مختصر
لمسائل مهمة
من كتاب الولاء والبراء
لفضيلة الشيخ
محمد بن سعيد القحطاني
الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله
لما كان أصل الموالاة: الحب. وأصل المعاداة: البغض وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك (1). فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله. وأدلة ذلك كثيرة من الكتاب والسُّنَّة.
أما الكتاب فمن ذلك قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران: 28] ويقول تعالى : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم* قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) [سورة آل عمران: 31-32]
ويقول تباركت أسماؤه عن أهداف أعداء الله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) [سورة النساء: 89] (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة المائدة: 51] ويقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) [سورة المائدة: 54] .
أما الأحاديث والآثار فكثيرة وأذكر منها:
__________
(1) "الرسائل المفيدة" للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : (ص296)، تصحيح عبدالرحمن الرويشد، طبع سنة 1398هـ بدار العلوم بمصر.(1/1)
ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على أن "تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر"(1) .
روى ابن أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"(2) .
روى الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله"(3) .
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح قول ابن عباس هذا: (قوله: "ووالى في الله" هذا بيان للازم المحبة في الله، وهو الموالاة فيه إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لابد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب. وهي النصرة والإكرام، والاحترام والكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً. وقوله: "وعادى في الله" هذا بيان للازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه. أي إظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطناً وظاهراً، إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لابد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى : (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [سورة الممتحنة: 4].
__________
(1) "المسند" للإمام أحمد: (ج4/357، 358)، الطبعة الثانية سنة 1398هـ، الناشر المكتب الإسلامي وهو حديث حسن.
(2) "الإيمان" لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شبية، توفي سنة 235هـ: (ص45)، تحقيق الألباني وقال: أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً وهو حسن، المطبعة العمومية بدمشق وانظر "المسند": (4/286).
(3) ذكره السيوطي في "الجامع الصغير": (1/69) وقال الألباني: حديث حسن.
... انظر "صحيح الجامع الصغير": (2/343، ح2536).(1/2)
ومما سبق يتضح أن الولاء في الله هو: محبة الله ونصرة دينه، ومحبة أوليائه ونصرتهم. والبراء هو: بغض أعداء الله ومجاهدتهم. وعلى ذلك جاءت تسمية الشارع الحكيم للفريق الأول: بـ"أولياء الله"، والفريق الثاني: بـ"أولياء الشيطان" قال تعالى: (الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [سورة البقرة: 257]. وقال تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) [سورة النساء: 76]
واعلم أن الله سبحانه لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء، كما قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) (1) [سورة الأنعام: 112] .
(وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكُتب وحُجج كما قال تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) [سورة غافر: 83]
والواجب على المسلم أن يتعلم من دين الله ما يصير له سلاحاً يقاتل به هؤلاء الشياطين، ومن ثَمَّ لا خوف ولا حزن لأن: (كيد الشيطان كان ضعيفاً) [سورة النساء: 76] .
والعامّي من الموحّدين يغلب الألف من علماء المشركين كما قال تعالى: (وإن جندنا لهم الغالبون) [سورة الصافات: 173].
فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان)(2).
حقد الكفار على المسلمين
__________
(1) "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (ص422)، الناشر: إدارات البحوث العلمية بالرياض بدون تاريخ.
(2) بتصرف : انظر "كشف الشبهات" للإمام محمد بن عبد الوهاب: (ص 20)، الطبعة الثالثة سنة 1388هـ، الناشر مؤسسة النور بالرياض. وانظر "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية": (ج 4/46).(1/3)
قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير) [سورة البقرة: 109].
وفي سورة آل عمران: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) [سورة آل عمران: 69].
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) [سورة آل عمران: 72].
(وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) [سورة البقرة: 135].
(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [سورة البقرة: 105].
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [سورة آل عمران: 118].
فهذه الآيات وغيرها مما في مثل معناها: تبين كيدهم وما يتربصون به للإسلام وأتباعه. ولذلك جاءت آيات كثيرة في تحذير المؤمنون ونهيهم عن الاستماع للكفار عامة ولأهل الكتاب خاصة، أو طاعتهم، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم.
قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [سورة البقرة: 120].
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين* بل الله موالكم وهو خير الناصرين) [سورة آل عمران: 149-150].
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين* وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) [سورة آل عمران: 100-101](1/4)
ورد في سبب نزول هاتين الآتين: أن شاس بن قيس اليهودي – وكان شيخاً قد أَغبر في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم – مر على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم، وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار ! فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال: أعمد إليهم فأجلس معهم، ثم ذكرهم بعاث –أحد أيامهم في الجاهلية- وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل. وتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، فتقاولا، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت رددتها جذعة! وغضب الفريقان جميعاً وقالا: أرجعا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة –وهي الحرة- فخرجوا إليها، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية .
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، حتى جاءهم فقال : "يا معشر المسلمين: الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً!!". فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب) الآية.(1/5)
قال جابر بن عبد الله، ما كان طالع أكره إلينا من رسول اله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى عليه وسلم، فما رأيت يوماً أقبح ولا أوحش أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم(1).
ويوجه الله عباده المؤمنين ويرشدهم –بعد أن ذكر قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام في قصة ذبح البقرة – بقوله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون* وإذ لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [سورة البقرة : 75-77].
ثم يأتي التحذير الأقوى في سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة المائدة: 51).
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين) [سورة المائدة: 55-57].
إن هذه النصوص وغيرها: قد ربت المسلمين على معرفة كيد أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، فقطعت ما في نفوس بعض المسلمين من ود وولاء لهؤلاء الأعداء، من أجل أن يكون الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين فقط.
المنافقون يوالون الكفار
__________
(1) انظر "تفسير الطبري" : (ج4/23)، و"أسباب النزول" للواحدي: (ص66)، و"أحكام القرآن" للقرطبي : (ج4/155)، و "تفسير البغوي" : (ج1/389).(1/6)
من أخطر ما ارتكبه المنافقون: موالاة اليهود والنصارى ضد المسلمين وقد فضحهم القرآن في عدة مواضع ومنها سورة الحشر، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون* لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) [سورة الحشر: 11-12].
وقال تعالى : (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) [سورة المجادلة: 14].
ذكر السدي ومقاتل: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل المنافقين: فقد كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود(1). وهذا الآية كقوله تعالى : (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً). [سورة النساء: 143].
ولقد نزلت سورة كاملة فيهم هي سورة "المنافقون" بيّن الله فيها أنهم يظهرون ما لا يبطنون، وأنهم يحرضون على إضعاف صف المسلمين).
صور موالاة الكفار(2) .
الرضى بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة(3).
ويتضح هذا الأمر في كونه ولاء للكفار : إنه يسرهم ويسعدهم أن يروا من يوافقهم على كفرهم ويجاريهم على مذاهبهم الإلحادية.
ومن المعلوم في معتقد أهل السنة والجماعة: أن حب القلب وبغضه يجب أن يكون كاملاً. فالذي يحب الكافر لأجل كفره فهو كافر بإجماع الأمة، ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين. يقول ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) "أسباب النزول" للواحدي: (ص 235)، و"تفسير القرطبي": (ج17/304)
(2) من أحسن من كتب في ذلك الإمام/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأبناؤه، لذلك فمعظم هذه الصور منقولة من كتبه.
(3) انظر نواقض الإسلام في "مجموعة التوحيد" : (ص 129) مطبعة الحكومة بمكّة.(1/7)
" أما حب القلب وبغضه، وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان. وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته. ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل، ذلك أن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله، وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) [سورة القصص : 50] (1).
إذن: فالمحبة والرضى أمران جازمان لا يخرجان عن كونهما كفراً إذا كانا للكفار أو إيماناً إذا كانا للمؤمنين .
التولي العام واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء أو الدخول في دينهم وقد نهى الله عن ذلك فقال: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران: 28].
قال ابن جرير في تفسيرها: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء . أي قد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. (إلا أن تتقوا منهم تقاه) أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل) (2) .
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة المائدة: 51].
__________
(1) "شذرات البلاتين" : (ج1/354)، "رسالة الأمر بالمعروف" .
(2) "تفسير الطبري" : (ج3/228).(1/8)
قال ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: (من تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم. أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه) (1) .
وقال ابن حزم: (صح أن قول الله تعالى : (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) إنما هو على ظاهره: بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) (2) .
وقال ابن تيمية: (أخبر الله في هذه الآية: أن متوليهم هو منهم وقال سبحانه: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) [سورة المائدة:81].
فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً) (3) .
وقال ابن القيم: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى، فهو منهم (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم. وهذا عام، خص منهم من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنه لا يُقر ولا تُقبل منه الجزية. بل إما الإسلام أو السيف لأنه مرتد بالنص والإجماع، ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين؛ لأن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول القرآن فقد انتقل من دين إلى دين خير منه –وإن كانا جميعاً باطلين-، وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يقر على ذلك) (4).
__________
(1) المصدر السابق : (ج6/277) .
(2) "المحلى": (ج13/35) تحقيق حسن زيدان 1392هـ الناشر مكتبة الجمهورية العربية بمصر .
(3) انظر "الإيمان" لابن تيمية: (ص14) طبع المكتب الإسلامي.
(4) "أحكام أهل الذمة" لابن القيم: (ج1/67،69).(1/9)
ويستبعد سيد قطب أن يكون بين المسلمين، من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. وإنما المراد ولاء التحالف والتناصر. يقول رحمه الله: (إن الولاية المنهي عنها هنا ولاية التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس على المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله. يوضح ذلك قوله تعالى بشأن المسلمين الذين لم يهاجروا: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) [سورة الأنفال: 72].
أي ولاية التناصر والتعاون وليس ولاية الدين. نقول هذا : لأن البعض يخلط بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبرّ بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة. ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم .
وسذاجة أية سذاجة، وغفلة أية غفلة: أن تظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين!! أمام الكفار والملحدين. فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين.
فلندع من يغفل عن هذا ولنكن واعين للتوجيه القرآني (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) الآية ) (1) .
__________
(1) " في ظلال القرآن" : (ج2/909-910) بتصرف . وسيرد مزيد من التفصيل إن شاء الله عند الحديث عن زمالة الأديان! .(1/10)
الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) [سورة النساء: 51]
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون * واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) [سورة البقرة: 101-102].
فأخبر سبحانه أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب الله كما يفعله كثير من اليهود وبعض المنتسبين إلى الإسلام. فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار: من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة كإتيانه أهل الباطل واتباعهم في شيء من فعالهم ومقالهم الباطل: كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك(1). وإن هذه الصورة من صور الموالاة قد وقع فيها معظم المنتسبين إلى الإسلام اليوم، فالإيمان ببعض ما هم عليه أمر واقع في "العالم الإسلام" لا ينكره إلا مكابر جاهل، فها هي الببغوات من أبناء أمتنا وممن ينطقون بألسنتنا قد آمنت بالشيوعية مذهباً تارة وبالاشتراكية تارة أخرى، وبالديمقراطية نظاماً أو العلمانية دستوراً، فأخذت هذه المبادئ الكافرة وطبقتها في بلاد المسلمين ملزمة الناس بعبادتها "في الطاعة والانقياد والتنفيذ" ونصبت العداء لكل مسلم موحد ينادي في الأمة أن تعود إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) انظر "فتاوى ابن تيمية" : (ج28/199-201) .(1/11)
وإن من الإيمان ببعض ما هم عليه: مسألة فصل الدين عن الدولة وإنه لا علاقة للإسلام بالسياسة، فهذه أيضاً فرع للقضية السابقة، لم توجد إلا في أوروبا أيام الاضطهاد الكنسي لرجال العلم. ولكن أين الإسلام دين العدل ودين السياسة ودين القوة من "هرطقة" رجال الكنيسة حتى يأتي بعض الأقزام فيستورد تلك السموم من أوروبا ليلبس الإسلام قناعاً مزيفاً فيقول: الإسلام علاقة بين العبد وربه والسياسة لها رجالها ولها قضاياها التي لا تمت إلى الدين بصلة(1).
مودتهم ومحبتهم: وقد نهى الله عنها بقوله: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) [سورة المجادلة :22].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادَّين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله. فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه؛ كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب) (2).
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [سورة الممتحنة: 1].
الركون إليهم :
قال تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) [سورة هود: 113]
__________
(1) هناك كُتّاب أفاضوا الحديث في هذه القضية منهم : د. محمد البهي و سيد قطب و المودودي وغيرهم . ومن أراد التفصيل الدقيق فعليه بمراجعة كتاب "العلمانية وآثارها في العالم الإسلامي" للأخ الدكتور/ سفر بن عبدالرحمن الحوالي.
(2) " الإيمان" : (ص 13).(1/12)
قال القرطبي: الركون حقيقته: الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء والرضا به (1). وقال قتادة : معنى الآية : لا توادوهم ولا تطيعوهم. وقال ابن جريج: لا تميلوا إليهم .
وهذه الآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم فإن صحبتهم كفر أو معصية. إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة كما قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي(2)
وقال تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) [سورة الإسراء: 74-75].
وإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلاة الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟(3) .
مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين: قال تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون) [سورة القلم: 9].
والمداهنة والمجاملة والمداراة على حساب الدين أمر وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذه نتيجة طبيعية للانهزام الداخلي في نفوسهم. حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم، ولأمر ما رسخ وترسب في أذهان المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة ورمز القدوة –فأخذوا ينسلخون من تعاليم دينهم مجاملة للكفار ولئلا يصمهم أولئك الكفرة بأنهم ‘‘متعصبون‘‘ ! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ يقول في مثل هؤلاء: "لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبَّ تبعتموهم".
قلنا : يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال : "فمن" (4).
__________
(1) "تفسير القرطبي": (ج9/108)، وانظر "البغوي والخازن" : (ج3/256). أما البيت فهو لطرفة بن العبد
(2) المصدر السابق.
(3) "مجموعة التوحيد" : (ص117) ط. دار الفكر.
(4) "صحيح البخاري" : (ج13/300 ح7320) كتاب الاعتصام، و"صحيح مسلم": (ج4/2054 ح2669). واللفظ للبخاري.(1/13)
إن المداهنة والمجاملة قد تبدأ بأمر صغير ثم تكبر وتنمو حتى تؤدي –والعياذ بالله- إلى الخروج من الملة. وهذه إحدى مزالق الشيطان فليحذر المسلم منها على نفسه، وليعلم أنه هو الأعز وهو الأقوى إذا امتثل منهج الله وتقيد بشرعه ومقتضيات عقيدته.
ومن الأمور الواضحة في تاريخ المسلمين: أن من أكبر العوامل في انتصارهم –بعد الإيمان بالله ورسوله- الاعتزاز بالإسلام. يصدّق ذلك ويؤيده قول الفاروق –رضي الله عنه- : "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله" (1).
اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين: قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [سورة آل عمران: 118].
نزلت هذه الآية في أناس من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجلاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والجوار فأنزل الله هذه الآية تنهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم(2).
وبطانة الرجل: خاصته، تشبيهاً ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم. وقد بيّن الله العلة في النهي عن مباطنتهم فقال: (لا يألونكم خبالاً) أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد، ثم إنهم يودون ما يشق عليكم من الضر والهلاك.
__________
(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" : (ج1/62) كتاب الإيمان. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
(2) "أسباب النزول" للواحدي: (ص 68).(1/14)
والعداوة التي ظهرت منهم: شتم المسلمين والوقيعة فيهم، وقيل: بإطلاع المشركين على أسرار المسلمين(1). وفي سنن أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم : "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" (2).
طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به (3).
قال تعالى ناهياً عن ذلك: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: 28]. وقال : (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) [سورة آل عمران: 149] وقال: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) [سورة الأنعام: 121].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك، كما قال تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) [سورة التوبة: 31]). (4)
مجالستهم، والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله: قال تعالى في النهي عن مجالستهم: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً) [سورة النساء: 140].
قال ابن جرير: (قوله (إنكم إذاً مثلهم) أي إنكم إذاً جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون فأنتم مثلهم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها.
__________
(1) انظر "تفسير البغوي": (1/409)، و"تفسير ابن كثير": (2/89).
(2) "سنن أبي داود": (ج5/168، ح4833) كتاب الأدب، وفي "المسند" : (ج16/178، ح8398)، طبعة شاكر، والترمذي: (ج7/111، ح2379) في "الزهد"، وقال هذا : حديث حسن غريب .
(3) "مجموعة التوحيد" : (ص 117).
(4) "تفسير ابن كثير" : (ج3/322).(1/15)
وفي الآية دلالة واضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من الكفرة والمبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم) (1) .
وفي الحديث: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابكم" (2).
توليتهم أمراً من أمور المسلمين :
كالإمارة والكتابة وغيرها، والتولية شقيقة الولاية لذلك فتوليتهم نوع من توليهم. وقد حكم الله أن من تولاهم فإنه منهم. ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم. والولاية تنافي البراءة فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً.
والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً. والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبداً. ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتّاب –مثلاً- ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان: لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال. فهذا الملك ‘‘الصالح‘‘ كان في دولته نصراني يسمى: محاضر الدولة أبا الفضل بن دخان ولم يكن في المباشرين أمكن منه. كان قذى في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين. بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية وخروجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين، وأعمالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها.
__________
(1) "تفسير الطبري" : (ج5/330).
(2) رواه أحمد في "المسند" (ج8/80، ح5705) بتحقيق أحمد شاكر، و"صحيح البخاري": (ج8/125، ح4419) كتاب المغازي، و"صحيح مسلم": (ج4/2185، ح2980) كتاب الزهد.(1/16)
وكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحمل لهم الإدرار والضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عن الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام. وحدث أن اجتمع في مجلس ‘‘الصالح‘‘ أكابر الناس من الكتّاب والقضاة والعلماء فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى فبسط لسانه في ذلك وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق. وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً. والله تعالى يقول: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) [سورة المائدة: 73].
وأول أمانتهم وعقد دينهم: ‘‘بسم الأب والابن وروح القدس إله واحد‘‘ فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له:
كيف يدري الحساب من جعل الوا
حد رب الورى تعالى ثلاثه
ثم قال : كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة؟ وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين ولا سيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة؟ .
وانصرف القوم واتفق أن كبت النصراني بطنته، وظهرت خيانته فأريق دمه وسلط على وجوده عدمه (1).
استئمانهم وقد خونهم الله: قال تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [سورة آل عمران: 75].
الرضى بأعمالهم والتشبه بهم، والتزيي بزيهم(2).
البشاشة لهم والطلاقة وانشراح الصدر لهم وإكرامهم وتقريبهم(3).
معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم:
__________
(1) "أحكام أهل الذمة" لابن القيم: (ج1/242-244) بتصرف يسير .
(2) "مجموعة التوحيد" : (117).
(3) "مجموعة التوحيد" (ص117)(1/17)
ويضرب القرآن لذلك مثالين هما : امرأة لوط التي كانت ردءً لقومها، حيث كانت على طريقتهم، راضية بأفعالهم القبيحة، تدل قومها على ضيوف لوط. وكذلك فعل امرأة نوح(1).
مناصحتهم والثناء عليهم ونشر فضائلهم(2).
وهذه الصورة ظهرت واضحة في العصور الأخيرة فقد رأينا ‘‘أفراخ المستشرقين‘‘ –مثلاً- ينشرون فضائلهم وأنهم أصحاب المنهج العلمي السديد و..و.. إلخ كذلك جاء من ينشر ‘‘فضائل‘‘ الغرب أو الشرق مضفياً عليها ألقاب التقدم والحضارة والرقي، وواصماً الإسلام والمنتسبين إليه بالرجعية والجمود والتأخر عن مسايرة الركب الحضاري والأمم المتقدمة.
تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم:
مثل: السادة والحكماء ومبادأتهم بالسلام (ومما يجب النهي عنه ما يفعله كثير من الجهال في زماننا إذا لقي أحدهم عدوَّ الله سلم عليه ووضع يده على صدره إشارة إلى أنه يحبه محبة ثابتة في قلبه. أو يشير بيده إلى رأسه إشارة إلى أن منزلته عنده على الرأس، وهذا الفعل المحرم يُخْشى على فاعله أن يكون مرتداً عن الإسلام؛ لأن هذا من أبلغ الموالاة والموادة والتعظيم لأعداء الله) (3).
والتعظيم واللقب الرفيع رمز للعزة والتقدير وهما مقصورتان على المؤمن. أما الكافر فله الإهانة والذلة. وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن مبادأتهم بالسلام فقال صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"(4)
17 - السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم(5).
__________
(1) "تفسير ابن كثير": (ج6/210).
(2) "مجموعة التوحيد" (ص117) ، ورسائل سعد بن عتيق: (ص101).
(3) "تحفة الإخوان" للشيخ حمود التويجري: (19)، الطبعة الأولى، مؤسسة النور بالرياض.
(4) "صحيح مسلم" : (ج4/1707، ح2167) كتاب السلام، وأبو داود: (ج5/384، ح5205) في الأدب.
(5) "الرسائل المفيدة" للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ : (ص64).(1/18)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"(1). وقال : "لاتساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا"(2).
18 - التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم، والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم، والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين وأسرارهم إليهم، والقتال في صفهم(3):
وهذه الصورة من أخطر ما ابتُليت به أُمَّتُنا في هذا العصر. ذلك أن وجود ما يسمى في المصطلح الحديث‘‘الطابور الخامس‘‘ قد أفسد أجيال الأمة في كل مجال سواء في التربية والتعليم أم في السياسة وشؤون الحكم أم في الأدب والأخلاق أم في الدين والدنيا معاً. وصدق الشاعر محمود أبو الوفا فيما نقله عنه الشيخ محمد قطب أنه قال حين خرج الاستعمار الإنجليزي من مصر: (خرج الإنجليز الحمر وبقي الإنجليز السمر!!) – نعم إن داءنا هم الإنجليز السمر.
ترى من هو الساهر على تنفيذ خطة "دنلوب" في التربية والتعليم؟ ومن هو القائم بتنفيذ مخططات اليهود الثلاثة: فرويد وماركس ودور كايم في أفكارهم الخبيثة؟ (4). إنهم المستغربون من أبناء هذه الأمة الذين حققوا لأعداء الله مالا يحلمون به. ولكن هيهات لهم فإن الله يقول: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون)[ سورة الصافات: 171-173].
__________
(1) أبو داود: (ج3/224، ح2787)) كتاب الجهاد، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن، انظر "صحيح الجامع الصغير": (ج6/279، ح6062).
(2) الحاكم في "المستدرك": (ج2/141)، وقال صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
(3) "الإيمان. حقيقته. أركانه. نواقضه" للدكتور محمد نعيم ياسين: (ص147).
(4) يراجع كتاب "التطور والثبات في حياة البشرية" للأستاذ محمد قطب: (ص35) فصل: اليهود الثلاثة، وكتاب "هل نحن مسلمون؟": (ص133)، وكتاب "مذاهب فكرية معاصرة".(1/19)
19 - من هرب من دار الإسلام إلى دار الحرب بغضاً للمسلمين وحباً للكافرين(1).
20 - من انخرط في الأحزاب العلمانية أو الإلحادية كالشيوعية والاشتراكية والقومية والماسونية وبذل لها الولاء والحب والنصرة(2).
ما يقبل من الأعذار
وما لا يقبل في هذه الصور
قد يعتذر بعض الموالين للكفار بأنهم يخافون على سلطانهم وأموالهم ومراكزهم وغير ذلك من المخاوف التي لا تصح، ولا يعتبرها الله عذراً لهم فيعذرهم من أجلها. لأنها جميعاً من تزيين الشيطان وتسويله، وحب الدنيا والطمع في زينتها.
والله سبحانه وتعالى لم يقبل عذراً لأحد في إظهار موالاته للكفار وطاعتهم وموافقتهم على دينهم إلا عذراً واحداً هو : الإكراه. قال تعالى : (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم* ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) [سورة النحل: 106-107].
وقال سبحانه : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة) [سورة آل عمران:28]
والإكراه لا ينفع أحداً فيما يتعلق بالرضى القلبي، والميل الباطني إلى الكفار لأنه غير مأذون فيه على أية حال لقوله تعالى: (وقلبه مطمئن بالإيمان) ولأن الإكراه لا سلطان له على القلوب. فإنه لا يعلم ما في القلب إلا الله.
فمن والى الكفار بقلبه ومال إليهم فهو كافر على كل حال. فإن أظهر موالاته بلسانه أو بفعله عومل في الدنيا بكفره وفي الآخرة يخلد في النار، وإن لم يظهرها بفعل ولا قول وعمل بالإسلام ظاهراً عصم ماله ودمه وهو منافق في الدرك الأسفل من النار(3).
متى تكون التقية؟
__________
(1) "الردة بين الأمس واليوم" : (ص33).
(2) المصدر السابق: (ص40).
(3) انظر "الإيمان" للدكتور محمد نعيم ياسين: (ص147-148) .(1/20)
قال تعالى : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [سورة آل عمران:28].
قال البغوي: نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا من خوف القتل وسلامة النيّة قال تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم(1).
وقال ابن القيم : معلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم(2). (ولأن باب التقاة باب يمكن أن ينفذ منه الشيطان بسهولة يزين للضعفاء ومرضى القلوب أن يركنوا إلى أعداء الله قال بعدها مباشرة: (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) يحذركم في الدنيا أن تتخذوا هذا الباب تكأة، وتستسهلوا هذه الكبيرة –وهي موالاة أعداء الله- وينذركم أن إليه المصير فيجازيكم على ما فعلتم في الدنيا، فلا تحسبوا أن ترتكبوا هذه الكبيرة في الأرض –مخادعين أنفسهم أو مخادعين الناس- ثم تنجوا من عذاب الله في الآخرة) (3).
وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) [سورة آل عمران:28].
__________
(1) "تفسير البغوي" : (ج1/336)، وانظر "أحكام القرآن" للجصاص" (ج2/289).
(2) "بدائع الفوائد": (ج3/69).
(3) "دراسات قرآنية" (ص326-327).(1/21)
:أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل(1).
الإكراه : قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) [سورة النحل: 106-107].
قال ابن عباس –رضي الله عنهما- : نزلت الآية –الأولى- في عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه وأمّه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً. فأما سمية فإنها رُبطت بين بعيرين ووجيء قُبلها بحربة فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ،وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فأُخبر النَّبُّي صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كَفَر، فقال، : "كلا: إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه"(2) فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: "إن عادوا لك فَعُد لهم بما قلت"(3) فأنزل الله هذه الآية(4).
__________
(1) "تفسير الطبري" : (ج3/228).
(2) هذا اللفظ ضعيف، وإنما اللفظ الصحيح هو ما رواه الحاكم في "مستدركه" : (ج3/392-393)، وكذلك النسائي: (ج8/111) في كتاب الإيمان، هكذا: "ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه" وهو حديث صحيح كما قال الألباني. انظر "صحيح الجامع الصغير": (ج5/211، ح5764)، و "سلسلة الأحاديث الصحيحة": (ج2/466، ح807).
(3) حديث مرسل ورجاله ثقات. انظر "فتح الباري" : (ج12/312).
(4) "أسباب النزول"للواحدي:(ص162)،وانظر"تفسيرالطبري":(ج14/182)،و"تفسير ابن كثير":(ج4/525)(1/22)
وقال الطبري في معنى الآية: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً اختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً: فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم(1).
وسبب ذلك: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا(2).
شروط الإكراه:
... قال ابن حجر : شروط الإكراه أربعة:
أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار.
أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك .
أن يكون ما هدد به فورياً، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غداً، لا يعد مكرهاً، ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جدَّاً، أو جرت العادة بأنه لا يخلف.
أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره.
ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق(3).
قال الخازن: قال العلماء : يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد، والإيلامات القوية مثل التحريق بالنار ونحوه(4). واجمعوا أيضاً: على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة الكفر تصريحاً، بل يأتي بالمعاريض وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، غير معتقد ما يقوله من كلمة الكفر، ولو صبر حتى قتل كان أفضل لفعل ياسر وسمية وصبر بلال على العذاب(5).
__________
(1) "تفسير الطبري" : (ج14/182).
(2) "تفسير ابن كثير" : (ج4/525) .
(3) "فتح الباري" : (ج12/311-312).
(4) "تفسير الخازن" : (ج4/117).
(5) "تفسير الخازن" : ((ج4/117).(1/23)
لقد كان بلال رضي الله عنه تُفعل به الأفاعيل حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحدٌ. أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقتلها(1).
وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري(2) لما قال مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع ،فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك(3).
__________
(1) انظر "تفسير ابن كثير": (ج4/525).
(2) حبيب بن زيد بن عاصم بن عمرو الأنصاري أخو عبد الله بن زيد، ذكره ابن إسحاق فيمن شهد العقبة من الأنصار وقال هو الذي أخذه مسيلمة فقتله. قال ابن سعد شهد حبيب أُحداً والخندق والمشاهد "الإصابة": (ج1/307).
(3) "تفسير ابن كثير" : (ج4/525).(1/24)
وكما فعل الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي(1): فإنه لما أسرته الروم جاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصَّر وأنا أُشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت . فقال: إذاً أقتلك قال: أنت وذاك، فأمر به فصُلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأُنزل، ثم أمر بقدر. وفي رواية ببقرة من نحاس فأُحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقى فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة من جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله! .
وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياماً ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ قال: أما أنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشمتك في، فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه(2).
أنواع الإكراه:
__________
(1) هو عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي وأمه آمنة بنت حرثان من بني حارث، وهو من السابقين الأولين، يقال إنه شهد بدراً، ولم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق ولا غيرهما من أصحاب المغازي. وقصته مع ملك الروم ذكرت سابقاً، انظر ترجمته في "الإصابة": (ج2/296)، و "تهذيب التهذيب" : (ج5/185).
(2) "تفسير ابن كثير": (ج4/526).(1/25)
الإلجاء: حيث ينعدم الرضا والاختيار، وتنتفي الإرادة والقصد، وذلك بالوقوع تحت التعذيب الشديد أو نحو ذلك، وهذه الحالة هي التي نزلت فيها آية النحل: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) [سورة النحل: 106].
التهديد: حيث ينعدم الرضا، ولا ينعدم الاختيار تماماً وهذه في مثل الحالة التي يختار فيها الإنسان أخف الضررين مثل حال شعيب عليه السلام مع قومه إذ خيروه بين العودة إلى الكفر أو الخروج من قريتهم: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا علىالله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [سورة الأعراف: 88-89].
فلا تجوز الاستجابة لمثل هذا الإكراه لهذا النص ولقوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) [سورة العنكبوت: 10].
الاستضعاف : وهنا لا تعذيب ولا تهديد ولكن المستضعف داخل تحت وضع مفروض عليه من غيره كالمقيم في مكّة بعد هجرة المسلمين عنها، فإذا كان دخوله تحت هذا الوضع لعجزه عن دفعه وعن الخروج منه، ولو أمكنه ذلك لفعل مهما كانت تضحياته وتكاليفه فهذا قد عفا الله عنه(1). أما إذا كان قادراً على الدفع أو الخروج ولم يفعل ذلك إيثاراً للعاقبة فقد سبق كلام الشيخ ابن عتيق وغيره في ذلك.
__________
(1) "المصدر السابق": (ص526).(1/26)
قال ابن تيمية: تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نصَّ في غير موضع، أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب وقيد، ولا يكون الكلام إكراهاً (1).
كلمة أخيره حول الإكراه
إنه من المهم والواجب التفريق بين الإكراه وبين مشاعر الخوف التي تتزاوج مع مشاعر الرجاء والتعظيم فإن هذه مشاعر عبادة.
كما أنه يجب أن نفرق بين الاستضعاف وبين الهزيمة الداخلية، والاستكانة للعدو والركون إليه وفقدان الثقة في الله وترك التوكل عليه.
ذلك أن الإنسان يملك في أحلك الظروف قوة عظيمة –هي قوة الرفض بقلبه- وهذه القوة سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاداً في قوله: "..ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(2) .
فالانهزام أمام الباطل والموالاة التي يحتاجها الباطل حتى وهو قوي لابد من الامتناع عنها وهذا هو جهاد القلب، والله سبحانه يقول للمؤمنين بعد وقعة أحد: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين * يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) [سورة آل عمران: 146-150].
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: "بحسب امرئ يرى منكراً لا يستطيع أن يغيره يعلم الله من قلبه أنه له كاره" ودلالة الكره: الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل).
__________
(1) نقلاً عن "الدفاع" لابن عتيق: (ص30).
(2) "صحيح مسلم" : (ج1/70، ح50) كتاب الإيمان.(1/27)
إن استعلاء القلب على الهزيمة الداخلية، وبقاء قوة رفضه للباطل مهما استطال وانتفش وقوة ضبطه للسلوك لتأكيد الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل لهو جهاد القلب وإنه لجهاد له أثره الواقع في حياة الناس(1).
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم .
تنبيه : هذا البحث السابق مختصر من كتاب الدكتور الفاضل : محمد بن سعيد القحطاني : ( الولاء والبراء في الإسلام ) ، انتقاه الأخ : سليمان الخراشي لأهميته هذه الأيام ، مع تصرف يسير .
__________
(1) "حد الإسلام" للشاذلي: (ص527-528) بتصرف.(1/28)