مكانة مؤسسة الحسبة في الاقتصاد الإسلامي
ودورها في القضاء على الفساد الاقتصادي
الأستاذ الدكتور صالح صالحي
عميد كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير
جامعة سطيف، الجزائر
(طبعة تمهيدية)
ملخص البحث
تعد مؤسسة الحسبة من أهم مؤسسات الاقتصاد الإسلامي التي تتميز بخصوصيتها الحضارية. وتؤدي دورا أساسيا في مجال الرقابة الإحتسابية التوجيهية للنشاط المجتمعي بصورة تضمن الأسلمة المتوالية للحياة الاقتصادية ، والأخلقة المتنامية للسلوك الاقتصادي الاجتماعي، فينعكس ذلك في الحد من نمو آليات الفساد الاقتصادي الذي تعاني منه معظم الاقتصاديات الإسلامية، فتساهم في الترقية المضطردة لادائها، والرفع من قدراتها التنافسية في عالم يقوم فيه الصراع الاقتصادي على أسس عقائدية وأيديولوجية.
ولقد أضحت الضرورة ملحة لمأسسة النشاط الإحتسابي، وتوسيع مجالاته ليشمل المستجدات المتعلقة بالحياة المجتمعية الاقتصادية والاجتماعية ..ليتكامل دورها و تنظيمها مع باقي عناصر المنظومة المؤسسية للاقتصاد الإسلامي في إعادة بناء القدرات الاقتصادية للامة الإسلامية لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين.
Abstract
Hisbah’ is one of the main islamic institutions.It is meant to play an important role in the control and orientation of social activities so as to lead to a gradual islamization of all aspects of economic life. The ultimate goal is to discourage the informal growth of corruptive mechanisms existing in most Islamic countries.(1/1)
It has become necessary to institutionalize “hisbah” activities and enlarge its scope to touch all aspects of social and economic life. “Hisbah” should be regarded as one of the main institutions which will have a vital role in preparing the “Ummah” to face the challenges for the forthcoming events of the 21st century.
مقدمة:
مؤسسة الحسبة من بين أهم مؤسسات الاقتصاد الإسلامي التي تنبثق عن تطبيق المذهبية الاقتصادية للمنهج التنموي الإسلامي وتجسيد منظومته المؤسسية في واقع الحياة الإنسانية، و تنبع أهميتها من كونها الوسيلة الفعالة لرفع مستويات الأداء التي تتطلبها عمليات التغيير الجذري و الإصلاح الشامل لتحقيق أهداف التنمية و تجسيد أولوياتها وربط حركية النشاط الاقتصادي والاجتماعي بالضوابط الشرعية و الأخلاقية والعقائدية الإسلامية بصورة تساعد على أسلمة الحياة الاقتصادية وأخلقتها والارتقاء بمستويات الأداء الاقتصادي لتجاوز أوضاع التخلف الحالية وأشكال الفساد المرتبطة بها.
و سوف نتناول هذا الموضوع ضمن المحاور التالية :
? مدخل للتعريف بالحسبة ومكانتها في الاقتصاد الإسلامي ودورها في محاربة الفساد الاقتصادي.
? المكانة الوظائفية للحسبة ودورها في تقليص آليات على الفساد الاقتصادي.
? المكانة الإدارية لمؤسسة الحسبة ودورها في الفضاء على الفساد الاقتصادي.
- - -
المحور الأول
مدخل للتعريف بالحسبة ومكانتها في الاقتصاد الإسلامي ودورها في محاربة الفساد الاقتصادي
أولا : تعريف الحسبة
التعريفات الشائعة في الكتب الفقهية جلها تركز على المفهوم اللغوي و الشرعي للحسبة الامر الذي يستدعي ضرورة بلورة مفهوم شامل يبرز التفعيل النظري التحليلي للمفهوم الفقهي الشرعي في واقع الحياة المعاصرة، و لذلك سنتعرض للتعريف الشرعي الفقهي، ثم نحاول صياغة تعريف ملائم ينسجم مع التنظير الحالي في الفكر الاقتصادي الإسلامي.(1/2)
1- التعريف الشرعي الفقهي للحسبة
الحسبة عند القاضي أبي يعلي هي : " أمر بالمعروف اذا ظهر تركه ونهي عن المنكر اذا ظهر فعله " (1) وعرفها أبن خلدون بأنها:" وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلا له، فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الاعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة ... " (2)
و عرف جمهور الفقهاء الحسبة بأنها :" الأمر بالمعروف الذي ظهر تركة و النهي عن المنكر إذا ظهر فعله (3)
و المعروف هو ما تعارف عليه العقلاء من أفعال نافعة و أعمال صالحة بالمعايير العلمية و النقلية، و المنكر هو عكس ذلك من الانشطة والممارسات الضارة بالحياة الفردية والجماعية.
إن التعريف السابق للحسبة واسع و غير محدد ذلك أن هناك مؤسسات أخرى تشترك في صفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فضلا عن ضرورة تفصيل هذا العموم بمفهوم يترجم تلك المصطلحات إلى لغة العصر في الميدان الرقابي، كما هو مبين في تعريف د. محمد المبارك للحسبة بأنها " مؤسسة رقابة إدارية تقوم بها الدولة عن طريق موظفين خاصين على نشاط الأفراد في مجال الأخلاق و الدين و الاقتصاد أي في المجال الاجتماعي بوجه عام تحقيقا للعدل و الفضيلة وفقا للمبادئ المقررة في الشرع الإسلامي و الأعراف المألوفة في كل بيئة و زمان"(4)
__________
(1) الحواشي والتعليقات
(1) ... القاضي أبو يعلي، الاحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت 1983، ص 284.
(2) ... أبن خلدون، المقدمة، دار الكتاب اللبناني، مجلد1، 1979، ص 398.
(3) ... د. نزية حماد، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء،المعهد العالمي للفكر الإسلامي فرجينيا،الولايات المتحدة، ط1، 1993، ص= 120
(4) ... د. محمد المبارك، أراء ابن تيمية في الدولة و مدى تدخلها في المجال الاقتصادي، دار الفكر، دمشق،1970، ص=73.(1/3)
ولقد وردت آيات كثيرة تؤكد على هذه الوظيفة الدينية في المجتمع قال تعالي:" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " سورة آل عمران الآية 110 وقال تعإلى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } سورة التوبة الآية 72.
2- نحو تعريف أشمل للحسبة:
يمكن تعريف الحسبة بأنها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين يتجسدان في العمل الرقابي التوجيهي الترشيدي للنشاط المجتمعي العام و الخاص في المجتمع الإسلامي لينسجم مع الأصول المذهبية و القيم الأخلاقية و المعايير الموضوعية من أجل رفع كفاءة الأداء الذي في إطاره يتحقق السلوك الرشيد الذي يعظم المصلحة المجتمعة الفردية و الجماعية، الحالية والمستقبلية، الدنيوية والآخروية. و هي مكملة للأعمال الأمنية و القضائية و حلقة من الحلقات الرسمية للتنظيم المجتمعي .
و مؤسسة الحسبة إذن هي ذلك الجهاز المؤسسي الرقابي الحديث الذي يشرف على إنسجام الأنشطة المجتمعية مع المبادئ المذهبية و الضوابط الشرعية و الموضوعية للمنهج الإسلامي و هي بهذه الصفة من المؤسسات الخاصة بهذا المنهج و المنبثقة عن تطبيقه في الواقع .
فهي أشمل من المؤسسات الرقابية الجزئية في الاقتصاديات الحديثة، لأنها تجسد النظرة المتكاملة لأهمية التأثيرات المتبادلة بين مختلف ميادين الحياة و نواحيها المادية و المعنوية، و إنعكاساتها على العملية التنموية .
و كما هو ملاحظ أن التحليل الاقتصادي أضحى عاجزا عن الإلمام بجوانب متعددة من الواقع الاقتصادي الذي توسعت فيه الأنشطة الخفية المرتبطة بتطور آليات الفساد الاقتصادي التي ساهمت في زيادة الريوع الاستغلالية غير المنتجة، و لهذا من الضروري التأكيد على أهمية الدراسة العلمية الموضوعية لاقتصاديات الفساد التي لا تتوقف عند التفسير الأخلاقي للسلوك الإنساني المنحرف.(1/4)
و إذا كان الدكتور جورج قرم يرى بأنه من أجل استبيان " آليات الفساد الاقتصادية لا بد من إجراء تحليل موضوعي، بلا رجوع للمفاهيم الأخلاقية"(1).
فنحن نرى بأن الكثير من القيم الأخلاقية الإيجابية المتجددة في الحياة المجتمعية لا يمكن تفعيلها في الواقع الاقتصادي بدون الاعتماد على جهاز مؤسسة رقابي يبحث عن الانحرفات (2) السلبية سواء كان مصدرها أخلاقيا أم كان خلاف ذلك، و يقوم بالتوجيه المتواصل، والتقويم الدائم الذي يحد من تطور آليات الفساد الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الثقافي، و ذلك لأن آليات الفساد الاقتصادي تتفاعل و تنمو بشكل مضطرد في ظل انتشار الفساد في نواحي الحياة السياسية و الاجتماعية و الثقافية و الاعلامية الخ .. .
و نرى أهمية السبق التطبيقي في المذهبية الاقتصادية الإسلامية في إدراك ذلك الارتباط بين مختلف نواحي الحياة، و في عدم ترك سير الحياة الاقتصادية للقوانين الطبيعية و الآليات الخفية للسوق التي تنظمها المذهبية الرأسمالية، أو للقوانين و الآليات الإجبارية التي تفرضها النخب المهيمنة على الدولة في المذهبية الاشتراكية، فكان طبيعيا الاعتماد على مؤسسة الحسبة التي قامت بدور ريادي كبير في توجيه الأنشطة المجتمعية بصورة قللت بشكل دائم من نمو الفساد وتطور الانحرافات .
و المتفحص في الواقع الحالي للاقتصاديات الإسلامية يلاحظ إلى أي مدى إستشري الفساد بمختلف مظاهرة و أضحى آلية تعيق تطبيق السياسات الاقتصادية، وتعرقل جهود التغيير التصحيحية التي تتطلبها عملية التنمية الشاملة التي لا يمكن أن تنطلق بدون إعادة الاعتبار للدور التنموي لمؤسسة الحسبة الرقابية الحديثة باعتبارها إحدى أهم مؤسسات الاقتصاد الإسلامي .
__________
(1) ... د. جورج قرم، الفوضي الاقتصادي العالمية الجديدة، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1994، ص= 72 .
(2) ... راجع ابن خلدون، المقدمة ، مرجع سابق ، ص= 398 .(1/5)
ثانيا: نشأة الحسبة و تطورها و تعطيلها
1- نشأة الحسبة :
لقد كانت نشأة الحسبة مرتبطة بانتشار المبادئ المذهبية و التعاليم الأخلاقية و التوجيهات العقائدية التي تجسد الخصائص الحضارية للمجتمع الإسلامي، و كان تنظيمها في بداية الأمر، محدودا و بسيطا بساطة النشاط المجتمعي السائد، و طبيعة الإنسان الذي كان شديد التمسك بالتشريعات التي تحكمه.(1/6)
ونظرا لأهميتها فقد كانت قيادة المجتمع ممثلة في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده تقوم بالإشراف المباشر على النشاط الإحتسابي يقول أبو الحسن الماوردي:" والحسبة من قواعد الامور الدينية وقد كان أئمة الصدر الاول يباشرونها بانفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها" (1) و لهذا نرى بعض المؤرخين و الفقهاء و المهتمين بالبحث في موضوع الحسبة يرجعون نشأة خطتها إلى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - و عهد خلفائه الراشدين "(2) و يصر بعض المستشرقين و من تأثير بهم من المؤرخين إلى التأكيد على الأصل اليوناني الروماني للحسبة، فالمستشرق ديمومبين " Demombynes " يرى بأنه: " ليس ثمة شك في أن الحسبة اقتبست من البيزنطيين ثم صبغها المسلمون بالصبغة الإسلامية "(3) . على أساس أن المسلمين : " لم يكن لهم ما يمكن أن يقدموه بديلا عنها يضاف إلى ذلك أنهم شغلوا بالحروب والفتح مدة طويلة،واستمرت هذه الوظيفة- اليونانية -التي أصبح المشرف عليها يسمى المحتسب أيام الأمويين والعباسيين في المشرق،كما عرفت في الأندلس حيث كان المحتسب يسمى صاحب السوق "(4).
__________
(1) ... أبو الحسن الماوردي، الاحكام السلطانية والولايات الدينية، ديوان المطبوعات الجزائرية، 1983، ص 223.
(2) ... سهام مصطفى أبو زيد ، الحسبة في مصر الإسلامية من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر المملوكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1986 ن ص 48
(3) ... نفس المصدر ، ص 49.
(4) 10) ... د. نقولا زيادة ، الحسبة و المحتسب في الإسلام، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1962 ص 31 .(1/7)
و الحقيقة أن هذا الزعم غير صحيح إذ لو كان المسلمون قد اقتبسوا وظيفة الحسبة من اليونان والرومان، " لأبقوها في الشام و مصر حين الفتح كما أبقوا سائر الوظائف الإدارية التي لا تتعارض و الإسلام" (1)، بل فلا يعقل و لن : " يخطر بالبال أنهم بموجب التأثير و التفاعل انتحلوا ترتيبها و أنظمتها"(2) اليونانية . و بالتالي فإن أصلها من صميم المجتمع و تجسيد لتميزه و خوصصيته. بل لعل الأمر المؤكد هو انتقال مؤسسة " الحسبة من الدولة الإسلامية التي إلى المملكة الصليبية ببيت المقدس، و أن الصليبيين استخدموها كما استخدمها المسلمون بذاتها وصفتها " (3)
2- تطور مؤسسة الحسبة و تعطيلها
بتطور المجتمع و اتساع أنشطته و تنوع معاملاته بدت الضرورة ملحة لإنشاء جهاز مستقل يتولى الوظيفة الرقابية الاحتسابية التي بموجبها ترتفع كفاءة الأداء الفردي و الجماعي عند القيام بالأعمال الأساسية و المهام الضرورية التي يتطلبها تطور المجتمع بصورة مضطردة، و أصبح ذلك الجهاز ولاية مستقلة أضحت من بين الولايات المهمة في الدولة الإسلامية يقول ابن خلدون " ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاما في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك و أفردت بالولاية " (4)
و منذ أواخر العهد الأموي بدأت الحسبة تأخذ شكل تنظيم وظيفي مستقل
__________
(1) 11) ... سهام مصطفى أوزبد ، مرجع سابق، ص 51 .
(2) 12) ... عبد الرحمان الفاسي، خطة الحسبة في النظر و التطبيق و التدوين، دار الثقافة ، ط1، الدار البيضاء، المغرب ، ص 12 .
(3) 13) ... المرجع السابق ، ص 14
(4) 14) ... عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة ، مرجع سابق ، ص 399 .(1/8)
وكان العصر العباسي في عهد الخليفة المهدي الذي استقرت فيه الدولة العباسية العهد الذي ظهرت فيه مؤسسة الحسبة بسلطاتها الواسعة، و امتدت إلى مدن المشرق و مدن المغرب العربي فالأندلس، و أصبح دورها بارزا و حيويا في ضبط و توجيه و ترشيد السلوك الإنساني التعاملي في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية، كما سنرى .
و لما تزايدت الانحرافات السياسية و انعكست على سائر الولايات و الوظائف
ومن بينها مؤسسة الحسبة بدأت أهميتها تضعف في معظم المدن الشرقية اعتبارا من القرن السابع الهجري ( 13 م) ، إلى أن تلاشت في معظمها، و جاءت حركة الإستعمار الغربي الواسع النطاق فعطلت المشروع الحضاري المجتمعي و قضت على ما تبقى من التنظيمات الاحتسابية الرسمية .
و استمر تغيب هذه المؤسسة بعد حصول معظم البلدان الإسلامية على إستقلالها، في إطار استراتيجيات التحديث التغريبي لمجالات الحياة و ما رافقها من نقل مكثف للقوانين و الأنظمة و المؤسسات .
ثالثا: مكانة مؤسسة الحسبة في ظل تطور الفساد الاقتصادي في الاقتصاديات الإسلامية
يقوم الاقتصاد الإسلامي على مذهب يشتمل على مجموعة متكاملة من المبادئ العامة والاصول الكلية التي تضبط حركية الحياة الاقتصادية، وهي مستمدة من المقاصد الكبرى للاسلام وعلى ضوئها يتحدد دور الدولة ووظيفة الملكية والنظرة إلى المال، وطبيعة الحرية الاقتصادية وأشكال توزيع الثروة، ومكانة القطاعات الاقتصادية ( العام والخاص والتكافلي...) ... الخ(1/9)
ويتجسد الاقتصاد الإسلامي عن طريق نظام اقتصادي يتم في إطاره إعمال المبادئ والأصول المذهبية والضوابط الشرعية في الواقع الاقتصادي المتجدد من خلال منظومة مؤسسية وإجرائية، تشتمل على العديد من المؤسسات من بينها مؤسسات تبرز خصوصية الاقتصاد الإسلامي وتميزه مثل مؤسسة الزكاة، ومؤسسة الاوقاف، ومؤسسات المشاركة المصرفية، ومؤسسات التأمين التعاونية، ومؤسسة الحسبة الرقابية، وتعد هذه الاخيرة من أهم المؤسسات التي تجسد الطابع المميز للاقتصاد الإسلامي من خلال أخلقة الحياة الاقتصادية وتوجيهها توجيها يساهم في رفع كفاءة أداء الاقتصادات الإسلامية التي تعاني اليوم من تطور أشكال الفساد الاقتصادي وتنامي آلياته بصورة أضحت تؤثر سلبا في حاضرها وتهدد مستقبلها.
ومن هنا تبرز مكانة مؤسسة الحسبة في المساهمة في ترشيد حركية النشاط الاقتصادي والتقليص التدريجي من تنامي آليات الفساد من خلال الوظائف العديدة التي يمكن ان تضطلع بها وتنعكس ايجابيا في زيادة القدرات التنافسية للاقتصاديات الإسلامية نتيجة لارتفاع مستويات الانتاجية الشاملة في مناخ حيوي ترتبط فيه الحركية الاقتصادية بالمعايير الاخلاقية والقيم العقائدية، وتنضبط بالسس الموضوعية من خلال ترقية النشاط المؤسسي الاحتسابي.(1/10)
لقد أكدت تجربة التطور في ظل المنهج الوضعي الغربي بأن فصل الاقتصاد عن القيم والأخلاقيات ( العلمنة الاقتصادية ) أدى إلى تنامي أشكال الفساد الاقتصادي وتطور الأزمات الاقتصادية(1)، وهذا ما جعل البعض يؤكد على أهمية الأخلاق في القضاء على الفساد " إلا أن ثمة آخرين ينازعون في تصنيف السلوك ذاته ويعتبرون ان صحة المجتمع الأخلاقية بصفة عامة هي القضية الأساسية فيما يتعلق بتعريف الفساد" (2) وبالتالي فالفساد يتناسب طردا مع الانحرافات والمنكرات الناتجة عن الأمراض المجتمعية الأخلاقية وهناك من حصر تعريفه في مجال محدود يشكل مصدر الفساد مثل التعريف الوارد في تقرير البنك الدولي بأنه :" إساءة استعمال السلطة العامة لتحقيق مكسب خاص " (3)، ولقد تزايد الاهتمام بظاهرة الفساد على المستوي العالمي بسبب تنامي خسائره لانه : " يفسد الحوافز ويقوض المؤسسات ويعيد توزيع الثروة والسلطة لصالح غير المستحقين، وعندما يقوض الفساد حقوق الملكية وحكم القانون وحوافز الاستثمار فان يشل التنمية الاقتصادية والسياسية " (4).
__________
(1) ? ... اتهم الرئيس الأمريكي الأسبق المضاربين بسوء الأخلاق لتسببهم في أزمات مالية في شرق آسيا وفي روسيا وأمريكا اللاتينية، ومع ذلك فان القانون لا يجرم ذلك السلوك رغم مضاعفاته الإقليمية والدولية، وذلك لان الفصل التعسفي للاقتصاد عن الأخلاق يؤدي إلى إهمال جوانب الفساد المرتبطة بتجاوز القيم والأخلاقيات الإنسانية.
(2) 15) ... مايكل جونستون،المسؤولون العموميون والمصالح الخاصة والديمقراطية المستدامة،في الفساد والاقتصاد العالمي،ترجمه محمد جمال امام،ط1 2000، ص 92
(3) 16) ... تقرير عن التنمية في العالم 1997، ص 112.
(4) 17) ... روبرت كليتجارد، استئصال شأفة الفساد، مجلة التمويل والتنمية، المجلد23 العدد 2/2000، ص2.(1/11)
وأعيد الاعتبار لدور الفضائل والأخلاقيات في الحد من الفساد، وأهميتها في تحقيق الازدهار الاقتصادي وترسيخ عوامل الثقة وأسس القوة في المجتمع (1) ولاشك في ان الفساد الاقتصادي ليس ظاهرة جديدة،ولكن الاهتمام به في ظل تطور أشكال العولمة تزايد لتذليل الصعوبات أمام دوائر الأعمال خاصة في الاقتصاديات النامية(2).
والحقيقة أن الفساد لا يرتبط بالسلطة العامة فحسب بل نعتقد بأنه أشمل من ذلك وأعقد وأعمق، فالانحراف والمنكرات المتعلقة باستخدام الثروات المتاحة في هذا الكون وطرق استغلالها والانتفاع بها، وأشكال وآليات توزيع الثروات والدخول وتكاليف التحولات المجتمعية والممارسات التي تنمي الاضطرابات الاجتماعية والثقافية وتهز الاستقرار الاجتماعي أمور كلها تعود في معظم الأحيان إلى سلوك الإفساد المرتبط بفصل الاقتصاد عن القيم والأخلاق وفصل الدين عن الدولة وعلمنة الحياة الإنسانية... الخ وكل ذلك ناتج عن ممارسات الإنسان السلبية، وفي ذلك يقول المولى عز وجل:
{ ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } سورة الروم الآية 40. وبالتالي كانت مؤسسية الحسبة الأداة الأساسية لمحاربة السلوك الفاسد وما يرتبط به من منكرات.
__________
(1) 18) ... FRANCIS FUKUYAMA, La confiance et la puissance : Vertus sociales et prospérité économique, plon, 1997.
(2) فحتى العقد الاخير من القرن العشرين كانت بعض الممارسات اللاخلاقية معترفا بها في المجال الاقتصادي وخاصة في العلاقات الاقتصادية الدولية،
فدفع الرشوة للمسؤولين الاجانب للحصول على الصفقات والاعمال يعتبر معاملة معترف بها تخصم تكاليفها من الدخل الخاضع للضريبة في معظم دول
الاتحاد الاوربي فحتى سنة 1999 لم يكن القانون يجرم دافع الرشوة .(1/12)
وتم في الاقتصاد الإسلامي إنشاء مؤسسة مستقلة مهمتها القضاء على الانحرافات ومحاربة التصرفات السلبية التي تتناقص مع القيم والمبادئ والأخلاقيات والقوانين والتشريعات، والعمل على ترقية الممارسات والسلوكات الإيجابية في سائر الأنشطة المجتمعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخ ...
كل ذلك يعد إدراك لمخاطر الانحراف وآثار الفساد على حركية المجتمع وتطوره وبالتالي كان فضل السبق الأولي في التجربة الحضارية الإسلامية إلى مأسسة وسائل الاحتساب للقضاء على الفساد، إلا ان استراتيجيات التنمية المرتكزة على فلسفة التحديث التغربي قد عطلت معظم مؤسسات الاقتصاد الإسلامي دون ان تجد بديلا يؤدي كافة وظائفها.
المحور الثاني
المكانة الوظائفية للحسبة ودورها في تقليص آليات الفساد الاقتصادي
تنبع أهمية مؤسسة الحسبة من حجم مهامها وطبيعة إختصاصاتها ومكانتها الوظيفية في الاقتصاديات الإسلامية للتقليل من تطور أشكال وآليات الفساد الاقتصادي، و نمو الانحرافات السلبية المرتبطة به بصورة تؤدي إلى ترقية الأداء الاقتصادي ورفع مستويات التنافسية من خلال مدخل مؤسسي موضوعي يرتكز على دور الجوانب الشرعية و الأخلاقية و العقائدية في تحسين مستويات الإنتاجية الفردية والجماعية بمختلف الأنشطة الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع الإسلامي .
وسوف نبرز المكانة الوظائفية الرقابية لمؤسسة الحسبة في الميادين التالية:
? مراقبة مدى الالتزام بمقاييس الجودة و الإتقان و مواصفات السلامة العامة.
? مراقبة كفاءة القيام بالمهن، و ضوابط أداء الحرف المجتمعية المتنوعة .
? مراقبة و تنظيم الأسواق و توجيه المعاملات المرتبطة بها .
? مراقبة عمليات جباية و تحصيل و إنفاق الموارد المالية العامة و المحلية .
? مراقبة عمليات إقامة القاعدة الهيكلية وتنمية البنية الأساسية المؤسسية والقانونية.(1/13)
? توجيه السلوك الإنساني و ضبط الآداب العامة و رعاية الحقوق الأساسية بالمجتمع .
أولا : مراقبة مدي الالتزام بمقاييس الجودة و الإتقان و مواصفات السلامة العامة
1- مراقبة مدى الالتزام بمقاييس الجودة و الإتقان
تلعب مؤسسة الحسبة دورا معتبرا في توجيه السلوك الإنتاجي التنافسي توجيها يجسد الالتزام بمقاييس الجودة و ضوابط الإتقان و ذلك عن طريق منع كافة الممارسات السلبية بالمؤسسات الإنتاجية و التي تؤدي إلى الإخلال بالمقاييس و الضوابط المعروفة ضمن كل سلعة أو خدمه فتقل بصورة معتبرة ظاهرة الغش و التزييف و التقتير التي أضحت السمة المميزة للبيئة المحيطة بالعملية الإنتاجية سواء في القطاع الصناعي أو الزراعي أ و غيره، يقول أحد الباحثين مؤكدا على هذا الاختصاص قائلا :" و نفس هذه الرقابة تطبق في الصناعة فيتوجه نظره إلى حصر المهنيين في أهل مهنتهم و إلى متابعة غشهم، وإلى فرض إتباع المناهج المعينة في كل صناعية، دفعا لما يخشى من إرتحال يؤدي إلى التزييف فالضياع سواء بالنسبة لمستوى الصناعة نفسها أو بالنسبة للمتجرين أو العاملين فيها، أو لمن يستهلكون منتجاتها " (1).
و الذي يتتبع الميراث التطبيقي والتجربة الميدانية لمؤسسة الحسبة الرقابية في المشرق و المغرب يلاحظ التنظيم الرقابي الدقيق على جميع الأنشطة الإنتاجية
__________
(1) 19) ... عبد الرحمان القاسي، مرجع سابق، ص 30.(1/14)
والضوابط الإلزامية التي كانت تخضع لها أثناء أداء وظيفة الإنتاج بالمؤسسات الاقتصادية و طبيعة الزواجر التي قد تصل إلى حد توقيف المؤسسة الإنتاجية أو الخدمية توقيفا دائما أو مؤقتا و معاقبة المتسببين في الانحرافات التي تخل بالسلوك الإنتاجي الرشيد و لذلك فقد كان جائزا لجهاز الحسبة كما يقول الشيرزي : " أن يجعل لأهل كل صنعة عريفا من صالح أهلها، خبيرا بصناعتهم، بصيرا بغشوشهم و تدليسا تهم، مشهورا بالثقة و الأمانة يكون مشرفا على أحوالهم و يطالعه بأخبارهم ... و غير ذلك من الأسباب التي يلزم المحتسب بمعرفتها فقد روى أن البني " صلعم" قال : " استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها" (1) بل أن القاضي أبا علي جعل هذا الميدان من إختصاص مؤسسة الحسبة الذي تنفرد به عن غيرها من الولايات فيؤكد ذلك بقوله:"وأما من يراعي عمله في الجودة والرداءة فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة " (2)
إن تعطيل و تغييب مؤسسة الحسبة في واقعنا المعاصر جعل الانحرافات تتوسع و يتفنن بعض المنتجين في تغطية مخالفاتهم لمقاييس الجودة و ضوابط الإتقان في مواجهة الأجهزة الرقابية الموجودة التي لم تستطيع أن تملأ الفراغ الذي تركته مؤسسة الحسبة من حيث حجم صلاحياتها و شموليته و تكامل أنشطتها، و سرعة إجراءاتها التصحيحة و سلطة و مكانه جهازها ضمن الهيكل التنظيمي للدولة.
__________
(1) 20) ... د. نقولا زيادة ، مرجع سابق ، ص = 95 .
- للمزيد من الإطلاع على فقه الحسبة في هذا المجال، يمكن مراجعة : كتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيرزي، و معالم القربة لأبن الأخوة، و كتاب في آداب الحسبة للسقطي، وكذلك ابن عبدون، وابن عبد الرؤوف، والجرسيفي والغزالي وابن بسام و غيرهم من فقهاء وكتاب الحسبة.
(2) 21) ... القاضي أبو يعلي، مرجع سابق، ص303.(1/15)
إن رفع القدرات التنافسية للاقتصاديات الإسلامية يقتضي تفعيل دور مؤسسة الحسبة الرقابي الخارجي على المؤسسات الاقتصادية بالتوازي مع الأجهزة الوطنية للمواصفات القياسية.ذلك ان التطورات الكبرى التي تشهدها ميادين إنتاج وتبادل السلع والخدمات على المستوى الدولي و انعكاساتها على المنتجين المحليين للحفاظ على مكانتهم في السوق الوطنية ومحاولة اكتساب حصة في السوق الدولية تقتضي التزاما متواصلا بالمواصفات القياسية للجودة والإتقان حيث " يجب على الشركات التي تتوقع المنافسة في الأسواق العالمية أن تتوافق أعمالها ومنتجاتها مع المواصفات القياسية السائدة" (1)(2)
كما أن الاتفاقيات التي عقدتها العديد من البلدان الإسلامية، سواء تلك المتعلقة بالمنظمة العالمية للتجارة أو الخاصة باتفاقيات الشراكة أو بتطوير العلاقة مع بعض التجمعات الإقليمية تتطلب الالتزام بالمواصفات والمقاييس الدولية لتعظيم مكاسب التعاون في إطار تلك الاتفاقيات.
ونعتقد بأن مؤسسية الحسبة ستلعب دورا معتبرا من خلال أجهزتها الرقابية المتخصصة للمساهمة في تقليص الانحرافات لضمان جودة السلع والخدمات المنتجة في الأسواق الوطنية التي تشهد تنامي الاختلالات في وظيفة الإنتاج بصورة تجلت في تدهور مستويات الجودة والإتقان والالتزام بالمواصفات القياسية.
2- مراقبة مدى التقيد بمواصفات السلامة العامة
يمتد النشاط الرقابي التوجيهي لمؤسسة الحسبة ليشمل التأكد من مدى تقيد المؤسسات الإنتاجية و الخدماتية بالمواصفات المتعلقة بالسلامة العامة الخاصة بالمستهلكين و بالعاملين، و بالمحافظة على البيئة.
__________
(1) 22) ... أديدجي باديرو، الدليل الصناعي إلى ايزو 9000، ترجمة فؤاد هلال، دار الفجر للنشر والتوزيع، 1999،ص 12.
- لقد أسست العديد من المؤسسات القومية للمواصفات تقوم بالتنسيق مع المنظمة العالمية للمواصفات القياسية
THE INTERNATIONAL ORGANIZATION FOR STANDARDIZATION IOS ) )(1/16)
2-1- مراقبة المواصفات العامة الخاصة بسلامة المستهلكين
تقوم مؤسسة الحسبة بدورها الرقابي للتأكد من توافر الشروط الضرورية لممارسة النشاط الإنتاجي بصورة تضمن التقيد بالمواصفات العامة الخاصة بسلامة المستهلكين و بصحة الناس جميعا، بدءا بمحاربة كافة أشكال الغش و الخلط
والتدليس، إلى مراعاة القواعد الصحية، و ضوابط النظافة و السلامة، و الجوانب التطبيقية لمؤسسة الحسبة تؤكد على تجسيد دور :" المحتسب و نشاطه في المجالات الصحية، و في تصوير رقابته الشديدة، بمساعدة أعوانه، على أنواع الأطعمة التي كانت تباع بالمحلات أو في الطرقات للتأكد من نظافتها،وسلامتها و صلاحيتها حفظا على صحة الناس ، و في ترتيب السلع المختلفة في الأسواق كل في المكان الذي يليق به "(1).
هذا إضافة إلى إلزام المؤسسات الإنتاجية و الخدمية بتنفيذ التعليمات و مراعاة الشروط الخاصة بكل صناعة و نحوها لضمان السلامة العامة، و الواقع التطبيقي لهذه المؤسسة الرقابية يبرز تفصيلات كثيرة و دقيقة لضبط سلوك الوحدات الاقتصادية تمتد إلى كيفيات العمل و أشكال اللباس و شروط النظافة الخ ...
2-2- مراقبة المواصفات العامة الخاصة بسلامة العاملين
يتوسع دور مؤسسة الحسبة لمراقبة شروط العمل و ظروفه للتأكد من سلامة العاملين و ضمان توافر أساليب الحماية المطلوبة، وإنتفاء أشكال الإستغلال المؤدية إلى هضم حقوقهم من جهة، و مدى التزام العمال بتطبيق قواعد الصحة و السلامة و قيامهم بواجبهم في أفضل الظروف من جهة أخرى .
__________
(1) 23) ... سهام مصطفى أبوزيد، مرجع سابق، ص = 202.
-يمكن مراجعة بعض الأحكام المتعلقة بتهذيب السلوك الإنتاجي أو التجاري في بلدان المغرب العربي و الأندلس في كتاب التسيير في أحكام التسعير
لأحمد سعيد المجيلدي الذي حققه موسى لقبال و نشر بالجزائر، و كذلك كتاب أحكام السوق ليحي بن عمر الذي حققه حسن حسني عبد
الوهاب و نشر بتونس. و غيرها من الكتب الأخرى.(1/17)
2-3- مراقبة المواصفات العامة المتعلقة بسلامة البيئة و حماية المحيط
إن تطور المجتمع و تنامي نشاطه الإنتاجي بشكل كبير أضحى يشكل مصدرا من المصادر المؤثرة على سلامة و حماية المحيط، و بالتالي بات دور مؤسسة الحسبة مهما في مراقبة مدى الإلتزام بالمواصفات والشروط المتعلقة بسلامة البيئة
وحماية المحيط حفظا للحياة الإنسانية من كافة الانعكاسات الضارة الناتجة عن التلوث و التهاون في معالجة المخلفات و العوادم و النفايات، و التي لم تعد في بعض البلدان الإسلامية مقتصرة على حركية مؤسساتها الإنتاجية بل أصبحت بفعل غياب هذه المؤسسة الرقابية موطنا للنفايات السامة للدول المتقدمة.
إن الوضعية الحالية لمجتمعاتنا تظهر حجم الفراغ الرقابي الحالي و طبيعة الدور الفعال الذي يمكن أن تلعبه مؤسسة الحسبة بالتوازي و التكامل مع أشكال الرقابة الجزئية التابعة لبعض الهيئات الرسمية أو الجمعيات الخيرية و النقابات المهينة و التي لم تعد لوحدها قادرة على تحقيق الانضباط المجتمعي الحضاري، و بالتالي تزايدت تكاليف الانحرافات التي يتحملها الاقتصاد الوطني، الأمر الذي يتطلب ضرورة إعادة بعث هذه المؤسسة الرقابية الهامة و التي نعتقد بأن تكاليف إقامتها ستكون أقل بالمقارنة مع تكاليف الانحرافات الحالية، و مع حجم المنافع المتوقعة منها .
ثانيا : مراقبة كفاءة القيام بالمهن و ضوابط أداء الحرف و الوظائف المجتمعة المتنوعة
1- مراقبة كفاءة القيام بالمهن ، وضوابط تأدية الوظائف المجتمعة المتنوعة
تتوسع الرقابة الإحتسابية لتشمل كافة المهن و الوظائف، حيث تقوم مؤسسة الحسبة بالتأكد من سلامة النشاط المجتمعي المهني و الوظائفي من المخالفات الشرعية و القانونية، و تسهر على صحة الممارسات و التصرفات و خلوها من الانحرافات، و مطابقتها لمبادئ الكفاية و ضوابط الفعالية بصورة تضمن التحقيق المضطرد لأهداف العملية التنموية و التجسيد الفعلي لأولوياتها .(1/18)
ولا يخفي على أحد مدى الاضطراب الذي تشهده الوظائف و المهن و حجم التدهور في مستويات الأداء ، بصورة أضحت تهدد الاستمرار الحضاري الإيجابي الفعال للمجتمع بصفة عامة،و الاقتصاد الوطني على الخصوص، و من هنا تنبع أهمية إعادة بعث مؤسسة الحسبة الرقابية لتغطي هذا الفراغ الكبير بما يساعد على إحداث حيوية مهنية و ديناميكية وظائفية تعظمان مصلحة المجتمع في ميادين و قطاعات كثيرة، كقطاع التربية و التعليم و قطاع الثقافة و الإعلام و الاتصال، و قطاع الصحة و الشؤون الاجتماعية ، وقطاع العدالة و القضاء، و قطاع النقل و الموصلات، و قطاع السياحة، إضافة إلى الوظائف الرسمية في بقية الإدارات. فالمهن و الوظائف المجتمعية بهذه المجالات تستدعي مزيدا من التوجيه و الترشيد اللذين يمكنان من رفع كفاءة الأداء المهني و زيادة الفعالية الوظائفية المرتبطة بالالتزام بالضوابط الموضوعية
والأخلاقية .
ولقد أثبتت التجربة التاريخية في البلاد الإسلامية مكانة مؤسسة الحسبة وأهمية مهامها الرقابية في مجال الوظائف والمهن المتعددة في المجتمع فيقول القاضي
أبو يعلي محمد الفراد في تحديد نوعية الرقابة ومداها مايلي :
" ومما يؤخذ ولاة الحسبة لمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف:
- منهم من يراعي عمله في الوفاء والتقصير
- ونمهم من يراعي حاله في الأمانة والخيانة
- ومنهم من يراعي عمله في الجودة والرداءة " (1)
وذلك حساب لطبيعة كل مهنة ووظيفة فيقول عن الذين يراعي عملهم في الوفاء والتقصير كلاما شيقا جميلا ليته يراعي من في وقتا الحاضر، مايلي:
"فكالطبيب والمعلمين لأن الطب إقدم على النفوس يقتضي التقصير فيه إلى تلف
__________
(1) 24) ... القاضي أبو يعلي، الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص302.(1/19)
أو سقم، وللمعلمين الطرائق التي ينشأ عليها الصغار فيقر منهم من توفر عمله وحسنت طريقته ويمنع من قصر أو أساء في التدريس لما يفسد به النفوس وتخبث به الآداب"(1)
أما الذين يراعي عملهم في الأمانة والخيانة فيقول عنهم:" فمثل الصاغة والحاكة والقصارين والصباعين لأنهم ربما هربوا بأموال الناس فيراعي فيهم الثقة والأمانة فيقرهم، ويبعد من ظهرت خيانته" اما عن الذين يراعي عملهم من حيث الجودة والرداءة فيقول: " فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة ولهم أن ينكروا في العموم فساد العمل ورداءته" (2)
2- مراقبة كفاءة القيام بالحرف و مدى الالتزام بضوابط أدائها
إن تنظيم الحرف و توجيهها و تطهيرها من الممارسات السلبية، و حمايتها من الزوال، يعد من بين أهم الأهداف التي تضمن التطور التراكمي الحرفي الذي يجسد حركية التواصل بين القديم منها و الحديث بصورة تساهم بشكل دائم في إبرار ملامح الخصوصيات المادية لبعض جوانب الحياة الاقتصادية.
فتقوم مؤسسة الحسبة بمراقبة كفاءة القيام بالحرف المجتمعية المتنوعة و مدى التزامها بضوابط الأداء من أجل ضمان استمرارها و تطورها و إنتفاع الاقتصاد الوطني من مخرجاتها، و هي بهذا تقوم بدور ريادي مهم في البلدان الإسلامية، التي نجد الكثير من أنشطتها الحرفية انقرضت، و يعاني بعضها المتبقي من التدهور
والاضطراب، في الوقت الذي نجد في أكبر عواصم الدول المتقدمة المخرجات الحرفية الاستهلاكية و الاستعمالية و الفنية التي تدل على عراقة المجتمع و خصوصيته و توا صليته ، بينما تشهد اقتصادياتنا إكتساح تدميري للكثير من الحرف و المهن و خاصة في ظل موجه العولمة الاقتصادية للتجربة الحضارية الغربية.
ثالثا: مراقبة و تنظيم الأسواق و توجيه المعاملات المرتبطة بها
1- طبيعة السوق و خصائصها في الاقتصاد الإسلامي
__________
(1) 25) ... نفس المصدر، ص 302.
(2) 26) ... نفس المصدر، ص303.(1/20)
أثبتت التجربة بأن محاولة إلغاء السوق أو تحييد دورها في الحياة الاقتصادية عن طريق أجهزة التخطيط و التدخل الحكومي الشامل في تنظيمها ، محاولة لها إنعكاساتها السلبية على الاقتصاد الوطني سواء على قوى العرض بما فيها من وحدات اقتصادية إنتاجية و خدمية ، أو على قوى الطلب بما فيها من وحدات استهلاكية وسيطة أو نهائية، و تحملت الاقتصاديات الاشتراكية، و الموجهة تكاليف كبيرة بفعل سياستها الاقتصادية المتعلقة بتنظيم السوق . كما دلت التجربة بأن الاعتقاد بوجود آليات خفية تضبط بشكل تلقائي حركية السوق فتحقق مصالح جميع أطرافها ، إعتقاد مبالغ فيه إذ سرعان ما يؤدي ذلك إلى أزمات كبيرة تلغي المكاسب المزعومة
وتتحمل الاقتصاديات الرأسمالية أو اقتصاداتها المحيطية التابعة تكاليف تفاعلاتها مثل تنامي التفاوت في توزيع الثروات و الدخول ، و تجدد الأزمات الدورية ، و تطور التكتلات الاحتكارية التي تهدد المنافسة الاقتصادية ، و تزايد التبديد للموارد المتاحة إلخ ...
انطلاقا مما سبق فإن طبيعة السوق و خصائصها و آليات تنظيمها و مراقبتها في الاقتصاد الإسلامي تختلف عن تلك المستمدة من المذهبية الاشتراكية أو الرأسمالية.
فتنظيم قوى السوق و توجيهها يهدف إلى الاستفادة من مزاياها للمساهمة في التخصيص الأمثل للموارد ، و التوزيع الأكفأ للدخول ، والتخفيف من سلبياتها
وعيوبها في مجالي التخصيص و التوزيع بآليات تكميلية ، تجعل للسوق خصائص مميزة أهمها :
أ- التفاعل الحر بين قوى العرض و الطلب يخضع للضوابط المذهبية
و الموضوعية التي تحكم الحرية الاقتصادية ، و تضبط الملكية و توجه تدخل الدولة ، الأمر الذي يقلل من الممارسات السلبية الإستئثارية و التصرفات التحايلية ، فتتحقق مصالح جميع الأطراف .
ب- المنافسة التعاونية الإيجابية التي هي نقيض المنافسة السلبية التدميرية التي تقوم على الوسائل غير المشروعة و غير النزيهة، و على الاحتكار ، و الاستغلال(1/21)
والإغراق إلخ . . .
فهي منافسة تعاونية تقوم على تعبئة الجهود الفردية و الجماعية، العامة
والخاصة ، الداخلية و الخارجية.
و هي إيجابية تقوم على الكفاءة و الجودة و السعر المناسب و ليس على أساس التغطية و التحايل والتمويه الإعلامي والغش و التغرير بالمستهلكين وغيرها من الوسائل.
2- مراقبة و تنظيم سوق السلع و الخدمات و توجيه معاملاتها
لقد تطورت الحياة البشرية و تطورت معها الحاجات الإنسانية ، فتطورت الأسواق كمجال حيوي لتلك الحاجات و انتقل التعامل فيها من عمليات محدودة حدودا زمانية و مكانية و حالية إلى تعاملات واسعة تتفاعل قوى العرض و الطلب فيها
وتتشابك علاقاتها المتبادلة، و أضحت الضرورة ملحة لتنظيمها و مراقبتها و توجيهها لتنشيط الحركية الاقتصادية و تنميتها، و تسريع حلقات تصريف السلع و تسويق الخدمات .
و تنوعت الأسواق و تعددت تقسيماتها حسب لطبيعة المعيار المستخدم في التفرقة بينها.فمن حيث ديمومتها و إستمرارها هناك الأسواق الدائمة كالمراكز التجارية الكبيرة في المدن الكبرى و العواصم التجارية المحلية و العالمية ، و هناك الأسواق المؤقتة والموسمية كأسواق القرى و المعارض إلخ...، و من حيث اتساعها و مداها فهناك الأسواق المحلية و الإقليمية و الأسواق العالمية ، و من حيث نوع و طبيعة السلع المتداولة إلى سوق المحاصيل الزراعية و سوق المنتجات الصناعية و سوق العقارات، و سوق السلع الاستهلاكية ، و من حيث حجم التداول و شكله فهناك أسواق الجملة و أسواق التجزئة ، و من حيث الغرض الإستعمالي للسلعة فهناك سوق السلع الإنتاجية و سوق السلع الإستهلاكية، و من حيث طبيعة التعامل التجاري فنهاك سوق المنافسة التامة
وسوق المنافسة الاحتكارية و السوق الاحتكارية إلخ . . .(1/22)
و لقد تطورت بعض الأسواق و انفصلت عن مواطن إنتاجها مثل أسواق النفط و المحاصيل الزراعية الرئيسية بمعنى أن النظرة إليها لم تعد مرتبطة بمجال جغرافي محدود في ظل التطور الهائل في وسائل النقل و الاتصال و الإعلام ، و لم يعد التفاعل بين قوى العرض و الطلب في بعض الأسواق مباشرا .و لا خلاف بين المتخصصين في متابعة التطورات الاقتصادية في بلداننا بأن معظم أسواقنا تعاني من تطور أشكال الفساد و الانحرافات السلبية و الفوضوية التي تجعلها بعيدة عن المساهمة في التخصيص الأمثل للموارد ، و المشاركة في التوزيع الملائم للدخول ، الأمر الذي يدل على وجود فراغ حقيقي تنظيمي و رقابي و توجيهي يستدعي ضرورة بعث مؤسسة الحسبة الحديثة لتقوم بدورها الاقتصادي الريادي في هذا المجال عن طريق :
2-1- الإشراف المباشر على تنظيم الأسواق حسبا لطبيعتها و نوع سلعتها
وظروف تسويقها بغية التقليل من الفوضى الحالية و ضمان الأمن و السلامة و إزالة الحرج و دفع العسر و المشقة لضمان المناخ الأفضل للحركية التجارية التي تعتبر من أهم مقاييس كفاءة وفعالية الاقتصاديات الحديثة.(1/23)
ويمكن أن يتوسع النشاط الاحتسابي الرقابي على الأسواق ليشمل مكافحة الأشكال الجديدة من الغش والتحايل في مجال العلاقات التجارية فقد أغرقت معظم أسواق البلدان الإسلامية بالسلع والمنتجات المزيفة العلامات، والتي تتميز بانخفاظ مستويات جودتها، وما يصاحب ذلك من خسائر للمستهلكين وللشركات المالكة للعلامات (1). إن استفحال هذه الظاهرة يتطلب ضرورة تطهير هذه الأسواق منها خاصة بعد أن أصبحت العلامات والماركات التجارية مشمولة ضمن اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة والتي تتضمن العلامات التجارية والتأشيرات الجغرافية، والتصميمات الصناعية وبراءات الاختراع (2).
2-2- معاينة حركة الأسعار و التأكد من مدى ارتباطها بالتفاعلات الحرة بين قوى العرض و الطلب ، منعا للتصرفات الاحتكارية ، و الممارسات الإحتيالية التحكمية في الأسعار التي تؤدي إلى استغلال المنتجين و المستهلكين من قبل الوسطاء
والمضاربين ، و التي تتيح لمؤسسة الحسبة تحديد الأسعار أو هوامش الأرباح في مثل هذه الحالات الاستثنائية .
2-3- متابعة مدى التقيد بالضوابط الشرعية و الموضوعية في التعاملات التجارية بما يفضي إلى تخفيض السلوك التجاري الاستغلالي الذي يقوم على الغش
والاحتكار والخلط السلعي و التعامل الربوي، و التطفيف في الموازين و المقاييس
والمكاييل حتى تنضبط سوق السلع و تنكشف تعاملاتها الإيجابية السليمة .
__________
(1) 27) ... مهما كانت جنسية هذه الشركات فلا يجوز سرقة علاقتها ورموزها.
(2) 28) ... راجع د. جمعه سعيد سرير، النظام القانوني لمنظمة التجارة العالمية، الدار الجماهيرية، ط1، 2002.(1/24)
2-4- مراقبة مدى سلامة التعاملات من كافة الأشكال التي تؤثر في عناصر الثقة التجارية في الأسواق، و ذلك بالتأكد من مستوى الالتزام بالعقود و الوفاء بالديون، و إتمام الصفقات، و انتفاء التجاوزات و التعديات، و هي من الأمور التي تستدعي تدخلا فوريا و دائما من قبل مؤسسة الحسبة لفض منازعاتها و التقليل من انعكاساتها على التعاملات التجارية .
2-5- مراقبة مدى الالتزام بشروط الأمن و الصحة العامة و قيود نظافة المحيط و سلامة البيئة حيث تمتد سلطة مؤسسة الحسبة لمراقبة مستويات التقيد بالشروط التي تحقق الأمن و تضمن الصحة العامة و ما تتطلبه من مواصفات لحفظ السلع و ظروف تقديم الخدمات، إضافة إلى مراعاتها لمدى المحافظة على نظافة المحيط و سلامة البيئة فلا بد لجهاز الحسبة الرقابي أن : " يطمئن على النظافة العامة . . . و يتأكد من دقة
ونظافة الأدوات الصحية لدى الأطباء و غير ذلك من الجهات التي لا حصر لها " .(1)
3- مراقبة و تنظيم سوق العمل و السوق النقدية و توجيه المعاملات المرتبطة بهما
3-1- مراقبة و تنظيم سوق العمل و توجيه المعاملات المرتبطة بها
إن سوق العمل في معظم البلدان العربية و الإسلامية تشهد أبشع أنواع الاستغلال، و أشد ألوان انتهاكات حقوق الإنسان ، سواء على مستوى السوق العامة أو الخاصة، و تزداد هيمنة أرباب الأعمال و ممارستهم الاستغلالية و الاحتكارية للعمال
والأجراء، و للقصر و الأطفال، و ضعف دور الدولة و المؤسسات التكافلية في الوصول إلى تحقيق التوازن المطلوب في سوق العمل من جهة و ضمان الحد المناسب من الأجر للفئات العاملة البسيطة، و بدأ يحدث نوع من الحراك الوظائفي نحو المهن و الحرف
__________
(1) 29) ... د ، رمضان علي السيد الشرنباصي ، حماية المستهلك في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة مطبعة الأمانة ، ط1 ، 1404 ، ص 81 .(1/25)
والأعمال التي تتطلبها اقتصادات الانفتاح الليبرالي المتسرع ، الأمر الذي أضحى يهدد التركيب الوظائفي الأساسي بالمجتمع .
و لهذا فإن دور مؤسسة الحسبة سيكون هاما و حيويا في مراقبة هذه السوق
وإزالة أشكال الإجحاف و ألوان الاستغلال التي أصبحت تميزها و هذا سيؤدي حتما إلى إعادة الاعتبار لعنصر العمل في مقابل عنصر رأس المال الذي هيمنت طبقته على الحياة الاقتصادية و السياسية ، بإعادة النظر في ظروف العمل و شروطه و أوضاعه
وإعادة تقييم سلم الأجور و المكافئات ، و منع استغلال الأطفال و إلزام المعنيين من أسر قادرة و هيئات رسمية بضرورة التكفل بهم و رعايتهم و ضمان حقوقهم الأساسية (1).
ومن المعلوم بأن الجوانب الاجتماعية للعمل والظروف المحيطة به أصبحت من العوائق الخارجية لدخول أسواق الدول المتقدمة حيث أصبحت تشترط احترام الدولة لحقوق الإنسان في مجال التشغيل والعمالة كمقدمة لتمكين منتجاتها من الدخول إلى الأسواق.
فقد عانت بعض الدول النامية من القيود على صادراتها النسيجية بسبب قيام صناعاتها على تشغيل الأطفال وإنعدام الظروف المناسبة للعمل وتزايد الاستغلال... ونعتقد بأن مؤسسة الحسبة يمكن أن تلعب دورا متكاملا مع مؤسسات الدولة الأخرى في تحرير الاقتصاد من المنكرات وأشكال الفساد المرتبطة بهذه الجوانب.
3-2- مراقبة و تنظيم السوق النقدية و المالية و توجيه المعاملات المرتبطة بها
__________
(1) 30) ... للمزيد من التفصيلات يراجع كتاب : د . شرف بن علي الشريف ، الإجارة الواردة على عمل الإنسان دراسة مقارنة، دار الشرق، ط1، 1980(1/26)
تمتد سلطة مؤسسة الحسبة الرقابية الحديثة إلى السوق النقدية و المالية لتطهيرها من المعاملات غير المشروعة، و الممارسات التي تخالف الضوابط المرشدة لحركة الاستثمار و التمويل و نحن نرى بضرورة الاحتساب على السلطات النقدية منعا لوسائل النقدنة التي تخالف الضوابط المذهبية من جهة، و كذا الحد من سياستها التي تؤثر بشكل مباشر على القوة الشرائية للإنسان و تساهم في توسيع دائرة الفقر، و نحن هنا نستغرب كيف تعامل الحكومات في بعض البلدان الإسلامية بشكل إزدواجي الآثار التي أحدثتها سياستها النقدية المتعلقة بتخفيض قيمة عملاتها فهي من جهة تسعى لتخفيف آثار ذلك الانخفاض على عنصر رأس المال بمحاولة تعويض الشركات عن خسائر الصرف و التقويم التي أصابتها، بينما في تعاملها مع عنصر العمل تتجاهل انعكاسات الخسائر التي أصابت الأُجراء بتخفيض قيمة عملهم و تدهور قوتهم الشرائية و زيادة مستوى فقرهم بسبب إنعكاسات سياسات التخفيض في قيمة العملة و ما يرافقه من إرتفاع متوال في الأسعار مع ثبات مستويات الأجور في معظم الأحيان أو زيادتها بنسب لا تغطي الارتفاعات في مستويات الأسعار.
فلمؤسسة الحسبة دور حيوي في حماية الأطراف المتضررة في السوق النقدية
والمالية بصورة تقلل من الانحرافات و تفضي عبر الزمن إلى مزيد من الاستقرار الإيجابي.
و إذا كانت معظم كتب الحسبة قد أكدت على دور عمال الحسبة في مراقبة أنشطة الصرافة و أنشطة إصدار النقد و غيرها ، فإن الأمور قد تطورت في هذا العصر إلى أسواق حديثة و متطورة مثل السوق النقدية و ما تضمنته من مؤسسات كالبنك المركزي و البنوك التجارية و بيوت الصرافة للعملات الأجنبية.. الخ، و هناك سوق رأس المال و ما تتضمنه من مؤسسات مثل مصارف العقارات و بنوك الأعمال و شركات(1/27)
وهيئات التأمين و صناديق الإدخار و غيرها، و ما تشمله سوق رأس المال من سوق أولية تتولى الإصدارات الجديدة ، و سوق ثانوية يجري التعامل فيها على الأوراق المالية التي سبق إصدارها (1) فهناك مجالات جديدة لمؤسسة الحسبة لمراقبة مدى الالتزام بالضوابط الموضوعية والشرعية التي ترشد حركية القوى المتفاعلة داخل هذه السوق بما يساعد على تعظيم المصلحة المجتمعية للاقتصاد الوطني، و هذه الأسواق الآن تعاني من حالة فراغ رقابي و توجيهي خارجي مستقل عن هياكلها .
فإذا أخذنا سوق العملات الأجنبية كمثال فإننا نلاحظ بأن الاقتصاد الإسلامي تضمن العديد من الضوابط المرشدة التي تجعل : " المعاملات تتصف بالمشروعية ، و ينأى بها عن شبهة الربا و الحرام، و يحول دون استخدامها كأداة للاستغلال ، أو المقامرة غير المشروعة أو الكسب غير المشروع . . . و عدم استعمال أية صيغة للتعامل مع العملات الأجنبية كوسيلة للكسب المرتبط بالزمن أو التأخير الزمني (2)
رابعا : مراقبة المالية العامة و المحلية
يمتد النشاط الرقابي لمؤسسة الحسبة ليشمل المالية العامة للدولة و المالية المحلية، و يمكن أن نطلق على هذا النوع من الرقابة الإحتسابية إسم الحسبة المالية
__________
(1) 31) ... راجع سمير عبد الحميد رضوان ، أسواق الأوراق المالية و دورها في تمويل التنمية الاقتصادية : دراسة مقارنة بين النظم الوضعية و أحكام
الشريعة الإسلامية ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، القاهرة ، 1996 .
(2) 32) ... حمدي عبد العظيم ، التعامل في أسواق العملات الدولية ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، القاهرة ، 1996 ، ص 45 .(1/28)
والتي تتضمن : " مجموعة الإجراءات و الأجهزة و القواعد و السياسات التي تحكم التصرفات المالية الإنفاقية و الإيرادية و غيرها للإدارة المالية العامة . . . حيث يتخصص ديوان الحسبة و غيره من الدواوين المالية بمراقبة الأوضاع و الإجراءات و التصرفات المالية للإدارة العامة. ." (1)
و لما كانت الأوضاع المالية العامة و المحلية تعاني من الفساد و الانحرافات التي عجزت الأجهزة الرقابية الحالية عن التخفيف منها و التقليل من انعكاساتها السلبية على المناخ الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي، فإن الضرورة ملحة لإعادة بعث فروع الحسبة المالية لتقوم بدورها الفعال في محاربة الفساد المالي الذي استشرى في الإدارة المالية العامة و المحلية .
1- مراقبة عمليات الجباية و التحصيل
لا تخلو عمليات الجباية و التحصيل للموارد العامة و الإيرادات المحلية من التجاوزات في حق الممولين سواء كانوا ضمن الأنشطة الاقتصادية الفردية أو المؤسسية، الأمر الذي يؤثر سلبا في مدى إستمراريتهم في الميدان الاقتصادي ، و تكون مهمة الحسبة المالية التأكد من عدم تعسف الإدارة، و الحد من تجاوزاتها في حق أرباب الأعمال و أصحاب الأنشطة الاقتصادية بالسرعة المناسبة التي تحمي حركية النشاط الاقتصادي من التأثر السلبي بتلك الممارسات .
و لا غرابة فإننا نلاحظ اليوم ضغطا ضرائبيا و جمركيا كبيرا بصورة مضطردة بسبب الفساد الكبير الذي تعاني منه الإدارات القائمة بهذه المهمة و تدهور كفاءتها التحصيلية من جهة، و بسبب تنامي السلوك التبذيري للإيرادات العامة من جهة ثانية .
كما أن التجاوزات قد تكون في حق المجتمع بسبب تنامي أشكال التهرب
__________
(1) 33) ... نائل عبد الحافظ العوالمة، الرقابة المالية العامة :مدخل نظامي مقارن، مجلة الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، حدة ،1990، ص 57.(1/29)
والتفلت من تأدية الفرائض المالية الواجبة بتورط بعض أعوان الإدارة الجبائية و تغطيتها، الأمر الذي يعمق التفاوت و الظلم و إنعدام العدالة أثناء عمليات التحصيل والجباية، ويكون دور الحسبة المالية حاسما في منع هذه الانحرافات بأقل التكاليف لما يترتب عن التدخل الرقابي السريع من تحقيق التوازن و العدالة ، و زيادة في الموارد ووفرة في الحصيلة بسبب تقليص حجم الاقتصاد الموازي وانكشاف حجم الثروات الفعلية في الاقتصاد الرسمي نتيجة لانتشار مناخ العدالة الاقتصادية.
2- مراقبة عمليات الصرف و الإنفاق
لقد أصبح السلوك التبذيري للموارد العامة السمة المميزة للإنفاق العام بمعظم الإدارات على كافة المستويات، و أضحت الوظيفة العامة وسيلة أساسية لبروز نخبة جديدة من الملاك و أصحاب الامتيازات في معظم البلدان العربية و الإسلامية، فتدني الأجور و المرتبات من جهة و الضعف المؤسساتي و القانوني و الرقابي من جهة أخرى، جعلا الإمكانية متاحة لتحويل الموارد العامة، و استغلال الوظيفة العامة للحصول على ريوع إضافية مكملة للأجور، و يتم كل هذا في ظل الفراغ الرقابي .
و بالتالي فإن الضرورة ملحة للحد من هذا الهدر المالي بإعادة الاعتبار للحسبة المالية التي تقوم بالمتابعة المباشرة و الرقابة الدائمة لعمليات الصرف و الإنفاق للموارد المالية العامة و المحلية.(1/30)
رقابة تنبه إلى الاختلالات في السلوك الإنفاقي وما يصاحبها من هدرو تبذير أو تقتير و محاباة وتؤكد على أهمية تامين مستويات مناسبة من الأجور والرواتب في الوظائف الرسمية للتقليل من الانحرافات والفساد الاقتصادي الذي يرتبط بتحسين مستوى الحياة بطرق غير شرعية لدى بعض النخب في الإدارات العامة هذا من جهة وكذا الحفاظ على الكفاءات في الوظائف العامة في مؤسسات الدولة من الانتقال والنزوح الوظيفي للقطاعات الأخرى من جهة ثانية وهذا ما أكده تقرير البنك الدولي: "ومن ثم فان الفساد يرتبط غالبا ارتباطا إيجابيا بالفرق بين مرتبات القطاعين العام والخاص أو مما يمكن أن يسمى "معدل الإغراء" غير أن مجرد زيادة رواتب موظفي الخدمة المدنية قد لا يؤدي إلى الحد من الفساد، ذلك أن إصلاح الأجور ينبغي أن يقترن بالرقابة الفعالة وتنفيذ القوانين" (1) الخ ... الأمر الذي يؤدي عبر الزمن التي ترشيد الإنفاق العام و المحلي، فترتفع كفاءة استخدام الموارد العامة و المحلية .
و نحن إذ نؤكد على ضرورة الرقابة العامة المستقلة للحسبة المالية لأننا نلاحظ في الواقع كيف أضحت الموارد العامة تحصيلا و إنفاقا، مجالا واسعا للتبذير
__________
(1) 34) ... البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1997: الدولة في عالم متغير، مركز الاهرام ط 1، 1997، ص 114.(1/31)
والاستئثار والاستحواذ في ظل عدم قدرة الهيئات الرقابية الأخرى على الحد من تطور الفساد المالي، بحكم ضعف سلطاتها و طول عمليات إجراءاتها الرقابية، و تزايد ارتباطها بالفساد الإداري المؤسساتي القائم . في حين نجد بأن استقلالية مؤسسة الحسبة و انكشاف إجراءاتها و شفافية رقابتها و سرعة متابعتها للتطورات الواقعية، و ارتباط حركيتها الميدانية بالجوانب المعنوية و العقائدية و الأخلاقية، أمور تجعل كفاءة هذه المؤسسة ترتفع في حفظ الموارد العامة و المحلية، فتكمل بذلك الجهود الرقابية القائمة و تسد هذا الفراغ الرقابي الحاصل حاليا .
و نعقد بأن تكاليف إقامة هذا الفرع الإحتسابي ستكون أقل من تكاليف التبذير الحالية مقارنة مع المكاسب المتوقعة الناتجة عن قدرتها على التخفيض المضطرد من الإنحرافات الكبيرة الحالية في استخدام المواد المالية العامة، المحلية.
خامسا : مراقبة عمليات إقامة القاعدة الهيكلية وتنمية البنية الأساسية المؤسسية والقانونية
1- مراقبة عمليات تنمية القاعدة الهيكلية وصيانتها وترشيدا استخدامها والانتفاع بها
إن تنمية القاعدة الهيكلية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية جزء لا يتجزأ من عملية التنمية الشاملة، و نجاح الدولة مرتبط بمدى كفاية قاعدتها الهيكلية
و بنيتها الأساسية، فالبنية " الأساسية الجيدة تزيد الإنتاجية، و تقلل تكاليف الإنتاج "(1) و تحسن ظروف الإنتاج و تسهل شروط الحياة .
1-1- دور مؤسسة الحسبة المتعلق بالقاعدة الهيكلية الاقتصادية
إن مؤسسة الحسبة ليست مسؤولة مسؤولية مباشرة على تنمية وصيانة القاعدة الهيكلية الاقتصادية لكن الدولة و الهيئات الوصية التابعة لها معنية بتطوير الفروع المتعلقة بها من طرق و جسور و موانئ و سدود و ترع و شبكات كهربائية و غاز
__________
(1) 35) ... تقرير عن التنمية في العالم 1994 ، البنية الأساسية من أجل التنمية، البنك الدولي، 1994، ص 12، 13 .(1/32)
وهاتف ومياه. فالدولة مكلفة بالإشراف على عملية إقامتها وتنظيم عمليات الانتفاع بخدماتها ولقد بينت التجربة السابقة في العديد من البلدان الإسلامية خلال مسيرتها الحديثة بأن التدخل في اطار الاستراتيجيات الوضعية ترافق مع تدهور كفاءة الاداء التي تجلت في سلبيات عديدة منها:" عدم كفاءة التشغيل والصيانة غير الكافية والاعتماد المفرد على الموارد المالية، والافتقار إلى الاستجابة لاحتياجات المستخدمين والمنافع المحدودة التي تعود على الفقراء والمسؤولية البيئية غير الكافية " (1) وانتشار منكرات عديدة متعلقة بتطور الفساد الاقتصادي في مجال التعاقدات الانجازية لمرافق البنية الأساسية، وإبرام صفقات المشتريات الحكومية اللازمة للإدارات والمرافق العامة.
ولهذا فان الأمر يتطلب إشراك القطاع التكافلي الوقفي والقطاع الخاص في عمليات الإنجاز وتأدية الخدمات العامة عن طريق صيغ التعاقد التي تخفظ التكاليف وهذا يحتاج إلى تفكيك الحزمة الاحتكارية لمكونات البنية الأساسية من قبل الدولة وتطبيق المعايير التجارية التنافسية بين الذين يقدمون الخدمات ويقومون بأعمال الإنجاز أو التشغيل والصيانة إضافة إلى تمكين المنتفعين والمستفيدين من المشاركة ضمن الأطر المؤسسية التي تمكنهم من الإشراف على الانجاز والرقابة المتعلقة بالمرافق والخدمات التي سيستفيدون منها وتلعب الرقابة الاحتسابية دورا هاما في هذه المجالات.
__________
(1) 36) ... محمد عمر شابرا، الاسلام والتحدي الاقتصادي، ترجمة محمد زهير السمهوري، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 1996، ص400.(1/33)
ويتأكد دور مؤسسة الحسبة عند تقصير تلك الهيئات عن القيام بمهامها التنموية للقاعدة الهيكلية، و جهودها الصيانية، فينتقل دورها من الرقابة التنبيهية التوجيهية إلى المشاركة في إلزام الجهات المسؤولة للقيام بالعمليات الاستثمارية المطلوبة للتطوير و الإنجاز أو للصيانة و الترميم ، و ذلك حسبا لدرجات التقصير أو مستويات القصور من جهة أخرى، و في هذا المجال يؤكد القاضي أبو يعلي دور المحتسب فيما يتعلق بالحقوق العامة و المصالح المرتبطة بها قائلا: " فكالبلد إذا تعطل شربه،
أو استهدم سوره ... فإن كان في بيت المال ... أمر بإصلاح شربهم و بناء سورهم ... فإذا ما أعوزت بيت المال ... كان الأمر ... متوجها إلى كافة ذوي المكنة منهم فإن شرع ذو و المكنة في عمله ... سقط عن المحتسب حق الأمر به "(1) ويقول ابن جماعة : " ومنه النظر في الشوارع والمجاري والمنافع " (2).
و الملاحظ في واقعنا الحالي يرى حالة الفراغ الرقابي الرهيب فيما يتعلق بالقاعدة الهيكلية الاقتصادية خاصة في مجال الرقابة على أنشطة الصيانة و الترميم و الإصلاح، الشيء الذي يؤدي إلى تحمل المجتمع تكاليف الإهمال و التهاون بإنفاق أكبر على التجديد و الإحلال بسبب انعدام العناية الملائمة بالبنية الأساسية لعدم وجود رقابة خارجية للجهات المعنية، و من المعلوم بأن " إنقاص الإنفاق على الصيانة هو توفير زائف لأن الصيانة غير الكافية تقصر عمر المرافق"، فتلعب مؤسسة الحسبة دورا حيويا في هذا المجال في إطار التكامل و التنسيق و التعاون مع سائر الأطر المؤسسية للدولة في الاقتصاد الإسلامي.
1- 2- دور مؤسسة الحسبة المتعلق بالقاعدة الهيكلية الاجتماعية و الثقافية والتعليمية
__________
(1) 37) ... القاضي أبو يعلي الفراء، ص 289 .
(2) 38) ... راجع كذلك رأي ابن جماعة في كتاب د. نقولا زيادة، مرجع سابق ، ص93.(1/34)
يمتد دور مؤسسة الحسبة إلى مراقبة مدى كفاية القاعدة الهيكلية الاجتماعية و الثقافية و مستوى صيانتها و حمايتها و تطويرها لتناسب مع محتوى المصالح العامة التي تهدف إلى تحقيقها، فيزداد دور الرقابة التوجيهية التنبيهية فيما يتعلق بمرافق البنية الأساسية من مؤسسات وقفية تكافلية و مستشفيات و مدارس و مساجد و جامعاتومراكز ثقافية . . . الخ .
فتتولى مؤسسة الحسبة الاجتماعية الرقابة على المؤسسات الوقفية الخيرية التكافلية و متابعة عمليات تنميتها و صيانتها و تتأكد من مدخليها و مصاريفها
ونفقاتها لضبطها و ترشيدها، و تعمل على تيسير و تمكين الفئات المستحقة من الانتفاع بخدماتها و قد أشار معظم كتاب الحسبة إلى هذه الجوانب، فنص أحدهم على أن مؤسسة الحسبة تنمي : " أموال الأوقاف بملاحظة أصولها، والمحافظة على ريعهاومحصولها، و إمضاء مصارفها على شروط واقفيها" (1)، و رغم قيام مؤسسة الأوقاف بدورها في إدارة شؤونها إلا أن مؤسسة الحسبة تقوم بالرقابة التوجيهية التحرزية منعا من حدوث الهدر في الموارد التكافلية أو وقوع الإجحاف في توزيع منافعها
و لما كانت التربية السليمة و التكوين العلمي والمعرفي من أوجب الأولويات المجتمعية التي تساعد على الانطلاق الجدي للجهود التنموية، و كان الجهل و الأمية
والتأخر العلمي هلاكا للمجتمع و إخلالا بمكانته الحضارية، فإن مؤسسة الحسبة تتأكد من مدى كفاية مرافق البينة الأساسية الثقافية والتعليمية في تحقيق الأهداف المطلوبة، و تتدخل لضمان سلامة رأس المال الثقافي و حسن إستغلاله، و إستكمال النقص بتنبيه الهيئات إذا كانت إمكانياتها تسمح بذلك، أو بأمر القادرين بذلك أن عجزت موارد الدولة التي تتحرك في إطار الأولويات عن إرتياد هذه الميادين .
2- مراقبة عمليات توفير البنية الأساسية المؤسسية والقانونية
__________
(1) 39) ... عبد الرحمان الفاسي، المرجع سابق ، ص 34 .(1/35)
ان هذه الوظيفة من أهم الوظائف التي تقوم بها الدولة لأنها تمثل الإطار القبلي لتثمين الجهود التغييرية وتفعيل الانطلاقة الصحيحة لعملية التنمية في الاقتصاديات الإسلامية، فكم من الجهود تبددت بسبب ضعف المؤسسات وإستشراد الفساد في أجهزتها وكم من المشاريع التي عطلت أو ألغيت ؟ وتحمل المجتمع من جراء ذلك تكاليف كبيرة نتيجة لتغيب القوانين وتجاوز الهيئات.
إن هذا الوضع يتطلب معالجة جدرية من خلال إيجاد المنظومة المؤسسية الكفؤة فينبغي:" للمصلحين في أنحاء العالم تطبيق هذا الدرس بإعادة تركيز الانتباه على القدرة المؤسسية والمهمة عاجلة... وان قدرة الدولة لها أهمية محورية في توفير إطار مؤسسي سليم للتنمية" (1)
كما أن الأمر المكمل للإطار المؤسسي هو توفير القوانين الملائمة التي تتميز بشفافيتها بحيث لا تفتح المجال للتفسير البيروقراطي، وإيجاد القواعد واللوائح المرنة والشفافة التي تصان في ظلها الملكيات الخاصة والعامة وتكفل في إطارها حرية النشاط الاقتصادي.
ونعتقد بأن من بين أهم المجالات الاحتسابية الجديدة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتعلق بالمنظومة المؤسسية والقانونية وإجراءاتها الميدانية للتقليص من مظاهر الفساد الكبير الذي يرتبط بادارة المؤسسات والتطبيق الانتقائي للقوانين.
سادسا : توجيه السلوك و ضبط الآداب و رعاية الحقوق الأساسية بالمجتمع
يمتد النشاط الاحتسابي الرقابي إلى الميادين التي تحسن حركية السلوك الإنساني الفردي و الجماعي وتضبط الآداب العامة بالمناطق الحضرية، و تحمي الحقوق الأساسية الفردية و الجماعية . الأمر الذي يجعلها تحافظ على الخصائص الحضارية و الثقافية المميزة للمجتمع حتى لا يفقد هويته، و يحافظ على نمطه الحياتي الخاص، ليكون بذلك عامل جذب و إستقطاب و تأثير في ميدان التعارف و التعاون
__________
(1) 40) ... تقرير عن التنمية في العالم، 1997 ص41.(1/36)
والمشاركة مع غيره من المجتمعات المختلفة الخصائص الثقافية و الاجتماعية .
1- توجيه السلوك الإنساني و ضبط الآداب العامة
إننا نلاحظ مدى استشراء الفساد الاجتماعي في معظم التجمعات الحضرية في المدن و الأرياف في أغلب البلدان العربية و الإسلامية، و أضحت تكاليف إستمرار هذه الأوضاع كبيرة، سواء من الناحية الاقتصادية، أو من الناحية الحضارية، لما يترتب عن ذلك من فقدان الهوية و زعزعة للاستقرار الاجتماعي، وضعضعة لأسس التماسك،
وضياع للقيم الإيجابية المجتمعية. و قد عجزت المؤسسات القائمة على التحكم الإيجابي في الحركية التعاملية المجتمعية و ذلك لأن الفراغ الناتج عن تغييب مؤسسة الحسبة
وإلغائها لم تشلغه المؤسسات الحديثة، الأمر الذي يتطلب ضرورة بعث فرع الحسبة الاجتماعية لتقوم بدورها الحيوي في توجيه السلوك الإنساني الفردي و الجماعي
وتطويعه و أقلمته و ضبط الآداب الاجتماعية للارتقاء بمجتمعاتنا إلى أفضل مستويات الأناقة الاجتماعية، التي تحقق من خلال الرقابة التحسينية للسلوك وهذا ما عبر عنه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بقوله: " وهي عندي ماكان بها كمال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئة ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبا في الاندماج فيها أو التقرب منها " (1) فتكون بذلك نموذجا للتقدم الاجتماعي الذي يجسد خصوصية المجتمع و قيمته، خلافا للوضع الحالي الذي أضحت فيه مجتمعاتنا ميدانا لنمو الإنحرفات المتوطنة و ساحة لتمثل الآفات الاجتماعية الوافدة
__________
(1) 41) ... محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الاسلامية، الشركة التونسية للنشر والتوزيع،1985، ص82.(1/37)
فمهمة الحسبة الاجتماعية هو مراقبة الحياة الاجتماعية اليومية لتنمية السلوكات الإيجابية و منع المنكرات و الانحرافات السلبية، و بينت التجربة الحضارية لتطبيق هذه المؤسسة في الميدان الاجتماعي بأن المحتسب كان يشرف على : " أخلاق أفراد المجتمع، كما يحرص على توافر الأمانة و الأدب بينهم، و المخالفات المفروض أن يمنعها هي على وجه العموم ... خرق السلوك المستقيم ... " (1).
فكثير من الأمور تستدعي سرعة الفصل وعدم إنتظار إجراءات القضاء أو تحقيقات الأمن حتى لا يعم الفساد و تنتشر الانحرافات، عن طريق جهاز رقابي فاعل
ومستقل يمارس الاحتساب في الميدان الاجتماعي .
2- رعاية الحقوق الأساسية بالمجتمع
يمتد النشاط الرقابي الإحتسابي في المجال الاجتماعي إلى رعاية الحقوق الأساسية ومن أهمها:
أ الحقوق المدنية والشخصية والحريات المتصلة بها وتشمل الحق في الحياة والحريات المتعلقة به والحق في الامن وحرمة المسكن وخصوصياته...
ب لحقوق والحريات الفكرية والمعنوية وتشمل حق التعبد وممارسة الشعائر وحرية الاعتقاد والحق في الاختلاف وحق التعلم وحق الدعوة وحرية التبليغ...
جـ- الحقوق والحريات الثقافية ومنها حق المجتمع في الحفاظ على خصوصية الثقافية الفردية والجماعية، وحقه في
تواصله الثقافي، وحق الفرد في المشاركة الثقافية وممارسة حرياته الثقافية في إطار مجاله الحضاري.
د- الحقوق والحريات الاقتصادية ومنها كفالة حق الفرد وحريته في مزاولة النشاط الاقتصادي في ظل الضوابط الشرعية عن طريق ضمان حقوق الملكية الخاصة والحريات المرتبطة بها مثل الحقوق المتعلقة بالاستغلال والاستعمال و التصرف، وكذا حقوق الاستثمار والإنتاج والاستهلاك والحريات المتعلقة بذلك، والحق في العمل والأجر المناسب والحماية من الأخطار...
__________
(1) 42) ... سهام مصطفى أبو زيد، مرجع سابق ص= 187 .(1/38)
هـ- الحقوق والحريات الاجتماعية ومنها الحقوق والحريات التي تقع في دائرة الأسرة وتشمل الحق في الزواج وتكوين أسرة، وحقوق الأطراف الأسرية والقرابية كحقوق الأبوة و الطفولة والأمومة والتنشئة الأسرية، وكذلك الحقوق والحريات التي تقع في دائرة المجتمع الواسعة ومنها حق الضمان الاجتماعي وحق التكافل الاجتماعي، اللذين في إطارهما تتأكد الحماية الجماعية لأعضاء المجتمع من العجز، والشيخوخة والترمل والأمراض والآفات الاجتماعية، وكذا الحقوق الجوارية والقرابية الخ...
و الحقوق والحريات القضائية والقانونية والسياسية وهي تلك التي تمكن كل فرد في المجتمع من العيش في مأمن من مخاطر الظلم والاعتداء والتهميش، ولعل من أهمها الحق في العدل، والحق في دفع الظلم والتعسف والحق في المساواة أمام القانون وأمام القضاء، وفي تولي الوظائف العامة، والحق في الانتفاع بالخدمات والمرافق العامة، والحق في التقويم والانتقاد الصحيح البناء ورفض الظلم والاضطهاد...
إن رعاية هذه الحقوق والحريات المرتبطة بها مسؤولية العديد من المؤسسات في المجتمع الإسلامي، إلا أن لمؤسسة الحسبة تؤدي دورا أساسيا في مراقبة وتوجيه النشاط المجتمعي، بما يضمن إتاحة هذه الحقوق بصورة تساهم في تدعيم عنصر الثقة والاطمئنان، والاستقرار والتماسك داخل المجتمع، مما يؤدي إلى تماسك جبهته الداخلية وتنامي قدراتها في مواجهة التحديات الخارجية، وهناك أمثلة كثيرة للدور الذي كان يلعبه المحتسب في هذه الميادين من واقع تجربتنا الحضارية.
- - -
المحور الثالث
المكانة التنظيمية الإدارية لمؤسسة الحسبة
ودورها في القضاء على الفساد الاقتصادي
أولا : الخصائص المميزة للمكانة التنظيمية الإدارية لمؤسسة الحسبة
تتميز مؤسسة الحسبة، بمجموعة من الخصائص التي تبرز مكانتها المؤسسية التنظيمية والإدارية نذكر منها :(1/39)
1- طابع الخصوصية الحضارية لمؤسسة للحسبة ، فهي من المؤسسات التي نشأت في ظل مسيرة التقدم الحضاري للمجتمعات الإسلامية و هي تجسيد لملامح التميز و الاستقلال و الخصوصية للأمة الإسلامية.
2- الطابع الرسمي العام للحسبة، فهي إحدى مؤسسات الدولة التي تقوم بتأدية مهام ووظائف متكاملة في رقابة وتوجيه الأنشطة المجتمعية.
3- الطابع الإلزامي لوجود مؤسسة الحسبة في المجتمع لأهمية الوظائف التي تقوم بها في تصويب مسيرة التنمية و التقدم، فتأسيسها من قبل الدولة فريضة شرعية لتأدية مهمة إبراز طبيعة المجتمع الإسلامي و هي كذلك ضرورة موضوعية للتقليل من مظاهر الفساد الاقتصادي و التفكك الاجتماعي، و الاغتراب الثقافي، و الانحراف المرتبط بالعلمنة السياسية في الواقع الحياتي المعاصر في البلدان الإسلامية.
4- خاصية إستقلالية مؤسسة الحسبة في تأدية الوظائف الاحتسابية الرقابية بعيدا عن الهيمنة السياسية أو الضغوط و التجاوزات البيروقراطية التي تعد كذلك من مجالات الحسبة الرقابية المعاصرة، الأمر الذي يتيح لها مزيدا من الحرية في ترشيد حركية المجتمع التطورية .
5- خاصية التنوع و التكامل و الشمول لمؤسسة الحسبة، فتتنوع مهامها
وخصائصها و وظائفها، و تتكامل مع مؤسسات المجتمع الأخرى، و تتميز بالشمول في تغطية الأنشطة المجتمعية و مستجداتها.(1/40)
6- خاصية وحدة العمل الرقابي عن طريق جهاز فعال يتولى توجيه و مراقبة حركية الأنشطة المجتمعية المتنوعة، خلافا للوضع القائم حاليا في الاقتصاديات الحديثة المتقدمة والنامية والإسلامية منها على الخصوص، حيث نلاحظ تفكك العمل الرقابي و عدم تكامله الأمر الذي كرس الأزدا وجيه الرقابية في تغطية بعض الأنشطة، والتعددية لبعضها الآخر و الإغفال أحيانا لبعض الميادين، فكان التضارب و عدم الفعالية و الفراغ الرقابي مظاهر بائنة في تنامي الأنشطة الانحرافية لاقتصاديات الفساد و السلوكات السلبية المرتبطة بها و التي أصبحت تكاليفها عبئا متزايدا يتحمله المجتمع. و وحدة العمل الرقابي في إطار مؤسسة الحسبة تتجسد في الواقع عن طريق تنظيم الأعمال الرقابية و التنسيق بينها و توحيد عملية الإشراف عليها من خلال المدخل الأخلاقي القيمي والعقائدي المعنوي في المنظور الإسلامي.
7- خاصية السرعة في إتخاذ الإجراءات المتعلقة بالقضاء على المنكرات وأشكال الفساد و الاختلالات بخلاف الهيئات الأخرى التي تتميز بطول مدة تدخلها وتعقد إجراءاتها، وهناك أمور تستدعي سرعة
8- الفصل حتى لا يعم الفساد وتزاد إنعكاساته السلبية ولهذا تعد مؤسسة الحسبة الاداة الفعالة للمتابعة الآنية السريعة في مجال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في كافة ميادين الحياة الانسانية الفردية والجماعية فيما لا يتعارض مع غيرها من مؤسسات.
ثانيا : الجدوى الحالية لمؤسسة الحسبة الرقابية في القضاء على الفساد الاقتصادي
إن إستشراء الفساد و إنتشار الانحرافات و المنكرات المرتبطة به أضحى من أخطر المظاهر التي تهدد الاستقرار الاجتماعي و السياسي، و تعيق مسيرة التحولات الاقتصادية، الأمر الذي يستدعي ضرورة بعث مؤسسة الحسبة لتتكفل بالقضاء التدريجي على أشكال الفساد، و تعيد الوجه الحضاري اللائق الذي يميز مجتمعاتنا ويبرز الحركية الإيجابية لقيمها الاجتماعية و مبادئها الاقتصادية.(1/41)
فقد باتت الضرورة ملحة لاستكمال بعث مؤسسة الحسبة كإحدى المؤسسات التي تشكل المنظومة المؤسساتية التي يتميز بها الاقتصادي الإسلامي، هذه المؤسسة التي عطلت أثناء فترة الاستعمار الغربي الذي اجتاح معظم دول العالم الإسلامي، فحرمت و استمر تغييبها بعد الاستقلال في ظل المحاولات الفاشلة لتطبيق مناهج التحديث التغريبي، هذه الإقتصادات من جدواها الاقتصادية و الحضارية
والاجتماعية، دون أن يسد الفراغ التوجيهي و الرقابي الذي ترتب عن تعطيلها أو يقلل من التكاليف الكبيرة الناتجة عن تطور آليات الفساد الاقتصادي.
1- الجدوى الاقتصادية الحالية لمؤسسة الحسبة الرقابية
إن قيام مؤسسة الحسبة بدورها التوجيهي و الرقابي سيؤدي حتما إلى تخفيض التكاليف الحالية التي تتحملها معظم الاقتصادات العربية و الإسلامية، و منها :
1-1- تخفيض التكاليف المرتبطة بانتشار الفساد الاقتصادي و الانحرافات المترتبة عنه و ما يرافقها من انعكاسات سلبية لها آثارها التكاليفية مثل تكاليف إضعاف الحافز نحو الاستثمار، و تكاليف تأخير إنجاز المشاريع،و تكاليف حرمان رؤوس الأموال المحلية و الأجنبية من الانسياب نحو منافذ الاستثمار دون الدخول في حلقة المعوقات البيروقراطية، و تكاليف إضعاف المنافسة و خلق الفرص الاحتكارية للاقتصاد الموازي المرتبط بالأطراف المتنفذة المنمية لاقتصاديات الفساد ، و تكاليف الهدر المتعلقة بالإيرادات العامة و المحلية و تكاليف الإسراف و التبذير المرتبطة بالنفقات العامة و المحلية، و تكاليف تدهور كفاءة الحرف و المهن و الوظائف و تدهور مستويات الجودة و الإتقان، و تكاليف تطبيع الرشوة التي تحولت إلى عنصر من عناصر التكاليف يتحملها المتعامل وينقل عبؤها للمستهلك ... الخ.(1/42)
1-2- ان وجود مؤسسة الحسبة يساهم في زيادة عوائد الاقتصاد الوطني الناتجة عن رفع كفاءة الأداء، و زيادة إنتاجية عناصر الإنتاج، و سيادة المناخ الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي الايجابي المحفز الذي يساعد على إحداث حركية اقتصادية إيجابية .
و لذا نرى بأن العوائد التي ستنتج عن إقامة مؤسسة الحسبة الرقابية ستفوق التكاليف المتعلقة بتوطين جهازها المؤسسي، و لا غرابة إذا وجدنا بأن إنشاء أجهزة الرقابة المستقلة، و دواوين المظالم و غيرها من الهيئات الخاصة للحد من الفساد، أصبحت من المطالب التي تؤكد عليها بعض المؤسسات الدولية الكبرى كالبنك الدولية والمنظمات الحديثة على المستوى الدولي التي انشئت بغرض مناهضة الفساد
و آلياته.، فإذا افترضنا بأن ع : تمثل إجمالي العوائد الناتجة عن إعادة بعث مؤسسة الحسبة
و أن ع1 : تمثل العوائد الناتجة عن تخفيض تكاليف الفساد و الوفورات المرتبطة بقليل الانحرافات و الممارسات السلبية .
ع2 : تمثل المنافع الناتجة عن تحسين الأداء و العوائد المتعلقة بزيادة الإنتاجية
و أن ك : تمثل إجمالي تكاليف إعادة بعث و تنشيط مؤسسة الحسبة.
فستكون : ع = ع 1 + ع 2 + ع3
بحيث أن : ع < ك
و نتوقع بأن تكون ع = (ع 1 + ع2 + ع3 )-ك <0 وهذا يؤكد الجدوى الاقتصادية الحالية لإقامة هذه المؤسسة الحيوية.
2- الجدوى الحضارية و الاجتماعية لمؤسسة الحسبة الرقابية
إن المنهج الغربي يقوم على أساس عولمة خصوصيته الحضارية و يسعى بموجب ذلك إلى تهميش النماذج الحضارية الأخرى بتحطيم قاعدتها الاقتصادية المادية في ظل منافسة احتكارية تكتلاتية غير متكافئة مع دول ضعيفة و مؤسسات اقتصادية أضعف، و لهذا فإن من مصلحة الإنسانية اليوم أن تشهد ظهور نماذج تنموية حضارية أخرى يكون فيها التعاون و التكامل بديلان للصراع و الهيمنة الذين يكرسان الأحادية الحضارية.(1/43)
فهناك ضرورة موضوعية لتنمية الجوانب المادية و المعنوية التي تبرز ملامح خصائص المنهج الإسلامي وصولا إلى عالم تتطور فيه النماذج المجتمعية بعاداتها
وتقاليدها و أنواعها و أذواقها و أنماط حياتها فتتجسد روعة الحياة البشرية و تنوعها
وتتجلى أناقتها الحضارية، وقوفا في وجه محاولات التنميط الأحادي الحالي الذي يهدف إلى عولمة القيم الغربية و علمنه أيديولوجيتها و تديين نظرياتها و تعويم أنماط حياتها لخدمه حفنة من المضاربين و المرابين الذين يتحكمون في أسواق العالم
ويستحوذون على ثرواته.
فمهمة مؤسسة الحسبة الرقابية هامة و ضرورية في مجال ضبط السلوك الإنساني و توجيهه بشكل يقلل من الانحرافات الاجتماعية و يبني نمطا حياتيا يدعم الجوانب التي تظهر خصوصية المجتمع و تساعد على نموه المضطر في إطار المحيط الإقليمي و العالمي السائد، الأمر الذي يؤدي إلى تنامي الآثار الإيجابية الاجتماعية على الحياة الاقتصادية بصورة تعظم المنافع و تقلل من التكاليف الحالية التي يتحملها المجتمع في ظل الفراغ الرقابي الناتج عن تغييب مؤسسة الحسبة .
ثالثا : نحو هيكل تنظيمي لمؤسسة الحسبة لترقية دورها ورفع كفاءتها الاحتسابية
إن حجم الانحرافات المجتمعية و طبيعة التحديات التي تواجه عملية التغيير و الإصلاح أمور تستدعي أن تأخذ مؤسسة الحسبة وزنا تنظيميا و إداريا بحجم وزارة دائمة تسمى وزارة الحسبة و الرقابة تساعدها مؤسستان هما :
أ- المجلس الأعلى للحسبة و الرقابة
الذي يقترح الخطط الرقابية و مشاريع التوجيه الإحتسابي و يعد برامج تطوير مناهج الرقابة وصيغ الاحتساب ، و يقيم الأداء المؤسساتي لمختلف أجهزة وزارة الحسبة، ويقترح على ضوء ذلك البرامج التعليمية، و دورات الارتقاء التكويني بالموظفين ... الخ.(1/44)
و يتكون المجلس الأعلى للحسبة من مختصين وخبراء من مختلف القطاعات بما يضمن وجود تشكيلة متكاملة من الكفاءات التي تغطي ميادين العملية الاحتسابية الرقابية التوجيهية.
ب- المعهد الأعلى للحسبة
وهو مؤسسة علمية تهتم بتكوين الإطارات القادرة على القيام بوظيفة الاحتساب و مهمة الرقابة بمختلف التخصصات و بمستويات متنوعة حسبا لمتطلبات كل وظيفة و حاجات كل تخصص، كما تقوم هذه المؤسسة بمهمة علمية أكاديمية فتساهم في تطوير الأبحاث و الدراسات و الاجتهادات المتعلقة بالعملية الرقابية الاحتسابية .
و تتفرع وزارة الحسبة و الرقابة إلى ثلاث مديريات مركزية هي :
1- المديرية الوطنية للحسبة و الرقابة على النشاط المؤسساتي
و تقوم هذه المديرية بالعملية الاحتسابية على المؤسسات الوطنية و تتكون لهذا الغرض من الإدارات الفرعية المركزية التالية :
1-1- مديرية الحسبة الاقتصادية و المالية و النقدية
و تختص بالاحتساب و الرقابة على المؤسسات الاقتصادية، و المؤسسات المالية، و المؤسسات النقدية على المستوى الوطني، لتتأكد من سلامة أنشطتها من المخالفات الشرعية والموضوعية، و الانحرافات التي تخل بمستويات الأداء، و نلاحظ في الوضع الحالي فراغا رقابيا و إحتسابيا بجعل الكثير من هذه المؤسسات بمعزل عن الرقابة الخارجية المستقلة التي لها صلاحيات ترشيدية و توجيهية.
فهذه المديرية تساهم في رفع فعالية الأداء التنظيمي و الإنتاجي و الخدماتي لهذه المؤسسات العامة و الخاصة، المحلية و الأجنبية.
1-2- مديرية الحسبة التعليمية و التربوية(1/45)
و تخص بمتابعة العملية التربوية و التكوينية في المؤسسات التعليمية الوطنية، للتأكد من سلامة طرائقها و حداثه برامجها، و قدرة إطاراتها على تنشئة الأجيال القادرة على القيام بوظيفتها التغييريه التنموية و تأدية رسالتها الحضارية بكفاءة و لا يمكن لقطاع حيوي أن يبق بعيدا عن التوجيه و الترشيد الدائمين، في بداية هذا القرن الجديد الذي يتطلب موارد بشرية مدربة و محصنة و قادرة على مواجهة التحديات الحالية و المستقبلية .
1-3- مديرية الحسبة الاجتماعية
وتختص بالاحتساب و الرقابة على المؤسسات الاجتماعية الوطنية والمؤسسات الصحية الوطنية، و المؤسسات العمرانية الوطنية لتقوم بدورها بأقصى درجات المهارة و الإتقان و بأقل ما يمكن من التكاليف المالية و المادية و البيئية، و في الآجال المحددة لمختلف الشرائح و المصالح.
1-4- مديرية الحسبة الإعلامية الثقافية
و تختص بمراقبة النشاط الإعلامي الوطني بمختلف وسائله لتمكينه من تأدية دوره في أجواء الحرية، و المسؤولية، و الصدق، كما تتابع النشاط الثقافي لتخليصه من مظاهر التمييع و التسييس، و تحفيز الثقافة الجادة التي تبني الشخصية الفردية و الجماعية التي تتطلبها عملية التنمية الشاملة.
2- المديرية الوطنية للحسبة و الرقابة على السلطات العامة
يتوسع الجهاز المؤسسي للحسبة ليشمل الرقابة و الاحتساب على السلطات العامة الوطنية التي أصبحت معظم مؤسساتها محضنا للفساد الرسمي المموه تحت ستار الممارسات البيروقراطية و الإجراءات الإدارية التحكمية، و يمكن تقسيم أنشطة مديرية الحسبة و الرقابة على السلطات العامة إلى :
2-1- مديرية الحسبة السياسية(1/46)
و تختص بمراقبة الهيئة المنظمة التي تتولى ممارسة الحكم و إدارة شؤون الدولة، و تقوم بمتابعة أنشطتها بغية تحقيق كفاءة الأداء السياسي في ظل مناخ العدل وتكافؤ الفرص منعا للإستبداد، و التعسف في إستعمال السلطة أو الاستقواء بها على الخصوم و تحقيقا للتداول السلمي على السلطة و تصريفا للتدافع المتعلق بها بطريقة سلمية .
فتخضع للاحتساب السلطة السياسية و المؤسسات التي تشكل الخارطة السياسية لضمان الاصطفاء المناسب للبرامج و الكفاءات بما يجسد إرادة الأغلبية
ويصون حقوق الأقليات.
كما تعمل الحسبة السياسية على تنبيه الحكام الى الانحرافات وإرشادهم الى المخالفات التي تؤدي الى اضعاف الثقة في السلطة السياسية كل ذلك من أجل بناء قوة الدولة على تماسك جبهتها الداخلية والاقليمة.
2-2- مديرية الحسبة التشريعية
و تقوم بالرقابة و الاحتساب على السلطة التشريعية حتى تنسجم تشريعاتها مع خصوصية المجتمع و أهدافه العامة و مبادئه المذهبية منعا للمخالفات و التجاوزات التشريعية، و ضبطا للممارسات الرقابية للسلطة التشريعية.
2-3- مديرية الحسبة القضائية
و تهتم بمتابعة نشاطات السلطة القضائية الوطنية : و مراقبة رجال القضاء وكذلك حمايتهم من الضغوط الفوقية لتأدية وظيفتهم بنزاهة و أمانة و إنصاف،
وحماية المجتمع و أفراده من انحرافاتهم و ممارساتهم السلبية تحقيقا للعدالة و المساواة أمام القانون، من أجل إيجاد المناخ الملائم للارتقاء المجتمعي الذي لا يمكن أن يتحقق في ظل انتشار الظلم الذي يعد من أكبر معوقات عملية التغيير التنموي.
2-4- مديرية الحسبة الأمنية(1/47)
تعاني بعض البلدان الإسلامية من هيمنة الأجهزة الخاصة على الحياة السياسية و الاقتصادية، و تزايد تسلطها و تجاوزها لصلاحياتها و وظائفها، الأمر الذي أخل بأولويات و أهداف العملية التنموية، و أضحى يشكل مظهرا من مظاهر الانحطاط والتخلف، و لهذا تتوسع المهام الاحتسابية الرقابية لمؤسسة الحسبة الحديثة لتشمل إدارة تتكلف بمتابعة الانحرافات و الحد من الفساد الذي استشرى داخل المؤسسة الأمنية التي تفلتت من الرقابة المجتمعية في ظل الأنظمة الوضعية الحالية و أصبحت تشارك في توليد و إعادة إنتاج الفساد الاقتصادي، و من شأن هذا النشاط الاحتسابي أن يعظم الدور الحقيقي للمؤسسة الأمنية و العسكرية في توفير الأمن الوطني والإقليمي و الدفاع عن وحدة الوطن و سلامة المجتمع خاصة ونحن في وضع خطير تزايدت فيه التحديات الأمنية الاستراتيجية الخارجية الأمر الذي يضمن تحقق المناخ الضروري لعمليات التنمية الشاملة .
3- المديرية الوطنية للتسيير و الإدارة وتشتمل على
3-1- مديرية الموظفين
وتختص بتسيير الموظفين و إدارة كافة شؤونهم، و تطوير آليات التعاون بينهم، و تنمية طرق التكامل في القيام بالمهام الاحتسابية و تقييم دور المنظومة المؤسسية للحسبة الرقابية في القيام بدورها، من أجل رفع كفاءة الأداء الاحتسابي،
وتعمل باستمرار على تحديد الاحتياجات اللازمة من الموارد البشرية المطلوب تشغيلها،
وتقوم بعملية الاختيار و الانتقاء بالتنسيق مع المديريات المعنية .
3-2- مديرية المالية والميزانية
وتختص بتقدر الاحتياجات المالية وتحديد الميزانية التي تتطلبها عمليات تسيير وادارة مؤسسة الحسبة وتسهيل عمليات تدخلها، وكيفية تدبير مواردها المالية.
3-3- الاتصال والعلاقات(1/48)
وتهتم بتنظيم الاتصالات والعلاقات مع الأجهزة والدواوين المختصة وربط شبكة من العلاقات مع مؤسسات الدولة بصورة تؤدي إلى تفعيل عمليات الرقابة والتنسيق مع مختلف المصالح والجهات تلافيا للتعارض والتقارب والازدواجية.
3-4-مديرية التكوين والتوجيه
وتختص بتنظيم عمليات التكوين المستمر للوظائف الاحتسابية بما يتماشى مع تطور الأنشطة المجتمعية و مستجداتها .
و ينحدر الهرم التنظيمي التمثيلي لتلك المديريات الوطنية إلى المستوى الجهوي
والمحلي في تنسيق و تكامل لتأدية العملية الاحتسابية الرقابية عن طريق المديريات
والمفتشيات المختلفة بصورة تضمن كفاءة الأداء الذي يقلل من حدة الاضطراب
والفوضى في تأدية المهام و إنجاز الأعمال و تقديم الخدمات المجتمعية بما يساعد على رفع الإنتاجية القومية لمواجهة التحديات الحالية و المستقبلية ، و الشكل اللاحق يبين الهيكل التنظيمي الإداري لمؤسسة الحسبة الرقابية خاصة ونحن نعلم محدودية التجارب الحديثة لمأسسة الأنشطة الاحتسابية ضمن هيكل تنظيمي يشمل مختلف الوظائف التقليدية والحديثة التي تستوعب مستجدات الحياة المجتمعية .
- - -
الخاتمة :
لعبت مؤسسة الحسبة دورا حضاريا هاما في توجيه الأنشطة المجتمعية المتعددة لتنسجم مع منظومة الضوابط الشرعية والقيم الأخلاقية والعقائدية الإسلامية، وتعد من أهم مؤسسات الاقتصاد الإسلامي، وتتأكد مكانتها في الواقع الحالي للاقتصاديات الإسلامية التي إستشري فيها الفساد وتطورت آلياته وأضحت تقلل من مقدرتها التنافسية في عالم يزداد فيه الانفتاح والتحرير والعولمة الانتقائية.(1/49)
ولقد تبينت لنا المكانة الوظائفية للحسبة التي من خلالها يتم تفعيل وظائفها التقليدية وترقيه مجالاتها الحديثة المتعلقة بمستجدات الحياة الإنسانية في مختلف الميادين لتساهم في الأسلمة المتوالية للحياة الاقتصادية والاجتماعية وأخلقة السلوك الاقتصادي للارتقاء بمستويات الأداء الاقتصادي و تجاوز أوضاع التخلف وحالات التأزم التي تعاني منها الاقتصاديات الإسلامية.
وأن المكانة الوظائفية للحسبة لا يمكن إعمالها في الواقع الاقتصادي إلا من خلال إعادة بعث مؤسستها في إطار هيكل إداري متكامل له صلاحياته واستقلاليته ومكانته ضمن الأجهزة الهامة للدولة في البلدان الإسلامية.(1/50)