من أحكام الصيام
ـــــــ
يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلال رمضان، يقول تعالى:[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](البقرة:185).
أناط الله صيام رمضان بمن شهد الشهر، والشهر عادة يثبت بانقضاء الشهر الذي قبله أو برؤيته الهلال.
روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمّ عليكم فاقدروا له)(1).
الحديث نص صحيح صريح على تعليق وجوب الصوم في رمضان برؤية هلاله، ومفهومه النهي عن الصوم بدون رؤية الهلال، يقول الله تعالى:[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ](البقرة:189).
جعل الله الأهلة مواقيت للناس يعرفون بها أوقات عباداتهم ومعاملاتهم رحمة منه بعباده، حيث علق وجوب الصوم بأمر واضح وعلامة بارزة يعرفها سائر الناس، وليس شرط وجوب الصوم أن يرى الهلال كل الناس، بل إذا رآه بعضهم ولو كان شخصاً واحداً على الصحيح وهو عدل ثقة تمكن رؤيته لزم الناس كلهم الصيام إذا كان مطلعهم واحداً.
الثاني: مما يثبت به دخول رمضان (إذا لم ير الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً) يدل لذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه:(...فإن غمّ عليكم فاقدروا له)(2)، ومعنى اقدروا له أي إذا غطى على الهلال غيم أو قتر، وتعذرت رؤية الهلال فالواجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً يؤكد ذلك الرواية الصحيحة الصريحة، (فإن غمّ عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً)(3).
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص34)، مسلم (ج3 ص122).
(2) رواه البخاري (ج3 ص34)، مسلم (ج3 ص122).
(3) رواه البخاري (ج3 ص34)، مسلم (ج3 ص122).(1/1)
ولا يثبت دخول الشهر بغير هذين الأمرين إطلاقاً، ومن ادعى غير ذلك فعليه الدليل، وما يدعو إليه بعض المنتسبين للعلم من الاعتماد على الحساب أمر لا يقره شرع ولا عقل إذ الأمة الإسلامية من لدن مبعث نبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا وهي تعتمد على الرؤية، ولم تعمل بالحساب اتباعاً للرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم -، الذي يقول في الحديث الصحيح الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين)(1).
يقول ابن حجر تعليقاً على هذا الحديث المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضاً إلا النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير، واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً، ويوضحه قوله في الحديث الماضي:(فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)، ولم يقل فسلوا أهل الحساب.
والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع بينهم(2).
وبهذا يتبين أن الله جل وعلا حدد دخول الشهر بإحدى علامتين ظاهرتين يعرفهما العامي والمتعلم، وهما رؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، فمن جاء بشيء غيرهما يزعم أنه يعلم به دخول الشهر غير ما بينه الشارع فقد حاد الله ورسوله، وأوقع الأمة في الحرج المرفوع عنها بنص القرآن:[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](الحج:78)، لأن معرفة الحساب لا يعلمها إلا خواص الناس، فكيف نطالب الأمة بمعرفتها ونوجب عليها ما لم يوجبه الله ولا رسوله، سبحانك هذا بهتان عظيم.
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص35)، مسلم (ج3 ص124).
(2) فتح الباري (ج4 ص127).(1/2)
اللهم ارزقنا الاتباع وجنبنا الابتداع،ويسر لنا سبيل معرفة الأحكام على وجهها الصحيح، وجنبنا الزلل والشطط والقول عليك بلا علم، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ومن له حق علينا برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين(1).
صيام يوم الشك
ـــــــ
يحرم صيام يوم الشك ـ وهو يوم الثلاثين من شعبان ـ بنية الاحتياط عن رمضان، وذلك في حال الغيم أو القتر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح:(فإن غبي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين)(2).
ولقول عمار بن ياسر - رضي الله عنه - :(من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم محمداً - صلى الله عليه وسلم -)(3).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجلاً يصوم صوماً فليصمه)(4).
أحكام النية
ـــــــ
من الأمور التي لايقدرها بعض الصائمين حق قدرها نية الصيام، سواء من حيث وجود أصلها، أو من حيث تبييتها أو تعيينها، أو من حيث كونها جازمة غير مترددة.
ومحل النية القلب، والتلفظ بها بدعة، ومن استيقظ قبل طلوع الفجر وعقدها أجزأته إذ لا يلزم تبييتها قبل النوم، بل يكفي قبل الفجر، والصحيح من كلام أهل العلم أنه لا يصح صوم فرض بلا نية يدل لذلك قوله تعالى:[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ](البينة:5).
وقوله :(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى)(5).
والنية لها أهميتها الكبرى في الصوم، لأنها تعتبر الفيصل الحقيقي بين العبادة والعادة.
__________
(1) إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان ص10، الصوم د.رفعت عبد المطلب ص23.
(2) رواه البخاري (ج3 ص35)، مسلم (ج3 ص122).
(3) علقه البخاري (ج3 ص24) ووصله غيره.
(4) رواه مسلم (ج3 ص125).
(5) رواه البخاري (ج1 ص4)، مسلم (ج6 ص48).(1/3)
فالفرق شاسع بين أن يزاول المرء العبادة وهو يستشعر رضاء الله ويستصحب الحرص على طاعته وابتغاء وجهه خالصاً بحيث يصبح هذا الإحساس يقوده لطاعة الله رغبة ورهبة لا تشوب نيته شائبة في مخافة أحد سوى الله، أو طلب مدح أحد أو ثنائه، وبين أن تكون عادة يستمر عليها المرء خوفاً من العقاب الدنيوي لا طمعاً في رضا الله سبحانه وتعالى، وعبادة الصوم وحدها هي التي تقوي فيها الصلة بين العبد وربه إذ يستطيع في غفلة من الناس أن يأكل ويشرب إذا لم يراقب الله سبحانه وتعالى.
هل تكفي النية أول الشهر:
اختلف أهل العلم هل تكفي نية الصيام في أول شهر رمضان أم أن لكل يوم نية مستقلة، ولاشك أن الأحوط أن يكون لكل يوم نية مستقلة، لأن صيام كل يوم عبادة مستقلة.
إذا لم يعلم المسلم بخبر الصيام إلا بعد طلوع الفجر لزمه الإمساك من حين علم ووجب عليه القضاء، لأن فطره أول النهار معذور فيه إذ لم يعلم خبر الشهر إلا بعد طلوع الفجر.
وأما إلزامه بالإمساك فلحرمة الشهر وإلزامه بالقضاء، لأن صيامه جزءاً من اليوم لا يجزيه إذ لابد من صيام اليوم كاملاً منذ طلوع الفجر حتى غروب الشمس.
هل النية واجبة في الفرض والنفل:
تبييت النية واجب في الفرض فقط، وأما النفل فله أن يمسك ولو في وسط النهار ما دام لم يأكل ولم يشرب، ولم يأت مفطراً من المفطرات من طلوع الفجر، يدل لذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فيقول:(أعندك غداء)؟ فأقول: لا فيقول:(إني صائم)، قالت: فأتاني يوماً فقلت يا رسول الله أنه أهديت لنا هدية، قال: وما هي؟ قلت: حيس، قال: (أما أني أصبحت صائماً) قالت: ثم أكل)(1).
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص159).(1/4)
وفي هذا دليل صحيح صريح على أنه يجوز للإنسان أن يصوم صيام التطوع بنية من وسط النهار، كما أنه يدل دلالة صريحة على أن من بات صائماً صيام نفل يجوز له أن يفطر في وسط النهار قبل تمام صومه، وهذا من يسر الإسلام وسماحته ولله الحمد والمنة.
اللهم وفقنا لاتباع الهدى، وجنبنا أسباب الهلاك والشقاء، واجعل شهرنا شاهداً لنا يوم العرض، وأعنا فيه على طاعتك، وجنبنا طرق معصيتك، واختم لنا بالصالحات، وضاعف لنا الحسنات، وتقبل منا القليل، واعف الزلل والتقصير، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
مفسدات الصوم
ـــــــ
تتبعت كلام أهل العلم في المفطرات وحصرتها فوجدتها في الغالب لا تخرج عن ثلاث مجموعات هي:
المجموعة الأولى: الإفطار بما دخل إلى الجوف.
المجموعة الثانية: الإفطار بالأعمال الجنسية.
المجموعة الثالثة: الإفطار بما يخرج من الجوف.
وإليك بيان هذه المجموعات وما يدخل تحتها من المفطرات.
المجموعة الأولى: الإفطار بما دخل إلى الجوف:
(1) إذا أكل الصائم أو شرب عامداً ذاكراً لصومه فإنه يبطل، يقول الله تعالى:[وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ](البقرة:187).
فقد بينت الآية أن لا يباح للصائم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر حتى الليل ـ غروب الشمس ـ فمن أكل أو شرب خلال هذا الوقت فقد أبطل صيامه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(يذر طعامه وشرابه وشهوته من أجلي..)(2).
ويستوي في ذلك ما يتغذى به وما لايتغذى به.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (ج7 ص197)، المغني (ج3 ص91).
(2) رواه البخاري (ج3 ص31).(1/5)
قال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به، فأما مالا يتغذى به فعامة أهل العلم أن الفطر يحصل به)(1).
أما إذا أكل أو شرب ناسياً فصيامه صحيح، ويجب على من رآه يأكل أن ينبهه، وما شاع لدى العوام من عدم تنبيه الصائم الناسي لا أصل له، بل من رآه يأكل وهو يعلم أنه صائم ولم ينبهه فإنه آثم، لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدل لصحة صومه ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)(2).
(2) ويفطر بكل ما أدخله إلى جوفه مما ينفذ إلى معدته، إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز عنه سواء وصل من الفم أو الأنف لأن هذا يشبه الأكل والشرب(3).
(3) الإبر المغذية التي يكتفى بها عن الأكل والشرب، فإذا تناولها أفطر لأنها وإن لم تكن أكلاً وشرباً حقيقة فإنها بمعناهما، فثبت لها حكمهما.
فأما الإبر غير المغذية فلا تفطر لأنها ليست أكلاً ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب فلا يثبت لها حكمهما.
وهنا ينبغي أن يعلم أنه يرخص في تناول الإبر المغذية في نهار رمضان إذا اضطر إليها ولم يستطع أن يصبر إلى الليل، وحكمه هنا حكم المريض المرخص له في الفطر فيتناول الإبرة ويفطر، ويقضي ذلك اليوم تيسيراً من الله جل وعلا [وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ..] (البقرة:185).
ويتفرع عن ما سبق مسائل:
الأولى: إذا تسحر وهو يظن أن الفجرلم يطلع، فإذا هو قد طلع، أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت، فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه وعليه القضاء(4).
__________
(1) انظر: المغني (ج3 ص103).
(2) رواه البخاري (ج3 ص40)، مسلم (ج3 ص160).
(3) انظر: المغني (ج3 ص105).
(4) انظر: المغني (ج3 ص136).(1/6)
يدل لذلك ما روته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غيم،ثم طلعت الشمس، قيل لهشام فأمروا بالقضاء، قال: لابد من قضاء، وقال معمر: سمعت هشاماً لا أدري أقضوا أم لا(1).
قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، واحتج لهم بقوله: إنه أكل مختاراً ذاكراً لصومه، فأفطر كما لو أكل يوم الشك، ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان، ولأنه يمكن التحرز منه.
قلت: وفيه احتياط للعبادة ومنع لضعاف النفوس من التحايل على الفطر، وفيه مطالبة للمؤذنين أن يتثبتوا من غروب الشمس لئلا يوقعوا المسلمين في الحرج والعنت المرفوع عنهم شرعاً.
الثانية: إذا أكل شاكاً في طلوع الفجر ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء، وله أن يأكل حتى يتيقن طلوع الفجر(2).
والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أنه هنا لم يتبين له طلوع الفجر، أما في المسألة الأولى فإنه قد يتبين له أنه أكل أو شرب بعد طلوع الفجر.
الثالثة: وإن أكل شاكاً في غروب الشمس ولم يتبين فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار، وإن كان حين الأكل ظاناً أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل ولم يتبين فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بنى عليه، فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد ثم شك في الإصابة بعد صلاته(3).
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص47).
(2) انظر: المغني (ج3 ص136).
(3) انظر: المغني (ج3 ص136).(1/7)
اللهم يا جابر كسر المنكسرين، ويا مغيث الملهوفين والمستغيثين نسألك أن تقابل إساءتنا بإحسانك، وتقصيرنا بعفوك وامتنانك، اللهم سلمنا من نفوسنا التي هي أقرب أعدائنا، وامنن علينا بالتوفيق بعمل إليك يقربنا، واتمم علينا يا مولانا ما به أكرمتنا، وأدم علينا إحسانك كما عودتنا فها نحن عبيدك قد ألقينا نفوسنا بين يديك، وطمعاً بحسن وعدك وجميل رفدك فيما لديك، اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك، واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (1).
المجموعة الثانية: الأعمال الجنسية:
(1) الجماع يبطل الصوم ويوجب القضاء والكفارة إذا كان في نهار رمضان، وليس عند الصائم عذر يبيح فطره. يدل لذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال يارسول الله هلكت!! قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(هل تجد رقبة تعتقها؟) قال: لا، قال:(فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)، قال: لا، فقال:(هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟)، قال: لا، قال: فمكث عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينما نحن على ذلك أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر، والعرق: المكتل، قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذها فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول اله؟ فوالله ما بين لا بيتيها ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال:(أطعمه أهلك)(2).
__________
(1) التوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص13، بداية المجتهد (ج1 ص294) المجموع (ج6 ص280).
(2) رواه البخاري (ج3 ص40)، مسلم (ج3 ص139).(1/8)
ولعل الحكمة في إيجاب الكفارة والله أعلم أنه لما هجم على هتك حرمة شعائر الله وكان مبدؤه إفراطاً طبيعياً وجب أن يقابل بإيجاب طاعة شاقة غاية المشقة ليكون بين يديه مثل تلك فيزجره عن غلواء نفسه وجموح شهواتها)(1).
وقد نبه أهل العلم أن الكفارة إنما هي على من أبطل صومه في رمضان بالجماع من غير عذر.
أما في قضاء رمضان فليس عليه الكفارة إذا أبطل صومه بالجماع، بل عليه الإثم وقضاء ما أبطل.
قال الإمام مالك رحمه الله: سمعت أهل العلم يقولون: ليس على من أفطر يوماً في قضاء رمضان بإصابة أهله نهاراً الكفارة التي تذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن أصاب أهله نهاراً في رمضان، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم، وهذا أحب ما سمعت فيه إلي)(2).
والمرأة في ذلك كالرجل سواء بسواء، فمتى أفطرت بالجماع في نهار رمضان من غير عذر وجب عليها القضاء والكفارة، لأن ذلك نوع من المفطرات، فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل والشرب.
(2) ومتى قبَّل فأنزل أو باشر فأنزل وجب عليه القضاء، ولا كفارة لأنها خاصة بالجماع، لكن ينبغي للمسلم أن يتجنب مواقع الزلل فيبتعد تماماً عن أهله في نهار رمضان لأن كل ممنوع مرغوب.
وزاده كلفاً في الحب أن منعت ... *** ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
(3) وإذا استمنى فأنزل فسد صومه وارتكب جرماً خطيراً لأن الاستمناء باليد أو غيرها حرام في رمضان وغيره، ولكن الحرمة تشتد في رمضان لحرمة الزمان ووجوب الصيام، وهل تلزمه الكفارة؟ الصحيح المعتمد من كلام أهل العلم أنه لا تلزم إلا بالجماع فقط لورود النص خاصاً به.
(4) ومن أنزل من غير شهوة كالمصاب بمرض في الظهر، فهل يبطل صومه؟ قولان لأهل العلم؛ أصحهما أن صومه صحيح لأنه لا ذنب له ولم يفرط أو يتعد، بل هذا أمر خارج عن إرادته.
__________
(1) حجة الله البالغة (ج2 ص5).
(2) الموطأ (ج1 ص297).(1/9)
(5) وإن نام فاحتلم لم يفطر لأن هذا خارج عن إرادته والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وما جعل علينا في الدين من حرج.
(6) ويصح صوم الرجل والمرأة إذا أصبح الواحد منهم وهو جنب لما روته عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما:(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم)(1).
لأنه لما أذن في المباشرة إلى طلوع الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يجوز أن يصبح صائماً وهو جنب(2).
المجموعة الثالثة: الإفطار بما خرج من الجوف:
(1) التقيؤ عمداً: وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم يدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :(من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض)(3).
ولو حصل القيء بدون سبب منه فليس عليه شيء لأنه لا ذنب له، وهذا خارج عن إرادته، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
(2) إخراج الدم بالحجامة؛ ودليل ذلك ما رواه شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أفطر الحاجم والمحجوم)(4).
وفي معنى الحجامة إخراج الدم بالفصد، وإخراجه من أجل التبرع به.
ولهذا لا يسوغ للمسلم أن يتبرع بدمه في نهار رمضان إلا بشرطين:
الأول: أن توجد ضرورة ملحة كإنقاذ معصوم، ولا يوجد من يتبرع له من غير الصائمين.
الثاني: ألا يتضرر المتبرع؛ فمتى توافر هذان الشرطان جاز للشخص أن يتبرع بدمه في نهار رمضان ويفطر ويكون معذوراً وعليه قضاء ذلك اليوم.
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص38، مسلم (ج3 ص137).
(2) المهذب (ج1 ص181).
(3) رواه أبو داود (ج2 ص310)، والترمذي (ج3 ص79)، وابن ماجة (ج1 ص536)، وأحمد (ج2 ص498)، وسنده صحيح كما قال شيخ الإسلام في حقيقة الصيام ص14.
(4) رواه أبو داود (ج2 ص770)، والترمذي (ج3 ص144).(1/10)
أما خروج الدم بالجرح، أو قلع الضرس، أو الرعاف، أو أخذ الدم للتحليل إذا كان يسيراً فلا يفطر به لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذ لا يؤثر في البدن كتأثير الحجامة.
(3) خروج دم الحيض والنفاس يدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة:(أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)(1).
فمتى رأت دم الحيض أو النفاس بطل صومها، ولو كان قبل غروب الشمس بدقائق والله أعلم.
إخواني: حافظوا على الطاعات، وجانبوا المعاصي والمحرمات، وابتهلوا إلى فاطر الأرض والسماوات، وتعرضوا لنفحات جوده فإنه جزيل الهبات، واعلموا أنه ليس لكم من دنياكم إلا ما أمضيتموه في طاعة مولاكم، فالغنيمة الغنيمة قبل فوات الأوان، والربح الربح قبل حلول الخسران.
اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات، وشغلها بالأعمال الصالحات، اللهم جد علينا بالفضل والإحسان، وعاملنا بالعفو والغفران، اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، اللهم ارزقنا شفاعة نبينا، وأوردنا حوضه، واسقنا شربة لا نظمأ بعدها أبداً يارب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (2).
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص31).
(2) التوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص13، بداية المجتهد (ج1 ص294)، المجموع (ج6 ص280).(1/11)
تابع من أحكام الصيام
أحكام القضاء
ـــــــ
إذا أفطر المسلم يوماً من رمضان بغير عذر وجب عليه أن يتوب إلى الله ويستغفر لأن ذلك جرم عظيم ومنكر كبير يخشى عليه من مغبته والعياذ بالله، ووجب عليه مع التوبة والاستغفار القضاء بقدر ما أفطر بعد رمضان، ووجوب القضاء هنا على الفور على الصحيح من أقوال أهل العلم لأنه غير مرخص له في الفطر، والأصل أن يؤديه في وقته، فحكمه حكم تارك الصلاة عمداً والعياذ بالله.
أما إذا أفطر بعذر كحيض ونفاس ومرض وسفر وغير ذلك من الأعذار المبيحة للفطر فإنه يجب عليه القضاء غير أنه لا يجب على الفور، بل على التراخي إلى رمضان الآخر، لكن يندب له التعجيل في القضاء لأن فيه براءة لذمته من التكاليف الشرعية، ولا يتعين عليه القضاء فوراً إلا إذا بقي على رمضان القادم بقدر الأيام التي أفطرها فهنا يجب عليه القضاء على الفور إلا إذا كان تأخيره لعذر شرعي، كأن استمر سفره أو مرضه فلا حرج عليه وليس عليه إلا القضاء لو بعد رمضان الثاني.
أما إن أخره إلى رمضان الثاني بغير عذر كأن شفي من مرضه أو قدم من سفره ثم تساهل في القضاء حتى جاءه رمضان الثاني فهنا قال أهل العلم عليه مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم، ويبادر إلى التوبة والاستغفار عما اقترفه من التأخير، وقضاء رمضان لا يشترط فيه التتابع، بل يصح متتابعاً وغير متتابع ودليل ذلك قوله تعالى:[وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](البقرة:185). فلم يشترط سبحانه في هذه الأيام التتابع، ولو كان شرطاً في القضاء لبينه سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ما الحكم إذا مات وعليه قضاء من رمضان؟(2/1)
إذا مات المسلم وعليه قضاء من رمضان فلا يخلو إما أن يكون تمكن من القضاء وتساهل فيه، ثم مات قبل القضاء فهنا الصيام دين عليه يجب على وليه قضاؤه عنه سواء بالصيام عنه أو بالإطعام من تركته عن كل يوم مسكيناً يطعمه مداً من البر أو من غالب قوت البلد وزنته (5و562) غراماً، وإن أصلح طعاماً للمساكين بعدد الأيام ودعاهم إليه أجزأه، يدل على لذلك ما روته عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(من مات وعليه صيام صام عنه وليه)(1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء)(2).
أخي المسلم: اعلم أن الناس بالنسبة للقضاء ينقسمون ثلاثة أقسام:
(1) قسم يجب عليه القضاء فقط ولا فدية عليه، وهم: المريض، والمسافر، والحامل، والمرضع إذا خافتا على أنفسهما.
(2) وقسم يجب عليه الفدية فقط ولا قضاء عليه، وهم العاجزون عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه.
(3) وقسم يجب عليه القضاء والفدية، وهم الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، وكذا من أخر قضاء رمضان إلى رمضان بعده دون عذر فعليه مع القضاء الفدية، والله أعلم.
أرأيت أخي الصائم كيف شرع الله للمسلمين أحكام صومهم دون مشقة أو عنت، وهكذا تكاليف الإسلام ليس فيها شيء فوق طاقة المسلم لأن الله رفع عنا الحرج بمنه وكرمه [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](الحج:78).
أجل ذنوبي عند عفوك سيدي ... *** ... حقير وإن كانت ذنوبي عظائماً
فما زلت غفاراً وما زلت راحماً ... *** ... وما زلت ستَّاراً علي الجرائما
لئن كنت قد تابعت جهليَ في الهوى ... *** ... وقضيت أوتار البطالة هائماً
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص46)، ومسلم (ج3 ص155).
(2) رواه البخاري (ج3 ص46)، ومسلم (ج3 ص156).(2/2)
فها أنا قد أقررت يارب بالذي ... *** ... جنيت وقد أصبحت حيران نادما
فتب واعف عني يا إلهي تكرماً ... *** ... وكن بي يارب البرية راحماً
اللهم اجعلنا على الصراط من العابرين، وعلى حوض نبيك من الواردين، ولكأسه من الشاربين، وأعطنا صحائفنا باليمين، واجعلنا يوم العرض من الفائزين، اللهم درجاتنا، وامسح سيئاتنا، وثقل حسناتنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
صيام أهل الأعذار
ـــــــ
مرّ معنا طائفتين من طوائف الناس في الصيام:
الطائفة الأولى: يجب عليها الصوم وهم الأصحاء القادرون المقيمون السالمون من الموانع.
والطائفة الثانية: يباح لهم الفطر وأحياناً يستحب لها وأحياناً يجب عليها كما مر وهم المرضى والمسافرون.
والطائفة الثالثة: هم الذين يرخص لهم في الفطر مع الفدية، وهم الذين تشير إليهم الآية الكريمة:[وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ](البقرة:184).
وهم الشيخ الكبير، والمرأة العجور، والمريض الذي لا يرجى شفاؤه:
فهؤلاء يرخص لهم في الفطر إذا كان الصيام يرهقهم ويشق عليهم مشقة شديدة في جميع فصول السنة، وعليهم الفدية وهي إطعام مسكين كما حددت الآية ومقدارها مد من البر الجيد وزنته (5و562) غراماً حسب ما ظهر لي لأن الصاع يوزن كيلوين وربع الكيلو(2) والله أعلم.
ويطعم المسكين من غالب قوت البلد وله الخيار بين تفريقه حباً على المساكين وبين أن يصنعه ويطعمهم إياه.
__________
(1) المجموع (ج6 ص334)، المغني (ج3 ص102)، هكذا نصوم (ص111).
(2) قدره شيخنا فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بكيلوين وأربعين غراماً فيكون الربع عنده (510 غراماً، أي نصف كيلو وعشرة غرامات) والله أعلم بالصواب.(2/3)
روى البخاري عن عطاء أن سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ:[وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] قال ابن عباس رضي اله عنهما: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً(1).
الحائض والنفساء:
ومن المعذورين عن صيام رمضان الحائض والنفساء، فيحرم عليهما الصوم ولا يصح منهما لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في النساء:(ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يارسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجلن؟ قلن: بلى، قال: فذلك نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها)(2).
والحيض دم طبيعي يخرج من المرأة ويحبس أحياناً يتغذى به الجنين، وهذا من تمام نعمة الله جل وعلا، هذا الدم الفاسد يتحول إلى غذاء نافعاً للجنين في بطن أمه وللرضيع لبناً طبيعياً خالياً من الأمراض والعلل.
ومتى حاضت المرأة ولو قبيل غروب الشمس بدقائق لزمها قضاء ذلك اليوم ولم يصح صومها فيه.
وإذا طهرت أثناء النهار لم يلزمها الإمساك على الراجح من كلام أهل العلم إذ لا معنى لصيامها بعض النهار وقد أفطرت بعضه، والنفساء تأخذ حكم الحائض وعليهما القضاء بقدر الأيام التي يفطرانها.
__________
(1) رواه البخاري (ج6 ص30).
(2) رواه البخاري (ج3 ص31).(2/4)
ولو طهرت الحائض أو النفساء قبيل طلوع الفجر لزمها الصيام ولو لم تغتسل لأن الحكم مرتب على وقوف الدم وليس على الاغتسال، وهنا ينبغي أن تحتاط أخواتنا المؤمنات لهذه المسائل إذ كثيراً ما ترد الأسئلة حول الطهارة وتمامها وحول بدء الحيض، وعلى الأمهات أن يتفقدن أحوال بناتهن الصغيرات اللاتي هن مظنة البلوغ إذ قد تستحي الصغيرة ولا تخبر أهلها وهذا خطأ شنيع وكم سمعنا من فتيات بعدما كبرن سألن عن أيام لم يصمنها في بدء بلوغهن، فليتق الله أولياء الأمور ويتابعوا من استرعاهم الله عليهم ويدلوهم على الطريق المستقيم، ويوضحوا لهم ما خفي عليهم من أحكام الطهارة والصلاة ومن جهل فليسأل:[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ](النحل:43).
الحامل والمرضع:
وممن لهم العذر في ترك صيام رمضان الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما من الصوم فإنهما تفطران وتقضيان.
وهل تطعمان مع القضاء؟
قولان لأهل العلم يدل لذلك ما رواه أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى) (1).
ويلحق بهؤلاء المعذورين من أفطر لإنقاذ معصوم، كمن غرق في ماء أو اشتعلت فيه النار، أو سقط عليه بناء، وغيرهم إذا توقف إنقاذ المعصوم على فطره وتعين عليه وحده كأن لا يوجد غيره وجب عليه الفطر، لكن ينبغي ألا يتوسع الناس في ذلك، بل يقتصرون على الأمور الضرورية وخصوصاً العاملين في الدفاع المدني ينبغي لهم ألا يفطروا إلا إذا نالهم مشقة وتعب شديدين، أما مجرد ذهابهم لإخماد حريق فليس مبرراً لإفطارهم.
__________
(1) رواه أبو داود (ج2 ض796)، والنسائي (ج4 ص190)، والترمذي (ج2 ص 109)، وحسن الحديث وقال ولا يعرف لابن مالك هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد.(2/5)
اللهم اغفر لنا ذنوباً حالت بيننا وبين ذكرك،واعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك، وأدم علينا لزوم الطريق إليك،وهب لنا نوراً نهتدي به إليك،اللهم أذقنا حلاوة مناجاتك واسلك بنا سبيل أهل مرضاتك، اللهم أنقذنا من دركاتنا، وأيقظنا من غفلاتنا، وألهمنا رشدنا،وأحسن بكرمك قصدنا،اللهم احشرنا في ومرة المتقين،والحقنا بعبادك الصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
أحكام الزكاة
الحمد لله الذي يمحو الزلل، ويصفح ويغفر الخطل ويسمح، كل من لاذ به أفلح، وكل من عامله يربح، رفع السماء بغير عمد فتأمل والمح، وانزل القطر فإذا الزرع في الماء يسبح، والمواشي بعد الجدب في الخصب تسرح، وأقام الورْقَ تسبِّح، أغنى وأفقر وربما كان الفقر أصلح، فكم من غني طرحه الأشر والبطر أقبح مطرح، هذا قارون ملك الكثير لكنه بالقليل لم يسمح، نُبه فلم يستيقظ، وليم فلم ينفعه اللوم إذ قال له قومه لا تفرح، أحمده ما أمسى النهار وما أصبح، وأشهد أن لا إله إلا الله الغني الجواد منّ بالعطاء الواسع وأفسح، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاد لله بنفسه وماله وأبان الحق وأوضح صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما لاح في الأفق برق وألمح.
أيها الإخوة في الله:
درسنا لهذه الليلة حول فريضة من فرائض الإسلام فرط فيها بعض المسلمين، وتساهل فيها بعضهم، والأمة الإسلامية في هذه الأوقات في أمس الحاجة إلى إقامة هذه الفريضة على وجهها الصحيح.
درسنا هذه الليلة حول الركن الثالث من أركان الإسلام حول الزكاة.
فنقول: الزكاة حق واجب في مال مخصوص لطائفة معينة في وقت معلوم.
وهي أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهي قرينة الصلاة، وهما قرينتا التوحيد.
__________
(1) المحلى (ج6 ص562)، العدة على أحكام الأحكام (ج3 ص366)، حاشية الروض المربع (ج3 ص376).(2/6)
وقد أجمع المسلمون على فرضيتها، فمن أنكر وجوبها مع علمه فهو كافر خارج من ملة الإسلام، ومن بخل بها أو نقص شيئاً منها فهو من الظالمين المتعرضين لعقوبة الله ومقته وغضبه والعياذ بالله، يقول الله تعالى:[وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة](البقرة:110)، ويقول تعالى:[وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين... القيمة ](البينة:5)، ويقول تعالى:[فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة...الدين](التوبة:11).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(بني الإسلام على خمس شهادة أَن لا إله إلا اللَّه وأَن محمدا رسول اللَّه وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان)(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال:(تعبد الله لاتشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)(2).
وفي أداء الزكاة تزكية لنفس المؤمن من أوضار الذنوب وآثارها السيئة [خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها](التوبة: 103).
وفيها كفاية الفقير المسلم، وسد حاجته، ومواساته وإكرامه.
وفيها تطهير المال وتنميته، والمحافظة عليه، ووقايته من الآفات.
والأموال التي تجب فيها الزكاة أربعة أصناف:
الأول: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار لقوله تعالى:[وآتوا حقه يوم حصاده](الأنعام: )، وأعظم حقوق المال الزكاة.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(فيما سقت السماء أو كان عشرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)(3).
__________
(1) رواه البخاري (ج1 ص11) واللفظ له، ومسلم (ج1 ص103).
(2) رواه البخاري (ج2 ص90).
(3) رواه البخاري (ج2 ص155).(2/7)
ولا تجب الزكاة فيه حتى يبلغ نصاباً وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، والصاع زنته بالبر الجيد كيلوان وربع الكيلو، فيكون النصاب ستمائة وخمسة وسبعين كيلو (675)، فما سقي بالكلفة كالمكائن والرشاشات وغيرها ففيه نصف العشر، وما سقي بدون كلفة ففيه العشر، كالزرع على مواقع السيول وغيرها.
الثاني: بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم إذا كانت سائمة ترعى المباح أكثر الحول، وقد أعدت للدر والنسل، فتجب فيها الزكاة إذا بلغت نصاباً.
وأقله في الإبل خمس، وفي البقر ثلاثون، وفي الغنم أربعون، فإن كانت السائمة معدة للبيع والشراء فهي عروض تجارة مثلها مثل بهيمة الأنعام الموجودة في المزارع وغيرها وهي معدة للبيع والشراء.
أما إن أعدت للأكل والأضاحي فلا زكاة فيها.
الثالث: الذهب والفضة، يقول تعالى:[والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها....تكنزون] (التوبة:34، 35).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فاحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد)(1).
والمراد بحقها الزكاة كما فسرته الرواية الثانية (لا يؤدي منها زكاتها).
وتجب الزكاة في الذهب والفضة والنقود التي تقوم مقامها، ونصاب الذهب عشرون مثقالاً، والمثقال يزن ( 5و3) جراماً، فيكون النصاب بالجرامات سبعين جراماً (70).
ونصاب الفضة مائتا درهم، والدرهم يون (10/3و3) جراماً، فيكون النصاب بالجرامات أربعمائة وستين جراماً (460).
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص70).(2/8)
وهكذا النقود تأخذ حكم الذهب والفضة مع مراعاة مصلحة الفقير، فمن كان عنده عملة ورقية قاسها على النصاب الأقل من النقدين، وأخرج ربع عشرها، وعلى المسلم أن يزكي الدين الذي في أيدي الناس له وهو مخير بين أن يزكيه كل سنة مع ماله، وبين أن يؤخره ويزكيه إذا قبضه لما مضى، وهذا إذا كان الدين على مليء قادر على الوفاء، أما إذا كان الدين على معسر أو مماطل لا يستطيع استيفاء حقه منه فلا يزكيه إلا إذا قبضه لسنة واحدة فقط، ولو جلس الدين عند المعسر أو المماطل عشرات السنين والله أعلم.
ولا زكاة في الحلي المستعمل شريطة ألا يكون خارجاً عن العرف والعادة، وأن تستعمله المرأة ولو مرات قليلة خلال العام ما دام في أصله معداً للاستعمال، أما أولئك النساء اللاتي يفيض المال في أيديهن فيمسكنه بشراء الحلي فهذا داخل في الكنز فعليهن زكاته كغيره من الأموال.
الرابع: عروض التجارة وهي كل ما أعد للتكسب والتجارة من عقار وحيوان وطعام وشراب وسيارات وغيرها من جميع أصناف المال، فيقومها كل سنة ويخرج منها ربع العشر ولازكاة فيما أعده المسلم لحاجة نفسه من مسكن وملبس وفراش ومركب وحلي مباح مستعمل لقوله - صلى الله عليه وسلم - :(ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)(1).
وتجب الزكاة في أجرة ما أعد للأجرة من سيارات وعقارات وغيرها إذا حال عليها الحول، فلو قبض أجرة العمارة أو النقليات وأنفقها ولم يحل عليها الحول فلا زكاة فيها والله أعلم.
شعراً:
نسيت لظى عند ارتكابك للهوى ... *** ... وأنت توقي حر شمس الهواجر
كأنك لم تدفن حميماً ولم تكن ... *** ... له في سياق الموت يوماً يحاضر
وقال آخر:
من كان حين تصيب الشمس جبهته ... *** ... أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... *** ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا
في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... *** ... يطيل تحت الثرى في غيها اللبثا
__________
(1) رواه البخاري (ج2 ص149)، مسلم (ج3 ص67).(2/9)
تجهزي بجهاز تبلغين به ... *** ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا(2/10)
التوبة في رمضان
(الجزء الأول)
الحمد لله الذي نصب من كل كائن على وحدانيته برهاناً، وتصرف في خليقته كما شاء عزاً وسلطاناً، واختار المتقين فوهب لهم أمناً وإيماناً، وعم المذنبين بحلمه ورحمته عفواً وغفراناً، ولم يقطع أرزاق أهل معصيته جوداً وامتناناً، روح أهل الإخلاص بنسيم قربه، وحذر يوم الحساب بجسيم كربه، وحفظ السالك نحو رضاه في سربه، وأكرم المؤمن إذ كتب الإيمان في قلبه، حكم في بريته فأمر ونهى، وأيقظ بموعظته من غفل وسها، ودعا المذنب إلى التوبة لغفران ذنبه.
أحمده حمداً عابد لربه، معتذر إليه من تقصيره وذنبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص من قلبه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى من حزبه، وعلى أبي بكر خير أحبته وصحبه.
وعلى عمر الذي لا يسير الشيطان في سربه، وعلى عثمان الشهيد لا في صف حربه، وعلى علي معينه في جهاده وحربه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:(3/1)
إخوتي الصائمين: نلتقي في هذه الليلة لنستجلي موضوعاً هاماً يهم كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض ألا وهو موضوع التوبة الذي ذكره الله في القرآن وأكد على التوبة إليه والتضرع بين يديه، وتقديم الاستغفار والذكر، يقول تعالى:[وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ](هود:3)، ويقول تعالى:[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ](فصلت:6)، ويقول تعالى:[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](النور:31)، ويقول تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ](التحريم:6ـ8)، ويقول تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ](البقرة:222).(3/2)
وقد ندب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى التوبة ورغب فيها، وذكر عن نفسه أنه يتوب كل يوم مائة مرة يدل لذلك: مارواه الأغر بن يسار المزني - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)(1)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(إني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)(2)، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)(3).
والتوبة: هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، لأنه سبحانه هو المعبود حقاً، وحقيقة العبودية هي التذلل والخضوع للمعبود محبة وتعظيماً، فإذا حل من العبد شرود عن طاعة ربه فتوبته أن يرجع إليه، ويقف ببابه موقف الفقير الذليل الخائف المنكسر بين يديه، وهي واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها إذ قد تفجأه المنية وهو على معصيته والعياذ بالله، وكم رأينا وسمعنا في واقعنا المعاصر من أشخاص ماتوا على معاصيهم.
تجد الشخص يحصل عليه حادث في سيارته وهو في الطريق، وصوت المغني أو المغنية مرتفع، بل قد يلفظ أنفاسه ويبقى الصوت مرتفعاً شاهداً عليه في الدنيا قبل الآخرة.
وكم من شخص مات في رمضان وهو مفطر والعياذ بالله استعبدته الجريمة فأصبحت هي معبوده من دون الله.
__________
(1) رواه مسلم (ج8 ص73).
(2) رواه البخاري (ج3 ص83).
(3) رواه مسلم (ج8 ص92).(3/3)
وكم من أشخاص هلكوا وأرصدتهم الربوية تلعنهم شاهدة عليهم، وكم من أقوام درسوا وقد عقوا والديهم وآذوا جيرانهم وأكلوا حقوق غيرهم.
فاتقوا الله يا أيها المؤمنون، واصدقوا مع الله فرمضان فرصة قد لا تعود عليكم، أعلنوها توبة خالصة لعل الله أن يمحو بها كثير السيئات، ويضاعف بها قليل الحسنات، وصدق الله الرحيم الرحمن:[قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ](الزمر:53).
شعراً:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... *** ... حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... *** ... فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً ... *** ... فإنه شهر تسبيح وقرآن
فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... *** ... فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... *** ... من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم ... *** ... حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها ... *** ... فأصبحت في غد أثواب أكفان
التوبة في رمضان
(الجزء الثاني)
الحمد لله العلي، القوي المتين، القاهر الظاهر المبين، لا يعزب عن سمعه أقل الأنين، ولا يخفى على بصره حركات الجنين، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين، وقل عند دفاعه كيد الشياطين، قضى قضاءه كما شاء على الخاطئين، وسبق اختياره لما اختار الماء والطين، فهؤلاء أهل الشمال، وهؤلاء أهل اليمين، جرى القدر بذلك قبل عمل العاملين.
أحمد حمد الشاكرين، وأسأله معونة الصابرين، وأصلي وأسلم على رسوله المقدم من النبيين، وعلى صاحبه الصديق أو تابع له على الدين، وعلى الفاروق عمر القوي الأمين، وعلى عثمان زوج ابنته ونعم القرين، وعلى علي بحر العلوم أب الحسن والحسين، وعلى بقية الأصحاب والآل والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(3/4)
إخوة الإيمان: ذكرنا طرفاً من الكلام عن التوبة في الفصل السابق، وهنا سنكمل الحديث عنها بمشيئة الله تعالى، فنقول التوبة نوعان: واجبة ومستحبة.
فالواجبة: هي التوبة من ترك مأمور أو فعل محظور، وهذه واجبة على جميع المكلفين، كما أمرهم الله بذلك في كتابه وعلى ألسنة رسله عليهم السلام.
والمستحبة: هي التوبة من ترك المستحبات، وفعل المكروهات، فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار الصادقين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين، إما الكافرين وإما الفاسقين، قال الله تعالى:[وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً*فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ*وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ] (الواقعة:7ـ12)،وقال تعالى:[فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ](فاطر:32)(1).
والتوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شرائط التوبة وهي خمسة:
الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل وذلك بأن يكون الباعث عليها محبة الله سبحانه وتعالى، والطمع في رضوانه، والخوف من عقوبته ونيرانه، فإن كان الباعث لها عرضاً زائلاً من الدنيا أو طمعاً في جاه أو تزلفاً لأحد من المخلوقين أو خوفاً من أحد من المخلوقين، فليست بتوبة خالصة، وكل زارع سيحصد ما زرع.
الثاني: الندم على ما بدر منه من الذنوب والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى والانكسار بين يديه، وكلما كان الندم صادقاً وقوياً كلما ظهرت آثاره على العمل اللاحق، فتجد التائب يقبل على الأعمال الصالحة بنهم وحرص شديد ليعوض ما فاته من الأوقات التي قضاها في العصيان وغضب الرحمن.
__________
(1) انظر التوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص13ـ24.(3/5)
الثالث: الإقلاع عن المعصية فوراً دون تردد أو خجل من أحد أو مجاملة لأحد، وعليه فإن كانت المعصية بفعل أمر محرم وجب الابتعاد عنه فوراً وهجر أصحابه ومجالسه، وإن كانت بترك واجب وجب أن يبادر إلى فعله، وإن كان مما يقضى كالصوم والحج وجب قضاؤه وصار متعلقاً بذمته.
وإن كانت المعصية بأكل حقوق الخلق فلا تصح إلا بردها واستباحتهم، وإن كان لا يعرف أصحاب الحقوق وجب أن يتصدق بها على نية دفعها لأصحابها لو طلبوها فيما بعد.
الرابع: أن يعزم على ألا يعود في المستقبل إلى المعصية، لأن هذا هو ثمرة التوبة ودليل صدق التائب، فإن قال إني تائب من كذا وهو ما زال يعمله أو يتوب من الشيء ثم يعود إليه فليست هذه توبة صحيحة، لأن التائب الصادق يكره المعصية كراهية شديدة ويتمنى ألا يتذكر ماضيه السابق لأنه يجلب له الهم والحزن.
الخامس: ألا تكون التوبة بعد انتهاء وقت قبولها، فإن كانت بعده لم تقبل.
وانتهاء وقت القبول نوعان: نوع عام لكل أحد، ونوع خاص لكل شخص.
فأما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع التوبة، يقول الله تعالى: [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً] (الأنعام:158).
وقد فسرها أهل العلم بأنها طلوع الشمس من مغربها، ويدل لذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)(1).
__________
(1) رواه مسلم (ج8 ص73).(3/6)
وأما الخاص: فهو عند حضور الأجل، فمتى حضر الأجل وعاين الإنسان الموت لم تنفعه التوبة، ولم تقبل منه، يدل لذلك قوله تعالى:[وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ](النساء:18).
التوبة الصادقة تمحو كل ذنب مهما اجتمعت جيوش الدنيا وهواجس النفس، وسهام الخلق، وخطرات القلب، وعداوة الشيطان لأن هذه كلها صغيرة حقيرة بجانب الاتكال على الله والاعتماد عليه.
يقول ابن القيم رحمه الله:(كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مرد، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستول عليه، فإن تولاه الله وجدبه إليه انقهرت له هذه كلها وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة).
وقال رحمه الله: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن:
(1) عند سماع القرآن. ... (2) وفي مجالس الذكر. ... ... (3) وفي أوقات الخلوة.
فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك)(1).
ولله در القائل:
لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى ... *** ... تباركت تعطي من تشاء وتمنع
إلهي وحلّاقي وسؤلي وموكلي ... *** ... إليك لدى الإعسار واليسر أفزع
إلهي لئن خيبتني وطردتني ... *** ... فمن ذا الذي أرجو ومن ذا أشفع
إلهي لئن أعطيت نفسي سؤالها ... *** ... فها أنا في روض الندامة أرتع
إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي ... *** ... وأنت مناجاتي الخفية تسمع
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ ... *** ... فؤادي فلي في سيب جودك مطمع
إلهي أجرني من عذابك إنني ... *** ... أسير ذليل خائف لك أخضع
__________
(1) كتاب الفوائد لابن القيم ص147.(3/7)
إلهي لئن جلت وجمت خطيئتي ... *** ... فعفوك من ذنبي أجل وأوسع
من آداب الصيام
الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملك القدوس السلام، المتفرد بالعز والبقاء والدوام، المنزه عن النقائص ومشابهة الأنام، يعمل ما كان وما يكون، ويرى ما في داخل العظام، ويسمع خفي القول ومهموس الكلام، إله عظيم كريم رحيم كثير الإنعام، ورب قادر بالمجرمين شديد البطش والإنتقام، قدر أمور عباده فنظمها أحسن نظام، وشرع الشرائع فأحكمها أيما إحكام بقدرته تهب الرياح ويسير الغمام، وبحكمته ورحمته يتعاقب الضياء والظلام، أحمده سبحانه شرع لعباده الصلاة والصيام، وأودع في الصيام من الأسرار ما تحار فيه الأفهام.
وأصلي وأسلم على عبده أفضل من صلى وصام وعلى أصحابه وأتباعه من الصحب الكرام.
أيها الإخوة المؤمنون: لقاؤنا هذا حول آداب الصيام، وسيقتصر الحديث على بعض الآداب الواجبة، ونركز على الغيبة والنميمة وسماع آلات اللهو لأنها هي الكثيرة الشائعة في المجتمع، فنقول والله حسبنا ونعم الوكيل.
من الآداب الواجبة على الصائمين وغيرهم أداء الفرائض في أوقاتها، فبعض المسلمين هداهم الله يتهاون بالصلاة في رمضان، فتراه يصوم النهار وينام عن الصلوات، وما علم المسكين أنه عاص لله سبحانه وتعالى إذا ضيع أهم فروض الإسلام على الإطلاق وهي الصلاة مع جماعة المسلمين، ويكفي هؤلاء زجراً ووعيداً قوله تعالى:[ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً](مريم:59، 60).
ومن الآداب الواجبة أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله جل وعلا من الأقوال والأعمال وأخطر ذلك الكذب.
ويجتنب الغيبة وهي ذكره أخاه بما يكره في غيبته، سواء كان في خلقته أو خلقه، ويجتنب النميمة وهي نقل كلام شخص في شخص إليه ليفسد بينهما.
ويجتنب الغش في جميع المعاملات من بيع وإجارة، وصناعة وزراعة، ومنه الغش في الامتحانات.(3/8)
ويجتنب المعازف بجميع أشكالها وأنواعها ففي الحلال ما يغني عن الحرام.
وإليك أخي المسلم طرفاً من النصوص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم تؤكد ما سبق:
عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يدخل الجنة نمام)(1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين يعذبان، فقال:(إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير،بل إنه كبير،أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة،وأما الآخر فكان لايستتر من بوله)(2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(...كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)(3).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا جلوساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:(يطلع عليكم رجل من أهل الجنة... إلى قوله: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال: عبد الله بن عمرو هذه التي بلغت بك)(4).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من غشنا فليس منا)(5).
وقد حذر - صلى الله عليه وسلم - من المعازف وقرنها بالزنا فقال:(ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)(6).
__________
(1) رواه البخاري (ج8 ص21)، مسلم (ج1 ص71) واللفظ له.
(2) رواه البخاري (ج8 ص21).
(3) رواه مسلم (ج8 ص11).
(4) رواه أحمد في مسنده (ج3 ص166)، قال المنذري في الترغيب والترهيب (ج3 ص549) رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي.
(5) رواه مسلم (ج1 ص69).
(6) خرجه الألباني في (السلسلة الصحيحة 1/186 برقم 91، وقال حديث صحيح).(3/9)
فيا أخي الصائم ويا أختي الصائمة: حذار أن تطلقوا ألسنتكم في أعراض إخوانكم المسلمين، اتقوا الله فيهم فإن كل كلمة مسجلة، وصدق الله العظيم:[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ](ق:18).
وحذار من غش المسلمين والتحايل عليهم لأكل أموالهم بالباطل، فالحساب عسير، والصراط دقيق، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وحذار أيتها الأخت المسلمة من التبرج والسفور، وفي رمضان تصفد الشياطين، لكن شياطين الإنس يغدون ويروحون.
إلزمي بيتك وأرسلي من يحضر حاجاتك، واتقي الله في نفسك وعرضك وزوجك، فسيأتي يوم تندمين فيه ولات ساعة مندم.
شعراً:
ومسندون تعاقروا كاس الردى ... *** ... ودعا بشربهم الحمام فأسرعوا
برك الزمان عليهم بجرانه ... *** ... وهفت بهم ريح الخطوب الزعزع
خرسى إذا ناديت إلا أنهم ... *** ... وعظوا بما يزع اللبيب فأسمعوا
والدهر يفتك بالنفوس حمامه ... *** ... فلمن تعد كريمة أو تجمع
عجباً لمن يبقى ذخائر ماله ... *** ... ويظل يحفظهن وهو مضيع
ولغافل ويرى بكل ثنية ... *** ... ملقى له بطن الصفائح مضجع
أثراه يحسب أنهم ما أساروا ... *** ... من كأسه أضعاف ما يتجرع
تابع آداب الصيام:
الحمد لله الذي جعل صيام رمضان جُنة من العذاب، وفضله على سائر الشهور، وأجزل فيه الأجر للصائمين فجزاهم بغير حساب، أضاف الصوم لنفسه وقال الصوم لي وأنا أجزي به، فيا سعادة من صامه وقامه إيماناً واحتساباً، جعل شهر رمضان تاجاً على رأس الزمان فيا بشرى لأهل الصبر والاحتساب، شهر أنزل الله فيه الكتاب هدى ورحمة وتوراً لأولي الألباب.
شهر خص الله فيه الصائمين بالدعاء المستجاب، أحمده سبحانه حمد معترف لربه فد خر له راكعاً وأناب، وأشكره وقد تأذن بالمزيد لمن شكر وتاب، وأصلي واسلم على رسوله المصطفى شفيعنا يوم الحساب، وعلى آله وأصحابه الطيبين أولي الألباب.(3/10)
إخوة العقيدة: درسنا حول آداب الصيام المستحبة من سحور وتأخيره وتعجيله، وكثرة دعاء وصدقة وتلاوة للقرآن، فاستمع أخي جيداً لعلك أن تحظى بالقبول لتفوز على الدوام.
للصيام آداب كثيرة ينبغي على المسلم أن يفعلها لأنها تكمل الصوم وتجمله، وتجبر ما عساه يقع فيه من خلل أو تقصير غير مقصود.
من هذه الآداب:
(1) السحور:
فيستحب لمن يريد الصيام أن يتسحر لما في السحور من البركة والاستعانة على صيام النهار ومخالفة أهل الكتاب، كما بين ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(تسحروا فإن في السحور بركة).
وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)(1).
ووقت السحور يمتد بين منتصف الليل إلى طلوع الفجر، ويحصل بكثير المأكول وقليله، كما أنه يحصل بالماء والتمر وغيرهما.
ويستحب تأخير السحور إلى آخر الليل ما دام المرء متيقناً بقاء الليل.
روى عبد الله بن عمر وعائشة أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)(2).
وروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية)(3).
(2) تعجيل الفطر:
وكونه على تمر أو ماء والدعاء عنده، يستحب للمسلم تعجيل الفطر بغروب الشمس، كما يستحب له أن يكون فطره على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء، يدل ل ... لك كله ما رواه سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)(4).
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص130).
(2) رواه البخاري (ج3 ص37).
(3) رواه البخاري (ج3 ص37)، مسلم (ج3 ص131).
(4) رواه البخاري (ج3 ص47)، مسلم (ج3 ص131).(3/11)
وعن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلنا يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهما يعجل الإفطار، ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، فقالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة؟ قلنا: عبد الله بن مسعود، قالت: كذلك كان يصنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )(1).
وعن سلمان بن عامر- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه ظهور)(2).
(3) الإكثار من الصدقة وتلاوة القرآن وتفطير الصائمين:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة)(3).
وكان جوده - صلى الله عليه وسلم - يجمع أنواع الجود كلها من بذل العلم، والنفس، والمال لله عز وجل في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق من تعليم جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وإطعام جائعهم، وكان جوده يتضاعف في رمضان لشرف وقته ومضاعفة أجره وإعانة العابدين فيه على عبادتهم، والجمع بين الصيام وإطعام الطعام، وهما من أسباب دخول الجنة.
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص131).
(2) رواه أحمد في المسند (ج4 ص17)، والطبراني (ج6 ص334)، والترمذي (ج3 ص46)، وقال: حديث سلمان بن عامر حديث حسن.
(3) رواه البخاري (ج3 ص24)، مسلم (ج7 ص73).(3/12)
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(من أصبح منكم اليوم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر أنا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة)(1).
شعراً:
نعت نفسها الدنيا إلينا فأسمعت ... *** ... ونادت ألا جدوا الرحيل وودعت
وزمت مطايانا إلى برزخ البلى ... *** ... وساقت بنا سوقاً حثيثاً فأسرعت
سلام على أهل القبور أحبني ... *** ... لقد بليت أجسامهم وتقطعت
فما موت الأحياء إلا ليبعثوا ... *** ... يقيناً وتجزي كل نفس بما سعت
لا تثق بالحياة من بعد قبري ... *** ... كل حي مصيره كمصيري
كنت في نعمة وغي خفض عيش ... *** ... فمضى وانقضى كيوم قصير
ثم أفردت في القبور وحيداً ... *** ... وجفاني الصديق فوق القبور
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص92).(3/13)
فوائد الصيام
ـــــ
الحمد لله الذي جعل صيام رمضان جنة من العذاب، وفضله على سائر الشهور، وأجزل فيه الأجر للصائمين فجزاهم بغير حساب، أضاف الصوم لنفسه فقال الصوم لي وأنا أجزي به، فياسعادة من صامه وقامه عن إيمان واحتساب، جعل شهر رمضان تاجاً على رأس الزمان فيا بشرى لأهل الصبر وحسن مئاب، شهر أنزل الله فيه الكتاب هدىً وذكرى لأولي الألباب، شهر أعز الله فيه الإسلام يوم بدر وهزم الأحزاب، شهر فتح الله فيه مكة وهزم الشرك فولى على الأعقاب، شهر خص الله فيه الصائمين ومنحهم الدعاء المستجاب.
أحمده سبحانه على كل حال حمد معترف بالتقصير يخشى يوم الحساب، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة صفوة الأحباب، وعلى جميع الآل والأتباع والأصحاب.
إخوة الإيمان: سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، نتكلم اليوم عن فوائد الصيام، وهي كثيرة جداً ولكننا نختصر ونقتصر على المهم بمشيئة الله تعالى.
(1) الصيام رياض للأبرار المتقين للتدرب على وظيفتهم بخلافة الله في الأرض، وهو رحمة عظيمة النفع للبدن والروح جميعاً، وفيه اجتماع القلب والهم على الله، وتوفير قوى النفس على محبته وطاعت والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى مهما تنوعت بألقابها وشاعراتها.
(2) الصيام سبب لزرع تقوى الله في القلوب وكف الجوارح عن المحرمات، يؤكد هذا قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ](البقرة:183).
فشرع الصيام تحصيل التقوى وهي كلمة جامعة لكل خصال الخير، مؤداها أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.(4/1)
(3) والصيام يعود المسلم الصبر والتحمل والجلد، لأنه يحمله على ترك محبوباته وشهواته، وكبح جماح النفس فيه مشقة عظيمة، ولهذا كان في الصوم أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر على محارم الله، وصبر على أقدار الله، ومتى اجتمعت أدخلت العبد الجنة بإذن الله:[إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] (الزمر:10).
(4) الصيام يساعد المسلم على التغلب على نفسه الأمارة بالسوء، فهي دائماً تدعوه لانتهاك المحرمات والإقبال على الشهوات، لكن الصوم يفوت عليها الفرصة إذ يكسر حدة الشهوة فيضعف سلطانها.
(5) الصيام يضعف مجاري الشيطان وبالتالي يضعف تسلطه على المسلم، ويبحث مركب سهل يحقق من خلاله أهدافه ومآربه، ومتى أطلق المسلم لشهواته العنان تمكن الشيطان منه وأخذ يوجهه لما يريد.
(6) الصيام يعرف العبد نعمة ربه عليه، فمتى أحس بالجوع والعطش عرف قدر النعمة التي يتقلب بها طول العام.
(7) الصيام يحمل المسلم على الإحسان للفقراء والمساكين والمحاويج، فالصائم إذا جاع أحس بحاجة الجائعين طوال العام، وإذا عطش أحس بالظامئين خلال العام، فيحفزه ذلك للإحسان إليهم والشفقة عليهم.
(8) الصيام مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية، وعنوان من عناوين تكافلها وترابطها، إمساك في وقت واحد، وإفطار في وقت واحد، لا فرق بين أمير ومأمور، ولا صغير ولا كبير، ولا شريف ولا وضيع، وكم بهر مظهر الإفطار الجماعي عقولاً، وحيَّر ألباباً فأذعنت وانقادت واهتدت بنور الله.
(9) الصيام يعين على الطاعة، ويقرب من الله، فكلما عمل المسلم طاعة حفزته لطاعة أخرى، وهذا أحد أمارات قبول العمل.
(10) الصيام يرقق القلب ويجعله يتعلق بالله، ويديم ذكره وشكره، وكم رأينا من تنافس الشباب والأحباب في حفظ كتاب الله وبذل الصدقات، وزيارة البيت العتيق.
(11) وفي الصيام صحة عظيمة بجميع معانيها، صحة بدنية حسية، وصحة روحية معنوية.(4/2)
ولو استطردنا في فوائد الصيام لطال بنا المقام، ويكفي أن نشير هنا إلى أن الصيام علاج لكثير من الأمراض المزمنة، حدثني من أثق به قال: كان لي جار في مدينة الرياض، وكان يشكو من مرض حير الأطباء، ولم يجد له علاجاً في الداخل ولا في الخارج، وشكايته في البطن، يقول: وقدّر الله عليه فحصل عليه حادث ومات بسببه شخص، فلزمته الكفارة فصام شهرين متتابعين، وخلالها بدأ يحس بضمور الألم حتى اختفى، ثم أجرى تحليلات دقيقة، فقرر الأطباء شفاءه تماماً مما كان يشكو، وشكوا في علاجه هنا أو هناك ولكنه أخبرهم أنه لم يستعمل دواء قط إلا أنه صام شهرين متتابعين، فكانت المفاجأة أن الحكيم العليم لا يشرع شيئاً إلا وفيه حكمة بالغة عقلناها أو لم نعقلها، وما أجمل التسليم وألذ الانقياد، وأسمى الطاعة.
شعراً:
وضح البيان وأنت في غرر الهوى ... *** ... متشاغل ببطالة وتصابي
ترتاح في حلل المشيب منعماً ... *** ... أأخذت ميثاقاً من الأوصاب
كم ناظر قد راق حسناً ناظراً ... *** ... أبلاه بالآفات شر مصاب
لم يغن عنه جماله وكماله ... *** ... ومقام ملك في أعز نصاب
وأتاه من حرب المنون معاجلُ ... *** ... صعب شديد الوهن غير محاب
فرآى اكتساب يديه ليس بنافع ... *** ... ودعا ذويه فكان غير مجاب
وحواه لحد ضيق متهدم ... *** ... بعلوه كدب جنادل وتراب
فأفق لنفسك والزمان مساعد ... *** ... وأطع نصيحك ساعياً لصواب
وارجع إلى مولاك حقاً تائباً ... *** ... من قبل أن يعي برد جواب
الصبر الجميل
ـــــ
الصبر ضرورة بشرية وفريضة شرعية تلازم الإنسان في جميع أحواله وتقلباته، وهو حبس النفس على طاعة الله وكفها عن المعاصي، والرضا بقضاء الله وقدره دون شكوى، يقول الله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](آل عمران: 200).(4/3)
ويقول تعالى:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ](البقرة:153).
ويقول تعالى:[وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ](الأنفال:46).
ويقول تعالى:[إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ](الزمر:10).
عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)(1).
الصبر ضرورة في هذه الحياة، وما فاز فيها وحصل على مطلوبه إلا الصابرون.
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... *** ... فما انقادت الآمال إلا لصابر
فلولا الصبر لما حصد الزارع بذره، ولما جنى الغارس ثمره، وهكذا كل ناجح في الدنيا تجد مطيته الصبر.
إني رأيت وفي الأيام تجربة ... *** ... للعبد عاقبة محمودة الأثر
وقل من جَدَّ في أمر يحاوله ... *** ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
والصابرون لا يدركون مطالبهم بسهولة ويسر، ولكنهم يتحملون كل ما يصيبهم ويتخطون كل عقبة في طريقهم.
لا ييأس وإن طالت مطالبه ... *** ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... *** ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وللصبر شروط منها:
(1) الإخلاص: فالصبر المحمود هو ما كان لله سبحانه وتعالى، يقول تعالى:[وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ](المدثر:7).
ويقول تعالى:[وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً] (الرعد:22).
(2) عدم شكوى الله: لا يسوغ للمسلم أن يشكو الله إلى خلقه لأن هذا لا يفيده في شيء، لكنه يحرمه الأجر ويخرجه إلى دائرة الوزر.
وصدق الشاعر:
وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها ... *** ... صبر الكريم فإنه بك أرحم
__________
(1) رواه مسلم (ج8 ص227).(4/4)
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... *** ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
(3) أن يكون الصبر في أوانه:
الصبر المحمود: هو ما كان في محله وقبل فوات وقته، أما إذا فات وقته فلا فائدة فيه.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة عند قبر وهي تبكي، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(اتقي الله واصبري)، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، قال فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأخذها مثل الموت، قال: فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: يارسول الله لم أعرفك، فقال - صلى الله عليه وسلم - :(الصبر عند الصدمة الأولى)(1).
وللصبر مجالات منها:
(1) الصبر على بلاء الدنيا: لا أحد يسلم من بلاء الدنيا من فقدان الأحباب، وخسران المال، وحصول الآلام، والأوجاع، والأسقام، وهذا لا يخلو منه أحد إلا من شاء الله، ويصيب البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والغني والفقير، والصغير والكبير، وسائر الخلق أجمعين، وصدق الله:[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ](البقرة:155).
(2) الصبر عن شهوات النفس: الابتلاء كما يكون بالشر يكون بالخير، ولهذا ينبغي ألا يطلق المسلم لنفسه العنان لتسرح وتمرح في الشهوات والملاذ، تأخذ ما لذ وطاب، وتغفل عن الشكر والذكر وتلاوة الكتاب [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً](الأنبياء:35).
__________
(1) رواه البخاري (ج2 ص105)، ومسلم (ج3 ص40).(4/5)
كثير ممن متعهم الله بالصحة والعافية وأغرق النعم عليهم فهم يتقلبون في شهوات نفوسهم، كثير منهم ذلك فتنة له أنها نقم وليست بنعم، وصدق الله العظيم:[وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى](طه:13).
(3) الصبر على طاعة الله: الطريق إلى الله يحتاج إلى صبر ومجاهدة لأن فيه عوائق على الطريق، هم يصيبك، أو حاسد يغبطظ، أو منافق يؤذيك في نفسك أو عرضك، والطاعة تحتاج إلى مصابرة لأن النفس تنفلت وتنفر من القيود وتطلب الانفلات:[إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ] (هود: 12).
(4) الصبر في الدعوة إلى الله: الدعوة إلى الله سبيلها طويل، وطريقها شاق تحتاج إلى رجال عزائمهم لا تخور، يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر.
وهناك صبر عند لقاء العدو، وصبر على الزوجة والأولاد، وصبر على الأخوة الصادقة، وصبر على طلب العلم، وغيرها كثير.
اسأل الله العلي القدير أن يرزقنا الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على أقداره المؤلمة، وأسأله تعالى أن يجمعنا ووالدينا وأحبابنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الفائزين برضوانك، وتجعل مآلنا إلى جناتك، وتعيذنا من عذابك ونيرانك، اللهم ارحم ذلنا يوم قيام الأشهاد، وآمن خوفنا من فزع يوم المعاد، ووفقنا لما فيه تنجينا في ظلم الألحاد.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين(1).
الصيام عن اللغو والرفث
ـــــ
__________
(1) إتحاف أهل الإيمان ص 33، والصبر الجميل ص27.(4/6)
ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أيها المسلم أحداً وجهل عليك فليكن جوابك القاطع إني صائم، إني صائم.
ما أروعه من جواب تنخلع له القلوب المتعلقة بالله، تحصل الأذية والسباب ويكون الجواب بالإمساك عن الكلام، إن الإمساك بزمام اللسان أشد وأخطر من الإمساك بزمام المعدة، ولهذا يموت الفتى من عثرة بلسانه، والعبادة كالكوكب الوضاء منظر بهي يهدي الحائرين، ويرشد التائهين، ولكن لماذا لا نتذوق حلاوة العبادة.
نعم كثير من النفوس لا تميل إلى الاستقامة على السير قدماً في الطريق المنير، وكثير من الأعين لا تحسن أن ترى الضوء وتختفي إذا سطع النور، وشأنها شأن الخفافيش التي لا تستطيع الحركة إلا في الظلام، ترى ما أثر الصوم في نفوس هؤلاء؟ ما أثره في نفوس مريضة وأفئدة عليلة وأعين لا ترى، وقلوب لا تهتدي، وصدق الله العظيم:[ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ](النور:40).
هذه النفوس تحتاج أول ما تحتاج إلى الإيمان حتى تعرف معالم الطريق، ولا خير في عمل مع الجحود هباء وخسران، وصدق الله العظيم:[مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ](إبراهيم:18).
إن العمل بدون إيمان كبناء على غير أساس على شفا جرف هار كهشيم تذروه الرياح، تجد منهم الصائم في النهار ومع صومه يلغ في أعراض الناس، ويذكي نار الحسد بينهم، بل ويعاقر الجريمة في وضح النهار لاجريمة الأكل والشرب، ولكن الترتيب لجلسات الليل ومواعيده، أهكذا يصوم المسلمون؟.(4/7)
تأمل أخي المسلم الصوم مع هؤلاء وتأمله مع نفوس عرفته وقلوب أدركته، تجد الفرق شاسعاً والبون واسعاً، وتدرك حقيقة الصوم إلا من الممسك عن الشهوة وقول الزور، وصدق الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :[الصيام جنة؛ فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)(1).
إن الحياة لابد فيها من عزيمة صادقة تصدع غوائل الهوى، وتردع هواجس الشر، وتبطش بالهوى الكذوب، وتنطلق بالإنسان إلى حيث العلو والسمو، وأي عزيمة أصدق، بل أي نظام أحكم من أن ترى المؤمن يمسك زمام نفسه من أن تذل لشهوة، أو تنجرف في تيار الهوى الضال، أو تنحرف عن أمانة الكلمة وصدق اللسان وصفاء الجنان، وأي نفس أكرم من النفس المتجهة إلى خالقها، الممسكة عن هواها تقرباً إلى الله، إذاً ما أروع التسليم في الصوم حين يجوع الصائم ويظمأ، وأسباب الغذاء والري أمامه ميسرة لولا طاعة الله وخشيته والرغبة في الثواب، والرهبة من العقاب، وشتان شتان ما بين صوم تمليه العادة، وصوم تسري فيه روح العبادة، وشتان شتان ما بين صوم يتعدى فيه الصائم حدوده وصوم يلتزم فيه حدوده ذاك سببه مداراة الناس، وهذا دافعه مراقبة رب الناس، ذاك لا يهذب نفساً، ولايعصم لساناً، ولا يربي خلقاً.
هذا ينتج الفضائل كلها ويرفع النفس إلى عليين.
ذاك صوم يطلق فيه العنان للسان ينهش أعراض الناس، ويفسد فيما بينهم ويأكل لحومهم.
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص22)، ومسلم (ج3 ص157).(4/8)
وهذا صوم ينطلق فيه اللسان على سجيته مهللاً مسبحاً ذاكراً حامداً مصلياً داعياً، فلا تسمع إلا أنين المستغفرين، وحنين المذنبين، ورنين المناجين، فاتقوا الله يا من تصومون عن الأكل والشرب والجماع، وتفطرون على لحوم الناس وأعراضهم، اتقوا الله فالحساب عسير، ويوم الحشر طويل، والعرق سيلجمكم إلى الآذان، ويومذاك لا ينفع نفساً إلا ما عملت وقدمت ذلك يوم التغابن.
اللهم أنت المدعو بكل لسان، والمقصود في كل آن، نسألك فأنت المعروف بالإحسان ألا تردنا خائبين، ولا من عطاياك مفلسين، ولا عن بابك مطرودين، وأمنا من فزع يوم الدين.
اللهم اعصمنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وعافنا في الدارين من المحن، فها نحن ببابك واقفون، وإليك متوجهون، ولثوابك متعرضون، ولفضلك طالبون، فألحقنا بالصالحين، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
قيام الليل
ـــــ
الحمد لله الذي أصبحت له الوجوه ذليلة عانية، وحذرته النفوس مجدة ومتوانية، ووعظ من آثر الدنيا الحقيرة الفانية على الدار الشريفة الباقية، وشوق إلى جنة قطوفها دانية، وأعدها لأهل الهمم العالية، الحامدون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أولئك هم الصادقون، الذين أحيوا ليلهم بالقيام، ونهارهم بالصيام، فعاشوا في هذه الداء غرباء، وهم في الحقيقة وحدهم السعداء، هجروا لذيذ المنام وصلوا خاشعين والناس نيام، فلله درهم وهم يسكبون العبرات، ولله درهم وهم يرفعون رصيدهم من الحسنات، وأولئك هو الرابحون يوم البعث والنشور.
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ص90، نفحات رمضان ص242.(4/9)
أحبتي في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: حديثنا حول قيام رمضان، فضل صلاة الليل، وعدد ركعاتها، وما أحدثه الناس من محدثات فيها ليست على هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأخيار، فنقول:
صلاة القيام هي صلاة التراويح التي يؤديها المسلمون في رمضان، وهي ضريبة الوفاء لهذا الشهر العظيم، لأنها معلم من معالمه، وشارة من شاراته، يسعى المسلمون إليها خفافاً ليصلوها في المساجد جماعة، فتكتظ بهم بيوت الله، وتغمرها بهجة وفرحة، ويسودها جمال وأنس، وتتألق المآذن الشم بالضياء، وتزدان حلقات العلم بالخلص الأتقياء، وترتفع أصوات القراء، وتتلاحم صفوف التراويح بالمتقين الأتقياء، وكأنما هذه الصلاة تنشيط للجسم الصائم طول النهار بعد فطور قد يؤدي إلى فتور، وقد ورد في فضل صلاة الليل نصوص كثيرة نجتزيء منها قوله تعالى:[وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً](الفرقان:64)، وقال:[تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ](السجدة:16، 17).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)(1).
وقال - صلى الله عليه وسلم - :(أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)(2).
وصلا الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :[من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)(3).
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص169).
(2) رواه أحمد في مسنده (ج1 ص451)، والترمذي (ج4 ص287) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(3) رواه البخاري (ج1 ص17)، ومسلم (ج2 ص177).(4/10)
ومعنى قوله إيماناً: أي إيماناً بالله وبما أعده من الثواب للقائمين، ومعنى قوله احتساباً: أي طلباً لثواب الله لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعة ولا طلب مال ولا جاه، وقيام رمضان شامل للصلاة في أول الليل وآخره، وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان، فينبغي الحرص عليها، والاعتناء بها، والاهتمام بأدائها على الوجه الصحيح، واحتساب الأجر والثواب من الله عليها، وما هي إلا ليال معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها، وإنما سميت تراويح لأن الناس كانوا يطيلونها جداً، فكلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلاً.
وتشرع جماعة لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة في جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال:(أما فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك(1).
فلما لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجوار ربه استقرت الشريعة وزالت الخشية وبقيت مشروعية صلاتها جماعة قائمة لزوال العلة، لأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدما.
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص40)، ومسلم (ج2 ص177).(4/11)
وأحيا هذه السنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عبد القارىء، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، وكان الناس يقومون أوله(1).
شعراً:
ولله كم من خيرة إن تبسمت ... *** ... أضاء لها نور من الفجر أعظم
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ... *** ... ويا لذة الأسماع حين تكلم
ويا خجلة الغصن الرطيب إذا اثنت ... *** ... ويا خجلة الفجرين حين تبسم
فإن كنت ذا قلب عليل بحبها ... *** ... فلم يبق إلا وصلها لك مرهم
ولاسيما في لثمها عند ضمها ... *** ... وقد صار منها تحت جيدك معصم
يراها إذا أبدت له حسن وجهها ... *** ... يلذ به قبل الوصال وينعم
تفكه فيها العين عند اجتلائها ... *** ... فواكه شتى طلعها ليس يعدم
تابع قيام الليل
ـــــ
الحمد لله الذي كون الأشياء وأحكمها خلقاً، وفتق السماوات والأرض وكانتا رتقاً، وقسم بحكمته العباد فأسعد وأشقى، وجعل للسعادة أسباباً فسلكها من كان أتقى، ونظر بعين البصيرة إلى العواقب فاختار ما كان أبقى، أحمده وما أقضي له بالحمد حقاً، وأشكره ولم يزل للشكر مستحقا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مالك الرقاب كلها رقاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل البشر خلقاً وخلقا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأحقهم الصديق الحائز فضائل الأتباع سبقا، وعلى عمر العادل فما يحابي خلقا، وعلى عثمان الذي استسلم للشهادة وما توقى، وعلى علي بائع ما يفنى ومشتري ما يبقى، وعلى جميع الصحب الناصرين لدين الله حقاً وسلم تسليما.
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص58).(4/12)
إخواني: مر معنا طرف مما يتعلق بصلاة الليل من حيث فضلها ومشروعيتها، وفي هذه الكلمات التالية سيكون الحديث حول عدد ركعاتها وعلى الوتر، ثم نذكر طرفاً من ألأخطاء الشائعة عند بعض الأئمة هداهم الله وردنا وإياهم إلى الصواب رداً جميلاً، فنقول وعلى نتوكل:
اختلف أهل العلم اختلافاً واسعاً في عدد ركعات صلاة التراويح،وقد أفاض العلامة ابن حجر رحمه الله في ذكر الأقوال في كتابه الكبير فتح الباري ومن هذه الأقوال:
قيل: أنها إحدى عشرة ركعة.
وقيل: إحدى وعشرون ركعة.
وقيل: ثلاث وعشرون ركعة.
وقيل: تسع وثلاثون ركعة.
وقيل: إحدى وأربعون ركعة.
وقيل: سبع وأربعون ركعة.
وقيل: تسع وأربعون ركعة.
وقيل: أربع وثلاثون ركعة غير الوتر.
وقيل: أربع وعشرون ركعة غير الوتر.
وقيل: ست عشرة ركعة غير الوتر.
وقيل: تسع وعشرون ركعة(1).
وأرجح هذه الأقوال والله اعلم أنها إحدى وعشرين ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة.
يدل لذلك ما روته عائشة رضي الله عنها أنها سئلت كيف كانت صلاة النبي في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة)(2).
وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت صلاة النبي ثلاث عشرة ركعة يعني من الليل(3).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(.... له أن يصلي عشرين ركعة كما هو المشهور عن مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصلي ستاً وثلاثين كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة، وثلاث عشرة ركعة، وكل حسن، فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام وقصره(4).
__________
(1) فتح الباري (ج4 ص253).
(2) رواه البخاري (ج2 ص67).
(3) رواه البخاري (ج2 ص64).
(4) مجموع الفتاوى لابن تيمية رحمه الله (ج23 ص113).(4/13)
وكثير من أئمة المساجد يصلون التراويح وهو لا يطمئنون في القيام ولا في الركوع ولا في السجود، والطمأنينة ركن من أركان الصلاة لا تصح بدونه، والمقصود الأعظم من الصلاة حضور القلب واتعاظه بما يسمع من الركعات واطمأن فيها الإمام، وحقق أركان الصلاة وواجباتها وسننها، فذلك أولى من تكثير الركعات مع تضييع لب الصلاة وأساسها.
فينبغي للأئمة أن يتقوا الله فيمن خلفهم، فهم أمانة مسئولون عنهم يوم القيامة، فليحسنوا الصلاة، ويؤدوها على وجهها المشروع لئلا يتضرر الكبير والمريض والعاجز بالسرعة المفرطة، وهنا نقول لإخواننا الذين ينصرفون قبل فراغ الإمام من الصلاة، لقد فاتكم خير كثير إذ المتابع للإمام حتى ينصرف يكتب له اجر قيام ليلة كاملة وهذا من فضل الله، ونقول لأخواتنا المؤمنات إن صلاتكن في بيوتكن أفضل، وإذا رغبتن في حضور الصلاة مع الجماعة فعليكن بالستر والعفاف والحشمة التامة، واحذرن من الزينة والطيب لئلا تقعن في المعصية وائتن ساعيات للخير.
وعليكن بتسوية الصفوف والاعتناء بها، والإنصات أثناء قراءة الإمام شيئاً من المواعظ، وتذكرن أن حضوركن للمسجد القصد منه أداء العبادة فقط وليس تبادل الأحاديث مع هذه وتلك.
أيها الأخوات المؤمنات: احرصن بارك الله فيكن على عدم إحضار الأطفال الصغار الذين يزعجون المصلين، وقد يسيئون لبيوت الله من حيث لا يشعرون.
شعراً:
وجنات عدن زخرفت ثم أزلفت ... *** ... لقوم على التقوى دواماً تبتلوا
بها كل ما تهوى النفوس وتشتهي ... *** ... وقرة عين ليس عنها تحول
ملابسهم فيها حرير وسندس ... *** ... واستبرق لا يعتريه التحلل
وأزواجهم حور حسان كواعب ... *** ... على مثل شكل الشمس أو هن أشكل
ومأكولهم من كل ما يشتهونه ... *** ... ومن سلسبيل شربهم يتسلل
يطاف عليهم بالذي يشتهونه ... *** ... إذا أكلوا نوعاً بآخر بدلوا
بها كل أنواع الفواكه كلها ... *** ... وسكانها مهما تمنوه يحصل(4/14)
بأسباب تقوى الله والعمل الذي ... *** ... أحبوا إلى جنات عدن توصلوا(4/15)
يسر الإسلام في الصيام
ــــــ
القاعدة العامة أن دين الله يسر ولا عسر فيه، وأنه سبحانه لا يكلف النفوس بما يعنتها أو يشق عليها: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ](الحج:78)،[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ](البقرة:185).
وتحقيقاً لهذا المبدأ المجمع عليه عند عامة المسلمين جعل الله المسلمين أمام الصوم طوائف ثلاث:
الطائفة الأولى:
هي طائفة المقيمين الأصحاء القادرين على الصوم بلا ضرر ولا مشقة، السالمين من الموانع الشرعية، فهؤلاء يجب عليهم أن يصوموا شهر رمضان، ومن حاول منهم أن ينتهك حرمة الشهر بالإفطار وبجرح المسلمين في شعورهم فقد باء بسخط من الله، ووجب على ولاة الأمر أخذه بالعقوبة الصارمة التي تكون رادعة له ولأمثاله من ضعاف النفوس ومرضى القلب.
وصيام هؤلاء أداء في وقته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فقوله تعالى:[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ](البقرة:185).
ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -:(إذا رأيتم الهلال فصوموا)(1).
وأجمع المسلمون على وجوب الصوم أداء على كل مسلم بالغ عاقل.
الطائفة الثانية:
وهي طائفة المرضى والمسافرين، وهؤلاء إن أفطروا فعليهم قضاء ما أفطروا في أيام أخر يدل لذلك قوله تعالى:[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ](البقرة:184).
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص24)، مسلم (ج3 ص122).(5/1)
وهذا تيسير من الله جل وعلا ورفع للحرج والمشقة التي تصاحب السفر عادة، لكن متى ما تعرض المريض أو المسافر للضر من الصيام فيجب عليهما الفطر، ولو صاما لكان صيامهما حينئذ إعراضاً عن الرخصة وهي هدية من الله جل وعلا يقدمها لعباده ليرتفقوا بها تخفيفاً عليهم، ومن أعرض عن رخصة الله تزمتاً كان عاصياً لأنه يلقي بنفسه في التهلكة ويلزمها شيئاً ليس يلزمها في شرع ولا دين، والله جل وعلا يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تنتهك محارمه، ومن تمام رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لم يقيد السفر أو المرض الذين يبيحان الفطر، بل أطلق ذلك ليكون الفيصل فيهما هو العرف، فما عده العرف سفراً جاز فيه الفطر وحدُّه عند عامة أهل العلم ـ إحدى وثمانون ـ كيلو مترا، وما عده العرف مرضاً جاز فيه الفطر فلا يفطر بالصداع الخفيف، الارتفاع البسيط في درجة الحرارة أو وجع العين أو الضرس أو غيرهما مما لايسمى في عرف الناس مرضاً.
قال البخاري رحمه الله:(اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه، فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ قلت: نعم، فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة، فقلت: حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن جريج قال: قلت لعطاء من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان كما قال تعالى:[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً](البقرة:184).
قال البخاري رحمه الله: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق، أي أنه كان يرى هذا فهماً من الآية واجتهاداً وقد تأيد بالحديث، فهي رخصة عظيمة لا يأباها إلا من يضع نفسه موضع المشرع الحكيم)(1).
هل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصوم أو يفطر في السفر؟
ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صام وأفطر في السفر حسب مقتضيات الأحوال وتغليباً للمصلحة الراجحة.
__________
(1) هكذا نصوم (ص227)، ثلاثون درساً للصائمين (ص28، 29).(5/2)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة)(1).
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى كراع الغميم، فصام الناس معه، فقيل له:(إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه)(2).
فائدة:
إذا قدم المسافر إلى بلده في وسط النهار وقد أفطر أوله في السفر، فهل يلزمه إمساك بقية اليوم أو لا؟
في ذلك قولان مشهوران لأهل العلم:
أحدهما: قالوا يجب عليه الإمساك بقية يومه، ويلزمه القضاء، يمسك حرمة للمؤمن فإن عذره زال بوصوله بلده، ويقضي هذا اليوم لأن صيامه فيه غير صحيح إذا لم يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والقول الثاني: قالوا لا يلزمه الإمساك بقية اليوم إذ لا معنى لصيامه طرف النهار وعليه القضاء، وهذا هو الأظهر، وهو الذي عليه الدليل شريطة ألا يأكل أمام الناس لئلا يتهم في دينه والله أعلم.
اللهم اجعل التقوى لنا أربح بضاعة، ولا تجعلنا في شهرنا هذا من أهل التفريط والإضاعة، وآمن خوفنا يوم تقوم الساعة، واجعلنا في رياض الجنة متنعمين، وأمتنا على التمسك بهدي خاتم النبيين، واحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، واغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا ومن له حق علينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين(3).
فضل العشر الأواخر
ــــــ
__________
(1) رواه البخاري (ح3 ص30)، مسلم (ج3 ص145).
(2) رواه مسلم (ح3 ص141).
(3) حاشية ابن عابدين (ج5 ص421)، مجموع الفتاوى (ج25 ص213).(5/3)
أيها الإخوة الصائمون: لقد نزل بكم عشر رمضان الأخيرة، فيها الخيرات والأجور الكثيرة، فيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة.
فمن خصائصها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، يدل لذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في العشر الأواخر ما لايجتهد في غيره)(1).
وما روته أيضاً قالت:(كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله)(2).
وهذا دليل صريح على فضيلة هذه العشر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها، وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة قرآن وذكر ودعاء وصدقة وغير ذلك.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم - يشد مئزره، أي يعتزل أهله ويتفرغ للصلاة والذكر، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحيي ليالي هذه العشر بالصلاة والقراءة والذكر طلباً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
ولأنه كان يوقظ أهله في هذه العشر، وهذا فيه بيان مزية لهذه العشر دون سواها.
ولاشك أن المسلم العاقل يسعى لاغتنام هذه الأوقات لعل الله أن يدركه برحمته.
وإنه لمن الحرمان والعياذ بالله أن تمر هذه الليالي المباركة على الشخص وهو يسرح ويمرح بأصناف الملذات والمحرمات.
وإنه لمن الحرمان أيضاً أن يعمر المسلم نهاره بالنوم وليله بالعبث واللهو واللعب المحرم الذي يجر عليه من المصائب ما الله به عليم.
إخوة الإيمان: لاحظوا الفرق بين واقعنا وواقع السلف الصالح:
كانوا يقضون نهارهم بالصيام وتلاوة القرآن، وليلهم بالركوع والسجود والتسبيح والتهليل، ويقضي الكثيرون منا نهارهم بالنوم، وليلهم باللهو واللعب المحرم وشرب الدخان ولعب الورق وغيرها مما يعود على المسلم بالضرر في عاجله وآجله.
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص176).
(2) رواه البخاري (ج3 ص41)، مسلم (ج3 ص176).(5/4)
كانوا يجمعون بين جهادين في شهر رمضان، جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام، وقاموا بحقوقهما أتم قيام، وصبروا عليهما صبراً جميلاً.
والكثير منا جهاده بجمع أصناف المأكولات والمشروبات، بعضها من الحلال وبعضها من الحرام، الأيدي ممسكة عن الصدقات والألسن مطلقة في أعراض المسلمين والمسلمات، والأسماع مرسلة لاستماع الحرام من الأصوات إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
يا من أعطاه الله صحة وعافية بعد العشرين، يامن طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين، يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين، يا من هو في معترك المنايا بين الستين والسبعين ما تنتظر إلا أن يأتيك اليقين، يا من ذنوبه بعدد التراب، أما تستحي من الكرام الكاتبين، فتعود إلى رشدك، وتصدق مع ربك لعلك تفوز يوم الدين.
أيها الأحباب: لقد غفل كثير من الناس عن أولادهم فتركوهم يسرحون ويمرحون في الشوارع، ويسهرون للعب والسفه، ولا يحترمون هذه الليالي، ولا تكون لها منزلة في نفوسهم، وهذا من سوء التربية وعدم القيام بالواجب، بل لقد حدثت الأذية من هؤلاء الشباب لكثير من المصلين من الرجال والنساء وذلك برفع أصواتهم قرب المساجد، وملاحقة بعضهم لبعض حتى وجد من المسلمين من يرفع يديه وهو يناجي ربه يدعو على هؤلاء، أهكذا تكون التربية؟ أهكذا يكون شكر نعمة المنعم علينا بها.
والله ليأتين يوم يوقف فيه الابن أباه ويحاسبه على تفريطه في تربيته وتقصيره في تأديبه، وصدق الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(1).
__________
(1) رواه الترمذي في سننه (ج3 ص660)، وقال حديث حسن صحيح.(5/5)
فالله الله اغتنموا هذه الفضيلة في هذه الأيام القليلة تعقبكم النعمة الجزيلة، والدرجة الجليلة، والراحة الطويلة إن شاء الله، هذه والله الراحة الوافرة، والمنزلة الفاخرة، والحالة الرضية، والجنة السوية، والنعمة الهنية، والعيشة الرضية.
إلهي أنت ملاذنا إذا ضاقت الحيل، وملجأنا إذا انقطع منا الأمل، فلا تخيب رجاءنا، ولا تصرف وجهك يوم القيامة عنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأقر أعيننا بصلاح أولادنا وصالح أعمالنا، ولا تؤاخذنا بما كسبت قلوبنا، وجنته جوارحنا، وتوفنا وأنت راض عنا.
اللهم طهر قلوبنا من الحقد والحسد، وطهر ألسنتنا من الكذب، وأفئدتنا من الرياء، وأبصارنا من الخيانة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(1).
أحكام الاعتكاف
ــــــ
الاعتكاف: عبادة روحية لتزكية النفس وتطهير القلب والعقل من شواغل الحياة وصوارف العيش، فيقطع فيه المسلم الأواب إلى ربه متحنثاً قانتاً قائماً وقاعداً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، وهو تشريع قديم يدل لذلك قوله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:[وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ](البقرة:125).
وفيه تجديد لأسلوب الحياة الرتيب وسلوكها الثابت، فنحن مع شهواتنا طوال العام فما أروع أن نعيش لأرواحنا بعض الوقت في رحاب الله حيث صفاء الجو للعبادة وفراغ القلب من شواغل الحياة، وإقبال المسلم بكله على الله.
والاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء والمكث عنده، وفي الاصطلاح: لزوم المسجد لطاعة الله.
وهو سنة وقربة إلى الله يدل لذلك الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى:[وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ](البقرة:187).
__________
(1) حاشية الروض (ج3 ص467)، أهوال يوم القيامة (ص37).(5/6)
ومن السنة ما روته عائشة رضي الله عنها قالت:(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله)(1).
وأجمع المسلمون على مشروعية الاعتكاف في الجملة، وفيه تقرب إلى الله تعالى بالمكث في بيت من بيوته، وحبس للنفس على عبادة الله، وقطع للعلائق عن الخلائق للاتصال بالخالق، وإخلاء للقلب من الشواغل عن ذكر الله، والتفرغ لعبادة الله بالتفكر والدعاء والذكر وقراءة القرآن والصلاة والتوبة والاستغفار.
والاعتكاف عمل وعبادة لايصح إلا بشروط:
(1) النية: لقوله - صلى الله عليه وسلم -:(إنما الأعمال بالنيات)(2). وأي عمل لا يقوم على نية سليمة فليس بقربة إلى الله، ولهذا قال أهل العلمل أن لقبول العمل شرطين أساسيين: النية الخالصة، والمتابعة الصادقة.
(2) أن يكون الاعتكاف في المسجد، يقول تعالى:[وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ](البقرة:187)، ويؤكد ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يعتكف في المسجد ولم ينقل عنه أنه اعتكف في البيت أو غيره.
(3) أن يكون المسجد الذي يعتكف فيه تقام فيه صلاة الجماعة لأن الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه صلاة الجماعة سيقضي إلى ترك الجماعة، أو تكرر خروج المعتكف كل وقت وهذا يناف المقصود من الاعتكاف.
وللمعتكف أن يخرج لما لابد له منه كقضاء الحاجة والطهارة والطعام ولبس الثياب، وله أن يخرج لعيادة المريض، وتشييع الجنازة إذا كان اشترط ذلك في بدء اعتكافه.
مدة الاعتكاف: اختلف أهل العلم في مدة الاعتكاف هل هي يوم وليلة على الأقل؟ أم تكفي في الساعة؟
والصحيح إن شاء الله أن أقله يوم وليلة، لأن الاعتكاف مقرون بالصيام ولايمكن أن يصوم جزءاً من النهار.
مفسدات الاعتكاف:
يفسد الاعتكاف بالجماع لقوله تعالى:[وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ](البقرة:187).
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص42).
(2) رواه البخاري (ج1 ص4)، ومسلم (ج6 ص48).(5/7)
وبالخروج من المسجد لغير حاجة ضرورية، وذكر بعض أهل العلم أنه يفسد باقتراف كل كبيرة من المعاصي والمحرمات.
هذا هو الاعتكاف سنة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - فاحرصوا بارك الله فيكم على الإقتداء بسنته لعل الله أن يرحمنا وإياكم ويتجاوز عنا وعنكم، فقد كثرت الذنوب ولم يبق إلا عفو علام الغيوب.
جنحت شمس حياتي ... *** ... وتدلت للغروب
وتولى ليل رأسي ... *** ... وبدا فجر المشيب
رب خلصني فقد لججـ ... *** ... ـت في بحر الذنوب
وأنلني العفو يا أقـ ... *** ... ــرب من كل قريب
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار، وأسكنا معهم في دار القرار، ولاتجعلنا من المخالفين الفجار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم وفقنا لحسن الإقبال عليك، والإصغاء لأوامرك ونواهيك، والتعاون على طاعتك، والمبادرة إلى خدمتك، وحسن الأدب في معاملتك، والتسليم لأمرك، والرضى بقضائك، والصبر على بلائك، والشكر على عطائك برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
صيام الجوارح
ــــــ
الحمد لله الذي تسبحه البحار الطوافح، والسحب السوافح، والأبصار اللوامح، والأفكار والقرائح، العزيز في سلطانه، الكريم في امتنانه، ساتر المذنب في عصيانه، رازق الصالح والطالح، يعلم خافية الصدر ومافيه من سر أضمرته الجوارح، أنزل القطر بحكمته، وصبغ لون النبات بقدرته، وخالف بين المطعومات بمشيئته، وأرسل الرياح لواقح، موصوف بالسمع والبصر يرى في الجنة كما يرى القمر، والدليل على ذلك جلي واضح.
أحمده سبحانه على تسهيل المصالح، واشكره على ستر القبائح، وأصلي على المبعوث رحمة للعالمين، أفضل غاد وخير رائح صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
أخوة الإيمان من الصائمين والصائمات: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
__________
(1) مواهب الجليل (ج2 ص454)، المغني (ج3 ص183)، المجموع (ج6 ص407).(5/8)
يتساءل كثير من المسلمين عن صيام الجوارح كيف يكون؟ ونقول لهم إن ملك الجوارح هو القلب، فمتى صام صياماً شرعياً فرض ذلك على بقية الجوارح، يقول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فصلاح القلب حياة لصاحبه وسعادة في الدنيا والآخرة، وموته والعياذ بالله هلاك ودمار في الدنيا وعذاب أليم في العقبى، والقلوب تصح وتمرض كالأبدان سواء بسواء، فهنيئاً لمن حافظ على سلامة قلبه من الأمراض، وقاده حتى أوصله إلى أعلى الجنان.
نعم يا أصحاب القلوب السليمة لكل مخلوق قلب ولكنهما قلبان، قلب صحيح سليم مشرق بالإيمان، مفعم بمحبة الله ورسوله وصالح المؤمنين، يعرف المعروف وينكر المنكر.
وقلب ميت تتخطفه سهام المعاصي من كل مكان، لايعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
قلب المؤمن يصوم في رمضان وغيره، وصيامه يكون بتفريغه من المادة الفاسدة من شركيات مهلكة، ومن اعتقاد باطل، ومن وساوس سيئة، ومن نوايا خبيثة، ومن خطرات موحشة.
قلب المؤمن يصوم عن الكبر لأن المؤمن يجلله التوضاع، ويكمله حسن الخلق، ويرفع لين الجانب، ويعليه عند الناس قضاء حوائجهم.
قلب المؤمن يصوم عن العجب لأنه بداية النهاية، وكم من إنسان أعجب برأيه فهلك، وهل كان الضلال والبعد عن الطريق المستقيم إلا ناتجاً من العجب والعياذ بالله.
قلب المؤمن يصوم عن الحسد لأن الحسد يحبط الأعمال الصالحة،ويأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
قلب المؤمن ميزان يزن به الناس فيرتفع عنده الصالحون من أي جنس أو لون أو في أي موقع، وينحط أقوام لأنهم بعدوا عن الله ولو كانوا من اقرب الناس إليه والصقهم به، وصدق الله جل وعلا:[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](الحجرات:13).(5/9)
نعم أيها المؤمنون: التفاضل بالتقى والعمل الصالح وليس بالجنس والعرض والأرض، فكم جرت علينا هذه النعرات من الخراب والدمار وضياع الشرف والعرض، وابتعاد الأخيار وطغيان الأشرار.
شعراً:
ألست الذي قربت قوماً فوافقوا ... *** ... ووفقتهم حتى أنابوا واسلموا
فقلت استقيموا منةً وتكرماً ... *** ... وأنت الذي قومتهم فتقوموا
لهم في الدجى أنس بذكرك دائماً ... *** ... فعاشوا في الليالي ساجدون وقوم
نظرت إليهم نظرة بتعطف ... *** ... فعاشوا بها والخلق سكرى ونوم
لك الحمد عاملنا بما أنت أهله ... *** ... وسامح وسلمنا فأنت المسلم
صيام اللسان:
ومن أهم الجوارح وأخطرها اللسان؛ تلك الجارحة التي تنطق بكلمة الإيمان أو الكفر، وتعمر أو تدمر، وتصلح أو تفسد، وتبني شرفاً أو تهدمه.
اللسان يوردك الجنة أو يقذف بك في النار والعياذ بالله، وصدق معلم البشرية وقائدها وأطهرها لساناً وأصدقها مقالاً:(ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)(1).
هل تعلم أيها المسلم أن كل كلمة نطقتها مسجلة عليك سواء كانت في طريق البناء والإصلاح، أو في طريق الضياع والدمار.
هل تعلم أن هناك رقيباً يسجل عليك في كل مجلس تجلسه: هل حاسبت نفسك يوماً ما وتصورت ما نطقت به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ](ق:18).
أيها الصائمون:
هل صام من أكل لحوم الناس، ونهش أعراضهم، وأفسد فيما بينهم.
هل صام من كانت مجالسه عامرة بأذية المسلمين، وهتك محارمهم ونشر الرذيلة بينهم؟
هل صام من رأى المنكر فأطرق وكأنه لا يرى؟
هل صام من أطلق لسانه بالقيل والقال وقذف الأبرياء، وتشويه سمعة الأتقياء؟
هل صام من قضى نهاره بالسب والشتم، والتستر على المجرمين والدفاع عنهم؟
أيها الصائمون:
__________
(1) رواه أحمد في المسند (ج5 ص236) وقال في مجمع الزوائد (ج10 ص300) ورواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات.(5/10)
رطبوا ألسنتكم بذكر الله، وعطروا مجالسكم بتلاوة القرآن، وزينوا أوقاتكم بالسعي في إصلاح ذات البين، ووجهوا من تحت أيديكم لعل الله أن يرحمنا وإياكم، ويأخذ بأيدينا وأيديكم، ويهدي الجميع صراطه المستقيم.
صيام بقية الجوارح:
الحمد لله الذي أرشد الخلق إلى أكمل الآداب، وفتح لهم من خزائن رحمته وجوده كل باب، أنار بصائر المؤمنين فأدركوا الحقائق وطلبوا الثواب، وأعمى بصائر المعرضين عن طاعته فصار بينهم وبين نوره حجاب، هدى أولئك بفضله ورحمته وأضل الآخرين بعدله وحكمته إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العزيز الوهاب وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بأجل العبادات وأكمل الآداب صلى الله عليه وعلى جميع الآل والأصحاب وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب.
عباد الله:
وهناك جوارح غير القلب واللسان يجب أن تصوم وتمسك عن الحرام لئلا تكون وبالاً يوم العرض على الله يوم تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وأفخاذهم وسمعهم وأبصارهم بما كانوا عاملين.
ومن هذه الجوارح العين؛ وصيام العين غضها عن الحرام، وإغماضها عن الفواحش والآثام إذا رأت منكراً أنكرته، وإذا رأت معروفاً باركته، وصدق الله:[قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ](النور:30، 31).
وفي غض البصر وحبسه فوائد:
طاعة المولى جل وعلا بتنفيذ أمره واجتناب نهيه.
سلامة القلب وجمع شمله، وبعده عن التفكير والتشتت لأن الاقتصار على الحلال جمع للفكر والقلب.
البعد عن الفتن والخطايا، وكم من نظرة كانت سبباً لجريمة عصفت بأسرة كاملة.
الفتح على العبد بالعلم النافع والعمل الصالح، وكلما كان المسلم من ربه قريباً كان لعطائه أهلاً.(5/11)
فرقان من الله يعطيه من حبسوا أبصارهم عن الحرام يفرقون به بين الخير والشر، والحق والباطل، فهنيئاً لهم هذا النعيم، وسلام عليهم في الأولين والآخرين.
نعم أيها الصائمون والصائمات:
العين تصوم في كل وقت ولكنها في رمضان تصوم صياماً من نوع خاص، تصوم عن الخطرات والنظرات، وتحبس نظرها على النافع من المواعظ والزواجر من الآيات.
العين تصوم ليس في إغلاقها عن النظر بل في تسريحها في هذا الكون الفسيح تتأمل وتفكر وتخشع وتخضع لعظمة الخالق الحي القيوم.
صيام الآذن:
الأذن رسول للخير إن استخدمت في طاعة الله، ورسول للشر إن صرفت لمعصية الله، الأذن مسئولة عن كل كلمة استمعتها، وهمسة أنصتت لها، وصدق الله:[إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً](الإسراء:36).
الأذن تصوم عن سماع الفواحش من القول والبذيء من الكلام، وتصوم عن الغناء الداعي إلى الرذيلة وبئس المرام.
الأذن تصوم عن أية المسلمين والنكاية بالموحدين.
الأذن تفطر على سماع الهدى والذكر وطيب الكلام.
الأذن تسمع الخير وتألفه وترغبه، وتلك أذن المسلم النقي التقي.
أما أولئك الذي عطلوا هذه الجارحة فلم يسمعوا بها إلا الحرام والعياذ بالله، فقد حكى الله عنهم ذلك في قوله:[وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ] (الأعراف:179).(5/12)
هم يسمعون لكنهم لا يسمعون سماع موعظة ولا يعتبرون ولا يتعظون وبالتالي لا يعملون، ولذا فهم كالأنعام لأنها لاتستفيد مما تسمعه، بل نعى الله عليهم وجعلهم أحط قدراً من الأنعام تدعى أحياناً لمكان علفها فتجيب، وتدعى إلى الماء فتجيب، وأما أولئك فيسمعون داعي الهدى لكنهم لا يستجيبون.
صيام البطن:
والبطن يصوم عن اللقمة الحرام فلا يتسحر على حرام، ولا يفطر على حرام لأن طيب المطعم هو عين الصيام المعنوي، ولهذا أرشد الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الصحابي الجليل الذي طلب أن يكون مجاب الدعوة إلى إطابة المطعم:(أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)(1).
وذكر في الحديث الآخر:(الرجل أشعث أغبر يطيل السفر يمد يديه إلى السماء ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له)(2).
كيف يصوم البطن الذي يأكل الحرام؟ كيف يصوم البطن الذي امتلأ بالربا والله يقول في محكم التنزيل: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](آل عمران:130).
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ](البقرة:278، 279).
فاحرصوا بارك الله فيكم على طلب الرزق الحلال من أبوابه المشروعة ليكون صيامكم وعملكم بمشيئة الله متقبلاً، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
شعراً:
وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة ... *** ... ليوم به تبدو عياناً جهنم
وينصب ذاك الجسر من فوق متنها ... *** ... فهاو ومخدوش وناج مسلم
__________
(1) قال في مجمع الزوائد (ج10 ص291) رواه الطبراني في الصغير وفيه من لم أعرفهم.
(2) رواه مسلم (ج3 ص85).(5/13)
ويأتي إله العالمين لوعده ... *** ... فيفصل ما بين العباد ويحكم
ويأخذ للمظلوم ربك حقه ... *** ... فيا بؤس عبد للخلائق يظلم
وينشر ديوان الحساب وتوضع ... *** ... الموازين بالقسط الذي ليس يظلم
فلا مجرم يخشى ظلامة ذرة ... *** ... ولا محسن من أجره ذاك يهضم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى ... *** ... كذاك على فيه المهيمن يختم(5/14)
رمضان شهر الجود والكرم
ــــــ
يقول الله تعالى:[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ](البقرة:245).
ويقول تعالى:[آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ](الحديد:7).
ويقول تعالى:[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ](الحديد:11).
ويقول تعالى:[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ](البقرة:261، 262).
ويقول تعالى:[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ](آل عمران: 133، 134).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة)(1).
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص24)، مسلم (ج7 ص73).(6/1)
هذا هو ديدن الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أكرم الناس وأجود الناس إن أنفق أجزل، وإن منح أغدق، وإن أعطى أعطى عطاء من لايخشى الفاقة ما بيده ليس له، يحرص على البذل والعطاء حتى لكأنه يجود بنفسه التي بين جوانحه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستقبل رمضان بفيض من الجود حتى كأنه يسابق الريح المرسلة التي تنطلق على سجيتها تسوق السحاب ليتفرق في كل اتجاه لينتفع به الناس.
نعم إن رمضان موسم الخيرات والبركات والصدقات، وهيهات هيهات أن يشابه أحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بذله وعطائه.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... *** ... إن التشبه بالكرام فلاح
الجود يكون ببذل الصدقة بإلقاء الكلمة الطيبة، بتفطير الصائم، بالإصلاح بين الناس، بأداء حقوق الله في الأموال والأبدان.
وإن من مظاهر الادخار المضمون بذل الحاجة للمحتاجين، والصدقة للمساكين [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً]، أرأيت قرضاً دفعته لآخر ألا يرده كما كان إن لم يزد محسناً الوفاء وخير الناس أحسنهم قضاء، الله في الأموال والأبدان.
وإن من مظاهر الادخار المضمون بذل الحاجة للمحتاجين، والصدقة للمساكين [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً] أرأيت قرضاً دفعته لآخر ألا يرده كما كان إن لم يزد محسناً الوفاء وخير الناس أحسنهم قضاء، إذاً ما دام قرضاً مضموناً فلماذا البخل وقد لا ينتفع الشخص بماله، قد تفاجئه منيته قبل أن يستفيد منه وهنا سيكون عليه غرمه ولغيره غنمه.(6/2)
من المظاهر الطيبة في مجتمعنا ما يفعله الناس من تسابق على البذل والعطاء والصدقة على مختلف أشكالها وأنواعها، وهذا عمل طيب ومأجور إن شاء الله، ولكن ما نتمناه أن يكون هناك أولويات، فإذا كانت هناك حاجة ماسة لنوع معين أو أسرة معينة فالمبادرة لسد هذه الحاجة أولى من غيرها، وإذا كانت هناك حاجة لإخواننا خارج بلادنا ممن يدافعون عن الأرض والعرض ويرفعون راية الجهاد فالبذل لهم أولى وأحرى بالمضاعفة والقبول، وإذا كانت هناك جهات مأمونة موثوقة تتولى الصدقات وتعرف مظانها فالتعاون معها أكمل وأتم.
أخي المسلم: طرق الخير ميسرة وأبواب الطاعات مفتوحة، وقنوات البر والإحسان ممهدة، فما عليك إلا أن تبذل وتحسن النية ولا تتقال ما تبذله فكم من ريال سبق مليون ريال، وكم من قليل سبق الكثير.
فهنيئاً لمن صدق مع الله فيما بذل وأعطى فقبل منه الله ولو أقل القليل.
أيها الإخوة الصائمون: كلما شرف الزمان والمكان شرف تبعاً له ما يقع فيه من الأعمال الصالحة والأقوال الطيبة، فالصدقة في رمضان أفضل منها في غيره، والصلاة في الحرم المكي أفضل منها في غيره، والبذل على الوالدين والأقارب أفضل منه على غيرهم، ومدار الأعمال كلها على النية الصالحة، فاحرص أخي المسلم على أن تكون أقوالك وأعمالك مقرونة بالنية الصالحة، فقبول العمل وعدم قبوله كم أرّق من نفوس مؤمنة، واسهر عيون خاشعة، وأذكى خوف عباد الله الصالحين.
كان السلف يحملون هم قبول العمل أكثر من هم العمل، وما ذاك إلا لصدق نواياهم، وطهارة قلوبهم، وصفاء نفوسهم، رزقنا الله اقتفاء آثارهم.
اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات، وشغلها بالأعمال الصالحات.
اللهم يا جزيل الهبات، ويا واسع العطيات أسكنا في أعلى الجنات.
اللهم جد علينا بالفضل والإحسان، وعاملنا بالعفو والغفران، وأعذنا من عذاب النيران، وأسكنا فسيح الجنان.
اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى.(6/3)
اللهم ارزقنا شفاعة نبينا، ,اوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
الأخلاق الفاضلة
ــــــ
الحمد لله الذي أرسل رسوله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، واصطفاه من جميع خلقه صغيراً وكبيراً، وأنزل معه كتابه المهيمن على جميع الكتب رحمه منه بعباده فهو هدى ونوراُ، فأشرقت الأرض بنور رسالته براً وبحراً وكان ربك لطيفاً خبيراً، فسبحان من اختص بالتوفيق والهداية من شاء من عباده، فكان حظهم موفوراً، أحمده سبحانه هدانا للإسلام إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله لم يتخذ ولداً ولا نصيراً ولا ظهيراً، وأصلي وأسلم على عبده المبعوث بشيراً ونذيراً من حطم الشرك والأصنام وطهر مكة منها تطهيراً وعلى آله وأصحابه جند الحق وحماته وسلم تسليماً كثيراً.
إخوتي الصائمين والصائمات: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
درسنا لهذه الليلة حول الأخلاق الفاضلة الدرع الواقي من الخطر، والعدة النافعة يوم المحشر، يقول الله تعالى مثنياً على نبيه عليه السلام:[وإنك لعلى خلق عظيم](القلم:4).
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت:(كان خلقه القرآن)(2).
__________
(1) المرأة المسلمة (ص79)، نفحات رمضان (ص264).
(2) رواه أحمد في المسند (ج6 ص91)، والبيهقي في السنن (ج2 ص499) وأصله في مسلم (ج7 ص74).(6/4)
إن للصوم رسالته التهذيبية وأثره البالغ على أخلاق المسلم، فهو ينشىء عند الصائم خلق المراقبة، ويقيم منه حارساً عاماً على نفسه، فهو يضبط النفس من الداخل لئلا تخالف أو تحاول فتصدر أعمال المسلم الخارجية خاضعة لهذه الرقابة، أترى الصائم يصدق مع ربه ويكذب على الناس؟ أتراه يخلص في صومه ثم ينافق في المجتمع، إن الإخلاص كل لا يتجزأ، وإن ذروة سنامه وملاك أمره الإخلاص مع الله، فمن أخلص مع ربه محال أن يخدع ويخون ويغش، ومحال أن يسرق أو يبطش أو يؤذي، ولو حصل منه شيء من ذلك على سبيل الخطرات رجع وأناب واعتذر وندم ندماً بالغاً.
إن الصوم عامل أساسي من عوامل تأصيل الأخلاق وتعميقها، وبنائها على أساس متين من الداخل لأن جمال الظاهر لا يغني إذا لم يكن الداخل محكماً ومنيعاً، ولهذا أخلاق الصائمين تأخذ صفة الثبات والاستمرار والنمو المتزايد لأنها مصونة من الداخل والخارج.
حدثني من أثق به قال: أن مسئولاً نصرانياً عن العمال في الكويت في إحدى حقول البترول لما دخل رمضان قال لنا من أفطر فسنضاعف له الراتب، ومن لم يفطر فسيأخذ راتبه فقط.
وظن العمال أن قصد هذا الكافر أن الصائمين أقل إنتاجاً، والمفطرين أكثر عملاً وتحركاً وإنتاجاً، وهنا أخذ الطمع يتصارع مع الإيمان، فمن غلبته نفسه أفطر طمعاً في مضاعفة الراتب، ومن ثبته الله بقوة الإيمان وعدم الالتفات إلى المال استمر على صومه، وقال: قليل مع الطاعة خير من كثير مع المعصية.(6/5)
وأخذ المسئول الكافر يحصي الصائمين والمفطرين يومياً حتى كمل الشهر، وعند تسليم الرواتب أعطى الصائمين راتباً مضاعفاً، وأعطى المفطرين راتبهم فقط وسرحهم من العمل، وقال: إن من يخون ربه يخون الناس، وهذا من الكافر ليس حرصاً على الصيام، بل هو حريص على العمل لأن المفطرين يسرقون من أوقات عملهم ولا ينتجون لأن عنصر الإخلاص عندهم مفقود، وأما الصائمون فعملهم واحد عند وجود المراقبة وعدمها لأن لديهم مراقبة داخلية من أنفسهم.
إن أخلاق المسلمين ثابتة لا تتغير مهما تغير الموقع، ومهما تغير المتعامل معه، لا تتلون بلون المصلحة، ولا تتزيا بزي المنفعة.
أما أخلاق غير المسلمين المصطنعة فهي تدور مع المنفعة، وتسير وراء المصلحة، وتختلف من وقت لآخر أخلاق مصنوعة تسير خلف الشهوات، تتلون حسب مقتضيات الأحوال، وليت شعري كيف فتن بعض شبابنا بأخلاق الغرب وما علموا أنها أخلاق تجارية وقتية إذا تغير موقع المتعامل حكم بشريعة الغاب لكنه في بلده محكوم بنظام صارم لا يراعي حلاً ولا حرمة، ولا مصلحة عامة بل الأهم كسب السائح والزائر والظهور أمامه بمظهر الأمانة والصدق والنزاهة ووراء الأكمة ما وراءها.
أخي الصائم: هناك أمور عظيمة وقم ثابتة ينبغي على المسلم أن يتحلى بها مهما كلفه ذلك من ثمن، حياة المسلم كلها حركاته وسكناته، نومه ويقظته في كل شئون حياته المادية والاجتماعية والاقتصادية والأسرية لابد أن تكون خاضعة لهذه القيم وتلك المعايير، ويومها يعيش المجتمع المسلم بأمن وسلام وطمأنينة، ورغد عيش ترفرف عليه ظلال المحبة، ويسوده شعار السلام.
أخي الصائم: هذه توجيهات نابعة من أخ يحبك ويتمنى لك الخير حيث كنت وحيث كان:
(1) احرص على العلم فعن طريقه تعرف الحلال والحرام، وتعرف الحق فتعمل به، وتعرف الباطل فتتجنبه، وتعرف الخير فتساهم فيه.
(2) العمل بما تعلم والتطبيق لما نقول.(6/6)
إن من أعظم أدوائنا وأكثر مصائبنا نحن المسلمين أننا نقول ما لانفعل، ونكثر الكلام ونجبن عن العمل، وصدق الله:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] (الصف:2، 3).
(3) الإخلاص في كل ما تأتي وما تذر، وصدق الله:[لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ](الحج:37).
(4) الأمانة في كلا معاملاتك وأحاديثك وتوجيهاتك، وأخص الأمانة مع نفسك وأسرتك.
(5) الصبر على الابتلاء، والصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية.
(6) أن تكون رقيقاً لين الجانب مع الآخرين.
(7) أن تكون ميسراً مبشراً هاشاً باشاً في وجوه المؤمنين.
(8) أن تكون ورعاً وهذا أحد أسرار الصوم العجيبة [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].
(9) احرص على الشهادة العادلة ولو على نفسك، لا تغتر بكلام الآخرين واحذر مجالس السوء التي تقوم على أكل لحوم المسلمين، فوالله ليأتين يوم يقتص فيه تضيع فيه الحسنات التي جمعت وتذهب للآخرين، فوا حسرتى على التفريط والإهمال.
(10) احرص على التعاون مع الآخرين وعمل الخير في كل مكان، واحذر أن تقف في وجه من يعمل الخير مهما اختلفت المشارب وتعددت الوسائل وتشعبت السبل.
(11) ابذل جاهك للآخرين واشفع لهم فيما فيه الخير، وساعد المحتاج، وأعن الضعيف لعل الله أن يقيك بذلك من لفح جهنم.(6/7)
(12) لا تغفل عن إخوانك المجاهدين في شتى بلاد المعمورة، فكل مسلم يرفع كلمة الإخلاص أنت مسئول عنه إن قدرت على مد يد العون له، وصدق الله العظيم:[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ](آل عمران:103).
شعراً:
نور الكتاب أضاء فيمن قبلنا ... *** ... فمحى الشكوك وبدد الأوهاما
صاغ الجنود على هدى من شرعه ... *** ... قمماً تضيء وترفع الأعلاما
فتحوا البلاد ليملؤها عزة ... *** ... كسوا الوجود محبة وسلاما
من فوق مئذنة الحضارة أذنوا ... *** ... للحق لحناً أيقظ النواما
الله أكبر رددوها للورى ... *** ... فصحا الجميع وحققوا الأحلاما
وقال الشاعر:
ركب من الأخيار جند محمد ... *** ... دكوا القيود وحطموا الأسوارا
ركب تبوأ فجره رغم الدجى ... *** ... فالنور كان بأرضه معيارا
ركب إلى الرحمن يهرع في الوغى ... *** ... يلقي المية إن دنت مختارا
رسالة إلى أختي المسلمة
ــــــ
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، مجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهادي من توجه إليه واستهداه، ومحقق رجاء من صدق في معاملته ورجاه، من أقبل إليه صادقاً تلقاه، ومن ترك لأجله أعطاه فوق كل ما تمناه، ومن لاذ بحماه حماه، ومن توكل عليه كفاه.
أحمده حمداً يملأ أرضه وسماه، وأشكره على جزيل فضله وسوابغ نعماه، وأشهد أن لا إله إلا الله لا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه، وأسرى به إلى السماء وأراه من الأسرار ما أراه، وقربه إليه وشرفه وأدناه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه ومن تبع هداه.(6/8)
أخوة العقيدة: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. يطيب لنا في هذه الليلة المباركة أن يكون درسنا رسالة عاجلة إلى الأخت المسلمة؛ أماً وزوجة وأختاً وبنتاً وقريبة.
أختي المسلمة: إن دخولك المسجد وتأديتك الصلاة مع المسلمين في هذا الشهر المبارك دليل قاطع على سلامة توجهك، وحرصك على الخير، فهنيئاً لك الأجر الجزيل بمشيئة الله.
يقول تعالى:[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](التوبة:71).
المؤمنون والمؤمنات كل منهم عليه مسئولية منوطة به، عليه أن يقوم بها على أتم وجه وأكمله.
فمتى قمت أيتها الأخت المؤمنة بواجباتك حصلت لك السعادة في الدنيا والفلاح والفوز في العقبى بمشيئة الله تعالى.
(1) حافظي على الصلوات الخمس بركوعها وسجودها، تطمئنين فيها وتخشعين وتكونين بعيدة عن عبث الأولاد وصخبهم، وحذار أيتها الأخت الفاضلة أن تكون الصلاة هي آخر ما في حساباتك، تقدمين حاجة البيت عليها، ولا تقومين لها مهمومة مغمومة، يعلوك الكسل ويجللك الفتور، فذلك من شعارات المنافقين والمنافقات والعياذ بالله.
(2) حافظي على السنن والرواتب، ولازمي الأذكار والأدعية، ولا تصدري إلا كلاماً طيباً، وإياك والدعاء على أولادك والظهور أمامهم بالمظهر غير اللائق من كل وجه.
(3) طاعة زوجك طاعة تامة بالمعروف، وعليك بتلبية مطالبه والقيام بحاجاته، وتحسس مرغوباته، وتحقيقها قبل طلبها، فهذا من تصرف المرأة الحازمة العاقلة، واحرصي على تطويق أي خلاف مع زوجك قبل أن يستفحل ويخرج للآخرين، والمرأة المخلصة تعرف كيف تعامل زوجها بالأدب والعشرة الكريمة، وتكون له أماً وأختاً وزوجة.(6/9)
(4) احرصي على تربية أولادك وذلك بتعليمهم ما ينفعهم وتهذيب أخلاقهم، وتعويدهم على الجميل من القول والعمل، وتحبيب الخير لهم، وحثهم على الصدق والالتزام بالوعد وعدم التعدي أو أذية الآخرين، ولا تكوني أختي المسلمة ممن تهتم بمأكل أولادها ومشربهم وملبسهم على حساب أخلاقهم وتربيتهم وتعليمهم، فكما أن صحة الولد ونظافته مطلوبة كذلك أخلاقه وسلوكه بل الأخيرة أهم.
وصدق الله العظيم:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ](التحريم:6).
(5) القيام بشؤون البيت كاملة غير منقوصة، وحذار أن تتساهلي بشيء منه فتلك مهمتك الأولى وأنت الحاكمة فيه، فاحرصي أن يكون هادئاً مريحاً يستمتع الزوج بالجلوس فيه، والأنس مع من فيه، وكلما بدرت شرارة من ضجيج الأولاد وصخبهم فطوقيها قبل أن تزعج رب الأسرة.
(6) يتأكد عليك أختي المسلمة بر والديك والإحسان إليهما، وصلة أرحامك بقدر ما يتيسر لك، وهنا ينبغي أن تعلمي أن حقوق الزوج مقدمة على حقوق الوالدين عند المشاحة، فلا تخرجي حتى لوالديك إلا بإذن زوجك ورضاه، ومن تمام العشرة والحقوق المتبادلة أن يسمح لك بزيارة والديك وصلتهما حسب ما تقتضيه المصلحة والحاجة، واعلمي أنك ترسمين منهجك بنفسك، فعلى قدر تخطيطك وسلوكك مع زوجك على قدر ما يكون متجاوباً في تلبية طلباتك.
(7) يتأكد عليك حفظ عرضك، وغض بصرك، وعدم الخروج من منزلك إلا لحاجة ملحة، فمن الخير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال، ومن تمام سعادة المرأة أن تلزم بيتها إلا لمصلحة راجحة تقدرينها ويقدرها زوجك.(6/10)
(8) احرصي على الستر والعفاف والحجاب الكامل، فالشيطان حريص على إيقاعك وإيقاع غيرك بك، وشياطين الإنس كثيرون ولك بنساء السلف خير قدوة، كانت الواحدة منهن إذا خرجت لما لابد لها منه خرجت وهي متسترة محتشمة لا يرى منها إلا السواد.
أسأل الله جل وعلا أن يرزقك الحشمة والستر والعفاف، وأن يهب لك ذرية صالحة تنفعك في الحياة وبعد الممات.
شعراً:
أختاه يا بنت الخليج تحشمي ... *** ... لا ترفعي عنك الخمار فتندمي
هذا الخمار يزيد وجهك بهجة ... *** ... وحلاوة العينين أن تتلثمي
صوني جمالك إن أردت كرامة ... *** ... كيلا يصول عليك أدنى ضيغم
لا تعرضي عن هدى ربك ساعة ... *** ... عضي عليه مدى الحياة لتغنمي
حلل التبرج إن أردت رخيصة ... *** ... أما العفاف فدونه سفك الدم
العري مرتعه وخيم فاحذري ... *** ... وتداركي البنيان قبل تهدم
حسناء يا ذات الدلال فإنني ... *** ... أخشى عليك من الخبيث المجرم
شغل الأوقات في رمضان
ــــــ
قالوا الوقت من ذهب إن لم تحرص عليه ذهب، لكننا نقول أن الذهب يعوض، فإذا ضاع مرة حصل أخرى، ولا يقيس الحياة بالذهب إلا الناس الماديون الذين لا يعيرون وزناً للثواب والعقاب، وقالوا الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، ونحن نقول هذه عبارة صائبة لكنها لا تدل على المراد من تحصيل النفع والاستفادة من الوقت، ولهذا فوقت المسلم حياته يحاسب على كل خطرة ولحظة وحركة وسكون:[قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] (الأنعام:162، 163).
وكل يوم يمر على المسلم هو خلق جديد وعلى عمله شهيد، وإذا مضى فلن يرجع ويعود.
وصدق الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له ... *** ... إن الحياة دقائق وثواني(6/11)
الوقت حلقة في سلسلة الحياة لاندري ماذا كتب بعدها من خطوات تتلاشى سريعاً كما يتلاشى الجليد الذي صهرته حرارة الشمس المحرقة، لكن هذه الخطوة وتلك السلسلة مسئولون عنها ومستوقفون حولها، وصدق معلم البشرية - صلى الله عليه وسلم - :(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعلمه ماذا عمل به)(1).
ينبغي أن يسأل المسلم نفسه سؤالاً عادياً نتهرب منه دائماً:
ما الذي استفدناه ولأمتنا خلال عام مضى بدقائقه وساعاته وأيامه ولياليه؟
هل اهتدينا في رمضان الماضي إلى أسلوب صحيح حتى جاء رمضان هذا العام فإذا نحن أزكى نفوساً وأصفى أرواحاً وأطهر أخلاقاً.
إننا ما زلنا كما كنا، بل إن التقصير عمنا والتفريط شملنا ولم نكترث بعام مر وانصرم، ولم نعتبر برمضان الماضي، وهذا من قسوة القلوب والعياذ بالله.
شهر رمضان دائماً يذكرنا بقيمة الوقت في الإسلام إنه لا فراغ في حياة المؤمن.
لا فراغ والإسلام قائم بالنفوس.
لا فراغ والإيمان يعمر القلوب.
لا فراغ في حياة أمة لها غاية.
لا فراغ في حياة مجتمع حياته كلها عبادة.
لا فراغ في حياة مسلم يتقلب من طاعة إلى طاعة، خطراته، وحركاته، وسكناته، وشربه، ونومه، وذهابه وإيابه عبادة لله.
متى تحققت النية الخالصة والمتابعة الصادقة:[قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ](الأنعام:162، 163).
__________
(1) رواه الترمذي في سننه (ج4 ص612)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وذكره الألباني في الصحيحة برقم 946 (ج1 ص266).(6/12)
أخي الصائم: لقد وهبك الله سبحانه عمراً، وجعل له خاتمة ونهاية، ولا ريب أن المؤمن الكيس الفطن يحس في أعماقه بأنه في سباق مع هذه النهاية، يحاول أن يسجل فيها أكبر قدر من العمل الصالح، وصدق الله العظيم:[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ](آل عمران:30).
فموقفك أخي المسلم يوم الحساب مرتبط بالزمن، وذلك اليوم يفوز أقوام استغلوا أوقاتهم في طاعة الله، ويخسر آخرون فرطوا وتكاسلوا وضيعوا أعمارهم سبهللا، وصدق الله:[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56).
لقد أعطانا الله أعماراً محدودة، وأنفاساً معدودة، وكلفنا حفظها فيما ينفع في ديننا ودنيانا، ووكل بنا ملائكة حافظين كراماً كاتبين يحفظون أعمالنا ويكتبون أقوالنا وأفعالنا من خير وشر، فإذا كان يوم القيامة شهدت علينا الحفظة، وشهدت علينا الجوارح، وشهدت علينا بقاع الأرض التي عملنا فوقها، وينشر الديوان الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وصدق الله العظيم:[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه](الزلزلة:7، 8).(6/13)
[يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ](النور:24)، [وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ] (فصلت:21، 22)، [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً](الكهف:49).
أخي الصائم: لقد أظلك شهر عظيم مبارك فاجتهد فيه بالأعمال الصالحة من فرائض ونوافل من صلوات وصدقات، وبذل معروف وإحسان، وصبر على طاعة الله، وعمارة نهاره بالصيام وليله بالقيام، وساعاته بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، وجالسة الأخيار والصالحين، والإقبال على العلم النافع، فوالله إن المحروم من حرم الخير في هذا الشهر، والشقي من نسي الله فنسيه، والمفلس من يدخل عليه رمضان ويخرج وهو لم يغير من حاله ويستعد لمآله.
اللهم وفقنا لاغتنام أوقاته، وعمارة دقائقه وساعاته، واجعلنا من الفائزين يوم تشهد الدواوين ويقوم الناس لرب العالمين:[يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ](الحج:2).
اللهم علمنا من ديننا ما جهلنا، واقبل بفضلك قليل ما عملنا، واستر عيوبنا، واكشف كروبنا، وأزل همومنا وأحزاننا، وتوفنا وأنت راض عنا.(6/14)
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
نصائح وتوجيهات
أخي المسلم: أدعوك لسماع مجموعة من التوجيهات والنصائح لعل الله أن ينفعنا بها إنه ولي ذلك والقادر عليه:
(1) كثير من المسلمين يهتم في رمضان بمختلف صنوف الطاعات، فإذا ودّع الشهر هجر هذه الطاعات وكأنه لا يعرف الله إلا في رمضان، وكأن رب رمضان ليس رباً لشوال وبقية العام.
هناك من يقبل على كتاب الله في رمضان ويختمه مراراً وقد هجره طوال العام.
هناك من يحافظ على الصلوات المكتوبة، وصلاة الليل وهو لا يعرف المسجد في غير رمضان.
هناك من يلازم حلقات العلم والدرس وهو لا يطيقها في غير رمضان.
أهكذا يكون المسلم الحق؟ أم أنها المفاهيم الخاطئة والممارسات المرفوضة التي يتعامل بها بعض المسلمين اليوم.
(2) الصائم حين يمسك عن الطعام والشراب يشعر بأنه يفعل ذلك لأجل الله تعالى، وفي ظل من مراقبته كيف لا وهو يجد الطعام الشهي والماء الهنيء أمام عينيه فيغالب ويجاهد ويعف لا يخشى إلا الله وحده طالباً مغفرته ورضاه، هذا هو الصيام الحقيقي.
أما أولئك الذين أفرغوا الصيام من محتواه وجعلوه ظاهراً بلا روح فهؤلاء لم يؤدوا العبادة على وجهها المشروع، ذلك لأنهم أطلقوا لقلوبهم وعقولهم حرية ما يصدر عنها من خطرات السوء، وتصورات الشر والفساد رياءً وحقداً وغلاً وظناً سيئاً، وأرخوا لجوارحهم العنان فخاضت ألسنتهم في المحرم من القول مراءً ومجادلة ومزاحاً وخصومة وسباً وفحشاً وسخرية وكذباً وغيبة ونميمة، وأيماناً فاجرة وصوبوا أبصارهم نحو ما حرم الله النظر إليه، وأمر بغض البصر عنه، وفتحوا آذانهم لسماع اللغو واللهو والقيل والقال.
__________
(1) أخي الصائم (ص101)، هكذا نصوم (ص33)، نفحات رمضان (ص236)(6/15)
هؤلاء أخذوا مظهر الصيام فقط فامتنعوا عن الأكل والشرب والجماع، ولكنهم وقعوا فيما هو مثل هذه المفطرات أو أشد.
(3) إن مسئولية الأهل نحو أبنائهم أمانة عظيمة في أعناقهم، إن أحسنوا التعامل معها والتحمل لتبعاتها وأداء واجباتها كان العطاء عظيماً للحاضر والمستقبل.
ومن أهم الأمور التي تندرج في تربية الطفل وتأديبه تعوديه العبادات عموماً، والصوم خصوصاً منذ الصغر وقبل أن يبلغ سن التكليف.
عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، من أصبح مفطراً فليتم بقية صومه، ومن أصبح صائماً فليصم، فكنا نصومه بعد ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن ـ الصوف المصبوغ ـ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)(1).
ففي هذا الحديث تمرين الصبيان على الصيام وتعويدهم عليه ليكونوا مستعدين عند بلوغهم ويسهل عليهم، فهل يعي الآباء والأمهات ذلك ويحرصوا عليه لأنه عين الرحمة بهم والشفقة عليهم، لأن نور الطاعة يملأ جوانحهم ويذكي بواعث الخير في نفوسهم، فتنساق له دون تكلف أو جهاد.
(4) تكثر الأسئلة حول وقت الإمساك والفطر والأكل أثناء الأذان من صلاة الفجر، ونقول لهؤلاء: السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، ولكن ليس إلى الحد الذي يوقعك في الشبهة والحرج، فتذهب تسأل عن الحكم، فعليك أخي الصائم أن تمسك قبيل الأذان لدقائق لأن هذا أسلم وأحوط.
وإن كنت في مكان تعتمد فيه على رؤية الفجر بنفسك فإن كانت هناك ساعة فالأمر محسوم وإلا فارقب الفجر، ومنى بان لك حسب ما يظهر لك فأمسك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص152).(6/16)
ونقول لإخواننا الذين يتعجلون في أذان المغرب ولا يتثبتون فيوقعون المسلمين في الحرج عليكم بالتثبت وراقبوا الله جل وعلا فمعرفة الوقت وضبطه أمانه عظيمة سيترتب عليها عبادات كثيرة إذ قد تفطر مجموعة بسب هذا الأذان، وقد تصلي نساء في غير الوقت وهكذا.
(5) بعض الناس يتبعون الإمام الذي يخفف في الصلاة فيهجرون مساجدهم القريبة ويذهبون لمساجد بعيدة، وهنا نهمس في أذن هؤلاء ونقول الأولى لكم أن تصلوا في مسجد الحي الذي تصلون فيه الأوقات الأخرى لأن جماعة المسجد يشجع بعضهم بعضاً ويكثر عددهم وفي هذا تشجيع لأولادهم وإمامهم.
ونقول لإمام الحي الذي يذهب عنه بعض جماعته ابحث عن الأسباب وأصلحها وإذا كنت ممن يطيل إطالة ترهق الناس فخفف وعليك بالوسط فخير الأمور أواسطها.
ونقول للإمام الذي يخفف فيخل بالصلاة اتق الله فهذه أمانة ستسأل عنها يوم القيامة، وحذار أن تغتر بكثرة الجماعة ومجيئهم لك من بعيد فقد يكون ذلك فتنة لك والعياذ بالله.
واحرص على القراءة الواضحة الخاشعة، وأتم الركوع والسجود وجميع الأركان، وحافظ على الطمأنينة لتسلم يوم أن تسأل عما استرعاك الله عليه.
(6) بدأت في السنوات الأخيرة ظاهرة لها جانبان سلبي وإيجابي هذه الظاهرة هي طول دعاء القنوت والختمة، وتنويعه واختيار السجع المتكلف فيه، بل وقراءته من ورقه أحياناً، ونقول لهؤلاء إن الاقتصار على ما ورد أفضل ولا حرج أن يكون معه غيره من الدعاء المشروع، لكن أن يجاوز ذلك وقت الصلاة كلها أو يماثله فهذا مالا نعرف له أصلاً من كلام أهل العلم.(6/17)
لقد صليت ذات مرة مع إمام هداه الله وعافانا مما ابتلاه، كانت صلاته سريعة جداً لا يطمئن فيها ولا يقيم الركوع والسجود على الوجه المطلوب، ولما بدأ بالقنوت أخذ يمد ويعيد ويردد حتى مل الناس من صنيعه، وكانت صلاته نصف ساعة وقنوته في حدود ربع الساعة، إن الذين لن يؤثر فيهم القرآن ويؤثر فيهم هذا الدعاء المسجوع المتكلف يخشى عليهم، فالله قال في كتابه:[لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ](الحشر:21).
ونفس الكلام نقوله في دعاء ختم القرآن، فالله الله أخي الإمام بالاتباع واحذر الابتداع وما ليس فيه سنة ثابتة لا تلتزمه، وعليك بالعمل بالسنة وإحيائها، وتعويد جماعتك عليها لأنها تصبح مألوفة لهم.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياك للخير، وأن يأخذ بأيدينا جميعاً لما فيه صلاحنا وفلاحنا وفوزنا يوم القيامة.
اللهم اسلك بنا سبيل المتقين الأخيار، وجنبنا طريق العصاة والفجار والكفار، وأسكنا فسيح الجنان، وباعد بيننا وبين النار، وخفف عن ظهورنا من ثقل الأوزار، وسامحنا وتجاوز عنا يا عزيز ياغفار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أحرم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين(1).
صدقة الفطر
ــــــ
الحمد لله الذي فرض الزكاة طهرة وتزكية للنفوس والأموال ووعد على الإنفاق في سبيله خلفاً عاجلاً وثواباً في الحال والمآل، أعطى الكثير وفرض القليل ليتبين أهل البخل من أهل السخاء والكمال، نحمده ونشكره على ما أولانا من النعم ودفع من النقم، فله الحمد المطلق الكامل لأنه الكبير المتعال.
__________
(1) مجالس شهر رمضان (ص127)، الصيام: محدثاته وحوادثه (ص36).(6/18)
لقد أكرمنا بالإسلام والإيمان والصحة في الأبدان والأمن في الأوطان والأزواج والعيال، لا يحصى ثناء عليه فهو الرحيم بأوليائه المنتقم من أعدائه شديد المحال.
واشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له شهادة أدخرها ليوم تتراكم فيه الخطوب والأفزاع والأهوال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المخصوص بأشرف الخصال، إمام الموحدين وقدوة المتعبدين، فهو الأسوة في جميع الأعمال، اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله وأصحابه واجمعنا بهم يا ذا الكرم والإجلال.
أيها الإخوة في الله:
حديثنا هذه الليلة بمشيئة الله حول صدقة الفطر، فنقول صدقة الفطر هي الصدقة الواجبة على أعيان المسلمين بحلول عبد الفطر المبارك، شرعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة بعد أن فرض عليها الصيام، وسميت بذلك لأنها تجب بالفطر، أي يوم العيد، وقيل: لأنها صدقة للخلقة أي الفطرة تطهيراً للصائم وجبراً لصيامه.
وهي صدقة بدن متعلقة بكل بدن من أبدان المسلمين صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، أحراراً وعبيداً، وهي واجبة على كل مسلم بدليل ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال:(فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأثنى، والصغير والكبير من المسلمين)(1).
ولهذه الصدقة فضل عظيم حيث أناط الله بها وبصلاة العيد بعدها فلاح المؤمن، وفوزه بسعادة الدارين، فقال تعالى:[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى](الأعلى:14، 15).
ووصفها نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - بأنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وهذا مبني على أن فلاح العبد متوقف على زكاة نفسه وطهارتها بما شرع الله من صالح الأقوال والأعمال، وزكاة الفطر من بينها، فهي مما يؤهل المسلم لأن ينال فلاح الآخرة وفوزها، كفى هذا شرفاً وفضلاً.
__________
(1) رواه مسلم (ج3 ص68).(6/19)
ولعل من أبرز معالمها التشريعية وأسرارها الظاهرة أنها تزكي نفس المؤمن وتطهرها مما قد يعلق بها من آثار اللغو والرفث أثناء صيام رمضان.
وأنها تصون كرامة المؤمن وتحفظ له عزته، فالمؤمن الجائع قد يضطره جوعه إلى أن يسأل الناس يوم العيد وفي ذلك من الذلة والانكسار ما يتنافى مع عزة المؤمن وبهجة العيد وسروره.
وأنها تحافظ على المجتمع المسلم مترابطاً متعاوناً متكافلاً يشعر الغني بشعور الفقير ويحس بإحساسه، يمثلون بنياناً واحداً يشد بعضه بعضاً، وهنا لا مجال للحقد والحسد ولا للضغينة والبغضاء لأن الغني يبذل للفقير فيدعو الأخير للأول بالبركة في المال والرزق.
وعلى المسلم أن يخرج الغالب من طعام أهل بلده من تمر أو أرز أو بر أو زبيب أو أقط أو غير ذلك، المهم أن يكون طعاماً للآدميين، ولا يجوز إخراجها من الثياب والفرش والأواني وسائر الأمتعة.
كما لا يجزيء إخراج القيمة لأن ذلك خلاف ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ولأنه لا يسوغ لنا أن نغير وقتها فكذا لا نغير جنسها، ولأن إخراجها نقوداً يبعدها عن كونها شعيرة ظاهرة يحسن بالمسلم أن يكيلها أمام أهل بيته ليروها ويسروا بإخراجها.
وقدرها كيلوان وربع الكيلو من البر الجيد أو ما يعادله لأن زنة الصاع بعد التتبع كيلوان وربع الكيلو، وهناك من أهل العلم من أوصله إلى ثلاث كيلوات، ومنهم من جعله كيلوان وأربعين جراماً، والله أعلم بالصواب.
ووقت وجوب صدقة الفطر غروب الشمس من ليلة العيد، فمن كان من أهل الوجوب حينذاك وجبت عليه وإلا فلان فمن مات قبل الغروب ولو بدقائق لم تجب فطرته، ومن مات بعد الغروب وجبت.
ووقت إخراجها يوم العيد قبل الصلاة وهذا أفضل أوقاتها، وللمسلم أن يخرجها قبل العيد بيوم أو يومين إذا كان إخراجها يوم العيد يشق عليه.(6/20)
ومصرفها مصرف الزكاة فلا يسوغ للمسلم أن يصرفها في غير مصرفها الشرعي، ونحن نلاحظ تساهل كثير من الناس في صرف صدقة الفطر، فهذا يعطي جيرانه، وذاك يعطي أقاربه، وثالث يعطي أصدقاءه، ولو كانوا كلهم غير فقراء والله جل وعلا حدد مصارف الزكاة وتولى قسمتها بنفسه لئلا يكون لأحد مطمع فيها، قال تعالى:[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ](التوبة:60).
شعراً:
دع البكاء على الأطلال والدار ... *** ... واذكر لمن بان من خل ومن جار
واذر الدموع نحيباً وابك من أسف ... *** ... على فراق ليال ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جعلت ... *** ... إلا لتمحيص آثام وأوزار
يا لائمي في البكا زدني به كلفاً ... *** ... واسمع غريب أحاديث وأخبار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع ... *** ... منا المصلي ومنا القانت القاري
وفي التراويح للراحات جامعة ... *** ... فيها المصابيح تزهو مثل أزهار
شهر به ليلة القدر التي شرفت ... *** ... حقاً على كل شهر ذات أسرار
مُنَزَّل الروح والأفلاك قاطبة ... *** ... بإذن رب غفور خالق باري
وداع رمضان
أخي الصائم: من منا نحن المسلمين لا تؤلم نفسه لحظات الفراق، ومن منا نحن المؤمنين لا تجرح مشاعره ساعات الغياب.
بدموع الفرح استقبلناه وكأنني بك تطلق العبرات والزفرات لسماع أول موعظة في أول الشهر، وها أنت بدموع الأثر والتأثر تودعه وكأنني بك نادم كل الندم على التقصير.(6/21)
أخي الصائم: وأنت تودع شهر الصيام تذكر أن رمضان جاء وها هو يذهب، وقد طوى دفاتره وسوى حساباته، ومن فاز بالربح وكسب الجولة وختم كشوفه مع من خسر الصفقة وغبن في البيع، الحسنة تضاعف إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف لكنها في رمضان تضاعف إلى ما شاء الله لأن الصوم له وحده وهو الذي يجزي به.
ليقف كل واحد منا مع نفسه:
(1) كيف أستقبل رمضان؟
(2) هل أطعم جاراً؟ هل زار أخاً في الله؟ هل عاد مريضاً؟
(3) هل فطر صائماً؟
(4) هل نصر مظلوماً وأعانه على تخطي ظلامته؟
(5) هل مسح على رأس يتيم وآواه وما أكثرهم في عالمنا الإسلامي الواسع؟
(6) هل صادف ضالاً فعمل على هدايته وتوجيهه والأخذ بيده ليتوب إلى رشده؟
(7) هل جبر جرح مكسور وواساه وأدخل السرور عليه؟
(8) هل طيب خاطر محروم؟
(9) هل أصلح ذات البين وساهم في زرع السعادة في أسرة تفقدها؟
(10) هل تذكر إخوانه المجاهدين هنا وهناك فادخر لهم شيئاً من كسب يده لعل الله أن يدفع به عنه مكائد الأعداء؟
(11) هل ساهم في إعانة شاب على الزواج ليحصن نفسه ويعفها عن الحرام؟
(12) هل بر بوالديه وقام بصلة رحمه، وقدَّر معلميه، وحفظ عرض إخوانه؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها ونحن نودع هذا الشهر ليتبين الفائز من العاثر والرابح من الخاسر؟
عباد الله:
اختموا شهركم بالتوبة النصوح، واسكبوا غزير الدموع لعل الله أن يرحمكم برحمته الواسعة، فكم من شخص جاء بالقليل وتوج بالقبول، وكم من شخص عمل الكثير ولكنه مني بالحرمان والعياذ بالله.
السلام عليك يا شهر رمضان، السلام عليك يا شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، السلام عليك يا شهر التجاوز والغفران، السلام عليك يا شهر البركة والإحسان، السلام عليك يا شهر التراويح، السلام عليك يا شهر الأنوار والمصابيح، السلام عليك يا شهر المتجر الربيح، السلام عليك يا شهراً يترك فيه القبيح.(6/22)
شهر رمضان شهر العتق من النيران، شهر تغل فيه مردة الجان، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار من لم يتب في رمضان فمتى يتوب، من لم يرجع إلى ربه في رمضان فمتى يؤوب، من لم يأخذ بحظ وافر في هذه الليالي فمتى يحصل على المطلوب.
سلام من الرحمن كل أوان ... *** ... على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه ... *** ... أمان من الرحمن كل أمان
لئن كنت يا شهر الصيام منوراً ... *** ... لكل فؤاد مظلم وجنان
ترحلت يا شهر الصيام بصومنا ... *** ... وقد كنت أنواراً بكل مكان
لئن فنيت أيامك الزهر بغتة ... *** ... فما الحزن من قلبي عليك بفان
عليك سلام الله كن شاهداً لنا ... *** ... بخير رعاك الله من رمضان
اللهم أهل القبور رهائن ذنوب لا يطلقون، وأسارى وحشة لا يفكون، وغرباء سفر لا ينتظرون، محت دراسات الثرى محاسن وجوههم، وجاورتهم الهوام في ملاحد قبورهم، فهم جيران قرب لا يتزاورون، وفيهم محسنون ومسيئون ومقصرون ومجتهدون، اللهم فمن كان منهم مسروراً فزده كرامة وحبوراً، ومن كان منهم ملهوفاً فبدل حزنه فرحاً وسروراً.
اللهم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في مثله فبارك لنا فيه، وإن قضيت بقطع آجالنا فأحسن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا، وعمنا جميعاً برحمتك وغفرانك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1).
{{{*** أهلاً رمضان ***}}}
__________
(1) المغني (ج3 ص55)، أخي الصائم (ص224).(6/23)
أخوة الإيمان: قد نزل بساحتكم شهر كريم، وموسم عظيم خصَّه الله بالتشريف والتكريم، وأنزل فيه القرآن العظيم، وفرض صيامه على جميع المسلمين، وسن قيامه الرسول الكريم، شهرُ إجابة الدعوات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وإجزال الهبات، وكثرة النفحات، شهر تكفير السيئات، والصفح عن الموبقات وإقالة العثرات، شهر فضَّل الله أوقاته على سائر الأوقات، وخصه بأسمى الصفات.
شهر يشتاق إليه المؤمنون، ويبكي عند قدومه المخلصون، وينطرح على بابه السابقون فيفتح لهم بعون الله الكريم المنان، شهر حمل بين طياته الخيرات، وهب نسيم شوقه على العباد، ولاحت شمس نوره على البريات، شهر الصيام والقرآن والصدقات، شهر المسارعة إلى الخيرات، شهر مجاهدة النفس على الطاعات، شهر أحبه النبي الكريم فقامه وصامه قربة لربه وتلذذاً بنعمة وصاله وحبه، شهر المغفرة والعتق من النيران، فما شوهد عتق لبشر في شهر من الشهور أكثر من هذا الشهر العظيم، شهر تصفد فيه الشياطين ومردة الجان، شهر تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، فترى أصحاب الهمم العالية يتسابقون في كل باب لغاية واحدة هي إرضاء الرحيم الرحمن، ومجاورة خير ولد عدنان في أعالي الجنان.
كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - عند قدوم رمضان يقول: (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وبك الله) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 4/430.
بين المولى جل وعلا في كتابه العزيز وجوب صيام رمضان، وأن صيامه يوصل إلى التقوى، والتقوى توصل إلى خشية الله، وخشية الله توصل إلى الاستزادة من الأعمال الصالحات وترك المنهيات، وهذه توصل إلى مرضات رب البريات، وهذه توصل إلى نعيم الجنات، قال تعالى:[يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون](البقرة:184).(6/24)
وبيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الثابت من السنة فضائل الصوم وبيَّن أنه حصن من الشهوات، ووقاية من النار، وأنه سبب لدخول الجنة،وأن فيها باباً خاصاً بالصائمين، وأن الصيام يشفع لصاحبه، وأنه كفارة، وإليك بيان ذلك:
الصوم جنة: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)متفق عليه.
الصوم يدخل الجنة: إذا كان الصوم يبعد صاحبه من النار فهو يدنيه من بحبوحة الجنة، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة..)رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به...)رواه البخاري ومسلم.
الصيام سبب لمغفرة الذنوب: قال - صلى الله عليه وسلم -:(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من ذنبه)متفق عليه.
الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان) رواه أحمد، وأيضاً ما رواه أبو أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) رواه مسلم.
الصيام كفارة: ومما ينفرد به الصيام من فضائل أن الله جعله كفارة لبعض الأعمال التي تصدر من المسلم ومنها حنث اليمين، يقول الله تعالى:[ لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ...](6/25)
الريان للصائمين: عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لايدخل فيه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد..)رواه البخاري ومسلم.
أبواب الخير في رمضان:
(1) الصيام: عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)متفق عليه.
(2) تلاوة القرآن:عن أبي أمامة قال - صلى الله عليه وسلم -:(اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)رواه مسلم.
(3) القيام: عن أبي هريرة قال - صلى الله عليه وسلم -:(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)متفق عليه.
(4) تفطير الصوام: عن زيد بن خالد الجهني قال: قال - صلى الله عليه وسلم -:(من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وقال الترمذي: حديث صحيح.
(5) الصدقات: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل..) متفق عليه.
(6) صلة الأرحام: عن أنس بن مالك قال: قال - صلى الله عليه وسلم -:(من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه. ...
(7) ذكر الله: قال الله تعالى:[فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون](البقرة: ).
(8) الاعتكاف: عن عائشة رضي الله عنها:(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) متفق عليه.
(9) قيام ليلة القدر: عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -:(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)متفق عليه.(6/26)
(10) صدقة الفطر: عن ابن عمر قال:(فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)متفق عليه.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... *** ... حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... *** ... فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً ... *** ... فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... *** ... من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو ... *** ... حياً فما أقرب القاصي من الداني
حول آداب الصيام:
أداء الفرائض في أوقاتها، فبعض المسلمين هداهم الله يتهاون بالصلاة في رمضان.
أن يحفظ الصائم لسانه من جميع ما حرم الله جل وعلا من الأقوال والأعمال وأخطر ذلك الكذب، والغيبة، والنميمة، والسب والشتم، وقول الزور.
ويجتنب الغش في معاملاته كلها، ولا يفرق بين مسلم وغيرهن قال - صلى الله عليه وسلم -:(من غشنا فليس منا).
ويجتنب سماع المعازف بجميع أشكالها وأنواعها، واجتناب السهر على ما حرم الله.
اجتناب الإسراف في الأكل والشرب، فهو ليس شهر التنافس في المأكولات والمشروبات والملبوسات إنما هو شهر لتربية النفس على تقوى الله، والشعور بأخيك المسلم الفقير لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) صححه الألباني في كتاب مشكلة الفقر 135.
تعجيل الفطر: وعن سهل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)متفق عليه.
تأخير السحور.
تأخير إخراج صدقة الفطر: عن ابن عمر قال:(فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر .......... وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)(متفق عليه).(6/27)
إخواني: بلوغ شهر رمضان نعمة كبيرة فكم من شخص تحت الأجداث يتمنى أن يقول لا إله إلا الله، وكم من عاجز عن الصوم يتمنى الصيام، وكم من عاجز عن القيام تتلهف نفسه للقيام وأنتم تعيشون في صحة تامة، وأمن وأمان، فاغتنموا أوقاته قبل الندم، وضاعفوا العمل من غير سأم، لعل الله أن يقبل منكم القليل ويعفو عن الكثير. قال الله تعالى:[من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون](النحل:97)، وقال تعالى:[يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون](النحل:111)، وقال تعالى:[يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما علمت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد](آل عمران:30)، وقال تعالى:[ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين](الأنبياء:47)، وقال تعالى:[واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون](البقرة:281).
اللهم بلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام وسائر الأعمال، اللهم بارك لنا فيه، اللهم متعنا فيه بطاعتك، واجعله خير أيام أعمارنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
من أحكام الصوم: أولاً: دخول الشهر برؤية الهلال، أو بإكمال شعبان ثلاثين يوماً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)متفق عليه.
ثانياً: صيام يوم الشك. ــــ ثالثاً: وجوب النية.
مفسدات الصوم: تتبعت كلام أهل العلم في المفطرات وحصرتها فوجدتها في الغالب لا تخرج عن ثلاث مجموعات هي:
المجموعة الأولى: الإفطار بما دخل إلى الجوف.
المجموعة الثانية: الإفطار بالأعمال الجنسية.(6/28)
المجموعة الثالثة: الإفطار بما يخرج من الجوف.
وسيأتي بيان هذه المجموعات وما يدخل تحتها من المفطرات في كلمة قادمة إن شاء الله تعالى.(6/29)
فضل شهر رمضان
الحمد لله اللطيف المنان، العظيم السلطان، الرؤوف الرحمن، القوي الديان، الكريم على توالي الزمان، جل عن شريك وولد، وعز عن الاحتياج إلى أحد، وتقدس عن نظير، وانفرد علم ما يكون، وأوجد ما كان، أنشأ المخلوقات بحكمته وصنعها، وفرّق الأشياء بقدرته وجمعها، ودحى الأرض على الماء وأوسعها، والسماء رفعها ووضع الميزان، يسعد ويشقي، ويعز ويذل، كل يوم هو في شأن، أنعم على هذه الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهر رمضان مخصوصاً بعميم غفرانه، شهر أنزل الله فيه القرآن، أحمده على ما خصنا به من الصيام والقيام، وأشكره على بلوغ الآمال وإسباغ الأنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأذهان.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل خلقه وبريته، المقدم على الأنبياء ببقاء معجزته، الذي انشق ليلة ولادته الإيوان - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أبي بكر رفيقه في الغار، وعلى عمر فاتح الأمصار، وعلى عثمان شهيد الدار، وعلى علي راسخ الإيمان، وعلى آله وصحبه كلما تعاقب الجديدان وسلم تسليماً، أما بعد: فقد جاء رمضان فأهلاً به وسهلا، اللهم أهله علينا بالسلامة والإسلام، والأمن والإيمان، واغفر لنا ذنوبنا وأعتقنا منها يا منان.
أخوة الإيمان: قد نزل بساحتكم شهر كريم، وموسم عظيم خصَّه الله بالتشريف والتكريم، وأنزل فيه القرآن العظيم، وفرض صيامه على جميع المسلمين، وسن قيامه الرسول الكريم، شهرُ إجابة الدعوات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وإجزال الهبات، وكثرة النفحات، شهر تكفير السيئات، والصفح عن الموبقات وإقالة العثرات، شهر فضَّل الله أوقاته على سائر الأوقات، وخصه بأسمى الصفات.(7/1)
* شهر يشتاق إليه المؤمنون، ويبكي عند قدومه المخلصون، وينطرح على بابه السابقون فيفتح لهم بعون الله الكريم، شهر حمل بين طياته الخيرات، وهب نسيم شوقه على العباد، ولاحت شمس نوره على البريات، شهر الصيام والقرآن والصدقات، شهر المسارعة إلى الخيرات، شهر مجاهدة النفس على الطاعات، شهر أحبه النبي الكريم فقامه وصامه قربة لربه وتلذذاً بنعمة وصاله وحبه، شهر المغفرة والعتق من النيران، فما شوهد عتق لبشر في شهر من الشهور أكثر من هذا الشهر العظيم، شهر تصفد فيه الشياطين ومردة الجان، شهر تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، فترى أصحاب الهمم العالية يتسابقون في كل باب لغاية واحدة هي إرضاء الكريم المنان، ومجاورة خير ولد عدنان في أعالي الجنان*.
فيا ذوي الهمم العالية، والمطالب السامية اغتنموا الفرصة قبل الفوات، وسارعوا مع الصالحين إلى الخيرات، وتعرضوا في هذا الشهر لعظيم النفحات لعل الله أن يتجاوز عنكم كثير الخطيئات.
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)(1).
كان المسلمون يستقبلون شهر رمضان بقولهم:(اللهم قد أظلنا شهر رمضان، وحضر فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن وذلك لما يعلمون من فضل رمضان، وسعة فضل الله عليهم فيه، وما ينزله تعالى على عباده من الرحمات، ويفيضه عليهم من النفحات، ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات، ويجنبهم فيه من الزلات، حيث يفتح لهم أبواب الجنان، ويغلق عنهم أبواب النيران، ويصفد فيه مردة الجان، فهو للأمة ربيعها، وللعبادات موسمها، وللخيرات سوقها.
فلا شهر أفضل للمؤمن منه، ولا عمل يفضل عما فيه فهو بحق غنيمة المؤمنين.
__________
(1) رواه البخاري (ج2 ص227)، مسلم (ج3 ص121).(7/2)
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم قبلها خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليكِ، وتصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل يارسول الله: أهي ليلة القدر؟ قال: لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)(1).
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... *** ... حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... *** ... فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً ... *** ... فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... *** ... من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو ... *** ... حياً فما أقرب القاصي من الداني
إخواني: بلوغ شهر رمضان نعمة كبيرة فكم من شخص تحت الأجداث يتمنى أن يقول لا إله إلا الله، وكم من عاجز عن الصوم يتمنى الصيام، وكم من عاجز عن القيام تتلهف نفسه للقيام وأنتم تعيشون في صحة تامة، وأمن وأمان، فاغتنموا أوقاته قبل الندم، وضاعفوا العمل من غير سأم، لعل الله أن يقبل منكم
القليل ويعفو عن الكثير(2).
فحافظ على شهر الصيام فإنه ... *** ... لخامس أركانٍ لدين محمد
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (ج2 ص292)، قال في الترغيب والترهيب: رواه أحمد والبيهقي والبزار، ورواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب (الثواب)، انظر: الترغيب والترهيب (ج2 ص91)، وانظر: مجمع الزوائد (ج2 ص140).
(2) نهاية المحتاج للرملي (ج3 ص148)، حاشية ابن عابدين (ج2 ص370)، المغنى لابن قدامة (ج4 ص324)، مجالس شهر رمضان لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين ص4، عقد الجمان في وظائف رمضان للبابطين ص11.(7/3)
تُغَلَّقُ أبواب الجحيم إذا أتى ... *** ... وتفتح أبواب الجنان لمسعد
ويرفع عن أهل القبور عذابهم ... *** ... ويصفد فيه كل شيطان معتد
ويبسط فيه الرزق للخلق كلهم ... *** ... ويسهل فيه فعل كل التعبد
تزخرف جنات النعيم وحورها ... *** ... لأهل الرضا فيه وأهل التهجد
وقد خصَّه الله الكريم بليلة ... *** ... على ألف شهر فضلت فلترصد
فقم ليله واقطع نهارك صائماً ... *** ... وصن صومه عن كل سوء ومفسد
فضل الصيام
الحمد لله الذي وفق العاملين لطاعته، فوجدوا سعيهم مشكوراً، وحقق آمال الآملين برحمته، فمنحهم عطاءً موفوراً، وبسط بساط كرمه على التائبين فأصبح وزرهم مغفوراً، وأسبل من نعمه على الطالبين وابلاً غزيراً.
أحمده أن أفاض على عباده جزيل الإنعام، ووفقهم للصالحات على الدوام، فلو رأيتهم وقد هجروا لذيذ المنام، وأداموا لربهم الصيام، وصلوا بالليل والناس نيام يتسابقون كل يسأل حاجته.
واحد يسأل العفو عن زلته، وآخر يسأل التوفيق لطاعته، وثالث يستعيذ به من عقوبته، ورابع يرجو منه جميل مثوبته، وخامس يشكو إليه ما يجد من لوعته، وسادس شغله ذكره عن مسألته، فسبحان من وفقهم وغيرهم محروم، أحمده سبحانه، فرض علينا الصيام، وسن لنا رسوله المصطفى القيام، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله تفرد بالكمال والدوام، وتقدس عن مشابهة جميع الأنام.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة الأنام، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وعنا معهم بمنك وكرمك ما تعاقبت الدهور والأيام.(7/4)
أخوة الإيمان: لقد جاءت آيات بينات محكمات في كتاب الله المجيد تحض على الصوم تقرباً إلى الله عز وجل وتبين فضائله من ذلك قوله تعالى:[ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً](الأحزاب:35)، وقوله تعالى:[ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ](البقرة:184)، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الثابت من السنة أن الصوم حصن من الشهوات، وأنه وقاية من النار، وأنه سبب لدخول الجنة، وأن فيها باباً خاصاً بالصائمين، وأن الصيام يشفع لصاحبه، وأنه كفارة، وإليك بيان ذلك.
(1) الصوم جنة: أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اشتدت عليه شهوة النكاح ولم يستطع الزواج بالصيام، وجعله وجاء(1) لهذه الشهوة، لأنه يحبس قوى الأعضاء عن الاسترسال في شهواتها، ويسكن كل عضو منها، وللصوم تأثير عجيب على حفظ الجوارح يعرف ذلك من صامت جوارحه عن المحرمات، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -:(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)(2).
__________
(1) وجاء: أي قاطعاً للشهوة كما تنقطع شهوة الخصي من الحيوان.
(2) رواه البخاري (ج3 ص34)، مسلم (ج4 ص128).(7/5)
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة محفوفة بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات، فإذا تبين لك أيها المسلم أن الصوم يقمع الشهوات ويكسر حدتها وهي التي تقرب من النار، فقد حال الصيام بين الصائم والنار، لذلك جاءت الأحاديث تبين أنه حصن من النار.
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفاً)(1).
(2) الصوم يدخل الجنة: إذا كان الصوم يبعد صاحبه من النار فهو يدنيه من بحبوحة الجنة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)(2).
(3) الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما: روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)(3).
__________
(1) رواه البخاري (ج4 ص32)، مسلم (ج3 ص159).
(2) رواه البخاري (ج3 ص22)، مسلم (ج3 ص157).
(3) رواه أحمد في مسنده (ج10 ص118) برقم (6626) تحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح، وقال في مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح، انظر: مجمع الزوائد (ج3 ص181).(7/6)
(4) الصيام كفارة: ومما ينفرد به الصيام من فضائل أن الله جعله كفارة لبعض الأعمال التي تصدر من المسلم ومنها حنث اليمين، يقول الله تعالى:[ لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ](المائدة:89).
(5) الريان للصائمين: عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لايدخل فيه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد..)(1)(2).
أبواب الخير في رمضان:
(1) الصيام. ... (2) تلاوة القرآن. ... (3) القيام. ... (4) تفطير الصوام. ... (5) الصدقات.
(6) صلة الأرحام. ... (7) ذكر الله. ... (8) الاعتكاف. ... (9) قيام ليلة القدر.
(10)
شعراً:
قم في ظلام الليل واقصد مهيمناً ... *** ... يداك إليه في الدجى تتوسل
وقل يا عظيم العفو لا تقطع الرجا ... *** ... فأنت المنى يا غايتي والمؤمل
فيا رب فاقبل توبتي بتفصل ... *** ... فما زلت تعفو عن كثير وتمهل
إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي ... *** ... لمن اشتكى حالي ومن أتوسل
حقيق لمن أخطأ وعاد لما مضى ... *** ... ويبقى على أبوابه يتذلل
ويبكي على جسم ضعيف من البلى ... *** ... لعل يعود السيد المتفضل
قصدت إلهي رحمة وتفضلاً ... *** ... لمن تاب من زلاته يتقبل
__________
(1) رواه البخاري (ج3 ص23)، مسلم (ج3 ص857).
(2) المغني (ج4 ص324) صفة صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ص11، عقود اللؤلؤ والمرجان ص9.(7/7)
فضل تلاوة القرآن في رمضان
الحمد لله الذي أنشأ وبرأ، وخلق الماء والثرى، وأبدع كل شيء ووذرا، لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة مما لا نرى:[ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] (طه:6ـ8).
خلق آدم فابتلاه ثم اجتباه فتاب عليه وهدى، وبعث نوحاً فصنع الفلك بأمر الله وجرى، ونجى الخليل من النار فصار حرهاً برداً وسلاماً عليه فاعتبروا لما جرى، وآتى موسى تسع آيات فما ادكر فرعون وما ارعوى، وأيد عيسى بآيات تبهر الورى، وأنزل الكتاب على محمد فيه البينات والهدى.
أحمده على نعمه التي لا تزال تترى، وأصلي وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أم القرى - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مرى، وعلى عمر الملهم في رأيه فهو بنور الله يرى، وعلى عثمان زوج ابنتيه ما كان حديثاً يفترى، وعلى ابن عمه علي بحر العلوم وأسد الثرى، وعلى جميع الآل والأصحاب الذين انتشر فضلهم في الورى، وعنا معهم بمنك وكرمك يا من تعلم ما جرى.(7/8)
أيها الأخوة المؤمنون، والأخوات المؤمنات: يعود إلى القلوب حنينها إلى ما تنطوي عليه أيام رمضان من بركات هي الهدى في ضيائه، والنور في إشراقه، والقوة في صفاء ينبوعها وعظمة أصالتها لأنها تنتسب إلى طريق الهدى وتسير فيه، ولئن اقتضت حكمة الخالق أن يعطي كل رسول ما يتناسب والذي يكون قبلة الأنظار في زمانه وموطن التباري والسمو في عصره، فإن الذي له الغلبة عند العرب ومهوى الأفئدة هو فصاحة اللسان، وبلاغة البيان، فجاء القرآن بلسان عربي مبين باللغة التي يتكلمون، والأحرف التي ينطقون، وهذه الحقيقة خالدة على مر الزمن تتحدى القيود والحدود، وهي ينبوع العطاء الذي لا يتوقف، ومصدر الهداية التي لا تنفد، وباعث القوة التي لا تلين.
وما علينا إلا أن نفتح القلب لهذا النور، والنفس لهذا الهدى حتى تشرق شمس حياتنا من جديد، ولنستمع إلى ما أثنى الله تبارك وتعالى به على من قرأ القرآن وعمل بما فيه من أحكام وآداب، يقول الحق تبارك وتعالى:[ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ](فاطر:29، 30)، وقوله تعالى:[ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ](آل عمران:113)، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرتل القرآن، ويقرأه على الناس على مكث، يقول الله تعالى:[ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً](المزمل:4)، وقوله تعالى:[ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً](الإسراء:106).(7/9)
وقد وردت النصوص الكثيرة من السنة توضح فضل قراءة القرآن من ذلك: ما رواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(1)، وما روته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)(2).
وما رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة لا ريح لها وطعمها حلو..)(3).
وما رواه أبو أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)(4).
وما رواه عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)(5).
وما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)(6).
ما أجمل أن تغص المساجد في رمضان بأولئك الذين يجتمعون لتلاوة كتاب الله والتزود منه،ولكن الأجمل والأحسن أن نجعل من رمضان فرصة لمراجعة حياتنا كلها، هل هي على وفق ما يجب أن يكون أم لا؟
__________
(1) رواه البخاري (ج6 ص236)
(2) رواه مسلم (ج2 ص195).
(3) رواه البخاري (ج6 ص235)، مسلم (ج2 ص194).
(4) رواه مسلم (ج2 ص197).
(5) رواه مسلم (ج2 ص197).
(6) رواه مسلم (ج8 ص71).(7/10)
هل طهرنا بيوتنا من المنكرات؟ هل ربينا أطفالنا تربية إسلامية؟ هل قمنا بواجب النصيحة للقريب والجار والصديق؟ هل طهرنا أموالنا من الربا ونميناه بأداء الزكاة؟ هل أوقفنا هذا السيل الجارف من النساء اللاتي يذهبن إلى الأسواق زرافات ووحداناً يختلطن ويماكسن الباعة من غير ضرورة ولا حاجة يوم أن نرى المجتمع يأتمر بأمر الله ويقف عند حدوده عندها يتحقق الأمن والخير لهذا المجتمع، ولنا فيمن حولنا عبرة وعظة.
وصدق الشاعر:
متى نرى الحكم في الآفاق قرآناً ... *** ... والدين يعمر أقطاراً وبلداناً
متى نرى أمة القرآن واحدة ... *** ... تغدو بنعمة هذا الدين إخواناً
الخير في المصحف الهادي ومنهجه ... *** ... ففيه ذخر لدنيانا وأخرانا
كل القوانين إن حققت ذاهبة ... *** ... والذكر يبقى مع الأيام فرقاناً
إن الحياة في رحاب القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وما أجمل أن تقوم الحياة على القرآن وتستسقي من نبعه الطاهر.
ألا نكون خلفاً صالحاً لسلف صالح فنقرأ القرآن ونتعلم ما فيه، ونعمل به أسوة بسلفنا الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر(1).
شعراً:
عليك بما يفيدك في المعاد ... *** ... وما تنجو به يوم التناد
فما لك ليس ينفع فيك وعظ ... *** ... ولا زجر كأنك من جماد
ستندم إن رحلت بغير زاد ... *** ... وتشقى إذ يناديك المناد
فلا تفرح بمال تقتنيه ... *** ... فإنك فيه معكوس المراد
وتب مما جنيت وأنت حي ... *** ... وكن متنبهاً من ذا الرقاد
يسرك أن تكون رفيق قوم ... *** ... لهم زاد وأنت بغير زاد
__________
(1) نفحات رمضان ص116، مجالس شهر رمضان ص4.(7/11)