أبا إبراهيم في مواطن عدة ولم يقل في واحدة منها أنه عم دل على أنه أب له لصلبه هذه واحدة .
إبراهيم عليه الصلاة والسلام ترك إسماعيل وهو الأكبر وإسحاق وترك العيص
من ذرية إسماعيل جاء نسل ينسب إلى عدنان من عدنان إلى إبراهيم مات آباء وأجداد قطعا
لكن لا يوجد دليل ثبت على أسمائهم .
أما من عدنان إلى هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا متفق عليه بين علماء النسب .
أحيانا يمر معك في تكرار التاريخ كلمة معد وكلمة عدنان وتطلق أحيانا بمعنى واحد
لماذا ؟! لأن ليس بين معد وعدنان أحد فمعد هو الابن المباشر لعدنان فيقال معدي ويقال عدناني والمعنى واحد والمعنى واحد .
قال روح بن زباع
يوم يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن ***** وإن لقيت معدياـ فماذاـ فعدناني
أعيد
هذا روح بن زباع هرب روح من عبد الملك بن مروان فأهدر دمه فأصابه خوف
قال ما أدرك الناس من خوف ابن مروان
أي عبد الملك واضح !
لما أصابه خوف يقول أنا إذا قابلت رجلا من أهل اليمن قلت أنا يمني
أي قحطاني من العرب العاربة .
فإذا لقيت رجل عدنانيا قلت أنا عدناني أي من العرب المستعربة
موضع الشاهد أنه قال
يوم يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن ***** وإن لقيت معديا ما قال فمعديا قال فعدناني
لأن معد هو ابن عدنان
هو ماذا؟هو ابن عدنان
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الخطباء والكتاب في مدحه الصلاة والسلام على سيد ولد عدنان هذه اللفظة تنبه إليها الشعراء .
أحيانا أيها المبارك تكون المعلومة والمعنى مطروح من يستله ويصوغه هذا هو العاقل.
الخامة واحده لكن التعامل مع الخامة هو الذي يفرق الناس هو الذي يفرق الناس ويفاضل بينهم التعامل مع ماذا ؟ مع الخامة(7/43)
إن كانت في العلم كمعلومة أو كانت في اللفظ .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أطبق الناس على أنه من ولد عدنان .
فجاء ابن الرومي الشاعر العباسي فقال :
إن الناس إذا انتسبوا يفتخرون بمن ؟ بآبائهم
فيقول فلان أنا من قبيلة قريش أنا هاشمي أنا قرشي
أنا من بني سهم كل بحسبه .
فقال أما عدنان ففخرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم منهافهذا فخر والد بولد لا ولد بوالد
كما علت برسول الله عدنان
فالذي جعل مزية عدنان على قحطان هو أن النبي صلى الله عليه وسلم منهم .
وهذا إن أطنبت في الفهم يريك الله جل وعلا أن رحمته مقسمة فالعدنانيون ليسو عرب عاربة عُوضوا بأن منهم محمد صلى الله عليه وسلم والقحطانيون ليس منهم النبي صلى الله عليه وسلم فعوضوا بأنهم عرب عاربة فعوضوا بأنهم عرب عاربة ومثل هذا قد تظنه ليس كثير علم لكن هذا إذا كان متوقدا في ذهنك وأنت تسير في الحياة يجعلك تقل الطمع
لماذا تقل الطمع ؟
تعلم أنه من الصعب أن تجمع الحسنيين
إذا الله قال لنبيه )وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين(
)هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين (
هذا يجعلك حتى في مسيرتك لا تحاول أن تكون كل شيء محال
فاتخذ شيئا جرماً وامضي عليه وتقلده واجعل ما بقي فروعا وحواشي لا تهدم ذلك الحلم الذي تريده فمن الذي يريد كل شيء لن يحصل على شيء .
خرج حسين ابن علي ينشد الخلافة والحسين إذا تكلم يقول جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمي يقول عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم "بضعة مني"
من فقه المسألة ؟ ابن عمر
قال له وهو يودعه إنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولن يعطيكم الله الملك والنبوة لن يعطيكم الله النبوة والملك .
لن يكون لك حظ فيها
فوقع كما قال ابن عمر حُرم الحسين باستشهاده في العاشر من محرم من الوصول إلى الحكم
فيأتي استثناء الاستثناءات تكون في الخواتيم لأن الأمور إذا تمت ماذا ؟ انتهت
فالمهدي من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم لكنه علامة من علامات الساعة(7/44)
يكون بها الخواتيم وهذا من سنة الله في خلقه كم تفضل المشرق على المغرب في أن الشمس تشرق منه فإذا جاءت الشمس من المغرب
ماذا يحصل ؟؟ تقوم الساعة
هذا ما تيسر إيراده و تهيأ إعداده وأعان الله على قوله
وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد الله رب العالمين(7/45)
(تأملات في سورة الطور)
الحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعاراً ودثاراً ولواء أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله .صفيه من خلقه، وأمينه على وحيه . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .......أمابعد .أيها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات هذا هو اللقاء الثاني في هذه الدورة العلميه نٍسأل الله جل وعلا أن يبارك فيها وفيما يلقى فيها من دروس نافعه وهذا اللقاء خاص اليوم بتأملات في سورة الطور وهي سورة مكيه تناولت أصول العقيده الثلاث .....
ـ الوحدانيه
ـ إثبات الرساله
ـ البعث والجزاء(8/1)
وهذه السوره السورة بدأت بقسم على صدق البعث والجزاء وانتهت بالأمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بأن يصبر وأن يقرن ذلك الصبر بالتسبيح كما أن هذه السوره الكريمه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بها في صلاة المغرب كما في حديث جبير ابن مطعم رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما قدم المدينه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فسمع النبي علية الصلاة والسلام يقرأ بها أي بسورة الطور في صلاة المغرب فكأنما كاد أن ينصدع قلبه كما أخبر بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه أما تفسيرها فإننا نقول ومن الله نستمد العون نستعدفع نقمته ونستجدي رحمته قال ربنا جل جلاله (والطور* وكتاب مسطور *في رق منشور * والبيت المعمور *والسقف المرفوع *والبحر المسجور *إن عذاب ربك لواقع *ماله من دافع )هذا قسم من الله جل وعلا كما مر معنا في ليلة أمس في قسم الله تبارك وتعالى ببعض مخلوقاته فأقسم ربناجل وعلا بالأمس في سورة الذاريات"بالذاريات" وأتبعها بقسم هذه الألف واللام في الطور إما أن تكون للجنس. أخروفي هذه السورة يقسم الله جل وعلا بالطور والطور أيها الأخ المؤمن في الأصل في اللغه هو الجبل الذي فيه نبت وشجر يسمى طور فكل شجر أنبت فهو طور وكل شجر لم ينبت فليس بطور لكن وإما أن تكون للعهد فإذا قلنا إنها للجنس فشاملة للجميع الجبال التي عليها نبت عليها شجر وإن قلنا إنها للعهد فإن المعهود هنا معهود ذهني وليس معهود لفظي ولماذا قلنا ليس معهودا لفظيا؟ لأنه ليس قبل هذه الآيه شيء . وإنما هو معهود ذهني مستقر في الأذهان والمعهود الذهني المستقر في الأذهان المتعلق بالطور هو الجبل الذي كلم الله جل وعلا عنده عبده ونبيه وصفيه موسى ابن عمران عليه السلام. قال الله جل وعلا (وناديناه من جانب الطور الأيمن*وقربناه نجيا) وقال الله تبارك وتعالى (وماكنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسي الأمر) وقال تبارك وتعالى في ءايات أخر سماه الله جل وعلا البقعه المباركه(8/2)
وسماه الله تبارك وتعالى الوادي الذي فيه هذا الجبل قال الله جل وعلا (واخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ) هذا كله إخبار بأن الأرض التي فيها الجبل أرض مقدسه وهي طور سيناء وأن الجبل نفسه جبل مبارك كما أخبر الله جل وعلا لأن عند هذا الجبل نزل الوحي على رسول من أولي العزم من الرسل هو موسى ابن عمران وكلمه الله جل وعلا ونال موسى لذلك المكان المبارك مانال من فيض الله جل وعلا ورحمته وبركاته على ذلك النبي والصفي والكريم صلوات الله وسلامه عليه... إذاً يتحرر أن الطور في قول أكثر العلماء المقصود به هنا/ الجبل الذي كلم الله عنده موسى فهذا القسم الأول .. ثم قال جل وعلا (وكتاب مسطور* في رق منشور) جاءت كتاب منكره نكره فليست معرفه حتى نقول هل هي للعهد أو نقول هل هي للجنس لذلك اختلف العلماء رحمهم الله في المقصود بالكتاب هنا وأظهر الأقوال ينصرف إلى قولين .
القول الأول :ـ قول أن المقصود بالكتاب اللوح المحفوظ .(8/3)
القول الثاني :ـ هو الأشهر أن المقصود به كتاب الله القرآن الكريم الذي بين أيدينا (وكتاب مسطور ) أي مكتوب سطِّّّّّّّّّّّّر بمعنى كتب (في رق منشور ) الرق بفتح الراء مايكتب عليه والأصل أنه في الغالب يؤخذ من الجلد وكل شيء كتبت عليه من الصحف أو الورق يسمى رق أما الرق بكسر الراء فهذه في العبوديه واللمك ويؤخذ ويكتب عند الفقهاء في قضية الرقيق وما أشبه ذلك. أما رق بمعنى شيء مكتوب وسواء قلنا إنه اللوح المحفوظ أوقلنا إنه القرآن الكريم كلاهما مكتوب كما هو معلوم أن الله أول ماخلق خلق القلم فقال له اكتب كما في الحديث الصحيح . والمقصود من هذا الأظهر أن المقسم به هنا هو كلام الله (وكتاب مسطور*في رق منشور) ثم قال جل وعلا(والبيت المعمور) وهذا القسم الثالث البيت المعمور: هو بيت في السماء السابعه على أظهر الأقوال.قال العلماء فيما نقل من آثار يعضد بعضها بعضا أن هذا البيت موازي على الكعبه لو سقط منه شيء سقط منه شيء على الكعبه والعلماء منهم من يقول إن البيت المعمور :ـ المقصود به هنا الكعبه نفسها لأنها تعمر بالطائفين والعباد والراكعين والساجدين وما يكون حولها لكن في هذا السياق نرجح أنه البيت المعمور في السماء السابعه.لأن البيت المعمور بهذا النص بهذه التسميه وردت في الحديث قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في قضية الإسراء والمعراج (فإذا أنا برجل قد أسند ظهره إلى البيت المعمور) يقصد خليل الله إبراهيم،فلما ورد في السنه أن البيت المعمور هو بيت في السماء السابعه وجاء في أثر آخر أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يسبحون الله لا يعودون إليه إلى يوم القيامه. قلنا إن الأرجح أن يكون المقصود بالبيت المعمور هنا هو البيت الذي في السماء السابعه وقلنا ثمت رأي يقول أن البيت المعمور المقصود به الكعبه وكلا القولين وجيه لكن الأول فيما نعلم والله أعلم هو أرجح وهو قول أكثر المفسرين رحمهم الله . والذي يعنيننا أن(8/4)
الرب تبارك وتعالى لا رب غيره ولا إله سواه يعبد في الأرض ويعبد في السماء. وهذا معنى قول الله جل وعلا(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض،وأنت إذا قرأت مثل هذه الآيات وعلمت أن الله يقسم بالبيت المعمور وأن هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك وأنه في السماء السابعه وأن الله جل وعلا يعبد تعلم يقينا أنه كم من عبد صالح غيرك يعبد الله لكن ليس لك ولا لغيرك إلا الله.فاالله جل وعلا غني عن كل خلقه بلا استثناء وكل خلقه بلا استثناء فقير إلى الله شاء أم أبى. فكل الخلق فقراء إلى ربهم تبارك وتعالى (ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)وهذا الذي يتركه أثر القرآن إذا تلوناه وقرءناه في نفوسنا.(والسقف المرفوع) السقف المرفوع:ـ أظهر الأقوال أن المقصود به السماء وهي مرفوعة عن الأرض وقد زينها الله جل وعلا بالنجوم وقد مر معنا في دروس سابقه أن الله جعل لها أبواب وجعل لها طرائق وجعل لها خزنه. قال عليه الصلاة والسلام(وطئت السماء وحق لها أن تئط والله مامن موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله) جعلنا الله وإياكم ممن يخاف رغبا ورهبا.فالمقصود أن السقف المرفوع هو السماء وقد قال الله جل وعلا في آية أخرى(وجعلنا السماء سقفا محفوظا) والآيه إذا أردت أن تفسرها ووجدت لها قرائن تعضدها في كتاب الله فهذا دلاله وقرينه على أنك أقرب إلى الصواب لكننا لانجزم بشيء في الغالب إلا ماثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أوأجمع عليه الصحابه أوأجمعت عليه الأمة جمعاء.(والبحر المسجور)ثم أقسم الله تبارك وتعالى بخلق عظيم من خلقه هو البحر, والبحر من أعظم مخلوقات الله تبارك وتعالى بلاشك إذا رأه الرائي يتذكر عظيم قدرة الجبار تبارك وتعالى وقد نعت الله البحر هنا بأنه مسجور وكلمة مسجور(8/5)
تحتمل معنيين .
المعنى الأول:ـ أن يكون المملوء وهذا ظاهر المسجور بمعنى المملوء أي مملوء ماء وهذا ظاهر لاارتياب فيه.
والمعنى الثاني:ـ أن يكون المسجور بمعنى الموقد الذي يشتعل نارا .فإذا اخترنا الرأي الثاني وقد اختاره كثير من العلماء يكون المعنى أنه مسجور متى؟ يوم القيامه لأنه الآن ليس بمسجور فيما نرى وقد قال الله جل وعلا(وإذا البحار سجرت) أي أوقدت وقول الله جل وعلا إذا البحار سجرت قرينه على أن المقصود بالبحرالمسجور/البحر الموقد. لكن قلنا لانجزم به. البحر الموقد،واللغة تحتمل المعنيين،والمقصود من هذا كله قسم من الرب تبارك وتعالى ببعض مخلوقاته جل وعلا ببيان أن البعث والجزاء حق وبيان على وجه الأخص أن ما وعد به الكفار من العذاب كائن لا محاله ولهذا كان كثير من العصاه يخوف بصدر سورة الطور . كان كثير من العصاه يخوف ويرقق قلبه ويدعى إلى الله بقراءة سورة الطور عليه لأن الله يقول (والطور*وكتاب مسطور*في رق منشور*والبيت المعمور*والسقف المرفوع* والبحر المسجور*إن عذاب ربك لواقع*ماله من دافع) فأي أحد يعصي الله جل وعلا لن يحول بينه وبين عذاب الله شيء إلا أن تتداركه رحمة الرب تبارك وتعالى .ولذلك جبير ابن مطعم هذا لم يكن مسلما كان قرشيا كافرا في أول الأمر فلما قدم إلى المدينه للنظر في أسارى بدر والتفاوض دخل المدينه فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور والنبي عليه الصلاة والسلام أندى الناس صوتا بقراءة القرآن فلما سمعه يقرأ القرآن فاجتمع صوت النبي مع مايتلوه فلما قال:(إن عذاب ربك لواقع) قال خفت أن ينصدع قلبي وءامنت خوفا من أن يقع علي العذاب والمؤمن يعلم أن وعد الله حق فمن عصى الله يبقى في خوف إذا كان الله نعت المؤمنين بأنهم خائفون من ربهم فما بالك بالعصاه أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله .(إن عذاب ربك لواقع* ماله من دافع) والعصاه يوم القيامه لا يمكن أن يدفع عنهم عذاب الله جل وعلا أحد كائنا من(8/6)
كان لا شفيع ولا قريب ولا مال ولا ذو سلطان مماهو مقرر شرعا لايكاد يجهله مؤمن.(إن عذاب ربك لواقع*ماله من دافع)متى يكون هذا؟قال الله بعدها والقرآن محكم ءاياته يمهد بعضها لبعض قال الله جل وعلا(يوم تمور السماء مورا*وتسير الجبال سيرا)تمور السماء:ـ تضطرب...تموج...تتحرك...والسماء تأخذ طبقات ثلاث في يوم القيامه .أول الأمر:ـ تضطرب،تتحرك،ثم بعد ذلك يموج بعضها في بعض ثم بعد ذلك تتبدل كما قال الله جل وعلا (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات) وكذلك الجبال فإنها أول الأمر تسير كما يسير السحاب قال الله جل وعلا (وترى الجبال تحسبها جامده وهي تمر مر السحاب)في الحاله الثانيه:ـ يتغير لونها أخبر الله جل وعلا أنها تصبح كالعهن المنفوش ثم بعد ذلك تصبح منبثه كما قال الله جل وعلا (فكانت هباء منبثا)تضمحل تنتهي تدك كما قال تبارك وتعالى (ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا*فيذرها قاعا صفصفا* لاترى فيها عوجا ولاأمتا) وهذا كله هذه الأحداث تقديم بين يدي يوم عظيم يوم لايوم من جنسه مثله أبدا يجيء فيه الجبارجل جلاله مجيئا يليق بجلاله وعظمته ويحشر الناس على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين ويخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا بهما غير ممولين لا يملكون من متاع الدنيا شيء يلجمهم العرق.. تدنوا منهم الشمس، ويزدحم بعضهم من بعض، ومنهم من خصه الله بأن يظله الله تحت ظل عرشه جعلني الله وإياكم من أهلها. ذلك كله أخبر الله جل وعلا عنه بالتمهيد الذي كان ينكره المشركون (يوم تمور السماء مورا*وتسير الجبال سيراً) ثم أخبر الله جل وعلا في ءايات متتابعة أن الويل لأهل التكذيب وأنهم يساقون إلى جهنم في ءايات ظاهرة البيان حتى قال الله جل وعلا في سلوب تهكم بهم "أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون"والحق أنه ليس بسحر وهم يبصرون فلما انتفى الاثنان بقي الثالث وهو أنهم مايرونه حق عندما يواجه الكفارالنار يوم القيامة يقال لهم(8/7)
"أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون"وكلا الأمرين منتف فلا النار سحر ولا هم لايبصرون بل يبصرون النار ولذلك بقي الأمر الثالث وأنهم يبصرون النار عياذاً بالله .فيصيبهم من الكرب مالله به عليم حفظنا الله وإياكم وأجارنا من حرها وشررها ثم يقال لهم:"اصلوها"أي ذوقوا حرها "فاصبروا أولاتصبروا سواء عليكم إنما تجزون ماكنتم تعملون"واستوى الصبر و الجزع هنا لأنه قد تقرر عقلا ونقلا وشرعاً أن الإنسان إذا ابتلي بشيء فهو إما أن يصبر وإما أن يجزع، فإذا جزع خسرالعاقبه وإذا صبر نال العاقبه نال عاقبة الخير هذا إذا كان مؤمناً وإن كنا كافراً فإنه إذا جزع خسر وإذا صبر فإن صبره يهون عليه الأمر حتى إن أعداءه لايستطعيون أن يشمتوابه إذا كان صابراً لأنهم يرون أن هذا الكرب لم يغير فيه ولأن لهذا الصبر إذا تحلى به الإنسان مؤمناً أوكافر يعينه على قهر ما أصابه من بلاء ولو نسبياً. أصبح الصبر ذا فضل على الجزع لكن يوم القيامه إذا دخل أولئك النار فالصبر والجزع بالنسبة لهم سواء فلاهم إن جزعوا يخرجون ولاهم إن صبروا يخرجون ولاهم إن جزعوا يخفف عنهم العذاب ولا إن صبروا يخفف عنهم العذاب ولذلك قال الله عنهم في آيه أخرى (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص) مايوجد مفر... مايوجد مخرج ...لايوجد لهم ملجأ، فالصبر والجزع يستويان في نار جهنم أعاذنا الله وإياكم منها ثم ذكر الله تبارك وتعالى بعدها مايكون لأهل الطاعه والنعيم حتى قال فيما قال ربنا جل وعلا قال ( والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتنا هم من عملهم من شىء كل امرئ بما كسب رهين ) للعلماء رحمهم الله في معنى هذه الآيه قولان.......(8/8)
القول الأول :ـ وهو الأظهر وعليه الجمهور أن يكون المعنى أن الله جل وعلا يكرم من علت درجاتهم من أهل الجنة بأن يلحق بهم من ذريتهم من قلت درجته عنهم فيرفع الله درجة الأدنى- وليس في الجنة دانٍ- إلى درجة الأعلى لتقرعينه دون أن يبخس من درجة الأعلى شيء فلو أن إنساناً دخل هو وأبنائه الجنة وكانت درجة الوالد أعلى من درجة الولد فإن الله يرفع الولد إلى مقام أبيه لتقرعين الوالد بولده دون أن يبخس شيء من حق الوالد. قال الله (وما ألتنهم من عملهم من شيء ) والعكس إذا كان الابن في الأعلى والأب في الأدنى هذا القول الأول وهو الأظهر. القول الثاني :ـ أن معنى الآيه أن من المؤمنين من كان لهم أبناء ماتوا قبل البلوغ فليس لهم أعمال إلا الإيمان فلتقربهم أعين والديهم يرفعون إلى درجة أبائهم وأمهاتهم وليس القولين بعضهم عن بعض ببعيد ويمكن أن تحتوي الأيه كلا المعنيين ..والذي نريد أن نصل إليه إن من أعظم السعاده أن تدخل أنت وأهلك الجنة أنت ومن تحبهم في الدنيا وإن الله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب وإنما هي الأعمال الرجل وزوجته وأبناءه وأمه وأبوه وإخوانه وإخوته وعماته وخالاته ومن حوله إذا كان بعضهم يحب بعضاً ويتمنوا أن يكونوا مجتمعين في الجنة كماهم مجتمعون في الدنيا فإن من أعظم ماينال به جميعاً تقوى الرب تبارك وتعالى فالذي يسعى في حيه أو في أسرته أوفي عائلته أو في مجتمعه الخاص يسعى لهدا يتهم إنما يسعى حقيقة لأن يجتمع بهم في الجنة ولقد قال الله (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) فكون الإنسان يجهد أولاً في نجاة نفسه ثم في نجاة من يحب هذا من أعظم القربات التي يتوصل بها إلى رحمة الرب تبارك وتعالى (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) بعض العلماء يقول تقف هنا وتأتي ءايه (كل امرىء بما كسب رهين ) قال بعضهم هذه "كل امرئ بما كسب رهين" ليست خاصة بأهل الإيمان وإنما المقصود(8/9)
بها أهل الكفر ومعنى الآيه عندهم أي عند من قال هذا من العلماء قالوا: إن الإنسان قد يقرأ هذه الأيه فيتوهم أن مايجري من أحكام على أهل الجنه يجري على النار فقول الرب تبارك وتعالى (كل امرئ بما كسب رهين ) يدفع هذا الوهم والمعنى أن أهل الجنه لايبخسون شيئاً لكن ينالهم فضل الله فقد يعطى رجل من أهل الجنه مالا يستحقه بعمله كأن يرفع الولد إلى منزلة والده أويرفع الوالد إلى منزلة ولده لكن في النار لايجري هذا الحكم فلايعذب أحد إلا بمقدار مايستحق وهذا معنى قول الله (كل امرئ بما كسب رهين ) أي مرتهن بعمله، وقالوا إن الرهن لايأتي للمؤمنين والدليل أن الله جل وعلا قال (كل نفس بما كسبت رهينه * إلا أصحاب اليمين *في جنات يتسآءلون) وأياً كان المعنى فإنه معناً قوي يقصد به أن هذه التغير أريد به دفع الوهم (كل امرئ بما كسب رهين ) ثم قال الرب تبارك وتعالى عن أهل جنته ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين*فمن الله علينا و وقنا عذاب السموم*إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) هذا يخبر الله فيه أن أهل الجنة يتذاكرون مجالسهم التي كانت في الدنيا وإنني أسأل الله بكمال جماله وعز جلاله أن يجعلنا وإياكم ممن يتذكر هذا المجلس في جنات النعيم فالله يقول (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) مؤمنون قد كساهم الله جل وعلا أعظم الحلل وأنزلهم الله جل وعلا أجل المنازل وأفاء الله تبارك وتعالى عليهم من رحمته ودفع الله جل وعلا عنهم كل نقمته يتسابقون بعضهم إلى بعض يتجاورون... يتخاطبون... فإذا جلسوا في مجلس لا لغو فيه ولا تأثيم يتذاكرون برحمة من الله وفضل مامنَّ الله به عليهم في الدنيا فنقل الله جل وعلا وهو أصدق القائلين نقل كلامهم الذي سيكون يوم القيامه جعلني الله وإيكم منهم فقال عنهم (وأقبل بعضهم ) وهذا إقبال فرح (على بعض يتساءلون) فمما تذاكروه في الدنيا ( قالوا إنا كنا ) في الماضي ( إنا كنا قبل في(8/10)
أهلنا مشفقين ) خائفين... وجلين... من عذاب الله تبارك وتعالى والله جل وعلا لايأمن مكره إلا القوم الخاسرون والله جل وعلا لايقنط من رحمته إلا الضالون فالمؤمن/ الخوف والرجاء بالنسبة له كجناح الطائر والله جل وعلا لو أوكلنا إلى أعمالنا لهلكنا ولكننا نسأل الله أن يكلنا إلى رحمته وفضله وعفوه فإن الدنيا لاتطيب إلا بذكره جل وعلا، الدنيا لاتطيب إلابذكره والأخرة لاتطيب إلابعفوه والجنه لاتطيب إلا برؤيته سبحانه وتعالى،فالله يقول عنهم أنهم يقولون: ( إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) هذا الخوف الذي يعتريك ويتعري قلبك ويعتري قلب أختك المؤمنه في الدنيا هو سبب الأ من يوم القيامه أما من مشى ،انكب على ظهره ومشى يبحث عن الشهوات، وينقلب في الشبهات ويؤذي هذا، ويحارب هذا ويكفر بالله ويخرج من بار إلى بار، ومن حان إلى حانه ،ومن شاطئ عراة، ومن قناة إلى قناة ،ومن فضائيات إلى فضائيات إلى غيرها... يتلبس بالزنا واللواط والفواحش وغيبة العلماء أو غيبة الحكام أو أذية المسلمين أو أخذ الرشوه أو السرقه أو الزنا أو ما شابه ذلك من المعاصي ولا يخشى أحدا ولا يخاف ولا يرهب ومطمئن أن أحدا لن يتسلط عليه هذا لايمكن أن يأمن عند الرب تبارك وتعالى. الربيع ابن خثيم رضي الله عنه وقام الليل كله يقوم الليل يتلوا آيه واحده (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) وثبت في حديث صحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة واحده ليلة يقرأ آيه واحده من كتاب الله (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ما زال نبينا صلى الله عليه وسلم يقرأها حتى قام الليل بها إلى أن طلع الفجر صلوات الله وسلامه عليه. فهذا الخوف الذي يملأ قلوبنا نفرح به لأن الخوف من الله جل وعلا أعظم وسائل نيل الأمن يوم القيامه قال سبحانه (ولمن خاف مقام ربه جنتان) وقال جل ذكره (وأما من(8/11)
خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) ثم ذكر الجنه ونعيمها ثم قال (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يخافه سرا وإعلانا وغيبا وشهاده (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون*قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين*فمن الله علينا...) رحمه منه وفضلا وإحسانا ليس لنا فيه نصيب (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) لماذا؟ (إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) فدلت الآيه على أن الدعاء من أرجى الأعمال عند الرب تبارك وتعالى وكانت أم المؤمنين عائشه رضي الله عنها وعن أبيها وعن أمها تتأول القرآن فتدعوا فتقول:" اللهم قنا برحمتك عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم. لأن الله قال عن أوليائه (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم*إن كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) لما فرغ الرب جل وعلا في هذه السورة الكريمه من ذكر إثبات التوحيد وذكر مآل البعث والنشور بدأ جل وعلا يدافع عن نبيه صلى الله عليه وسلم فالقضية هنا قضية إثبات الرساله فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) وهذا من أعظم دلائل تناقض الكفار فالمجنون هو الذي لا يفكر أبدا والكاهن صنعة تحتاج إلى نوع من الذكاء وإلى دقه وفطنه وهي كفر بالله لكن لا يجتمع إنسان مجنون وفي النفس الوقت يكون كاهن يستحيل هذا. ومن تناقض أهل الكفر أنهم نعتوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن ومجنون وهاذان ضدان لا يمكن أن يجتمعان في إنسان واحد تقول إنسان بليد في الدراسه وأتى بالأول على زملائه هذا لايعقل على هذا الله جل وعلا يقول لنبيه فذكر... استمر في الدعوة إلى ربك والتذكير بآيات ربك... ولا تلتفت إلى ما يقول هؤلاء الكفار عنك (فما أنت بنعمة ربك) أي بفضل الله عليك ونعمته وإحسانه عليك ما أنت بكاهن ولا أنت بمجنون (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون) وكيف يكون كاهنا أو مجنونا من يدعوا إلى الواحد الأحد جل جلاله هذا يستحيل عقلا(8/12)
ونقلا (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) كل كلمة "ريب" وردت في القرآن بمعنى الشك إلا في هذه الآيه فهي بمعنى حوادث الدهر كل كلمة "ريب" وردت في القرآن فهي بمعنى الشك (الم*ذلك الكتاب لا ريب...) أي لا شك فيه ولكنها هنا بمعنى حوادث الدهر ومنه قول أبو ذؤيب الهذلي.
أَمِنَ المَنُون ورَيبِها تَتَفجعُ
والدهر ليس بُمعتبِ من يجزعُ
وقول الأعشى:ـ
أأرت رجلاً أعشى أَضربه
ريب المنونَ ودهرٌ مفندٌ خَبِلُ
فريب هنا بمعنى: حوادث الدهر.جملة من القرشيين يقولون هذا شاعر والحل فيه أن نصبر عليه نتربص به حوادث الأيام إما أن يموت وإما أن يهلك وإما أن يصيبه تلف فيعجز كما عجز من قبله من الشعراء، هذا ظنهم والعياذ بالله. ثم أخذ الرب تبارك وتعالى يحاكم أهل الإشراك بإسلوب منطقي عقلي كما سيأتي وسنأخذه آية آيه لنبينه بجلاء (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون*قل تربصوا فإني معكم من المتربصين*أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون) بدأ الله الآن جل وعلا يسوق الإعتراضات ثم يذكرها وتفند واحدة واحدة.فيه فرق يأخي مابين العقل ومابين الذهن.لاتسألني أين العقل وأين الذهن أنا لست طبيب لكن يوجد شيء اسمه ذهن وشيء اسمه عقل،فالذهن الشيء الذي تفهم به،والعقل هو الشيء الذي تتصرف من خلاله.وسنأتي بمثال واضح.قد يأتي إنسان يقول له العامه ذهين،ذهين بمعنى ذكي فطين فيستطيع أن يجري عمليه سرقه دون أن يكتشفه أحد فهذا يدل على ذكائه أو على عقله؟على ذكائه.لكن لايدل على عقل لأنه لوكان عاقلا لم يعص الله ولم يرمي نفسه في المهالك . فيوجد من القرشيين منهم أذكياء لكن لايمكن أن يكون هناك كافر يوصف بأنهم عاقل يستحيل ،لأنه من أعظم دلائل عدم عقله أنه كافر بالله.ولوكان له عقل لآمن بالله . فقد يكون كافر ذكيا فطنا كمن يصنع قنبله ،يصنع طائره... لكن لا يوصف بأنه عاقل .لكن لايمكن أن يوصف شخص كفر بالله وأنكر وجود الله يوصف بأنه عاقل هذا يستحيل أبدا.لأن(8/13)
العقل يدل على الرب تبارك وتعالى .فالله يقول هنا (أم تأمرهم أحلامهم بهذا) أحلام هنا بمعنى عقول .ومنه قول حسان رضي الله عنه وأرضاه
لابأس بالقوم من طول ومن عظم
جسم البغال وأحلام العصافير
أحلام العصافير:ـ أي عقول العصافير.
فالله يقول إن كانت عقولهم تأمرهم بهذا فبئس العقل عقلهم إن كانوا يجعلون من يؤمن بالله واليوم الآخر ويدعوا إلى التوحيد شاعرا أو كاهنا أو مجنون (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون) قيل (أم)هنا بمعنى(بل) يعني(بل هم قوم طاغون) طغوا وتجاوزالحد فيما يقولونه . ثم قال جل وعلا (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون) (أم يقولون تقوله) معناها:ـ أمامهم خيار آخر أن يقولوا إن هذا الحديث الذي جئت به يامحمد صلى الله عليه وسلم أنت أتيت به من نفسك فيكون الرد عليهم إن كان هذا القول جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من عنده فأنتم أبناء عمومه كلكم عرب كلكم فصحاء بلغاء فإن كنتم تزعمون أن محمدا جاء به من عنده فأتوا أنتم بمثله من عندكم.ولذلك قال جل وعلا(أم يقولون تقوله بل لايؤمنون*فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) لوكان جهدا بشريا لأمكنكم أن تأتوا بمثله (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) بقي ذكر الله خيارا آخر قال الله عندما ينكرون عليك أنك تقول لهم أن الله لارب غيره ولاإله سواه فسألهم(أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فإنه ليس ثمت إلاافتراضات ثلاث .أولاً:ـ أن يكونوا خلقوا من غير شيء .ثانيا:ـ أو أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم.ثالثا:ـ أو أن يكون خلقهم خالق هو الله .فأنت اسألهم هل هم خلقوا أنفسهم؟ هم يعترفون القرشيون أنهم لم يخلقوا أنفسهم ويعترفون أنهم ليسوا وجدوا هكذا وجدوا أنفسهم في الأحياء والشوارع والطرقات والمدن.وإنما نشؤا عن خلق من بعد خلق من آباء وأمهات .إذا لم يبقى من حيث التقسيم إلا الثالث وهو أن الله جل وعلا خالقهم (أم خلقوا السماوات والأرض) معنى الآيه هل هم خلقوا السماوات والأرض؟(8/14)
فإذا كانوا هم خلقوا السماوات والأرض لهم الحق أن يمنعوا النبوة منك لأنهم أصبحوا شركاء لله لكنهم هم يعترفون أنهم لم يخلقوا لا أرضا ولا سماء.(أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) ذكر الله افتراضاً بعده قال (أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ) هل هم يملكون خزائن الله التي ينفق جل وعلا منها على عباده فيتسلط عليها فيمنعونك يامحمد ما أعطيناك من النبوة وهذا أيضاً ينكرونه هم يعلمون أنهم لايملكون خزائن الرب جل وعلا (أم هم المصيطرون) أي هل هم جبارون بحيث أنهم تسلطوا على رحمة الله فيصرفونها كيف يشاءون وهذا أيضاً غير واقع (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ) بقيت فرضية وهو أن يكونوا لديهم طريق لديهم سبب إلى السماء، فصعدوا إلى السماء فثبت لهم من الوحي الذي فوق أنك لست بنبي فلذلك ينكرون عليك الأمر(أم له البنت ولكم البنون ) أي أنهم هل الأمر كما يزعمون ؟ القرشيون نسبوا إلى الله البنات فرتكبوا بذلك محذورين....(8/15)
المحذور الأول:ـ أنهم نسبوا إلى الله الولد،والولد يطلق على الذكر والأنثى والله منزه عن الولد والمحذور الثاني:ـ أنهم مع إجرامهم وإفكهم نسبوا إلى الله الولد لم يردوا بأن ينسبوا إلى الله أفضل الولدين نسبوا إلى الله أدنى الصنفين فخصوا أنفسهم بالبنين وخصوا الله جل وعلا بالبنات فلهذا صار في الآية محذوران "أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون"أنت لاتطلب أجراًعلى دعوتك ولا على تبليغ رسالة الله حتى يصبح ذلك عائقاً لهم عن استجابة الدعوة إلى الله "أم عندهم الغيب"اطلعوا على اللوح المحفوظ فعلموا أنك لست بنبي وهذا أيضا محال "أم يريدون كيدا"هل يريد بذلك أن يكيدوا لك؟هذا إن فعلوه فإن الله يقول"ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله"ولذلك قال الله جل وعلا"أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون "وقد وقع هذا أنهم كادوا النبي فقتلوا يوم بدر."أم لهم إله غير الله"وهذه أجاب الله تبارك وتعالى عنها فنزه الله تبارك وتعالى ذاته العلية أن يكون له شريك أو أن يكون له ندا أوأن يكون له نظير أو أن يكون هناك إله يدبر الأمر ويصرفه غيره جل وعلا فقال تبارك وتعالى"أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون"والمؤمن لا يفزع قلبه لشيء إلا أعظم من فزعته من أحد يتخذ من دون الله تبارك وتعالى نداً ويدعى أو يرجى أو يهاب أو يخاف من غير الله أو شخص يتوسل إلى أحد يظن أن بيديه نفعا وضرا أو أن يكون في قلبك ناس ترجوهم تتمنى أن يكثروا سوادا أو جماهير أو محبين تجعلهم أحب إلى قلبك من حب ربك تبارك وتعالى إليك أو قوما تخاف بطشتهم أو همزهم أو لمزهم تخافهم أكثر من الله، المؤمن الحق ليس في قلبه أحد يهابه ويخافه ويرجوه ويأمن عليه ويعتمد عليه ويتوكل عليه ويؤمن به ويستعين به ويستغفره يرجوه لرحمته... يرجوه لرهبته... ويرجوه لرغبته غير ربه تبارك وتعالى، فالله لما ذكر هنا في رده على أهل الإشراك (أم لهم إله غير الله) لم يقل الله ليس لهم جاء بإجابة(8/16)
أعظم فقال الله تبارك وتعالى(سبحان الله عما يشركون) فنزه الله ذاته العليه أن يكون له شريك لارب غيره ولا إله سواه، ولهذا كان التوحيد من أعظم ماينجي العبد يوم القيامه فمن عظم توحيده عظمت نجاته يوم القيامه قال صلى الله عليه وسلم (إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامه على رؤوس الخلائق ينشرله تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له الرب أظلمك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول الله له أتنكر مما ترى شيئا فيقول لا يا رب فيقول الله جل وعلا إن لك عندنا بطاقه فيقول يارب فيها أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول يا رب وما تغني هذه البطاقه أمام هذه السجلات فتوضع البطاقه في كفه والسجلات في كفه قال صلى الله عليه وسلم فرجحت البطاقه وطاشت السجلات ولايثقل مع اسم الله جل وعلا شيء )وهذا عبد قال العلماء رغم معاصيه ملأ قلبه توحيدا لله وخوفا ورجاء ومحبتا منه جعلنا الله وإياكم ممن يملأ قلبه بتوحيد ربه تبارك وتعالى.بعد هذه القضايا التي أخبر عنها ربنا جل وعلا قال الله تعالى في ختام الآيه (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم) من كتبت عليه الضلاله لايمكن أن يهتدي والشخص والعياذ بالله إذا طبع على العناد لايقبل الحق وإن كان جليا لأن من الناس من يسأل وهو يريد إجابة معينة قبل أن يسألك فإذا أجبته أنت بخلاف مايريد لم يقبلها فالله جل وعلا يقول عن أمثال هؤلاء (وإيرواكسفا) قطعة من العذاب نازله عليهم ساقطه من السماء ماذا يقولوا؟يخرجونها يؤلونها ميمنة وميسره يقولوا سحاب مركوم هذا سحاب تراكم بعضه على بعض فنزل إلى الأرض لأنهم طبعوا على العناد. (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم )فقال الله لنبيه (فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ) وهذه الآيه منسوخة بآية السيف في براءة. (يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ) كيدهم في الدنيا قد يغني عنهم شيئا بسيطا بأنهم يمتعون إلى حين(8/17)
إلى أن يأتي العذاب . لكن يوم القيامه قال الله (يوم لايغني عنهم كيدهم شيئا ولاهم ينصرون ) ثم قال سبحانه (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك) هذه (دون) تحتمل أمرين.أولا:ـ زماني .ثانيا:ـ ونوعي. والآية تحتمل الأمرين لاتعارض بينهما زماني ونوعي . أما معنى زماني ونوعي .الله تكلم عن عذاب الآخره ثم قال (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) (دون ذلك) يعني قبل ذلك أي قبل يوم الآخره وأقل من ذلك أقل من عذاب؟ أقل من عذاب الآخره. متى يقع هذا؟ يقع زمنا قبل الموت وفي عذاب القبر ويقع نوعا أن تصيبهم الأوجاع والأسقام وتشريد المؤمنين لهم وعذاب القبر هذا كله يقع زمنا قبل القيامه وهو في نفس الوقت أقل من عذاب يوم القيامه (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لايعلمون ) فلما أنهى الله جل وعلا دمغ حجج أهل الكفر. بشر نبيه وأمره بالاستعانة بأمرين قال له (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم*ومن اليل فسبحه وإدبار النجوم ) فأمر الله نبيه بأمرين حتى يعان على الدعوه ....
الأول منهما:ـ الصبر.
والثاني:ـ التسبيح بحمد الله . فأما الصبر فإنه قلما أولا يمكن أن يدعوا أحد إلى الله حتى يؤذى فأمره الله جل وعلا باالصبر على مايناله من أذى المشركين وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صابراً ولذلك عد من أول أولى العزم من الرسل الذين كانت لهم مواقف صبر غلبت على غيرهم من الأنبياء عليهم السلام جميعاً وهو عليه الصلاة والسلام أوذي فقال رحم الله أخي موسى أوذي أكثر من هذا فصبر وأراد الله أن يبين لنبيه قربه منه ونصرته إياه فقال (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا )ومعنى الأيه أي على منظر ومرأى من الله فإن الله يراك ويسمعك ويؤيدك وينصرك ويحفظك ويحرسك ويعينك ويوفقك. (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) ذكر الله ثلاثة مواضع ....
الموضع الأول:ـ إدبار النجوم ..(8/18)
الموضع الثاني:ـ ومن الليل أي بعض الليل ..
الموضع الثالث:ـ وحين تقوم ..
أما حين تقوم فاختلف العلماء فيها . فذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى عند ما تقوم من مجلسك .وبعضهم قال عند ما تقوم من النوم والذين قالوا عندما تقوم من النوم يؤيده ما روى البخارى في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال (من تعار من الليل ـ أي أوقظ إما بصوت أو بغيره قام من الليل يسميه الناس الأن أصابه قلق ـ من تعار من الليل فقال لاإله إلاالله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على شيء قدير الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولاحول ولاقوة إلا با لله ثم قال اللهم اغفرلي أودعى أستجيب له فإذا توضأ وصلى قلبت صلاته ) والحديث كما قلت في البخاري هذا معنى حين تقوم وقلنا ومن الليل وإدبار النجوم اختلف العلماء فيها وأظهر الأقوال أن القصود بها ركعتي الصبح القبليه التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما ( ركعتا الفجرـ أي سنة الفجرـ خير من الدنيا وما فيها ) هذا أيها المؤمنون ماتهيأ إيراده وقوله حول سورة الطور نفعنا الله وإياكم بما قلناه وجعلنا الله وإياكم ممن يستمعوا القول فيتبعوا أحسنه..
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(8/19)
بسم اله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ عبدٌ مُجتبى وحبيبٌ مُصطفى ورسولٌ مُرتضى صلى الله علية وعلى آله و أصحابة ومن على نهجهم اقتفى ..
أما بعد
هذا اللقاء قد يكونُ مُختلفً بعض الشيء عن سابقيه وذالك أننا شرعنا في هذه الدروس المُباركة نبدأُ بترتيب السور حسب نزولها مُجتهدين في ذالك ما حرّرهُ أهل العلم من قبل في أوائل ما أُنزل .
فبدأنا بالعلق والمُدثر و أضرابها من سور القرآن بحسبِ نُزولها ثُم عرّجنا على سورة النور وهي سورةٌ مدنية لأننا وجدنا أن من المُناسب أن نُعرّج على سورٍ مدنيةً حتى نُعرّج على بعض آيات الأحكام .
وقد منّ الله علينا في هذه القناة المُباركة وفي هذا الدرس المُبارك بأن حرّرنا الكثير من السور منها { الكهف * وطه * والنور ومن قبل ذالك كُلهِ العلق * والمُدثر * والمسد * والشمس وضُحاها * وغيرُها } والآن نعودُ للأصل فنبدأ
بفاتحة الكتاب
ونستمرُ إن شاء الله حتى ننتهي بحول الله وقوتهِ راجين من الله القبول والسداد عند سورة الناس ، فالسور التي سبق الحديثُ عنها لن نقف عندها قطعا ونستمرُ من الآن بالفاتحة ثم البقرة ، آل عمران ، النساء وهكذا حتى نختم المُصحف بحول الله جل وعلا وفضلهِ وقوتهِ ..
ونسألُ الله الذي أحسن بنا البدء أن يُحسن لنا المُختتم وأن يغفر لنا ما بين ذالك فذا تأصيلُ مُهم أو تذكيرٌ مُهم في هذا اللقاء المُبارك فعلى هذا يتحرّر أن لقاء اليوم يتكلم عن [[ سورة الفاتحة ]] وثمّة أمور دلّ عليها النقل والعقل .
فأما العقلُ فإن سورةً أمر الله جل وعلا عبادهُ تعبدهُم بأن يتلوها في كُل صلاة فرضاً ونفلا حتى صلاة الجنازة على قلّةِ أركانها جعل الله جل وعلا قراءة الفاتحة مُقررةً فيها يدلُ على عظيم شأن هذهِ السورة .(9/1)
وبدأنا بالأمور العقلية ثُمّ ننتقل للأمور النقلية ..
"النبي علية الصلاة والسلام ثبت أن ملكاً جاءهُ من السماء وقال لهُ أبشر بنورين أُتيتهُما لم يؤتهُما نبيٌ قبلك فاتحةُ الكتاب وخواتيمُ سورة البقرة" .
"وأخذ صلى الله علية وسلم بيد أُبيّ ابن كعب وقال ألا أُعلمك أعظم سورةً في القرآن (الحمدُ لله رب العلمين ) هي السبع المثاني وهي القرآن الذي أُتيتُهُ" .
فهذان الحديثان يُغنيان عن ذكر غيرهما لكُل من يعقل في بيان عظيمِ وفضلِ هذهِ السورة المُباركة ..
افتتح الله جل وعلى بها كتابهُ خطا ولا نقولُ افتتح بها كتابهُ تنزيلا لأن التنزيل بدأ بالعلق لكن افتتح بها الكتاب خطا ووضعُ سور القرآن الأصلُ أنهُ توقيفي عن الصحابة عن رسول الله صلى الله علية وسلم وهذا بإرشاد الله لنبيهِ فالله جل وعلا جعل الفاتحة فاتحة الكتاب وفاتحةُ الكتاب اسمٌ نبويٌ لها
قال علية الصلاةُ والسلام " لا صلاة لمن لم يقرءا بفاتحة الكتاب وهي أُم القرآن وهي السبعُ المثاني ولها أسماء توقيفية وأسماء اجتهادية لكن قيل :
في طلعة البدر ما يُغنيك عن زُحل
فما ورد في أسمائها التوقيفية يُغني عن الأسماء الاجتهادية لأن الأسماء التوقيفية لها تتلألأُ تلألأُ القمر { كفاتحة الكتاب ، وأُم القرآن ، والسبعُ المثاني ، والحمدُ لله رب العالمين }
هذا إجمال عن هذهِ السورة المُباركة قبل الشروعِ فيها ولا يكادُ ولله الحمد يجهلُها مُسلم لأن الله تعبدنا بتلاوتها مراراً في اليوم الواحد ..
نبدأُ أولاً بمعانيها العظام قبل الشروع في المُفردات :(9/2)
فأول معانيها العظام أن الله جل وعلا فيها علّم عباده كيفيةً مُناجاتهِ ولا توجدُ لحظات ولا أوقات هي أجلُّ ولا أعظم من مُناجاة الله تبارك وتعالى . فالربُ جل وعلا هُنا يُعلمُ عبادهُ الطريقة المُثلى والسبيل الأقوم في مُناجاتهِ ، فاهدنا الصراط المُستقيم هذا هو الطلب لكّن ذالك كان مسبوقاً بتمجيد الرب ولهذا عرفتُ الرعبُ ذالك فجعلت الخُطب ذات الشأن إن لم تكُن مبدوءة بالحمد لله والثناء على ربها جعلت ذالك أبترا كما قالت في خُطبة زياد ابن أبيهِ لما بدأها بغير حمد الله أنها خُطبةٌ بتراء .
والمعنى أن الله أراد بهذهِ السورة الكريمة التي افتتح بها كتابهُ أن يُعلّم عبادهُ كيف يُناجون ، ومُناجاة الله جل وعلا مطلبٌ عظيمٌ جليل يُتوصلُ بهِ إلى جليل الغايات وعظيم الأماني وأعذب الآمال...
فنقول ذكر الله فيها الحمد على ذاتهُ العلية وإخبار ما لهُ جل وعلا من صفات الكمال ونعوت الجلال ثُمّ ذكر قضية التوحيد ثُم جعل بعد ذالك الطلب وهو قولهُ ( اهدنا الصراط المُستقيم ) .
والعربُ تعرفُ هذا من قبل والله جل وعلا أثبتهُ في مُخاطبة ذاتهُ العلية قال أُبية ابن الصمت يمدحُ عبد الله ابن جدعان :
أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني *** حياؤك إن شيمتك الحياءُ
إذا المرءُ أثنى عليك يوماً *** كفاهُ من تعرضهِ الثناء
يعني يُغنيهِ من سؤالك أن يُثني عليك فإذا قال هذا مخلوقٌ في حق مخلوق فكيف بما قالهُ العلي الكبير في حقِ ذاتهِ العلية جل جلاله.
فلا أحد أعلمُ بالله من الله ولا أحد يستحق الحمدُ المُطلق إلا الربُ تبارك وتعالى هذا المعنى الأول وهو المقصود الأسمى .
الأمر الثاني في المعاني الجليلة للآية :
بيان قضية التوحيد وهي المُجملة في قولهِ تعالى ( إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعين )
{فلا إله إلا الله } كلمة التوحيد قائمةٌ على نفيٍ وإثبات فقولُ لا إله خلعٌ لكُل المعبودات غير الله هذا النفي .(9/3)
والإثباتُ فيها {إلا الله } وإيّاك نعبُد تقديم الضمير إيّاك هذا حصر أحدُ أساليب الحصر فتقديمُ أسلوب الحصر هنا نفيٌ لكُل معبودٍ غير الله ، والطريقةُ لنفي المعبوداتِ هُنا جاءت بتقديم المعمول وهو إيّاك . وأما الإثبات فهو في قولهِ تبارك وتعالى ( نعبُد ) .
هذان نقيضان جليلان في التمهيد لسورة
نأتي لسورة .....
جرت سنن العُلماء أنهم يبدءون بشرح الاستعاذة وسأحاولُ أن أبتعد كثيراً عن طرائقِ المُفسرين في تفسير هذهِ السورة عندما يُعرّجون على إعراب البسملة والاستعاذة وغير ذالك وإنما نحاول أن نُقدم شيئاً يتعلقُ بهِ العلم الذي ينجمُ عنهُ العمل ..
الإنسانُ ضعيف شاء ذالك أم أبى قال ربُنا ( وخُلق الإنسانُ ضعيفا) والضعيف يحتاجُ إلى من ينصُرهُ خاصةً إذا كان لهُ عدو فالاستعاذة المعنى الحرفي لها : أستجيرُ بالله وألوذ من الشيطان الرجيم في أمر ديني ودناياي هذا المعنى الحرفي .
ينجمُ عن الاستعاذة ثلاثةٌ مقاصد :
الأول منها :.
اعترافُ العبد بضعفهِ لأنهُ لا يلجأ ولا يستجير إلا الضعيف اعترافُ العبد بضعفهِ و اعترافُ العبد بضعفهِ مقصودٌ شرعي .
الأمر الثاني في قضية الاستعاذة :.
فيها اعترافٌ من العبد بعظمةً ربهِ وجلالهِ وأنهُ لا يُجيرُ إلا هو وهذا من أعظم مقاصد الشرع .
والأمرُ الثالث :.
اعترافُ العبدِ بأن الشيطان عدوٌ له وهذا أمرٌ قصدهُ الله في كتابهِ ( إنّ الشيطان لكُم عدو فاتخذوهُ عدواً ) .
فهذهِ الثلاث تتحرر من قناعة المرء و تلفُظهِ بالاستعاذة .
أما قول ربنا جل وعلا ( من الشيطان الرجيم )(9/4)
فالشيطان هُنا إبليس وأعوانه من الجن والإنس لكن من أين مأخوذة مادة شيطان ــ المادة أقصد اللفظية الحرفية لا أقصد المادة الخلقية ، المادة الخلقية مخلوقون من نار ــ الصوابُ أن نقول إنها مأخوذةٌ من الفعل شطن بمعنى بعُد فتنبه يا أُخي إذا كان هُناك بئراً بعيدٌ قعرهُ وتُرمى فيه الدلاء بالحبال أين يكونُ طرفا الحبل ؟ أحدُهما في الأعلى والآخر في الأسفل وإذا قُلنا أنهُ بعيدٌ قعرُه وهُناك بُعدٌ تام بين طرفي الحبل عنترةٌ يقول :
أشطانُ بئرٍ في لبان الأدهمِ
أشطان البئر حبالهُ [ واضح ] مُتباعد الطرفين هذا التباعُد هو اللفظ المُشتق منهُ اسم الشيطان ، فكما يتباعدُ طرفا الحبل إذا طال فالبُعدُ بين الخير وبين الشيطان كالبعدُ بين طرفي الحبل إذا طال فهو بَعُد عن الخير بكُل وجه ولهذا شطن فسُميَ شيطان .
أما الرجيم فإننا نقولُ إن الله ذكر إبليس في كتابهِ بأوصافٍ مشئومة وأسماء مذمومة لكن لفظ الرجيم هو أجمعُ تلك القبائح فيهِ لكن لفظ الرجيم هو أجمع تلك القبائح في الشيطان يعني الوصف أو الاسم الذي تجتمعُ فيهِ القبائحُ كُلها في الشيطان فهو هنا رجيم فعيلٌ بمعنى مفعول أي رجيمٌ بمعنى مرجوم أي مطرودٌ بعيدٌ كُل البُعد عن الخيرِ وعن رحمة الله ( أُخرج منها فإنك رجيم وإنّ عليك لعنتي إلى يوم الدين ) نعوذُ بالله من ذالك .
هذا المعنى العام لأعوذُ بالله من الشيطان الرجيم .
ومن الناحية الفقهية فإن جمهور العُلماء على أن قراءتها مُستحبة وليست بمُتحتمه ، وقال بعضهم بالوجوب هذهِ الاستعاذة .
أما البسملة فهي قول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وجرت عادة العُلماء أنهم يذكرون هُنا خلافهم في هل هي آية من القرآن أو لا ؟
أما هنا في سورة الفاتحة فالذي يتحرّرُ عندي أن بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ من الفاتحة وهي الآيةُ الأولى وبهذا يتحقق القول بأنها السبع المثاني .(9/5)
واتفقوا على أن بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ من سورة النمل ( إنهُ من سُليمان وإنهُ بسم الله الرحمن الرحيم ) .
واختلفوا ـ أي أهل العلم ـ فيما عدا ذالك هل بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ في المصحف أو قُصد بها الفصل والتبرك وليس هذا موطن التفصيل لأن هذا يُخرجنا عن المقصود الأسمى من تفسير سورة الفاتحة .
ثُم قال ربُنا :
( الحمدُ لله رب العالمين )
إذاً على وجه الحقيقة ( الحمدُ لله رب العالمين ) هي أولُ ما افتتح الله بهِ كلامهُ لأن الاستعاذة والبسملة الاستعاذة اتُفق على أنها ليست من المُصحف الخلاف في بسم الله الرحمن الرحيم على أن الحمدُ لله رب العالمين يعني بسم الله الرحمن الرحيم كالتغطية لها فالحمدُ لله رب العالمين هي أولُ آيةٍ في القرآن مُتفقٌ عليها خطاً وقد قُلنا مراراً إن العاقل يشتق من القرآن ما ينفعهُ في خطابه فيتحرر من هذا أن يُقال الحمدُ للهِ الذي جعل حمدهُ أول آية في كتاب رحمتهِ وجعل حمدهُ آخر دُعاءٍ لأهل جنتهِ ( وآخر دعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين) الحمد المقصود بهِ هنا الثناءُ على الله جل وعلا واللام في ( لله ) لام الاستحقاق واللام تأتي للاستحقاق وللمُلك وللخلاص والمقصودُ بها هُنا الاستحقاق .
( الحمدُ لله رب العالمين )
العالمين جمعُ ماذا ؟
جمع عالم لكن إلى الآن أنا لم أقُل شيئاً مُفيداً العالمين جمعُ عالم هذهِ سهلة لكن الذي قصدتهُ ماذا ؟
العرب تجمع على قسمين جمعُ قلّة وجمعُ كثرة يقولون في نجم نجوم إذا أردت الكثرة ، وأنجُم إذا أردت القلّة يقولون في شهر أشهُر إذا أرت القلّة وشهور إذا أردت الكثرة .
عالمين جمعُ قلّة وجمعُ الكثرة عوالم ومعلومٌ أن العالم بمجموعة المُتفرق عوالم كُثر جداً فلماذا ذكر الله هنا جمع القلّة ولم يذكُر جمع الكثرة ؟(9/6)
حتى يُفهم أن العوالم وإن كثُرت قليلةُ في حق ِ مجدهِ وعظمتهِ جل وعلا أن العوالم وإن كثرُت جمعها هنا جمعُ قلّة حتى يُبين أنها مهما كثُرت قليلةٌ في جانب عظمتهِ ومجدهِ تبارك وتعالى .
( الحمدُ لله رب العالمين * الرحمن الرحيم )
هذهِ الآية الثالثة قال الشنقيطيُ رحمهُ الله في أضواء البيان ( الرحمن الرحيم ) وصفان لله تعالى واسمان من أسمائهِ الحُسنى مُشتقانِ من الرحمة على هيئة المُبالغة والمقصودُ بالرحمن ذو الرحمة للخلق جميعاً في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة .
والمقصودُ بالرحيم ذو الرحمة لعبادهِ المؤمنين يوم القيامة ، كذالك ممكن يُضاف على هذا الذي ذكرهُ الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى عليهِ أن يُقال إن الرحمن لم يوصف إلا الله جل وعلا بهِ بخلاف الرحيم ويجب أن تعلم أن للهِ أسماء لا يجوز أن يُشاركهُ فيها أحدٌ سواهُ بحال ، وأسماء يجوزُ أن يُشاركهُ فيها إذا وردت غير مُعرّفةً أو مُقيدة.
مثل لفظ الجلاله الله لا يُقال لغير اللهِ الله ، ولا يُقالُ لغير اللهِ أنهُ خالق ، ولا يُقالُ لغير اللهِ أنهُ رازق ، ولا يُقالُ لغير اللهِ أنهُ رحمان
لكن ...
يُقالُ لغير اللهِ أنهُ رحيم قال الله جل وعلا في حق نبيهِ ( بالمؤمنين رءوفً رحيم )، ويُقالُ لغير الله أنهُ صبور، ويُقالُ لغير الله إنهُ مؤمن ،ويُقالُ لغير اللهِ أنهُ ملك وأمثالُها [ واضح ]
هذا مُهمّ في التفريق
( الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين )
أي يوم الجزاء وقد نبّه على يوم الدين في قولهِ في الانفطار ( وما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمرُ يومئذٍ للهِ )
هذهِ الثلاث هي قوامُ الإيمان كُلهِ لأن الحمدُ للهِ رب العالمين تستوجب أن هُناك مُنعم يستحقُ المحبة والرحمن الرحيم تستلزم أن هناك رحيم أهلٌ لأن يُرجى ومالك يوم الدين تُبين أن هناك عظيم يستحقُ أن يُخاف والدينُ كُلهُ قائمٌ على هذهِ الثلاث .
فالرجاء والخوف جناحان والمحبةُ رأسُ الطائر(9/7)
فمن جاء بهذهِ الثلاثة أحب الله ورجاهُ وخافهُ فقد آمن ومن نبذ واحدةً منها نبذً كُلياً فقد كفر فمن خاف الله ورجاه ولم يُحبهُ كافر ، ومن أحب الله ورجاه ولم يخفهُ كافر ، ومن أحب الله وخافهُ ولم يرجوهُ فهو كافر .
( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين )
مضى القولُ فيها وقد نقل ابنُ القيم رحمهُ الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله أنهُ قال : إيّاك نعبُد تطرُد الرياء ، وإيّاك نستعين تطرُد الكبرياء .
الإنسان خُلق لعبادة اللهِ فمتى انصرف إلى عبادةٍ غيرهِ يا بُني فلم يعرف ما الغاية من خلقهِ ، ومتى ظنّ أنهُ سيعبُد الله بغيرِ حولٍ من الله فلم يعرف كُنه نفسهِ أصلاً فإذا علم أنهُ لا سبيل إلى الوصولِ إلى غير اللهِ ولا إلى الله إلا باللهِ فقد علم المعنى الحقيقي من ( إياك نعبُد وإياك نستعين ) فالمرءُ أياً كان ضعيفٌ كُل الضعف عاجزٌ كُل العجز وهذا من المعاني السامية لقولهِ
{ لا حول ولا قوة إلا بالله }
فالمؤمن الحق من خلع جميع المعبودات غير الله واستعان بالرب تبارك وتعالى على عبادتهِ وقد قال العُلماء لماذا قدّم الله العبادة على الاستعانة مع أن العقل يقول إن الإنسان يستعينُ ثُمّ يعبُد ؟
والصوابُ أن الله قدّم العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة نوعٌ من العبادة فقدّم جل وعلا الأعمّ على الأخص فلا تعارُض في التقديم هنا ( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين ) .
بعد أن بين الله جل وعلا أن هؤلاء المُتقين مجّدُ ربهُم وأثنوا عليهِ بما هو أهلهُ وعرفوا الطرائق المُثلى لاستدرار نعمتهِ ودفع نقمتهِ واستعانوا بهِ ووحّدوه وحققوا المطلوب هنا طلبوا الهداية
( اهدنا )
ما الهداية ؟
الهداية في كلمتين طلبُ الدلالة بتلطُف أو الدلالة بتلطُف هي الهداية هي ماذا ؟ هي الهداية .
فمن دلّك على شيءً بتلطُف فقد هداك أما من دلّك على شيءً بغير تلطُف فهذا لم يهدك هذا أمرك هذا ماذا ؟ هذا أمرك .(9/8)
سجّان يقول لسجينهِ اذهب من هُنا هذا دلّهُ على الطريق ،لكنّهُ لم يدلهُ بتلطُف فلا يُسمى هذا بهداية لكّن الله جل وعلا هدانا بتلطُف أن بعث لنا الرُسل وأنزل علينا الكُتب وبيّن لنا معالم السُبُل وحذّرنا من طرائق الضلالة فسُمي هذا كُلهُ هداية .
( اهدنا الصراط المُستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم )
التعريف بالصراط هنا ورد بطريقتين نحويتين : التعريف بال والتعريف بالإضافة .
( اهدنا الصراط المُستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ) من الذين أنعم الله عليهم ؟ ذكرهُم الله في النساء ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشُهداء والصالحين ) إذاً هذهِ الآية دلالة على صدق خلافةِ من؟ أبي بكر دلالة على صدق خلافة أبي بكر.
الآن الأُمة مُجمعة على أن أبا بكر صديق وأن الذي سمّاهُ الصديق النبي صلى الله علية وسلم [ واضح ] ومُجمعة بنصّ القرآن على أن الصديقية مرتبةٌ بعد النبوة وأنها مُجمعة على أن أعظم ما سألهُ العبادُ ربهم هو صراط الذين أنعم الله عليهم ، والذين أنعم الله عليهم قال الله عنهم ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيين ) والنبوة انقطعت بموت مُحمد صلى الله علية وسلم ووفاتهِ فلما توفي علية الصلاةُ والسلام لم يبقى لنا في النبوة شيء لأنهُ خاتمُ الأنبياء فجبراً بهداية القرآن ننتقلُ من النبيين إلى الصديقين وبدلالة السُنة والقرآن إشارة ( والذي جاء بالصدق وصدّق بهِ ) لكنها غير صريحة في أبي بكر لكن تسمية الصديق صريحة بدلالة القرآن أن الصديق هو الصديق الأول تسمية النبي صلى الله علية وسلم له فتنصرف الصديقية لهُ دون غيرهِ وإن كانت موجودة في غيرة لكنها تنصرفُ إليهِ في أول الأمر لأنهُ مُعين فكانت خلافةُ أبي بكر مما تُرشدُ إليهِ هذهِ الآية .(9/9)
والمعنى بالقلب يعني من اتبع خلافة أبي بكر وأقرّ بولايتهِ فقد هُدي إلى الصراط المُستقيم لأن الله لمّا عرّف الصراط المُستقيم قال ( صراط الذين أنعمت عليهم ) أي طريق الذين أنعمت عليهم [ واضح ]
والصديقُ بويع لهُ في سقيفةً بني ساعده و بنو ساعده رهطٌ من الأنصار والسقيفة موضعُها اليوم في الشمال الغربي وإلى الغربِ أقرب من مسجد رسول الله صلى الله علية وسلم
لمن زار منكم المدينة هي الآن مجموعةُ نخل ما بين مكتبة الملك عبد العزيز وبين البناية التي تُعرف بوقف الملك عبد الله لوالديهِ بينهما إلى جهة الغرب هذهِ مكان محجوز فيهِ نخل الآن زرع يُسمى قديماً سقيفةً بني ساعده هذهِ السقيفة شهدت أول بيعةً شرعيةً في الإسلام بعد نبيها صلى الله علية وسلم فتوارُث البيعة سُنةٌ شرعيةٌ دأب عليها المُهاجرون والأنصار من قبل رضوان الله تعالى عليهم .
نعود للآية
( اهدنا الصراط المُستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضالين )
(غير المغضوب عليهم ولا الضالين) افهمها عموماً الكُفرُ فرقتان : إما فرق غلب عليها الاستهانة بالدين ونبذهُ عن عمد .
وإما فرق غلب عليها الهوى والجهل والضلالة وعدمُ الإصغاء لتعاليم الله .(9/10)
فلا يُمكنُ أن يخرُج فرقةٌ من فرق الكُفر قديماً أو حديثاً عن هذين الطريقين إما رجُل مُعرض مُستهين يُبدل من عندهِ عمداً وإما شخصٌ ضال يركبُ هواه ولا يلتفتُ جهلاً لما يُقال له وأخصُ تلك الفرق الأولى اليهود وأخصُ ما في اليهود يجتمعُ في اليهود الغضب والضلالة غضبُ الله عليهم وضلالتهُ ويجتمعُ في النصارى غضبُ الله عليهم وضلالتهم لكن الغضب في اليهود أخص والضلالةُ في النصارى أخص وكلاهما على باطل لكن الله أراد هُنا ليس اليهود ولا النصارى تحديداً أو حصرا وإنما قصد أن يُبين لنا فرق الكُفر أن أصلها ينقسمُ إلى قسمين ثُم بين لنا في نواحيٍ عدة في آياتٍ عدة أن أعظم من غضب عليهم اليهود وأعظم من ضلوا النصارى ( وضلوا عن سواء السبيل ) [ واضح]
النصارى بإصرارها على أن عيسى ابنُ الله واليهود بقتلهُم الأنبياء ( فريقاً كذبتُم وفريقاً تقتلون ) يفعلون ذالك عمداً جهاراً هذان جنسا فرق الكُفر .
فغير المغضوب عليهم ولا الضالين يحميك حماية تامة عن أي فرقةٍ من فرق الكُفر لأنها تنحصرُ في هاتين الفرقتين .
( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضالين )
والآيةُ من حيث الإجمال تُبين أن هؤلاء العباد مُتقين استعطفوا ربهم أثنوا عليه بالغوا في تمجيدهِ فذكروا عبادتهم لهُ وضعفهم وعجزهم واستعانتهم بهِ ثُمّ طلبوه أن يهدهم بلطفهِ وارشادهم إلى ما ينفعهم وأعظم المطالب الهداية ولها أنواع حرّرها العُلماء لكننا من الصعب أن نُفصل هُنا لماذا ! لأن التفصيل هنا يُخرجنا عن المقصود الأسمى من الآية والدُعاء بالكُليات والنظر إلى الشموليات من أعظم ما كان النبي صلى الله علية وسلم مُتلبسً بهِ ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) وإنما التفصيل في الأحكام .(9/11)
أما في نوعية الإعانة في تحقيق المطلوب و دفع المرهوب الأفضل أن يكون الأمرُ أمرً عاماً لأننا نعجز عن حصر الجُزئيات بعضهُم يقول هداية إلهام ، هداية كذا ، هداية كذا هذا حسن لكن الأفضل أن نقتصر على تعبير القرآن ( اهدنا الصراط المُستقيم ) فكل خيرٍ عطاهُ الله لأهل من أنعم عليهم .
هذا فيه دلالة كذالك على أن الإنسان مطلوبٌ منه أن يتأسى بالصالحين لأن أنعمت جاء في صيغة الماضي ويدخُل فيها الأنبياء والرُسل في المقام الأول والأنبياء والرُسل كانوا قبلنا وما ذكر الله نعمهُ على بعض خلقهِ إلا لنتأسى بهم ونعلم أن الذي أعطاهم قادرٌ على أن يُعطينا .
وما ذكر الله انتقامهُ من بعض خلقهِ إلا لأن نحذر أن نصنع صنيعهم حتى نعلم أن الذي أنتقم منهم قادرٌ على أن ينتقم منّا هذا الأصل في فهم الدين .
(صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضالين )
وجاءت السُنة أن تُقال آمين بعدها خاصةً في الصلاة وآمين اسم فعل بمعنى استجب ، تقبل ، حقق كُلها تدور في فلك واحد
وقولُ آمين بعد قراءة الإمام للفاتحة مما تضافر النقلُ عليه وهو من أعظم شعارات أهل الإسلام على وجه الحقيقة ومعناها قُلنا استجب ، والعربُ تنقلُ عن مجنون ليلى أنه قال :
فياربِ لا تسلبني حُبها أبدا ** ويرحم الله عبدً قال آمينا
قال بعضهم :
آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ** حتى أُبلغها ألفينِ آمينا
الذي يعنينا من هذا أن ذكر آمين جاءت فيهِ آثارٌ صحاح تتضافر على أن قولها سُنة بعد قراءة الإمام .(9/12)
هذا يُعرّجنا على مسألةٍ فقهية وهي قراءةُ سورة الفاتحة أثناء الصلاة والعُلماء في هذا رحمة الله تعالى عليهم اختلفوا اختلافاً كثيراً فمنهم من اتفقوا على أنه يقرأها الإنسان إذا كان مُنفرداً أو كان إماماً لكنهم اختلفوا في إذا كان الإنسان مأموماً هل الذي كان فيهِ النزاع فذهب بعضهُم إلى أنهُ لا يقرأ وحُجتهم أن قراءة الإمام قراءةٌ لمأمومةِ وهذا القول يُنسبُ إلى أبي حنيفة رحمه الله تعالى أولُ المذاهب الإسلامية ظهورا .
وبعضهم قال إنها تُقرأ للمأموم والإمام سواءً بسواء سواءً كانت الصلاةُ سريةً أو جهرية وأنها لا تسقُط بحال وحُجتهم " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
وذهب مالكٌ رحمه الله أنها تُقرأ في الصلاة السرية في الركعتين الأُخريين من الصلاة الجهرية أما إذا قرأ الإمام في الصلاة الجهرية الأوليين كالعشاء والفجر والمغرب فإن المأموم لا يقرأُها وأختار هذا القولُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله .
كان الشيخ بن باز رحمه الله يرى أنها تُقرأ على الدوام سواءً في السرية أو في الجهرية سواءً كان المرءُ إماماً وهذا لا خلاف فيهِ أو كان مأموماً وهو الذي تنازع الناسُ فيهِ هذا الذي يُمكن عرضهُ في المسألة والقولُ بقرأتها يُخرجُ المرء من كُل نزاع وتعبُد الله جل وعلا بها كما قدمنا في الأول عبادهُ أن يقرأُها يدلُ على عظيم شأنها وعلّو منزلتها وهذا قد تحرر من نصوصٍ صريحة موضحة لهذهِ السورة العظيمة التي افتتح الله جل وعلا بها عبادهُ .
بقي أن نختم قولاً إيمانياً حول قول الله جل وعلا
( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين )(9/13)
المؤمنُ يكونُ قريباً من الله إذا أقبل إلى الله بقلبهِ ولن تُقبل إلى الله بقلبك حتى يتحقق فيك الثلاث الآيات الأُول من هذهِ السورة المُباركة لابُد أن يشعُر الإنسان أنهُ أصلاً لم يكُن شيئاً مذكورا ، أن هناك رب عظيم جليل قادر أوجدهُ من العدم وربّاه بالنعم وجعلهُ أهلاً لأن يُنعم عليهِ فما نحنُ إلا ربائب لنعم ربنا تبارك وتعالى نتقلبُ فيها ليل نهار وكوننا نعلم أننا لرب تبارك وتعالى هو الذي أنعم علينا يُجب علينا أن نُحبهُ وما عند الله جل وعلا لا يُنال بأعظم من شيء من أن تُحب الرب تبارك وتعالى لأن حُب الله يُجب محبته والنبي صلى الله علية وسلم يقول " واللهِ ـ يحلف ـ لا يُلقي الله حبيبهُ في النار"(9/14)
فحصول المرء على أن يُحبهُ الله جلا وعلا هذا مطلب سامي جليل عظيم مقصد كريم وكون الإنسان أصلاً ينشغل ذاتياً ذهنياً حتى وهو مع الناس في أن ينشغل أنهُ يتمنى أن يحصُل على محبة الله هذا من أسباب نيلها لأن الله جل وعلا إذا علم من عبدٍ صدق النية في أنهُ يرغب يتمنى لأن يُحبهُ الله اضطجع إلى فراشهِ إذا تخلى عن زُملائهِ إذا انفرد بنفسهِ إذا غدا للمسجد إذا خلا في مسجدهِ إذا تلبس بأي حال وشعر أنهُ في حاجة تامة لأن يُحبهُ الله وأظهر للهِ في قلبهِ أنهُ يُحب الرب تبارك وتعالى يُجلّهُ وأنهُ حتى ولو عصى الله أحياناً لا يعصيهِ فضحاً لا يعصيهِ افتخاراً إنما يعصيهِ لأن الشيطان غلبه والهوى تلبس بهِ و إلا هو يُبغضُ نفسهُ حال المعصية ويزدريها و إنما الأمر كُلهُ في أنهُ يُحبُ ربُهُ ويقول في نفسهِ {{ اللهم إنني أُحبك وإن عصيتُك ، أُحبُك وإن لم أقدر على أن أقوم بواجبك حق قيام ، أُحبُك ولو كُنتُ أحياناً أنأ عن طاعتك ، أُحبُك ولو كُنتُ أحياناً أتلبسُ بمعصيتك }} فإذا أظهر العبدُ ذالك لربهِ قلباً وظهر ذالك على جوارحهِ ينالُ محبة الله فإذا جمع مع ذالك خوفهُ من الله فرقهُ من الله تبارك وتعالى أدب الله نبيه ( قٌل إني أخافُ إن عصيتُ ربي عذاب يومٍ عظيم ) ( قُل إنهُ لن يُجيرني من الله أحد ولن أجد من دونهِ مُلتحداً ) في نفس الوقت مع خوفهِ من الله يعلم أنهُ لا يُمكن لهُ أن ينبُت لهُ ريش أو أن يحصُل لهُ نعمة أو أن تُدفع عنهُ نقمة إلا بربهِ تبارك وتعالى فيرجوا الله تبارك وتعالى وهو مع رجائهِ يعلم أن هذا الرب الذي يرجوه رحيم لا تنفُذ خزائنهُ لا ينقضي شيءٌ مما عندهُ وأنه لا يتعاظم تبارك وتعالى شيئاً أعطاه قال الله على لسان سُليمان ( ربِ هب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب ) قال العليُ الكبيرُ بعدها ( فسخرنا لهُ الريح ) قال الله عن عيسى وقد أثنى عليهِ أعظم ثناء ثم لخّص ذالك كُلهُ في آيةٍ موجزة قال جل(9/15)
وعلا ( إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليهِ ) فلولا إنعامُ الله عليه لم يكُن عيسى شيئاً مذكورا ، عيسى تُعظمهُ النصارى اليهود يتوارون عن القول بقتلهِ والمسلمون يقولون عبدُ الله ورسوله وهذه مناقب ما صح منها وما بطُل لم تكُن لهُ لو لم يُنعم الله جل وعلا عليه ( إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليهِ )
وموسى من موسى ألقتهُ أُمهُ وهي أُمهُ خوفاً عليهِ في لُجج اليم لكن لما أراد اللهُ بهِ رحمة لما رحمهُ ربهُ أصبح هذا الذي تتقاذفهُ الأمواج أصبح عبدً صالحاً حتى وهو ميت في قبره يُصلي يقول علية الصلاةُ والسلام " مررتُ بهِ لليلة أُعرج بي عند الكثيب الأحمر قائماً يُصلي " وهذا كله من فضل الله جل وعلا عليهِ ولهذا قال الله لهُ ( ولقد منّنا عليك مرةً أُخرى ) وقال لهُ ( وألقيتُ عليك محبةً مني ) .
وقال الله مُمتناً على إبراهيم ( إني جاعلُك لناس إماما)
هذهِ كُلها عطايا يعرف منها المرء أن هُناك رباً عظيماً جليلاً قادرً على أن يرحمه وثق أيُها المُبارك أن الله إذا أراد أن يرحمك لن يستطيع أحدٌ أن يٌمسك رحمة الله جل وعلا عنك أبدً فعلّق قلبك بالله وأقرأ هذهِ السورة المُباركة مراراً وتكراراً في صلاتك وفي غير صلاتك وأنت تستحضر معانيها العظام وأنها تُقربُك من الرب جل وعلا وأنها تبني لك الأُسُس التي تصلُ بها إلى ما عند الله وإلى مطالبك الدنيوية المُباحة كُلها تتحقق بـ ( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين )(9/16)
لا ينبغي لعاقلٍ يعرف عظمة الله وجلالهُ وسُلطانه وسعة رحمتهِ أن يُعلّق قلبهُ مثقال ذرة بأحدٍ غير الله إنهم لم ينفعوك ولن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبهُ الله جل وعلا لك أو كتبهُ الله جل وعلا عليك ثُم وأنت في طريقك إلى الله أظهر لله عجزك وضعفك وأنهُ لولا لُطف الله بك وأنهُ هو الذي أوقفك بين يديه قال الله عن عباده الصالحين ( وما كُنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) فالله جل وعلا هو الذي أكرمنا وأعطانا ونحنُ مثلاً في حلقة علم حلقة قرآن سواءً نحنُ الذي نتحدث أو أنتم الذين تستمعون أو غيركُم ممن يُشاهد هذهِ رحمة من الله جل وعلا .
الله جل وعلا أكرمنا بأن نُفسر كتابهِ أو أن نسمع تفسير كلامهِ أو أن نُشاهد تفسير قرآنهِ كما أضل غيرنا بأنهم سلكوا مسالك أُخرى
قد كُنتُ أعذرُ في السفاهة أهلها ** فأعجب لما تأتي بهِ الأيامُ
فاليوم أعذُرهم وأعلم أنما ** سُبُل الضلالة والهُدى أقسامُ(9/17)
ومتى ظن عبدٌ ما أنهُ ما هو فيه من نعمة أو انصراف إلى الطاعة إنما كان بحولهِ وسُلطانهِ وقوتهِ ألبسهُ الله لباس الخزي وأظهر الله جل وعلا لهُ ضعفهُ وأزال الله جل وعلا عنهُ كرمه نعوذ بالله من سوء المُنقلب . وكلما أظهر البعدُ لربهِ أنهُ يعلم أنهُ ما خطت أقداهُ إلى مسجد ولا عُقدت أناملهُ بتسبيح ولا لهج لسانهُ بذكر ولا أنعقد في قبلهِ محبةُ الله إلا وهي أصلاً من فضل الله تبارك وتعالى عليه وأن الله جل وعلا أختارهُ واصطفاه وعلّمهُ واجتباه وهداه هذا من أعظم أسباب الزيادة وبهِ وبأمثالهِ يُنال ما عند الرب تبارك وتعالى و إلا فربُنا مستوٍ على عرشهِ بائنٌ عن خلقهِ لا تنفعهُ طاعة طائع ولا تضرهُ معصية عاصي في الحديث الصحيح " يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكُم ما زاد ذالك في مُلكي شيئاًَ يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكُم ما نقص ذالك من مُلكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني وأعطيتُ كُل ذي سؤلٍ مسألته ما نقص ذالك من مُلكي شيئاً "
فإذا كان أهلُ الأرضِ والسماوات كٌُلهم لو سألوا الله وأعطاهم كُلهم على كل على قدر سؤلهِ ما نقص ذالك من مُلكهِ جل وعلا شيء فكيف ينقُصُ من طلب عبدٍ واحد لكن أعظم ما يُطلب من الله أن يُطلب منه رضاه ونيلُ محبتهِ جاء عن داود أنه كان يقول " اللهم إني أسألُك حُبك وحُب من يُحبك وحبُ كل عملٍ يُقربُ إلى حُبك "
من جوامع الدُعاء
" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار "(9/18)
ودُعاء الصالحين في آل عمران ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رُسلك ولا تُخزنا يوم القيامة إنك لا تُخلفُ الميعاد ) ربنا آتنا ما وعدتنا على رُسلك هذا تغليبُ لرجاء ولا تُخزنا يوم القيامة هذا إظهارٌ للخوف لأنهُ لا يأمنُ مكرُ الله إلا القوم الخاسرون ولو تُركنا لأعمالنا وذنوبنا لهلكنا لكن الظن كُل الظن حسن برب العزة والجلال أن يستُر العورات ويغفر الخطيئات وأن يرفع الدرجات ويقبل الحسنات إن ربي لسميعُ الدُعاء .
هذا التعليق الذي منّ الله بهِ علينا في التعليق على سورة الفاتحة
نسأل الله لنا ولكم حُسن المُنقلب وأن يفتح لنا جل وعلا بكُل خيرٍ في أمر ديننا ودُنيانا ........
هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ إعدادهُ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين ......(9/19)
بسم الله الرحمن الرحيم
الشريط الرابع
من ألبوم
(أعلام القرآن)
لفضيلة الشيخ:
صالح بن عواد المغامسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فنحن ماضون بإذن الله في قضايا أعلام القرآن: ـ
ـ أولى أعلام القرآن أولى أعلام القرآن في هذا اللقاء المبارك لقمان عليه السلام ولقمان عند أكثر العلماء على أنه غير نبي وذهب عكرمة من السلف فيما يروي عنه إلى أن لقمان كان نبيا والذي عليه أكثر العلماء أنه عبد صالح أحب الله فأحبه الله وأعطاه الله جل وعلا الحكمة والمشهور أنه عاش في زمن داود عليه السلام قال الله جل وعلا :(وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) وهذا قسم من الرب تبارك وتعالى أنه أعطى هذا العبد الصالح الحكمه وهي :ـ
الصواب في الأقوال والأعمال ومعرفة حقائق الأمور هذا مجمل مايمكن أن يقال عن الحكمه والحكمة لها تعريفات عده وإنما تعرف بحسب قرائنها فقول الله جل وعلا : ( وَاذْكُرْنَ مَايُتَلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ....). تفسر الحكمه هنا /(10/1)
ـ بأنها السنة والوحي الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لكن هذا التفسير غير مضطرد في كل معنى للحكمه وإنما بحسب القرائن نعود إلى لقمان فنقول إنه عبد صالح أحب الله فأحبه وأعطاه الله جل وعلا الحكمة بنص القرآن وجاء القرآن العظيم سورة مكية كريمة سميت باسم هذا العبد الصالح لأن الله جل وعلا ذكره في القرآن ذكر قصته فيها وقلنا إن العلماء أكثرهم على أنه غير نبي وقال عكرمة والشعبي من السلف فيما ينقل عنهما أنه نبي وعلى هذا التحرير العلمي للمسأله أن يقال: إن لقمان أحد الشخصيات ذكرها القرآن اختلف الناس في نبوته وهذه الشخصيات منها ذوالقرنين ومنها لقمان ومنها حواء ومنهم مريم ومنهم تبع فهذه أعلام خيره بالإتفاق ذكرها الله جل وعلا في كتابه إلا أن العلماء اختلفوا وأكثر أهل العلم على التوقف وقيل على الترجيح بأنهم غير أنبياء.
ـ قال السيوطي رحمه الله في منظومة له:
واخَتلفَتْ في خِضْر ٍأَهلُ النُقول
قِيل نَبيٌّ أو وَلِيٌّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ أَو رَسُول
لقمانَ ذِي القَرنين حواء مريمِ
والوْقفُ في الجميعِ رَأي المُعْظمِ
معنى الكلام / أن هذه الشخصيات اختلف الناس فيها هل هي أنبياء ؟ أو رسل ؟ أو أولياء ؟ ثم قال السيوطي رحمه الله في آخر في عجز البيت الثاني قال:
والوْقفُ في الجميعِ رَأي المُعْظمِ
أي الوقف التوقف في الحكم هو رأي معظم الأنبياء لكن هذا القول لايسلم للسيوطي عموما لأن التوقف حاصل في ذي القرنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا أدري أكان ذو القرنين نبيا أم لا) أما غيره فلاينبغي التوقف في أن مريم أو حواء أنهم غير أنبياء لأن الله لم يبعث نبيا امرأه ( وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّّّّّّّّّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ) فالمقصود قوله التوقف فيه نظر ورغم جلالة علم السيوطي رحمه الله تعالى .(10/2)
ذكر الله جل وعلا في هذه السوره الكريمه وصايا لقمان لأبنه وليس المقام مقام تفسيرها لكن جملة نقول إن لقمان في وصاياه جمع أصول الشريعة الأربعة . جمع أصول الشريعة الأربعة: ـ
ـ الإعتقادات وهذا في قوله ( لاَتُشْرِكْ بِاللهِ )
ـ والأعمال في قوله ( يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفَ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ )
ـ وأدب المعامله في قوله ( وَلاَتُصَعَّر ْخَدَّكَ لِلنَّاسِ )
ـ والأدب مع النفس في قوله ( وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ) وقوله ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) وقوله ( إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصُوتُ الْحَمِيرِ ) وهذه الأربع الإعتقادات والأعمال وأدب المعامله وأدب النفس هن أصول الشريعه التي جاء بها الأنبياء عن ربهم جل وعلا حُفِظ عن لقمان أقوال في غير القرآن فلقمان شخصية حكيمة شهيرة ولهذا خاطب الله القرشيين به لأنهم يعلمون عنه ويسمعون عنه تاريخا فهو شخصية حكيمة شهيرة معروفة لدى الأمم ولهذا نزل القرآن بخبره وقصته مماحُفِظ عنه أنه قال :
ـ ثمانيه حفظتها عن الأنبياء ثمانيه حفظتها عن الأنبياء:ـ
ـ إذاكنت في الصلاة فاحفظ قلبك . إذاكنت في الصلاة فاحفظ قلبك.
ـ وإن كنت في الطعام فاحفظ بطنك .
ـ وإذا كنت في بيت غيرك فاحفظ عينيك .
ـ وإذا كنت في الناس فاحفظ لسانك.(10/3)
ـ واذكر اثنتين وانسى اثنتين أذكر الله ـ لا إله إلا الله ـ واذكر الموت أي لا تغفل عن ذكر الله ولاتغفل عن ذكر الموت وانسى اثنتين إحسانك إلى الغير وإساءة الغير إليك إحسانك إلى الغير وإساءة الغير إليك هذه أمر بنسيانها وقوله رحمه الله نسيان الإساءه إلى الغير ونسيان الإحسان إلى الغير هذا يندرج في باب ممكن يجمل يسمى باب المروءه والمروءه باب طويل جدا لكن لمن ؟ لطلبة العلم لمن أراد أن يستفيد هناك كتاب اسمه " المروءة " وهو قلما يؤلف أحد فيه كان قديما المروءه تأتي في الكتب في عيون الأخبار لابن قتيبه آشار إليها ابن عبد ربه في العقد الفريد وقلما أفردها أحد بكتاب لكن أفردها في هذا العصر الشيخ / مشهور بن حسن سلمان أحد تلامذة العلامه الألباني وهو من كبار المؤلفين في العصر غير كبير في السن لكنه كبير في العلم له كتاب اسمه / المروءه مطبوع مشهور فاقتناؤه لطلبة العلم ينفع كثيرا وللشيخ كذلك مؤلفات أخر لكن هذا الذي يعنينا في مقامنا هذا هذا ما أوصى به لقمان في وصاياه التي نقلت في غير القرآن .
ـ كما من وصاياه التي نقلت في غير القرآن أنه أوصى ابنه فقال : أي بني إياك والتقنع وهو ما يسميه العامه اليوم التلثم إياك والتقنع فإنه مخوفة بالليل مذلة بالنهار مخوفة بالليل مذلة في النهار وفي بعض الرويات ريبة في النهار .(10/4)
ـ وقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: رأى رجلا متلثما مقنعا فقال له أما علمت أن لقمان يقول : إن التقنع ريبة بالنهار مخوفة بالليل فقال الرجل : يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين . إن لقمان لم يكن عليه دين الذي جعله يتقنع ويتلثم خوفه من مطالبة الدائنين له هذا أمر ظاهر في الحياة الإجتماعيه بين الناس مما يمكن أن يقال عن لقمان أن الله جل وعلا قال عنه :( وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُر ْلِلَّهِ ) فشكر الله تبارك وتعالى من أعظم استزادة النعم بل إن شكر الله جل وعلا دلالة على حصول الإنسان على الحكمه لأنه لايمكن أن يوصف أحد غير شاكر بأنه حكيم وإنما رأس الحكمة مخافة الله ومخافة الله مبناها على شكره تبارك وتعالى وشكر الله جل وعلا تبارك وتعالى قائم على قواعد منها : ـ
ـ الخضوع له .
ـ والإعتراف له بالنعمه.
ـ ومحبته جل وعلا .
ـ والثناء عليه بها .
ـ وعدم استعمالها فيما يكره ويبغضه تبارك وتعالى .
مما ذكره لقمان في وصاياه التي قلنا ليس المقام مقام تفسير إنما نتكلم عن أعلام نتوف تاريخيه... أدبيه حولها مماذكره الله جل وعلا قال أنه قال لإبنه : (يَابُنَيَّ لاَتُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظَيمٌ) وقد مر معنا في دروس عدة أن الظلم وضع شئ في غير موضعه وعبادة غير الله من أعظم الظلم لأنه أعظم وضع لشئ في غير؟ في غير موضعه.(10/5)
ـ وهذه الآيه يدخلها العلماء فيما يسمى تفسير القرآن بالقرآن ؟ لأن الله قال : ( الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّّّّّهْتَدُونَ ) فالصحابه لما نزل الآيه فزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين وأينا لم يخلط إيمانه بظلم قال : ليس الذي إليه تذهبون أي ظلم الناس أما سمعتم قول العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظَيمٌ) فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم الذي في سورة الأنعام بالظلم الذي في سورة لقمان وهذا من تفسير القرآن بالقرآن وهو أرقى درجات التفسير ولهذا الشيخ الشنقيطي رحمه الله سمى كتابه "إيضاح القرآن بالقرآن" ولهذا الشيخ لم يفسر القرآن كاملا لأن ليس كل ءايات القرآن مفسرة بالقرآن وهو التزم أن يفسر الآيات بماذا ؟ بالآيات من القرآن نفسه...
هذا ماوصى به أولا ثم قال الله جل وعلا ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) الذي يعنينا في هذه القضية لا حاجة للحديث عن بر الوالدين فهذا معروف لكن قول لقمان ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) هو موضع الشاهد هناك أربعة أمور :ـ
ـ هناك بِر و موده في آن واحد.
ـ وهناك مصاحبه.
ـ وهناك مداهنه.
مصاحبه ومداهنه ومودة: المودة لاتجوز إلا مع المؤمن وأرقى منها البر لمن له حق لكنها مخلوطه بمحبة ولاتجوز إلا مع مؤمن أو مع مؤمنه فإذا كان الطرف الثاني كافرا لكن له حق كالأب أو الأم أو الأخت أو الخاله أو الجار فهذا التعامل معه يسمى مصاحبه.(10/6)
ـ لأن الله قال ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وهذا قيد أغلبي لامفهوم له لأنه لا يوجد شرك فيه علم مثاله في القرآن قول الله جل وعلا في آخر سورة المؤمنون قال الله جل وعلا (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لاَبُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) لايوجد إله معه برهان وإنما هذا قيد أغلبي لا مفهوم له المقصود إذا كان الكافر له حق كالجار أو كالوالد أو كالولده عياذاً بالله كمن أمة نصرانية أو أمة يهودية طبعاً لا يمكن أن يكون أبوه لأن المسلمة لا تتزوج يهودياً أو نصرانياً فهو يصاحبها في الدنيا معروف أو كحديث العهد بالإسلام إنسان أسلم من عائلة كافرة فتعامله مع أبويه يسمى مصاحبه ويتأكد في حق الوالدين ثم يقل تدريجياً فيمن له حق ولا يسمى بِرًّا ولا مودة لأن البر والمودة يشترط فيها المحبة وإن كان البر جاء بتعبير القرآن أن لا يشترط فيه لكن إذا أطلق يراد به مايشترط فيه المحبه أما لمداهنة / فهي التنازل عن أصل شرعي التنازل عن أمر عقدي هذا لايجوز بأي حال من الأحوال وهو الذي قال الله فيه ( وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) وهو الممنوع شرعا قال الله جل وعلا في هذه الآيات .
( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) هذا ذكر للرضيع لما ذكر الله جل وعلا قضية الولاده ذكر أن فصاله في عامين .
ـ وقد فهم العلماء منها :ـ
أن مدة الرضاعة أربعا وعشرين شهرا وقد قال الله في آية أخرى (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ) فقرنوا مابين الآيتين أو جمعوا بينهما فاتضحا كما هو متضحا طبيا اليوم أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن أعلى الرضاعة سنتين أربعة وعشرين شهرا قال الله جل وعلا (لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) أي أن الأم ليست مجبورة على إتمام السنتين .(10/7)
ـ واختلف فيما بعد السنتين بأقوال عده ليس هذا تفصيلها أنا قلت أتكلم إجمالا ثم ذكر الصلاة هذا كله داخل في الأعمال ( يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفَ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأَمُورِ) ثم بين الأشياء التي تتعلق بأدب المعامله قال ( ولا تصغر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) وهذا كله قد مر معنا في دروس عده .
ثم ذكر أمورا تخصه قال ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصُوتُ الْحَمِيرِ) هذه نقف عندها ينتشر في المجلات الإسلاميه سؤال وقرأته كثيرا يُسأل به الطلاب في المراكز الصيفيه وفي غيرها يسألون:
ـ مالشئ الذي خلقه الله ثم أنكره ثم يجعلون الجواب صوت الحمار وهذا غير صحيح :
ـ لأن معنى أن الله خلقه ثم أنكره أن الله يقول أنه لم يخلقه وهذا محال لأن كل شئ مخلوق إنما خلقه الله إنما الصواب أن يقال مالشئ الذي خلقه الله ووصفه بأنه منكر ؟ وكلمة إن أنكر الأصوات ليست منكر التي هي ضد المعروف ليست منكر التي ضد المعروف وإنما هي ضد الشئ المألوف منكر يعني مستوحش هنا نكر بمعنى مستوحش وليست منكر التي هي ضد المعروف حتى تألفها يعني تتضح لك بصوره أوضح :(10/8)
موسى عليه السلام قال للخضر ( لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ) أي غير مقبول وقال الله جل وعلا على لسان ذي القرنين (.... أَمَّامَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ...) آخر الآيه ( فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْراً ) أي أمرا يستوحش منه النفوس لامعنى أنه ضد المعروف غير جائر ضد المعروف المنكر الذي ضد المعروف هو الأمر الحرام غير الجائز أما النكر هو الشئ غير المألوف الذي تستوحشه النفوس ولا تألفه الطباع هذا هو المراد من هذه الآيه الكريمة هذا مايتعلق بهذا العبد الصالح ومن هنا تفهم أن أفضال الله جل وعلا ليست مخصوصه على أحد ليست وقفا على أنبياءه ورسله إنما هي فضل عام يعطيه الله جل وعلا من شاء متى شاء في كل عصر أو مصر النبوة انتهت ( مَّاكَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ) أما غير ذلك تبقى أفضال الله جل وعلا على العباد بعطاياه تبارك وتعالى العلميه والماليه وغير ذلك وأفضال الله لاتعد ولاتحصى لكن لايوجد وحي يخبرنا ببعض ممن تفضل الله جل وعلا عليهم هذا الأول في لقاء الليلة.
ـ العلم الثاني في لقاء الليلة كما كان لقمان على عبد صالح نأخذ المسجد الأقصى علم على ماذا ؟ على مكان لكنني سأتكلم عن نقاط لأن المسجد الأقصى معروف قصته وتكلمنا عنه كثيرا في حديث الإسراء والمعراج بداية نقول الله جل وعلا خالق كل شئ وهو يسصطفي ونبينا صلى الله عليه وسلم في المدينة أوديه ومع ذلك لما أتى العقيق قال :"آتاني آت من ربي فأمرني أن أصلي ركعتين في هذا الوادي ـ أجيبوا ؟ـ المبارك " فالنبي صلى الله عليه وسلم سماه واد مبارك فوادي العقيق واد مبارك بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن من ؟ عن ربه والمعنى أن تفهم أن الله جل وعلا يقدم من يشاء بفضله يؤخر من يشاء بعدله ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.(10/9)
ـ من المساجد التي من الله على الناس باسصطفائها ثلاثة والمساجد قلنا إنها تنسب لله جل وعلا ماذا ؟ من يتذكر؟ تشريفا وتنسب لغير الله تعريفا فهذا المسجد مثلا اسمه مسجد السلام ليُعَرَّف ويفرق مابين مسجد ومسجد لكن كل المساجد يقال لها بيوت الله فتضاف إلى الله جل وعلا تشريفا وتضاف إلى غيره تعريفا فقول الله في كتابه المسجد الأقصى هذا ماذا ؟ هذا تعريف لكن ليس بالإضافه تعريف بماذا ؟ بالوصف تعريف بالوصف لأن كلمة الأقصى وصف لكلمة المسجد كلاهما معرفة معرف بأل .
ـ الذي يعنينا المسجد الأقصى أحد المساجد ثلاثه بداية نقول تشد إليها الرحال بل بتعبير أوضح لا تشد الرحال إلا إليها :
ـ المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي الله جل وعلا قال ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) رغم أنه عندما نزلت هذه الآيات وهي مكية لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى؟ إلى المدينه فهذا يشعر أن ثمة مسجد سيكون مابين مكة ومابين المسجد الأقصى في بيت المقدس وهو المسجد النبوي.
ـ العروج به صلى الله عليه وسلم أو بالإسراء به إلى المسجد الأقصى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم المجد من أطرافه الثلاثه ورث إبراهيم أين؟ في مكه فولد في مكه وبعث في مكه ليرث إبراهيم وصلى بالمسجد الأقصى إماما ليرث من ؟ جميع الأنبياء وقد صلوا خلفه وجاء في بعض الروايات أنه لما سلَّم رأى إخوانه من النبيين فقال لهم إن الله أمرني أن أسألكم هل أرسلكم الله لتدعوا إلى أحد غيره قالوا: لا إنما أرسلنا الله لندعوا إليه قال الله في الزخرف ( وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ) في قراءة و (يَعْبُدُون ) في قراءة أخرى والمعنى واحد .(10/10)
ـ والمقصود : أنه صلى به إماما ليرثهم في الأرض المقدسه كما سيأتي المكان ثم خصه الله جل وعلا بهذه البلده الطاهره فورث المجد من أطرافه الثلاثه صلوات الله وسلامه عليه .
ـ بيت المقدس أرض تختصم فيها الأديان السماويه الثلاثه اليهوديه والنصرانيه والإسلام.
أريحا / هي البلده التي أمر الله جل وعلا بني إسرائيل أن يدخلوها كقريه ويقولوا حطه فحرفوا الكلم وهي عند كثير من المؤرخين أقدم مدينة مأهولة مسكونة في العالم موسى عليه السلام هو الذي خرج أنا أتكلم كنقاط هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر إلى بيت المقدس لكنهم امتنعوا من محاربة الجبارين ودخول أريحا فحكم الله عليهم بأن يبقوا في التيه أربعين عاما فمات هارون ومات موسى بعده وبنو إسرائيل في أرض التيه.(10/11)
ـ من الذي دخل ببني إسرائيل الأرض المقدسه؟ يوشع ابن نون دخلها بدأ حربه يوم الأحد وانتهى مساء الجمعه واليهود تجعل أيام عيدها يوم السبت ففي مساء الجمعه خاف أن الشمس تغيب قبل أن ينتهي من حربه فقال لها كما في الخبر الصحيح ( إنك مأموره وإنني مأمور اللهم احبسها علي ) فبقيت الشمس تأخر غروبها حتى فتح يوشع ابن نون الآن من الأحد إلى الجمعه هذا مهم أن تفهمه كم يوم ؟ ستة أيام هذه يعني اعقد عليها قليلا سنأتي لها بعد ذلك دخلت الأرض المقدسه بيت المقدس دخل في ولاية المسلمين في عهد من؟ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم تكن أرض المقدس عندما دخلها عمر بيد اليهود إنما كانت بيد؟ بيد النصارى كانوا هم المسيطرين عليها والحاكمين لها دخلها عمر بعد أن اشترط البطريق الذي كان يفاوض أباعبيده ألا يدخلها أحد قبل عمر فخرج عمر على بعير له ومعه غلام له يتناوبان الطريق عمر يركب حينا ويركب غلامه حينا آخر حتى وصلوا إلى دخول بيت المقدس وافقت النوبه بينهما أن يركب الغلام ولايركب أمير المؤمنين وكان على أرض مخاضه يعني فيها طين فنزل عمر وركب الغلام وعمر يقود الغلام وهو حامل نعليه حتى لا تتسخان بالطين والنصارى على الشرفات والدور يرون أمير المؤمنين الذي هذه الجيوش التي كانت تحاصر البلده تأتمر بأمره وهو في المدينه فلما قدم إليهم ظنوه سيأتي في موكب مهيب فأتاهم عمر ببعير له عليها غلامه وهو يقود البعير ويرفع نعليه حتى لا يخون في الطين في فبالطبع من اعتز بالله أعزه الله فكانت هيبة عمر عند النصارى أعظم من هيبته لو جاءهم على آرائك أو جاءهم على مراكب غير ذلك.
ـ هذا يفهم منه أن قول الله جل وعلا ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) لاينطبق على من ؟(10/12)
ـ لا ينطبق على عمر لأن عمر دخلها سلما لذلك بعض القصائد الموجوده الآن التي يقولها الأخوه الفلسطينيون يقولون مثلا :
فِي القُدسِ قَد نَطقَ الحَجَر
أَنَا لاَ أُرِيدُ سِوى عُمر
ردا على الصلح وبهذا لايرد على الصلح هذا يضع المسأله في أعظم تعقيدا لأن عمر لم يدخلها حربا وفهم التاريخ يعينك على التصرف في الأحداث .المقصود أن عمر دخلها سلما احتلها الصليبيون في الحمله الصليبيه الأولى عام 492 هجريا دخلها الصليبيون مكثوا فيها إلى عام 583 دخلها صلاح الدين ليلة 27 رجب وقد كان مشهور عند العلماء أن ليلة 27 رجب هي ليلة الإسراء والمعراج عند العلماء قديما فتأكد عند الناس بهذا الحدث أن ليلة 27 من شهر رجب هي ليلة الإسراء والمعراج رغم أن هذا لم يثبت بسند صحيح فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن أحيانا تأتي أحداث تاريخيه تؤكد أشياء موجوده في أذهان الناس دخلها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى فاتحا لها محررا لها من أيدي الصليبين الصلبيون الذين دخلوا بيت المقدس أذلوا المسلمين وأذلوا اليهود يعني تسلطوا على المسلمين وتسلطوا على؟ وتسلطوا على اليهود لأن الصراع مابين اليهوديه والنصرانيه صراع قديم قال الله جل وعلا ( وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) ولئن تقاطعت مصالحهم في بعض العصور إلا أنها تبقى العداوه أزليه لايمكن جمعها.(10/13)
ـ بعد ذلك حدثت أحداث تاريخيه شهيره ليس هذا موطنها لكن نتكلم عن المسجد الأقصى ماأمكن إلى ذلك سبيلا معلوم للجميع أن البريطانيين هم الذين مكنوا لليهود في بيت المقدس على مايسمى بوعد بلفور المشهور الساسه الصهاينه قرأوا التاريخ جيدا كسياسة مو كدين والله قال حبل من الله وحبل من الناس (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذََِّلَّةُ ) ثم قيد قال ( إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ) فالحبل الذي مع الله أضاعوه بقتلهم الأنبياء وكفرهم بقي الحبل الذي مع ؟ مع الناس هذا الحبل الذي مع الناس الساسه اليهود قرأو أن قوة بريطانيا إلى(...............) رغم أنها كانت بلدا لاتغرب عن محمياته الشمس وعند دوله وعن استعماراته فاتصلوا بالولايات المتحد الأمريكيه وأقاموا هناك أموالهم وسلطانهم حتى استطاعوا أن يصلوا إلى القدره على التغيير في القرار الأمريكي وجعلوا بريطانيا وراء ظهرهم رغم أن بريطانيا هي التي مكنت لهم لكنهم نقلوا رحالهم إلى أمريكا رغم أنهم كانوا منبوذين في الأول حتى وصلوا إلى ماوصلوا إليه حاليا قلت قبل قليل إن يوشع ابن نون دخلها في كم يوم ؟ في 6 أيام دخلت القدس طبعا عام 1948 أعلنت دولة إسرائيل دخلت القدس في حكم اليهود في ما يسمى في حرب 67 كم مدة الحرب ؟ 6 أيام تعمد اليهود أن تكون الحرب 6 أيام فهي في الإذاعات العربيه يقال نكست الخامس من يونيو حزيران.
ـ لكن في الإعلام الإسرائيل لايقولون حرب 5 حزيران وإنما يقولون حرب الأيام السته(10/14)
ـ ليذكروا الشعوب اليهوديه في إسرائيل وفي غيرها أن دولة إسرائيل قائمة على إرث عقدي يهودي وهي أن المسأله مسألة تذكر بما صنعه يوشع ابن نون من قبل بأنه دخل الأرض المقدسه ووصل إليها في كم يوم ؟ في ست أيام فتعمد الإسرائليون أن تكون الحرب ست أيام بعد ست أيام أغلقوا الباب أغلقوا باب الحرب كانوا قد انتهوا دخلو سيناء والجولان واحتلوا الضفه الغربيه مايسمى الآن بقطاع غزه ودخلت القدس ضمن الحظيره اليهودي هذا إحدى المصطلحات التي ينبغي التنبه لها عند سماع الأحداث .
ـ وقعت حرب 73 حرب العاشر من رمضان لكن كما هو معلوم يعني حصل فيها نوع من التقدم لكن لم يظفر المسلمون فيها بدخول المسجد الأقصى إلى الأحداث التي مرت دالة ولتي لاحاجه للكلام عنها إلى يومنا هذا.
ـ الذي يعنينا من هنا كله أن هذا المسجد مسجد مبارك الصلاة فيه بكم ؟ 250 كررناها مرارا وقلنا إن الدليل على أن الصلاة فيه 250 صلاة مارواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح من حديث أبي ذر( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتذاكرون كم الصلاة في المسجد الأقصى أيهما أفضل الصلاة في المسجد الأقصى أم الصلاة في المسجد النبوي فقال صلى الله عليه وسلم :"ولنعم المصلى هو و صلاة في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه ) قال ماذا ؟ نعم المصلى هو وصلاة في مسجدي هذا ـ أي المسجد النبوي ـ بأربع صلوات فيه ـ أي في المسجد الأقصى ـ فتحرر من هذا أن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة يتحرر من هذا أن الصلاة في المسجد الأقصى مائتين وخمسين صلاة.
ـ معلوما جدا وإن كان الإحتلال اليهودي للمسجد الأقصى أمر غير محمود لكن الحق أن احتلال اليهود للمسجد الأقصى هو الخيط الذي يجمع يجمع من ؟(10/15)
ـ يجمع المسلمين الخيط الذي يجمع المسلمين اليوم الرايه التي المسلمين العاطفه التي تجمع المسلمين في كل دولهم عربا وعجما كل من ينتسب للمله لايمكن أن يختلف معك في أن أمنيته أن يصلي في المسجد الأقصى وقد تحرر وهذه نعمة من وجه آخر وإن كان احتلالهم له نقمه إلا أنها نعمه من وجه آخر تبقي على المشاعر والأمور محموده.
ـ على هذا يفهم أن من يحتج بقضية المهدي المنتظر لايقبل احتجاجه لأن لو قلنا للناس إن المسجد الأقصى لن يحرر إلا على يد المهدي المنتظر لثبطت عزائم الناس ولمات الجهاد في الأمه ولما بقي هناك أحد يعمل لإصلاح المجتمع والناس كلهم ينتظرون المهدي المنتظر لكن أضر بالأمه شيئا كررناه مرارا أنهم ينتظرون غيبا منشود وينسون واقعا مشهود ينتظرون غيبا مشهودا وينسون واقعا مشهودا وإنما الغيب لايعني بالضرورة أننا نترك ما نحن فيه فالله جل وعلا أخبر الناس كلهم أنهم ميتون وقال لنبيه ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) هذا غيب لايعني أن تذهب إلىالموت إنما عش حياة طبيعيه عش حياه عاديه كما أمر الله حتى يأتيك الموت فالمسجد الأقصى يفتح على يد المهدي يفتح علىيد عيسى يفتح على غيرهما هذا لا يخصنا نحن مسؤلون شرعا عن هذا المسجد الأقصى أن نأخذ الطرائق الشرعيه نجمع مابين الأسباب الكونيه والأسباب الشرعيه في الوصول إلى غاياتنا اللتي نشدها لأهل الإسلام إن قدر هذا على يد المسلمين المعاصرين اليوم كان خيرا كثيرا إن لم يقدر برئت الذمه ووقعت المعاذير والأمر غيب ولايقع إلا ما أراد الله وكتبه جل وعلا في الأزل هذا العلم الثاني
ـ العلم الثالث ذوالقرنين:(10/16)
وقبل أن نتكلم عن ذي القرنين أقول ثمة كتاب ظهر لدكتور اسمه : حمدي أبو زيد . اسمه " فك أسرار ذي القرنين ويأجوج ومأجوج " " فك أسرار ذي القرنين ويأجوج ومأجوج "يعني فك أسرار ذي القرنين وفك أسرار يأجوج ومأجوج والكتاب فيه فرضيات وأمور كثيره جدا كبير جدا وحمدي أبوزيد مؤلف سعودي عضو في مجلس الشورى لكن هذا لمن أراد أن يتوسع أما أنا فأبقى على ما أنا عليه من القضيه أني أتناولها من جانب القرآن لامن جانب الفرضيات المعاصره وإن كانت محموده والكتاب قيم لكنني لن أتكلم فيه لامدحا ولاذما ولاسلبا ولاإجابا ومن كان منكم ذو بحث تاريخي يأخذ الكتاب وممكن يستفيد منه كثيرا.
ـ نعود لذي القرنين:
ذوالقرنين عبد صالح قلنا اختلف فيه وهو أحد من اختلف فيهم كما بينا ماذكره السيوطي وغيره قال الله جل وعلا :( وَيَسْئَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ) والسائل : قريش بناء على رأي من اليهود قال الله: (وَيَسْئَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً ) ومن هذه تبعيضيه أي لن أقول لكم كل شئ عن ذي القرنين لأن القرآن ما أنزل لهذافذكر الله جل وعلا ذي القرنين اختلف الناس فيمن هو ذي القرنين ؟ واسمه / ذوالقرنين وذو بمعنى صاحب قال الله جل وعلا:(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ) أي وصاحب الحوت وهذا الإسم كونه قيل ذي القرنين جعل بعض المؤرخين يقول إنه من اليمن لأنه اشتهر في ملوكهم التسمية بكلمة ذو .
فَمعذرةُ الإِلَهَ لذو رعين
أحد ملوك اليمن. وقال غيره غير ذلك...(10/17)
ـ واختلف في السبب الذي سمي من أجله ذي القرنين: فقيل لأنه حكم المشرق والمغرب وقيل لأنه حكم فارس والروم وقيل كانت له ظفيرتان والقرآن سكت عن هذا والبحث عنها نوع من التلكف لكنه مضمار تجري فيه أقدام العلماء الذي يعنينا في قضية ذي القرنين كمال عقليته وأنت تعرف كمال عقلية الإنسان من أمور عده من أهمها أنه يختلف تصرفه باختلاف من أمامه فذوالقرنين مر في حربه وغزواته على أمم هذه الأمم تتفاوت في عقلها وقدرتها وعلمها فكانت تعامله معها يختلف من أمه إلى أمه كل بحسب؟ بحسب عقله قال الله جل وعلا :( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) الكتاب وغيره من المؤلفين نظروا من هذا الباب إلى أن ذا القرنين وصل إلى مغرب الشمس وقلت مرارا هذا لايمكن أن يصح يعني لايلزم منه قول الله جل وعلا: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) لأن الله قال :( وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) فأسند الوجد إلى ذي القرنين ولم يسنده الله جل وعلا إلى الشمس والمعنى أنه كل إنسان يرى مغرب الشمس بحسب الحال التي هو فيها فمن مكث في البحر عند جده مثلا شاطئ البحر في جده أين يرى الشمس تغيب؟ في البحر ومن مكث في صحراء نجد مثلا يرى الشمس تغيب في الصحراء ومن مكث في جبال الحجاز وجبال تهامه يراها تغيب في الجبال فكل إنسان بحسب مكانه يرى مغيب الشمس فقول الله جل وعلا :( وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) أنه وصل إلى منطقه فيها عين حمئه يجد الشمس تغرب بعدها صحيح يحتمل أنه وصل مغرب الشمس لكن لايلزم فرق مابين الإحتمال ومابين اللزوم:( وَجَدهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) فيه مثل عند العامه يقولون" لايجوع الذيب ولا تفنى الغنم " والمعنى :(10/18)
يعني أي معلم في الفصل إذا كان الطلاب كلهم يطمعون في أنه ينجحهم غير ناجح معلم غير ناجح وإن كان الطلاب كلهم يآئسون من أنه ينجحهم فهو معلم غير ناجح لكن أين المعلم الموفق ؟ من الطلاب على خوف ورجاء منه لماذا ؟ لأن أنت هب أنك مديرا وأحد موظفيك يآئس منك تماما فهذا لن يكترث بك لأنه يآئس من أي شئ أن تعطيه إياه فهو يقول أنا اشتغلت ولا ما اشتغلت لن يرفعني عملت أو ماعملت لن يعطوني مكافئه إذا لماذا أعمل ويأتي خارج والعكس لوكلهم تكافئهم وكلهم راجين فأصبح الذي يعمل يقول إذا كان يعطون فلان وهو مايشتغل أنا من باب أولى ما اشتغل مو كل آخذينها آخذينها المكافئه زي المدرسين يقولون العلاوة ثابته... ثابته هذا خطأ في السياسه العموميه في أي سياسة حتى الرجل في بيته إذا الزوجه لا تخاف من زوجها على كل حال أو ترجوه على كل حال لم يصب في قضية سياسته لبيته فهنا قال الله جل وعلا عن هذا الملك الموفق ): قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) الملوك يتركون أثر (قَالَ أَمَّامَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْراً * وَأَمَّامَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) فيظهر أن هذه الأمه التي غلب عليها ذي القرنين تحتاج إلى هذا النوع من السياسه في الحكم ثم قال الله جل وعلا :( بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) ولم يذكر الله خبره معهم قال :( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ) ثم ذكر الله أقواما قال :( وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) يعني ليس لهم عقول فلما كان ليس لهم عقول لم يعذب ولم يكافئ لأن وش تعذب وش تكافئ في قوم ليس لهم عقول أصلا مايفهمون من دلالة أنهم لايفهمون أنهم قالوا :( قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ(10/19)
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) .
ـ أين الدليل على أنهم لا يفقهون ؟
ـ هم يرون ملكا عظيما وماساد الدنيا وتنقل في الأمصار إلا وحوله جيوش ومعه أموال ووزراء والله يقول مكنا له في الأرض ثم يأتون هاذولي الضعفاء اللي ماهم قادرين ـ أنا أتكلم أحيانا بالعاميه عمدا ـ ليسوا قادرين على يأجوج ومأجوج يقولون لذي القرنين أنت حل مشكلة يأجوج ومأجوج وحنا نعطيك أجر (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) هذا ليس بمعقول زي من ؟ يعني عنده مشكله في البلديه والاّمشكله في أي مكان فيذهب إلى إنسان مسؤول كبير يقول تكفى يالأمير حل مشكلتي هذه وأنا والله أعطيك مثلا ألف ريال ولا خمسمائة ريال سيفهم الأمير إن هذا ليس له عقل لأنه مايعرض هذا العرض رجل له عقل ولهذا قال الله:( لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) ( قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ماذا أجابهم ؟(10/20)
( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) يعني ما أنا فيه ايش تعطوني خرج ولا تعطوني أموال ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) لكن أنا ما أبغى منكم أموال لما كانوا ليس لهم عقول ووضفهم في ماذا ؟ في الخدمه لأن القوة البدنيه لاتحتاج إلى عقل قال :( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) زي هذه عاد مثال سياسي تحملوه يقولون في بعض القطاعات في بعض الدول إذا يبختاروا نوعيه من الحرس الحرس اللي بس بيضرب على طول فيجمعون الناس في فناء يقولون يعلنون أن فيه قسم كذا في الأمن هذا الذي يريد أن يشترك يأتي يأتون الناس كل من ماعنده وظيفه يأتي من قرى تلك البلدان أو محافظاتها أو مدنها يأتون الناس فيقولون لهم انقسموا قسمين الذي يقرأ ويكتب يذهب إلى جهة اليمين والذي لايقرأ ولا يكتب أمي طبعا بلغتهم يقولها اذهب إلى جهة اليسارـ على أذنكم يأهل اليسار ـ يذهب إلى أهل اليسارمن يختاروا ؟ لايختارون لا اليمين ولا اللي يسار يختاروا البُلهه اللي مايدري هذا اللي يتكلم وش يقول لاراحوا يمين ولاراحوا يسار هذولي يختارونهم لأن هذا إذا أخترته أنت لابد(..............) تستخدمه في أي شئ جندي ـ واضح ـ على هذا يبنى شئ أهم منه لأن القرآن مايقرأ لمجرد إنك يعني لابد تفهم مافي القرآن أهم منه أنك لاتقبل أن تكون أداة لأي أحد هذه أهم منها لاتقبل أن تسلم رقبتك لأي أحد يسيرك كيفما يشاء فليس العاقل من لا يملك عقلا هذا الله عذره ليس المجنون من لا يملك عقلا هذا غير مكلف شرعا لكن المجنون الذي لايستخدم؟ لا يستخدم عقله وأنا قد قلت مرارا أن أحد الرجال في عهد بني أميه أيام الصراع مابين عبدالملك بن مروان وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم جاء عبدالملك لرجل فأعطاه أموال قال : روح أقتل ابن الزبير قال هذا : هذا عاقل قال طيب قتلنا ابن الزبير مات ابن الزبير ايش حصل حصل أنت تنفرد في الملك وهذا ابن الزبير يموت(10/21)
شهيدا وأنا مالها غير وصف واحد ..أهبل لأني لاحصلت ملك في الدنيا ولا حصلت شهادة ألقى الله وأنا قاتل نفس ماوجدت شئ يعني أنت لو قتلت أنت ياعبدالملك ابن الزبير ابتاخذ ملكه تتمتع فيه لكن أنت ما قتلته وتأخذ ملك وأنا قتلت وآخذ عقاب ولاآخذ ملك
وَلسُتُ بقَاتلٍ رَجُلاً يُصَلَّي
عَلى سُلطانِ آخَر مِن قريشِ
لَه سُلطانُهُ وعليَّ إثمِي
مَعاذا الله مِن جَهلٍ وَطَيشِ
نعود إلى ذي القرنين قال الله جل وعلا عنه ): إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ) هذا التمكين شئ من الله يعطيه الله جل وعلا من يشاء وإذا أراد الله بعبد خيرا سخرله خلقه قال الله ): وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو ) وإذا أراد الله بعبد سوء قتله الله جل وعلا بأ قرب أنصاره إليه وإذا أراد الله بعبد سوء قتله الله بأعظم جنده وأقرب خواص أهله إليه يكون سببا في قتله هذا الذي يمكن أن يستفاد من حديث ذي القرنين عموما وقد تكلمنا عن هذه الأمور في مواطن كثيره....
هذا ماتيسر إراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله. سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين .
تم بحمد الله
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول
في القول والعمل
أخواتكم
الْمُخْبِتَات(10/22)
بسم الله الرحمن الرحيم
الشريط الثالث
من ألبوم
(أعلام القرآن)
لفضيلة الشيخ:
صالح بن عواد المغامسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أمابعد:ـ
فهذا بحمد الله وتوفيقه اللقاء الثالث حول أعلام القرآن وقد سبق التأكيد على أن هذه اللقاءات تُعنَي بأعلام قرآنيه ذكرها الله جل وعلا في كتابه إما مدحا وإما ذما ونعرج عليها إلماما تاريخيا ومعرفيا قدر المستطاع ولانطيل في أي من تلكم الأعلام لأن الأعلام كثيرة ونحاول قدر الإمكان أن نأتي على أكثر الأعلام التي أوردها الله جل وعلا في كتابه وقد مر معنا ذكر جبريل عليه السلام والكوثر ويوم الفرقان وقارون وفرعون وهامان وغيرها.... وعرفات والمشعر الحرام وغيرها من الأعلام التي تكلمنا عنها لماما وسراعا ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
ـ أولى الأعلام في هذا اليوم:
يوم الجمعه قال الله جل وعلا (يَآأَيُّّّّّّّّّّّّّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) فيوم الجمعه علم على يوم يوم الجمعه علم على يوم كان يسمى قبل الإسلام بيوم العروبه ثم سمي في الإسلام بيوم الجمعه بنص القرآن كما في الآيه وكما في السورة التي سميت بهذه الآيه وهي سورة الجمعه.(11/1)
ـ أول جمعه أقيمت في الإسلام: أقامها أسعد بن زراره كنيته أبوأمامه رضي الله عنه وأرضاه أقامها قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينه بعد أن آمن أهلها بعد بيعتي العقبه الأولى والثانيه وقبل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينه بفتره أقام أسعد بن زراره رضي الله عنه وأرضاه جمع المسلمين وصلى بهم صلاة الجمعه وغدَّاهم أقام لهم غداء فكان حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه ممن حضر تلك الجمعه فلما كبر حسان كان قائده من بنيه ابنه عبدالرحمن هو الذي يقوده لأنه كان قد عمي حسان في آخر عمره فكان حسان إذا دخل المسجد ومعه ابنه يقوده وأذن للصلاة الجمعه بين يدي الإمام يترحم حسان على أبي أمامه ويقول"اللهم صلي على أبي أمامه،اللهم اغفر له ....ويدعوا له" فيسمعه ابنه عبدالرحمن ويتعجب ثم تكرر هذا الموقف مرارا من حسان فقال:عبدالرحمن رضي الله عنه في نفسه إن هذا بي لعجز ـ يعني مالذي يمنعني أن أسأل أبي لماذا يترحم على أبي أمامه كلما أذن لصلاة الجمعه ـ فسأله فقال يابني: إن أول من صلى بنا الجمعه هو أسعد بن زراره أبوأمامة رضي الله عنه وأرضاه.(11/2)
ـ قلنا كان يسمى هذا اليوم في الجاهليه يوم العروبه والله جل وعلا أنبأ الأمم التي قبلنا أن هناك يوما عظيما مفضلا عنده جل جلاله فالأمم سعت في الحصول معرفة ذلك اليوم فظنت اليهود وزعمت أنه السبت فهُم إلى اليوم يعظمون يوم السبت ،وذهبت النصارى إلى أنه يوم الأحد ،فاليهود أخذوها على أنهم يرون أن الله انتهى من خلقه يوم الجمعه واستراح يوم السبت تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وناقل الكفر ليس بكافر نحن نورد الأسباب ،والنصارى تزعم أن الأحد أول أيام الأسبوع فلذلك ترى أنه هو اليوم الذي اختاره الله واصطفاه قال صلى الله عليه وسلم (نحن الآخرون السابقون الأولون يوم القيامه بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا)أي أعطوا الكتاب من قبلنا وضلوا عن هذين اليومين فنحن وإن تأخرنا ظهورا كأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلاأننا أعلم بهذا اليوم منهم لما علمه الله رسوله صلى الله عليه وسلم .
ـ المشهور عند أهل العلم: أن أول جمعه صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت بعد خروجه من قباء إلى داخل المدينه لأنه عليه الصلاة والسلام نزل قباء في أول الأمر فالمشهور المنقول عن ابن اسحاق أنه صلَّى صلى الله عليه وسلم الجمعه في المسجد المعروف اليوم"مسجد الجمعه" هذا على الأظهر لكن لا يوجد دليل صريح فيما نعلم يدل على هذا لكن هذا المشهور المستفيض ،فهذا هو يوم الجمعه من حيث يومه.قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الجمعه قال:"فيه خلق آدم ــ ولهذا قال العلماء:إنه سمي يوم الجمعه لأنه جمع فيه خلق آدم ــ وفيه تقوم الساعه" أي يوم الجمعه.
ـ وذلك يسن فيه أمور عده:ـ
ـ قرآءة سورة "آلم * تَنزيِلُ..."السجده والإنسان في فجرها.
ـ وقرآءة سورة الكهف في يومها .(11/3)
ـ وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، وهذا ولله الحمد الثالثه أمر مستفيض بين المسلمين وكذلك أئمة الحرمين وغيرهم من أئمة المساجد يحرصون على قرآءة "آلم * تَنزيِلُ الْكِتاَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالمِينَ" سورة السجده المعروفه وسورة الإنسان في فجر يوم الجمعه .
ـ ويقرأ في الصلاة يكثر الإمام من قرآءة " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى" وسورة الغاشية ومن دلالة محافظته صلى الله عليه وسلم على هذا أنه صلى بالناس يوم الجمعه فقرأ فيهما بسبح والغاشيه ثم كان عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم قد وافق عيدا فقرأ في الفجر بسبح والغاشيه مما يدل على أن لسبح والغاشيه حِكمةً لا نعلمها وإلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر في يوم العيد بسبح والغاشيه في الفجر يعني في صلاة العيد بسبح والغاشيه ثم يجتمع مع الناس في نفس اليوم في الجمعه فيصلي بهم صلى الله عليه وسلم ويقرأ بسبح والغاشيه فهذا ينبغي على الأئمه قدر الإمكان أن يحرصوا على عدم تركها نعم يقرأ بغيرها أحيانا ليبين للناس أنها ليست بواجبه لكن لايكثر الفصل بينهما لأن اتباع السنه أولى.
ـ فيها ساعة لايدعوا فيها رجل مسلم إلا استجاب الله جل وعلا له فيها.
ـ واختلف العلماء رحمهم الله في تحديدها لكن نقول جملة :ـ هي ساعة مخفيه لكن قال بعض العلماء : إنها من حين أن يرقى الإمام المنبر إلى آخر صلاة العصر.وقال بعضهم : إلا أن تنتهي الصلاة . وقال آخرون من العلماء : إنها آخر ساعه من يوم الجمعه أي قبل الغروب وبكل قال أهل العلم وكل له دليله وقلت هذا الموطن ليس موطن ترجيحات فقهيه قدر الإمكان وإنما إلمام بأعلام القرآن.
ـ يوم الجمعه صلاة الجمعه واجبه ليست بدلا عن الظهر وإنما الظهر بدل عنها لمن فاتته صلاة الجمعه ـ أعيد ـ صلاة الجمعه ليست بدلا عن الظهر وإنما الظهر بدل عمن فاتته صلاة الجمعه .(11/4)
ـ أهل العلم اختلفوا فيمن أدرك صلاة الجمعه لم يدرك الركوع مع الإمام لم يدرك الركوع الثاني مع الإمام فمعظم العلماء يقولون إنه إن لم يدرك الركوع الثاني مع الإمام فاتته الجمعه فيكملها ظهرا يكملها على أنها ظهر هذا عليه أكثر العلماء وإن كنت والحق لانرى دليلا قويا على هذه المسأله وهناك آراء لبعض الأئمه أنه يصليها جمعة ركعتين لأنه دخل بهذه النيه لكن كما قلت أكثر أهل العلم معظم العلماء على أنه يصليها ظهرا .
ـ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبلها خطبتين يجلس بينها كان يخطب قبل أن يتخذ المنبر متكئا على عصا ويروى أنه بعد أن اتخذ المنبر لم يتكئ على شئ وكان إذا خطب احمرت عيناه ووجنتاه صلى الله عليه وسلم كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم.(11/5)
ـ وكانت خطبته كلمات يسيرات قليلات لايطيل فيهن ويجعلها للمواعظ للرقائق لأن الجمعة يحضرها سائر المسلمين ليست محاضره معنون لها يحضرها من يريدها أهل زماننا في هذا العصر خرجت الجمعه عن نطاقها الشرعي تخرج عند إمام بنطاق أكثر ونطاق أقل فأصبحت من خلالها يقول الخطيب أراؤه السياسيه أو أراؤه الفكريه ومعلوم قطعا أن آراء الخطيب الفكريه والسياسية تحتمل الصواب والخطأ على حسب علمه بالسياسه وحسب قدراته الفكريه لكن قال الله قال رسوله هذا لايحتمل صوابا وخطأ والناس الحاضرون لايأخذون ويعطون معاك ويناقشونك هم يريدون شيئا يرققون قلوبهم يحضرها العامل... يحضرها المسلم الأمي... يحضرها الفقير.... يحضرها الغني.... يحضرها العالم.... يحضرها سائر الناس كل أهل حييك أهل منطقتك أهل المكان المستوطن فيه فإخراجها عن مراد الله ورسوله هو الذي جعل الناس تكثر فيهم قسوة القلوب لأنهم لايجدون وقتا يسمعون فيه الخطيب إلايوم الجمعه فإذا جاء يوم الجمعه أخرجهم الخطيب عن مايريدون وذكر لهم آراء سياسيه أو فكرية أوقضايا لاتعنيهم أو حتى إذا كانت تعنيهم لايملكون فيها حولا ولا طولا فيذهب الناس أهل الثقافه يناقشون رأي الإمام ورأي الإمام رأي فكري وقد يكون هذا الإمام لايعرف شيئا في السياسه قد يكون رجلا تقيا عالما فقهيا يملك ترقيق القلوب لكنه لايفقهه شيئا في الأمور الفكريه أو السياسه فيتكلم في أمور قد يكون قوله صواب وقد يكون قوله خطأ وليس عامة المسلمين محل تجربه ليس هذا موطن الحديث عن مثل هذه الأمور تقول أم هشام بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها ماحفظت سورة" ق~ " إلا من في النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة مايقرأ بها في صلاة الجمعه فسورة "ق" معروف فيها ذكر بدء الخلق والموت وإتيان الموقف العظيم وإزدلاف الجنه وبعد النار وما إلى ذلك حتى يكون في ذلك ترقيقا لقلوب الناس أما تلك الأمور لها مواطنها يتكلم فيها أهل العلم لايوجد مانع لكن فيه(11/6)
لقاءات فكريه فيه مجالس ثقافيه فيه مواطن فيه محاضرات يعلن عنها بهذا الإسم هذا حق لكن ينبغي أن يكون المقصود الأسمى لكل خطيب أن لايخرج الناس ويذكرون بلاغة الخطيب أو فصاحته أو علمه أو قدراته أو آراءه أو عظمته الفكريه هذا كله غير مقصود شرعا المقصود الأساسي أن يخرج الناس وقد ازدادوا إيمانا بالله وتعلقا به وتعظيما له جل شأنه أكثر من قبل أن يدخلوا الجمعه إذا استطاع الإمام أن يصل بالناس إلى هذا المستوى هذا الذي يقال أنه وفق في خطبته الجمعه قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بكلمات يسيرات.
ـ قال الله جل وعلا (يَآأَيُّّّّّّّّّّّّّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) هذه ذروا البيع ....وأنها نزلت خصوصا في قافلة أتت من الشام قادها .....والظاهر أن هذا كان في أول الإسلام يبتعون تلك التجاره فأنزل الله تلك المناسبه هذا أصل المناسبه والأمر الثاني أن يوم الجمعه يوم يجتمع الناس فيه فقال الله جل وعلا (وَذَرُوا الْبَيْعَ ) تذكرة بأمر أعظم وهو أنه سيأتي يوم عظيم يجتمع الناس فيه هو يوم المعاد وهذا اليوم نعته الله جل وعلا بقوله (لاَبَيْعٌ فِيهِ وَلاَخُلَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّةٌ وَلاَشَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فيترك الإنسان البيع في الدنيا ويلجأ إلى الله في مثل هذا اليوم العظيم تذكرة لنفسه باليوم الذي يغدوا الناس فيه بين يدي رب العالمين والإنسان لابد أن يكون له باعثا من نفسه.
وَمَا عَاتَبَ الحُر الكَرِيم َكَنفْسِه ِ
وَالمَرءُ يُصْلِحُهُ الجَلِيسُ الصَّالِحُ(11/7)
لابد أن يكون في الإنسان باعث ناصح من نفسه هذا الباعث يتذكر يخرج الناس من أي جامع تقام فيه صلاة الجمعه أشتاتا وينصرفون غالب الناس يشتري بعض الأمور ثم ينصرف إلى بيته المقصود أن الناس يصدرون عن مكان واحد هو الجامع وينصرفون إلى أماكن عده سيأتي يوم يوافق الأول ينصرفون من مكان واحد هو أرض المعاد لكنهم لاينصرفون إلى أمكنه متفرقه وإنما ينصرفون إلى دارين قال الله ( فَرِيقٌ فِي الجَنَّّّّّّّّّّّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّّعِيرِ ) فكلما خرجت من الجامع الذي تصلي فيه الجمعه فاتعظ أنك ترجوا الله بهذا العمل أن تنصرف يوم القيامه إلى رياض جنته أدخلكم الله وإيانا إياها هذا هو المؤمل في أن الإنسان يحتسب العمل ويوظف نفسه للطاعة ويحتسب الأجر ويتذكر أيام الله جل وعلا ويربط مابين ماكلفه الله به شرعا في الدنيا وماكلفه الله به تبارك وتعالى في الآخرة.
قال صلى الله عليه وسلم أن يوم القيامه يكون يوم الجمعه قال (وما من دآبة إلا وهي مصيخه ـ أي منتظرة ـ النفخ في الصور يوم الجمعه ) فالخلائق سوى الثقلين تعلم أن يوم الجمعه هو اليوم الذي تقوم فيه الساعه وتدرك أن هذه اليوم يوم جمعه وإلا لاتصيخ آذانها وهي لاتعرف أن هذا اليوم يوم جمعه.(11/8)
ـ منَّ الله على هذه الأمه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن هداها فالأمم قبلنا حاولوا أن يصلوا لكن لسوء طينتهم وغلبة شقوتهم ضلوا عن طريق الحق فقلنا ذهبت اليهود إلى أنه يوم السبت والنصارى إلى يوم الأحد وأنت ترى عالميا في الغرب اليوم أن يومي الإجازه عندهم هما يوما السبت والأحد وعندنا يوم الجمعه وقد قلت أذكر في قديما في أول الدروس في هذا المسجد قبل سنتين أنه وقفنا على أثر يدل على أن عمر رضي الله عنه وأرضاه هو أول من جعل للناس يوما يستريحون فيه غير يوم؟ غير يوم الجمعه الجمعه وقلنا أن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه لما خرج إلى الشام ترك المدينه يذهب إلى الشام ليأخذ مفاتيح بيت المقدس ويستلم بيت المقدس صلحا فلما عاد استقبله أهل المدينه غلمان أهل المدينه أمير المؤمنين ولم تجري له عادة أنه يكثر السفر عن المدينه وعمر كان يهاب أن يخرج منها ومعلوم لديكم كان يقول (اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك ) صلى الله عليه وسلم فلما قدم استقبله الغلمان فأحب أن يكافئهم فقال لهم عمر رضي الله عنه وأرضاه إما أن أعطيكم أعطيات حلوى....أودنانير...أودراهم شئ ترضون به وإما أن أعطيكم يوم بدل من الكتاتيب فقالوا الغلمان لانريد الكتاتيب نريد يوم مافيه كتاتيب فالناس منذ أن كانوا يحبون أن يخرجوا عن المألوف يحبون أن يخرجوا من الشئ الذي تعود عليه يحبون أن يجدوا لهم يوم راحه هذا مايمكن أن يقال عن يوم الجمعه وهو العلم الأول وهو علم على يوم في لقائنا هذا.
ـ العلم الثاني :ـ(11/9)
على شخصين أحدهما كافر والآخر مؤمن وهما طالوت وجالوت ذكرهما الله جل وعلا في سورة البقره ولم يكرر ذكرهما في أي سورة أخرى والله تبارك وتعالى أحيانا يريد أن ينبه على الأشخاص وأحيانا يريد أن ينبه على الأحداث فإذا أراد أن ينبه على الأحداث أغفل ذكر الأشخاص ولوكانوا عظماء وإذا أراد أن ينبه على الشخص ذكر الشخص ولو لم يكن عظيما وإذا أراد أن ينبه على الأمرين ذكر الله جل وعلا الشخص والحدث هنا قال الله ( أَلْمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُم ُ) قال لنبي نكره ولم يذكر اسم ذلك النبي لأنه ليس المقصود حوار أولئك القوم مع نبيهم مع ذلك النبي وإنما المقصود الحدث التاريخي بنو إسرائيل مكثوا في أرض التيه أربعين عاما خلال الأربعين هذه مات هارون ثم مات موسى ثم عهد موسى بأمر النبوه من بعده إلى يوشع ابن نون فتاه ثم مكثوا ماشاء الله لهم أن يمكثوا قرابة سنين طويله خلال هذه السنين الطويله كان العماليق يحاربون بني إسرائيل ويتعرضون لهم فكان الإنهاك والقتل في بني إسرائيل أكثر فلما شعر بنو إسرائيل بالضعف لجأوا إلى نبي لهم قيل إن اسمه شمعون وقيل إن اسمه شوميل وقيل إن هذان الإسمان كلاهما لرجل واحد وهو الأظهر فسألوه أن يبعث الله لهم ملكا يقودهم لأن الناس لايمكن أن يجاهدوا أو يحاربوا أو يسوسوا أمرهم بدون شخص يأتمرون به هذا أمر خلاف العقل فهؤلاء من بني إسرائيل أرادوا قبل الجهاد ملك يقودهم في الجهاد (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) وهذا النبي إذا قلنا أنه شوميل أو شمعون كان قد اعتزلهم لما رأى من عصيانهم فأخذ عليهم المواثيق أنه إذا كتب عليهم القتال يقاتلوا قالوا نعم بل استغربوا ( وَمَالَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأبَْنَائِنَا...) فلما كتب الله عليهم القتال نكصوا فأخبرهم نبيهم أن الله(11/10)
قد بعث لكم طالوت ملكا طبعا في القرآن ( إِنَّ اللهَ ) لكن أنا قلت أن الآن هنا جاء في مصدر مؤول مفعول به نقول أخبرهم نبيهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكا هنا اعترضوا بنوا إسرائيل كما مر معك في القرآن أسباط هؤلاء الأسباط منهم سبط جعل الله فيه الملك ومنهم سبط زي مانقول الآن فخذ في قبيله سبط جعل الله فيه النبوه طالوت هذا لم يكن من السبط الذي فيه الملك ولم يكن من السبط الذين فيهم النبوه فرده بني اسرائيل واعترضوا عليه ( قَالُوآ أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّّّّّّّّّّّّّّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ ) وقد قلت مرارا إنه لايمكن أن يوجد ملك مستحيل بدون عصبه هذه العصبه تختلف.(11/11)
ـ مالعصبه التي مع طالوت ؟ أن الله جل وعلا هو الذي ؟ هو الذي اختاره وكفا بها عصبه لكن في زماننا هذا مايوجد وحي من الله أن الله اختار فلان واختار فلان فلابد من عصبه دنيويا يقوم بها الملك والمقصود أن نبيهم أخبرهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا وأخبرهم حتى يلين قلوبهم لأمر الله وطاعته قال وءاته بسطة في العلم والجسم علم عام بالشرع وعلم بالحروب وكانت الحروب آنذاك تعتمد اعتمادا كليا على القوه الجسميه ولهذا قال وءاتاه بسطة في العلم والجسم وقوله جل وعلا ( وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) ردا على قولهم (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ ) بعد أخذ وعطاء أذعنوا بعد أن أخبرهم نبيهم أن ثمة آيات أعطاها الله جل وعلا لطالوت قال الله تعالى ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّهُمْ إِنَّ ءَايةَ مُلْكِهِ ) ملك من ؟ طالوت ( أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّّن رَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّبِّّّّكُمْ وَبَقِيةٌ مِّّّّّّّّّّّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وءَالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّّّّّّّّّّّّّّّّؤْمِنِينَ).
ـ ماهو التابوت ؟ ماهي السكينه ؟
ـ ضرب العلماء فيها أوديه عديده جدا فوالله لايوجد شئ يعتمد عليه ممكن أن أنقله لكم كلها أقاويل منقوله عن مسلمة أهل الكتاب لايُدْري صحيحها من سقيمها قويها من ضعيفها لكن نقول جملة إن الله جل وعلا أعطى طالوت قرائن لايستطيع معها بنوا إسرائيل أن يردوا ملكه منها تابوت كان ينصرون به كيف هيئة التابوت لانعلم فيه سكينه قد تكون السكينه بمعناها العربي المعروف إن فيها طمأنينه وقد يكون غير ذلك كما قيل إنها ريح وقيل إنها طائر وقيل غير ذلك .(11/12)
(وَبَقِيةٌ مِّّّّّّّّّّّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وءَالُ هَارُونَ) قيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاد من الألواح التي كان كتب فيها التوراة لموسى هذا محتمل لكنني لا أجزم به . أخذ طالوت الجيش يعبر بهم نهر الأردن لمقابلة العمالقه الذين يقودهم جالوت.
الدنيا أصلا قائمه على الإمتحان وقلنا مرارا إن الله مع خلقه يعني في ابتلاء الله لخلقه دوائر فأنت كلما نجحت في دائرة ضيقه اتسعت الدائر فإذا نجحت في دائره أوسع تزيد الدائره وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه والله يقول : ( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون ) هذا كلام يطول شرحه لكن يعني على الإجمال أنا أتكلم هذا طالوت وهو بالجيش كانوا ثمانين ألفا ذهب ليحارب بهم فمر على نهر قال لهم:( إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ) .(11/13)
قسمهم كم صنف ؟ ثلاثة أصناف قوم سيشربون وقوم لن يشربوا أبدا وقوم يطعم هنا بمعنى يذوق لأن يطعم ماتجي في اللغة يطعم بمعنى يشرب وإن قال بها بعض الفضلاء لكنه غير صحيح يطعم بمعنى يذوق (وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ) . هؤلاء الثلاثة أصناف الذين لم يشربوا بالكليه قطعا سيكونوا في الجيش والذين سيغرفوا غرفة باليد يعني ممكن يقبل وأما الذين شربوا من النهر واغترفوا غرفا كثيرا فهؤلاء لامكان لهم في جند طالوت هذه قيسها على الدنيا فالدنيا مثل النهر مثل ماذا ؟ مثل هذا النهر الذي اعترض بني اسرائيل فمن شرب منه بالكليه لا مكان له في الآخره ومن أخذ شيئا بالمقدار الذي يبلغه إلى الله سيصل في الآخره ومن لم يشرب منه أبدا انتفى عنها سيصل لكن الأوسط أفضل لأنه هدي ماذا ؟ هدي الأنبياء يقولون في الأمثال الدارجه وأنا قلت هذا مو تفسير أنا أتكلم الآن عن أعلام القرآن يقولون إن رجلا فقيرا رأى امرأة حسناء ولا أدري إن كان قلت هذا قبل أولا جميله جدا تفتن فقال لها أريد أن أتزوجك فوافقت وهو غير مصدق أنها تقبل به فأخذها إلى المأذون لما أخذها إلى المأذون فتن بها المأذون فعرض عليها نفسه فأقبلت وتركت الفقير فذهب الفقير فاشتكى المأذون على القاضي فلما أُحضر الثلاث فتن القاضي بها أعظم من فتنة المأذون فطلبها لنفسه فذهب المأذون والفقير يشتكيان القاضي للأمير للوالي فذهب وقال : أين هذا القاضي الذي يراد به الخير فيجبل الناس على الشر فلما رأه الأمير إزداد بها فتنه وطلبها لنفسه فذهب الناس إلى العامه حتى يستعينوا بهم إلى الأمير فكل رجل من العامه أخذ يطلبها لنفسه ففرت من أمامهم وهي تقول " أنا الدنيا الكل يطلبني ولست مكتوبة لأحد " فهمتم المثل الآن مو معقول أنه ودي أحدثكم عن حكاوي الصبيان في مسجد لكن القضيه قضية أن هذه هي الدنيا لايوجد أحد إلا ويتعلق بها وهي أصلا تفر من الجميع(11/14)
فكلما أتعبت نفسك وراءها أكثر تبتعد وإن تركتها ستأتيك وهي راغمه إن تركتها هي تأتيك وهي راغمه وإن أنت جريت ورآءها لن تنال منها إلا ماكتب لك كان رجل من الصالحين معه ناقه فيها خطام مسافر فدخل أدركته الصلاة وقد خرج الناس فأراد أن يصلي في مسجد نفرض أنه مثل مسجدنا خاف على الناقه فنادى غلام قال له اقبض لي الناقه حتى أصلي ركعتين وأعود فدخل يصلي هذه حقيقه مو مثل الاولى دخل يصلي هذا الغلام عرف أن الناقه مايمديه يسرق لأنه مايمديه يدسها هنا ولاهناك إلا خرج فأخذ الخطام وشرد به خرج الرجل وجد الناقه ولم يجد الخطام ولم يجد الغلام فعرف أنه سرقها فذهب إلى السوق ليشتري خطاما جديدا لناقته الذي سرق الخطام قبل أن يخرج الرجل من المسجد أخرج دينارين قال أكافئ بهما الغلام الذي انتظرني حتى أصلي فلما أخرجهم وهو أتى يبحث عن الغلام كما قلنا وجد الناقه بدون خطام بدون غلام رد الدينارين في جيبه ذهب إلى السوق ليشتري خطاما على الجهه الأخرى الغلام أخذ الخطام وأعطاه إلى مايسمى في زماننا هذا من يحرج واختفى قال له بيعه ولوبدينارين فأخذ يبيعه جاء الرجل يشتري خطاما وجد نفس الخطام واشتراه بدينارين وأخذ الخطام إلى أين ذهب الدينارين الآن إلى الغلام فقال الرجل : لاإله إلا الله سبحان الله والله أكبر يأبى ابن آدم إلا أن يستعجل الرزق قال : لو صبر لأخذ الدينارين حلالا . ألآن أخذ ماكتب له نفس الدينارين لكنه لأنه استعجل لم يأخذها حلالا أخذها حلالا أخذا ماذا ؟ حراما ولوصبر قليلا لأخذهما حلالا وهذا هو سؤ الظن برب العلمين جل جلاله.
كان الجيش ثمانين ألف مابقي أحد ماشرب إلا ثلاثمائه وبضعة عشر رجلا كما قلت في الدرس السابق هم عدد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في يوم بدر أقبلوا على جالوت وجنوده قال الله تعالى (وَلَمَّّّّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ).(11/15)
ـ قلنا إن الإبتلاءات لما نجحوا في اختبار النهر كان حريا بهم أن ينجحوا في اختبار جالوت لأن اختبار النهر مقدمه لما قبله كان في الجيش رجل يقال ايبشي ايبشي هذا والد داوود عليه السلام وعنده عشره من الولد جاء بسبعة منهم في المعركه أصغرهم من ؟ أصغرهم داوود داوود عليه الصلاة والسلام كان معه المقلاع تعرفون المقلاع ؟ المقلاع زي الجلد الطويل يوضع فيه حجر خلاص أشبه بالنبيله لكنه يدار دوران اللي دايم يعملها أبناء الإنتفاضه فوضع حجرا يقال في بعض الرويات ولاأجزم أنه كان وهو ذاهب إلى المعركه الحجر يناديه يقول خذني ياداوود تقتل بي عدوا الله فرد الحجر الأول رد الحجر الثاني رد الحجر الثالث الحجر الثالث أو الرابع أخذه معه فلما أخذه معه برز جالوت كالعاده فر الناس منه استأذن داوود جالوت فلم يأذن له لقصر قامته وصغر سنه ثم أذن له بعد الحاحه فضرب داوود جالوت بمقلاعه فقتله قال الله في محكم التنزيل ( وَقَتَلَ دَاوُ,دُ جَالُوتَ ) قلت في السابق أن أسباط بني إسرائيل انقسم فيهم ماذا؟ الملك والنبوه الملك في سبط والنبوه في سبط إكراما من الله لداود جمع الله جل وعلا في داود مافرقه في السبطين قال الله جل وعلا ( وَءَاتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ) فجمع الله لداود الملك والنبوه عليه الصلاة والسلام من هنا نعلم أن طالوت وجالوت علمان أحدهما لمؤمن وهو طالوت والآخر لكافر وهو جالوت هذا يذكر بالملك.(11/16)
ـ وأول ملوك المسلمين من هو ؟ معاويه أول ملوك المسلمين معاوية من قبل معاويه يسمى ؟ يسمى خليفه قيل للإمام أحمد رحمه الله أكان معاويه خليفه قال لا إنما كان ملكا من ملوك المسلمين وقد اتفق الناس على أن معاويه رضي الله عنه هو أول ملوك المسلمين معاويه رضي الله عنه وأرضاه بصفته أول ملوك المسلمين نقول كيف إن الأمور تجري بقدر الله أمه هند بنت عتبه يهدي الله لنوره من يشاء مكثت مده تحارب الدين ثم هداها الله للإسلام قبل الإسلام كانت متزوجه من رجل قبل أبي سفيان والد معاويه كانت متزوجه من رجل يقال له الفاكه بن المغيره الفاكه بن المغيره هذا كان كريم فكان واضع خباء بجوار بيته يدخله الناس من غير استئذان فذات يوم كان الفاكه مع هند زوجته ثم قام لبعض شأنه فجاء رجل ضيف دخل المجلس لم يجد الفاكه فرأى هندا دون أن تراه فر هاربا خرج قابله الفاكه وهو راجع فظن أنه كان على علاقه مع زوجته هند بنت عتبه فدخل عليها فضربها يسألها عن الرجل وهي تحلف أنها لم ترى شيئا فأوجعها ضربا هذا في مكه هذا قبل الإسلام في مجتمع جاهلي كان يحرص على قضية الشهامه والعرض أبوها عتبه أخذها لوحدها "خَلَصُوا نَجِيًّّّّّّّّّّّّّّا " بتعبير القرآن قال لها : يابنتي والإنسان لابد أن يكون واضح مع أبنائه وبناته لن تحل مشكله وأنت مغمغم على الموضوع ماعاد يفهم شئ ولذلك بعض الفضلاء يأتيك يستشيرك يخفي نص الموضوع ما يمكن أن أعطيك إشاره أو رأي دون أن أفهم الموضوع بالكامل فقال له : يابنتي إن كان هذا الفاكه قدر رماك حقا فيه بينك وبين ذلك الرجل علاقه فأخبريني أنا أدس له من يقتله فينتهي الموضوع وإن كان كاذبا في دعواه فأخبريني فأنا أحتكم إلى كهان العرب فقالت ؟ يا أبتاه حلفت له بما يكون يحلفون به من أصنام الجاهليه أنه ماحصل شئ فصدقها أبوها وهي من بيت يعني فلما صدقها أبوها ذهب إلى الفاكه وقال له إنك رميت ابنتي بأمر سوء فنحتكم أنا وأنت إلى أحد كهان(11/17)
العرب وافقوا أخذوا معهم وفد الفاكه من بني مخزوم وعتبه بن أبي ربيعه من بني عبد مناف أخذت هند معها نسوة يسلينها في الطريق حتى وصلوا إلى أحد كهان اليمن قبل أن يصلوا إلى الكاهن تغير وجه هند فخاف أبوها أن تكون قد تراجعت فسألها قالت يا أبتاه والله إن الأمر كما أخبرتك بالأول لكننا نفد على رجل يكذب أو يصدق يعني هذا الذي نأتيه كذلك مالذي يدريه فاختبر أبوسفيان الكاهن قبل أن يعرض عليه القضيه فنجح في الإختبار طبعا مافيه داعي نخبركم بالإختبار بعد ذلك عرضت عليه النساء وفيهن هند فكان هذا الكاهن يمشي يضرب النساء حتى وصل إلى هند فقال:" انهضي لارسحاء ولازانيه ولتلدن ملكا يقال له معاويه" ففرح الفاكه وتشبث بها فرمته من يدها قالت : والله لن يكون منك يعني يولد معاويه بس مايأتي منك فلما رجعوا إلى مكه تزوجها أبوسفيان ابن الحارث فبقيت هذه في نفسها مقولة الكاهن فكانت إذا لعبت معاويه معاويه كان ضخم ويمشي يراه أبوه أبوسفيان ويقول إن ابني هذا سيصبح ملك فتقول هند ثكلته إن لم يملك العرب والعجم فحكم معاويه حتى ملك العرب والعجم عُمِّر رضي الله عنه وأرضاه بلغ من العمر سبعا وسبعين سنه حتى كان آخر أيامه يخطب وهو قاعد لأنه كثر لحمه واشتهر بحلمه.
ـ والدنيا تتقلب فأحيانا يجي معلم هذه فوائد عامه يشد على الطلاب مايأمل في الطالب أي شئ مايترك كلمه إلا يقولها فيه ترى أنت ماتدري أن هذا الذي أنت اليوم تهينه أربع وعشرين ساعه وتسخر منه ماتدري غدا ماذا يصبح قد تأتي أنت بين يديه.(11/18)
ـ معاويه رضي الله عنه لما أسلم وجاء المدينه جاء أحد ملوك العرب أسلم متأخر جاء المدينه وأسلم عند النبي صلى الله عليه وسلم والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعامل الناس على قدر منازلهم خاصه حديثي عهد الإسلام فهذا الملك من ملوك العرب زعيم في قبيلته قال النبي عليه الصلاة والسلام لمعاويه خذه إلى بيت فلان يعني يستريح في بيت فلان ومعاويه في تلك الأيام توه من المسلمين المتأخرين وتوه مهاجر ولم يكن له صيت فلما دخل مع هذا قال معاويه : لرجل أردفني كان شمس سأله قال: أنت من أرداف الملوك هذه كلمه عند العرب إن فيه ناس خاصين به قال : لا قال: خليك مكانك قال : طيب أعطيني نعل معاويه يقول له أعطيني نعل قال: لا أعطيك نعل ايش يكفيك أن تستظل على أنفه العرب أول تستظل بظل الناقه يعني الناقه وهي ماشيه لها ظل طبعا الظل يمشي لأن الناقه تمشي قال : خلاص يعني اجعل وطاءك على الظل مافيه داعي تلبس نعال يقول معاويه أخذته حافي والشمس حاره حتى أوصلته كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم مرت الأيام حكم معاويه دخل هذا على أنه واحد من الرعيه على من ؟ على معاويه فأكرمه معاويه وأعطاه أصلا معاويه كان حليما لكن هذا موضع شاهد لاتدري أين يضع الله جل وعلا أمره في الخلق المقصود أن طالوت وجالوت علمان من أعلام القرآن أحدهما لأحد المؤمنين وهو طالوت والآخر لأحد الكفار وهو جالوت .
ـ والعلم الثالث :ـ
أبولهب وهذا مر معنا في بعض الدروس لكني أتكلم عنه إجمالا أبولهب الوحيد الذي كني في القرآن كما قال السيوطي في الإتقان لايوجد أحد ذكر بكنيته في القرآن إلا أبولهب وهو أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ وهنا نتكلم فوائد متعدده قبل أن شرع في الكلام عن أبي لهب: النبي عليه الصلاة والسلام كان له عشره أعمام وعدة عمات اختلف الناس في ضبطهم قيل أربعه وقيل غيرها نبدأ بالعمات من العمات :ـ(11/19)
صفيه وصفيه هذه أم من ؟ أم الزبير بن العوام وهي متفق على أنها أسلمت ، وضباعه بنتها ضباعه ، ومن عمات النبي صلى الله عليه وسلم عاتكه وهي التي مرت معنا في يوم الفرقان أنها رأت ماذا؟ رأت الرؤيا وعاتكه اسم تكرر كثيرا في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وقلنا إنه تسع من النساء يدلين في النسب الشريف اسمهم عاتكه منهن ثلاثة من قبيلة سليم فقط ثلاثه لهم دور في أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وجداته اسمهن عاتكه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يوم حنين مفتخرا أنا ابن العواتك من سليم عواتك جمع عاتكه وهاذان بعض عماته من الثابت ، وقال له عمه يقال لها أروى ولكن اختلف هل ثبتت أم لم تثبت فلا يوجد كثير أخبار عن عماته.
أما أعمامه فعشره أدرك الإسلام منهم أربعة :ـ العباس ، وأبوطالب، وحمزه ، وأبولهب . أسلم حمز وأسلم العباس متأخرا كنية حمزه أبوعمارة وكنية العباس أبوالفضل وعبدالعزى لقبه أوكنيته أبولهب واسمه عبد العزى وإنما كني ولقب بأبي لهب لأنه كان جميلا جدا وكانت وجنتاه تشرقان كاللهب كالضياء فسمي بأبي لهب من هذا الباب والرابع أبوطالب واسمه عبد مناف أبوطالب وأبولهب كلاهما لم يسلما إلا أن أباطالب كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول :ـ
وَلَقَد عَلِمتُ بِأنَّ دِينَ مُحمَّدٍ
مِن خَيرِ أَديَانِ البَرِيَّةِ دِينَا(11/20)
ونصرته للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهره إلا أنه مات على الكفر وبعض الناس في عصرنا يجعل من قضية موت أبي طالب فرصه للقدح في الناس والمعنى بتوضيح أكثر أنه يقول أن أبا طالب مات على الإسلام وإن قلنا إنه يوجد من العلماء من قال بهذا لكنه يقول: إنه الذين لايقولون بأن أباطالب مات على الإسلام هؤلاء يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم وهذه تهمه عظيمه للناس لايوجد مؤمن يبغض النبي صلى الله عليه وسلم مايجتمع أصلا إيمان مع بغض النبي صلوات الله وسلامه عليه لكن نقول إن النصوص التي بين أيدينا تدل على أن أباطالب مات على الكفر هذا أمر ظاهر متظافر ونحن لسنا أرحم برسول الله من الله جل وعلا الذي اختار أن يموت أبوطالب على الكفر هذا أبوطالب . بقينا في أبولهب الذي هو موضوع القضيه .(11/21)
ـ أبولهب لما أنزل الله جل وعلا على نبيه ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) وقف صلى الله عليه وسلم على الصفا فنادى في قريش "يا صباحاه " ثم بين لهم ما أنذر كان المفترض أن يكون عمه أول الناس نصرة له على الأقل يسكت كما سكت أبوطالب لكنه قال له والناس حاضرون وهو عمه قال : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا وانصرف فتفرق الناس مع أبي لهب وكانت له زوجه يقال لها أم جميل تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ( تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبِ وَتَبَّ ) تبت بمعنى :ـ خابت وخسرت وهلكت وقلنا مرارا في درسنا في هذا المسجد المبارك وغيره إن هذه الآيات من أعظم إعجاز القرآن لأن الله أخبر فيها أن أبالهب سيكون مصيره إلى النار ومع ذلك لم يسلم أبولهب لا ظاهرا ولا باطنا ولم يستطع أن يقول ولو كذبا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ومات شر موته أبولهب هذا قبل أن أعرج على فوائد القصه كانت له جاريه اسمها ثويبه لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم جاءته ثويبه تخبره أن آمنه زوجت أخيه عبدالله ولدت غلاما ففرح أبولهب وأعتقها فلما مات رآه العباس ابن عبدالمطلب رأى أخاه أبالهب في المنام فسأله مافعل الله بك قال : لم أرى بعدكم إلاشرا إلا أنه في كل يوم اثنين يخفف عني بأنني أُسْقى من هذا الموضع مابين الإبهام والسبابه لأني أعتقت ثويبه جاريتي لما بشرتني بمولد محمد صلى الله عليه وسلم فانظر كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه على العكس الآن من الصوره تفهم كذلك أن الله جل وعلا عزيز ذو انتقام فهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم أخو أبيه ولهذا قبل أن أبين الإنتقام الله جل وعلا قال : ( قُلْ يَآأََيُّّّّّّّّّّّّّّّّهَا الْكَافِرُونَ ) ( قُلء إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ) ( قُل يَآ أَيُهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّّّّّّّّّّّّّ مِّن دِينِي ) (قُل....) (قُل....) إلى غير ذلك مما لايخفى عليكم (قُلْ(11/22)
يَاعِبَادِيَ الَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّذِينَ أَسْرَفُوا.....) لكن الله جل وعلا يعلم نبيه الأدب فما قال الله لنبيه قل يا أبالهب خاطب الله أبالهب مباشرة ونحى نبيه جانبا حتى لايقال إن محمدا يسئ الأدب مع عمه ـ واضح ـ حتى لايقال إن النبي صلى الله عليه وسلم يسئ الأدب مع عمه لأن العم صنوا الأب أخو الأب وحق الأب عظيم ولهذا قلت مرارا إن من كرامة الله لنبيه أن أباه مات وهو صغير لأنه لايبقى لأحد يمشي صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أعلى منه له حق أبوه ميت وأمه ميته وهما لهما الحقان ولوقدر أنهما لوعاشا عاشا كافران لوقدر هذا فإنهما يبقى لهما حق كما كان حق والد إبراهيم على إبراهيم لكنه صلى الله عليه وسلم عاش يتيما الأبوين حتى لايبقى لأحد عليه فضل اللهم إلا عمه العباس وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعظم العباس ويجله تعظيما وورث أبوبكر وعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه لعمه العباس وكان عمر رضي الله عنه يستسقي بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وإذا دخل فرش له بجواره وأجلسه لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم فنقول للعم حق كما أن للخاله حق عظيم بالنسبه لقضية الوالده موضع الشاهد قال الله ( تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبِ وَتَبَّ ) تكفل الله بالجواب والرد على أبي لهب ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وسيله في الخطاب.(11/23)
ـ موضع الشاهد: قلت إن أبالهب لما نازع الله وحاربه قال الله جل وعلا له ذلك ولم ينفعه قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينفعه ذلك من قرابته من النبي صلى الله عليه وسلم على هذا ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا عزيز فلا ينبغي لأحد أن يقع في قلبه السخريه من آيات الله أو رسله أو محاولة أن ينازع الله جل وعلا في شئ . كان فيه رجل قديم اسمه:ـ محمد بن زكريا الطبيب أعاذنا الله وإياكم منه هذا الرجل تلي عليه قول الله جل وعلا ( قُلْ أرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍ مَّعَينٍ ) فقال : عياذا بالله مباشره قال :تأتي به الفؤوس والمعاول فأذهب الله جل وعلا في ساعته ماء عينيه فبقي حياته كلها أعمى قال يستهزئ بالقرآن (فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍ مَّعَينٍ ) قال: تأتي به الفؤوس والمعاول يعني : نحفر فما أن أكملها إلا وذهب ماء عينيه فاصبحتا بيضاويتين وبقي أعمى إلى أن مات فالله جل وعلا يقول في ذاته العليه:"إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) والمؤمن الحق يراقب الله جل وعلا في كل شيء حتى لو وقعت منه المعصيه ولا يسلم من المعاصي أحد كلنا خطاء تقع منه وهو منكسر تقع منه وهو خائف تقع منه وهو وجل تقع منه وهو يخشى الله و يخشى عذابه هذا هو المؤمن شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالفرس المعقود في مكان ما. فمهما ذهب يعود إلى نفس مربطه .والمكان الذي فيه حبله هذا المؤمن الحق، أما منازعة الله هذا هو عين الوبال ومحل السفال عياذً بالله ،قيل للإمام أحمد رحمه الله أطلبت هذا العلم لله ؟ قال :الله عزيز لا أستطيع أن اقول هذا إنما أقول هو شيء حببه الله إلي فصنعته هو شيء حببه الله إلي فصنعته ولم يقل وهو أحمد أنني طلبت هذا العلم لله ،هذا مايتعلق بالفائدة من القصة وهي أهم مافي القضية أن الإنسان يراقب الله جلا وعلا ولا يتكل على شيء من أمور الدنيا .
ـ رابع الأعلام وهو الأخير :ـ(11/24)
علم على مكان قال الله جل وعلا : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاَ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) بكة هنا بمعنى / مكه ،بكة بمعنى / مكه وهي علم على مكان كما هو معلوم .
ـ مكه ذكر الله جل وعلا في القرآن المدينه وسيأتي الخبر عنها وذكر مكه بتعبير الباء بعض العلماء يقول إن جرت لغة العرب أن الباء تحل بدل من الميم يقولون طين لازب بالباء ويقولون طين لازم بالميم وقال بعض العلماء إن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت وقال ءاخرون لا بكة اسم للمسجد والصحيح إن شاء الله أن بكة اسم لمكة كلها هذه البلده بإجمال نتكلم لا أتكلم عن البيت العتيق نتكلم عن مكة:ـ
ـ من خصائصها:ـ
ـ أن الله جل وعلا حرمها يوم خلق السموات والأرض وهذا من أعظم دلائل اسصطفاء الله لتلك البقعة قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) ولم يحلها جل وعلا لأحد من الخلق إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم حلا مؤقتا ساعة من نهار في يوم الفتح لما انتهى الفتح ردها الله جل وعلا حرام ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( قال : فمن أخبركم أن النبي قاتل فيها أخبروه أن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار ) هذا الأول.
ـ الأمر الثاني :ـ حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره عن الله أنه لايعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا تأخذ لقطتها إلا لمعرف إلا لمنشد فالإنسان إذا رأيت أي شئ في مكة اتركه على ماهو عليه.(11/25)
ـ من عظمتها عند الله أن الله جل وعلا لم يبحها لأي أحد من الجبابره عبر التاريخ كله حبس عنها الفيل ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم كرامة الله له لما دخلت القصواء مكة قال عليه الصلاة والسلام إن الله حبس الفيل على مكة وسلط عليها محمد وأصحابه ولما بركت القصواء ومر معنا هذا في درس سورة الفتح في يوم الحديبيه وقال الصحابه خلعت القصواء قال صلى الله عليه وسلم :( والله ماخلعت القصواء وماذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل) وأهل الفيل قدموا بالفيل يريدون مكة مع أنه بالعقل الذين أتوا أبرهة وجيشه كانوا على أي مله ؟ كانوا نصارى أهل كتاب وقريش كانت وثنيين كان القرشيون وثنييون ومع ذلك نصر الله الوثنيين على أهل الكتاب هنا لكرامة ماذا ؟ لكرامة مكة وإلا الأصل أن أهل الكتاب أقرب إلى الملة من الوثنيين كما في آية :( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ...) لكن الله جل وعلا حبس الفيل عن مكة أين مايوجهه يوجهه إلا إلى الكعبه فلا يقدر على هذا إلا الله قال : ( أَلَمْ تَر َكَيْفَ فَعَلَ رَبُّّّّّّّّّّّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ )
وكلمة ضل في اللغة / تأتي على ثلاث معان:ـ
ـ تأتي ضل بمعنى ضد الإيمان ضد الهدايه العامه التي هي هدايه الإيمان وهذا أكثر استعمال القرآن ومنه قول الله تعالى : ( غَيْر ِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الْضَّآلِّينَ )
ـ وتأتي ضل بمعنى عدم إصابة هدف محدد ومنه قول أبناء يعقوب عن أبيهم : ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) لايقصدون أن أباهم كان كافرا لأنهم لو قالوا هذا كفروا لكنهم يقصدون أن أباهم ما أصاب الصواب في قوله إن يوسف مازال حيا .(11/26)
ـ وتأتي ضل في القرآن بمعنى اضمحل وأصبح هباء ومنه قول الله جل وعلا هنا: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ) وقوله سبحانه في السجده :( وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي إذا ذبنا واضمحللنا في الأرض وذهبنا هباء منثورا أننا سنعاد المقصود أن الله سلط عليهم الطير وقد قلنا في درس سابق إن الأصل في الطير أنه مصدر أمان فلايوجد أحد يخوف بالطير فلما أرادوا أن إلى أعظم مكان آمن وهو الكعبه أن يهدموه سلط الله عليهم الخوف من حيث لايحتسبون فأضلتهم الطير وهم يعتقدون أنهم في أمن ليست ريح يخوفون بها ولا كواسر وسباع ضواري تأكلهم وإنما طير من الطيور فلما أصابهم الإطمئنان بعث الله جل وعلا عليهم حجارة من سجيل.
ـ جعل الله جل وعلا في مكة بيته الحرام وهو أول بيت وضع للناس ولايوجد في الشرع بيت يطاف حوله إلا البيت العتيق .
ـ وسمي بالعتيق :ـ لأن الله جل وعلا أعتقه من الجبابره أن يصلوا إليه أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا البيت لا يسلط عليه كافر إلى قيام الساعه لا يسلط عليه كافر إلى قيام الساعه ولهذا الحملات الصليبيه دخلت بيت المقدس ووصلت إلى أطراف الجزيره وأفتتحت الشام مع فضل الشام وماجاء فيه لكن لم تستطع أي حمله صليبيه أن تصل إلى مكة ولن تستطيع إلى قيام الساعه لأن مكة بيضة الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عهدا من ربه ألا يسلط على المسلمين من يستبيح بيضتهم أعطاه الله جل وعلا هذا العهد فلو جبلت أمم الأرض من أقطارها على أن يدخلوها لن يستطيعوا أن يدخلوها هذا خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يؤذن بقيام الساعه يأتيها ذو السويقتين من أرض الحبشه يهدمها ويقلعها حجرا حجرا ويستخرج كنوزها أي الكعبه بعد ذلك لا يطاف بالبيت أصلا ولايقال لاإله إلا الله ولايبقى على الأرض أحد مسلم ثم على هؤلاء هم شرار الخلق تقوم الساعه.(11/27)
ـ جعل الله جل وعلا بيته وجعل شعائر عظمى مر معنا منها المشعر الحرام ـ ومنى ـ والصفا والمروه ـ ومقام إبراهيم كما قال الله:( فِيهِ ءَايَاتٌ بَينَاتٍ مَقَامُ إِبَرَاهِيمُ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنا ).
ـ منع الله شرعا أن يدخلها الكفار قال الله جل وعلا :( إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِم هَذا ) فلا يحل لأحد أن يدخل رجلا مشركا أي كان من أهل الكتاب أو وثني أو غيره أن يدخل مكة بخلاف المدينه لايوجد دليل شرعي على أن الكفار يمنعون من دخول المدينه لكنا كما قلنا مرارا هذا رأي رآه ولاة الأمر وفقهم الله أن لايدخلها أحد غير المسلمين والأمر عليه وإلا لايوجد مانع شرعي يمنع دخول أهل الكفر إلى المدينه لأن أبولؤلؤة المجوسي مجوسي من اسمه وعابد نار وقتل عمر رضي الله عنه كان يعمل حدادا داخل المدينه وعمر رضي الله عنه لما بلغه أنا أبا لؤلؤه هو الذي قتله كان يعرف أنه مجوسي قال : الحمد لله الذي لم يجعل موتي أو قتلتي على يد رجل سجد لله فهو يعلم أن أبا لؤلؤه كان كافرا وأنه كان يسكن المدينه قال الله تعالى : (:( إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِم هَذا ) هذا من خصائصها هذا جملة مايمكن أن يقال عن البلد الحرام وتعظيمه من أعظم تعظيم شعائر الله .
ـ جعل الله من خصائصها أن الصلاة في مسجدها بمائة ألف ولايوجد هذا إلا في المسجد الحرام وجمهور العلماء على أن الصلاة في أي موطن في مكة في المسجد أو حتى في البيوت لأهل الأعذار الصلاة فيها بمائة ألف صلاة وأما المدينه فالصلاة في المسجد بألف في المسجد النبوي فقط دون الصلاة في أي مكان خارج المسجد .خارج المسجد لا تحسب الصلاة بألف صلاة واختلف الناس في ساحات المسجد الموجد الآن والصواب أن ساحات المسجد هذه الصلاة فيها بألف .(11/28)
ـ لأن الفقهاء من الحنابله يقولون إن رحبة المسجد أي المحيطه به لا تخلوا من أحد حالين :ـ
ـ إماأن تكون مسورة ولها أبواب فتلحق حكما بالمسجد .
ـ وإن لم تكن مسورة وليس لها أبواب فلا تلحق بالمسجد والساحات التي حول الحرم النبوي مسورة ولها أبواب فالصواب أنها تلحق حكما بالمسجد لكن من أتى إليها يدخل المسجد فإذا ازدحمت كما يصلي الناس التراويح والأعياد في الساحات فهذه إن شاء الله داخله في المسجد حكما .والصلاة فيها بألف صلاة.
قلنا جمهور العلماء على أن مكة الصلاة فيها بمائة ألف صلاة في سائر أنحيتها.
ـ بقينا في السيئه: المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السيئه في مكة بمائة ألف لكن أكثر أهل العلم على خلاف هذا لأن الله قال في آيات محكمات ( وَجَزَاؤُ سَيِّئَةٌ سَيِّّئَةٌ مِّثْلُهَا ) فلا يرد محكم القرآن برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لكن السيئه فيها تغلظ كيفا ولا تغلظ كما أي لايكثر عددها لكن قد تكثر تغلظ كيفية كما بينا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا بإمرأة أخرى وإن كان كل حراما المقصود من هذا هذه مكة بلد الله الحرام الذي عظمه الله جل وعلا يوم خلق السموات والأرض وقلت أنني في هذه الأعلام أعطي إطلالات تاريخيه ماقدر الله لنا أن نقوله فيها...
هذا ماتيسر إراده وتهيأ إعداده والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله....(11/29)
تفريغ سورة القلم1من الآية (1) إلى الآية ( 33)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ خالقِ الكون بما فيه وجامع الناس ليومٍ لا ريب فيهِ وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .....
أما بعدُ
فهذا لقاءٌ مُبارك يتجدد حول لقاءٍ في تأُمُلاتنا حول كلام ربنا جل وعلا والسورةُ التي نحنُ بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المُبارك هي سورة " ن ، والقلم " وهذا الاسم الذي يجمع ما بين الحرف الذي صُدّرت بهِ الآية وما بين أول القسم هو الاسم المُختار في اسم هذهِ السورة ، وهي سورةٌ مكيةٌ بإجماع وهي من أوائل ما أُنزل وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنها نزلت بعد فواتح اقرأ..
وقال آخرون أنها نزلت بعد المُدّثر ..
وهذا الرأي الثاني الذي يقول أنها نزلت بعد المُدّثر هو الذي إليهِ نميل ونختارهُ والعلمُ عند الله ولهذا شرعنا في بيان سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم بيّنّا سورة المُدّثر وها نحنُ بحمد اللهِ وعونهِ نُبين سورة " ن والقلم "
في بعض المصاحف تُكتب نون وبعضُ أهل العلم يُسميها سورة القلم والأكمل أن نُسمّيها " نون والقلم " بهذهِ ورد الأثر الصحيح .
صدّر الله جل وعلا هذهِ السورة بحرف نون وحرف نون لهُ نظائر في القرآن إمّا حرف واحد مثل ( ص) و( ق) وإمّا أكثر من حرف كقولهِ جل شأنهُ ( ألم ) ( حم ) ( كهيعص ) وأضرابُ ذالك وهذهِ الحروف تُسمّى عند أهلُ العلم بالحروف المُتقطعة لكنّ الخلاف في معناها .....
مبدئياً نقول سورة نون أول سورةٍ أُنزلت بدءٍ بحرفِ مُقطّع سورة نون والقلم أول سورة أُنزلت مبدوءة بحرفً مُقطّع وهو حرفٌ واحد حرف ( ن ) لأنها من أوائل ما أُنزل فقطعاً أن تكون حاملةً لهذا الأمر..(12/1)
العلماء يقولون اتفقوا على أن هذهِ الحروف من متشابهة القرآن لكنّهُم اختلفوا في معناها اتفقوا على أنها من مُتشابهة القرآن لكنّهُم اختلفوا في معناها ،، والذي يظهر والعلمُ عند الله أن أفضل ما يُمكن أن يُقال في هذهِ الحروف يُجمع في أمرين :
الأمر الأول :.:
أن يُقال أن الله أراد بهذهِ الحروف أن يقول للُقرشيين ولمن يقرأ القرآن إن هذا القرآن أحرفهُ من جنس كلامكُم أحرفهُ وكلماتهُ من جنس كلامكُم فماهية القرآن مأخوذة من هذهِ الأحرُف تأكيداً لقولهِ جل وعلا ( إنّا أنزلناهُ قرآناً عربيا ) هذا منحى من مناحي التفسير .
المنحى الآخر :
وهو تميل إليهِ النفس لكن الإشكال في أنهُ لا توجد استعمال عربي لهُ وهو أنهُم قالوا إنّ هذهِ الحروف أشبه بمثابة التنبيه أن هذهِ الأحرُف بمثابة حروف التنبيه حروف التنبيه العرب تقول ألا وكذا ، أما والله ، يستفتحون بها الكلام حروف الاستفتاح والتنبيه التي يُؤتي بها في مُقدّم الكلام ، فقالوا إن هذهِ الأحرُف هي نظير هذهِ الأحرف التنبيهيه التي تستخدمُها العربُ في كلامها .
وهذا الأمر يجعلنا نقبلهُ من وجه ونردهُ من وجه ::
نقبلهُ لأن جرى في كلام العرب في سننها ونسق كلامها أنها تستخدم أحرُف التنبيه والاستفتاح بلا خلاف .
وأما المانع وهو كونهم لم يُنقل لنا فيما نعلم أنهم استفتحوا كلام بمثلِ هذهِ الحروف يقولون أما ، ألا وأضرابهُما لكنّهم لا يقولون ن ، ولا ق ، ولا ص ، لم يُنقل عنهم .
فعلى هذا يُقبل من وجه ويُرد من وجهٍ آخر وقد قُلنا أن العلم مضمار تجري فيهِ أقدام العُلماء وكلٌ يدلي بدلوهِ والعلُم الحقُ عند الربُ تبارك وتعالى .
وكان الأمين الشنقيطي رحمةُ الله تعالى عليه ولعلّكم اطلعتُم على أضواء البيان يُكثر من مقولة والعلمُ عند الله ليُبين أن المسألة مسألة أخذٌ وعطاء واستنباط بمقدار ما يفيء اللهِ جل وعلا بهِ على عباده .
ثم اقسم تبارك وتعالى قال ( والقلم وما يسطرون )(12/2)
والقسم يكون بالواو ويكون بالباء ويكون بالتاء وأحرفُ القسمِ من حيث العمل النحوي تجرُ ما بعدها فكلُ مقسومٌ بهِ مجرورٌ نحوياً كل مقسوم بهِ حالتهُ النحوية أنهُ مجرور ( والشمسِ ــ والفجرِ ــ والليلِ ) وهنا ( والقلم ).
وليست إذا قُلنا أن سورة القلم نزلت بعد المُدّثر فليس القلمُ هنا أول ما أقسم الله بهِ في القرآن لأن الله قال ( كلاّ والقمر * والليل إذ أدبر * والصُبح إذا أسفر )
إذاً بدء الله إذا قُلنا إنّ المُدثّر نزلت قبل هذهِ السورة فيُصبح القسم بالليل والقمر والصُبح مُقدّم على القسم بماذا ؟ بالقلم حسب ترتيب النزول .
أقسم الله جل وعلا بالقلم فقال جل ذكرهُ ( والقلمِ ) كذالك جُرت ( والقلمِ وما يسطرون )
وما هنا موصولة بمعنى والذي يسطرون .
بقي الإشكال ما القلمُ الذي أقسم الله بهِ ؟
"أل" أيُها الأخُ الكريم تأتي إمّا للجنس وإمّا للعهد أل تأتي للجنس وإمّا للعهد .
فإن أتت للجنس تأتي جنس الشيء عمومهِ تعني جنس الشيء عموم الشيء ،،، وإن أتت للعهد فلا يخلو العهد أن يكون إمّا لفظياً وإما ذهنياً لا يخلوا العهد إما لفظياً وإما ذهنياً .
ففريقٌ من أهل العلم يقول إنّ المقصود بالقلم هنا جنس الأقلام التي يُكتبُ بها وهو تشريفٌ للكتابةِ عموماً وليس المقصودُ قلماً بعينهِ هذا قول فريقٌ من العُلماء ويحتجّون : من ضمن حُججهم أنّ هذهِ السورة أُنزلت بعد اقرأ بقليل بينهما سورةٌ واحده وقد قال الله جل وعلا في اقرأ ( اقرأ باسم ربكِ الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربُك الأكرم * الذي علّم بالقلم ) قالوا هذهِ السورة هي تشريفٌ للكتابة وهذا امتدادٌ لذالك التشريف فهذا قسمٌ من الله جل وعلا بالقلم .
هذا من أخذها على أنها أل لـ لماذا ؟
للجنس أخذها للجنس .(12/3)
آخرون قال أل للعهد لأي عهد ؟ لا يُمكن أن يكون لفظياً لماذا ؟ لأنهُ لا يوجد شيء قبلها لا يوجد شيءٌ قبلها حتى نُحيل اللفظ عليهِ ، فبقي العهد الذهني والعهد الذهني هُنا القلم أيُ قلم ؟ القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ ...
يُجاب عن هذا الإشكال ــ وهذي مزيةُ العلم أن ترد أن تُعطي الأمر ثم تردهُ بإشكال حتى تتعلم قضية كيف تأخُذ وتُعطي وتعاطى مع النصوص العلمية ــ
يُجاب عن هذا الأمر الذي قالوا أن المعهود الذهني هو القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ :
أُجيب بأن القُرشيين لا يعرفون القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ فأيُ معهودٍ ذهنيٍ هذا الذي يُخاطبون بهِ .
لكن يُقال أن القرآن لم ينزل يُجاب عن هذا الإشكال كذالك :
أن القرآن لم ينزل لحقبةٍ مُعينة فالعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأن القرآن سيبقى وسيُتلا وسيتناقلهُ الأجيال محفوظٌ في الصدور والكتُب لأجل ذالك قالوا أن الألف واللام هُنا للعهد الذهني وهو اللوح المحفوظ .
بأيٍ كان القولين ونقول والعلمُ عند الله فإن المقصود شرف الكتابة وفي القسم بالقلم بيانٌ أنّ هذا القرآن الذي الآن يُنزّل ويُتلا على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم سيُصبح ذات يومٍ مكتوبا ولهذا اتخذ النبيُ صلى الله عليه وسلم كتبة وحي لكن هُنا الكلام كلام عام يُخاطب الله بهِ القُرشيين لا يُخاطب بهِ النبي صلى الله عليه وسلم بصورة أولية...
وحتى تعرف الفرق :(12/4)
الله جل وعلا في سورة اقرأ لم يذكُر الكتابة قال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربُك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم ) وهو يُخاطب نبيهُ لم يقُل لهُ اكتُب وإنما رددّ لهُ القراءة كم مرة ؟ مرتين والقراءة هنا بمعنى التلاوة للقرآن القراءة هنا بمعنى التلاوة للقرآن ولم يقُل لهُ اكتُب ولذالك لم يكتُب النبي صلى الله عليه وسلم حياتهُ كُلها لكنّهُ كان تالياً قارىءً لماذا ؟ للقرآن .
أما هنا ليس المُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بصورةٍ أولية وإن كان القرآن أُنزل عليهِ وإنما هذا قسمٌ أراد الله جل وعلا بهِ تعظيم ما سيأتي بعد القسم المُسمّى جواب القسم .
( ن * والقلم وما يسطرون * )
الأحرُف إذا كانت بجوار بعضها الكلمات تُسمّى سطر ،، الرجال إذا وقفوا صفوفاً يُسمّى سطر ،، الأشجار إذا كانت واقفة قائمة تُسمّّى سطر ،، كلٌ بحسبهِ لكن المقصود بهِ هنا الكتاب .
( ن * والقلم وما يسطرون * )
هذا القسم العظيم الذي فيهِ تشريفٌ للقلم سواءً قُلنا أنهُ القلم الذي خُط بهِ اللوح المحفوظ أو جنسُ الأقلام .
ما جواب القسم ؟
قال الله جل وعلا ( ما أنت بنعمة ربكِ بمجنون )
هذا القرآن أول ما أُنزل اتُهم صلى الله عليه وسلم في أول وحيهِ بأنهُ مجنون من قبل القرشيين ويظهرُ أنها أول تُهمة أُلقيت على النبي صلى الله عليهِ وسلم وهذهِ فائدة قراءة القرآن وتفسيرهِ من باب أوائل ما أُنزل حتى يتكيف هذا مع السيرة العطرة و الأيام النظِرة لرسولنا صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
قال الله جل وعلا ( ما أنت بنعمة ربكِ بمجنون )
ولاحظ المقصد البلاغي هنا الله قدم ما النافية حتى يُطمئن نبيهُ قبل أن يُخبرهُ بالخبر فتلك التُهم الجزام التي تُلقى عليك لست منها في شيء هم كاذبون فيما يدعون ولهذا بدأ بما النافية قال ( ما أنت بنعمة ربكِ بمجنون ) فما يقولهُ القرشيون و أهلُ الكُفر عنك باطلٌ من كُل وجه لماذا باطل ؟(12/5)
لأن الله جل وعلا تفضّل عليك ولهذا اختُلف في المقصود بالباء هنا .
ما هذهِ عند النحويين تُسمّى ما الحجازية تعملُ عمل ليس وليس فعل وما حرف لكنّ الجامع بينهُما أن كلاهُما يُرادُ بهِ النفي
وليس عند النحويين من أخوات كان ويقولن عن ما هذهِ أنها تعمل عمل ليس ترفعُ المُبتدأ وتنصب الخبر ويكثرُ في خبرها أن يكون مُقترناً بالباء كما في الآيات .
( ما أنت ) أيُها النبيُ الكريم ( بنعمة ربكِ ) تحتمل الباء هاذي أن تكون قسم فيُصبح المعنى ما أنت ونعمة الله بماذا ؟ بمجنون تُصبح ما أنت ثم قسم اعتراضي ونعمة الله بمجنون.
وقيل أن الباء هنا للإلصاق بمعنى وأنت مُتلبسٌ بنعمة الله عليك مُحال أن تكون مجنوناً .
وقيل إن الباء سببية ويُصبح المعنى ما أنت بسبب نعمة الله عليك بماذا ؟ بمجنون .
والأُولى قد تكون بعيدة لكن الذي ينبغي أن يفهم جملةً أن المُراد أن ما أفاءهُ الله عليك من النعم وما اصطفاك الله جل وعلا لهُ وما تعاهدك الله جل وعلا بهِ لا يستقيم ما ادعاء القرشيين المُشركين من أنك مجنون فأنت بريءً كُل البراءة مما اتهمُوك بهِ لأفضال الله السابقة واللاحقة والآنية عليك أيُها النبيُ الكريم .
وقُلنا قُدم النفي لتطمين شخصه و سلُو قلبه صلواتُ الله وسلامهُ عليه( ما أنت بنعمة ربكِ بمجنون ).
ولم يكتفي الله بنفي التُهمة التي ألحقها وألصقها الكُفّار لنبيهِ بل بيّ، عظيم قدره ورفيع درجهِ بطريقين :
الطريق الأول : ( وإنّ لك لأجر غير ممنون )
لاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم مأجور وقال الله جل وعلا هنا (غير ممنون )
وكلمة (غير ممنون ) تحتملُ معنيين :
المعنى الأول : أي أن الأجر الذي أفأناهُ عليك غير مُقترنٍ بمنٍ ولا أذى .
والحالة الثانية أو التفسير الآخر أن يٌُقال : أن المقصود بتلك أجراً غير ممنون أي غير مُنقطع .
وكلٌ تحتملهُ اللُغة أجراً غير ممنون أي غير مُنقطع .
وقد قال الله جل وعلا عن أهل جنتهِ ( عطاءً غير مجذوذ )(12/6)
وأحياناً يقع من بعض المُفسرين عجلة في التفسير ، التفسير يعتمد اعتماداً كُلياً على استحضار كُل الآيات فبعضُ الفُضلاء من أهل العلم يقول في هذهِ الآية دليله على خصيصة النبي صلى الله عليه وسلم ،، فقُلنا من أين الدليل ؟
قالوا إنّ الله جل وعلا لمّا ذكر نعيم أهل الجنة قال ( عطاءً غير مجذوذ ) وكلمة عطاء غير مجذوذ لا تحتمل إلا قولاً واحداً وهو أنهُ غير مُنقطع قالوا أمّا هذهِ فتحتملُ معنيين : غير مُنقطع ، وغير مُلتصقٍ بالمنّ والأذى فقالوا جمع النبي صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين في معنىً واحد بخلاف حديثهِ جل وعلا عن أهل الجنة ذكر لهم معنىً واحد وهو غير مُنقطعٍ فقط ولم يقُل غير ممنون وقالوا إنّ هذا من كرامة الله لنبيهِ ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم كريمٌ عند ربهِ لكن ما ذهبوا إليه غيرُ صواب لماذا غيرُ صواب ؟
لأن الله قال ( إلا الذين ءامنوا و عملوا الصالحات فلهُم أجرٌ غير ممنون )
لكن الجواب الكلم الحق أن يُقال :
أن قول الله جل وعلا (فلهُم أجرٌ غير ممنون ) هذا في الآخرة هذا أين ؟ في الآخرة ، أمّا قول الله لنبيهِ ( وإنّ لك لأجر غير ممنون ) هذا في الدُنيا والآخرة.
كيف في الآخرة واضح الأمرُ ظاهر لكن كيف يستقيم أن يكون لنبي صلى الله عليه وسلم أجراً غير مُنقطعٍ في الدُنيا ؟
الجواب عن هذا أن يُقال النبي صلى الله عليه وسلم في ميزان حسناته كُل من آمن من أُمتهِ فما أدّى أحدٌ عباده إلا ولنبي صلى الله عليه وسلم مثلُها من الحظ لأنهُ كان عليهِ الصلاة والسلام السبب الذي جعلهُ الله جل وعلا في إيمان أُمتهِ كُلها هذا واحد .(12/7)
الأمر الثاني : قالوا أنهُ لا تخلوا أُمه من ساعة من ليلٍ أو نهار ممّن يُصلي على نبيهِ صلى الله عليه وسلم وهذا حق لأن المُؤذن لا ينقطع أشهدُ أن مُحمداً رسول الله ولا يُعقل أن يخلوا مُؤذنٌُ ممّن يُردد معهُ الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن كما قُلت يبقى اعتراض على هذا المنحى في التفسير وهو أنهُ سيأتي على الناس زمان يبقى فيهِ شرارُ خلق الله الذين لا يعبدون الله أصلاً وفي هذهِ الحالة لا يكون أحدٌ يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُوجد أحد يعمل عملاً صالحاً حتى نقول يُكتب لنبي عليه الصلاة والسلام أجرهُ لكن تُحمل الآية عموماً التي جاءت في المؤمنين وقضية بقاء الإسلام كُلها إلى قُرب قيام الساعة بهذا يتضحُ المعنى ويستقيم ( وإنّ لك لأجر غير ممنون )
ثم قال الله جل وعلا ( وإنّك لعلى خُلقٍ عظيم ) ولم يقُل في وعلى حرفٌ يُفيد الاستعلاء .
والمعنى أنهُ ما من خُلقٍ مبثوث مُفرق في الأنبياء إلا ومجموعهُ عند نبينا صلى الله عليه وسلم لأن الله جل وعلا قال له ( أُولئك الذي هدى اللهُ فبهُداهم اقتدهِ ) ولا ريب أنهُ صلى الله عليه وسلم اقتدى بهدي الأنبياء من قبلهِ فجمع ما كان عند الأنبياء من خُلقٍ مُفرقٍ مبثوث وفضائل متنوعة إلى ذاتهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهذا كلهُ من رحمة الله جل وعلا بهِ ولا ينبغي أن تُحمل الآية فقط على ما يُسمّى بالسجايا الكريمة والأخلاق العظيمة وإن كانت تُحمل بصورة جُزئية لكن لا ينبغي حصرُها في التعامُل الفردي مع الناس وإنّما أعظم الخلُق التأدُب مع الله أعظم الخلُق التأدُب مع الله التوحيد أعظم الأخلاق لأنهُ أيُ خيرٍ يُرجى في رجُلٍ يُشرك مع الله وإنّما الخلق بمفهومهِ الواسع الأدبُ مع الله والأدبُ مع الخلق ، والأدبُ مع الله جل وعلا أُسّهُ الأول والذروةُ منه ألاّ يُشرك مع الله جل وعلا أحد .(12/8)
وقد قال بعضُ العُلماء كلمة جامعة في هذا وهو أنهُ صلى الله عليه وسلم لم يكُن في قلبهِ أحدٌ سوى الله . والمقصود كما تقول أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها لمّا سُئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت " كان خلقُ القرآن "
والقرآن فيهِ فضائل دعا إليها وثمّة أُمور حذر منها فكلُ ما حذر الله منه اجتنبهُ صلى الله عليه وسلم وكل ما دعا إليهِ جل وعلا أخذ بهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهو القائد الموفق والوالد الرحيم والزوج الكريم والراعي المؤتمن على رعيتهِ كلُ صفات الخير :
زانت في الخُلق العظيم شمائلٌ *** يُغرى بهنّ ويُولعُ الكُرماءُ
فإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ *** هذان في الدُنيا هما الرحماءُ
وإذا ملكت النفس قُمت ببرّها *** ولو أن ما ملكت يداك الشاءُ
وإذا أخذت العهد أو اعطيتهُ *** فجميع عهدك ذمةٌ ووفاءُ
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما *** جاء الخصوم من السماء قضاءُ
وإذا بنيت فخيرُ زوجٍ عشرةً *** وإذا ابتنيت فدونك الأبناءُ
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ *** هذان في الدُنيا هما الرحماءُ
وإذا حميت الماء لم يٌُورد ولو *** أن القياصرة والملوك ظماءُ
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى *** فالكلُ في دين الإلهِ سواءُ
لو أن إنساناً تخير ملةً *** ما اختار إلا دينك الفقراءُ
صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ
ومن هنا نتعلم أن كُل فضلٍ إنما يُطلب من الله وكل مكروب إنما يُدفع بالله ومن خلُصت نيتهُ واختصهُ الله أزلاً بكرامتهِ سيظهر خلقهُ ويُفيء الله جل وعلا عليهِ ويُظهرهُ على عبادهِ قال الله جل وعلا ( ما يفتح الله لناس من رحمة فلا مُمسك لها ).
( وإنّك لعلى خُلقٍ عظيم )
هاتان الآيتان ( وإنّ لك لأجر غير ممنون ) و ( وإنّك لعلى خُلقٍ عظيم )
ردّ اللهُ بهما على أقوالِ وأقاويل كُفّار قُريش وبيّن فيهما فضيلة نبيهِ صلى الله عليه وسلم .(12/9)
ثم تكلم الربُ جل وعلا عن بعض خصُوم نبينا صلى الله عليه وسلم وعن الأجواء التي كانت تسود مكة آنذاك من الصراع العقدي ما بين مشكاة النبوة عليه الصلاة والسلام وما بين تلك الأباطيل والوثنية السائدة الضاربة أقدامها في مُجتمع مكة آنذاك قال ( وإنّك لعلى خُلقٍ عظيم ).
ثم قال ( فستُبصرُ ويُبصرون * بأييّكُم المفتون )
هنا ( ستُبصرُ ويُبصرون) أي سترى ويرون وتعلم ويعلمون .
(بأييّكُم المفتون ) المفتون هنا مصرٌ على وزن مفعول والمعنى : سينجلي ذات يوم أيُها النبيُ الكريم لك ولهؤلاء القوم من هو حقاً ذالك المجنون المفتونُ بأقاويل الشيطان .
هم يزعمون أنك مجنون ، تلبست بك الشياطين ، تهذي بما لا تعلم وما تقولهُ إنّما هو أساطيرُ الأولين هذا زعمهُم لكن عليك أن تصبر فإنّ الحق سينجلي وسيفيءُ الأمرُ إلى مُنتهاه ( فستُبصرُ ويُبصرون * بأييّكُم المفتون ) سيعلمُ الكُل من هو أحقُ بهذهِ التُهمة ومن هو أولى بها هل هو النبيُ المُبرأ من كُل عيب المحفوف بهِ في الملكوت الأعلى والمحل الأسمى أم هؤلاء حملةُ الأباطيل عبدةٌ الأوثان وعُكّافُ الأصنام وقد انجلى هذا في الدُنيا وسينجلي بإذن اللهِ بسورةٍ أكبر في الآخرة .
( فستُبصرُ ويُبصرون * بأييّكُم المفتون * إنّ ربك هو أعلمُ بمن ضلّ عن سبيلهِ وهو أعلمُ بالمُهتدين )
هذا تطمين لنبي صلى الله عليه وسلم وهذهِ الآية يحتاجُها المؤمن في مسيرتهِ الحياتيةِ فالقرآن ليس معاني كلمات ليس المقصُود للمُفسّر ولا للمُتلقي ولا للمتدبر أن يعرف معاني الكلمات وإنّما هو مشكاة نور يُضيء بهِ الإنسان الدروب يقول الله (إنّ ربك هو أعلمُ بمن ضلّ عن سبيلهِ وهو أعلمُ بالمُهتدين )(12/10)
أحياناً تصلُ مع غيرك لمرحلة نزاع لمرحلة اختلاف لمرحلة بيان هُدى فيأبى ويستنكف ويستكبر أن يقبل منك لكن ما يزيدُك اطمئنانً أن الله يعلم من هو الذي من هو على الحق الله جل وعلا يعلم من هو الذي على الحق فكونك ما تقولهُ من الحق أو ما تحملهُ من الرايات العُظمى في سبيل نُصرة دين الله جل وعلا لو أحبطك المُحبطون و ثبّطك المثبطون يكفيك قناعةً في نفسك واستمراراً على الطريق الذي أنت فيهِ من الخير والرشاد علمُك أنّ الله جل وعلا يعلم ، وما دام اللهُ جل وعلا يعلم فالله جل وعلا سيُكافىء ويُحاسب على ذالك العلم فالله تبارك وتعالى لا يحتاجُ منك أو معك إلى شاهد يُثبت لك الحق الله جل وعلا لا يحتاجُ معك أو منك إلى شاهد يُثبت لك الحق .
لكن لو اختلفت مع زيدٍ من الناس أو عمر في مسألة وأردتُما أن تحتكما إلى أحدٍ غير الله فإنّ الذي تحملُ همّه ويُثقلُ ظهرك انهُ ما الذي يُقنع ذالك الحكم بأنك على صواب ما الذي يُقنع ذالك الحكم بأنك على صواب لكن مع الله تبارك وتعالى هذا الحملُ لا وجود له لأنك تتعاملُ مع من يعلمُ السرّ وأخفى ، بل تتعامل مع من منّ علينا بهذا الهُدى وأرشدنا إلى سواء الصراط .
(إنّ ربك هو أعلمُ بمن ضلّ عن سبيلهِ وهو أعلمُ بالمُهتدين * فلا تُطع المُكذبين )
الفاء هذهِ مرّت معنا اسمُها الفاء الفصيحة ، والفاء الفصيحة هي ما تصلحُ أن تكون جواباً لفعلِ شرطٍ مُقّدّر غير مذكور الفاء الفصيحة ما تصلح أن تكون جواباً أو في أول جواب لفعل شرطٍ غيرُ مذكور .
والمعنى : إنّ كان الأمر كما بيّنّا لك وهديناك إليهِ فلا تُطع المُكذبين .
من المُكذبون هنا ؟ كُفّر قُريش .
وقد بيّنّا ولابُد أن تستحضر كُل قول أن الكُفر كلهُ في كلمتين أو في كلمةٍ وفعل أو في فعلين : التكذيب ، والتولي . قال الله جل وعلا على لسان هارون وموسى ( إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولى )(12/11)
والمقصود قال الله جل وعلا ( فلا تُطع المُكذبين * ودوا )
واو الجماعة في ( ودوا ) عائدة على من ؟ على المُكذبين .
(ودّوا لو تُدهنُ فيُدهنون )
الدُهن إلى يومنا هذا يُستخدم في تليين الأشياء (ودّوا لو تُدهنُ فيُدهنون ) ودّ القرشيون ودّ خصُومك من أهل الكُفر لو أنك تلين فيلينوا .
لكن يجب أن تُحرّر المسالة :.
هناك أربعة أمور :
مودة ،ومُصاحبة ، ومُعايشة ، ومُداهنة .
فالمودة واجبة مع أهل الإيمان تُحب المؤمن ويُحبُك .
والمُصاحبة تجوز مع الكافر الذي لهُ حق كالوالدين (و صاحبهُما في الدُنيا معروفا ) .
والمُعايشة تجوز إذا كان للُمسلمين مصلحة حتى مع أهل الكُفر ، لكنها تتأكد في الأمور العامة،، مثل : أن اليهود كانوا يُحيطون بالمدينة كانوا جيران لنبي صلى الله عليه وسلم ويبيع ويشتري منهم هذا يُسمّى مُعايشة ولم يكُن هناك نوعٌ من المودة بينهُ وبينهُم معاذ الله لكنّ هذا الوضع يُسمّى مُعايشة وهذا أحياناً تحتاجهُ خاصةً إذا قُدّر لك أن تخرُج خارج البلاد كمن يطلبُ علماً غير موجودٍ هنا فيضطر إلى أن يُعايش القوم وإن كانوا كُفّارا هذي تُسمّى مُعايشة .
فالآن مرّ معنا المودة والمُصاحبة والمُعايشة،
بقيت المُداهنة هاذي لا تجوز بأي حالٍ من الأحوال وهي التنازُل عن أمرٍ عقدي لماذا ؟
لأنهُ لا توجد مفسدة أعظم من ترك العقيدة لا توجد مفسدة أعظم من مفسدة ترك العقيدة فلهذا المُداهنة لا تجوز بأي حالٍ من الأحوال قال الله جل وعلا لنبيهِ ( ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهِم شيئاً قليلاً ) إذا ضممنا هذهِ آية الإسراء مع آية القلم علمنا قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلن ولم يُداهن ولم يركن لماذا ؟
لأن الله جل وعلا ثبّتهُ ، فإذا كان نبيُ الأمة ورأسُ الملة لا حول لهُ ولا طول ولا قوة إلا بالله فيتحرر من هذا أمران :
الأمر الأول :(12/12)
ما دام عاجزٌ عن أن يكون لهُ حول أو طول صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ فمن باب أولى أن يُعطيهُ غيرهُ إذاً لا يتعلقُ بهِ حولٌ ولا طول ما دام هو عاجز أن يكون لهُ حول أو طول من باب أولى فاقدُ الشيء لا يُعطيهِ لا يُمكن لهُ عليهِ الصلاةُ والسلام لأحدٍ طول إذا تعلّق بهِ .
الأمر الثاني :
أنهُ إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا حول لهُ ولا طول ولا قوة وهو القريبُ من ربهِ المُحتفى بهِ في السماواتُ العُلى فمن باب أولى كلُ أحدٌ غيرهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليه لا حول لهُ ولا طول ولا قوة فينقطعُ العبدُ الصالحُ عن الخلائق ويربط قلبهُ ويُنيخُ مطاياه بين يدي الخالق جل جلالهُ . (ودّوا لو تُدهنُ فيُدهنون )
قال الله جل وعلا بعدها ( ولا تُطع كُل خلاّفٍ مهين * همّازٍ مشاءٍ بنميم * منّاعٍ للخيرِ مُعتدٍ أثيم * عُتُلِّ بعد ذالك زنيم * أن كان ذا مالٍ وبنين )
سآتيك من الأخير لا تُطعهُ يغرُك منه أنهُ ذو مالٍ وبنين واضح .
ف(إن كان ذا مالٍ وبنين ) مُتعلّقة بالأول معنى العبارة :: لا يغرُك أنهُ ذو مالٍ وبنين حتى تُطيعهُ لأنهُ أصلاً موصوف بصفاتٍ دنيئة هذهِ الصفات هي : ( ولا تُطع كُل خلاّفٍ مهين)
حلاّف بمعنى كثير الحلف لكن بعضُ أهلُ العلم رحمهُم الله نظروا لهذهِ الآية من زاويةٍ واحدة وقالوا في هذا دلالة على أن كثرة الحلف غيرُ محمودة واحتجوا ( ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكُم ) وغيرها من الآيات والحقُ أن هذا غيرُ صواب لأن الآيات في مساق رجُلٍ مُشرك هذا أول .
ثم هذا الرجل لا يحلف لم يكُن يحلف بالله كان يحلف بهُبل واللات والعُزّى والله جل وعلا قيّد كلمة حلاّف بوصفٍ هو كلمة مهين فعلى هذا ليس المقصود مُجرد الحلف والدليل المُعارض لهذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول ومُقلب القلوب ويقول والذي نفسي بيدهِ وقد أمر الله نبيهُ أن يحلف في ثلاثة مواضع :
أمرهُ أن يحلف في يونس ،، وفي سبأ ،، وفي التغابُن.(12/13)
وفي هذا دلالة على أن الفهم أن كثرة الحلف غيرُ محمودة غيرُ صحيح لكن المُهم أن يكون الحلف يثبتُ الإنسان عليه .
لكن كذالك النظرة الأخرى التي تدفع ما فهموه أن كثرة الحلف بالله فيها تعظيمٌ لمن ؟ فيها تعظيمٌ للهِ ولو لم يكُن في الحلف تعظيم لجاز أن يحلف بغير من ؟ بغير الله لو لم يكن في القسم والحلف تعظيم لله لجاز لنا أن نحلف بغير الله .
لكن لماذا لم يجوز لنا أن نُقسم بغير؟
الله لأن القسم بحياة أي أحد تعظيمٌ لهُ فلهذا الحلف محمود لأن الإنسان لما يقول واللهِ ورب الكعبة فيها تعظيمٌ لرب تبارك وتعالى لكن الأفضل إذا احتاج إليهِ الإنسان أو كان يجري على لسانه لا حرج فيهِ لكن لا يكون حلفاً ممقوتاً وهو ذالك الذي يُشترى بهِ الأمور الدنيوية ويُدفع بهِ الأمور الأخروية كمن يحلفُ على السلع باطلاً وفاجراً .
( ولا تُطع كُل خلاّفٍ مهين * همّازٍ مشاءٍ بنميم *)
همّاز يلمزُ الناس يقولون الهمّاز الذي يلمز والناسُ غائبون فإذا كان بيدهِ والناس حاضرون يُسمّى لمز وأحياناً بعضُ العلماء أهل اللُغة يحجزون والمقصود انهُ يقع في معايب الناس (همّازٍ مشاءٍ بنميم *) يسعى بالكلم على وجه الإفساد ولابُد أن نُقيد فنقول على وجه الإفساد لأن السعي في الكلام بين الناس على وجه الإصلاح لا يُسمّى نميمة يُسمّى نصيحة .
السعيُ بالكلمِ بين الناس على وجه الإفساد يُسمّى نميمة وقد جاءت فيها أحاديث كثر تنهى عنه ، أمّ السعي بالكلم بين الناس على وجه الإصلاح لا يُسمّى نميمة يُسمّى نصيحة والدليل قول الله جل وعلا ( إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرُج إني لك من الناصحين ) هذا من نقل الخبر إلى موسى أثبت الله ذالك الخبر وساقهُ سياق الامتنان والتزكية والمدح وأخبر وذيّلهُ (إني لك من الناصحين ) ولم يعترض الله جل وعلا على ذالك القول .
( ولا تُطع كُل خلاّفٍ مهين * همّازٍ مشاءٍ بنميم * منّاعٍ للخيرِ مُعتدٍ أثيم *)(12/14)
كلمة الخير جاءت في القرآن بمفهومها العام وجاءت في القرآن بمعنى المال ومنه قول الله جل وعلا (وإنّهُ لحُب الخيرِ لشديد ) والمقصود هنا المال ليس المقصود الأفضال والصلاح والتقوى تكلم عن الله جل وعلا عن جنس الإنسان (وإنّهُ لحُب الخيرِ لشديد ).
إذا قُلنا المال أصبح منّاعٍ للخير شخصٌ ماذا ؟ بخيل.
وإن قُلنا الخير عموماً أصبح رجلٌ يحول ما بين الناس وما بين فضائل الأعمال وهو أقوى .
(منّاعٍ للخيرِ ) ولا يكتفي بأنهُ مانع وإنّما متجاوز للحد.
قال الله جل وعلا (منّاعٍ للخيرِ مُعتدٍ أثيم * عُتُلِّ) أي جافٍ غليظ (بعد ذالك زنيم *) قالوا أن بعد هنا بمعنى مع لكن نقف عند كلمة زنيم :.
كلمة زنيم في مادتها اللُغوية بمعنى الإلصاق والشيء الذي مُلصق بغيرهِ .
والشاه إذا تدلّى منها ما تدلّى إمّا تحت رقبتها أو ما يقعُ من أُذنها بعد قطعها تُسمّى زُنمة يعني هذهِ الجلدة الظاهرة الزائدة تُسمّى زُنمة .
بعضُ العلماء نظر إلى هذهِ الآية نظرة تعيين تحديد فقالوا إنها في شخصٍ بعينهِ ثم اختلفوا هذا الشخص بعينه اختلفوا في اسمه واختلفوا في المعنى فقالوا زنيم أي مُلصق بقومٍ دعيٌ عندهُم وهو ليس منهم بمعنى أنهُ ليس من أبنائهم وهذا المنحى في التفسير لا أراهُ محموداً لأن الله يقول في آيةٍ مُحكمة ( ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى ) فكونهُ نشأ من غير أن يعلم في أقوام هذا مّما لا يُعاتبُ الله عليهِ لأن المرء لا يتحملهُ فقد يوجد إنسان برّ عاقل منسوب إلى قوم ليس منهم دون أن يعلم فهذا ليس مّما يُثرّب الله جل وعلا عليه ولا يجتمع مع تلك الأوصاف السابقة التي يتحمّل مقتضاها الإنسان .(12/15)
لكن الذي يبدوا لنا والله تعالى أعلم في هذهِ القضية أن قول الله جل علا (عُتُلِّ بعد ذالك زنيم) المُلصق بهِ كل سوء يعني هذهِ الأمور الثمال التي مرّت توطئة للإخبار أنهُ رجلٌ زنيم أي مُلصق بهِ كلُ أمرٍ سيء فهو قابل لأن تقدحهُ من كُل وجه . ( عُتُلِّ بعد ذالك زنيم )
قُلنا (أن كان ذا مالٍ وبنين ) متعلقة بالأولى ( ولا تُطع كل حلاّفٍ مهين ) لا يغرنّك منه كثرة أمولهِ وأبنائهِ وهذهِ تنصرف في المقام الأول إلى واليد بن المُغيرة .
قال الله ( سنسمهُ على الخرطوم )
الوسم العلامة والعلامة في الوجه شين يقول جرير :
لما وضعتُ على الفرزدق ميسمِ *** وضغى البُعيث جدعت أنف الأخطلِ
إني انصببتُ من السماء عليكم *** حتى اختطفتُك يا فرزدقُ من علي
موضع الشاهد : لمّا أراد أن يُكلّم خصومهُ قال لما وضعتُ على الفرزدق ميسمِ فالوسم هو العلامة لكنّهُ في الوجه أمرٌ قبيح شين .
قال الله ( سنسمهُ على الخرطوم )
الخرطوم الأنف لكن الأصل أن اللُغة تأتي في الخرطوم في قضية أنف السباع ويكثرُ في وصفهِ للفيل و الخنزير ( سنسمهُ على الخرطوم ) هل هي علامة معنوية أم علامة حسية ؟؟
هل هي دنيوية أو أخروية ؟؟؟
من قال دنيوية وعلامة حسية صعبٌ إثباتهُ لأن الوليد ابن المغيرة مات مبكراً بعد البعثة بقليل ولم يُنقل تاريخياً انهُ حصل لهُ شيءٌ من هذا ومن زعم أنهُ غُلب بالسيف يوم بدر جانب الصواب لأن بالاتفاق الوليد ابن المغيرة لم يحضُر بدراً مات قبلها بكثير .
لكن الصواب جملةً أن يُقال :
( سنسمهُ على الخرطوم ) أن المعنى سنجعلهُ رمزٍ لكُل أمرٍ سيء فيتفق مع قول الله جل وعلا ( عُتُلِّ بعد ذالك زنيم ) ومن أكبر الدلائل أننا إلى اليوم نذكرهُ فلا نشكرُه ويُقال فيهِ كل المعايب ولا تُذكر لهُ خصيصة فبقي الأمرُ مُستمراً ولا يمنع أن يكون ذالك بعذاب الآخرة ( سنسمهُ على الخرطوم )
ثم بعد أن تكلم الله عن فردٍ قُرشي نقل الصورة إلى أجواء مكة العامة فقال(12/16)
( إنّا بلوناهُم كما بلونا أصحاب الجنّة * إذ أقسموا ليصرمّنّها مُصبحين )
النبي عليه الصلاة والسلام عانا من قريش فضرب الله في هذه السورة الكريمة مثلين :
مثل يتعلق بالقرشيين فجعلهم مشابهين لأصحاب الجنة .
ومثل يتعلق بنبيه ما ضربهُ بأقوام ضربهُ بنبيٍ مثله فقال في أخرها ( ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم )
سُنعرج جملة على المقصود :
أصحاب الجنّة في قول جماهير أهل العلم قومٌ كانت لهم جنّة كان أبوهم يتقي الله جل وعلا فيها وورثهُ أبناءهُ فلّما دنى موسم الحصاد تآمروا فيما بينهم أن لا يكون لأهل المسكنة والفقراء نصيبٌ من تلك الجنّة فاجمعوا أمرهم في الليل على أنهم غداً يمضون صباحاً باكرين ولا يعطون الفقراء منها أي شيء وهذا معنى قول الله ( ولا يستثنون ) وسأُفسّر تفسيراً لكن اُعطيك الأجواء العامة ثم إنهم ناموا مطمئنين وبينما هم نيام كان الملك العلاّم جلّ جلالهُ قد سلّط على تلك الجنّة ما يجعلها كالليل البهيم الأسود فلمّا أصبحوا لم يتغير عمّا أضمرُه في الليل شيء وخوفاً أن يكون قد تغيّر أحدهم دون أن يدري فتحوا الموضوع من جديد قال الله جل وعلا ( فتنادوا مُصبحين * ألا ّ يدخُلنّها اليوم عليكم مسكين )
باتٌ وقد أضمروا ألا يُعطوا المسكين ثم ما زال هذا الأمر يبيت في صدورهم وينام معهم ويزدادون إثماً حتى اجمعوا على أن المسكين ليس فقط يحرمون فقط من تلك الجنّة بل لا إذن لهم في الدخول .
( ألا يدخلُنها اليوم عليكم مسكين ) ومضوا ( وغدوا على حردٍ ) أي قدرة قادرين على قصدٍ ومنعٍ قادرين ( وغدوا على حردٍ قادرين ) مضوا في طريقهم إلى جنة وبستانٍ مُحال أن يخطئوه لأنهم يذهبون إليه .(12/17)
كما أن الإنسان لو يخرُج من مسجدٍ أو المتجرٍ المجاور لبيتهِ معطوب العينين فوصل إلى بيتهِ دون أن يقودهُ أحد لأنهُ أمرٌ استمرأهُ فذهبُوا إلى تلك الجنة لكنّهم فوجوء أن تلك الجنة على خلاف ما تركوها فلّما رأوها لم يشكوا في أنفُسهم لأنهم يعلمون الطريق فاجمعوا أمرهم ضالون على الطريق أي لم يُصيبوا جنتهم ثم تبين لهم بعد أن استقرت أذهانهم أنهم مخطئون في هذا الظن فعرفوا ما أضمروه والمعصية ذلّة تُطاردُ صاحبها .
قالوا ( بل نحنُ محرومون )
أي إنما الحق أن الله جل وعلا حرمنا وليس نحنُ الذين أخطأنا في الطريق في الوصول إلى الجنّة ( بل نحنُ محرومون ) هنا تكلم أحدهم ُ قال الله جل وعلا ( قال أوسطهم ) أفضلهم أخيرهم ( لولا تُسبحون * قالوا سُبحان ربنا إنّا كُنّا ظالمين )
نُنزّه الله أن يكون ظالماً لنا بإحراق جنتنا وإنما الظلم عائدٌ إلينا الذين منعنا المساكين ( سُبحان ربنا إنّا كنا ظالمين ) كل إنسانٍ إذا وقع في المُدلهمات يُحاول أن يتبرأ من موقفه فأخذ كُلٍ منهم يُلقي بالتبعية على أخيه.
قال الله جل وعلا ( فأقبل بعضهُم على بعضٍ يتلاومون )
ثم لمّا أخرج كلٌ منهم ما في قلبهِ ودافع عن نفسهِ وعلموا أن هذا ليس بنافعٍ ولا مُجدٍ قال الله (فأقبل بعضهُم على بعضٍ يتلاومون قالوا يا ويلنا إنّا كُنا طاغين ) تجاوزنا حدّنا ولم نعرف قدرنا بمنعنا للمسكين ونسينا أنها فيءٌ أفاءهُ الله علينا وخيرٌ أعطانا الله إياه لم يتق اللهِ فيهِ قال الله ( يا ويلنا إنّا كنا طاغين عسى ربُنا أن يُبدلنا خيراً منها ) من هذهِ الجنة ( إنّا إلى ربنا راغبون ).
وبالتجربة التي دلّ عليها الكتاب كلمة إنّا إلى الله راغبون من أعظم ما يُتقى بها ضيقُ الرزق .(12/18)
قال الله جل وعلا عن أهل النفاق والقرآن أولهُ كآخرة ما نزل بمكة كما نزل بالمدينة يُصدقُ بعضهُ بعضاً قال الله جل وعلا في هذا الموضوع أنهم قالوا ( حسبُنا الله سيؤتينا الله من فضلهِ ورسولهُ إنّا إلى الله راغبون ) هذه ورسوله كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم
والنبيُ صلى الله عليه وسلم قد مات فيقول حسبُنا الله سيؤتينا الله من فضلهِ إنا إلى الله راغبون الرغبة إلى الله راغبون فالرغبة إلى الله جل وعلا وإظهار صدق الرغبة إلى جل وعلا من أعظم أسباب العطايا وبُعد ضيق الرزق ( إنّا إلى ربنا راغبون )
قال الله جل وعلا ( كذالك العذاب )
الدنيوي ما الدليل ؟ أنك تقول ( ولعذابُ الآخرةُ أكبر ) وتقف ثم قال الله ( لو كانوا يعلمون )
لو حرفُ امتناعٍ لامتناع والمعنى : لو كانوا يعلمون أن ما جئت بهِ الحق لاتبعوك لكن لماذا لم يتبعوك ؟ لأنهم لا يعلمون أن ما جئت بهِ الحق لا يعلمون أن هناك آخرة أوان هناك عذاب وهناك نكال فقال الله جل وعلا ( لو كانوا يعلمون )
هذا الخطاب للقرشيين وليس الخبر لأهل الجنة وإنما ساقهُ الله خبره عن أهل الجنة ليُبين تبارك وتعالى أنه ينبغي عليهم أن يتعضوا بما مضى من أسلافهم وما مضى من إهلاك الله جلا وعلا لمن قبلهم .
ثم قال الله ( إنّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم )
هذهِ فائدة للأمة :.
أدركنا من أدركنا في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمة الفُضلاء أنهم كانوا لا يختمون قرأتهم في الصلاة بآية عذاب إذا كان يمكنهُم أن يقولوا آية رحمة .
فمثلاً : لو قُدّر أن أحدكم إماماً وأراد أن يقرأ سورة ن ويقسمها نصفين فلا يقف عند قول الله تعالى ( كذالك العذاب ولعذابُ الآخرةُ أكبر لو كانوا يعلمون ) يقول ( إنّا للمتقين عند ربهم جنات النعيم ) ويركع ثم إذا بدأ في الركعة الثانية يقول ( إنّا للمتقين عند ربهم جنات النعيم * افنجعل المسلمين كالمجرين ) و أمثالُها في النبأ .(12/19)
قال الله تعالى ( إن لطاغين مآبا * لابثين فيها أحقاباً * لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا * إلا حميماً و غساقا * جزاءً وفاقا * إنهم كانوا لا يرجون حسابا * وكذبوا بآياتنا كذابا * وكل شيءٍ أحصيناهُ كتاباً * فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا )
الناس تركع نحن أدركنا الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذهِ الآية يأخُذ التي بعدها ( إنّا للمتقين مفازا ) المصلين ورآه متقون فتستريح النفس ثم يركع وإذا جاء الركعة الثانية يقول ( إنّ للمتقين مفازاً حدائق وأعنابا ) يُكمل وهذا محمود لماذا ؟ لأنه مندرج في جملة ما قال الله ( فاقراءو ما تيسر من القرآن ) نعم هناك آيات ليست بعدها آيات رحمة آيات نقل يعني إما أن يأتي قصة أو خبر آخر خلاص تبقى على ما هي عليه لكن إمّا أن تكون بإمكانك أن لا تختم بآية عذاب تفعلهُ خيراً لك .
نعود فنقول ( كذالك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * إنّ للمتقين عند ربهم جناتُ النعيم )
هذا إجماع
نعود الآن لمفردات الآية :.
( إنّا بلوناهم ) أي القرشيين ( كما بولنا أصحاب الجنة من قبل إذ أقسموا )
إذ هنا لشيء الماضي ،،، وإذا لما يُستقبل من الزمان
(إذ أقسموا ) تعاهدوا ( ليصرمُنها ) من القطع الجذاف ( ليصرمُنّها مُصبحين ) وقت الصباح
(إذ أقسموا ليصرمُنّها مُصبحين ولا يستثنون )
ويحتمل ( ولا يستثنون ) معنيين :
المعنى الأول : لم يقولوا إن شاء الله .
والأمر الثاني : لا يستثنون شيءً من حصادهم يُعطونهُ للفقراء والمساكين وهو أظهرُ عندي .
لأن من بيّت مسألة حرمان الفقراء والمساكين لا يُظنُ .بهِ أن يقول إن شاء الله
(ولا يستثنون * فطاف عليها) أي الجنة ( طائفٌ من ربك وهم نائمون )
هذا يدلُك على ضعف بني ءادم القريةُ والجنة في هلاك وهم نائمون لا يعلمون فضلاً عن أن يُدافعوا عنها .(12/20)
(فطاف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون فأصبحت ) أي الجنة والتاء التأنيث ( كالصريم ) مثل الصريم الليل البهيم الأسود .
( فتنادوا ) لأن الآن في غياب تام عمّا حدث ...
( مصبحين ) يُنادي بعضهم بعضا ويظهر أنهم أهلُ ثراء كانوا ينامون متفرقين
( فتنادوا مُصبحين أن اغدوا على حرثكم أن كنتم صارمين ) هذا يقع إلى اليوم في أهل الباطل يشدُ بعضهم بعضا أهل الإجرام أهل الباطل أهل الكُفر .
( فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم أن كنتم صارمين فانطلقوا ) الله يقول ( وهم يتخافتون ) وهذه ذل المعصية رغم مع أنها جنتهم بُستانهم من سيُحاسبهم لكن ذُل المعصية جعلهم يتخافتون .
ولهذا العظيم ما في شي يُخفيه كلامهُ واضح يُجاهر بهِ أما الذي يتدخل في أمور لا تعنيهِ أو في قلبهِ دخل أو لا يُحسن يعني ليس رجلٌ ظاهرةُ كباطنه هذا الذي يحاول قدر الإمكان أن يكون تحركاته خُفيه .
( فانطلقوا وهم يتخافتون * ألا يدخلُنها اليوم عليكم مسكين *وغدوا ) أي أصبحوا ( على حردٍ قادرين ) فلمّا رأوها قُلنا ( قالوا إنّا لضالون ) أي أننا أخطأنا الطريق وسيأتي كيف جاءت وردت الضلال في كتاب الله في تفسيرنا لسورة الضُحى سنُقسّم كلمة ظل في اللُغة كيف جاءت في كتاب الله لكن كما قُلت أنا لا أعجل قدر الإمكان نُحاول أن نُنزل كل سورة في وضعها الطبيعي يعني نُخاطب السورة نتكلم عن السورة بوضعها المكي الذي نزلت به أو المدني .
قال الله ( بل نحنُ محرومون قال أوسطهم )
أجمل ما فُسّر بهِ كلمة أوسطهم أعدلهم أخيرهم أفضلهم لأن القرآن يُساعد على هذا (وكذالك جعلناكم أُمةً وسطا )
(قال أوسطهم ألم أقُل لكم لولا تُسبحون قالوا سُبحان ربنا إنّا كنا ظالمين ) إلى آخر ما بينّاه إلى قول الله جل وعلا ( إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم )(12/21)
هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ إعدادهُ حول المقطع الأول من سور " ن * والقلم " نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ٍُبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمدُ للهِ رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تفريغ سورة القلم 2من الآية ( 34) إلى نهاية السورة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:-
هذا استكمال لما سبق معنا من سورة القلم ....
قال تعالى : { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم }
( للمتقين ) اللام هنا للاستحقاق وهي قد تأتي لثلاث معان :
1 ـ للاختصاص : كقولنا " السيف للرجل ، واللجام للفرس "
2 ـ للملك : كقوله تعالى : { لله ملك السموات والأرض }
3 ـ للاستحقاق : كأن يقال " لمن الجنة ؟ للمتقين " أي الذين يستحقون الجنة هم المتقون .
كأن الآية يوم نزلت وتليت على الكفار فهموا أن المعنى ( ونحن معكم ) ، فرد الله على ذلك التوهم الذي في قلوبهم سواء نطقوا به أم لم ينطقوا فيقول سبحانه : { أفنجعل المؤمنين كالمجرمين }
إن من أعظم ما ينبغي أن نعلمه أن القرآن دل على أن الله ـ عز وجل ـ حكم عدل وأنه سبحانه لا يستوي عنده الأبرار والفجار ، ولقد قال الله ـ تعالى ـ في سورة أخرى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون }
ومن هنا قال بعض العلماء : ( إن الجنة دخولها بالفضل ، لكن المراتب فيها بالعدل )
{ أفنجعل } ( الهمزة ) هنا همزة استفهام استنكاري توبيخي لما يظنه ويتفوه به كفار قريش ومن تبعهم على هذا المنحى .
{ مالكم كيف تحكمون }
{ مالكم } استفهام .(12/22)
{ كيف تحكمون } أي : أيّ عقلٍ هذا الذي يدلكم على هذا الحكم لا شك أنه عقل ضال غير مسترشد الذي ينجم من تفكيره أن يجعل الله جل وعلا ملزما أن يساوي ما بين الكفار وما بين أهل الإيمان .
{ أم لكم كتاب فيه تدرسون }
والمعنى : هذه الجرأة التي تنشأ منكم على ربكم تبارك وتعالى وزعمكم أنكم في الجنة وأنكم على الحق فعلى أي مستندٍ تستندون ؟؟
هل عندكم من الله تعالى كتاب بيّناً يقول أنكم على حق ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - على باطل ؟؟
وسياق الآية هو نوع من التهكم ، بمعنى أنهم أميّون لا يعلمون القراءة ولا الكتابة ، فيعاملهم الله تعالى معاملة من يتهكم بهم .
{ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون }
أي هل يوجد لديكم أننا أقسمنا لكم قسما مؤبدا إلى يوم القيامة أنكم على الحق وأنكم تدخلون الجنة وهذا منتفٍ غير وارد فرده الله تعالى عليهم .
{ أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين }
أي هل هناك شركاء لله تعالى كما تزعمون دلوكم على هذا الأمر وأخبروكم به ؟؟ { فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } وهذا كله باطل .
* ثم لما كانوا كلما نزلت آية يتعرضون لها ويصادون الله - عز وجل - عاملهم الله بطريقة كلامهم فقال تعالى : { سلهم أيهم بذلك زعيم } : فلقد طلب الله سبحانه منهم زعيماً واحدا لأنهم يرون أن أي أحد منكم كفؤ أن يعارض الله.
ــ والمعنى أي من هذا الذي يكفل لكم صدق ما تقولون ويتحمل هذه المسؤولية فتنيبونه عنكم ليحاج الله ويجادله .
فهذه الأمور جميعها محسوسة وكلها منتفية ، فلما انتفت أخبر الله نبيه أن الموعد القيامة ، فالدنيا ليست بدار جزاء .
{ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون }
دلت لغة العرب على أن التعبير بالكشف عن الساق يدل على هول الأمر .
وفي الصحيح : " أن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أخبر أن الله ـ - عز وجل - ـ يكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء يوم القيامة "(12/23)
على هذا قال أهل الأثر : ( إن المقصود بـ { يوم يكشف عن ساق } ما يكون من كشف الله - عز وجل - عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء ، فكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك )
ومن لوازم ذلك أن هناك هول وخطب وشدة .
{ ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } :
هذه الدنيا مزرعة للآخرة ، فمن أذعن لله وخافه ورجاه وأسلم نفسه لله - عز وجل - سيجدها أمامه ، ومن استكبر واستنكف يقول كما قال الله تعالى عن أهل الباطل : { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } ..
{ ويدعون إلى السجود } : يسجد أهل الموقف ، فيسجد المؤمنون يوم يكشف الرب تعالى عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء ، ويهم بذلك أهل النفاق أن يسجدوا وكذا أهل الكفر فيبقى ظهرهم طبقا واحدا .
{ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } :
( الخشوع ) يكون في القلب وإنما عبر الله به عن البصر لأن بالعين يعرف ما في القلب " وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه " .
* ولابد أن نعلم أن الله أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل - عز وجل - من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه سبحانه ، فطوبى لعبد في فلق سحر أو إدبار ليل أو إقبال نهار أقبل على الله تعالى بقلبه وجسده ، فكلما كان العبد متذللا لله تعالى حال هذه الحياة وجد المرء ثمرتها بين يدي الله تبارك وتعالى ، ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله - عز وجل - ـ، فكل ما في الدنيا أكدار متتابعة { لقد خلقنا الإنسان في كبد } فإذا لقي المؤمن الصادق القانت في الدنيا بين يدي مولاه - عز وجل - انتفى كل كدر وزال كل خطر ، ولقي المؤمن بشارة من الرب تعالى ، لأن الإنسان إذا أراد أن يغدوا إلى أمر يريد أن يدركه يعلم أنه لن يستريح حتى يلقي عصاه من أثر ذلك السفر إلى بيته أو إلى جاره ، فكيف بالقدوم على أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين إن كنت تعمل بطاعته وتعزه - عز وجل - بما أفاءه الله تعالى عليك من التوفيق والطاعة والغدوة والرواح في باب طاعته - عز وجل - .(12/24)
* ولقد جاء الإشكال لدى العلماء في : " كيف يكون المطالبة بالسجود والآخرة ليست بدار تكليف ؟؟؟ "
أجيب عن هذا : بأنه ليس المقصود التكليف ذاتا وإنما المقصود إظهار توبيخ الله تعالى لمن عصاه وامتنع عن السجود عنه في الدنيا .
وقد دلت النصوص الأخرى على أنه ليس المقصود به التكليف ذاتا : ( فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث الشفاعة " أنه يسجد بين يدي الله تعالى عند العرش " .
فما كان من عمل لم تعمله في وقت السعة ولم توفق إليه فإنه يصعب عليك فعله في وقت الضيق ...
{ وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } وهذا تهكما من الله تعالى بهم .
{ وقد كانوا } أي في الدنيا.
{ يدعون إلى السجود وهم سالمون } : أي كانت لهم العافية في أبدانهم وذكاء في عقولهم ومتعة في قلوبهم ، ومع ذلك كله لم يستجيبوا لأمر الله ولم يتقربوا للسجود له أما الآن فلا يمكن أن يوفقوا للخير بعد أن فرطوا فيه في وقت التمكين .
ثم قال تعالى لنبيه : { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث }
وهذا من أعظم أساليب التهديد والوعيد الإلهي
* والمعنى : أن من عصاك يا نبينا وحاربك يكفيك أن تخلي بيني وبينه وكفى أن يكون الله - جل جلاله - مكتفل به وبإهلاكه .
{ الحديث } القرآن .
{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }
إن الإنسان إذا استدرج فإنه لا يعلم أنه استدرج ـ نسأل الله العافية ـ فأحيانا يثنى الشخص بالثناء الحسن الذي هو ليس له أهلا ، لأنه يعمل المعاصي ويثنى عليه في غير موضعه ومع ذلك لا يعلم أن الله أ تعالى يستدرجه .
كذلك إمهال الله تعالى للظالم نوع من الاستدراج ، فكونه يظلم ثم يظلم دون أن تحل به العقوبة فهو استدراج له .
{ وأملي لهم إن كيدي متين }
{ أملي } أي تمهل واصبر عليهم من الإملاء والإبقاء{ إن كيدي متين }
{ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون }
{ المغرم } ضد المغنم ، وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن من له
( غنم ) شيء فعليه ( غرمه ) ..(12/25)
والمعنى أن الله يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنت لا تطلب منهم أجرا حتى يكون سبب طلبك للأجر مانعا في عبادتهم ، وفي هذا إرشاد على أن من يعلم الناس ويحدثهم أن لا يأخذ منهم أجرا على تعليمهم .
{ أم عندهم الغيب فهم يكتبون }
انتقل سبحانه إلى أمور الغيبيات بعد الأمور الحسية ، والمعنى أم عندهم علم الغيب واطلعوا عليه وكتبوا ذلك العلم ، فتبين لهم ثم أخذوا يجادلونك به ، وبالقطع أنهم لا غيب عندهم يكتبون منه ، وليس هناك مغرم يخشون منه ، ولكنه أنفة في قلوبهم واستكبارا في نفوسهم وشقوة كتبت عليهم .
* وبعد أن ذكر الله تعالى حال أهل الإجرام أخذ يسلي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويعزيه ويكتب له الطريق الذي يسير عليه ، لأن الأمر ما زال في أوله ...
فقال تعالى : { فاصبر لحكم ربك } :
{ حكم ربك } هنا عام أريد به الخاص وهو إمهاله لهؤلاء الظالمين ، ولكون الدعوة بدأت تدريجيا .
والقرينة { ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم }
وهذه الآية قطعا أول آية تتحدث عن الرسل ..
والمعنى { ولا تكن } أي يا نبينا { كصاحب الحوت } وهو يونس - عليه السلام - واسمه ( يونس بن متى ) بعثه الله - عز وجل - لأهل نينوى من أرض العراق فردوه ، فتوعدهم بالعذاب ، وكأن العذاب أبطأ فأصابه الغضب وخرج مغاضبا دون أن يستأذن ربه ، ثم لما وقف على ساحل البحر وجد مركبا فركبه ، ثم أن السفن تجري حول هذه السفينة غدوا ورواحا وهي على حالها ، فلما رأوا الأمر كذلك تشاوروا فيما بينهم ، فقالوا : إن عبدا أبق من سيده فأجروا قرعة .(12/26)
{ فساهم فكان من المدحضين } ووقعت عليه القرعة ، ثم ألقي به - عليه السلام - في البحر فابتلعه الحوت { فالتقمه الحوت وهو مليم } وأصبح في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وبعد ذلك تغير حاله دون أن يموت ، وحينما شعر يونس - عليه السلام - أنه حي خر ساجدا لله تعالى ويقول : ( اللهم إني اتخذت لك مسجدا في الأرض لا أظن أن أحدا عبدك فيه ) ، و نادى الله تعالى النداء العظيم : { لا إله إلا أنت سبحنك إني كنت من الظالمين }
ولم يرد الله سبحانه وتعالى هنا في هذه الآية المباركة ذكر قصة يونس - عليه السلام - وإنما كان المراد منه - عز وجل - بأن يعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يستعجل كصاحب الحوت ، وقد قيد سبحانه الكلام عن يونس - عليه السلام - بقوله : { إذ نادى وهو مكظوم } لئلا ينفي أحد عن يونس الهداية بالكلية .
و{ مكظوم } أي قد امتلأ قلبه حنقا وغضبا .
{ لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم }
{ نعمة } هنا أي الرحمة العظيمة الشاملة لهذا النبي الكريم ، فلقد أمر الله الحوت أن لا يكسر له عظما ، ولا يأكل له لحما ، وأن ينبذه بالعراء .
* ولا يستقيم المعنى إذا وقفنا على قوله تعالى : { لنبذ بالعراء } لماذا ؟
لأن الله تعالى لم يرد نفي النبذ بالعراء ، لأن ذلك جاء بنص القرآن في مواضع أخر كقوله تعالى : { فنبذناه بالعراء } ولكن الذي أراده الله سبحانه نفيه هنا أنه لم ينبذ وهو مذموم لأنه تداركته نعمة الله تعالى ، وعلى هذا يفهم أنه - عليه السلام - كان محمود الأمر .
{ لولا } حرف امتناع لوجود ..
فالممتنع هنا : أن يكون مذموما ، و الموجود : نعمة ربك ..
{ فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } :
{ فاجتباه } : أي اصطفاه وتاب عليه وأصبح الأمر الأول منسياً اللهم إلا للعظة والاعتبار ..
{ فجعله من الصالحين }(12/27)
قال بعض المفسرين : ( أن المعنى : فجعله من الصالحين للنبوة ) وهذا غير صحيح ، لأنه - عليه السلام - قد كان نبيا قبل أن يجتبيه الله مرة أخرى ، وإنما تاب الله عليه كما تاب على آدم - عليه السلام - من قبل .
* ثم بعد أن بين الله سبحانه لنبيه ما حصل لهذا النبي الكريم - عليه السلام - قال تعالى : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون }
هذا تصوير للأحوال التي كانت سائدة في مكة في أول فترة البعث ، لأن الكفار كانوا كثير فكانت لهم الغلبة والأمر في مكة ، فكلما مر - صلى الله عليه وسلم - كادوا أن يأكلوه ( بأبصارهم ) وتحتمل مسألة العين التي لا ندري كيفية وصول أثرها إلى المعين وإن كانت لحقا ...
{ وإن يكاد } : هو فعل مقاربة ، فهو لا يعني وقوع الشيء وإنما قرب وقوع الشيء ..
وهؤلاء الكفار ليسوا هم بالذين تركوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولم يمضوا إليه هذه النظرات الذميمة ، ولا هم الذين استطاعوا أن يغيروا بهذه النظرات مكانه أو أمره ..
{ لمّا } بمعنى عند .
{ الذكر } القرآن .
أي عندما سمعوا القرآن .
{ ويقولون إنه لمجنون } : أي هذا النبي الذي يتلو إنه لمجنون وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - .
فرد الله - عز وجل - عليهم بقوله : { وما هو إلا ذكرى للعالمين } :
{ ما } نافية
{ إلا } أداة استثناء ، وهي أحد أنواع الحصر ..
{ إلا ذكرى للعالمين }
المقصود به القرآن .
ولا يعقل أن يكون هناك كتاب فيه ذكر للعالمين يبينه رجل مجنون ، فبهذا الإثبات ـ بأن القرآن ذكر ـ انتفى الجنون عن نبينا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ..،
ورد آخر السورة على أولها لأنه ـ - عز وجل - ـ قال في أول السورة : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } ...
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ......(12/28)
تفريغ سورة طه من الآية 1 إلى الآية 16
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد..
ففي هذا اللقاء المبارك نستفتح سورة ( طه ) ، وسورة ( طه ) من العِتاق الأوَل مثل قرينتها سورة ( الكهف ) التي قد انتهينا منها في اللقاء الماضي ، على أن سورة ( طه) أُنزلت بعد سورة ( مريم ) وهي كذلك في ترتيب المصحف بعد ( مريم ) ، ولكن الذي جعلنا نبدأ بسورة ( طه ) أن لنا تفسير لسورة ( مريم ) موجود بين الناس متداول ، فأحببنا أن نبدأ بما لم نشرع به ، فلنا وقفات مع سورة ( مريم ) لذلك بدأنا بسورة ( طه ) وسنعود ـ إن شاء الله ـ إلى سورة ( مريم ) لكن ننبه أنه من حيث النزول أن ( طه ) بعد ( مريم ) وكِلاهما سورة مكيِّة إلاّ آيتين من سورة ( طه ) اختلف فيهما وهما الآيتين (130) و(131) ....
نبدأ مستعينين بالله ـ جلّ وعلا ـ سورة ( طه ) استفتحها العلي الكبير بقوله : { طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ومن أكثر أحرف القرآن المتقطعة في أوائل المصحف إشكالاً هذان الحرفان ( طه ) ذلك أن العلماء من حيث الجملة انقسموا إلى قسمين في فهم هذا الأمر :
*منهم من قال : إن ( طه ) هي من جنس الحروف المتقطعة ، ومما يعينهم على هذا الفهم أن الحرفين ( الطاء ، والهاء ) من نفس الأحرف التي جاء بها افتتاح القرآن (طسم ،كهيعص ....) فـ ( الهاء ، والطاء ) وجدتا من قبل في فواتح القرآن .. فهذا منحى ، وهو يجري عليه أحكام رأيِّنا في قضيّة فواتح القرآن ـ الأحرف المتقطِّعة ـ وهذا فصّلنا فيه في افتتاح سورة ( ن) ولا حاجة لإعادته ...(13/1)
* الحالة الثانية أن بعضهم قال : أن طه ليست من الأحرف المتقطِّعة ، وهؤلاء اختلفوا فيما بينهم في ما لمقصود بكلمة ( طه ) :
* بعضهم قال إنها فعل أمر ( طأ ) بمعنى( ضع ) من ( وطِأ ) ، وهؤلاء يقولون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا قام الليل يقوم على قدمٍ ويرفع أُخرى فجاء القرآن تسلية وتعزية له ...
* والفريق الآخر قال : أن ( طه) كلمة معناها ( يا رجل) وحرف النداء محذوف ...
* وقال فريق من العلماء : إنها اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكنت إلى عامين أو عامٍ تقريباً أذهب إلى أنها من الحروف المتقطِّعة ، لكن الذي يبدو أن القول بأنها اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقوى .. ووجه القوة مما يأتي : تدبُّر القرآن ـ لولا آية الشورى لجزمت ، لكن آية الشورى هي التي أوقفتني ـ تدبُّر القرآن ـ وهذه طريقة في فهم القرآن ـ .. فالله تعالى يقول { الم ، ذلك الكتاب .....} { الم ، الله لا إله إلاّ هو الحي القيّوم } { طسم ، تلك آيات الكتاب المبين }.... إلى غير ذلك من آيات القرآن ، فلا يكون بعد الحروف المتقطِّعة مخاطبة مباشرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللهم إلاّ في الشورى { حم ، عسق ، كذلك يوحي إليك وإلى اللذين من قبلك ...} وهذه هي التي أوقفتني ، وأمّا هنا فهناك ما يشعر أن ( طه) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ الخطاب يقول : { طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ...(13/2)
أمّا من قال من الأفاضل من العلماء أن معناها ( يا رجل ) فنعم ورد في شعر العرب في شعر متمم وغيره أن ( طه ) بمعنى ( رجل ) لكننا نستبعدها لأن ليس لها نظائر والمعنى بأننا نقول : إذا اتفقت الأمّة على أن الله ـ جلّ وعلا ـ إكراماً لنبيه لم يخاطبه باسمه فلم يقل له في القرآن ( يا محمد ) فكيف يعقل بأن يناديه ( يا رجل ) ؟! هذا بعيد ، فكل الذي في القرآن ( يا أيها النبي ...) و )يا أيها الرسول ...) فلا يمكن أن ينتقل من هذه الفوقية حتى ينادى ( يا رجل ) وهذا بعيد وإن كانت اللغة تحتمله ، لكننا نقول إن القول إن ( طه ) كاسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير بعيد نميل إليه ميلاً كثيراً ، وهذا مستخدم حتى في الشعر العربي ، والذي ينبغي عليك أن تعقد عليه أن تعلم أنه لو قُدِّر أنّك ارتأيت ـ كما ذهب بعض مشائخنا ـ إلى أن ( طه ) من الحروف المتقطِّعة لكن لا يُنكر على من ذهب أن ( طه ) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد مر معكم ـ فيما يبدو لي أن سماحة الوالد الشيخ ابن باز، والشيخ العلاّمة ابن عثيمين ـ رحمة الله تعالى عليهما ـ أنشد بين أيديهما قصيدة للتويجري كان مطلعها :
دم المصلين في المحراب ينهمر .....
وفي القصيدة كان مذكورا ما نصّه :
إذا تطاول بالإهرام منهزم **** فإن أهرامنا سلمان أو عمر
أهرامنا شادها طه دعائمها **** وحي من الله لا طين و لا حجر
فالشيخان كبَّرا حينما سمعا هذين البيتين ، ولم ينكرا كلمة ( طه ) مع أن الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ كان يرى أن ( طه) ليست اسماً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكن الآية كما قلنا قابلة للأخذ والعطاء ، وليست مجال إنكار ، والبيتان اللذان ذكرناهما من جميل الشعر الإسلامي المعاصر ... نعود فنقول إننا نختار أن ( طه) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...(13/3)
{ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ( ما ) نافية قطعاً ، و ( أنزلنا ) أخبر الله أن القرآن منزل من عنده ـ وهذا مرّ معنا وفصّلنا القول فيه وأنواع التنزيل ـ ونذكِّر بأن الله لا يقول أن شيئاً أُنزل من عنده إلاّ القرآن ، و إلاّ يُبهم أو يسنده إلى غيره .. { فأنزلنا على اللذين ظلموا رجزاً من السماء } ولم ينسبه إلى نفسه ،{ وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } ولم يقل من عنده ، وأما الذي ينسبه الله إلى ذاته العليّة لا يكون إلاّ في القرآن { تنزيل العزيز الرحيم }.. إلى غيرها من الآيات الشهيرة ، نعود فنقول: الله يقول لنبيه : { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى }
أولاً: ما لشقاء ؟
الشقاء العناء والتعب ، وإنّما مقصود الآية أن هذا القرآن أنزلناه رحمةً بك وبه ترحم الناس ، وليس المقصود من إنزاله أن يصيبك شقاء وعناء وتعب من كثرت محاورتك لقومك ، وكثرت تأسُفك على حالهم فإنّك لست مكلَّفاً بأكثر من أن تدعوهم إلى الدين , وهذا المعنى يؤيده القرآن كله { لست عليهم بمسيطر } { فلعلَّك باخع نفسك على آثارهم }{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } فكل القرآن يؤيد هذا المعنى في أن الله ما أنزل هذا القرآن على نبيه حتى يصيبه من الكبد والعناء والشقاء بسبب جحود قومه له ...
{ إلاّ } استثناء منقطع { تذكرة لمن يخشى } فالقرآن تذكرة ، لكن هذه التذكرة لا يفرح بها ولا ينالها كل أحدٍ ، وإنّما ينالها أهل من ؟ أهل الخشية ، ومن يخشى يدخل فيها جميع من خشي الله وفي مقدمتهم ، بل في ذروتهم نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
{ تنزيلاً } أي هذا القرآن ، مفعول به مطلق لفعل محذوف أي : نزلناه تنزيلاً
{ تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى} الله ـ جلّ جلاله ـ ، وقدّم الأرض هنا على السماوات لأنها ألصق بحياة الناس ، وهي أولى الآيات المحسوسة بالنسبة لهم ..
وخلق السماوات والأرض من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله قررته أكثر من آية في كلام الله ..(13/4)
{ الرحمن على العرش استوى } أي : من خلق الأرض والسماوات العلى هو الرحمن ، وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو الرحمن على العرش استوى ، والرحمن : اسم من أسماء الله الحسنى ، بل من أعظم أسمائه الحسنى ، فالرحيم يجوز تنكيرها وينادى بها غير الله .. يقال : فلان رحيم لغيره , لكن لا يقال : فلان رحمن لغيره , فهذا من الأسماء المختصّة بالله ـ جلّ وعلا ـ ..
{ العرش } سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، الدليل على أنّه ذو قوائم : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : { فأكون أوَّل من تنشق عنه الأرض ، فإذا بموسى آخذٌ بقوائم العرش } فهذا نص صريح على أن العرش له قوائم .. ، أمّا في حمل الملائكة للعرش فآية الحاقة قال الله ـ جلّ وعلا ـ:{ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } وقال الله في غافر : { الذين يحملون العرش ومن حوله } فأثبت الله أن هناك ملائكة تحمل العرش .. { استوى } استواءً يليق بجلاله وعظمته، وهذه أحد ست آيات أخبر الله ـ جلّ وعلا ـ فيها أنّه مستوٍ على عرشه ، ولا ينبغي العدول أبداً عن قول أهل السنة ( أن الاستواء معلوم والكيف مجهول ) لأن ذكر الله للاستواء في أكثر من موضع يصل إلى ست ولا يتغيّر اللفظ دليل على أن اللفظ مقصود لا يقوم مقامه غيره كما ذهب بعضهم أنه بمعنى استولى ـ وهذا باطل ـ وإنما أخبر الله ـ سبحانه ـ أنه مستوٍ على عرشه ، ونحن نقول : نؤمن بكلام الله على مراد الله ، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله ـ وكان الشافعي يردد هذا كثيراً ـ آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله و ما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...
{له } ملك ،{ ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } كم أملاك؟
أربعة : السماوات ، والأرض ، وما بينهما ، وما تحت الثرى ..(13/5)
واختلف في معنى وما تحت الثرى .. ولعله يدخل فيها من حيث الاستئناس المعادن التي في الأرض ، وكنوز الأرض المدفونة الغير ظاهرة ..، ومابين السماء والأرض الأشياء الظاهرة , وينبغي أن تعلم أن الله ملك الأملاك , ورب الأفلاك , وأنه ـ جلّ وعلا ـ متصرف في هذه الأربعة تصرفاً تاماً , فهو الذي أوجدها ، وهو الذي يملكها , وهو الذي يفنيها , وهو الذي يحيي من شاء منها , وهذا كله ملك تام لا نقص فيه من أي وجه من الوجوه ... {و ما تحت الثرى } ( ما) هنا موصولة والمعنى والذي تحت الثرى , وليست نافية ......
ـ ومن باب الفوائد ـ
( ما ) الموصولة لا يجوز الابتداء بها فمن أخطاء القُرَّاء مثلاً آية { قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون }
لا يجوز أن تقرأها ثم تقول : { وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيون من ربهم } فلا تبدأ بـ { وما أُوتي موسى وعيسى ...} لماذا ؟
لأنه يصبح المعنى ( ما ) ماذا ؟ نافية , فما الموصولة لا يُبدأ بها .. , إنما تعود فتقول { إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب .....}
*فهنا لو أن إنساناً انقطع نفَسَهُ فلا يقول لوحدها{ وما تحت الثرى } كأنه ينفي , لأنها موصولة فلا يبدأ بها , لأن واو العطف لا تعتبر شيء , وهذا يحترزه من كان منكم إماماً ..(13/6)
نعود فنقول : ثم قال الله : { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } يقول بعض المفسرين : إن المعنى أن الله يقول لنبيه لا حاجة للجهر فإن الله يعلم السر وأخفى ـ وأظنه بعيد ـ على جلالة من قاله ، وإنما المعنى إخبار النبي بعظيم علم الله , أو أن يقال أن الخطاب لقارىء القرآن وليس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقصوداً به إلاّ في المقام الأول باعتبار أن القرآن أُنزل عليه , ومعنى { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} أن القول ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
* جهر * و هو ما تعلنه, تقوله علانية فيسمعه من ترغب ومن لا ترغب .. ,
* السر * ما تعلنه لكن تسمعه من ترغب , فلو أني استدعيت أحدكم وأجلسته بجواري فأسمعته فأنا أجهرت له بالقول حتى يسمعه لكن لا يسمى جهر يسمى سر لأنني أردت به شخصاً بعينه .. , ما لذي أخفى من السر ؟ الشيء الذي في قلبك وفي نفسك ولم تخبر به أحداً , فهذا الذي قصده الله بقوله
{ وأخفى } أي ما هو أخفى من السر ما لم تخص به أحداً بعينه , وهذه مراتب القول والمقصود منها عظيم علم الرب ـ جلّ وعلا ـ ...
{ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } من هذا الذي يعلم السر وأخفى ؟
{ الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى }
وقد مر معنا أن لفظ الجلالة ( الله ) لم يتسمى به أحد وهو معنى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { هل تعلم له سمياً } .. { له الأسماء الحسنى }
فالله ـ جلّ وعلا ـ له أسماء حسنى وصفات عُليا ، وجملة ما يمكن أن تفقهه أيها الأخ المبارك أن تعلم أن الله ـ جلّ وعلا ـ وجهه أكرم الوجوه , وأسمائه أحسن الأسماء , وعطيته أحسن العطايا فتوسَّل إلى ربك بهذه الثلاث قل : ( اللهم ياذا الوجه الأكرم ، والاسم الأعظم ، والعطية الجزلى ..... ثم سل الله ما شئت .(13/7)
{ له الأسماء الحسنى } هذه الأسماء ذكر منها تسعة وتسعون على اختلاف العلماء في تحديدها , وبعض أهل التحقيق من أهل العلم يقول إنها أكثر من تسعة وتسعين , وحجَّتهم ما جاء في الخبر الصحيح ( كل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ... ) فقالوا إن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب غير التسعة والتسعين التي أظهرها وبسطها لخلقه ...
•وهذا كل ما سلف بيان لعظمة الجبّار ـ جلّ وعلا ـ وإظهار لبعض صفاته , وأن له كمال الأسماء وأجمل الصفات , وأنه أحق من عبد , وأجلّ من شُكر وأرأف من ملك , وأوسع من أعطى ..., ثم بعد أن قرر الله ـ جلّ وعلا ـ هذا لنبيه ذكر له قصة الكليم (موسى بن عمران) ـ عليه الصلاة والسلام ـ , و( موسى بن عمران ) من أُلي العزم من الرسل الذين تكررت قصصهم في القرآن في مواطن شتى ـ سيأتي تفصيلها ـ .. لكننا هنا سنقف عند ما نحن معنيِّون به .. , قال الله ـ جلّ وعلا ـ لنبيه : { وهل أتاك حديث موسى } و( هل ) حرف استفهام المقصود به هنا التشويق , حتى تكون أُذن السامع متلهفة لإرعاء السمع , و( موسى ) هو موسى بن عمران .. { إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى } هذا متى ؟(13/8)
هذا بعد عودة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أرض مدين , فموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ خرج إلى أرض مدين ـ التي هي البدع الآن شمال الجزيرة العربية شمال المملكة ـ بعد أن فرَّ بسبب قتله للرجل القبطي , مكث في أرض مدين ـ كما سيأتي تفصيله في مواضع ـ عشر سنين , بعد أن جلس في مدين عشر سنين أخبر العبد الصالح ـ صهره ( أبو زوجته ) ـ أنَّه يريد أن يرجع ، فأذن له بعد أن أتم له موسى الأجل , خرج من البدع وأصبح خليج العقبة على يمينه ، ثم رجع حتى أصبح خليج العقبة على يساره ، وكان موازياً للبحر ، ثمّ دخل على صحراء سيناء وكان هناك جبل الطور في مكان مانُبِّأ , وبعد أن نُبِّأ دخل بعد ذلك واستمر حتى قطع خليج السويس ودخل أرض مصر .. , سنتكلم نحن عن هذه المنطقة وعن الأحداث العظام التي نُبِّأ فيها موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأُرسل في هذا الموطن , فنقول الله ـ جلّ وعلا ـ يقول لنبيه : { وهل أتاك حديث موسى } أي خبر موسى , { إذ رأى ناراً } متى رأى النار ؟
رآها في ليلة باردة مظلمة ومعه زوجته وغنمه { فقال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً } ولم يقل إني رأيت ، لأنه كان يشعر بوحشة وخوف , فلمّا رآها شعر بشيءٍ من الأنس { إنّي آنست ناراً } , واحترازاً من الكذب قال ـ عليه الصلاة والسلام { لعلي آتيكم } ما قال سآتيكم منها , وهذا كله احترازه من الكذب قبل أن يُنبّأ , حتى تعلم أن الله أعلم حيث يجعل رسالته .. { بقبس } ما لقبس ؟(13/9)
الجذوة من النار يعني القطيع من النار , القطعة من النار تسمّى جذوة ، والقطعة من الليل تسمّى هزيع , وكل شيءٍ منه قطعة له اسمه في اللغة ... إذا كانت الجذوة من النار هي القطعة من النار إذا كانت ملتصقة بعود ـ لم تكن جمرة لوحدها ـ تسمَّى قبس , إذا أخذنا عود ( حطب ) من النار فيه النار باقية مشتعلة تسمَّى قبس , وفي نفس الوقت تسمَّى جذوة لأنه قطعة من النار , فإذا أخذناه على هيئة جمر ليس فيه عود كامل يسمَّى جمرة , ولا يسمَّى قبس ... قال الله في سورة أُخرى { شهابٍ قبس } يعني نار مشتعلة , وهذه أُمنية موسى الآن , وخوفاً على أهله قال { امكثوا } والعاقل كما تقول العاميِّة : ( لا يوضع البيض في سلَّة واحدة ) فلو كان فيه مهلكة يهلك هو وينجوا أهله { لعلي } احترازا من الكذب , { أو أجد على النار هدى } أي من يهديني ويدلَّني على الطريق الذي أضعته ... , أتى موضع النار فرأى ناراً تضطرم في شجرة (عوسج ) على الأظهر , فرأى النار تزداد وقوداً والشجر يزداد خضرة وهو ما يتنافى في الأصل , لأن النار إذا كانت حارقة لن تُبقي للخضرة , وإذا كانت الخضرة ريِّانة لن تُبقي على النار لا تجتمعان , لكنه يرى النار تزداد نوراً ويرى الشجر يزداد خضرة ......... وجملة نقول أن النار ثلاثة أقسام :
* نار لا نور فيها وهي حارقة ( وهي نار جهنَّم ) ـ أعاذنا الله وإياكم منها ـ ,
* ونار فيها نور وليست بحارقة ( وهي النار التي رآها موسى ـ عليه السلام ـ ) ,
* ونار فيها نور وهي حارقة ( وهي نار الدنيا ) فأي نار تشعلها لها نور تضيء ما حولها , وفي نفس الوقت تحرق من يضع يده فيها ...
{ فلمَّا أتاها نودي } من الذي ناداه ؟(13/10)
رب العزة ـ جلّ جلاله ـ وهذا معقل منيف , ومنزل شريف , وعطية قلَّما تعدلها عطية إلاّ أن يرَ العبد ربه , { فلمَّا أتاها نودي يا موسى } وكان في خوف فطمئنه الله ولم يطالبه بالتكليف .., فقال له : { إنِّي أنا ربك } ليشعره بالاطمئنان , و والله إن الإنسان ليسمع رجلاً أقوى منه ـ مديره أو أبوه أو مسئوله أو أميره أو زعيمه ـ يطمئنه أنه معه فيغشاه شيءٌ من السكينة , فكيف إذا سمع عبد مخلوق في ليلة شاتية مظلمة رب العزة والجلال يناديه { إنِّي أنا ربك } من غير واسطة ؟!
{ فاخلع نعليك } والمقصود من خلع النعلين أمران :
* الأول: أن تمس موسى كله بركة الوادي , فلا يصبح هناك فاصل مابين بركة هذا الوادي المقدَّس ومابين جسد موسى . ,
* والأمر الثاني : أن يشعر موسى بالتواضع , وعظمة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال ـ جلّ جلاله ـ في مقام التكليم .. { فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى } وانظر كيف يؤدب الله نبيه ويرعاه يخبره بكل شيء , فأخبره بأنه ربه , أخبره أنه في واد مقدس اسمه طوى , والإنسان إذا كان يجهل الأشياء التي حوله يصيبه الرعب , فأول ما أعطى الله نبيه موسى التعريف التعريف بالأشياء التي حوله { يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى } وهذه شهادة من رب العباد لهذا الوادي بأنه وادٍ مقدس , وقطعاً لو لم يكن وادياً مقدسا لما اختار الله تلك البقعة التي سمَّاها في سورة أُخرى بقعة مباركة ليكلم فيها عبده وكليمه وصفيه موسى بن عمران ... { طوى } بدل من { الوادي المقدس } يعني أن اسم الوادي ( طوى ) ....(13/11)
{ وأنا اخترتك } ولا يمكن أن نأتي بألفاظ تساعد أكثر من ألفاظ القرآن في بيان هذا الأمر العظيم في أن الله ينادي عبداً من عباده لامنَّة له على الله ولا فضل , ولا يدري هو لأي شيءٍ غادٍ , كان همُّه جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهار يقول له رب العزة في موقف عطاء وبذل كريم : { وأنا اخترتك } اخترتك لعظائم الأمور , للنبوة , للرسالة , لجلائل الطاعات , ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته إذ جعلها في هذا الكليم ـ عليه السلام ـ { وأنا اخترتك } إذ أصبح موسى مرهف السمع لربه , فقال له ربه { فاستمع لما يوحى } موصولة .. أي للذي يوحى , ولكن الله لم يعطه الأوامر والتكاليف إلاّ بعد أن أشعره بالأمان , ورفعه إلى أعلى المنازل , وآواه أيما إيواء , وغرس في قلبه التلقي من رب العزة والجلال , وهي إحدى طرائق الوحي الثلاثة , بل إنها أرفع طرائق الوحي الدنيوية .
{ إنني أنا الله }
قلت مراراً هذه الآية من أعظم الأدلة على أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة ( الله ) , ووجه الدلالة أن الله ـ جلّ وعلا ـ لما أراد أن يعرف نفسه لعبده موسى قال له { إنني أنا الله } فاختار الرب ـ جلّ وعلا ـ هذا الاسم دون غيره من الأسماء الدالة عليه ـ جلّ وعلا ـ ليعرِّف به نفسه لكليمه موسى , ولا يلزم أن نجزم لكن نقول إشارة قوية وأمر فيه تلميح قوي إلى أن لفظ الجلالة ( الله ) من أعظم أسماء الله الحسنى إن لم يكن هو اسم الله الأعظم ...(13/12)
{ لا إله إلاّ أنا } ومادام قد تحقق لديك يا عبدنا أنه لا إله إلاّ أنا فيجب أن تصرف العبادة لي دون سواي , ولهذا قال الله له : { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } طبعاً لا يمكن أن يدعوا موسى الناس لعبادة الله حتى يحقق العبودية في نفسه , فالرسول الذي يحمل هم أمر لابد وأن يكون مقتنعاً به أولاً , ولا يمكن للإنسان أن يحقق هدفا هو غير مقتنع به , وعظائم الأمور , وجلائل الهبات لا تُنال إلاّ إذا انطلق الإنسان من خاصة نفسه , يتصرف في السر كما يتصرف في العلانية , ويؤمن بقضيته أمام الملأ وفي الخلاء , أما إن كانت القضايا بالنسبة له يجلب من ورائها ديناراً أو درهماً فسيكون سيره في تلك القضية ضعيف إن لم تنكشف عورته وتظهر سوأته مابين يوم وآخر , لكن الله وطَّن في قلوب أنبيائه محبته وإجلاله ـ جلّ وعلا ـ وعظمته وحبهم وعبادتهم لربهم
{إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } وفي هذا دلالة ظاهرة على أن الصلاة من أرفع العبادات , اختلفوا في قوله ـ جلّ شأنه ـ : { لذكري } هل هو للتعليل أي لأقامة ذكري ؟ , أو على ذكري ؟ بمعنى في الوقت الذي أمرتك أن تذكرني فيه ؟ وهذا يؤيده حديث صحيح : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلاّ ذلك ) ثم تلا { وأقم الصلاة لذكري } ...
{ إن الساعة آتية أكاد أُخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى }(13/13)
أخذ الله ـ جلّ وعلا ـ يبين لموسى قضية الساعة , والساعة هي الأذن بفناء الدنيا { إن الساعة آتية } أي قادمة لا محالة { أكاد أُخفيها } اختلف العلماء في ( أكاد) هذه , لكن الأظهر أن يقال أنها على بابها فعل من أفعال المقاربة ـ نحوياً ـ أخ لـ (كان) , والفرق بينها وبين( كان) , تسمعون( كان وأخواتها) , فما دام ( كاد) و( أوشك) و(عسى) و ( اخلولق ) تعمل عمل (كان) لماذا لم يقولوا بأن هذه الأربع تدخل مع (كان وأخواتها) وينتهي النزاع ؟ والسبب أن ( كان وأخواتها) خبرها يأتي مفرداً, ويأتي جملة اسمية, ويأتي جملة فعلية , أما ( كاد وأوشك وعسى ) شرط في خبرها أن يكون جملة فعلية , فانفكت عن ( كان ) في العمل من هذا الباب ... { أكاد } بمعنى قارب وهي على بابها , فيصبح معنى الآية أن الله لم يخفِ الساعة بالكلية , وإنما أظهر أشراطها وعلاماتها , وفي نفس الوقت لا يعلم عينها ـ تحديداً ـ إلاّ الله ...
{ لتجزى } أي بعد أتيانها { كل نفس بما تسعى } ( كل ) من ألفاظ العموم
{ فلا يصدنَّك عنها } والخطاب لمن ؟ لموسى الآن ,{ فلا يصدنَّك عنها }
عن أي شيء ؟ قيل إن ( عنها ) عائد على الصلاة , وقيل أن ( عنها ) أي عن الإيمان بالساعة ..., والصواب أن يُقال : أن{لا يصدنَّك عنها }أي عن الإيمان بالساعة وما يتعلق بالاستعداد لها ...
{من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } فذكر الله صفتين للصادين عن سبيله وهما عدم الإيمان بالله , وأتباع الهوى .., { فتردى } بمعنى فتهلك , وأتوقف هنا حتى يستقم التفسير الذي بعده .., والمقصود بالهلاك هنا ماذا ؟ دخول النار وعدم مقاربة الجنة وهو أعظم الهلاك .. هذا ما سنكتفي فيه في سورة ( طه ) , لكننا سنعرِّج على فوائد عامة عما مضى من الآيات , سنتكلم إجمالاً كيف نستعين به في فهم القرآن :(13/14)
* عبَّر الله عن الزوجة هنا في قضية موسى بكلمة ( الأهل ) وهو أفضل ما يعبَّر به عن الزوجة في قضايا الائتلاف , في المحاكم والقضاء وشؤون الحقوق يقال ( زوج وزوجة ) , بعض الصحابة والصحابيات لمّا سألهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عائشة في حادثة الإفك ماذا قالوا ؟ قالوا يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً .. ما قالوا زوجتك , وأنا أعرف بعض من حولنا إذا أراد أن يكتب رمزاً لهاتف جوال زوجته في الجوال يكتب ( الأهل ) اتباعاً للقرآن , لا يكتب أم فلان ولا عبارات مبالغ فيها , أنا أريد أن أذهب إلى أهلي , سأوصل أهلي , اتصل بي أهلي , فالقضية ليست قضية حساسية مفرطة ممن حولنا , بل القضية في المقام الأول أن مما يفتح به الله عليك في فهم القرآن أنك تحاول استخدام أسلوب القرآن { فقال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس } قالنا أن العلماء يقولون : أن موسى ـ عليه السلام ـ قال:
{ لعلي } من باب الاحتراز , وهذه أصلاً قضية عامة .. يقولون : أن أهل العقل لا يضعون أقدامهم اليُمنى حتى يجدون موطأً لليسرى , ويفكرون في طريق الرجوع قبل أن يفكروا في طريق الذهاب , والعاقل لا يقطع الحبال كلها عن نفسه , وإنما يجعل له طريق عودة , وهذا الذي قصده موسى { لعلي آتيكم منها بقبس } , و( لعل ) في القرآن على بابها إلاّ في موضع واحد ، فـ ( لعل) عند النحويين حرف يفيد الترجِّي ـ للرجاء ـ ويستخدم في الغالب فيما يُرجى وقوعه , ويقولون في ( ليت ) إنها حرف للتمني وهي قرينتها في العمل إلاّ أن ( ليت ) فيما لا يرجى في الغالب وقوعه ومنه قول الشاعر : ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب(13/15)
والشباب لا يعود فعبّر بـ ( ليت ) , أمّا ( لعل ) للترجِِّي , وهي على بابها إلاّ في موضع واحد في سورة الشعراء قال الله ـ جلّ وعلا ـ : { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } فهنا ليست للترجِّي , وإنما بمعنى ( كأنكم تخلدون أو كأنما تخلدون ) لأن الموت اتفق الناس على أنه لا يدفعه شيء , حتى أهل الكفر مؤمنون بالموت , ولذلك لا يوجد موطن سكن إلاّ وجواره مقبرة , وهذا في كل مكان في الدنيا , فلم يقل أحد أن تشييد البناء والمبالغة فيه يدفع الموت , لكن بعض الناس يشيد بناءه كأنه لا يموت كأنه مخلد , وهو يعلم أنه غير مخلد وهذا هو معنى الآية { وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } ...
* مما يستفاد من القضية هذه أن اللذين حولك أحوج ما يكونون إلى الأمن , والإنسان إذا أُعطي الأمن يعطي القدرة على العطاء , أما إذا شعر الإنسان بالخوف فإنه يكون غالباً غير قادر على العطاء قال الله ـ تعالى ـ في حق أهل الكفر : { فأجره } أي أشعره بالأمن { حتى يسمع كلام الله } لأنه لن يستطيع أن يسمع كلام الله ويفقهه عنك وهو خائف وجِل , والسيف إذا وضع على رقبة أي إنسان يجعله لا يعقل و وأحد الأمراء ـ دون ذكر أسماء ـ من الخلفاء السابقين في عهد بني أُمية أتى برجلٍ صالح ومعه زمرة من أصحابه , وكانوا قوماً صالحين , وهذا الزعيم فيهم كان مشهوراً بثبات جأشه وفصاحة لسانه(13/16)
, فقال له الناس في ذلك الموضع تكلم قل , قال : ماذا أقول ؟! سيف مشهور , وكفن منشور , وقبر محفور ... من أين يأتي الكلام ؟ وهو محق أن الخوف والوضع الذي أنا فيه لا يساعد على أن أتكلم , ولهذا أراد الله لهذا العبد الصالح موسى لما أراد الله أن يفيء عليه بعظيم العطايا وجزيل المواهب , ومقام التكليم كما قلت مقام لا يمكن تخيله والله كلم موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتين كلمه في هذا الموضع , وكلمه عندما ناداه عند جبل الطور في نفس الموضع , وهذا الجبل ـ جبل الطور ـ كان الجبل عن غرب موسى , وفي نفس الوقت الجانب الأيمن منه قال الله تعالى { وناديناه من جانب الطور اليمن وقربناه نجيِّاً }
..., وموضع الشاهد :
أن الله ـ جلّ وعلا ـ طمأن موسى حتى يعطيه , لكن يقول الناس عموماً ـ كفوائد تاريخية ـ أنه قد يوجد في الناس ـ لكن هذه حالة أفراد شاذة ـ من يكون رابط الجأش حتى عند رؤية السيف , فيقولون أن المعتصم أراد أن يقتل رجلاً يقال له جميل , كان له أطفال وصبية صغار , ثم إنه أُحضر النطع والجلاّد والسيف والناس ينظرون , ولم يكن ثمَّة شك في أن أمير المؤمنين قرر قتله , فأراد المعتصم أن يختبره ليرى أين لسانه عن جنانه فقال له ما تقول يا جميل ؟ ـ هذا والسيف مشهور , والكفن منشور , والقبر شبه محفور ـ قال :
أرى الموت بين السيف والنطع كامنا *** يلاحظني من حيث ما أتلفَّت
وأكبر ظنِّي أنك اليوم قاتلي *** وأي امرءٍ مما قضى الله يفلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف *** يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني *** لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم *** وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم *** وقد خمَّشوا تلك الوجوه وصوِّتوا
فإن عشت عاشوا سالمين لغبطة *** أذود الردى عنهم وإن مت موِّتوا(13/17)
فتعجّب المعتصم من رباطة جأشه مع الحال التي هو فيها , وقال تركتك لله ثم لصبيتك وعفى عنه , لكن هذا المقام الذي أقامه جميل بين يدي المعتصم قام مقام فردي يعني قلَّما يعطاه أحد , لكن في باب الدعوة وفي باب التربية التأسي بالقرآن هو الأصل , ولما أراد الله أن يُربي هذا النبي المكلم ـ عليه السلام ـ خاطبه بقوله { إنني أنا ربك فاخلع نعليك } وعرَّفه بالمقام { إنك بالوادي المقدس طوى } , ولهذا أحيانا تتلقى مكالمة مجهولة المصدر , فلا يحسن أن تتعامل معها بانفعال ولا بعجلة , وإنما من حقك على من اتصل بك أن تعرف من هو قبل أن تعرف مقامك , وليس من الأدب ما يشيع عند بعض الناس أنه إذا اتصل من غير عمد سوء يقول : ما عرفتني , فيضعك للإحراج في أن تصبح يذهب همك في البحث عن شخصيته , وإنما الإنسان إذا اتصل أو طرق باباً وغلب على ظنه أن من أمامه لا يسمعه أو لا يعلمه أن يُعرِّفه بنفسه , نختم على هذه القضية بشاهد عظيم من السنة ,( فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وجبريل أرفع الخلق , فلما استفتحا باب السماء .. جبريل يطرق يقول له الخازن من أنت ؟ يقول أنا جبريل , أو معك أحد ؟ يقول نعم معي محمد ) , قال العلماء : فاستئذان جبريل مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم أنهما أرفع مقاماً من صاحب المحل ـ خزنة السماء ـ يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن ويُعرِّف بنفسه ولو كان داخلاً على من هو أقل منه , وهذه قضية مهمة جداً في فهم كلام الله ـ جلّ وعلا ـ .. في اللقاء القادم ـ إن شاء الله ـ سنتحدث إلى قول الله ـ جلّ وعلا ـ : { قد أوتيت سؤلك يا موسى } ونتكلم عن قضية العصا , وقضية إدخال اليد في الجيب وما حولهما من آيات , نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه , وجعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ..
نقول ما ألفنا أن نقوله هذا ما تهيأ إيراده وتيسر إعداده والله المستعان , وصلى الله على محمد وعلى آله ...........(13/18)
تفريغ سورة طه من الآية 17 إلى الآية 28
الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين ، و أشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين وإله الآخرين ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد ..
نستأنف في هذا اللقاء المبارك ما كنا قد بدأناه من التأملات في سورة ( طه) ، ولقد مضى القول في فاتحة هذه السورة ، ثم انتقلنا إلى ما قرره الله ـ جل وعلا ـ في أمور العقيدة العظام وإخباره ـ جلّ وعلا ـ عن ذاته العلية بأن له ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى ، وأنه ـ جلّ وعلا ـ يعلم الجهر والسر وأخفى ، وأنه ـ سبحانه ـ {الله الذي لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى} ، ثم ذكر الله ـ جلّ وعلا ـ فيها نتفاً من خبر كليمه وصفيه ( موسى بن عمران) ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ صدَّر الله ذلك بقوله { وهل أتاك حديث موسى } ، ومضى بنا القول أن الله ـ جلّ وعلا ـ ربى كليمه وصفيه أعظم تربية وطمأنه وآمنه من الخوف ، ثم أعطاه مقام التكليف أي / مقام الرسالة بعد مقام النبوة ، وانتهى بنا الأمر إلى أن الله ـ جلّ وعلا ـ نهى عبده وصفيه ( موسى ) من إتباع من كتب الله عليهم أنهم يصدون عن ذكره ، وأن في اتباعهم سبب الهلاك وأودية الردى ، وانتهينا إلى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { وما تلك بيمينك يا موسى } وهي الآية الأولى في هذا اللقاء ، ثم نختم بقول الله ـ جلّ وعلا ـ { واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي } .... فنقول والله المستعان وعليه البلاغ ...(13/19)
مازال الأمر مستأنفاً في مقام التكليم ، والمقام ( جبل الطور ) ، والمُكلِّم هو ( الرب ) ـ جلّ وعلا ـ ، والمخاطب هو ( موسى ) ، وقد أنكر بعض الناس هذا وقالوا : إن الله ـ جلّ وعلا ـ لم يكلم موسى تكليما ، وأوَّلوا وحرَّفوا في الآيات الناصة على ذلك .. قال الله ـ جلّ وعلا ـ :{ وكلَّم الله موسى تكليما } فأجابوا عن هذا أن حقها أن تُقرأ { وكلم اللهَ موسى تكليما } فجعلوا لفظ الجلالة مفعولاً به مقدم ، و( موسى) فاعلاً به مؤخراً عن مفعوله ، والرد على هؤلاء أن يُقال : إن هذا وإن يجوز في اللغة أن يقدم المفعول على الفاعل , إلاَّ أن المعنى يذهب تماماً هنا ، لأنه إن كان القضية قضية أن موسى يناجي ربه فهذا ليس من خصائص موسى وحده , فكل المؤمنين والصالحين يناجون ربهم ويدعونه ويخاطبونه , ويسألونه ويستغفرونه فأي فخر أو فضل ينص الله عليه حتى يقول الله : { وكلَّم الله موسى تكليماً }... , ثم أين هم عن قول الله له : { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ... إلى غير ذلك من الأدلة ؟!. نقول : مازلنا في مقام التكليم قال الله لهذا الكليم : { وما تلك بيمينك يا موسى } وهذه ( ما ) استفهامية من غير نزاع , إلاَّ أن الاستفهام الأصل فيه أن يعرف المستفهم خبر المستفهم عنه , لكن هذا غير وارد هنا لأن الله ـ جلّ وعلا ـ يعلم ما لذي بيمين موسى , بل يعلم كل شيء ولا يغيب عنه مثقال ذرة ـ جلّ جلاله ـ , ولكن المقصود تربية موسى على طريق الأسئلة , وهنا تعهد رباني وعناية إلهية بعبد تغلب عنه السُمرة , فيه حبسة في لسانه لا يظهر كلامه جيداً , يجد عناء وهو يتكلَّم , وفي ليلة شاتية , أهله غير بعيدين عنه , فهذه الأجواء بالنسبة لشخص موسى , لكن هذه مواطن الضعف كلها ذهبت عندما وجدت عناية ربانية إلهية بهذا العبد , كلها زالت وكل مواطن الضعف أضحت قوة , لأن المتعهد به والقائم بأمره هو رب العزة ـ جلَّ جلاله ـ ...(13/20)
قال الله له : { وما تلك بيمينك يا موسى } فأجاب ـ كما قال الله ـ : { قال هي عصاي } وهذا يكفي في الإجابة , لكنه أراد أن يستمر الخطاب تلذذاً منه بمناجاة الملك الغلاب فقال ـ عليه السلام ـ :{هي عصاي أتوكأ عليها } ولم يكن السؤال ماذا تعمل بالعصا ! وإنما السؤال ما لذي في اليمين ؟ وكان يكفي أن يقال { عصاي } , لكنه كما قلنا فرحاً بمناجاة ربه فزاد { أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } ومعلوم أن موسى لا يضرب الغنم بعصاه , وإنما { أهش } بمعنى أهش على الشجر , فيتساقط ورقه على الغنم فتأكله .... ومازال مردفاً فأحياناً يغلب عليه الأدب فلا يريد أن يستمر , وأحياناً تغلب عليه المناجاة , فاتخذ طريقاً بينهما فقال :{ هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } وكأنه شعر أنه أطال في اللفظ فقال : { ولي فيها مآرب أُخرى } ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .. , أراد الله بهذا أن يبيِّن أن هناك آية ستنجم عن هذه العصا , ولم يرد الله أن تكون الآية في شيء غير العصا , فلعل موسى يقع في ذهنه أنها شيطان أو ما أشبه ذلك , لكن موسى أعلم الناس بعصاه فهو يعرفها , وهي ملازمة له سنين عديدة , ويعرف من أين اقتطعها , وهو يتكأ عليها ـ كما يقول ـ , ويهش بها على غنمه فلا تكاد تفارقه , ولهذا أراد الله أن تكون الآية في نفس الشيء الذي يعرفه موسى جيداً , فخاطبه رب العزة قال { ألقها يا موسى } ( ألقها ) فعل أمر جُزم بحذف حرف العلة , لذلك لا يوجد( ياء ) , وإنَّما ( الهاء) بعد ( القاف) مباشرة .. , استجاب الكليم لأمر ربه فألقى العصا .. قال الله : { فإذا } فُجائية , وسيُبيَّن نحوياً غرابة ( إذا ) هذه في موطنها بعد أن نترك قصة موسى ... { فإذا هي } أي العصا { حية تسعى } فُجأةً إذا بهذه العصا التي يعرفها جيداً تنقلب إلى حية , وجاء في بعض الآيات ( ثعبان ) وفي بعض الآيات ( جآن ) .., والجمع بينها أنها (حية) في ضخامتها , و (ثعبان) في تلونها , و ( جآن(13/21)
) في خفتها , فهي تتنقل وتسبح في الأرض وتجول , وبجبلته التي فطره الله عليها كأي بشر ولَّى هاربا .. قال الله ـ جل وعلا ـ : { ألقها يا موسى فألقاها } أي عصاه { فإذا هي } أي العصا { حية } ليست ثابتة واقفة جامدة ميتة { تسعى } تتحرك , { قال خذها ولا تخف } بمعنى أنه نجم عنه الخوف وضِّح في سور أُخرى أنه ولَّى هارباً , فطمأنه ربه { أقبل ولا تخف } , ثم أمره ربه أن يأخذها وهي حية لم تعد بعد عصا , فأخذها امتثالاً لأمر الله , وطمأنه الله { سنعيدها } أي الحية { سيرتها الأولى } أي تعود إلى عصا , وسيكون لهذه العصا شأن عظيم مع نبأ موسى في دعوته مع فرعون ـ كما سيأتي ـ , قال الله : { سنعيدها سيرتها الأولى } وكلمة ( سيرة ) تُطلق على حال الإنسان إن كانت حسنة أو قبيحة , يقال فلان سيرته حسنة , ويقال فلان سيرته قبيحة,{ سنعيدها سيرتها الأولى } فعادت الحية عصاً وهي في يد موسى ـ وسأرجيء الكلام في الفوائد إلى آخر القصة ـ فأخذها وأعادها الله , ثم أتاه أمر آخر قال الله له { واضمم يدك إلى جناحك } ( الجناح ) الأصل أنه للطائر , واستعير هنا لبني آدم , وهو ما تحت العضد كما أن جناح الطائر في هذا الموطن , وفي آية أُخرى قال الله:{وأدخل يدك في جيبك } و ( الجيب) فتحة الثوب من الصدر , والمعنى أن موسى أدخل يده من فتحة ثوبه حتى دخلت تحت عضده , منها أنه شعر بالاطمئنان ، وهذا إلى الآن الناس تفعله جبِلَّة يضع يده على قلبه إذا خاف , ويقولون في التعبير ( يدي على قلبي ) كناية عن الخوف , { وأدخل يدك في جيبك } ما لذي يحدث ؟ { تخرج } جاءت مجزومة أي / عليها سكون , لأنها واقعة في جواب الأمر الذي هو { أدخل } , فأخرجها يقول الله له { تخرج } أي يدك{ بيضاء } من غير تنوين لأنها ممنوعة من الصرف , وعليها فتحة لأنها حال , أي كيف تخرج ؟ تخرج بيضاء , وموسى كان يميل إلى السمرة(13/22)
جاء في الحديث ( كأنه رجل من أسد شنُؤة ) يميلون إلى السمرة , فأخذت تبرق نوراً , وجاء هنا احتراز عظيم { من غير سوء } فليس هذا من مرض أو ما شابهه , وإنما من غير سوء ... لماذا يا رب؟ قال له :{ آية أُخرى } ولم يقل (أخيرة) , { أخرى } أي غير الأولى , فالأولى عصا انقلبت إلى حية , والثانية اليد تدخل فتخرج بيضاء { أُخرى } أي فيه شيء قادم , تقول رجل آخر فلا يمنع أن يأتي بعده أحد آخر , لكن أخير أي انتهيت , فأي شيء تريد أن تختمه فصفه بأنه أخير أي لاشيء بعده ...
قال الله ـ جلّ وعلا ـ :{ آية أُخرى } ولم ينهها , لأن ثمة آيات ستأتي لهذا النبي الكليم سيخاطب بها من بُعث إليه في الأصل وهو ( فرعون )(13/23)
قال الله : { لنريك من آياتنا الكبرى } { من آياتنا } إفهام وإشعار لكليم الله أن آيات أُخر ستأتي كُبرى عظام , وقد أتت وهن في مجملها تسع ( العصا واليد ) ثم أتبعها الله ـ جلّ وعلا ـ بقوله : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات } وهذه اثنان مع اثنين أربعة , وبقيت خمس قال الله : { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم آيات مفصلات } أي يتبع بعضها بعضاً وليست في آنٍ واحد , والمقصود هذه تسع { لنريك من آياتنا الكبرى } لأي شيء كل هذا الإعداد ؟! { إذهب إلى فرعون إنه طغى } ( إنه طغى ) جملة في التعريف بحال فرعون , وليس في وصفه لأن قواعد النحو تقول : أن الجمل بعد المعارف ( أحوال ) وبعد النكرات ( صفات ) , وفرعون معرفة فالجملة التي بعده حال تبين وضع فرعون , لكن قول الله ـ جلّ وعلا ـ { إذهب إلى فرعون } هذا تكليف بالرسالة , وليس موسى أول الرسل إلى فرعون , والدليل أن الله قال حكاية عن مؤمن آل فرعون : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } فيوسف أُرسل إلى فرعون الذي عاصره , وموسى أُرسل إلى فرعون الذي عاصره وكِلاهما من أنبياء بني إسرائيل , إذ أن موسى من ذرية يعقوب , ويوسف ابن يعقوب وكلهم بنوا إسرائيل وقد دخلوا مصر محدودي العدد , وخرجوا وهم أكثر من ستمائة ألف ـ كما سيأتي في موضعه ـ ... المقصود قال الله تعالى : { اذهب إلى فرعون إنه طغى } قَبل التكليف , وسأل الله الإعانة , وقدَّم أربع رجاءات إلى ربه : { قال رب اشرح لي صدري } ( رب ) مكتوبة من غير ياء , وحتى تستريح من عناء أشياء كفاك الله همَّ البحث عنها لا يوجد ( رب ) بصيغة دعاء موصولة بياء , فكلها مكونة من حرفين ( الراء , و الباء المشددة ) ....(13/24)
{ قال رب اشرح لي صدري } فأول ما سأله الله ـ جل وعلا ـ أن يشرح صدره لهذا التكليف , { ويسر لي أمري } وأن ييسر له الأمر , ولا ييسر العسير إلاَّ الله , ثمّ قال : { واحلل عقدة من لساني , يفقهوا قولي } هذه الأخيرة تحتاج إلى بيان , موسى عليه الصلاة والسلام معلوم أنه نشأ في قصر فرعون , فلما نشأ كان فرعون على وجلٍ منه , لأنه قد سبقته رؤيا أن غلاما من بني إسرائيل سيكون على يديه هلاك ملكه فكان يتحرز , فلما نشأ موسى رضيعا نشأ فصيحاً فخاف منه , فأرادت زوجته آسية أن تمنعه من ذلك , فبعد أخذ وعطاء بينهما اتفقا على أن موسى يُختبر فقُدم له جمر ولؤلؤ , وقيل جمر وتمر , أو تمر في إناء فيه ياقوت وجمر من نار ليختار بينهما , فذهبت يده إلى التمر أو إلى الياقوت ... المهم أنها بعُدت عن الجمر , قيل أن جبريل جاء ووضع يده على الجمر حتى يكون ذلك سببا في بقاءه ــ والله ـ جلَّ وعلا ـ يجعل للأشياء أسباباً , وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه ــ فوضع الجمرة في فيه فلذعته , فلما لذعته أصابته هذه الحبسة التي في لسانه والبطىء في كلامه , وهذه عيِّره بها فرعون قال كما في آية الزخرف : { أنا خير أم هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } أي لا يكاد يظهر كلامه ولا يفصح ولا يُفقه ماذا يقول , ومع ذلك هنا قال موسى ــ لأن مقام الدعوة يحتاج إلى شيء من البيان مع العلم وأمور كثيرة ــ : { واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي } هنا الله قال ( عقدة ) على لسان موسى أنه طلب حلّ عقدة واحدة قال العلماء في هذا : إن موسى كان يطلب الأمور على قصده , ولا يريد أن يكون فصيحاً يشار إليه بالبنان , ويذكره بنوا جنسه , وإنما أراد ما يكتفي به أن يبلغ دعوة ربه , وقد فهم منها العلماء على أن الإنسان يقتصد في أمور الدنيا إذا كان مصدرا للإمامة في الدين بالقدر الذي يقيم به حاله ولا يتجاوز الحد وأخذوه من هذه الآية , ثمِّ أن الله ـ جلّ وعلا ـ ختم هذه السؤلات(13/25)
بقوله : { قد أُتيت سؤلك يا موسى } وسيأتي بيانه في موضعه , نعود للقضية كلها ونستطرد في الحديث عن هذه الآيات التي سلفت فنقول في أولها : إن التربية الإلهية لا يعدلها تربية , والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه , من أعظم ما يجعلك أن تقف على الحق وتثبت عليه علمك اليقيني به , لكن عليك أن تعلم أنك بشر ضعيف تحتاج إلى من يقوّيك , والله ـ جلّ وعلا ـ قادر على أن يثبت موسى بين يدي فرعون من غير تجربة , لكن موسى لما وقف ذلك الموقف , وانقلبت العصا حية وهو يرى , واليد أُدخِلت وخرجت وهي بيضاء وهو يرى انتهى من مقام التجربة فآمن هو بقضيَّته , واقتنع بقدرته كان يسيراً عليه أن يقف واثقاً من نفسه متمكِّناً من قوله مظهراً لدليله أمام فرعون , ولهذا قال الله عنه في الشعراء : { قال أولو جئتك بشيء مبين } فذلك الخوف الذي كان موجوداً انتهى { قال فأت به إن كنت من الصادقين } قال الله { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين , ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } لما ألقى موسى عصاه أمام فرعون لم يفرَّ هارباً رغم أنها انقلبت إلى حية مثل الأول , لأنه كان يعلم أنها ستنقلب حية , لأجل هذا ربى الله رسله , فالله يقول في حق خليله إبراهيم : { وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } فكان إبراهيم عارفاً بملكوت السماوات كما علَّمه الله حتى يثبت أمام الشدائد التي ستأتيه , ونبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ غُسل قلبه , ومليء إيماناً وحكمة , وتجاوز السبع الطباق وعُرج به ورأى من آيات الله الكُبرى حتى بعد ذلك إذا حدّث عن الجنة والنار يحدِّث عن شيء هو مؤمن به كل الإيمان يعرفه حق المعرفة , فمن دعا إلى الله ولم يتسلَّح بالعلم القلبي والإدراكي لا يكون قادراً على الثبات كغيره , ولو سمع شبهة تشكك في الجنة أو في النار , أو تخبر بعدم قيام البعث , أو كلمة يلقيها من(13/26)
يلقيها على عواهنها فتقع منه موقعاً يجعله يحجم عن الدعوة , فحتى الذين منَّ الله عليهم بالهداية من خلال موقف إيماني كالذي يرى مصرعاً لأحد , أو يمر على جنازة , أو يرى قبراً هذا محمود يكون سبباً في الهداية لكنه لا يكفي , فلابد أن يُسقى ذلك بعلم بالله ـ جلّ وعلا ـ حتى يكون ثبات على الدين , لأن أثر ذلك الموقف العارض لا يلبث أن ينجلي إن لم يُسقى برحيق العلم والمعرفة والتفكُّر في مخلوقات الله , وإذا أراد الله بعبد خيراً ومُضيٍ في الطريق قلَّبه ـ جلّ وعلا ـ في أمور الدنيا والأهوال والنوازل والابتلاءات... وغيرها يراها حتى يشتد عوده , ويثبت جنانه , ويصبح على بيِّنة من ربه وهو يدعوا إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ , وهذه العطية هي التي منحها الله ووهبها لأوليائه ورسله وخاصةً منهم أولو العزم , ومنهم كليم الله موسى بن عمران ....(13/27)
*الأمر الثاني ـ كفوائد ـ : أن الإنسان ضعيف لولا إعانة الله ـ جلّ وعلا ـ له , وقد ورد في الحديث القدسي أن الله ـ جلّ وعلا ـ قال لموسى : ( يا موسى سلني ملح عجينتك , سلني علف دابتك , سلني شسع نعلك .. ) فأي أحدٍ فقير إلى الله من كل وجه , والعطايا الألهية إليك بقدر عظيم إظهار فقرك إلى الله ـ جلّ وعلا ـ , فلا تدخلن مقاما , ولا تجلسن على كرسي , ولا تتصدرن في موضع وأنت تظن أنك وصلت إليه بحولك وقوتك , فإذا كان الكليم يقول : { رب اشرح لي صدري , ويسر لي أمري } ويسأل الله الإعانة تلو الإعانة , والأمر تلو الأمر .. , لكن المهم أن لا تسأله غير الله ـ جلّ وعلا ـ , وأن تلجأ إلى الله ـ جلّ وعلا ـ في حاجتك , فقد مرّ معنا في دروس عدة مقولة نُقلت عن (العزِّ بن عبد السلام ) قالها في كتابه ( فوائد الأحكام ) قال : ( والله لن يصلوا إلى شيءٍ بغير الله , فكيف يوصل إلى الله بغير الله ) وهذا من نفائس الكَلم , ولا يوفق لقوله أي أحد , لكن ( العز بن عبد السلام) كان ـ فيما نحسبه ـ عارفاً بربه عالماً بالشرع متدبراً بالأمر مستعيناً برب العزة والجلال فوفق لأن تخرج منه هذه الكلمات , وهذا ما دلت عليه جملة سؤالات الأنبياء , وخاصة فيما نحن فيه من سؤال كليم الله موسى بن عمران لربه ـ جلّ وعلا ـ ...
* مما دلت عليه الآية أن الخوف جبلِّي في الإنسان , وأن الإنسان لا يُعيّر بالخوف , وقد قال الله ـ جلّ وعلا ـ عن موسى في آية أُخرى : { قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون} , { إني أخاف أن يكذبون } ومع هذا طمأنه الله , فثمّة أمور جبِّلية تنشأ في بني آدم لا تضر , لكن العبرة بما استقر عليه القلب , والسكينة أمر محمود , والأمنة من الله شيء عظيم وهبة منه , والله له جند ينصر ـ جلّ وعلا ـ حتى بالنوم والنعاس نصر المؤمنين في بدر { إذ يغشِّكم النعاس أمنة منه } فالله ـ جل وعلا ـ له جند يعلمهم ولا نعلمهم ,(13/28)
والمقصود: من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه سيسخِّر الله له من الجند ما يعلم ومالا يعلمه ذلك المؤيد المنصور ....
* دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود خاصة في التربية , فمن دونك من الطلاب أو الأبناء , ومن تريد إقناعه الوصول إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار والأخذ والعطاء والتساؤلات والبدء من الأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها أمر محمود في الطريقة , ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك له وإجلالك له , والانطلاق من أشياء تتفقون عليها من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى برِّ الأمان , فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق ...(13/29)
قلنا إننا سنرجيء الحديث عن إذا الفُجائية .... , من المعلوم أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا , ولم يَدُر في خلده أنها ستنقلب حية , فيقول النحويون إن هذه ( إذا ) الفُجائية وما بعدها حقه عند جماهيرهم أنه يُرفع ولهذا قال الله : { فإذا هي بيضاءُ } خبر { للناظرين} , وقال هنا : { فإذا هي حية ٌ} بالضم { تسعى} , فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل : إن الأصل فيما يأتي بعد ( إذا) الفُجائية أن يكون مرفوعاً , وهذه مسألة ـ مرّت ربما معنا ـ تُسمَّى مسألة ( الزنبورية ) , وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمِّل مجداً في بغداد , فدخل على يحيى بن خالد البرمكي ـ وزير هارون الرشيد ـ , وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام , والخلافة فيها موطن الناس , فجاء يؤمِّل فيها مجداً عظيماً وكان إمام البصرة غير منازع , والكسائي إمام أهل الكوفة ، فالتقيا الكسائي وسيبويه في مجلس خالد بن يحيى البرمكي وعنده ابنه جعفر , فقال الكسائي لسيبويه : تسألني أم أسألك ؟ قال : سلني , فذكر الكسائي هذه المسألة ـ ما يقع بعد ( إذا) وأنه يجوز فيها الوجهان ( الرفع والنصب) ـ فمنع سيبويه أن العرب تقولها بالنصب , وأنه ليس لها إلاّ وجهاً واحداً هو ( الرفع ) والقرآن يؤيده , لكن الكسائي أصر , فقال يحيى بن خالد : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما ؟! , فقال له الكسائي : هذه وجوه الأعراب في الباب فاسألهم .... , فقيل أن المسألة كانت سياسية أصلاً قبل أن تكون علمية للتنازع مابين الكوفة والبصرة , والتنازع مابين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قُربة عند السلطان ,فوجوه الأعراب مالت إلى الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه , فأشاروا بأن الصواب مع الكسائي فبُهت سيبويه , فزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول ليحيى : إنه جاء يؤمِّل منك عطايا فاجبر(13/30)
كسره وارحمه ... , فالآن جعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو , فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء مالحق به , واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً فلحق بفارس , ثم مات مُغتمَّاً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره , ثم قيّض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له أحمد أبو محمد اليزيدي , هذا اليزيدي دخل مع الكسائي في مناظرة أُخرى , مع أن الأولى قلنا أن الحق مع سيبويه لكن السياسة لعبت دورها , وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه , وكلها باطله بيّنها أهل النحو ولا حاجة للتفصيل فيها الآن , لكن جاء اليزيدي ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس وأمام الكسائي وقال : هل تجيز هذا ؟ وقبل أن نقول البيتين وحتى تفهمهما لئلا تقع فيما وقع فيه الكسائي .... العرب معلوم أنها ترفع اسم ( كان ) وتنصب خبره وهذا شبه متفق عليه , فقال اليزيدي للكسائي ماذا تقول في قول العرب :
ما رأينا خرباً ينقر عنه البيضَ صقرُ *** لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهرُ
نلاحظ أن ( لا يكون ) تكررت مرتين وهي التي أرادها يقع فيها الكسائي مزلقاً , فوقع فيها ... , فلقد فهمها الكسائي بأن اليزيدي يقول :(13/31)
لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً وهذا هو أصلها النصب , لكن اليزيدي نطقها بالرفع ( لا يكون المهر مهرُ ) , فاليزيدي قصد ( لا يكون العير) أي الحمار ( مهراً) وهنا انتهى الكلام , ( المهرُ مهرُ ) مبتدأ وخبر كِلاهما مرفوع , لكن الكسائي قرأها ( لا يكون العير مهراً لا يكون المهرُ مهراً ) فوجدها منصوبة , فردَّ البيتين وقال أنهما خطأ , فلا يقع الرفع وإنما حقها النصب , ولا تجوز إلاّ لضرورة الشعر وعبَّر عنها باصطلاح يسمى ( الإسراف) عند البعض( والإقواء) عند البعض , ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي , فصار يعيده عليه ويقول له انظر والكسائي مُصرٌّ , مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي , لكن إذا أراد الله شيئاً يقع , فكررها مرتين وثلاثاً هنا وقع اليزيدي في الخطأ , فلما أصرَّ الكسائي على رأيه وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد خلع عمامته وضرب بها الأرض فرحا , وضرب بيده على صدره وقال : أنا أبو محمد ــ يعني انتصرت ــ , فقال له يحيى بن خالد : والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك , أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قنسوتك من رأسك ! ـ يعني هذا سوء أدب لايُفعل أمام أمير المؤمنين ـ , فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل ... *هذا ما دوَّنه المؤرخون *(13/32)
أقول ـ عفا الله عني ـ : نصر الله الكسائي بالقرآن , يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين , فنصره الله في الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع الأوجه , وهذه المرة حتى عندما وقع , وقع اليزيدي في سوء الأدب , وبقي هو على حشمته ووقاره فكانت سببا في نصرته .... , والذي نريد أن تفهمه من هذا الاستطراد أمور من أهمها : * لا تبدأ أحد بالأسئلة , دع خصمك هو الذي يبدأ , فإذا غُلبت في الرد على خصمك , يقولون حوِّل الجواب إلى سؤال , فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت , هذا إذا تريد موارد أهل الدنيا , أما إذا تريد موارد أهل الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلاّ وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق , وقد كان الشافعي ـ رحمه الله ـ يقول : ما جادلت أحداً إلاّ تمنيت أن يخرج الله الحق على لسانه , وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله هذه المنزلة العالية من حب المسلمين ــ وهذا في الأخذ والعطاء ــ , لكن يحصل بين الأنداد عموماً التنازع , ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد , حتى لا يقع بينهما التنازع , فمالك ـ رحمه الله ـ على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لمحمد بن إسحاق صاحب السيرة , وكل منهما جليل القدر في فنه , عظيم الأثر في علم الأمة , وإن كان مالك نحى إلى علم الحديث فهو أشرف من هذا الوجه , فيقولون إن مالك كان يقول عن محمد بن إسحاق: أنه دجال من الدجاجلة ـ على الروايات التي يقولها أهل التأريخ ـ , ومحمد بن إسحاق يقول : إتوني بالموطأ فأنا بيطاره ـ يعني طبيبه ـ , والمعنى/ أُبيّن لكم أخطاء مالك في الموطأ ـ وطبعاً لا يُقبل قول كل واحد منهما في الآخر , لكن يوجد من أهل العلم من منَّ الله عليه ببغية الحق أينما كان حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله ـ جلّ وعلا ـ فيهم , ولا يمنعنَّه كونهم أنداداً له ومعاصرين أن يترفّع عليهم أو أن يقول(13/33)
فيهم بغير وجه حق , لكن هذه منزلة عالية ليس الكل يؤتاها ......
هذا استطراد في قول الله ـ جل وعلا ـ : {فإذا هي حية تسعى } ... والمقصود: من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه سيسخِّر الله له من الجند ما يعلم ومالا يعلمه ذلك المؤيد المنصور ....
* دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود خاصة في التربية , فمن دونك من الطلاب أو الأبناء , ومن تريد إقناعه الوصول إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار والأخذ والعطاء والتساؤلات والبدء من الأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها أمر محمود في الطريقة , ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك له وإجلالك له , والانطلاق من أشياء تتفقون عليها من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى برِّ الأمان , فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق ...
} ... * من فوائد هذه القصة كذلك أن الله ـ جلّ وعلا ـ قال لنبيه : { خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } فقول الله ـ جلّ وعلا ـ { ولا تخف } هذا نوع من الاطمئنان أعطاه الله ـ جلّ وعلا ـ موسى قبل أن يأخذ العصا , وهذا يأتي في التربية حتى الذين تريد أن تربيهم على الحق لا تقطع أملهم في المكافأت , أو لا تظهر تخليك عنهم تماماً وتقول : لا أنا أريد أن أربيهم , أو أريد أن يصل للحق بنفسه ... يحسن أن يكون هناك ثمة شيء يسير من الإعانة كما أعان الله كليمه موسى بقوله { خذها ولا تخف } , ولو قال له ( خذها ) من غير أن يقول له ( ولا تخف ) لأخذها موسى , لأن موسى أتقى لله من أن يرد قوله , ولكن الله قال له ( ولا تخف ) نوع من الاطمئنان , نوع من الإعانة , نوع من التيسير في التكليف , ولهذا جاء في دعاء الصالحين : { ولا تحملنا مالا طاقة لنا به }(13/34)
{قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } ثم إن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما سيأتي هذا تفصيلاً في أمر آخر ـ طلب أن تكون الوزارة في أخيه هارون , لأن قلنا أن في موسى حُبسه , وهارون كان فصيحاً , فكان الناس في حاجة إلى صرامة موسى وحسن سياسته مع قدرة هارون على التعبير وإيضاح الرأي , وقد ختم الله ـ جلّ وعلا ـ هذا المقطع الذي سنبدأ به لقاءً قادماً ـ إن شاء الله ـ قوله : { قد أُتيت سؤلك يا موسى } وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم ما يُفرح به أن يجيب الله ـ جلّ وعلا ـ دعائك , وإجابة الدعاء من أعظم العطايا , ولهذا قال الله لنبيه مقروناً بحرف التحقيق :(13/35)
{ قد أُتيت سؤلك يا موسى } ثم أخبره أن هذه ليست أول منّة له , المراد من هذا يقال : إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان , لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية , فوالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بُغية شيء إلاّ وأعطاه الله ـ جلّ وعلا ـ إياه , إذا كان يريد ذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله , وليس له فيه ولا لغيره حظ ولا نصيب , فالله يقول: { يهدي الله لنوره من يشاء }, ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور ـ سواء النور العام الذي هو الإسلام أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات ـ يكون مرتبطاً بحسن المقصد , ويكون الإنسان همُّه وبغيته أن يصل إلى هذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله , وقد يُمكَّن من يبتغي غير الأمر الذي ينشده غير الله ـ يعني يبتغي بالأمر غير الله ـ , لكن مثل هذا لا يُعد إماماً في الدين , لأن الله ـ جلّ وعلا ـ منع الإمامة في الدين للظالمين , ولا ريب أنه ظالم لنفسه من أراد للدنيا غير وجه الله , ومن أراد بالعمل الصالح والخيِّر غير وجه الله , والله قال لعبد ـ وأي عبد ـ وهو خليله إبراهيم قال : { إني جاعلك للناس إماماً }فقال متلهفاً من أجل ذريته : { قال ومن ذريتي } فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم : {لا ينال عهدي الظالمون } أي هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم , فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلم أو بأي أمر آخر أحداً غير الله , لكن الإمام في الدين الحق من ابتغى بعلمه الله ـ جلّ وعلا ـ وحده , ولم يستشرف ولم يشرأب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى , فما أتاه من الدنيا يتحرز منه , وقد ينقل له رؤى ومنامات تُحكى عنه ويُمدح ويقول الناس فيه ما يقول , وأن الله كتب لك القبول .... وأمثال ذلك , فليأخذها على حذر خوفاً أن يكون استدراجاً , فإن العبد لا يدري بما يُختم له , هذا التكليم الذي حدث في سورة(13/36)
(طه) جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة (طه) يسمونها سورة ( الكليم ) , لكن هذا وقع عند بعض المفسرين , أما الاسم التوقيفي لها سورة ( طه ) .....
هذا ما يسر الله ـ جلّ وعلا ـ قوله حول هذا الخبر المبارك عن نبي الله موسى , وجملة نقول : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أثر الله من ذكر قصصه في عدة مواطن , السبب في ذلك أنه عالج بني إسرائيل أشد المعالجة , وهذه المعالجة انقلبت نُصحاً في حديث الإسراء والمعراج فإنه قال لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنني قد بلوت الناس قبلك , وإن أمتك لن يطيقوا ذلك ) وهذا النبي الكريم واجه أمرين : أمر عتو من أُرسل إليه وهو ( فرعون ) , وأمر في أن من حوله من بني إسرائيل لم يكونوا يعينوه على دعوة ربه , فما أن نجّاه الله من فرعون حتى وجد العناء والعنت من قومه { قالوا إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ومع ذلك صبر على طغيان فرعون , وصبر على عنت قومه وشقائهم وعتوهم معه حتى ختم الله ـ جلّ وعلا ـ ومات في أرض التيه , وبقي عبداً صلحاً حتى وهو في قبره , يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( مررت ليلة أُعرج بي وإذا بموسى قائماً يصلي في قبره ) وهذه حياة برزخية الله أعلم بها , لكنها تُبيّن لك أي مقام كريم لهذا النبي الكليم ـ صلوات الله عليه وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم ـ , نعود فنختم جملة ما يقال .... هذا ما تيسر قوله من سورة ( طه ) بدأنا من قول الله ـ جلّ وعلا ـ : { طه } إلى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي } وقلنا : أن في هذه الستة عشر آية تقريباً أو أكثر من المنافع ما بيناه إجمالاً وتفصيلاً ...(13/37)
وسنشرع ـ إن شاء الله ـ في اللقاء القادم في الحديث عن الرجاء الأخير لموسى عند ربه وهو أن يجعل له وزيراً من أهله , ثم كيف أن الله ـ جلّ وعلا ـ ذكّره بالمنن السابقة والعطايا التي سبقت مقام التكليم بقوله ـ جلّ وعلا ـ : (ولقد مننا عليك مرة أُخرى , إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ) ثم سيأتي بإذنه ـ جلّ وعلا ـ تفصيلاً خروج موسى وهارون إلى فرعون , والمنازعة التي حصلت بين الرسول ـ عليه السلام ـ وبين فرعون , والقضايا التي أُثيرت , ثم ما حصل بينهما من تواعد في السحر , ثم نصرة الله لموسى على السحرة , وإيمان السحرة وتوعِّد فرعون لهم , ثم خروج موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقومه من أرض مصر إلى الأرض المقدّسة , ثم وفاة موسى في أرض التيه بعد غرق فرعون بسنين عديدة , ثم سيأتي الكلام عن يوشع بن نون , والحديث عن بني إسرائيل مفصلاً في حينه ......
هذا ما تيسر إيراده , وتهيأ قوله , وأعان الله ـ جلّ وعلا ـ على ذكره , والله المستعان وعليه البلاغ , وصلى الله على محمد وعلى آله , والحمد لله رب العالمين ......
تفريغ سورة طه من الآية ( 29) إلى الآية ( 55)
الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله أراد ما العباد فاعلوه ، ولو عصمهم لما خالفوه ، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد
...(13/38)
كنا قد توقفنا في اللقاء العلمي السابق عند ذكر ـ وأوحى إليه ـ من ربه بعد أن كلمه الله ـ ما طلبه موسى ـ قال رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، هارون أخي ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري } هذه هي ـ ربه ، وإنما سأله إياها حتى تعينه على الدعوة إلى السؤالات التي سأل بها موسى ـ ـ فبدأ بقوله {الله ـ رب اشرح لي صدري } لأن الإنسان إذا انشرح صدره للأمر الذي يطلبه كان ذلك أشد عوناً له في قضاء تلك الحاجة التي يرومُها ...، { ويسر لي أمري } ذلك أن الأمر في الأصل حَزنٌ وصعب ـ ، لذلك جاء في الحديث ( إلاّ أن ييسره الله ـ اللهم لا سهل إلاّ ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إن شئت سهلاً ) ...
{ واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي } ( عقدة من لساني ) الناس فيها على قولين :
قول ٌ أخذ بالأثر الموقوف عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في أن سبب تلك العقدة ما كان من اجتراء موسى بين يدي فرعون لمّا ـ بالحبسة التي كانت في لسانه بين- عليه السلام -قُدِّم له الجمر والتمر ، وقد اعترف موسى ـ ـ وبأنه أقل فصاحة من أخيه هارون {يدي ربه ـ ) وأخي هارون هو أفصح مني لساناً (
وقال آخرون : أن شخصية موسى شخصية انفعالية حادة ، والشخص إذا أضحى حاداً منفعلاً يصبح فيه حُبسة ، فيكون كلامه سريعاً غير واضح .
*ثم ـ يناجي ربه ويرجوه :
قال ـ واجعل لي وزيراً من أهلي ، هارون أخي } فحدد في الطلب بعد أن أجمل ، فقوله ( أهلي ) عامة ، ثم خصص بكلمة ( هارون أخي ) ... ( وزيراً) الوزر في اللغة بمعنى / الثِقل ... قال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أُخرى } أي لا تتحمل نفس ذنب أُخرى ولا ثقلها . ، والوزير عادة يحمل ثقل الإمارة عن الأمير فلذلك يسمى وزيراً .(13/39)
{ واشدد به أزري } فهو يطلب من الله ـ تعالى ـ أن يجعل أخاه هذا مما يُشدّ به الأزر .. { وأشركه في أمري } ( الهاء ) هنا عائدة على هارون ، ( أمري ) يعني بذلك النبوة والرسالة .... ، فقال العلي الكبير لعبده موسى : { قد أُتيت سؤلك يا موسى ـ نبياً رسولاً بشفاعة أخيه موسى ، ولهذا قالوا : أنه} ، فأضحى هارون ـ ـ له قربى وزلفى لا يُعلم أن أخاً أمنُّ على أخيه من منة موسى على هارون ، فموسىـ وجاه عند الله كما قال ـ سبحانه ـ : { وكان عند الله وجيهاً } فبهذه الوجاهة أضحى هارون نبياً ...
ـ بعد ذلك *ثم ذكر موسى ـ القضية الأساسية من هذا كله قال :{كي نسبحك كثيراً ، ونذكرك كثيراً ، إنك كنت بنا بصيراً } فذكْر الله من أعظم العبادات وأجلّ الطاعات ، قال ـ ـ : ( سبق المفردون ) قالوا : يا رسول الله ومن المفردون ؟ قال : ( الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) ... { قال قد أُوتيت سؤلك يا موسى } هذه منّة من الله ـ تعالى ـ على ـ أفضاله ونعمه وعطاياه على هذا موسى ، وهي ليست بأول منة ... ، ثم عدد الله ـ النبي الكليم فقال ـ سبحانه ـ :{ ولقد مننا عليك مرة أُخرى } أي بإجابتنا لدعائك .. ( مرة أُخرى ) هذا يدل على أمرين :
1ـ يدل على أن هناك أمور سابقة ،
2ـ يدل على أن هناك أمور لاحقة ، لأنها لو كانت نهاية المطاف لجاء التعبير القرآني ( مرة أخيرة ).... والمعنى / أي سبقت منتنا عليك ، وستأتي منن أُخرى عليك أيها الكليم ...(13/40)
ثم عدد الله ـ تعالى ـ ما سبق ، وأشار إلى ما سيأتي فقال تعالى : { ولقد مننا عليك مرة أُخرى ، إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى } ( إذ ) ظرف لما مضى من الزمان ... ، ولم ـ ما أوحاه الله إلى أم موسى ، فأبهمه ثم فصّله بعد ذلك لتصبح الأنفس يذكر الله ـ ـ إنما هو إلهام من مشتاقة لسماعه ، وينبغي أن يُعلم أن وحي الله لأم موسى ـ الله ـ تعالى ـ ، وليس هو الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء فالنبوة لا تكون في النساء ، فألهمها الله بـ { أن أقذفيه في التابوت } أي موسى ، و( التابوت ) الصندوق .
{ فاقذفيه في اليم } ولم يلهمها الله بأن تُخبأه عن عين أحد , بل جعلها تقذفه في اليم , ومعلوم أن إلقاء طفلاً رضيعاً في اليم لم تجرِ عليه إلاّ أياماً معدودة مظنة الهلاك ، لكنه يصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله ـ تعالى ـ , فلا ملجأ ولا منجا من الله إلاّ إليه , فقذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع , فقال الله للبحر ـ كما دل عليه ظاهر القرآن ـ : { فليلقه اليم بالساحل } أي البحر .. وهو النيل بالاتفاق , { يأخذه } جواب للأمر ... ، فجرى ذلك التابوت بقدر الله حتى أضحى قريبا من فرعون , حتى آن به الأمر أن تفتحه زوجة فرعون {يأخذه عدو لي وعدو له} ... { وألقيت عليك محبة مني } والخطاب مازال لموسى , وحتى يبقى موسى حياً أجرى الله السبب وهو أنه ـ سبحانه ـ قذف في قلب كل من يرى موسى المحبة , وأوَّل أولئك ( آسية بنت مزاحم ) امرأة فرعون , فذهبت إلى فرعون تقول : { قُرة عين لي ولك } قيل ـ والعلم عند الله ـ أن فرعون قال : أما لك فنعم , وأما أنا فليس لي به حاجة ... ، فوقع ما أراده فرعون .
(ولتصنع على عيني (
أي تنشأ وتهيأ على رعاية من الله ـ تعالى ـ وحفظ وكلأ من ذي العزة والجلال , لأنه ادخرك لأمر عظيم .(13/41)
ثم كرر ـ سبحانه ـ ظرفاً آخر { إذ } { تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله } وهذا وقع بعد تحريم المنع , وامتناع موسى من قبول ثدي النساء إنما هو تحريم منع وليس تحريم شرع , قال تعالى في آية أُخرى : { وحرمنا عليه المراضع من قبل } واستنبط العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ من هذه القضية : أن الإنسان عليه أن يأخذ بالأسباب ... , ووجه هذا الاستنباط هو ـ وعد أم موسى أنه سيرد موسى إليها فقال الله لها : { أن الله ـ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } ومع هذا الوعد الرباني والإلهي إلاّ أنها قالت لأخته : { قُصيه} أي تحسسي خبره , فأخذت بالسبب وتحسست الخبر .
{ هل أدلكم } تخاطب هنا آل فرعون , { على من يكفله } وكانوا قد بلغت بهم المشقة مَن الذي يكفله وقد امتنع عن النساء ؟! ... ،{ فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن } وأي حزن سيأتيها وقد أضحى وليدها الذي رمته في اليم بين يديها ترضعه وتأخذ على رضاعته أجراً , والقضية إنما هي قضية عناية إلهية لهذا العبد الذي أراد أن يكون بعد ذلك كليماً مصطفاً ونبياً رسولاً .
{وقتلت نفساً } وهي قصة قتل موسى للرجل القبطي من أهل مصر , { فنجيناك من الغم } هو الذي أصابه عند قتل تلك النفس وله صورتان :
1ـ غم عند شعورك بالذنب قال تعالى عنه : { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفرلي )
.
2ـ غم عندما أُخبرت أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك , فأخرجك الله ممن كان يريد قتلك إلى أرض مدين .
(وفتناك فتوناً )
والأظهر أن هذه الآية هي جمع لما سبق , أي وابتليناك ابتلاءً بعد ابتلاء .(13/42)
{ فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى } ( فلبثت سنين ) هنا إبهام في عدد السنين , فلم يحدد الله عدد السنين , لكن عددها لا يخرج عن ثمان أو عشر سنوات , وذلك من قول العبد الصالح ـ كما حكى الله تعالى عنه ـ في سورة القصص : { قال إني أريد أن أُنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك .. } , وقد جاء في الحديث الصحيح رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سأل جبريل : ( ما الأجل الذي قضاه موسى ؟ ) ، قال : ( أتم أوفى الأجلين ) فعلمنا هنا أن السنين التي أبهمها الله في سورة ( طه ) هن عشر سنين , فالسنين التي هذه التي لبثتها كنت فيها معززاً مكرماً محفوظاً آمناً من بطش فرعون , ثم قال الله له : { ثم جئت } أي إلى هذا المكان الذي أنت فيه وتخاطب فيه ربك , { وجئت } من أرض مدين إلى جبل الطور .
{ على قدر يا موسى } من المعلوم أن كل شيء خلقه الله بقدر , لكن القدر الذي هنا هو قدرٌ خاص , بمعنى / العناية العظيمة من الله ـ تعالى ـ لكليمه موسى , أي جئت لأمر أعددناه لم تتأخر عنه ولم تتقدم , ولحكمة ما أراد الله ـ تعالى ـ جئت في هذا الوقت بالذات لأُنبئك وأرسلك , وأجعلك كليماً مصطفاً على أهل زمانك { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي { ..
ثم أتم الله عليه النعمة فقال تعالى(13/43)
: ( واصطنعتك لنفسي } ففي الأولى قال : { ولتصنع على عيني } لكن لا يُعلم لأي شيء , ثم قال :{ واصطنعتك لنفسي } وهو من أعظم الثناء في القرآن , ثم انتقل الأمر من تهيئة موسى إلى بعثه فقال الله ـ تعالى ـ له { اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري } فقرنهما بالأمر الأول .. ( لا تنيا ) لا تضعفا... من الفعل ( ونا ) أي ضعف وعجز ولان , وهذا دليل على أن من أعظم ما يعين على تحقيق المطلوب هو الإكثار من ذكر علاّم الغيوب , لذلك قال الله ـ تعالى ـ قبل أن يبعثهما أو أن يسمي لهما إلى من يذهبان قال لهما { ولا تنيا في ذكري } { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } ولا ريب أن فرعون قد طغى .. فلقد قال { أنا ربكم الأعلى }, {وما علمت لكم من إله غيري } وكل ذنب يندرج بعد ذلك في هذا الأمر , وهذا إجمال من الله ـ عز وجلّ ـ . , { فقولا له } أي فرعون { قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} ( واللين ) يكون في الأسلوب لا في المضمون , وتطبيق ذلك على خبر موسى : أن الله ـ عز وجلّ ـ أمر موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ أن يدعوا فرعون إلى التوحيد وإلى عبادة الله , فلا يعقل أن يكون موسى وهارون فهما من اللين تغيير الدعوة , ولكن اللين في كيف يتم طرح القضية في الدعوة ؟ , وكيف القول لفرعون ( آمن بالله ) ؟ ...(13/44)
{ لعله يتذكر أو يخشى } وقد سبق في علم الله ـ تعالى ـ أن فرعون لن يتذكر أو يخشى , لكن أراد الله ـ تعالى ـ أن يعلم من يدعوا إليه كيف يدعوا إليه ويتدرج في خطابه ... , { قالا } أي موسى وهارون { ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى } والمقصود من الأمرين ( الإفراط والطغيان ) بأن لا يقبل منا حقاً ولا باطلاً ... { قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } الله مع كل أحد يسمع ويرى , ولكن هنا معية خاصة لكليم الله موسى وأخيه , وهذا من أعظم ما وقر به الاطمئنان في كليم الله موسى ـ عليه السلام ـ , قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية : ( فإن فرعون لن يبطش ولن يتقدم ولن يتأخر إلاّ بإذن الله ـ تعالى ـ القدري . ....
{ إنني معكما } بتأييدي , { فأتياه } أي فرعون , { فقولا إنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم ......} { بآية من ربك } أي من جنس الآيات , { والسلام على من اتبع الهدى }هذا نوع وأسلوب اطمئنان في الكلام , ولكن اختلفوا في هل هو تحية أم لا ؟ .... قال بعض العلماء أنه تحية استناداً على ما ورد في الأحاديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما بعث خطاباً إلى هرقل وغيره كتب ( من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم أما بعد ... سلام على من اتبع الهدى ) ..... , وقال آخرون : بأنه ليس تحية بدليل بأنه لم يأتِ في أول الكلام ... ولكل وجه فقد يكون ختم موسى به أمره , وأخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون تحية لغيره .. { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } فالكفر كما سبق معنا يجتمع في خصلتين هما ( التكذيب والتولي ) .(13/45)
هنا يوجد بعد هذه الآية ما يسمّى ( بإيجاز حذف ) فلقد قبلا موسى وهارون الدعوة وتوجها إلى فرعون , ولم يذكر ما مدة و قوفهما بالباب ولا مدة استلطافهما لفرعون للدخول عليه ـ فهذا علمه عند الله ـ ، ثم دخلا عليه وعرضا عليه الرسالة ... , فقال فرعون : { ومن ربكما يا موسى } فأجاب الكليم قائلاً : { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } , كان فرعون يعلم أن رب موسى هو الله ـ عز وجلّ ـ , لكن من باب الاستكبار وإظهار أن الله ـ تعالى ـ لا يستحق العبادة خوفاً من انفراق قومه عنه ... ( الخلق ) مقدم على ( الهداية ) والنعمة نعمتان : نعمة خلق وإيجاد , ونعمة هداية وإرشاد .. فمن حيث الترتيب الزمني فإن نعمة الخلق والإيجاد قبل نعمة الهداية والإرشاد , ومن حيث كونها فضل ونعمة ومنَّة فإن نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإرشاد , فهنا لمّا تكلم موسى من حيث الترتيب الزمني قدَّم الخلق على الهداية والإرشاد , ولكن لمّا تكلم ـ سبحانه ـ عن ترتيبها في الفضل قال : { الرحمن ، علم القرآن ، خلق الإنسان } فقدم نعمة الهداية والإرشاد على نعمة الخلق والإيجاد , فأضحى كل شيء يتصرف بالقدر الذي هداه الله ـ عز وجلّ ـ إليه .... , والكلام كله يتحدث عن الرسالة ، لكن فرعون كان ذكيأً فأراد أن يخرج موسى من جوِّ الرسالة إلى عالم الحكاية فقال : { ما بال القرون الأولى } والقرون الأولى لا تُعد لكثرتها , والكلام فيها لا يقدم ولا يؤخر وهو ما قصده فرعون , ولكن الكليم ـ عليه السلام ـ تنبَّه لمقصد فرعون فأجمل في الخطاب { قال علمها عند ربي } أي أنا رسول وهذا غيب , ولا اطلاع للرسول على الغيب إلاّ بمقدار ما علمه الله ـ جلّ وعلا ـ ... , { في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } فالله ـ جلّ وعلا ـ بكل شيء عليم , وأن علمه يوصف بأنه لم يسبقه جهل , ولا يلحقه نسيان .... , والنقص في العلم في حق غير الله ـ عز وجلّ ـ
يأتي من عدة أوجه
:(13/46)
1ـ يأتيه في أن يعلم ثم ينسى ,
2ـ ويأتيه في أنه يجهل ثم يتعلم ,
3ـ في أنه يتعلم ثم لا يحيط علماً بما علم ... , ثم أخذ بعد ذلك يعدد التعريف بربه .
قيل أن هذا من كلام موسى وقيل أنه من كلام الله ـ عز وجلّ ـ والعلم عند الله { الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً ....... } فإن قلنا أن الكلام لموسى ـ عليه السلام ـ فإنه أراد في نفس السياق الخطابي أن يُعرِّف بربه ...
{ وأنزل من السماء ماء } وهو الغيث والمطر , { فأخرجنا به } أي بهذا المطر , { أزواجاً من نبات شتى } أي في كل شيء , منه ما تأكله الدواب ، ومنه ما يأكله بنوا آدم ، ومنه ما هو زينة للأرض منه الحمض والحلو والمرّ ... وغير ذلك ، فهي أنواع شتى خلقها الله ـ عز وجلّ ـ .... , ثم قال تعالى : { كلوا وارعوا أنعامكم } أي شيء لكم , وشيء لدوابكم .
{ إن في ذلك لآيات لأولي النهى } أي في تلك الأمور كلها الدالة عظيم خلقه . {لآيات لأولي النهى } ( النهى ) ذوي العقول , ولم ترد هذه الكلمة إلاّ في موضعين كُلهن في سورة ( طه ) , والمعنى / أن أصحاب العقول هم أقدر الناس وأولاهم وأشدهم تهيئة لأن يعتبروا بما يرونه أمامهم .... , ثم قال الله ـ تعالى ـ : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أُخرى } والكلام كله عن الأرض , فخلق أبينا آدم ـ عليه السلام ـ مرت بمراحل , فقوله تعالى : { منها خلقناكم } أي باعتبار خلق أبيكم آدم . , { وفيها نعيدكم }
والمقصود/ أن الإنسان مردّه إلى القبر والتراب حتى وإن لم يمت على الأرض كمن أكله حوت أو سبع , { ومنها نخرجكم تارة أخرى } وهذا الإخراج يكون يوم البعث والنشور , ويكون نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول من ينشق عنه القبر , فيجد أخاه عيسى آخذ بقوائم العرش ... قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟! ) .....
*أمّا ما يمكن الاستفادة منه في الآيات السابقة :(13/47)
1ـ أن الله ـ عز وجلّ ـ اصطفى هذا الكليم وقرِّبه وأدناه , وكان همّه في أول أمره جذوة من النار , فعاد وهو كليم الواحد القهّار
.
2ـ لمّا منّ الله عليه بالرسالة أحب أن يشرك الله ـ عز وجلّ ـ أخاه فيها ، فقبل الله ـ عز وجلّ ـ له السُؤل , وذكَّره بالمنن الماضية في كيف نشأ محفوظاً برعاية الله ـ عز وجلّ ـ حتى جاء على قدرٍ بين يدي الله ـ تعالى ـ يكلمه ربه ويعطيه مقام التكليم , ثم بعثه الله ـ عز وجلّ ـ إلى فرعون , وليس موسى أول الرسل إلى أرض مصر , بل دل القرآن على أن هناك رسلاً قبله , ومنهم يوسف ـ عليه السلام ـ , ثم وقف موسى بين يدي فرعون , فخاطبه فرعون بقوله { فمن ربكما يا موسى }, فعرَّفه موسى ـ عليه السلام ـ بربه , فلمّا احتار فرعون في الجواب أراد أن يخرج عن ماهيِّة الخطاب ويشغل موسى بقضايا الحكايات , فردِّه موسى إلى أمور الرسالات { قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ( ثم توالت الآيات تبيّن ما من الله ـ عز وجلّ ـ به على الخلق تظهر ربوبيته , وهذه الأمور كلها لا يستطيع فرعون ولا غيره أن ينكرها , فهي حجج باهرة وآيات ظاهرة وقدرة تُعجز من يراها.....
تأمل في النبات وانظر **** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات **** على ورقٍ هو الذهب السبيك
على كُثب الزبرجد شاهدات **** بأن الله ليس له شريك
هذا ما تيسّر ونكمل ـ إن شاء الله ـ في اللقاء القادم خبر إجمال هذه الآيات , ثم الصراع مابين السحرة من قوم فرعون مع موسى , وما انتهى إليه ذلك الصراع الذي ختمه الله ـ عز وجلّ ـ بقوله : { فأُلقي السحرة سجداً قالوا أمنا برب هارون وموسى } , ونحن من غير صراع نقول آمنا برب هارون وموسى ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبرب الأنبياء كلهم لا رب غيره ولا إله سواه ....
سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
تفريغ سورة البقرة من الآية 56 إلى 69(13/48)
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ خلق فسوى وقدّر فهدى وأخرج المرعى فجعلهُ غُثاءً أحوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسُولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ........
أما بعد
فهذا استئنافٌ للقاءٍ ماضي حول قول اللهِ جل وعلا
( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها فكذّب وأبى )
والمخاطبُ فيها فرعون بالاتفاق وقد مضى معنا ما أظهرهُ موسى لفرعون من الآيات وينبغي أن تعلم قبل أن نقُصّ عليك ما في هذهِ الآيات من عبرٍ وعظات ودلائل وآيات:
أن هذهِ الأمور لم تتمّ في بُرهة وأنهُ ليس بمُجرّد أن دخل موسى على فرعون تمّت القضيةُ كُلها ولكنّها مرّت عبر سنين فموسى علية الصلاةُ والسلام أستوطن أرض مِصر فترةً طويلة قبل أن يخرُج منها .
وما ذكرهُ الله جل وعلا من خبرِ قارون ( وخسفنا بهِ وبدارهِ الأرض ) إنما هذا كان قبل خروجِ موسى من أرض فرعون أُهلك قارون .
وجزت لهُ صراعات منها أن الله جل وعلا أمرهم أن يتخذُوا بيوتهُم قبلة وأن الله جل وعلا أمرهُم بأمورٍ كُثر ومرّت الآيات كالطوفان والجراد والقُمّل والضفادع هذا كُلهُ حصل على مراحل زمنية طويلة وأن الله جل وعلا أرحم من أن يُعذّب من غير أن يُعطي مساحة زمنية لمن أراد أن يُعذّبهُم وإنما لا يهلكُ على الله إلا هالك والشقيُ من لم تتداركهُ رحمةُ الرب تبارك وتعالى .
وفرعون إنّما أهلكهُ شقاؤه وعنادهُ ومُكابرتهُ سنين طويلة ..
هنا يقولًُ الله جل ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها فكذّب وأبى )(13/49)
نحوياً آياتنا جاءت بالكسر لأنها جمعُ مؤنثٍ سالم وإذا نُصب يُنصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة أُكّد بتوكيد معنوي هو كلمة كُن ولهذا كلمة كُن جاءت منصوبة لأنها أكّدت المحل لا اللفظ ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها) والمقصود بكلمة كُل هُنا كُلُ الآيات التي كتب اللهُ أن يُعطيها موسى حُجةً على فرعون وكلمة كُل لا تُفيدُ عددا لكنّ العدد جاء مُبيناً في سورةٍ أُخرى قال الله ( في تسع ءايات إلى فرعون و ملائهِ ) وهذا التسع مرّت معنا كثيرا ولا بأس من ذكرها :
اليد والعصا من قبل هذهِ اثنتان .
وقال الله ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات ) هذهِ اثنتان مع الأولين أصبحت أربعا .
وقال جل وعلا ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم ) هذهِ خمس آياتٌ مُفصّلات مع الأربع الأُول أضحت تسع هي المقصودة يقول الله جل وعلا ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها) .
ومع تلك الآيات المُتتابعة المُفصّلة قال الله ( فكذّب وأبى ) وقد قُلنا في الدرس الماضي إن قول الله جل وعلا ( إنهُ قد أُحي إلينا أن العذاب على من كذّب وتولى ) قُلنا إن أعظم فائدة أنهُ لا يُخلّد في النار إلا من كذّب وتولى .
فقولُ الله هنا ( فكذّب وأبى ) هي عينُ قول الله ( كذّب وتولى ) وهي عينُ قول اللهِ ( لا يصلها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى ) فالتولي والإِباء والإعراض بمعنىً بمعنىً واحد .
وهذهِ كُلُ من يُريدُ أن يتخذ منهجاً لمعرفةٍ عقائد الناس يجبُ عليهِ أن يستصحب هذا الأصل قبل أن يُجازف في تكفير الناس .
نقول الله يقول ( ولقد أريناهُ ءاياتنا كُلها فكذّب وأبى )
( قال أجئتنا ) هذا فرعون يقول لموسى ( أجئتنا لتُخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى )
فجعل تلك الآيات اسماها سحرا وخصّ منها بالذات اليد والعصا والعصا على وجه الخصوص لأنها انقلبت على هيئة حيةٍ وثُعبان.(13/50)
( أجئتنا لتُخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) وهذا القولُ أراد بهِ فرعونُ إثارة العامة والغوغاء أن المقصود الأسمى من رسالةِ موسى وهارون في زعمهِ ليس توحيدُ الله وإنّما إخراجِ أهل مصر من مصر وقد كانت القوى السياسية العامة في أرض مصر يجعلُها فرعون مُقسّمة ثلاثة أقسام جعلها فرعون مُقسّمة ثلاث أقسام :
القوة الإدارية السياسية جعلها فرعون بيد هامان ( يا هامان أبن لي صرحا) وكان وزيراً لفرعون.
والقوة المالية الاقتصادية كانت بيد قارون .
والقوة الإعلامية كانت بيد السحرة كانت بيد من ؟ بيد السحرة .
فقال فرعونُ هنا ( أجئتنا لتُخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينّك بسحرٍ مثلهِ )
حتى يُؤكد أن ما جاء بهِ موسى سحر .
والسحرُ لهُ حقيقة بلا شك وإن كان يخفى على أكثر الخلق لكنّ لهُ حقيقة كما هو مذهبُ أهلُ السُنة والله جل وعلا ذكرهُ في مواطن مُتعددة في كتابهِ ونصّ على أن تعلّمهُ كُفر قال الله جل وعلا ( وما يُعلّمانِ من أحدٍ حتى يقولا إنّما نحنُ فتنةٌ فلا تكفُر ) وليس هذا مقامُ البسط فيهِ لأننا نبقى أوفياء للآيات لا نخرُجُ عنها بأكثر مما هو لازم .
نقول ( فلنأتينك بسحرٍ مثلهِ فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نُخلفهُ نحنُ ولا أنت )
هل هو موعد زماني أو موعد مكاني ؟
ظاهرُ كلامِ فرعون أنهُ موعد مكاني لكنّ جواب موسى جعلهُ زمانياً (موعداً لا نُخلفهُ نحنُ ولا أنت مكاناً سُوى ) وكأنهُ يضمن أن ينتصر .
قال بعضُ العُلماء في تفسير ( مكانٍ سُوى) أي مكان وسط ليس ببعيدٍ عنا ولا ببعيدٍ عنك و أظنّهُ بعيد وإنّما المعنى (مكان سُوى) أي مكان ظاهر لا خُفيةً فيهِ فحّورها موسى زمانياً
( قال موعدكُم يوم الزينة وأنّ يُحشرُ الناسُ ضُحى )
فأثبت موسى من قبل أن يبدأ العراك معهُ ثقتهُ بنصر اللهِ فقال ( وأن يُحشرُ الناسُ ضُحى )(13/51)
وأعظمُ ما يُمكنُ أن يُستنّبط في هذا المقام أن دعوة الأنبياء دعوة واضحة لا تُحاك في الخفايا فليست الدعوةُ أحزاباً سياسية ولا جماعات غير مرضية ولا غير ذالك ، وليس في دين اللهِ رؤوس وغيرُ ذالك وأُمور وبرتوكولات خفية وبرتوكولات يعلمُها العامة وغير ذالك إنما دينُ الله جليٌ واضح تعبّد الله بهِ الجميع ولهذا لم يكُن عند موسى علية السلام شيءٌ يُخفيهِ في الدعوة إلى ربهِ ( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى )
ويوم الزينة هو اليوم الذي يجدُ الناس فيهِ في ذالك الوقت في ذالك الزمان أهلُ ذالك العصر كان يوم عيدٍ لهُم لا عمل شاق لهُم فيهِ فهُم في خلوة من أعمارهم أو في فُسحةٍ من أعمارهم بتعبيرٍ أوضح فلمّا يكونون الناس في فُسحة من أعمارهم يكونون أقدر على أن يصلوا إلى المطلوب ويأتوا إلى هذا الأمر الذي سيشهدون فيهِ الصراع .
وبعضُ أهل العلم يقولون إن الأعياد المنصوصة عليها شرعاً كذكر يوم الزينة كان لفرعون وآلهِ ، والعيدُ الذي ذكرهُ اللهُ جل وعلا عن قوم إبراهيم لمّا رفض إبراهيم أن يذهب معهُم ، والعيد الفطر والأضحى التي جاءت في السُنة التي جاءت بدلاً من يوم بُعاث الذي كان عيداً للأنصار أوسً وخزرجاً في الجاهلية .
والمقصود ( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى) وكُلمّا كثُر حشرُ الناس والإتيان في رابعة النهار ضُحى والكُلُ سيُشاهدُ ويرى كان ذالك أدمغ لحُجة فرعون وأظهر وأبين لحُجة موسى وأنكى لأعداء الله وخُصومة .
( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى)
قال الله
( فتولّى فرعون فجمع كيدهُ ثُمّ أتى )(13/52)
ولا ريب أن مابين هذا اليوم الذي تواعدا فيهِ وما بين اليوم الموعدِ نفسهِ هُناك فترة زمنية وهذهِ الفترة الزمنية تسمح لناس بأن يخوضوا وللخبر أن ينتشر ويُصبح لا همّ لناس وليس هُناك خبرٌ يسلي مثل هذا الخبر فيُصبح الجميع مُهيأ لأن يصل ويُريدُ أن يعرف أين الحق لكنّ الناس حتى في معرفتهم للحق يتفاوتون قال الله جل وعلا ( قال موعدكُم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضُحى فتولّى فرعون فجمع كيدهُ )
كيف جمع كيدهِ ؟
بيّنهُ الله في آيةٍ أُخرى ( فأرسل فرعونُ في المدائنِ حاشرين ) وبعث بعد ذالك يأتي بالسحرة من كُل مكان هذهِ الفترة الزمنية علا فيها قدرُ السحرة لأنهُم غلب على ظنّهم أن أمر فرعون أصبح بيدهم الآن القوة السياسية التي كانت بيد هامان تنحّت قليلا والقوة المالية التي بيد قارون تنحّت قليلاً وجاء دورُ من ؟ دورُ قوة الإعلام الذي كان مُتمثلاً في السحرة فأراد السحرة لأنفُسهم منازل فأرادُ أن يشترطُ على فرعون شُروطا تجعلهُم أرفعُ منزلة بعد الغلبة .
قال الله في آيةٍ أُخرى ( ءإن لنا لأجر إن كُنا نحنُ الغالبين قال نعم وإنّكُم إذاً لمن المُقربين ) فأعطاهُم فرعونُ وعُوده فأغراهُم بالمال وعلّو المنازل فجاء السحرة وهم مدفوعون دفعاً دُنيوياً عظيماً وجاء الناس لكنّ الناس كان الذي دفعهُم إلى أن يروا انتصار السحرة .
قال الله جل وعلا عن الناس ( لعلّنا نتبعُ السحرة إن كانوا هُم الغالبين ) ولم يأتوا ليعرفوا أين موطنُ الحق وأين مكمنُهُ وإنّما جاءوا لينظروا كيف تغلبوا السحرةُ موسى عليه السلام وأخاه .
قال جل وعلا ( فتولّى فرعون فجمع كيدهُ ثُمّ أتى )
ومع ذالك أنبياءُ الله يبقون رفيقين بالخلق قال الله جل وعلا
( قال لهُم موسى ويلكُم لا تفترُوا على الله كذباً ) أي بصنيعكُم وبردكُم لرسالة ( فيُسحتكُم بعذاب )(13/53)
فخوفاً من نزول العذاب عليهم حذّرهم لأنهُ لا مصلحة لنبي بهلاكِ قومهِ والأنبياء أرحمُ الخلق بالخلق وأنصحُ العباد للعباد لكن إذا أبى وأستكبر ذالك المدعو وأعرض عن الله وجعل كلام اللهِ وراءهُ ظهرياً وحقّت عليهِ كلمةُ العذاب فإن كلمة العذابُ لا تحقُ إلا على هالك فإذا هلك من هلك بعذاب اللهِ لا ينبغي لمؤمنٍ أن يأسف علية ولا يحزن لأنك لست أرحم بالخلق من ربهم .
قال الله عن أنبياءهِ أنهم يقولون عن أُممهم بعد الهلاك ( فكيف آسى على قومٍ كافرين ) فلا يصيبهُم آسى على قومهم بعد هلاكهم ولكن الرحمة تبقى ما زال هُناك أمل في أن يهتدوا .
( فيُسحتكُم بعذابٍ وقد خاب من أفترى )
ولا افتراء أعظم من الافتراء على لا الله جل وعلا وأعظمهُ قولُ فرعون ( ما علمتُ لكُم من إلهٍ غيري ) وتصديقُ هؤلاء الناس لفرعون واتخاذهُم إياه إلهٍ من دون الله .( وقد خاب من أفترى )
قال الله
( فتنازعوا أمرهُم بينهُم وأسرّوا النجوى )
أي عقدوا مجلسً خاصاً بهم يتشاورون في أمر موسى وأخيهِ في هذهِ الداهمة التي طغت عليهم
( قالوا إن هذان لساحران يُريدانِ أن يُخرجاكُم من أرضِكُم بسحرِهِما ويذهبا بطرقتكُم المُثلى )
لا يُؤثرُ في الناس شيء أكثر من خوفهم على مراكزهم أن تتبدّل وهذا معنى ( ويذهبا بطريقتكُم المُثلى) وأنتهز فرعون هذهِ المسألة فأخبرهُم أن ما جاء موسى وهارون إلا ليُغيروا الوضع الاجتماعي القائم وهذا حصل حتى في عهد النبوة فإنّ أبا جهل وأبا سُفيان كانوا يقولون لناس إن مُحمدً يُريدُ من الفئة المُستعبدة كبلالٍ وعمّار أن تسود وأن ترقى وأن يتغير الوضعُ الاجتماعي حتى يصدوا الناس عن دين الله ولا أحد مُنتفعٌ من وضعٍ يُريدُ لذالك الوضع أن يتغير إلا أن يكون رجُلاً ربانياً لله و إلا الأصل كُلُ صاحبُ وضعٍ اجتماعي لا يُريدُ ذالك الوضع الاجتماعي أن يتغير ،، وكُلُ مُضطهدٍ في وضع اجتماعي يتمنى من ذالك الوضع أن يتغير حتى يعلو مكانة .(13/54)
وذالك الخارجون على أي دولة الخارجون من حيث الأنظمة السياسية المحضة في أي عصرٍ ومكان إنمّا يأتون للمغلوبين على أمرهم حتى يُغيروا مكانتهُم والدولةُ الأموية
كمثال يعني :.
الدولة الأموية في عصرها أُضطهد آل البيت وأُضطهد الموالي أُضطهد من ؟ أُضطهد آل البيت وأُضطهد الموالي الموالي الذين دخلوا في دين اللهِ من غير العرب فلمّا قامت دولةُ بني العباس قامت على ماذا ؟ قامت على هذا الخطأ الذي وقع فيهِ بنو أُمية فأكثرُ نُصراء العباسيين كانوا من من؟ كانوا من الموالي فقامت دولةُ بني العباس على أكتاف الموالي وصاحبُ الفضل الكبير في قيام دولة بني العباس أبو مُسلم الخرساني ولم يكُن عربياً وإنّما كان ممنّ أستضعفهُم بنو أُمية واستعبدوُهُم ولم يكُن لغير العرب سُلطان ولا شوكة في بني في عهد دولتهم حتى مسلَمة ابن عبد الملك هذا أحدُ أبناء عبد الملك كان قُرّة عين أبناء عبد الملك لكنهُ لم يُعطى الخلافة لماذا ؟
لأن أُمة لم تكّن عربية فكان الموالي مُضطهدين في عهد بني أُمية كان ذالك سبباً يُريدون للمُجتمع أن يتغير فتغير وجاء بنو العباس فلما جاء بنو العباس الآن بيدهم من ؟ آلُ البيت والموالي ولابُد أن يختاروا أحدُهُما ففرّطوا في العلويين وأبقوا بني العباس وبقي العلويين مُضطهدين حتى في دولة بني العباس وبقينا في الطرف الآخر من ؟ الموالي والموالي كُثر فالأعراق التي جاء منها الموالي لا تتعدد و لابُد من اختيار فئة واحده فاختار العباسيون في أول دولتهم الفُرس فقُدّم الفُرس ورُفع شأنهُم حتى وصل البرامكة إلى ما وصلوا إليهِ ثُمّ لمّا جاء المُعتصم كانت أُمهُ تُركية قلب الموازيين أبقى على الموالي لكن أيُ موالي الأتراك لأنهُم أخولهُ وأضاع الفُرس فساد الأتراك ثُمّ كُل ما جاء خليفة قرّب مواليهِ .(13/55)
ولأن أخطأ الأمويون في إبعادهم للموالي واضطهادهم فإنّ خطأ بني العباس أكبر في أنّهُم اصطفوا الموالي حتى أصبح هؤلاء يُغيرون من شاء ويضعون من شاء من الخُلفاء .
والمقصودُ عموماً خرجنا كثيراً لكن القرآن يُقرأ ليُفهم أوضاعُ الناس من خلالهِ .
فكان فرعون يتخذ هذهِ المسألة أمام الناس
( قالوا إن هذان لساحرِانِ يُريدانِ أن يُخرجاكُم من أرضِكُم بسحرِهِما ويذهبا بطرقتكُم المُثلى )
قبل أن أُكمل أقف نحوياً عند هذهِ الآية التي أشكلت على العُلماء وضربوا فيها مضارب شتى لن أقول فيها شيءً جديداً لكن الاتفاق على أن إنّ تنصب وأن اسم الإشارة الأصل أنهُ مبني وأنهُ إذا ثُني يأتي منصوباً بالياء يخرُج من كونهِ مبني إلى كونهِ مُعرب فأشكل على العُلماء أن هذان جاءت بالألف :
فبعضَُ العُلماء قال :
أن إن هُنا مُخفّفة لا تعمل مادامت لا تعمل فأصبحت هذان مُبتدأ ولساحران خبر وينتهي الموضوع .
قال آخرون :
لا أن إن هنا وهذا وقلُ بعضُ الكوفيين إنها نافية واللام التي في لساحران ليست اللام المُزحلقة وإنّما أداة استثناء .
والمعنى عندهم ما هذانِ إلا ساحران [ واضح] .
و قال آخرون غيرُ ذالك وتكلّم فيها شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمةُ الله تعالى عليهِ رغم أن الأصل أنهُ غير نحوي لكن لهُ فيها كلامٌ نحويٌ جيد .
ومال المُبرد رحمهُ الله تعالى إلى أن إنّ هنا ( إن هذان لساحران ) بمعنى نعم إن بمعنى نعم وهذا الحقُ أن اللغة تؤيدهُ وبتعبير أصح الاستعمال العربي يُؤيدُهُ قال عبدُ الله ابن قيس الرُقيات هذا الرُقيات ليس نسبُهُ لكنّه تغزّل بأكثر من امرأة اسمُها ؟ أجيبوا ــ رُقية . تغزّل بأكثر من امرأة اسمُها رُقية فعُرف بعبد الله ابنُ قيس الرُقيات يعني نساء كثيرات اسمهُنّ رُقية كُلُ واحده منها اسمهنّ رقيه المُهم هذا الرجُل ممّن يُستشهد بشعرهِ من حيثُ اللُغة قال في بيت شعرٍ لهُ :(13/56)
بكر العواذلُ في الصبوح يلمّنني و ألُومهنّه *** ويقُلنّ شيبٌ قد علاك فقلتُ إنّه
إن هنا بمعنى نعم بمعنى ماذا ؟ بمعنى نعم
فقال المُبرّد وهو الأصلُ أنهُ ليس المُبرّد لبعض تلاميذهِ لكن لما أجازهُ المُبرّد نُسب إليهِ ولا يعنينا من هو القائل المُهم أنهم قالوا إنّ إن هنا بمعنى نعم فيُصبح لا خلاف في الآية نحوياً نعم هذان لساحران .
لكن رُدّ عليهِ أن نعم حرفُ جواب وليس هناك سائلٌ هنا ، من ردّ على هذا القول قالوا أن نعم حرف جواب وليس هناك سؤال وردّ الآخرون بأكثرِ من ذالك لكن أردتُ أن أُدخلك في التصوّر النحوي العام لقضية إعراب هذهِ اللفظة .
(إن هذان لساحرِانِ يُريدانِ أن يُخرجاكُم من أرضِكُم بسحرِهِما ويذهبا بطرقتكُم المُثلى * فأجمعوا كيدكُم )
حتى يكون ذالك أقوى علة قهرِ عدوّكُم
( ثُمّ أتوا صفّاً وقد أفلح اليوم من استعلى )
وبالطبع ثمّة مطامع بين أعيُنهُم مطامع تنقسم إلى قسمين :
الإبقاء على الوضع الاجتماعي القائم ،، وأمل الزيادة فيهِ الإبقاء على الوضع الاجتماعي القادم الباقي والحاضر والطمع في الزيادة فيهِ لأن فرعون قال ( وإنّكُم إذاً لمن المُقربين ) فأعطاهُم وعوداً وإن كُنا نجزم أنهُ لو تحقق لهُم ما أرادوا ولم يتحقق ولن يتحقق لكن فرعون لن يفعل لكن على العموم هذا وعدٌ لهُم .
قال الله جل وعلا (فأجمعوا كيدكُم ثُمّ أتوا صفّاً وقد أفلح اليوم من استعلى * قالوا يا موسى )
من القائل ؟(13/57)
السحرة أجتمع الناسُ الآن جاء يومُ الزينة وحضر الناسُ من كُل مكان لا بُغية لناس إلا أن يروا الانتصار وفرعونُ على الأظهر في مكانهِ مُبجلاً وموسى وأخوه معهُما ربُ العالمين وقد قال لهُما جل وعلا من قبل ( أنّني معكُما أسمعُ وأرى ) وموسى هو موسى الذي رُبّي من قبل أين رُبّي ؟ رُبّي في جبل الطور بماذا رُبّي ؟ ( وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي عصاي ) الآن هو نفسهُ واقف وفي يمينهِ ماذا وفي يمينهِ العصا التي أخبرهُ الله جل وعلا أنها آية والله جل وعلا أخبرهُ ولا راد لحُكمهِ ولا مُعقّب على مشيئتهِ فوقف موسى كما وقف قبلُ بين يدي ربهِ والعصا في يمينهِ وأقبل هؤلاء قد أجمعوا أمرهُم صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى.
هنا أُنيخ المطايا...
لا أحد أكرم من الله
تعلّم مما يأتي كيف تتعاملُ مع الله ؟
الله جل وعلا أرحمُ الراحمين ومعنى أرحمُ الراحمين هنا لا يُمكنُ أن يضيعُ عند الله من المعروف ولو مثقال ذرة وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابة وهذا والله ليس من فرائد العلم باعتبار أنهُ غريب ستجدُه لكنّهُ من فرائد العلم إذا طبّقتهُ.
الحسنة التي دخلت هنا أن هؤلاء السحرة رغم المُغريات التي بين أيديهم أستحيُوا من موسى
( قالوا يا موسى إمّا أن تُلقي وإمّا أن نكُون أول من ألقى )
هذهِ العبارة في التلطُف مع موسى وعدم جبرهِ على الإلقاء أولاً أو عدم جبرهِ على الإلقاء أخرا جعلها الله جل وعلا سبباً في هداية القوم بهذهِ النية الطيبة التي خرجت على شكل ألفاظ قد لا يشعُرُ بها أحد لكنّها أرادها الله تمهيداً لعطاءٍ ربانيً لهُم بعد ذالك كما سيأتي .
( قالوا يا موسى إمّا أن تُلقي وإمّا أن نكُون أول من ألقى) وفي آية أُخرى ( وإمّا أن نكون نحنُ المُلقين)
( قال بل ألقوا ) لماذا بل ألقوا ؟(13/58)
أنت تذهبُ إلى المتجر لن تستطيع أن تحكُم على أحسن وأجود ما تريدُ شراءهُ إلا إذا مررت على السوقِ كُلهِ فإذا مررت على السوقِ كُلهِ واخترت العينة التي تُريدُها وجاء أخوك يلومُك تقول ثق أن هذا أفضل ما هو معروض .
وإذا أراد اللهُ بعبدٍ خيراً أخّر ظهورهُ بين أقرانهِ حتى ييأس الناس من كُل أحد ويُخرجُ أقرانهُ كُلهُم ما لديهم فإذا أراد الله بعبدٍ من دونهِم فضلاً زائداً عليهم نثر كلٌ منهُم ما في كنانتهِ وأظهر ما عندهُ ولم يبق شيئاً لم يُقدّمُه ثُمّ أخرج الله جل وعلا وليهُ الذي يُريد أن يُقدمهُ على غيرهِ فهذا حصل عيناً في قضية موسى قال لهم موسى بل ألقوا فما من حبلٍ ولا عصا إلا وألقوها وليس الأمرُ بالهين .
قال الله ( فإذا حبالهُم وعِصيهُم يُخيلُ إليهِ )
إلى من ؟ إلى موسى
( أنها تسعى ) وقولُ الله جل وعلا ( يُخيل ) يدلُ صراحةً على أنها لم تكُن تسعى وهذا سحرُ تخييل وهو أحدُ أنوع السحر المذكورة في القرآن .
//
وقد ذكر الله في القرآن سحر التخييل وصورتهُ أنك ترى الشيء على غير حقيقتهِ بما يُريدهُ الساحر أن تراه و إلا الأصل أن حقيقتهُ غير موجودة يعني حقيقة الأمر الذي تراه أنت غير موجود فهي حبال وعصي لكنّ موسى يُخيل إليهِ أنها تسعى .
وبالقطع يا بُني ما دامت تُخيل إلى موسى وأخيهِ فكيف بالعامة والدهماء الذين يحيطون بحلبة الصراع سيرون أمورً عجيبة.(13/59)
وقد ذهب بعضُ المشايخ من الجامعة الإسلامية إلى أحد البُلدان الأفريقية فوجدُ رجُلاً معهُ جمل والناس يلتفون حوله ثُمّ أنهُم الرجُل هذا يدخلُ أكرمكُم الله من دُبر الجمل ويخرُجُ من فمهِ والناس ينظرون مفتونون فأحدُ هؤلاء المشايخ مع زُملائهِ رجع قليلاً بعدُ عن نفس الموقف ثُمّ قرأ آية الكُرسي وهو يُتمّمُها وقف لينظُر فوجد الرجُل يدخُل بسُرعة من تحت أرجُل الجمل هو قبل قليل رآه كأنهُ يدخُل من الدُبر ويخرُج من الفم فقال لمن معهُ من زُملائهِ الذاهبين في الدعوة ما الخبر فذهبوا قرأُ آية الكُرسي فرجعوا فرأوا هذا المسكين يمشي بين يدي الجمل ورجليهِ ولا يدخُلُ فيهِ أصلاً.
أصلاً عقلاً مُستحيل يكون دخل مُستحيل لكنهُ سحر أعيُن الناس هذا سحرُ التخييل حُجب عن هؤلاء الفُضلاء بالآية العظيمة آية الكُرسي وقد ورد في فضلها ما لا يخفى عليكُم ولا على من يسمعُ حديثي هذا والمقصود هذا سحرُ التخييل .
//
السحرُ الآخر قال الله عنهُ في البقرة ( فيتعلّمون منهُما ) أي من الملكين ( ما يُفرّقون بهِ بين المرء وزوجهِ ) فذكر الله جل وعلا سحر التفريق بين المرء وزوجهِ وأن هذا يقع لكنّ الله قال أنهُ مُقيدٌ بإذن الله تبارك وتعالى ولا يُمكنُ أن يقع شيء لا قدرياً ولا شرعياً إلا بإذنٍ من الرب تبارك وتعالى ( وما هُم بضارّين بهِ من أحدٍ إلا بإذن الله ) وكُلُ السحر ضرر والله يقول (و يتعلمون ما يضرهُم ولا ينفعهُم )
غايةُ الأمر أنني أجمع شتات الآيات شتات معاني الآيات فالآيات لا يُقال لها شتات في أن السحر في القرآن جاء على صورتين :
سحرُ تخييل
وسحرُ تفريق
ولا أذكرُ هناك نوعاً ثالثاً موجوداً هنا وقد ذكر بعضُ الفُضلاء أنواع أُخر لكن لا أعلمُ لها دليلاً من الكتاب .
الذي يعنينا الله جل وعلا يقول ( فإذا حبالهُم وعصيُّهم يُخيلُ إليهِ ) أي إلى من ؟ إلى موسى ( أنها تسعى ) تتحرك .
قال الله ( فأوجس في نفسهِ خيفةٍ موسى )(13/60)
دخل الخوفُ إليهِ رغم أنهُ يعلم أنهُ سحر وهذا باعتبار بشريتهِ لكنّ هذا يا أُخي ليس مُستقراً في قلبهِ وإنما أمرٌ عارض وعليهِ تُحمل كثير من الآيات المُشابهة ليس مُستقراً في قلبهِ عليهِ السلام وإنما باعتبار الجبلّة هو أمرٌ عارض ، هذا الأمر والخوف الحاصل في هذا المجمع لا يُمكنُ أن يُنزع ويُثبّت إلا بوحيً عظيمٍ من ربٍ كريم فأوحى الله جل وعلا إليهِ
( قُلنا يا موسى لا تخف إنّك أنت الأعلى )
أعلى منهُم لأن ما قدّمُوه تلفيقٌ وتمويه وما ستُقدّمهُ تأييدٌ من العلي الكبير وشتان ما بين ؟ ما بين الأمرين شتان ما بين الأمرين .
هذا تلفيق تمويه يخدعون به الناس أما أنت ما ستفعلهُ أمرٌ إلهيٌ مُعجزة إلهية من لدُنّ ربك .
( إنك أنت الأعلى * وألقِ ) ماذا ؟ ( ألقِ ما في يمينك )
قال العُلماء ذكر الله اليمين هنا من باب البركة ( ألقِ ما في يمينك ) ذكر الله اليمين من باب البركة واليمينُ معروفٌ فضلها بالشرع ومن دلائل فضلها أن من طرائق القرآن أن الله إذا أفرد وجعل مُقابل الإفرادِ جمع دلّ ذالك على فضيلة المُفرد قال الله ( عن اليمينِ والشمائل سُجداً للهِ ) الظُلمات والنور فأفرد النور وجمع الظُلمات وأفرد اليمين وجمع الشمائل ليُبين فضل النور وفضل اليمين مُقابل الظُلمات ومُقابل الشمائل .
قال الله ( ألقِ ما في يمينك )
هذا تذكير بالشيء القديم يوم كان بين يدي اللهِ ألقى الكليمُ ما أمرهُ بهِ البرُ الرحيم فألقى عصاه .
قال الله ( ألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنّما صنعوا كيدٌُ ساحر ولا يفلحُ الساحرُ حيثُ أتى )(13/61)
وقول الله جل وعلا ( حيثُ أتى ) نفيٌ قاطع كُلي لا استثناء فيهِ أن الساحر لا يُمكن أن يُفلح أبداً وأكبرُ الدلالة على أن السحرة لا يُفلحون أنهم أفقرُ الخلق أكبرُ الدلائل على أن السحرة لا يُفلحون أنهُم أفقرُ الخلق لا يستطيعون أن يحموا أنفُسهم من دورية ورجال هيئة وهم بشرٌ مثلهُم لا يملكون من الأعوان أحدٍ مثلهُم ممّا يدلُ على ضعفهم وعجزهم وحتى لو تظاهروا مرة أو مرتين أو ثلاث لا يلبثوا أن يقعُ (ولا يفلحُ الساحرُ حيثُ أتى )
ما الذي حصل ؟
قال الله في آية أُخرى ( فإذا هي تلقف ما يأفكون ) الكذب الذي جاءوا بهِ انقلبت هذهِ العصا إلى حية حقيقية وليست شيئاً في أعيُن الناس مُخيلاً انقلبت إلى حية حقيقية هذهِ الحية الحقيقية لديها القُدرة أن تأكُل الحبال والعُصي وهي تراها على أنها حبال وعُصي لا تراها على أنها حييا فأخذت تأكُلُهم ولا يعرفُ الشيء مثلُ صانعهِ وهؤلاء السحرة ينظرون وينظرون لها على أنها حية ويرون حبالهُم و عِصيهم على أنها حبال وعصي هم لا يسحرون أنفُسهم .
لكن تبّين لهم قطعاً أن ما جاء بهِ موسى ليس بسحر وأنّهُ مؤيدٌ بربهِ الآن ما الذي نفعهُم بعد الله تلك الكلمة الطيبة يوم أن قدّموا أنهُم أنصفوا موسى بقولهِم ( إمّا أن تُلقي وإمّا أن نكون أول من ألقى ) وفرعون يسمع لكن لشيءٍ أرادهُ الله حتى يُتمّ الله عليهم النعمة وإذا أراد الله جل وعلا شيءً هيأ هيأ أسبابه .
أُنظر إلى هاجر أين كانت هاجر ؟(13/62)
خادمة عن ملكٍ كافر وسارة من أجمل نساء العالمين أقربُ الناس شبهاً بأُمنا حواء فجاء الفاجر ليفعل بها ونُحّي إبراهيم فجلس إبراهيمُ يدعو وجلست سارة تدعو في حديثٍ صحيح تقول { اللهم إن كُنت قد آمنتُ بك وبرسولك وأحصنتُ فرجي إلا على زوجي فاحفظني } فحفظها الله فلمّا حفظها الله شُلّ ذالك الفاجر أُعيق فقال لها أُدعُ لي ولا أضُرك فدعت لهُ فلمّا عاد واطمئن عاد مرةً أُخرى فرجعت إلى دُعائها فردّهُ اللهُ عنها فدعت مرةً أُخرى فقال لمن أتى بها إنك لن تُدخلني على امرأة إنما أدخلتني على شيطان ثُمّ فُتن بجمالها وجاء في نفسهِ أن هذا الجمال مُحال أن يخدم نفسهُ بنفسهِ قال أعطوها هاجر ، من هاجر؟
جارية عند كافر ظالم فأُعطيت هدية لمن ؟ لسارة فخرجت هديةً جاريةً لسارة تخدمُها ثُمّ يقع في سارة يُؤخّر حملُها مولا تحمل حملت جابت إسحاق لكن يُؤخّر حملُها حتى يُصبح في قلب سارة حزن على زوجها إبراهيم أن ليس لهُ ولد فتطلُب منهُ أن يدخُل على جاريتها هاجر بعد أن وهبتُها إياها فيدخلُ إبراهيم على هاجر فيُولد من هذهِ الجارية التي هي بالأمس خادمة عند ملكٍ كافر يخرُجُ من هذا الرحم أبٌ لسيد الخلق صلى الله علية وسلم مُحمد ابنُ عبد اللهِ وهو إسماعيل جدُ العرب جد نبينا صلى الله علية وسلم .
فأنظُر إذا أراد الله بعبدٍ فضل كيف تجري الأقدار لو كان قدّر الله أن سارة حملت بإسحاق لما طلبت سارةُ من إبراهيم أن يدخُل على هاجر لكن أُخر حملُ سارة من إبراهيم حتى يدخُلُ إبراهيمُ على هاجر فيكونُ من هاجر إسماعيل ويكونُ من إسماعيل مُحمد صلى الله علية وسلم .
والمقصود هؤلاء رُزقوا خطابً حسناً وحتى رزق الخطاب هذا ممّن ؟ هذا فضلٌ من الله لكن حتى تعلم أن الأمور لها أسباب تجري على نسقٍ واللهُ يقول ُ في هذا حقً وفي أمثالهِ ( وما يعقلُها إلا العالمون ).(13/63)
وهذهِ نفائسُ العلم التي تُبنى عليها أحداثُ الزمن ومرور الأيام وكيفية اجتثاث العبر والدراية بأحوال الخلق وأن هناك ربٌ لا رب غيرهُ ولا إله سواه يحكُمُ في خلقهِ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد .
نقول بعد هذا كُلهِ ماذا حصل ؟
قال الله ( فأُلقي السحرةُ سُجّداً قالوا ءامنّا برب هارون وموسى )
طبعاً السحرة ما كانوا واحد أو اثنين كانوا كثيرين منهُم من قال ( ءامنا برب العالمين ) ومنهُم من قال ( ءامنا برب موسى وهارون ) ومنهُم من قال ( ءامنا برب هارون وموسى )
لم يُعقل لم يعتقدوا أبداً أنهُم سيُؤمنوا حتى نقول اتفقوا على كلمة واحدة فأختلف التعبير وبكُل تعبيرٍ ورد القرآن وبكُل تعبيرٍ ورد القرآن ذكر الله جل وعلا المواطن كُلها أو الطرائق التي عبّر عنها السحرة .
قال ابنُ عباس رضي الله تعالى عنهما فيما نُقل عنه كانوا أول النهار كفرةً سحرة وأصبحوا أخر النهار شُهداء بررة .
ولهذا لا ييأسُ أحدً من هداية أحد ولا يدري أحدٌ أين الخواتيم
يخرجون من دُرهم من بيُوتهم يُمنّون أنفُسهم بالعطايا الدنيوية ويُريدون أن يُحاربوا الله ورسوله ثُمّ لا يلبثوا أن يُؤمنوا ويخرّوا ساجدين هذا السجود كما سيأتي في اللقاء القادم أورثهُم عزةً ومنعه لماذا؟
مرّ معنا أن الإنسان لا يُمكنُ أن يكون في وضع ٍ هو ذليلٌ فيهِ أعظم من ذلة السجود وكُلّما ذللت نفسك بين يدي الله كُنت منهُ قريباً فلمّا ذلّوا أنفُسهم وسجدوا أورثهُم الله بذالك السجود الذي سجدوهُ لهٌُ عزة وإباء ومنعة فلمّا هدّدهم فرعون لم يكُن مُبالون بتهديدهِ ( فأقضِ ما أنت قاضِ إنّما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا ) أربعون عاماً وفرعون يُرسّخ فيهم انهُ رب وأنهُ إلهِ وأنهُ يقتُل ويبطُش كُلهُ مُحي بسجدة وربُما لم تتجاوز دقائق معدودات لأن الموروث الذي أخذوه من فرعون هباء منثور وإن كان لهُ حقيقة(13/64)
أما ما أخذوه من عطاءٍ إيماني ونورٍ قلبيٍ من الله هذا يثبُت يقول الله جل وعلا ( يهدي الله لنورهِ من يشاء ) ولهذا قال صلى الله علية وسلم { أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربهِ وهو ساجد وقال أما وأني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجدا أما الركوع فعظّموا فيهِ الرب وأما السجود فأكثروا فيهِ من الدُعاء فقمنٌ ــ أي جديرٌ وحقيقٌ ــ أن يُستجاب لكُم }
وهذا نختمُ بهِ هذا اللقاء لأن ما بعدهُ مُتواصلُ الأحداث يحسنُ أن نقف عند حكاية الله جل وعلا عند إيمان السحرة ( قالوا ءامنا بربِ هارون وموسى )
هذا اليوم كان يوم الزينة فأبدلهُم الله جل وعلا بأن نجّاهُم في يوم في يوم عاشورا الذي صامهُ موسى و بنو إسرائيل من بعدهِ ثُم صامهُ نبيُنا صلى الله علية وسلم .
أيُها الأخُ المُبارك جُملة ما قُلناه أيُها الابنُ الصالح جُملة ما قُلناه
أن الله جل وعلا أخبر في هذهِ الآيات التي بين أيدينا أنهُ أظهر الآيات وأقام الحُجج والبراهين على فرعون لكن فرعون أستكبر آية بعد آية وهو يرُدُها ثُمّ وقع منهُ حفاظاً على الوضع الاجتماعي القائم عنده أن يُخوّف الناس وتواعد مع موسى على يوم هو الذي عرضهُ فأجابهُ موسى ثُمّ كان ما كان من عرض الأمرين وقُلنا إن من الخير لك أن لا تبدأ أحد بنقاش حتى لا تشعُر بالغلبة وإنّما أطلُب من غيرك أن يعرض ما عنده حتى لا يكون ما عندك القصدُ بهِ العلو على الناس .
فنصر الله جل وعلا كليمهُ وأخاه فأثر ذالك في من يعرفُ الحق وهم السحرة ولا يُعلم أن أحداً من القبطيين الذين شهدوا ذالك النزاع آمن لأنهم خرجوا من عند بيوتهم وليس في نيتهم الإيمان ولم يقع في قلبهم البحثُ عن الحق ( قالوا لعلّنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ) فكانت منّة الله على السحرة دون غيرهم من الناس وقد قدّمنا أن ابن عباسٍ قال " كانوا في أول النهار كفرة سحرة وفي أخر النهار شُهداءُ بررة"(13/65)
وقُلنا إن في هذا بيانٌ لفضل الله ورحمتهِ بالخلق وأنه لا يُدرى أين الخواتيم
ختم الله لنا ولكم بخير
هذهِ جُملة ما تحدث عنه الآيات في سورة طه
نسألُ الله لنا ولكم التوفيق والمزيد من العون والرعاية وسنُكملُ إن شاء الله في لقاءٍ قادم خبر هذا النبي الكريم مع فرعون نسألُ الله التوفيق وأن يُعلّمنا ما ينفعُنا وأن ينفعنا بما علّمنا
هذا ما تهيأ إيرادُهُ ويسر الله جل وعلا على قولهِ سُبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المُرسلين والحمدُ لله رب العالمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين كرةً أُخرى .........
تفريغ سورة طه من الآية 70 إلى 85
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمدهُ و نستعينهُ ونستغفرهُ ونعوذُ بالله من شرور أنُفسنا وسيئات أعمالنا من يهدهِ الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد لهُ ولياً مُرشدا ،
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له أراد ما العبادُ فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعوهُ جميعاً لأطاعوهُ ،
وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من أقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ....
أما بعد
فهذا لقاءٌ مُباركٌ مُتجدد نتفيأُ فيهِ معكم دوحة القُرآن وكُنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا على لسان السحرة ( قأُلقي السحرةُ ساجدين) قال الله جل وعلا أخبر فيها أن السحرة آمنوا ( قالوا آمنا بربِ هارون وموسى ).
وحدث هذا التلعثُم في القول الآن لأن قضية السحرة والإيمان وردت في عدة صيغ بإيمان السحرة فردُ السحرة بالإيمان جاء في القرآن
( آمنا بربِ العالمين ربِ موسى وهارون )
وجاء ( بربِ هارون وموسى )
وجاء ( برب موسى وهارون )(13/66)
وينبغي أن يُعلم قبل أن أنتقل لما بعدهُ لأن هذا كُنا قد وقفنا عليهِ في اللقاء الماضي أن السحرة كثيرون فطبعيٌ جداً أن يختلف بعضُهم مع بعض في قضية ماذا يقولون فهُم جميعاً آمنوا بإلهٍ واحد هو ربُ العزة والجلال لكن التعبير عن هذا الإيمان اختلف لتعدُدهم فبعضُهم قالوا ( آمنا برب موسى وهارون ) وبعضُهم قال ( آمنا بربِ هارون وموسى ) قدّم هارون باعتبارهِ الأكبر ومنهم من قال ( آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) .
لكن الذي يجمعُ هؤلاء السحرة أنهم جميعاً آمنوا بالرب تبارك وتعالى .
هذا الأمر وقع على ملأً من الناس وكان قد مرّ معنا أن موسى علية الصلاةُ والسلام لا يُخفي شيئاً عن الناس في دعوتهِ وقُلنا إن من سماتِ الأنبياء وأتباعهم أنهم يدعون جهارا ولا يخشون أحدً بمعنى أنه ليس هُناك شيء يُبيتونهُ لأنفُسهم حتى يضعون دينهم في الخفاء ولهذا قال ( موعدكُم يوم الزينةُ وأن يُحشروا الناسُ ضُحى )
فكانت دعوتهُ جهاراً بينا حصل الموقف ألقى السحرة ألقى موسى عصاه كما أخبر الله ( فإذا هي تلقفُ ما يأفكون )
انتهينا إلى قول الله جل وعلا
( قالوا آمنا بربِ هارون وموسى )
لما آمنوا انقلبوا من كونهم في أول النهار كفرةً أشرار إلى كونهم أتقياء أبرار وهذا يدلُ على أن الهداية بيد الله . هذا ما انتهينا إليهِ ........
نبدأُ اليوم بقول الله جل وعلا على لسانِ فرعون ( قال ءامنتُم لهُ قبل أن ءاذن لكُم إنّهُ لكبيرُكُم الذي علّمكُمُ السحر فلأُقطعنّ أيديكُم وأرجُلكم من خلاف ولأُصلّبنكُم في جذوع النخل ولتعلمُنّ أيُنا أشدُ عذابً وأبقى )
هذا القول ردة الفعل الفرعونية إلى اليوم والناس في حياتهم الاجتماعية إذا رأوا رجُلاً مُتغطرساً يقولون فرعوني وهذا مأخوذة من دأب فرعون قول فرعون من سياستهِ لناس .
فرعونُ ما كفاه أن يدّعيَ أنهُ إله ( ما علمتُ لكُم من إلهٍ غيري )(13/67)
وقد جاء في الأثر أن جبريل قال لنبي صلى الله علية وسلم "" ما أبغضتُ أحدً بُغضي لفرعون يوم سمعتهُ يقول ( ما علمتُ لكُم من إلهٍ غيري ) ""
فرعون لما آمن السحرة من كذب على الله هينٌ عليهِ أن يكذب على الخلق ولهذا قال ( ءامنتُم لهُ ) همزة من أصل الفعل وهمزة استفهامية ( قبل أن آذن لكُم ) حتى الإيمانُ بالله في ظنّهِ يحتاجُ إلى أن يستأذنوه ومعلومٌ أن فرعون حتى لو استأذنوه لن يأذن وهم غيرُ مُلزمين شرعاً لأن يستأذنوه لكن حتى لو استأذنوه فإنهُ لن يأذن لهم .
( قال ءامنتُم لهُ قبل أن آذن لكُم ) وهذا يدلُ على علوهِ وتكبُرهِ ( إنهُ لكبيركُم الذي علّمكُم السحر ) فانظُر كيف قلب الأمر جعل موسى مُعلماً لهم ويعَلمُ فرعون أن موسى ما كان ساحراً طرفة عين وأنهُ هو الذي بعث في المدائن حاشرين يأتوه بكُل سحّارٍ عليم لكنّهُ كما قُلنا من تجرأ في الكذب على الله بدهيٌ أن يكذب على غيرهِ ولهذا قال هرقل لأبي سُفيان في قضية مُحاورتهما في أرضِ هرقل قال لهُ عن النبي صلى الله علية وسلم أجربتم عليهِ كذبا ؟ قال: لا ، قال هرقلُ بعقلهِ لا بنقلهِ قال ما كلن ليتُرك الكذب على الناس ويكذبُ ويكذبُ على الله وجعل ذالك أمارةً على صدقِ نبوة نبينا صلى الله علية وسلم .
( إنهُ لكبيركُم الذي علّمكُم السحر )
هذا وصفٌ من فرعون لهُ ثُم أجرى مجرى التهديد الفعلي بعد أن ذكر التهديد القولي قال ( لأُقطعنّ أيديكُم وأرجُلكُم ) وجاءت أيديَ بالنصبِ لأنها مفعولٌ بهِ وظهرت العلامةُ على الياء ( فلأُقطعن أيديكُم وأرجُلكُم من خلاف ) وهذا نوعٌ من التهديد 0( ولأُصلبنّكُم ) والصلبُ الرفع والحمل ويكونُ غالباً على ألواحٍ وخشب ( لأُصلبنّكُم في جذوع النخل ) ومعلومٌ قطعا أن الصلبُ هُنا إنما كان على جذوع النخل .(13/68)
قال بعضُ العلماء كأبي حيان في البحر المُحيط قال : إن فرعون نقر لهم في النخل وأدخلهُم فيهِ وهذا القولُ منهُ ليفرّ من قول الله جل وعلا على ( جذوع النخل ) لكن هذا القول أكثرُ أهل العلم على خلافهِ وإنما كان ينبغي أن يُعلم أن حروف الجرِ في اللُغة ينوبُ بعضُها عن بعض هذا واحد .
الأمر الثاني :
قال بعضُ من يُعنى باللُغة في القرآن قال (لأُصلبنّكُم في جذوع النخل ) ليُبين يُسر الأمر عليهِ ليُبين يُسر الأمر عليهِ يعني أراد فرعونُ أن يقول إن كوني أنني قادرٌ على أن أُصلبنّكُم في جذوع النخل أمرٌ هينٌ علي لأن كلمة على تعني الفوقية تعني الاستعلاء كأنهُ يحتاجُ إلى من يُعينهُ إلى أن يرتفع فحاد عنها فرعون طبعاً حاد عن مثيلها هي ليس عندهُ في عُرفهِ في لُغتُهُ لكن حاد عن مثيلها في لُغتهِ وإنما عبّر بالحرف الجر في ليُبين سهولة الأمر عليهِ (لأُصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمُنّ أيُنا ) يعني أنا وأنتُم ( أشدُ عذاباً وأبقى )
وهذهِ زفرات يُطلقُها ذالك الذي لعنهُ الله كردةِ فعلٍ يائسة لما رأى من إيمان السحرة (ولتعلمُنّ أيُنا أشدُ عذابً وأبقى )
مرّ معنا في تفسير سورة القلم أن السجود من أعظم ما ينالُ به العبدُ عظيم اليقين وهذهِ الأحداثُ شاهدةٌ على ذالك قال الله جل وعلا على لسان السحرة لما هددهم فرعون وهذا كُلهُ في أرض الموقف في أرض المُجادلة قالوا له بعد أن قال ( ولتعلمُنّ أيُنا أشدُ عذاباُ وأبقى ) قالوا ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا ) فألقى الله جل وعلا في قلوبهم الإيمان واليقين ووجدوا حلاوتهُ رغم أنهم ليس لهم أيامٌ ولا شهور ولا أعوام من بابٍ أولى في الطاعة والإيمان والعمل الصالح لكن تلك الحضوة الإلهية نالوها ببركة سجودهم حتى يُعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد حتى يُعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد .(13/69)
( قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ) ثُم ردوا عليهِ بطرقته كما كان يُطلق الأفعال على صيغة الأمر قالوا لهُ ( فأقضِ ) أي فأنهي ( ما أنت قاضٍ ) ثُم بينوا لهُ ضعفه ( إنما تقضِِ هذهِ الحياة الدُنيا ) قد يكونُ أن الله أعطاك سُلطان على الدُنيا لكن ليس لك سُلطانٌ على حياتنا في الآخرة والدُنيا قضيت علينا أم لو لم تقضي علينا فمردُنا أصلاً إلى الموت فلا نُخوفُ بشيء لكن العبرة بالحياة الأُخروية (فأقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا )
وجاءت الحياةَ بالنصب لأنها بدلاٌ من اسم الإشارة هذهِ وهذهِ قاعدة نحوية تأتي معك دائماً كلُ اسم مُعرفُ بال بعد اسم الإشارة يُعربُ بدلاً عنه كلُ اسم مُعرفُ بال بعد اسم الإشارة يُعربُ بدلاً عنه فما يُقالُ في إعراب اسم الإشارة الذي قبله يُقالُ في إعراب الاسم الذي بعده وهذا نظيرهُ (إنما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا ) أي بهِ ( الحياةَ ) نيابة عن هذهِ بدلاٌ عنها (إنما تقضِ هذهِ الحياة الدُنيا )
ثُم قالوا
( إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليهِ من السحر )
وعبارة الإكراه هُنا مأخوذة من أن فرعون سوّل لهم هذا الأمر بأن مناهم ووعدهم وقال ( إنكمُ إذاً لمن المُقربين ) فاعتُبر هذا شرعاً نوعاً من الإكراه .
قال الله جل وعلا ( وما أكرهتنا عليهِ من السحر ) ثُم قارنوا بينهُ وبين فرعون بين ربهم وبين فرعون قالوا ( والله خيرٌ وأبقى ) ولا ريب أن الله خيرٌ وأبقى .
وهذهِ منهاج للمؤمن في كُل ما يأتيهِ ما يكونُ فيهِ شيء يتعلق بالله وما فيهِ يتعلّق بالمخلوقين فثق أن ما عند الله جل وعلا خيرٌ لك وأبقى وهذهِ من الطرائق التي ربى الله جل وعلا بها رُسُلهُ عليهم الصلاةُ والسلام وهذّبهم بها وثبت قلُوبهم جل وعلا بها أنهُ أعلمهم أن الآخرة هي الباقية هي التي يعملُ الخلقُ لها.(13/70)
قال صلى الله علية وسلم لما رأى الأنصار والمُهاجرين يبنون مسجده { اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمُهاجرة }
وهذا أمرٌ يستحضرهُ المؤمن وقد مرّ معكُم رُبما قُلتُ لكم من قبل أن العلامة الألباني رحمهُ الله لمّا بُشّر بفوزه بجائزة الملك فيصل العالمية أراد بعضُ الصحفيين أن ينال حضوةً عندهُ بأن يُجري لهُ مُقابلة صحفية ومعلومٌ أن جائزة الملك فيصل جائزةٌ عالمية يرقبُها كُل عالمٌ في خدمة الإسلام أو في غيرهِ فلمّا بُشّر بها قال الشيخُ وهو يبكي هاتفياً ( والله خيرٌ وأبقى ) ثُم قال ( وللآخرةُ خيرٌ لك من الأُولى ) .
فمهما أُعطي الإنسانُ من الدُنيا ينبغي عليهِ أن يستحضر هذا الأمر العظيم وأن ما عند الله خيرٌ وأبقى حتى لا يُفتن بما أعطاهُ الله جل وعلا في الدُنيا ( والله خيرٌ وأبقى )
( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً )
هذهِ مُمكن أن تكون من كلام السحرة المؤمنين ومُمكن أن تكون تذييل من كلام الله جل وعلا تحتملُ الأمرين ( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً )
أي كافرً ( فإن لهُ جهنم لا يموتُ فيها ولا يحيَ ) وهذا أحدُ كُنى عذابُ جهنم أن القضية فيها أن الإنسان لا ينتهي وفي نفس الوقت لا يبقى حياً حياةً مُنعمة .
ثُم الأمر الثاني ذكرهُ الله في سورةٍ أُخرى ( قالوا سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )
متى ينفع الصبر ؟
إذا كان يُعينك على تجاوز الأذى لكن إذا كان الصبرُ لا ينفع يُصبح في ذاتهِ عذاب وهذا والعياذُ بالله حالُ أهل النار قال الله جل وعلا (إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً فإن لهُ جهنم لا يموت فيها ولا يحيَ )
وكما في سياق القرآن في أكثرِ من موضع إذا ذكر الله أهل النار يذكرُ أهل الجنة وإذا ذكر أهل الجنة غالباً يذكرُ أهل النار فبعد أن ذكر الله مصير المُجرمين قال ( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً فإن لهُ جهنم لا يموت فيها ولا يحيَ )(13/71)
وهذهِ نحوياً جُملة شرطية بدأت بمن وهي أسمُ شرط لذالك يأتي بعدها حُذفت ياؤها
لماذا حُذفت الياء ؟
لأنها واقعة فعلُ شرطٍ جُزم وعلامةُ جزمهِ حذفُ حرف العلة
وقولهُ سُبحانهُ ( فإن لهُ جهنم ) هذهِ يا بُني الفاء واقعة في جواب الشرط واقعة في جواب الشرط وسوّغ الإتيان بالفاء أن جواب الشرط جُملةٌ أسمية سوّغ أن يبتدأ جوابُ الشرط بالفاء أن جواب الشرط جُملةٌ أسمية .
( إنهُ من يأتي ربهُ مُجرماً فإن لهُ جهنم لا يموت فيها ولا يحيَ * ومن يأتهِ مؤمناً )
أي حال كونهِ مؤمناً ( قد عمل الصالحات فأُولئك لهم الدرجاتُ العُلى )
الجنة والنار كلاهُما يُقال في حق أهلها درجات لكن تنفرد النار أن يُقال في حقها دركات فيُقال لأهل النار درجات نصّ عليهِ القرآن في الأنعام لكن لا يُقالُ لأهل الجنةِ دركات وإنما دركات وقفٌ على أهل ؟ على أهل النار .
( ومن يأتهِ مؤمناً قد عمل الصالحات فأُولئك لهم الدرجاتُ العُلى جناتٌ عدنٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذالك جزاءُ من تزكى )
ومرّ علينا معنى التزكية بالتفصيل في قول الله جل وعلا ( قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسّاها )
(فأُولئك لهم الدرجاتُ العُلى جناتٌ عدنٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذالك جزاءُ من تزكى )
ثُم قال الله جل وعلا أخبر عن نبيهِ موسى قال
( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دركاً ولا تخشى )(13/72)
ذكر الله جل وعلا هنا خروج موسى من أرض مصر وجاء الخروج في " طه " موجز وفُصّل في الأعراف وفي يونس وفي غيرهما والقُرآن سمّاهُ اللهُ جل وعلا مثاني بمعنى أن الأخبار والقصص فيهِ غالبً فيهِ تكرر فما يوجزهُ الله في سورة يُبسطهُ الله في سورةٍ أُخرى وأحياناً يكتفي الله جل وعلا بالبسط في سورةٍ واحده ولا يُثنيها كما في قصة نبي الله يوسف فإنها لم تكرر في القرآن بخلافِ قصة موسى فإنها مرت في أكثر من موضع في كُل موضعٍ تُساق حسب السياق العام لسورة .
قال الله جل وعلا ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً)
(أن أسرِ) دلّ على أنهم خرجوا ليلاً لأن السُراء لا يكونُ إلا في الليل (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً) والضرب هنا حقيقة وهو أن موسى علية الصلاة والسلام ضرب البحر بعصاه (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً) البحر بالاتفاق بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دركاً ولا تخشى )
ومعنى الآية
(لا تخافُ دركاً ) أي لا تخافُ أن يُدركك فرعون ( ولا تخشى ) أي لا تخشى غرقاً من البحر فلا فرعونُ يُقدّر لهُ أن يُدركك هو وجُندُهُ ولا البحرُ قادرٌ على أن تكون غريقاً فيهِ وإنما سيُنجيك ربُك من إدراكِ فرعون ومن موج البحرِ وما يكونُ فيهِ من الغرق والهلاك ( لا تخافُ دركاً ولا تخشى ) هذا جاء مُفصلاً ولعلهُ يأتي.
لكن جُملةً نقول :(13/73)
إن موسى أخذ قومهُ لما وصل إلى شط البحر قال أصحابُ موسى ( إنا لمُدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين ) فأمرهُ الله بأن يضرب البحر وضربهُ قائلاً أنفلق يا أبا خالد وهي كُنيةٌ تقولها العرب للبحر وورد والعلمُ عند الله انهُ قال" بسم الله ولا حول ولا قوةً إلا بالله اللهم لك الحمد وإليك المُشتكى وأنت المُستعان " فانقلب البحرُ يبساً كما أخبر وأنشق اثني عشر طريقاً على قدرِ أسباطِ بني إسرائيل فعبر موسى والمؤمنون الذين معه حتى انتهوا إلى الضفة الأُخرى .
جاء فرعون تردد في العبُور وقد مرّ هذا معنا تردد في العُبور لكنهُ بقي ينتظر خوفاً من أن يعود البحرُ بحرا فلما وصل موسى والمؤمنون الذين معهُ إلى الضفةُ الأُخرى وأطمئن موسى أنهُ قد سلم وأن فرعون يُحاولُ أن يُدركهُ أراد أن يضرب البحر كرةً أُخرى ليعود بحرا فيقطع الطريق على فرعون فأوحى إليهِ ربُ العزة ( واترُك البحر رهوا) هذا في الدُخان أي سكاناً فبقي البحرُ سكاناً فامتنع موسى عن ضربهِ بأمر الله تشجع فرعون ليُهلكهُ الله جل وعلا على أن ظنّ أن البحر سيبقى أبدياً على هذهِ الحال عبر هو وجنُودُه فلما أكتمل بقائهم في البحر أمر الله البحر أن يعودُ بحرا فأُغرق فرعون فقال ( أمنتُ أنهُ لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ولم يقُل آمنتُ بالله وإن كان إيمانهُ صحيحاً فالله جل وعلا قال أهلُ العلم اثبت الإيمان لفرعون لكنه لم يقبلهُ منه قال الله ( ألآن وقد) ذكر أنهُ قبل لم يكُن على هذهِ الحال (ألآن وقد عصيت قبلُ وكنت من المُفسدين )
وقد جاء في الآثار أن جبريل علية السلام كان يضعُ الطين في فم فرعون مخافة أن يقول فرعون كلمة يستدرّوا بها رحمة الله.(13/74)
وقد مرّ معنا كثيراً في دروسنا أن رحمة الله جل وعلا لا تُستجلبُ بشيء بعد الإيمان والعمل الصالح بأكثر من دعوة أو أكثر من مدحٍ أو ثناءٍ على الله يستدرُ بها العبدُ ما عند الله جل وعلا فإن الرب تبارك وتعالى لا أحد أحبُ إليهِ المدحُ من نفسهِ ولذالك مدح ذاتهُ العلية وهذا أمرٌ مُشاهدٌ في الكتاب والسُنة فإنهُ كم من عبدٍ صالحٌ ذكر الله جل وعلا دعوتهُ كدعوة ذي النون .
وكقولهِ صلى الله عليهِ وسلم لما سمع عبدً يقولُ في دُعائهِ " اللهم لك الحمدُ حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيهِ " أخبر علية الصلاةُ والسلام أن هذهِ الكلمات أعجزت الملكين .
والمقصودُ من هذا أن الله جل وعلا تُستدرُ رحمتهُ وتُستجلبُ ما عندهُ من الفضل والإحسان بكثرة الثناء عليهِ و انكسارِ البعدِ بين يديهِ وهذا الأمر كان مظنة أن يأتي فرعون و إلا لو تقرر عند جبريل أن الله لن يرحم فرعون قطعاً مهما قال ما كان هناك حاجة لأن يضع جبريُلُ الطين في فم فرعون .
وهذا يدلُ على أن رحمة الله جل وعلا واسعة وانهُ لا يهلكُ على الله جل وعلا إلا هالك وإن العاجز حقاً من لم يجد ألفاظً ولا كلمات يُعبرُ بها عن مسكنتهِ وانكسارهِ بين يدي الرب تبارك وتعالى وتعظيمُك لله جل وعلا لابُد أن يُلازمهُ عدم مُبالغتك في الخلق ولهذا تخرُجُ منا أحياناً من غير شُعور كلمات نقُولها لمن نُحب فيها التعظيم دون أن نشعُر فيسمعُ البعض إذا ألقى كلمة في محفل أو أمام أميرٍ أو ذي سُلطان يقول إن الكلمات تقصُر وأن العبارات تعجز وهذا خطاٌ محضٌ بل خطاٌ عظيم لأن الكلمات العربية إذا وسعت كلام الله من باب أولى أن تسع غيرهُ إذا وسعت ألفاظ العربية مدح الرب جل وعلا فمن باب أولى وأحرى تسع مدح غيرهِ.(13/75)
لكن الناس إذا وصلوا إلى من بيدهِ العطايا أومن يُخشى منه نسو شيءً من جانبً نسو أمراً من جانب الله لكن الإنسان يكونُ متوازن يعرفُ لأهل القدرِ قدرهم ولأهل الفضلِ فضلهم لكنهُ يبقى مُعظماً التعظيم المُطلق لرب تبارك وتعالى .
يقول حافظ عن اللُغة العربية :
وسعتُ كتاب الله لفظاً وغايةً *** وما ضقتُ عن آيً بهِ وعظاتِ
فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلةٍ *** وتنسيق أسماءٍ لمُخترعاتِ
والمقصود أن الله جل وعلا جعل قُرآنهُ بلسانٍ عربي الذي فيهِ الثناء على ذاتهِ العطرة على ذاتهِ جل وعلا فكيف بالثناء على المخلوقين من باب أولى أن تتسع اللُغة ويوجد من العبارات والألفاظ ما نمدحُ بهِ من نُحب أو نُجلّ أو نُعظّم أو نخشى .
المقصودُ من هذا كُلهِ أن نبي الله موسى عليهِ الصلاةُ السلام عبَر بقومهِ بعد أن عبر بهم البحر أصبحوا أين ؟
في أرض سيناء أصبحوا في أرض سيناء .
قال الله جل وعلا : ( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخافُ دركاً ولا تخشى )
ما فصّلناه قالهُ الله 0 (فاتبعهُم فرعون بجنودهِ فغشيهم) غشي بمعنى غطى غطى من ؟
غطى فرعون وأهله
(فغشيهم من اليم ما غشيهم )
وإذا جاءتك هذهِ الفعل ثُم بعدهُ ما هذهِ مُرتبطة بالفعل الذي بعدها لتُسمى ما المصدرية أو ما الموصولة أحياناً وهذا خلافٌ بين النُحاة فأعلم أن المقصود التعظيم ومنهُ قولُ الله جل وعلا ( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) هذا أسلوب تعظيم أسلوب تفخيم أسلوب تهويل
فالله يقول هنا ( فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعونُ قومهُ وما هدى )
منّ الله على بني إسرائيل بعد ذالك بقولهِ:
( يا بني إسرائيل قد أنجيناكُم من عدوكم وواعدناكُم جانب الطور الأيمنَ ونزلّنا عليكُم المنّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكُم ولا تطغوا فيهِ فيحلّ عليكُم غضبي ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى )(13/76)
يا بني إسرائيل إسرائيل يعقوب ابنُ إسحاق ابنُ إبراهيم وهذهِ مُلاطفة من العلي الكبير في خطابِ أُولئك القوم فنسبهم إلى جدهم الأكبر الذي يُنسبون إليهِ وهو نبيُ الله ابنُ نبي اللهِ ابنُ خليل الله عليهم جميعاً أفضل الصلاةُ والسلام .
والربُ تبارك وتعالى يُنادي عباده إما أن يُنسبهم إلى أب عام كآدم أو أبٍ خاص كيا بني إسرائيل أو يُناديهم نداء كرامة وهذا أكثرُ الآيات المدنية عليه كقول الله جل وعلا ( يا أيُها الذين آمنوا ) فهذا يُسمّى نداء كرامة أو نداءً عاماً لا يُنسبون فيهِ إلى أبٍ ولا يُذكرون فيهِ بكرامة وإنما نداء عام ومنهُ قول الله جل وعلا ( يا أيُها الناسُ اتقوا ربكُم إن زلزلة الساعة شيءٌ عظيم ) فقول الله جل وعلا ( يا أيُها الناس ) هذا نداء عام يدخُلُ فيهِ البر والفاجر والمؤمن والكافر ولا يُمكنُ أن نصطلح على أنهُ نداءُ كرامة بل هو نداءٌ عام وقُلنا ( يا أيُها الذين آمنوا ) هو نداء كرامة ،
قُلنا مُلاطفة ( يا بني إسرائيل قد أنجيناكُم) يمّنُ الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من نجاتهم من فرعون (قد أنجيناكُم من عدوكم) الذي هو فرعون (وواعدناكُم جانب الطور الأيمنَ ونزلّنا عليكُم المنّ والسلوى) الطور كم طور فيهِ ؟
واحد كم جبل طور ؟ واحد
الأيمنَ جاءت منصوبة والطور جاءت مجرورة لأنها مُضاف إليهِ هذهِ تأملها جيداً
(جانب الطورِ الأيمنَ ) فالأيمن ليست صفة لماذا ؟ لطور وإنما صفة لماذا للجانب ، الأيمن صفة للجانب ليست صفة لطور لأنها لو كانت الأيمن صفة لطور معناه هُناك طور أيمن وطور أيسر وطور في الوسط وطور هناك وطور ... ولا يوجدُ إلا جبلُ طورٍ واحد لكن هذا الجبل جبل الطور المُبارك لهُ عدة جوانب وأصلً كلمة أيمن ليست جهة ثابتة لأن الثبات في اليمين واليسار غير ثابت غير وارد .
مثلاً :(13/77)
أنا أجلسُ الآن على هذا الكُرسي هذا الجهة هذهِ على يميني لكنني لو قابلت هذا الكُرسي فتُصبح هذهِ الجهة على يساري الأيمن غير وارد لكن الله جل وعلا يُخبر عن الجهة التي جاء منها موسى عليهِ الصلاةُ والسلام هذهِ واحده .
قُلنا الأيمن صفة لجانب وجانب نكرة والأيمن معرفة لكن ما الذي سوّغ هنا أن جانب جاءت مُعرّفه بالإضافة جاءت مُعرّ بالإضافة أُضيفت إلى كلمة الطور فاكتسبت التعريف أُضيفت كلمة جانب إلى كلمة الطور فاكتسبت التعريف فلما أضحت معرفةً حُق لها أن توصف بكلمة الأيمن .
وهنا قبل أن نتجاوزها إلى غيرها نبه بعضُ العلماء وذكرهُ الدكتور صالح العايد في كتاب نظرات لُغوية نقلاً عن صاحب البُرهان كلّما أنسى وهي قضية استنبطها العُلماء دقيقة جداً في قضية جانب الطور الأيمن .
الله جل وعلا ذكر هنا أنهُ واعد موسى جانب الطور الأيمن لكن لمّا تكلم عن نبيهِ صلى الله علية وسلم قال ( وما كُنت بجانب الطور ) ما قال الأيمن ( وما كُنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر )
لماذا لم يذكُر اللهِ الأيمن هُنا ؟
لأن هنا في نفي وكلمة الأيمن فيها تشريف لكن كلمة الغربي لا تعني شرفاً بذاتهِ [واضح ]
الأيمن جهة اليمين جهة شرف لكن الغربي والشرقي والشمال والجنوب ليس فيها في ذاتها شرف فلما أراد الله النفي عن نبيهِ مُلاطفةً لنبيهِ لم يصفها بالأيمن لأنهُ إذا وصفها بالأيمن فيُصبح نفى اليُمنى عن نبيهِ والله لا يُريدُ هذا فقال جل وعلا ( وما كُنت بجانب) إجلالاً وإكراماً ومُلاطفة لرسولهِ صلى الله علية وسلم .(13/78)
وقبل أن أُكمل هذا أقولُ لك ولمن يُشاهدنا من الأخوة والأخوات علمُ التفسير عُموماً مواهب يُعطيها الله من يشاء والناسُ قُدرات ويظهرُ أثرُ كُل ذي قُدرة في تفسيرهِ . فمن كان ذا قُدرة في الإستباطات اللغوية سيظهرُ هذا جليً في كلامهِ ،، ومن كان قويً في الفقهِ مثلاً سيظهرُ هذا في كلامهِ فكُن أنت قبل أن تبحث عن تفسيرِ الآية ابحث عن ما تُريدهُ من الآية ابحث عن ما تُريدهُ من الآية فإذا بحثت عن ما تُريدهُ من الآية سيسهُلُ عليك أن تبحث في كُتب التفسير لكن هذا لابُد أن يسبقهُ أن تكون مُلماً بكُتب التفسير بعضُها يظهرُ من عنوانها فالكتاب الذي ذكرنا اسمهُ [نظرات لُغوية] فواضح أنهُ يبحث في اللُغة ، [ أحكام القرآن لأبن العربي ] واضح أنهُ يتكلم في الفقهيات فأحياناً من العنوان يظهر وأحياناً لا من كثرة المُطالعة والدُربة لك تستطيعُ أن تعرف مناحي المُفسرين فيسهلُ عليك بعد ذالك أن تصل إلى مُرادك .
نقول قال الله جل وعلا :
(وواعدناكُم جانب الطور الأيمنَ ونزلّنا عليكُم المنّ والسلوى)(13/79)
أهلُ العلم رحمهم الله يكادون يُجمعون على أن المقصود بالمنّ ما ينزلُ من السماء شيءٌ أنزلهُ الله من السماء عليهم كالطل يجدونهُ على رؤوس الأشجار أشبه بالعسل الأبيض يتجمع كالصُمغ ثُم يأخذُنهُ وهو نوعٌ من الحلوى رزقهُ الله جل وعلا بني إسرائيل وقالوا في السلوى أنها طيرُ السُمّان المعروف هذا ما ذكرُوه لكن جاء في الحديث أن الكمأة من المنّ والذي يظهر والعلمُ عند الله ما قالهُ الأفاضل الأكابر في هذا قويٌ جداً لتظافُرهم عليهِ ومن الصعب أن يُخطأ الإنسانُ جمعاً لكن فيما يبدو أن المنّ هو الكمأة التي تظهر الآن من غير ما زرع تكونُ مقرونةً بوقت المطر فهذهِ فيها منّة لأن ليس فيها جُهدٌ لأحد ليس فيها جهدٌ لأحد لأجل ذالك من الغالب يعني غالبُ الظن أنها مقصودة إن لم تكُن هي كُلها فتكون من في الحديث بيانية أو على الأقل نوعٌ مما أخرجهُ الله جل وعلا لبني إسرائيل.
والمقصودُ أن بني إسرائيل عندما خرجوا مكثوا في الصحراء فاحتفى العليُ الكبيرُ بهم إكراماً لأنبيائهم ولما أرادهُ الله جل وعلا من الابتلاءِ لهم ( ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين ) فأنزل عليهم المنّ والسلوى .
قال اللهُ جل وعلا
( وأنزلنا عليكُم المنّ والسلوى كلوا ) وهذا أمرٌ للإباحة ( كلوا من طيبات ما رزقناكُم ولا تطغوا فيهِ ) في تجاوز الحد ( فيحلّ عليكُم غضبي )
ثُمّ قال الله تذييلاً لهذا الأمر( ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى ) والهوى هُنا المقصودُ بها السُقوط المُريع والمقصودُ بها الهلاك الفضيع لكُل من حل عليهِ غضبُ الله تبارك وتعالى.
( ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى )
وهنا أتوقف قليلاً لأقول أن هوى في القرآن وردت بمعنى السقوط قال الله جل وعلا ( أو تهوي بهِ الريح في مكانٍ سحيق ) وهُنا نستبعد تفسير بعضُ العُلماء لقول الله جل وعلا ( والنجمِ إذا هوى ) بأن المقصود بهِ نزول القرآن.(13/80)
بعضُ أهل العلم يقول ( والنجم إذا هوى ) يقصد أن القرآن نزل مُنجماً فيجعل هوى هنا بمعنى نزل لكن ألفاظُ كلمة هوى استخدام اللفظ هوى في القرآن لا يُساعدُ على هذا ومنهُ هذهِ الآية ( ومن يحللِ عليهِ غضبي فقد هوى )
ثُم قال البرُ الرحيم كما يذكرُ غضبهُ يذكُر رحمته
( وإني لغفارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالح ثم أهتدى )
هذا القولُ الرباني من الله جل وعلا جاء بعد قولهِ تبارك وتعالى ( ومن يحلل عليهِ غضبي فقد هوى * وإني لغفارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحٍ ثُم أهتدى )
وقد يظنُ الناس ممن لا يؤتى بضاعة في التفسير قوية أن الأمر مُرتباً ترتيباً حرفياً وإنما المقصودُ أن الإنسان إذا وقر في قلبهِ الإيمان والأسفُ على ما كان منهُ من عصيان ولزم الصراط المُستقيم هذا الذي أهلٌ لأن يغفر الله جل وعلا له لكن الآية لا تعني الحصر فإن الرب جل وعلا قد يغفرُ من غير ما سببٍ من العبد قد يغفرُ من غير ما سببٍ من العبد .
وبعضُ أهل العلم كما في شرح العقيدة الطحاوية أجمل أسباب المغفرة إلى ثلاثةَ عشر سببً ، أجمل أسباب المغفرة إلى ثلاثةَ عشر سببً وجعل خاتمتها وأخرها وأكملها غُفران الله تبارك وتعالى من غير سببٍ من العبد لكن هنا الله جل وعلا يذكرُ أعظم أسباب غفران الذنوب
( وإني لغفّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحٍ ثُم أهتدى)
على هذا الإنسانُ وهو يعملُ العمل الصالح لا بُد أن يجعل في نفسهِ مُستصحباً أنهُ يُريدُ بالعمل الصالح غُفران الذنوب كما قال الله قبل قليل على لسان السحرة ( إنّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا )
ونقولُ مرارا : أن المرء لا يحملُ فوق كاهلهِ شيءً أشد عليهِ من ذنبهِ ولهذا علّق الله جل وعلا جوائز فضائل الأعمال بغُفران الذنوب.(13/81)
فلمّا ذكر النبيُ صلى الله عليه وسلم الحج وأخبر ما يجدهُ العبدُ من عناءٍ فيهِ وأنهُ عباده يجتمعُ فيها البدنُ والمالُ والقلب قال صلى الله علية وسلم { رجع كيوم ولدتهُ أُمهُ } فعلّقها بمغفرة بمغفرة الذنوب لأن الصالحين لا يخشون لا يؤرقهم شيء أعظم من أنهم يسألون الله جل وعلا غُفران ذنُبهم .
إن تغفر اللهم تغفر جما **** وأيُ عبدٍ لك ما ألما
ولما أراد الله أن يُخبر ببعض كرامتهِ إلى نبيهِ صلى الله علية وسلم قال لهُ ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) وهو عليهِ الصلاةُ والسلام يُعلّمُ الصديق فيقول أن يقول في دُعائهِ
{ اللهم إنني ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيرا وإنهُ لا يغفرُ الذنوب إلا أنت فاغفر لي } أو كلمةً نحوها .
والمقصود أن غُفران الذنوب من أعظم ما يطلبهُ العبد ُ من ربهِ.
إلى هنا ينتهي وضعٌ عام في حياة بني إسرائيل ذكرهُ الله جل وعلا ثُمّ يذكُر اللهُ تبارك وتعالى مُسارعة موسى كما سيأتي تفصيلاً في اللقاء القادم إلى ربهِ.
لكن نقف هنا لنقول في جُملة هذهِ الآيات تنحصرُ هذهِ الآيات في الحديث عن ما كان من إيمان السحرة وهو أولُ نقلة نوعية في دعوة موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء وهذهِ المرحلة التاريخية من انتصارِ موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء مرّت بأحداث لم تذكُرُها الآيةُ هنا .
من تلك الأحداث والقرآنُ يُفسرُ بعضهُ بعضا :
// أن موسى قبل أن يرتحل من أرض مصر أمر قومهُ أن يجعلُ بيوتهم قبلة .
واختلف العُلماء في معنى ( واجعلوا بيوتكُم قبلة ) بعضُهم قال أنهُ أراد الصلاة وعندي هذا بعيد لأن الله قال بعدها ( وأقيموا الصلاة ) لكن الذي أفهمهُ والعلمُ عند الله أن المعنى اجعلوا بيوُتكُم مُتقاربة مُميزة في ناحية البلدة حتى تستطيعوا أن تذهبوا إلى البحر وقت ما يأذن الله برحيلكُم من أرض مصر من أرض مصر.
والمقصود أن موسى استقر في أرض مصر طويلاً قبل أن يرحل ويترُكها إلى أرض التيهِ .(13/82)
// من هذهِ الأحداث وقعت ما وقع من الآيات ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم ) هذا وقع ما بين إيمان السحرة وما بين خُرُجِ موسى من أرض مصر .
// ذكرت السُنة الصحيحة أن موسى أخذ معهُ جسد يوسف وهذا لم يأتي في القرآن لكن جاء في نقلٍ عن النبي صلى الله علية وسلم حسّنهُ أو صححهُ بعضُ أهل العلم .
// كذالك من الأحداث التي وقعت في هذهِ الحقبة التاريخية من إيمان السحرة إلى خُرُجِ موسى قضية قارون وما كان منه فإن قارون والخسف بهِ وهلاكهُ إنما وقع في أرض ؟ في أرض مصر ولم يقع بعد ذالك .
فهذهِ أحداث تاريخية أجملها القرآن جاءت مُفرّقة :.
قصة قارون ذُكرت في القصص ، وذُكرت ( واجعلوا بيُوتكُم قبلة ) ذُكرت في يونس ، وبعضُها ذُكر في سورٍ أُخر وبعضُها ثُنّي وكُرر وبعضُها لم يُذكر إلا مرةً واحدة .
والمقصودُ أن تفهم أن هذا السياق يُسمّى إيجاز حذف يُسمّى إيجاز حذف ذكر الله جل وعلا فيهِ منّتهُ جل وعلا على بني إسرائيل وهذا الاحتفاءُ الإلهي ببني إسرائيل مبنيٌ على أن الله جل وعلا جرت سُنتهُ في خلقهِ أنهُ لابُد لناس من أئمة ذوي روح والمقصود أئمة روحيين بمعنى أئمة في العلم والهداية والله جل وعلا ينقُل هذا العلم من أُمة إلى أُمة وليس بين الله وبين أحدٍ من خلقهِ نسب ولكن كُلّما استمسكت الأُمة بهدي السماء كانت حقيقة بأن تقود العالم والله جل وعلا قال عن بني إسرائيل ( ولقد اخترناهُم على علمٍ على العالمين )
فبعضُ الألفاظ تحصُلُ منّا غير مُفرّقة ما بين من أصاب وما بين من أخطأ كقول البعضِ ممّن يغلبُ عليهِ الوعظ أو السهو أحياناً غير المقصود " يا أحفاد القردة والخنازير " فهي من حيث الحقيقة الخلقية لم يجعل اللهِ لمن مسخهُم حفدة فهو أمرٌ منتفي.
والأمر الثاني :(13/83)
أن بني إسرائيل يُنسبون إلى نبي عظيم كريم والله جل وعلا قال عنهُم ( ولقد اخترناهُم على علمٍ على العالمين ) لكن ظهر فيهم قتلُ الأنبياء وتبديلُ كلام اللهِ وقولهم قلوبُنا غُلف واتهامهم لمريم ومُحاربتهُم لعيسى ومُحاولة قتلهِ هذا الذي أضاعهُم وأذهبهُم .
فالإنسانُ إذا تكلم يتكلمُ بهديً من القرآن لا بعاطفةٍ تؤججهُ فالله تبارك وتعالى يقول ( ليسُ سواءَ من أهل الكتاب أُمةٌ قائمة) إلى غير ذالك مما يُبينُ الله جل وعلا فيهِ الإنصاف عند الخطاب .
هذا ما يُمكنُ أن يُقال في هذا الجزءُ التاريخي من حياة بني إسرائيل في هذا الموضع .
قال الله جل وعلا بعدها مُبيناً ما حصل لموسى بعد ذالك قُلنا أن موسى أستقرّ في أرض ؟ في أرض الطور أمرهُ الله جل وعلا و أعطاهُ موعداً قال الله جل وعلا ( وما أعلجلك عن قومك يا موسى )
هذا يُفهم منه أن موسى أستبق قومهُ إلى جبل الطور ليتحقق الوعد المكاني والزماني ضرب الله لهُ ميقاتً زمانياً مكانياً ميقاتً زمانياً أربعين يوماً أربعين ليلة والميقات المكاني جبل الطور فسبق موسى قومهُ وجعل أخاهُ هارون يخلفهُ فيهم فسألهُ ربُهُ ( وما أعجلك عن قومك يا موسى )
وما هذهِ استفهامية .
(قال هُم أُولاءِ على أثري ) قال بعضُ العُلماء أن هذا الجواب غير مُطابقٍ لسؤال كان ينبغي أن يقول أعجلني كذا وكذا ولا يقول إن قومي قريبُ عهدٍ بي على هيئة مكان .
لكن قالوا لماذا أحتار موسى في الجواب قالوا لأنهُ هاب مُعاتبة الله جل وعلا فلم يجد جواباً يُخاطبُ بهِ ربُهُ .
والمقصود أن مُعاتبة الله جل وعلا لبني إسرائيل وسُؤالهُم إياه أوقع في موسى الرهبة والخوف فكان جوابهُ غير مُطابقٍ لسؤال .(13/84)
إذا صح هذا التأويل الذي أختارهُ بعضُ أهل العلم فحريٌ بنا أن يُقال إذا كان هذا النبيُ الكريمُ الذي لم يقترف ذنباً أصابهُ ما أصابهُ من الذهول لمّا عاتبهُ ربُهُ فكيف بمن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه وتجاوزا حدودهُ وأنتهك حُرُماته نسأل الله لنا ولكُم العافية .
( وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هُم أُولاءِ على أثري ) أي غيرُ بعيدٍ عني (وعجلتُ إليك رب لترضى ) هذهِ تصلُح جواباً (وعجلتُ إليك رب لترضى )
وقد قال العُلماء بناءً على هذهِ :
إن العجلة مذمومة إلا إذا كانت مُسارعةً في الخيرات إن العجلة مذمومة إلا إذا كانت مُسارعةً في الخيرات (وعجلتُ إليك رب لترضى )
طلبُ رضوان الله جل وعلا من أعظم المقاصد وأجلّ المطالب ولا توجدُ عطية أصلاً بعد رضوان اللهِ قال الربُ تبارك وتعالى ( ورضوانٌ من الله أكبر ) وكُلّما كانت بُغية المرء أن ينال رضوان الله جل وعلا كان من أعظم الساعين في أسباب التوفيق و والله إنك لن تخرُج من دارك تطلُبُ أمرً أعظم من رضوان الله فكُلّما غلب على ظنّك في عمل فيهِ رضوان الله فلا تترد في السعي إليهِ عاجلاً أم آجلاً ( وعجلتُ إليك ربي لترضى ) .
قال اللهُ لهُ ( فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلهُم السامري )
السامري من مُبهمات القرآن كعلم ولم يُذكر إلا في سورة "طه" وشخصيتهُ جاءت في القرآن من حيث الجُملة شخصية مُبهمة سواءً في أول أمرها أو في خاتمة مطافها ولا أظنُّ أن ما بقي من الوقت يُعين على أن أتكلم عنها سأُرجأُ الحديث عنهُ في اللقاء القادم لكني أقول مُستدركاً بعض ما بقي من الوقت : أن الله جل وعلا قال
( فإنّا قد فتنّا قومك من بعدك وأضلهُم السامري )(13/85)
نسب اللهُ الفتنة هُنا إليهِ ونسب الضلال إلى السامري ويجبُ أن يُحرّر أن الهداية والضلال بيد الله وما السامريُ هُنا إلا سبب جعلهُ الله جل وعلا كما جعل الملكينِ فتنةً لبني إسرائيل بعد موسى ( إنما نحنُ فتنة فلا تكفُر ) فالشيطانُ مثلاً جعلهُ الله جل وعلا من أسباب الغواية ،، والمال جعلهُ الله جل وعلا فتنة ،، والنساء جعلهُنّ الله جل وعلا في حق الرجال فتنة في حق بعض الرجال فتنة .
والمقصودُ من هذا أن الهداية بيد اللهِ أما هذا السامريُ فهو كان سبباً في غواية بني إسرائيل كما سيأتي تفصيلهُ في موضعهِ لكنّ الذي يعنينا هُنا أن الله جل وعلا قال ( فإنّ قد فتنّا قومك من بعدك ) والخطاب لموسى ( وأضلّهُم السامري ) ( فأخرج لهُم عجلاً جسداً لهُ خوار فقالوا هذا إلهكُم وإله موسى فنسى) أي أنهُ صنع لهُم عجلاً لهُ خوار والعجلُ ولد البقر و(لهُ خوار) هذا صوتُ العجل ( فقالوا هذا إلهكُم وإله موسى فنسىَ ) طبعاً إذا أستمرّيت في القراءة تقول ( فنسيَ ) فعل ماضي مبنيٌ على الفتح .
والمعنى
من الذي نسي ؟
الفاعل غير مذكور فيُصبح المعنى يحتمل عدة تأويلات :
منها أنهُم قالوا فنسي موسى أن يُخبركُم أن هذا إلهكُم هذا مُراد أرادهُ السامري .
ومُرادٌ آخر فنسي موسى أي نسي أن هذا الإله وذهب يطلبُهُ في مكانٍ آخر .
هذا أقوى الاحتمالات الاثنان وذُكر احتمالات أُخر لكن هذهِ أقواها .
وقُلت لا أُريدُ أن أزدلف إلى القصة كاملة لأن تحريرُها يحتاجُ إلى روية ويحتاجُ إلى مُتسعٍ من الوقت لكن الذي يعنينا أن الله جل وعلا أبتلى بني إسرائيل في الفترة التي تأخّروا فيها عن إدراك موسى بأن عبدوا العجل وعبادتهُم للعجل هي مُرادهُم من قولهم في سورة البقرة ( لن تمسّنا النارُ إلا أياماً معدودة ) فهم يقولون أنهُ محكُومٌ لنا بالجنة وأن النار لا تمسّنا إلا أياماً معدودة هي الفترة التي عبدنا فيها العجل .(13/86)
ولأن عبادة العجل كانت مهلكةً عظيمةً لهُم اشترط الله عليهم في التوبة أن يقتلوا أنفُسهم كما أخبر الله جل وعلا في سورة البقرة.
وهذا كما قُلت أنا أُقاربهُ مُقاربة الآن في آخر المطاف لكن جُملةً هي فتنةٌ حصلت لبني إسرائيل سيأتي تفصيلُها بإذن الله تعالى في اللقاء القادم .
وقُلتُ إن السامريُ مُبهمٌ من مُبهمات القرآن شخصيةٌ يكتنفُها الغموض ذكرها الله جل وعلا فقط في سورة طه سيأتي تحريرُ الخطاب عنها في اللقاء القادم .
هذا ما تيسر إيرادُهُ وتهيأ إعدادُهُ والله المُستعان وعليهِ البلاغ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ...........
تفريغ سورة طه من الآية 86 إلى 115
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحات وأشهدُ أن لا إله إلا الله ربُ الأرضِ والسماوات وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدٌ عبدهُ ورسولهُ أتمّ الله بهِ النبوة وختم الله بهِ الرسالات وصلى الله وسلم وأنعم وبارك عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائرِ من اقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ...
فمازلنا معشر الأحبة في قول الله جل وعلا في سورة "طه"
( فرجع موسى إلى قومهِ غضبان أسفا )
وهذا الخبرُ مُفرعٌ على ما قبلهِ وهو أن موسى عليهِ الصلاةُ والسلام أخبرهُ الله جل وعلا وهو عند جبل الطور بأن قومهُ قد فُتنُوا من بعدهِ وأنهُم عبدوا العجل بناءً على أمرٍ أو إشارةٍ أو دلالةً من السامري .
وحتى يكون المنهجُ لديكُم واضحاً بعضُ الآيات في القرآن يحسُنُ ذكرُ إجمالها والإنسانُ إذا فقه مُجمل القضية يقدرُ بعد ذالك على أن يفُك ألفاظ القرآن .
وعلى هذا قال اللهُ جل وعلا ( فرجع موسى إلى قومهِ غضبان أسفا ) إلى قولهِ تبارك و تعالى ( إنما إلهكُم اللهُ الذي لا إله إلا هو وسع كُل شيءٍ علما ) إنما هو حدثٌ تاريخي جملتهُ عبادة بني إسرائيل للعجل .(13/87)
وتمُرّ معك ( يبنؤم أُم لا تأخُذ بليحتي ولا برأسي ) على لسان هارون وقول السامري ( بصرتُ بما لم يُبصروا بهِ ) وقولهُ غير ذالك .
لذالك إذا كان الإنسانُ لم يفقه القضية أصلاً والقصة جُملةً لن يستطيع أن يفهمها كحروف حتى يستوعب القضية أين كانت لذالك سأسردُ أنا القصة مُستغنياً بها عن قضية فك الآيات آية واحدة .
ِإنما على إيحاء القرآن من لقُرآن نفسهِ نأخُذ القصة ونحاول أن نستعين ببعض المُعطيات التاريخية قدر الإمكان مع التحرُز على أن الغيب لا يُدرك بالعقل الغيب لا يُدرك بالعقل فما سكت اللهُ عنهُ غيباًُ لا نستطيع أن نقتحمهُ نحنُ بتأويلاتنا العقلية هذا أمرٌ يجب التحرُز منه .
نقول الله جل وعلا أخبر موسى أن السامري أضلّ قومهُ فعبدوا العجل وهذا الخبرُ جاء من الله فرجع موسى إلى قومهِ وصف الله حالتهُ بأمرين ( غضبا أسفا ) والغضب حدّة تكون في النفس غير مقرونةٍ بخوف إذا رأى الإنسان شيئاً يسوؤه فلمّا رجع موسى علية السلام بهذهِ الحالة هذا معنى غضب وأسف بمعنى أن هذهِ الحدّة كما أنها مقرونة بما حصل لقومهِ مقرونة بالحزن لما وصلوا إليهِ و لهذا عبّر القرآن بكلتا الحالتين غضبان في ذات اللهِ وأسفاً على قومهِ فهو مُغضب في نفس الوقت حزينٌ جداً لطريق التي سلكهُ قومُهُ .
موسى علية الصلاة والسلام جعل أخاهُ هارون بعدهُ في بني إسرائيل وذهب لمُلاقاة الله وقد مرّ معنا في اللقاء الماضي أنهُ سألهُ ربُهُ ( وما أعجلك عن قومك يا موسى ) في هذهِ الفترة جاء السامري .
من السامري؟(13/88)
قُلنا انهُ من مُبهمات القرآن ونعني أنهُ لم يأتي تفصيلاً دقيقاً عن سيرتهِ وظاهرُ الأمرِ أنهُ رجُلٌ من بني إسرائيل ، هذا السامري أبصر جبريل على الأظهر ( فبصرتُ بما لم يُبصروا بهِ قبضةً من أثر الرسول ) فُسّرت الرسول بجبريل رأى جبريل وهو على فرسٍ يُقال لهُ حيزون ،، يُقال إن جبريل عندما كان يجري على هذهِ الفرس كان لا يطأُ على مكان إلا يحيَ ينبُت ففطن السامريُ لهذا الأمر الذي أعطاهُ الله جل وعلا لفرس جبريل فقبض قبضة ولا تُسمى قبضة إلا إذا كانت ملأ اليد يعني مقبوض عليها وأحتفظ بها لنفسهِ ثُم كأنهُ وضعها في مكانٍ آمن حتى انتهز فُرصة غياب موسى في جبل الطور ووضع أخاهُ هارون خليفةً عليهِ في هذهِ الفترة جاء السامريُ لبني إسرائيل ودخل عليهم من باب الخطيئة كما يُريُدهُ الناس عندما يأتون إلى شخصٍ يُريدون أن يُضفوهُ فيما يُريدون يأتون إليهِ من باب الخطيئة من باب الخطأ فأخبرهم أنهُم حملوا أوزارً آثام سببُها أنّهم لم يردّوا زينة القوم من القوم ؟ الأقباط سُكان مصر الأصليين هؤلاء بني إسرائيل كانوا يعيشون على مقربة من الأقباط في مصر كانوا خدم لهم وجيران ويحدُث من والخدم والجيران نوعٌ من العلاقات فبعضُ بني ِإسرائيل كان يُعطي بعضُ القبط كان يُعطي ذهبهُ وزينتهُ لبني إسرائيل إمّا يحتفظ بها أو بعثهُ في مُهمّة أو كان خادمً عندهُ المُهمّ تحصّل بني إسرائيل على مجموعة من الحُلي التي ليست لهُم مُلكاً في الأصل فلمّا تجاوزوا البحر أتاهُم السامريُ من هذا الباب إن هذهِ الزينة التي تملكونها وتحملونها إثمٌ ولهذا قالوا ( حُمّلنا أوزارً من زينة القوم ) والأوزار تُطلق على الذنوب والمعاصي فلا بُد أن تتخلصوا منها فسألوه كيف نتخلص فأتى لهُم بقاع بأرض وأمرهُم أن يُلقوا ما جمعوه من حُلي فيها فتكون من هذهِ الحُلي ذهبٌ كثير فجاء السامريُ بالقبضة التي قبضها لتدُب فيها نوع من الحياة نسبياً مع هذا الذهب مع قُدرتهِ على(13/89)
صناعة التماثيل فأخرج لهُم العجل والعجلُ صغارُ البقر كما هو معلوم وصوتهُ يُسمّى خوار.
لكن قال بعضُ أهل العلم أفراد منهُم :
قالوا إنّ هذا العجل كان فيهِ روح وهذا بعيد جداً لأنهُ لا خالق إلا الله ، ومن قواعد العلِم وهذا مرّ معنا كثيراً أن الإنسان يأخُذ الأمر اليقيني ثُمّ يصدُمُ بهِ الشيء المُتشابه فالمُتشابهة لا يقدر أن يقف أمام الشيء اليقيني المُتشابه لا يقف أمام المُحكم فمّما نستصحبهُ هنا مُحكماً أن الله جل وعلا لا خالق غيرهُ ومُحال بأن يقدر السامريُ بأي قُدرة على أن يخلُق شيئاً ، حتى قول الله جل وعلا على لسان عيسى ( أني أخلُقُ لكُم كهيئة الطير فأنفُخ فيهِ فيكونُ طيراً بإذن الله ) قالوا أنهُ ما مُجرد أن يطير إلا يقع حتى يُميز خلقُ الله عن خلقُ الناس عن خلق عيسى .
فالمقصود أن السامري بما أعطاهُ الله من قُدرة في صناعة التماثيل والذهب معدنٌ أصيلٌ كما هو معلوم مع تلك القبضة مزج بعضها في بعض ولا ندري كيفية العجل على هيئتهِ العامة على هيئتهِ التفصيلية لكن نعلم نقول كما قال الله ( جسداً ) تدلُ على أنهُ لا روح فيهِ .
لأنهُ مرّ معنا أن أُسلوب القرآن إذا تكلم عن اللحم والدم والشيء المُجسم إذا كان مقروناً بالروح يُعبّر عنهُ بأنهُ جسم قالوا عن طالوت ( بسطة في العلمِ والجسم ) قال الله عن المُنافقين ( تُعجبُك أجسامهُم ) .
وإذا عبّر القرآن بالجسد فإنهُ يتكلم عن ما لا روح فيهِ والمقصُودُ أن هذا العجل أخرجهُ لهُم السامري فلمّا أخرجهُ لهُم كما قال الله جل وعلا( فقالوا هذا إلهُكُم وإله موسى فنسىِ ) وفي اللقاء الماضي أنا نطقتُها فقالَ طبعاً هذا خطأ سبقُ لسان لكن ( فقالوا هذا إلهُكُم وإله موسى فنسىِ ) فبيّن لهُم أن موسى علية السلام هذا بزعم السامري لي يعرف ربهُ نسي ربهُ فذهب يبحث عنهُ في مكانٍ آخر أو قال لهُم إن موسى نسي أن يُخبركُم أن هذا إلهكُم وكلا الأمرين كُفر .(13/90)
فُتن بنوا إسرائيل بالعجل فأخذوا يطوفون حولهُ ويتراقصون ومن هُنا أخذ بعض عُلمائنا لسُنة أن ما يصنعهُ بعض المتصوفة من التطواف والرقص لا أصل لهُ بل إنهُ مأخوذٌ عن العبادة الكُفرية لبني إسرائيل ولم يُنقل فيهِ أثرٌ صحيحٌ صريح عن نبينا صلى الله علية وسلم وكفى بعبادة النبي علية الصلاة والسلام وأصحابهِ عبادة .
موضع الشاهد :
هذا الأمرُ حدث على مرأىً من عيني هارون وموسى إلى الآن يا بُني غيرُ موجود فلمّا رآهُم هارون ازدحمت في ذهن هارون قضيتان :
القضية الأولى :
أنهُ كان بإمّكانهِ علية السلام أن يُنكرِ عليهم إنكاراً ينجمُ عنهُ أن يأخُذ المجموعة التي لم تؤمن الفرقة التي لم تؤمن فيذهب ويتبع موسى وهذا غلب على ظنّ هارون أنهُ لو فعل هذا لتشتت بنوا إسرائيل الباقون وتفرّقوا فإذا عاد موسى لا يجدُ طريقةً لجمعهِم حتى يرُدهُم إلى الحق هذهِ .
والأمر الثاني :
أن يُبقي الأمر على ما هو عليهِ و يُنكر بقوة عليهم ويُحاولُ أن يأخُذ ويُعطي معهُم حتى يأتي من ؟ حتى يأتي موسى فيُبيّن لهُم لأن السامري اتكأ على ماذا ؟
اتكأ على ثياب على ثياب موسى فإذا جاء موسى لم يبقى لسامريّ حُجة [ واضح ]
هذا الذي أذهلهُ هارون فيما أفهمهُ أنا من القرآن [ واضح ] وإن لم يُصرّح بهِ أحد لكنّهُ لما حصل هذا أنكر عليهم موسى وقد أنكر عليهم هارون وقد برّأ اللهُ جل وعلا بنصّ كتابهِ ساحة هارون قال اللهُ جل وعلا ( ولقد قال لهُم هارونُ من قبلُ يا قومُ إنّما فُتنتُم بهِ وإنّ ربكُم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري )
فبدأ بالتخلية وهو إن (فُتنتُم بهِ) ودعا إلى التوحيد ( ربُكُم الرحمن ) ودعا إلى الرسالة ( فاتبعوني ) ودعا إلى الشريعة .
كُلها أجملها عليهِ الصلاةُ والسلام(13/91)
لمّا جاء موسى في هذهِ الفترة لم يرتدع بنوا إسرائيل فرجع موسى بعد أن أخبرهُ الله لمّا رجع موسى علية الصلاة والسلام بعد أن أخبرهُ الله وكفى بتعليم اللهِ علما لكن كما قال نبيُنا صلى الله علية وسلم فيما روي عنهُ في المُسندِ وغيرهِ { ليس الخبرُ كالمُعاينة } فلمّا رآهُم على هذهِ الحال يعبدون العجل غضباً للهِ ولأنهُ رسولٌ مُلأ قلبهُ توحيداً لا يُتصور أن يرى أحدً يعبدُ غير الله ألقى الألواح ولم يُلقي الألواح زُهداً في الألواح أو استخفافاً بكلام اللهِ مُحال أن يفعل هذا آحادُ الناس من الصالحين فكيف يُنسب إلى أولياء اللهِ ورُسلهِ لكنهُ فعلها ممّا أصابهُ من الحنق والغضب أن يرى أحدً يعبدُ غير الله أن يرى أحدً يعبدُ غير الله فألقى الألواح توجّه مُباشرةً إلى أخيهِ .
صوّر الله هذا الموقف والحدة في موسى أنهُ كان يأخُذُ برأس أخيهِ ويجّرهُ إليهِ كان الموقف صعباً على هارون لكنّ هارون كان حليماً والعربُ تقول
" إذا عزّ أخوك فهُن "
وحياتك مع أصدقائِك ورُفقائك ومن تُحبهم ويُحبّونك إذا غلب عليك الظنّ أنهم شدوا ـ بالعامية ـ أرخي أنت يقولُ مُعاوية " لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إذا أرخوها شددتوها وإذا شدوها أرخيتُها ــ وفي روايةٍ أنهُ قال ـ أعيشُ نعهُم كالحمام إذا وقعوا طرت وإذا طاروا وقّعت "
المقصود لجأ هارون لا إلى مُناكفة أخيهِ وصدّهِ لجأ إلى استلطافهِ وأخذ يبحثُ عن ألفاظ تُحرك العاطفة في قبل أخيهِ وهارون وموسى أخوان شقيقان لكنّهُ قال لهُ (يبنؤُمّ) وقولهُ يا ابن أُمّ أثرُها في النفس أكثر من قولهِ يا أخي وإنّما ذكّرهُ بالرحم العظيم الجامعِ بينهُما وهي الأُم ( يبنؤُمّ لا تأخُذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت ) قال العُذر الذي قُلناهُ من قبل ( إنّي خشيتُ أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقُب قولي )
أي لم تسمع قولي ولم تُطعني في أمري .(13/92)
ينبغي أن تعلم كذالك أنّ موسى لم يشُكّ لحظة أبداً في أخيهِ أنهُ عبد العجل لكنّهُ كان يتكلم عن سياسة أخيهِ في الموضوع فقولُ موسى كما قال الله لأخيهِ ( أفعصيت أمري ) لا يقصدُ منهُ عصيت أمري في العبادة مُحال لأن هارون نبيٌ مثلُ من؟ مثلُ موسى لكن ( عصيت أمري ) عندما قُلتُ لك ( وأصلح ولا تتبع سبيل المُفسدين ) اُخلفني في قومي أصبح زعيماً لهُم قائداً لهُم ريثما أعود هذا الذي خشي موسى أن يكون هارون قد فرّط فيهِ .
وهذا أرجوا أن تنّتبهُوا لهُ جيداً لماذا؟
قال بعضُ أهلِ الفضل وصرّح بهِ الطاهر بن عاشور رحمهُ الله في التحرير والتنوير قال " إنّ الحفاظ على العقيدة أفضلُ من الحفاظ على جماعة المُسلمين لأن مصلحة العقيدة لا ترقى إليها شيء وإنّ هارون جانبهُ الصواب في الصنيع الذي فعلهُ " .
ونحنُ نقول :
إنّ قول طاهر بن عاشور رحمهُ الله " إنّ مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء " هذا مُتفقون عليهِ فلا توجد مصلحة أعظم من مصلحة العقيدة ولا توجدُ مفسدة أعظم من مفسدة الشرك لكن مُحال أن يُقال إن هارونَ جانبهُ الصواب لأمرين :
**
لأننا نقول إنّ الله أمر جُملةً نبدأ بالأدلة العامة بإتباع هدي الأنبياء فقال ( أُولئك الذين هدى الله فبُهُداهم أقتدهِ ) فيدخُلُ ضنهُم هارون لزاماً ولم يستثني اللهِ حالةً لهارون في حين أن الله أستثنى حالةً لمن ؟ حالةً ليونس قال جل وعلا ( ولا تكُن كصاحب الحوت إذا نادى وهو مكظوم ) فهذهِ الحالة استثناها الله ليونس وبقي يونس في الجُملة يُهتدى بهِ إلا في حالة خُرُجهِ مُغاضبا أمّا هارون فلم يستثني اللهُ جل وعلا من هديهِ شيء ، هذا واحد .
**
ثاني شيء نقول لا يُعقل في أمر الدين أن يرى أحدٌ من الناسِ في أمرِ شرعي يهتدي برأيً لم يهتدي إليهِ رسول لا يُعقل أن يُقبل أن يهتدي من آحاد الناس عالمٌ أو غيرهُ إلى أمرِ لم يهتدي إليهِ رسول.(13/93)
ونقولُ إن هارون كان يعلمُ أن مصلحة العقيدةِ لا يرقى إليها شيء لكنهُ لم يُفرط في جانب العقيدة وإنّما الآلية التي يُحافظُ بها على جانب العقيدة مسألة سياسية وهي أنهُ أبقى على قومهِ مُجتمعين ريثما يعودُ موسى كما بيّنا في الأول لعلمهِ عليهِ السلام أن السامري اتكأ على حُجة أن موسى غائب فأخذ يقولُ ويُشيعُ في بني إسرائيل أن موسى نسي فإذا جاء موسى سيُبطل هذهِ الحُجة التي قالها السامري وهذا عينُ ما وقع بعد رجعةً من؟ بعد رجعة موسى هذا عينُ ما وقع بعد رجعةً موسى.
فنقول إن تدارُك هارون للقضية كان صائباً ولهذا لم يذكُر اللهِ تعنيفاً لمن ؟ تعنيفاً لهارون بل إنّ الله ذكر تراجُع موسى بقولهِ " ربِ أغفر لي ولأخي " أستغفر لهُ ولأخيهِ ممّا يدلُ على أن موسى تراجع عن الحدّة التي أصابتهُ في التعامُل مع أخيهِ هارون علية السلام .
هذا مُجمل القضية ...
بعد أن تأكد موسى أن الأمر ما زال في قبضتهِ وأن بني إسرائيل لم تتفرق لجأ إلى السامريُ يُحاكمه قال ( ما خطبُك يا سامري ) يسالُهُ فقال السامريُ ما ذكرناهُ لكُم من أنهُ قبض قبضة وأنهُ جمع وما إلى ذالك .
موسى معروفٌ بحدّتهِ مرّ معك كثيراً وأنت تدرُس القرآن والسُنّة حدّة موسى في ذات اللهِ ومنها ما حصل معهُ مع الخضر ومنها الموقف الذي بين أيدينا من مُجازاتهِ لأخيهِ لكنّهُ قال لسامري (فاذهب فإنّ لك في الحياة أنت تقول لا مساس )
قالوا أي أهلُ العلم جُملة في معناها :
أن الله جل وعلا حكم على هذا الرجُل الضال بأن لا يكونُ فيهِ أُنسٌ مع الغير فيستوحش من الناس ولا يكونُ مُخالط لهُم وأنهُ يبقى ما بقي من حياتهِ يعيشُ طريداً شريداً لا يأنسُ بالخلق هذا جُملة ما قالهُ .(13/94)
وبعضُ الناس من المُتأخرين ممّن لهُم دراية بالتاريخ يقولون والوجهُ الذي اتكأوا عليهِ صحيح لكن لا يلزم من الوجه الذي اتكأُ عليهِ أن يكون إذا كان صحيحاً أن يكون النتيجة صحيحة لأنّني أقول دائماً أن قضية الغيب تبقى غيباً قالوا :
إنّ الله جل وعلا أراد أن يُبقي على حياة السامري ولهذا لم يُعنّفهُ موسى (فاذهب فإنّ لك في الحياة أنت تقول لا مساس وإنّ لك موعداً لنّ تُخلفه )
طبعاً السابقون كانوا يقولون إن الموعد يوم القيامة لكنّ هذا فيهِ نظر لأن هذا الموعد لا يختصُ بالسامري وحده لا يختصُ بالسامري وحدة فقالوا أن القضية قضية الدجال وأن السامري هو الدجّال وأن الله أذن لهُ أن يبقى ويعيش ولم يُسلّط عليهِ عبدهُ موسى حتى تبقى حياتُهُ فإذا بقيت حياتُهُ الموعد الذي لنّ يُخلفه هو وقتُ خروجهِ لناس ثُمّ وقتُ هلاكهِ على يد عيس ابن مريم .
أقولُ مُعقباً والعلم عند الله ..
هذا القولُ فيهِ وجهٌ حظٌ كبيرٌ من النظر لكنّ من الصعب تبنيهِ والجزم بهِ لعدم وجود ما يدعمهُ من الأثر فيهِ حظٌ كبيرٌ من النظر لكنّ من الصعب الجزم ـ اسم لكنّ ـ وتبنيهُ لعدم وجودِ ما يدعمهُ من الأثر لكنّ أقول إن العقلية التي تنتبهُ لمثل هذا عقليةٌ مُؤهلة أن تنظُر في كلام اللهِ مثلُ هذهِ العقلية العقليات عقليات مؤهلة أن تنظُر في كلام الله وهذا من العلم الذي تجري فيهِ أقدامُ العُلماء هذا واحد .
والأمرُ الثاني : يُسمّى من مليح القولِ لا من متين العلم يُسمّى مليح القولِ لا متين العلم هذهِ جُملة ما ذكرهُ الله جل وعلا عن السامري .
قبل أن أتجاوزها ثمّة فوائد يجبُ استنباطُها من هذا الحدث التاريخي الذي مرّ ببني إسرائيل أولُها وأعظمُها :(13/95)
أن الله إذا أراد ضلالة أحد غشي على أبصارهِ وحرمهُ من استعمال عقلهِ و إلا يا أُخي ترى من المُحال أن يُقال أن قوماً يُنجيهُم الله ويرون البحر يبس وتمشي أقامهُم عليهِ ثُمّ بعد هذا كُلهِ يأتون إلى عجلٍ لهُ خوار يعبدونهُ من دون اللهِ هذا من أعظم الدلائل على أن المسألة لا ترجعُ إلى العقل وإنّما هي هداية من الله ونور يضعهُ الله جل وعلا في قلب من في قلب من يشاء .
الأمرُ الثاني : أن الناس الذين ينصُرُ الله بهم دينهُ تختلف مشاربُهم ، تختلفُ قُدراتُهم فموسى فيهِ الغضب والحدّة وقد نفع الدين نفعاً عظيماً وهارون علية السلام كان فيهِ شيء من اللين والرفق وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً كما كان في الفاروق والصديق رضي الله تعالى عنهُما فإن الصديق كان فيهِ لين والفاروقُ كان فيهِ شدة ولمّا كان الصديقُ رضي الله تعالى عنهُ يستشيرُ الناس في أمر الفاروق يخشون من شدّتهِ فكان يقولُ لهُم إن الذي دفعهُ إلى هذا أنهُ يجدُ فيّ ليناً في ذات الله .
والمقصود عندما تُحاكمُ شخصين فلا تنظُر من هذهِ الزاوية الضيّقة فتقول إن فُلاناً قويٌ في ذات اللهِ جبّار وتتّهمُ الآخر بالضعف لكن الدين يُنصر بالشخص الضعيف كما يُنصر بالشخص القوي وأحياناً نحتاجُ إلى الحدة والغضب وأحياناً نحتاجُ إلى الحلم واللين وأحياناً نحتاجُ إلى دُعاء ذالك الرجُل العاجز وأحياناً نحتاجُ إلى حلم الحليم وأحياناً نحتاجُ إلى استنباط الفقيهِ فالدينُ من حيث الجُملة ينصرهُ الله جل وعلا بهؤلاء كُلهم كما نصر الله دينهُ بنبييهِ موسى وهارون رغم اختلاف شخصيتهما اختلافاً كثيراً .
الأمرُ الرابع وهذا مرّ معنا عرضاً :(13/96)
أن الإنسان لا يُحاولُ أن يُصادم أصحاب الرئاسة وأن المركب الواحد لا يحتملُ أكثر من قائد ولا بُد للعاقل أن يتغاضى عن أمور إذا أراد للمركب أن تسير لكن الإلحاح على المطالب والإصرار على الزعامة والتنافُس في الدُنيا هذا الذي يُذهب المركب الإسلامي ويجعلهُ عُرضةً لغرضهِ .
لكن من جعل الله جل وعلا بُغيتهِ ورضُوان الله جل وعلا غايتهُ هان عليهِ كُلُ ذالك في سبيل إعلاء دين الرب تبارك وتعالى لكنّهُ كذالك ينبغي أن يُعلم أن دين الله جل وعلا أجلُ وأعظم من أن يُتخذَ غرضاً لدُنيا .
الذنوبُ والخطايا التي تكونُ للعبدِ ولابُد منها يجبُ أن تُوظف توظيفاً صحيحاً فلا يأتينّك أحد ينتهزُ فيك ماضيك وبعضَ خطاياك فيُوظفُك إلى ما يشاء وما يبتغي وما يُريد من باب أن ذالك كفّارةً لما قدّ عملّت وإنما الإنسانُ يعلم أن الذنوبَ والمعاصي ليس لها إلا التوبة وقد مرّ معنا في اللقاء الماضي في سورة طه نفسها ( وإنّي لغفارٌ لمن تاب و ءامن وعمل صالحاً ثُم أهتدى )
هذا جُملة ما يُمكن أن يُقال عن قصةِ موسى مع السامري ...
عبادة العجل من أعظم ما أقترفهُ بني إسرائيل ولهذا أمرهُم اللهُ جل وعلا بالتوبة وجعل توبتهُم أن أقتلوا أنفُسكُم .
ثُمّ قال الله تبارك وتعالى ، اُختلف هل هذا من كلامِ موسى أم من كلام اللهِ تذييلا
( إنّما إلهكُم اللهُ الذي لا إله إلا هو وسع كُل شيءً علما )
وشتّان ما بين الخالق وبين سائر المخلوقين ( إنّما إلهكُم اللهُ الذي لا إله إلا هو وسع كُل شيءً علما )
ثُمّ قال الله لنبيهِ
( كذالك ) أسلوبٌ عربيٌ في الربط بين الجُمل ( نقُصُ عليك من أنباء ما قد سبق ) فما خبرُ موسى إلا جُملة أخبار قصصناها عليك أيُها النبيُ الكريم ( كذالك نقُصُ عليك من أنباء ما قد سبق وقد أتيناك ) وقد لتحقيق ( من لدُنّا ذكرا ) وهو القرآن وسائرُ ما أوحى الله جل وعلا إلى نبيهِ ( وقد ءاتيناك من لدُنّا ذكرا )(13/97)
وهذا الذكرُ إمّا أن يُقبل وإمّا أن يُعرض عنه فذكر اللهُ أولاً:.
من أعرض عنه ( من أعرض عنهُ ) أي هذا الذكر ( فإنّ يحمل يوم القيامة وزرا وساء لهُم يوم القيامةِ حملا ) قُلنا الوزر أصلاً تحمُّل الثقل وقُلنا أن كلمة وزير مأخوذة من أن الوزير يحملُ الثقل عن الأمير فالله جل وعلا يُخبر أنهُ ساء حملاً من أتى بذنوبهِ وإعراضهِ عن اللهِ جل وعلا (وساء لهُم يوم القيامةِ حملا )
أين يكونُ يوم القيامة ؟
( يوم يُنفخُ في الصور )
هذهِ مرّت كثيراً وهي ظاهرةُ الألفاظ والنافخُ في الصور اسرافيل
( يوم يُنفخُ في الصورِ ونحشُرُ المُجرمين يوم إذٍ زُرقا )
المجرمون هُنا الكُفّار ، (زُرقاً) قال العُلماء أي زُرق العيون وقيل زُرق الأجساد عموماً لكنّ الأول أظهر (ونحشُرُ المُجرمين يوم إذٍ زُرقا يتخافتون بينهُم إن لبثتُم إلا عشرا نحنُ أعلمُ بما يقولون إذ يقولُ أمثلهُم طريقةً إن لبثتُم إلا يوما )
هذا ما يكونُ يوم القيامة من تخاصُم الناس وتساؤلهم عن ما مضى وإخبارُ الله جل وعلا عن ما يُقال في ذالك اليوم ما بين أهلُ الكُفرِ وغيرهم .
ثُمّ قال الله جل وعلا ( ويسألونك عن الجبال فقُل ينسفُها ربي نسفا فيذرُها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا)
هذهِ إحدى آياتُ السؤال في كلامِ ربنا الكبير المُتعال وآياتُ السؤال مُتعدّدة في القرآن جاءت في القرآن المكي والقرآن المدني وقد أفرد لها الشيخ عطية محمد سالم كتاباً خاصاً أسماهُ "آياتُ السؤالِ والجواب في آيات الكتاب" فمنها ما كان يتعلقُ بالتشريع كالسؤال عن المحيض ، والسؤالِ عن أموال اليتامى ، والسؤالِ عن الأهلّة ، والسؤالِ عن الخمر .
ومنها ما يتعلّقُ بالأمور الغيبية وما سيقع كهذهِ الآية ( ويسألونك عن الجبال ) أو قولهِ جل وعلا ( ويسألونك عن الساعة ) وبكُلٍ أجاب الله .
نقول ( ويسألونك عن الجبال فقُل ينسفُها ربي نسفا )
ما الجبال؟(13/98)
الجبال خلقٌ من خلق اللهِ عظيمُ الهيئة ولأنهُ عظيم لفت الله الأنظار إليهِ ( وإلى الجبالِ كيف نُسفت ) والله تبارك وتعالى إذا استقرّ في الأذهان عظمة شيء يربطهُ بعظمتهِ إذا استقرّ في الأذهان عظمة شيء يربطهُ بعظمتهِ فأين ربط الله عظمة الجبال بعظمتهِ ؟
ربطها لمّا تكلم عن قضية نسبة الولد ( وقالوا اتخذ الرحمنُ ولدا * لقد جئتُم شيئاً إدّا * تكادُ السماواتُ يتفطّرن منه وتنشقُ الأرضُ وتخرّوا الجبالُ هدّا أن دعوا لرحمن ولدا ) فهي على عظمتها تخرّ إذا بلغها أن أحدً من الخلقِ زعم أن للهِ صاحبةً أو ولد فربطها جل وعلا بعظمتهِ هذا واحد .
ثُمّ لعظيم خلقتها بيّن اللهُ جل وعلا أنّها من جُملة من يعبدُهُ ( وإن من شيءٍ إلا يُسبحُ بحمدهِ ) وهذا عموم ثُم ذكر لها خصوصاً ( إنّا سخّرنا الجبال معهُ يُسبحن ) ذكر جل وعلا تسخيرها لمن ؟ لدواد عليهِ السلام أنها تُسبحُ معهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
هذا من جُملة كيف يربطُها الله جل وعلا بذاتهِ العلية
كذالك استقرّ في الأذهان أن الجبال شيءٌ عظيمٌ حتى في اللُغة من أراد أن يمدح أحدً شبههُ بالجبل .
يقولُ الفرزدق في ردّهِ على جرير:
فادفع بكفّك إن أردت بنائنا ** ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحلُ
يقول لهُ إذا أردت أن تهدم ما بناهُ أجدادي فإن صنيعك كمن يأتي إلى ثهلان جبلٌ عظيم كبير في الحجاز فاهدمه حرّكهُ بيدك ولن تستطيع فمقامُ أجدادي وما دونُهُ مثلُ هذا الجبل .
ويقولُ آخر :
كُنا جبالاً في الجبال وربُما ** سرنا على موجِ البحار بحارا
فكُنا جبالاً في الجبال الثانية الجبال المعروفة وكُنا جبال أي ثابتين راسخين .
ويقول حسّان :
شماريخُ رضوا عزّةًً وتكرُما
ورضوا جبال ما بين المدينة و العيص بعد ما تنتهي من ينبُع النخل تأتيك على شمالك إن لم أنسى وقد رأيتُها عالية شاهقة جداً وهي كالشماريخ تماماً كأن حسّان يرسمُها رسماً لا يصفُها وصفاً .(13/99)
والمقصودُ أن الجبل استقرّ في الأذهان علو هيئتهِ ولهذا لمّا ربطهُ الله بعظمتهِ وفُتن الناسُ فيهِ قُلنا جرت سُنةُ الله في خلقهِ يقول علية الصلاةُ والسلام في ذالك القعود الذي سبق ناقتهُ {حقٌ على الله } أن أي شيء يرتفع يخفضهُ الله .
العامة يقولون كُل شيء لهُ سبع كُل شيء لهُ سبع يعني لهُ آفة تُذهبُ هيبتهُ فبعض طلبة العلم مثلاً تُفتن بعالم فيُريك الله ضعفهُ في جانب مُعين والبُخاريُ يقول رحمةُ الله تعالى عليهِ لمّا ذكر أظنّهُ ذكر احد عُلماء الحديث قال" ما استصغرتُ نفسي إلا بين يديهِ" وهذا الذي استصغر البُخاريُ نفسهُ بين يديهِ يقيناً أنهُ استصغر نفسهُ مع غيرهِ فالله لا يجعلُ لأحدٍ كمالاً مُطلق فالعامة يقولون إن لكُل شيءٍ سبع يعني آفة ويقولون إن سبع الجبال ما هو ؟ الليل لماذا ؟ لأن الجبل على عظمتهِ وارتفاعهِ لا يُرى في الليل فكأنهُ غير موجود فيجعلون الليل آفة أو سبعً على الجبال في كلامهُم العادي هذا كلام العامة .
يقول ربُ العالمين
( ويسألونك عن الجبال )
وبدهيٌ أن يسأل القُرشيون نبيهُم عن هذهِ الجبال العظيمة ( فقُل ينسفُها ربي نسفا ) وهذا إخبارٌ بالنهاية لا إخبارٌ بالبداية لأن الجبال مرّ ذكرُها في القرآن مراحل عديدة :
* الله يقول ( وإذا الجبالُ سُيّرت )
* وقال ( فكانت هباءً مُنبثا )
* وقال ( وترى الجبال تحسبُها جامدة وهي تمرُّ مرّ السحاب )(13/100)
فذكر لها أحولاً وأطواراً لكن هنا حتى يُنهي الأمر معهم فذالك الشيءُ الشامخ لا يذهبُ إلا بالنسف (ويسألونك عن الجبال فقُل ينسفُها ربي نسفا فيذرُها ) أي الجبال ( قاعً صفصفا ) والقاع بُقعة من الوادي معروفة ( صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ) عوجاً أي ميلاً يعني هذهِ البُقعة ( ولا أمتا ) الأمت على الصحيح النتوء الشيء الظاهر الذي ينتأ في الجسد فهذهِ الجبال من شدّة أنها نُسفت حتى حجارة منها ملساء اجتمعت بعضُها على بعض فتكون شيءً ناتأً في الأرض لا يوجد لا يبقى شيء (لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا ) متى هذا يا ربُنا وهذا هو القرآن وعظمتهُ يتبعُ بعضُهُ بعضا متى هذا يا ربُنا ؟
( لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا يومئذٍ يتبعون الداعي ) الله يتكلم عن شخصية تدعُ الداعي اسرافيل ماذا يقول ؟
أيتُها العظامُ البالية أيتُها الأوصالُ المُتقطعة إنّ الله يدعوكنّ لفصل القضاء ( يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج لهُ )
لماذا لا عوج لهُ ؟
لأن أهل الموقف هذهِ أول مرة يُحشرون لا يُوجد أحد مُميز بعلم يدري أين أرض الموقف فكُلهُم أستوُ في عدم علمهُم بالموقف فلابُد لهُم جميعاً أن يستوُ في إتباعهم لداعي (يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج لهُ وخشعت الأصواتُ لرحمن فلا تسمعُ إلا همسا )
يقولون أن طه حُسين يقول عن بعضِ شعرِ شوقي " إنّني لا أستطيعُ أن أشرحهُ ــ على أنهُ كان يُوصف بأنهُ عميد العرب الأدب العربي فيقول إذا شرحتهُ فككتُ طلامسهُ وألفاظهُ ذهب رونقهُ وأنت تفهمهُ كشعر أكثر مما تفهمهُ كشرح ــ إذا قيل هذا في كلام مخلوق فكيف يُقال بمن علّم شوقي البيان بمن أنزل القرآن بكلام الله جل جلالهُ .(13/101)
فهذهِ ( وخشعت الأصواتُ لرحمن فلا تسمعُ إلا همسا ) والله لا أجدُ شيءً أُبينُ فيهِ مُراد الله وإنما هيبتُها في قراءتها ( فلا تسمعُ إلا همسا ) هذهِ تكفيك وقدّ فُسر الهمس بأنهُ وقع أقدامهُم ولا يُقالُ وقعُ نعالهم لأنهُم يخرجون ماذا ؟ حُفاة لكن وقعُ أقدامهم فُسّر بما فُسّر لكن الهيبة التي تقع في النفس لا يعلمُها إلا الله جل وعلا هذا موقف غيبي قادم ( فلا تسمعُ إلا همسا )
(يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج لهُ وخشعت الأصواتُ لرحمن فلا تسمعُ إلا همسا يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بهِ علما )
بيان علم الله وقدّ مرّ معنا كثيرا ( يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة )
لماذا تكلم عن الشفاعة هُنا ؟
لأن الإنسان جُبلُ أنهُم في حال الضيق يفزعون إلى غيرهم وهذا أمرٌ بدهيٌ مجبولٌ عليهٍِ النفس فإنّ المرء منّا اليوم يدخلُ دائرةً حكومية فإذا استعصى عليهِ مُنالهُ بدأ يبحثُ عن زيدٍ أو عمرٍ ليُحقّق لهُ مقصودة ، وليس هُناك كرب أعظم من كرب يوم القيامة ولا انقطاع أعظم من الانقطاع الذي يكون يوم القيامة فقال الله جل وعلا ( يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة ) يقطعُ السبيل على من يُفكّر في الشفاعة .
ثُم يستثني رحمةً وقدرا ( إلا من أذن لهُ الرحمنُ ورضي لهُ قولا ) فذكر جل وعلا شرطي الشفاعة.
( إلا من أذن لهُ الرحمن ورضي لهُ قولاً * يعلمُ مابين أيديهِم وما خلفهُم ولا يُحيطون بهِ علما ) أنا قدّمت وأخرت في الآيات عُّذراً.
ثُمّ قال الله : ( وعنت الوجُوه )
وجوهُ من ؟
وجوهُ الخلائق كُلها ( وعنت الوجوهُ للحي القيوم ) وقد قال بعضُ أهلِ العلم إنّ الحي القيوم أسمانِ مُتلازمان هُما أسمُ الله الأعظم قال بهذا طائفة وقد ورد هذا الاسمُ الكريمُ المُتلازم في القرآن ثلاث مرات :
* ورد في صدر آية الكُرسي ( اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم )
* وورد في فاتحة آل عمران ( الم * اللهُ لا إلهِ إلا هو الحيُ القيوم )(13/102)
* وورد في هذهِ الآية الكريمة التي بين أيدينا ( وعنت الوجوهُ للحي القيوم )
وقد قال جمعٌ غير قليلٍ من أئمة الدين بأنهُ اسمُ الله الأعظم والعلمُ عند الله .
( وعنت الوجوهُ للحي القيوم وقد خاب من حمل ظُلما )
الظُلم إذا قالهُ الناسُ اليوم ينصرف على الجبروت ينصرف إلى سلب أموال الناس وهذا حق لكن إياك أن تصرفهُ في هذا الموقف صرفاً أولياً لتعلّقُ مع الناس لماذا؟
لأن هذا يُنافي أصلاً فهمُك للقرآن لأن الله جل وعلا مُحال أن يذكُر الله جل وعلا هذهِ المُقدّمة في العظمة كُلها وخشعت الأصواتُ لرحمن ولا شفاعة إلا لمن أذن لهُ الرحمن ، وعنت الوجوهُ للحي القيوم ثُمّ يتكلمُ عن قضية أن عبداً ظلم عبداً لكن لا يُوجدُ ظلم أظم من أن تجعل للهِ نداً وقد خلقك فأوّل ما يُصرف ( وقد خاب من حمل ظُلماً ) إلى من ؟
إلى أهل الإشراك إلى أهل الإشراك ( وقد خاب من حمل ظُلماً )
ثُمّ قال الله :
( ومن يعمل) شرطية ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن )
فالإيمان مُتلازم مع العمل الصالح وقد يعملُ الإنسانُ عملاً صالحاً من حيثُ الجُملة لكنهُ غيرُ مؤمن كما يصنعُ بعضُ الغربيين بعضُ الكفرة من الرفق بالحيوان أو من قضية إغاثة الملهوف فهذا لا ينفعُ يوم القيامة .
( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخافُ ظُلماً ولا هضما )
لا يخافُ ظُلماً لأن الله جل وعلا نزّه نفسهُ عن الظُلم لأن الله تبارك وتعالى نزّه نفسهُ عن الظُلم .
وقد جاء في الخبر الصحيح أن النبي صلى الله عليهِ وسلم ضحك كما في حديث علي رضي الله عنه قال قُلنا يا رسول الله ممّا تضحك ؟ قال أضحكُ من مُجادلة العبد ربهُ فإنهُ يقولُ يوم القيامة لا أقبلُ إلا شاهدً من نفسي فيُختمُ على جوارحهِ على لسانه فتشهدُ عليهِ جوارحهُ فإذا شهدت عليهِ جوارحهُ خُلّي بينهُ مبين الكلام فيقولُ سُحقن لكُنّ وبُعدا فعنكُنّ كُنت أُناضل } يعني عنكُنّ كُنت أُدافع .(13/103)
قال بعضُ أهلُ العلم حتى جوارحهُ التي كانت لهُ في الدُنيا عوناً لهُ على المعصية لما رأت يوم القيامة كانت شاهداً عليهِ عند من ؟ عند ربهِ فجوارحهُ قدّمت عظمة الله على علاقتها بصاحبها .
ولهذا قال الله جل وعلا ( اليوم نختمُ على أفواههِم وتُكلّمُنا أيديهم وتشهدُ أرجُلهُم بما كانوا يكسبون )
وقد اختلف العُلماء في السبب الذي من أجلهِ يُختمُ على الأفواه فقال بعضُ أهل الفضل ويُنسب هذا إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن السبب أنهم ينطقون بكلمة الكذب أنهم ينطقون بكلمة الكذب قال الله جل وعلا عنهُم أنهُم قالوا ( واللهِ ربِنا ما كُنا مُشركين ) فإذا قالوها يُختم على أفواههم .
وقيل أسبابٌ أُخر في سبب أن الله جل وعلا يختمُ على أفواههم فقيل : إن شهادة غير الناطق من الجوارح أعظمُ من شهادة الناطق يقصدون بها الجوارح أن شهادة غير الناطق يعني الجوارح أعظم من شهادة الناطق أي من شهادة جارحة اللسان .
نعودُ إلى الآية قال الله جل وعلا ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنُ فلا يخافُ ظلماً ولا هضما )
فلا يُزادُ عليهِ ما لم يعملهِ ولا يُتقص منهُ ما قد عملهِ فالظلمُ هُنا يُفسّر بالزيادة وقد فسّرناهُ بالزيادة ليُقابل كلمة هظم وهو النقص (فلا يخافُ ظلماً ولا هضما )
( وكذالك أنزلناه قُرآناً عربياً )
بلسانٍ عربيٍ مُبين كما هو معلوم
( وصرّفنا فيهِ من الوعيد )(13/104)
والوعيدُ مُقابلها الوعد والوعدُ يكونُ في الخير ويكونُ في الشر والوعيدُ لا ينصرفُ إلا في الشر وقولُ الله جل وعلا (وصرّفنا فيهِ من الوعيد ) أي أن تخويف الله جل وعلا لعبادهِ لم يأخُذ منهجاً واحداً وإنما أخذ عدةً طرائق فتارةً يذكُرُ الله أفرادً أهلكهُم كالنمرود وقارون ، وتارةً يذكُرُ أُممً أبادها كقوم ثمود وقوم عاد ، وتارةً يذكُرُ الله جل وعلا إخبارهُ بما أعد لأهلِ معصيتهِ وغير ذالك ممّا صرّف الله جل وعلا فيهِ من الوعيد كُلُ ذالك تذكرةً للعباد و تبصرةً للحاضرِ والباد .
قال سُبحانهُ
(وصرّفنا فيهِ من الوعيد لعلّهُم يتقون أو يُحدثُ لهم ذكرا )
لعلّ هذا التصريف يكونُ سبباً في أوبتهِم إلى ربهم جل وعلا .
ولمّا كانت الأمور لا يُمكن أن تقوم إلا بمشيئة الواحد القهّار قال جل وعلا بعدها
( لعلّهم يتقون أو يُحدث لهُم ذكرا * فتعالى اللهُ الملك الحق )
وهذهِ من أعظم آيات القرآن ثناءً على الله قالها اللهُ هاهُنا ،، وقالها جل وعلا في آخرِ سورة المؤمنون ،، وقالها في غير ما موضع فتعالى اللهُ الملك الحق عمّا يصفهُ الواصفون ممّن انتقصُ ربهُم جل وعلا لكن يُستثنى من هذا ما وصف الله بهِ عبادهُ الصالحون فوصفُ العباد الصالحين لربهِم غيرُ داخلين في الاستثناء (فتعالى اللهُ الملك الحق)
ثُمّ قال اللهُ لنبيهِ
( ولا تعجل بالقُرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيُهُ )
وقد كان جبريل يُملي على نبينا صلى اللهُ علية وسلم القرآن فكان لهذا القرآن حلوةً في قلب هذا النبي الكريم يخافُ أن يتفلّت فيُسرع في الاستجابة لجبريل فأخبرهُ الله جل وعلا هُنا وأخبرهُ في القيامة ( إن علينا جمعهُ ) أي في صدرك ( وقرآنهُ ) أي في قراءتهِ عليك ( ثُمّ إن علينا بيانه) أي تأويلهُ سيأتيك ظاهراً بيناً في الدُنيا والآخرة .
قال الله ( و لا تعجل بالقُرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيُهُ وقُل ربِ زدني علما )(13/105)
ومرّ معنا أن كلمة رب إذا جاءت في صيغة دُعاء لا تكونُ مُلازمةً للياء لكن زدني جاءت بالياء هذهِ ياء المُخاطب والنون التي أصلُ الفعل "زد" والضمير الياء هذهِ العرب تُسمّيها نون الوقاية تُسمّيها نون الوقاية .
ويقولون إن الفعل لا يقبلُ الكسر النُحاة يقولون الفعل لا يقبلُ الكسر وياء المُخاطبة لا بُد لمن ألتحق بها أن يكونَ مُكسوراً فلو تكلّمت عن هذهِ الكُتب التي بين أيديكُم ونسبتها إلى نفسك تقول هذا كتابي فالباء لحقها الكسرُ لإتصالها بالياء سواءً كانت محل جر أو لم تكُن في محل جر فالياء قوية لا تقبلُ من يلتصق بها إلا أن يكونَ مكسورا ، والكسرُ من خصائص الأسماء لكنّهُ ليس من خصائص الأفعال فلمّا ألتصق الفعل بالياء احتاروا لا الياء ترضى أن يقبل معها أحدٌ غيرُ مكسور ولا الفعلُ يرضى بأن كون مكسوراً فجاءوا بهذهِ النون فجعلوها بين الاثنين ــ هذهِ فائدة نحوية ــ جعلوها بين الاثنين وسمّوها نون الوقاية ويقصدون بتسميتها نون الوقاية أنها وقت الفعل الكسر "زدني" .
هذا توضيحٌ لأنهُ يمرّ معك كثيراً في القرآن ومن حقك حتى تفهم القرآن أن تفهم طريقة العرب في كلامهِم .
ــ حتى تثبُت المعلومة ــ هذا كوب ليس بينهُ وبين هذهِ المائدة إن صحت التعبيرُ حاجز فلو أردنا أن نقي هذهِ المائدة ما يعلقُ بها من الكوب نأتي بشيء منديل أو ما شابههُ نضعهًُ ثُمّ نضعُ الكوب عليهِ فهذا ما وُضع وقى المائدة ما يتعلّقُ بها من أثر الكوب ــ حتى تثبُت المعلومة ــ فلهذا تُسمّى نون الوقاية هذا العلاقة النحوية .
أما العلاقة العامة فإن الله يقولُ لخيرِ خلقهِ
( وقُل ربِ زدني علما )
العلم نور وفضلٌ من الله جل وعلا محض ولهُ شروط شروط تتعلّق بالآخرة هذا ليس مجالُ الكلام فيهِ لأن هذا كُلُ امرئٍ حسيبُ نفسهِ من أراد بالعلم وجه الله أو لم يُرد وجه الله .
لكن العلم حتى يملكهُ الإنسان لابُد فيهِ من أمور:.(13/106)
1\ عدم التفريط في علوم الآلة هذا أهم مُقتضياتهِ أهمُ مُقتضياتهِ عدم التفريط في علوم الآلة لأن من فقد علم الآلة لن يصل إلى مُبتغاة عدمُ التفريط في علوم الآلة مع وهذا مُهم عدم الإغراق في علوم الآلة لأنها وسيلة وليست غاية عدم الإغراق في علوم الآلة هذا مُهم جداً .
2\ الأمرُ الثاني :
عدم احتقار أيُ شخصٍ أن تأخُذ عنهُ علماً من حيث المعلومة نفسها من حيث المعلومة نفسهِا فإجلالُك لغيرك يُبنى على أمورٍ عدة أما قبًُولُك للمعلومة ليس لهُ علاقة بذات الشخص ليس لهُ علاقة بذات الشخص قال صلى الله عليهِ وسلم لأبي هُريرة { صدقك وهو كذوب } فأقرّهُ على المعلومة التي منحها إياهُ الجني أن من قرأ آية الكُرسي لا يزالُ عليهِ من الله عارض مع أن القائل جنيٌ سرّاق لكن لا علاقةً لنا بالقائل العلاقةُ لنا مُهمّة جداً بقضية المعلومة .
3\ من شروط تحصيلهِ :
أن العلم يُجمع بمعنى أنهُ لا بُد من مراحل حتى يصل الإنسانُ إلى كثيرٍ من بُغيتهِ لا إلى كُل بُغيتهِ إلى كثيرٍ من بُغيتهِ .
قال الشافعيُ :
وصُحبة أُستاذٍ وطول زماني
فلا يُمكن أن يطير أحدٌ قبل أن يُريّش فيأخُذهُ الإنسان على تأوده على مهل .
4\ لابُد في العلمِ وأنا أتكلم من غير ترتيب لا بُد في العلم من المُراجعة لأن علم الأنبياء وحي لا يحتاجون فيهِ إلى مُراجعة أما نحنُ معشر المُتعلمين فلابُد فيهِ من المُراجعة والمُدارسة والمُذاكرة والعرض حتى يثبُت في القلب والعقل حتى يثبُت في القلب والعقل .
ــ هنا فائدة ــ
يقولون إنّ المأمون سابع خُلفاء بني العباس قال لأبي عليُ المنقري يا أبا علي فيك ثلاثةُ عيوب قال وما هي ؟
قال إنك تلحنُ في كلامك وتكسرُ الشعر ولا تُقيمهُ هذهِ اثنتان
ولا تُجيدُ الكتابة .
فقال يا أمير المؤمنين أما اللحنُ فرُبما سبق لساني منهُ شيء ، وأما الكتابةُ والشعر فلا حاجة لي بهما فإني رأيتُ الله نزّه نبيهُ عن الكتابة ونزّه نبيهُ عن الشعر .(13/107)
فقال المأمون : يا أبا علي كُنتُ أظنُ أن فيك ثلاثة عيوب فإذا هي أربعة :. الثلاثة التي ذكرت وجهلُك ، ثُم قال لهُ يا جاهل إن عدم فهم الشعر وعدم القراءة والكتابة في حق النبي صلى الله علية وسلم فضيلة حتى لا يشُكنّ احدٌ في وحيهِ الذي أعطاهُ اللهُ إياه ، أما في غيرهِ فهي منقصة عدمُ فهمهِ لشعر أو عدمُ إجادتهِ للقراءة و الكتابة فهي في حقهِ منقصة لأن الإنسان إذا كان لا يفقهُ الشعر ولا يُجيدُ القراءة والكتابة أنى لهُ أن يتعلّم لابُد أن يكون هذا مهونٌ في الأمر فهي في حق غيرهِ منقصة وفي حقهِ صلوات الله وسلامهُ فضيلةِ ( وما كُنت تتلوا من قبلهِ من كتابٍ ولا تخطُهُُ بيمينك ) .
استطراد آخر من التكلُف قال بعضُ الناس عياذاً بالله الرسول كان يعرف يكتُب قيل لهُ والله يقول (وما كُنت تتلوا من قبلهِ من كتابٍ ولا تخطُهُُ بيمينك ) قال ما هي مُشكلة كان الرسول يكتُب بشماله فهذا نوعٌ من العنت حتى يخرُج منها لكن الله أراد نفيُ الكتابة بالجُملة .
والمقصود أن العلم كما ذكرنا يحتاجُ إلى مُراجعة ويحتاجُ إلى أخذٍ وعطاء.
5\ كذالك يحتاجُ العلم وهذهِ يعني مُهمّة جداً في القضية إذا تبنيت رأيً لا تجلب على خصمك فيهِ بخيلك ورجلك فرُبما تراجعت عن هذا القول ذات يوم فاترُك لنفسك في الحياة كُلها خط رجعة تؤبُ إليهِ إلا في مسائل العقائد فالعقائد مبنية على اليقينيات لكن في المسائل الفقهية والأخذ والعطاء اجعل لنفسك خط رجعة فرُبما مع المُدارسة والأخذ والعطاء يتبينُ لك خلاف الذي توصّلت إليهِ .
الكلامُ في العلم أمرهُ طويل لكن النبي صلى الله علية وسلم يقولُ { إن الملائكة لتضعُ أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع } فإذا كانت ملائكةُ الرحمن ترضى عن من خرج قصداً في طلب العلم فهذا دلالةٌ على فضلهِ وسموهِ كقصدٍ في ذاتهِ.(13/108)
لكن إذا جئنا في الأشياء الروحانية الإيمانية فإنّ ما أجمل العلم أن يدُلَ على الله وإنما العلمُ الخشية كما قال الحسنُ البصريُ رحمهُ الله وهو مأخوذٌ من قول الله ( إنما يخشى اللهُ من عبادهِ العُلماء )
زادني اللهِ وإياكُم تبصرةً بما نقولُ ونسمع وفقنا الله وإياكُم لما يُحبُ ويرضى وألبسني اللهِ وإياكُم لباسي العافية والتقوى وصلى اللهُ على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين ...................
تفريغ سورة طه من الآية ( 115 ) إلى الآية ( 135)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي بنعمهِ تتمُّ الصالحات وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ خلق فسوى وقدّر فهدى وأخرج المرعى فجعلهُ غُثاءً أحوى وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسُولهُ صلى الله علية وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ........
لعل هذا هو اللقاء الأخير بالنسبةِ لسورةِ طه فأرجوا الله جل وعلا أن يوفقنا الله اليوم في إنهاءِ ما تبقى من هذهِ السورة الكريمة ...
قال الله جل وعلا فيما وقفنا إليهِ
(ولقد عهدنا إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد لهُ عزما )
هذهِ المقطعُ من السورة يتكلمُ عن عهد اللهِ جل وعلا لأبينا آدم وأدم قبلُ أن أتكلم عن قصتهِ هنا يجبُ أن نستصحبَ ما منّ الله جل وعلا بهِ عليهِ وفائدةُ هذا الاستصحاب أن الإنسان أحياناً إذا رأى كلام اللهِ عن أحدٍ أنهُ وقعت منهُ وقع منهُ خلاف الأولى أو وقع منهُ المعصية يقع في نفسهِ شيء من غير أن لا يشُعُر في النفس من ذالك المذكور فسداً لهذا الباب واتبعاً لسُنّة .
النبي صلى الله عليهِ وسلم يقول { لا يقُلُ أحدٌ أنا خيرٌ من يونس ابنُ متّى } من هذا الباب .
نقول إن آدم عليهِ السلام فضلهُ الله بأمور لم يُعطيها أحدً من الخلق لا نبينا صلى الله عليهِ وسلم ولا غيره هذهِ الأمور منها:(13/109)
** أن الله جل وعلا خلقهُ بيدهِ وهذهِ خصيصة لهُ من دونِ سائرِ بني آدم .
ونفخ فيهِ من روحهِ
وأسجد لهُ ملائكتهُ
وعلّمهُ الأسماء كُلها
وهي أربعُ خصالٍ لم تُعطى لأحدٍ غيرهِ علية الصلاةُ والسلام هذهِ واحده .
** الأمر الثاني :
أن وجههُ وهذا مرّ معنا وجه آدم مُنتهى الكمال البشري وقُلنا إن يُوسُف أُعطي شطر الحُسن أي شطر الحُسن من من ؟ من آدم عليهِ السلام شطر حُسن آدم .
هذا آدمُ عليهِ السلام قال الله ( ولقد عهدنا ) كلمة عهدنا عهد لفظ يُستخدم في التعظيم والتفخيم ولا أُحبُ أن يقولهُ الفردُ من الناس عهدتُ إلى فُلان أن يفعل كذا وإن كان مُستخدماً في اصطلاحات المؤرخين لكن أرى أن لا يُستخدم وأنهُ يتعلّق بذات الله لكني لا أجزمُ أنهُ لا يجوز .
والله يقول ( ولقد عهدنا إلى ءادم من قبلُ ) أي من قبل موسى من قبل خبرهِ من قبل هذا كُلهِ الذي قصصناهُ عليك ( فنسيَ ولم نجد لهُ عزما )
= عبّر الله هنا بماذا ؟
بالنسيان وقال بعد آيات ( فعصى) وهذا أشكل على العُلماء .
= هل تُنسب المعصية لآدم أو لا تُنسب مع أن الله صرّح بها ؟
لكنني أقول في كلام لابن العربي في أحكام القرآن جيدٌ عظيم فحواهُ أراد أن يقول ذالك العالم الجليل " أن كلام الله عن آدم غيرُ كلامنا نحنُ عن آدم
فكلامُ الله جل وعلا عتابٌ فيهِ شيءُ من التثريب لكن خطابُ ربٍ لعبدهِ
أما نحنُ أبناء لآدم فنتكلمُ عن أبينا النبي آدم "
ونبوةُ آدم ثابتة قيل يا رسول الله أكان آدمُ نبيا قال نعم نبيٌ مُكلّم .. " الحديثُ صحيح " ..
الله هنا يقول ( ولقد عهدنا إلى ءادم من قبلُ فنسيَ ولم نجد لهٌ عزما )
= ما العهدُ الذي عهدهُ الله لآدم ؟
بالاتفاق أن لا يأكُل من ؟ من الشجرة .
( وإذ قُلنا للملائكةِ اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى )
أمتنع أمتنع كبراً والخطايا يا بُني وقد مرّ معك اُصولها ثلاث أصول كُلُ خطيئة ثلاث :
الكبر
والحسد
والحرص(13/110)
فوالله ما عصى الله أحد إلا من باب هذهِ الثلاث من واحده من هذهِ الثلاث الكبر، أو الحسد ، أو الحرص .
فالحرص بابٌ لشهوات والحسد بابٌ للبغي والكبر بابٌ للبغي والشهوات وبابٌ لردّ ما جاء الله جل وعلا بهِ ولا يُعصى إلا بإحدى هذهِ الثلاث .
كلُ المعاصي تندرج في هذا الباب .
يقولُ ربُنا :
( وإذ قُلنا للملائكةِ اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقُلنا يا ءادم إنّ هذا ) أي إبليس ( عدوٌّ لك ولزوجك )
ولم يقُل ولزوجتك والأفصح أن يُقال في المرأة زوج زوجه لا يُقال زوجتهُ يُقال زوجه ( إنّ هذا عدوٌّ لك ولزوجك فلا يُخرجنّكُما ) آدم وحواء ( من الجنةِ فتشقى) وقول الله من الجنة إحدى الأدلة على أن المقصودُ بها جنةُ عدن لأنهُ لا يستقرُّ في الذهنِ هُنا إلا جنةُ عدن ( فلا يُخرجنّكُما من الجنةِ فتشقى ) وجاءت فتشقى بلفظ الإفراد وهذا يدلُ على أن المرأة تبعٌ لزوج وأن الإنسان الرجُل هو المُكلّف بالشقي .
ومعنى الآية :.
أن الجنة يا آدم كُفيت أن تعمل فيها وتكُد على أهلك فخُرُجك منها سيدفعُك إلى الكد والسعي في طلب الرزق وقوتِ أبناءك وأهلك فلا يُخرجنّك الشيطانُ منها فتشقى ويُصبح تبحث كما يُقال عرق الجبين وتذهبُ وتكُد .
والنبي صلى الله علية وسلم يقول في حق جُليبيب { اللهم لا تجعل عيشهُما كدا وصُبّ عليهم الخير صبا }
والمقصود لم يقول الله فتشقيا لأن الرجُل هو الأصلُ في الكد ( فلا يُخرجنّكُما من الجنةِ فتشقى ) .
قال الله :
( فوسوس إليهِ الشيطانُ قال يا ءادم هل أدُلّك على شجرة الخُلد ومُلكٍ لا يبلى )
شجرة الخُلد هذا باب الحرص هذا باب الحرص .
قبلها قال الله جل وعلا يُرغبُ آدم في الجنة ( إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى ) [ واضح ] ( إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى ) .
قال الله بعدها ( فوسوس إليهِ الشيطانُ)
نقف عند هذهِ(13/111)
(ألاّ تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى )
نفُك المُفردات
الجوع معروف عدم الأكل الأصل ماذا يُقابل الجوع الأصل ماذا ؟ لا ماذا يُقابلهُ يعني قرين لهُ العطش يُقال فلانٌ جائع وفُلان عطشان ( إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى) لم يقُل اللهِ ولا عدمُ الظمأ أتى بالعُري يُقال (وأنك لا تظمؤا فيها) تعطش ولا تضحى ضحي الإنسان بمعنى برز لشمس ولهذا يُقال لوقت ظهور الشمس واشتدادها ضُحىً .
هذا عند البلاغيين يا أُخي يُسمّى تطابُق تضاد يُسمّى تطابُق تضاد والمعنى أنهم يقولون :
إن الله عدل عن قول أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ما قال لا تجوع فيها ولا تظمأ ولم يقُل تعرى مُقابل الظهور في الشمس قالوا لأن العُري جوعُ الظاهر وعدمُ الأكل جوع الباطن وعدمُ الشُرب حرُّ الداخل والظهور لشمس حرُّ ماذا ؟ حرُّ الظاهر [ واضح]
الجوع عدمُ الأكل في الباطن جوع الباطن عدمُ الأكل جوع الباطن ، والعُري جوع الظاهر ، وعدمُ الماء الذي هو الظمأ حرُّ الداخل والظهُرُ لشمس حرُّ الظاهر فهذا يُسمّى تطابُق تضاد وأهلُ اللُغةِ إذا ذكروا هذا في القرآن يُعرّجون على بيتين للمُتنبي المُتنبي شاعرٌ عباسي كان مشهوراً بالإغراق في الغرور والكبر عياذاً بالله وهو القائلُ عن نفسهِ :
أيُ عظيمٍ أتقي وأيُ مكانٍ أرتقي *** وكُلُ ما خلق الله وما لم يخلقِ ِ
مُحتقرٌ في همتي *** كشعرةٍ في مفرقِ ِ
ومن دوّن لهُ سيرة ولا أتحمّلُ وزر نقل يقول إنهُ لم يسجُد لله قط لا يُعرف لهُ أنهُ كان يُصلي.
هذا الرجُل كانت فيهِ أنفة عجيبة فكان يُنشد شعرُه بيني يدي سيف الدولة الحمداني وهو جالس وودّعهُ بقصيدة بعد أن أشتد عليهِ خُصومهُ
واحرّ قلباه ممّن قلبهُ شبمُ ــ شبم بمعنى بارد ــ ومن بجسمي وحالي عندهُ سقمُ
مالي أُكتّم حُباً قد برى جسدي ** وتدهي حُب سيف الدولةِ الأُممُ
إن كان يجمعُنا حُبٌ لغُرّتهِ *** فليت أن بقدرِ الحبُ نقتسمُ(13/112)
الآن هذا يتكلم بين يدي أمير فبدلاً أن يصرف الكلام إلى مدح الأمير صرفهُ إلى نفسهِ :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ** وأسمعت كلماتي من بهِ صممُ
أنام ملأ جفوني عن شواردها ** ويسهر الخلقُ جرّها ويختصمُ
الخيل والليل والبيداء تعرفُني ** والسيفُ والرمحُ والقرطاس والقلمُ
ما أبعد العيب و النُقصان عن شرفي ** أنا الثُريا و ذان الشيبُ والهرمُ
هذهِ جُملة أبيات قالها بين يدي الأمير ترك حلب ديار بني حمدان وأتجه إلى مصر أيام حُكُم كافور الإخشيدي كان كافور فطناً سياسياً هذهِ الفطنة جعلت كافور يُقرّب المُتنبي بالقدر الذي يستفيد منه وكان المُتنبي يُلحّ عليهِ يطلبُ الولاية فلا يُعطيهِ فلمّا سأل بعضُ خواص كافور عن سبب منعهِ الولاية للمُتنبي قال هذا أنظُرُ ماذا يراه في نفسهِ وهو شاعر هذا كيف لو أُعطي ولاية ماذا سيفعل ؟ سيطغى.
والمُتنبي أصلاً قال:
ومن يجعل الضرغام بازاً لصيدهِ ** تصيدهُ الضرغامُ فيما تصيدُ
والعاقلُ لا يستخدمُ من هو أعظم منهِ ، العاقلُ لا يستخدمُ من هو أعظم منهِ
لأنهُ قد ينقلبُ عليك فيأخُذ ،،
نعود للقضية ما دخلُ المُتنبي بالآيات قُلنا هذا التضاد في التطابقُ وقف المُتنبي ذات يومٍ في حربٍ تُسمّى الحدثُ الحمراء لسيف الدولة الحمداني أنتصر بها فقال قصيدهُ الشهيرة التي مطلعُها :
على قدرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ ** وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتعظمُ في عينالصغير صغارُها ** وتصغر في عين العظيم العظائمُ
حتى وصل إلى بيت يمدح ممدوحهُ قال:
وقفت وما في الموتِ شكٌ لواقفٍ ** كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمرُّ بك الأبطال كُلم هزيمةً ** ووجهك وضاحٌ وثغرُك باسمٌ(13/113)
فقالوا إن الحمداني استدرك على المُتنبي هذا البيت فأفهمُ المُتنبي بمُرادهِ الذي هو بين أيدينا الآن بما يُسمّى تطابُق ماذا ؟ تطابُق التضاد فجعل كُل مصرعي بيتٍ بما يُلائمُهُ وهذا مأخُوذٌ من نسق القرآن حتى يُعلم أن القرآن في المرتبة الأعلى من الفصاحة وما جاء أحدٌ بأسلوبٍ ولن يأتي كما قال الله يرقى على أسلوبِ ماذا؟ على أسلوب القرآن فكُلّهم أصلاً مُغترفٌ من أسلوب القرآن أنكر ذالك أو أعترف ..
نعود إلى ما نحنُ فيهِ
( إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * و لا تظمأُ فيها ولا تضحى * فوسوس إليهِ الشيطانُ قال هل أدُلك على شجرة الخُلد )
هذا حرص لأن كُل ثمار الجنة أباحها الله جل وعلا لأدم بقيت ماذا؟ بقيت شجرة فدخل إبليس على أبينا آدم من باب الحرص (هل أدُلك على شجرة الخُلد ومُلكٍ لا يبلى ) طبعاً وافق لأن ما بعدها يدُلّ عليها قال الله ( فأكلا) ألف التثنية آدم وحواء ( فأكلا منها ) أي من الشجرة ( فبدت لهُما سوءاتُهُما ) وتُسمى السوءة سوءة تُسمّى العورة سوءة لأنهُ يسوءُ المرءَ إظهارها الإنسان لا يرضى العاقل بظهُورها ( فبدت لهُما سوءاتُهُما وطفقا يخصفانِ عليهما ) طفقا أي بمعنى بداء من أفعال الشروع عند النحويين تعملُ عمل كان إلا أنهُ يُشترطُ في خبرها أن يكون جُملةً فعليهِ ( يخصفانِ عليهما من ورق الجنة )
قال الله ( وعصى ءادمُ ربهُ فغوى )
هذا نص قال بعضُهم خلاف الأولى خرّجهُ بغضُهم قبل أن يُنبه قال بعضُهم صغائر تقع من الأنبياء الصغائر بكُلٍ قال العُلماء وأنا أُجنّب نفسي .
لكن أقول :
إذا تكلّمنا عن الأنبياء نتكلم بنفس طريقة القرآن ولا نُقحمُ أنفُسنا فقي الكلام عن أنبياء الله جل وعلا إلا بما حكاهُ الله جل وعلا عنهم تأدُباً مع أبينا آدم علية الصلاة والسلام ومع غيرهِ من إخوانهِ وأبناءهِ من الأنبياء .(13/114)
نعود فنقول قال الله ( وعصى ءادمُ ربهُ فغوى ) ثُمّ قال الله ( ثُمّ أجتباهُ ربُهُ فتاب عليهِ وهدى * قال اهبطا منها جميعاً بعضُكم لبعضٍ عدوّ)
هنا لا تفهم أن الأمر بالهبوط عاقبة لتوبة وإنّما قدّم الله التوبة حتى يُبين لك لا تسترسل فيما بعد ترى هذا النبي تاب الله عليهِ [ واضح]
فقال ( اهبطا منها جميعاً ) ليست مُفرّعة على التوبة مُفرّعة على ماذا؟ على المعصية لكنّ جعل الله التوبة قبلها والاجتباء والهداية حتى يُريحُك في تلقي الخبر وأنّ هذا النبي الصالح تاب الله عليهِ .
كمن تُريدُ أن تُخبرهُ بأن قريباً لهُ أصابهُ مكروه فقبل أن تُخبرهُ أن ابنهُ دهمتهُ سيارة مثلاً قُل لهُ ترى الابن بخير وعافية ولله الحمد الآن ثُمّ ممكن أن تقُصّ عليهِ كيق دهمتهُ السيارة لكن لا تبدأ بالأول فإن هذا يجعلهًُ في رُعب ينتظرُ النتيجة .
فأسلوبُ القرآن قدّم النتيجة الله يقول لنبيهِ ( عفا الله عنك ) ثُمّ أعطاهُ العتاب( لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين )
لكن لا تخشى من هذا العتاب فقد قدّمنا ( عفا الله عنك) .
هنا ( ثُمّ أجتباهُ ربُهُ فتاب عليهِ وهدى)
فرفع الله مقامة وغفر الله خطيئتهُ وقبل الله توبته .
لكن قال بعدها : ..
( قال اهبطا منها جميعاً بعضُكم لبعضٍ عدوّ فإمّا يأتينكُم منّي هدى فمن اتبع هُداي فر يضلُّ لا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن لهُ معيشةً ضنكا )
ضيقاً في العيش يكونُ في القبر يكونُ في الحياة الدُنيا لا يشعرُ بلذة ما هو فيهِ ولو كثرُة أمولهُ وأولادُهُ (ومن أعرض عن ذكري فإن لهُ معيشةً ضنكا ونحشرهُ يوم القيامة أعمى * قال ربِ لما حشرتني أعمى وقد كُنت بصيرا)
وقد قال الله أنهم يُحشرون عُمياً وصُماً وبُكما(13/115)
( قال كذالك أتتك ءاياتُنا فنسيتها ) بتركها ( وكذالك اليوم تُنسى ) بأن تُترك و إلا النسيان لا يجوزُ على الله لكن هذا يُسمّى عند البلاغيين مُشاكله يُسمّى مُشاكله (وكذالك اليوم تُنسى * وكذالك نجزي من أسرف ولم يُؤمن بآيات ربهِ ولعذابُ الآخرةُ أشدُ وأبقى )
وهذهِ ظاهرةُ المعنى مرّت معنا كثيرا ...
ثُمّ أمر الله بالتدبُر فيما سبق:..
( أفلم يهدِ لهُم كم أهلكنا قبلهُم من القرون )
الخطابُ في المقام الأول لكُفّار قُريش
(أفلم يهدِ لهُم كم أهلكنا قبلهُم من القرونِ يمشون في مساكنهِم )
يقول الله عن قوم لوطٍ وحجر صالح ( وإنّهُما لبإمامٍ مُبين ) واضحة وقال ( وإنّها لبسبيلٍ مُقيم ) ما زالت أثار باقية تدلُ على أصحابها حتى يتعظ الخلق وحتى يتنبّه من كتب الله جل وعلا لهُ النجاة (أفلم يهدِ لهُم كم أهلكنا قبلهُم من القرونِ يمشون في مساكنهِم إنّ في ذالك لاءياتٍ لأُولي النُهى )
وقد مرّ معنا قبل لقاءين أو أكثر أن كلمة ( أُولي النُهى ) لم ترد في القرآن إلا مرتين كلاهُما في سورةِ طه هذا موضع والموضعُ الذي قبله منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنا نُخرجكم تارةٍ أُخرى حولها الآية ذكر الله (إنّ في ذالك لأياتٍ لأُولي النُهى ) ذكر الله جل وعلا إنزال السماء والمطر وأخبر أن في ذالك آيات لأُولي النُهى وهنا تكرّر نفس المعنى وأُولي النُهى أهل العقول وهذا يدلُ على أن الإسلام عني كثيراً بالعقل البشري .
ومن أعظم الدلائل على عناية الإسلام بالعقل أن الله جل وعلا ذكر العقل مُغيباً ، ومؤقتاً ، ومُغيباً تغييباً جُزئياً .
فالمُغيب كامل يُسمّى مجنون
والمُغيب عارض يُسمّى نائم
والمُغيب مؤقت الصغير لم يصل عقلهُ إلى النُضج ،
مُغيب كامل هذا المجنون ،، ومُغيب بعارض هذا النائم ،، ومُغيب عقلهُ مؤقتاً هذا الصغير وفي كلا الثلاث الأحوال رفع الله قلم ؟ قلم التكليف رفع الله قلم التكليف إذاً ما مناطُ التكليف ؟ العقل ما مناطُ التكليف العقل.(13/116)
والعقلُ أصلاً يدلُ على وجود الله لكن لا تقوم الحُجة بالعقل وحده لكن لا تقوم الحُجة بالعقل وحده.
(إنّ في ذالك لاءياتٍ لأُولي النُهى )
ثُمّ قال الله جل وعلا
( فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوعِ الشمس وقبل غُرُبها ومن ءاناى الليل فسبّح وأطراف النهارِ لعلّك ترضى )
التسبيح هنا الأظهر أنهُ بمعنى الصلاة لقد ذكر اللهُ في هذهِ الآية المواقيت الخمس :
(فاصبر على ما يقولون) الصبر قرين الصلاة في كلام الله ( واستعينوا بالصبرِ والصلاة ) { أرحنا بها يا بلال} عند المصائب (فاصبر على ما يقولون) من تكذيبك ورد رسالتك وقدحهِم في إلهك وزعمهِم أن الأصنام تنفع وتضُر جُلة ما قالوهُ .
( وسبّح بحمد ربك) الصلاة متى ؟ ( قبل طلوع الشمس ) وهي صلاة الفجر ( وقبل غُرُبها ) صلاة العصر ( ومن ءاناى الليل ) صلاةُ العشاء ( وأطراف النهار ) لنهار طرفان بعد زوال الشمس عندما تتوسط في كبد السماء وعندما تجب وتسقُط وقت الغروب والأُولى يتعلّقُ بها وقت صلاة الظُهر ووقت سُقُوطها يتعلقُ بهِ صلاة المغرب .
فإن قال قائل كيف عبّر الله بأطراف ولم يُعبّر بطرفي ؟
قُلنا إن هذا أسلوبٌ عربيٌُ معروف وإنّ العرب إذا أمنت اللبس تُعبّرُ بالجماعة عن الإفراد وإنّ العرب إذا أمنت اللبس تُعبّرُ بالجمعِ عن الإفراد أو عن التثنية إذا أُمن اللبس كما في هذهِ الآية ونظيرهُ قول الله جل وعلا ( إن تتوبا ) بالتثنية ( إلى اللهِ فقد صغت قُلُوبكما ) جمعها (فقد صغت قُلُوبكما ) فجمع قلوب وليس لعائشة وحفصة إلا كلاهما لها قلب لهما قلبان لكنّ هذا أسلوبٌ عربي .
ولهذا نقول إن من أهم الطرائق إلى معرفة كلام الله معرفة أساليب العرب في كلامها ..
قال الله جل وعلا (وسبّح بحمد ربك قبل طلوعِ الشمس وقبل غُرُبها ومن ءاناى الليل فسبّح وأطراف النهارِ لعلّك ترضى ) ..(13/117)
هذهِ ( لعلّك ترضى ) يحسنُ الوقوف عندها والمعنى أن هذهِ الصلوات سببٌ في رضوان الله عنك فإذا رضي الله عنك أرضاك الصلوات سببٌ في رضوان الله عنك فإذا رضي الله عنك أرضاك .
ولهذا قال بعضُ أهل الفضل ليس الشأن في أن نُحب ربُنا فهذا حقٌ له ولكنّ الغاية والمطلب أن يُحبّنا ربُنا جل جلالهُ بلغنا الله وإياكُم ذالك
( لعلّك ترضى )
ثُمّ أدب الله
( ولا تمُدنّ عينيك إلى ما متعنا بهِ أزواجاً منهم زهرة الحياة الدُنيا لنفتنهُم فيهِ ورزقُ ربك خيرٌ وأبقى )(13/118)
هذهِ الآية تُبينُ أن من أعظم ما يحولُ بين العبدِ وبين ربهِ النظر في ملذّات الدُنيا وهذهِ الدُنيا من حقارتها على الله أنهُ لم يأذن بالمعصية إلا فيها من حقارتها على الله أنهُ لم يأذن بالمعصية إلا فيها ولو كانت تزنُ عند الله جل وعلا جناح بعوضةٍ لما سقى منها كافراً شربة ماء وهي على اسمها دُنيا أي نازلة والتعلّقُ بها تعلّقاً كاملاً وجعلها في القلب من أعظم ما يحول ما بين العبد وما بين ما يُريدهُ عند الله من الشرف العظيم والجنة والمآل الكريم وقد حمى الله جل وعلا أنبياءهُ ورُسُله منها فمن أعطاهُ اللهُ منها كسُليمان وداود عليهما السلام جعلها لهُما عوناً على طاعتهِ كأصحاب المال والثراء من أصحاب نبينا صلى الله علية وسلم لكنّها في الجُملة لا ينبغي أن يستقرّ محبتُها في القلب ونبيُنا عليهِ الصلاة والسلام خُيّر ما بين أن يكون نبياً ملكا أو أن يكون نبياً عبدا فاختار الثانية واختيارهُ لثانية يعني أنهُ سيُبتلى فيلتزم بها فلمّا كانت تأتيهِ الغنائم لم يكُن لهُ منها حظٌ ولا نصيب صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ إلا بقدرِ ما يقوتُ بهِ أهلُهُ وإذا جلس يقول { اجلس كما يجلس العبد } ويأكل يأخُذُ الذراع فينهسُها نهساً فعل من هو مُتشوقٌ إليها لا من هو متعودٌ عليها ، ويدخُلُ عليهِ عُمر وقد أثر الحصير فيهِ فيحزنُ شفقةً عليهِ فيذكرُ كسرى وقيصر وما هُما فيهِ فيقولُ { أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب أُولئك أقوامٌ عُجّلت لهُم طيّباتهُم في الحياة الدُنيا } .
والتعلّقُ بالدُنيا يحولُ بين المرء وبين حتى معالي الأمور لأن من يرومُ مجداً لا ينبغي لهُ أن يتعلّقُ بالدُنيا لأن التعلّقُ بالدُنيا يُرث أمرين :
يُورث الجُبن ،، ويُرث الحرص وهو الطمع
ومن كان حريصاً أو جباناً لا يُمكن أن يسود
لولا المشقةُ ساد الناس كلهُمُ ** الجود يفقر والإقدام قتّالُ(13/119)
لكن من طلب معالي الأمور لابُد أن ينزع الدُنيا من نفسهِ يجعلُها مطية لما يُريد لا يجعلُها في ذاتها غاية وأنظُر لمن عبد الدينار والدرهم وتعلّق بهما كيف أحولهُما وانخفاض سوق الأسهُم في المال في الزمن القريب من لقاءنا هذا أكبر دليلاً على تعلّقُ فئامٍ كثيرٍ من الدُنيا صحيحٌ أن الإنسان لا يتحملُ الخسارة إذا وقعت لا يُلام الناس يعني لوماً وعتباُ قاسيا لكن لا ينبغي للعاقل أن يتعلّق بها تعلُّق من والعياذُ بالله يصلُ في مراحل حياتهِ إلى أن الرزق لهُ طريقٌ واحد والله يُعلّم عبادهُ ويُأدبهُم ويقول ( أمّن هذا الذي يرزُقكُم إن أمسك رزقه بل لجّو في عتوٍ ونفور )
ومن عرف الله جل وعلا حق المعرفة علم أن أسباب الرزق والعطاء ليست أبداً محصورةً في طريقٍ في طريقٍ واحد لكنّها من رازقٍ واحدٍ هو الله فاللهُ يقول لنبيهِ ( ولا تمُدنّ عينيك ) وهذا يلزمُ من خلالهِ أن لا يُقلّب الإنسان طرفهُ كثيراً في متاعِ أهل الحياة الدُنيا قدر الإمكان ( ولا تمُدنّ عينيك إلى ما متعنا بهِ أزواجاً منهم زهرة الحياة الدُنيا )
ولماذا قال اللهُ زهرة ؟
لأن الزهرة يراها السامعون التالون للقرآن فيرون أنها ما تلب أن تظهر حتى قليلاً ثُمّ تذبُل وتنتهي .
وقد قال بعضُ الصالحين : " إنما الدُنيا زهرةٌ حائلةٌ ونعمةٌ زائلة " إنما الدُنيا زهرةٌ حائلة يعني تحولُ إلى ذوبان وذبول ونعمةٌ زائلة وهذا أمرٌ مُشاهدٌ مهزوز .
( ولا تمُدنّ عينيك إلى ما متعنا بهِ أزواجاً منهم زهرة الحياة الدُنيا لنفتنهُم فيهِ ورزقُ ربك خيرٌ وأبقى )
ولا ريب أن الرزق كُلهُ من الله لكنّ الإضافة هُنا إضافة تشريف والمقصودُ برزق ربك أن الرزق قسمان :
*/ رزقٌ لأهل الكُفر وهو من الله لكن لا يُضافُ إلى الله إضافة تشريف لماذا؟ لأنهُم يشوبونهُ بطرائق مُحرّمة أهلُ الكُفر والفجورِ والمعاصي يشوبون رزقهُم بطرائق مُحرّمة فلا يُنسب إلى ماذا؟ فلا يُنسبُ إلى الله .(13/120)
*/ وأهلُ الصلاح وفي مُقدّمتهم نبيُنا صلى الله عليهِ وسلم إنّما رزقهُ مُباحاً حلالاً طيبا فلذالك أُضَيف إضافة تشريفٍ إلى الله (ورزقُ ربك خيرٌ وأبقى )
فبعد أن طمأن الله جل وعلا نبيهُ على الرزق وأن ما كان لك سيأتيك على ضعفك وما لم يكُن لك لن تنالهُ بقوتك قال لهُ ( وأمُر أهلك بالصلاةِ وأصطبر عليها )
والاصطبار حبسُ النفس على شيءٍ مُعين .
ومن أعظم ما يُمكن أن تراهُ عيناك شخصٌ قد أحدودب ظهرُهُ وظهر الشيب في مفرقهِ يتكأُ على عصاه يطوفُ في حيهِ وفي مقّر سكنهِ يأمُر أهلهُ بالصلاة هذا المنظر إذا رأيتهُ يفيءُ إلى ذهنك قول الله جل وعلا عن نبي الله إسماعيل ( وكان يأمُر أهلهُ بالصلاة والزكاة )
وقد كان هذا المنظرُ تراهُ كثيراً في الأحياء القديمة وفي المشايخ الكبار سنّاً ولو يكُن شيخ سناً ليس شيخ علم تراه يُذكّر من حولهُ بالصلاة في غدوهِ ورواحهِ وهذا فيهِ دلالة وأمارة على القُرب من الرب تبارك وتعالى .
( وأمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) وقولهُ جل وعلا (واصطبر عليها ) أن الصلاة تحتاجُ إلى نوعٍ من المُصابرة ولهذا قال الله ( وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين )
نقول ( واصطبر عليها لا نسألُك رزقاً ) نحنُ نسألُك العبادة كلّفناك بأن تعبُدنا ووعدناك بأن نرزُقك فلا تنشغل بما وعدناك فيهِ عمّا طلبنا منك .
أُعيد
الله جل وعلا وعد عبادهُ الرزق وطلب منهُم العبادة فلا ينشغلوا بما وعدهم عمّا طلبهُم وإنّما أنشغل بما يُعينك على أخرتك وهي العبادة عمّا تكفّل الله جل وعلا لك بهِ .
ولا يعني هذا أن الإنسان قعيداً في بيتهِ لكن إذا يسعى يسعى بقدر وإذا أُعطي من الدُنيا لا ينبغي أن تقع في قلبهِ موقعاً مُتأصلاً جداً يُخرجهُ عن طاعة الله جل وعلا .
قال الله جل وعلا :..
(واصطبر عليها لا نسألُك رزقاً نحنُ نرزُقك والعاقبةُ لتقوى )(13/121)
عاقبةُ كُل شيءٍ مآلُه لكنّها تُذكر في كلام الله في الغالب في الخير ومعنى والعاقبةُ لتقوى أي أن التقوى سبيلٌ للعاقبة الحسنة ومعنى قول الله ( والعاقبة لتقوى ) أي أن التقوى سبيلٌ وطريقٌ للعاقبة الحسنة .
ثُمّ قال الله جل وعلا :
( وقالوا لولا يأتينا بآيةٍ من ربهِ )
لولا هنا بمعنى الحظ وليست امتناعٌ بوجود معنى لولا هلاّ وهذا قالهُ الكُفّار عياذاً بالله كأنهُ لم يكفيهم القرآن ولهذا قال الله ( أولم يكفيهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب ) والمقصود أنهم يقولون نُريدُ بيّنة فالله جل وعلا يقول ( وقالوا لولا نُزّل عليهِ آيةٌ من ربهِ أولم تأتهم بينةُ ما في الصُحف الأولى )
ما هو الذي فيهِ بينة ما في الصُحف الأولى ؟ القرآن
فالله جل وعلا جعل القرآن مُهيمناً على الكُتب التي سبقت فكُلها أخبرت بنزولهِ والقرآن حوى مُجملها وما دلّت عليهِ وما أرشدت إليهِ وهو المُهيمنُ عليها فإذا لم يكفيهِم القرآن لن يكفيهم شيئاً أبداً وإنما يقولون هذا عنتا بل القرآنُ هو خاتمُ الكُتب السماوية المُنزّلة وهو المُهيمنُ عليها نعتهُ اللهُ جل وعلا بقولهِ ( أولم تأتهم بينةُ ما في الصُحف الأولى )
الصُحف الأولى ما سبق من التوراة و الإنجيل والزبور وبينتُها والحجة المُهيمن عليها هو القرآن .
ثُمّ قال الله
( ولو أنّا أهلكناهُم بعذابٍ من قبلهم لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع ءاياتك من قبل أن نذلّ ونخزى )
هذهِ الآية تُبين أن الحُجة في بعث الرُسُل وأنهُ لولا أن الله أرسل الرُسُل وأنزل الكُتب لكان لناس حُجة على من ؟ على ربهم ولهذا قطع الله المعاذير وألقم الله جل وعلا الحُجج ما ألقمها بإرسالهِ لرُسُل وإنزالهِ للكُتب (لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع ءاياتك ) ذكر الرُسُل قال الله جل وعلا (من قبل أن نذلّ ونخزى ) فطالبوا بالرُسُل قبل أن يقع عليهم الذل والخزي وقد أرسل الله الرُسُل فلم يبقى لهؤلاء القوم أيُ حُجة .(13/122)
ثُمّ قال الله على لسان نبيهِ يختمُ هذهِ السورة المٌباركة ( قُل كلٌ مُتربصٌ فتربصوا )
والآية من أعظم دلائل التوحيد
لماذا من أعظم دلائل التوحيد؟
فالنبيُ عليهِ الصلاةُ والسلام جعل نفسهُ ومن ءامن معهُ مثل هؤلاء في الانتظار مثل هؤلاء في الانتظار ( قُل كلٌ مُتربصٌ فتربصوا ) أنا وأنتُم ننتظر ، أنا وأنتُم مُتحفزٌ لنهاية ، أنا وأنتُم مُترقبٌ لما سيكون ولا يترقبُ لما سيكون ويتحفزُ لما سيقع إلا من كان لا يملُك من الأمرِ شيئاً و إلا لو كان يملكُ من الأمر شيئاً لقضاهُ وانتهى لقضاهُ وانتهى .
تدخُلُ داراً أنت ورفقتُك وليس مع أحدٍ منكُم مفتاح فكُلكُم مُشتركون تنتظرون صاحب المفتاح يُدخلكُم ولو كان مع أحدكُم مفتاحا لفتح الباب وانتهى الأمر.
فهذا النبيُ يقول أنا عبدٌ مثلكُم أنا بشرٌ مثلكُم أنا أنتظر كما تنتظرون ( قُل كلٌ مُتربصٌ ) حتى يبقى الكمال المُطلق لرب جل جلالهُ (قُل كلٌ مُتربصٌ فتربصوا) فإذا انتظرتم وانتظرنا ( فستعلمون) يقيناً ( من أصحاب الصراط السوي ومن أهتدى )
لا يُفهم أن أصحاب الصراط السوي مُغاير لمن أهتدى الله لا يتكلّم عن فريقين يتكلّمُ عن طريقٍ وسالكيهِ
أُعيد
قول الله جل وعلا ( فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن أهتدى)
لا يتكلّمُ الله جل وعلا عن فريقين إنّما يتكلمُ عن طريقٍ وسالكين لذالك الطريق.
والمعنى :.. أحياناً يُوجد طريق سالك يوجد طريقٌ سالكٌ صحيحٌ مُستقيم ولا يوجد سالكون ولا يوجد سالكون لهُ فالله جل وعلا يقولُ لهؤلاء الكُفّار على لسان نبيهِ ستعلمون الطريق السوي الحقيقي الذي هو طريقُ الإيمان والسالكين لهذا الطريق الحقيقي الذين هم أهلُ الإيمان فمن يُعبّر بها للعاقل وإنّما كُسرت هُنا لالتقاء الساكنين كُسرت هُنا لالتقاء الساكنين .
( ومن اهتدى ) كُسرت لالتقاء الساكنين لأن الهمزة التي بعدُها همزة وصل لا تُنطق والهاء ساكنة .(13/123)
فنعود فنقول الله جل وعلا لا يتحدثُ عن فريقين وإنما يتحدثُ عن طريقٍ ومن سلكهُ .
قد يأتي في الأنفُس وهذا من ربط سور القرآن بعضُها ببعض قد يأتي في النفس الذين يقرأون القرآن متى ينتهي هذا التربُص ، إلى متى هذا الانتظار ، متى سيكون أسئلة ترد ( فستعلمون ) متى نعلم ، ما لسورة التي بعد طه ؟ ــ أجيبواـ الأنبياء .
ما فاتحةُ الأنبياء ؟
( اقترب لناسِ حسابهُم ) جواب للأخير هنا ليس ببعيد هذا التربُص ليس ببعيد هذا التحفُّز ولهذا قال الله بعدها في الأنبياء ( اقترب لناسِ حسابهُم وهم في غفلةٍ مُعرضون ) وهذا من التناسُب مابين ما بين سور القرآن الكريم تناسُب ما بين سور القرآن الكريم .
هذا جُملة ما يُمكن أن يُقال إجمالاً عن هذهِ السورة المُباركة
جُملة الفوائدِ فيها : .
//**
أن يُعلم أن القرآن مُعجزٌ في ذاتهِ وهذا الإعجاز ذكرهُ الله جل وعلا هنا تشويقاً في ثلاث مراحل :
ذكرهُ في أول السورة ( طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى )
وذكرهُ قبل النهايات ( وكذالك أنزلناهُ قرآناً عربياً )
وذكرهُ هنا ( أولم تأتهم بينةُ ما في الصُحف الأولى )
في الثلاث المواضع ذكر الله جل وعلا القرآن ليُبين رفيع قدرهِ وعظيم شرفهِ وقد قال في نصّ شرف القرآن ( وإنّهُ لذكرٌ لك ولقومك ) أي لشرفٌ لك ولقومك وسوف تُسألون عنه ِ هذهِ واحدة .
//**
ذكر الله جل وعلا في هذهِ السورة إجمالاً خبر كليمهُ موسى ونبيهُ ءادم عليهما الصلاةُ والسلام ولم يذكُر الله في هذهِ السورة قصّة أحدٍ من الأنبياء غيرِ موسى وغيرِ ءادم والعجيب أنهُ ليس في القرآن سورة اسمُها سورة موسى رغم أن موسى عليهِ السلام ذُكر في أكثر من موضع وهذا إن صحّ التعبير يدخُل في ما قُلناه سابقاً إن الله جل وعلا لا يُعطي أحدٍ كُل شيء إنما ذكر يونس لأنهُ عاتبهُ عتاباً شديداً فسُمّيت سورة باسم يونس [ واضح] ،،(13/124)
ذُكر موسى كثيراً في القرآن لكن لم تُسمّى سورة باسمهِ عليهِ السلام ،، سُمّي نبيُنا صلى الله علية وسلم سميت سورة باسمه سورة مُحمد تُسمّى أحياناً سورة القتال لكن هذا يجعلك إذا قُلنا تسمية القرآن طبعاً هل تسمية توقيفية مبنية على فعل النبي صلى الله علية وسلم فهي مبنيةُ يعني على أمر اللهِ من حيث الجُملة لكن عموماً ثمّة ملحوظات يقعُ عليها المرء تُبين كيف أن الله جل وعلا يُوازن بين عبادهِ والله يقول ( ولو بسط الله لعبادهِ في الرزق لبغوا في الأرض)
والمقصود أن حتى الناس لو تأملتهُم تجد من أُعطي عافية ومال يُحرم من أشياء أُخر قد لا تظهرُ لك ، ومن أُعطي قلّة قد يُعطى أولاد وقد يوجد أحدٌ عندهُ أموال يتمنى الولد ن وقد يُوجد مُبتلىً لكنّهُ يُعطى أُمور أُخر غير التي فيها بلاءُهُ وقلّما ترى عبد إلا وفيهِ أثر نعمة وأثر ابتلاء لا نقول نقمة يبتليهِ اللهِ جل وعلا بها فإن لم يُحسنِ التعامُل مع ذالك الابتلاء انقلب نقمة وإن أحسن التعامُل انقلب إلى عافية ورفع درجات .
لكن من العبد الخالص الذي أرادهُ الله الذي يستحق أن يفوز بجائزة ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) هو من كان قلبُهُ بصرف النظر عن مالهِ وولدهِ
ومسكنهِ وجاههِ وعلّمهِ من كان قلبهُ مُعظّماً للهِ من كان قلبهُ مُعلّقاً باللهِ لا يوجد احدٌ حي ما يملك قلب يتفاوت الناس في المال في الولد في العلم في الطول في القصر لكن لا يوجد حد حي لا يملكُ قلباً .
نُريدُ من كُل من يُشاهدُنا ويسمعُنا ويقراُ دُروسنا ونحنُ في المقام الأول يعني نتعظ في أن الغاية من خلقنا أن تعترف قلوبنا بخالقها وتذعن لهُ وتعبدهُ وحدُه { ألا وإنّ في الجسد مُضغة إذا صلُحت صلُح الجسدُ كُله }
( يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم )(13/125)
فلا يوجدُ أحدٌ ساد وعندهُ ما ليس عندك عندهُ قلب وعنك قلب وهو مقام التحاكُم وموطنُ العبادةِ وإليهِ يعني هو موضع محبةُ الله وبُغضُهُ عند أهل الكُفر وطاعتهُ ومعصيتهُ عند العُصاة فكلُ الأمور مُعلّقة بمدى اتصال الخلق بالخالق وما الجوارح إلا شواهد ودلائل وقرائن على مدى اتصال القلب بالخالق .
علّمنا الله وإياكُم ما ينفعُنا ونفعنا الله وإياكُم بما علّمنا وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ وأرجوا أن يكون فيما قُلناه في سورة طه نفعاً لمن سمعنا وشاهدنا أسأل الله لنا ولكُم التوفيق وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين ..............(13/126)
محاسن التأويل
سورة الزخرف3 ( من الآية 19_ 29)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
* أما بعد *
فنستأنف في هذا اللقاء المبارك دوحة سورة الزخرف وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا " أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " والآية التي بعدها شديدة الارتباط بها قال الله " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون "
كل من نازع الله مغلوب ..
والله يظهر ضعف عدوه وتناقضه قولاً أو عملاً
ما الذي صنعه القرشيون ؟ !
زعموا أمرين :-
الأمر الأول :- زعموا أن الملائكة بنات لله
والأمر الثاني : بهذا الزعم ينجم عنه أن جعلوا الملائكة شركاء لله لماذا ؟ !
لأن الابن جزء من والده قال صلى الله عليه وسلم " إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها "
على هذا جمع هؤلاء القرشيون النقيضين أين النقيضان في قولهم ؟ !
إنهم رفعوا أولاً الملائكة من مقام العبودية ولهذا قال الله " الذين هم عباد الرحمن "
إلى مقام أنهم جعلوهم بوصفهم بنات لله جعلوهم شركاء مع الله وهذا ارتفاع وارتقاء بمقام الملائكة وفي نفس الوقت جعلوهم بنات !!
والذكر أفضل من الأنثى فرفعوهم من وجه ووضعوهم من وجه آخر وهذا قمة التناقض
قال الله جل وعلا { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ً أشهدوا خلقهم}
الشهادة هنا بمعنى الحضور ..
{أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون}(14/1)
وهذا فيه تخويف للناس لأن الله علم من غير تدوين لشهادتهم أن مآلهم إلى النار ومع ذلك حاكمهم الله على هذا الأمر فالكفار جرما ً حتى لو لم يقولوا هذا الأمر من أهل النار ومع ذلك قال الله { ستكتب شهادتهم ويسألون } {وقالوا لو شاء الله ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إنهم إلا يخرصون *أم آتيناهم كتابا ً من فبله فهم به مستمسكون}
احتج القرشيون بالقدر ومن احتج بالقدر يبطل احتجاجه عقلاً ونقلاً
كيف احتجاجه عقلاً ؟!
كل من احتج بدليل عقلي يلزمه بالبقاء عليه في كل أحواله وقد تبين عقلاً أن أي أحد لا يستطيع أن يحتج بالقدر في كل أحواله وهم يقولون لو كان هذا الدين حقاً لما شاء الله أن نعبد غيره قال الله جل وعلا عنهم { ولو شاء الرحمن ما عبدناهم } احتجوا بالقدر فنقول لهم من الناحية العقلية الآن لو سلمنا لكم بصحة هذا الاحتجاج هل تقبلون به في كل أحوالكم لا يقبلون فلا يمكن أن تأتي أعراضهم فتنتهكها أو أموالهم فنسرقها ويقبلون احتجاجك بأنك انتهكت أعراضهم وسرقت أموالهم بقدر الله
( واضح )
سيعاقبوك و يثأرون لأنفسهم فهذا يبطل به الاحتجاج بالقدر فماذا ؟!!عقلاً ..
أما إبطاله نفلاً فهو في الآية التي بعدها قال الله جل وعلا {أم آتيناهم كتابا ً من قبله فهم به مستمسكون} وقطعاً ليس لهم كتاب من قبله قال الله جل وعلا ( وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أسلنا إليهم قبلك من نذير) على أن هذه الآية عض عليها النواجذ واعقد عليها خنصرك سيأتي الحاجة لها ملحة فيما بعد لكن الله ساقها لبيان رد دليلهم نقلياً وهم لا يملكون دليلاً نقلياً ولا دليلاً عقلياً ..
لكن لديهم شبهة والقرآن إذا حاكم يحاكم بالتفصيل !!
أين الشبهة ؟! .. هي قول الله جل وعلا كما حكاه الله عنهم { بل قالوا إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون }(14/2)
فشبهتهم التي تمسكوا بها بعد أن أبطل الله احتجاجهم بالقدر ذكر الشبهة التي تمسكوا بها وهم أنهم وجدوا آباءهم على أمة ..
وقالوا كما قال الله { وإنا على آثارهم مقتدون } فذكرا الله جل وعلا قبل أن نعود ونخوض فيها معرفياً تكمل مرادفها وما جاء في سياقها ثم نعود إليها قال الله { وكذلك ما أرسلنا من فبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة }
إذا الاحتجاج بالقدر فيما يبدو خصيصة قرشية
أما الاحتجاج بأنهم وجدوا آباءهم على أمة ليس خصيصة قرشية وإنما مضت في ملل وأمم وأقوام ماذا ؟! قبلهم مضت !!
وهذا ما لدليل عليه أن الله لما حكى احتجاجه بالقدر لم يقل سبحانه موجوداً في الأمم التي سلفت ولما ذكر أنهم وجدوا آباءهم على أمة قال سبحانه وهو أصدق القائلين { وكذلك ما أرسلنا من فبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون }
قال !! من الذي قال .. قال كل رسول لأمة ماذا قال {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}
{قالوا} أي كل أمة لرسولها { إنا بما أرسلتم به كافرون}
قال الله { فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين}
الآن نعود للآية من أول وننيخ المطايا فبما يجني منها من فوائد أعظم الفوائد الدالة عليها أن الله نهى عن التبعية بغير علم لأن الله قال {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}
على هذا فباب الاجتهاد مفتوح الشرع ..(14/3)
ولا يلزم الناس عندما فتحوا لأنفسهم باب الاجتهاد إن ظنوا أن الطريقة المثلى إليه حفظ المنون وهذا خطأ منهجي عظيم فإن الحفظ وإن كان حسناً إلا أن الذي ينبغي في المجتهد أن يعرف مواضع الأحكام ويفهمها أما حفظها فليس له علاقة بالاجتهاد فإذا كان يسهل عليه أن يعرف موطن الحكم ويفقهه ويفهمه وينزله التنزيل الصحيح فهذا مجتهد أما الحفظ فلا علاقة له لماذا لا علاقة له ؟! لأننا لو قلنا أن الحفظ ركن من أركان الاجتهاد لوصل إلى تلك المنزلة أو إلى نصفها أو قارب منها مئات الحفاظ وأنت كما ترى كثيراً منهم لا يملك الآلة العلمية وحسبك مثلاً على ابنك في مرحلة دراسية قد يكون في الثانية عشر من عمره وحفظ القرآن أو حفظ الصحيحين ولا يمكن أن يكون قد خطى خطوة واحدة في طريق الاجتهاد ( واضح )
قال الناظم :
موضع ( هذه معطوفة على منصوب )
وموضع الأحكام دون شرط
حفظ المتون عن أهل الضبط
والمعنى أن يعرف المجتهد موضح الأحكام دون تشترط حفظ المتون عند ماذا ؟!
عند أهل الإتقان والصنعة
وموضح الأحكام دون شرط
حفظ المتون عند أهل الضبط
( واضح )
فنجم عن هذا كله التقليد والإتباع من دون دليل أمر منبوذ شرعاً
دل قول الله جل وعلا { أن وجدنا آباءنا على أمة}
ما معنى أمة هنا ؟!!
طريقة ومسلك يسيرون عليها وهديا كان عليه آباءهم مع أن كلمة أمة جاءت في القرآن على معان عدة لكن كيف عرفناها مما يسمى السياق ...
قال الله جل وعلا " ولئن آخرنا عنهم العذاب إلى آمة معدودة "
أي إلى آجل إلى زمن
وقال الله جل وعلا " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس "
أي جماعة قال بعضهم دون الرجال
" وإن من أمة إلا خلا فيها نذير "
جماعة يدخل فيها الرجال والنساء ..
" إن إبراهيم كان أمة "
أي رجلاً جامعاً لصفات الخير
إذاً يا من تفسر القرآن ثمة ألفاظ تتفق في أحرفها وتختلف في معناها وإن كان الجرم الأول معناها واحد لكن تأتي لها دلالات(14/4)
مثلاً قال الله جل وعلا " فطوعت له نفس قتل أخيه "
من أخيه .. أخوه لأبيه وأمة لأن الحديث عن قابيل وهابيل
وقال الله في هود " وإلى عاد أخاهم هودا "
وليس أخوهم من أمهم وأبيهم لكن أخوهم في القبيلة
وقال الله تبارك وتعالى " كلما دخلت أمة لعنت أختها "
ما معنى أختها هنا إي شبيهتها مثيلتها في الجرم
وقال الله جل وعلا " إنما المؤمنون أخوة "
أخوة الدين
و قال الله تبارك وتعالى " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة "
أي شريكي وصاحبي
قال الله جل وعلا " وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون "
أي آولياءهم
فاللفظ واحد والمعاني مختلفة ونظائر أخر
كلمة آية
قال الله جل وعلا " إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة "
ما معنى آية هنا عبرة .. عظة .. وعبرة
قال الله جل وعلا " ومن آياته أن خلقكم من تراب "
هنا آية بمعنى برهان ودليل
وقال الله تعالى بنبأ عن آية أنها بمعنى رفيع البناء
" أتبنون بكل ريع آية تعبثون "
وتأتي آية بمعناها في المصحف قال الله " فإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر "
فندخل هنا نعرج نحن في علم التفسير على معنى آية في القرآن في الاصطلاح الشرعي .. نحن أخذنا نماذج في المعنى اللغوي قلنا تأتي معنا عظة تأتي معنا برهان ثاني معنا " ربع " بناء رفيع في المصطلح الشرعي وأنت تفسر القرآن آية
أكتب ...
جملة من الكلام ذات مبدأ (أي بداية يعني) ولها مطلع ومقطع مختومة بفاصلة موجودة في سورة هذه الآية
قلنا في ضمن كلامنا مختومة بفاصلة ما الفاصلة ؟!
أكتب ..
الفاصلة جملة بين الكلام تختم بها الآية وهي قرينة القافية في الشعر واللازمة في السجع إلا أن الفارق الأعظم أن الفاصلة في القرآن يأتي بها لمعنى
وقد قال أهل الصناعة
" أهل التفسير الذين لديهم حظ في البلاغة "
وقد قال أهل الصناعة أن الفاصلة سر من أسرار القرآن ..
ويمكن تقسيم الفاصلة إلى أربعة أقسام:
الأول التمكين(14/5)
ويقصد بها تلك الفاصلة التي يكون ما قابلها ممهد لها مثل قوله تعالى " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً "
أين الفاصلة ؟! جملة وكان الله قوياً عزيز .. هي الفاصلة
فما قبلها كان ممهداً لها فحتى لا يفهم أن رد الذين كفروا كان قدراً ونفاقاً جاءت الفاصلة لتبين التمكين فظهر من لفظها قدرة الله جل وعلا ليطمئن المؤمن ويغاظ الكافر .. هذا أول أقسام مدلولات الفاصلة وهو التمكين .
الثاني التصدير
وهو أن يكون صدر الآية دالاً على آخرها فتصبح أيها الأخ المبارك هذه الفاصلة مأخوذة لفظاً من صدر الآية "فقلت استغفروا ربكم" هذه الآية ما فاصلتها " إنه كان غفارا "ً مأخوذ من صدر الآية أن تكون الفاصلة مأخوذة لفظاً من صدر الآية مثل قول الله تعالى " وقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً "
الثالث أيها المبارك التوشيح
ما التوشيح ؟!
نظير التصدير لكن التصدير مأخوذ لفظاً أما التوشيح مأخوذ ماذا ؟!
مأخوذ معنى .. قال الله تعالى " واسروا قولكم أو اجهروا به "
ماذا ختمت ؟!
" إنه عليم بذات الصدور "
فالمعنى غير اللفظ المعنى هنا مستسقى من صدر الآية
من يعيد الثلاث؟!
التمكين والتصدير و التوشيح
الرابعة الإيغال
(طيب)
أنت الآن تسمع هذا المصطلح أوغل فلان في الأمر ؟! ما معنى أوغل ؟! دخل أو زاد أو تعمق وكلها تدور في فلك الزيادة ..
إذا الإيغال في الفاصلة أن تتضمن الفاصلة معنى زائداً على صدر الآية
قال ربنا وهو اصدق القائلين " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله "
الآن انتهت الآية من حيث المعنى ثم معنى الآية .. انتهى المعنى ثم قال الله بعدها في فاصلة ختمت بها الآية " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" هذه الفاصلة زادت معنى وهو إنهم لا يأتون بمثله مجتمعين أي حتى ولو اجتمعوا لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن
فهذه الفاصلة زادت معنى على الآية يسمى إيغال(14/6)
( طيب )
هذا درس قد يكون في فنون التفسير
هذا الإيغال جاء جزء من أربعة وهو التوشيح والتصدير والتنكيل فهنا له علامة أنا أتكلم عن الفاصلة
( واضح )
هذا نوع من أنواع تقسيم الفاصلة لكن يأتي الإيغال أيها المبارك له جرم آخر وموضع آخر عند البيانين وأهل البديع ضمن الإيجاز والإيغال وأمور أخر غير علاقته بالفاصلة يأتي في الآية
إذا ًالإيغال وأنت تفسر يأتي على كم ضرب يأتي؟!!
على ضربين
جزءاً من أقسام الفواصل ويأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها ..
كيف يأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها إن الآية تقطع على من يسمعها الزيادة ..
فبعض الشعراء هذا وظهر عند ابن المعتز كثيراً يأتي بأبيات تتضمن معان ٍٍ تلجمك أن لا تسأل !!
كل ما خطر ببالك سؤال ألجمك الكلام الذي تسمعه
نأتي بمثال بقول الله جل وعلا " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب " معلوم أن الجنة لا بد أن يكون فيها نخيل وأعناب فهذه النخيل وأعناب زيادة على أنها جنة
قال الله تعالى " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار " تجري من تحتها الأنهار أصلا من لوازم كلمة جنة لكن إيغال زاد إيغال آخر
قال " وله فيها من كل الثمرات " هذا إيغال آخر تكفي عنه كلمة جنة لكن المقصود والمقصود غير الوصف يعني الوصف هذا الأسلوب سمي إيغال أم المقصود هنا شدة التأسف والتحسر على جنة بهذا الوصف
قال الله .." وله فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر" لما قال وأصابه الكبر يأتي السؤال أهم شيء ترك ذرية أو ما ترك ذرية ؟!
قال الله "وله ذرية "
يأتي السؤال الضعفاء أو أقوياء؟!!
يأتي الإيغال " وله ذرية ضعفاء "
قال الله " فأصابها إعصار " ولم يسكت " فأصابها إعصار فيه نار " كلمة فيه نار من لوازمها الاحتراق لكف
لكن قد يقول قائل ربما لا تحترق يأتي السؤال هل احترقت
قال الله " فاحترقت "(14/7)
هذا الإطناب الذي يجيب عن كل سؤال ربما يخطر على بال في الصناعة الشعرية يسمى إيغال والقرآن قرآن عربي فما يقال من أساليب العرب في كلامها في الشعر ينزل على أساليب ماذا ؟!
القرآن لكن لا يقال للقرآن شعراً وقد قلت مراراً أن طه حسين الأديب المعروف على ما فيه وليس هذا مقام القضاء بين عباد الله المقام استفادة من الكلام المقام استشهاد أن طه حسين يقول عرف الشعر والنثر
قيل والقرآن شعر أو نثر؟!
أجاب كلمة بليغة
قال : القرآن .. قرآن ليس له أسم إلا قرآن ..
القرآن ماذا ؟!
قرآن .. لا يسمى شعراً ولا سمي نثراً ..
كذلك إذا كنت قوياً في معرفة أساليب العرب في كلامها سيعطيك مفتاح من مفاتيح عده لتدبر كلام الله جل وعلا وأن تكون فارساً مقدماً فيه
( واضح )
نعود لما بدأناه..
{ وكذلك ما أرسلنا من فبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين * وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون * بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين }
إبراهيم خليل الله المعروف ..
والمعنى وأذكر إذا قال إبراهيم لأبيه
قيل أسمه تارخ وقيل تارح بالحاء وهذا قول أهل التاريخ
وقال الله في القرآن أنه آزر وأضبط الأقوال عندي أن يقال أسمه تارخ ويعرف يا آزر خروجاً من الأشكال لأن جمهرة المؤرخين اتفقوا على أنه تارخ وهو قول ابن عباس والقرآن يقول إذا قال إبراهيم لأبيه آزر ويمكن أن يجمع بينهما بأن أسمه تارخ ويعرف يا آزر { وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } هذا استثناء منقطع بمعنى لكن الذي فطرني أتولاه كما أتبرأ مما تعبدون وأتولى من فطرني
{ فإنه سيهدين * وجعلها }
الفاعل من ؟!(14/8)
جمهور أهل العلم على أنه إبراهيم وبعض العلماء عائد على لفظ الجلالة ومن قال إنه تعود على لفظ الجلالة يغلب بأنها جاء في آخر الآية { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم}
وكلمة لعل لا تناسب أن تسند إلى رب العزة ..
فنرجح أن نجعلها فاعلها عائد على من ؟! على إبراهيم ..
ولها مفعولان الهاء في جعل وكلمة مفعول ثاني أما باقية في هي ماذا ؟! صفة !! {وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم}
العقب في اللغة مؤخرة القدم ..
في الاصطلاح : كل قوم ليس بينهم وبين أبيهم أنثى إذا اتصل الرجل بأجداده من غير أنثى يسمى عقب
{ وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون}
الكلمة هي كلمة التوحيد والبراءة مما يعيد من دون الله
أنا الآن أفسر حرفيا ًً وسأجمع شتات هذا كله
لأن هذه الآية تهمنا جداً في فهمها {بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين}
سنقول ما قاله المفسرون ثم نقول رأينا أهل التفسير يقولون إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من أهل الأوثان وهذا حق وتولى ربه وهذا حق وظاهر جعل هذه الكلمة في عقبه باقية يرجعون إليها إذا حادوا ..
علامة إشعار لهم .. { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون}
وقالوا من الدلائل إن الله قال " ووصى بها إبراهيم بنيه "
معنى الكلام عندهم { لعلهم يرجعون } على هذا قالوا أن هذا الكلام الذي رجاه إبراهيم لم يتحقق كله فأمن بعض ذريته ولم يؤمن بعضهم قال الله
"لا ينال عهدي الظالمين"
في خطابهم لإبراهيم ثم قال الله
{بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين}
أي أن هؤلاء الآباء الذين هم أباء قريش لم ينتفعوا بكلمة من؟! بكلمة إبراهيم باعتبار أن إبراهيم أب لمن ؟! لإسماعيل وإسماعيل أب لعدنان وهؤلاء عرب عدنانيون
( واضح )(14/9)
لأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى معد أبن عدي اتفاقاً على وجوده على هذا بنجم إنهم فهموا أن ثمة شيء من الدين كانت قريش مطالبة به حتى توسعوا قال الطاهر بن عاشور غفر الله له ورحمه مما يستروح من الآيات من قول الله {وجعلها كلمة باقية في عقبه}إلى قوله { بل متعت هؤلاء وإباءهم }
أنه لم يكن هناك مشرك في عمود نسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أجداده كانوا يضمرون الإيمان ويخفونه ولم يصرحوا به مخافة الفتنة من قومهم وهذا أمر عندنا .. أو عندي في غاية الغرابة والبعد .. وقد قلت في درس خلا لا أدري أن كان هذا أو غيره تنبه لقول الله { أم آتيناهم كتاباً فهم به مستمسكون}
وقلنا هذا استفهام إنكاري
أنه لم يأتيهم كتاب ولئن كان الأمر ينطبق عليهم كما قال الطاهر ابن عاشور أو غيره فهذا يكونون مطالبين بالصحف التي أنزلت على إبراهيم والله قد نفاها عنهم وبين أنهم لا يملكون دليلاً نقليا والعلماء يربطون مابين قول الله جل وعلا { وجعلها كلمة باقية في عقبه } وبين قوله { بل متعت هؤلاء وآباءهم }
والذي أراه والعلم عند الله أن قول الله { وجعلها كلمة باقية في عقبه } لا علاقة لها بقول الله { بل متعت هؤلاء وآباءهم }
في انفكاك تام ..
والمعنى أن إبراهيم جعل هذه الكلمة في ذريته التي كانت على مقربة ممن كفر به لعلها إذا شاعت في ذريته يرجع من لم يؤمن به
يرجع من الكفر من لم يؤمن به ومن أعظم القرائن على ذلك أن قوم إبراهيم لم يهلكوا وبقي الأمور معلقة في أذهانكم لكن الوقت انتهى وسأبينها تفصلاً في أول اللقاء القادم ..
هذا ما تيسر إيراده .. وتهيأ إعداده .. وأعان الله على قوله ..
وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين(14/10)
الحمد لله وحده ،حمدا ً كثيرا ً طيبا ً مباركا ً فيه ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى آله وأصحابه وسائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد 00
فقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون )
وحرنا قول العلماء فيها
ثم ننتقل إلى الله جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } مرت معنا آية (يا أيها الناس كلوا ...) هذا للعموم الآن خص الله جل وعلا أهل الإيمان بالنداء فذكر المباح وذكر المحرم وبدأ بالحلال المباح لأنه أكثر و أخر المحرم لأنه محصور واستخدم في حصره إنما وهي تدل على الحصر قال في الأولى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ما دمن معترفين أننا عبيد لله وأن الله أفاء علينا الخير فإقبالنا على الخير نوع من الاعتراف بعبوديتنا لمن ؟
لربنا وعدم إعراضنا عنه ومن هنا تفقه أيها المبارك أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا ..
كلما كان الإنسان يظهر لله فقره ، مسكنته كان قريبا ً من الله
جاء في الحديث الصحيح أن أيوب عليه الصلاة والسلام بعث الله إليه رجل جراد من ذهب ، رجل جراد يعني ما يقال سرب طيور في الجراد ما يقال سرب يقال رجل ..رجل جراد من ذهب أي مجموعة من جراد من ذهب فأخذ وهو نبي الله المذكور في القرآن المقول عنه ( نعم العبد إنه أواب ) أخذ يحثو الجراد في ثوبه فأوحى إليه ربه يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى ؟
قال يا ربِ لا غنى لي عن فضلك .
فالله جل وعلا هنا يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }(15/1)
( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ) تبنى على هذا قواعد مع هذه الآيات ومع غيرهن
نقول كل ما أباحه الله وأحله فهو طيب وكل ما حرمه الله فهو خبيث لكن ليس كل خبيث محرم قال علبه الصلاة والسلام " كسب الحجّام خبيث " مع أنه أعطى الحجّام وسمى البصل والثوم شجرتين خبيثتين مع أن الناس يأكلون منها0
وقال الله جل وعلا ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا
أن تغمضوا فيه ..) مع أننا نأكله فالعبارات تختلف ولذلك يتحرر الإنسان علميا ً قبل أن يتفوه بكلمه نقول قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ *إِنَّمَا} أداة حصر{ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } { الْمَيْتَةَ } ما مات حتف أنفه أو ذبح ذكاة غير شرعية
ما مات حتف أنفه أو ذبح ذكاة بطريقة غير شرعية يسمى ميتة وهو من أعظم المحرمات وأولها.
والثاني قال الله {وَالدَّمَ} وهذا الإطلاق قيدته آية (أو دما ً مسفوحا ً) فخصصه الحديث كما خصص الميتة أحلت لكم ، أحلت لنا ميتتان السمك والجراد وأحل لنا دمان الكبد والطحال فالكبد دم والطحال دم لكنه غير مسفوح والسمك والجراد خصص من الآية بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر قال هو الطهور ماؤه الحل ميتته
{ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} والمراد به الخنزير جملة عند جمهور العلماء وإنما اختلفوا لماذا ذكر الله اللحم؟
على هذا ذهب مالك _رحمه الله_ إلى أن عين الخنزير ليست نجسة أو قال به بعض العلماء ليست نجسة حتى يصبح لقوله لحم خنزير له معنى وقال العلماء بالإطلاق ..
{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ} الإهلال رفع الصوت يقال للوليد إذا استهل صارخا ً أهل
ويقال للحاج مهل لأنه يرفع صوته بالتلبية(15/2)
كانت لقريش أصنام يأتون بذبائحهم فيقولون باسم اللات باسم العزى ينحرونها لماذا ؟! لألهتهم فأي شيء أهل به لغير الله لا يقبل حتى لو...[هذه مهمة] حتى لو كانت من صنع أهل الكتاب فمثلا ً الأصل طعام أهل الكتاب أنه ماذا ؟ حل لنا ..
لكن لو كان عيد يهلون به لغير الله وذبحوا فيه لا يجوز لنا أن نأكل منه لآية البقرة ..[واضح]
ونبقي آية المائدة على عمومها
{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} ما الباغي في اللغة الطلب للشيء إن كان خير أو شر الباغي الطالب للشيء إن كان خيرا أو شرا لكن هنا المقصود بها الطلب للشر ولا عاد أي لا متجاوز للحد واختلف العلماء في معناها منهم من حصرها في البغي والخروج على الأئمة وجعلوا العاد قطاع الطريق والحق أن الباغي والعاد ليست مرتبطتين فقط بقطاع الطريق أو الخرجين على الأئمة إنما الباغي هو من يريدها من غير اضطرار والعاد من تجاوز الحد في أكلها قال بعدها { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي إن كان مضطرا غير باغ ولا عاد { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }ثم قال الله { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ } هذه عودة لذم أهل الكتاب { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }وفي قوله جل وعلا { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } زيادة على العذاب السابق وهو اللعنة الذكورة في الآيات السالفة والآن زاد عليهم إن كتمان العلم شيء عظيم و ظلم فظيع أغضب الله لصنعته في كتابه { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } ثمة شيء في المنازع البلاغية يا بنُي يسمى تنزيل المحصول(15/3)
المتحقق منزلة الحاصل تنزيل ماذا ؟
تنزيل المحصول المحقق منزلة الحاصل .. الله جل وعلا أصدق القائلين وأخبر عن أهل النار وقال { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } المؤمن إذا سمع هذا يعلم يقينا ً أن هذا ماذا ؟
سيقع لا محالة لأن المخبر به من ؟
رب العالمين فيأتي جبلة إذا علم هذا ينزله منزلة ما وقع فيقول لهؤلاء الكفرة ما أصبكم على النار !!
أي ما أشد صبركم على النار وسياقكم إليها رغم علمكم بحرها وهذا لسان المخاطب بالقول والقائلون الناس وهذا أمر لم يقع لكن قلنا هذا منزع ماذا؟ بلاغي !!
وهو تنزيل المحصول المحقق .. تنزيل الشيء المحقق منزلة ماذا؟
الحاصل منزلة الشيء الحاصل فما أصبرهم على النار !!
هذا قول بتخريج التعدد بما أصبرهم على النار
تخريج آخر على أن ما هنا ليست تعجبية!!
إنما استفهامية ؟؟
يصبح المعنى أي شيء أصبهم على النار؟ أي ما الذي دفعهم إلى هذا حتى يصار بهم إلى النار ثم قال الله { ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } هذا جواب لهذه كله والمعنى أن الله جل وعلا أنزل الكتاب بالحق لينفع به العباد فلما جاء هؤلاء العلماء وكتموه كان حقا ً عليهم أن ينالوا ما أخبر الله جل وعلا عنه قال الله { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }(15/4)
ثم قال الرب تبارك وتعالى { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ }هذا عود على بدأ كان الله جل وعلا قد تحدث في صدر هذا الجزء عن قضية تحويل القبلة فلما أكثر الناس على أهل الإيمان من أهل الإشراك والنفاق واليهود والنصارى (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) قال الله جل وعلا { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } والبر َ يا بُني قًرأت بالنصب والرفع فعلى النصب كما هو بين يديك على أنها خبر لـ ليس ماذا ؟ متقدم وأين اسم ليس المرفوع " المصدر " { أَن تُوَلُّواْ } والأصل في المبتدأ والخبر في الترتيب الأقوى معرفة هو يكون مبتدأ الأقوى معرفة هو الذي يكون مبتدأ .. لكن المصدر أولى من المعرف بأل .. المصدر أن ما دخلت عليه أقوى بالتعريف من ماذا ؟؟ من المعرف .. المعرف بأل .. لأنه إضمار الإضمار أقوى المعارف بعد العلم فعلى ذلك أخرت .. جعلت أن تولوا وجوهكم هي الخبر لكن الترتيب التقديم والتأخير هذه مسألة أخرى لكن أين المبتدأ أن تولوا وجوهكم وقدم الخبر ردا ً على أهل الإشراك هذا على قراءة { لَّيْسَ الْبِرَّ } على قراءة { لَّيْسَ الْبِرُّ } المسألة واضحة البر اسم ماذا ؟ اسم ليس وأن تولوا وجوهكم مصدر أن دخلت عليه في محل نصب خبر لمن ؟؟ لـ ليس وليس عند النحويين فعل ماض جامد ناقص فعل أي ماذا؟؟ ليس اسم أو خبر وماض أي ليس مضارع ولا أمر جامد أي غير متصرف لا يأتي منه لا مضارع ولا أمر.. قلنا ماذا؟ ناقص أي يحتاج إلى اسم وخبر ولا يكتفِ بمرفوع واحد وهو الفاعل
[واضح](15/5)
هذا معنى فعل ماض جامد ناقص هذه كله صناعات نحوية والآن نعود إلى الغاية من الآية وهي منزع إيماني قال الله { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } من أراد القرب من الله فليقرأ هذه الآيات يسأل الناس أين البر أين معالي الأمور أين مدارج الجنة أين النجاة من النار أين طرائق الحق أين معالم الهدى فيجيبهم الرب تبارك وتعالى
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ } وهذا استدراك عظيم من رب رحيم {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ } آمن بأن الله لا رب غيره ولا إله سواه في السماء عرشه وفي كل مكان رحمته وسلطانه يحكم ما يريد يقدم من يشاء بفضله و يؤخر من يشاء من يشاء بعدله لا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله له الأسماء الحسنى و الصفات العلى أنزل الكتب بعث الرسل هو الرب وحده لا رب غيره ولا رب سواه هو الخالق وما سواه مخلوق وهو الرازق وما سواه مرزوق ثم جاء بعد ذلك ما يتبع الإيمان بالله لا يمكن أن ينفك عنه
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يوم لا يوم من جنسه بعده يحشر الله فيه العباد ويقوم فيه الأشهاد يظهر فيه الشهداء تنصب فيه الموازين ويكون فيه الصراط يقام فيه الحوض وفيه من الأهوال ما يشيب له الغلمان
تضع كل ذات حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد..(15/6)
{وَالْمَلآئِكَةِ} خلق من خلق الله خلقهم الله جل وعلا من نور لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون أطّت السماء وحق لها أن تئط والله ما من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا ً لله تعالى لو تعلمون ما أعلم لضحكتم ولا بكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعُدات تجأرون إلى الله تبارك وتعالى أثنى الله جل وعلا عليهم ثناء عاطر كرام بررة
ثم قال جل وعلا { وَالْكِتَابِ} كتب أنزلها الله جل وعلا فيها الهدى والنور سمى الله منها التوراة والإنجيل والقرآن والزبور فيها من المواعظ والرقائق و الهداية للخلق ما لا يمكن أن يحيط به أحد .
{ وَالنَّبِيِّينَ } بشر من الخلق اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بخصائص تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ما منهم أحد إلا ورعى الغنم يقبرون في المكان الذي ماتوا فيه خصهم الله جل وعلا بأعظم خصيصة وهي الوحي يتنزل عليهم من السماء هو دعاة للحق ومعالم على طريق الخير رحماء بالخلق أكرمهم و أعظمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه سمى القرآن منهم خمسة وعشرين والإيمان بهم جملة من أعظم أحكام الدين
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّه} كلمة على حبه أي أن يكون الإنسان صحيحا ً شحيحا ً يخشى الفقر ويرجو الغنى وهي أعظم مواطن العطاء ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى.. ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى ، وهذا أمر تعرفه العرب في كلامها في سنن كلامها كما ذكره في مدح هِرم بن سنان.
المقصود من هذا أن الإنسان إذا أعطى المال على حبه وقت تعلقه بالمال كيف به إذا كان المال قد تملكه وقتها يكون أعظم
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّه ذَوِي الْقُرْبَى} يقدم من قدم الله
{ وَالْيَتَامَى }: من لا كاسب لهم, وهم من مات آباؤهم وهم لم يبلغوا الرشد بعد
{ وَالْمَسَاكِينَ } : الذين يتعرضون للناس, أو يكونوا أخفياء
{وَابْنَ السَّبِيلِ } : المنقطع الذي انقطعت به السبل.
{ وَالسَّآئِلِينَ } : والسائل لا يسأل غالبا إلا عن حاجة.(15/7)
{ وَفِي الرِّقَابِ } : وهم المكاتبون.
{ وَأَقَامَ الصَّلاةَ } :أعظم أركان الدين على الإطلاق.
{وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ }: وهي منصوبة على الاختصاص, أي وأخص الصابرين.
{ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ }: فما البأساء؟
وما الضراء؟
وما حين البأس؟
البأساء: الفقر والعوز.
والضراء: الأسقام والأمراض والبلايا.
وحين البأس: أي وقت القتال.
البأساء: الفقر والعوز.
والضراء: البلايا و الأسقام والأمراض.
وحين البأس: أي القتال, وملاقاة العدو.
وكل هذه الصفات لا يمكن أن تكون إلا في قوم صدقوا.
والصدق مع الله جل وعلا أعظم المطالب وأدل البراهين على الانضمام لجند الله الغالبين, قال الله جل وعلا: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
قال الله{ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا }: أي صدقت أفعالهم أقوالهم.
{ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } : والتقوى لباس عام, جامع لكل خير؛ أن تعمل بطاعة الله, على نور من الله, ترجو ثواب الله.
وأن تترك معصية الله, على نور من الله , تخشى عقاب الله.
مثل هذه الآيات لا يمكن أن تشرح لغويا, ولا منزعا بلاغيا, لأنه خلق يتمثله المسلم, ويؤمن به, عقيدة يسلك به المؤمن إلى ربه تبارك وتعالى, آداب وقيم, وصلوات وعبادات, ومعالم يرشد الله بها الأخيار من عباده الطالبين معالي الأمور وحفظها والعمل بها من أعظم الضروريات للوصول إلى أعالي الجنات.
ثم بعد أن بين الله ذلك كله, ونشأ مجتمع مدني فيه هذه المنزلة العالية من الإيمان: جاءت الأحكام الشرعية التي لابد من إيضاحها للناس, قال الله جل وعلا{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }في اللغة يا بني:
القص: المماثلة.
القصاص هو: المماثلة, والإتباع. ( وقالت لأخته قصيه ): اتبعي أثره – كما هو ظاهر الآية قد ورد -.(15/8)
الله يقول: ( فارتدا على آثارهما قصصا ): أي يتبعون آثارا قد مضت وسلفت.
فهذا معنى المماثلة والإتباع, هذا في أصل اللغة.
يقول الله{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } : أي فُرض.
{ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى }هل صدر الآية منفك عن عجزها؟
أو أن صدر الآية متصل بعجزها؟
هذا مربط الفرس, ومعقد الأمر في فهم العلماء للآية.
[واضح]؟
فمن فهم أن صدر الآية منفك عن عجزها – عما بعدها -, بمعنى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }شيء مستقل لم ينظر إلى ما بعدها ولا إلى غيرها, فجعل القصاص في كل قتيل؛ حتى مابين الكافر والمسلم, لأنه أخذها بالعموم, وجعل ما بعدها إنما هو تأكيد وإجراء الكلام على مجراه وفق سنن العرب.
أما جمهور العلماء: فيجعلون صدر الآية مؤسس لما بعدها, فلا يقنعون بأن نقف عند قول الله جل وعلا وننهي الحكم في قولنا:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } , فلهذا استثنوا من ذلك أمور.
والحق والعلم عند الله, أن الله قال: ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ), وقال: ( ومن قتل مظلوما ) - ولم يحدد – ( فقد جعلنا لوليه سلطانا ), فلا يستثنى إلا من استثنته السنة, ومن استثنته السنة فريقان:
من استثنته السنة فريقان:
الفريق الأول:
الكافر إذا قتله مؤمن, فلا يقتل مؤمن بماذا؟ بكافر, إذ لا يقتل ولي الله بعدوه.
لا يقتل ولي الله بعدوه.
الحالة الثانية:
الوالد مع الولد.
كلمة الوالد: تشمل الأجداد وإن علوا.
فلا يقتل والد بولده.(15/9)
إلا أن مالكاً رحمه الله استثنى من هذه واحدة والنفس تميل إلى رأيه: أن الوالد إذا أخذ ابنه, وأضجعه للذبح, فذبحه بهذه الصورة, متعمدا, ليس عن حالة غضب, ولا عن حالة تأديب, وإنما باختياره, أخذه, وأضجعه, وذبحه, فقال مالك: بأنه يقتل به, وهذا القول تميل إليه النفس, لأن الأب في مثل هذه الحالة التي يفعلها جهارا عامدا تخلى عن أبوته, لكن الجمهور: لا يقتل والد بولده.
نعود فنقول: هذا خلاف في التأسيس.
أما قول الله جل وعلا { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى } فهذا سنن العرب في كلامهم.
لا يعني ذلك أن الأنثى لا تقتل بالذكر, أو أن الذكر لا يقتل بالأنثى.
كما أنه لا يعني أن الفرد لا يقتل بالجماعة, أو أن الجماعة لا تقتل بالفرد, لأن هذا فيه استباحة للدماء, وقد رفع لعمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أن غلاما من أهل صنعاء قتله سبعة, فقتلهم به, وقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به.
لأنه لو قلنا إن الجماعة لا يقتلون بالفرد؛ يأتي إنسان له عدو, فيذهب إلى رفقاء له, فيتفق معهم على قتل غريمه, حتى يستحيل شرعا قتلهم جميعاً به, فتهدر الدماء وتضيع أموال الناس, لكن يقتل الجماعة بالفرد كما يقتل الفرد لو قتل جماعة من باب أولى.
قال الله { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } : وهذه العلماء يستمسكون بها على أن أخوة الإيمان لا ينزعها شيء.(15/10)
{ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } : والمعنى: أنم الإنسان إذا تنازل عن حقه في القصاص فإن له أن يعطي الدية: فيكون الأداء من نفس صاحب الجناية بإحسان إليه, والناس في زماننا هذا سلكوا بها مسالك غير محمودة؛ وأنا وقفت على بعض أمور شرعية أو إدارية – يعني لا يحسن نشرها – لكن المبالغة في قضية الفدية أمر غير محمود شرعا, وصحفنا للأسف – هي مجرد ناقلة يعني – تعج بأخبار لا تحمد في هذا الشأن , فيقال إن فلانا يتنازلون أهل الميت إذا دفع لهم كذا مليون, عشرة أو اثنعش, أو غير ذلك وهذا أمر غير محمود, ولا أؤيد أن يسهم البعض فيه , وقد بينت هذا كثيرا في دروس لنا سلفت, لأن هذا فيه نوع من المتاجرة, لا بأس بالشيء المعقول, أو أن يطلب الإنسان القصاص الذي هو له, أما أن يأتي أقوام , أو قبلة أو أولياء دم يريدون أن يغتنون على حساب ميتهم, فهذا أمر غير محمود أبدا.
نعود فنقول قال الله جل وعلا : { ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }ثم قال الله { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } شرع الله القصاص حفظا للدماء.
والناس إنما يحتكمون في ثلاثة أمور:
الفروج.
والدماء.
والأموال.
ولا ريب أن المقصود بالآية أن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل قُتل, خاف على نفسه, فامتنع عن القتل فحُفظ ولهذا قال الله جل وعلا أن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.(15/11)
والتاريخ العربي الأدبي والسياسي, مليء بقضية إما عفو عند القصاص, وإما بقضية من ثبتوا عند الموت, أو بقضية من طلبوا بالقصاص, منها أن رجلا في أيام معاوية رضي الله عنه, أو قبل حكم معاوية, قتل رجلا من أهل المدينة كلاهما, فلما كانت ولاية معاوية رضي الله عنه وأرضاه, كان أهل الميت, أو ورثة الميت قد بلغوا سن الرشد, فذهبوا إلى معاوية, فأقدم القاتل بين يديه, فلما سأله معاوية ليعترف, قال: يا أمير المؤمنين! أتريد أن أعترف شعرا أم نثرا؟
قال: بل شعرا
فاعترف شعرا.
فلما اعترف شعرا؛ سلمه معاوية إلى ورثة القتيل, ليقتلوه على ما جرت به عادة الناس يوم ذاك, لأن هذا أمر مفوض للسلطان, فأخذه أولياء الدم, فلما خرجوا به إلى ساحة القصاص جاءت زوجته – أي القاتل المحكوم عليه بالقتل لتودعه - وقالت له توعده أنها لن تتزوج بعده , وكان فيها لمحة من جمال, فقال: والله ما هذا وجه من تريد أن تحرم من الرجال بعدي, فالمسكينة غلبت على أمرها؛ آمنت بقوله فجدعت أنفها, فلما راءها قال: نعم الآن اطمأنت نفسي, لأن مثلها لا ينظر إليها.
ثم ذهب إلى ساحة القتال, فحضر أمير المدينة آنذاك مشهد القتل, فجيء بالسياف الذي هو من الورثة, وجاء الأمير, وفتحت الساحة التي يقتص بها,, والحرس فرفع بصره إلى السماء وقال:
أذا العرش إني عائذ بك مؤمن **** مقر بزلاتي إليك فقير.
وإني وإن قالوا أمير مسلط **** وحجاب أبواب لهن صرير
لأعلم أن الأمر أمرك إن تَدِن **** فربٌّ, وإن ترحم فأنت غفور
ثم نادى صاحبه, قال: كيف ستضربني؟
فأخبره.
قال: لا ليس هكذا, فإني ضربت أباك ضربة لم يتحرك منها وعلمه كيف يقتله, يعني أين يكون محز السيف.
قال من شهدوه: لم يتحرك منه عضو.
يعني ثابت.
ومات.
وهذه يذكرها المؤرخون كما تجدونها في العقد أو في الكامل أو في غيرهما هذا من محفوظ القديم, لكن الشاهد منها تذكر كنماذج لمن ثبتوا عند الموت.(15/12)
أما قُدِّم آخرون للموت, وكان فصيحا بليغا فإذا في كفن, وجلاد, سيف, وقبور محفورة, فارتج عليه, قال الناس: وين فصاحتك؟ أين فصاحتك؟
قال: من أين الفصاحة؟
قبر محفور, وكفن منشور, وسيف ماذا؟
قبر محفور, محفور ( بالراء ).
وكفن منشور, وسيف مشهور , وسيف مشهور, من أين تأتي الفصاحة؟!!
وهو معذور.
وقد مر معنا في دروس عدة أن جميلا – أحد وجهاء العرب وفصحائها الخارجين على المعتصم – قدمه المعتصم للموت, فأراد المعتصم أن يعلم أين جنانه من لسانه!
وإذا بالنطع والجلاد.
فقال:
يا أمير المؤمنين! قبح الذنب, وكبرت الجريرة, والظن بك أن تعفو ثم قال:
أرى الموت بين السيف والنطع كامنا **** يلاحظني من حيثما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي **** وأي امرئ مما قضى الله يفلت!
يعز على الأوس بن تغلب موقف **** يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني **** لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم **** وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم **** وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة **** أذود الردى عنهم, وإن متُ موتوا
فقال: المعتصم: تركتك لله, ثم لمن؟
ثم للصبية.
وعفا عنه.
أقول التاريخ العربي - والمعاصر كثيرا - مليء بأحداث مثل هذي تبين أن الرجال يتفاوتون في هذه المواقف: موقف أن يرى الموت عيانا.
وقتل الميت عيانا يسمى في اللغة: قتله صبرا.
قتله صبرا.
والنبي صلى الله عليه وسلم قتل أحد خصومه صبرا في وادي الصفراء, وهو عائد من بدر , وكان يغلظ عليه ويسبه أيام دعوته الأولى, فقتله, وينسبون أشعارا إلى أخته, تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لصحة نسبة تلك الأشعار شيء من الضعف سندا.
الذي يعنينا كما قلت - أنا لا أستطيع أن أدخل في آية أخرى لارتباط الأحكام - لكن؛ مازلنا في دائرة القتل.
وقد مر معنا أن المقتول إذا وقعت الجريمة يتحرر منها شرعا كم حكم؟
ثلاثة.
الحالة الأولى:
أو ثلاثة حقوق.(15/13)
حق لله.
وحق – أيها المبارك – للورثة.
وحق لمن؟
للميت.
كيف نصل إلى إسقاط هذه الحقوق الثلاثة؟
حق الله يسقط بالتوبة, أو بمغفرة من الله بمشيئته, لأنه مندرج في قول الله: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به)
وحق الورثة؛ يخيرون؛ مابين ماذا؟
القصاص.
أو الدية.
أو العفو.
الحق الثالث: حق الميت.
وهذا لا سبيل لنا إلى معرفته.
متى يكون؟
يوم القيامة.
فحتى لو قُتل القاتل عمدا, قُتل واقتُص منه, لا يسقط حق الميت, لأن الميت في قبره لم يستفد شيئا من القصاص, وإنما استفاد الورثة, وإن أخذوا دية استفاد الورثة, فيبقى هذا الحق قائما, فإذا كان يوم القيامة, يسوقه إلى ربه ويقول: ي ارب سل عبدك هذا فيم قتلني؟
فإن كان الله قد تاب على هذا القاتل, سيجد الله لا محالة مخرجا لهذا القاتل, ويُرضي من؟ المقتول. وهذا لا يمكن أن يقع إلى بين يدي الله.
الله وحده المتكفل أن يرضيك ويرضي خصمك, أما عند الناس؛ لا يمكن أن يقع شيء من هذا أبدا.
هذه أمور القتل على وجه الإجمال؛ له ثلاثة صور من حيث الأحكام:
قتل ماذا؟
- عمد.
- وقتل شبه عمد.
- وقتل خطأ.
نص الله في القرآن على اثنين:
العمد, وشبه العمد, وسيأتي بيانها في تفسير سورة النساء.
العمد والخطأ.
أنا آسف.
العمد,وماذا؟
والخطأ.
أما شبه العمد؛ لم يتعرض الله له في القرآن, فلذلك أنكره مالك, ولكن جمهور العلماء - الأئمة الثلاثة - على أنها: عمد, وشبه عمد, وخطأ.
فقالوا في العمد: قتله بآلة يغلب على الظن أنها تقتل.
وقالوا في شبه العمد: ضربه بآلة يغلب على الظن أنها لا تقتل فقتلته.
وقالوا في الخطأ: ألا يتعمد قتله أصلا.
ومن شبه العمد الذي لم ينص الله عليه في القرآن لكن ألمح الله إليه, قتل موسى لمن؟ للغلام القبطي, قال الله : (فوكزه موسى فقضى عليه ), فإن موسى تعمد ضرب القبطي, لكنه لم يتعمد قتله.
تعمد ضربه لكنه لم يتعمد قتله, فهذا يسمى قتل ماذا؟
شبه عمد, ولا يسمى خطأ.(15/14)
ينجم عن ذلك أمور, يعني ينجم عن وقع الجريمة ثلاثة أمور:
- قلنا الحقوق الثلاثة –
لكن بالنسبة للقاتل:
ينجم عن ذلك أمور, يعني ينجم عن وقع الجريمة ثلاثة أمور:
- قلنا الحقوق الثلاثة –
لكن بالنسبة للقاتل:
* ينجم عنه أولا: الإثم: وهذا أعظم الأشِياء, وقتل النفس المحرمة من أعظم الذنوب.
* وينجم عنه بعد ذلك: أنه يحرم من الميراث إن كان أصلا ممن يرث من مقتوله.
* والأمر الثالث: أنه ينفذ فيه القصاص إن طالب به ورثة القتيل, أو الدية , أو عفو عنه.
فهذه ثلاثة تتعلق بالقاتل.
أما في شبه العمد ما الذي يسقط؟
يسقط القصاص.
يسقط القصاص.
لكن يبقى الإثم, وتكون الدية مغلظة.
أما في الخطأ فلا يوجد ماذا؟
فلا يوجد إثم.
لا يوجد إثم, لكن توجد دية, من يتحملها؟
عصبة القاتل.
من يتحملها؟
عصبة القاتل. ولا يوجد إثم, لكن لابد على القاتل شيء, ما عليه؟
الكفارة.إما عتق رقبة أو صيام شهرين.
إما عتق رقبة أو صيام شهرين.
وبعض العلماء عندنا في المدينة – أنا قلت هذا مرارا – جاءه رجل قتل أحدا خطأ, يعني بسيارة, فقال: ما علي؟
قال عتق رقبة.
- والرجل لم يكن مشهورا بالصلاح, والشيخ تفرس في هذا –
قال: أنى لي أن أعتق رقبة! – يعني : ما موجود - .
قال نعم ماذا نصنع يا شيخ؟
قال: صم شهرين متتابعين.
قال: فقط.
- استغلها الشيخ –
قال: لا بزيادة.
قال: ما الزيادة؟
قال: أن تفطر في الحرم.
- هذا لم يسأل ظنها لزاما, فشهران متتابعان أين يفطر؟ في الحرم وش بيسمع في الحرم!؟ آيات, وقرآن ودروس, فتغير حاله بالكلية –
طبعا هذا الجواب يعني يقبل إذا كان الشيخ على يقين أنه ممكن أن يبين بطريقته للرجل تعديل الحال لو تبين له أنه عاجز, أو تسبب في أنه أفطر, يعني هذه أمور تربوية, يعني يُلجأ إليها أحيانا.
المقصود من هذا كله, أن الله جل وعلا حرم الدماء.(15/15)
وقول الله جل وعلا { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } ، { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } كل ذلك من باب أن يسود في المجتمع الأمن, و تعم فيه الحياة, وأن يأنف الناس من أن يقتل بعضهم بعضا, لأن في إبقاء حياتهم نفع لهم, لأنفسهم, وطاعة لربهم.
هذا أيها المباركون ما تيسر إعداده, وأعان الله على قوله..
وفي اللقاء القادم نشرع في قول الله تعالى: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية )
إن شاء الله تعالى
نسأل الله لنا ولكم التوفيق
ونعتذر إليكم عن التقصير
وصل الله على محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..(15/16)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
تأملات في آيات الله /سورة الضحى
(وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))
الحمد لله الذي جعل حمده في أول الكتاب رحمته وجعل حمده أخر دعاء أهل جنته
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا رب غيره ولا إله سواه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد
هذا لقاء مبارك نشرع فيه إن شاء الله تعالى بتفسير سورة الضحى ..
سورة الضحى سورة مكية باتفاق وهي من أوائل ما أنزل
وقبل أن نشرع في الحديث عنها نبين أن الله تبارك و تعالى كان وما زال جل ذكره حفي بأنبيائه ورسله والصالحين من خلقه.
قال تعالى للخليل إبراهيم سلام الله عليه:( سلاما عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا)
وممن نال هذه الحفاوة بل نال الذروة فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ,
وهذه السورة المباركة التي نشرع في تفسيرها ومحاسن تأولها نقول:
ذكر أهل العلم إنها جاءت في انقطاع من الوحي , بمعنى أن الوحي أنزل أول الأمر على نبينا صلى الله عليه وسلم وتتابع قليلا ثم أنفك عنه , أي إنها أتت في مرحلة زمنية أختلف في تقديرها لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وحي , وكان ذلك سبباً في أن كفار قريش والقريبين منه المظهرين للعداوة له الله صلى الله عليه وسلم عيروه ولمزوه بانقطاع الوحي عنه , وقالوا: له أن ربك قد تركك وقلاك (بمعنى أبغضك) .(16/1)
وكانت الحكمة في تأخر الوحي أن الله جلا وعلا تعهد هذا النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه تعهد بتربيته ,فلما شعر صلى الله عليه وسلم في أول الوحي بنزول الوحي عليه كان يجتمع في قلبه أمران , لذة الوحي والهيبة والخوف من الملك لأنه أمر غير معهود له من قبل , فلما أنقطع الوحي ذهبت مظنة الخوف و أسبابه , وبقيت لذة الوحي ومناجاة الملك و استماع القرآن , فلما أصبح صلى الله عليه وسلم بقلبه شغوفاً من استماع الوحي كرة أخرى ,عاد الوحي إليه حتى يكون تلقيه للوحي صلى الله عليه وسلم أعظم من الأول وأجل, وهذا لا ينافي أنه عليه الصلاة والسلام في الذروة الكمال في جميع أحواله , لكن التدرج سنَّة ربانية, والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما كانوا يصنعون ما يصنعون بتعاهد الله جل وعلا لهم كما قال الله عن كليمه موسى ( و اصطنعتك لنفسي) وقال جل ذكره (وأصنع الفلك بأعيننا ) في خطابه لنبيه نوح عليه الصلاة والسلام.
والمقصود من هذا , هذا يعطيك الإطار العام الذي نزلت فيه هذه السورة المباركة
والمشهور أنها نزلت جملة واحدة وليس فيها شيء منسوخ قال الله جلا وعلا في صدرها ( والضحى والليل إذا سجى)
أشتق الاسم للسورة من صدر ما أقسم الله به وهو الضحى , والمقصود به هو ذلك الوقت التي ترتفع فيه الشمس ويمتد فيه النهار ويكون موطن انبساط الشمس وهذا الوقت وقت مبارك شرع الله فيه الأضحية التي هي ما يذبح من بهيمة الأنعام, فيقال لعيد الأضحى إنه عيد الأضحى لأن الأضحية الأصل إنها تذبح في وقت ارتفاع الشمس في هذه الفترة الزمنية المباركة ,كما أنها ليست وقت نهي للصلاة بل بارتفاع الشمس آنذاك ينتهي وقت النهي إلى زوالها ,آي أنها وقت للصلاة النافلة المطلقة , ويقال لمن أضحى للشمس أنه ضاحي أي برز لها قال الله جل وعلا في خطابه لأدم (أن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى *وإن أنك لا تضمأ فيها ولا تضحى ).(16/2)
ويقال للمنطقة السكنية الخارجة عن البلدة يقال لها ضاحية لأنها بارزة, يقال للحي السكني الخارج عن البلدة عن المدن عن القرى يقال له ضاحية لأنه بارز عنها, فأضحوا في اللغة بمفهومة العام هو البروز , فهذا الوقت وقت بارز لأن الشمس فيه بارزة , ويقال الشمس في رابعة النهار آي في ضحوة النهار على الأظهر.
ثم أقسم الله جل وعلا بالليل , لكنه أقسم بالضحى من غير قيد وأقسم بالليل بقيد قال جلا ذكره :( والليل إذا سجى)
وقوله جل شأنه ( إذا سجى) سجى بمعنى غطى وهذا يكون في حالة سكون الليل وسكون أهله واشتداد الظلام وعمومه , هذا هو الوقت الذي أقسم الله جلا وعلا به هنا , وقد مر معنا وسيمر معنا كثيرا أن الله يقسم بما شاء من مخلوقاته , فهنا أقسم بالضحى وأقسم بالليل حالة سجوه , قال جل ذكره :( والضحى والليل إذا سجى ) لماذا أقسم جل ذكره , ما جواب القسم ,
قال الله جل وعلا لنبيه ( ما ودعك ربك وما قلى) الوداع في اللغة يستخدم لمعنيين :
يستخدم بمعنى الترك فتقول لمن تريد أن تخاطبه دع عنك هذا الأمر أي أتركه.
ويستخدم للتشييع للمسافر , تشييع المسافر يسمى توديع ولكن تشييع المسافر يكون غالباً لمن تحب وترجوا أوبته وكل المعنيين تحتمله الآية .
على الأول يكون المعنى أن ما زعمه القرشيون الكفار أن ربك تركك, فهو أمراً منفي .
وعلى الأمر الثاني لا يكون رداً على المشركين إنما يكون إن الله جل وعلا عندما أخر الوحي عنك لا يسمى هذا توديعاً لأن المودع في الأصل المشيع يترك من شيعه .
فأنت عندما تشيع من تحب حتى يريد السفر تقصد بتشييعك له أنك لا تستطيع أن تسافر معه و إلا لا تصبح مشيعاً له , ومن زارك في بيتك عندما تشيعه إنك لا تستطيع أن تنتظم معه في ذهابه خارج منزلك فأنت تشيعه محبة وإجلال وإكراما رجاء عودته , لكن الله يخبر نبيه أي لم يكن ربك متخلي عنك أينما كنت أيها النبي , هذا معنى ما ودعك على المعنيين بمعنى الترك وبمعنى التشييع .(16/3)
(وما قلى) أي ما أبغضك وإنما حذف الضمير هنا والأصل ما( ودعك ربك وما قلاك )والكاف ضمير متصل في محل رفع مفعول به حذفت هنا للاشتهار وللعلم بها ,هذا أحد التخريجين .
والتخريج الأخر ليتناسب فواصل الآيات حتى تكون فواصل وخواتم الآيات متناسبة( والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى) والآية في مجملها تبين رفيع المنزلة وجليل المكانة وعظيم القدر لنبينا صلى الله عليه وسلم عند ربه , وهذا مبحث يذكره العلماء في كثير من المواطن وهذا أحد مواطن ذكره , في أنه صلى الله عليه وسلم كان في مقام عظيم جليل عند ربه ومازال حيا وميتاً ويوم القيامة ,أما حياً فإن الله جل وعلا خاطبه بـ( يا أيها النبي , يا أيها الرسول ) ولم يخاطبه باسمه المفرد ( يا نوح أهبط بسلام منا) (يا أدم أسكن أنت وزوجك الجنة) ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالات وبكلامي ) وهذا في القرءان كثير .
وقوله جل شأنه لما طلبت قريش العذاب قال لهم مجيباً ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) هذان دليلان...
و إلا ليس الموقف موقف حصر واستقصاء , وهو ميت صلى الله عليه وسلم , هو صلى الله عليه وسلم بجسده يعيش حياة برزخية الله أعلم بها , لكن جسده في حجرة عائشة في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة وهو عليه الصلاة والسلام على هذه الحال لا يملك لنفسه ولا لأحد يأتيه يزوره ضراً ولا نفعاً ولا موت ولا حياة ولا نشورا, لكن رفيع المقام أنه صلى الله عليه وسلم وهو ميت يذكر على المنابر وعلى رؤوس الأذان ينادى (أشهد أن محمد رسول الله ) كما قال حسان
فذا العرش محموداً وهذا محمد
صلوات الله وسلامه عليه..كما مر معنا في تفسير سورة القلم إن كل عمل صالح يعمله مؤمنو هذه الأمة يذهب مثل أجره له صلى الله عليه وسلم , وهذا معنى قول الله جل وعلا (وإن لك لأجراً غير ممنون).(16/4)
أما في الآخرة فإن الله قال له ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) وقال صلى الله عليه وسلم معنى الوسيلة ( فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لعبد صالح وأرجو أن أكون أنا هو) صلوات الله وسلامه عليه .
فهذا بعض احتفاء الله جل وعلا بهذا العبد الكريم والنبي الخاتم , وهذا المعنى العام لقوله ( ما ودعك ربك وما قلى)
ثم يخبر الله هذا النبي بقوله (ما ودعك ربك وما قلى* ولسوف يعطيك ربك فترضى* وللآخرة خير لك من الأولى)
وقول الله هذا (ولسوف يعطيك ربك فترضى) وعد من الله لنبيه إن الله سيرضيه , لكن من الخطأ كما فهم بعض الجهال أن هذا الوعد مطلق وغير مقيد, ومعنى مطلق غير بفهم البعض يقولون أننا نجترئ على المعاصي , فإن سألته عن السبب قالوا أننا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ,والله وعد نبيه أنه سيرضيه والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار , وهذا لزوم ما لا يلزم وتركيب غير صحيح ,لأن رضاه صلى الله عليه وسلم إنما يصنعه موافق لرضا ربه.
وقد حكم على أهل الضلال بالنار أي كانوا , وحكم لأهل الإيمان بالجنة أي كانوا , فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب .
نعم الأمة جملة أمة مرحومة برحمة الله لنبيها صلى الله عليه وسلم لكن لا يغتر جاهل بأن النبي صلى الله عليه وسلم فيقول على الإطلاق لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار , فيتجرأ على المعاصي بهذه الحجة , هذه حجة باطلة ,
فرضاه صلى الله عليه وسلم يتبع لرضا ربه جل وعلا.
( ولسوف يعطيك ربك فترضى) نقول ذكر الله هنا حرفان مثل الفعل قال ( ولسوف) طبعاً الواو عاطفة لكن الحرفان الذي نعنيهما هنا هما ( اللام – وسوف)(16/5)
سوف حرف تنفيس معنى أن هذا العطاء سيكون متأخراً بعض الشيء ,وحتى لا يقع في قلبه صلى الله عليه وسلم ولم يقع أن هذا التأخر قد لا يأتي به العطاء , قال الله جل وعلا(ولسوف) فأكدها باللام حتى يجبر قضية التأخير , التأكيد باللام حاجته نفسية بلاغية يجبر التأخير, فهذا اللام للتأكيد لأن هذا الوعد الرباني لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وعد حاصل وإن تأخر , لكن هذا التأخير يتأخر لحكمة وينبغي أن تعلم أن الله جل شأنه لا يعجل لعجلة أحد من خلقه ( ولسوف يعطيك ربك فترضى) ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الراضين عن الله جل وعلا .
والرضا عن الله والرضا لله والرضا بالله هي مقامات الأنبياء ومن تبعهم بإحسان جعلنا الله وإياكم منهم.
مما أعطاه الله جل وعلا لنبيه فرضي,ما أكرمه الله جل وعلا به من الفتح في الدين ودخول الناس في دين الله أفواجاً ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ), هذا القرآن الذي جعله جل وعلا معجزة له صلوات الله وسلامه عليه وخصه به من دون غيره من الأنبياء فلا يرقى ولا يصل أي كتاب وإن كان عظيماً من الكتب السابقة التي نزلت على الأنبياء والرسل لا تصل إلى أن تكون كمثل هذا الكتاب العظيم الذي جعله الله جل وعلا مهيمن على الكتب كلها
جاء النبيون بالآيات فانصرمت*****وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كل ما طال المدى جدد*****يزينهن جلال العتق والقدم
أوكل الله جل وعلا إلى اليهود والنصارى حفظ التوارة والإنجيل قال الله جلا وعلا :( بما أستحفظوا من كتاب الله)
فأوكل حفظ الكتابين لهما فأضاعوهما إلا قليلا,
وتعهد الله جل وعلا إكراماً لنبيه تعهد بحفظ هذا الكتاب وهذا من القضايا الربانية والإلهية لهذا النبي الخاتم ( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون )فهذا من جملة عطاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم(16/6)
وأعظم العطايا ما يكون في الآخرة وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه النبيون والمرسلون قال صلى الله عليه وسلم :( لواء الحمد بيدي ما من نبي فمن أدم فمن سواه إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ) صلوات الله وسلامه عليه
وصدر الحديث (أنا سيد ولد أدم ولا فخر)
عليه الصلاة والسلام ( ولسوف يعطيك فترضى) ومع تلك العطايا التي ستأتيك في الدنيا
بأن الله جل وعلا يقول لنبيه( وللآخرة خيرا لك من الأولى)
قطعاً إذا أراد الله بعبد خيراً فأخرته خيراً من دنياه مهما أعطي من عطايا دنيوية
وليس بعد سليمان في العطايا الدنيوية المحضة فقد أعطاه الله ملك لم يعطى أحد من بعده وعلمه منطق الطير صلوات الله وسلامه عليه ومع ذلك فإن الآخرة لسليمان خير من الأولى رغم ما أعطي فيها من الأولى ( وللآخرة خير لك من الأولى)
لكن هذا الوعد الإلهي لهذا النبي الخاتم جعل هذا النبي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا ويقول إنما أنا عبد , وخيّر ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة في أخريات حياته فأختار لقاء الله ثم الجنة ,
وقال لعمر لما دخل عليه وقد أثر الحصير فيه ( أفي شك أنت يا أبن الخطاب أولئك أقوام عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)
وإنما كان صلى الله عليه وسلم ينشد الآخرة وما فيها , وهذا الذي ينبغي للعبد ومع أن الله جل وعلا قال ( ولا تنسى نصيبك من الدنيا) قال بعض العلماء النصيب من الدنيا هو الكفن وإن كان في هذا القول كما مر معنا مراراً فيه نوع من التشديد لكن المقصود الإقلال من الدنيا قدر الإمكان.
وفي قوله جلا شأنه( وللآخرة خير لك من الدنيا) هذا يسمى عند البلاغيين طباق ( الآخرة) وذكر (الأولى ) لأن كل منهما ضد للأخرى يقال له طباق .
ثم قال الله جلا وعلا :( ألم يجدك يتيماً فآوى) الهمزة للاستفهام (يجدك يتيماً فآوى)
نشرع أولاً في قضية اليتم عموماً
اليتم باللغة الانفراد ,
يقال بيت يتيم آي لا مثيل له من الشعر,(16/7)
وفي الاصطلاح :أنفاك الشيء عمن يعهد ويرعاه
لكنه يختلف بعد ذلك اختلافا واسعاً
لما كان الأب في بني أدم هو الذي يرعى ويتعهد الأبناء والبنات يسمى من فقد أباه من بني أدم يتيماً لأن مسألة الرعاية والعهد موكولة للأب ,
أما في الحيوانات فإن النتاج من الحيوانات لا يعرف أباه , وهذا أمر مشاع ومعلوم بالحس لأن الطرق يكون للذكر من الأنثى وينتهي مهمته ثم تتعهد الأنثى بذلك النتاج , فلا يقال لمن فقد أباه من الحيوانات يتيماً لأنه لم يفقد من يرعاه , وإنما يقال له يتيماً إذا فقد أمه ,
أما الطير فيشترك الذكر والأنثى , يشتركان في رعاية النتاج بعد خروجه , فلا يقال له يتيم إلا إذا فقد الذكر والأنثى إذا فقد أبويه الطائر يسمى يتيماً.
هذا من باب التوسع بمعنى اليتيم, على هذا ما يستخرج من البحار من الآلئ التي في ما يحيط بها إذا انفكت تسمى درة يتيمة آي منفكة من أصلها منفكة عن الغطاء والمجن الذي كان يحميها فإذا خرجت عنه تسمى درة يتيمة.
الآن تخرج المعاني هذه على الآية (ألم يجدك يتيماً فآوى)
الأصل نخرجها على الحقيقة وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يتيماً قطعاً, يتيم بفقده لوالده عبد الله .
والنبي صلى الله عليه وسلم أسم أبيه كما هو معلوم عبد الله بن عبد المطلب
و عبد الله المشهور أنه كان أصغر أولاد عبد المطلب وقيل غير ذلك , مات ونبينا صلى الله عليه وسلم على الأظهر وهو حمل أي لم يولد بعد , وقيل إنه مات بعد ذلك بشهرين ,أي بعد ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين , مات في المدينة وقبره معروف فيها هذا عبد الله , أما أمه فماتت بالأبواء وقبرها بين مكة والمدينة , لكن الذي يعنينا هنا أبيه موت أبيه , فهو يتيم حقيقة صلى الله عليه وسلم ,
وكان يعرف بيتيم أبي طالب ,لأنه انتهت كفالته إلى عمه أبي طالب فكان يعرف في قريش بيتيم أبي طالب ,هذا معنى تحتمله الآية(16/8)
وتحتمل المعنى اللغوي اليتيم لا على المعنى الاصطلاحي.أنه صلى الله عليه وسلم كان منفرداً عن قريش لا نظير له في قريش , فمعنى( آواه )اجتباه لأنه لا مثيل له فجعله نبياً ورسولاً, لكنني لا أذهب إلى هذا القول ولا اختاره عمداً, لأن النبوة فضلاً محض والله جل وعلا لم يختر نبيه لأنه ميز عن قريش إنما أصلاً الله جل وعلا حفظه و اعتنى به من قبل ذلك لا لأمر ظهر عليه صلى الله عليه وسلم فاختاره الله من أجله فالنبوة فضلاً محض قال الله جل وعلا:( الله أعلم حيث يجعل رسالته)
ويؤيد هذا القول الذي ذهبنا إليه لا ما قيل مؤخراً (أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح :إني عند الله لخاتم النبيين وإن أدم لمجندل في طينته) لكن المعنى مقبول هذا الذي ذهبوا إليه قول جيد , لكن قلنا لا نختاره لأنه يصرفنا عن معنى أهم وأعظم . فيصبح معنى قول الله ( ألم يجدك يتيماً فآوى) أي نشئت يتيماً حقيقة فآوى أي آواك بأن جعلك تحت كفالة أمك ثم تحت كفالة جدك ثم تحت كفالة عمك وفي كل الأحوال كان الله جل وعلا يسخر قلوبهم لك , فضلاً عما كان الله جل وعلا يعهدك به ويحيطك به من عناية , حتى أتم الله لك الفضل في بعثتك أيها النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه هذا معنى (ألم يجدك يتيماً فآوى)
( ووجدك ضالاً فهدى)(16/9)
وهذه هي التي تشكل على الناس كثيراً ويكثر فيها السؤال , نعطي الجواب الحق الذي لا ينبغي الحيد عنه , ثم نقول بعض مما قاله العلماء الجواب الحق معنى ضال هنا أي متوقف , تعلم أن قومك على الباطل لكن لا تدري أين الصواب أين الدليل , إنك تعلم إن قومك على الباطل إنك لم تشاركهم في عبادتهم و إلا لو كنت تعلم إنهم على حق كنت فعلت كما فعلوا لكن كونك لم تعبد ما عبدوا يدل على إنك كنت تعلم إن قومك على الباطل لكن كذلك لا تعلم أين الحق لا تعلم ما الطريقة المُثلى التي ينبغي أن تمضي عليها ويؤيد هذا المعنى وهو الحق ولا ريب وهو قول ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) هذا معنى ضالاً وقد قلنا ضالاً في دروس سبقت تأتي في القرآن على ثلاثة معاني
الضلال : بمعنى الكفر . فيكون ضد الهداية والإيمان وهذا أكثر استعمال القرآن لهذا اللفظ
وتأتي بمعنى الاضمحلال والذهاب قال الله جل وعلا :( ألم يجعل كيدهم في تضليل) وقال الله على لسان القرشيين ( وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض) آي ذبنا فيها.
والمعنى الثالث يكون بمعنى التوقف وعدم إصابة عين الشيء وهو المقصود هنا ( ووجدك ضالاً) ماذا صنع بك جل ذكره ( فهدى) فهداك بعد أن كنت حائراً لا بعد أن كنت كافراً
والحائر ماذا؟ شخص متوقف .
هنا ينبغي أن تعقد خنصرك على هذه المعاني لأن ما سيأتي بعدها مناسب لها ثم قال جل ذكره ( ووجدك عائلاً فأغنى) العائل بالاتفاق الفقير وفي الحديث ( عائلاً مستكبر) آي فقير مستكبر.(16/10)
(فأغنى) آي جعلك غنياً وليس المقصود بغني هنا الغنى الفاحش , إنما جعلك غني النفس يعني عندك من المال ما يكفيك بأن سخر لك خديجة بنت خويلد لما تزوجتها ولهذا قال بعض العلماء أن هذه المنن الثلاث كلها تتكلم عن حال النبي قبل البعثة (عائلاً فأغنى) قال بعض أهل العلماء هذا جيد فجمع الله لنبيه الخصيصتين العظيمتين ( الغني الشاكر والفقير الصابر) و بكلٍ من هذين الحالتين تلبث النبي النبي صلى الله عليه وسلم مراحل حياته (ووجدك عائلاً فأغنى) لم يترك له أبوه إلا جارية وفرس أو ناقة وجارية ( التي هي أم أيمن)
ثم إنه صلى الله عليه وسلم منَّ الله عليه بأن تزوج خديجة فتغير حاله ( ووجدك عائلاً فأغنى) بعد أن ذكر الله منَّته الثلاث وهي رؤوس المنن على هذا النبي الكريم قال له ( فأمَّا اليتيم فلا تقهر) مناسبة لآياً مناسبة للأولى ولقد ذاق النبي جرعة اليتم فكان عليه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أحن الناس على اليتيم ..
لقد جاء القرآن العظيم بالوصايا باليتيم في مواطن كثيرة سيأتي تفصيلها في حينها عند دخولنا في السور التي تُعني بقضايا التشريع كسورة البقرة( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين),,( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) وغيرها من الآيات التي نظمت أحوال الوصايا على اليتامى
(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)وهذا كله سيأتي في حينه(16/11)
لكن المقصود هنا قال الله ( فأمَّا) وهي تفصيلية (فأمَّا اليتيم فلا تقهر) والقهر يكون بالقول والعمل , بخلاف النهر لا يكون بالقول , أما القهر يكون أذي بالقول والفعل, فقال الله لنبيه (فأمَّا اليتيم فلا تقهر) وهنا قال صلى الله عليه وسلم :( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار بإصبعيه السبابة و الوسطى )ليبين القرب بينهما وعلو منزلة كافل اليتيم , المقصود (فأمَّا اليتيم فلا تقهر) هذه مقبلة لقول الله جل وعلا (ألم يجدك يتيماً فآوى) .
ثم قال جل وعلا( وأمَّا السائل فلا تنهر)
هنا تنيخ المطايا قليلاً ضرورة لا تعجل كما عجل غيرك ففهموا أن المقصود بالسائل طالب المال طالب الصدقة وهو لا ينصرف هنا إلى ذلك لأن هذه الثانية مقابلة لقول الله جل وعلا(ووجدك ضالاً فهدى) فالسائل هنا السائل عن العلم المسترشد عن العلم لأنها تقابل قول الله جل وعلا(ووجدك ضالاً فهدى) لكن نقول من حيث اللغة تحتمل المعنيين تحتمل السائل الذي يطلب الصدقة من حيث العموم وتحتمل بصورة أولية السائل عن العلم أو المسترشد عموماً عن ضياعه في طريق أو ما أشبه ذلك أو المسترشد عموماً فهذا معنى قول الله جل وعلا( أمَّا السائل فلا تنهر) فدله وأقبله , لكن كلمة فلا تنهر قرينة أقوى لدلالة على السائل الذي يطلب الصدقة لأنه يكون ضعيفاً ,
لكن نقول جملة ::
إن الدلالة العامة للآيات تدل على إنه يدخل بصورة أولية السائل عن العلم ثم المسترشد عن شيء فقده وهذا معنى قوله ( فوجدك ضالاً فهدى) يعني قريب من هذا المعنى , ثم السائل سؤال شفقة وإحسان كطالب الأموال وطالب الصدقات وطالب الطعام يدخلون جملة , وهذا من عظمة بلاغة القرآن إنه ألفاظه تكون يسيرة لكنها تحوي ضمن معاني عظيمة,(16/12)
ثم قال جل شأنه (وأمَّا بنعمة ربك فحدث) وهذه توافق قول الله جل وعلا( ووجدك عائلاً فأغنى) فهم بعض العلماء أن النعمة المقصود بها هنا النبوة , ولا ريب أن النبوة أعظم النعم بالاتفاق , لكن القرينة هنا تدل على أنها نعمة المال لكن تدخل فيها كل نعمة , لأن كل فضل يسمى نعمة مضافاً إلى الرب جل وعلا باعتبار أنه من الله فنقول معنى قوله جل شأنه ( وأمَّا بنعمة ربك فحدث) لا يكون الحديث بذكر الثروة فهذه فجفجه ينزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها , ومن الأدلة أنها ليست مقصودة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعلها , ولو كانت هي المقصودة لفعلها لأنه سيمتثل لأمر ربه, فلا بد من معنى آخر والمعنى الآخر هو إظهار إنه على يسر حتى لا يزهد فيه الفقير فلا يطلبه وحتى يطلبك الفقير لا بد أن تبين بطريقة أو بأخرى أنك تعيش بفضل الله جل وعلا ونعمته هذا على القول بأن النعمة المقصود بها قصداً أولياً قضية المال, لكن قلنا ما يدخل فيها النبوة لكن ما تدخل بصورة أولية , أما التحدث بنعمة النبوة بالدعوة إلى الرب جل وعلا ,وعلى العموم الضابط في قضية الحديث عن النعمة أن يكون وراء ذلك مصلحة شرعية يكون يحسن الحديث بالنعمة , فمثلاً تجلس عند من يزهد بالسنن فيقول جاء بالسنة كذا وكذا من يقدر على هذا , هذا صعب , هذا محال ,هذا انتهى في زمن الصحابة أو كلمات تشبهها فالسامعون لهذا المتكلم لربما جنحوا لعدم فعل تلك الطاعات اعتقاداً منهم أن قوله صواب , وقد تكون أنت ممن وفق لهذه الطاعة فتذكرها هنا وتصر عليها على أنها نعمة من الله عليك تحدث بها حتى لا تقطع على الناس السبيل في أنهم لا يقدرون على ذلك الفضل ,ويظهر لي أن ذلك واضح جلي, حتى لا تقطع عليهم السبيل كما يأسهم ذلك فتداركهم أنت بذكر ذلك الحديث(16/13)
وأذكر أنني كنت ذات يوم عند أحد أفاضل العلماء فجاء من يزهد في حديث ( من صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) أو كذا فضل مذكور , فالرجل كان يزهد في المسألة وأنا اعلم ذلك الشيخ شيخ عابد يعني يجمع إلى العلم الكثير من النوافل, فلما أكثر من تكرار ذلك الأمر أمام الطلاب , قال الشيخ إنه يسير على من يسره الله عليه فعلته كذا مرة , هو لم يقصد أن يثني على نفسه ولم يقصد الرياء , لكن يقصد ما فهمناه الآن..
من هذه الآية وهي قضية التحدث بنعمة الله حتى لا يأتي زمان لا يفعل الناس فيه شيء من الصالحات من باب أنهم يزهدون فيها بأنه لا يقدر أحد على أن يصنعها , ولهذا يحسن بالمرء وخاصة إذا كان لا يخشى على نفسه الفتنة إذا حدث بمثل هذا إذا كان يثير العزائم والهمم في نفوس طلابه , شريطة أن يكون طلابه والسامعون يرفقون به فلا يفهمونها أنها مدح له , إنما يفهمون منها سنة يمكن أن يحصل المرء عليها , هذا الذي نقول إجمالاً في قول الله جل وعلا (وأمَّا بنعمة ربك فحدث).
نعود فنتكلم إجمالاً عن هذه السورة ,
هذه السورة مكية جاءت قصار الآيات يتبع بعضها بعضا تقرر أموراً عظاماً من الملّة ألا وهي عناية الله بهذا النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه وإنه رفيع المنزلة , وتطمئنه في أول أيام الدعوة أنه ظاهر منصور مؤيد من الله تبارك وتعالى وإن الرضا سيملئ قلبه وإن طرائق الخير إليه ستكون متتابعة الأدنى فالأعلى حتى يبلغ الذروة , فالوسيلة يوم القيامة ولن يصل إليها إلا في مشهد يوم القيامة لكن يتدرج صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليها(16/14)
وإن العطايا الإلهية لأي عبداً كان لا تكون جملة واحدة وإنما الله جل وعلا يربي عباده والصالحين من خلقه يعطيهم تدريجياً ويقلبهم من مننه وعطاياه ما يصلون به عند الكمال إلى ذروة ما يريدون فلا يموتون إلا وقد أتم الله عليهم النعمة , لكنك ترى أهل الدنيا بعضهم يعطى العطايا في أول أمره, فإذا أزف الأجل ودنى الرحيل يكون قد سلب كثيراً من تلك العطايا , ولهذا تفقه قوله صلى الله عليه وسلم في دعاءه ( اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا وأجعلها (أجعله =وكل المعنيين صحيح)الوارث منا) أي نموت وهن باقيات أحياء قد مُتعنا بها , فالمقصود من كمال عطاء الله جل وعلا( وقد يبتلي الله بعض عباده بغير هذا) لكن من كمال عطاء الله أن التتويج يكون في الأخير بالذات التتويج المعنوي في العطايا فيموت الإنسان وقد أعطي أما جسديا فبديهي أن الجسد في أخريات العمر يصيبه ما يصيبه من قرب الأجل كما قال الله جل وعلا ( من بعد ضعفا قوه ومن بعد قوة ضعفا وشيبه ويخلق ما يشاء) المقصود التدرج في العطايا الإلهية والمنح الربانية ممن يريد الله جل وعلا من عباده...
ثم بين الله جل وعلا في السورة كذلك أن هذا الذي خلق أن يحيا بين الناس فحتى يستطيع أن يكون رءوفاً بالخلق لا بد أن يمر ببعض الأمور فنشأ يتيما فقيراً حائراً حتى بعد ذلك إذا خالط الناس أشفق على الفقراء وأجاب السائلين والمتحيرين , وفي نفس الوقت رحم وعطف على المساكين والفقراء , فنبي الأمة لم يكن يعيش في برج عاجي منفك عن الخلق إنما كان يعيش في مجتمع يتراحم أفراده ويتعاضد آحاده برحمة هذا النبي الكريم لهم صلوات الله وسلامه عليه
هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن هذه السورة المكية التي منّ الله جلا وعلا علينا بتدبرها وتأملها في هذا اللقاء المبارك سائلين الله جلا وعلا لنا ولكم التوفيق ونرجوا من الله أن يكون في ما قلناه بلغة ونفعاً إلى حين......(16/15)
تأملات في سورة [ الأعراف ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون فهذا هو اللقاء الأول في هذا المسجد المبارك ، حول تفسير كلام ربنا جل وعلا و قبل أن نشرع فيما نود تفسيره نبين أمورا بأن هذه التفسيرات أشبه بالتأملات والتعليقات على كتاب رب العالمين جل جلاله ، والمقصود الأسمى منها الناحية العلمية وتبقى الناحية الوعظية فيها تبعا للناحية العلمية ، فالمخاطب بهذا الدرس طلبة العلم في المقام الأول ولهذا فإن التفصيل في بعض القضايا أمر ملح ، فليس المقصود الوعظ المحض وإنما المقصود إيجاد جيل علمي يفقه كلام الرب تبارك وتعالى ومتى وجد هذا الجيل تبوء الصدارة في الأمة ونفع الناس لأنه لا يعقل أن يتصدر إنسان لتعليم الناس وهو يجهل ما جاء في الكتاب العظيم من آيات بينات وعظات بالغات يهذب الله بها خلقه ويرشد الله جل وعلا بها عباده ولقد قال الله جل وعلا في كتابه " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكِر " قال العلماء في تفسيرها : إن من تفسيرها أن علم التفسير علم يعان عليه صاحبه . وهو أجل العلوم وقد بينا هذا كثيرا في دروس سابقة نشرت وإنما أجدد التذكير بها ، على أننا ونحن نفسر سنقف عند آيات معينة نختارها من السورة التي نفسرها وربما تستغرق السورة الواحدة عدة دروس وربما تستغرق السورة درسا واحدا بحسب ما فيها والله جل وعلا ذكر أن كتابه مثاني أي يثني .. يذكر .. يفصل ما كان فيه إجمالا ويبين ما كان فيه مبهما ، ويبسط الله جل وعلا الحديث عن موضوع ، ثم يقوله باختصار في سورة أخرى وهكذا ... فعلى هذا سنقف عندما نرى أن(17/1)
الوقوف عنده ملزم ، وما كان غير مكرر في القرآن فهذا يجب الوقوف عنده فمثلا : في سورة يوسف لم تتكرر قصة يوسف إلا في سورة واحدة فلا ينبغي تجاوزها إذا وصلنا إلى السورة بخلاف غيرها كقصة موسى مثلا : وردت في عدة سور من القرآن الكريم .
هذه مقدمة يظهر من الواجب التذكير بها ، أما السورة التي سنبدأ بها هذه الدروس سورة الأعراف .
ونبدأ بسورة الأعراف لأننا انتهينا في المدينة إلى سورة الأنعام ، فنستهل هنا سورة الأعراف وإن كنت قد بدأت في المدينة قبل أسبوع تفسير الجزء السابع والعشرين وأنهيناه ، والآن نبدأ بسورة الأعراف في هذا المسجد المبارك ونمضي بها إلى ما شاء الله تبارك وتعالى .
وقبل أن نشرع في اختيار الآيات من السورة يجب أن تعلم أنه حتى تفقه القرآن تبدأ به بنظرة كلية ثم تصغر هذه النظرة حتى تصل إلى الزبدة التي تريدها ، وسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية إلا بضع آيات منها وهي قول الله تبارك وتعالى:" واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر .." فهذه القصة ذكر أنها نزلت في المدينة ، أما السورة إجمالا فهي سورة مكية ، والقرآن المكي له خصائص تختلف عن القرآن المدني لأن القرآن المكي يهتم بقضايا ثلاث :
1ـ إثبات التوحيد والربوبية والألوهية لله .
2ـ ذكر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
3ـ البعث والنشور وأهوال اليوم الآخر .(17/2)
هذه هي قضايا القرآن المكي على وجه الإجمال ويندرج فيها قضايا : كتذكير الله بنعمه على خلقه وهذا يندرج في إثبات التوحيد ، أما القرآن المدني : فإن أكثره تشريع وأحكام وفقهيات كما في البقرة وآل عمران وحديث عن السير والغزوات التي كانت في أيامه صلوات الله وسلامه عليه في المدينة ، وقد بينا في دروس سابقة أن القرآن المكي والقرآن المدينة أو السور المكية أو السور المدينة ، أو بتعبير أقل اختصارا الآيات المكية والآيات المدينة ، في تسميتها هذه خلاف طويل بين العلماء لكن المقصود بالمكي : ما نزل قبل الهجرة .
والمقصود بالمدني ما نزل بعد الهجرة ،هذا أرجح الأقوال على هذا قلنا مرارا إن قول الله جل وعلا :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " آية مدنية رغم أنها نزلت في جوف الكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم آخذ بعضدتي باب الكعبة أنزل الله جل وعلا قوله :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " فخرج إلى الناس ونادى عن بني شيبة وأعطاهم مفتاح الكعبة تنفيذا للآيةفالآية نزلت في مكه بل في الكعبه لكنها تسمى آية مدنية لأنها نزلت بعد الهجرة ، فسورة الأعراف من حيث الجملة سورة مكية وهي من أطول سور القرآن المكي وعدد آياتها مائتان وست آيات .
قلنا : إنها جملة مكية إلا بضع آيات منها ، هذه السورة بدأها الله جل وعلا في إثبات صدق هذا الكتاب وما فيه من خير عظيم وختمها بقوله تبارك وتعالى :" إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " وختمها بآية سجدة وبحسب ترتيب المصحف هذه الآية ـ آية السجدة في الأعراف ـ جاءت آخر آية في السورة لكنها من حيث ترتيب المصحف هي أول سجدة في القرآن .
وما بين فاتحة السورة ومابين خاتمتها تضمنت السورة جملة من القضايا منها :(17/3)
خلق آدم عليه السلام،أبو البشر وما ذكر الله ـ جل وعلاـ فيها من قصته مع إبليس،ثم بعد ذلك خاطب الله ـ جل وعلا ـ بني آدم بصفة أن آدم أبوهم ، خاطبهم - جل وعلا- وناداهم بأربع نداءات :
1ـ " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا .."
2ـ " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة .."
3ـ " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد .."
4ـ " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي .." إلى آخر الآية .(17/4)
وذكرهم الله - جل وعلا- بأربع نداءات ، ثم إنه - جل وعلا- فصل ما أجمله في الأنعام لكن هنا التفصيل ليس بترتيب النزول ، أنا أتكلم عن ترتيب المصحف و إلا الأعراف سورة مكية والأنعام سورة مدنية ، فعلى هذا سورة الأعراف جاء فيها ما أجمله الله في الأنعام ، الله في الأنعام ذكر الرسل جملة :" وتلك حجتنا آتيناه إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين " هؤلاء ذكرهم الله جملة ثم جاء في الأعراف بحسب ترتيب المصحف بدأ يفصل فلم يذكر في الأنعام قصة نوح ولا موسى ولا غيرهما ، ثم بدأ يفصل بدأ بالأعراف ففصل فيها قصة نوح وقصة هود إلى عاد وقصة صالح إلى ثمود وقصة لوط إلى أهل سدوم وقصة شعيب إلى أهل مدين وقصة موسى إلى فرعون وبني إسرائيل ، فهؤلاء ستة من الأنبياء ذكر الله - جل وعلا- خبرهم تفصيلا فيصبح ترتيب المصحف أنه أجمل في سورة الأنعام ، وفصل في سورة الأعراف ، ثم ذكر الله - جل وعلا- في السورة بعضا من آياته الدالة على عظيم خلقه وأعاد فيها أن أحدا لا يملك نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، تأكيدا للتوحيد ، هذا كله عن سورة الأعراف جملة ، بعد هذا التصور الكامل عن السورة ننتقل إلى اختيار بعض الآيات المتعلقة بتفسيرها
قال الله جل وعلا : بسم الله الرحمن الرحيم :" المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين "(17/5)
هذا أول السورة وأنا لا أبدأ تفسيرا قبل أن أفسر أول آية في السورة نفسها لأنها مفتاح ، قد نتجاوز بعض الآيات نعم ، لكن أول آية في السورة لا بد من تفسيرها لأنها مدخل ( المص ) هذه من الحروف المقطعة وقد مرت معنا في دروس سابقة وأنا أتكلم إجمالا باعتبار التدريس العام ، مرت بأنها من الذي اختص الله بعلمه هذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر .
" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين "
معنى الآية : هذا كتاب وحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه على قول الكسائي ومن تبعه ، والمعنى أن هذا الكتاب المقصود به : القرآن ، وقد نُكٍّرت هنا ( كتاب ) لدلالة التعظيم ، أي أن هذا الكتاب أعظم من أن يعرف ، فإذا عرف في آية أخرى فباعتبار علانيته واشتهاره ،(17/6)
" كتاب أنزل إليك " المخاطب في المقام الأول هنا النبي صلى الله عليه وسلم :" فلا يكن في صدرك حرج منه " فسر ( الحرج ) بأحد تفسيرين: 1/ فسر بالشك ، فيصبح معنى الآية هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه . وإذا قلنا بهذا التفسير يصبح هذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى :" فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك .." لكن اختار جمهور العلماء على أن المراد بالحرج هنا الضيق ، فيصبح معنى الآية فلا يكن في صدرك ضيق منه ، هذا الضيق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جبل على ضيقة الصدرهذا محال ، لأن الله هيئه صلى الله عليه وسلم لأن يختم الله به النبوات ويتم به الرسالات ، وليس في القرآن أصلا ما يدعوا للضيق في المؤمنين ، إذا أين ينجم الضيق ؟ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل لا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله فالعرب أفصح البلغاء وأبلغ الفصحاء ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، أين ينجم الضيق؟ ينجم الضيق مثالا: كالطالب الذي عندك تعلمه فأنت لا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، المسألة الواضحة التي بينة ظاهرة لا تحتاج إلى علم فيأتي إنسان لا يفقها يصيبك ضيق أو حرج في صدرك ، فالضيق الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة ومع ذلك لم يؤمنوا به ونجم عن هذا ضيق في صدره فالله يقول له : فليكن صدرك منشرحا بهذا القرآن لأنه أجل كتاب وأعظم منزل به الهداية والرحمة لكل أحد ، أراد أن ينتفع به وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك،" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه " ثم ذكر العلة من إنزاله " لتنذر به " فاللاام هنا :لام التعليل ولهذا جاء الفعل بعدها منصوبا:" لتنذر به وذكرى للمؤمنين " لم يقل الله هنا تنذر به من ؟ أي(17/7)
لم يقل الله من المنذَر في القرآن لكن لما ذكر الذكرى قال :" وذكرى للمؤمنين " إذا من المنذر بالقرآن ؟ أعظم قواعد العلم :أن القرآن يفسر بالقرآن ، والله يقول :" فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا " المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم " لتنذر به قوما لدّا " أي لتنذر به الكافرين، وذكرى للمؤمنين ، والإنذار في اللغة : هو الإعلام المقرون بالتهديد، على هذا تنجم قاعدة أن كل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذار، فإن قال قائل : إن الله قال في آية أخرى أنه يُنذر بالقرآن المؤمنين ، قال الله جل وعلا :" إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم " فيجاب عن هذا بأن الإنذار على قسمين :
1/ إنذار عام 2/ إنذار انتفاع .
الإنذار العام ينصرف إلى الكفار، أما إنذار الانتفاع ينصرف إلى المؤمنين " لتنذر به وذكرى للمؤمنين " هذه هي الآية الأولى .
ثم قال الله جل وعلا :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين " فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يسألان يوم القيامة :
1/ المُرسَلون 2/ المُرسَل إليهم .(17/8)
لكن الله لم يقلهنا ماذا يسأل هؤلاء ولا ماذا يسأل أولئك ؟ فأين قال الله ماذا يسأل المرسلون ، وماذا يسأل من أرسل إليهم ؟ هنا الله يقول :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين " لكنه لم يقل ماذا يسألون ؟ أما الجواب : فإن الله قال عن الأول :" فلنسئلن الذين أرسل إليهم " قال عنها في سورة القصص :"ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين" فيكون السؤال للأمم ماذا أجبتم المرسلين؟وهو من تفسير القرآن بالقرآن.هذا حل الإشكال الأول:"فلنسئلن الذين أرسل إليهم" بقي حل الإشكال الثاني قال الله : " ولنسئلن المرسلين " ماذا يسأل المرسلين ؟ قال الله في سورة المائدة :" يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " فالإشكال ( الإجمال ) الذي وقع في الأعراف فصل في موضعين : 1ـ فصل في القصص . 2ـ وفصل في المائدة . وهذا من تفسير القرآن بالقرآن " والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم .." الله جل وعلا حكم عدل يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها قط ، وليس في تلك الأرض معلم لأحد ، الآن تتفق مع زميلك مع جارك مع أخيك على أن تلقى به في مكان ما فتجعل له أمارة مستشفى إشارة علامة دار مبنى محل تجاري بينك وبينه تذهب إليه هذا المكان المعلم هو سبب التقائكما ، يوم القيامة يحشر الناس على أرض بيضاء نقية ليس فيها معلم لأحد ليس فيها شئ بارز تجتمع عنده الناس، والناس يحشرون حفاة عراة غرلا بهما ليس معهم شئ ، إذا كان في الدنيا فيه ملك صوري تملكه بيديك ثيابك دابتك سيارتك ، في يوم القيامة يخرج الناس لا يعلمون شيئا الله يقول في القرآن :" يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " وقال في سورة أخرى :" كأنهم جراد منتشر " ولا يستقيم الجراد مع الفراش لأن الجراد منتظم والفراش يموج بعضه في بعض ، والجمع بين الآيتين أن الناس عندما يخرجون ، يخرجون أول الأمر(17/9)
كالفراش لا يعرفون أين يذهبون ، فإذا تقدمهم إسرافيل وهو الداعي قال الله :" يومئذ يتبعون الداعي " انتظموا خلف إسرافيل فأصبحوا انتقلوا من حالة الفراش إلى حاله الجراد،هذا كله يكون يوم القيامة،يوم القيامة له أهوال عظيمة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :لابن عباس : ومع أنني على ما قلت عني لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع .
مما يكون يوم القيامة الميزان ، وأهل السنة يقولون سلك الله بنا وبكم سبيلهم يقولون أنه ميزان حقيقي له كفتان وله لسان ، والله جل وعلا يقول :" ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " والله يقول هنا :" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه " والقصد بكلمة الحق : أن لا جور فيه ولا ظلم ولا بخس ولا رهق ، ميزان حق يكفي أن الله جل وعلا قائم عليه وهوتبارك وتعالى أعدل الحاكمين ، وأحكم العادلين . على هذا اختلف العلماء ما الذي يوزن ؟ مع اتفاقهم جملة أهل السنة على أنه يوجد ميزان له كفتان لكن ما الذي يوزن على أقوال أشهرها :
1ـ أن الذي يوزن العمل نفسه .والذين قالوا بهذا القول احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم :" الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان " وموضع الشاهد أنه قال أن:" الحمد لله تملأ الميزان " وهذا معناه أن العمل نفسه يوزن وقال صلى الله عليه وسلم :" اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غايتان أو فرقان من طير صواف تحاج على أصحابها " فهذا من أدلة من قال أن الذي يوزن هو العمل .(17/10)
2ـ وقال آخرون أن الذي يوزن صحائف العمل وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح :" إن الله سيخلص رجلا من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول له ربه أتنكر مما رأيت شيئا فيقول لا يا رب ، فيقول الله جل وعلا له :أظلمك كتبتي الحافظون فيقول :لا يا رب ،فيقول الله :إن لك عندنا بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله،فيقول: يا رب وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات ، فتوضع البطاقة في كفه والسجلات في كفه ،قال صلى الله عليه وسلم :" فطاشت السجلات ورجحت البطاقة " وفي زيادة عند الترمذي :" ولا يثقل مع اسم الله شئ " فهذه أدلة من قال أن الذي يوزن صحائف العمل .
3ـ القول الثالث : أنه يوزن صاحب العمل ، وهؤلاء احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :" يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة ( والمقصود الكافر) فلا يزن عند الله جناح بعوضة ثم قرأ عليه الصلاة والسلام :" فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " هذه أحد أدلة من قال أن الذي يوزن صاحب العمل واحتجوا كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من رِجل عبد الله ابن مسعود ، قال صلى الله عليه وسلم :" أتعجبون من دقة ساقيه فلهما أثقل في الميزان من جبل أحد " أي رجلا ابن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد ، هذه أدلة من قال أن الذي يوزن صاحب العمل .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله جمعا بين الأدلة قال : لا يبعد أن يوزن هذا تارة وهذا تارة وهذا تارة ،والأظهر والله تعالى أعلم أنه يوزن العمل وصاحبه وصحائف الأعمال جمعا بين الأحاديث وجمعا بين الآثار وهذا هو الذي تستقيم به الحجة وتستقيم به الآيات والله تعالى أعلم .(17/11)
" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون" والذي يعنينا هنا كخطاب قرآني أن يعني الإنسان بأعماله الصالحة وأن يسعى فيما يثقل به الميزان ومن أعظم ما يثقل به الميزان حسن الخلق ، الذي تتعامل به مع الناس، قال عليه الصلاة والسلام :" الدين معاملة " ولم يكن صلوات الله عليه وسلامه عليه فظا وغليظا في خطابه وليس الدين مجرد ركعات تؤدى في المساجد وإن كانت الصلاة في الذروة الأعلى من الدين ، ولكن الدين جملة معاملة مع إخوانك المؤمنين ، مع والديك مع أبنائك .. مع زوجاتك .. مع جيرانك .. مع عامة المسلين تحب لهم ما تحب لنفسك .. تؤثرهم على نفسك .. تقبل اعتذارهم وتقبل عثراتهم .. وتقدم الصورة المثلى لما أمر الله به في كتابه وما أمر به رسولهم صلى الله عليه وسلم كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، أي أنه يطبق القرآن صلوات الله وسلامه عليه ومن الخطأ العظيم الذي نقع فيه أن نعتقد أن اتصالنا بالدين وقف على أشهر معينة كرمضان أو مساكن معينة كالمساجد وإنما يعبد الله جل وعلا بكل لسان وفي كل مكان ، وأخوة الإسلام تفرض علينا مطالب شتى في تعاملنا ، نكون بها إن شاء الله عباد الله إخوانا كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال الله جل وعلا كذلك في هذه الآيات :" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين "(17/12)
هذه تكلمنا عنها في تفسر سورة البقرة وأنا أتكلم إجمالا ، خلق الله جل وعلا أبينا آدم من قبضة قبضت من الأرض، وورد أن الله بعث ملكا يقبض هذه القبضة ، فلما جاء الملك ليقبضها ، قالت له الأرض : أعوذ بالله منك ، فرجع الملك إلى ربه ،فقال له ربه: ما صنعت وهو أعلم ، قال يا رب : استجارت بك فأجرتها ، فبعث الله ملكا آخر وهو أعلم فلما جاء ليقبض قبضة من الأرض، قالت الأرض : أعوذ بالله منك ، فرجع إلى ربه، فسأله ربه كما سئل الأول فأجاب كما أجاب الأول ،فبعث الله ملكا آخر،وهذا الفرق في العلم ،فلما جاء ليقبض من الأرض قبضة، قالت له الأرض : أعوذ بالله منك كما قالت لأخويه، فقال لها الملك: وأنا أعوذ بالله ألا أنفذ أمره لأن الله أمرني أن أقبض قبضة ، فقبض قبضة من الأرض مجتمعة مختلطة فلذلك تفاوت طبائع الناس فحملها إلى الله تبارك وتعالى، من هذه القبضة الترابية خلق أبانا آدم لكن هذه القبضة الترابية مزجت مع ماء فأصبحت طين ثم تركت مدة فأصبحت صلصال ( فخار ) وكلها ذكرها الله جل وعلا في القرآن ، قال :" خلقناكم من تراب " وقال :" خلقناكم من طين " وقال : "من صلصال كالفخار " فذكر الله في القرآن المراحل الثلاثة التي مر بها خلق أبينا آدم ،ثم أكرم الله جل وعلا آدم بأن نفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شئ كما هو نص القرآن وقد بينا هذا مفصل في موضعه ثم قال جل وعلا هنا :" ولقد خلقناكم ثم صورناكم " لكن الله لم يقل في الأعراف هل صور آدم على هيئة حسنة أم على هيئة غير حسنة فأين أثبت الله حسن خلق آدم ؟ في سورة التين " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم "(17/13)
ولهذا قال بعض الفقهاء لو أن رجلا قال لامرأته أنت طالق إن لم يكن وجهك أحسن من القمر، أنها لا تطلق ولو كانت من أقبح الناس وجها لأن لله يقول " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ثم وقع من أبينا المعصية بالأكل من الشجرة ، وأهبط إلى الأرض، فلما أهبط إلى الأرض جاءت النداءات الربانية الإلهية إلى بني آدم فناداهم الله في الأعراف بأربع نداءات :
قال في الأولى " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير " ، هذه الآية مسوقة في سياق الامتنان ، واللباس هو اللباس الضروري الذي تستر به العورة ، والرِّيَش : هو اللباس الزائد عن الضروري الذي يجمل به الإنسان " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم " أي عوراتكم ، وسميت العورة سوءة لأن العاقل يسوءه أن تظهر عورته للناس ، فالله يقول في باب الامتنان على عباده " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا " لباسا ضروريا ولباسا زائدا تتزينون به ، فلما ذكر الله اللباس الحسي ذكر اللباس المعنوي فقال الله جل وعلا " ولباس التقوى ذلك خير " أي خير من كل شئ خير من كل الباس ، "ولباس التقوى " أن يكون الإنسان مكتسيا بتقوى الرب تبارك وتعالى في قلبه ، يخشى الله تبارك وتعالى ويخافه يجتنب نواهيه ويأتي أوامره ، هذا هو المؤمن حقا الذي ارتدى خير لباس ،
إن الجمال معادن ومناقب ليس الجمال بمئزرٍ
فاعلم إن رُديت بُردا إن الجمال معادن ومناقب أورثنا حمدا
فاللباس الحسي يبلي يبيد ولا ينفعك في الآخرة ، تستر به عورتك في الدنيا، أما لباس التقوى هو الذي عليه معيار العقاب والحساب والثواب يوم القيامة.(17/14)
وقال الله :" يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم .." سنتكلم كلام علمي وكلام وعظي حول هذه الآية " يا بني آدم " هذا خطاب ويسمى نداء علامة ويسمى نداء كرامة إذا قال الله :" يا أيها الذين آمنوا " وإذا قال :" يا أيها الناس " أو " يا بني آدم " هذا نداء علامة لأنه يشترك فيه المؤمن والكافر ، وإنما عُلِّموا بنسبتهم إلى أبيهم " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " وهو العدو الأول " كما أخرج أبويكم من الجنة " الأبوان هنا آدم وحواء وإنما سميا أبوان رغم أن حواء امرأة من باب التغليب وقد قلنا في دروس عدة مكررة أن العرب إذا تكلمت عن اثنين وأرادت أن تثني تُغلب ، لكن معيار التغليب تختلف من مثنى إلى مثنى فقالوا في الأبوين الأبوان ، غلبوا الرجل على المرأة لأن الذكر أفضل من الأنثى ،وقالوا في المدينة ومكة المكتان ، لأن مكة أفضل عند الجمهور من المدينة وقالوا في الحسن والحسين الحسنان ، لأن الحسن أكبر ، وقالوا في الشمس والقمر القمران القمر مذكر والشمس مؤنث
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
فلو كل النساء كمن فقدن لفضلت النساء على الرجال(17/15)
لأن القمر مذكر قالوا القمر ، فهنا قول الله جل وعلا :" لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليرهما سوءاتهما " لما ذاقا من الشجرة حصل أن بدأت السوءتان لآدم وحواء فعلما أنهما وقعا في أمر عظيم ،من هنا تعلم أن هذا القرآن أنزله الله هداية للناس فأول طريق للمعاصي نزع الحياء من قلب المؤمن ، فأول ما أراده إبليس حتى يغوي آدم وزوجته وذريته لجأ إلى أول قضية أن يريهما عورتهما فإذا كشفت السوءتان في مكان ظاهر واستمرأ النظر إليها تصبح النفس والعياذ بالله هين لين عليها ما ترى فتسمر أ كل الفواحش فتنساق بعد ذلك إلى المعاصي من غير أن تعلم ،ولهذا تعلم أن ما صنعه الشيطان قديما يضعه شياطين الإنس حديثا فأكثر ما يسعى إليه القائمون على القنوات الفاجرة أن يبثوا أشياء تكشف من خلالها العورات حتى تعتاد الأسرة المسلمة أبا وأما وأحفادا وأبناء أن ينظروا إلى تلك العورات وأن يصبح أمرا بدهيا مستساغا لدى الأسرة ككل ، أن تنظر إلى الفواحش والإغراءات وما يكون من اتصالات محرمة وكشف العورات إما عن سبيل رقص أو سبيل غناء أو سبيل تمثيل أو غير ذلك فتصبح الأسرة والعياذ بالله بعد ذلك أي معصية تهون وتسهل على الجميع ويصبح أمر الله جل وعلا عياذا بالله هينا لينا على تلك القلوب فمن أراد الله جل وعلا أن يعصمه أول ما يعظم فيه مسألة الحياء في قلبه والإنسان إذا جبل على الحياء يقول عليه الصلاة والسلام :" الحياء لا يأتي إلا بخير " والإنسان قد ترى أنت بعض الناس على مسألة تستغرب كيف يصنعها والفرق بينك وبينه ليس العلم ، فهو يعلم وأنت تعلم لكن الفرق بينك وبينه أن مسألة الحياء شجرة نابتة في قلبك والحياء في قلبه غير موجود ،لما ذهب الحياء من نفسه من قلبه سهل عليه أن يأتي المعاصي قال صلى الله عليه وسلم :" كل أمتي معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم يستره ربه على معصية فإذا أصبح قال يا فلان ، أما علمت أن البارحة فعلت(17/16)
كذا وكذا، يقول صلى الله عليه وسلم يمسي يستره الله ويصبح يكشف سترالله عنه " نعوذ بالله من فجأة نقمته وزوال نعمته ، وهذا الذي يصل هذه المرحلة طبع على قلبه تماما كمن يذهب إلى حانات الغرب وبارات الشرق فيقع في المعاصي والفجور وبنات الزنى وأشباه ذلك ثم والعياذ بالله مع أن الله قد ستر عليه يصور نفسه ثم يأتي بتلك الصورويجمع أقرانه وخلطائه وأثاله ليعرض عليهم تلك الصور و ويريهم إياها ، هذا قد يصل إلى حد الكفر لأن في الغالب لا يصنع امرؤ مثل هذا إلا وهو يستحل ما حرم الله ، وإن كنا لا نكفر أحدا بعينه ، لكن نقول : إن هذا من أعظم الدلائل على ذهاب الخشية من القلب واستيلاء الشيطان على تلك القلوب يقول صلى الله عليه وسلم :" من ابتلي من هذه القاذورات في شئ فليستتر بستر الله عليه " والمؤمن يسأل الله دائما الستر والعافية ومحو الذنوب في الدنيا والآخرة ، لكن المقصود من الآية أن نبين أن من أعظم طرائق إبليس لإغواء الناس أن ينزع عنهم لباسهما كما قال الله :" ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " فالله كتب أن الإنس لا ترى الجن ، والجن ترى الإنس ، وقد قلنا في دروس سابقة أن العرب تسمي الجن خمسة أسماء أو ست . يسمون الجن العادي : جني فإذا كان مما يسكن البيوت يسمونه عمار وإذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونها أرواح فإذا كان فيه شئ من التمرد يسمونه شيطان فإذا ازدادت تمرده يسمونه عفريت (ذكر هذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى )(17/17)
" إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " يستنبط من هذه الآية أن عقد الولاية ما بين الإنس والشيطان قائم على عدم الإيمان لأن الله قال :" أولياء للذين لا يؤمنون " فعدم الإيمان بالله عقد بين الإنسي والشيطان ، ثم قال تبارك وتعالى :" يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءاياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بئاياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " حتى قال الله جل وعلا بعد ذلك بآيات " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها " " كذبوا بآياتنا " أي لم يصدقوا الرسل " واستكبروا عنا " أي لم ينقادوا لها " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة .." الإنسان تخرج روحه من جسده ، بعد أن تكون هذه الروح قد ألفت الجسد فإذا خرجت كانت روح مؤمنة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت روح كافرة أو منافقه أغلقت في وجهها أبواب السماء عياذا بالله ، فالله يقول هنا :" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء " هذا الجزاء الأول وهذا قبل البعث ، ثم قال :" ولا يدخلون الجنة " يعني : بعد البعث ، على هذا الآية نص على أن الكافر لا يدخل الجنة " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط .." الجمل الحيوان المعروف ، سم الخياط : الخرم الذي في الإبرة ، فالخرم الذي في الإبرة من أضيق الأشياء والجمل من أعظم المخلوقات جسما ، والمقصود من الآية : تعليق على الاستحالة فكما أنه محال أن يدخل الجمل في هذه الخلقة العظيمة في سم الخياط ، فمحال أن يدخل الكافر الجنة . " إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " ولن يلج الجمل في سم الخياط " وكذلك نجزي المجرمين * لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش(17/18)
وكذلك نجزي الظالمين " لما ذكر الله حال أهل الكفر ذكر حال أهل الإيمان والأصل في القرآن أنه يبدأ بالكفار ويختم بالمؤمنين ، قال سبحانه :" والذين آمنوا وعملوا الصالحات " جعلنا الله وإياكم منهم " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " ذكر الله جل وعلا هنا " لا نكلف نفسا إلا وسعها "وقد استنبط العلماء من هذه الآية وأمثالها قاعدة فقهية : وهذه القاعدة تقول : لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة فمثلا الله جل وعلا جعل من واجبات الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين فلو أن أحد الناس من حادث مثلا قطعت يده ، فهذا ليس عنده يد ، لذا يسقط عنه واجب الوضوء للعجز لأنه لا يوجد له يد أصلا وقد يكون العجز أقل من ذلك ، الإنسان يجب عليه أولا أن يتوضأ بالماء فإذا عجز عن الوصول إلى الماء أو أضره الماء رغم وجوده هذا الواجب يسقط وينتقل إلى مسالة أخرى إلى التيمم حتى قد يصل أحيانا أنه يصلي بدون وضوء بدون تيمم إذا كان عاجزا فلا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة وهذا معنى قول الله :" ولا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " ثم قال سبحانه :" ونزعننا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " الناس يبقون بشر مهما بلغوا في الارتفاع في الطاعات لا يخرجهم عن كونهم بشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الذرة من البشر وهو يقول عليه الصلاة والسلام :" أنا أغضب كما تغضبون " ولما قيل له إن إحدى أمهات المؤمنين حاضت في الحج غضب وقال حلقى قعرى تغير كلامه صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله عنه نقل أنه يغضب وعمر رضي الله عنه كل الناس يغضبون . فالإنسان مهما بلغ يبقى بشرا إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم وغيره من الناس غير(17/19)
معصوم ، على هذا أحيانا يبقى في الصدر شيء ، ولو خفيف تبقى مؤمن تدخل الجنة لكن في الصدر بينك وبين زيد شئ . الله من إكرامه لأهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة وهم ماضون ذاهبون إلى الجنة يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار هذا الغل الباقي القليل الذي باقي في القلوب ينزعه الله منهم قبل أن يدخلوا الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم :" يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص منهم بينهم مظالم كانت بينهم في الدنيا " قال علي رضي الله عنه أمير المؤمنين المعروف حصل بينه وبين الزبير بن العوام شئ من سوء التفاهم ، وكاد يقتتلان في المعركة فذكر علي الزبير بقول للنبي صلى الله عليه وسلم فترك الزبير أرض المعركة ، قناعة منه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فتبعه رجل يقال له ابن جرموز فقتله ، وممن نازع عليا طلحة بن عبيد الله صحابي جليل أحد العشرة المبشرين وقد أحنى ظهره يوم أحد حتى يرقى النبي عليه الصلاة والسلام على ظهره ، فقال عليه الصلاة والسلام أُوجب طلحة يعني وجبت له الجنة ، ومع ذلك كان هناك سوء تفاهم بسيط ما بين طلحة والزبير وعلي كل منهم يرى الصواب معه ، وكلهم في المحل الأعلى من الصحابة قال علي رضي الله عنه : إني لأرجو الله أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم :" ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار " فالكمال عزيز والصحابة رضي الله عنهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم والله رضي عنهم وشهد برضاه عنهم في كتابه ولا ينبغي لعاقل أن يدخل فيما كان بينهم كلهم مجتهد رضي الله عنهم وأرضاهم نسأل الله أن يرزقنا جوارهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " هذا الكلام يقوله أهل الجنة ، اعترافا منهم بأن الهداية من الله جعلنا الله وإياكم برحمته ممن يقولها في الجنة ، وهذا يؤكد على أمر عظيم على أن من يطلب الهداية فليطلبها من الله(17/20)
ولذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم :" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ولا يشمت الإنسان بأحد خوفا من أن ينتكس كما انتكس غيره ، وإنما المؤمن يسأل الله السلامة ولا يشمت بأحد ويأل الله غفران الذنوب وستر العيوب ورحمته حتى نلقاه ." ولقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا " أي هؤلاء المؤمنين نودوا " أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون" يوجد باء عوض ويوجد باء سبب أي باء تختص بالعوض وباء تختص بالسبب مثال : لو ذهبت إلى المتجر وسألت صاحب المتجر بكم هذا القلم؟قال : بريال ، فأعطيته ريال فأعطاك القلم فهذا الريال عوض عن القلم بمعنى مكافئ له الريال مكافئ لهذا القلم ولو هذا القلم أحسن كان أصبح الريال أكثر من ريال يصبح مثلا بعشرة ، فهذه باء عوض، تسأل إنسان بكم اشتريت هذا القلم يقول لك بريال يصبح هذه الباء باء العوض .يوجد باء أيها الأحبة اسمها باء السبب تأتي لصاحب متجر فيسألك: من أين أنت ؟ فتقول له مثلا من جدة ،ويكون هو قد سكن جدة قديما ،فتسأله :من أي حي؟يقول : من النزلة مثلا .. يكون هو ساكن النزلة قديما .. فتطلب ماء فيقول هذا الماء خذه لأننا أنا وأنت كنا نسكن في حي واحد فسكنك الحي الذي سكن فيه صاحب المتجر سبب في الحصول عن الماء ، مثال آخر/ تعفوا عن إنسان لأنه صاحب أخيك ، يحصل لك سيارة يأتي إنسان يصدم سيارتك فتنزل غاضبا فعندما ترى من صدمك تعرف أنه صاحب لأخيك فتعفوا عنه، أنت عفوت عنه لأنه أعطاك عوض بل لأن صداقته لأخيك سبب في عفوك عنه يقول الله جل وعلا :" أورثتموها " أي الجنة " بما كنتم تعملون " هذه الباء سببية : أعماكم سبب في دخول الجنة و إلا الأعمال لا يمكن أن تكون عوضا عن الجنة لأن الجنة أكبر من أعمالنا ، لكن قال بعض العلماء من السلف كلمه جميلة في هذا الباب قالوا : إن المؤمنين ينجون من النار بعفو الله ويدخلون برحمة الله ويرثون(17/21)
منازل غيرهم بأعمالهم الصالحة ثم ذكر الله جل وعلا ما يكون يوم القيامة وذكر تبارك وتعالى عدة نداءات
النداء الأول : نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار.
والنداء الثاني : نداء أصاب الأعراف لأصحاب الجنة .
والنداء الثالث : نداء أصحاب الأعراف لأصحاب النار.
والنداء الرابع : نداء أصحاب النار لأصحاب الجنة .
في هذه السورة الذي سميت سورة الأعراف لأن الله ذكر فيها الأعراف ولم يرد ذكر أصحاب الأعراف في القرآن إلا في هذه السورة ، قال الله :" ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعد ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون "(17/22)
هذا النداء الأول يكون من أصحاب الجنة إلى أصحاب النار ، أن أصحاب الجنة يفتخرون على أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم الله من النعيم حقا ، فيسألونهم هل وجدتم ما وعدكم الله من الجحيم حق فيقولون نعم ،فيستمعا الفريقان بعد ذلك إلى مؤذن يؤذن يقول : أن لعنة الله على الظالمين ،قال طاووس بن كيسان رحمه الله عن هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المعروف قال : يا أمير المؤمنين اذكر يوم الآذان قال وما يوم الآذان قال : يوم أن الله يقول :" فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " فصعق هشام رحمه الله فقال طاووس بن كيسان : سبحان الله هذا ذل الصفة فكيف بذل المعاينة أي صعقت وأنا مجرد وصف لك اليوم فكيف لو عاينته ورأيته بعينك ثم قال الله جل وعلا :" وبينهما " أي بين الجنة والنار " حجاب " هذا الحجاب جاء مفسرا في سورة الحديد " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " قال الله جل وعلا :" وبينهما حجاب وعلى الأعراف " مكان مرتفع " رجال " الله أعلم بهم قيل أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وهذا قول حذيفة واختاره أكثر المفسرين وقيل : أنهم أنبياء وقيل: أنهم ملائكة ولا يوجد نص نجزم به ونفيء إليه " و بينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " يعني : يعرفون أهل الجنة ويعرفوا أهل النار .
" بسيماهم " أي بعلاماتهم ، فإن الله قال عن أهل الجنة " تعرف في وجوهم نظرة النعيم " وقال عن أهل الكفر : "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " أي أعينهم زرقا فيعرف المجرمون بزرقة أعينهم ويعرف المؤمنون جعلني الله وإياكم منهم بما عليهم من نظرة النعيم .(17/23)
هؤلاء أصحاب الأعراف عندما يقفون عليها معهم نور هذا النور يجعلهم يطمعون أن يدخلوا الجنة ، فيقفون حكما بين الفريقين قال الله :" ونادوا أصحاب الجنة " المنادِي : أصحاب الأعراف ، والمنادَى : أصحاب الجنة ، " أن سلام عليكم " وتقف ثم ينقطع الكلام " لم يدخلوها " والمعنى أن أصحاب الأعراف لم يدخلوها في أظهر الأقوال " وهم يطمعون " أي ويطمعون في دخولها ، وهذا الطمع الرغبة في دخولها حث عليها أنهم مازالوا يملكون النور ولم ينقطع ثم بعد أن يرون أهل الجنة تصرف أبصارهم من غير إرادة منهم إلى أهل النار قال الله :" وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " إذا رأوا أهل النار وما فيهم من عظيم الجحيم والنكال والحميم تعوذوا بالله واستجاروا به " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " ثم قال الله جل وعلا :" ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم " أي رجالا كانوا في الدنيا على الكفر يصدون عن سبيل الله " قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء " أي الضعفاء الفقراء المساكين ـ المطاوعة في لغة العصرـ " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته " كنتم تقسمون في الدنيا أنهم لن ينالوا رحمة ولا مغفرة " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " ثم قال الله جل وعلا " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء " جعلنا الله وإياك في هذه الحالة ممن ينادَى لا ممن ينادِي فإن الله جل وعلا بقدرته يجعل لأهل النار إطلاعا على أهل الجنة فإذا رأوها أحوج ما يكونوا إليه أهل النار الماء قال الله جل وعلا :" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" فيجيبهم أهل الإيمان قالوا : " إن الله حرمهما " الماء والرزق " إن الله حرمهما على الكافرين " فلا يوجد شئ يحتاجه أهل النار أول الأمر أكثر من(17/24)
احتياجهم إلى الماء لأنهم إذا استسقوا في النار يسقون ماء حميما كما قال الله :" فقطع أمعاءهم " فقد أخذ العلماء من هذه الآية أن من أفضل القربات إلى الله سقي الماء ، وقد قال العلماء : إنه ثبت في الصحيح أن الله جل وعلا غفر لرجل لأنه سقى كلبا فكيف بمن سقى مؤمنا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ولما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما يابن عم رسول الله ما أفضل الصدقة ؟ قال : أن تسقي الماء أين أنت من قول الله :" أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " ثم ذكر الله بعضا من نعوت الكافرين ، قال" الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون " وليس الله ينسى أبدا قال :" علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " ولكن هذا في لغة العرب يسمى المشاكلة في الكلام وإنما يتركهم الله جل وعلا من غير نصرة من غير ظهرة من غير معين حتى يتساقطون في جهنم ، ثم بين جل وعلا عظيم كتابه قال :" ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل " أي في الدنيا " قد جاءت رسل ربنا بالحق " فيتمنون أمرين " فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " وهذه قطعها الله بقوله " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وطلبوا أمرا ثانيا " أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل " وهذه قطعها الله جل وعلا عنهم أن الله لن يخرجهم من النار " قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " فلما ذكر الله تبارك وتعالى حال الفريقين وذكر الحالة الثالثة وهي حالة أهل الأعراف عرف الله جل وعلا بذاته العلية والقرآن أيها المؤمن كله فاضل ، لكن آياته فيها فاضل وفيها مفضول ، أما كونه فاضل فلأن القرآن كله من عند الله وأما كونه فاضل ومفضول فإن من آيات الله ما تتكلم عن الله فجمعت الفضل(17/25)
من وجهتين الوجه الأولى : لأنها كلام الله ، والوجه الثانية : أن تتحدث عن الله، وليس هناك أعلم من الله ،ولذلك من أراد أن يرق قلبه وتدمع عينه فليقرأ ما تكلم جل وعلا عن ذاته العلية كخواتم سورة الحشر وأوائل سورة الحديد ، وهذه الآيات التي في سورة الأعراف وفي الفرقان يتكلم الرب جل وعلا عن ذاته العلية أو آية الكرسي فكل آية تحدث الله فيها عن ذاته العلية فإن الله جل وعلا لا أحد أعلم به منه قال الله جل وعلا :" ولا يحيطون به علما " وقال :" أأنتم أعلم أم الله " فالآيات التي يتحدث فيها الرب جل وعلا عن ذاته العلية هي أعظم آيات القرآن قدرا لأن جمعت المجد من طرفين كونها من الله وكونها تتحدث عنه جل جلاله قال الله :" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " هذه مجمل ما تكلم الله جل وعلا به عن ذاته العلية .(17/26)
(تأملات في سورة الأنفال)
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وعلى أصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. فإننا نستعين الله جل وعلا في تفسير كلامه جل وعلا كرةً أخرى... وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى سورة الأعراف وسنشرع اليوم في تفسير سورة الأنفال على أننا قبل أن نشرع فيها نذكر ببعض مما كنا قد تأملناه حول سورة الأعراف التي تمت دراستها عبر درسين، وكنا قد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الله جل وعلا ذكر ثلة من أنبيائه ورسله بسورة الأعراف بدءاً بنوح وانتهاءً بموسى عليهم السلام ووقفنا عند اثنين منهم هما لوط وموسى عليهم الصلاة السلام وذكر نا عن قوم لوط أن الفطرة انتكست عند هم فكانوا يأتون الذكران من العالمين ولذلك لم يكن بينهم وبين رسولهم أخذ ولاعطاء فإن الله جل وعلا ذكر أن الأنبياء أخذوا وأعطوا وتحاوروا مع من بعثوا إليهم من الأمم فقوم ثمود قالوا لصالح:(ياصالح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا...)
*قالوا لصالح :(قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)(18/1)
*وقال قوم شعيب كذلك قريباً منه. إلى غير ذلك مما ذكره الله من محاورات الرسل لأممهم وأما قوم لوط مما انتكست الفطرة عندهم، لم يكن لديهم عقل يحاورون من خلاله قال الله عنهم أنهم قالوا:(وماكان جواب قومه إلاَّ أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون )فعاملهم الله جل وعلا بلمثل قال الله تبارك وتعالى:(فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود)وهذه الأيه في هود ثم ذكرنا بعضاً مما كان من خبر نبي الله موسى مع فرعون وآله أوفرعون وملائه وذكرنا أن الله جل وعلا قال عنهم(وقالوا مهما تأتنابه من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين*فأرسلناعليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدَم...)فهذه خمس آيات،وقال قبلها جل وعلا:(ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات)هذه اثنتان مع الخمس سبع آيات وبقيت اثنتان هما .الأول:العصا . والثاني:اليد . فهذه تسع آيات التي قال الله جل وعلا عنها أنه بعث بها موسى إلى فرعون وملائه والقرءآن ينظر إليه جمله واحدة ويفسر بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاًوكله كلام رب العالمين جل جلاله. كما ذكرنا أن قول ربنا جل وعلا: (وأرسلنا عليهم الطوفان و الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات) أن كلا من كلمتي آيات وكلمه مفصلات أعطت معنا فقلنا إن كلمه آيات دلت على أمر خارج عن المألوف لأن الجراد والقمل والضفادع يوجد في كل زمان ومكان لكن الله جل وعلا جعل وجودها في زمن موسى آيه له خارقه عن المألوف وقوله تبارك وتعالى "مفصلات"يدل على أنها كانت لم تكن جملة واحدة وإنما كانت يتبع بعضها بعضا وكان بينهم مرحله زمنيه ثم قلنا إن الله جل وعلا قال: (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة......)وقلنا إن القاعده في ذكر الأيام والليالي أن الأيام تحسب بها المنافع الدنيويه فالمزارعون مثلا إنما يحصدون بناء على البروج الشمسيه وليس لهم علاقة بالأهلة وأما الأهلة والليالي فإنما يحسب بها المناسك الدينيه قال(18/2)
الله جل وعلا: ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) وهذه قلنا فيها فائدة كبرى أن يعرف الإنسان أن ما يتعلق بالأيام فيه المنافع الدنيويه وما يتعلق بالليالي فيه المنافع والمناسك الدينيه ثم قلنا إن الرب تبارك وتعالى قال : ( وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين * ولما جاء موسى لميقاتنا....) فذكرنا أنه كان هناك ميقاتان:ــ
فالأول: ميقات مكاني..
والثاني: ميقات زماني..(18/3)
الميقات المكانيي:الوادي المقدس أو بتعبير أقرب جبل الطور قال الله جل وعلا في سورة القصص:(وما كنت بجانب الغربي إذا قضيناإلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين)والجبل الطور هو الجبل الذي كلم الله عنده موسى مرتين المرة الأولى: في أول أيام الوحي..والمرة الثانية: في وقت الميقات الذي وعده الله جل وعلا إياه هذا هو الميقات المكاني أما الميقات الزماني فإن الله كلم عبده موسى بن عمران في اليوم العاشر من ذي الحجه فإن الله وعده ثلاثين يوماً عند جماهير العلماء هي ثلاثين شهر ذي القعده ثم زاده الله عشراً قال الله:(فتمت ميقات ربه أربعين ليله)فاليوم الأربعون:هو اليوم العاشر من ذي الحجة المتمم لثلاثين ذي القعده وعشرذي الحجه ثم قلنا:(فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربي أرني أنظر إليك)رغب عليه السلام في مقام الرؤيا بعد أن أعطي مقام التكليم فقال الله جل وعلاله:(لن تراني) وقلنا إن رؤية العبد المؤمن للرب جل وعلا تكلمنا عنها في الدنيا وفي الأخره وقلنا يحرر الخطاب على أنه يقال: أن رؤية الله جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً ومعنى قولنا جائزة عقلاً: أنه يمكن بقدرة الله أن يعطي الله عباده قدره على أن يروا ربهم في الدنيا لأن الله على كل شيء قدير فهذا لاينافي العقل لكن أخبر في كتابه أن هذا لن يقع إذ قال لكليمه موسى:(لن تراني)فقلنا إن وإن كانت جائزة عقلاً إلا أنها ممتنعه شرعاً هذا في الدنيا أما في الأخرة: فقد قلنا مادامت جائزة عقلاً في الدنيا فمن باب أولى أن تكون جائزه عقلاً في الأخره لأن الأبصار في الأخره أقوى منها في الدنيا قال الله جل وعلا(فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ...) ولكنا قلنا : إنها في الدنيا ممتنعة شرعاً ونقول في الآخرة واقعة شرعاً للمؤمنين في الجنة وقد نص القرآن والسنه على هذا قال الله جل وعلا في سورة القيامه:( وجوه يومئذ ناضره ) بالضاد أخت الصاد والمعنى تعلوها النظره (إلى(18/4)
ربها ناظره ) أي تبصر ربها من غير إحاطه لأن الله يقول:( لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فالله جل وعلا لايدركه بصر خلقه على هذا ماتحرر... وقلنا: إن من العلماء من قال أنها ممتنعة في الدنيا والآخرة وهذا قول (المعتزلة) وقلنا نص عليه جار الله الرمخشري في تفسيره المشهور باسمه: (تفسير الكشاف) فإنه قال إن العباد لايرون ربهم لافي الدنيا ولافي الآخرة واحتج بحرف النفي (لن) وقلنا الجواب العلمي أن يقال أن الله جل وعلا قال عن اليهود أنهم لايتمنون الموت فقال عنهم:( ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم ) أي الموت ومع ذلك قال الله عن أهل النار واليهود قطعاً من أهل النار قال :( وقالوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) يتمنون الموت فدل على أن (لن) هنا تجري على أحكام الدنيا لاتجري على أحكام الأخرة ثم إن النصوص الصريحة في رؤية المؤمنين لوجه ربهم لايمكن تأويلها ولادفعها بحال في رؤية وجه ربهم تبارك وتعالى منها آيه القيامة التي مرت معنا ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغير هما (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)منَّ الله علينا وعليكم برؤية وجهه الكريم ثم قلنا بعد ذلك أن الله جل وعلا قال لموسى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما ءاتيتك وكن من الشاكرين) وقلنا إن هذه الكلمه [على الناس]ليست على إطلاقها وإن من الآله العلميه في تفسير كلام الله أن يكون الإنسان مطلعاً على اللغة مطلعاً على الأحاديث مطلعاً على التاريخ فقول الله جل وعلا لموسى: (إني اصطفيتك على الناس) لا يمكن أن تكون على اطلاقها لعموم الناس لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى عليه السلام بالإتفاق فموسى عليه السلام أفضل أهل زمانه أما من قبله فإبراهيم أفضل من موسى بل إن موسى عليه السلام من ذريه إبراهيم جميع الأنبياء الذين من بعد إبراهيم من(18/5)
ذرية إبراهيم باستثناء لوط على الخلاف أنه ابن أخيه لأن الله قال: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) وما بعث نبي من الأنبياء كما بُينَ هذا في غير درس ولا أُنزل كتاب من السماء إلا على رجل من ذرية إبراهيم المقصود أن موسى عليه السلام أفضل أهل زمانه لكنه ليس أفضل من كان من قبل فإبراهيم أفضل منه ولا أفضل من بعد لأن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم. هذا ما انتهينا إليه حول سورة الأعراف ونشرع اليوم إن إنشاء الله تعالى في تأمل خمس آيات من سورة الأنفال وقد جرت العاده أننا نقدم السوره بأكملها قبل أن نشرع في تفسيرها سورة الأنفال سور مدنية ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أن قول الله جل وعلا: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ...)هذه مكيه والله أعلم . لكن السورة في جملتها سورة مدنية وهي من أوائل السور المدنية التى نزلت . ومن أواخر السور المدنية التي نزلت سورةالتوبة.وكلتا السورتين عنيتا بالغزوات بالذات سورة الأنفال . فسورة الأنفال تكلمت عن بدر ولذلك يقولوا بعض العلماء إنها سورة (مدنية بدرية)أما التوبة فتكلمت عن غزوة تبوك وجيش العسرة وهذا كان في السنة التاسعة والنبي صلى الله عليه وسلم مات في العاشرة على هذافالتوبة من آخر ما أُنزلَ جملة من السور المدنية والأنفال من أوائل ما نزل من السور المدنية (مدنية بدرية ) وحتى نفقهه هذه السورة نزلت بعداختصام المسلمين في غنائم بدر وحتى تكون أنت في إطارعلمي حول السورة الرسول علية الصلاة والسلام خرج بأصحابه إلى بدر وكان أول أمره يريد عير قريش وقال لأصحابه لعل الله أن ينفيكموها ))أي يهبها لكم فلما نجا أبو سفيان بالعير وجاءت قريش تحاد الله ورسوله التقى الجمعان في يوم الفرقان في بدر في الموضع المعروف ما بين مكة والمدينة .وهوإلى المدينة أقرب، وقعت المعركة وهي أول معركة وقعت في الإسلام (يمكن أن تطلق عليها غزوة(18/6)
بالمعنىالحقيقي)وكان قبلها بدرالصغرى لكن لم يقع فيها قتال ووقعت تلك المعركة وأعلى الله فيها كلمة الإسلام ونصرالله جل وعلا محمداًصلى الله عليه وسلم وأصحابه وردالله القرشيين ردهم على آدبارهم فغنم المسلمون غنائم هذه الغنائم أن الجيش بعدالغزوة في آخر الغزوة انقسم إلى ثلاثه أقسام:.
1/قسم أخذ يحرس النبي صلى الله عليه وسلم خوفاًعليه أن يأتيه أحد من المشركين.
2/وقسم أخذ يجهزعلى من بقي ويتبع فلول أهل الإشراك.
3/وقسم أخذ يجمع الغنائم.فلما انتهى الأمرووقع من وقع من القرشيين في الأصل وقتل منهم من قتل وفر منهم من فر انقضت الحرب ووضعت الحرب أوزارها اختصم المسلمون في الغنائم ممن يأخذها هل أولى بها من حرس النبي عليه الصلاة والسلام أومن جمعها أومن تبع فلول أهل الإشراك.فلما اختصموا فيها لجأواإلىالنبي صلى الله عليه وسلم يسألونه فقال الله:((يسألونك عن الأنفال))قبل أن نشرع في تفسيرالأية النفل هو: الزياده علىالأصل،فالغنيمه:زيادة علىالنصرفي المعركه لأن المطلوب الأول في المعركه النصر فالغنيمه زيادة عليها وولد الولد زيادة على الولد،
ولذلك قال الله عن يعقوب لأن من ذرية اسحاق قال عن إبراهيم (ووهبنا له يعقوب نافلة )أي زيادة على اسحاق لأن اسحاق بن إبراهيم ،فوهب الله يعقوب زياده لإبراهيم على إسحاق الذي هو ولده،فأصبح وهبه ولد الولد والسنن التطوع (صلاة التطوع )زيادة على الفريضة ولذلك تسمى الأولى فريضة ويسمى مايزاد عليها نافله قال الله تعالى:(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) فهذا أصل كلمة:نافله في اللغة وإيرادها في الشرع إذاً السؤال هنا عن أي نافلة؟ عن الغنائم والغنائم زيادة على النصر نقسم معنى الغنيمه ومعنى الفيء؟(18/7)
الغنيمة:مايناله المسلمون من عدوهم بسعي وإيجاف خيل وركاب. وماناله المسلمون من عدوهم من غير سعي ولاإيجاف خيل ولاركاب كخراج الآراضين أو جزية الجماجم هذا يسمى فيء .إذاً يوجد قسمان يناله أهل الإسلام هما الغنيمة والفيء والمقصود بالأنفال: غنيمة المسلمين يوم بدر بإجماع العلماء أن قول الله جل وعلا:(يسألونك عن الأنفال) أي ماغنمه المسلمون يوم بدر وقلنا إن هذه السوره(مدنيه بدريه) نأتي لكلمة (يسألونك) وردت في القرءآن مراراً مرة بدون واو ومرة بالواو قال الله جل وعلا في البقرة(يسألونك عن الأهلة) وقال جل وعلا في البقرة أيضاً:(يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) وقال جلا وعلا:(يسألونك عن الخمر والميسر...) هذا كله بدون واو وقال جلا وعلا في المائدة :(يسألونك ماذا أحل لهم...) وقال تبارك وتعالى الأعراف (يسألونك عن الساعه...) وقال جل ذكره في الأنفال:( يسألونك عن الأنفال...)وقال تبارك وتعالى في الإسراء:( يسألونك عن الروح) وقال جل وعلا في الأحزاب:( يسألك الناس عن الساعه) وقال تبارك اسمه في النازعات (يسألونك عن الساعه) فهذه سؤلات وردت من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير واو وجاءفي القرءآن يسألونك مقرونة بالواو قال الله تعالى في البقرة:(ويسألونك ماذا ينفقون) وقال جل وعلا في البقرة :(ويسألونك عن اليتامى) وقال جل ذكره في البقرة: (يسألونك عن المحيض) وقال جل ذكره في الكهف :(يسألونك عن ذي القرنين) وقال تبارك وتعالى في طه:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)فهذا ماتحرر بالواو وما قبلها تحررمن غيروا وبعض العلماءيقول:إن الفرق بينهما:أن يسألونك إذا لم تكن مقترنه بواو يكون السؤال قد وقع من الصحابه وإما إذاكان مقترناًبالواو فإن الله يخبر به لعلمه جل وعلاأنه سيقع والله أعلم .وأنا أقول إذا قلت والله أعلمأو سكت،معناه:أنالاأرجح في المسألة إذا لم نرجح معناه: أن الأمر لم يثبت لدينا بياناً شافياًفيه كدليل(18/8)
والله أعلم، هذامعنى حول كلمه:(يسألونك)كان المفترض:(الله يقول:(يسألونك عن الأهله)الله قال بعدها (قل هي
مواقيت للناس والحج)و(يسألونك ماذا ينفقون)(قل ماأنفقتم من خير فللوالدين والأقربين )(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)(ويسألونك عن الروح)(قل الروح من أمر ربي) يأتي الجواب مباشرة.لكن هنا:.قال الله (يسألونك عن الأنفال)ولم يأتي جواب جاء الجواب بعد أربعين آية،أي في الآيه(41)قال الله:)واعلمواأنماغنمتم من شيءفأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله وماأنزلناعلى عبدنا يوم الفرقان يوم يلتقى الجمعان والله على كل شيء قدير)جاءالجواب بعد أربعين آية وهذا من تربية الله للصحابة؛لماذا؟الخطأمن الرجل العظيم ليس كالخطأمن هو أقل منه ترى شاب يلعب بالكرة والمغرب يؤذن لايجوز لكن لأنه شاب تأتيه بيسرلأنك تعرف من عين القدر ومن عين الشرع هذاشاب،فتأديه باللين لكن لايقبل أن تأتي رجل إمام مسجد والآذان يؤذن وهو يلعب كرة.ما يمكن أن تقبل.فيكون تأنيبك للأمام ليس كتأنيبك لشاب... صفوة الأمة هم أهل بدر.والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أما علمت أن الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم )والبدريون هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، المهاجرون/الذين تركوا ديارهم وأهليهم في مكة من أجل نصرة الدين.والأنصار/الذين قبلوا أن يأتوا هؤلاء من مكة فيؤونهم ويحمونهم ويتقاسمون معهم الأموال والله يقول:((والذين تبوءا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) فهم هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم من المهاجرين والأنصار أعظم أصحاب النبيين على الإطلاق وهم صفوة الأمة والرسول صلى الله عليه وسلم قال في ليلة بدر ينظر إليهم ثلاث مائة وأربعة عشرا رجلاً قال اللهم ))إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في(18/9)
الأرض أبداً)) فهم رضي الله عنهم وأرضاهم خير أهل الأرض بعد النبيين والمرسلين. فهؤلاء الصفوة يأتي منهم أنهم ما إن تنتهي المعركة يختصمون فيما بينهم على الغنائم أمر لايقبل . فرباهم الله جل وعلا وعاتبهم عتاباً شديداً قال: ((يسألونك عن الأنفال)) ولم يقل هي كذا وكذا وكذا(قل الأنفال لله وللرسول )) أي ليس لكم فيها أي اختصاص والصحابه يعلمون أن كل شيء أمره لله وللرسول عليه الصلاة والسلام يحكم فيه لكن أراد الله أن يؤدبهم(قل الأنفال لله والرسول فاتقوا)إذا علمت هذا أن الله قال في حق بدر (أهل بدر)(فاتقواالله) وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب :((ياأيها النبي اتق الله )) إذاًلا يستكبر أحد عن كلمة اتق الله ولا يوجد أحد فوق مستوى النقد كل إنسان عرضه للخطأ وكل إنسان يخطئ يُنقد ويقال له أخطأت ولو كان منزلته أيا كانت،لكن كيف تنقده يختلف، فلا تأتي لإمام مسجد أمام عشرات الناس يصلون وراءه والمئات وتقف تنقده أمام الناس ،هذا ليس من النصيحة في شيء ،ولا تأتي لمعلم أمام طلابه وتوبخه أو تنهره أمام طلابه ولا تأتي لأمير ولا حاكم في خطبة جمعه،تنقده لتذهب هيبته في الناس ولاتأتي لأب تنقده أمام أولاده ولاأم أمام بناتها،من أخلص النية في النقد سيوفق في الطريقه السليمه التي ينقد بها،لكن هنا لماذا اختلف الأمر لأن المعاتب هنا الله،فألمسألة تختلف جذرياً،ليس اختلاف كفؤ لكفؤ ليست نقد كفؤاً لكفؤ،وإنما هذا عتاب من الله لأهل بدر فقال الله جل وعلا لهم:"يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"أنتم انتصرتم على المشركين والأهم أن تنتصروا على ما في النفوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس الشديد بالصرعه وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"انتصار الإنسان على هوى نفسه وعلى شهواته وعلى حبه للمال ولحب لأن يكون أفضل من غيره وما يدفعه للإستئثار بالشيء هذا الذي ينبغي أن ينتصر(18/10)
عليه فإذا انتصر الإنسان على شهواته نفسه وحبه للكبروالاستعلاءعلى الغيرحقق الإنتصارالعظيم فالله يقول لنبيه ولأصحابه:(فاتقواالله وأصحوا ذات بينكم ) فالصلح:وصفه الله جل وعلا بأنه خيرويقع على عدة طرائق:أولاً: يقع الصلح مابين أهل الإيمان وأهل الكفر ودليله من نفس السوره(وإن جنحوا للسلم فا جنح لها وتوكل على الله) وهذا مرده لولي أمر المسلمين.ثانياً: وصلح يقع مابين فئتين من أهل الإسلام تحترب فيسعى ما بينهمافي الصلح قال الله تعالى:(وإن طائفتان من المؤمنين اقتلوا فأصحوا بينهما).ثالثاً:وصلح يقع مابين الزوج والزوجه قال الله فيه: (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما....)رابعا: وصلح يقع ما بين الرجل والرجل في خصومات ماليه وهذا لابد فيه من التنازل أي صلح لا بد فيه من التنازل إن لم يتنازل كلا الطرفين عن بعض حقه لا يسما صلح والسعي بين الناس في الصلح من أعظم طرائق الخير قال الله جل وعلا: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقه أو معروف أو إصلاح بين الناس) فالسعي في الإصلاح حتى مما يجوز الكذب فيه شرعا فالصلح بين الناس مما يجوز الكذب فيه شرعاً... فنعود إلى قول ربنا جل وعلى: (فأصلحوا ذات بينكم)أي كونوا أمة متحابة متآلفة لا تفرق بينكم الدنيا ولا الغنائم وهذا تربيه لصفوة الأمة وهم أهل بدر من لدن العليم الخبير جل جلاله (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله والرسول إن كنتم مؤمنين) قبل أن نأتي الآية التي بعدها ننتقل إلى الآية الإحدى والأربعين التي فسرت هذه الأية ثم بعد ذلك بين ألله جل وعلا قسمة الغنائم فقال: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير)هنا قسم الله الغنائم ،حب المال فطرت عليه النفوس،الله يقول:(وتحبون(18/11)
المال حباًجماً)وقال:(وإنه لحب الخير لشديد)وتفسير الخير هنا/المال والله يتكلم عن الإنسان فلا يعقل أن كل الناس يحب الخير الخيرالمعروف الذي هو ضد الشر،لكن الله هنا يتكلم عن المال،(وإنه لحب الخير لشديد)ولذلك لما علم الرب جلاوعلا أن النفوس جبلت على حب المال كان المال الذي يأتي للمسلمين على ثلاثة طرائق:.وكل هذه الثلاث تولى الله جل وعلا بنفسه تقسيمها ولم يكلها إلى أحد ولا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.وهذه الثلاث:.أولاً:الميراث.ثانياً:الغنيمة في الحرب.ثالثاً:الصدقات(الزكاة)والجزيه تدخل في الغنيمه.فهذه كلها تولى رب العالمين تقسيمها فالله جل وعلا قسم المواريث وأعطى كل ذي حق حقه،وقسم جل وعلا الغنائم.قال(واعلموا أنما غنمتم...)إلى آخر الآيه.وجاء إلى الزكاة الشرعية وقال:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)فهذه الثلاثة.(المصادر المالية)لم يكل الله تقسيمها لأحد وتولى جل وعلا تقسيمها بنفسه لعلمه تبارك وتعالى بحب الناس وتقاتلهم على المال جعلنا الله وإياكم ممن المال في يده وليس في قلبه ، الذي يعنينا / أن هذا الأمر تولى الله جل وعلا قسمة الغنائم . فجعلها تبارك وتعالى ، جعل الخمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)وقد اختلف العلماء في التوزيع لكن نختار منها قول مالك رحمه أنه يسند أمرها إلى الإمام فيعطي القرابة مايراه مناسبا ًلهم ويقسم الباقي ويضعه في المجاهدين الذين معه ، بالطريقة التي يراها مناسبة وقالوا : إن هذا فعل الخلفاء الأ ربعة من بعده صلى الله عليه وسلم نأتي هنا إلى قضية : تقسيم الغنائم على ذوي القربى ، والمقصود بذوي القربى/ قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لما قال الله ))واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسة وللرسول ولذي القربى)) أي قرابة النبي صلى الله عليه وسلم(18/12)
، واختلف العلماء في قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتم تقسيم خمس الغنائم عليه ،على ثلاثة أقوال :ـ أولاً:قول أنهم قريش كلهم.باعتبارأن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش وهذا أضعف الأقوال .ثانياً:وقول آخر: أنهم بنوهاشم فقط وهذا قول مالك رحمه الله والأوزاعي ومن تبعهما من العلماء . ثالثاً:وذهب الإمام أحمد والشافعي وكثير من العلماء وهو الصحيح إن شاء الله أن المقصود بهم بنو هاشم وبني المطلب وليس عبدالمطلب . تفصيل هذا علمياً :.أن النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، هذا هاشم ابن عبد مناف هذا عبد مناف والد هاشم ترك أربعة: ترك هاشماً وعبد شمس ونوفل والمطلب ، ليس عبد المطلب ، هؤلاء أربعة أبوهم واحد.هو عبد مناف،أصبحوا إخوة الأربعة النبي صلى الله عليه وسلم جاء من هاشم فالآن بنو هاشم استحقوا الخمس لأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معروف.بقينا في الثلاثه:.
1/المطلب.
2/ونوفل.
3/عبد شمس.(18/13)
تركوا أبناءلما جاءت قريش وحاصرت بني هاشم في شعب بني طالب حاصرت النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته من بني هاشم في الشعب وكان لهم ثلاثة أبناء عمومه لهم بنو المطلب،وبنو عبد شمس وبنو نوفل.بنو عبد شمس وبنو نوفل اتفقوامع قريش،بقينا في بني المطلب فقد دخلوا مع بني هاشم في الشعب ليناصروهم،فحفظها النبي صلى الله عليه وسلم لهم،فلما جاء يقسم الغنائم بعد خيبر جاءه من ذرية عبد شمس عثمان بن عفان رضي الله عنه وجاءه من ذرية نوفل/جبير بن مطعم رضي الله عنه وقالا يارسول الله لما وزع الغنائم أعطى بني المطلب وأعطىبني هاشم قالارضي الله عنهما يارسول الله:كونك تعطي بني هاشم هذه لا نعترض لأن الله عزهم بك لكن ما دمت أعطيت إخواننا من بني المطلب فنحن وبني المطلب إخوة فلماذا فرقت بيننا؟فقال صلى الله عليه وسلم:(إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام)لأنهم دخلوا معهم في حصار الشعب.ثم شبك بين أصابعه،وقال:إنما بنوالمطلب وبنو هاشم شيء واحد.فأصبح هذاالحديث حجه ظاهره في أنهم يعطون من الخمس كما يعطي بنوهاشم.وفيه مثل يقول:إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل.فما دام هذا الحديث نص في الموضوع يعتذر الذين قالوا أنها محصورة في بني هاشم أوعامة في قريش كلها.هذا توزيع الغنائم كما أمر الله جل وعلا وقد بيناه. نعود للسورة الآن .قال جل وعلا ذلك ، بعد أن ذكرنا قضية بدر. وقلنا إن معركة بدر هي أول معركة بين أهل الحق وأهل الباطل .بين المسلمين وبين الكفار. والنبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر بعد أن ألقي فيه الجمع منهم وأخذ يسألهم هل وجدتم ماوعد ربكم حقاً ، فأني قد وجدت ماوعدني ربي حقا،فجاءه عمررضي الله عنه وقال يارسول الله : كيف تكلم أقوام قد جيفوا فقال: يا عمر ماأنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لايملكون جوابا قال حسان :
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا
أصبت وكنت ذا رأي مصيب(18/14)
لكن كتب الله عليهم ما كتب عياذاً بالله هذه معركة بدر وهذه سورة الأنفال التي نزلت تبين الموقعة وتذكر جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك المعركة.نعود للسورة نفسها ثم قال الله جلا وعلا انتهى من هذه القضية يربي عباده الصالحين على الإيمان قال:"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون*الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون *أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"ذكر الله جل وعلا هنا أصحاب المنازل العالية من أهل الإيمان،المقربون ، أهل الدرجات الرفيعة ،أهل الإيمان الحق الذين اصطفاهم واجتباهم سواء من النبيين أو من أتباعهم إلى يوم الدين.فلم يذكر الله أعياناًًًًًًًًًًًًً باسمائها وإنما ذكر صفات يتحلون بها،جعلتهم مؤمنين حقاً،فقال في أولها " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " والوجل هو الخوف والمعنى: أنهم يصيبهم من الخوف والوجل والطمع والرغبة فيما عند الله ما تقشعر له الأبدان وترتجف له القلوب ثم لا تلبث قلوبهم أ ن تسكن وجوارحهم أن تهدأ بعد ذكر الرب تبارك وتعالى وهذا من أعظم دلائل الإيمان أن يجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى وهذا من أعظم دلائل الإيمان أن يجل قلب المؤمن إذا ذكر الله تبارك وتعالى فإذا خوف بالله خاف وإذا ذكربالله ذكر وإذا اتعظ بالله وعظ وإذا قيل له اتق الله لم تأخذه العزة بالإثم هذا الذي قال الله عنهم (إنما الؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم....)ثم قال: وإذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا) فالإيمان يزيد وينقص ينقص بالمعاصي ويزيد بالطاعات وأن مما يزيد إيمان المؤمن تلاوة كلام الرب جلا وعلا بل هذا من أعظم مايزيد الإيمان قال الله تعالى:(وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين ولايزيد الظالمين إلاخساراً) والمؤمن ينبغي عليه أن يكون يومه خيرمن أمسه وغده خيرمن يومه،(18/15)
يزداد إيماناًكلما تلى هذا الكتاب العظيم وعلم أن هذا القول قول الله جل وعلا وهذه مناقب ذكرها الله جلا وعلا في الأنبياء وذكرها الله جل وعلا في الرسل وذكرها الله جل وعلا في العامة.قال الله في الأنبياء:(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن خروا سجداًوبكيا)وقال جلا وعلا عن أهل العلم:"قل ءامنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً* ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا* ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) وقال الله عن عامة الناس (إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا ءآمنا فاكتبنا مع الشاهدين *ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين* فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهارخالدين فيها وذلك جزاء المحسنين)) فالمؤمن يحاول قدر الإمكان أن يرقى بنفسه إلى مستوى من وصفهم الله ونعتهم من أهل الدرجات العالية ممن وعدهم الله جنانه ومغفرته والرزق الكريم ،جعلني الله وإياكم منهم. ثم قال جل ذكره ( وعلى ربهم يتوكلون ) وهذا متصل بما قبله فإن من رزق الإيمان ومعرفة الله وما لله من كمال عظيم الرحمة وكمال القدرة وجلال العطاء وأن الله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه يجيب من دعاه ويؤي من لجأ إليه وأنه لا ملجأ ولا منجأ منه تبارك وتعالى إلاإليه صدق توكله على الله ، فذكر الله جل وعلا في الأول ثلاثة من صفات القلوب وهي:أولاً:الوجل أي الخوف . ثانياً:ثم ذكر زيادة الإيمان ثالثاً:ثم ذكرالتوكل وكلها أعمال قلوب . ثم انتقل جل وعلا إلى أعمال الجوارح وقال:(والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) والصلاة أعظم ما افترضه الله جل وعلا على عباده وخلقه بعد(18/16)
الشهادتين بها يتقرب العبد إلى ربه ولذلك فرضت الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج فلما كان صبيحتها كما قال سعيد بن جبير وغيره. صبيحة ليلة الإسراء المعراج بعد أن زالت الشمس يعني عند حلول وقت الظهرنزل جبريل من السماء فأم النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت فكانت أول صلاة فرضت من الصلوات الخمس صلاة الظهر أمَّ بها جبريل نبينا صلى الله عليه وسلم ليومين متتاليين صلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في أول وقته ثم صلى به كرة أخرى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في آخر وقتها وقال له بعد ذلك وهو يعلمه الصلاة ما بين هذين الوقتين أي ما بين هذين كله كله صلاة. والمؤمنون حتى في الصلاة يختلفون: من الناس والعياذ بالله من لا يصليها وهذا محال أن يطلق عليه مؤمن ومن الناس والعياذ بالله من يصليها في بيته من غير عذر ومنهم من يأتي إلى الجماعة ومنهم من هو أرقى درجة وأرفع منزله يسابق إلى التكبيرة الأولى قال صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند حسنه العلامة الألباني رحمه الله:(( قال من صلى لله أربعين يوماً يدرك التكبيرة الأولى .(أي تكبيرة الإحرام ) كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق)) وفقنا الله وإياكم لهذا العمل ثم قال جل وعلا يختم أعمالهم ((ومما رزقناهم ينفقون )) فالإنفاق مما آتاك الله حسن ظن بالرب جل وعلا وأن الله قادر على أن يعوضك وقد جاء في الأثر. لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله قال:ورجل تصدق بصدقه فأخفاهاحتىلا تعلم شماله ماتنفق يمينه ثم لما ذكر الرب تبارك وتعالى صفاتهم ونعوتهم والسرائر أمرها إلى الله،ذكر الله جل وعلا ما أعد لهم فقال عنهم(أولئك هم المؤمنون حقاً)ولا يعني ذلك أن من لم يبكي بخشية الله ليس بمؤمن، لأن الله يتكلم هنا عن أهل المنازل العالية ولايتكلم عن الإيمان الذي يفرق به من الإيمان والكفر فربما رجل هذه الخمس(18/17)
تجتمع فيه بعضها،ولا يجتمع فيه كلها فلا يقال عنه/أنه ليس بمؤمن،كل من شهد أن لاإله إلا الله وأن محمداًرسول الله ورضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا فالأصل أنه مؤمن،ثم أهل الإيمان يتفاوتون والأعمال قرينة الإيمان لا انفكاك بين الإيمان والعمل الصالح.ثم قال الله(أولئك هم المؤمن حقاً لهم درجات عند ربهم..)أي لهم درجات عالية في الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب في صورة أفقية ويأتي عليها يوم وهي كضيض من الزحام وفي داخل الجنة درجات متفاوتة ولقد سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عن أهل الدرجات العلى فقال الله جل وعلا كما في الحديث القدسي(أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي،فلم تسمع أذن ولم ترى عين ولم يخطر على قلب بشر)وقال الله في سورةالسجدة(فلا تعلم نفس ماأخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)والله لو أن ملكاً من ملوك الدنيا أجرى مسابقة وقال لمن يفوزبها أعطيه جائزة يتوقعها لتسابق الناس إليها لعلمهم أن هذا الملك لايمكن أن يعطي جائزة وضيعة يعير بها وأن الناس يتوقعون أن ينال هذا الفائز أعظم شيء مادام الملك قد أخفاه لأن الملك سيعطي على قدر ملكه فكيف إذا كان المانح والمعطي ومخفي الجائزة رب العالمين جل جلاله،من بيده خزائن السموات والأرض وله جل وعلا السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى فقال الله:(أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي)"فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" كما في الآية.ثم قال:(ومغفرة) دلالة على أن هؤلاء الذين هم المؤمنون حقاً لا يمكن أن يكون قد خلوا من الذنوب كلها هذا محال لا يمكن أن يوجد أحد خلى من الذنوب كلها،كلنا متكلم وسامع ومن قبلنا ومن بعدنا كلنا ذو خطأ ولن ندخل الجنة بأعمالنا لكن المؤمن شبه النبي صلى الله عليه وسلم كالفرس المعقود حبله في مكان ثابت مهما بعد يعود إلى مكانه ، مهما نأى يعود إلى مكانه كذلك المؤمن ،فالمسلم مهما نأت به(18/18)
المعصية أحياناً يفئ إلى ربه ويرجع إلى مولاه ويجدد التوبة ويسأل الله غفران الذنوب ويأتي بالحسنات علَّ الله أن يكفر بها ما سلف من الخطايا قال الله:(( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى لذاكرين)) وإن كنت قد ابتليت بنوع من المعاصي فليس الحل أن تبقى على أن تبقى على تلك المعاصي وتداهن أهلها وتبقى معهم الحل :
أن تتوب وترجع ولأن تلقى الله وأنت خلطت عملاً صالحاً وآخرسيئاً خير لك من أن تلقى الله وليس لك من العمل الصالح شيء ، والمؤمن حصين عاقل يعلم أن الله يغفر الذنوب ويقبل التوبة والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأن أغفر الذنوب جميعاًً فاستغفروني أغفر لكم) فالله جل وعلا وسعت رحمته كل شيء وباب توبته مفتوح وهو جل وعلا يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل فلا انفكاك من التوبة والأوبة والرجوع إلى الله جل وعلا ثم قال سبحانه :((ورزق كريم )) وهذا الرزق جاء بعضه في القرءآن قال الله عن أهل الجنة: ((كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة )) يقطف أحدهم الثمرة فما أن يقطفها وتقع في يده إلا وتحل محلها أخرى مثلها تماما فإذا أخذوا الثانية ورجعوا إلى الثالثة قالوا : ((هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها ))كما قال الله ((ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيهاخالدون))اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أنت ربنا لا إله إلا أنت لا رب لنا غيرك ولا إله سواك أنت خالقنا ورازقنا ، ولي نعمتنا وملاذنا عند كربتنا ، نسألك اللهم في هذه الليلة المباركة أن تصلي على محمد وعلى آله وأن تسلم تسليماً كثيرا وأن تغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها سرها وعلانيتها أولها وآخرها اللهم تب على من تاب من يارب العالمين(18/19)
اللهم تب علينا جميعاً ياذا الجلال والإكرام اللهم من حضر درسنا هذا يريد أن يتقرب إليك ويسدرف إليك فاللهم تب عليه وأعنه على نفسه يا ذا الجلال والإكرام وأكرم مجيئه يا حي يا قيوم وارزقه التوبه النصوح الصادقه إليك يا ذا الجلال والإكرام اللهم إن لنا من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه غيرك ولا يعرفه سواك فاغفر اللهم لنا ذنوبنا أجمعين ياذا الجلال و الإكرام واجعلنا اللهم مباركين أينما كنا لا إله إلا أنت اغفرلنا ولوالدينا ولمن له حق علينا ورزقنا اللهم من فضلك واغننا بفضلك عمن سواك اجعلنا اللهم من افقر خلقك إليك واغنا عبادك بك لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين (سبحان ربك رب العزة عما يصفون *وسلام على المرسلين * والحمد لله ربالعالمين ) .(18/20)
تأملات في سورة التوبه(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلىآله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره وتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ...أما بعد..فهذا هو اللقاء المتجدد حول تأملات لنا لكتاب ربنا جل جلاله وقد كنا قد انتهينا إلى سورة الأنفال وسنشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تأملات في سورة التوبة سائلين الله جل وعلا التوفيق لما يحبه ويرضاه والعون والسداد على التأمل فيها ...على أنني أكرر ما أقوله دائما إن المخاطب في مثل هذه التأملات هم طلبة العلم في المقام الأول ولهذا يهمنا جدا أن نعرج على مافي الآيات من مسائل علميه يحسن تدوينها والمقصود من هذه الدروس وأضرابها المقصود من ذلك كله إنشاء جيل قرءآني يتدبر القرآن وهذه مساهمة لا أكثر ولا أقل في إحياء جيل ينشأ على تدبر القرآن لأن الله جل وعلا نعى إلى أهل الإشراك إغفالهم عن القرآن بقوله (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)فإننا نقول مستعينين بالله جل وعلا سورة التوبه سورة مدنيه وعدد آياتها/مائتان وتسع وعشرون آية وهذه السورة من آخر ما نزل من القرآن كما ثبت عند البخاري في صحيحه في كتاب التفسير من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه (أن سورة براءه من آخر مانزل) وليس المقصود بأنها آخر ما نزل كآيه وإنما كسورة مجمله هي آخر ما نزل وإلا كآيه قد عرجنا عليه في مسائل عدة .اختلاف العلماء في آخر مانزل منهم من قال (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) وهو الأظهر.ومنهم من قال إنها آية المائدة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقيل غير ذلك لكن هذين هما المشهوران الذي يعنينا أن سورة التوبه هي آخر مانزل وقبل أن نشرع في تفسير الست(19/1)
الآيات الأول منها نقدم اجمالا عن هذه السورة، النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله جل وعلا عليه القرآن أول ما أنزل (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فكان لم يؤمر صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه إلى الناس كان يقرأه بينه وبين نفسه ومن سنة الله في خلقه التدرج وعدم اعطاء الشيء دفعه واحدة فمن رام شيئا دفعه واحدة سيسقط عما قليل ولكن الله جل وعلا له سنن لاتتبدل ولا تتغير والله لايعجل لعجلة أحد من خلقه والله يقول لعبده (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) فلا يعطى الإنسان العطايا مره واحدة وإنما يتدرج فيها على هذا بنيت الدنيا... على هذا أجرى الله السنن في الكون، فهذا النبي الكريم أنزل عليه (اقرأ باسم ربك الذي خلق)ولم يقل له (ادع الناس) ولم يقل له"اتل القرآن على الناس"ولم يقل له شيء من ذلك فلما نزل من ذلك الجبل خائفا وجلا وضمته زوجته خديجه رضي الله عنها وءآوته واطمأنت نفسه أنزل الله جل وعلا عليه (يا أيها المدثر* قم فأنذر) ينذر من؟أنزل الله عليه(وأنذر عشيرتك الأقربين) الذين حوله ولم يؤمر بأكثر من هذا ثم بعد ذلك أمر بالعرب الذين في مكه وحولها قال الله (لتنذر أم القرى ومن حولها) والقرآن يجب أن يفهم مقرونا بالسنة لأن من أخطاء من وقع في كتاب ربنا جل وعلا أنهم فهموا القرآن مجزوءا ولم ينظروا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته حتى يفهم القرآن ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنه ومن غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يفهم شيئا وهذا هو الذي وقع فيه الخوارج الأولون لما حاربوا حتى الصحابه لأنهم يفهموا مراد الله على ماأراده الله من رسوله صلى الله عليه وسلم فالله يقول(لتنذر أم القرى ومن حولها)لكن لايقصد الله بهذا نهاية النذارة وإنما التهيئه تدريجيا ثم أمره الله بأن ينذر العرب قاطبة ثم لما مكن الله له في الأرض صلوات الله وسلامه عليه وعقد صلح الحديبيه مع أهل مكة واطمأن من مقاومتهم أخذ صلى(19/2)
الله عليه وسلم يأتي بعالمية الدعوة ويراسل الملوك والزعماء آنذاك ليحقق قول الله جل وعلا(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وقوله جل وعلا(وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين) في ظل هذا المفهوم يفهم الإنسان المقصود من سورة التوبة هذه السورة قلنا إنها من آخر مانزل في عام تسع من الهجره في شهر رجب خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش العسرة إلى تبوك وقد قلنا في أكثر من درس أن هذه الغزوة سميت في القرآن بغزوة العسرة قال الله جل وعلا (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) وسماها النبي صلى الله عليه وسلم في السنه/ غزوة تبوك ولذلك الإمام البخاري رحمه الله لما تكلم عنها قال "باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة"حتى يجمع بين تسمية السنه وتسمية القرآن. المقصود في عام تسع من الهجرة خرج صلى الله عليه وسلم في جيش العسرة إلى تبوك هذا الظرف الذي كان في جيش العسرة، كان فيه شح في المال وظهور في الثمار وحرا في المناخ أصاب الناس فتن فانقلبت الناس، كانوا أقسام في اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم .منهم المثبطون، المحبطون، الناصرون، البكاؤون...فرق شتى فنزلت هذه السورة تبين حال المجتمع المدني وقت أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة واستنفر الناس إلى غزوة العسرة بينتهم بجلاء فكشف الكثير من الأسرار كما سيأتي ثم بعد ذلك بعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك لما عاد من... تخوم البلغاء وأذعن له الروم عامة بمعنى أنه لم يحصل حرب لكن اطمأن صلى الله عليه وسلم أن الروم لن تغزوه فرجع من تبوك لما لم يجد قتالا رجع إلى المدينة أراد صلى الله عليه وسلم أن يحج في العام التاسع ثم قال: إن العرب تحج وهي عراة وأنا لاأريد أن أحج على هذا الوضع فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يخرج بالناس حاجا .أمير على الحج لأن مكه كانت قد فتحت في العام الثامن ونحن نتحدث في العام التاسع فبعث النبي صلى(19/3)
الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج ثم بعد ذلك اتبعه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ليظهر في الناس مقدمة سورة براءه فمقدمة سورة براءه الآيات الأول من سورة براءه الخمس الأول أوالست الأول من سورة براءه وإن كانت في مقدمة السورة إلا أنها من آخر مانزل في نفس السورة ،لأن السورة تكلمت عن المنافقين وعن حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم مابين رجب إلى ذي الحجه ثم جاءت مقدمة السورة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها في المقدمه فالقرآن ترتيبه الآن الذي نقرأه ليس على ترتيب نزوله من أهم مايجب أن تعلمه أن ترتيب القرآن على مانقرأه ليس على ترتيب نزوله فالفاتحه مثلا أول القرآن لكنها ليست أول سورة فالآيات الخمس من سورة العلق هي أول مانزل، فترتيب القرآن ليس ترتيبا حسب النزول وإنما لحكمه توقيفيه آرادها النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كان يملي الكتبه ويقول افعلوا كذا... واتركوا كذا... وضعوا الآيه في مكان كذا... والسورة بعد كذا... فترتيب القرآن ترتيب سور المصحف ترتيب توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم نفذه الصحابه .الذي يعنينا هذا هو المناخ العام لفهم سورة التوبه إذا ينجم عن هذا أن سورة التوبه ذكرت مواضيع عدة لكنها يمكن أن يقال أن موضوعين رئيسيين تضمنتها سورة التوبة:ـ الموضوع الأول :ـ علاقة المسلمين بالمشركين وأهل الكتاب.(19/4)
الموضوع الثاني:ـ كشف أسرار المنافقين وحال الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينه وفي جيش العسرة على وجه الخصوص .هذان الموضوعان الرئيسيان اللذان تعرضت لهما سورة التوبه قال الله جل وعلا (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين *فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين*وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم...)إلى آخر الآيات إلى أن قال الله (وإن أحد من المشركين استجارك...) الأيه السادسه هي سنتكم عنها في لقاء هذا اليوم أول ما يلفت النظر في هذه السوره أنها ليست مصدره بالآيه الشهيره (بسم الله الرَّّحمن الرَّحيم) ولذلك اختلف العلماء لماذا لم تصدر سورة براءه بـ (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم) على أقوال عده:ــ
أشهر هذه الأقوال ثلاث:ــ
وسنبدأ بالأضعف ثم الأقوى ثم ما نره راجحا على عادتنا في التفسير..
*أما الأضعف: فقد قيل إن من أسباب عدم ذكر( بسم الله الرحمن الرحيم) في أول سورة براءة أنها جرت عادة العرب أنه إذا كان ما بين قوم وقوم عهد فأراد أحدهم أن ينقضه كتبوا إليهم كتابا غير مصدر بالبسمله وهؤلاء يعنون بكلمة (بسم الله الرحمن الرحيم) (باسمك اللهم) هذا قول ذكره العلماء وهو أضعف الأقوال...
القول الثاني:ــ(19/5)
ما رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:ــ أن ابن عباس سأل عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال له: لما جعلتم سورة الأنفال وهي من المثاني وبعدها سورة التوبة وهي من المئين ولم تجعلوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه لابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت إذا نزلت عليه السوره أو الآيه يقول ضعوها في مكان كذا في سورة كذا بعد كذا وكذا وإن سورة الأنفال من أول ما نزل بالمدينه وإن سورة التوبة من آخر مانزل فمات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يبين لنا هل هما سورة واحده أم لا فاختلف الصحابه فمنهم من قال إنهما سورة واحده ومنهم قال إنهما سورتان فلم يفصلوا بينهما وجعلوا بينهما فرجه حتى يعرف أنهما سورتان منفصلتان ولم يكتب بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يبقى قول من قال إنهما سورة واحده يعني/ الصحابه تراضوا على هذا القول أنهم جعلوا بينهما فرجه حتى يرضوا من قال أنهما سورتان ولم يكتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) بينهما حتى يرضوا من قال: أنهما سورة واحده هذا القول اختاره العلامه الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان وقال: كعادته قال: مقيده عفى الله عنه وهو أظهر الأقوال عندي "عند الشنقيطي رحمه الله" هذا بناء على صحة الحديث والحديث رواه الحاكم كما قلت وقال صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه (أي على شرطي البخاري ومسلم) ولم يخرجاه معناه/ لم يذكراها في الصحيحين هذا على صحة الحديث وقلت رواه أحمد في المسند ورواه البيهقي في السنن لكن قال الألباني رحمه الله: إن الحديث ضعيف وأغرب منه قال العلامه أحمد محمد شاكر محقق كتاب المسند قال: إن الحديث موضوع لا أصل له وهذا صعب أن يقال لكني لم أطلع إلى الآن على نص كلامه لكن كلامه مثبت في مكان آخر. قال: إن الحديث موضوع لا أصل له والحق أن المتن يؤيد قول أحمد محمد شاكر رحمه الله لأن(19/6)
الحديث فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يبين لنا هل هما سورة أو سورتان هذا صعب أن يقال فمتن الحديث يساعد على قول العلامه أحمد محمد شاكر أن الحديث لا أصل له وقلت: إن الألباني رحمه الله يقول إن الحديث ضعيف أما من رأى صحة الحديث من العلماء كالترمذي حسنه أخذ به وذهب إلى أنه ما دام حسنه فهو صحيح عنده والأثر مقدم على العقل مقدم الأثر على الرأي عند كثيرين فلذلك اختار الشنقيطي رحمه الله القول بأن أظهر الأقوال هو هذا القول المحكي عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه...
القول الثالث:ـــ(19/7)
مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن سفيان بن عينيه المحدث المشهور وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء وهو الذي نراه ونرجحه ونختاره والله أعلم، وهو أن سورة براءة نزلت بالسيف و (بسم الله الرحمن الرحيم) فيها أمان ورحمه والأمان والرحمه لا يتفق مع السيف وسورة براءة نزلت بالسيف والبراءه من أهل الإشراك وقوة الحجه على المنافقين وهذا لايتفق مع قوله جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا مجمل الأقوال الثلاثه التي ذكرها العلماء رحمهم الله في قضية لماذا لم تصدر سورة براءة بقول الرب جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) وخلاف العلماء فيه بقية... الأقوال يجب أن لا ينظر فيها لأنها بعيده جدا فيما نحسبه عن الصواب والله تعالى أعلم نعود إلى السوره:ـ قال الله في أولها: قبل أن نذكرها تفسير تفصيلي نقول: هذه السورة من أسمائها سورة الفاضحه وهذا مروي عن ابن عباس لأنها فضحت أحوال أهل النفاق وقد قال سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس أحد مشاهير التابعين خرج على الخليفه عبد الملك بن مروان فقتله الحجاج بن يوسف بأمر من عبد الملك بن مروان في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث طبعا أنا أؤكد على من هم المفسرون وأذكر طرفا من أخبارهم لأنك تدرس تفسير فينبغي أن تعرف الأحاديث المعينه في التفسير والعلماء الذين تصدروا أهل التفسير وسعيد بن جبير هذا عرض القرآن على ابن عباس من أوله إلى آخره ثلاث مرات ، يستوقفه عند كل آيه ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير بعد ذلك بسنين قال الإمام أحمد رحمه الله: قتل الحجاج سعيدا وما من أحد من أهل الأرض إلا وهو مفتقر إلى علم سعيد وقلنا إن سبب قتل الحجاج لسعيد بن جبير أنه خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث على عبد الملك بن مروان الخليفه الأموي المعروف الذي يعنينا أن سعيد بن جبير يقول: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: هي الفاضحه ما زال ينزل ومنهم... ومنهم... ومنهم... يعني يذكر الله فيها(19/8)
المنافقين (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا....) إلى آخر الآيات فما زال ينزل ومنهم ومنهم ...حتى خفنا ألا تدع أحد منهم فلذلك سميت بالفاضحه لأنها فضحت أحوال أهل النفاق عياذا بالله هذا ما يتعلق بتسمية السورة وقد أوصل الزمخشري رحمه الله في كتابه [الكشاف] عدد أسماء السورة إلى أربعة عشر. والزمخشري عالم لغوي شهير لكن عقيدته عقيدة المعتزله فجار الله الزمخشري رحمه الله وعفا عنه من مشاهير المعتزله ودافع عن مذهبهم دفاعا صلبا وإن كان من أفذاذ العلماء في اللغه والذي يعنينا الآن الرجل مات وأفضى إلى ما قدم الذي يعنينا العلم وقد ذكر أربعة عشر اسما في السوره لكنها كلها يدور في فلك واحد كلها يدور حول قول سعيد ابن جبير أنها الفاضحه هذا ما ذكرناه في سبب عدم تصدر السوره (بسم الله الرحمن الرحيم) وقلنا إن من أسمائها الفاضحه قال الله فيها: ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) يوجد مُتَبَرِئْ ويوجد مُتَبَرَأْ منه فالمُتَبَرِئْ/" الله ورسوله..."
والمُتَبَرَأْمنه/" من الذين عاهدتم من المشركين..."
البراءه/ الإنفكاك والتخلص من الشيء ولا تكون البراءه من شيء إلا إذا كنت لا تريده بالكليه وهي أعظم صفات الإنفكاك من الأشياء فأنت إذا تعاملت مع أحد وأخذت صك براءه فلا يستطيع خصمك أن يطالبك بأي شيء لانفكاك تماما عنه فالله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس هذه طبعا براءه: خبر لمبتدأ محذوف تقديره/"هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" النبي عليه الصلاة والسلام كان الناس حوله ثلاثة أقسام:ــ
1/ أهل حرب.. 2/أهل ذمه.. 3/ أهل عهد..
1/أهل الحرب:ـــ
الذين يحاربونه والذين مازال بينهم وبينه حروب....
2/أهل العهد:ـــ
الذين في الأصل هم محاربون لكن يوجد عهد لمده معينه....
3/ أهل الذمه:ـــ(19/9)
غير مسلمين يعيشون تحت حكم المسلمين، كاليهود الذين كانوا أفرادا في المدينه هؤلاء يسمون أهل ذمه.
الخطاب هنا ليس موجها لا لأهل الحرب ولا لأهل الذمه موجه لأهل العهد (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) هذه البراءة فيها (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) معنى الآيه يأخي: أن من كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد أو لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فقد جعل الله لهم أربعة أشهر هذه الأربعة أشهر حرم الله فيها على المسلمين قتال أهل الإشراك قال لهم (فسيحوا في الأرض) الخطاب/ للمشركين سيحوا في الأرض أي اقبلوا وادبروا...سافروا...اذهبوا كيفما شئتم..لن ينالكم أذى من المسلمين هذا بأمر من الله لكن بعد الأربعة أشهر ينتهي الأمان..كما سيأتي..(19/10)
(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ثم قال الله (واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي وإن أذن الله قدرا وشرعا أن تبقوا أربعة أشهر تسيحون في الأرض إلا أن ذلك لا يعني أبدا خروجكم وانفكاككم عن سلطان الله لأن هذا العطاء من الله أصلا (وأن الله مخزي الكافرين) الخزي في الكافرين واقع لامحاله في الدنيا والآخره واقع في الدنيا/ بالحرب والقتل والأسر وبما يقع فيه من التعذيب والنكال. ويقع في الأخره قطعا/بشيء واحد هو عذاب النار(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)يجب أن تعلم أن المخاطب بها :المشركين لذلك لايجوز نزع الآيه من سياقها والاحتجاج به وقد قرأت مرة لأحدهم يكتب عن السياحه وعلى أنه يجوز للمؤمن من السياحه مطلقا في أي ديار فقال فإن السياحه مباحه قال الله جل وعلا (فسيحوا في الأرض) وهذا إخراج النص من سياقه ووضعه في موضع غير موضعه هذا (فسيحوا في الأرض)مخاطب بها/المشركون والمقصود أنه لكم أمان من الله .أن تبقوا في الأرض أربعة أشهر أعطاكم الله إياها حتى يراجع المرء منهم حسابه ويتدبر في أمره ربما يفيء على أمر الله،بعد ذلك ينتهي الأمان الذي أعطاهم الله جل وعلا لهم ثم قال الله (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الكافرين بعذاب أليم) الأذان في اللغه/ هو الإعلام ،هذا الأذان تولاه علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه النبي صلى الله عليه وسلم قدمنا أنه بعث أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج فلما وصل أبو بكر رضي الله عنه إلى ذو الحليفه بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعده علياً وأبو بكر رضي الله عنه حج بالناس وهو على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم العظباء أميرا على الحج في العام التاسع فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة سورة براءة أعطاها لعلي رضي الله عنه فأخذها علي رضي الله عنه حتى لحق بأبي بكر رضي الله(19/11)
عنه لذي الحليفه المسماه اليوم (بأبيار علي) طبعا لا علاقه لعلي بها وإنما التسميه هذه جاءت متأخره أما على عهد الصحابه والتابعين لم تسمى (أبيار علي) وإنما هذه سميت متأخره للرجل اسمه علي مجهول لا يعرف لكنها مذكوره في التاريخ القديم الذي يعنينا وصل علي رضي الله عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر لعلي وهذا من أدب الصحابه بعضهم مع بعض قال له: أمير أم مأمور فقال علي رضي الله عنه: بل مأمور هذه البراءه لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من أهل الإشراك وأن يبين حاله مع مشركي العرب، والإسلام دين واضح لا خداع فيه ولا تمويه لما أمر الله نبيه أن يفعل هذا جرت العاده أن مثل هذه الأمور لا يبلغها إلا الرجل بنفسه أو رجل من عصبته ولا شك أنه من حيث القرابه والعصبه واللصوق بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن عليا أقرب للنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه وإن كان أبو بكر أفضل من علي رضي الله عنه قطعا لكن علياً ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر بل ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من كل أحد لأنه زوج ابنته وتربى في حجره وابن عمه وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لم يجمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص ما جمع لعلي رضي الله عنه وهو الذي تولى غسله عليه الصلاة والسلام فالصحابه الذين من آل البيت كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أيام وفاته كانوا إما يحملونه صلى الله عليه وسلم يعني العباس كان مسند يده ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأسامه كان يسكب الماء لكن كان الذي يباشر الماء علي رضي الله عنه ولما نزلوا في حفرته عليه الصلاة والسلام كان علي من باشر دفنه صلوات الله وسلامه عليه فعلي من حيث القرابه ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم من كل رجل وإن كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وله مزيه لكن تأخر إسلام العباس جعل لعلي تلك المنزله فالرسول صلى الله(19/12)
عليه وسلم حتى يبين للعرب الذين لهم أعراف وعادات يحكمها النظام القبلي القديم أبقاه النبي صلى الله عليه وسلم وبعث عليا بالبراء بفواتح سورة براءة مع أبي بكر رضي الله عنه فكان الأمير هو أبو بكر رضي الله عنه وإنما تبليغ البراءه مسند إلى علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه الله يقول :(وأذان من الله ورسوله إلى الناس) الآن لم يقل الله ما هو الآذان ما هو الإعلام (إلى الناس) ذكر الله الزمن تشويقا (يوم الحج الأكبر) واختلف العلماء رحمهم الله بما هو المقصود بيوم الحج الأكبر على أقوال: لكن هذه الأقوال تزدحم أخيرا في قولين وقولنا دائما من قواعد العلم..ضيق المسافات حتى تصل إلى قمة الهرم فذكرت أقوال عده تضيق منها من قال :أنه يوم عرفه وهو منقول عن كثير من الصحابه والذي عليه أكثر العلماء وأهل التحقيق أنه يوم النحر وسمي يوم الحج الأكبر لأنه لا تجتمع أعمال الحج في يوم كما تجتمع في يوم النحر والذي يظهر والله أعلم أنه يوم الحج الأكبر هو يوم النحر الآن إلى هنا لم يقل الله ما هو الأذان قال الله:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله..) والغايه المجمله من الآيه براءة الرب جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم من أهل الإشراك وهذا يدل على أنه ليس بين المؤمن والمشرك في الأصل أي عقد من الولايه وبين كل مؤمن ومؤمن عقد من الولايه بأصل الإيمان فمهما اختلفت اللغات والجنسيات وتباعد الديار وما أحدثه الإستعمار من فرقه إلا أن الله يقول: (إنما المؤمنون إخوه) فأنت ومنهم في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب إخوان في المله والدين ولو أن أخاك من أمك وأبيك لا قدر الله كان كافرا فليس بينك وبينه أي ولايه لا ترثه ولا يرثك والله يقول عن إمام الحنفاء إبراهيم:(فلما تبين له) أي أن أباه (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) والمقصود من هذا أن الله جمع المؤمنين بتوحيده وخالف بينهم(19/13)
وبين أهل الإشراك لأنهم أشركوا فقال الله:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) هذه البراءه لم يكن وحدها التي ذهب بها علي وإنما أمر علي أن ينادي في الناس بأربعة أمور: 1/أن لا يطوف بالبيت عريان وكانت قريش تسمى نفسها الحمس ويقولون لمن يقدم عليهم من خارج مكه لا يجوز أن تطوف في ثياب فأنت واحد من أمرين:ــ إما أن تشتري ثوبا قريشا أو تأخذ ثوبا من أحد قريش أو أن تطوف عريانا فكان الناس بعضهم يطوف عراة على فقه قريش فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن ينادي بألا يطوف بالبيت عريان..2/ أن لا يدخل مكه بعد هذا العام مشرك وهذه قالها الله في كتابه: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) فلا يقرب المسجد الحرام مشرك..3/ من كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته.4/ أنه لا يدخل الجنه إلا نفس مؤمنه..ختم الله لنا ولكم بالإيمان وأدخلنا الله وإياكم الجنه.هذه هي التي أذن بها علي رضي الله تعالى عنه في الحج (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله...)نأتي عند "ورسوله" وقلنا هذا الدرس علمي هذه "ورسوله" الواو هنا تحتمل احتمالين:ـالإحتمال الأول/ أن تكون عاطفه والإحتمال الذي عليه القراءه اليوم وهي أن تكون:ـ استئنافيه فإن كانت عاطفه فلها من حيث التصور احتمالان: الإحتمال الأول/ والإعتقاد به كفر أن يقرأها القاريء (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولِه..) فتعطف الرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين فيصبح معنى الآيه في غير القرآن أن الله متبرأ من المشركين متبرئ من رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قرأها أعرابي بهذه الصوره/ سمع رجلا يلحن لا يعرف قواعد اللغه وعنده أعرابي قليل الفقه الرجل العامي يقرأ: (أن الله برئ من المشركين ورسولِه) فقال الأعرابي: برئت(19/14)
من رسول الله برئت فيمن برأ الله منه هذا السبب كان فيه سبب أحد أسباب قيام علم النحو فإن أبا الأسود الدولي يقولون/ أنه لما سمع هذا الأعرابي ذهب إلى علي رضي اله عنه وأخبره الخبر فقال له: انحُ للناس نحوا فصنع علم النحو طبعا هذه لا يقولها مسلم إلا جهلا ولا تجد مسلما يعتقدها أو يقولها هذا الإحتمال الأول من حيث النحو لكنه لا يمكن أن يقع شرعا..الإحتمال الثاني/أن تكون رسوله معطوفه على لفظ الجلاله فتؤتى بالنصب فيصبح المعنى (أن اللهَ برئ من المشركين ورسولَهُ) فتصبح "ورسوله" معطوفه على لفظ الجلاله والمعنى هنا يستقيم وبه قراءة..الحاله الثالثه:ـ (أن الله بريء من المشركين) وتقف وتأتي الواو استئنافيه كلام جديد والمعنى: ورسوله كذلك بريء من المشركين.وهنا الواو تسمى استئنافيه وحق الاسم هنا أن يرفع لأن مابعد واو الإستئنافيه يعرب مبتدأ . (فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله)والخطاب للمشركين.(وبشري الكافرين بعذاب أليم)ثم قال الله جل علا (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد )هذه الآية قبل أن أفصل فيها تسمى آية السيف.طبعا عرفنا أن فيه سور من القرآن لها أسماء لكن ينبغي أن تعلم أن هناك آيات من القرآن لها أسماء وأنا سأراجع اليوم معكم أربع من آيات القرآن المسماه أشهر آية في القرآن مسماه :آية الكرسي وهي قول الله جل وعلا (الله لاإله إلا هو الحي القيوم....) الآية الخامسه والخمسون بعد المائتين من سورة البقره ثم بالترتيب :آية الدين أو آية المداينة اسم واحد وهي الآية الثانيه والثمانون بعد المائتين من سورة البقره (يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ...)إلى آخر الآية.والآية الثالثة:آية المباهلة الواحدة والستون أوالثالثة والستون من سورة آل عمران .(فمن حاجك فيه من بعد ماجاءك من العلم فقل(19/15)
تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين)الآيه الرابعه:ـ آية السيف وهي الخامسه من سورة براءة.سميت آية السيف لأن الله أمر فيها بالقتال وقال بعض العلماء /إن هذه الآية ناسخة لكل مافي القرآن من أمور الكف والإعراض الله يقول (فاصفح عنهم وقل سلام)وقال (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا)وأمر نبيه بالصبر لكن قالوا هذه الآية ناسخه لكل ذلك وقال بعضهم إن آية سورة محمد (فإما منا بعد وإما فداء)ناسخه لآية السيف .وقال آخرون : إن آية السيف ناسخه لسورة محمد والحق أن لا أحدهما تنسخ الأخرى . وإنما العمل بهما جميعا وكل منها توضع في موضعها الذي سيظهر في سياق الكلام .الذي يعنينا أن هذه الآيه اسمها آية السيف وهي الآيه الخامسه من سورة التوبة.قال الله تعالى(فإذا انسلخ الأشهر الحرم )انسلخت / يعني مرت وانتهت.لكن ماهي الأشهر الحرم؟تحتمل معنين :الأول :ـ الأشهر الحرم التي في الذهن"ذوالقعده ـ وذوالحجةـ ومحرم ـ ورجب" ثلاثة سرد وواحد فرد ، ثلاثة سرد"ذوالقعده ـ وذوالحجه ـ ومحرم"وواحد فرد "رجب"هذا في الذهن.الثاني:ـ اللفظ الآن في (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)يعود على الأربعة أشهر التي مرت معنا (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) فالعودة إلى المذكور أصح من العودة إلى المقدر . فنعيد هذه الأربعة إلى قول الله جل وعلا (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر...)وأخذت كلمة حرم لأنه هو الذي حرم فيها على المسلمين قتال المشركين من هذا المعنى أخذت كلمة "حرم".(فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ربنا يقول (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)من هنا أخذ العلماء أن هذه الآيه اسمها آية السيف لكن يوجد في القرآن عام وخاص ويوجد في القرآن ناسخ ومنسوخ وبينهما فرق دقيق لايظهر إلا بالتطبيق لكن عموما النسخ لايقع في الأخبار ويقع التخصيص في الأخبار ،النسخ يقع في الشرائع لكن التخصيص لايقع بين شريعه وأخرى هذا من حيث الإجمال.أما(19/16)
من حيث التفصيل العام له ألفاظ اللفظ العام له من أشهر ألفاظه "كل"كلمة "كل"من أعظم ألفاظ العموم في القرآن وهي أم الباب يتبعها أدوات الشرط "من" ويتبعها بعد ذلك الأسماء الموصوله"الذي"ثم المضاف إلى معرفة...أمور طويله نبقى في الثلاث الأوائل.أما التخصيص فيقع على قسمين:الأول:ـ مخصص متصل.الثاني:ـ مخصص منفصل. سأضرب مثال على المخصص المتصل والمخصص المنفصل سنأخذه في آية السيف.المخصص المتصل:الله يقول (كل شيء هالك)هذه "كل"من ألفاظ العموم لكن هذا العموم خصص بقول الله تبارك وتعالى (كل شيء هالك إلا وجهه)فوجه الله ـ تعالى الله عما يقول الظالمون ـ ليس بهالك لأن الآية خصصته من كلمة"كل" خرج منها بحرف الإستثناء "إلا" استثني وجه الله تبارك وتعالى .فالإستثناء طريقه من طرائق التخصيص .فكل من ألفاظ العموم وخصص وجه الله جل وعلا من ألفاظ العموم هذا التخصيص وقع كله في آية واحدة لذلك اسماه العلماء تخصيص متصل .والشق الثاني:تخصيص منفصل هو الذي بين أيدينا يقول الرب جل وعلا (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) سأبدأ من النهايه (حيث وجدتموهم )يدل عموم على أن المشرك يقتل في أي مكان .لكن هذا الكلام لايصح هذه الآيه مخصصة بآية أخرى أنه توجد أمكنه لايجوز قتل المشرك فيها (في الحرم المكي)الله يقول (ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) إذا كيف يجمع مابين الآيتين ؟ أن يقال أن آية التوبة عامه وآية البقرة مخصصة لعموم آية التوبة فالمشرك يجوز قتله في أي مكان إذا لم يكن هناك عهد أو لم يكن هناك ذمه يجوز قتله حيث وجدناه إن لم يكن له عهد ولا ذمه ولا ميثاق إلا في المسجد الحرام فلو جاء إنسان وقتل أحدا في المسجد الحرام وقال إن الله يقول (حيث وجدتموهم)قلنا له إن هذه الآيه العامه خصصت بقول الرب جل وعلا(ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه)هذا تخصيص مكان.نرجع قليلا الله يقول(واقتلوا(19/17)
المشركين)تعم كل مشرك لكن هل يجوز قتل كل مشرك؟هنا مخصصه بالسنه لا يجوز قتل النساء ولايجوز قتل الرهبان ولايجوز قتل الأطفال دلت السنه في آثار عده متعاضدة أنه لايجوز قتل النساء ولاقتل الصبيان ولاقتل الرهبان إذا العموم الذي وجد هنا في قوله جل وعلا(المشركين)خصصته السنة فأخرجت السنة النساء وأخرجت الأطفال وأخرجت الرهبان وفي روايه أخرجت الشيخ الكبير الهرم إن لم يكن له دور في المعركه أما إن كان له دور حيث أنه مدبر أو مفكر أو مخطط للمعركه فيجوز قتله ولو كان شيخا فانيا مثل: دريد بن الصمه كان شيخا كبيرا فانيا وكان ذا عقل وتدبير وهو أحد فرسان العرب أدرك الطائف وهو كبير لكن العرب عفا الله عنا وعنهم فيهم أنفه كانوا يقدمون رجلا يقال له مالك أو كعب ذاعلم بالمعركه ودريد أشد خبره من مالك هذا فلما أعمى يقودوه في المعركه وهو أعمى يتحسس الأرض ويسأل أين نحن؟قالوا أنت في ديار كذا قال ماتصلح ديار حرب أخرجوا فخاف الزعيم وهو من نفس القبيله أن يأخذ دريد الأمر عنه فما أراد أن يكون لدريد فيها نصيب فجاء بالسيف ووضعه على يد يعني وضع السيف وجعل نصل السيف قائم وثنى بطنه على السيف وقال إن لم تطعني هوازن قتلت نفسي يريد أن يخرج منها دريد بالكلية فهوازن كانت متعاطفه معه القبيله قالوا أنت الزعيم الذي تقوله هو الذي يمضي لن نأخذ برأي دريد فرفع نفسه عن السيف ووقعت الهزيمه عليه وكان رأي دريد أشد صوابا لكنه لم تأخذ به العرب.وهو القائل المثل
المشهور:
وهلْ أنَا إِلا مِن غَزِيةُ إِن غَوتْ.
غَوَيتُ وإنْ تَرْشُد غَزيةُ أَرْشُد.(19/18)
هذا دريد بن الصمه قتله المسلمون وهو شيخ كبير لأنه كان يخطط وله دور في المعركه أما الشيخ الكبير الذي ليس له يد في المعارك فهذا يترك .نعود اللآيه.قلنا إن هذا تخصيص فالله يقول (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)وهذا كله أمر بتضيق الخناق عليهم.ثم قال الله جل وعلا(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)هذه الآيه استدل بها بعض العلماء/على أن تارك الصلاة كافر وحجتهم/قالوا إن الله ذكر ثلاثة أسباب هي العودة من الشرك وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.وقالوا إن إيتاء الزكاة خرج بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث(ثم ينظر في سبيله تارك الزكاة هل هو إلى الجنه أو إلى النار)ويبقى تارك الصلاة صاحب الشرك على حاله.وهذا رأي جيد وإن كان هذا ليس محل تفصيله لكن أنا أذكره لمناسبة الآية(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) ثم قال سبحانه (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) بعد أن ذكر الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم كيفية التعامل مع أهل الإشراك قال له (إن أحد من المشركين) طلب أن تجيره أن يلجأ إليك فالله يأمر نبيه أن يقبل تلك الإجاره وأن يجير ذلك لسبب عظيم وهو (حتى يسمع كلام الله)فإذا سمع كلام الله ومافي كلام الله من وعد ووعيد وثواب وعقاب ربما كان ذلك سبب في اسلامه بدليل أن الله قال بعدها (ذلك بأنهم قوم لايعلمون)الذي ينبغي أن تفهمه من الآية أن تفهم أن أهل الكفر وإن كان الكفر ملة واحدة لكن الكفار تختلف أسباب كفرهم فمنهم كافر عنادا ومنهم من هو كافر جهلا لو قدر له أن يسمع كلام الله لكان ذلك سببا في إيمانه فالله يقول لنبيه(حتى يسمع كلام الله)وهذا دلاله على أن المؤمن واثق من الدين الذي يدعوا له فينبغي أن نحرص على أن نسمع من كان علته الجهل أن يسمعه كلام الله وهذا يوجد في(19/19)
بلادنا مايسمى "بتوعية الجاليات"هذا أمر محمود لأن كثيرا من الناس لمن يأتون لهذه البلاد بغير قصد الإسلام فإذا اختلطوا بالناس ورأوا الإسلام كان ذلك سببا في اسلامهم وقد يأتي إنسان يريد أن يكون لاعب كرة فيحتك بالمسلمين هنا ثم يرى عظمة الإسلام فإذا تلي عليه القرآن يصبح ذلك سببافي اسلامه كذلك مايقال على حال الأفراد يقال على حال الأمم والدول فليست كل دول الكفر السبب في كفرها شيء واحد وإنما تختلف اختلاف واضح منها ماهو محارب للإسلام عقيده ،ومنهم من هو محارب للإسلام عملا، ومنهم من يحارب الإسلام لمصلحة ومنهم من لامصلحه له في حرب الإسلام فلا يحارب الإسلام فيجب أن نتعامل مع أهل الكفر بحسب أصل كفرهم أو بحسب سبب كفرهم مثلا قبل يومين وزيرة التربيه والتعليم في الدنمرك قررت تطبيق تدريس القرآن الكريم في مراحل التعليم العام في الدنمرك من دون أي ضغط دولي اسلامي هذا من أعظم الفتوح في عالم الإسلام اليوم ولما جاءت المعارضه واحتجت عليها في بلادها على أنها قررت تدريس القرآن قالت: إن الكثير من الدنمركيين مسلمين وأنا قلت أن كلمة كثير لاتعني الأكثر لاتعني الغلبة يوجد مسلمون دنمركيون وأصحاب لهم من الدنمركيين الغير مسلمين فنريد منهم أن يتعرفوا على الإسلام وهذه حضارات لايوجد شيء يمنعها فهذا الفكر العلماني هنا خدم الإسلام بما يسمى سياسيا تقاطع المصالح فيجب أن ينظر من يدعوا إلى الله ينظر إلى حال أهل الكفر فليس أهل الكفر وإن كان الكفر مله واحده ليس حالهم في معاداة الإسلام على حال واحدة بل يوجد بينهم أمور عظيمه من الخلافات فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه كيف يدعوا إلى الله مستشهدا بالآية (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لايعلمون)قال العلماء:ـ ربما كان سبب كفرهم الجهل فإذا رفع عنهم الجهل دخلوا في دين الله تبارك وتعالى أو دخل في الإسلام بتعبير أوضح.المقصود من هذا أن(19/20)
الإنسان يفرق مابين من يدعوهم في تعامله مع الأفراد....تعامله مع الأمم...تعامله مع الدول ... بنص القرآن الآيه فيها دليل كذلك واضح على أن القرآن كلام الله وفيه رد عقدي على المعتزله الذين يقولون أن القرآن مخلوق وغير منزل والله جل وعلا قال (حتى يسمع كلام الله) فأضاف كلمة(كلام)إلى لفظ الجلاله وهو مايسمى بإضافة صفة إلى موصوف فالله جل وعلا من صفاته تبارك وتعالى أنه يتكلم بماشاء متى شاء له جل وعلا الأمر كله وهذا من أدلة أهل السنه وأدلتهم كثيره علىأن القرآن منزل غير مخلوق والآيه من حيث قواعد اللغه "إن"هذه شرطيه "وأحد"مبتدأوقلنا مراراهذه جمل شرطيه (فأجره)الفاء واقعة في جواب الشرط وسبب وقوعها أنها مبدوءه بفعل أمر.هذا ماأردت بيانه في هذا اللقاء وأنا أكثرت فيه من الناحيه العلمية لكن كما قلت المقصود أن يخرج من هذه الحلقه من يحمل تفسير كلام الله جل وعلا إلى غيره وليس المقصود الوعظ على وجه الخصوص وإن كانت ستأتي آيات خاصة بالوعظ نعرج عندها ونطيل أكثر من اليوم لكن أنا جرت العادة حتى وأنا أدرس في الكلية أن أول المحاضرات تكون أقل وآخر المحاضرت تكون أقل وهذا عين السنة .النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ويختم بواحدة ويجعل الإطاله في الوسط ولن تجد هديا أعظم من هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأنا كنت أصرف الطلاب في آخر العام وأذهب للوكيل وأقول له هذه السنة.لن تكون آخر حصة كمثل أوسط الحصص آخر العام يأخذ كلمتين مراجعة ويذهبون وكذلك بداية العام الله يقول على لسان نبيه (قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا)
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك"
.(19/21)
تأملات في سورة التوبة (2)
أما بعد فما زلنا وإياكم نتفيؤ دوحة سورة التوبه في التعليق عليها وقد سبق الحديث عنها أولا حول مجمل عدد آياتها وأسمائها وماتعلق بها من موضوعين رئيسيين في الدرس السابق .وقلنا إن هذه السورة هي السورة الوحيده في القرآن التي لم تصدر بقوله جل وعلا (بسم الله الرحمن الرحيم) وذكرنا أن للعلماء في هذه أقوال عدة خلصنا منها إلى ثلاثة أقوال ثم قلنا إن من أرجح الأقوال فيها أنها نزلت بالسيف وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تتضمن الرحمه والآمان وهذان لايتفقان وقلنا إن هذا القول منسوب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وإلى سفيان ابن عيينه رحمه الله تعالى وهذا قلنا هو الذي يظهر لنا ترجيحا والله تعالى أعلم وذكر رأيين دونهما في القوة كما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا ابن أبي طالب رضي الله عنه ملحقا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه في مسيرة أبي بكر رضي الله عنه أميرا للحج في السنة التاسعه للهجرة وقلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يحج في ذلك العام لأن العرب كان يطوف بعضهم عريان فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بأربعة أمور ذكرناه فيما سبق وأنا أقولها اجمالا حفاظا على الوقت أمره بأن من كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ،وأنه لايدخل الجنة إلا نفس مؤمنه،وأنه لايطوف بالبيت عريان،وأن لايحج بعد هذا العام مشرك،وأنزل الله قوله (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ثم شرعنا في بيان الآية الخامسه منها وهي آية السيف وتكلمنا عنها وشرحنا ماتعلق بها من عام وخاص وفق ماسلف قوله .اليوم إن شاء الله تعالى نختار كالعاده بعضا من آيات هذه السورة ونحن نكرر في سائر دروسنا أنا لانفسر جميع آيات السور وإنما نختار منها بحسب الحال حتى نحاول أن نعرج على القرآن كله وقد بدأنا ولله الحمد بالبقرة ونحن الآن في سورة التوبة فنقول سنقف(20/1)
اليوم عند قول الرب تبارك وتعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون *ولوأنهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون*إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم*ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ....)إلى آخر هذه الآية،ثم سنقف إن شاء الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى(والسابقون الأولون...)وسنقف عند قول الرب تبارك وتعالى(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين)هذه مواضيع لقاء هذا اليوم نسأل الله جلت قدرته أن ييسر إلقاءها والنفع بها للقائل والسامع .فنقول الله جل وعلا في هذه السورة ذكرنا فيما سلف أنه ذكر فيها المجتمع المدني الذي كان يعم بالأخيار لكن لم يكن يخلوا من المنافقين وأن المنافقين كانوا مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينه ممن مردوا على النفاق كما أخبر الله جل وعلا في القرءان وهذه السورة سميت بسورة الفاضحه لأنها فضحت المنافقين وقلنا إن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقول مازال ينزل من هذه السوره ومنهم....ومنهم....ومنهم حتى لاتكاد تدع أحدا منهم نسأل الله العافيه،فقوله(منهم)هذه من:بعضيه وليست بيانيه.فقول الله تعالى(ومنهم من يلمزك في الصدقات) معنى الآية:وبعض منهم أي بعض من المنافقين يلمزك في الصدقات وأصل الآية:أن النبي صلى الله عليه وسلم في منصرفه من حنين قسم الغنائم فأعطى أقواما حديث عهد بالإسلام وبعضهم مشركين أعطاهم من الغنائم يتآلفهم بها صلوات الله وسلامه عليه فجاءه رجل يقال له ذو الخويصره التميمي قال له يارسول الله اعدل كما أمرك الله فقال عليه الصلاة والسلام ويحك إن لم اعدل فمن يعدل فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال يارسول الله إذن لي أن أضرب عنقه فقال عليه(20/2)
الصلاة والسلام لاحتى لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وهذا أخذ بما يسمى في السياسه المعاصره/أخذ باعتبار الرأي العام .فقال حتى لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ثم لما ولى قال عليه الصلاة والسلام سيخرج من ضئضئي هذا أقوام يقرؤن القرءان لايجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فكان هذه أول نبته تاريخيه لما يسمى بعد ذلك بالخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.وقد اختلف العلماء في أي أول فرق الإسلام ظهورا من أهل البدع؟قال بعضهم الخوارج وقال بعضهم الشيعه والصواب أنهم أشبه بالمتلازمين مع بعضهما البعض وإن كان الأصل في الخوارج إذا اعتبرنا ذوالخويصرة منهم بأنه رأسهم لاشك أنهم أقدم تاريخا لأنهم ظهروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال الله (ومنهم)أي من المنافقين (من يلمزك) أي يعيبك وينتقصك وهذا رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله.فلما فسد القلب فسد اللسان فسد التعبير قال عثمان رضي الله عنه "ماأسر أحد سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه"جعلنا الله وإياكم ممن يسر الخير فهذا الرجل شارك مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حنين وحارب وغزى لكنه كان يسر الشر في قلبه فلما جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أمين من في السماء واستأمنه الله جل وعلا على أعظم منزل وهو القرءان ومع ذلك لما أخذ عليه الصلاة والسلام يقسم الغنائم بحسب المصلحه العلياللإسلام يأتي هذا من بين الناس ويقول له يامحمد اعدل كما أمرك ربك أو كلمه نحوها فقال عليه الصلاة والسلام ويحك إن لم أعدل فمن يعدل.فهذا الرجل أسر السريرة المريضه في قلبه وهي سريرة النفاق وأظهر مايخفه وأظهر خلاف مايبطنه خلاف مايخفيه فلما جاء هذا الموقف لم يصبر فأخرج السريرة التي من قلبه فأخذ يعترض على حكم وتقسيم نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ائتمنه الله تبارك وتعالى من فوق سبع سموات والله جل وعلا(20/3)
يقول(الله أعلم حيث يجعل رسالته)الله تبارك وتعالى في هذه الآية يقول لنبيه (ومنهم من يلمزك في الصدقات)أي يعيبك (فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)ومن دلالة القبول قبول الإنسان للحق أو مراده للهوى أن ينظر في تصرفه حال المنع والإعطاء فمن الناس من يأتي يسأله وقد بيت الإجابة من قبل إجابه يريدها فإن وافقت إجابتك له الإجابه التي يريدها خرج يمدحك بين الناس ويرفعك على أقوام تعلم أنت أنك لاتصل إلى علمهم وإن قلت له إجابة لايريدها تخالف هواه تخالف مراده خرج يقدح فيك ويقول فيك من المعايب ويظهر مافيك من النقائص لأن إجابتك لم توافق هواه فهو لايريد الحق يريد أن يجبرك على أن يوافق هواك أنت هواه هو،فالله يقول عن هؤلاء(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)فهم لايريدون نصرة دين ولا إعلان كلمه ولا إقامة حق إنما يردون أن يتبعوا أهواءهم فإن اعطيتهم أثنوا عليك وقالوا محمدكذا ومحمد كذا صلى الله عليه وسلم يمدحونك وإن لم تعطهم أطلقوا لألسنتهم العنان في أن ينتقصوك لأنهم أصلا لايريدون الميزان الحق وإنما يريدون مايتبع أهواءهم هذه إحدى خصال النفاق أعاذنا الله وإياكم منها لكن هنا نتكلم عن قوم منافقين حقا فليس أمر نطبقه على الغير معاذ الله نحن نتكلم عن قوم وجدوا بأسمائهم وأعيانهم تكلم الله جل وعلا عنهم فهؤلاء ليسوا مثلا يضربه الله للناس وإنما هذا قوم حصل منهم هذا الأمر ووقعت منهم الواقعه (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذاهم يسخطون)وقلنا إن من ذرية هذا الرجل ظهرت فرق الخوارج بعد ذلك والخوارج والشيعة كما قلنا متلازمان وعلى وجه الإجمال نتكلم بعض المقارنة العلمية المحضه بين الفريقين كلاهما فيه الغلو لكن الفرق أن الخوارج يغالون في الأحكام فيتشددون فيها على غير علم والشيعة يغالون في الأشخاص .فلما غالى الشيعه في الأشخاص(20/4)
غالوا في علي وآل البيت حتى أوصلوهم إلى منازل ليست لهم حتى قال الخميني في كتاب له اسمه "الحكومه الإسلامية"يقول :وإن من أصول مذهبنا أن لأئمتنا منزلة لاينالها ملك مقرب ولانبي مرسل طبعا يقصد بأئمتهم الأئمه الإثني عشريه من آل البيت فهؤلاء آل البيت قوم مرضيون عنهم صالحون لكن هؤلاء غلوا فيهم مغالاة فاحشة فوق منازلهم الخوارج يغالون في الأحكام يأتون للحكم فيتشددون فيه على غيرفهم ولاغير علم ينزلونه جبرا على الناس هذا الأمر الأول..الأمر الثاني:ــ الخوارج يعتمدون على الصدق والمكاشفه ولا يضمرون شيئا والشيعة يعتمدون على التقيا والمواراة والإلتفات والخوارج قوم يظهرون ما عندهم ولذلك جابهوا الأحكام عبر الدهور ،جابهوا عليا...جابهواالأمويون جابهوا عبدالملك لا يوارون شيئا لا يستترون بشيء لكن الشيعه قوم يتحايلون لأنهم يؤمنون بالتقيا حتى خروج المهدي الذي يزعمون أو يرتقبون خروجه ينجم عند هذا: إن الخوارج يعتمدون على الصدق لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر فلا يكذبون في حين أن الشيعه يعتمدون على الكذب لأنهم يعتقدون بجواز التقية والخوارج لا يرون الكذب أصلا لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر فيعتمدون على الصدق ولذلك عمران بن حطان أحد زعماء الخوارج وشعرائهم وأخرج له البخاري في الصحيح اعتمادا على أنه لا يكذب أبدا في كلامه لأنهم يرون أن مرتكب الكبيره كافر هذه من الفوارق ما بين الشيعه والخوارج..الأمر الثالث:ــ الخوارج أشد شجاعة لا يخافون الموت لا يهابونه عبر التاريخ كله..يقول قطري بن الفجاءه..
أَقولُ لها وقدْ طَارتْ شَعَاعا
مِن الأَبْطال وَيحَكَ لنْ تُراعِي
... فَإِنكِ لَوْ سَألتَ بَقَاءَ يَومٍ
عَن الأَجلِ الذِي لكِ لَنْ تُطاعِي
فَصَبْراً في مَجالِ المَوتِ صَبرَا(20/5)
فَمَا نَيْلُ الخلُودِ بِمُسْتَطاعِ .....هذه الأبيات كلها لرجل من أكبر زعماء الخوارج اسمه: قطري أن الفجاءه في حين أن الشيعه يعتمدون على بقاءأنفسهم عبر التاريخ ويحافظون على سلامة أنفسهم مستطاعوا إلى ذلك سبيلا هذه مقارنه سبيطه علمية ما بين الفريقين دفع إلى القول بها حديثنا عن ذي الخويصره ثم قال الله:(ولو أنهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقال حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) يبين الله جل وعلا هنا المنهج الحق في الإنسان إذا أعطي أو منع..الإنسان عبدلله والمؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم ليكن ليصيبه وأن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها كما قال صلى الله عليه وسلم (فاتقوا الله وأجملوا بالطلب) فالله جل وعلا يقول كان المفترض الموقف الشرعي لهؤلاء (ولو أنهم رضوا ماءاتاهم الله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) لو قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله علقوا أنفسهم بالله طبعا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا/ لأنه كان حيا ولا يقال هذا اليوم. (إنا إلى الله راغبون) أي ينقطعون إلى الله فلو أنهم انقطعوا إلى الله وسلموا بأمره ورضوا بحكمه جل وعلا وقالوا حسبنا الله كان خيرا لهم وأعظم وأهدى سبيلا وهذا هو الموقف الذي ينبغي على المسلم أن يتبعه على كل حال، في حال الفقر... وحال العطاء... وحال المنع... وحال الأخذ... وحال السراء...وحال الضراء...وعلى كل حال. ثم قال الله وهذه الآيه الآن (إنما الصدقات للفقراء....) آيه عارضه داخله في مجمل بيان لأحوال الناس وإنما دفع القول بها قطعا لأطماع المنافقين أن يكون لهم حظا من المال. قال الله تعالى:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) "إنما" لغويا تفيد الحصر وهي أحد أساليب الحصر(20/6)
في لغه العرب وبالتالي أحد أساليب الحصر في القرآن فقول الرب تبارك وتعالى (إنما الصدقات للفقراء) ثم ذكر باقي الثمانيه دليل على أنه لا يجوز أن تعطى الصدقات لغير هؤلاء الثمانيه "الصدقات" هنا المقصود بها الزكاة الشرعيه وليس المقصود بها/ صدقة التطوع وإنما الزكاة التي هي قرينة الصلاة التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم....)أنا سأشرح الآن لن أشرح فقهيا لأن هذا الدرس تفسير لكن سأذكر إجمالا ما يمكن أن تستفيد منه من هذه الآيه دلت الآيه على أمور:ــ 1/ حصر أصحاب الزكاة الثمانيه..(20/7)
2/ أن الله جل وعلا تولى تقسيم الزكاة والله قد خلق النفوس وهو جل وعلا أعلم بحبها للمال. وقال تبارك وتعالى (وتحبون المال حبا جما) وقال (إنه لحب الخير لشديد) والخير هنا بمعنى المال. فالمواريث والزكاة لأنها حقوق ماليه تتعلق بها أنفس الناس لم يكل الله توزيعها لأحد وإنما تولى الرب جل وعلى مصارفها وتقسيمها قال الله: (يوصيكم الله في أولادكم لذكر مثل حظ الأنثيين...) وقال: (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد..) فقسم تبارك وتعالى المواريث وقسم تبارك وتعالى وحدد أصناف الزكاة وجاءت السنه ففصلت ما أجمله القرآن كل ذلك حتى لا يبقى لأحد مشاحه في أحد ولايبقى تطلع أكثر مماهو مذكور في القرآن فعلى هذا علم الله جل وعلا وهو أعلم بخلقه تطلع النفوس للأموال فحسم الرب تبارك وتعالى تعلق العباد بها فقال جل وعلا(إنما الصدقات للفقراء...) الأصناف المذكورون هنا ثمانية كما هو ظاهر الآية وقرن الله جل وعلا بين كل صنف وصنف بواو العطف.الأمر الثالث:ـ ذكر الله جل وعلا أربعة "باللام" وأربعه بحرف الجر "في"فقال (للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفه قلوبهم)هؤلاء "باللام"وقال (وفي الرقاب والغارمين )ثم أعاد العطف قال(وفي سبيل الله وابن السبيل)مجمل مايراد قوله هنا /أن اللام تعني التمليك فيملك الفقير ويملك المسكين ويملك العامل ويملك المؤلفة المال ولايقال له نشترط عليك أن تضعه في كذا أو تضعه في كذا وإنما تعطي الفقير أو المسكين أو العامل أو المؤلفة هؤلاء الأربعه الأوائل المال بيده فيقبضه فيدخل ملكه وهو حر في أن يفعل به مايشاء أما قول ربنا(في الرقاب)(في الغارمين)(في سبيل الله وابن السبيل) فهذه لايشترط أن تعطى لهم وإنما إنسان مثلا غارم يعطى دينه لمن له عليه الدين يعني:للدائن (وفي الرقاب) فك الرقاب:العتق سوف يأتي فيعطى لصاحب الرقبه حتى يعتقها أو للمكاتب حتى يفسح عنه كما سيأتي فالفرق بين "اللام" و"في"يختلف اختلافا(20/8)
جذريا كما بينا .الأمر الرابع:ـ ذكر الله الأهم فالأهم لأن الأصل الواو لاتعني الترتيب الصحيح لكن دلت السنه عموما على أن هناك خصائص في التقديم فالنبي عليه الصلاة والسلام(صعد الصفا وقال:أبدأ بما بدأ الله به (إن الصفا والمروة من شعائر الله)فقدم الصفا لأن الله قدمها في كتابه وإلا الأصل أن الواو في لغة العرب لاتعني الترتيب لكن قلت تقديم الله جل وعلا هنا يدل في الغالب على تقديم الأهم فالأهم .قال الله (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين لكن الآية تدل عموما على أن الفقير أشد حاجة من المسكين وهذا الذي نرتضيه وإن كان في المسألة أكثر من عشرة أقوال لاحاجة لذكرها لكن الفقير من كان أشد حاجة من المسكين .الفقير والمسكين/لاحاجة للشرح .وهما شخصان غلبت عليهما المسكنه والحاجة إلى المال إلا أن أحدهما أشد من الآخر.ثم قال جل وعلا (والعاملين عليها)العاملين/القائمين على الزكاة....السعاة...الجباة...المسؤولين.... الإداريين عن جمع الزكاة هؤلاء هم العاملون ثم قال جل وعلا (والمؤلفة قلوبهم)المؤلفة قلوبهم لم يرد في القرآن كله ذكر لهذا الصنف من الناس إلا في آية الزكاة فيوجد في القرن مشركون...كفار....منافقون...مؤمنون..مجاهدون...توجد أصناف كثيرة ...تتكرر لكن كلمة مؤلفة قلوبهم لم ترد في القرآن هذه الطائفه إلا في ذكر مصارف الزكاة نعود إليهم المؤلفة قلوبهم قد يكونون أهل إيمان وقد يكونون أهل كفر والجامع بينهماأن في اعطائهما مصلحه للإسلام فمثلا:ـ إما كافر يعطى ولوكان كافرا دفعا لشره أو كافرا يعطى تأليفا لقلبه أن يسلم أو مسلم ضعيف الإيمان يعطى وله شوكه مسموع الكلمه مطاع يعطى زيادة في إيمانه أو مسلم لتوه داخل في الإسلام وله نظراء من الكفار فإذا اعطيناه طمع غيره ونظراؤه من الكفار في الدخول في الإسلام . واختلف العلماء في هذا السهم،سهم المؤلفه قلوبهم باق أو منسوخ .فقال بعضهم إن(20/9)
هذا منسوخ لأن الله عز دينه وهذا كان في أول الإسلام والحق الذي عليه المحققون من العلماء والجمهور/أنه غير منسوخ لأن الأحوال تختلف والعصور تتباين فيطبق في كل عصر مافيه مصلحة المسلمين العليا وإن أسقطه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. هؤلاء الأربعة ثم قال جل وعلا(وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)الرقاب :ـ تحتمل أمرين.الأمر الأول:ـ أن يشتري صاحب الزكاة "المزكي"من زكاة ماله عبدا أو أمه مملوكا لغيره "عبدا أو أمه مسلمان طبعا"فيملكها ثم يعتقها. مثلا:ـ عليه زكاة عشرة آلآف ريال فذهب إلى بلد كموريتانيا حاليا يوجد فيها رق فذهب للموريتانيا واشترى بعشرة آلآف ريال عبدا أو جارية مملوك لغيره ثم أعتقه هذا قول ربنا وفي (وفي الرقاب) وهو الأظهر .الأمر الثاني:ـ يوجد في الشرع مايسمى بالمكاتب والمكاتب وهذا غير موجود في عصرنا ،المكاتب رجلا مملوك فيأتي لسيده ويقول أنا أدفع لك مالا معينا أسعى في تحصيله على أن تعتقني فيوافق السيد فيأخذ هذا العبد يجمع في المال هذا إما من الناس أو بجهده حتى يكون ذلك المبلغ الذي يخرج به من سيده فيصبح حرا.فإعانة هذا المكاتب تجوز شرعا وهي داخلة في قوله تبارك و تعالى :(وفي الرقاب) عند أكثر العلماء لا عند كلهم .في عصرنا هذا نسمع كثيرا ما يقال إن من فك الرقاب أن يذهب انسان إلى السجن ،شخص محكوم عليه بالإعدام "بالقصاص" بتعبير الشرع .فيعطي الورثة "ورثة القتيل" المقتول المطالبين بالمال مثلاً الدية:مائة ألف يقول أنا أعطيكم مليون،ولكن اتركوا هذا...سامحوه...س/هل هذا فك رقبة داخل في الزكاة؟*لا يدخل في الزكاة .هذا عمل خير نعم هذا فضل...صدقة نعم.لكنه لا يدخل في الرقاب.فأنت تتعبد الله بلغة القرآن لا باللغة السائرة بين الناس . فالقرآن أنزل عربيا فمن يعرف لغة العرب يستطيع أن يتعامل مع القرآن ،أما اللغات الدارجة التي تتغير هذه لا تحكم بها ،القرآن وإن كان(20/10)
المشهور في بلادنا أنهم يسمونها:فك رقبة لكنها غير داخلة. قال الله:(والغارمين)الغارم :أصل الغرم في اللغة /اللزوم.والله قال عن جهنم أعاذنا الله وإياكم منها :"إن عذابها كان غراما" يعني لازم لأصحابها.والغارم:هو من عليه الدين،والغريم :هو الذي له الدين ويسمى غريم ؟لأنه ملازم للمدين ،والدين العرب وأهل العقل والفضل يقولون إنه هم بالليل وذلُّ بالنهار.وقالوا:إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى رجلا متقنعا فقال له عمر:أما بلغك أن لقمان الحكيم يقول :إن التقنع هذا تهمة بالليل أو ريبة بالنهار أو كلمة نحوها ،تذم التقنع .فقال هذا الرجل :يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين فهذا يتقنع حتى لا يراه أصحاب الدين ويطالبونه ولذلك قال الفقهاء :إن من عليه دين ويخشى من غرمائه في المسجد قد تسقط عنه صلاة الجماعة . الذي يعنينا هذا الغارم والغارم شرعا قسمان:ـ
1/غارم لنفسه.
2/غارم لغيره .
الغارم لنفسه هو من يستدين لمصلحة نفسه .يريد أن يتزوج ...يريد أن يطلب علما...يريد أن ييبني بيتا...يريد أن يؤثث بيته...هذا غارم لنفسه .(20/11)
أما الغارم لغيره/ رجل جاء لقوم صار بينهم شجار واقتتال وفساد في الأموال فأصلح بينهم وتكفل باصلاح ما أفسدته الخصومة بين الفريقين. فأخذ يطلب أموالاً...غرم أموالاً تكلف المسألة مثلاً:خمسين ألف...سبعين ألف...مائة ألف...فأخذ يطلبها من الناس. فهذا غارم لغيره ليس غارماً لنفسه .وكلا الفريقين يعطى من الزكاة بقدر الذي يحتاج إليه ،وقد قال العلماء:إن الإسلام حث على عدم الدين ومن الدلائل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من عليه دين ،حتى فتح الله جل وعلا له الفتوح وقال في الجهاد وهي من أعظم الأعمال ..وقال في الشهاده وهي من أعظم القربات إن الشهاده تكفر الذنوب إلا الدين أخبرني به جبريل ءانفا لكن العلماء يقولون:إن الإنسان إذا كان يستدين ترفا فلايعطى من الزكاة .فمثلا إنسان راتبه أربعة آلاف ريال فهذا أنه كونه عنده سياره هذا حق من حقوقه ولايخرج من كونه فقير لكن بالعقل إنسان"لانريد أن نسمي نحن في مسجد"راتبه أربعة آلاف ريال ففيه نوع من السيارات لاحاجه للتفصيل يلائم حاله لكن لوجاء وطلب سياره استدان ليشتري سياره فارهة جدا لايركبها أمثاله فهذا دين ترف فمثل هذا لايعطى من الزكاة هذا من قول الله تبارك وتعالى(والغارمين)ثم قال الله جل وعلا (وفي سبيل الله)وسبيل الله كثير كما قال مالك واختلف العلماء في كلمة(في سبيل الله)على أقوال عدة لكن أنا أقول الرأي الراجح فيما أراه .الرأي الراجح أن في سبيل الله الغزاة المجاهدون في سبيل الله المتطوعون هم المقصود بقول الرب تبارك وتعالى(وفي سبيل الله)وقال بعضهم طلبة العلم ،وقال بعضهم أهل الحج ،وقال بعضهم غير ذلك .لكن هذا الذي نرتضيه والله تعالى أعلم.(وابن السبيل)هذا أسلوب عربي. العرب تنسب الشيء إلى من يلازمه يقولون(ابن السبيل)للمسافر لأن السبيل هو الطريق ،الله يقول في الحجر(وإنهما لبسبيل مقيم )أي هذه الديار موجوده في طريق مقيم ثابت عن قوم ثمود.فقول الرب جل(20/12)
وعلا (وابن السبيل)هذا أسلوب العرب يقولون بنات الدهر للمصائب. عبد الله ابن الزبعرة يقول :وبنات الدهر يكعبن بكل...."يعني المصائب"تأتي على الفريقين .ويقولون نبات أفكاره يعني آرائه وشعره يسمونه/نبات أفكاره، الذي يعنينا (ابن السبيل)هو الرجل الذي انقطعت به السبل وإن كان غنيا في دياره ، الغريب الذي انقطعت به الحال حتى أصبح محتاجا للمال فيعطى بمقدار مايوصله إلى أهله هؤلاء اجمالا وأنا قلت لن أفصل كثيرا أقسام أهل الزكاة الثمانيه الشرعيون.إذا ذكرنا من يستحق الزكاة يجب أو يلزم أن نذكر من لايجوز أبدا أن يعطون من الزكاة ونبدأ بالأول :أولهم:ـ الكفار والملاحدة سائر أمم الكفر لايعطون من الزكاه إلا المؤلفه قلوبهم وهذا ظاهر فليس معقولا أن تعطي كافر من زكاة مالك لكن يجوز اعطاؤه من صدقة التطوع لقول الله(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) والأسير لايكون إلا كافر .الأصل أنه كافر.الثاني:ـ بنوهاشم آل النبي صلى الله عليه وسلم وقد مر معنافي تفسير سورة الأنفال أن الكلام عن آل البيت أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام منهم من قال أن آل البيت هم قريش كلها وقلنا هذا بعيد.وقلنا الفريق الثاني:ـ أنهم قالوا بنوهاشم وقلنا هذا أقوى من الأول.ثم رجحنا أن المقصود ممن لايعطون الزكاة هم بنوهاشم بالإضافه إلى بنوا المطلب وليس عبدالمطلب وقلنا إن هاشم بن عبد مناف وإن عبد مناف هذا ترك أربعة من الولد نوفل،وعبد شمس،وهاشم،والمطلب.وقلنا إن هاشم هذا منه كان النبي صلى الله عليه وسلم وهذا واضح لماذا منع من الزكاة وأن هؤلاء الثلاثه لما حاصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب جاء أبناء المطلب فدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقي بنونوفل وبنوعبد شمس خارج الأمر فقال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري قال:" إن بني المطلب لم يفارقون في جاهليه ولافي إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك صلى الله عليه وسلم بين(20/13)
أصابعه" وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مذهب الإمام أحمد وهو الحق إن شاء الله أن هؤلاء لايعطون من الزكاة لأنها من أوساخ الناس لكن اختلف العلماء فيما لوكان موالي بني هاشم من العاملين عليها هل يعطون أو لا يعطون قال فريق :ـ يعطون والأظهر أنهم لايعطون لحديث رافع وهو مولى للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل من بني مخزوم قال اذهب معي نسعى في الزكاة حتى نكسب لأن العاملين عليها يأخذون منها فقال: دعني استشير النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم عليه الصلاة والسلام "مولى القوم منهم"فموالي بني هاشم كذلك لايعطون من الزكاة أما صدقة التطوع فالمسألة فيها خلاف كثير بين العلماء والذي يظهر أنهم لايعطون .الأمر الثالث:ـ أصول الرجل "آباؤه فما فوق"و"أمه فما بعدها"فلا يعطي الرجل من الزكاة لاأباه ولاأمه وإن قال شيخ الإسلام ابن تيميه أنهم يعطون لكن القول الذي عليه أكثر العلماء أنهم لايعطون لأنه يجب عليه نفقته.الأمر الرابع:ـ بعد الأصول يأتي الفروع فلا يجوز لرجل أن يعطي ابنه ولاابن ابنه ولاابن ابنته ولاابنته فلا يعطي فروعهم والله ذكر في القرآن الفروع والأصول في آية غير الزكاة وذكر الحواشي .الحواشي/الإخوان.وفيهم نظر.ولكن الأرجح إن شاء الله أنه يجوز إعطاءهم من الزكاة لأنه لاتجب نفقتهم في الأصل.الأمر الخامس/أعمال الخير المطلقه لايجوز أن يبني مسجد أويعمل جمعيه خيريه تعنى بتكفين الميت وإن كان هذا خير أو تبني قناطر خيريه أو تبني مطاعم أو ما أشبه ذلك من الصدقات العامه كإفطار صائم ومايقال في مثل هذا في بلادنا وفي غيرها هذا كله لايجوز إعطاء الزكاة منه لأنهم لايدخلون في الأصناف الثمانيه وقلنا إنما:ـ تفيد الحصر.وأنا أقول إذا تريد أن تعطي الزكاة الشرعيه أعطها شخصا بعينه وإرتاح لا تسلمها أحد.أما أمور الصدقات التطوع العامة هذه ترجع لك تعطيها أي مؤسسة تطمئن إليها .أما الفرض تريد أن تعطي مثلا أخ لك قريب من(20/14)
جماعتك...طالب يدرس في حييك ...فقير في الحي تعرفه...أحد جيرانك...أحد قرابتك...اذهب إليه واعطها بنفسك تبرأ ذمتك وتتأكد من أنها وصلت إليه .أما صدقة التطوع هذه تحتاج إلى جهد مثال:ـ الطعام،وأمثال الكسوه.وهذا صعب أن تقوم أنت بها بمفردك .لكن هذه الجمعيات الخيريه،المؤسسات الخيريه،أقدر على إصالها ،ففرق مابين الأمرين أفضل لنفسك هذه مايمكن أن نقوله حول الصدقات.ثم قال الله جل وعلا في الآيه التي نريد تفسيرها (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)هذه الآية مما يفتح لكل مسلم باب الترغيب في العمل الصالح لأن الله جل وعلا ذكر فيها ثلاثة أصناف.
1/ذكر المهاجرين.
2/وذكر الأنصار.
3/وذكر جل وعلا التابعين لهم بإحسان وهذا يدخل فيه كل مؤمن إلى يوم القيامه.فذكر الله هنا ثلاثة أصناف قال جل وعلا(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في الحديث الصحيح(أمتي كالمطر لايُدَرى خيره أوله أم آخره) والله يقول في الجمعه (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)فباب الرحمة مفتوح واللحوق بهؤلاء أمر مقدور عليه لكن كان عمر رضي الله تعالى عنه يظن أن هذا محال وكان يقرأ هذه الآية هكذا (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ) فأصبحت على قراءة عمر رضي الله عنه فريقان:ـ
1/الأنصار.
2/والمهاجرين.(20/15)
وقال ماأظن أنه كان أن يبلغ أحد مبلغنا فلما قرأها على زيد وزيد أعلم من عمر رضي الله عنه بالقرآن .قال:ياأمير المؤمنين يوجد واو قال ليس فيها واو قال يوجد واو فقال عمر رضي الله عنه ادع لي أبياً أبي بن كعب،فصدق أبي قول زيد وقرأها:"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان..."فقال عمر ماكنت أعلم أن أحداً سيبلغ مبلغنا. يعني/ما أظن أن الباب مفتوح ،لكن رحمة الله واسعة والنبي عليه الصلاة والسلام قال: وددت لو أني رأيت أخواني قالوا يارسول الله:ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي ولكن إخواني لم يأتوا بعد.وهذا داخل فيه كل من اتبع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان.نأتي عند قوله تعالى :"والسابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار" المهاجرين /أطلقت على من هاجر قبل الفتح إلى مكة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا هجرة بعد الفتح" يقصد لا هجرة من مكة وإلا الهجرة قائمة إلى الآن. يترك الإنسان ديار الكفر ويأتي ديار الإسلام ممكن. لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الهجرة من مكه "لاهجرة بعد الفتح"الذي يعنينا أن هؤلاء المهاجرين هم أعلى الأمه مقاما لأنه بدأ بهم لكن اختلف في معنى كلمة السابقين .فمنهم من قال من صلى إلى القبلتين وقد فرض تحويل القبله بعد ستة أو سبعة عشر شهرا من الهجره إلى المدينه فيصبح من ءامن قبل هذا يصبح من السابقين على هذا القول.وءاخرون قالوا من شهد بدرا هذه أوسع زمنا.ومنهم من قال من شهد بيعة الرضوان وأظنه أرجح وأرحم من شهد بيعة الرضوان في السنه السادسه في صلح الحديبيه وهاجر إلى المدينه قبل هذا الوقت يدخل في قوله تعالى(والسابقون الأولون من المهاجرين)هذا الكلام عن المهاجرين وهم رضي الله عنهم وأرضاهم كثرمن أشهرهم الخلفاء الراشدون الأربعة .ثم قال جل وعلا(والأنصار)الأنصار:ـ تسميه شرعية وليست تسمية نسبيه وإنما سموا أنصارا لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم(20/16)
وهي إذا أطلقت يراد بها /الأوس والخزرج .والأوس والخزرج رجلان أخوان اسمهما الأوس ابن حارثه والخزرج ابن حارثه والحارثه هذا من أزد اليمن ممن هاجروا من اليمن بعد وقوع السد وسكنوا المدينه وكانت قبائل اليمن قد تفرقت في مواطن شتى منهم الأوس والخزرج سكنوا المدينه فإذا قيل الأنصار ينطلق في أول المقام إلى الأوس والخزرج وكان بينهما من النزاع والنفره مالله به عليم.قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث صلوات الله وسلامه عليه آخى بينهم وسماهم الأنصار.وقد جاء في الأحاديث الصحاح الكثير من مناقبهم قال عليه الصلاة والسلام "لولا الهجره لكنت امرأ من الأنصار"وقال"اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار"وقال"إن الناس يكثرون والأنصار يقلون"وأوصاهم بالصبر. وقال لهم "إنكم ستجدون أثره بعدي فاصبروا حتى تلقوني،وموعدكم الحوض"رضي الله عنهم وأرضاهم فهم قدموا أنفسهم ودورهم ومهجهم وأموالهم من أجل نصرة الله ورسوله وهم كما قلنا في الأصل قبيلتان الأوس والخزرج من أشهر الأنصاريين من الأوس/سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ومن أشهر الأنصاريين من الخزرج/سعد بن عبادة،وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه،وبنوعوف الذين نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دارهم في أول هجرته كما سيأتي في قوله تعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ) ثم قال الله (والذين اتبعوهم بإحسان)وهذا القيد لابد منه لأن الله لما قال(السابقون الأولون من المهاجرين)أطلق ولم يقل قيدا وقال(والأنصار)ولم يقل قيدا لكن لما قال(والذين اتبعوهم)جاء جل وعلا بقيد والقيد هو(بإحسان)والإحسان/الإتقان والمعنى:ـ أن ينظر في صنيعهم وهنا لم يذكر الله قضية (اتبعوهم)فيه أشياء يدل عليها العقل فالمقصود أن هؤلاء المهاجرين والأنصار وقع منه هفوات وزلات وأخطاء فلايجوز أن نتبعهم فيها وإنما المقصود اتباعهم فيما اصابوا فيه من الإعتقادات(20/17)
والأقوال والأعمال رضي الله عنهم ورضوا عنه ولايوجد نعمه أعظم من رضوان الله قال الله تعالى في كتابه(ورضوان من الله أكبر)والمعنى/ورضوان من الله أكبر من كل نعمه.رضوان من الله أكبر :ـ أي لايعدل رضوان الله جل وعلا شيء .والله جل وعلا يخاطب أهل الجنه آخر الأمر فيقول :أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.فلا يعدل رضوان الله شيء بلغنا الله وإياكم رضوانه فقال الله تعالى(رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها)هذه قراءة الأكثرين بدون حرف الجر "من"وقراءة أهل المدينه على قراءة ابن كثير (تجري من تحتها)يوجد "من"لكن الذي عليه الأكثرين عدم حرف الجر ولا يختلف هذا في المعنى كثيرا(وأعدلهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)والمقصود من هذه الآيه أننا كما تكلمنا عن أهل النفاق نتكلم عن أهل الفضل كما أمرنا الله أن نجتنب أحوال أهل النفاق أمرنا الله أن نتبع أحوال أهل السبق من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وأن نقتفي سيرهم ونلتمس هديهم ونتبع آثارهم ونكون كما كانوا. يوجد آيه تركتها نسيانا مع أنني قلت في أول الدرس أنني سوف أفسرها وهي قول الله جل وعلا(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)هذه الآيه نزلت أن قوما من أهل النفاق كانوا يتحادثون في مجالسهم الخاصه فيعيبون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول بعضهم لبعض نخشى أن يصله كلامنا فيقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن أي يصدق كل شيء.فإذا بلغه أننا تكلمنا فيه نذهب إليه فنعتذر فيصدقنا يسيمون النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاهه يريدون أن ينتقصوه فالله هنا يدافع عن نبيه ويناصره ويتولاه يقول(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)والأذن: الجارحه المعروفه.والمقصود/أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويصدق كل مايقال له(20/18)
حسب زعمهم ويقولون هو أذن فقال الله(قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)والنبي صلى الله عليه وسلم أرفع مقاما وأكمل أخلاقا وأجل سيرة مما افتراه هؤلاء المنافقون عنه بل كان عليه الصلاة والسلام يتغافل عما لايشتهي ولم يكن فيه إلا الرحمه والخير للناس عموما قال الله عنه:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"فقال الله هنا (قل أذن خيرلكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين )فجاء بالفعل يؤمن وعدى في الأول بحرف الجر الباء وعدى في الثاني بحرف الجر اللام .والمعنى/الفرق في التعديه هنا:لأن قوله جل وعلا (يؤمن بالله) فإيمانه بوجود ربه تبارك وتعالى أمر لا يخالطه فيه شك بوحدانية ربه وألوهيته وأن الله موجود لكن قوله تعالى :"ويؤمن للمؤمنين"النبي ليس مسؤل عن سرائرهم ، وإنمايسلم أمرهم لله فيؤمن بما ظهر منهم ويكل سرائر الناس إلى خالقهم .فقال الله في الأولى "يؤمن بالله"وقال في الثانية"ويؤمن للمؤمنين"ثم قال جل وعلا :"ورحمة للذين ءامنوا منكم "ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة في بعثته ...رحمة في هديه...رحمة في سيرته...رحمة في كل من يقتفي أثره ويتبع سنته.ثم قال الله(والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)إذا كان المسلم أصلا مطالبا بأن يؤمن ويحب ويوالي ويناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يؤذيه عليه الصلاة والسلام فأذيته عليه الصلاة والسلام وانتقاصه حيا أو ميتا ولو بمقدار شعره مع اعتقاد ذلك كفر مخرج من الملة يقتل صاحبه ولو تاب وتراجع يقام عليه حد القتل وقد بينا ذلك مرارا ويهرق دمه لكن يقيمه ولي أمر المسلمين،وأمره إلى الله تبارك وتعالى إن صدق في توبته أو لم يصدق لكن حتى ولو أظهر صدق التوبه يقام عليه الحد ويقتل إذا انتقص شيئا من نبينا صلى الله عليه وسلم ومستند العلماء في هذا مابيناه مرارا كما أخرج أبوداوود بسند صحيح من حديث ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له جارية أم ولد تقوم برعايته وأنجب منها طفلين(20/19)
كالؤلؤتين يحبهما وهذه المرأه كانت تحبه رغم أنه أعمى وشفيقه به ...رفيقة تقدم له كل حاجة إلا أنها كانت تقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم فينهاها هذا الأعمى فلا تنتهي فوجدت ذات مرة هذه المرأة مقتولة قد بقر بطنها ولطخ دمها الجدار فقام صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس قال:أنشد الله رجلا لي عليه حق ويعلم عن هذا الأمر شيئا إلا أخبرنا به فقام هذا الأعمى من آخر المسجد يقطع الصفوف ويضطرب في مشيته حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:يارسول الله أنا صاحبها أنا قتلتها فتعجب منه صلى الله عليه وسلم وقال:ولما؟قال:إنها كانت تقع فيك فأنهاها فلاتنتهي وازجرها فلاتنزجر فالبارحه وقعت فيك فنهيتها فلم تنتهي وزجرتها فلم تنزجر فقمت إلى الموغل"والموغل السيف القصير"فأتيت حتى وصل إليها وهو أعمى يعني لايراها حتى علم أنه أصاب بطنها فتكأ على الموغل حتى بقر بطنها وقتلها فلما أتم حديثه قال صلى الله عليه وسلم"اشهدوا أن دمها هدر"من هنا أخذ العلماء ومن غيره من الأحاديث أنه لايجوز أبدا أذيته صلوات الله وسلامه عليه وقد فصلنا هذا في مواطن كثيرة باستطراد أكثر فالذي يعنينا أن الله توعد بالعذاب الأليم من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن على الناحيه الأخرى لايجوز للمؤمن أن يغلوا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام بشر وليس له من خصائص الألوهية ولا الربوبية شيء وإن كان أفضل الخلق مقاما وأعلاهم منزلة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم لكن في الأمه بعد سقوط بغداد على يد هولاكو أصاب الأمه مرحله من الضعف سياسيا واقتصاديا وعقديا وعلميا حتى ظهر مايسمى بأدب التصوف أو بأدب المدايح النبويه فجأ أقوام يبالغون لقلة العلم العقدي فيه صلى الله عليه وسلم فأنشأت قصائد لايمكن أن تجوز شرعا في حقه صلى الله عليه وسلم منها قصيدة البصيري المشهوره.
أَمِنْ تَذكُر جيران بِذي سَلَم(20/20)
مَزَجْت دَمْعا جَرى من مُقلةٍ بِدمِي
أَمْ هَبتْ الريحُ من تَلْقاءِ كاظِمةٍ
أَو أَومَضَ البرقُ بالظَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّلماءِ من إِضَمِي
إلى آخر القصيده وقد سماها"الدرر البهية في مدح خير البرية"أو كلمة نحوها وهو رجل مات في آخر القرن السابع وأمره إلى الله أنا أتكلم عن القصيده .قال في القصيده عفا الله عنا وعنه.
قال:ياأكرمَ الرسلِ مَالي مَن أَلوذُ بِه
سِواكَ عند حُلول الحَادث العَممِ
ولاريب أن هذا عين الشرك وعين الكفر الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمه ونقضه...قال الإمام الشوكاني رحمه الله معلقا على هذا البيت قال:إنالله وإنا إليه راجعون انظر كيف غفل عن الله ولاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم والنبي عبد بالله ورسول من رسل الله صلى الله عليه وسلم فمثل هذا لايمكن أن يقبل ولايمكن أن يجوز لا ماقاله البصيري ولا ماقاله أترابه وأقرانه ممن غالوا فيه صلوات الله وسلامه عليه وهو عليه الصلاة والسلام بما أعطاه الله من المناقب في غنى عما قاله هؤلاء ضعفاء الإيمان والجاهلون عنه فله صلى الله عليه وسلم المقام الرفيع لكن لايجوز لأحد أن يغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه ثم نختم بقول الرب تبارك وتعالى(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون*لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) النبي عليه الصلاة والسلام أول مانزل المدينه نزل في قباء عند المسجد المؤسس اليوم وكانت هناك دار الرجل يقال له كلثوم بن الهدم أحد الخزرج من بني عمر بن عوف وهو عليه الصلاة والسلام دخل المدينه يوم الإثنين فمكث الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس صبيحة الجمعة قبل الزوال خرج من دار كلثوم بن الهدم حتى وصل إلى مكان المسجد الآن المسمى بمسجد الجمعه(20/21)
فصلى فيه ثم أتى مسجده الموجود الآن فأناخ راحلته فيه هناك أسس صلى الله عليه وسلم المسجد مسجد التقوى مسجد قباء لكنه لم يبنيه وإنما بناه بنوعمرو بن عوف بعد ذلك .هذا المسجد كان لبني عمرو بن عوف جيران من الخزرج وهم بني عمرو بن عوف هؤلاء من الأوس من هؤلاء قوم نشأوا على الشرك والضلاله وأكثرهم منافقون فبنوا مسجد ضرارا منازع لهذا المسجد لأن هذا المسجد كان يغص بالمصلين فتجتمع الكلمه فتتآلف القلوب ويتوحد الصف فبنوا ذلك المسجد وزعموا أنهم بنوه لذي العلة والليله المطيرة والليله الشاتيه وللحاجة وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنما بنينا مسجدا بهذه الأوصاف ونريد منك أن تأتيه وتصلي فيه كما صليت في مسجد قباء لإخواننا من بني عمرو بن عوف فاعتذر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه على شغل وأنه على جناح سفر وأنه ذاهب إلى تبوك فلما قدم من تبوك أوحى الله جل وعلا إليه بقوله(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا...) فانتدب صلى الله عليه وسلم نفرا من الصحابه منهم رجل يقال له مالك ومنهم وحشي قاتل حمزة حوالي أربعة فبعثهم ليحرقوا ذلك المسجد ويهدموه فهدموا المسجد وأخرج مالك من بيته شعلة نار وأحرق المسجد وهدمه ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في روايه أن يكون المسجد مكانا كناسة :يعني توضع فيه القمامات وفضلات الناس نكالا بهم.هذا هو مسجد الضرار قال الله فيه (والذين اتخذوا مسجدا ضرار...) الضرار:ـ المنازعه..العمل الذي يدفع إليه الحسد.هذا قوله (ضرارا) (وكفرا) لأنهم أرادوا بذلك زيادة النفاق الذي في قلوبهم .(وتفريقا بين المؤمنين)تدل الآية على كل عمل يراد به تفريق الناس أمر محرم شرعا يؤدي إلى الكفر ولو كان في مسجد.فلايوجد مصلحة في الدين أعظم من اجتماع كلمة الناس وكل من حمل لواء يريد فيه أن يفرق بين المسلمين يجب نبذه وتركه ولوتستر بألف ستار فإذا كان هذا مسجد كان بالإمكان أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابه أن يأتوه ويلقوا فيه(20/22)
دروس ويغيروه ويحولوه لكنه مادام أسس على باطل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه واحراقه ومن هنا نحن نقول والله أعلم إن القنوات المعاصره اليوم لاتخلوا من أحد أمرين :ـ إن أسست على باطل فلا نرى جواز الخروج فيها ولوظن من يخرج فيها أن هناك مصلحة في الخروج. أما إذا أسست على حق:فيجوزالخروج فيها وإن خالطها شيء من الحرمه فمثلاً جاء إنسان وأسس قناة تبث أفلاماً ثم قال للشيخ والشيخ والشيخ ثلاثه أو أربعه قال نحن نريد منكم دروس في هذه القناة نحن والله تعالى أعلم نقول أنه لا يجوز شرعاُ الخروج في مثل هذه القناة لأن هنا تقرير الصحه ما بنيت عليه القناة أمرها أما إن وجدت قناة أصلاًُ قناة اسلاميه كالمجد مثلاُ ونحن لا نمدح المجد لمصلحه نمدح المجد لأنها المنارة الوحيدة الموجودة الآن التي تبث الإسلام كما نريد فيما نعلم. يقرن إليها قناة الفجر إن وجدت(قناة القرآن الكريم تبقى قنوات رسميه لبعض الدول فهذه لا أسست لا على حق ولا على باطل هذه لمصلحه فهذه يجوز الخروج فيها لتوسطها أما قناة تؤسس لبث دعارة أو بث أفلام فلا يعقل أن تأتي قناة تبث فلما إباحيا أو فلما يكاد يقرب من دوافع الفحشاء ثم يؤتى برجل يحدث ثم ينتهى هذا الرجل ويؤتى بفلم آخر على نفس المنوال هذا عبث هذا مثاله في الواقع كرجل أراد أن يصنع حفلة فرح (زواج) وجاء براقصات ومغنين عراة فجاء ناس ينكرون عليه قالوا: هذا حرام لا يجوز قال:ليست مشكلة هذا الفرح من التاسعة إلى الساعة الثانية من الساعة الحادية عشر إلى الساعة الواحدة أنا أسمح لكم أن تأتوا على نفس المسرح وتلقوا أي حديث.هل يجوز لهذا الرجل أن يأتي هذا الفرح ويلقي هذا الحديث ويخرج وهو يعلم يقيناً أن قبله محرم وبعده محرم لا يمكن لأنك أنت إذا فعلت جعلت الناس يكفرون ويأتون هذا فيما نعتقدة لكن يوجد مسأله مهمه لا يعني ذلك أن من خرج من علمائنا وفضلائنا في مثل هذه القنوات أنه يتهم بشيء ونحن نقول ما ندين(20/23)
الله به لكن كما قلنا إن ما قد نراه نحن حق خطأعند غيرنا ونراه نحن خطأ صواب عند غيرنا نحن نبين الحكم على مانرتضيه لكن لا يجوز لنا ولا لغيرنا أن نقدح في أحد من علماء المسلمين رأى أنه توجد مصلحه في الخروج في تلك القنوات.لكن أنا أقول ما أدين الله به من هذه الأيه (والذين اتخذوا مسجداًضراراً) لأن هذا مسجد بني وسقف ووجد وكان له إمام سيأتي قصته فلو كان الشيء الذي أسس على باطل يمكن قلبه إلى حق لكان هذا المسجد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل أبي بن كعب إمام له وتنتهي القضيه هذا الذي ندين الله به من هذه الآيه نعود إلى الآيه:(وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل)الإرصاد/التربص والترقب وكان هناك رجل يقال له أبو عامر الفاسق وكان يقال له في الجاهليه أبو عامر الراهب وهذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أحد:لا أجد قوما ًيقاتلونك إلا قاتلتهم فقاتل حتى مع هوازن يوم حنين ثم خرح إلى قيصر وقال للمنا فقين الذين في المدينة أنتم ابنو المسجد وترقبوا عودتي من قيصربالجنود حتى نخرج محمدا ًوأصحابه منها صلى الله عليه وسلم فهذا معنا قول الله:(وإرصاداً لمن حارب الله ورسول من قبل) والمقصود أبو عامر الراهب وسبحان الهادي هذا أبو عامر هو والد حنظله ابن أبي عامر غسيل الملائكة فسبحان من يخرج الحي من الميت وليس هناك حياة أعظم من حياة الإيمان ولاميت أعظم من ميت ميت الكفر الذي يعنينا(وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحفلن إن أردنا إلا الحسنى) ولا يوجد إنسان يريد أن يضل الناس يقول لهم أنا أريد أن أضلكم الله يقول:(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)(وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) فقال الله لنبيه (لا تقم فيه أبداً)فأحرقه صلى الله عليه وسلم ثم قال له:(لمسجد أسس على التقوى) وهو مسجد قباء على الصحيح (من أول يوم)أي من أول يوم حضرته المدينه (أحق أن تقوم فيه) لكن يستنبط من(20/24)
هذا إذا كان مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه هذا الفضل وقلنا إنه مجرد أنه أسسه أما مسجده فهو الذي أسسه وهو الذي شارك في بنيانه فهذا أعظم لأنه إذا ورد هذا في حق ماأسسه فمن باب أولى أن يكون تعظيم المسجد النبوي أعظم لأنه أسسه وشارك صلى الله عليه وسلم في بنائه (أحق أن تقوم فيه)المراد بالقيام هنا الصلاة (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ثم ذكر الله القاعدة:(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهد القوم الظالمين) قال العلامه ابن سعدي رحمه الله:.إن المعصيه تؤثر في المكان كما تؤثر فيه الطاعة فذلك المسجد لما بناه قوم عصاه خرج عن كونه مسجد فمسجد قباء لما صلى فيه قوم طائعون مصلحون ازداد نورا على نور هذا ماأردنا بيانه على وجه الإجمال في وقفاتنا هذه الليله مع سورة التوبه وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا وإياكم لباس العافيه والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله.
*ملاحظة: لم تذكر مقدمة الدرس في الشريط.(20/25)
تأملات في سورة يونس (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا،وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره،واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.أمابعد ....فهذا واحد من اللقاءات المتجدده مع كتاب ربنا جل وعلى وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي ماأردنا أن نعلق عليه من سورة التوبة ونشرع اليوم إن شاء الله تعالى في تفسير سورة يونس واختيار بعض الآيات منها للتعليق عليها كما جرت العادة وقبل أن شرع فيها نستذكر بعضاً مما ذكرناه في سورة التوبة وقد بينا أن الله جل وعلا قال فيها (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله....)وقلنا إن إنما/أداة من أدوات الحصر وقلنا إن الله جل وعلا هنا جعل الزكاة الشرعية منصرفة إلى ثمانية أقسام عدَّى في بعضها باللام وعدَّى في بعضها بفي والفرق بالتعدية باللام والتعديه بفي أن اللام تقتضي التمليك أما في فلا تقتضي التمليك وحتى تظهر المسألة لوأن إنسانا أراد أن يخرج زكاة ماله فأراد أن يعطي فقيرا فإنه يلزمه شرعا أن يسلم الفقير المال بنفسه يعني يصل المال إلى الفقير بأي واسطة كانت فلابد أن يملكه الفقير حتى تصبح هذه الزكاة وصلت وهذا مقتضى قول الرب جل وعلا(إنما الصدقات للفقراء.....)أما التعديه بفي فلا يلزم أن يقبضها من صرفت له بنفسه فمثلا لو وجد مجاهدون متطوعون كما في الزمن القديم مثلا فأراد إنسانا أن يزكي فاشترى بزكاة ماله فرسا فوضع الفرس في حظيره تعطى للمجاهدين هذا يكفي لايلزم تسليمها إلى مجاهد بعينه هذا الفرق بين الأمرين وقلنا اختلاف العلماء في قوله جل وعلا(وابن السبيل)ورجحنا أنه المجاهد المتطوع في أصح(21/1)
أقوال العلماء وللعلماء في ذلك كما قلنا أقوالا عدة وتكلمنا عن مسجد الضرار وقلنا إن الله يقول(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون)وقلنا إن المكان المعتبر في الشيء أصل تأسيسه.فالمسجد هذا رغم أنه بني مسجدا لكن لما أسس لغير الغاية المنشودة من المساجد أسس ضرارا وكفرا لم ينفعه أنه مسجد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه واحراقه ولايقال أن تغير نيته فلو كان كذلك لبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو غيرهما من وجهاء الصحابه وأقاموا فيه الصلوات وغيروا الطريق التي من أجلها أنشيء لكن ماأنشيء على باطل يبقى منشأ على باطل وماأنشيء على حق يبقى منشأ على حق ولو دخله بعض.(لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)وقلنا إن الصحيح إن المقصود هنا/مسجد قباء(من أول يوم)أي أول يوم في الهجرة وليس معنا أول مسجد أسس في العالمين فإن أول مسجد أسس في العالمين هو المسجد الحرام لكن أول مسجد أسس في الإسلام هو مسجد قباء من الفوائد اللغويه إن الله قال(لاتقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)بعدها (فيه رجال يحبون أن يتطهروا)وهذه كلمتان متشابهتان لم يفصل بينهما فاصل (فيه)بعدها مباشره(فيه رجال يحبون أن يتطهروا)هذه إحدى الفوائد اللغويه في القرآن ومثلها قول الله في الأنعام(وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ماأوتي رسل الله)بعدها (الله أعلم حيث يجعل رسالته...)فجاء لفظ الجلاله لايفصل بينهما بفاصل إلا المعنى فتقف عند قول الله جل وعلا (وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ماأوتي رسل الله)بعدها تقف وتقول (الله أعلم حيث يجعل رسالته) هذه كفائده(21/2)
الفائدة الثانية:جاءت ثلاث هاءات في القرآن متواليه.لايفصل بينهما فاصل وهي قول الله جل وعلا(أريت من اتخذ إلهه هواه)فإلهه مختومه هاءين والكلمه التي بعدها مبدوءة بهاء.فأصبحت ثلاث هاءات متواليه.هذه كفوائد تعينك وتحفز همتك على تدبر كلام الله وتدبر كلام الله أيا كان فهو نافع.لأن الإنسان لابد أن يشغل نفسه بحق أو بباطل حتى لو ذهنيا يفكر فلإن تنقضي الأعمار في التفكر في كتاب الوحد القهار خير من أن تنقضي في شيء آخر أيا كان وهذا سر أن علم القرآن أشرف العلوم هذا ماتكلمنا عنه في الأسبوع الماضي اليوم نتكلم عن سورة يونس وسورة يونس عدد آياتها فوق المائة وكنا قدمنا في الدرس الأول أو الثاني من هذه اللقاءات أن العلماء يقسمون القرآن جملة كسور إلى أربعة أقسام:ــ
1/ يسمى السبع الطوال..
2/ يسمى المئون جمع مائه..
3/ المثاني...
4/ يسمى المفصل ويقال له/ المحكم..(21/3)
هذا التقسيم السبع الطوال والمئون وإذا نصبت أو جرت تقول: المئين والمثاني والمفصل هذه الأربع العلاقه بينها وبين سورة يونس أن سورة يونس عند قوم من العلماء من السبع الطوال وعند ءاخرين: من المئين فسورة يونس لا تنفك إما من المئين وإما من السبع الطوال ومرد هذا الإختلاف نحن قلنا في دروس سابقه أن السبع الطوال هي: البقره، آل عمران، النساء، المائده،الأنعام، الأعراف..هذه الست متفق عليها على أنها من السبع الطوال بقينا في السابعه من العلماء من يرى أن التوبة والأنفال سورة واحده كما مر معنا فهذا يجعل التوبة والأنفال هي السابعه وعلى هذا يكون عدد سور المصحف بهذا الترتيب مائه وثلاثه عشر ومن لا يرى أن التوبة والأنفال سورة واحده وهذا هو الذي عليه الجمهور يجعل السابعه من السبع الطوال يجعلها يونس فيقفز التوبه ويقفز الأنفال هذه السبع الطوال قلنا بعد الطوال يأتي المئون..المئون عند العلماء ما جاوزت أو قاربت المائة آيه ومن طرائق العلم أن الإنسان نقول مرارا لا بد أن يفهم تصور عام للعلم الذي يريد أن يدخل فيه أما الإكتفاء بالجزئيات لا يمكن أن يبني علما فلا بد أن تتصور المسأله عموما ثم حتى الجهل بالجزئيات لا يضر لكن إذا كان الإنسان يفقهه الجزئيات ويجهل الكليات هذا ليس بعلم، العلم أن تفهم الأمور بكلياتها مثلا رجل غريب من غير السعوديه فتريد أن تصف له مثلامسجد نفرض المسجد الذي على الطريق يسمى جامع النزاوي نفرض تريد أن تصف له تقول له عند دوار القبلتين مثال هو أولاً هذا ليس بجواب أول شيء تقول له في السعوديه ثم تقول له في المدينه ثم تقول له في الجهه الغربيه من المدينه ثم تقول له عند دوار القبلتين فلا تبدأ بالجزئيات. الجزئيات لا تقدم علما فإذا أردت أن تعرف كلام الله يجب أن تعرف أولا أنه مائة وأربعةعشرسورة وأنه مقسم إلى أربعة أقسام من حيث جمع السور بعضها إلى بعض وأنه مقسم من حيث النزول إلى مكي ومدني ومقسم من(21/4)
حيث الحكم إلى ناسخ ومنسوخ ومقسم من حيث الإيمان إلى محكم ومتشابه ومقسم من حيث الجمله إلى عام وخاص إذا فهمت هذا تفهم القرآن أما أن يدخل الإنسان من جزئيات لن يفقه شيئا في دين الله هذه معلومات تقال في كتب مسابقات ثقافيه يجيب عليها إنسان يقرأ ورقة تقويم يستفيد معلومه يدخل مسابقة يأتي السؤال الذي قرأه في التقويم فيجيب فيقول الناس فلان عالم أو هذا مثقف هذا ليس بعلم العلم الشرعي الذي يتصدر به الإنسان للناس ينبغي أن يكون مؤصلا بهذه الطريقه فقلنا إن القرآن يقسم إلى السبع الطوال وذكرناها ثم المئين ثم يقسم إلى المثاني فيأتي السؤال المئين عرفنا لماذا مئين لأنها تصل المائه والطوال لماذا طوال؟ لطولها بقينا في المثاني / معنى ثنى الشيء كرره إذن تسمى المثاني بالمثاني لأنها تقرأ في الصلوات أكثر من غيرها هذا القسم الثالث .والقسم الرابع المفصل وقد بينا اختلاف العلماء في بداية المفصل قيل من" ق" وقيل من "الحجرات "الذي يعنينا أن المفصل سمي بالمفصل لأنه كثيرا مايفصل فيه مابين سوره بقول(بسم الله الرحمن الرحيم) جاء في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند صحيح أن المفصل يسمى المحكم ويسمى المفصل بالمحكم لأنه لا يدخله النسخ كثيرا لأنه مسائل عقديه لاتقبل النسخ.النسخ يأتي في الأحكام والأحكام في السور المدنية في البقرة في أمثالها في الأعراف في الأنعام يأتي النسخ أما أحكام العقائد أن الله جل وعلا واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول واليوم الآخر بعث هذا لايقبل النسخ يسمى محكم أو يسمى مفصل أتينا الآن إلى سورة يونس قلنا إن العلماء يتراوح قولهم مابين أنها من السبع الطوال أو من المئين وهي بحسب ترتيب المصحف لابحسب النزول أول سورة في القرآن سميت باسم نبي. والقرآن بالنسبه للأعيان ورد فيه أسماء سور بأسماء أنبياء وسور للقرآن بأسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم فما ورد بأنه أسماء أنبياء أول سورة يونس وتعقبها مباشرة(21/5)
سورتان هود ويوسف أصبحت ثلاثة طبعا لاأحد يقول" طه" ولا"يس" لاختلاف العلماء في( طه ويس ) ثم بعدها "إبراهيم" وهو الرابع بقيت اثنتان "محمد" صلى الله عليه وسلم ولها اسم ثان هي" سورة القتال" وسورة "نوح" إذن أسماء الأنبياء التي أطلقت على السورست ثم جاءت سور باسماء قوم صالحين لم تثبت نبوتهم مثل أول سورة" آل عمران" فإنهم قوم صالحين بالإتفاق(إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران ...)وسورة "مريم "بعدها بعده سور سورة "لقمان"فمريم ولقمان وآل عمران هؤلاء قوم صالحون ليسوابأنبياء اللهم أن يقال إن من آل عمران عيسى ممكن لكن إذا قلنا بالجمله فإنهم قوم صالحون هذه سورةيونس مما يتعلق بالسورة أنها اسم للنبي اشتهرت قصته ولايوجد داع لقول قصة يونس لأنها معروفه ونحن نتكلم هنا في درس علمي لافي درس وعظي لكنها سميت بهذا الاسم لأن الله ذكر اسم هذا النبي فيها فقال (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلاقوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)قلنا في دروس سبقت إن سنن الله لا تتبدل ولاتتغير فإذا استثنى الله شيئا ينبه على أنه خارجا عن سنته فإذا خرج الشيء عن سنة الله التي جرت في الخلق لا يجوز لأحد أن يستشهد بها من الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في أصح قولي العلماء حارب وقاتل ومكة سنة الله في خلقه أنها محرمة فقال صلى الله عليه وسلم يرد هذا الباب يردم هذه الفجوه قال:" إن الله حرم القتال فيها فإن احتج أحد "هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم"بقتالي فيها فقولوا... أي قولوا له:" إن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار ولم يحلها لك .هذا دلاله على أن السنه لايستشهد بها قلنا مراراأن الإيمان .
1/إيمان اضطراري.
2/إيمان اختياري.
وقلنا إن الله لايقبل الإيمان الإضطراري أبدا والإيمان الإضطراري له حالتان .(21/6)
الحالة الأولى :ـ عامه لم تأتي وهي طلوع الشمس من مغربها .والدليل عليه قول الله تعالى (يوم يأتي بعض ءايات ربك لاينفع نفسا)مفعول به مقدم(إيمانها)فاعل يعني لاينفع الإيمان النفس .
والحاله الثانيه:ـ إذا حق العذاب ونزل فلا يقبل كما قال فرعون (ءامنت أنه لاإله إلا الذي ءامنت به بنواسرائيل وأنا من المسلمين)ومع ذلك لم يقبل الله منه إيمانه هذه الحاله العامه السنه الكونيه العامه أخرج الله منها قوم يونس لحكم أخفاها الله لكن أثبتها أثبت الواقعه قال الله (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها )أي معنى الآيه إذا آمنت قريه وقت حقوق العذاب لايقبل (لولا كانت قرية)يعني لايوجد قرية ءامنت فنفعها إيمانها ثم سمى ربنا فقال(إلاقوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين )ولهذا اختلف العلماء هل إيمانها هذا يقبل في الآخره أولايقبل والصواب إن شاء الله أنه يقبل مادام الله أكرمهم في الدنيا سيكرمهم في الآخره وقلنا إن يونس أحد أنبياء الله من بني اسرئيل ولاحاجة للإخبار عن قصته لإشتهارها نأتي الآن إلى هذه السورة قلنا إنها أول سورة بدأت باسم نبي كما أنها أول سورة ذكر فيها الحلف الذي أمر الله به نبيه أن يحلف وقد أمر الله نبيه أن يحلف في ثلاثة مواضع في القرآن على شيء واحد وهو تحقيق البعث وهذا فيه دلاله على من قال إن كثرة الحلف ليست بقادح يعني بعض الناس يقول كثرة الحلف لاتصلح لكن هذا فيه رد قالوا إن الله أمر نبيه أن يحلف ثلاثة مرات أول مرة في سورة يونس (ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين)هذا في يونس والثانيه في سبأ(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب...) والثالثه في التغابن (زعم الذين كفروا ألن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن)وكل القسم جاء بكلمه (وربي)إلاأنه في يونس قال الله (قل إي وربي)هذه (إي) عند النحويين حرف جواب بمعنى نعم إلا أن(21/7)
النحويين يقولون إنها لايؤتى بها إلا إذا جاء بعدها قسم معنى الكلام أنك لوأردت أن تقول إي فقلتها فلابد أن تلحقها بقسم هذا مايتعلق عن السورة اجمالا ثم نختار كالعاده آيات منها الآيه الأولى قوله جل وعلا (وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم...)الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والبشاره أمر معروف لكن العلماء رحمهم الله اختلفوا في معنى قوله جل وعلا(قدم صدق عند ربهم)على أقوال كل يعضدها دليل قال بعض العلماء:" قدم الصدق":ـ المقصود به الجنه يعني المكان والمدخل أو المقام وحجة هؤلاء قول الله جل وعلا (وقل ربي أدخلني مدخل صدق..)فقالوا إن المدخل والقدم كلها بمعنى واحد والمقصود بالآيه هنا الجنة وهذا يظهر أنه بعيد .الأمر الثاني قالوا:ـ إن المقصود بها شفيع قبلهم وهذا الشفيع هو الذي يجعل هؤلاء المؤمنين يتكئون على شيء قبل أن يصلوا إلى ربهم وهؤلاء قالوا إن المقصود به شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم واحتجوا بما جاء في السنه الصحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال(أنافرطكم على الحوض)ومعنى فرطكم أي سابقكم إلى الحوض هذه حجة من قال أن القدم هنا الشفيع وبعضهم أبعد قليلا وهوقول الحسن البصري رحمه الله أبوسعيد الإمام المعروف قال إن "قدم الصدق" وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدلاله عنده أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصيبه وصبر المؤمنين على هذه المصيبه هي قدم صدق عند الرب هذا القول الثاني وتفرع عنه قول الحسن البصري كما بينا القول الثالث:ـ أن قدم الصدق المعنى ماكتب الله في الأزل في القدم أن هؤلاء كتب الله لهم الجنه من قبل وهؤلاء حجتهم آية الأنبياء (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)فقول الله جل وعلا (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)دليل على أن الحسنى سبقت لهم من قبل فقالوا إن معنى قول ربنا جل وعلا (وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق)أن المقصود بها ماكتبه الله جل وعلا في الأزل من أن لهم الجنه(21/8)
وهذا قوله قول قوي جدا القول الرابع: أن المقصود بقدم الصدق:ـ العمل الصالح وهذا هو قول مقاتل بن سليمان أحد أعظم المفسرين واختاره الإمام الطبري رحمه الله وحجة هؤلاء أنه جاء في كلام العرب أن العرب تكني عن النعمه باليد تقول فلان له علي يد يعني له علي نعمه وتقول عن الثناء الحسن تكني عنه باللسان جاء في القرآن(واجعلي لسان صدق في الآخرين)معنى لسان صدق يعني ثناء حسنا في الآخرين وتكني بالقدم عن السعي وهذا ثابت عندهم وفيه أشعار لهم كقول حسان : إليك قَََََََدمُنا وخَلْفُنا لأوَلِنا تابِع ....(21/9)
فالمقصود منها أن السعي هو القدم لكن لما قال قدم صدق أصبح السعي بالعمل ..بالعمل الصالح وهو الذي يظهر والله تعالى أعلم لكن قلنا إنك لست ملزما بقول من يملي عليك فما تختاره لك فيه إمام سابق هذه الآيه الأولى ثم قال سبحانه وتعالى لما ذكر أهل الجنه قال (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) دعواهم هنا بمعنى دعاؤهم لكن يأتي الإشكال من جهتين الإشكال الأول :ـ أن الجنه بالإتفاق ليس فيها تكليف ليس فيها عمل فكيف يقال (دعواهم فيها)هذا أجابت عنه السنة أنهم يلهمون التسبيح كما يلهم أحدكم النفس الآن صوره طبيعه الإنسان يتنفس بصورة طبيعيه يلهم إلهام صوره طبيعيه مافيه أحد يتكلف النفس هذا شيء يقع بصورة طبيعيه من الله فأهل الجنة يلهمون التسبيح من غير كلفه كما يلهم أحدنا النفس لكن قال بعض العلماء وهذا لادليل عليه لكنه موجود قالوا إنهم إذا اشتهوا شيئا يقولون سبحانك الله فيأتيهم مايشتهيه وهذا غير بعيد لكن لا نملك دليلا على صحته أورده وقلنا إن الغيب لايتكلم فيه إلابنص ظاهر، هذا اشكال بسيط .الإشكال الثاني:ـ عندما نقول الآن سبحانك اللهم هل أنت طلبت شيء ومع ذلك سماه الله جل وعلا دعاء نأتي إلى مسألة تقع في رمضان سنوياً وهو أن الإمام إذا أثنى على الله مثلا نصلي وراء مشايخنا حفظهم الله الشيخ الحذيفي وإخوانه من الأئمه يدعون..(اللهم اهدنا فيمن هديت) إلى أن يقول الإمام (اللهم إنه لايعز من عاديت ولا يذل من واليت)أو يقول "ربا وجهك أكرم الوجوه "أو يثني على الله فيقول من في الحرم سبحانك...وقد قلنا مرارا في هذا المسجد وفي غيره إن هذا القول لايوجد أي دليل عليه لأن الثناء على الله نوع من الدعاء وإذا دعاالإمام فإن موقف المأموم واحد من اثنين إما أن يسكت وإما أن يؤمن ولايوجد شيء في الدعاء أن يقول الإمام شيئا ويقول المأموم سبحانك لايوجد في السنة فيما نعلم ولافي القرآن دليل على(21/10)
أن الإمام إذا قال شيئا يقول المأموم سبحانك.المأموم حاله مع إمامه واحد من اثنين إما أن يؤمن وإما أن يسكت أما قول سبحانك أوحقا أونشهد كما يقول بعض إخواننا المصريين فهذا لايوجد عليه دليل من أدلتنا عموما على أن الدعاء يأتي بمعنى الثناء هذه الآية فإن الله قال(دعواهم فيها)أي دعاؤهم فيها سبحانك اللهم وهذا ليس فيه طلب ومن السنه كثير منها أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا عند حلول الكرب بهذه الكلمات (لا إله إلا الله العظيم الحليم لاإله إلا الله رب العرش العظيم لاإله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)وليس في هذه طلب فلا يلزم من الدعاء أن يكون طلبا بل إن من الطلب أن تثني على الله وأنت أمثل حتى مع العامه الآن تخرج من المسجد تقابل رجل يشحذ حتى هؤلاء الشحاذين يختلفون فيأتي إنسان يقول أنامسكين يريد ريال فيه آخر يقول أعطني ريال فيه آخر أعطني لله لايسمي فيه آخر يقول لك أنت أنت رجل كريم أنت طيب مامعنى أنت طيب ،أنت كريم،أعطني فالثناء نوع من الدعاء وممايدل عليه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي (خيرالدعاء دعاء يوم عرفه وخير ماقلت أنا والنبيون من قبلي -الآن يتكلم عن الدعاء- قال:(لاإله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)هذا مدح وثناء على الله فسماه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء.الثالث ماثبت بعدة طرق عند النسائي وعند أحمد أن سعدا بن أبي وقاص رضي الله عنه مر على عثمان بن عفان فلما مر سلم فلما سلم نظر إليه عثمان وملأ عينيه منه يعني نظر عثمان في سعد وحدق فيه النظر ولم يرد السلام فذهب سعد إلى عمر رضي الله عنه فقال ياأمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء قال لا لماذا تسأل قال إنني مررت على عثمان فسلمت عليه فملأ عينيه مني ولم يرد السلام فبعث عمر إلى عثمان واستدعاه وقال له مامنعك أن ترد السلام على أخيكزقال لم أره فحلف سعد أنه سلم وأن(21/11)
عثمان رءاه وحلف عثمان أنه لم يرى سعدا ولم يدري أن سعدا سلم عليه طبعا لايمكن أن يكون أحدهما كاذب فحلف الإثنين ثم تراجع عثمان وقال استغفر الله وأتوب إليه تذكرت الآن وهذا دليل أنك لاتعجل على الناس قال تذكرت الآن لكنني كنت أفكر في مسألة إذا تذكرتها تصيبني غشاوة قال إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول سأدلكم على دعوة وسكت فكمل سعد قال أنا أكمل لك القصه فأراد أن يقول لنا الدعوه ثم جاء أعرابي فشغله فمضى قبل أن يخبرنا بها فأسرعت وراءه سعد يسرع وراء الرسول صلى الله عليه وسلم قال فلما أراد أن يدخل الدار يعني البيت فضربت بقدمي على الأرض بقوة حتى أشعره أن أحدا وراءه فلما ضرب سعد الأرض بقوه التفت صلى الله عليه وسلم قال: مه .مه /كلمه للإستفهام تقولها العرب قال أبو إسحاق وهذه كنية سعد(أبوإسحاق)قال نعم يارسول الله ثم قال يارسول الله إنك أردت أن تقول لنا دعوة فجاء الأعرابي فشغلك فقال نعم دعوة أخي ذي النون(لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)مادعى بها مسلم في كرب إلااستجاب الله له.موضع الشاهد من القصه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى قول ذي النون (دعاء)وقد سماه الله من قبل في القرآن دعاء قال الله:(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى)اسماه الله نداء دعوة ذي النون ماذا فيها(لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)فليس فيها طلب وإنما فيها ثناء على الله يتحرر من هذاكله من هذه الشواهد أن قول دعوة(سبحانك اللهم)فيها نوع من المسألة (وتحيتهم فيها سلام)هذه التحيه المقصود بها إجمالا لكن قلنا إن القرآن مايجمل في موقف يفسر في موقف ثاني السلام هنا تحية الله لهم والدليل (سلام قولا من رب رحيم)وتحية الملائكه لهم ودليلها (سلام عليكم بما صبرتم فنعما عقبى الدار)وتحيتهم في بعضهم لبعض وهذا دليله حياتهم في الدنيا لأنهم إذا كانوا يسلمون على بعضهم في الدنيا فمن باب أولى أن يكون بينهم سلام في(21/12)
الآخره (وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)وقلنا إن الرجل إذا أراد أن يحرر خطبه أو أراد أن يحرر محاضره أو أراد أن يحرر شيء فمن المناسب أن يقول (الحمد الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته )أي في الفاتحه "وآخر دعاء لأهل جنته"أي قوله تعالى(أن الحمد لله رب العالمين)الآيه الثالثه التي سنقف عندها قول ربنا جل وعلا(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ماكانوايعملون)هذه الآيه هي إحدى آيتين في القرآن باستقراءنا والله أعلم قد تجد غيرها التي وردت فيها كلمة واحدة ترددت ثلاث مرات وجاءت عليها الثلاثة الأحوال النحويه أي أن هذه الأيه إحدى كلمتين في القرآن كلمة (الضر)إحدى كلمتين في القرآن جاءت في ءاية واحدة ومرت عليها الأحوال الثلاث قال الله (وإذا مس الإنسان الضرُ..)إعراب الضر هنا/فاعل (فلما كشفنا عنه ضرَّه)وقعت مفعول به منصوب(مر كأن لم يدعنا إلى ضرٍّّّّّّّ)فمر عليها الرفع والنصب والجرولايوجد حاله للإسم غير هذه الثلاث إما أن يرفع وإما أن ينصب وإما أن يجر والكلمه الثانيه في البقرة الله يقول (الحجُّّّّّّّّّّّّّّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحجَّ فلا رفث ولافسوق ولاجدال في الحجِّ)هذا كفائده نحويه وقد تجد أنت في القرآن غيرها لكن هذا الذي وجدته أنا نعود للآيه الآيه تتكلم عن الإنسان وهنا(أل)للإستغراق للجنس وقلنا إن (أل)إما أن تأتي للإستغراق والجنس وإما تأتي للعهد فإذا جاءت للعهد تنقسم إلى قسمين :
1ـ عهد لفظي.
2ـ عهد ذهني.(21/13)
عهد عقلي شيء في العقل أو عهد لفظي وإذا جاءت للجنس وهو أكثر ماتأتي في القرآن يقصد بها الإستغراق يعني جنس الإنسان فكلام الله هنا عن كل إنسان الله يقول(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما...)يعني لايفتأ يدعوا ربه على كل حال(فلما كشفنا عنه ضره)أي معناه (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ماكانوا يعملون)هذا يسمى يابني اطلاق .س/هل كل أحد إذا مسه الضر ودعاالله وكشف الله عنه ضره يغفل عن الله؟مستحيل ليس كل أحد فالمسلم المؤمن الصادق في إيمانه لايمكن أن يغفل وإذا احتج أحد عليك بالآية؟ترد عليه بالقرآن.وقلنا إنه يجب أن ينظر إلى القرآن على أنه كله كل لايتجزأ.ماأطلقه الله هنا قيده في هود قال(ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور)هذا نفس الإطلاق الذي في يونس ثم استثنى جل وعلا(إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)فيصبح هذا المؤمن مستثنى من هذا الإطلاق الذي في سورة يونس بالقرآن ومستثنى بالسنه في حديث(عجبا لأمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرا له)هذا الإستثناء الذي أطلقه الله جل وعلا في يونس قيده تبارك وتعالى في هود وقيدته السنه نأتي للمعنى /المعنى أن الإنسان بطبيعته كافرا أو مؤمن إذا جاءه الضر يلجأ إلى الله وهذه حاله يستوي فيها أهل الكفر مع أهل الإيمان ولكن الإبتلاء يكون بعد رفع الضر فالله يقول عن جنس الإنسان عموما(فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)نسأل الله العافيه فمن الناس أعاذنا الله وإياكم من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنه انقلب على وجهه والمؤمن يعبد الله على كل حال مؤمنا بالله راضيا بقضاء الله وقدره ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه وأن ماأصابه لم يكن ليخطئه وماأخطأه لم يكن ليصيبه وأن ماكان لك سيأتيك على ضعفك ومالم يكن لك لن(21/14)
تناله بقوتك جفت الأقلام وطويت الصحف،وحرم النبي صلى الله عليه وسلم على الأمه أن تقول لو لأن لو تفتح عمل الشيطان والمؤمن يرضى بقضاء الله وقدرته والرضا بالقضاء والقدر هو الحياة الطيبه التي قال الله عنها لأهل الإيمان (فلنحيينه حياة طيبة)فالرضا بقضاء الله وقدره هو معنى الإيمان الحق وكم من منحه يعني عطيه في طيي محنه والحبل إذا اشتد انقطع والسحاب إذا تراكم همع يعني ينزل ماء فالأمور كلما ازداد ضيقها دل على قرب الفرج والإنسان لايدري ماهو مكتوب لكن يستقدر الله الخير ويرضين بقدر الله ويأخذ بالأسباب ويتوكل على الله فإن جاءه مايؤمل فالحمد لله وإن لم يأته مايؤمل فكذلك الحمد لله لكن لايعم يقول الحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار ويعلم أن خيرة الله له خير من خيرته لنفسه هذا كفائده إيمانيه كفائده دنيويه لاتؤمل في الناس خيرا أكثر من اللازم فقد تحسن إلى إنسان فلا يكافئك على إحسانك فلا تتعجب لأن الإنسان إذا وجد من الناس من الله يكشف عنه الضر فيمر كأن الله لم يكشف عنه شيئا إذا كان هذا تعامله مع خالقه من باب أولى أن يكون تعامله مع عبد مثله ومخلوق مثله أردى من ذلك وأسوأ والعاقل أصلا لايؤمل مافي أيدي الناس شيئا يزرع الجميل ولو في غير موضعه فإن الجميل يحصد في أي مكان وينفع والعرب تقول :لايذهب العرف بين الله والناس ،إن أضاعوه الناس يبقى عند الله لكن الذي يعنينا في الآيه أن من دلائل أهل الإيمان أن لهم مع الله طريقين وكل طريق لهم فيه مطيه فطريق الإبتلاء مطيتهم فيه الصبر وطريق النعماء مطيتهم فيه الشكر والحمد ،وهما في كلا الحالتين معترفون مقرون لله جل وعلا بالحمد والفضل والمنة... هذا ماأردنا بيانه هذه الليلة على عجل حول سورة يونس .وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين.(21/15)
تأملات في سوره يونس [2]
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه وأشهد أن لاإله إلاالله وحده لاشريك له خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثر واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد فهذا هو اللقاء الثاني المتعلق بتعليقنا وتأملاتنا على سوره يونس وكنا قد سبق أن التقينا الأسبوع الماضي وتحدثنا عن هذه السوره وقلنا إنها سميت بهذا الإسم لأنه ورد فيها ذكر اسم النبي الكريم يونس بن متى عليه الصلاة والسلام في قوله جل شأنه (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) ويونس بن متى أحد الأنبياء المرسلين بنص القرآن وقد ذكره الله جل وعلا في القرآن باسمه الصريح وذكره في القرآن بلقبه ذكره باسمه الصريح في النساء والأنعام وفي يونس والصافات وذكره جل وعلا بلقبه مرتين في الأنبياء:(وذا النون إذ ذهب مغاضبا) وفي القلم:(ولا تكن كصاحب الحوت) وسميت هذه السوره باسمه وقلنا في الدرس الماضي إنها أول سوره في القرآن إذا التزمنا بترتيب المصحف صُدرت باسم نبي ثم تلاها سوره هود ثم سوره يوسف ثم ذكرنا سوره إبراهيم ثم ذكرنا سوره محمد ثم نوح هذه السور التي سميت بأسماء الأنبياء وذكرنا أن من غير الأنبياء ممن سميت السور باسمائهم من الصالحين ثلاثه:ـ(22/1)
1/ آل عمران 2/ مريم 3/لقمان هذه جمله ما تكلمنا عنه إجمالا حول تسميه السوره ثم انتقلنا إلى أن السوره هي أول سوره في القرآن أمر الله فيها نبيه أن يحلف (ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) وقلنا بقيت اثنتان الأولى في سبأ(وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب) والثانيه في التغابن (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) الآن ندخل على درس الليلة سنقف أولا عند قول الله جل وعلا:(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون*الذين ءامنوا وكانوا يتقون *لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الأخره لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم*ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) من المقر شرعا أن الله جل وعلا أمر الخلق بعبادته وحذر الناس من عباده الشيطان فمن عبد الله فهو بالجمله ولي من أولياء الله ومن عبد الشيطان عياذا بالله وكفر فهو ولي من أولياء الشيطان والشيطان يوم القيامه يتبرأ من أوليائه كما قال الله عنه أي عن إبليس أنه يقوم خطيبا يوم القيامه في اتباعه (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.....) إلى آخر الآيه في سوره إبراهيم أما أولياء الله فحتى لا يترك مجال للناس في تعريف من هو الولي فسر الله الولي بالقرآن نفسه وهذا من إيضاح القرآن بالقرآن يسألك إنسان مالحطمه؟فتجيب بالقرآن(وماأدراك مالحطمه*نارالله الموقده)إذن مالحطمه/نار الله الموقده ولايمكن أن يأتي أحد فيفسر الحطمه بأفضل من أن تقول نار الله الموقده هنا قال الرب سبحانه(آلاإن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون)فسر جل وعلا قال(الذين ءامنوا وكانوا يتقون)فمن ءامن بالله واتقى فهو ولي من أولياء الله لكن هذه الولاية درجات ومنازل عدة لكن بالجمله كل من ءامن(22/2)
بالله واتقى الله فهو ولي بنص القرآن وقد أغرق الناس في هذا الباب(باب الولاية)في مداخل ومخارج لايعلمها إلا الله منذ أن ظهرت الصوفيه في القرن الثالث في الأمه إلى يومنا هذا والناس في قضية هذا ولي وهذا غير ولي يركبون مراكب الصعب والذلول في إثبات أمور أثبتها الله من قبل ولاحاجة لخوض الناس فيها كما يخوضون فيه اليوم الصحابه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعرفون اسم للناس إلامسلم أو مؤمن أو اسم تاريخي يقال فلان بدري لأنه شهد بدرا أو يقال فلان من أهل الشجره لأنه شهد البيعه أو يقال فلان تابعي لأنه رأى الصحابه أمور تتعلق بأحداث تاريخيه لاتتعلق بأعمال القلوب والنبي عليه الصلاة والسلام قال(من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)ومن حسن اسلام المرء بناء على هذا الحديث أن لايدخل الإنسان في تصنيف الناس وألا يفتن أحد بأحد ولايعظم أيا ماترى في عيناك من بشر مهما رأيت فيه من الدين أو من البكاء من خشية الله أو من حسن الصوت بالقرآن أو من العلم أوما إلى ذلك لاتفتن بأحد فالقلوب بين اصبعين من اصبع الرحمن يقلبها كيف يشاء وكما أنك لاتفتن بأحد تخشى الفتنه على نفسك فلا يغرنك عملك ولاما إلى ذلك أو ثناء الناس عليك أوما تراه أو أشياء كثيره قد تصبح لك مشجعه كما سيأتي لكن لاتصبح لك مهلكه وتظن أنك أنت تستحق هذا أو أنك قادر أو أن تزكي نفسك قلبيا وفرق جم مابين أن يزكي الإنسان نفسه قلبيا ومابين أن يزكي الإنسان كموهبه أعطاه الله جل وعلا إياه تزكية القلوب أمرها محسوم أنها لاتجوز قال الله(فلاتزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)فلا يجوز لأحد أن يزكي نفسه قلبيا أما تزكية الصنعه التي تحسنها فهذا لاضير فيه ومن قول نبي الله يوسف(قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)هنا يتكلم عن أحوال الجوارح يتكلم عن قدرة في إدارة شؤون الدوله اقتصاديا ولايتكلم عن إيمانه وتقواه وقربه من الله يتكلم عن أمر دنيوي محض قال (اجعلني على(22/3)
خزائن الأرض إني حفيظ عليم)تريد أن تركب باصا تسافر به إلى مكة وأمامك أربعين نفس أنت مسؤول عنهم فمن حقك أن تسأل من يريد أن يقود أيكم يحسن القياده فلو قام أحد الناس أنا أحسن أو يتكلم عن خبره سابقه فهذا ليس تزكية للنفس هذا إخبار بالعمل لايذم صاحبه لأن فيه منجاة للناس وإلا ترك الأمر على غير ذلك لهلك الناس لكن المحرم شرعا تزكية أعمال القلوب هذه اجعلها بينك و بين الله ولاتأبى بمدح الناس ولا بذمهم وسيأتي التفصيل أكثر من ذلك قال الله(آلا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون)قلت من المهم جدا أن يخشى الناس على نفسه الفتنه والسعيد من يتعظ بغيره وقد ذكر الله جل وعلا نماذج في القرآن وجاء في السنه وفي أحوال الناس المعاصره وغير المعاصرة نماذج فتن الناس بها ثم انقلبت على اعقابها عياذا بالله والله جل وعلا يقول(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) بعد أن من الله جل وعلا عليه بالعلم وأصبح ذا قدره وذا مكانه أخلد إلى الأرض واتبع هواه كما قال الله جل وعلا عنه فعلى هذا أمر في نفسك يتعلق بغيرك وأمر في نفسك يتعلق بنفسك فأما أمرك الذي يتعلق بغيرك ألا تفتن بأحد والأمر الذي يتعلق بنفسك أن تخشى على نفسك الفتنة فإن الإنسان مطلوب منه أن يعبد الله حتى يلقى الله قال الله لنبيه:(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)أي حتى يحل بك الموت.وتفارق الروح الجسد هناك ينتهى وقت التكليف وزمنه بعد ذلك لو مدحت شخصاً أفضى إلى ربه بحدود الشرع فلا ضير،أما والإنسان حي فلا تبالغ في مدح أحد ولا تفتن بمدح أحد،كان هناك رجل وهذا من باب العظه يقال له عبدالله القصيمي هذا مات مؤخرًا قبل عدة سنوات كان يسكن القصيم،ثم سافر إلى الأزهر قديمًا،هو عمِّّر إلى التسعين ومات قبل عدة سنوات في الأردن وكتبت الصحافه عنه شيئًا كثيرًا لكن أنا أتكلم عن الفتنه فلما سافر إلى القصيم درس في الأزهر فجاء أحد علماء الأزهر كتب كتبًا يقال له الدوجي ألف(22/4)
كتبًا في قضايا جواز التبرك بالأضرحه ودعاء الأولياء فرد عليه هذا الشيخ آنذاك وهو طالب في الأزهر فلما رد عليه قرر الأزهر فصله بعد جلسات علميه لمجلس الجامعه كان الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار شيخ الألباني حيا أنذاك حاول أن يقف معه وأن يعضده لكنه لم يستطع أن يفعل له شيئا لكن الشاب آنذاك لم ييئس وألف كتبا جعلت له مكانه علميه آنذاك ثم ظهر في سوريا رجل شيعي ألف كتابا يخاصم فيه دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فرد عليه هذا صاحبنا بكتاب اسمه(الصراع بين الإسلام والوثنيه)في ألفين وخمسمائه صفحة أظهر فيها قدره علمية خارقه وحجج عقليه قلما يصنعها أحد من أهل زمانه ففتن الناس بعلمه حتى أنه في إحدى خطب الحرم المكي ذكره الإمام على المنبر يثني على الكتاب وعلى صاحبه.
صراع بين إسلام وكفر
يقوم به القصيمي الشجاع(22/5)
إلى آخر القصيده وقال العلماء آنذاك للملك عبد العزيز رحمه الله وكان حيا قالوا له إن القصيمي بكتابه هذا دفع ثمن مهر الجنه. بناء على مافي الكتاب من قدرات في الرد وردم الوثنية وإعلاء شأن الإسلام فتن الناس به فترة ثم خبوا،فكأنه كان يرجوا أن يكون له عند الناس مكانه أعظم مما تلقاها منهم،فبعد ذلك رجع إلى مصر وسكن فيها وخالط قوماً من أهل الفساد"فساد الفكر"فألف كتاباً يتبرأ فيه نسبياً من كلامه الأول ثم عياذاً بالله ارتد صراحة وألف كتاباً اسماه(هذه هي الأغلال) والتهم الدين كله بأنه غل وتكلم حتى في الرب جل جلاله.وجلس ذات يوم أمام رئيس الوزراء المصري آنذاك وكان موجودا الشيخ:محمد متولي الشعراوي العالم المصري المعروف وكان يومئذٍ في أول زمانه فجلسا يتناقشان فإذا بهذا القصيمي الذي ألف كتاب:الصراع بين الإسلام والوثنية،يسخر حتى من الله،فلم يستطع الشعراوي أن يرد عليه لأن أحيانا الإنسان الذي أمامك لا يريد حق صاحب دعوة صاحب جدل والله يقول:{وذكر إن نفعت الذكرى} إن لم تنفع أخرج،فخرج الشعراوي رحمة الله عليه وهو يتلو:"...إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره..." وخرج من المجلس ثم مكث هذا الرجل يؤلف كلها سبا في الدين وسخرية بالله ورسوله بعد أن ألف كتاباً أثنى عليه في حرم مكة.فأمر الملك عبد العزيز علمائه آنذاك في الصحافه أن يتبرؤا منه، وأصدر علماء في ذلك العصر كثيرا من الكتب التي ترد عليه عياذا بالله. ثم عاش في الأردن فترة حتى قبل عدة سنوات مات عن قرابة تسعين عاماً جاءت الصحف هنا للأسف تكلمت عنه على أنه كتب في الروايات له راويه اسمها(مدن الملح) ممنوعة سياسياًالذي يعنينا أنه لم يبقى له أصحاب ولم تأتي الصحافه... الصحفيون غالبهم ينشأ متأخر لم يقرأ شيئاً من القديم ولم يطلع وبعضهم عفا الله عنا وعنهم ليس هناك لديه غيره على الدين لعدم العلم والجهل، المقصود هذه نظره(22/6)
للإنسان في أن يتأمل ماحوله فحتى تستريح لاتفتن نفسك بأي مخلوق ولاتعلق قلبك بأي مخلوق لأن الله لما ذكر أهل الولاية قال:(الذين ءامنوا وكانوا يتقون) فنسب الولايه الشرعيه إلى الإيمان به جل وعلا وإلى تقواه سبحانه وتعالى قال الله:(ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون)الخوف يكون في الأمور المستقبليه والحزن على الشيء الماضي فالله كتب لأهل تقواه من أهل الولايه كتب لهم ألاخوف يعتريهم على ماهو قادم ولاحزن يعتريهم على ما فات وهذا قد يقع في الدنيا وقد يقع عند سكرات الموت وقد يقع يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد وقد يقع في عبد صالح بالثلاثه... لكن أولياء الله يختلفون وقد تكلم العلماء كيف يعرف الولي ولن أتكلم فيه لكن يكفي أن الله قال :(الذين ءامنوا وكانوا يتقون )وجاء في الحديث القدسي (ماتقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه ومايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي عليها والمقصود هنا التوفيق من الله التوفيق في السمع والتوفيق في البصر والتوفيق في الأخذ والعطاء والتوفيق في الغدو والرواح هذا المقصود (بكنت سمعه.. كنت بصره..كنت قدمه...كنت يده المقصود بها التوفيق من الرب جل وعلا يجعل الله له نور يجعل الله له بيَّنه يجعل الله له فرقانا يميز به الأشياء لأنه قريب من الله تبارك وتعالى محبوب منه (ألاإن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون*الذين ءامنوا وكانوا يتقون)قال الله عنهم بعد أن ذكر نعتهم بالجمله قال(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخره)فلما قال ربنا في الحياة الدنيا وفي الآخره فهمنا أن البشارة قسمان لأن الله ذكر زمانين فلما ذكر الرب زمانين كان لابد أن تكون البشرى بشارتين هذه البشرى تكلم العلماء فيها كثيرا والأصل الذي نرى أن لا يحسن ولايجمل قصرها على شيء واحد وتبقى البشرى في الحياة الدنيا مفتوحه إلا(22/7)
أنه من أعظم البشرى الرؤيا الصالحه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في البخاري وهو لاينطق عن الهوى قال(لم يبقى من النبوة إلا المبشرات قالوا يارسول الله وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحه يراها المؤمن أو ترى له) كما في الزياده هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام:(لم يبقى من النبوه إلا المبشرات الرؤيا الصالحه). فالرؤيا نوع من البشاره فقد يخرج الإنسان من موطن من مكان من عمل كئيبا حزينا على شيء أصابه ويكون له عندالله مقام أو عمل صالح فيراه أحد فيخبره أنه رأى له رؤيا يكون في هذه الرؤيا بشاره لنجاته أو يكون هو قد غفا أو نام في ليل أو نهار فيرى رؤيا تدل على أمر حسن وقد قلنا مرارا أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال له بنوه وأخبروه أن يوسف هلك كان واثقا أن يوسف لم يهلك فقال كما قال الله جل وعلا عنه(قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) الذي جعل يعقوب يطمئن على أن يوسف لم يهلك هي الرؤيا التي رأها يوسف من قبل فلما قصها على أبيه فهم يعقوب أن هذا الابن سيكون له شأن:(قال يا أبتي إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) وهذا يظهر بعلوه وعلو مكانه لأن خضوع الأب والأم والأبناء له يدل على ارتفاع قدره، فلما جاءه الإخوه وقالوا إنه هلك لم يقبل يعقوب هذه الدعوه لكن ضعفه آنذاك اجتماعيا هو الذي جعله أن يصبر ويحتسب عند الله وقد تحقق له الأمر ولذلك قال:كما قال الله جل وعلا عنه:(قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون) من البشاره كلمة إنسان يسمعها من غير أن يبيت حسبان لها من غير أن يبيت أن يسمعها فيلقاها في طريقه أو حدث يراه بعينه هذه أمور دقيقه لا يمكن شرحها لكن تراها في حياتك العامه النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على خيبر وقلنا هذا مرارا فلما صلى الفجر قريبا من خيبر ونظر إلى خيبر وكانت اليهود محميه لهم خيبر ويخشى على المدينه منهم رأى أهل خيبر بيدهم(22/8)
المساحي وهي أداة هدم فلما رأها استبشر صلى الله عليه وسلم هذا من البشرى ففرح وقال:(الله أكبر خربت خيبر لأنه رأى في أيديهم ما هو أداة هدم وهو جاء ليهدم خيبر فتحققت تلك البشرى لما رآهم قال:(الله أكبر خربت خيبر) فخربت خيبر كما قال عليه الصلاة والسلام وقيل:إنه لما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينه رأى قوما لا يعرفهم ومعه أبو بكر رضي الله عنه وهو هارب من مكه خارج من قومه يريد الأمان في المدينه فقابل رجلا قال له من أنت قال: بريده فاستبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفت إلى أبي بكر برد أمرنا ثم قال بن من؟ قال بن أسلم قال: أبشر يا أبا بكر سلمنا أخذها من الإسم فهذا نوع من البشاره يحسن للإنسان وهو غاد أراح ولما اقبل سهيل بن عمرو في معركه الحديبيه والنبي عليه الصلاة والسلام يعرف سهيلا من قبل وهو قادم للصلح وكان النزاع قد اشتد ودعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان تحت الشجره لما أشيع أن عثمان قد قتل فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أن قريشا بعثت سهيلا قال:أبشروا لأصحابه سهل أمركم أخذها من اسم سهيل فهذا نوع من البشرى الذي يعطاه المؤمن في الحياة الدنيا هذه أمور قلت لا يمكن حصرها في شيء معين لكنها أمور عديده تحصل للمؤمن وعده الله جل وعلا بها بنص القرآن قال سبحانه:(لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخره) في الآخره:أن الإنسان (المؤمن) لا يموت حتى يرى مقعده من الجنه وكذلك يبشر في القبر يأتيه عمله الصالح في صورة شاب حسن الوجه فيقول له من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح هذه كلها من المبشرات حتى يدخل المؤمن الجنه فيجد الراحه التامه الكبرى التي وعدها الله جل وعلا عباده أدخلنا الله وإياكم الجنه وحتى لا ترتاب القلوب قال الله بعدها (لا تبديل لكلمات الله) هذه أوامر الله وقضاؤه وقدره ولايمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يبدلها ولا أن يجري في الكون أمرا لم يكتب الله منذ الأزل أن يقع (لا تبديل(22/9)
لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) من تمسك بالإيمان والعمل الصالح واجتهد في أن يقترب من الله واجتهد في أن يبتعد عن السيئات وصاحب عمله الإستغفار والخوف من الله والطمع في رحمته ووصل إلى الجنه هذا هو إجمالا بلا شك (ذلك هو الفوز العظيم) ثم قال الله لنبيه (ولا يحزنك قولهم) ويجب وجوبا أن تقف لأنه لا يستقيم المعنى (ولا يحزنك قولهم إن العزه لله جميعا) كفر تقول:(ولا يحزنك قولهم) أي قول:قول القرشيين أنك كافر... أنك ساحر... أنك كاهن... أنك مجنون، هذا لا يحزنك ثم تقف لأن الجمله تمت ثم تقرأ:(إن العزه لله جميعا) فليس قولهم إن العزة لله جميعا يجب أن لا يحزنك هذا يفرح لكن (ولا يحزنك قولهم) لا/ناهيه ويحزنك:فعل مضارع مجزوم (ولا يحزنك قولهم) وتقف أي قول: ما سلف في القرآن من اتهام القرشيين بنبينا عليه الصلاة والسلام بعدة أمور ثم تقول لماذا لا يحزنك؟ (إن العزه لله جميعا) ولا يوجد عاقل لا يطلب العزه لكن الله قال إن العزه كلها أولها وآخرها مبدؤها ومنتهاها ملك لله وقد مرت معنا هذه اللام:لام للملك (إن العزه لله جميعا) مرت معنا للفقراء (إنما الصدقات للفقراء)لكن الفرق أن ملك بني ءادم لما تحت يده ملك صوري وملك الله جل وعلا لكل شيء ملك حقيقي ولذلك قال الله جل وعلا:(الملك يومئذ الحق للرحمن) فيفنى الملك الصوري فلا يبقى إلا الملك الحقيقي ولذلك حصده الله جل وعلا في يوم القيامه ومنه قول الله في آخر الإنفطار (والأمر يومئذ لله) لأن الأمر الصوري ينتفي فيبقى الأمر الحقيقي والأمر الحقيقي ليس إلا لله جل وعلا وحده (ولا يحزنك قولهم إن العزه لله جميعا هو السميع العليم) هو السميع لأقوالهم العليم بأعمالهم ومادام جل وعلا يسمع أقوالهم ويعلم أعمالهم فهو جل وعلا القادر علا جمعهم القادر على حسابهم وكل هذا سيكون لامحاله كما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه من هذا يفهم من الآيه عموما أن المؤمن ينبغي عليه وهو يسير في(22/10)
طريقه إلى الله ألايصل به الحزن وإن كان الحزن لابد منه الرسول صلى الله عليه وسلم يقول(إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن)لكن لايصل بك الحزن إلى اليأس الكامل والقنوط من رحمة الله تبارك وتعالى أما أن يعتريك حزن يعتريك دمعه يعتريك أسف هذا لامفر منه لكن لايعني ذلك التشكيك في قدرة الله أو الإعتراض على قدره فقد بكى من هو خير منا وحزن من هو خير منا لكن الحزن والدمع والشكوى تبث إلى الله كما قال الله عن الصديق يعقوب(قال إنما أشكوا بثي وحزني) فأثبت له حزنا لكن هذا الحزن شكاه وبثه إلى ربه جل وعلا (قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالاتعلمون)أما الحزن الذي نفاه الله جل وعلا عنه هنا هو الحزن الذي يصيب الإنسان بالقعود التام والشلل التام في حياته هذا منفي عن أهل ولاية الله لأن ثقتهم بالرب تبارك وتعالى يعلمون بها أن الله سيجد لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل كرب تنفيسا وأن الله جل وعلا قادر على كل شيء لايعجزه شيء في الأرض ولافي السماء وثقتهم بربهم تبارك وتعالى تجعلهم مطمئني البال على يقين بأن الله سيجد لهم المنجى والمخرج ولو زاد عليهم البلاء فإن هذا أكثر عظمة لأجورهم وتكفيرا لخطاياهم فهم يتقلبون مابين أجر يعطونه أوسئية يكفر بها عنهم هذه الوقفه الأولى لسورة يونس لهذا اليوم ثم قال الله جل وعلا في هذه السورة ذكر الله ثلاثة من الأنبياء ذكر نوحا وموسى ويونس وقد مرمعنا تفصيل كثير من هذا في الأعراف وفي النساء وفي غيرها مما ورد فيه ذكر الأنبياء وأناقلت إنني لأكرر ماوقفت عنده لكنني سأقف هنا عند قضية غرق فرعون آخر أيام موسى في أرض مصر وغرق فرعون حتى تعلم البلاغه العظيمه لكلام الرب جل وعلا قال الله(واتل عليهم نبأنوح...)وذكر فيها خبر نبي الله نوح وقد مر معنا نوح في أكثر من مرة ثم ذكر الله جل وعلا أنه أرسل رسلا ولم يسمهم في هذه السورة إجمالا ثم قال(ثم بعثنا من بعدهم موسى(22/11)
وهارون...)فذكر موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وقلنا إن موسى أخ شقيق لهارون وهارون أكبر من موسى وأن هارون ولد في العام الذي لا قتل فيه وولد موسى في العام الذي فيه قتل لكنا الله جل وعلا لحكمه أرادها جعل موسى خيرا من هارون وذكر الله جل وعلا قضية السحر وهذه تكلمنا عنها تفصيلا نصل إلى أنه بعد أن انتصر موسى على سحرة فرعون وآمن السحره مكث موسى في مصر ولم يخرج منها لأنك إذا أردت أن تفسر القرآن لابد أن تجمع بعضه إلى بعض في هذه الفتره جاءت الآيات الباقيه قال الله في الأعراف(فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات)وقلنا إن ءايات تعني شيء خروج عن المألوف لأن لآن يوجد جراد...يوجدقمل..يوجد ضفادع...لماذا لاتسمى ءايات؟لأنها تعيش حياة طبيعيه لكن قول الله(فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات)يدل على أن ءايات شيء غير مألوف غير معهود وقول الله جل وعلا(مفصلات)يدل على أنها لم تكن مجتمعه لم تكن جمله واحدة مفصلات آية تنتهي تأتي ءايه ثانيه وهذا يدل عموما على أن موسى وقومه مكثوا فتره طويله في أرض مصر قبل أن يخرجوا منها قال الله في يونس(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبله وأقيموا الصلاة وبشري المؤمنين)الوحي من الله ويأتي على صور الوحي للأنبياء غير الوحي للصالحين والوحي للصالحين غير الوحي للمخلوقات هذه الثلاثه كلها جاءت في القرآن فالوحي للمخلوقات(وأوحى ربك إلى النحل..)والوحي للصالحين غير الأنبياء (وأوحينا إلى أم موسى ..)والوحي للأنبياء كثير هذه منها(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأ لقومكما بمصر بيوتا)مصر/ البلد المعروف لكنها ليست القاهرة قطعا لأن القاهره أسست بعد ذلك في عهد دولة بني عبيد وإنما كانت أحداث موسى لمادخل المدينه على حين غفلة من أهلها مدينة(عين شمس)ليست القاهرة الذي يعنينا كلمة مصر كلمه مؤنثه وعلم والمؤنث(22/12)
العلم يمتنع من الصرف إلا إذاكان ساكن الوسط فإنه يجوز صرفه (كنوح،هند،ومصر)ولذلك جاءت كلمه مصر في القرآن مرة موقوف بالراء ومره منونة،مرة مصروفه،ومره غير مصروفه لأنها ساكنه الوسط الذي يعنينا الله يقول لنبيه(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأ)أي اتخذا (لقومكما بمصر بيوتا)هذه واضحه لكن قال الله (وجعلوا بيوتكم قبله)واختلف العلماء في معنى قوله تعالى (واجعلوا بيوتكم قبله)ذهب الإمام الطبري رحمه الله وهو شيخ المفسرين نبدأ به وجمهور العلماء من المفسرين إلى أن المعنى:ـ اتخذوا بيوتكم مساجد أي صلوا في بيوتكم وهو عند هؤلاء العلماء رحمهم الله أن بني اسرائيل كانوا يصلون في الكنائس والبيع فشد عليهم فرعون فأوحى الله إليهم أن انقلوا الصلاة إلى البيوت هذا ماقاله جمهور المفسرين وقال بعضهم ويحكى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن (واتخذوا بيوتكم قبله)أي جهة الكعبة أي اجعلوها جهة الكعبة ونحن نقول والله أعلم أن المعطيات التاريخية والقرآنيه لاتساعد على أي من القولين:ـ أما القول الأول:فإننا نقول لايعقل أن فرعون يسمح في مدة من الزمن لبني اسرائيل أن يصلوا في المساجد والبيع ظاهرين الذي ذكره الله في القرآن من سوم فرعون لبني اسرائيل من العذاب يتنافى عقليا مع القول أنه يمكن أن يكون بني اسرائيل اتخذوا مساجد ظاهرة علانيه كالبيع والكنائس يصلون فيها إلا إذا يوجد دليل صريح من القرآن أن هذا موجود فقلنا إذا جاء سيل الله يبطل سيل معقل لكن لا يوجد دليل صريح من القرآن أنهم كانوا يصلون في مساجد ظاهره وإنما هذا فهم للآيه ولابد أن تفرق مابين كلام الله وفهم العلماء لكلام الله فالمقدس كلام الله أمافهم العلماء ليس بمقدس فالذي لايدخله التبديل ولا التحريف ولا التكذيب النص أمافهم العلماء للنص يدخله الخطأ أي إنسان قابل قوله الصواب وقابل قوله للخطأ هذا رد الأول.أمارد الثاني أنه إذا قلنا كما قالوا أن (وجعلوا بيوتكم قبله) أي(22/13)
متجهه إلى الكعبه فهذا يعني أن اليهود كانوا يتجهون إلى الكعبه لأن الكعبه قبلتهم وهذا ينافي ماثبت في السيره الصحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكه يصلي إلى بيت المقدس وستة عشر شهرا في المدينه يصلي إلى بيت المقدس فلا يعقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم أن الكعبه أصلا متخذه قبله من قبل اليهود من قبل هذا يتنافى مع القرآن والله يقول (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها....)ثم ذكر أهل الكتاب قال(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آيه ماتبعوا قبلتك...)وقال(وماأنت بتابع قبلتهم)وقال(ومابعضهم بتابع قبلة بعض)فمن أن كانوا كان لليهود قبله وللناصارى قبله وللمسلمين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبله هذا الرد على الثاني .طبعا قلنا عندما ترد أقوال لابد أن تأتي ببديل إذا ماتقول؟تقول الآيه ليست لها معنى نقول كما قال بعض العلماء من قبل قالوا وهذا أرجح الأقوال عندنا وإن كان ضعيفا في كتب التفسير نقول إن معنى (قبله)أي يقابل بعضها بعضا أي بمعنى عامي مميزه حتى إذاجاء النفير أن يخرجوا من أرض مصر يكون البعض يميز بيت الآخر فيسهل أن ينادي بعضهم بعضا فيكون معنى قول الله جل وعلا(واجعلوا بيوتكم قبله)أي متقابله في مكان واحد متجاوره لكم مصطلح/ يعرف فيها بعضكم بيوت بعض هذا الذي ندين الله نختاره من أقوال المفسرين وعندما نقول نختاره أي لسنا الذي أول من قاله هذا كلام مكتوب في كتب التفسير لكن نحن نرجحه لأن معطياته العلميه أقوى مما يدل على صحة هذا القول أن الله قال بعدها (وأقيموا الصلاة)فمعناه أنه لم يكن يتكلم عن الصلاه من قبل كلما فهموا أنها الصلاة في المساجد والبيوت(وبشري المؤمنين)هذه أظهر أنها خاصه بقوم بني اسرائيل أنه سيأتيهم البشاره والنجاه لكن يلزمنا وقلنا أنت كطالب علم لست ملزما بما يقوله الشيخ نحن نتكلم من باب الأمانه العلميه أما أنت فلك قدراتك وإمكانياتك تختار(22/14)
من أقوال العلماء ماتراه صوابا فإذا قلنا على قول العلماء أن (وجعلوا بيوتكم قبله)معناه/مساجد هذا ننتقل إلى مسأله فقهيه يبحثها العلماء وهي الصلاة في البيوت الصلاة إما أن تكون فرضا وإما أن تكون نفلا فصلاة الفرض لابد أن تكون في المساجد وهذا أمر ينبغي أن يرفع الخلاف فيه إلا بعذر بقينا في النوافل النوافل من حيث الجمله تنقسم إلى قسمين نافله يجمع لها ونافله لايجمع لها فالنوافل التي يجمع لها الإستسقاء ،الكسوف،الخسوف،هذه تصلى في المساجد أو في المصليات يصح صلاتها في البيوت لكن الأولى أن تصلى في المساجد نأتي إلى النوافل التي لايجمع لها كالسنن الرواتب هذه تصلى في البيوت لحديث البخاري العام أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:(اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولاتجعلوها قبورا) أي البيوت وركعتا المغرب هي أوكد الصلوات التي تصلى في البيوت لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن عجره عند أبي داوود بسند صحيح ذهب إلى بني عبد الأشهل بني عبد الأشهل فخذ من الأوس قوم سعد بن معاذ صلى فيهم صلى الله عليه وسلم المغرب فلما صلى والتفت قام الناس يسبحون يصلون -إذا جاءت معك وأنت تطلب العلم في الأحاديث كلمة يسبحون فالمقصود بها يصلون النوافل- فقاموا يسبحون أي أهل بني عبد الأشهل قاموا يصلون السنه فتعجب صلى الله عليه وسلم وقال هذه صلاة البيوت وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ماأحصي كم سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي المغرب وركعتي الفجر (قل يأيها الكافرون)و(قل هو الله أحد)لو مثلا جاء إنسان وقال هذا حجة على أن ركعتي المغرب تصلى في المسجد سألته أنت أين الحجه قال لك أن ابن مسعود قال سمعته .كيف سمعه وهو يصلي المغرب في البيت كيف يكون جوابك؟يكون بأن الراوي ابن مسعود كان يخرج ويدخل وهو صاحب سواكه ووضوئه فكان من الخدم الخاصين بالنبي صلى الله عليه وسلم فمعرفة أحوال الصحابه تساعد على فهم السيره على فهم(22/15)
القرآن وهذا قلنا إن معطيات التفسير أن يكون للإنسان علم متنوع حتى يستطيع أن يفهم كلام الله نعود فنقول إن صلاة النوفل في البيوت أفضل منها في المساجد لكن إذا كان وراء الإنسان عمل أو عنده موعد لزيارة مريض أو غادر إلى مكان ما ولم يكن بمقدوره أن يرجع إلى البيت فليس بمعقول أن نقول له اذهب إلى البيت وأخرج...يصلي في المسجد... كمن يجلس في الحرم النبوي بين المغرب والعشاء يصلي في البيت لكن نقول إذا كنت إذا خرجت من المسجد تعلم أنك ستعود إلى البيت فأد النافله في البيت باتفاق الأئمه نعود إلى الآيه ثم قال الله جل وعلا(وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملاءه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)الذي دعا هنا موسى ،الله يقول (وقال موسى ربنا)لاتحتاج إلى جواب الله بعدها قال (قد أجيبت دعوتكما)ذكر كم شخص؟شخصان "هذه ألف الاثنين"والاثنان هما موسى وهارون والذي دعا موسى فكيف عد هارون داع؟كان يؤمن فأصبح المؤمن في تأمينه يأخذ حكم الداعي لأن الله قال بنص القرآن(وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)فقال الله بعدها (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل المفسدين)إذا سمى الله موسى وهارون كلاهما على أنه داع رغم أن أحدهما كان يدعوا والآخر كان يؤمن قال جل وعلا(ولاتتبعان)اللام هنا/الناهيه نهاهم أن يتبعا سبيل المفسدين بما أنها لا الناهيه كيف وجدت النون ؟أصل الفعل(تتبعانن)يوجد نونان نون الأفعال الخمسه ونون التوكيد فلما دخلت لا الناهيه تجزم بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسه فعل مضارع اتصل به ألف الاثنين فحذفت نون وبقيت نون فالنون الباقيه هنا/ليست نون الأفعال الخمسه لأنها حذفت وإنما نون التوكيد ثم(22/16)
قال الله جل وعلا(وجاوزنا ببني اسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لاإله إلا الذي ءامنت به بنوا اسرائيل وأنا من المسلمين) هذه الآيات الثلاث إلى قوله تعالى (ءالئن وقد عصيت قبل)من أعظم بلاغة القرآن قول الله (وجوزنا)هذه"نا"الداله على الفاعلين فالأمر بيد الله فالذي نجا موسى الله سبحانه وتعالى(وجوزنا ببني اسرائيل البحر)أصلا:مالذي خافه فرعون من موسى بالعقل ؟أن يذهب ملكه هذا هو الأصل أن فرعون سمع من الكهنه أن هلاك ملكه علىيد رجل من بني اسرائيل هذا الرجل الذي أنت تخاف منه الذي هو سيذهب ملك هو نفسه شرد خرج ماجلس في مصر إذن كان العقل المفروض أن فرعون مادام أن الذي أنا أخاف أن يذهب ملكي هو باختياره خرج وذهب عني وهرب وترك مصر كلية وترك البحر إذن لايوجد داعي لأن أتبعه ولذلك الله قال(فأتبعهم فرعون وجنوده..)ماذا؟(بغيا وعدوا)البغي/تجاوز الحد .والعدو/الإصرار على الباطل.ففرعون كان مفروض يكون أعقل من هذا لكن انفعال الشر والعدوانيه التي وصفها الله موجوده في قلبه لم تطب نفسه حتى يرد أن يهلك موسى لكن الإنسان إذا غلب عليه التفكير في قضيه واحدة ينسى قضايا كثيره ولذلك أحيانا إعرض المشكله على غيرك لأنك أنت تعيش في شيء متوقع حول شيء معين مهما كان عقلك ورأيك وفضلك ستنظر بعين واحده .
والعين ترى مادنا منها ونئا...(22/17)
ولاترى نفسها إلا بمرءاتي.والعين ترى مادنا منها ونئا/أي ترى القريب لكن العين لاترى نفسها ففرعون لما وصل ،الله جل وعلا جاوز ببني اسرائيل البحر معلوم أن الله أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فانفلق فلما انفلق أصبح البحر اثنا عشر فرقه مر موسى والذين معه وقلنا مرارا إن فرعون لم يدخل البحر حتى خرج موسى،فرعون لايعقل أن إنسان يصبح ملك أكثر من أربعين سنه لايملك عقلا لكن لما رأى موسى نجا كان من المفروض أن يعلم بداهة أنه يستحيل أن يتحول البحر إلى يابس إلا بقدرة الله وإن الذي نجا موسى من البحر من الغرق قادر على أن ينجيه منك فيرعوي ويرتدع لكن مازال الإنفعال العدواني في قلبه فنسي حتى هذه وإلاهذه تكفيه أنه يعرف أن موسى محاط ومسخر له البحر وأنه لاسبيل إليه لكنه كما قال الله(بغيا وعدوا) فلما خرج موسى من البحر كله وفرعون ينظر اطمأن فرعون إلى أن البحر لم يرجع فأراد موسى كما قلنا مرارا أن يضرب البحر فأمر الله موسى أن يترك البحر على حاله قال الله في الدخان(واترك البحر رهوا)أي ساكنا فتركه موسى فلما تركه موسى اطمأن فرعون على أن البحر سيبقى فجاء بجيشه فلما جاء بجيشه أمر الله البحر أن يعود إلى حاله قال الله(حتى إذا أدركه الغرق)الغرق نفسه غير عاقل هذا عند البلاغيين يسمى تشخيص وهو أن يعطى غير العاقل حكم العاقل الغرق أصلا لا يعقل حتى يدرك فرعون بالغرق لكن الله هنا يصور الموقف على أن هذا الغرق جند من جند الله له حواس وله قدرات وله امكانات حتى أضحى يتبع فرعون حتى أدركه وأحاط به من كل جانب وقلنا هذا أسلوب عربي يسمى (التشخيص)الله يقول(حتى إذا أدركه الغرق قال)قال أي فرعون (ءامنت أنه لاإله إلا الذي ءامنت به بنوا اسرائيل وأنا من المسلمين)ءامن أولم يؤمن؟ءامن.لكن الله ماأنكر إيمانه أنكر وقت الإيمان ولذلك الله قال بعدها (ءالئن وقد عصيت قبل)هنا جاء في الخبر الصحيح أن جبريل عليه السلام لما سقط فرعون في البحر يغرق(22/18)
جاء جبريل بوحل البحر"طين البحر"وأخذ يضعه في فم فرعون خشي أن فرعون يثني على الله فتدركه رحمة الله وهذا فعله جبريل لسببين السبب الأول:ـ علم جبريل بعظيم رحمة الله وإلايفعل هذا. السبب الثاني:ـ قاله جبريل قاله في حديث رواه الطبراني(قال:يامحمد ماأبغضت أحدا من خلق الله كبغضه إلى فرعون عندما قال (ماعلمت لكم من إله غيري)فلما قال فرعون لأهل مصر سابقا (ماعلمت لكم من إله غيري)أبغضه جبريل فلما جاء فرعون في هذا الموقف بقي البغض في قلب جبريل فأخذ يضع الطين في فم فرعون خشية أن يثني على الله ثناء يستدر به رحمة الله قال:حتى لايثني على الله ثناء فيغفر الله له قال:الترمذي رحمه الله والحديث صحيح بالجمله وصححه كثير من العلماء كالألباني والأشقر وغيرهما من علماء المله الذي يعنينا أن فرعون لم يقبل الله إيمانه لأنه كان إيمان اضطرار لاإيمان اختيار وقلنا إن هذه السنه أن الله لايقبل إيمان الإضطرار ولايقبل إلا إيمان الإختيار مستثناة في قوم يونس وهي باسمهم سميت السوره باسم نبيهم قال الله (فلولا كانت قريه ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا)فنعود للآيه قال الله(ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين*فاليوم ننجيك ببدنك)وفي قراءة(ننحيك)بالحاء والمعنيان واحد ننجيك ببدنك كان المصريون يعبدون فرعون على أنه إله فلو غاب فرعون وضاع في البحر ويغرق وأهلك ولم تظهر جثته لقال بعضهم إنه اختفى ليعود أو أنه غاب ليرجع لكن الله أخرجه حتى يراه من كان يعبده فإذا رآه من يعبده وهو جثه ميتا علم أن الذي كان يزعم أنه إله لايملك أن يهب الحياه لنفسه فكيف يهبها لغيره ولهذا قال الله (فاليوم ننجيك ببدنك)أي بجسدك دون روحك (لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون)يدخل الناس اليوم إلى مايسمى بقبور الفراعنه في الأهرامات في مصر ويرون مايرون يخرجون يتعجبون من تلك الحضارات وينسون(22/19)
أن هذه كلها ءايات من رب الأرض والسموات والعاقل إذا رأى بنور الإيمان لا كمن ينظر بنور الثقافه أو العلم المحض أو بنور المعرفه لكن من يرى سنن الله في الخلق كيف يحي ويميت ويبدئ ويعيد ويعطي ويمنع ويهب ويقطع جل وعلا عرف مالله جل وعلا من عظيم القدره وجليل المكانه هذا ما أردنا التعليق عليه اليوم .هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وعلىآله .(22/20)
(تأملات في سوره الذاريات)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامه شأنا وذكرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.....
أيها الأخوة المؤمنون...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وهذه أولى دروسنا في هذا المسجد المبارك المتعلقه بتأملات وتفسير لبعض سور القرآن الكريم وهذه ثاني تأملات يتم بإذن الله تعالى وعونه وتوفيقه قولها وتسجيلها نسأل الله جل وعلا أن يجعلها خالصه لوجه وأن ينفع بها حيث ما نزلت وأين ما حلت وقبل أن أشرع في التفسير نبين بعضا من الأمور حتى نكون معكم على بينه السور التي سنشرع في تفسيرها الجزء السابع والعشرون من كتاب الله تبارك وتعالى ومعلوم أن الجزء السابع والعشرون يبدأ من سورة الذاريات في آخرها وعلى هذا فإنا سنشرع إن شاء الله في تفسير سورة الذاريات كامله أي بأننا سنبدأ بسورة الذاريات والمنهج أننا سنقف في كل يوم أو في كل ليله إن شاء الله تعالى مع سورة من هذا الجزء نبدأ بالذاريات ثم نثني بالطور وهكذا حسب ترتيب المصحف.
الأمر الثاني:أننا لا نقف عند كل آيه لأن الله جل وعلا أخبر أن كتابه مثاني بمعنى أنه يثنى ويكرر فنقف وقفات معينه كما شرعنا بذلك في تفسيرنا الذي بمسجد حيينا.
الأمر الثالث: الغايه من الدرس كله تأملات في كتاب الله فينصب الكلم على المسائل العلميه وقليل ما يكون الوعظ لأن المخاطب بالدرس أولا طلبة العلم وطالبات العلم وإن كان الوعظ لايستغني عنه أحد لكنه لا يكون هو قوام الدرس في الغالب.(23/1)
الأمر الرابع:أننا لانعذر أنفسنا في أننا لن نترك قضية إلا ونحاول قدر الإمكان الإشباع العلم فيها بمعنى أنه نتكلم في المقام الأول لطلاب العلم فما لايحسن كتمه عنهم وينبغي أن يعرفوه سنعرج عليه ونعرض له بحول الله تبارك وتعالى وقوته. هذا ما أستظهره الآن فيما أريد أن أقوله بين يدي التفسير.ونشرع وإياكم ..سائلين الله جل وعلا أعمالنا خالصه لوجه الكريم إنه سميع مجيب. قلنا إن السوره هي سورة الذاريات وهي سورة مكيه تعنى كغالب السور المكيه بشأن مسائل العقيده وذكر دعائم التوحيد على هذا أكثر سور القرآن المكيه وقد بينا في درس سلفت الفرق ما بين القرآن المكي والقرآن المدني وقلنا إختلاف أهل العلم فيه ونعيده على وجه الإجمال أو نعيد مخترناه على وجه الإجمال أن السور المكيه هي ما نزلت قبل الهجره بصرف النظر عن موطن نزولها والسور المدنيه أو الآيات المدنيه هي التي نزلت بعد الهجره بصرف النظر عن موطن نزولها وقلنا إن قول الله تبارك وتعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكه وهو عليه الصلاة والسلام داخل الكعبه يريد أن يهم بالخروج منها ومع ذلك نقول إن هذه السوره أو هذه الأيه آيه مدنيه لأنها نزلت بعد الهجره.قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم(23/2)