من أمن العقاب أساء الأدب, وقد روي عن "عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا : إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " وإن هذه الصحيفة قد تجاوزت الحدود واجترأت على محاربة الدين والطعن فيه بهذا المقال الشنيع جرأة لا يجوز السكوت عنها،
ولا يحل لوزارة الإعلام ولا للحكومة الإغضاء عنها بل يجب قطعا معاقبتها معاقبة ظاهرة بإيقافها عن الصدور ومحاكمة صاحبة المقال والمسئول عن تحرير الصحيفة وتأديبهما تأديبا رادعا واستتابتهما عما حصل منهما؛ لأن هذا المقال يعتبر من نواقض الإسلام ويوجب كفر وردة من قاله أو اعتقده أو رضي به لقول الله سبحانه : ( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) .. الآية فإن تابا وإلا وجب قتلهما لكفرهما وردتهما.
ولا يخفى على ذوي العلم والإيمان أن هذا الإجراء من أهم الواجبات لما فيه من الحماية لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعة الله الكاملة ولما في ذلك أيضا من ردع كل من تسول له نفسه أن يفعل ما فعلته هذه الصحيفة ويجترئ على ما اجترأت عليه, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ) . ( فتاوى الشيخ 3/165-169) .
تعليق
1- رحم الله الشيخ عبدالعزيز رحمة واسعة ؛ فقد كان عالمًا ربانيًا ناصحًا ، متنوع المواهب ، لم تشغله قضية عن غيرها ، متابعًا لمايدور من حوله ، صادعًا بالحق ، ممتثلا ( مذهب السلف ) حق امتثال ؛ أسأل الله أن يعوضنا من يسير سيرته ، ويسد مكانه .(102/5)
2- منذ توجه ( جريدة الحياة ) إلى مجتمعنا المحلي ، وأنا - وغيري - نلحظ انسياقها وراء الفتنة ، وسعيها ( الواضح والمبطن ) لتهوين الفساد في هذا المجتمع ؛ خاصة في قضايا المرأة ، التي تُصدّر وتُضخم بطريقة " صبيانية " توحي للقارئ أن وراء هذا العبث مجموعة من " المراهقين " الذين لم يحسنوا الصنعة الصحفية ، ولم يجدوا في المقابل من يوقفهم عن هذا العبث . وقد أرسلت كغيري رسائل مناصحة لهم ؛ لكن لا حياة لمن تنادي ! فقد استمرأ القوم هذا الطريق ، ولم يبق إلا ( الوازع السلطاني ) عند غياب الإيماني - كما ذكر الشيخ - .
3- أناشد صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلطان - وفقه الله للخير - ، أن يتدخل شخصيًا لإنقاذ الجريدة من هذا العبث الذي سببه لها هؤلاء المراهقون ، واستبدالهم بغيرهم ممن لايرضى بتجاوز الشرع والأخلاق . وأظن الكثير يذكرون موقف الأمير القديم عندما طرد أحد الصحفيين من الجريدة بسبب تطاوله على الدين ، وهو موقف يُشكر له ويُذخر - إن شاء الله - عند رب العالمين . أسأل الله أن يوفقه ويجعله سببًا في تبديل حال هذه الجريدة إلى الأحسن .(102/6)
( 4 ) روايات تاريخية باطلة
هذه أربع روايات تاريخية مشتهرة في الكتب ، ولكنها - عند التحقيق - باطلة لاتثبت ؛ أنقلها مع القول فيها من بعض الرسائل العلمية ؛ وأتمنى من إخواني نشرها في المنتديات ؛ لتستقر في الأذهان ، وتمحو ما يذيعه الرافضة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من البهتان .
( 1 )
تهديد عمر - رضي الله عنه - أهل الشورى بالقتل!!
( تضمنت الروايات الشيعية لقصة الشورى وتولية عثمان – رضي الله عنه - عدة أمور غريبة ؛ منها :
زعمهم أن عمر أمر صهيباً أن يقتل من يخالف من الستة - الذين أمر أن لاتخرج الخلافة عنهم بعد وفاته - إذا اتفق خمسة أو أربعة منهم على رجل . وهذه رواية باطلة ؛ لأنها وردت في رواية أبي مخنف، ( عند الطبري 4/229) وأبومخنف شيعي هالك . وقد وردت مثل هذه الرواية عند ابن سعد وهي ضعيفة أيضًا ؛ لأنها منقطعة ؛ فقد رواها سماك بن حرب ت 123هـ ومما يزيد الرواية ضعفًا : مخالفتها لرواية عبيد الله بن موسى التي فيها أن عمر أمر صهيباً إذا اجتمع أهل الشورى على رجل فإذا خالفهم أحد تُضرب عنقه. ( الطبقات الكبرى 3/342 ، ورجالها ثقات ) . ( أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري ، د عبدالعزيز محمد نور ولي ، 320-323 بتصرف ) .
( 2 )
زعم الشيعة ومن تابعهم أن عليًا لم يبايع أبابكر - رضي الله عنهما - !(103/1)
أخرج البيهقي في كتابه " الاعتقاد " - بسنده - عن أبي سعيد الخدري قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار، فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان، أحدهما منكم والآخر منا. قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإن الإمام يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر فقال: جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار، وثبَّتَ قائلكم. ثم قال: أما لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم. ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم فبايعوه، ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم، فلم ير علياً، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتْنَه أردت أن تشق عصا المسلمين؟! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبايعه .. ( أخرجه أحمد 5/185-186، والطبراني في الكبير 4785، وقال الهيثمي في الزوائد 5/8938: رواه الطبراني وأحمد ورجاله رجال الصحيح ) .(103/2)
- وعن سعد بن إبراهيم قال: حدثني إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف في هذه القصة قال: ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم –يعني: إلى علي والزبير ومن تخلف- وقال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً وليلة قط، ولا كنت فيها راغباً، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، ولكن قُلِّدتُ أمراً عظيماً، مالي به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله، ولوددتُ أن أُقوِّي الناس عليها مكاني عليها اليوم، فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به، وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا أنا أُخِّرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعرف شرفه وكِبرَه، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس، وهو حيٌّ.
وكذلك رواه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، وكذلك ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في المغازي، وقال في اعتذار أبي بكر إلى علي وغيره ممن تخلف عن بيعته: أما والله ما حملنا على إبرام ذلك دون من غاب عنه إلا مخافة الفتنة، وتفاقُم الحدثان، وإن كنتُ لها لكارهاً، لولا ذلك ما شهدها أحد كان أحب إليّ أن يشهدها منك إلا من هو بمثل منزلتك، ثم أشرف على الناس فقال: أيها الناس، هذا علي بن أبي طالب فلا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره، ألا وأنتم بالخيار جميعاً في بيعتكم أياي، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه، فلما سمع ذلك علي من قوله، تحلل عنه ما كان قد دخله، فقال: لا حِلّ، لا نرى لها أحداً غيرك، فمدّ يده فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه، وقال جميع الناس مثل ذلك، فردُّوا الأمر إلى أبي بكر، وقالوا: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنه استخلفه على الصلاة بعده، فكانوا يسمّونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هلك.(103/3)
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبدالجبار، حدثنا يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق، فذكر قصة السقيفة، ثم ذكر بيعة العامة من غَدِ السقيفة، ثم ذكر ما نقلناه.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ذهب فيما خيّرهم فيه من مبايعةٍ مذهب التواضع، واستبرأ قلوبهم في استخلافه، حتى إذا عرف منهم الصدق سكن إلى اجتماعهم على ذلك في السر والعلانية.
وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعهم على بيعته مع علي بن أبي طالب، ولا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي أو غيره بخلاف ظاهره، فكان علي أكبر محلاً وأجلّ قدراً من أن يُقدم على هذا الأمر العظيم بغير حق، أو يُظهر للناس خلاف ما في ضميره، ولو جاز ادعاء هذا في إجماعهم على خلافة أبي بكر، لم يصح إجماع قط، والإجماع أحد حجج الشريعة، ولا يجوز تعطيله بالتوهم.
والذي روي أن علياً لم يبايع أبا بكر ستة أشهر، ليس من قول عائشة، إنما هو من قول الزهري، فأدرجه بعض الرواة في الحديث عن عائشة في قصة فاطمة رضي الله عنهما، وحفظه معمر بن راشد، فرواه مفصّلاً وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث.
وقد روينا في الحديث الموصول عن أبي سعيد الخدري ومن تابعه من أهل المغازي: أن علياً بايعه في بيعة العامة بعد البيعة التي جرت في السقيفة.
ويحتمل أن علياً بايعه بيعة العامة. كما روينا في حديث أبي سعيد الخدري وغيره. ثم شجر بين فاطمة وأبي بكر كلام بسبب الميراث، إذ لم تسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الميراث ما سمعه أبو بكر وغيره، فكانت معذورة فيما طلبته، وكان أبو بكر معذوراً فيما منع، فتخلّف علي عن حضور أبي بكر حتى توفّيت، ثم كان منه تجديد البيعة والقيام بواجباتها، كما قال الزهري، ولا يجوز أن يكون قعود علي في بيته على وجه الكراهية لإمارته، ففي رواية الزهري أنه بايعه بعدُ، وعظّم حقه، ولو كان الأمر على غير ما قلنا، لكانت بيعته آخراً خطأ.(103/4)
ومن زعم أن علياً بايعه ظاهراً، وخالفه باطناً، فقد أساء الثناء على عليّ، وقال فيه أقبح القول، وقد قال علي في إمارته وهو على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: بلى، قال: أبو بكر، ثم عمر.
ونحن نزعم أن علياً كان لا يفعل إلا ما هو حق، ولا يقول إلا ما هو صدق، وقد فعل في مبايعة أبي بكر ومؤازرة عمر ما يليق بفضله، وعلمه، وسابقته، وحسن عقيدته، وجميل نيته في أداء النصح للراعي والرعية وقال في فضلهما ما نقلناه في كتاب الفضائل، فلا معنى لقول من قال بخلاف ما قال وفعل.
وقد دخل أبو بكر الصديق على فاطمة في مرض موتها وترضَّاها حتى رضيت عنه، فلا طائل لسخط غيرها ممن يدّعي موالاة أهل البيت، ثم يطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُهَجِّن من يواليه، ويرميه بالضعف والعجز، واختلاف السّرّ والعلانية في القول والفعل، وبالله العصمة والتوفيق.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، حدثنا محمد بن عبدالوهاب، حدثنا عبدان بن عثمان العتكي بنيسابور، أخبرنا أبو حمزة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق، فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحبّ أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له، فدخل عليها يترضّاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت ) . ( الاعتقاد للبيهقي ، ص 472-477 تحقيق عبدالله الدرويش ) .(103/5)
قلتُ : وبما سبق من كلام البيهقي - رحمه الله - يُفهم ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : « ... كان لعلي من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته- ولم يكن يبايع تلك الأشهر- فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا، ولا يأتنا أحد معك، كراهة لمحضر عمر ، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك. فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي؟ والله لآتينهم. فدخل عليهم أبو بكر، فتشهد علي فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك. ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر. فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي. وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيه عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله يصنعه فيها إلا صنعته. فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر. وتشهد علي فعظم حق أبي بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت، وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف . (الفتح 7/564).(103/6)
وما أجمل ما أخرجه البخاري عن عقبة بن الحارث قال: "صلى أبو بكر رضي الله عنه العصر ثم خرج يمشي، فرأى الحسن يلعب مع الصبيان، فحمله على عاتقه وقال: بأبي شبيه بالنبي، لا شبيه بعلي، وعلي يضحك" (الفتح 6/651، 7/119). زاد الإسماعيلي في روايته "بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال، وعلي يمشي إلى جانبه" (الفتح 6/656). ( وانظر : الخلافة الراشدة والدلة الأموية ، د يحيى اليحيى ، ص 186-188) .
( 3 )
هل كان معاوية يرى أنه أفضل من علي- رضي الله عنهما - ولهذا نازعه الخلافة ؟!
( ذكر يحيى بن سليمان الجعفي –أحد شيوخ البخاري- في (كتاب صفين) من تأليفه - بسند جيد - عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: "أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله ؟ قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه ؟ فأتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي". ( الخلافة الراشدة والدلة الأموية ، د يحيى اليحيى ، ص 525-526) .
يقول الدكتور محمد أمحزون : ( شاع بين الناس قديماً وحديثاً أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج هذا الأخير على علي وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام، فقد جاء في كتاب "الإمامة والسياسة" - المنسوب زورًا -لابن قتيبة الدينوري رواية تذكر أن معاوية ادعى الخلافة، وذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه : " اعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه".(103/7)
وجاء في تاريخ الإمام الطبري عن سيف أن المغيرة بن شعبة جاء إلى عليّ وأشار عليه أن يقر معاوية في عمله حتى إذا ضمن طاعته استبدله بغيره أو أبقاه، وأورد رواية أخرى من طريق الواقدي على نسق الرواية السابقة، لكن زاد فيها: أن علياً قال لابن عباس: سر إلى الشام فقد ولّيتكَهَا، وأن ابن عباس لم يوافقه على ذلك، وأشار عليه أن يكتب إلى معاوية يمنّيه ويعده –أي بالولاية- فرفض علي بقوله: "والله لا كان هذا أبداً".
ونقل الحافظ الذهبي أن معاوية قال لجرير بن عبد الله رضي الله عنهما: "اكتب إلى عليّ أن يجعل لي الشام، وأنا أبايع له".
لكن الصحيح أن الخلاف بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، كان حول مدى وجوب بيعة معاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عثمان أو بعده، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء.
فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه ومن حوله من أهل الشام أن يقتص علي رضي الله عنه من قتلة عثمان ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة، وقد تحدد موقفهم منذ اللحظة التي حمل فيها النعمان بن بشير رضي الله عنه قميص عثمان، وهو ملطّخ بدمائه ومعه أصابع نائلة –زوجة عثمان- فوضع القميص على المنبر في الشام ليراه الناس والأصابع معلقة في كم القميص، وندب معاوية الناس للأخذ بثأر عثمان والقصاص من قتلته، وقد قام مع معاوية جماعة من الصحابة في هذا الشأن".
ويروي الإمام الطبري أن معاوية أرسل رسولاً إلى علي بن أبي طالب، فلما دخل عليه واستأمن لنفسه قال: "لقد تركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون على قميص عثمان، وهو منصوب لهم، وقد ألبسوه منبر دمشق، قال علي: مني يطلبون دم عثمان! ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله".(103/8)
وحين عسكر علي رضي الله عنه بصفين سلك مع أهل الشام نفس الأسلوب الذي سلكه مع أهل الجمل، فأرسل وفداً إلى معاوية فيهم بشير بن أبي مسعود الأنصاري الذي بدأ بالحديث فقال لمعاوية: "أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم في دينك وخير لك في عاقبة أمرك، فقال معاوية: ويطلّ دم عثمان؟ لا والرحمن لا أفعل ذلك أبداً....".
وروى ابن مزاحم في كتابه: "وقعة صفين" أن أبا مسلم الخولاني قال لمعاوية: يا معاوية ! قد بلغنا أنك تهمّ بمحاربة علي بن أبي طالب، فكيف تناوئه وليست لك سابقته؟! فقال معاوية: لست أدعي أني مثله في الفضل، ولكن هل تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً قالوا: نعم، قال: فليدفع لنا قتلته حتى نسلم له هذا الأمر.
وذكر القاضي ابن العربي أن سبب القتال بين أهل الشام وأهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما: "فهؤلاء –أي أهل العراق- يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء –أي أهل الشام- يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يؤوي القتلة".
ويقول إمام الحرمين الجويني في "لمع الأدلة" إن معاوية وإن قاتل علياً، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدّعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظاناً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول بأن معاوية لم يدّع الخلافة ولم يبايع له بها حتى قُتل علي، فلم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحقها، وكان يقر بذلك لم يسأله.(103/9)
ويورد ابن كثير روايتين في هذا الموضوع: الأولى: عن ابن ديزيل بإسناده إلى أبي الدرداء وأبي أمامة رضي الله عنهما، أنهما دخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية! علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه سلم وأحق بهذا الأمر منك، فقال: أقاتله على دم عثمان، وأنه آوى قتلة عثمان، فاذهبا إليه، فقولا: فليقدنا من قتلة عثمان، ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام".
وفي رواية ابن أعثم: "ولكني أقاتله حتى يدفع إليَّ قتلة عثمان، فإذا فعل ذلك كنت أنا رجلاً من المسلمين أدخل فيما دخل فيه الناس".
أما الرواية الثانية فتذكر أن علياً بعث إلى معاوية يدعوه إلى بيعته وأعطاه كتاباً بذلك، فاستشار معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام، فكان أن أبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان أو يسلمهم إليهم.
وروى الحافظ الذهبي عن يعلى بن عبيد عن أبيه أنه قال: قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: "أنت تنازع علياً؟ هل أنت مثله؟ فقال: لا، والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه؟ فأتوا علياً فقولوا له: فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلم له ...".
ويقول ابن حجر في "الإصابة": "ثم قام معاوية في أهل الشام، وكان أميرها لعثمان ولعمر من قبله، فدعا إلى الطلب بدم عثمان...".
ويقول الهيثمي: "ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما من الحروب، فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي... فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه، فامتنع علي...".(103/10)
وهكذا تتضافر الروايات وتشير إلى أن معاوية رضي الله عنه خرج للمطالبة بدم عثمان، وأنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه إذا أقيم الحدّ على قتلة عثمان، ولو افترض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعاً في السلطان، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحدّ على قتلة عثمان.
حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي ومبايعته له، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة، ولا يمكن أن يقدم عليه إذا كان ذا أطماع.
إن معاوية رضي الله عنه كان من كتّاب الوحي، ومن أفاضل الصحابة، وأصدقهم لهجة، وأكثرهم حلماً، فكيف يُعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي ويهرق دماء المسلمين من أجل مُلْك زائل، وهو القائل: "والله لا أخير بين أمرين، بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه" وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: "اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به"، وقال: "اللهم علمه الكتاب وقِه العذاب".
أما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان رضي الله عنه فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي رضي الله عنه قبل مبادرته إلى الاقتصاص من قتلة عثمان، بل ويلتمس منه أن يمكنه منهم، مع العلم أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، بل يدخل في الطاعة، ويرفع دعواه إلى الحاكم، ويطلب الحق عنده.(103/11)
ويمكن القول إن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً متأولاً يغلب على ظنه أن الحق معه، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم وذكّرهم أنه ولي عثمان –ابن عمه- وقد قُتل مظلوماً، وقرأ عليهم الآية الكريمة )ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً( ثم قال: أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقام أهل الشام جميعهم وأجابوا إلى الطلب بدم عثمان، وبايعوه على ذلك، وأعطوه العهود والمواثيق على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفني الله أرواحهم.
وهذا الخطأ في التأويل يبرهن عليه ما قاله عمار بن ياسر رضي الله عنه في موقعة صفين، فعن زياد بن الحارث –له صحبة- قال: كنت إلى جنب عمار بن ياسر بصفين وركبتي تمس ركبته، فقال رجل: كفر أهل الشام، فقال عمار: لا تقولوا ذلك، نبينا ونبيهم واحد، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق، علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه ) . ( تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة ، د محمد أمحزون ، 2/143-152، وانظر للزيادة : مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ، للدكتور خالد الغيث ، ص 35-40) .
قلتُ : ومما يوهن هذا الباطل أن معاوية - رضي الله عنه - لم يعلن خلافته إلا بعد وفاة علي - رضي الله عنه - . ( انظر : تاريخ خليفة بن خياط ، ص 192 ) .
( 4 )
قضية التحكيم بين علي ومعاوية
والزعم بأن عمرو بن العاص خدع أباموسى الأشعري - رضي الله عن جميع الصحابة -(103/12)
( لم يرد إلينا عن قضية التحكيم إلا روايات ضعيفة جداً مع أنها تعتبر من أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة، وقد تاه فيها كثير من الكتاب، وتخبط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وكأنها حقيقة من أكبر حقائق التاريخ، وقد تلقاها الناس منهم بالقبول دون تمحيص لها وكأنها صحيحة لا مرية فيها؛ وقد يكون لصياغتها القصصية المثيرة وما زعم فيها من خداع ومكر أثر في اهتمام الناس بها وعناية المؤرخين بتدوينها، وليعلم أن كلامنا هذا ينصب على التفصيلات لا على أصل التحكيم ؛ حيث إن أصله حق لا شك فيه ) . ص 378
( لقد كثر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم ما بين مطيل في سياقها ومختصر وشارح ومستنبط للدروس وبان للأحكام على مضامينها، وقلما تجد أحداً وقف عندها فاحصاً محققاً، وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً وإن كان غير مفصل، وفي هذا دلالة على قوة حاسته النقدية للنصوص، إذ إن جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة من عدة وجوه:(103/13)
الأول: أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وردت فيه هو ما أخرجه عبدالرزاق والطبري بسند رجاله ثقات عن الزهري مرسلاً قال: "قال الزهري: فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.(103/14)
فلما انصرف عليّ خالفت الحرورية وخرجت –وكان ذلك أول ما ظهرت- فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: أن حكم بني آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه! وقاتلوا، فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشام، وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأراجعهما، فدخل على عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبدالله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن سنتأنى ونتثبت حتى تجتمع الأمة! قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار! فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو فقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها فكتبها أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن نسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليّ أن أتابعك وإلا فلي عليك أن تتابعني! قال أبا موسى: أسمي لك عبد الله بن عمر وكان ابن عمر فيمن اعتزل، قال عمرو:(103/15)
إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان ، فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو مثل الذين قال الله عز وجل: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) . فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال عز وجل: )مثل الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً( ، وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار " . انتهى . والزهري لم يُدرك الحادثة فهي مرسلة، ومراسيله كأدراج الرياح لا تقوم بها حجة.
الطريق الثاني: ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن عمر بن الحكم بنحو رواية أبي مخنف رقم (107) وفيها العلل التالية :
1- أنها مرسلة فعمر بن الحكم لم يُدرك القصة فقد ولد سنة 37هـ.
2- وفيها أبو بكر بن أبي سبرة قال عنه الإمام أحمد "كان يضع الحديث".
3- وفيها أيضاً الواقدي وإسحاق بن عبدالله بن أبي فروة وكلاهما متروك.(103/16)
الطريق الثالث: ما أخرجه ابن عساكر بسنده إلى الزهري وهي مرسلة وفيها أبو بكر بن أبي سبرة والواقدي . وهذا نصها: "... رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه ، وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتاباً على أن يوافقوا رأس الحول أذرح، وحكموا حكمين ينظران في أمور الناس فيرضوا بحكمهما، فحكّم علي أبا موسى الأشعري، وحكّم معاوية عمرو بن العاص، وتفرق الناس فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، واختلف عليه أصحابه فخرج عليه الخوارج من أصحابه ممن كان معه، وأنكروا تحكيمه وقالوا: لا حكم إلا الله. ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه، ووافى الحكمان بعد الحول بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، واجتمع الناس إليهما وكان بينهما كلام اجتمعا عليه في السر خالفه عمرو بن العاص في العلانية، فقدم أبا موسى فتكلم وخلع علياً ومعاوية، ثم تكلم عمرو بن العاص فخلع علياً وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومن كان اجتمع إليهما ، وبايع أهل الشام معاوية في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين".
أما طرق أبي مخنف فهي معلولة بغيره ؛ ففي رواية رقم (103) زياد بن النضر الحارثي وهو مجهول، ورواية رقم (107) من طريق أبي جناب الكلبي وهو ضعيف ولم يدرك الحادثة أيضاً.
هذه مجموع طرق هذه القصة فيما وقفت عليه.
وبعد : أفبمثل هذا تقوم حجة ، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعصر الخلفاء الراشدين عصر القدوة والأسوة ؟! ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفاً فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها ؟!
الثاني: أهمية هذه القضية في جانب الاعتقاد والتشريع، ومع ذلك لم تُنقل لنا بسند صحيح، ومن المحال أن يُطبق العلماء على إهمالها مع أهميتها وشدة الحاجة إليها.(103/17)
الثالث: وردت رواية تناقض تلك الروايات تماماً، وذلك فيما أخرجه البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجاله ثقات، وأخرجه ابن عساكر مطولاً، عن الحصين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: "إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره فأته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه كيف صنعتما فيه؟ قال : قد قال الناس وقالوا ، ولا والله ما كان ما قالوا ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض . قال: فقلت: أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما".
فهذه الرواية لم تذكر خدعة ولا مكراً، ولا تولية ولا عزلاً، وقول أبي موسى هذا القول وهو يعلم أنه لم يبق من العشرة المبشرين بالجنة إلا سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم وأجلهم، وقد اعتزلا الفتنة ولم يرغبا في ولاية ولا إمارة، فلم يبق إذاً إلا علي رضي الله عنه .
الرابع : أن معاوية كان يقر بفضل علي عليه، وأنه أحق بالخلافة منه فلم ينازعه الخلافة ولا طلبها لنفسه في حياة علي، فقد أخرج يحيى بن سليمان الجعفي بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: "أنت تنازع علياً في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه؟ فأتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه" .
فهذا هو أصل النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فالتحكيم من أجل حل هذه القضية المتنازع عليها لا لاختيار خليفة أو عزله.
الخامس: أن الشروط التي يجب توفرها في الخليفة هي العدالة والعلم، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، وأن يكون قرشياً.(103/18)
وقد توفرت هذه الشروط في علي رضي الله عنه فهل بيعته منعقدة أم لا ؟ فإن كانت منعقدة -ولا شك في ذلك وقد بايعه المهاجرون والأنصار أهل الحل والعقد، وخصومه يقرون له بذلك، فقول معاوية السابق يدل عليه- فمن يحل هذا العقد ومتى يحل وتنقض البيعة؟ أجيب عن ذلك بأن "الإمام إذا لم يَخْل عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأئمة، فإن عقد الإمام لازم، لا اختيار في حله من غير سبب يقضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة ولما استمرت له قدرة واستطاعة ولما صح لمنصب الإمام معنى". ( غياث الأمم ، للجويني ) .
وإذاً فليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات :كل من لم يرض بإمامة خلعه ! فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة، وهل علي رضي الله عنه فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك ؟! "فما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد، والبر والتقوى والخير".
السادس: أن الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة لهم، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة ؟! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءاً، والصحابة الكرام أحذق وأعقل من أن يقدموا على هذا.(103/19)
السابع: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حصر الخلافة في أهل الشورى وهم الستة وقد رضي المهاجرون والأنصار بذلك، فكان ذلك إذناً في أن الخلافة لا تعدو هؤلاء إلى غيرهم ما بقي منهم واحد ، ولم يبق منهم في زمان التحكيم إلا سعد بن أبي وقاص وقد اعتزل الأمر ورغب عن الولاية والإمارة، وعلي بن أبي طالب القائم بأمر الخلافة وهو أفضل الستة بعد عثمان فكيف يتخطى بالأمر إلى غيره ؟!
الثامن: أوضحت الروايات أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم، والسؤال ما المسوغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية؟ إن كان من أجل التحكيم فالحكمان لم يتفقا ولم يكن ثمة مبرر آخر حتى ينسب عنهم ذلك، مع أن ابن عساكر نقل بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أعلم الناس بأمر الشام أنه قال: "كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يدعى الأمير فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين" فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي، وإلى هذا ذهب الطبري. فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: "وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيليا" وعلق على هذا ابن كثير بقوله: "يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع".
وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس "كفئاً لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه ، فإن فضل علي وسابقته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم" وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" والنصوص في هذا المعنى كثيرة، ومن المحال أن يطبق الصحابة على مخالفة ذلك.(103/20)
التاسع: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: "دخلت على حفصة ونسواتها تنطف قلت : قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء فقالت: إلحق فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبدالله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول : أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب : حُفظت وعُصمت" . هذا الحديث قد يفهم منه مبايعة معاوية بالخلافة، وليس فيه تصريح بذلك، وقد قال بعض العلماء إن هذا الحديث كان في الاجتماع الذي صالح فيه الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه ، وقال ابن الجوزي إن هذه الخطبة كانت في زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده، ويرى ابن حجر أنه في التحكيم، ودلالة النص على القولين الأولين أقوى، فقوله "فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم" دليل على اجتماع الكلمة على معاوية، وأيام التحكيم أيام فرقة واختلاف لا أيام جمع وإتلاف.
الغرائب التي اشتملت عليها روايات التحكيم عند أبي مخنف
وقد سجلتُ بعض الغرائب على روايات أبي مخنف هذه أهمها :(103/21)
1- أخرج أحمد وابن زنجويه عن أبي وائل قال: "كنا بصفين فلما استحر القتل بأهل الشام اعصتموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية : أرسل إلى علي بمصحف وادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك ، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله )ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون( ، فقال علي : نعم أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله، قال فجاءته الخوارج –ونحن ندعوهم يومئذ القراء وسيوفهم على عواتقهم- فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ننتظر بهؤلاء القوم الذين على التل ؟ ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فتكلم سهل بن حنيف فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين - ولو نرى قتالاً لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني أبداً، قال: فرجع وهو متغيظ، فلم يصبر حتى أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه أبداً، قال: فنزلت سورة الفتح، قال: فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فاقرأها إياه، قال: يا رسول الله وفتح هو قال: نعم".(103/22)
2- رواية رقم (98) قول علي في الوليد بن عقبة وعبد الله بن أبي السرح وقد مضى كلامنا على ذلك وأنهما اعتزلا الفتنة، وقول علي أيضاً أنه صحب عمراً بن العاص طفلاً، هذا لا يصح من علي؛ حيث أن عمراً كان رجلاً يوم ولادة علي، فهو أسن منه بما يزيد على عشرين سنة، فقد توفي عمرو سنة 44هـ، وعمره يناهز التسعين، وتوفي علي سنة 40 هـ وعمره 63 سنة، وقيل 58 سنة.
3- روايات رقم (99 ، 100 ، 101 ، 102 ، 105) وفيها المبالغة برفع منزلة الأشتر كما أوضحنا ذلك في روايات سابقة.
4- ما أورده في رواية (106) من قول علي رضي الله عنه : "إن المرض لا أجر فيه". فلا أظنه يصح عن علي، إذ أن الأدلة متظافرة على ثبوت الأجر للمريض، فقد أخرج مسلم في صحيحه ثلاثة أحاديث تدل على ذلك:
الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة".
الثاني: عنها بمعناه.
الثالث: عنها أيضاً "ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه، إلا كتب الله له بها حسنة، أو حطت عنه بها سيئة".
5- قوله في رواية (110) "وكان في ابن عمر غفلة" كيف يستقيم هذا الوصف وقد جعله عمر مع أهل الشورى يستأنس برأيه؟ وكان يعد بعد العشرة من أرفع الناس علماً وفقهاً وكان الناس يوازونه بعمر، وقد انتهت إليه الفتيا في زمانه، ومن الدلائل على اختلاق هذه الكلمة كون الراوي لها مولاه نافع أشد الناس ملازمة ورواية وحباً له.
6- رواية (111) عن شريح بن هانيء أنه قال لعمرو "ما يمنعك أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم" وقد وضحت فيما سبق أنه نقل عنه قوله "من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري" وقوله: "أفضل الناس بعد نبيهم أبو بكر ثم عمر" وغير ذلك من أقواله، وأن جيشه وأتباعه أعلم الناس بذلك، فكيف بعمرو بن العاص! ولماذا إن كان قد قال هذا القول لعمرو لم ينقل لنا رد عمرو عليه ؟(103/23)
7- في رواية رقم (112) قول عمرو بن العاص لأبي موسى : أنت أسن مني، فهذا لا يصح؛ ذلك أن أبا موسى توفي هو وعمرو في سنة واحدة وكان عمره 63 سنة وعمرو يناهز التسعين كما مضى بيان ذلك.
8- من العجيب اشتهار أبي موسى بالذكاء، والفطنة، والعلم، مع التقوى والبر والصلاح، وقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم أشد الأعمال حاجة إلى هذه الصفات وهو القضاء، وكان عمر من أشد الخلفاء تحرياً في اختيار عماله، وقد ولى أبا موسى إمرة الكوفة والبصرة، وولي البصرة لعثمان أيضاً، وبعد هذا كله نجد في رواية رقم (112) قوله "وكان أبو موسى مغفلاً" فهذا ليس قدحاً في أبي موسى فحسب بل في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر وعثمان حيث ولوا من كان بهذه الصفة مشتملاً.
9- في نفس رواية (112) قول أبي موسى الأشعري "نخلع علياً ومعاوية" وهل كان معاوية خليفة حتى يخلع ؟ وإذا كان المقصود من إمارة الشام فهذا راجع إلى الخليفة الذي يلي أمر المسلمين! .
10- علق ابن كثير على ما ورد في آخر رواية رقم (112) من القنوت واللعن بقوله "ولا يصح هذا". ( مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري ، للدكتور يحيى اليحيى ، ص 403-418) . ( وانظر : وقفات هادئة مع أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي ، للدكتور خالد الغيث ، ص 30 – 35) .(103/24)
اللهم احفظ الملك عبدالعزيز إلى نِصْفُوو ... !
قرأتُ في أحد الكتب أنه أثناء نشوب الحرب بين السعودية واليمن زمن الملك عبد العزيز والإمام يحيى حميد الدين ؛ كانت القبائل التي على الحدود بين الطرفين تدعو وتقنت في صلواتها بهذا الدعاء - بلهجتها القريبة من اللهجة اليمنية - : " اللهم احفظ عبدَ العزيز إلى نِصْفُوو ، واحفظ يحيى إلى نِصْفُوو " !!
أي لا تجعل أحدهما ينتصر على الآخر ! بل اجعل الحرب تستمر ؛ لأن هذه القبائل الحدودية كانت مستفيدة من بقاء الفتنة بين الطرفين ؛ سواء ببيع الأسلحة أو التهريب أو غير ذلك من المنافع ..
وهكذا هم " تجار الحروب " و " مرتزقة الفتن " في كل مكان وزمان ، لا يطيب لهم العيش إلا وسطها . وقديما قال السلف فيمن هذا وصفهم : ( قبح اللهُ هذه الوجوه التي لا تُرى إلا في الفتنة ) .
تذكرتُ هذا وأنا أتأمل ما تمر به بلادنا من أزمة طارئة منذ أحداث ما يسمى 11 سبتمبر ، وظهور أفراد هذه الفئات المستفيدة من استمرار الفتنة ، ممن اتحدت أهدافهم ، وتباينت مصالحهم ومنافعهم .
وبعد التأمل خرجتُ بنتيجة تقول بأن المستفيد من استمرار هذه الفتنة في بلادنا ؛ ممن لايهنأ لهم بال إذا ما انطفأت نارها وخمدت ؛ عدد من الجهات ( قليلة العدد ، كثيرة الصخَب ) ؛ يمكن حصرها في التالي ؛ مع ذكر الحلول المناسب لكل فئة - بإيجاز :
الفئة الأولى : بعض الدول الكافرة - ذات التأريخ الاستعماري البغيض- التي ما فتئت تذكي أوار هذه الفتنة بعدة طرق ؛ لأنها لاتريد لهذه البلاد الاستقرار ؛ لعل ذلك يُحدث فجوة في وحدته تنفذ من خلالها لزحزحته عن دينه ، وإخضاعه وترويضه ، ثم تجعله محتاجًا لها - حكومة وشعبًا - في كل وقت – كما فعلت بغيره - .(104/1)
والحل مع هذه الفئة : أن يقابل مكرها بمزيد من الاعتصام والتقوى والإصلاح النافع ؛ كما قال تعالى : ( وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
الفئة الثانية : أهل البدع ( وهم قلة من الشيعة أو بقايا الصوفية ) ممن ظهرت قرونهم في هذه الفتنة ؛ واستشرفت نفوسهم الحاقدة ؛ لعلها تجلب كسبًا لأبناء طائفتها ، أو تستقل بإقليم أو منطقة ؛ مستنصرة لتحقيق هذا بدول النصارى ، مستقوية بأهل البدع في الدول المجاورة . وهذه الفئة تلعب بالنار – كما سيأتي إن شاء الله في مقال قادم - .
والحل مع هذه الفئة : أن يُحزم معها ، ولايُتهاون في شأنها ؛ لأن ولاءها لغير هذه البلاد ؛ مع تذكيرها بنعمة الله عليها ؛ من حيث أمنها على دمائها وأموالها وأعراضها ؛ فمن العقل - إن لم تؤمن بالشرع - أن لاتغير هذا كله بتصرفاتها الحمقاء ؛ خشية أن تقول فيما بعد : ربّ يومٍ بكيت منه فلما * صرتُ في غيره بكيتُ عليه !(104/2)
الفئة الثالثة : المنافقون من العلمانيين وأتباعهم العصرانيين المنتكسين ( الطابور الخامس للأعداء ) ؛ ممن طاروا فرحًا بهذه الفتنة الطارئة ؛ لكي يتسلقوا من خلالها إلى أهدافهم التي صبروا في سبيلها عشرات السنين ، فاستغلوا هذه الفتنة لتصفية حساباتهم ، أو مهاجمة الشرع ، ومحاولة تغيير الدين الحق بدعوى " الحرص على الوطن " و " محاربة الإرهاب " ! ، ثم مطالبة الدولة – بمكر – أن تتخلى عنه ، وأن تتنكر لمبادئها ومناهجها التي قامت عليها . ولكنّ الدولة – وفقها الله – لم تنسق لأقوالهم – وإن كثرت وتعددت – لأنها تعلم علم اليقين أن تمسكها بهذه المبادئ هو مصدر عزها وأمنها – بعد الله - ، وأنها إن تنازلت عن شيئ منها فإنما تخون الأمانة ، وتستجلب سخط الله وتخليه عنها ؛ لأنه تعالى ليس بينه وبين الناس نسب ، وقد بين العلماء أنه كلما عظمت المنة والنعمة على العبد أو الأمة ، ثم فرّط بدّل اشتد عذابه . وعلمتْ الدولة – أيضًا – من خلال التجارب الماضية في تاريخها ( فتنة السبلة - فتنة جهيمان - فتنة دعاة التهييج ) أنه لامنجى لها – بإذن الله - من هذه الفتن إلا بمواصلة السير على المنهج السلفي الوسط ، وتصدير العلماء الثقات والرجوع إلى مشورتهم .
والحل مع هذه الفئة : أن تعلم الدولة - وفقها الله - أن أفرادها وإن تمسحوا بالوطنية لتحقيق أهدافهم كما سبق - فإنهم لو دارت الدوائر - لا قدّر الله - سيكونون أول راكب على دبابات الأعداء المتربصين ؛ كما فعل أشياعهم في دول كثيرة ؛ والسعيد من وعظ بغيره . ولهذا فإن من مصلحة بلادنا أن لاتتجذر هذه الفئة فيها وتتمدد . وخير حل معها أن تُبعد وتُنحى عن مصادر التأثير ( الإعلام ) ، وتُبذ كما تُنبذ الجرباء ، وأن يُساءل كل من يُمكن لها أو يدعمها في مطبوعته أو وسيلته الإعلامية ؛ لأنه بهذا يكون " خائنًا " لبلاده ، ممن قيل فيهم :
تود عدوي ثم تزعم أنني * حبيبك إن الرأي عنك لعازب(104/3)
الفئة الرابعة : أصحاب المنافع والمصالح الدنيوية ؛ ممن يدعون الوطنية ، ويتظاهرون بها أمام الدولة ؛ لمكاسب وقتية دنيئة ؛ ممن قال الشاعر في أمثالهم :
فكم أذري الدموع لنهب مالٍ * وكم أبدي الخشوع لنيل جاهٍ
وهؤلاء لاخطر منهم ! والحل أن يعاملوا كما يعامل المؤلفة قلوبهم !
الفئة الخامسة : بعض الشباب المستقيمين ممن يُظهرون أنفسهم بمظهر " السلفية " ، متصدين لمن يسمونهم الحزبيين المعادين للدولة ، ممن يدعمون الفئة الضالة ؛ ولكنهم في تصديهم لهذا الأمر خالفوا نهج كبار العلماء في هذه البلاد ؛ بتصرفات غير مسؤولة ، أضرت بالسلفية وبالدولة أيضًا ؛ ومن ذلك أنهم أصبحوا يُنكرون أعمال الخير المتنوعة ( تحفيظ القرآن ، المكتبات ، المراكز ، أعمال الإغاثة والتبرعات ، وسائل الإعلام الجادة .. الخ ) ؛ بدعوى مواجهة الإرهاب ومواجهة الحزبيين المتسترين ! تُسيّرهم الظنون والوساوس ، حتى أصبح من يخالفهم في مسلكهم الضار هذا : ( حزبي متستر ) ! أو ( خارجي قعَدي ) ! .. وجعل الواحد منهم يتكلف في محاولة إظهار أنه " حامي حمى البلاد " ! في الوقوف بوجه أعداء الدولة السعودية ( من الحزبيين فقط ! ) ؛ والأصل عنده أن الجميع " خونة " لا ولاء عندهم لبلاد التوحيد ماعداه وأصحابه ، . بل وصل الحال ببعضهم أنهم وقفوا في " خندق واحد " مع الفئة الثالثة المنافقة - بجهل أو عمد - فتشابهت قلوبهم - والعياذ بالله - ، وهذا دليل مرض القلب .
ويغلب على هذه الفئة الانشغال بما سبق على حساب نشر الخير والدعوة إليه ، وجمع كلمة أهل الحق ، والتواصي معهم بالحق والصبر .(104/4)
والحل مع هذه الفئة : أن يُبين لهم أن طريقتهم هذه تهدم ولا تبني ، وتُفسد ولاتُصلح ، وتذكي ولا تُطفي ، وأنهم فارقوا بهذا أهل العلم الثقات في هذه البلاد ، ممن بارك الله فيهم ، وانتفع بهم القريب والبعيد ، وكانوا يفرحون بأي خير ينشأ ، ويشدون من أزر فاعله ويحسنون الظن به مادام لم تظهر منه مخالفة ، ويسددونه إذا أخطأ أو انحرف ، دون أن تستولي عليهم " الوساوس " و" الظنون " التي استولت على هؤلاء ؛ ممن يصدق فيهم قول الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تظن وتقتضي * على الظن أردتك الظنون الكواذب
وأن العلماء وإن بينوا فساد التحزب لغير الحق ، وأنكروه على أهله ، إلا أنهم لم يقفوا حجر عثرة أمام انتشار الخير ، أو يبالغوا في هذا الأمر ، ويضخموه ، في مقابل نشر العلم النافع ، والتصدي لأهل الفساد من المنافقين .
ومن الحل : أن ُتنبه الدولة إلى أن غلوّ هؤلاء لن يجلب من شباب البلاد سوى الغلو المضاد - كما هو مشاهد - نكاية بهذه الفئة الظالمة ، وأعرف كثيرًا من الشباب الذين لاعلاقة لهم بالحزبية ، بل ينكرونها ويبغضونها ، لكنهم يحبون الخير وانتشاره ، ويحبون كل داعية له ؛ مع عدم انسياقهم مع أخطائه ؛ إلا أنهم لم يسلموا من هذه الفئة " الموسوسة " التي ألجأتهم لمواجهة الغلو بالغلو . ولهذا ينبغي على الدولة - وفقها الله - أن لا تُعول في علاج الانحراف على هذه الفئة ، وأن تكتفي بالعلماء العقلاء ممن يعالجون الأمور بحكمة و " ديانة " لايبتغون من أحد جزاء ولا محمدة .
بقي أن يقال بأن هذه الفئات الخمس - وإن علت أصواتها - إلا أنها قليلة العدد كما سبق ، وأن أهل هذه البلاد - ولله الحمد - قد عافاهم الله من مسلكهم جميعًا ، ووفقهم للطريق المعتدل الذي يدعوهم لإنكار أفعال " الفئة الضالة " والتحذير منها ، وإنكار التحزب ، وإنكارالعلمنة والفساد ... وأيضًا إنكار واستسماج أفعال الفئات الخمس الآنف ذكرها .(104/5)
وحُقّ أخيرًا أن تقول هذه البلاد للجميع :
وكلا يدعي وصلا بليلى * وليلى لا تُقر لهم بذاكا
بل تُقر للمخلصين من أبنائها ، الحريصين على " دينها " و " أمنها " ، الفرحين بكل قول أو فعل يقضي على أسباب الفتنة فيها .. أسأل الله أن يجعلني وإخواني منهم .
والله الهادي والموفق .(104/6)
كذبتان سياسيتان على معاوية - رضي الله عنه - ( مع تفنيدهما )
متابعة مني لما ابتدأه أخي الشيخ عبدالله زقيل - وفقه الله - ( على هذا الرابط ) من تفنيد الشبهات التي يذكرها أهل الأهواء تجاه معاوية - رضي الله عنه - ؛ أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحد من ائتمنهم على كتابة الوحي ؛ أحببتُ أن أفنّد هنا شبهتين باطلتين طالما تكررتا في كتابات أولئك ؛ مع التنبه إلى أن الدفاع عن معاوية - رضي الله عنهم - فضلا عن كونه عقيدة يدين الله بها كل مسلم لم يفسد قلبه بمرض الغل والحقد على خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم - فإنه مهمٌ جدًا ؛ بسبب أن معاوية - كما قال العلماء - " ستر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه " ؛ كما شاهدنا هذا واقعًا من بعض أهل الأهواء ؛ حيث انتقلوا من الطعن فيه إلى الطعن في غيره من كبار الصحابة ؛ كعثمان وطلحة والزبير وغيرهم . فالدفاع عنه هو خط الدفاع الأول عن الصحابة - رضي الله عنهم - .
المسألة الأولى: اتهام معاوية – رضي الله عنه – والدوله الأموية بنشر "الجبرية" !
يردد المغرضون اتهامًا عجيبًا وقديمًا للدولة الأموية ؛ وعلى رأسها معاوية – رضي الله عنه - أنها كانت تروج للفكر الجبري وتنشره بين الناس ؛ لتباعد بينهم وبين الخروج عليها ، أو محاولة تغييرها . فيكون الرضا بتسلط هذه الدولة على المسلمين عقيدة راسخة يدينون الله بها ؛ وهذا ما يبتغيه بنو أمية ؛ وعلى رأسهم الصحابي الجليل : معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - !(105/1)
وقد صدق الشيخ محمود شاكر - المؤرخ المعاصر - عندما قال : "إن تاريخ بني أمية قد أصابه الكثير من التشويه" . [2] حيث تعرضت هذه الدولة المسلمة التي لم يأت مَنْ بعدها بعُشر فضائلها لحملة واسعة من التشويه المتعمد من قبل أعداء كثيرين ؛ في مقدمتهم مؤرخو الشيعة الذين اختلقوا الأكاذيب والمفتريات عليها ، وقلبوا محاسنها مساؤي .
وقد أحسن الدكتور حمدي شاهين في كتابه الجديد " الدولة الأموية المفترى عليها - دراسة الشبهات ورد المفتريات "[3] ؛ عندما أنصف هذه الدولة في كتابه هذا الذي أتمنى أن يعود إليه الأستاذ الشنقيطي - وكذا غيره من المهتمين - ليتبين لهم مقدار التجني والتحامل الذي تعرضت له تلك الدولة العظيمة.
يقول الدكتور حمدي : “ ظفر معاوية بن أبي سفيان بحظ وافر من فيض المطاعن والاتهامات ، وكانت مواجهته علي بن أبي طالب - بمكانته السامية عند المسلمين - سببًا في ذيوع هذه الاتهامات وترسخها ؛ فوصفوا سياسته بالميكافيلية وإرهاب الخصوم ، وإحياء النزعة القبلية ، وتخذيل المعارضة بشل الروح الثورية ، وبث روح الجبر والإرجاء .. “ [4] .
وفي ظني أن أول من أشاع هذه الفرية على معاوية - رضي الله عنه - : المعتزلة الأوائل الذين أبغضوا الأمويين لأسباب عديدة ؛ من أهمها : أن عقيدتها في القضاء والقدر سنية ، بخلاف عقيدة المعتزلة القدرية[6] ، ولهذا أطلقوا على كل من خالف عقيدتهم البدعية بأنه " جبري " ! ، ومنها : أن عقيدتهم في تسويغ الخروج على حكام المسلمين تخالف عقيدة أهل السنة التي تأمر بعدم الخروج على الحاكم المسلم الجائر ، وتُلزم المسلمين بطاعته في غير معصية الله ؛ حفظًا لوحدتهم ودمائهم ، وهي عقيدة مرجعها أقواله صلى الله عليه وسلم الآمرة بذلك ، فليست من اختراع معاوية أو غيره من أهل السنة ؛ كما يتوهم الثوريون أتباع المعتزلة .(105/2)
ولهذا فقد شن رجال المعتزلة حملتهم على دولة بني أمية السنية ، متوافقين في ذلك مع الروافض .
يقول الجاحظ في إحدى رسائله : “ عندها استوى معاوية على الملك ، واستبد على بقية الشورى ، وعلى جماعة المسلمين ؛ من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه عام الجماعة ، وما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة مُلكًا كسرويًا ، والخلافة غصبًا قيصريًا .. “ الخ هرائه[7] .
فتأمل منازعة هذا المعتزلي المتهتك[8] لجماعة المسلمين الذين فرحوا بالصلح بين معاوية والحسن – رضي الله عنهما - ، الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله عن الحسن – رضي الله عنه - : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " . أخرجه البخاري .، وسمّوا العام الذي حدث فيه عام الجماعة .
ثم تأمل كذبه وتناقضه عندما أوهم أنه مع الخلافة الراشدة ويدعو لها ؛ وهو كإخوانه أهل الاعتزال في تفسيق الخليفة الراشد عثمان – رضي الله عنه - !! وبعضهم يُصرح بأنه لايقبل شهادة الخليفة الراشد علي – رضي الله عنه - ! [9]
ثم جاء بعده المعتزلي الآخر القاضي عبدالجبار ، فردد هذه التهمة في كتابه " طبقات المعتزلة "[10]
وفي عصرنا الحاضر تتابع – للأسف - بعض المؤلفين المتحاملين على الدولة الأموية ؛ على ترديد هذه التهمة الغريبة دون دليل معتمد . وإليك أمثلة لهم :
قال أحمد أمين في كتابه " ضحى الإسلام"[11] ": وبنو أمية كما يظهر كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة لا دينياً فقط ولكن سياسياً كذلك ؛ لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسير الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء ، ودولتهم بقضاء الله وقدره فيجب الخضوع للقضاء والقدر" .
وقال النشار في كتابه " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام "[12] : " كان معاوية يُعلن الجبر بالشام " .(105/3)
وقال شاكر مصطفى في كتابه " دولة بني العباس "[13] : " إن خلافة بني أمية تقوم على مبدأين... المبدأ الثاني : أن ما يتم على الأرض فإنما هو بإرادة الله ؛ لأن الإنسان مسير لا مخير ، وفلسفة الجبرية كانت تقوم في أساس الفكر الأموي، ولو أراد الله غير ما هو كائن لفعل " .
وقال الدكتور عفت الشرقاوي في كتابه " أدب التاريخ عند العرب "[14] : " وكان عَوَانة يهتم بالصراع السياسي والحربي بين الإمام علي وخصومه ، مع ميل إلى تأكيد فكرة الجبر في تفسير حوادث التاريخ ؛ وهي الفكرة التي كان يشجع على بثها بين علماء المسلمين خلفاء بني أمية تأكيداً لسلطانهم السياسي" .
وقد رد الدكتور محمد بن صامل السلمي في كتابه " منهج كتابة التاريخ الإسلامي"[15] هذه التهمة الشنيعة بقوله :
" بسبب الانحراف في مفهوم القضاء والقدر وقع جملة من الكتاب المعاصرين في أخطاء شنيعة في تقديرهم للدولة الأموية والحكم عليها ؛ حيث قالوا إن الدولة الأموية شجعت الاتجاه نحو الجبر والإرجاء ، وقالت إن أعمالها لا تجوز معارضتها ؛ لأن من يعارضها يعتبر منكرًا للقدر ، إذ لو أراد الله غير ذلك لكان. وقد أطلق هؤلاء الكتاب هذا القول دون أن يوردوا عليه دليلاً، وهذا يرينا مدى التشويه الذي يلحق تفسير حوادث التاريخ الإسلامي عندما توضع في منظور غير إسلامي وعندما تنحرف المفاهيم والتصورات، وهذا الفهم الذي ذهبوا إليه والحكم الذي حكموا به مبني على الجهل بمفهوم القضاء والقدر وتوهم أن بينه وبين التكاليف الشرعية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله معارضة، وليس الأمر كذلك كما أوضحناه.
كما أن الوقائع التاريخية الثابتة تكذب هذا الادعاء ؛ فقد قُُتل كلٌ من غيلان الدمشقي ومعبد الجهني اللذين أنكرا القدر في ظل الدولة الأموية كما قُتل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان إماما الجبرية بأمر من الخلفاء الأمويين " .(105/4)
قلتُ : ومما يزيد هذه التهمة بطلانًا : أن معاوية – رضي الله عنه – عندما تصالح مع الحسن – رضي الله عنه – كان الاتفاق بينهما أن يتولى الحسن الخلافة بعده ؛ "وأعطاه معاوية عهدًا إن حدث به حدَث والحسن حي ليسمّينه وليجعلنّ هذا الأمر إليه".[16] فكيف يُتهم رضي الله عنه بنشر فكر الجبر ثم يعهد بالخلافة للحسن ؟!
المسألة الثانية : اتهام معاوية بسن لعن علي – رضي الله عنهما – على المنابر !!
وهي أكذوبة شيعية سرت بين بعض المؤرخين - دون إسناد - تزعم أن معاوية - رضي الله عنه - أمر بسب علي - رضي الله عنه - على المنابر طوال عهده! ثم توارث ذلك بنو أمية إلى عهد عمر بن عبدالعزيز الذي أوقف هذا السب.
ثم سرت إلى بعض من يروي الغث والسمين، فصدقها من قال اللهم عنهم ):وفيكم سماعون لهم(. ومن هؤلاء : الدكتور الشنقيطي صاحب كتاب " الخلافات السياسية بين الصحابة " ، وصاحبه الذي نقل عنه؛ عبدالمعطي قلعجي محقق كتاب "جامع المسانيد والسنن" لابن كثير؛ الذي استجاز لنفسه أن يلعن معاوية - رضي الله عنه - متكئاً على هذه الأكذوبة الرافضية التي ألصقت –ظُلماً وزوراً- بمعاوية[17].(105/5)
والغريب أن قلعجيًا هذا قال في مقدمته لكتاب "جامع المسانيد والسنن"[18] معلقاً على موقف ابن كثير –رحمه الله- من الحرب بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - بعد إيراد حديث: "تفترق أمتي فرقتين فتمرق بينهما مارقة فيقتلها أولى الطائفتين بالحق": "فهذا الحديث من دلائل النبوة؛ إذ وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام؛ من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب، وإن كان معاوية مجتهداً، وهو مأجور إن شاء الله، ولكن علياً هو الإمام؛ فله أجران..." ! فتأمل تناقض هذا الكلام الطيب مع لعنه السابق !
وأيضاً: فقد علق قلعجي على "فتاوى ابن الصلاح"[19] عند مسألة سب يزيد بن معاوية ولعنه قائلاً: "وإني أميل إلى أن يُلعن من تتوفر فيهم الصفات الملعونة جملة وبطريقة جامعة: مثلاً : لعنة الله على الظالمين، أما لعنة شخص بعينه على وجه التحديد فهذا أمر غير لا ئق" !
قلتُ : فما بال قلعجي وقع هنا في الأمر غير اللائق؟! لأن لعنته لمعاوية - رضي الله عنه - وخلفاء بني أمية لعنة محددة.
أعود إلى الأكذوبة والتهمة الرافضية لمعاوية : فقد رجعتُ إلى أدلة الشيعة على هذه القضية فوجدتها تنقسم قسمين:
1- أحاديث صحيحة لا تدل على كذبتهم .
2- روايات تاريخية تحوي هذه الكذبة، لكن دون إسناد!
فأما القسم الأول ؛ وهو ماأورده الأستاذ الشنقيطي نقلا عن القلعجي – مستدلا به على لعن معاوية لعلي – رضي الله عنهما - ، أو أمره بذلك ؛ فهو ثلاثة أدلة :(105/6)
الأول - ما أخرجه مسلم في صحيحه " باب فضائل علي " عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال : " أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسُبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلن أسُبّهُ ، لأن تكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حُمر النَّعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له و خلّفه في مغازيه فقال له عليّ: يا رسول الله، خلَّفْتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضىأن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوّة بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر: لأُ عْطينَّ الراية رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي علياً، فأُتي به أرْمَد فبصق في عَيْنه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولمّا نزلت هذه الآية: { قل تعالوْا ندعُ أبْناءنا وأبْناءَكم ...}، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحُسيناً فقال: اللهم، هؤلاء أهلي "[20].
وجوابه أن يُقال :هذا الحديث لا يفيد أن معاوية أمر سعداً بسبِّ عليّ، ولكنه كما هو ظاهر فإن معاوية أراد أن يستفسر عن المانع من سب عليّ، فأجابه سعد عن السبب ، ولم نعلم أن معاوية عندما سمع رد سعد غضب منه ولا عاقبه، وسكوت معاوية هو تصويب لرأي سعد، ولو كان معاوية ظالماً يجبر الناس على سب عليّ كما يدّعي الشيعة ومن تابعهم ، لما سكت على سعد ولأجبره على سبّه، ولكن لم يحدث من ذلك شيءٌ ، فعُلم أنه لم يؤمر بسبّه ولا رضي بذلك .(105/7)
قال النووي شارحًا هذا الحديث : " قول معاوية هذا، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب، كأنه يقول : هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك. فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك، فله جواب آخر، ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبّون، فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار وأنكر عليهم ، فسأله هذا السؤال. قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه : ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده، وتُظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ "[21].
وقال القرطبي معلقاً على وصف ضرار الصُّدَائي لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك، وتصديقه لضرار فيما قال: "وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه، ومكانته، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق ، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن، وعرف الحق لمستحقه"[22] .
الثاني : حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال : استُعمل على المدينة رجلٌ من آل مروان ، قال : فدعا سهلَ بن سعد فأمره أن يشتم عليًّا ، قال : فأبى سهل ، فقال له : أما إذا أبيت فقل : لعن الله أبا تراب ، فقال سهل : ماكان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب ، وإن كان ليفرح إذا دعي بها "[23] .
فيقال عنه : ُيطالب الشنقيطي بإثبات أن الرجل الذي دعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً هو معاوية! ولفظ الأثر: "رجل من آل مروان"، وليس فيه ذكرٌ لمعاوية ؛ فلا يليق بمسلم أن يلومه بجريرة غيره ؛ كما قيل :(105/8)
غيري جنى وأنا المعذب فيكمُ *** فكأنني سبابة المتندم !
الثالث : أثر عبدالرحمن بن الأخنس أن المغيرة بن شعبة خطب فنال من علي ، فقام سعيد بن زيد فقال : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وأبوبكر في الجنة ، وعمر في الجنة ... الحديث"[24]
ولا أدري ما علاقة هذا بمعاوية – رضي الله عنه - ؟!
وكما قلتُ في الأثر السابق : لاينبغي لمسلم أن يؤاخذه بصنيع غيره ، وإلا كان من الظالمين . وقد عُلم – أيضًا– أن السب واللعن ليس بأعظم من القتال الذي جرى ، وقد وقع من الطرفين – رضي الله عن الجميع - ، فمثل هذا يطوى ولا يروى ، أو يُتخذ دينًا أو شماعة للطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع الإقرار بأنهم بشر ليسوا بمعصومين ، يعتريهم ما يعتري البشر .
وأما القسم الثاني: فحكايات وأخبار يتناقلها المؤرخون وأهل الأدب دون خطام ولا زمام. ومعلوم أن هؤلاء "حطبة ليل" كما بين العلماء، فكم في كتبهم ومصنفاتهم من أباطيل ومفتريات لا تقوم على ساق عند النقد العلمي. يقول الشيخ محمود الألوسي –رحمه الله-: " إن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف ، وأكثرهم حاطب ليل ، لا يدري ما يجمع "[25] .
فممن نقلوا هذه الأكذوبة الشيعية في مصنفاتهم :
-الطبري في تاريخه[26] من طريق أبي مخنف "الشيعي الساقط" عند ذكر قصة التحكيم المكذوبة: قال ".. وكان –أي علياً- إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمراً وأبا الأعور السلمي وحبيباً وعبدالرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد. فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس والأشتر وحسناً وحسيناً" ! وهذه الراوية باطلة؛ لأنها من رواية الشيعي المحترق أبي مخنف لوط بن يحيى[27] ولذا قال ابن كثير بعد ذكرها في "البداية والنهاية"[28] : "ولا يصح هذا".(105/9)
ومعلومٌ قول الطبري في مقدمة تاريخه : " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه ، أو يستشنعه سامعه ، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة ، ولامعنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبلنا ، وإنما أتي من قِبل بعض ناقليه إلينا ، وأنّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا " .
وأيضًا : يلزم من يحتج بهذه الحكاية الباطلة على ذم معاوية - رضي الله عنه - أن يقول مثل ذلك في علي - رضي الله عنه - لأنه هو البادئ باللعن والسب! والله يقول )ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل(، فإن اعتذر لعلي فليعتذر لمعاوية.
وأما أهل السنة –ولله الحمد- فيشهدون ببطلان هذه القصة، ويترضون عن الجميع .
وعن الطبري تداول هذه الحكاية بعض المؤرخين الذين صرحوا في مقدمات كتبهم اعتمادهم عليه؛ كالمسعودي[29]، وابن الأثير[30].
ثم تفنن من بعدهم من مؤرخي الشيعة وغيرهم من الفرق الضالة أعداء الصحابة؛ كالمعتزلة والخوارج في حبك هذه الأكذوبة والزيادة عليها، وأنها استمرت يُعمل بها عشرات السنين على منابر المسلمين!! دون أن ينكرها أحد ! إلى أن جاء عمر بن عبدالعزيز فأبطلها.
انظر على سبيل المثال: "مروج الذهب" للمسعودي (3/41-42)، و"شرح نهج البلاغة" للشيعي المعتزلي ابن أبي الحديد (1/778-790)، (5/752، 754، 759). و"الكامل" للمبرد (نقلاً عن شرح نهج البلاغة 1/778، ولم أجده في المطبوع من الكامل)، و"الرد على الإمامية" للجاحظ (نقلاً عن شرح نهج البلاغة 1/778 وما بعدها) و"الأحداث" للمدائني، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه (انظر النصائح الكافية لابن عقيل، ص 96-98) ، وغيرهم .(105/10)
ثم تلقفها من هؤلاء: بعض المؤرخين والكتاب المعاصرين ممن لا يفرق بين الغث والسمين ، أو كان ذا نوايا سيئة ؛ كالدكتور حسن إبراهيم حسن في تاريخه (1/323) ، والعقاد في كتابه عن معاوية (ص14) ،والمودودي في " الخلافة والملك " ( ص 112-113) ، والتليدي في "فضائل الصحابة"! (ص159-160)، والحجوي في " الفكر السامي " ( ص 54 ) ، وعبدالله النفيسي ! في كتابه " عندما يحكم الإسلام " ( ص 111 ) ، وحسن المالكي في كتابه "نحو إنقاذ! التاريخ الإسلامي" (ص20 وما بعدها) وحسن السقاف في تعليقه على "دفع شبه التشبيه"؛ لابن الجوزي (ص 236) والتيجاني في كتاب "ثم اهتديت !، (ص 106-107، 121، 169).
علماء وكتّاب ردوا هذه الفرية :
- قال الشيخ الألوسي – رحمه الله – في كتابه " صب العذاب على من سب الأصحاب "[31] : " وما يذكره المؤرخون من أن معاوية رضي الله تعالى عنه كان يقع في الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ، ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه ؛ لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب ، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف ، وأكثرهم حاطب ليل ، لا يدري ما يجمع، فالاعتماد على مثل ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمَهمَه الذي تضل فيه القطا ويقصر دونه الخطا ، مما لا يليق بشأن عاقل ، فضلا عن فاضل " .
- وقال الشيخ محمد العربي التباني في "تحذير العبقري من محاضرات الخضري"[32] راداً هذه التهمة: "أقول: لم يثبت عن معاوية رضي الله عنه أنه سب علياً أو لعنه مرة واحدة فضلاً عن الاهتمام به والتشهير به على المنابر، وقد تقدم ثناؤه وترحمه عليه في أثر ضمرة بن حمزة الكناني وغيره، فكلامه – أي الخضري - هذا باطل لا أصل له عنه رضي الله عنه ".
وقال : "إن الصحابة بشر يصدر منهم في حالة الغضب في حق بعضهم بعضاً ما يصدر من غيرهم"[33] .(105/11)
- الدكتور عبدالعزيز محمد نور ولي في رسالته "أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري"[34] .
- الشيخ محمود الزعبي في "البينات في الرد على أباطيل المراجعات"[35]، قائلاً: "أما قول الرافضي بأن معاوية رضي الله عنه لعن علياً على منابر المسلمين؛ فهو محض كذب وبهتان؛ بل هو معارض بما ثبت عن معاوية أنه بكى علياً يوم قتله، وأنه كان يترحم عليه، ويعترف بأفضليته عليه".
- الشيخ صالح بن سعد اللحيدان في كتابه "نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين على ضوء العبقريات"[36] قائلاً: "لم يثبت بنص صحيح أبداً، ولم يصل إلينا نص سالم من المعارض؛ إنما فهم المؤلف هذا وأقره ونقله من خلال مجرد نقل سار عليه من كتب مذهبية إخبارية تاريخية وشعوبية، وحديثية لم يصح سندها، وهذه المقولة لاكها نقلة كثيرون في هذا بسبب تعصب أو جهل بمقتضيات حقيقة السند والمتن".
- الشيخ عبدالعزيز بن حامد في رسالته "الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية"[37] .
- الشيخ سليمان العلوان في رده على السقاف "إتحاف أهل الفضل والإنصاف"[38]
- الشيخ خالد العسقلاني في رده على التيجاني "بل ضللت"[39]
- الدكتور إبراهيم شعوط في كتابه "أباطيل يجب أن تُمحى من التاريخ"[40].
ومما يزيد هذه الفرية وهنً[41] :
1- أن معاوية- رضي الله عنه - منزه عن مثل هذه التهم، بما ثبت من فضله في الدين، فقد كان كاتب الوحي لرسول الله r، وثبت في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث عبدالرحمن بن عميره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: "اللهم اجعله هادياً مهدياً وأهد به"[42].
وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة وامتدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير.
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لما ولاّه الشام: "لا تذكروا معاوية إلا بخير"[43].(105/12)
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال بعد رجوعه من صفين: " أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل "[44].
وعن ابن عمر أنه قال: " ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. فقيل : ولا أبوك؟ قال: أبي عمر –رحمه الله- خير من معاوية، وكان معاوية أسود منه"[45].
وعن ابن عباس قال: " ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية"[46] .
وفي صحيح البخاري أنه قيل لابن عباس: " هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة قال: إنه فقيه "[47].
وعن عبدالله بن الزبير أنه قال: " لله در ابن هند –يعني معاوية- إنا كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا، والله لوددت أنا مُتّعنا به ما دام في هذا الجبل حجر وأشار إلى أبي قبيس "[48] .
وعن قتادة قال: " لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي"[49].
وعن مجاهد أنه قال: "لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي"[50].
وعن الزهري قال: "عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئاً"[51].
وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبدالعزيز وعدله فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: يا أبا محمد يعني في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله"[52].
وسئل المعافى : معاوية أفضل أو عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: "كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبدالعزيز"[53].
والآثار عن السلف في ذلك كثيرة، وإنما سقت هنا بعضها.
كما أثنى على معاوية - رضي الله عنه - العلماء المحققون في السير والتاريخ، ونقاد الرجال.
يقول ابن قدامة المقدسي: "ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين –رضي الله تعالى عنهم-"[54].(105/13)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكاً ورحمة"[55].
وقال: "فلم يكن من ملوك المسلمين خير من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمان معاوية"[56].
وقال ابن كثير في ترجمة معاوية : "وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين... فلم يزل مستقلاً بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو"[57].
وقال ابن أبي العز الحنفي: "وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين"[58].
وقال الذهبي في ترجمته: "أمير المؤمنين ملك الإسلام"[59].
وقال: "ومعاوية من خيار الملوك، الذين غلب عدلهم على ظلمهم"[60].
وإذا ثبت هذا في حق معاوية ؛ فإنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي t على المنابر وهو من هو في الفضل. وهذا يعني أن أولئك السلف وأهل العلم من بعدهم الذين أثنوا عليه ذلك الثناء البالغ، قد مالؤوه على الظلم والبغي واتفقوا على الضلال وهذا مما نزهت الأمة عنه بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة"[61].
2- من علم سيرة معاوية في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية، ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه.
فقد بلغ معاوية في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال ؛ قال عبدالملك بن مروان وقد ذُكر عنده معاوية: "ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه"[62].
وقال قبيصة بن جابر: "ما رأيت أحداً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا أبعد أناة، ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية"[63].(105/14)
ونقل ابن كثير: "أن رجلاً أسمع معاوية كلاماً سيئاً شديداً، فقيل له : لو سطوت عليه؟ فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي"[64].
وقال رجل لمعاوية: "ما رأيت أنذل منك، فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا"[65].
فهل يُعقل بعد هذا أن يسع حلم معاوية سفهاء الناس وعامتهم المجاهرين له بالسب والشتائم، وهو أمير المؤمنين، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب على المنابر، ويأمر ولاته بذلك في سائر الأمصار والبلدان ؟! الحكم في هذا لكل صاحب عقل وفهم .
3- قال ابن كثير: "وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني..." الخبر[66].
ونقل ابن كثير أيضاً عن جرير بن عبدالحميد عن مغيرة قال: " لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم"[67].
فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا ؟!
4- أنه لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية تعرض لعلي بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته؟! فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
5- أن معاوية كان رجلاً ذكياً، مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي–حاشاه ذلك- أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص، وهو من هو في الفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً!! فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية.(105/15)
6- أن معاوية انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب ودانت له الأمصار بالملك، فأي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير.
7- أنه كان بين معاوية بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الأُلفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ. ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف. وقال لهما: "ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال له الحسين: ولم تعط أحد أفضل منا"[68].
ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: "مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له بثلائمائة ألف "[69].
وهذا مما يقطع بكذب ما ادعي في حق معاوية، من حمله الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا ؟ مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة، والاحتفاء والتكريم . وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة.
بقي أن يقال :
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة "[70] : "وأما ما ذكره – أي الرافضي - من لعن علي؛ فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم، وقيل: إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى، والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان، وهذا كله؛ سواء كان ذنباً أو اجتهاداً، مخطئاً أو مصيباً؛ فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك؛ بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك..." . وما أجمل أن يقال هنا ما قاله الأعمش – رحمه الله - : " حدثناهم بغضب أصحاب محمد الله صلى عليه وسلم فاتخذوه دينًا " [71].(105/16)
والعجب من الرافضة وأشباههم عندما تراهم يتمدحون بأن عليًا – رضي الله عنه – ومن معه كانوا يسبون أو يدعون على معاوية – رضي الله عنه – ومن معه ، ويرون ذلك منقبة لهم ! في مقابل التشنيع على غيرهم بالحكايات الباطلة والموضوعة .
قال يحيى بن حمزة الإمام الزيدي في رسالته "الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين"[72] : "وانظر في معاملته –أي علياً رضي الله عنه لمعاوية وعمرو بن العاص وأبي الأعور وأبي موسى الأشعري؛ فإنه كان يعامل هؤلاء باللعن والتبري منهم" ! فهو يفتخر بأن علياً كان يلعن معاوية - رضي الله عنهما - !!
قال الشيخ مقبل الوادعي –رحمه الله- في الهامش –متعقباً-: "أما اللعن فلم نجده في شيء من كتب السنة المعتمدة بعد البحث الطويل، وأما الدعاء عليهم فقد صح عنه رضي الله عنه: قال ابن أبي شيبه (2/137): حدثنا هشيم قال: أخبرنا حصين، قال: حدثنا عبدالرحمن بن معقل: قال: صليت مع علي صلاة الغداة؛ فقنت، فقال في قنوته: اللهم عليك بمعاوية وأشياعه، وعمرو بن العاص وأشياعه، وأبا الأعور السلمي وأشياعه، وعبدالله بن قيس وأشياعه، قال البيهقي (2/204) وقد أخرج بعضه: صحيح مشهور، وهو كما قال من حيث الصحة؛ فهو على شرط الشيخين" اهـ كلام الشيخ مقبل.(105/17)
ومن المناسب أن أختم بما أخرجه عبدالرزاق في" مصنفه " عن عروة : أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية ، فقضى حاجته ، ثم خلا به فقال : يا مسور ! ما فعل طعنك على الأئمة ؟ قال : دعنا من هذا وأحسن . قال : لا والله ، لتكلمنّي بذات نفسك بالذي تعيب عليّ . قال مسور : فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينت له . فقال : لا أبرأ من الذنب ، فهل تعد لنا يا مسور مانلي من الإصلاح في أمر العامة ؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها ، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان ؟ قال : ما نذكر إلا الذنوب . فقال : فإنّا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه . فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تُهلكك إن لم تُغفر ؟ قال : نعم . قال : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني ؟ فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي ، ولكن والله لاأخيّر بين أمرين : بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه ، وإني لعلى دين يُقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات ، ويُجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها . قال : فخصمني . قال عروة : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه " [73].(105/18)
تنبيه مهم : وجدتُ تشابهًا كبيرًا بين كتاب الأستاذ الشنقيطي " الخلافات السياسية .. " وكتاب المودودي " الخلافة والملك " في قضايا أساسية كبيرة ؛ كالنظرة إلى عدالة الصحابة، أو التحامل على معاوية – رضي الله عنه – وبني أمية ، وتصديق مايتناقله رواة الشيعة عنهم من أكاذيب ، أو التبجح بعد الاعتماد على كتاب " منهاج السنة " لشيخ الإسلام ، وكتاب " العواصم " لابن العربي ، وادعاء الاعتماد على المصادر الموثوقة ! – هي عنده : تاريخ الطبري وكتاب الإمامة المكذوب على ابن قتيبة !! - وأشياء أخرى ( انظر : ص 66، 78 ، 84 ، 113 ، 205، 219 ، 233 من كتاب المودودي ) . فالنَفَس هو النَفَس . وقد زاد كتاب المودودي بما هو أسوأ عندما لمز عثمان – رضي الله عنه - ! ( انظر : ص 64،70،71) . ومن خلال اطلاعي على كتاب المودودي أرى انه يحتاج إلى نقض وتفنيد ما جاء فيه من آراء أصبحت دستورًا لمن بعده من أصحاب الروح الثورية – هداهم الله - . وقد ذُكر في خاتمته أن بعض علماء الهند رد عليه ، فليت طالب علم من تلك البلاد يقوم بترجمة ردود العلماء وطباعتها .
رضى الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم، و غفر الله لنا و لهم ، و لجميع من أحبهم ، وجمعنا بهم في دار كرامته . والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
------------------------
الهوامش :
[2] التاريخ الإسلامي (4/5).
[3] ط: دار القاهرة للكتاب ، 2001م.
[4] ص 12 .
[5] ص 28.
[6] ينظر رسالة "المعتزلة وأصولهم الخمسة"؛ للدكتور عواد المعتق.
[7] رسالة في النابتة، مطبوعة ضمن "رسائل الجاحظ" (1/10-12)، تحقيق الأستاذ عبدالسلام هارون –رحمه الله-.(105/19)
[8] قال ابن حزم عنه: "كان أحد المُجّان، ومن غلب عليه الهزل، وأحد الضُلاّل المضلين". (الفِصَل..، 5/39). وقال الإمام ابن قتيبة في كتابه "مختلف الحديث، ص 59-60": "تجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشُراب النبيذ.. وهو مع هذا من أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل"
[9] ينظر في هذا: رسالة "تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة" للدكتورة عفاف مختار (1/459-460).
[10] (3/14).
[11] (3/81).
[12] (1/231-232).
[13] (1/28) .
[14] ص 257
[15] ص 202 - 203
[16] طبقات ابن سعد (1/330-331)، تحقيق الدكتور محمد السلمي، وقال عن الخبر: إسناده صحيح.
[17] انظر تعليقه على مسند معاوية رضي الله عنه (11/566)، وقد نقله الدكتور في كتابه (ص 101).
[18] (ص 177).
[19] ( ص ) .
[20] صحيح مسلم، (4/1871).
[21] شرح صحيح مسلم (15/175).
[22] المفهم (6/278).
[23] أخرجه مسلم (2409).
[24] ينظر : السنة لابن أبي عاصم، تحقيق الدكتور باسم الجوابرة (2/949 وما بعدها).
[25] صب العذاب على من سب الأصحاب، ص 421.
[26] (5/113).
[27] ينظر: رسالة "مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري" للدكتور يحيى اليحيى.
[28] (7/295).
[29] ينظر مقدمة تاريخه (1/15).
[30] ينظر مقدمة تاريخه (1/3).
[31] ص 421
[32] (2/198).
[33] (2/299-300).
[34] ص 370
[35] ص 35
[36] ص 194
[37] ص 72
[38] ص (243 – 245).
[39] ص 47، 61
[40] ص 394 - 396
[41] ينظر كتاب "الانتصار للصحب والآل" للدكتور إبراهيم الرحيلي –حفظه الله- (362-377)، وعنه أنقل بتصرف.
[42] السلسلة الصحيحة للألباني ، (4/615).
[43] البداية والنهاية (8/125).
[44] المرجع السابق (8/134).
[45] المرجع السابق (8/137).
[46] المرجع السابق .
[47] فتح الباري (7/103).
[48] البداية والنهاية (8/138).
[49] السنة؛ للخلال (1/438).
[50] المرجع السابق.
[51] المرجع السابق (1/444) .(105/20)
[52] المرجع السابق (1/437).
[53] المرجع السابق (1/435).
[54] لمعة الاعتقاد، ص 33
[55] مجموع الفتاوى (4/478).
[56] منهاج السنة (6/232).
[57] البداية والنهاية (8/122)
[58] شرح العقيدة الطجاوية، ص 722
[59] سير أعلام النبلاء (3/120).
[60] المرجع السابق (3/159).
[61] السلسلة الصحيحة؛ للألباني (رقم 1331).
[62] البداية والنهاية (8/138).
[63] المرجع السابق.
[64] المرجع السابق.
[65] المرجع السابق.
[66] المرجع السابق (8/132).
[67] المرجع السابق (8/133).
[68] المرجع السابق (8/139).
[69] المرجع السابق (8/140).
[70] (4/468) وانظر: "إتحاف أهل الفضل والإنصاف" للشيخ سليمان العلوان، ص 61-62.
[71] سير أعلام النبلاء ، ( 2/394) .
[72] ص 112 - 121
[73] سير أعلام النبلاء ، وقال المحقق : رجاله ثقات ، وهو في المصنّف ( 20717) .(105/21)
من هم التكفيريون ؟؟؟
يقول أهل الباطل : إذا أردت تقرير شبهة بين الناس لاحقيقة لها ... فأكثر من تردادها .
وهذا ماقام به خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - الإمام المجدد ؛ حيث كذبوا عليه بأنه يكفر ((( المسلمين ))) ويقاتلهم ، وطاروا بهذه الكذبة في الآفاق .
ولكن العاقل الموفق لا يحكم على دعوة أو شخص من خلال أقوال خصومه ؛ وكما هو معلوم أن العلماء يردون شهادة مثل هذا . وإنما يحكم عليه من خلال أقواله وأفعاله بعد عرضها على ميزان الكتاب والسنة .
وقد تفاجأ كثير من العقلاء عندما اطلعوا على أحوال الشيخ ودعوته أن خصومه هم من بدؤه (( بالتكفير )) و((القتال )) !! بغير حق . فكان الأولى بمقولة ( هلا لنفسك كان ذا التعليم ) .
وقد أحببت أن أساهم في دفع هذه الفرية عن دعوة التوحيد بنقل مقتطفات من كتاب الشيخ ناصر العقل حفظه الله ( إسلامية لا وهابية ) ( ص : 151،180،213،219،241،339،316) حول هذا الأمر - بتصرف يسير -
- ( لقد اتخذ أشراف مكة موقفاً عدائياً من دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية على حد سواء منذ البداية. فقد سجن أحد أولئك الأشراف الحجاج التابعين للدولة السعودية سنة (1162هـ) . ( ابن بشر، ج1، ص (37)).
وأصدر قاضي الشرع في تلك البلدة المقدسة فتوى بتكفير الشيخ محمد وأتباعه.(أحمد بن زيني دحلان، خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، القاهرة، 1305هـ، ص :227-228) .
ولذلك مُنِعوا من أداء الحج سنوات طويلة. وكم كانت فرحة الشيخ عظيمة عندما تلقى رسالة من الشريف أحمد بن سعيد عام (1185هـ)، طالباً منه بعث عالم نجدي لشرح الدعوة التي نادى بها. وقد أرسل إليه الشيخ تلميذه عبدالعزيز الحُصيِّن. وبعث معه رسالة تنبئ عبارتها بما كان يختلج في نفسه من مشاعر طيّبة تجاه ذلك الشريف، وما كان يملأ جوانحه من آمال في مناصرته لدعوة الحق.(106/1)
قال الشيخ: "بسم الله الرحمن الرحيم. المعروض لديك، أدام الله فضل نِعَمه عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد –أعزَّه الله في الدارين، وأعزَّ به دين جده سيد الثقلين-، أن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمَّل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها. وهذا هو الواجب على ولاة الأمور... فلا بدَّ من الإيمان به –أي بالنبي صلى الله عليه وسلم- ولابد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذين بعثه الله منهم، وشرَّفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم".(تاريخ ابن غنام ، 2 / 80-81) .
على أن هذه الرسالة اللطيفة لم تُجن منها الثمار المرجوَّة؛ ذلك أن الشريف أحمد نفسه لم يبق في الحكم أكثر من سنة، فتلاشى ما دار في ذهن الشيخ من أمل، واستمر منع أنصاره من أداء الحج، ومع مرور الأيام لم يكتف أشراف مكة بذلك المنع؛ بل بدأوا بمهاجمة الأراضي النجدية التابعة للدولة السعودية عام (1205هـ/1790م). وكانت النتيجة أن انتصر السعوديون في نهاية المطاف على أولئك الأشراف حتى دخلت الحجاز تحت حكمهم.(106/2)
- يقول زيني دحلان القبوري وكان أهل الحرمين يسمعون بظهورهم – أي الشيخ محمد وأتباع دعوته - في الشرق وفساد عقائدهم ولم يعرفوا حقيقة ذلك، فأمر مولانا الشريف مسعود أن يناظر علماء الحرمين العلماء الذين أرسلوا فناظروهم فوجدوهم ضحكة ومسخرة كحمر مستنفرة فرت من قسورة، ونظروا إلى عقائدهم فإذا هي مشتملة على كثير من المكفرات ، فبعد أن أقاموا عليهم البرهان والدليل أمر الشريف مسعود قاضي الشرع أن يكتب حجة بكفرهم الظاهر ليعلم به الأول والآخر وأمر بسجن أولئك الملاحدة الأنذال، ووضعهم في السلاسل والأغلال فسجن منهم جانباً وفرَّ الباقون ووصلوا إلى الدرعية وأخبروا بما شاهدوا ،فعتى أمرهم واستكبر، ونأى عن هذا المقصد وتأخر، حتى مضت دولة الشريف مسعود وأقيم بعده أخوه الشريف مساعد بن سعيد، فأرسلوا في مدته يستأذنون في الحج فأبى وامتنع من الإذن لهم فضعفت عن الوصول مطامعهم ،فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلد الأمر أخوه الشريف أحمد بن سعيد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه كما أرسل في المدة السابقة.(106/3)
فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة فأبى أن يقر لهم في حمى البيت الحرام قرار ،ولم يأذن لهم في الحج بعد أن ثبت عند العلماء أنهم كفار، كما ثبت في دولة الشريف مسعود. فلما أن ولي الشريف سرور أرسلوا أيضاً يستأذنونه في زيارة البيت المعمور فأجابهم: بأنكم إن أردتم الوصول آخذ منكم في كل سنة وعام صرمة مثل ما نأخذها من الأعاجم وآخذ منكم زيادة على ذلك مائة من الخيل الجياد ،فعظم عليهم تسليم هذا المقدار وأن يكونوا مثل العجم فامتنعوا من الحج في مدته كلها، فلما توفي وتولى سيدنا الشريف غالب أرسلوا أيضاً يستأذنون في الحج فمنعهم وتهددهم بالركوب عليهم ،وجعل ذلك القول فعلاً ،فجهز عليهم جيشاً في سنة ألف ومائتين وخمسة، واتصلت بينهم المحاربات والغزوات إلى أن انقضى تنفيذ مراد الله فيما أراد وسيأتي شرح تلك الغزوات والمحاربات بعد توضيح ما كانوا عليه من العقائد الزائغة التي كان تأسيسها من محمد بن عبدالوهاب).
إلى أن يقول معترفًا : (والحاصل أنه – أي الشيخ محمد - لبَّس على الأغبياء ببعض الأشياء التي توهمهم بإقامة الدين، وذلك مثل أمره للبوادي بإقامة الصلاة والجماعة ومنعهم من النهب، ومن بعض الفواحش الظاهرة كالزنا واللواط، وكتأمين الطرق والدعوة إلى التوحيد، فصار الأغبياء الجاهلون يستحسنون حاله وحال أتباعه).
- ويقول عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه عن جيش ابراهيم باشا عدو الدعوة : (ولما وصلوا بدراً واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف، وبها خيار الناس، وبها أهل العلم الصلحاء : نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم فكانوا ..يبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون :هؤلاء الكفار الخوارج ).(تاريخ الجبرتي ، 3/341-343 ).(106/4)
- قال الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - مبينا ظلم خصومه له : (وأما: ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها واتخاذها أعياداً، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" .
وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً: أنه بعث علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا: هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا، وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم ، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ؛ ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز).(106/5)
- وقال الشيخ عبد الله بن الإمام محمد: (وهذا الدين الذي ندعو إليه، قد ظهر أمره وشاع وذاع، وملأ الأسماع، من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا، وخرّجونا، وعادونا عنده، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات، حتى غُلبوا وقُهِروا، فعند ذلك أذعنوا وأقروا بعد الإنكار) . ( الدرر السنية (1/274)).
قال الشيخ العقل : ( 1-إن خصومهم هم البادئون بالقتال بإعلان الحرب المسلحة وغير المسلحة على الدعوة ودولتها وأتباعها، بل أعلنت قوى الشر استعمال القوة والقتال للشيخ وأتباعه قبل وصوله الدرعية وقبل أن يكون لهم كيان ،حيث هدده سليمان بن محمد الحيدي في الأحساء (من بني خالد) وأنذر عثمان بن معمر –أمير العيينة- إن لم يتخذ موقفاً حازماً ضد الشيخ الإمام وكذلك فعل ابن شامس العنزي. ( انظر : حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، لخزعل ، ص 142).
- ثم لما استقرت الدعوة في الدرعية بدأها بالحرب دهام بن دواس أمير الرياض آنذاك.
2- إن الخصوم كانوا كثيراً ما يغدرون بأتباع الدعوة من الدعاة القضاة والعلماء وطلاب العلم والمعلمين الذين كان يبعثهم الشيخ محمد والولاة والمشايخ –المؤيدين للدعوة- للقرى والبادية والأقاليم لتعليم الناس دينهم وإجراء الأحكام الشرعية بينهم ،بل كثيراً ما يعلنون العصيان على الحاكم الإمام محمد بن سعود، وينقضون البيعة والعهد، ويخرجون على الجماعة والإمام، وهذا ما يحرمه الإسلام، ويأمر بتأديب من يفعله.
3- وكان حكام الحجاز غالباً يعلنون العداء لدعوة التوحيد وأتباعها وكانت عداوتهم متنوعة عقدية وسياسية وإعلامية ثم عسكرية، وأحياناً يقتلون بعض العلماء والدعاة بل والرسل الذين يبعثهم أهل الدعوة إليهم.(106/6)
4- وكانوا يمنعونهم من حقوقهم المشروعة كإبلاغ الدعوة، وكأداء فريضة الحج، فقد منعوهم منه سنين طويلة ثم أذنوا فيه سنة (1197هـ)، ثم الشريف غالب منعهم من الحج مرة أخرى منذ سنة (1203هـ) وما بعدها ثم غزا معتدياً، فقد بدأ الشريف غالب وغيره من حكام الحجاز الحرب على الدعوة وأتباعها قبل أن يبدؤوهم. وأعلن الحرب المسلحة ضدهم، وقد اعترف خصوم الدعوة بذلك وذكره مؤرخوهم معتزين به. (انظر : خلاصة الكلام لدحلان ، ص 228-229). – وقد سبق شيئ منه - .
- ولم يكن موقف زعماء بني خالد من دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية أقل عداوة من موقف أشراف مكة) .
وعلى هذا فإنه عند التحقيق العلمي المتجرد يثبت قطعاً أن ما يقال عن الإمام وعلماء الدعوة وحكامها (آل سعود) وأتباعها حول التكفير واستحلال قتال المسلمين ودمائهم كلها مما لا يصح ،أو مما قد يكون له وجه شرعي معتبر قام عليه الدليل الشرعي، ذلك أن تكفير من يستحق التكفير شرعاً وسب من يستحق السب شرعاً ليس من التكفير والسب المذموم ولا القسوة، بل مما هو مطلوب شرعاً في الدين الإسلامي بشروطه وضوابطه التي يعرفها الراسخون في العلم.
إذن فقد ثبت أنهم لم يبدأوا القتال ولم يقاتلوا ابتداء إنما بدأ القتال خصومهم. ثم إنه من الطبيعي أن اختيار منهج القوة والحزم والقتال عند الضرورة هو الحل الأمثل في كثير من الأحوال ،ومنها الحال التي وصلت إليها الدعوة مع خصومها.
ونظراً لقوة الباطل والهوى وتمكنه من قلوب كثير من الناس وحياتهم لم تقبل نفوسهم الحق ولم تذعن لأهله. كما أن الناظر لحال كثيرين من الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها تشنيعاً على الدعوة وأتباعها في شبهة التكفير يجد العجب من تحيزهم ضد السنة وأهلها في هذه المسألة (وغيرها) وإغفالهم لأهل البدع الخلص الذين يكفرون خيار الأمة؛ فيكفرون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزاوجه أمهات المؤمنين، ويكفرون السلف الصالح.(106/7)
بل إن أكثر مزاعم التكفير والتشدد التي ألصقت بالدعوة وإمامها حدثت من الرافضة الذين يكفرون خيار الأمة ويستنقصونهم، ومن أشياعهم الذين يشاركونهم في بدع المقابرية والقباب والمشاهد والمزارات البدعية، والطرق الصوفية والموالد والأذكار المحدثة، ومن المعلوم لدى كل باحث ومحقق: أن أصل هذه البدع ومنشأها كان من مكفّرة الصحابة والسلف الصالح، فأين العدل والإنصاف والتحقيق الذي يدّعونه؟، وأين الغيرة على الحق والدين وعلى الأولياء والصالحين التي يزعمونها؟ وهم يهينون الصالحين ببدعهم. وأين النصح للمسلمين الذي يتظاهرون به؟! وهم يروجون البدع وينصرونها).
شهادة علماء مكة ، وموافقتهم للدعوة السلفية :
وحين اطلع علماء مكة وغيرهم على الدعوة ومنهجها عن كثب وحاوروا علماءها وأميرها سعود بن عبدالعزيز، وعرفوا أنها هي الدين الحق، واعترفوا بهذه الحقيقة قالوا: (نشهد –ونحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا، وأختامنا في هذا الرقيم- أن هذا الدين، الذي قام به الشيخ: محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله تعالى -، ودعا إليه إمام المسلمين: سعود بن عبدالعزيز، من توحيد الله، ونفي الشرك، الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب. أشهد بذلك، وكتبه الفقير إلى الله تعالى: عبد الملك بن عبد المنعم القلعي، الحنفي، مفتي مكة المكرمة، عفي عنه، وغفر له.
ثم شهد به كل من: محمد صالح بن إبراهيم، مفتي الشافعية بمكة، ومحمد بن محمد عربي، البناني، مفتي المالكية بمكة المشرفة، ومحمد بن أحمد المالكي، وعبدالحفيظ بن درويش العجيمي، وزين العابدين جمل الليل، وعلي بن محمد البيتي، وعبدالرحمن جمال، وبشر بن هاشم الشافعي).(106/8)
وشهد بذلك وأقر به الشريف غالب وكان من ألدّ أعداء الدعوة قائلاً: (الحمد لله رب العالمين، أشهد: أن هذا الدين، الذي قام به الشيخ: محمد بن عبدالوهاب، ودعانا إليه إمام المسلمين: سعود بن عبدالعزيز، من توحيد الله عز وجل، ونفي الشرك له، وهو الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبه: الشريف غالب بن مساعد، غفر الله له آمين؛ الشريف غالب) . (انظر : الدرر السنية ، 1/314-316 ).
انتهى النقل من الشيخ ناصر العقل - وفقه الله - .
وعند كتابة هذه المادة للساحة اطلعت على مقال يتحدث عن موضوع لهذا الموضوع للأخ أبي حميد الفلاسي - وفقه الله - ؛ وهو عن شبهات خصوم الدعوة حول مسألة التكفير والقتال ؛ فأحببت وضعه هنا . http://saaid.net/monawein/sh/15.htm(106/9)
تعليقًا على لقاء الملك : ( كنيسة في الظهران زمن الملك عبدالعزيز) !!
في لقاء الملك عبدالله مع الأمريكية ( باربرا وولتزر) كانت الأسئلة متوقعة من معظم المتابعين ، فلاجديد لدى الأمريكان ! ( المرأة ، المناهج ، السماح بالمعابد ، ..الخ ) ، هذا مايُشغل ( راعية الديمقراطية في العالم ) ! أما العدل الحقيقي ، أو التعاون في العلم الدنيوي النافع وتبادل التقنية ، والسماح بتطوير الدول في مجال التكنولوجيا أو القدرات الصناعية أو العسكرية أو ..أو ..مما يفيد فلا مكان له عندهم ، أو عند طابورهم الخامس في العالم الإسلامي .
وقد أخبرنا الله - وله الحمد - في كتابه الكريم عن شعورهم نحونا و أمانيهم تجاهنا ؛ في آيات عديدة ، منها قوله تعالى : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) ، ومنها قوله تعالى منبهًا إلى أنهم مهما امتلكوا من أمر الدنيا فإنهم ( يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) ؛ لأنهم يعرفون الحق ، ولكنه الكبر والعناد والتعصب - عياذا بالله - .
وأخبرنا تعالى كذلك بكيفية التعامل معهم ؛ عندما يريدون منا التنازل عن شيئ من ديننا وأخلاقنا ، وبين أن الحل لايكون بالانسياق وراء مطالبهم ؛ مهما ادعى البعض أن ذلك قد يخفف من ضغوطهم !! فقال تعالى : ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا ) ؛ فالحل يكون بشيئين :
1- بالصبر والثبات على الدين .
2- بالتقوى ، والتمكين لأسبابها في المجتمع .
فبهذين تتحقق طاعة الله ، ويندفع شرهم ؛ عندما يرون ثبات الأمة على دينها ، ويردهم الله خائبين لم ينالوا خيرا .(107/1)
أما التنازل لهم ومداهنتهم ولو بشيئ قليل فقد حذر الله منه أشد تحذير ؛ في قوله : ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وقوله : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيرا ) . وأخبر سبحانه أن الكفار بعد كل تنازل لهم سيطمعون فيما بعده .. وهكذا ، ولن تتوقف مطالبهم مهما تنوزل لهم حتى يتحقق قوله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .
********************
وقد أجاد الملك - وفقه الله للخير - في جوابه المختصر على سؤال الأمريكية عن المعابد عندما أفحمها وبهتها بأنهم - أي النصارى - لايسمحون ببناء غير الكنائس في الفاتيكان مهد ديانتهم - في السؤال التالي - :
" باربرا وولتزر: ولكن في هذا البلد لا يمكنك ممارسة دين آخر علناً سوى الإسلام، بالرغم من وجود خمسة ملايين أجنبي في هذا البلد؟
- الملك عبدالله: نعم أنت محقة أماكن العبادة لغير المسلمين غير مسموح بها لأن المملكة كما تعرفين هي مهد الإسلام، والسماح بإنشاء دور عبادة عدا المساجد في المملكة سيكون مثل طلب الفاتيكان بالسماح ببناء مسجد فيه " .
قلتُ : بغض النظر عن كذب الأمريكية عندما زعمت - للتهويل - أن ال5 ملايين الوافدين إلى هذه البلاد هم من الكفار ! وإنما معظمهم من المسلمين - ولله الحمد - ، بغض النظر عن هذا فإني أفيد القراء بأن جواب الملك السديد ومنعه لهذا الأمر المحرم لم يأت من فراغ ، وإنما هو امتداد لجواب والده الملك عبدالعزيز - رحمه الله - عندما طالبه النصارى بالسماح لهم ببناء كنيسة على أرض الحرمين . فقد جاء في كتاب ( كنتُ مع عبدالعزيز ) ( ص 336-337) على لسان الأمير عبدالله بن فيصل الفرحان آل سعود - قوله متحدثًا عن ذكرياته مع الملك - :(107/2)
( كان الملك عبد العزيز في زيارة عندنا في القصيم ، وفي أثناء إقامته وصل مبعوث من النصارى ونحن حاضرون ، ولما وصل هذا النصراني لم يكن الملك عبد العزيز يدري ماالذي يريده وإنما أخبر بأنه متوجه إلى هنا . دخل النصراني على الملك في المجلس وسلم ، وحياه الملك . وكان عبد العزيز بن معمر هو الذي يعرف كلام الأجانب وهو موجود وكان يتقن الإنجليزية .
قال النصراني : إني جئت مبعوثا من البابا بأمرين على أن تعطونا مقابلهما شيئ واحد .
قال الملك عبد العزيز موجها الكلام لابن معمر : قل له ماالذي جاء لنا به وما هو الأمر الذي يبتغيه منا ؟
قال النصراني : الأمران اللذان نعطيكم إياهما هما : أن نعترف بحقوقكم في فلسطين ، وأن نساعدكم ماديا ومعنويا ، على أن تعطونا شيئا واحدا .
قال الملك : ما هو ؟ ولكن بدا على الملك عبد العزيز أنه تغير وهو ينصت .
قال النصراني : أن تسمحوا لنا أن نبني كنيسة في الظهران !
غضب الملك عبد العزيز غضبا شديدا وتغير حتى في جسمه .
قال الملك لابن معمر: قل له :أما حقوقنا فلسنا بحاجه لاعترافه فيها ونحن في غنى عنه ، وأما دعمنا ماديا ومعنويا فالله لنا ، أما الكنيسة فلا أسمح أنا ومن على صُلبي بأن توضع كنيسة ، أو يُرى شيئ من الكنائس في الجزيرة العربية ) .
فالحمد لله الذي سدد الملك في جوابه ، ووفقه للسير على ماسار عليه والده بخصوص هذا الأمر ، وهو الموافق لما عليه علماء هذه البلاد ، بل عليه إجماع علماء المسلمين .
******************
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - مجيبًا عن شبهة قد تعرض للبعض :
( إن قال قائل : إذا كانوا لايمنعوننا من إحداث المساجد في بلادهم ، فهل لنا أن نمنعهم من إحداث الكنائس في بلادنا ؟(107/3)
الجواب : نعم ، وليس هذا من باب المكافأة أو المماثلة ؛ لأن الكنائس دور الكفر والشرك ، والمساجد دور الإيمان والإخلاص ، فنحن إذا بنينا المسجد في أرض الله فقد بنيناه بحق ، فالأرض لله ، والمساجد لله ، والعبادة التي تقام فيها كلها إخلاص لله ، واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف الكنائس والبِيَع .
ومن سفه بعض الناس أنه يقول : لماذا لانمكنهم من بناء الكنائس في بلادنا كما يمكنوننا من بناء المساجد في بلادهم ؟
الجواب : نقول : هذا من السفه ، وليست المسألة من باب المكافأة ؛ إذ ليست مسائل دنيوية ، فهي مسائل دينية ، فالكنائس بيوت الكفر والشرك ، والمساجد بيوت الإيمان والإخلاص ؛ فبينهما فرق ، والأرض لله ، فنحن إذا بنينا مسجدًا في أي مكان من الأرض ، فقد بنينا بيوت الله في أرض الله ، بخلافهم ) . ( الشرح الممتع ، 8/86-87) .
قلتُ : ويضاف إلى جواب الشيخ ماذكره مؤلفو كتاب " خطاب إلى الغرب - رؤية من السعودية " في مبحث " المعابد غير الإسلامية في الجزيرة العربية " ( ص 310-323) ، وجوابهم طويل ألخص أهمه في التالي :
1- أن الجزيرة العربية أرض إسلامية خالصة ؛ قد اختارها الله مأرزًا له لاينازعها فيه غيره .
2- أن الخصوصية السابقة ليست من المسائل الاجتهادية ؛ لأن فيها نصوصًا صريحة تمنع من إحداث معابد لغير المسلمين ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم " لايجتمع دينان في جزيرة العرب " ، فلا تجوز مخالفة ذلك من أي إنسان مهما بلغ شأنه .
3- أن غير المسلمين من الوافدين قلة طارئة على هذه البلاد .
4- على هذا جرى المسلمون منذ 1400 عام ، رغم تعاقب الدول والعصور .
5- أن للجزيرة قداسة بوجود الحرمين تمنع من هذا .
6- أن هذه الخصوصية الثابتة شرعًا ، لدى الآخرين مثلها بتشريعاتهم الوضعية ؛ كالفاتيكان .
7- النصوص الشرعية تمنع من الإقامة الدائمة لغير المسلمين في هذه البلاد ؛ ولذا تمنع كل ما يسهم في هذا الأمر المحرم .(107/4)
********************
من بيان المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة
( التأكيد الحاسم بأن الجزيرة العربية وقلبها المملكة العربية السعودية هي الحصانة الجغرافية لعقيدة الإسلام : لايجوز شرعًا أن يقوم فيها دينان ، ولايجوز بحال أن يُشهر على أرضها غير دين الإسلام ، كما تستنكر هيئة رئاسة المجلس العودة إلى المطالبة ببناء كنائس على أرض السعودية ، بعد أن حسم هذا الأمر سابقًا في حوار مطول مع الفاتيكان عبر اللجنة الإسلامية العالمية للحوار ، واتفق على إغلاق هذا الملف ، وعدم إثارته ثانيًا ) .المرجع السابق ( ص 322-323) .(107/5)
توبة ( عبدالعزيز بن محمد آل سعود ) ..!
( أخبر الله سبحانه أن من أطاع الله ورسوله من الأولين والآخرين ، فهو ناج من العذاب ، ويُحصّل جزيل الثواب ، وهذا أمر مجمع عليه بين الأمة ، ولله الحمد ، لا اختلاف فيه ، لكن الشأن في تحقيق ذلك وتصديق القول بالعمل بما في كتاب الله وسنة رسوله عليه من الله أفضل الصلاة والسلام ، وذلك لأن الناس أحدثوا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، والسلف الصالح : محدثات زعموا أنها من البدع الحسنة . فأقبح ذلك و أشده دعوة غير الله ، والاستغاثة بالصالحين من الأحياء والأموات ، في جلب الفوائد وكشف الشدائد ، وسؤالهم الحاجات ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم عنده .
وكذلك كنا نفعله قبل أن يمن الله علينا بدين الإسلام ، نحن وغيرنا ، حتى اشتهر ذلك في كثير من البلاد ، وصار عند غالب الناس هو غاية تعظيم الصالحين ومحبتهم ، ومن أنكره عليهم كفروه وخرّجوه .
فلما ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أسكنه الله الجنة يوم المآب نهانا عن ذلك ، وأخبر أن هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وأنه هو فعل المشركين عبده الأوثان من العرب وغيرهم .
وأتانا بالدلائل القطعية من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ؛ كقوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) ، وقوله ( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) ، وقال تعالى : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) . والآيات في هذا المعنى كثيرة معروفة .(108/1)
فلما عرفنا أن هذا هو الشرك الذي بعث الله الرسل وأنزل الكتب تنهى عنه وتأمر بعبادة الله و إخلاص الدعوة له وحده لا شريك له ، وأن هذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، تبرأنا من الشرك بالله وأهله ، ومن دعوة غير الله والاستغاثة بهم في الشدائد وجلب الفوائد ، وإخلاص الدعوة لله وحده لاشريك له
فلما فعلنا ذلك وأزلنا جميع الأوثان والقباب التي في بلداننا أنكر الناس ذلك وكفّرونا وخرجونا وبدّعونا ورمونا بعداوتهم عن قوس واحد ؛ فاعتصمنا بالله وتوكلنا عليه ، وجاهدناهم في الله وفي دين الله ؛ فنصرنا الله عليهم ) .
الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود – رحمه الله –
" الدرر السنية ، 2/171-173"
تعليق
إنه الإمام عبدالعزيز بن الإمام محمد بن سعود ؛ الذي كان تلميذًا نجيبًا لشيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ؛ درس وتعلم بين يديه ، فلما عرف حقيقة التوحيد ودين الله كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ شمّر الساعد في نصرته ، ونشره بالقلم والسنان ، ليُحقق قول القائل :
فما هو إلا الوحي أو حد مرهفٍ *** تُزيل ظباه أخدعيّ كل مائلِ
فهذا دواء الداء من كل عاقلٍ *** وهذا دواء الداء من كل جاهلِ
فبارك الله في سعيه ، وسعي من معه ، وعمّ التوحيد والعلم النافع ربوع البلاد ، وتوطدت أركان السنة ، وأنقذ الله به وبشيخه ومن آزرهما أنفسًا كادت أن تهلك بالشركيات والبدع والانحرافات .
أسأل الله أن يرفع درجته وشيخه وجميع من ناصر الحق ، وأن يجعله قدوة لأسرته التي إنما نالت الشرف بنصرتها لدعوة التوحيد ، ونشرها للإسلام الصحيح ، ومراغمتها لأعدائه من أهل البدع والمنافقين ، وتمكينها لأهل الخير وتقريبهم ، ونبذها لأهل الباطل وترهيبهم ، وصبرها على الحق وعدم التفريط فيه أو المداهنة .(108/2)
مناشدة الأخ ( حسن آل مهدي ) .. بين ( سيد قطب ) و ( أحمد شاكر) ..!
كتب الأخ حسن آل مهدي - سلمه الله - مقالا يستنكر و يتألم فيه من بعض الوسائل الإعلامية والمواقع التي يملكها مسلمون - للأسف - ؛ ثم تجد فيها الطعن في شرع الله ، والسخرية بأحكامه ، بل برسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ونشر الفساد في المجتمع ، دون نكير من أصحابها ؛ مما يجعلهم مشاركين في الوزر العظيم . ثم طلب التعاون في إنكار هذا المنكر العظيم ؛ وهذا أقل ما يقدمه المرء غيرة لدينه .
وقد أحببتُ هنا أن أعرض رؤيتين قد تعرضان للشاب المؤمن الغيور عند سماعه أو مشاهدته لهذه المنكرات العظيمة ، يجد فيهما الحل والعلاج . الأولى : الرؤية الحماسية ، والأخرى : الرؤية الشرعية المنضبطة بضابط الشرع .
الرؤية الأولى : ذكر الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - أنها عرضت له عند تفكيره في مثل ما نحن فيه .
يقول - رحمه الله - متحدثًا عن بعض رؤوس الفساد في عصره : ( في بعض اللحظات، لحظات الكفاح المرير الذي كانت الأمة تزاوله في العهد الذي مات.. كانت تراودني فكرة يائسة، وتلح عليَّ إلحاحاً عنيفاً. أسأل نفسي في هذه اللحظات: ما جدوى أن تكتب؟ ما قيمة هذه المقالات التي تزحم بها الصحف؟ أليس خيراً من هذا كله أن تحصل لك على مسدس وبضع طلقات، ثم تنطلق تسوي بهذه الطلقات حسابك مع الرؤوس الباغية الطاغية؟ ما جدوى أن تجلس إلى مكتب، فتفرغ حنقك كله في كلمات، وتصرف طاقتك كلها في شيء لا يبلغ إلى تلك الرؤوس التي يجب أن تطاح ؟! ولا أنكر أن هذه اللحظات كانت تعذبني كانت تملأ نفسي ظلاماً ويأساً، كانت تشعرني بالخجل أمام نفسي، خجل العجز عن عمل شيء ذي قيمة! ) . ( دراسات إسلامية ، ص 134) .
أما الرؤية الثانية في مواجهة أهل الفساد والإفساد ؛ فقد تحدث عنها العالم السلفي الجليل : أحمد شاكر بقوله :(109/1)
( بث الملحدون دعوتهم بين كثير من الناس، فأفسدوا كثيراً من عقائدهم، ولمسنا خطرهم على الإسلام بأيدينا، ورأيناه بأعيننا، ثم رأوا من المسلمين الصادقين التواكل والسكون؛ فراشوا سهامهم ، وأعدوا عدتهم ، وهاجمونا من كل جانب، والمبشرون من ورائهم يؤدونهم بأموالهم وصحفهم اتباعاً لخطة اختطوها بعد التجارب ، وقد علموا أن تنصير المسلم دونه خرط القتاد، فاكتفوا الآن -مؤقتاً- بالعمل على تنفيرهم من الإسلام وتحقيره في أعينهم، وانتزاع عقائده من صدورهم، وآية ذلك أن تجد هؤلاء المجددين لا يطعنون إلا في دين الإسلام وإن تظاهروا بمحاربة كل الأديان.
وقد قامت حركة مباركة بين المخلصين المجاهدين في سبيل الله بالكتابة ضد كل من تحدثه نفسه بالعدوان على الدين الحق، ولكن الكتابة في نظري غير كافية، والمناظرة لا تجدي إلا قليلاً، وإنما الجهاد عمل.
ولا يجوز لنا أن نعتمد في كل أمورنا -بل في أمر هو حياة الإسلام- على الحكومة، وما هي بمجيبة لنا دعوة، ولا بسامعة لصوتنا صدى. والإسلام يكره العنف والهوج، ولكنه بجانب هذا يحتقر الجبن والذل ويرفض من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق( . ( قد كانت لكم أسوة حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده( . فكرت في هذا كثيراً فما وجدت من طرق الجهاد السلمي الهادئ أجدى علينا من مقاطعة الملحدين.
لا أقصد بهذا أن لا نكلمهم فقط ؛ فذا أمر هين، ولكني أريد أن نقاطعهم في كل شيء، لا نأكل طعامهم ولا نضيفهم ولا نبايعهم ولا نصاهرهم، ونقطع كل صلة بأي فرد منهم، ونعلمهم بحكم الله تعالى بأنهم خرجوا من الإسلام وحاربوه؛ فلا صلة بينهم وبين المسلمين.(109/2)
إذا مات أحدهم لا يرثه وارثه المسلم، وإذا مات قريب لهم لا يرثونه، وإذا علمت المرأة أن زوجها منهم وجب عليها أن تفارقه؛ فإن نكاح الكافر للمسلمة نكاح باطل ومعاشرتها له حرام.
إذا كان للرجل ولد منهم حرم عليه إبقاؤه معه تحت سقف واحد ووجب عليه إخراجه، وأن لا ينفق عليه، وكل ما يعطيه فإنما ينفقه في إعانة من يحارب دينه وهو عليه حرام.
وقد أعجبني من هذا النوع كلمة لأستاذنا السيد رشيد رضا للآنسة التي أيدت الأستاذ محمود عزمي في وجوب مساواة المرأة بالرجل، فإنه قال لها (في عدد رمضان سنة 1348 من مجلة المنار الغراء): " يجب أن تعلم هذا الفتاة هي وأهلها، أنها إذا كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه المساواة، وتنكر حقيقة ما قرره الإسلام وحسنه، فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها ولا ترث المسلمين ولا يرثونها ".
وهكذا يجب أن نفعل ، كل من أبدى للإسلام صفحته، صدعنا بأمر الله وصارحناه بحكم الإسلام فيه، وعاملناه بما تأمرنا به الشريعة في كل أموره. هذه فكرة كانت تجول بخاطري من زمن بعيد، وكلما هممت بكتابتها تريثت حتى تنضج، وأنا أعرضها الآن على إخواني المؤمنين، فما قولهم ؟ ) اهـ ( جمهرة مقالات أحمد شاكر ، 1/496-499) .
قلتُ : اتفقت الرؤيتان على ضرورة مواجهة أهل النفاق من الطابور الخامس الممهدين لأعداء الأمة ، وهذا الظن بكل مسلم ، ولكنهما اختلفتا في الطريقة ؛ بين حماس غير منضبط يُفسد أكثر مما يُصلح ، وبين رؤية علمية تُحقق الهدف المنشود بعزل هؤلاء المرضى كما يُعزل الأجرب ، وهجرهم - من أهلهم ومجتمعهم - حتى يُقلعوا عن غيهم ويتوبوا مما هم فيه .
وهذه طريقة واحدة من الطرق الشرعية في التصدي لهذا الضلال ؛ وهناك غيرها ؛ أعرض شيئًا منه لإخواني - لعلهم يجدون فيه ما يفيدهم ويشحذ همتهم :
1- الرد على ضلالهم وتطاولهم بالكتابة ؛ سواء في الصحف أو الشبكة .(109/3)
2- تكرار الرفع فيهم - بجمع أشنع أقوالهم - لمن يملك صلاحية إيقافهم عند حدهم ، أو غلق مواقعهم ، وتخويفه بالله أن يكون مشاركًا لهم في الوزر إن هو تهاون .
3- مراسلتهم ومناصحتهم برفق ولين ؛ لعل الله أن يهديهم .
4- إنشاء المواقع المتخصصة في الرد عليهم وفضحهم . ولن يتم هذا ويُضمن استمراره إلا بإيجاد " وقف خيري " - وإن قل - يرعاه . ولعل الأخ حسن يبادر إلى هذا .
هذا مالدي .. ولعل المزيد عند غيري .
كلمة الشيخ ابن عثيمين فيمن يستطيع منع الشر ولا يمنعه !
قال - رحمه الله - تعليقا على قوله تعالى : ( إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) :( وكذلك تمكين هؤلاء مع القدرة على منعهم ، داخلٌ في محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ) . ( شرح رياض الصالحين ، 5/ص7) .(109/4)
يا ( بني علمان ) ..... ما قولكم في اليابان ؟!
عندما يقدر لك أن تقرأ كتابات ( بني علمان ) ، أو تتحاور معهم تجد أنهم متشبعون بالنظرة الغربية للدين ، وبتاريخهم المعاصر ؛ حيث الصراع بين الدين النصراني ( المحرف ) ممثلا في الكنيسة ، والعلم المادي .. مما أدى بهم إلى تنحية الدين واستبداله ( بالعلمنة ) ... فهذه النظرة مسيطرة بشكل طاغ على ( بني علمان ) في البلاد الإسلامية ، مما أدى بهم إلى المطالبة بعزل الإسلام عن شؤن الدنيا ؛ لعلهم يصلوا إلى ما وصل إليه الغربيون !
فهم كما قال الأستاذ محمد قطب في كتابه ( التطور والثبات .. ، ص 266 ) : ( اختفت الحملة الأولى والثانية وظهرت في الأفق دعوة جديدة، هي التي ما تزال قائمة حتى اليوم، على يد أولئك "التلاميذ" المخلصين من "المسلمين!" إن أوربا اليوم متقدمة، وهي ليست متدينة! لقد طرحت الدين جانباً فتقدمت وتحضرت ووصلت إلى القوة والسلطان! ونحن متدينون (!) وفي الوقت ذاته متأخرون! فينبغي أن نسلك الطريق القويم، ننبذ ديننا –كما فعلت أوربا- فنتقدم ونتحضر ونصل إلى القوة والسلطان! وليس من الضروري أن نكفر ونلحد! إنما يجب أن نسارع إلى فصل الدين عن كل ما له علاقة بواقع المجتمع وواقع الحياة) !!
وفات هؤلاء المخذولين أن التقدم التقني المادي لا علاقة له بالأديان ولا بالثقافات ولا بالمجتمعات .. إنما هو كلأ مباح للجميع ، من بذل أسبابه حصله وظفر به ؛ كما قال تعالى ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا ) .
وما التجربة الغربية إلا أنموذج واحد من النماذج التي ظفرت بالتفوق الدنيوي حاول ( بنو علمان ) تضخيمه والترويج له ؛ لحاجة في نفوسهم !
وتناسوا أو تغافلوا عن نماذج كثيرة غير غربية متفوقة .. لم تمر بحالة ( الفصام النكد ) الذي مر به الغرب بين الدين والعلم .(110/1)
ومن هذه النماذج البارعة : نموذج ( اليابان ) الذي لا يتحدث عنه ( بنو علمان ) كثيرا !! لأنه يهدم نظرتهم القاصرة ؛ حيث استطاعت هذه البلاد أن تبز الآخرين بمن فيهم الغرب في مجال التقنية ، مع محافظتها على ( ثقافتها ) في مواجهة الغزو الفكري الغربي – كما سيأتي إن شاء الله - .
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل آراء بعض المطلعين ( العقلاء ) ممن تأملوا أسباب تفوق اليابان وأخذوا منها العبر ؛ لعلها تساهم في نقض النظرة التي رسخها ( بنو علمان ) في أذهان المسلمين سنين عددا ، بل حاولو تطبيقها عمليا على أرض الواقع ، فباؤا بالفشل ، وخسروا دينهم ودنياهم . فلا هم الذين سلم لهم دينهم ولا هم الذين الذين نافسوا الآخرين في تفوقهم .
أقوال العقلاء في اليابان :
يقول الدكتور نعمان السامرائي في كتابه ( في أعماق التجربة اليابانية ، ص 10 ) : ( حين أتأمل في التجربة اليابانية أجدها تطرح أكثر من قضية ؛ لعل على رأسها : أولا : لقد أثبتت اليابان بالدليل العملي أنه يمكن انتهاج سبل ووسائل مستقلة للتقدم والتنمية ، بعيدًا عن الغرب ووسائله وقيمه ونظمه ). ويقول أيضًا ( ص 99) : ( ربما كان الجانب المهم بالنسبة لنا من التجربة اليابانية هو ذلك التطور الواسع مع المحافظة على التقاليد ) .
ويقول أيضًا ( ص 16 ) : ( إن التجربة اليابانية في التنمية والتقدم فذة ومثيرة ، وهي تهمنا في الشرق الإسلامي أكثر من غيرنا ، فقد سجلت نجاحًا باهرًا دون أن تدير ظهرها للتراث والدين والنظام الاجتماعي ، وقد حافظت وما زالت على الهوية واللغة ، وهي تستخدم أصعب لغة في العالم ، بحيث يزيد عدد الحروف والصور والرموز على ثلاثة آلاف ! ، وأن الإملاء الياباني يشكل معضلة من المعضلات ، ومع كل ذلك ومع شح الموارد تقدمت ومازالت تتقدم ، على حين يطالبنا البعض بالتخلي عن الدين والتراث والهوية مقابل " شيك " بالتقدم رصيده مجرد " حلم " ليس أكثر ) !.(110/2)
إلى أن يقول ( ص 17 ) : ( إن التجربة الغربية في التنمية تجربة إنسانية واحدة ليس أكثر ، ويمكن أن يقوم إلى جانبها تجارب ناجحة ؛ كتجربة اليابان والصين ، دون أن تكون تقليدًا حرفيًا ..) .
ويقول الإداري الاقتصادي حمدي أبوزيد إن اليابان ( لم يرفض الإصلاحات بصورة كلية ، ولكن عمل على تبنيها بصورة تتناسب مع احتياجات العصر الجديد والتقاليد اليابانية الإجتماعية الموروثة ) . ( اليابان : دروس ونماذج ، ص 31) .
ويعترف الأمير طلال بن عبدالعزيز في كتابه ( حوار حول العولمة .. ، ص 35 ) : أن اليابان ( حافظت على هويتها الثقافية في الوقت الذي استطاعت فيه أن تتواءم مع النظام العالمي ) .
ويقول بول كنيدي في كتابه الاستعداد للقرن الحادي والعشرين : ( تتمثل نقاط القوة اليابانية في التماسك الإجتماعي والعرقي ، والشعور العميق بالهوية القومية والتفرد الثقافي وخضوع الرغبات الفردية لصالح الجماعة ) . ( نقلا عن عرض للكتاب في مجلة الجديد ، العدد الأول 1994م ) .
ويقول الدكتور حسين شريف في كتابه ( التحدي الياباني ، ص 16 – 17 ) : ( إن تجربة ميجي – نسبة للإمبراطور ميجي ايشن الذي أطاح بالحكم العسكري في اليابان عام 1868م - وما اتسمت به من خبرة متميزة في عملية التوفيق بين القديم والحديث قد نجحت في تحقيق الاستمرارية لعملية التكيف بالسرعة الملائمة مع الغرب مع الحفاظ في الوقت ذاته على هويتها وقوميتها ) .
ويقول ( ص 17 ) : ( أصبحت اليابان بفضل إصرارها وعزيمتها من أسرع دول العالم تطورًا بالرغم من قيامها أساسًا على تقاليدها العريقة ).
ويقول ( ص 20 ) : ( أما عن المقومات التي أدت إلى نجاح نهظة اليابان الحديثة فإنها ترجع في الأساس إلى المواءمة بين الأصالة والتحديث ، وبالتوفيق بين التقاليد اليابانية القديمة ومتطلبات العصر الحديث ) .(110/3)
ويقول السفير المصري في اليابان : عبدالفتاح شبانه في كتابه ( اليابان : العادات والتقاليد وإدمان التفوق ، ص 7 ) : ( حافظ المجتمع الياباني على تقاليده العريقة ، وأخلاقياته الشرقية ... ).
ويقول ( ص 9 ) : ( يلعب الدين دورًا رئيسًا في حياة الإنسان الياباني ، ونظرًا لاتباعه تعاليم ديانته بصدق وتنفيذها بأمانة حتى في عمله فقد تمكن المجتمع الياباني من تحقيق التفوق الاقتصادي على كافة دول العالم ) .
وماذا عن المرأة اليابانية ؟
يقول السفير المصري في اليابان : عبدالفتاح شبانه : ( مايزال المجتمع الياباني حتى اليوم يرى أن الهدف من التعليم بالنسبة للفتاة هو جعلها أكثر استعدادًا للقيام بأعباء الحياة الزوجية ) . ( مرجع سابق ، ص 21-22) .
ويقول أيضًا ( ص 23) : ( لم تحقق حركات تحرير المرأة تقدمًا كبيرًا في اليابان رغم الدعاية التي تمارسها هذه الحركات في وسائل الإعلام ، ورغم القانون الذي وضعه المحتل الأمريكي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ) .
يقول الدكتور نعمان السامرائي : ( لقد جرى استطلاع للرأي العام عام 1986م حول الأسرة ، وقد تبين أن أكثر من 90% من اليابانيين ممن شاركوا في الاستطلاع قالوا : إن تدبير أمور المنزل ورعاية الأطفال هي المجال الأول للمرأة حتى وإن كانت تعمل ) . ( ص 73 مرجع سابق ) .
ويقول السفير الأمريكي " أدوين " في كتابه ( اليابانيون ص303 مترجم ) : ( ومن الأسباب الأخرى التي تفسر عدم استجابة المرأة اليابانية بصورة أكبر لحركة التحرير النسائية أن هذه الحركة ببساطة لا تناسب أسلوب حياتها ومن ثم يكون الارتباط بهذه الحركة بمثابة فخ وقعت فيه المرأة اليابانية .. ) .
كيف صنع الإنجاز الياباني ؟(110/4)
( في حديث لمسؤول كبير في إحدى المؤسسات الأمريكية تعمل في مجال التقنية المتقدمة يقول: ( لقد هزمتنا اليابان في أي حقل يختارونه: في صناعة الراديوهات، التلفزيونات والسيارات وغيرها من الصناعات، لقد تغلبوا علينا في جودة المنتجات والأسعار المنخفضة، والآن يتغلبون علينا في مجال الإبداع.. لا يوجد دفاع ضدهم، وفي القريب العاجل ستصبح الولايات المتحدة مصدراً للغذاء والمواد الخام لليابان ومستورداً لمنتجاتها الصناعية.. إن اليابان تدفع الولايات المتحدة بسرعة هائلة إلى مجموعة العالم الثالث) .
( تبدأ القصة بعد الحرب العالمية الثانية حيث خرجت اليابان منها مهزومة محطمة، وكانت سياسة السلطات الأمريكية لليابان تهدف إلى إقالة اليابان من عثرتها وإعادة تكوينها لتصبح ضمن المعسكر الغربي، ولكن تلك السياسة لم تكن تهدف ولا تتصور أن ما تقدمه من مساعدة لليابان يمكن أن تخرج هذا العملاق مرة أخرى من قمقمه... فتساهلت الولايات المتحدة في نقل التقنية الأمريكية لليابان بل شجعت على ذلك وكانت شركة سوني شركة يابانية مغمورة وناشئة، ولكنها كانت طموحة وذات بصيرة نافذة، فتولت زمام المبادرة في بدء رحلة نقل التقنية الالكترونية لليابان، وكان ذلك عندما تمكنت من شراء رخصة تصنيع جهاز الترانزستور في اليابان من شركة بل الأمريكية مقابل 25000 دولار.(110/5)
وكان هذا شأن الشركات اليابانية الأخرى التي استخدمت نفس الاستراتيجية التي تتمثل في شراء رخص التصنيع لمنتج أمريكي ما، ثم تعمل على تقليد التصميم وتنتجه بعد أن تضيف إليه تحسينات تجعله أكثر جودة وبتكاليف أقل وأسعار أقل، واستمر اليابانيون يسلكون هذا الطريق لعدة عقود من الزمن دون أن يتنبه الأمريكيون لخطورة هذا الوضع ، ولم يدركوا ذلك إلا مؤخراً عندما اشتدت المنافسة اليابانية للمنتجات الأمريكية والأوروبية، فأخذت حكومات تلك الدول والشركات الخاصة فيها تضع القيود والأنظمة التي تحد من نقل التقنية لليابان أو تمنعها إن كان ذلك في مقدروها، ولكن ذلك التنبه جاء بعد فوات الأوان، لأن اليابان كانت قد بلغت مرحلة النضج، وتجاوزت مرحلة التقليد والتبني إلى مرحلة الأبحاث الذاتية والإبداعات الذاتية التي جعلتها مصدراً غنياً للتقنية ، وفي مركز قوي يفرض حتمية تبادل التقنيات المختلفة مع تلك الدول.
لقد استطاعت الشركات اليابانية وغيرها من المنظمات اليابانية خلال الفترة من عام 1951م وحتى مارس 1984م الدخول في عقود بلغت حوالي 42.000 عقداً لاستيراد التقنية لليابان من الخارج، وكانت تلك التقنيات تمثل خلاصة وأفضل ما توصلت إليه الدول المتقدمة، وكان للأسلوب الياباني في اختيار هذه التقنيات دور كبير في نجاح نقل التقنية. فاليابانيون لم يكونوا مهتمين بنقل أي نوع من التقنية، ولكنهم كانوا حريصون على اختيار الأفضل، وكان سبيلهم إلى ذلك يتمثل في إرسال موجات من المتخصصين اليابانيين لدراسة التقنية المرغوب نقلها بدقة وعمق فيحققون بذلك أكثر من هدف:
الأول :هو التعرف عن كثب على نوعية التقنية وخصائصها من مصادرها، وفي نفس الوقت يحاولون الحصول على ما يتعلق بها من رسومات وتصاميم ومعلومات.(110/6)
أما الهدف الثاني : فإنه يتمثل في استغلال مرحلة الدراسة هذه للتحضير لمرحلة التحسينات التي سوف يضيفونها على المنتج قبل إعادة إنتاجه وبالتالي مفاجأة المنتجين الأصليين في وقت قصير عادة بالتعديلات والتحسينات التي يضيفونها إلى المنتج فتجعله أكثر جودة وأقل سعراً، ويمهد لهم الطريق لتعزيز منافستهم وكسب الأسواق بصورة إقتحامية مذهلة... لقد كانت الكمية الضخمة من الرخص التقنية المتنوعة من أهم الأسباب التي ساعدت اليابانيين على بناء قاعدتهم الصناعية المتطورة، ومن المذهل أن ما دفعته اليابان مقابل كل هذه العقود وعلى مدى هذه السنوات القليلة لم يتجاوز مبلغ 17 بليون دولار أمريكي ، والذي يمثل جزءاً بسيطاً جداً من الميزانية السنوية للأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية !
لقد أثبت اليابانيون في هذا المجال مثل العديد من مجالات التنمية الأخرى بأنهم ذوو بصيرة نافذة، فقد كان أمامهم طريقان لتنمية وتطوير التقنية اليابانية: إما صنعها بأنفسهم أو شرائها من الخارج . وكان قرارهم حاسماً وهو اختيار البديل الثاني أي شراء التقنية، أما بالنسبة لبائعي التقنية فقد كانت النتيجة مدمرة، فالتقنية التي يبيعونها لليابانين تعود إلى أسواقهم في شكل أجود محدثة لهم كابوساً ومنافسة مزعجة، ولكن البائعين كانوا ينظرون إلى عملية البيع باعتبارها صفقة تجارية ومصدراً للدخل ولم يخطر في بالهم ما يمكن أن يحدثه ذلك من تطورات ومنافسة تهدد مصالحهم ومراكزهم، وهي الحقيقة التي لم يكتشفوها إلا مؤخراً مما أحدث لديهم رد فعل ليس في مواجهة اليابان فقط، ولكن كمبدأ عام في نقل التقنية لجميع الدول ، وبدأت تبرز عبارات مثل "نحن نريد الآن أن نبيع حليباً أكثر من أن نبيع بقراً"!!(110/7)
إنه واقع يجب إدراكه من قبل الدول النامية التي تطمع وتحلم في نقل التقنية من الدول المتقدمة ، فقد تعلمت تلك الدول درساً قاسياً من تجربتها مع اليابان ولن تسمح بتكرارها، بل إن اليابان نفسها أخذت تعض أصابع الندم على ما قدمته من مساعدة تقنية لكوريا الجنوبية والصين الوطنية والتي لن تكررها مع أية دولة أخرى، وما على الدول النامية إلا البحث عن الطرق الكفيلة لإرساء قواعد التقنية فيها سواء عن طريق المجهودات الذاتية أو باتباع وسائل مبدعة تخترق بها التحصينات المفروضة على التقنية في الدول المتقدمة ) . ( انتهى النقل من كتاب الأستاذ حمدي أبوزيد ، مرجع سابق ، ص 312-315).
قلت : فتبن من كل ما سبق أن الدول ( كلها ) مهما كانت ديانتها وثقافتها تستطيع أن تصل إلى التفوق الدنيوي إذا ما بذلت أسبابه المادية ، وتخلصت من معوقاته ( الداخلية والخارجية ) ، وما تجربة اليابان ( الوثنية ) عنا ببعيد ، وقل مثل ذلك في غيرها : الصين ، كوريا ، نووي باكستان ، ...الخ
خاتمة :
وإذا كانت اليابان قد اعتزت بتراثها الوثني وثقافتها .. أفلا يليق بأصحاب الدين الصحيح ، خاتم الأديان ، أن يعتزوا بما فضلهم الله به على العالم ؟؟ وألم يأن للمسلمين أن يتخلصوا من ( الأكذوبة الكبرى ) التي طيرها ( بنو علمان ) في كل مكان من ديارهم ؟؟!
وبلادنا – بلاد التوحيد – خير مؤهل لنقض هذه الأكذوبة العلمانية على أرض الواقع ، حيث لم تتورط بعد في تلك النظرة المغلوطة ، فتجمع رغم أنوف الجميع بين الدين الصحيح والدنيا اللائقة ( بنقل التقنية كما سبق )، وتحافظ على أصالتها وأخلاقها وكرامة رجالها ونسائها .... فتكون خير قائد لبلاد المسلمين يهديهم إلى طريق العزة والقوة . أسأل الله الكريم أن يهدي حكام المسلمين إلى الإعتزاز بدينهم ، وتحكيم شرع الله في بلادهم ، ومجانبة ( بني علمان ) ممن يريدون لهم أن يكونوا مجرد ( تابع ذليل ) لأعداء الإسلام .(110/8)
في خضم حملة المقاطعة : هل تجوز مقولة ( إننا نحترم الأديان السماوية) ؟!
مع الحملة الشعبية الناجحة - ولله الحمد - لمقاطعة منتجات من استهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أصبحت تتردد في المقالات والمقابلات بعضُ الألفاظ عند المطالبة بوضع حدٍ لمثل هذه الأفعال المشينة الحاقدة التي وقعت ؛ كلفظة احترام الأديان أو احترام الرموز الدينية أو ماشابهها ؛ ولذا فقد أحببتُ التنبيه إلى حكمها ؛ لكي لا يقع مسلم في محذور .
إننا نحترم جميع الأديان السماوية :
قال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في تعقيبه على أحد الكتاب: "أما قول الكاتب: ( وإننا نحترم جميع الأديان السماوية ) فهذا حق ، ولكن ينبغي أن يعلم القارئ أن الأديان السماوية قد دخلها من التحريف والتغيير ما لا يحصيه إلا الله سبحانه، ما عدا دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه وخليله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فقد حماه الله وحفظه من التغيير والتبديل، وذلك بحفظه لكتابه العزيز وسنة رسوله الأمين عليه من ربه عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ حيث قال الله عز وجل: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) . فقد حفظ الله الدين وصانه من مكايد الأعداء بجهابذة نقاد أمناء ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وكذب المفترين، وتأويل الجاهلين. فلا يقدم أحد على تغيير أو تبديل إلا فضحه الله وأبطل كيده. أما الأديان الأخرى فلم يضمن حفظها سبحانه، بل استحفظ عليها بعض عباده، فلم يستطيعوا حفظها؛ فدخلها من التغيير والتحريف ما الله به عليم ..." ( مجموع فتاواه ، 2/183-184) .(111/1)
قلتُ : فليتنبه المسلم إن تلفظ بهذا اللفظ أو طالب به أن تكون نيته احترام الأديان السماوية المنزلة من الله على أنبيائه ، لا احترام تحريف أتباعها . وأنها رغم احترامها قد نُسخت بدين الإسلام . ولا يستهين بأمر النية ؛ لأنها الفارق بين الحق والباطل ؛ وإن تشابه القول أو الفعل أحيانًا . أما الأديان البشرية كالبوذية والهندوكية وأمثالها فلا كرامة لها ، ولا يجوز لمسلم احترامها أبدًا ، ولا يعني هذا سبها أو التعرض لها أمام أتباعها إن كان يُخشى من مفسدة أكبر ؛ كما قال تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) .
الأديان السماوية ـ وصف غير الإسلام بهذا الوصف ـ :
قال الدكتور أحمد القاضي في رسالته " دعوة التقريب بين الأديان " ( 1/31) : "وصف تلك الأديان ـ سوى الإسلام ـ بـ"السماوية" باطل؛ لما يحمله من دلالة باطلة من كونها نزلت من السماء. والواقع أنها تحريف لما نزل من السماء " . قلتُ : لكن إن نوى احترام ما أنزله الله فكما قال الشيخ ابن باز - رحمه الله - ، بالضوابط السابقة .
الإسلام يُكرم الإنجيل :
قال الدكتور أحمد القاضي في رسالته السابقة ( 2/586-587) : "الإسلام يكرم الإنجيل من حيث هو كتاب الله، ويجعل الإيمان به وسائر كتب الله أحد أركان الإيمان الستة. أما الأناجيل المزعومة وأعمال الرسل ورسائل بولس وغيره التي يضمها ما يسمونه "العهد الجديد" فقد دخلها التحريف والكفر والشرك، فليست محل تكريم، بل محل ذم" .
الأديان الثلاثة ( يوصف بها الإسلام مع اليهودية والنصرانية) :(111/2)
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: "قد يُسمع ما بين حين وآخر كلمة "الأديان الثلاثة"، حتى يظن السامع أنه لا فرق بين هذه الأديان الثلاثة؛ كما أنه لا فرق بين المذاهب الأربعة! ولكن هذا خطأ عظيم، إنه لا يمكن أن يحاول التقارب بين اليهود والنصارى والمسلمين إلا كمن يحاول أن يجمع بين الماء والنار". ( خطبة يوم الجمعة، 15/1/1420هـ. نقلاً عن رسالة "دعوة التقريب بين الأديان" 1/32 ) .
الأديان :
لما قال طلعت حرب في كتابه "تربية المرأة والحجاب" ، ص17: "إن الأديان جميعاً تنفي مساواة المرأة بالرجل مساواة كاملة "عقب عليه الشيخ محمد بن إسماعيل بقوله:"اعلم ـ رحمك الله ـ أنه لا يصح إطلاق كلمة "الأديان"! هكذا مجموعة في سياق التقرير والاحتجاج بها؛ لأن الدين واحد هو الإسلام الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه. قال تعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، والشرائع هي التي تختلف من نبي لآخر،قال تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) . والله أعلم " .
وقد ذهب إلى هذا: محمود شاكر ـ رحمه الله ـ في كتابه "أباطيل وأسمار" ( 2/550 ـ551) .(111/3)
فقال الدكتور أحمد القاضي تعقيباً على هذا المنع: "ما قاله حق لا مرية فيه بالنظر إلى المدلول الشرعي لكلمة دين، وهو ما بعث الله به أنبياءه ورسله، فهو واحد لا يتعدد؛ وهو "الإسلام". ولكن بالنظر إلى المعنى اللغوي الدال على العادة والشأن ومطلق الطاعة فإن الأمر واسع، فيتناول الدين الحق الذي هو الإسلام، وسائر البدع والضلالات والأحوال والتقاليد التي يسير عليها بعض الناس. ولهذا قيد الله تعالى لفظ "الدين" في مواضع من كتابه فقال: ( أفغير دين الله يبغون ) ، ووصفه بما يُخصصه فقال : ( دين الحق ) ، و ( الدين القيم ) ، و( دين القيمة ) ، و ( دينًا قيما ) . كما أضاف سبحانه لفظ "الدين" إلى غيره، فقال : ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) وسمى ما عليه المنحرفون من أهل الكتاب والكفار دينًا فقال : ( لكم دينكم ولي ديني ) ، وعن فرعون وقومه: ( إني أخاف أن يبدل دينكم ) ، وعن اليهود ( وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ) ، وذمَّ ( الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، وعن أهل الكتاب: ( ولا يدينون دين الحق ) ، وإنما تديَّنوا بسواه. بل سمى سبحانه ما أحدثه المحرفون من اللعب واللهو ديناً فقال: ( وذر الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ) ، وقال : ( الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ) .
فتبين بذلك جواز إطلاق لفظ "الدين" و"الأديان" على ما سوى الإسلام، باعتبار تدينهم بها، كما جاز إطلاق لفظ "الآلهة" على ما يُعبد من دون الله، مع أنه "الإله" الواحد الحق، باعتبار تأليههم لها " . " دعوة التقريب ، 1/29-30" .
احترام الرسل والأنبياء - عليهم السلام -:(111/4)
والإيمان بهم - عليهم السلام - ركنٌ من أركان الإيمان - كما هو معلوم - ، مما يستلزم احترامهم .ومن فرّق بينهم أو تنقص واحدًا منهم فقد خرج من دين الإسلام . قال تعالى : ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ) . ولهذا ينبغي التركيز أثناء المطالبات التي تتخلل حملة المقاطعة أن يؤكد المسلمون على سن قانون " دولي " تخضع له جميع الدول ، يُعاقب كل من يستهزئ أو يتعرض لأحد من رسل الله - عليهم السلام - .
احترام الرموز الدينية :
الرموز الدينية منها ما هو حقٌ ومنها ما هو باطل ، لهذا فالواجب تجنب هذه العبارة ، والاكتفاء بعبارة " احترام الرسل والأنبياء " ، أو " احترام الأديان السماوية " بالضوابط السابقة .
أسأل الله أن ينتقم ممن عادى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يوفق المسلمين لالتزام سنته ، ومتابعته ، وطاعته .(111/5)
في زمن حكم الأشراف: مقتل القنصل البريطاني في جدة ...
هذه الحادثة وقعت بجدة زمن حكم الأشراف ، ذكرها من أرخ تلك الفترة ؛ لعظمها ، وأحداثها المأساوية ، أردتُ نقلها لكم للفائدة والعبرة ؛ لمشابهتها من وجه لفتنة الدنمرك الحالية . يقول صاحب كتاب " خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام " ( ص 367-370) متحدثًا عن وصول الشريف عبدالله باشا من طرف الدولة العثمانية لتولي حكم الحجاز :(112/1)
( وينبغي أن نذكر هنا الفتنة التي كانت بجدة قبل وصوله من دار السلطنة، وكانت بعد وفاة والده، لأن الفتنة المذكورة كانت في السادس من ذي القعدة سنة أربع وسبعين، وملخصها إجمالاً أن صالحاً جوهرًا أحد التجار بجدة وكان له مركب منشور فيه بنديرة الإنكليز، والبنديرة هي البيرق، فأراد أن يغيرها ويجعل فيه بنديرة من بنديرات الدولة العلية، فسمع بذلك قنصل الإنكليز، فمنعه من ذلك فلم يمتنع، وأخذ رخصة من نامق باشا فأذن له بوضع بنديرة الدولة العلية وكتب له منشوراً بذلك، فوضعها ونشرها، وأزال بنديرة الإنكليز، فطلع قنصل الإنكليز البحر ودخل المركب المذكور، وأنزل بنديرة الدولة التي نشرت، ونشر بنديرة الإنكليز، وشاع أنه لما أنزل بنديرة الدولة وطئها برجله وتكلم بكلام غير لائق، فغضب لذلك المسلمون الذين في جدة، فهاجوا هيجة عظيمة، وقصدوا دار القنصل وقتلوه، وثار من ذلك فتنة عظيمة قتلوا فيها غيره من القناصل الموجودين ومن كان بجدة من النصارى، ونهبوا أموالهم، وأرادوا أن يقتلوا فرج يسر أحد التجار المشهورين بجدة لكونه كان محامياً عن قنصل الإنكليز ومعدوداً من رعيتهم، فاختفى، فأراد عوام الناس أن ينهبوا داره فمنعهم من ذلك عبدالله نصيف وكيل مولانا الشريف محمد بن عون بجدة، وكان نامق باشا بمكة والشريف علي باشا القائم مقام الإمارة كان قد توجه إلى المدينة المنورة لمقابلة الحج، فلما جاء خبر هذه الفتنة لنامق باشا اهتم لذلك، ثم توجه إلى جدة وسكن الفتنة، وقبض على بعض الناس الذي نسب إليهم القتل والنهب ووضعهم في السجن، وأرسل إلى الدولة العلية يخبرهم بما وقع في هذه الفتنة، وطلع إلى مكة لأداء الحج.(112/2)
فلما كان الثالث من أيام التشريق والناس بمنى، جاء الخبر من جدة بأنه جاءهم مركب حربي للإنكليز وصار يرمي بالمدافع المحشوة بالقُلل على جدة، فخرج كثير من الناس من جدة هاربين بنسائهم وأولادهم وأموالهم ركباناً ومشاة، فانزعج الناس من ذلك انزعاجاً شديداً، فلما فرغ الناس من أداء مناسك الحج، ونزلوا من منى، عقد نامق باشا في مكة مجلساً في ديوان الحكومة أحضر فيه كثيراً من العلماء والتجار وأعيان الناس، وأحضر كثيراً من تجار جدة الذين قدموا مكة لأداء الحج، وكانوا حضروا وقوع الفتنة حين وقعت بجدة، وأخبرهم بمجيء المركب الحربي الذي جاء من الإنكليز وبضربه القلل على جدة وبخروج كثير من الناس منها وقال لهم: " القصد المشاورة معكم فيما يحصل به تسكين هذا الأمر " ، فقال له كثير من الحاضرين " إن الإسلام لله الحمد قوي وأهله كثيرون، وذكروا له عدد قبائل الحجاز مثل هُذيل وثقيف وحرب وغامد وزهران وعسير وأنكم لو تعطون الناس رخصة ينفرون نفيراً عاماً فيجتمع من ذلك الألوف بل اللكوك فيدفعون تعدي الإنكليز ولا يرضون أن يقع عليهم هذا الذل ؟ " ، فقال لهم نامق باشا : " هذا العدد الذي ذكرتموه من قبائل العرب صحيح بل يوجد مثله أضعافاً مضاعفة، لكن إذا اجتمعت هذه القبائل غاية ما يقدرون عليه أنهم يصلون إلى مكة وجدة وبعد ذلك يدفعون هذا المركب عن جدة فيحصل من الإنكليز وغيرهم من النصارى تسلط على بقية مدائن الإسلام، ويجتمعون على محاربة الدولة العلية، وليس عند هؤلاء القبائل التي اجتمعت قدرة على الدفع عن بقية مدائن الإسلام لأنه ليس عندهم مراكب يعبرون فيها ولا ذخائر ولا جبخانات ولا مدافع ولا شيء مما يحتاج إليه أيضاً، مرادنا دفع هذا الضرر الآن ولا يجتمع هؤلاء القبائل إلا بعد مدة طويلة، فلابد من التدبير الآن في دفع هذا الضرر بالسرعة " ، فقال بعض التجار الحاضرين : " يأذن لنا أفندينا في تغريق هذا المركب الحربي الذي جاء يرمي بالمدافع(112/3)
المشحونة بالقلل على جدة فإن كثيراً من أهل البحر الموجودين تحت أيدينا لهم معرفة وصناعة بتغريق المراكب يأتونها من تحت الماء ويغرقونها ببرامات يجعلونها في المراكب " ، فقال لهم: " ليس هذا صواباً، فإنكم إذا أغرقتم مركباً يأتيكم بعده عشرة مراكب، وإذا أغرقتم العشرة يأتيكم مائة، وهكذا، فيتسلسل الأمر ولا يزول الضرر، وأيضاً ربما يتركون جدة، ويتوجهون إلى إضرار بقية مدائن الإسلام، وإنما الأحسن في تدبير هذا الأمر أنا نتداركه باللطف وحسن السياسة بأن نتوجه إلى جدة أنا وكثير من أعيانكم ونجتمع بقبطان هذا المركب ونعقد معه أمراً يندفع به الضرر "، فاستحسنوا رأيه، فتوجهوا إلى جدة وأخذ معه رئيس العلماء الشيخ جمال شيخ عمر ومعه من العلماء الشيخ صديق كمال والشيخ إبراهيم الفتا والشيخ محمد جاد الله وشيخ السادة السيد محمد بن إسحاق ابن عقيل وتجار جدة الذين كانوا جاءوا للحج، فلما وصلوا إلى جدة، صار اجتماعهم بالقبطان المذكور، وعقدوا مجلساً صار القرار فيه على أنه يصير تحقيق هذه القضية ويحصل الانتقام ممن وقع منه التعدي في هذه الفتنة، ويكون ذلك بعد رفع الأمر إلى الدولة العلية وانتظار الجواب منها بما يأمرون به، ورضي الجميع بذلك وكتبوا به مضبطة وختموها بأختامهم.(112/4)
فلما كان أواخر شهر محرم من سنة خمس وسبعين وصل إلى جدة مأمورون من طرف الدولة ومعهم أناس من كبار الإنكليز والفرنسيس، وكان نامق باشا بجدة، فعقدوا مجلساً معه واتفقوا على أنهم يُحضرون الناس المتهمين في أحداث هذه الفتنة ويقررونهم ويستنطقونهم كل واحد وحده حتى يقفوا على حقيقة الأمر ويعرفوا الذين قتلوا والذين نهبوا والذين هيجوا، فلما تم قرارهم على ذلك، صاروا يعقدون مجالس لا يحضر فيها نامق باشا وإنما يحضر هؤلاء المرخصون الذين جاءوا مرسلين من الدولة ومن الإنكليز والفرنسيس، وصاروا يقبضون على كل من صارت عليه تهمة ويحبسونه في موضع وحده ثم يحضرون كل واحد منهم وحده ويسألونه ويستنطقونه بغاية التلطف والتعظيم والتبجيل، ويحتالون عليهم بكل حيلة، ويكتبون كل ما يقول، فكان ملخص تلك الاستنطاقات أن أهل جدة الذين هاجوا في الفتنة وحصل منهم القتل والنهب قالوا: إنما كان ذلك منا بأمر من التجار وقاضي جدة الشيخ عبدالقادر شيخ والأعيان، وسموا أناساً منهم، وقال الحضارم : أمرنا بذلك شيخ السادة السيد عبدالله باهارون وكبير الحضارم الشيخ سعيد العامودي، وقال شيخ السادة وسعيد العامودي وقاضي جدة وبقية التجار والأعيان: إنما كان ذلك منا بأمر من عبدالله المحتسب، وقال عبدالله المحتسب: إنما كان ذلك مني بأمر من إبراهيم آغا القائم مقام نامق باشا، هذا ملخص استنطاقاتهم، فإنها تتضمن الاعتراف بما وقع، والاعتراف بأنهم تسببوا في ذلك، إلا أنهم أسندوا ذلك لسعيد العامودي وعبدالله المحتسب والقائم مقام نامق باشا .(112/5)
وكان نامق باشا وهو بجدة يرسل إليهم سراً ويقول لهم: " الحذر أن تقروا بشيء من ذلك فإنه يصير عليكم ضرر كثير " ، فلم يمتثلوا ذلك، بل أقروا بذلك، وسببه أن المرخصين الذين حضروا من الدولة والإنكليز والفرنسيس كانوا يتلطفون بهم ويعظمونهم ويحتالون عليهم بكل حيلة ويقولون لهم: أخبروا بالواقع ولا يحصل لكم ضرر، ويسألون كل واحد وحده، فإذا نطق بشيء مخالف للواقع يقولون له إن فلاناً وفلاناً أخبرا بما هو كذا وكذا، وذلك يخالف ما تقول، ولا يزالون به حتى يطابق كلامه كلام غيره، فلما انتهت الأسانيد كلها إلى إبراهيم آغا القائم مقام نامق باشا، أحضروه وسألوه، فأنكر جميع ما نسبوه له وكذبهم ولم يقر بشيء واحتالوا عليه بكل حيلة فلم يقر بشيء، فحبسوه في موضع وحده، ثم حكموا عليه بالنفي مؤبداً، ثم بحثوا أيضاً عن الأشخاص الذين حصل منهم القتل والنهب فعرفوهم وحبسوهم، ثم تشاور هؤلاء المرخصون المرسلون من الدولة العلية ومن الإنكليز والفرنسيس فيما بينهم واتفقوا على أنه يُقتل عبدالله المحتسب وسعيد العامودي ونحو اثني عشر نفساً من عوام الناس الذين وقع منهم القتل، وأنه يُنفي من جدة شيخ السادة وقاضي جدة وبعض التجار بعضهم مؤبداً وبعضهم إلى مدة مؤقتة، ويُحبس كثير من الذين وقع منهم النهب بعد أن أحضروا كثيراً مما أخذوه، وأن ما بقي من الأموال المنهوبة يأخذون قيمته من الدولة العلية، فلما تم قرار مجلسهم على ذلك كتبوا به مضبطة وختموها بأختامهم وأعطوها لنامق باشا وطلبوا منه تنفيذ ذلك على ما جاءه به الأمر من الدولة، فإنهم جاؤوه بأوامر فيها الأمر له بتنفيذ ما يتفقون عليه، فنفذه ؛ فأخرجوا عبدالله المحتسب وسعيد العامودي من الحبس وقتلوهما في سوق جدة على رؤوس الأشهاد، وقتلوا الاثني عشرة الذين من عوام الناس خارج جدة، وكان ذلك اليوم يوماً مهولاً في جدة، واشتد فيه الكرب على جميع المسلمين ، ثم نفوا من حكموا عليه بالنفي، فمنهم من قضى(112/6)
السنين التي أقتوها له ورجع إلى جدة، ومنهم من مات ولم يرجع إليها، فمن الذين رجعوا الشيخ عبدالقادر شيخ قاضي جدة، والشيخ عمر بادرب والشيخ سعيد بغلف، ومن الذين لم يرجعوا وتوفوا وهم منفيون السيد عبدالله باهارون، والشيخ عبدالغفار، والشيخ يوسف باناجه رحمهم الله تعالى، وقبضوا من الدولة قيمة بقية الأموال المنهوبة وكان شيئاً كثيراً، هذا ملخص تلك الفتنة باختصار ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن هذه القضية كانت من أعظم المصائب على أهل الإسلام ) . انتهى .
وقد ذكر هذه الحادثة العظيمة - أيضًا - أحمد الحضراوي في كتابه " الجواهر المعدة في فضائل جدة " ( ص 43-45 ) ، ووصفها بأنها " فتنة عظيمة " ، وقال " وكانت أحوال مزعجة لا يُطيق القلب سماعها ، تحتاج إلى مجلدات ، وإنما ذكرت هذه زبدتها ، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ " ثم أشار إلى أن صاحب كتاب " مختصر تاريخ جدة " ذكرها بتفصيل دقيق .
وقال الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري في كتابه " تاريخ مدينة جدة " ( ص 75-76) : " فقتلوه - أي القنصل البريطاني - وقتلوا معه القنصل الفرنسي وبعض الإفرنج ونهبوا دورهم ، فما كان من دولة بريطانيا إلا أن أرسلت إلى جدة بعض قطع أسطولها تهديدًا ووعيدًا ، وقد ضربت جدة بالقنابل ، ولم تقم القلعة البحرية إزاءها بشيئ من الدفاع يُذكر ؛ نظرًا لقدم مدافعها وتطور أساليب القتال " .
عِبرٌ من الحادثة
1- أن العاطفة الإسلامية الحميدة إن لم تُضبط بالشرع تتحول إلى عاصفة ، تضر ولا تنفع . فحمية أهل جدة لإهانة القنصل الكافر لعلم دولة إسلامية هي بلا شك حمية محمودة ، لكنها تجاوزت حدها حتى طالت الأبرياء ؛ ممن أخذوا ظلمًا بجريرة القنصل . والظلمُ عاقبته وخيمة ؛ مهما كانت نية صاحبه . وكان المفترض أن يُحاسب القنصل المذكور لوحده ، وتتولى ذلك " الدولة " التي أهان علمها ، لا عامة الشعب .(112/7)
2- أن التصرفات والأفعال غير المبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد قد تكون عاقبتها أليمة على أهل الإسلام ، فتصرف أهل جدة السابق أدى لضربها بالقنابل من العدو الكافر ، وهم لا يملكون القدرة الكافية لمواجهة ذلك . ومثلها في فتنة الدنمرك من يقوم بأفعال قد تؤدي عكس المراد منها . فمن هاجم سفاراتهم أو مزق علمهم أمام الإعلام المنقول لهم قد يتفاجأ بأن يقوم فريق حاقد منهم بحرق المصاحف مثلا أو إهانتها ردًا بالمثل ، أو التضييق على الجالية المسلمة هناك . فكان الأولى من هذا الاقتصار على : مقاطعة بضائعهم ، واستهجان ما قاموا به ، ومواصلة ذلك إلى أن يعتذروا ، ويُسن قانون يُعاقب كل من يتعرض للأنبياء والرسل - عليهم السلام - .
3- أن الفتنة في بدايتها تكون خداعة تأخذ بألباب من استشرفها ؛ حتى إذا شب ضرامها استبصر العقلاء حقيقتها المرة ، ولكن هيهات لهم إطفاؤها . وهذا ما حصل لأهل جدة . قال الشاعر :
الحربُ أول ما تكون فتية * تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها * ولت عجوزًا غير ذات حليل
شمطاء يُنكر لونها وتغيرت * مكروهة للشم والتقبيل
4- أن العلم الشرعي لا يستلزم " الحكمة " ، فقد يكون المسلم طالب علم أو داعية ، درس على يد كبار العلماء ، لكنه وقت المحن والفتن يتصرف تصرفات غير حكيمة ، يستغرب العقلاء صدورها منه . والله يقول : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرا ) .
5- أن ضعف الأمة " الدنيوي " - تقنية وصناعة - يجعلها عرضة لهجوم الأعداء عليها ، وعدم مبالاتهم بها ؛ حتى يصل بهم الحال إلى ضرب ما حول الحرم بالقنابل ! ، لذا فإن الواجب على الأمة - خاصة ولاة أمرها - أن يسعوا لتقويتها في هذا المجال ، حتى تصل إلى حد الاكتفاء والاستغناء عن الآخرين ، ممتثلة قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) . والله الموفق ..(112/8)
( ثريا عبيد ) ماذا قالت عن الحجاب .وبماذا رد عليها د عبدالله النفيسي؟
يقول الله تعالى : ( وماكان لمؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً )
وقال - تعالى - : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي )
وقال - تعالى - : ( و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و احذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )
وقال - تعالى - : ( قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و إن تطيعوه تَهتدوا و ما على الرسول إلا البلاغ المبين )
وقال - تعالى - : ( وما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و اتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وقال - تعالى -: ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا )
***********************************(113/1)
يقول الدكتور عبدالله النفيسي - وفقه الله - في كتابه " العمل النسائي في الخليج ، ص 19 " : ( ومن الآراء الغريبة لبعض المهتمين والمهتمات بقضية المرأة تقول بأن الحجاب يُشكل عائقًا في طريق المساهمة الاجتماعية للمرأة ، بل يذهب د محمد الرميحي إلى وصف مجموعة الفتيات اللواتي أحرقن العباءات ونادين بالسفور في وسط الخمسينيات واحتججن على استمرار الحجاب ، وصفهن على أنهن " طليعة قدن حركة التحرر " ! ويؤكد د محمد الرميحي في ورقة له على أن الحجاب هو " جزء من حملة أشمل لتأكيد دونية المرأة " ! وتؤكد د ثريا عبيد - وهي كاتبة سعودية - أن الحجاب " يرمز إلى رغبة المجتمع في عزل المرأة نفسياً ، وليس جسدياً .. وعند التدقيق نجد الحجاب يمثل خوف المجتمع من المرأة وليس عليها ، وقد نقول خوفه من نفسه باتجاه المرأة وليس عليها " ! . هذه الآراء الغريبة المتعجلة أغفلت جانبًا مهمًا من مسألة الحجاب ؛ وهو الجانب الشرعي النصي . فالحجاب في تصورنا كمسلمين ليس " جزء من حملة لتأكيد دونية المرأة " أو " رغبة المجتمع في عزل المرأة " . الحجاب حكمٌ شرعي نزلت فيه آيات كما نزلت في الصلاة والصيام والزكاة وسائر الفرائض الإسلامية ) . انتهى .(113/2)
قلت : كلام الرميحي وثريا نقله الدكتور النفيسي من كتاب " أثر النفط على وضع المرأة " ( ص 240-258) . وقد قالت د ثريا - هداها الله - في نهاية تعليقها على كلام الرميحي (ص263) : ( إن ظهور الحركة الدينية الجديدة والمد الديني القائم في منطقتنا العربية يستمدان قوتهما من الضياع والفراغ النفسي والاجتماعي الذي تعيشه المنطقة . لقد أصبحت الحركة الدينية الجديدة الإطار أو المحور والمرجع لكل من يريد الهروب من ضياعه الفردي والمجتمعي ، أو لمن يريد إخفاء المسؤليات والمهام الوطنية الملحة المتعلقة بالاستقلال والحرية والديمقراطية . وظهور الحجاب ازداد قوة مع هذه الحركة التي تترجم الاسلام وسماحته بنظرة منغلقة ورؤية قاتمة للإنسان ) ! ! وهل هذا إلا اعتراضٌ من الدكتورة على حكم الله وشرعه ؟ وهو - كما هو معلوم - أشد وأخطر على دين المرء من مجرد المعصية مع عدم الاعتراض . وهل يليق بالبعض تقديم الدكتورة كمثال يحتذى من بنات المسلمين ؟ وللذكرى ؛ فقد قالت الدكتورة - هداها الله - في إحدى مقابلاتها : ( أنا تلقيت دراستي الجامعية فقط في الولايات المتحدة وعندما وافق والدي على إرسالي إلى هناك كنت في السابعة عشر من عمري ) . أسأل الله الهداية لي ولها ولجميع المسلمين ، وأن يوفقها للتوبة من كلامها الأول الخطير ، والالتزام بالحجاب الشرعي ، الذي هو مفخرة لها ، مع التنبه إلى ألاعيب الغرب الكافر في " دعم " ما يرونه مساعدًا لهم على غزو الدول والشعوب ، ومعارضتهم لكل ما يفيدها وينفعها . والله الموفق .
( أنشر هذا المقال تزامنًا مع مشاركة الدكتورة في منتدى جدة الاقتصادي ، الذي ترك الاقتصاد وتفرغ لشؤون المرأة ! برعاية من زوجة بلير ! وقبلها غيرها من المتواصين على هذه البلاد . وننتظر وقفة حاسمة حازمة من ولاة الأمر مع من يُمكنون لاختراق بلاد الإسلام )(113/3)
قال لي : ( ترا ماني مطوع ) .. وأتبرع بهذا الموقع .. !
اتصل بي أحد الفضلاء ، وكان من حديثه قوله : ( ترا ماني مطوع ) ، ولكني متبرع بمبلغ وقدره ( ؟ ) لنصرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمارأيك ؟ فأشرتُ عليه أن ينشئ موقعًا نافعًا - بإذن الله - عن خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه ، بالعربي ثم بالإنجليزي ، تكون مواده موثوقة ، تجمع بين سيرته صلى الله عليه وسلم ، والواجب له .
وقبل أن أضع لكم رابطه لأخذ اقتراحاتكم وآرائكم حوله بودي أن أنبه إلى مسألة مهمة تتعلق بـ :
1- المسلمين - غير الملتحين أو الرافعين لثيابهم عن الكعبين - عندما يعتقد " كثير " منهم أن الخير والتزود من القربات والطاعات مقصور على من يسميهم " المطاوعة " ! وهذا ظن خاطئ يصرفه عن ما ينفعه . أصبح بسببه يقتصر على الواجبات . أما التطوعات ؛ كصلاة الضحى مثلا أو ملازمة ذكر الله أو توزيع وسائل الخير ... وغير ذلك ، فيتحرج منه لأنه ليس مطوعًا - كما يقول - . وينسى هذا المسلم أنه قد حرم نفسه من خيرات كثيرة بسبب هذا الحاجز " الوهمي " . وأنه قد يكون متحليًا بصفات جليلة يعجز عن إدراكها ألوف ممن يسميهم بالمطاوعة المفرّطين - ولا أزكي نفسي - . فليبادر هذا بكسر الحاجز والإقبال على الخير . وتكميل النقص . فعمر - رضي الله عنه - تأخر إسلامه ؛ لكنه تجاوز غيره ، وعليه فقس .
وهذه أمثلة وقفتُ عليها تشهد أن غير المطوع قد يفوق غيره في الخير :
- مسلم " سوداني " عامي تفوح رائحته من الدخان ! يقول عنه أحد العاملين بمكتبٍ للدعوة إنه لا يمر عليه شهر أو شهران حتى يأتي لنا بكافر قد أسلم على يديه !
- أحد أبرز كتاب الشبكة في مجال الرد على خرافات أهل البدع ؛ من غير " المطاوعة " !
- صاحب موقع إسلامي شهير انتفع به مئات الزائرين ؛ مثله . ولعل غيري عنده أمثلة أكثر .(114/1)
2- المسلمين الملتحين أو المقصرين لثيابهم إلى الكعبين ؛ عندما يعتقدون أنهم بفعل هذين الواجبين قد أتموا الدين وأكملوه ! متناسين أمور الباطن - وهي أولى من الظاهر - ؛ كما في الحديث " .. ولكن ينظر إلى قلوبكم " . وقد يتحول الأمر إلى حاجز آخر يُثبط عن الخير . ولا أزكي نفسي . والحل أن يعترف هذا بتقصيره ويسعى في التخلص منه ، ولا يتعاظم في نفسه ، فيتهاون في الآثام الباطنة ، بل يجمع جمال الظاهر والباطن ، ممتثلا قول الأول :
وياحسَن الوجه توق الخنا *** لا تخلطن الزين بالشين
وقبله بقوله تعالى : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) .
= = = = = = = = = = = =
إننا نخطئ كثيرًا عندما نفرق بين المسلم الملتحي وغير الملتحي ، ونتسبب - بحسن نية - في الإساءة لهما جميعًا . للأول عندما نحصر الخير فيه ، ثم نحصره في فئة . وللثاني عندما نساهم في صنع الحاجز بينه وبين الخير . والصواب - في نظري - أن الجميع مسلمون مجتهدون في الخير وإدراكه ، ومن قصرّ منهم في أمر فليسعى في تكميله ، ولاينصرف بسببه عن مصالحه الأخروية . وهما جميعًا يمثلان المجتمع المسلم . أما من شذ عن الإسلام من المنافقين فهم شرذمة لانسبة لهم - ولله الحمد - ، والمجتمع برمته يقف صفًا واحدًا في مواجهتهم ؛ لأن خطرهم - لو تمكنوا - والعياذ بالله - سيطال الجميع ؛ دون تفريق بين " مطوع " و " غيرمطوع " .
فالأولى بنا " تكتيل " المسلمين جميعًا ضد " الكفار " ومن تابعهم من " المنافقين " الذين يعادون الإسلام ، ويُعارضون حكمه وهيمنته . وطرح هذه الأوصاف التي منعت خيرًا كثيرًا . ومثلها وصف " إسلامي " و " غير إسلامي " ! الذي يستعمله للأسف بعض الأخيار ، متغافلين عن أثره السيئ على أبناء المجتمع المسلم . فهل نحن منتهون ؟
أخيرًا : هذا رابط الموقع الذي تبرع به من وصف نفسه بـ " ماني مطوع ! " أتمنى أن يُدعى له ، ويُساهم معه في نشر رابطه ، وإبداء الملاحظات . والله الموفق .(114/2)
خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم
http://www.alrsol.net/(114/3)
هداك الله .. يا دكتور فاروق حمادة .. !
الدكتور فاروق حمادة - وفقه الله للخير - أحد المهتمين بعلم الحديث وتحقيق كتبه ، درًّس في كثير من الجامعات المغربية بمراكش وفاس ومكناس والرباط ، يشغل حاليًا منصب أستاذ كرسي السنة وعلومها بكلية الآداب ـ جامعة محمد الخامس ـ الرباط ، له جهود مشكورة ، وكتب كثيرة في علوم القرآن والسنة والسيرة النبوية ، منها:
تحقيق "فضائل الصحابة " و " عمل اليوم والليلة " ، و " فضائل القرآن " للنسائي ، و " أخلاق العلماء " للآجري ، و " مكارم الأخلاق " للطبراني ، وغيرها ، وتأليف "مدخل إلى علوم القرآن والتفسير"، و"المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل " ، و"مصادر السيرة النبوية وتقويمها " ، و"دليل الراغبين إلى رياض الصالحين" ، و"بناء الأمة بين الإسلام والفكر المعاصر" ( كتاب قيم عالج فيه - كما يقول ص 11- " شؤم الفكر القومي على هذه الأمة " ) ، و"الورثة الصالحة للحضارة المعاصرة - دراسة قرآنية في الحضارة-" .
يظهر من خلال تآليفه - ومنها الوصية النبوية للأمة الإسلامية - محبته لوحدة الأمة واجتماعها ، ولهذا فهو يشارك في مؤتمرات التقريب التي تنعقد لأجل ذلك . وهذا مما يُحمد له - وفقه الله - ، مع مراعاة أن أي تأليف أو تجميع دون الرجوع لعقيدة الأمة التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم لن يُكتب له النجاح ، كما جُرب كثيرًا ، بل سيكون مجالا للمداهنات والمجاملات ، مع بقاء الفرقة التي سرعان ما تُطل برأسها عند أول اختبار . كما قال المتنبي :
فإن الجُرح ينفر بعد حين *** إذا كان البناء على فسادِ(115/1)
صدر له أخيرا كتيبٌ عن سيرة شيخه عبدالله الغماري وكتبه ، كان الظن به - وهو من أهل الحديث - أن ينصر الحق الذي خالفه شيخه في بعض تلك الكتب ، ويزنها به ، كما فعل غيره من الموفقين ، أو على أقل تقدير يعرضها دون تأييد ، كي لا يلحقه وزر ما فيها من تلبيس ، وتزيين للبدعة والقبورية للمسلمين . إلا أنه - هداه الله - لم يفعل هذا .
وهذه تنبيهات موجزة على مافي كتيبه ، أسأل الله أن ينفعه بها :
التنبيه الأول : قال عن كتاب الغماري " فتح المعين بنقد كتاب الأربعين " : ( وكتاب الأربعين في دلائل التوحيد لأبي إسماعيل الهروي .. بالغ في الإثبات إلى حد التجسيم والتشبيه ، وقد وصفه بذلك غير واحد وأنه يجهل علم الكلام . وقد تتبعه السيد عبدالله في أكثر من عشرين بابا ؛ فأتى بنفائس وغرر من علم العقيدة والتوحيد ...) الخ مديحه .
قلتُ : ليت الدكتور فاروق - هداه الله - قبل أن يكيل هذا المديح لكتاب الغماري ويتهم إمامًا من أئمة أهل السنة اطلع على رد الشيخ علي الفقيهي - وفقه الله - : " الفتح المبين بالرد على نقد الغماري لكتاب الأربعين " ؛ فقد بين فيه أن الواصف له بهذا الوصف القبيح هو السبكي الأشعري في طبقاته ، وهذه عادته مع أهل السنة المثبتين لصفات الله عز وجل دون تأويل أو تمثيل ؛ بسبب تعصبه لبدعته الأشعرية . ثم تبعه الكوثري والغماري وغيرهما من المنحرفين .(115/2)
وقد أعجبني تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط عند ترجمة الهروي في السير ( 508/18) على من حشى على الأصل بقوله : ( لقد بالغ المصنف - أي الذهبي - في هذا الكتاب في تعظيم رؤوس التجسيم .. الخ ) ، قال الشيخ شعيب - وفقه الله - : ( يلمح القارئ من سطور هذا التعليق أن قائله أشعريٌ جلد حاقد على الإمام الذهبي - رحمه الله - فإنه ينعته بما هو بريئ منه ، ويُقوله ما لم يقل .... أما قوله إنه يبالغ في تعظيم رؤوس المجسمة ويُكثر من سرد مناقبهم ويتغافل عن بدعهم ويعتدها سنة فقول في غاية السقوط وجرأة بالغة في تزوير الحقائق ، فالذهبي رحمه الله إنما يعظم رؤوس أهل السنة والجماعة الذين اتخذوا مذهب السلف الصالح المشهود له بالخيرية على لسان الصادق المصدوق قدوة في صفات الله سبحانه ، فآمنوا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله وأجروا تلك الصفات على ظاهرها اللائقة بجلال الله سبحانه من غير تحريف ولاتعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل كما نطق بذلك القرآن " ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير " ، فهؤلاء هم الذين يمتدحهم المؤلف رحمه الله ويسرد مناقبهم ويعدد مآثرهم ويشيد بفضلهم ليتخذهم أهل العلم قدوة . فهل يُعد هؤلاء من رؤوس المجسمة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ) اهـ كلام الشيخ شعيب - وفقه الله - ، وقد أجاد فيه .
وقال الشيخ عبدالرحمن الشبل لكتاب الهروي " ذم الكلام " (66/1) : ( إن عقيدة ذلك الإمام - أي الهروي - هي عقيدة السلف أهل السنة والجماعة ولله الحمد والشكر ، فلم يُبتلَ بتعطيل ولا تشبيه ولا تكييف ولاتأويل ولا غير ذلك من الضلالات ، هذا ماشهد له به عدد من أئمة أهل السنة ) . وكتابه الأربعين ( ظهرت فيه بوضوح عقيدة المؤلف عقيدة سلفية صحيحة ) . ثم رد في ( ص 147-146) اتهام السبكي ومن تابعه كالكوثري .(115/3)
وأود - أخيرًا - من الدكتور فاروق - وفقه الله - أن يعيد النظر في موقفه السابق ، وفي فهمه لعقيدة السلف ، وفي حقيقة عقيدة الأشاعرة التي اعتقدها ( كما في كتيبه السابق وكذا كتابه مدخل إلى علوم التفسير ص 155) - وهي لاتليق بأمثاله من أهل الحديث - وليقرأ ما كتب في الرد على أصولها البدعية ، وتناقضها مع نصوص الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة ؛ كرسالة " الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات " للدكتور عبدالقادر صوفي ( 3 مجلدات ) ، ورسالة " حوار مع أشعري " للدكتور محمد الخميّس ، ورسالة " موقف ابن تيمية من الأشاعرة " للشيخ المحمود ، وغيرها من الكتب والرسائل التي انتشرت - ولله الحمد - .
التنبيه الثاني : عرضه ( ص 92 - 96) لكتاب الغماري " الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين " مؤيدًا ! - للأسف - ؛ وهو كتاب يقوم على نشر القبورية - والعياذ بالله - ، ويرد على من حذر منها من دعاة الكتاب والسنة . وماكان يليق بالدكتور فاروق أن يجامل شيخه ويتابعه على هذه الطوام ، وينصره على من دعا لتجريد التوحيد لرب العالمين . ( يُنظر للرد على مافيه ومافي التالي : رسالة : كشف المتواري ، للشيخ علي الحلبي ) .
التنبيه الثالث : عرضه ( 142-140) لكتاب الغماري في الدعوة للتوسل البدعي " مصباح الزجاجة .. " ، دون تعقب أو بيان لخطئه في هذا الأمر المخالف للنصوص " الصحيحة " .
التنبيه الرابع : عرضه ( ص 149-153) للكتاب الآخر الذي ينصر فيه شيخه التوسل البدعي : " إتحاف الأذكياء بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء " ، وقوله : ( هذا البحث واحد من عدة بحوث كتبها السيد عبدالله على الموجه التي انتشرت مع انتشار أفكار ابن تيمية .. ) !! وليت الدكتور تروى قبل أن يخط هذه الكلمة السيئة المخالفة للواقع ؛ لأن مايسميه أفكار ابن تيمية هو مذهب السلف قبله ، ولم يكن له رحمه الله سوى نصره والجهر به .(115/4)
أخيرًا : أذكّر الدكتور فاروق بكلمة رائعة عن الصحابة رضي الله عنهم خطها في مقدمة تحقيقه لكتاب " فضائل الصحابة " للنسائي ( ص 13-12) :
( ولقد تعرض هذا الجيل قديمًا وحديثًا إلى حملات العداء والتشويه لتاريخهم وسيرتهم العطرة ، وهم معالم الهدى أمام الإنسانية وشبابها الصاعد خاصة ، فما أحوج هذا الشباب إلى معرفة تاريخ هذا الجيل الفريد من صحيح المصادر وموثوق الكتب ، وتقديمها أسوة وقدوة ، فهو والله واجب أي واجب ؛ حتى لا يهجم على شتمهم جهول حاقد ، أو الاعتداء على حرمتهم زنديق ملحد - ثم نقل قول القاضي عياض فيمن سبهم ، ومنه - قال مالك : من شتم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمروبن العاص ، فإن قال كانوا على ضلال وكفر قُتل ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نُكل نكالا شديدً ) . اهـ
تأمل أخي القارئ هذا الكلام السني السلفي الذي ينضح بمحبة صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وما فيه من عقوبة من تعرض لهم بسب أو شتم ، وقارنه بقول عبدالله الغماري - شيخ الدكتور - في " نهاية الآمال " ( ص 8-7) : تعليقًا على حديث " ليذادن عن الحوض أقوام من أمتي " عندما قال موافقًا لأخيه أحمد : ( وأنا أجزم بأن حديث الحوض في معاوية وأصحابه ) !! - ويُنظر " القول المقنع " له ( ص 13) ، و " كشف المتواري " ( ص 29) .
أسأل الله التوفيق للدكتور فاروق ، وإصلاح ما سبق التنبيه عليه في الطبعة الثانية ، كما أسأله تعالى أن يُسعدنا بسماع تراجعه عن تأييد مخالفات شيخه ، وبراءته منها كما فعل غيره . وفي هذا رفعة له وانشراحُ صدر ، والله الهادي .(115/5)
خبير أمريكي ينصح بلاده بعدم فضح الليبراليين العرب !!
هذا مقال كتبه أحد الخبراء الأمريكيين في قضايا المسلمين قبل فترة قريبة ينصح فيه الولايات المتحدة الأمريكية أن لا تُبالغ في دعم الليبراليين العرب ( بلحى أو بدون لحى ! ) لكي لا تفضحهم أمام شعوبهم ، نشرته صحيفة النهار ، وأحببتُ إعادة نشره هنا ؛ ليتبين للقراء مدى العمالة التي يؤديها هؤلاء لإخوانهم الكفار ، متذكرين قوله تعالى فيهم : ( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة ؟ فإن العزة لله جميعًا ) وقوله : ( فترى الذين في قلوبهم مرضٌ يُسارعون فيهم ) . أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين .
الليبراليون العرب هامشيون في بلدانهم
ولا يستحقون دعمنا الزائد
جون الترمان - مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية والخبير في الشؤون المصرية
صحيفة النهار 13/8/2004
أثناء زيارته للقاهرة، خصص وزير الخارجية الأميركي كولن باول، وقتاً بين اجتماع رسمي وآخر للتحدث عن الإصلاح مع مجموعة صغيرة من المصريين ذوي التفكير الليبرالي. يحظى الليبراليون العرب حالياً باهتمام لا مثيل له من العديد من صانعي السياسات والمسؤولين الأميركيين على غرار باول. ويدعو ديبلوماسيون ومسؤولون في واشنطن ولندن وباريس وعواصم أخرى هؤلاء الليبراليين إلى تناول الطعام (وفي معظم الأحيان إلى شرب النبيذ) لأن عدداً كبيراً من الغربيين يرى فيهم الأمل الأساسي لتحقيق الإصلاح في العالم الإسلامي، وغالباً ما يحصلون على مبالغ طائلة لتمويل منظماتهم التي لا تتوخى الربح، بعض هؤلاء الليبراليين، مثل الباحث الأميركي المصري سعد الدين إبراهيم، معروفون جيداً، في حين أن البعض الآخر، مثل الفيلسوف السوري صادق العظم، أقل شهرة.(116/1)
لكن من شأن الدعم الغربي المتزايد لليبراليين العرب أن يضر بهم أكثر مما يفيدهم. فبدلاً من ترسيخ مكانة الليبراليين العرب في بلدانهم، تؤدي المظاهر العلنية لدعم الولايات المتحدة أو أي دولة غربية أخرى لهؤلاء الليبراليين إلى تهميشهم أكثر فأكثر، وفي نهاية المطاف، يؤدي هذا الدعم المضلل إلى عرقلة التغيير نفسه الذي يطالب صانعو السياسات الغربيون بإدخاله في السياسات العربية.
ليس غريباً أن ينطلق من يسعون إلى الترويج للإصلاح في العالم العربي، من نواة من المصلحين الليبراليين . يتركز هؤلاء في الجامعات والمنظمات غير الحكومية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وهم مجموعة متجانسة من المثقفين الذين يجيدون الإنكليزية (والفرنسية في معظم الأحيان). إنهم مرتاحون مع الغربيين والغربيون مرتاحون معهم.
لكن تجدر الإشارة إلى أن الليبراليين العرب، كمجموعة، يتقدمون في السن ويصبحون أكثر انعزالاً وتتناقص أعدادهم، يحظون بتأييد ضئيل بين السكان، وبشرعية أقل في نظر مواطنيهم لاسيما الشبان منهم . يمثلون أفكار الماضي الفاشلة بدلاً من آمال المستقبل الجريئة. إنهم يخسرون بسرعة المعركة للفوز بقلوب الناس وعقولهم.(116/2)
ومن شأن الاهتمام الغربي المتزايد أن يُلصق بهم أكثر فأكثر صفة المتواطئين مع الجهود الغربية المزعومة لإضعاف العالم العربي وإخضاعه. كما أن تخصيص طاقة كبيرة للتحدث في المؤتمرات وعلى المنابر الغربية، حيث يبشرون المهتدين، يلهيهم عن العمل في مجتمعاتهم الخاصة. يبدو أن بعضهم يتبع أسلوب أحمد الجلبي، الذي كان في السابق المنفي المفضل لدى واشنطن، من خلال انتظار الولايات المتحدة كي تسلمهم بلدانهم بنفسها. وفي حين أن مجموعات عربية محافظة تنفذ بفاعلية برامج مبتكرة ومثيرة للإعجاب بهدف تقديم سلسلة من الخدمات تؤثر في حياة الناس اليومية، يعتبر العديد من الليبراليين أن مهمتهم أُنجزت عندما ينتهون من كتابة مقال أو عندما يتحدثون أمام مؤتمر أجنبي.
من غير المحتمل أن يحوّل الدعم الغربي المتزايد هؤلاء الأشخاص نحو مجتمعاتهم. بل خلافاً لذلك : من شأنه أن يعطيهم المزيد من المحفزات لإتقان لغة المنظمات الغربية التي تقدم لهم المساعدات.
بدلاً من الرهان على الليبراليين، من شأن السياسة الأكثر حكمة أن تتبع ثلاثة مبادئ:
أولاً: الاستثمار في عملية التحرر، ليس فقط بالنسبة إلى من يدعمون الأفكار الغربية بل أيضاً بالنسبة إلى من يعارضونها، فالكثيرون يعتبرون أن الضغط على الحكومات العربية كي تحرز تقدماً في المسائل المتعلقة بحرية التعبير والتجمع خطر جداً، لاسيما في خضم الحرب على الإرهاب، لكن هذا ضروري، فالسوق الحرة لتبادل الأفكار هي السبيل الوحيد كي تكسب الأصوات الليبرالية دعماً شعبياً حقيقياً بدلاً من اعتبارها مجرد بديل مستوعب من الأصوات القومية والمحافظة والراديكالية، فغالباً ما نتحدث عن الحاجة إلى أن تقوم الاحتكارات الحكومية القديمة الطراز العديمة الجدوى في الشرق الأوسط بإفساح المجال أمام المنافسة، ومن هذا المنطلق، يجب أن نرحب أيضاً بالمنافسة الصحية بين الأفكار.(116/3)
ثانياً: يجب أن تخفض الولايات المتحدة بعض المعايير التي تطبقها على المجموعات التي تدعمها، إنها محقة في منع التمويل عن المنظمات المرتبطة بالإرهاب، لكن إرهاق المجموعات باختبارات سياسية حيث يكون عنصر الحسم الوحيد درجة الدعم للسياسات الغربية، يحقق عكس النتائج المرجوة، ولا تزيد هذه المقاربة من عزلة الولايات المتحدة فحسب، بل تضعف أيضاً صدقية كل من قد يرغب صانعو السياسات والمسؤولون الأميركيون بالعمل معه.
أخيراً: يجب أن نبتكر أنشطة لا تحمل سمة واضحة للحكومة الأميركية، يمكن تنفيذ بعض هذه الأنشطة في شراكة مع الحلفاء الأوروبيين الذين يشعر العديد منهم أن خطراً كبيراً يحدق بهم نتيجة النزاع السياسي والاجتماعي في العالم العربي، أما الأنشطة الأخرى فيمكن تنفيذها من خلال المنظمات غير الحكومية والجامعات وسواها من المؤسسات، ليس الهدف تغطية بصمات الحكومة الأميركية بل التعاون مباشرة مع شرائح واسعة في المجتمعات الشرق الأوسطية.
يجب ألا نتخلى عن الليبراليين العرب، الكثيرون منهم مناضلون شجعان في سبيل الأفكار والمثل العليا الغربية، ومن شأن التخلي عنهم أن يوجه إشارات خاطئة، لكن يجب ألا تركز الولايات المتحدة كل آمالها على نجاحهم الكامل. تحقيق انتصارات جزئية مع شرائح واسعة من الناس في الشرق الأوسط أفضل بكثير من تحقيق نجاح كامل مع نخب معزولة لكن غير نافذة، الجماهير التي يجب التحدث أمامها عن الليبرالية في العالم العربي موجودة في القاهرة وبغداد وبيروت وليس في واشنطن ولندن وباريس، يجب أن يكون الداعمون الأهم لليبراليين العرب في حكومات بلدانهم وليس في حكوماتنا. إذا نسينا هذا، لا نسيء إلى أنفسنا وحسب بل إليهم أيضاً ) . انتهى
لكن ! بعد هذه العمالة : هذا رأي الغرب في أذنابه !(116/4)
يُعد (كرومر) وكيل الإنجليز لإدارة شئون مصر أثناء احتلالهم لها! من أخبث وأمكر الناس الذين ابتليت بهم الأمة، فقد أفسد هذا العجوز بلاد مصر، ومهد للتغريب وأهله وأيدهم، وأثنى عليهم، ومكن لهم، وكانوا ينقادون لأمره ويعظمونه أيما تعظيم؛ لأنه راعي (نعمتهم) !، فاستمع –أعزك الله- لما يقوله هذا النصراني عن المنافقين والمنافقات الذين سارعوا إلى كسب رضاه والتعاون معه ، وهو قول خبير بهم، ويعبر عن ما يكنه الغرب تجاه أذنابه.(116/5)
يقول كرومر : ( إن المصري المتحرر يسبق الأوربي المتحرر في التنور، وحرية الفكر والحيرة، إنه يجد نفسه في بحر هائج لا يجد فيه سكاناً ولا رباناً لسفينته، فلا ماضيه يضبطه، ولا حاضره يفرض عليه الحواجز الخلقية، إنه يشاهد أن الجمهور من مواطنيه يعتقدون أن الدين يعارض ( الإصلاحات ) التي يراها جديرة كل الجدارة بالنفاذ، إن ذلك يثير فيه السخط، والكراهية الشديدة للدين الذي يؤدي إلى مثل هذه النتيجة، فيدوسه بقدمه وينبذه بالعراء، إنه إذا قطع الصلة عن دينه وتعاليمه فلا يحجزه عن التورط في المزالق الخلقية إلا مصلحته الشخصية السافرة، مع أن الأوربي الذي يحرس على تقليده، لا يزال متقيداً بشرائع أمته الخلقية. إن المجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد المتحررين في مصر، لا ينكر على الكذب والخديعة إنكاراً شديداً، ولا يمنعه من ارتكاب الرذائل خوف سوء الأحدوثة في المجتمع، إنه إذا رفض دين آبائه، فإنه لا يلق عليه نظرة عابرة، إنه لا يرفضه فحسب، بل يرفسه ويركله برجله، إنه يترامى في أحضان الحضارة الغربية متعامياً عن كل حقيقة، ويغيب عنه أن الجانب الزاهر البراق للحضارة الغربية ليس إلا الجانب الخارجي من جوانب هذه الحضارة، إن الحقيقة أن القوة الخلقية التي تنبع من التعاليم المسيحية هي التي تضبط سفينة الحضارة الغربية وتمنعها من الاضطراب الزائد في البحر الهائج، ولما كانت هذه القوة قوة باطنية، فإنها تتوارى في غالب الأحيان عن أنظار المتشبهين الزائفين بأبنائها الحقيقيين، إنه يحلف ويقول: إنه نبذ التعصب الديني، وأنه يحتقر تعاليم آبائه.(116/6)
إنه يقول لزميله الأوربي: إننا أصبحنا نملك الخط الحديدي، وقد أسسنا في بلادنا مدارس عصرية، وأنشأنا الجرائد والمحاكم، ومظاهر الحياة الحديثة، والمدنية العصرية التي تتكون منها حضارتكم، فكيف نُعتبر متخلفين عنكم وأحط شأناً منكم؟ إنه يجهل أنه لا يستطيع أن يجاري زميله الغربي ويكون نداً له، فإن المسيحي المتحضر وإن لم يكن راسخاً في دينه، ولكنه إلى حد كبير نتاج المسيحية، فإن لم تكن المسيحية التي مضى عليها ألف وتسع مائة سنة رصيده وسنده، لم يكن قط حيث هو الآن) . ( مصر الحديثة، لكرومر ، 2/232 ) .
وصدق الله تعالى : ( إذ تبرأ الذين اتبِعوا من الذين اتبَعوا ) فهل من معتبر ؟(116/7)
فهمان خاطئان لعبارة ( لحوم العلماء مسمومة ) ..
العبارة الشهيرة : " لحوم العلماء مسمومة " ذكرها ابن عساكر - رحمه الله - في كتابه " تبيين كذب المفتري " ( ص 29 ) ، وفهم منها البعضُ فهمين خاطئين دعاهما إلى السخرية منها ، وعدم قبولها :
الفهم الأول : أن العلماء معصومون من الخطأ ، لايُستدرك عليهم . وهذا ما لم يفهمه عاقل يعي أن العلماء بشر كغيرهم ، وإن فُضّلوا بحمل ميراث الأنبياء عليهم السلام . ولكن يكون الاستدراك عليهم بعلم وأدب .
الفهم الثاني : أن هذا يدعو إلى التهوين من غيبة غير العلماء ! وهذا أيضًا خطأ على قائل العبارة أو من يستشهد بها . ولتوضيح المقصد الصحيح من هذه العبارة ، وأنها لا تعني الفهمين السابقين ؛ أحببتُ أن أنقل كلمات متفرقة من شرح "رياض الصالحين " للشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - .
- قال – رحمه الله – في شرح حديث " يا عبادي إني حرمتُ الظلم .. " : ( إن غيبة العلماء تُقلل من شأن العلم الذي في صدورهم ، والذي يعلمونه الناس ، فلا يَقبل الناس ما يأتون به من العلم ، وهذا ضرر على الدين ) . ( 2/122) .
- وقال : ( الكلام في أهل العلم جرح في العلماء وجرح فيما يحملونه من الشريعة، لأن الناس لن يثقوا بهم إذا كثر القول فيهم والخوض فيهم، ولهذا يجب عند كثرة الكلام وخوض الناس في أمر من الأمور أن يحرص الإنسان على كف لسانه، وعدم الكلام إلا فيما كانت مصلحته ظاهرة، حتى لو سئل فإنه يقول: نسأل الله الهداية: نسأل الله أن يهدي الجميع ) . ( 7/118-119) .(117/1)
- وقال – رحمه الله – تعليقًا على " باب : توقير العلماء والكبار وأهل الفضل .. " : ( يريد المؤلف رحمه الله بالعلماء : علماء الشريعة الذين هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء .. وإذا كان الأنبياء لهم حق التبجيل والتعظيم والتكريم ، فلمن ورثهم نصيب من ذلك ، أن يُبجل ويُعظم ويُكرم .. وبتوقير العلماء توقر الشريعة ؛ لأنهم حاملوها ، وبإهانة العلماء تهان الشريعة ؛ لأن العلماء إذا ذلوا وسقطوا أمام أعين الناس ذلت الشريعة التي يحملونها ، ولم يبق لها قيمة عند الناس ، وصار كل إنسان يحتقرهم ويزدريهم ؛ فتضيع الشريعة . فإذا استهان الناس بالعلماء لقال كل واحد: أنا العالم، أنا النحرير، أنا الفهامة، أنا العلامة، أنا البحر الذي لا ساحل له، ولما بقي عالمٌ، ولصار كل يتكلم بما شاء، ويفتي بما شاء، ولتمزقت الشريعة بسبب هذا الذي يحصل من بعض السفهاء ) . ( 3/230-232) .
- وقال : ( ثم قال صلى الله عليه وسلم "يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" والشاهد هذه الكلمة وهي أن الأنبياء يُؤذون ويصبرون، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قيل له هذا الكلام بعد ثماني سنين من هجرته. يعني ليس في أول الدعوة بل بعدما مكّن الله له وبعدما عُرف صدقه وبعدما أظهر الله آيات الرسول في الآفاق وفي أنفسهم، مع ذلك يقال هذه القسمة لم يعدل فيها ولم يُرِد بها وجه الله.
فإذا كان هذا قول رجل في صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام للنبي صلى الله عليه وسلم فلا تستغرب أن يقول الناس في عالم من العلماء إن هذا العالم فيه كذا وفيه كذا ويصفونه بالعيوب، لأن الشيطان هو الذي يؤز هؤلاء على أن يقدحوا في العلماء.(117/2)
لأنهم إذا قدحوا في العلماء وسقطت أقوالهم عند الناس ما بقي للناس أحدٌ يقودهم بكتاب الله. بل تقودهم الشياطين وحزب الشيطان ، ولذلك كانت غيبة العلماء أعظم بكثير من غيبة غير العلماء، لأن غيبة غير العلماء غيبة شخصية إن ضرَّت فإنها لا تضر إلا الذي اغتاب والذي قيلت فيه الغيبة، لكن غيبة العلماء تضرُّ الإسلام كلَّه ؛ لأن العلماء حملة لواء الإسلام فإذا سقطت الثقة بأقوالهم، سقط لواءُ الإسلام، وصار في هذا ضرر على الأمة الإسلامية.
فإذا كانت لحوم الناس بالغيبة لحوم ميتة فإن لحوم العلماء لحوم ميتة مسمومة لما فيها من الضرر العظيم.
فأقول لا تستغرب إذا سمعت أحداً يسبُّ العلماء! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل فيه ما قيل، فاصبر، واحتسب الأجر من الله عز وجل واعلم أن العاقبة للتقوى ) . ( 1/255-256) .
فائدة : قال الشيخ : ( العلماء ثلاثة أقسام: عالم ملة، وعالم دولة، وعالم أمة.
أما عالم الملة : فهو الذي ينشر دين الإسلام، ويفتي بدين الإسلام عن علم، ولا يبالي بما دل عليه الشرع أوافق أهواء الناس أم لم يوافق.
وأما عالم الدولة : فهو الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتي بما تريد الدولة، ولو كان في ذلك تحريف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأما عالم الأمة : فهو الذي ينظر ماذا يرضي الناس، إذا رأى الناس على شيء أفتى بما يرضيهم، ثم يحاول أن يحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل موافقة أهواء الناس . نسأل الله أن يجعلنا من علماء الملة العاملين بها ) . ( 4/307-308 ) .(117/3)
هداك الله .. يا أحمد الزهراني .. !
الأخ أحمد بن صالح الزهراني ( أبوعمر الكناني ) - وفقه الله - أحد طلبة العلم المشاركين بكثرة في الشبكة العنكبوتية ، وهذا مما يُفرح المسلم أن يرى مشاركة طلاب العلم فيها وفي غيرها من الوسائل ونزولهم إلى الساحة ، كلٌ حسب استطاعته ، ينشرون الخير ويراغمون أعداءه والنائين عنه .
اجتهد الأخ أحمد قبل عدة سنوات فأصدر كتابًا بعنوان " ضبط الضوابط " عن مسائل الإيمان ، قرر فيه عقيدة المرجئة في إخراجهم العمل عن حقيقة الإيمان ، ناسبًا هذا المذهب الرديئ إلى سلف الأمة ، مع تتبع للشبهات ، وتكثرٍ بأقوال بعض العلماء ممن يظنهم يؤيدونه .
اعتقد الأخ أحمد ومن وقع مثله فيما وقع كالشيخ علي الحلبي والأخ عدنان عبدالقادر وغيرهم أنهم بصنيعهم هذا يقفون أمام عقيدة الغلو في التكفير أو عقيدة التهييج على ولاة الأمور من قبل بعض الدعاة - هداهم الله - .
ولكن فاتهم أن الخطأ لا يُرد بمثله ، وأن البدعة لا تُقابل بأختها .
( ملاحظة : الغريب أن الزهراني في كتابه السابق ينصر القول بكفر الحاكم بالقانون الوضعي ! ) .
ولايُغفل - أيضًا - عن سبب رئيس دعاهم لهذا الموقف - خاصة الزهراني في نظري - ؛ هو " تعصبهم " للشيخ الألباني - رحمه الله - الذي أخطأ في هذه المسألة - كما هو معلوم - . فكان الواجب على أمثالهم الاعتراف بخطئه وتجنب زلته مع حفظ مكانته ؛ كما هو المسلك مع زلات وأخطاء أهل العلم من أهل السنة والجماعة . أما إدارة النصوص وأقوال العلماء لتوافق زلته فهذا إنما هو مسالك أهل التعصب المذهبي الذي كان الشيخ - رحمه الله - يحذر منه . فلو تم الاعتراف بهذا الخطأ وتُجنب منذ البداية لما اتسعت دائرة الخلاف وتشعبت ، ولوئدت الفتنة في مهدها .
بعد هذا فقد صدرت في كتابه الفتوى التالية للجنة الدائمة برئاسة سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - :
بيان وتحذير(118/1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين
وبعد :
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الكتاب الموسوم بـ : ( ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه ) تأليف المدعو / أحمد بن صالح الزهراني ، فوجدته كتابا
يدعو إلى مذهب الإرجاء المذموم ؛ لأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة داخلة في حقيقة الإيمان ، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وعليه : فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره وترويجه ، ويجب على مؤلفه وناشره التوبة إلى الله عز وجل .
ونحذر المسلمين مما احتواه هذا الكتاب من المذهب الباطل حماية لعقيدتهم واستبراء لدينهم ، كما نحذر من اتباع زلات العلماء فضلا عن غيرهم من صغار الطلبة الذين لم يأخذوا العلم من أصوله المعتمدة .
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
صالح بن فوزان الفوزان
بكر بن عبد الله أبو زيد
فقد حكم كبار علماء السنة على كتابه بهذا الحكم رغم أنه يقول فيه بـ : أن العمل داخل في حقيقة الإيمان الشرعي ، و أن الإيمان يزيد وينقص ، و يبرأ من المرجئة ويرد عليهم . ومع هذا لم يُفده ما سبق في الخروج من تبعات مذهب الإرجاء المذموم . والسبب أنه يرى ( ص 7 ) : " أن تارك العمل الظاهر لا يكفر كفرا أكبر ما دام يتلفظ بالشهادتين ولم يتلبس بناقض "فما أغنى عنه ذمه للمرجئة ، ولا اعترافه بدخول العمل في الإيمان حين حكم بنجاة تارك العمل الظاهر ! . وفي هذا عبرة - بل ردٌ - على من يظنون أنه لا إرجاء حتى يقول المرء بجميع قول المرجئة .
*******************(118/2)
ولكن ! هل استفاد الأخ أحمد من توجيه كبار العلماء ونصيحتهم له بالتوبة وأخذ العلم من أصوله ، وعدم المسارعة بالتصدر في المسائل التي كفاه الكبار مؤنتها ؟!
ليته فعل هذا ، وبادر إلى إعلان تراجعه عن خطئه وزلته ، وشكر للعلماء تسديدهم له ؛ إذًا لحاز شرفًا ورفعة بسبب هذا التجرد للحق ، وإرغام النفس الجموح على قبوله ، وحفظ وقته وأوقات غيره .
لكنه - هداه الله - استكبر وأصر على زلته - للأسف - . ولم يسعه - رغم هذا - السكوت كما سكت غيره ، إنما أصابه الذي أصاب الشيخ الحلبي من المكابرة وإشغال شباب الأمة بهذه المسائل التي أورثت جدالا وخصامًا وانصرافًا عن ما ينفع .
فسرعان ما أعاد الرجل صياغة زلته من جديد في كتاب سماه " القول الأسنى في الحد الأدنى " ! ، فتصدى له طلبة علم غيورون بالنقض - ولله الحمد - .
من أشهرها ما كتبه الأخ آل عبدالكريم عنه في " الرد الأسمى على القول الأسنى " ، قال في مقدمته :
( الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين . وبعد :
فقد كتب الأخ أحمد بن صالح الزهراني كتاباً صدر عام 1419هـ بعنوان " ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه " ضمنه اعتقاد المرجئة المذموم في أن العمل الظاهر شرط كمال في الإيمان، وقد أصدرت اللجنة الدائمة بياناً وتحذيراً من الكتاب قالت عنه : " كتاباً يدعو إلى مذهب الإرجاء المذموم، لأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة داخلة في حقيقة الإيمان " ، وكان ذلك برئاسة الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله وعضوية كلٍ من: آل الشيخ والغديان والفوزان وبكر أبوزيد.(118/3)
ثم يفاجئنا الزهراني مرة أخرى بكتاب آخر بعنوان: " القول الأسنى في الحد الأدنى " يؤكد فيه معتقده الإرجائي الردي، في الوقت الذي كنا نعتقد أنه سيهتدي بهدي السلف ويتبع منهجهم ويقتفي أثرهم ويحذو حذو علمائهم. ولما كانت أدلته في هذا الكتاب لا تختلف كثيراً عن أدلته في سابقه، ولما كان الجديد منها سبق أن طرحه هو بنفسه على ساحات الحوار ورد عليه أهل السنة الغيورون على منهج السلف الصالح دون أن يكون هناك أي تراجع منه إلى الحق ؛ فإني رأيت أن الرد العلمي على الأدلة دليلاً دليلاً لا طائل تحته ولا فائدة مرجوة منه، فعدلت عن ذلك بطرح مسائل من كتابه هذا " القول الأسنى " بينت عوارها وتناقضها بما سميته " الرد الأسمى على القول الأسنى " وكان ذلك في ثلاث وثلاثين مسألة .... ) .
تابع الرد هنا : ( الرَدّ الأَسْمَى على القَوْلِ الأَسْنَى )
********************
لكن ! هل اكتفى الأخ أحمد الزهراني بهذا ، وتوقف عن إعادة الجدل في هذه القضية التي فصل فيها علماء السنة ، وتبين المحق من المبطل ؟!
للأسف لم يكتفِ !
بل ازداد مكابرة وإصرارًا على ماهو عليه . حيث تفاجأ كثيرون - أخيرًا - بإصداره كتابًا جديدًا في هذه المسألة ! يقع في 367صفحة ، سماه " شرح ألفاظ السلف ونقض ألفاظ الخلف في حقيقة الإيمان " !! ، أعاد فيه الترويج لزلته في قالب جديد ، مع مضمون مكرر . وقد قيدتُ ما لفت نظري فيه ، أما الرد بالتفصيل على شبهاته فقد تولاه الأخ الكريم محمد بن محمود " الذي يكتب سابقًا باسم الموحد " - جزاه الله خيرًا - في كتاب له من 600 صفحة سيُطبع قريبًا - إن شاء الله - بتقديم كبار العلماء .
أما مالفت انتباهي في كتابه الأخير فهو :(118/4)
1- لاجديد في الكتاب . فمضمونه ، بل بعض أبحاثه هي نفسها أبحاث كتابه القديم " ضبط الضوابط " ، مع تعديل مقصود في العناوين ! وخلاصته - كما يقول - ( ص 93 ): ( أن الإيمان إيمانان : فإيمانٌ ينجي من الخلود: وهو الإيمان الذي جاء فيه صاحبه بأصل الإيمان، لكنه فرط في فرعه، وبهذا الإيمان –وهو أصل الإيمان- يخرج الموحدون من النار... وإيمان ينجي من الدخول: أي دخول النار، وهو الإيمان الذي جاء فيه صاحبه بأصل الإيمان وفرعه، فأتى بالتصديق والإقرار، وأمتثل ما أُمر به، واجتنب ما نُهي عنه ) . فلا زال الرجل - هداه الله - في حاله القديم .
2- تم تضخيم الكتاب دون فائدة بأبحاث مكررة سبق طرحها في كتابه القديم ، لم تكن محل تنبيه العلماء ؛ كبيان معنى الإيمان في اللغة والشرع ، وأنه شعب ، وزيادته ونقصانه ، والاستثناء فيه ، والفرق بين الإسلام والإيمان .. الخ المباحث التي لم ينازعه فيها العلماء . فلا أدري ما سبب تكرارها ؟ وكان الأولى به وقد أبت نفسه التوبة أو السكوت أن يقتصر على " المعترك " بينه وبين علماء السنة ؛ وهو مسألة محل العمل من الإيمان ، وحكم تاركه بالكلية .
3- مارس الأخ أحمد في كتابه ما يمكن أن أسميه " بكائيات الزهراني " ! حيث العبارات العاطفية التي توهم القارئ أنه يعيش صراعًا مع أعداء السنة الذين خالفوا مذهب السلف ! مع تحسر على حال الغرباء - من أمثاله - الذين بقوا متمسكين بالحق رغم الصعاب !! .. الخ ، فيظن القارئ الذي لا يعرف سابقة المؤلف أنه يعني الحزبيين أو من وقع في غلواء التكفير ، وما علم أن من حذر من كتابه هم كبار علماء السنة برئاسة الشيخ ابن باز - رحمه الله - !!
فاسمع شيئًا من أقواله - مع تذكر المحذرين من كتابه ! - :(118/5)
- قال ( ص 358) : ( حاولت – قدر ما وهب الرحمن ويسر- أن أبين حقيقة مذهب السلف الكرام في هذه المسائل، مع تسليط الضوء أكثر على مواضع لعل الغموض فيها أو الدقة سببت كثيراً من القيل والقال في الساحة العلمية والدعوية.
مع أن لدي مثل اليقين أن كثيراً من الناس – بل غالب من يُنسبُ لطلب العلم أو الدعوة- معرضون عن الحق فيما ننقله عن الأئمة، بل هم في غيبةٍ كبرى عن فهم وتدبر هذه المسائل، لأنهم ربوا على أفكار وتصورات شبّ عليها الرضيع، وهرم عليها الشاب، خصوصاً أولئك الخائضين بغير هدىً ولا فقهٍ في هذا الباب ) !!
- وقال ( ص 359 ) : ( فياحبذا طالب العلم السلفي الذي تربى في مدرسة الصحابة والأئمة السلفيين، الذين سلكوا سبيل المؤمنين، ولم يشاقوا الرسول بالآراء المحدثة، والطرق المبتدعة، التي يُحاد بها الله ورسوله وشرعه ) !!
- وقال ( ص 364 ) : ( وأهل السنة يعلمون يقيناً أن الغلبة للحق ولو بعد حين، وأن من حكمة الله تعالى أن تكون للباطل دولة يمحص فيها الصابر المجاهد الثابت على الحق، ويخرج الله فيها دخائل النفوس، ويذهب خبث المنتسبين للدعوة، وإن كان ذلك عسيراً لا يطيقه إلا من أعانه الله فقبض على جمر الغضا وتصبر بالله تعالى على ما يراه من هجر الناس للسنة وإقبالهم على البدع والمحدثات ) !!
قلتُ : هداك الله يا أحمد ؟! لو كان الراد عليك هو الشيخ سفر أو الشيخ سلمان لالتمس لك البعض عذرًا . ولكن الذين ردوا عليك وحذروا من كتابك وطالبوك بالتوبة هم : الشيخ ابن باز - الشيخ عبد العزيز آل الشيخ - الشيخ عبد الله بن غديان الشيخ - صالح الفوزان - الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد . فهل هؤلاء من المقبلين على البدع ؟! أو الخائضين بغير هدى ولافقه في كتاب الله ؟!(118/6)
4- لازال المؤلف - هداه الله - ينقل بعض كلام علماء السنة يظنه شاهدًا له وهو شاهدٌ عليه وناقضٌ لمذهبه ! وهذا مما يدل على جهله بمذهب السلف . وقد نبه الأخ آل عبدالكريم إلى هذا في رده السابق . ومع هذا استمر الزهراني على نقل كلام العلماء الذي هو حجة عليه . من ذلك نقله ص 102
قول الشافعي - رحمه الله - : " كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم : أن الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر " .وهذا نسفٌ لمذهبه الرديئ لو كان يعقل . ومن ذلك نقله ص 221 قول شيخ الإسلام - رحمه الله - : " والمرجئة الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان ، والأعمال ليست منه ، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ، ولم يكن قولهم مثل قول جهم ، فعرفوا أن الإنسان لايكون مؤمنًا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه ، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار ، مع تصديق قلوبهم ، لكنهم إذا لم يُدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم ، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضًا ؛ فإنها لازمة لها " . فتأمل هذا الكلام الواضح ، وكأن شيخ الإسلام يرد على الزهراني نفسه ممن يقتصر على أعمال القلوب !(118/7)
5- أضاف المؤلف في كتابه هذا بعضَ علماء الدعوة إلى قائمة من ينقل عنهم ! وهذا شيئ طيب أن يرجع طالب العلم إلى كتب هؤلاء الفحول ينقل منها . ولكنه للأسف مارس معهم ما مارسه مع غيرهم من عدم الفهم لكلامهم وحشره لنصرة مذهبه الرديئ . مثلا : نقل ( ص 337 ) كلامًا مطولا للشيخ عبدالرحمن بن حسن يظنه يؤيده ، وهو عند أدنى تأمل ينقض قوله . ففي كلام الشيخ : ( فكل ما نقص من الأعمال التي لا يُخرج نقصها من الإسلام فهو نقصٌ في كلام الإيمان الواجب ) . والزهراني يظن الشيخ - رحمه الله - يرى عدم كفر تارك جنس العمل ! وفاته أنه إمام من أئمة أهل السنة ، له كلام كثير في تقرير مذهبهم في الإيمان وغيره . فانتزاع عبارات منه وإقحامها في غير موضعها ليس من صفات طلاب الحق .
6- للمؤلف عبارات جريئة ، يستغفل بها قراء كتابه ، تقلب الحق باطلا ، والمتهم بريئًا . منها :
- قوله ( ص 5 ) : ( فهذا كتاب رقمت أول حروفه قبل سنوات خمس، بعد أن حدثت الفتنة المعروفة في مسائل الإيمان، وهي الفتنة التي ظُلم فيها دعاة سلفيون ) ! قلتُ : لم يُظلموا ، بل بين العلماء خطأهم نُصحًا للأمة .
- قوله ( ص 19 ) : ( فإن الخلاف في مسائل الإيمان جر إلى فتنةٍ استهلكت الكثير من الأوقات والجهود التي نحن بأمس الحاجة إليها ) . قلت : صدقت ! ولكن ليتك عملت بهذا ، ولم تتجرأ على هذه القضية .(118/8)
- قوله ( ص 20 ) : ( وإن من أعظم العبر فيما وقع بين المتنازعين في هذه القضايا: أن رأى الجميع من الموافقين والمخالفين آثاراً محسوسة لتأصيلات بعض المخالفين في الإيمان، ممن جنح لشيء من مقول الخوارج والمعتزلة في التكفير ) !! قلتُ : هنا اتهام وتلبيس . اتهام لعلمائنا برئاسة الشيخ ابن باز - رحمه الله - أنهم يجنحون لرأي الخوارج !! وتلبيس عندما يُحملهم - وقد بينوا عقيدة السلف في الإيمان - أفعال أهل التفجير !! وهم أول من رد عليهم كما ردوا على أمثاله من الطرف الآخر . فنعوذ بالله من الجرأة .
- قوله ( ص 22 ) : ( وأظهر الله أهل الحق، وأبان عن سديد أقوالهم، وطيب منهجهم، حيث تمسكوا بحبل من الله مديد، وأووا منه إلى ركن شديد ) ! قلت : صدقت ! فقد أظهر الله عقيدة السلف - ولله الحمد - بجهود علماء السنة الذين حذروا من أهل الغلو وأهل الإرجاء . أما أنت وأمثالك ممن وقع في شيئ من الإرجاء فقد عرف الناس خطأهم فحذروهم وحذّروا منهم ، وقبل هذا ناصحوهم .
- قوله ( ص 23 ) : ( ورأينا جميعاً كيف بدأ الجميع –حتى بعض المخالفين- يرجع القهقرى، وأصبح قول السلفيين بحق بيناً صوابه، ظاهراً حسنه، إذ هو حقيقة السنة التي تحفظ على الناس دمائهم وأموالهم، وتضمن سير الدعوة والجهاد سيراً حثيثاً يؤدي غرضه، وينفي خبثه، ويحقق مصالحه، ويدرءُ مفاسده ) . قلت : صدقت ! وقول السلفيين هو قول علماء السنة برئاسة الشيخ ابن باز - رحمه الله - الذين حذروا من كتابك . فقولهم هو الذي أوقف - ولله الحمد - بدعة الإرجاء التي وقعت فيه ، وبدعة الغلو في التكفير أو المسارعة للتفجير التي وقع فيها غيرك .(118/9)
- قوله ( ص 28 ) : ( والله يعلم –وهو علام الغيوب- أني لم آل جهداً في بيان الفكرة، وشرح الموضوع، بقدر ما أستطيع، رغبةً في وصول الحقيقة بلا غبش، وأملاً في الفصل بين المتنازعين في هذه القضية الخطيرة ) . قلتُ : لا نحتاج لفصلك ! فقد فصلها كبار العلماء . فليتك حفظت وقتك فيما هو أنفع لك .
- قوله ( ص 356 ) : ( وعوداً على بدء، فإن هذه المقولة –أي (عمل الجوارح من أصل الإيمان) – كما أسلفتُ هي مضمون قول الخوارج والمعتزلة في تعريف الإيمان ) . قلت : لم يُفرق الزهراني بين قولي السلف وقول الخوارج والمعتزلة ، ولذا خلط بينهما ، وتجرأ على اتهام العلماء الذين ردوا عليه وحذروا منه - والسلف قبلهم - بتهمة اعتقاد عقيدة الخوارج والمعتزلة !! وما أقبحه من اتهام سيبوء بوزره إن لم يتب منه .
********************
ختامًا : أظن - والله أعلم - أن التعامل الأنسب مع الأخ أحمد ومن ماثله يكون بالتالي :
1- نصحه بتقوى الله ، وعدم الترفع عن قبول الحق الذي دله عليه علماؤه الكبار ، وترك ما هو عليه من " معاندة " و " حب للجدل " . فإن أبى إلا الإصرار على زلته ، فليتق الله ولا يُعيد الخلاف جذعًا .
2- شكره وتأييده فيما يُحسن فيه من مقالات ؛ كمقالاته عن المنافقين ممن يسمون الليبراليين ، وغيرها مما أجاد فيه .
3- التحذير من زلته ، ومتابعته بتحذير العلماء السابق ؛ في حال خوضه في هذه القضية ؛ لكي لاينخدع بزلته أحد .
4- نصيحة المكتبات بعدم بيع كتبه التي ينصر فيها بدعة الإرجاء ، وإرسال بيان العلماء السابق لهم .
5- إعلام كبار العلماء - لا سيما المفتي - عن إصرار الرجل على نشر زلته .
أسأل الله الهداية والتوفيق لي وللأخ أحمد ولجميع المسلمين ، وأن يجعلنا من الرجاعين للحق ، القابلين للنصح المجانبين والمحذرين من بدعتي الإرجاء والغلو في التكفير ، وهذا ما تعلمناه من علمائنا . والله الموفق .(118/10)