الفهرس
1. الإجابة عن قولهم الباطل : من خلق الله ؟!
2. ماذا قال الدكتور عبدالرحمن بدوي عن شيخ العصرانية في مصر ؟!
3. مع ( الشيوعي ) ( الليبرالي ) ( الإصلاحي ) ! الدميني .. في كتابه الأخير
4. ( ليلى الأحيدب ).. بعد ( توبة ) الكاتب سعد الدوسري تُعلن ..؟
5. تنبيه ولاة الأمور ... إلى خطر التساهل في السماح بالشرور .. للشيخ ؟!
6. بين الملك عبدالعزيز - رحمه الله - .. والدكتور غازي القصيبي .. !
7. باحثٌ مسلم .. يرصد الدعم الغربي للصوفية
8. الإنجليزي الماكر.. الذي خدع ( طوال الشوارب ) .. !
9. براءة الخيام من رباعياته !! ( وفتوى الشيخ المنجد ) - للبحث -
10. يا أهل السنة : من ألمّ بشيئ من البدعة فليصنع كما صنع إبراهيم بن جاسر
11. تعليقٌ على دعوى يرددها بعض الفضلاء عن حال البلاد قبل الدعوة الإصلاحية
12. نظرات في كتاب " الحرية أو الطوفان " د حاكم المطيري ومواجهة أخوية معه
13. يا أهل السنة : لنستمع - جميعًا - إلى نصيحة الإمام ابن قتيبة رحمه الله
14. كتابٌ جديدٌ عن المرجئة .. وبيان سَلف الزهراني - هداه الله -
15. هل الأشاعرة من أهل السنة ؟! ( تعقيبًا على موقع الإسلام اليوم )
16. فطنة الشيخ أحمد شاكر .. وغفلة الشيخ عيد عباسي .. ورد الشيخ الفوزان
17. كيف احتل الإنجليز بلاد الهند المسلمة ؟!
18. عالم شيعي يعود إلى السنة ويؤلف رسالة في نقض مذهب الرافضة
19. إلى ( محمد آل الشيخ ) : خطاب للملك عبدالعزيز .. يهمك
20. قصة رجوع عالم تونس ( محمد المكي بن عزوز ) ... من القبورية إلى السلفية
21. هل انخدع الإخوان المسلمون بالشيعي نواب صفوي ؟!
22. من نابليون ( في مصر ) ... إلى بوش ( في العراق ) .. الخطة لم تتغير !
23. ياجريدة الجزيرة .. لماذا الترويج لهذا العَلماني ..؟
24. (( 6 )) أصول يلتقي عليها أهل السنة
25. كتاب( عمر والتشيع ) للسياسي العراقي العلوي .. ( 4 ) وجهات نظر
26. ( 8 ) قواعد مهمة لمن أراد نقاش المخالفين لدعوة الشيخ محمد - رحمه الله
27. حكم الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية
28. تعقيبان عقديّان .. على الشيخ علي الحلبي - وفقه الله -
29. قراءة في كتاب الغذامي الجديد : ( حكاية الحداثة في المملكة )
30. عصراني يُهرول خلف قبوري !! ( يوسف أبا الخيل وحسن السقاف)
31. ابنُ أحد العصرانيين يقول : ( والدي لا يصوم ولا يصلي .. ) .. !
32. تعقيب على الشيخ سلمان في مقاله عن أبي غدة
33. عودة إلى ( عبدالوهاب المسيري ) .. وعلمانيته
34. كذبة طاش وبدرية البشر على العلماء .. في مسألة البرقيات .. !
35. إلى الشيخ القرضاوي : خالف الإجماع ولكن لاتنسبه لابن القيم ( مع هدية )
36. (العلماء والنفط ) كذبة رددها العواجي وآل الشيخ ..ماذا قال عنها الطريقي؟
37. جماعة الإخوان تدعو للتقارب مع الشيعة .. والخطيب يرفض .. !
38. مقتطفات من مذكرات : القومي الكويتي د أحمد الخطيب
39. عودة الشيخ عبدالقادر السندي - رحمه الله - إلى السلفية
40. ( تسلسل الحوادث ) بين الشيخ الألباني .. والشيخ سفر الحوالي
41. مابالُ أقوامٍ لم يدَعوا لنا خالدًا القسري ؟!
42. قبل أن نندفع خلف ( مؤتمرات الحوار بين الأديان ).. ورسالة لخادم الحرمين
43. حكاية مسؤول يسعى لنشر (الاختلاط) ، والحلقة (2) من خدعوك ..، وشكر للأمير فيصل بن مشعل
44. زوار السفارات .. ساهموا في سقوط ( الدولة العثمانية ) .. !
45. حداثي وشيخ يتفقان على ( الخصوصية السعودية )... وبرقية مشرفة للملك فهد
46. كتابي عن ( القصيمي ) هدية + اعتراف مرافقه +3 إضافات + خبر مفرح عن حفيده !
47. هل يفعل مبتعثونا .. مثل ما فعل الطالب الياباني ( تاكيو أوساهيرا ) ؟!
48. إذا اجتمع ( عالم السوء ) مع ( الحاكم بأمره ) .. فلا تسل عن حال الأمة
49. ( دعوة تحرير الرجل ) .. بطلها قاسم أمين " آخر " .. فاسمعوا ما يقول ؟!
50. أحد وجهاء ( آل البيت ) يوجه لهم نصيحة سديدة ..
51. عودة الشيخ المعصومي إلى العقيدة السلفية ..
52. (دعوة تحرير الرجل ) .. بطلها قاسم أمين " آخر " .. فاسمعوا ما يقول ؟!
53. كتابي : ( الخطوة الأولى ) .. أهديه لدعاة الفضيلة + بيان مهم لعلماء مكة
54. العالم الحضرمي ( باصبرين ) والعالم النجدي ( السناني ) كسرا الحواجز .. فأفلحا
55. اتصال الشيخ الطنطاوي بالشيخ البيطار سبّب له أزمة " وهابية " ! .. أما الآن فتغير الحال
56. رأي الرافضة في صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - !
57. بمناسبة استضافة ( الجابري ) أعيد نشر اعترافه،وأنيس منصور يضحك على الحرس الوطني!!
58. تقارب السنة والشيعة .. بين محب الدين الخطيب و حسن البنا
59. تعقيب على الدكتورة ( ليلى الأحدب ) في ترويجها للسفور والإختلاط
60. كفريات ( محمد أركون ) !! - تعليقًا على عادل الطريفي -
61. نقد الفكر الغربي (1) : نقد البراجماتية
62. موقف أئمة الدعوة السلفية .. من أهل البيت
63. الرد على .. [ الماجن] الذي أوصى بقراءة كتب قاسم أمين !
64. فعلها( كوناكاتا ) فهل يفعلها ( خالد الغنامي )؟ - بخصوص اتهام ابن تيمية-
65. هل سمعتم بالداعية : ( جورج محمد ) ؟!
66. عندما استسلم اليهود للقائد البطل عبدالله التل !
67. كلمة كفرية للملك فيصل بن حسين .. ورد الشيخ رشيد رضا عليه !
68. كيف حدثت مشكلة جنوب السودان ؟!
69. من يعيد لنا سهيلة زين العابدين ؟!
70. وصف العلماء ( للعصرانيين ) وتدينهم !
71. الليبرالية ..... النبت اليهودي !!
72. خطأ شنيع في أحد كتب الشيخ الألباني رحمه الله ..!
73. سياسة الملك عبدالعزيز والعلماء في تحقيق الأمن الفكري للسعودية
74. هذه قصة الفتاة المغربية .. ( نزهة كويز ) .. مع الهلالي !
75. أكذوبة ......... تُردّد في الصحافة السعودية !
76. فعلها علماء اليمن ... فهل يفعلها علماء مصر ؟!
77. ايضاح الإشكال .. في مقال : أحمد بن باز
78. هداك الله ........... يا ( عداب الحمش ) !
79. سألني سائل عن الدكتور عبدالله الحامد ...!
80. بين ( عبدالله ) القصيمي .. و ( عبدالله ) الحامد ..!
81. هل تُصدق أن ( الدكتورة نوال السعداوي ) كانت .......!
82. الكاثوليك .. الأرثوذكس .. المارون .. البروتستانت
83. حقيقة الصوفي .. ( أحمد كفتارو ) .. !
84. تعقيب على ... الدكتورة عزيزة المانع
85. المزيد .. عن دين النقيدان الجديد .. !! ( الإنسانية )
86. ( الاختلاط ) .. بين المفسدين في السعودية و الشيوعي خالد بكداش ..!
87. الشيعي ( حسن الصفار ) والكذب على ( الشيخ الألباني ) ..!!
88. بين الآمدي وابن تيمية ... في الرد على الرافضة ..!
89. تعرف على الملحد .. ( صادق العظم )
90. ( المغفل النافع ) .. وصف صادق لأهل التفجير ..!!
91. الإمام ( تركي بن عبدالله ) ...يُقرب البطانة الصالحة ويُبعد الفاسدة
92. ( اليونسكو ) .. ودورها المشبوه ..! - حقائق -
93. شاكر النابلسي ..! ( حقائق عنه )
94. عبرة للدعاة من حياة الشيخ حسن البنا رحمه الله
95. وفي السعودية ...... ( لحى ليبراليه ) !!
96. مجلة ( الإسلام اليوم ) .....و ( رضوان السيد ) ..!
97. نصر حامد أبو زيد ... و ( الهرمنيوطيقا ) ..!
98. الإجابات ... عن مازعمه ( ابن زلفه ) من المبررات ..!
99. الفرق بين : زواج المسيار ..وزواج المتعة .101. ماذا قال ابن باز فيما نشرته (الحياة) بالأمس؟ ومناشدة للأمير خالد بن سلطان
100. فيلسوف القومية العربية ... ( ساطع الحصري ) .. !
102. ( 4 ) روايات تاريخية باطلة
103. اللهم احفظ الملك عبدالعزيز إلى نِصْفُوو ... !
104. كذبتان سياسيتان على معاوية - رضي الله عنه - ( مع تفنيدهما )
105. من هم التكفيريون ؟؟؟
106. تعليقًا على لقاء الملك : ( كنيسة في الظهران زمن الملك عبدالعزيز) !!
107. توبة ( عبدالعزيز بن محمد آل سعود ) ..!
108. مناشدة الأخ ( حسن آل مهدي ) .. بين ( سيد قطب ) و ( أحمد شاكر) ..!
109. يا ( بني علمان ) ..... ما قولكم في اليابان ؟!
110. في خضم حملة المقاطعة : هل تجوز مقولة ( إننا نحترم الأديان السماوية) ؟!
111. في زمن حكم الأشراف: مقتل القنصل البريطاني في جدة ...
112. ( ثريا عبيد ) ماذا قالت عن الحجاب .وبماذا رد عليها د عبدالله النفيسي؟
113. قال لي : ( ترا ماني مطوع ) .. وأتبرع بهذا الموقع .. !
114. هداك الله .. يا دكتور فاروق حمادة .. !
115. خبير أمريكي ينصح بلاده بعدم فضح الليبراليين العرب !!
116. فهمان خاطئان لعبارة ( لحوم العلماء مسمومة ) ..
117. هداك الله .. يا أحمد الزهراني .. !. والزواج العرفي(1/1)
(1/2)
49. ( دعوة تحرير الرجل ) .. بطلها قاسم أمين " آخر " .. فاسمعوا ما يقول ؟!
50. أحد وجهاء ( آل البيت ) يوجه لهم نصيحة سديدة ..
51. عودة الشيخ المعصومي إلى العقيدة السلفية ..
52. (دعوة تحرير الرجل ) .. بطلها قاسم أمين " آخر " .. فاسمعوا ما يقول ؟!
53. كتابي : ( الخطوة الأولى ) .. أهديه لدعاة الفضيلة + بيان مهم لعلماء مكة
54. العالم الحضرمي ( باصبرين ) والعالم النجدي ( السناني ) كسرا الحواجز .. فأفلحا
55. اتصال الشيخ الطنطاوي بالشيخ البيطار سبّب له أزمة " وهابية " ! .. أما الآن فتغير الحال
56. رأي الرافضة في صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - !
57. بمناسبة استضافة ( الجابري ) أعيد نشر اعترافه،وأنيس منصور يضحك على الحرس الوطني!!
58. تقارب السنة والشيعة .. بين محب الدين الخطيب و حسن البنا
59. تعقيب على الدكتورة ( ليلى الأحدب ) في ترويجها للسفور والإختلاط
60. كفريات ( محمد أركون ) !! - تعليقًا على عادل الطريفي -
61. نقد الفكر الغربي (1) : نقد البراجماتية
62. موقف أئمة الدعوة السلفية .. من أهل البيت
63. الرد على .. [ الماجن] الذي أوصى بقراءة كتب قاسم أمين !
64. فعلها( كوناكاتا ) فهل يفعلها ( خالد الغنامي )؟ - بخصوص اتهام ابن تيمية-
65. هل سمعتم بالداعية : ( جورج محمد ) ؟!
66. عندما استسلم اليهود للقائد البطل عبدالله التل !
67. كلمة كفرية للملك فيصل بن حسين .. ورد الشيخ رشيد رضا عليه !
68. كيف حدثت مشكلة جنوب السودان ؟!
69. من يعيد لنا سهيلة زين العابدين ؟!
70. وصف العلماء ( للعصرانيين ) وتدينهم !
71. الليبرالية ..... النبت اليهودي !!
72. خطأ شنيع في أحد كتب الشيخ الألباني رحمه الله ..!
73. سياسة الملك عبدالعزيز والعلماء في تحقيق الأمن الفكري للسعودية
74. هذه قصة الفتاة المغربية .. ( نزهة كويز ) .. مع الهلالي !
75. أكذوبة ......... تُردّد في الصحافة السعودية !
76. فعلها علماء اليمن ... فهل يفعلها علماء مصر ؟!
77. ايضاح الإشكال .. في مقال : أحمد بن باز(1/3)
الإجابة عن قولهم الباطل : من خلق الله ؟!
هذه أولى مشاركاتي في الساحة ؛ أحببت أن تكون عن كشف شبهة رأيت بعض الملحدين من أنصاف المتعلمين يرددها في مقالاته ؛ وهي مقولة ( من خلق الله ؟ ) التي قد تخطر في أذهان بعض المؤمنين ، لكنهم يعالجونها بالوصفة الشرعية التي دلهم عليها خير البشر صلى الله عليه وسلم في قوله ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ) أخرجه البخاري ومسلم ،
وفي رواية لمسلم ( فليقل : آمنت بالله ورسوله ) .
وهذا العلاج السريع يقطع الشبهة من أصلها لكي لا تفسد على المسلم تفكيره وإيمانه لو استرسل معها ؛ لأن الناس يتفاوتون في عقولهم ، وليسوا كلهم سيدرك بطلان هذه المقولة الشيطانية لو حللت له ونقضت ، ولهذا يكتفى معه بهذا العلاج العاجل الذي يقيه المرض بإذن الله . أما أصحاب الشكوك والحيرة من أنصاف المتعلمين فيستخدم معهم أسلوب آخر يعري لهم هذه المقولة ؛ لأنهم حتما لن يقتنعوا بالعلاج الأول الذي يتكئ على إيمان الشخص وفطرته .
وقد وجدت أن الشيخ عبدالرحمن الميداني في كتابه ( كواشف زيوف ، ص 520 - 524 ) قد أجاد في تفنيد هذه الشبهة ؛ فلهذا أحببت نقل كلامه ليستفيد منه القراء . جنبني الله وإياهم حال أهل الشك والريب .
يقول الشيخ عبدالرحمن : "يردد الملحدون مقولة الشيطان التي يقول فيها كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟".
1- فمن الذين ردّدوا هذه الوسوسة الشيطانية الفيلسوف "هيوم" فقال: "إذا كان لابد لنا من البحث عن علّة لكل شيء، لوجب إذن أن نبحث عن علّة للإله نفسه".(2/1)
2- ومن الذين ردّدوها الفيلسوف "هربرت سبنسر" فقال: "استمع إلى هذا الناسك المتدين، هاهو ذا يقصّ عليك علّة الكون، وكيف نشأ، فخالق الكون عنده هو الله، ولكنه لم يفسّر بهذا الرأي من المشكلة شيئاً، ولم يزد على صاحبه (أي: المنكر للخالق) سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء.
وكأني بك تسائله في سذاجة الطفل: ومن أوجد الله؟".
3- وأخذ الملحد العربي "صادق جلال العظم" هذه الفكرة من "سبنسر" فقال في كتابه "نقد الفكر الديني" في الصفحة (28):
"وفي الواقع علينا أن نعترف بكل تواضع بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون. عندما تقول لي: إن الله هو علّة وجود المادة الأولى التي يتألف منها الكون، وأسألك بدوري: وما علة وجود الله؟ إن أقصى ما تستطيع الإجابة به: لا أعرف إلا أن وجود الله غير معلول.
ومن جهة أخرى عندما تسألني: وما علة وجود المادة الأولى؟ فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به، لا أعرف إلا أنها غير معلولة الوجود. في نهاية الأمر اعترف كل منا بجهله حيال المصدر الأول للأشياء، ولكنك اعترفت بذلك بعدي بخطوة واحدة، وأدخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة.
والخلاصة، إذا قلنا: إن المادة الأولى قديمة وغير محدثة، أو أن الله قديم وغير محدث، نكون قد اعترفنا بأننا لا نعرف، ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الأول للأشياء، فالأفضل إذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرة، عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية، وبكلمات وعبارات رنانة. ليس من العيب أن نعترف بجهلنا، لأن الاعتراف الصريح بأننا لا نعرف من أهم مقومات التفكير العلمي". انتهى .
كشف الزيف إن التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، حجة يوسوس بها الشيطان للإنسان، منذ بدأ الفكر الإلحادي يدبّ إلى أذهان بعض الناس.(2/2)
وهذه الحجة الشيطانية تزعم أن الإيمان بأن الله هو المصدر الأول للأشياء، والوقوف عنده، يساوي نظرياً وقوف الملحدين عند المادة الأولى للكون، التي يطلقون عليها اسم السديم، وتزعم أن كلا الفريقين لا يجد جواباً على التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، إلا أن يقول: لا أعرف ، إلا أن وجود هذا الأصل غير معلول، وتزعم أن الملحد اعترف بهذا قبل المؤمن بخطوة واحدة.
وبعد هذه المزاعم يخادع مطلقوها بأن إعلان الجهل والاعتراف به من متطلبات الأمانة الفكرية، حين لا توجد أدلة وشواهد وبراهين كافيات.
ولدى البحث المنطقي الهادئ يتبين لكل ذي فكر صحيح، أن هذه الحجة ليست إلا مغالطة من المغالطات الفكرية، وهذه المغالطة قائمة على التسوية بين أمرين متباينين تبايناً كلياً، ولا يصحّ التسوية بينهما في الحكم .
وفيما يلي تعرية تامة لهذه المغالطة من كل التلبيسات التي سُترت بها.
إننا إذا وضعنا هذه المغالطة بعبارتها الصحيحة كانت كما يلي:
ما دام الموجود الأزلي الذي هو واجب الوجود عقلاً ولا يصح في حكم العقل عدمه بحالٍ من الأحوال غير معلول الوجود، فلمَ لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود أيضاً ؟!
إن كل ذي فكر صحيح سليم من الخلل، يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يقاس الحادث على القديم الأزلي الذي لا أوّل له، فلا يصح أن يشتركا بناءً على ذلك في حكم هو من خصائص أحدهما.
على هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صُنعت هذه المغالطة الجدلية.
أما أزلية الخالق، وعدم احتياج وجوده إلى علة، فبرهان ذلك يمكن إيجازه بما يلي:
إن العدم العام الشامل لكل شيء يمكن تصوره في الفكر، لا يصح في منطق العقل أن يكون هو الأصل. لأنه لو كان هو الأصل لاستحال أن يوجد شيءٌ ما.(2/3)
إذن: فلابد أن يكون وجود موجودٍ ما، هو الأصل، ومن كان وجوده هو الأصل فإن وجوده لا يحتاج عقلاً لأية علّة، بل وجوده واجب عقلاً، ولا يصح في العقل تصور عدمه، وأي تساؤل عن علةٍ لوجوده لا يكون إلا على أساس اعتبار أن أصله العدم ثم وُجد، وهذا يتناقض مع الإقرار باستحالة أن يكون العدم العام الشامل هو الأصل الكلي.
ومن كان وجوده واجباً بالحتمية العقلية باعتبار أنه هو الأصل، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتصف بصفات تستلزم أن يكون حادثاً.
أما ادعاء أصليّة الوجود للكون بصفاته المتغيرة فهو ادعاء باطل، وذلك بموجب الأدلة التي تثبت أنه حادث وليس أزلياً.
إن هذا الكون يحمل دائماً وباستمرار صفات حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة النظرات العقلية المستندة إلى المشاهدات الحسية، وتشهد بها البحوث العلمية المختلفة في كل مجال من مجالات المعرفة، والقوانين العلمية التي توصل إليها العلماء الماديون.
وإذ قد ثبت أن هذا الكون عالم حادث، له بداية وله نهاية، فلا بد له حتماً من علة تسبّب له هذا الحدوث، وتخرجه من العدم إلى الوجود، وذلك لاستحالة تحول العدم بنفسه إلى الوجود.
أما ما لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه مطلقاً، وتقضي الضرورة العقلية بوجوده، فوجوده هو الأصل. لذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجد يوجده، وكل تساؤلٍ عن سبب وجوده تساؤل باطلٌ بالحتمية العقلية، لأنه أزلي واجب الوجود، ولا يمكن أن يكون غير ذلك عقلاً، وليس حادثاً حتى يتساءل الفكر عن سبب وجوده.
وهنا نقول: لو كانت صفات الكون تقتضي أزليته، لقلنا فيه أيضاً كذلك. لكن : صفات الكون المشاهدة المدروسة تثبت حدوثه.
يضاف إلى هذا أن مادة الكون الأولى عاجزة بطبيعتها عن المسيرة الارتقائية التي ترتقي بها ذاتياً إلى ظاهرة الحياة، فالحياة الراقية في الإنسان.(2/4)
بهذا تنكشف للبصير المنصف المغالطة الشيطانية التي يوسوس بها الشيطان، وتخطر على أذهان بعض الناس، بمقتضى قصور رؤيتهم عن استيعاب كل جوانب الموضوع وزواياه، فهم بسبب هذا القصور في الرؤية يتساءلون: وما علّة وجود الله؟
إنها مغالطة تريد أن تجعل الأزلي حادثاً، وأن تجعل واجب الوجود عقلاً ممكن الوجود عقلاً وأن الأصل فيه العدم، ليتساءل الفكر عن علة وجوده. أو تريد أن توهم بأن ما قامت الأدلة على حدوثه هو أزلي، أو هو واجب الوجود لذاته، لتسوي بين الحادث والأزلي في عدم الحاجة إلى علةٍ لوجوده.
وتريد هذه المغالطة أن تطمس الضرورة العقلية التي تقضي بأن الأصل هو وجود موجودٍ أزلي، وهذا الموجود الأزلي لا يصح عقلاً أن يُسأل عن علة لوجوده مطلقا ؛ لتنافي هذا السؤال مع منطق العقل ، وهذا الموجود الأزلي لا يمكن أن تكون له صفات تستلزم حدوثه.
أما الكون فصفاته تستلزم - بالبراهين العقلية والأدلة العلمية المختلفة- حدوثه، لذلك كان لابد من السؤال عن علةٍ لوجوده، ولا تكون هذه العلة إلا من قبل الموجود الأزلي، الذي يقضي منطق العقل بضرورة وجوده، خارجاً عن حدود الزمن ذي البداية والنهاية، وخلاف ذلك مستحيل عقلاً.
والحدوث من العدم العام الشامل دون سببٍ من موجود سابق له مستحيلٌ عقلاً – كما سبق بيانه - ))) انتهى كلام الأستاذ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني – جزاه الله خيرًا - .(2/5)
ماذا قال الدكتور عبدالرحمن بدوي عن شيخ العصرانية في مصر ؟!
يتميز الدكتور والمفكر الراحل عبدالرحمن بدوي – رغم التحفظات على فكره – بميزة لاتجده عند كثير إن لم يكن كل المفكرين المعاصرين ؛ وهي صراحته ووضوحه وجهره برأيه الحقيقي في شخصيات عصره ، دون مجاملة لأحد منهم . ومن يطالع مذكراته التي نشرها بعنوان ( سيرة حياتي ) يتيقن هذا .
وهذه الميزة قد لاتكون من صالح الدكتور بدوي ؛ لأنها أفقدته كثيرا من أهل عصره ، الذين نفروا منه لأجلها ، وتجانبوه . ولكنها مفيدة ونافعة لمن أراد معرفة الأمور على حقيقتها أو رؤية الجانب الآخر فيها دون تزويق أو تلميع .
ومن ذلك ما ذكره الدكتور بدوي في سيرته عن شيخ العصرنة المسمى زورًا بالإمام !! محمد عبده ، وهو من الشخصيات التي صنعت على عين الإستعمار الإنجليزي ، ثم نفخ فيها العلمانيون المستغربون لحاجة في نفوسهم ،وقد بين هذا بالحقائق كثير من الشرفاء الذين ينفذون إلى حقائق الأمور ، ولا يكتفون بقشورها الزائفة .
وقد أحببت أن يطلع القارئ على هذا الرأي :
يقول الدكتور بدوي ( 1/ 51) بعد أن ذكر شيئا من خبث اللورد كرومر الحاكم الإنجليزي لمصر أثناء الإحتلال : (فهل يجوز بعد هذا لأي مصري -مهما كان حظه من الوطنية ضئيلاً- أن يصادق مثل هذا الرجل؟ لكن هذا هو ما فعله الشيخ محمد عبده، مفتي الديار المصرية، و"المصلح الديني" المزعوم! فقد انعقدت بينه وبين لورد كرومر علاقة حميمة -إن صحَّ أن توصف بالحميمة - علاقة التابع بالمتبوع، والذليل بالجبار، والمطيع الخاضع بالآمر المستكبر. بل كان محمد عبده هو نفسه يتفاخر ويتباهى بهذه العلاقة الوثيقة بينهما، وبينه وبين سلطة الاحتلال، كما ورد في رسالة منه إلى رشيد رضا لما أن خاف هذا الأخير من أن يعتقله الإنجليز (راجع رسائل محمد عبده إلى رشيد رضا في "تاريخ الإمام محمد عبده" للشيخ رشيد رضا).(3/1)
وقد استغلَّ كرومر علاقته هذه بمحمد عبده فجعله يكتب مقالات ضد محمد علي، رأس الأسرة العلوية، بمناسبة مرور مائة عام على توليه حكم مصر، وذلك في سنة 1905، وكان ذلك قبيل وفاة محمد عبده بقليل (راجعها في الكتاب المذكور).
ومع ذلك كان –وظل حتى اليوم- لمحمد عبده أنصار ومعجبون وممجّدون مغالون!! وإذا سألتهم: ماذا يعجبكم فيه: أهذا التواطؤ على طاغية الاستعمار البريطاني في مصر؟ لم يجدوا جواباً ؛ لأن الوقائع تدفعهم، بل لاذوا بدعوى "الإصلاح الديني" وزعموا أنه كان "مصلحاً دينياً". فنسألهم: أي إصلاح ديني قام به؟ لم يستطيعوا أن يذكروا إلا تفاهات شكلية، مثل تحليل لبس القبعة -وكأن هذا أمرٌ خطير جداً به يكون المرء "مصلحاً دينياً" كبيراً !!
وهكذا الأمر في كثير من أمر الشهرة في مصر والبلاد العربية والإسلامية! لقب يطلقه مخدوع أو خادع، فيتردد بين الناس في عصره، وينتقل من جيل إلى جيل، ولا أحد يتحقق من صواب إطلاق هذا اللقب وخلع هذه الشهرة !!
ولو كان لمحمد عبده من الإنتاج الفكري ما يشفع له في نيل هذا اللقب، لا تسع وجه العُذر. ولكنه كان ضئيل الإنتاج جداً، إذ ليس له إلا كتاب صغير هو "رسالة التوحيد" -وهي دروس ألقاها في بيروت بعد خروجه من مصر، وهي متن في علم التوحيد واضح العبارة، حسن الأسلوب، لكنه من حيث المادة خجل بسيط لا يفيد إلا المبتدئين في هذا العلم. وما عدا هذه "الرسالة"، ليس له إلا تعليقات لغوية بسيطة على "مقامات" البديع الهمذاني و"البصائر النصيرية للساوي" و"نهج البلاغة" المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب" ) . انتهى كلام بدوي .(3/2)
قلت : ومن يطالع رسالة التوحيد لمحمد عبده التي اغتر بها عبدالرحمن بدوي يعلم أنها – أيضا – ليست إصلاحا حقيقيا ! لأنها قائمة على تقرير توحيد الربوبية الذي لم ينكره المشركون !! وقائمة على المذهب الماتريدي والأشعري في قضية الصفات وغيرها ، وجهل بمذهب السلف حيث ظنه التفويض ، إضافة إلى تعظيم العقل على حساب الوحي ؛ مما جعل بعض علماء الشيعة يثنون عليها ! ( انظر الصفحات : 33، 62، 66، 72، 202، 246، 248 من طبعة بسام الجابي ) .(3/3)
مع ( الشيوعي ) ( الليبرالي ) ( الإصلاحي ) ! الدميني .. في كتابه الأخير
أرجو أن لا يتعجب القارئ من اجتماع " الشيوعية " و " الليبرالية " في شخص واحد ؛ لأننا في زمن تحولات من يسمون بالمثقفين العرب من أقصى اليمين - إن كان يمينًا حقًا - إلى أقصى اليسار ، فينما ترى الواحد منهم يساريًا يترنم بـ " متون " ماركس وصاحبه ، إذا به عن قريب يتحول إلى داعية من دعاة العولمة والأمركة ! فهم كما قيل :
يومًا يمانٍ إذا لاقيتَ ذا يمنٍ *** وإن لقيتَ معديّا فعدناني
- والأعجب من هذا أن الجميع - مهما تنقل أو تحول أو تناقض - يدعي " الإصلاح " ! وقد أخبرنا تعالى في كتابه عن إصلاحين : إصلاح المفسدين ، وإصلاح الأنبياء وأتباعهم . وتفصيله في هذا الرابط.
والبعض للأسف يغتر بما يراه من إصلاح ضئيل عند المفسدين في مجال " المال " ، ويتغافل عن " انحرافات " بل " كفريات " تخفيها دعواتهم البراقة . وإسلام مع شيئ من " الأثرة " خيرٌ من " إصلاح مالي " - موعود ! - مع " كفر " و " علمنة " .
- ويجد القارئ في كتاب " خيانة المثقفين " للدكتور عبدالحكيم بدران نماذج محزنة لهؤلاء . وأقول " محزنة " لأن معظمهم من أبناء المسلمين الذين بحثوا عن سعادتهم في الاقتيات على موائد الشرق والغرب ، راضين أن يكونوا مجرد " وكلاء " له ، فرارًا من دين الله الذي ارتضاه لهم ، وجعله سبب فلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة . ولو عملوا بقوله تعالى : ( ففروا إلى الله ) لارتاحوا وأراحوا . ومن كان منهم من أهل هذه البلاد فيا حسرته عندما يفرّط في نعمة الله التي أتته بيضاء نقية كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم . فإن كان البعضُ يعذر مثقفي البلاد الأخرى الذين ضاقت عليهم الخيارات حتى غدت : إما العلمنة أو الصوفية الخرافية ، فما عذر أصحابنا ؟ سوى التقليد و " تكلف " المعاناة محاكاة للآخرين !
***************(4/1)
لقد قدِم الدميني " ابن القرية الجنوبية الهادئة " - بعد الثانوية - إلى المنطقة الشرقية للدراسة في جامعة البترول والمعادن ، فكان الاحتكاك الأول بمجتمع " أرامكو " المنفتح ، حيث " السينما " و الاختلاط .. الخ مما أصابه بصدمة حضارية ! أثرت على توجهه إلى هذه الساعة ، وجعلته " صيدًا " سهلا للمتربصين . يقول الدميني : " هزتني تجربة الحياة الجامعية الاجتماعية في تلك السنوات الغنية من عمر تجربة كلية البترول والمعادن ؛ فخرجت من ثيابي القروية " ( أعلام الأدب العربي المعاصر ، كامبل ) . ثم يحكي تعرفه على أشعار أدباء الحداثة ، وتأثره بهم .
احتضن الأديب " الشيعي " محمد العلي : الدميني مبكرًا - عام 1972م - ، " ففتح - كما يقول الدميني - نافذة الشعر أمامي على العديد من الشعراء .... - إلى أن يقول - وكان لأستاذي الكبير محمد العلي من قبل ومن بعد فضيلة المطر ورائحة الماء " ! ( المصدر السابق ) .
وللفائدة : من تأمل بدايات تكوين الأحزاب في عالمنا العربي وجدها تبدأ - غالبًا - من " نصارى أو يهود العرب " أو من " الأقليات الشيعية - بأقسامها - " ؛ لأنهم يجدون فيها متنفسًا ومنفذًا متسترًا للوصول إلى حكم أي بلد يتشكلون فيه ، وللتمويه فإنهم يحرصون على ضم من يأمنونه من أبناء المسلمين المغفلين ، والمنخدعين بالأوهام . ( قارن بتسلط النصيريين على حكم سوريا بواسطة حزب البعث ) .
************(4/2)
صدر للدميني كتاب صغير بعنوان " زمن للسجن .. أزمنة للحرية " يحكي فيه - بإطالة مملة - تجربته مع السجن ( مرة عندما كان شيوعيًا ومرة عندما أصبح ليبراليًا إصلاحيًا ! ) ، وتجربته في ارتباطه بما يسمى الحزب الشيوعي في السعودية ! وقد هوّل أمره حتى أوهم القارئ أنه يعيش في كوبا أو الصين ! والأمر لا يعدو أن يكون مجرد عشرات من الشباب الطامحين ، ثلاثة أرباعهم من " الشيعة " ! ، ثم حديث عن دعوته الأخيرة للإصلاح ! مع نقولات مطولة للبيانات التي صدرت في السنوات الأخيرة ، تطالبُ - كما تزعم - بهذا الإصلاح . ثم ذكر التحقيق الذي تم معه ، وختم بمجموعة قصائد له . وهذه مقتطفات لفتت نظري مع تعليق موجز :
- في ص 18 يقول عن الأمن السعودي : ( إنني أتساءل عن سر نجاحهم في إلقاء القبض على أحد عشر مثقفاً من المهتمين بالشأن العام في نفس اليوم والساعة، وعن عدم نجاحهم مع الإرهابيين؟ ) ! وفي هذا لمزٌ مبطن برجال الأمن ومن يقودهم أنهم متواطؤون مع المفجرين ، والواقع يُخالف هذا اللمز .
- في ص 78 قال واصفًا أحد أئمة المساجد : ( رافعاً صوته بالبكاء تارة، وبالدعاء للمجاهدين في أفغانستان، والشيشان، وتارة بالدعاء على أعداء الأمة من الكفرة والصليبيين، ولكنه لم يتعرض ببنت شفة للإرهاب والإرهابيين في بلادنا، الذين استحلوا دماء الأبرياء من مواطنين ومقيمين ) ! وهذا الانتقاء - إن كان كلامه صادقًا - له مقاصده التي لا تخفى على القارئ .
- في ص 30 قال : ( وقد عمت تلك المظاهرات المنطقة الشرقية، والرياض، مما شجع الحكومة على قطع البترول عن الدول الغربية وأمريكا لمدة ثلاثة أشهر ) ! وفي هذا نسبة الفضل - قطع البترول عن الغرب زمن الملك فيصل رحمه الله - لغير أهله .(4/3)
- في ص 46 يقول معترفًا بشيوعيته : ( عرفت أن " الشيوعية " ، هي إحدى المراحل التاريخية في سياق تطور المجتمعات، التي ينعم فيها الناس بالحرية وتقاسم الخيرات ) ! ومصداق هذه الحرية ما رأيناه في " الاتحاد السوفيتي " !
- في ص 162 : يعترف بليبراليته - متحدثًا عن أحد خطاباتهم - ( وبكونه صياغة واضحة تعبر عن التيار الليبرالي العريض ) ! ووصف " العريض " مقحم للتكثر ، وإلا فهم يعلمون أنهم مجرد شرذمة محدودة ، تمردت على الدين قبل الوطن .
- في ص 65 يقول : ( إن الخط الإصلاحي في القيادة يحتاج إلى الدعم الذي تقدمه له خطاباتنا للمضي في الإصلاح ) . ومثلها قوله في ص 165 : ( رأت بعض الأطياف الليبرالية، أن الحكمة تستدعي مساندة الطرف الأكثر قبولاً بالإصلاح السياسي ) .
وهذا ذمٌ للملك عبدالله بما يُشبه المدح ، أو ذم لأبيه الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ولإخوانه الملوك من قبله ؛ لأن هذا الإصلاح السياسي المؤمل منه إن كان يتعارض مع الشرع فهو ذمٌ لا مدح ، وإن كان لا يتعارض فهو ذمٌ لأبيه ولإخوانه .
- في ص 82 وصف صاحبه " الأديب " عبدالله الحامد - هداه الله - بأنه : ( الوطني الغيور والباحث الأكاديمي والذي يعد رائداً لتجديد الخطاب الديني في بلادنا ) ! ولا أدري ما هي مؤهلات الحامد ليُجدد لنا الخطاب الديني ! أو أن تجديده المزعوم وافق هوى الدميني ورفاقه ؛ فاستمتع بعضهم ببعض ؟ ولمعرفة ماعند الحامد - رده الله - يُنظر ( هذا الرابط ) و ( هذا الرابط ) . وعن تجديد الخطاب الديني انظر ( هذا الرابط ) .
- في ص 87 قال : ( المسلسل المحلي (طاش ما طاش) الذي تعرّض وباستمرار، إلى نقد خطباء المساجد وضيوف البرامج الدينية، وكان أكثر ما يغيظني تركيزهم على الفنانة زينب العسكري، لأنها الوحيدة التي تمتلك بعض مواصفات الجمال في كل برامج " طاش ما طاش " ) ! وهذه الكذبة لا تحتاج لتعليق ؛ حيث ربط التحريم بجمال العسكري !(4/4)
- في ص 98 قال متحدثًا عن المحققَيْن اللذيْن حققا معه في " هيئة التحقيق " : ( وهنا سمح الشيخان لي بكتابة إجابتي، التي اختصرتها في إحالتهم إلى ما تنشره الصحف هذه الأيام، وإلى البحث الذي قدمه الشيخ عبدالعزيز القاسم والشيخ السكران، إلى مؤتمر الحوار الوطني، وإلى كتابات الدكتور حمزة المزيني، وإلى أبحاث الشيخ حسن فرحان المالكي ) ! أما القاسم والسكران - هداهما الله - فقد أخطأآ خطأ شنيعًا عندما اتهما مناهجنا بما هي بريئة منه بلغة انتقائية مغرضة ؛ لم يستفد منها سوى المنحرفين من أهل الأهواء والعلمنة . فلعلهما يُعيدان النظر في بحثهما . وتجد على ( هذا الرابط ) مناقشة لهما . وأما المزيني والمالكي فلا قيمة لأقوالهما .
- في ص 146 أبدى تعاطفًا مع أحبابه الشيعة بقوله : ( ومما يعانيه ذلك " الشارع " من محاربة الخطاب الديني المتشدد لعقيدته ويصل إلى تكفيره أيضاً ) . وفاته - هداه الله - إن تنزلنا معه في ادعائه أن أهل السنة غلوا في تكفيرهم للشيعة بغير مكفر - أن الشيعة لم يقتصروا على تكفير أهل السنة ، بل كفروا معهم معظم الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا . فلماذا لم تأخذه الحمية لهم كما أخذته على الشيعة ؟! وتجد على ( هذا الرابط ) المزيد .والعجيب أنه يعترف ص 167 أن جموع الشيعة في مظاهرة عام 1400 هـ : ( رفعت شعارات المطالبة بالانفصال، حيث رددت الجماهير " يا ابن سعود شيل إيدك .. ترى إحنا ما نريدك" ) ! فأين الوطنية ؟!
- في ص 157 تحدث عن اعتراض الليبراليين على أحد الخطابات التي وقعوها مع من يسمون " التنويريين " ،وهي اعتراضات مهمة لمن أراد معرفة حقيقة فكرهم وأهدافهم ، يقول الدميني : ( حملنا "الخطاب" إلى الأصدقاء في الشرقية، واعترض بعضهم على تلك التعديلات، التي من أهمها:(4/5)
أ- النص على اختيار مجلس الشورى من أهل "الحل والعقد" ، لأنه مصطلح فقهي يحصر المشاركة في رجال الدين أو المتخصصين في العلوم الشرعية، واقترحنا إضافة " أهل الرأي والخبرة " إلى تلك العبارة.
ب- تعديل حقوق الإنسان إلى حقوق الإنسان الشرعية، وهذا يخل بمفهوم توقيع المملكة على مواثيق حقوق الإنسان التي وقعتها المملكة.
ت- إلغاء كلمة " الطائفية " من عبارة إزالة كافة أشكال التمييز... وأصررنا على إضافتها.
ث-حصر حقوق المرأة في مصطلح الحقوق الشرعية، وذلك لا يشمل الحقوق السياسية للمرأة، وكذلك إلغاء ما ورد في الخطاب بشأن ضرورة العمل بما تضمنته وثيقة "عدم التمييز ضد المرأة" من قائمة المواثيق الدولية التي وقعتها حكومة المملكة.
ج-إلغاء المحاكم الخاصة وربطها بالقضاء، ومن المعروف أن القضاة لا يمتلكون المعارف الكافية للحكم في القضايا التجارية والمالية، بل يرفضون الفصل في المنازعات البنكية، مما حدا بالدولة للخروج من المأزق، باستحداث هذه المحاكم الخاصة المستقلة عن هيمنة القضاة.
وقد عملت كل هذه الملاحظات على تأجيل التوقيع على الخطاب في الشرقية، مما استدعى حضور بعض الأصدقاء من الوسطى لحل هذه المشكلة ) .
يتضح من الاعتراضات :
1- استعمالهم لمصطلح " رجال الدين " الكنسي الذي تزامن مع العلمنة . وهو مصطلح لم يعرفه الإسلام - ولله الحمد - .
2- اعتراضهم على كلمة " الشرعية " في حقوق الإنسان ؛ وهذا دليلٌ على أن الشرع لا يُحقق لهم ما يريدونه مما يسمونه " الحقوق " ! وحكم هذا معلوم لكل مسلم .
3- تعاطفهم مع الشيعة .
4- اعتراضهم على كلمة " الشرعية " في حقوق المرأة ، وهذا دليلٌ على أن الشرع لا يُحقق لهم ما يريدونه مما يسمونه " حقوق المرأة " ! وحكم هذا معلوم لكل مسلم . وأيضًا مطالبتهم بتطبيق وثيقة " عدم التمييز .. " ، وقد علم المسلمون ما فيها من مخالفات صريحة للإسلام .(4/6)
5- لمزهم وطعنهم بالقضاة . وبدلا من الاعتراف بجريمة الربا المحرم أرادوا أن يوافقهم القضاء على الرضا به .
- في ص 158 نقل قول تركي الحمد : ( إذا لم نبدأ الآن فمتى نبدأ ؟ ) . وسبق أن هذا إما ذم للملك عبدالله أو ذمٌ لأبيه وإخوانه من قبله .
- في ص 159 أخبر بأن صاحبيه الفالح والحامد : ( زارا الشيخ عبدالعزيز التويجري - مستشار ولي العهد-، لإقناعه بإيصال النسخة إلى سمو الأمير عبدالله، فرفض، محتجاً بالأزمة المتوقعة جراء اعتزام الولايات المتحدة غزو العراق، وأنهما قاما ثانيةً بالاتصال بالشيخ التويجري، فلم يستجب ) .
- في ص 202 أثنى على منتدى " طوى " البائد ، الذي كان ينشر الكفر البواح .
- بقي أن أشير إلى كلام جيد للدميني - عسى أن يعيه أصحابه - قاله في ص 83-84 معلقًا على زيارة " كولن باول " للسعودية ومطالبته الدولة أن تُحسن معاملته وصاحبيه ! قال : " أعلن رفضي لذلك الموقف الأمريكي الانتهازي ، ذلك أن معظم المظالم الأمريكية ، وسياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع القضايا العربية والإسلامية تدفع بأي وطني - حتى ولو عانى من أنظمة بلاده القمعية - لكي يُعلن أن الجنة التي تعدني بها أمريكا أو تحملني إليها على بساط الريح مرفوضة ، وإن نار بلادي أرحم . ألا يخجل كولن باول من التحدث عن اعتقال الإصلاحيين في السعودية ، وهو الذي قاد حملة الأكاذيب في مجلس الأمن لإقناعه بوجود أسلحة الدمار الشامل لدى الطاغية صدام ؟ .. " . أتمنى أن يستفيد من كلام الدميني مَن استنصر بالغرب على دينه وبلاده وأهله من الليبراليين الجدد والباطنيين .
أسأل الله الهداية للدميني ومن وافقه ، وأن يردهم إليه ردًا جميلا . وأن يؤلف بين قلوبنا على " الحق " .(4/7)
( ليلى الأحيدب ).. بعد ( توبة ) الكاتب سعد الدوسري تُعلن ..؟
تعمدتُ وضع كلمة ( توبته ) في العنوان وبين قوسين لأزيل وهَمًا راسخًا عند البعض - حتى من أهل الصلاح - ، وهو أن التوبة لا تكون إلا من الكبائر أو الذنوب الظاهرة ! ولهذا فقد يقول البعض : هل سعد مروج مخدرات حتى تقول ( توبته ) ! ، وهذا خطأ بينه أهل العلم ، ووضحوا أن التوبة مقام لا ينفك عنه ( كل مسلم ) مهما بلغت أحواله أو ظن في نفسه ( الالتزام ) و ( الصلاح ) ، ولو دقق المرء منا في نفسه لوجد ما يفوق الوصف مما يستوجب التوبة . ولهذا لما ذكر ابن القيم - رحمه الله - في كتابه " مدارج السالكين " منزلة التوبة ضمن منازل السائرين إلى الله قال عنها ( 1/ 178 ) : ( ومنزل التوبة أول المنازل ، وأوسطها ، وآخرها ، فلايُفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات ، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به ، واستصحبه معه ونزل به ، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته ، وحاجته إليها في النهاية ضرورية ، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك ، وقد قال الله تعالى ( وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تُفلحون ) ، وهذه الآية في سورة مدنية ، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه ، بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه ، وأتى بأداة لعل المُشعرة بالترجي ، إيذانًا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح ، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون ، جعلنا اللهُ منهم ) .(5/1)
لقد استبشر أهلُ الخير عندما جهر الكاتب سعد الدوسري - وفقه الله وثبتنا وإياه - بـ( توبته ) من كل كتابة له مخالفة للشرع ، وفرحوا أن هداه الله لهذا التصرف الحكيم الذي يُخلصه من تبعة كتابات أو أشعار أو قصص سابقة قد يشوبها شيئ من الخطأ والتجاوز ، وهذا من نعمة الله على العبد أن يُوفقه لمحاسبة نفسه قبل الموافاة ، ويُذيقه لذة الفرح الحقيقي التي قال الله عنها : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون ) ، قال ابن القيم - رحمه الله - : ( ذلك خيرٌ من كل ما يجمع الناس من أغراض الدنيا وزينتها ، أي هذا هو الذي ينبغي أن يُفرح به ، ومن فرح به فقد فرح بأجلّ مفروحٍ به ، لا ما يجمع أهل الدنيا منها ، فإنه ليس بموضع للفرح ؛ لأنه عُرضة للآفات ، ووشيك الزوال ، ووخيم العاقبة ، وهو طيفُ خيالٍ زار الصَّب في المنام ، ثم انقضى المنام وولى الطيف ، وأعقب مزاره الهُجران ) . ( المدارج 3/157) .
************************
وبعد سعد .. هاهي الكاتبة بمجلة اليمامة ليلى الأحيدب تُسطر مقالين في العدد ( 1905 - 1906 ) تعليقًا على توبته ، تُعلن فيهما - وفقها الله وثبتنا وإياها - أنها تمر بنفس التجربة التي مر بها سعد ، وتحكي شيئًا من المعاناة التي يجدها الكاتب أو الكاتبة عندما يُعيد النظر في مساره الكتابي الأول من بعض أهل الغواية الذين يُقلقهم شراؤه الهدى بالضلال ، فيحاولون ثنيه عن سلوك الصراط المستقيم بشتى السُبل الدنيئة . أترككم مع مقاليها ، ثم تعليقات لابد منها :
الكتابة وتوبة سعد !
( 1 )(5/2)
في التحقيق الذي أجرته جريدة الوطن حول ما أثاره الكاتب سعد الدوسري في إحدى زواياه عن توبته من بعض الأعمال التي كتبها في السابق ولم يضمنها أياً من مجموعاته القصصية، أعجبني جداً الرأي الحكيم والصادق الذي طرحه الشاعر محمد العلي، حينما ترك مساحة يجرم فيه الكاتب إن تراجع عن أعماله خوفاً يقول العلي : " أرى في الطريقة التي سلكها الدوسري شيئاً، ويجب عدم تعليل طريقة الأديب أو المثقف المتراجع، أما إن كان الخوف سبباً في ذلك التراجع، فإن الأمر يختلف فهذا يعد جبناً وانخفاضاً عن الذات " ، فوزية أبو خالد رأت أن من حق سعد أن يعبر عن رأيه دون ضغوط " لا يجب أن يكون مجتمع المثقفين ضاغطاً على المثقف حين حريته، لأن ما مارسه الدوسري يعد صدقاً مع الذات " ، أما رأي أحمد الدويحي فأنا حقيقة أستغربه إذ أنه ربط بين الجانب الكمي لإنتاج سعد وفاعليته بما صدر عنه!! يقول الدويحي: " لا أعرف لسعد غير عملين؛ أحدهما يستحق الاهتمام وهو "انطفاءات الولد العاصي" وعمل آخر لا أذكره الآن، وأما ما صدر مؤخراً من الدوسري فهو لا يعدو أن يكون نوعاً من الإثارة، وهو لم يقدم للساحة الثقافية أعمالاً تستحق الاهتمام، عدا العمل الذي ذكرت " ، هل معنى هذا أن أديباً بحجم محمد العلي لا يعد مهماً للساحة الثقافية لأنه ليس له أعمال مطبوعة!! وبالتالي لا يعد فاعلاً في الساحة!! وهل يعد الدويحي أكثر فاعلية منه لأن له أعمالاً مطبوعة مثلاً؟!! ما علاقة كم الأعمال بقيمتها الفنية؟!! أما الإثارة فأعتقد أنها متحققة لسعد الدوسري عبر زاويته المقروءة التي يثير فيها قضايا محلية شائكة وتهم المجتمع، وليس بحاجة لخلق إثارة من هذا النوع.(5/3)
أما الرأي الذي طرحه محمد الدميني فهو رأي متوازن نوعاً ما وإن كان فيه نوع من الاتهام بالخضوع لتيارات معينة، قد أتفق مع الدميني في هذه النقطة لو كان الحديث مثلاُ في فترة الثمانينيات تلك الفترة التي قد يكون التراجع فيها نوعاً من كسب رضا المزاج الشعبي آنذاك! لكن الآن لا أحد يضغط على المبدع إلا قناعاته الشخصية ، فالتيار المحافظ لم يعد بنفس قوته المهيمنة! ولا أعتقد أن تراجع أي مثقف عن شيء من أعماله الآن يجير لصالح تلك التيارات.(5/4)
بالنسبة لي أفهم تماماً النقطة التي ينطلق منها سعد الدوسري، وأحيي فيه شجاعته التي طرح فيها رأيه في بعض كتاباته بينما فضل البعض الآخر أن يعبر عن رأيه بما كتب سابقاً عن طريق الكتابة التعويضية التي ترجح كفة ميزان ما كتب سابقاً، أفهم تماماً هذا النوع من إعادة الحسابات لأنني جربت شيئاً منه، لكنني لم أفكر بالطريقة التي فكر بها سعد وهي طريقة سريعة ومريحة خلصته من ملفات عالقة ومؤرقة بالنسبة له. يقول سعد في لقاء أجرته معه العربية نت: " أنا أردت عبر عمودي اليومي في جريدة الرياض أن أقول لهم إنني أعتذر عن هذه الأعمال التي كُتبت كما أشرت، في فوضى فكرية أو ثقافية أو سياسية أو حتى عاطفية، عندما أتكلم عن اعتذار .. فإنني أعتذر لله، ثم لنفسي ثم لقرائي. إن الاعتذار هو شكل من أشكال التوبة، أتمنى من الله أن يتوب على كل أخطائي في تعاملاتي مع الناس ومع أبنائي ومع زملائي في العمل. كل إنسان يتمنى أن يتوب الله عليه في كل عمل وليس في الكتابة فقط " . ثم يستدرك بقوله: "لكنني لا أريد أن أضع الناس في دائرة الاعتقاد بأنني كتبت ما هو كفر أو إلحاد –لا سمح الله- أو فسوق وعصيان أبعدنا الله عنه، كل هذه الإشارات ستقف أمام بعض الناس عندما يقرأون كلمة التوبة. وإلا فإن التوبة واردة بشكل يومي لنا كلنا كمسلمين ومؤمنين، نتمنى أن يتوب الله علينا من الأخطاء التي قد نقع فيها في كل أعمالنا اليومية..(5/5)
" ، وأضاف: "لقد ذكرت أنني أغويت نفسي وأغويت معي من قرأ هذه الأعمال، وأنت تعرف أن الإبداع في بعض الأحيان قد يصل بالمبدع إلى درجة يعتقد فيها أنه فوق مستوى الآخرين، وأنه يستطيع أن يجترح من الكلمات ما لم يستطع أن يجترحه أحد والاقتراب من غواية الشعر أو النثر، وأنت تعرف أن الشعراء يتبعهم الغاوون، وأنا لا أريد أن يتبعني أحد بغواية أو بنثر كتبته وأرى أنه لا يمثلني ولا يعبر عني وإنما يعبر عن مجموعة الفوضى التي عشناها كلنا ابتداءً من عام 1967م إلى اليوم".
هذا الكلام الذي صرح به الدوسري هو المراجعة الذاتية التي تجعلك أحياناً تعيد بناء كل ما كتبت لترى أي بناء أقمته لنفسك! وهل هو فعلاً ما تريده لنفسك أمام الله أولاً، حينها تتعامل مع الكلمة ككيان له وزن، تضع كلماتك في ميزانها الصحيح فإما أن تكون تلك أو تكون عليك، وهذه المراجعة لا يمكن أن تتم في وقت البدايات لأنك حينها تكون مبهوراً بالكلمة كفضاء سحري ينقاد لك تشكله ويشكلك نعم.. للكلمات أجنحة كبيرة ولامعة.. هذا صحيح .. لكن إلى أين تأخذنا؟! وإلى أين تصل بنا؟! هذا ما تصل إليه في مرحلة ما !! تفكر أحياناً بهذه الكلمات وتزنها بميزان دقيق غير مرئي، وغير ملموس بالنسبة لآخرين.. لكنه موجود.. هذا الميزان قد يكون في صالحك وقد يكون ضدك!
أعتقد أن سعد أراد أن تكون كلماته له لا ضده وهو أمر قد لا يفهمه كثير من المبدعين الذين يرون في هذه النظرة مغايرة لما يعتقدونه لدور الكتابة، فالتوبة إلى الله لا علاقة لها بالكتابة!! كما يرى فالح الصغير في تحقيق الوطن، ولكن هل حقاً لا علاقة للكتابة بالتوبة؟! أشك كثيراً في ذلك!
الكتابة وتوبة سعد !
( 2 )(5/6)
حينما كتب سعد الدوسري مقالة أوضح فيها توبته عن بعض أعماله المنشورة، شكك الكثيرون في أهدافه من تلك الكتابة بعضهم عدها إثارة وبعضهم الآخر عدها نفاقاً لكسب تأييد شرائح معينة من القراء، وهو أمر متوقع حدوثه لأي كاتب يعبر عن رأيه فيما كتب مستدعياً نظرة الدين، وهو الأمر الذي فهمته من كتابة سعد وتعليقه على ما كتب في العربية نت، هذا النوع من وزن الكلمة لا يروق للكثير من المبدعين الذين يرون أن الأدب يجب أن لا يخضع للرقابة حتى وإن كانت رقابة ذاتية يجريها المبدع لكتاباته –كما فعل سعد- ولكن.. هل حقاً ينبغي أن تظل الكتابة بمنأى عن الميزان الديني ؟
هل يجب أن يظل كاتب القصة والرواية والقصيدة (خاصة إن كان مصنفاً من التيار الجديد) بعيداً عن الشأن الديني في كتابته؟! هل تجديفه بهذا الاتجاه تجديفاً ضد الإبداع؟
وهل تفكيره بالهاجس الديني المحاسبي –كما فعل سعد- يعد إثارة ونكوصاً!! الكثير من الأشخاص المحيطين بي يحاولون ثنيي أحياناً عن الكتابة خارج الأدب بمعنى أدق يتمنون أن أظل بعيدة عن مكامن الصدام في الكتابة يخافون أن أصنف ضمن إطار معين لذلك يريدون مني أن أبقى على الحياة، أن لا أكسب عداء أحد! أن لا أقف ضد الانفتاح القادم حتى وإن مس بمعتقداتي الدينية الراسخة يقولون دعي غيرك يقولها! لماذا تقفين دائماً في وجه المدفع! باختصار بعضهم –خوفاً علي- لا يريدني أن أكتب ضد التيار، لأن هذا النوع من الكتابة يضعك في مواجهة دائمة مع الآخر!! ويجعل الآخرين –الذين عرفوك سابقاً- يشككون في توجهاتك الإبداعية! لذلك ربما من الأفضل لي أن أظل بعيدة ومحبوبة وضمن الدائرة!!(5/7)
لماذا أقصي نفسي وأعزلها عن النسيج العام الذي صنفت فيه !! بل إن كثيراً ممن عرفوني كانوا يعتبرون دخولي لعالم الكتابة الاجتماعية أسلمة !! ولا أدري هل كنت قبلها غير مؤسلمة!! الكثير يريدون مني أن أظل تلك القاصة الشاطحة، تلك الكاتبة المغامرة البعيدة عن الكتابة الإصلاحية الدينية!! هذا الدور ليس على قياسي في نظرهم!!
لذلك حينما بدأت الكتابة فيما أراه صواباً عن الحجاب والاختلاط مثلاً كانت تأتيني رسائل كثيرة في إيميلي، رسائل لا تحمل رؤية منطقية بقدر ما تحمل تثبيطاً واتهماماً، هذه الرسائل العمياء كانت تأتي دون أسماء وإن كنت أعرف سلفاً من كتبها ولماذا، لكن هذه الرسائل السامة لم تمنعني يوماً من الكتابة وفق ما أراه صائباً حتى وإن عكس صورة نمطية عني لم تكن في أذهان كثيرين من الذين يتمنون أن تعود الصورة كما كانت في الثمانينات !! قصة وشعراً ونقداً وترجمة ومغامرات فنية ونصاً مفتوحاً!! وهي أمور جميلة –عن نفسي- خضتها بكل أوديتها المعشوشبة ولا أزال- لكني كبرت ونضجت رؤاي ووجدت أودية أخرى تحتاج مني أن أكتشف كل زواياها وأن أقف أمام كل من يبني بيتاً في مسيلها!! أحياناً أشعر أنني أمر بمأزق النضج الذي لا يعجب الآخرين.. الآخرين الذين عرفوني مهرة نافرة تتحدث عن العشق والحب وف.. ق.. ط !!
لا زلت أكتب مدفوعة بهذا الحس الجمالي الخلاب، أكتب الآن أيضاً مدفوعة بالواجب، بالهاجس الديني، مدفوعة بقيمة الكلمة! قيمتها التي تجعلني أفكر دائماً بغواياتها السابقة، وهداياتها الحالية.
مؤمنة أن الكلمة سلاح سأسأل عنه ذات صراط، يوم لا ينفع مال ولا ولد!!
ماذا فعلت بكلمتي؟! هل هادنت بها أحداً؟ هل قبضت بها ثمناً ؟! هل لونتها لترضي أصحاب الهوى والمصالح؟ هل كانت كلمتي لي أم لآخرين؟!(5/8)
مستحضرة دائماً أن رب كلمة –ملفوظة كانت أم مكتوبة- هوت بصاحبها الذي لم يلق لها بالاً سبعين خريفاً في النار؛ هذه الصورة تجعلني دائماً أخشى الكلمة وأحسب لها حساباً أخروياً لا يدركه البعض.
هذا الجدل هو محور صراعي مع الآخرين من ذكور وإناث!
وأدرك حينها أنني أخوضه وحيدة.. نعم.. لكن مشرئبة وشامخة كما كنت دائماً.
أقول هذا الكلام لأن كتابة سعد الدوسري أراحتني من هاجس الوحدة والعزلة، فقد رأيت من خلالها أن ما أفكر به أحياناً يخطر ببال الأشخاص الذين أعتقد أنهم مثلي كان لهم غوايات كتابية في زمن ما، كتابة سعد تقول لي إن الطريق ليس خالياً كما تخيلته! لذلك أقول لسعد هناك آخرون مثلك يفكرون بالكلمة كثيراً ليس من الناحية الإبداعية فحسب بل من نواحٍ أخرى نادرة.. نعم .. لكنها موجودة !
تعليقات
1- ذكرتني عبارة الكاتبة " أقول هذا الكلام لأن كتابة سعد الدوسري أراحتني من هاجس الوحدة والعزلة " بكلمة رائعة للإمام ابن القيم - رحمه الله - يقول فيها : ( الغُربة ثلاثة أنواع : غربة أهل الله وأهل سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين هذا الخلق ، وهي الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها .. هذه الغربة لا وَحشة على صاحبها ، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس ، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا ، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا ، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه ) " المدارج 3/196-197) .(5/9)
2- من الحواجز التي قد تُعيق المسلم عن التوبة والتزود من الخير : ( ماذا سيقول الناس عني ) ! ، وهذا يأتي في أول الطريق ، فإذا ثبت المسلم وسار فيما فُتح له من باب رحمه تلاشى هذا العائق . وأذكر أن أحدهم قال لي : كيف سيتقبل الناس إعفائي للحيتي أو مواظبتي على الجماعة بعد أن اعتادوا سنين طويلة على شكلي وتهاوني ! قلتُ له : كلها أيام فيعتادون إذا ما رأوا ثباتك ، ثم ستجدهم بعدها يستنكرون لو حلقتَ لحيتك أو فرطت في صلاتك ! فأنت من يُعود الناس على ما ينفعك ، والمهم قبل هذا رضا الناس الذي بيده رضا الخلق وطرح القَبول لك بينهم .
3- أيضًا من الحواجز - وهذا خاص بأهل الكتابة والإعلام ! - : أن يأتي أحدَهم وسواسٌ صارف بأن فعلك هذا " انهزام " و" ضعف " ، ويصور له الأمر كأنه معركة : ( كيف تنهزم أمام المطاوعة ) !! .. الخ الوساوس . ( فتأمل كيد الشيطان ومكره ) . ولو تأمل هذا لعلم أن الهداية ليست حكرًا على من يسميهم " المطاوعة " ، وأن مطلب الخلق أجمعين أن يرضى الله عنهم ويُدخلهم جنته ، ولا يكون هذا بغير إسلام واستقامة . ولو تأمل أكثر لعلم أن من يسميهم المطاوعة إنما فرحوا لأجله ، وتمنوا له الخير ، لا لطلب منفعة منه أو دفع مضرة ، بل محبة وألفة .(5/10)
4- هناك أمرٌ مهم أو حاجزٌ خطير ( بعد التوبة ) يتعلق بأهل الإعلام ايضًا لابد لي أن أقوله لهم دون مجاملة ؛ لأن السكوت عنه أراه خيانة ، وهو أن الواحد منهم قد اعتاد على الأضواء والتصدر قبل توبته ، فيصعب عليه التخلي عن هذا بعدها ! فيتصدر الكلام في قضايا شرعية وهو غير مؤهل ، فيُفسد وهو يريد الخير ، وينشغل عن إصلاح نفسه وتزكيتها وترقيتها وتدارك ما فاتها من خير - وهو المقصود الأول من التوبة - . وأخطر من هذا - عندي - أن يُعلن المسلم توبته ، ولكن يبقى شيئ من الزيغ والهوى في نفسه ! يقوده إلى تبني الآراء والأقوال الشاذة التي توافق هواه الأول ، ولكن بلبوس إسلامي ! مغالطة للنفس . وهذا أفضل ما يقال له : ليتنا من حجنا سالمين !
5- أن فعلَ سعد هو الصواب ، وهو الجهر بالتوبة ، لقوله تعالى : ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ) ، ولا يكفي فيمن له آثار مكتوبة أو مسموعة مخالفة أن يتوب سرًا . و على ( هذا الرابط ) فوائد عن التوبة .
6- اجتمعت بالأستاذ سعد مرة واحدة في بيت الأخ الكريم محمد المشوح ، فوجدتُ من حُسن الخُلق والأدب ما أسرني ، ولا زلتُ أذكر استمتاعه بالحديث عن والده - رحمه الله - " حمامة المسجد " - كما يصفه - ، وحديثه عن قريبه الداعية المتجول في بلاد العالم .
7- خيرُ ما يحرص عليه المسلم المُقبل بعد التركيز على القرآن الكريم - حفظًا وتدبرًا وتفسيرًا - ، وبعد الأنفاس العطرة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : كتب الإمام ابن القيم - رحمه الله - ، ففيها " طِب القلوب " ؛ خاصة : " الجواب الكافي " و " إغاثة اللهفان " و " تهذيب مدارج السالكين " . وعلى ( هذا الرابط ) ما يُريح القلوب .
8- بريد الكاتبة ليلى الأحيدب لمن أراد التواصل معها ، والتواصي على البر والتقوى : omyazeed410@hotmail.com
9- الكاتبة ( ليلى الأحيدب ) هنا غير ( ليلى الأحدب ) - بدون ياء - التي تكتب في جريدة الوطن .(5/11)
أسأل الله أن يثبتنا جميعًا على دينه ، وأن يختم لنا بالصالحات ، ويجمعنا في أعلي الجنات .(5/12)
تنبيه ولاة الأمور ... إلى خطر التساهل في السماح بالشرور .. للشيخ ؟!
علاقةُ العلماءِ الربانيين بولاة الأمور في بلادنا منذ انطلاقة الدعوة السلفية علاقةٌ فريدةٌ متينة ، تجمع بين أمرين معتمِدَين على الكتاب والسنة : الولاء الشرعي والنصيحة . فبالولاء الشرعي فارقوا أهل " الخروج " أو " التهييج " أو " التحزبات " على الحاكم المسلم ، وبالنصيحة فارقوا أهل " التزلف " و " السكوت عن الأخطاء " وإن ألصقوا مواقفهم هذه بالسلفية ! ولا والله ، ماكان علماؤنا - ولله الحمد - يدينون بمثل هذه السلفية التي لا تنكأ عدوًا ولا تُفرح صديقًا . ومن طالع كتاب " الدرر السنية " أو فتاوى اللجنة أو فتاوى الشيخ ابن إبراهيم أو الشيخ ابن باز - رحمهما الله - - مثلا - وجد من المواقف المشرّفة للعلماء الشيئ الكثير في مناصحتهم لولاة أمرهم ، مع التزامهم - مقابل ذلك - بالبيعة والولاء الشرعي ، والرد على أهل الغلو ؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم : " الدينُ النصيحة .. " . وقد سار على منوالهم من جاء بعدهم من الربانيين - ولله الحمد - .
قد يُقال : ولماذا النُصح لولاة الأمور ؟
والجواب : للحديث السابق ، ولأنهم يستطيعون ما لايستطيعه غيرُهم ، ولأن الله يزع بهم من الشر ما لايزع بغيرهم ، كما قيل : " إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن " . ولأنهم بكلمة أو ورقة واحدة يصدّون عن البلاد منكراتٍ عظيمة - بإذن الله - ، ولأن أهل الشر والفساد يهابونهم .
تنبيه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - ولاة الأمور
إلى خطر التساهل في السماح بالشرور(6/1)
قال - رحمه الله - في شرح " رياض الصالحين " ( 3/211-212 ط دار الوطن ) : ( الواجبُ على ولاة الأمور أن يُزيلوا الأذى عن طريق المسلمين ، أي أن يُزيلوا كلّ داعية إلى شرّ ، أو إلى إلحاد ، أو إلى مجون ، أو إلى فسوق ، بحيث يُمنع من نشر ما يُريد من أي شيئ كان ، من الشر والفساد ، هذا هو الواجب . لكن لا شك أن ولاة الأمور الذين ولاهم الله على المسلمين في بعضهم تقصير ، وفي بعضهم تهاون ، يتهاونون بالأمر في أوله حتى ينمو ويزداد ، وحينئذ يعجزون عن صده وكفّه . فالواجب أن يُقابل الشر من أول أمره بقطع دابره ، حتى لا ينتشر ، ولايضل الناسُ به ) .
وقال - رحمه الله - في موضع آخر ( 5 / 7-8 ) : (استدل المؤلف رحمه الله بقول الله تعالى : ( إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة( ، هؤلاء الذين يحبون أن تشيع، فكيف بمن أشاع الفاحشة والعياذ بالله؟! ولمحبة شيوع الفاحشة في الذين آمنوا معنيان:
المعنى الأول: محبة شيوع الفاحشة في المجتمع المسلم، ومن ذلك من يبثون الأفلام الخليعة، والصحف الخبيثة الداعرة، فإن هؤلاء لاشك أنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم، ويريدون أن يفتتن المسلم في دينه بسبب ما يشاع من هذه المجلات الخليعة الفاسدة والأفلام الخليعة الفاسدة أو ما أشبه ذلك.
وكذلك تمكين هؤلاء مع القدرة على منعهم ، داخل في محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فالذي يقدر على منع هذه المجلات وهذه الأفلام الخليعة، ويمكِّن من شيوعها في المجتمع المسلم، هو ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . )لهم عذابٌ أليم في الدنيا والآخرة( أي عذاب مؤلم في الدنيا والآخرة.(6/2)
المعنى الثاني: محبة أن تشيع الفاحشة في شخص معين، وليس في المجتمع الإسلامي كله، فهذا أيضاً له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فمن أحب أن تشيع الفاحشة في زيد من الناس لسبب ما، هذا أيضاً له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، لاسيما فيمن نزلت الآية في سياق الدفع عنه، وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. لأن هذه الآية في سياق آيات الإفك ) . اهـ
تعليق
رحم الله الشيخ ابن عثيمين ، فقد أحسن النصيحة ، ودل ولاة أمره على خير ما يحفظ لهم دينهم ودنياهم ، ولا شك أن الشرّ في أوله يكون صغيرًا يُمكن القضاء عليه ودفعه ، لكنه إذا ما كبُر وانتشر صعُب الخلاص منه ، وترتب عليه من الآثار ما لايُتوقع . وقد قيل : " ومعظمُ النارِ من مُستصغرِ الشرَرِ " .
والعاقل لا يُعين عدوّه على إضعاف المجتمع أو اختراق البلاد بواسطة أذنابه من المنافقين ومرضى القلوب ؛ لأنه سيكون من ضمن الخاسرين في النهاية إذا ما تمكن العدو - لاقدّر الله - .
وخيرُ ما يفعله ولاة الأمر - وفقهم الله - لصد الشرور التغريبية المستعرة الآن على بلاد التوحيد :
1- الضغط على القنوات والوسائل الإعلامية الأخرى المملوكة لأبناء هذه البلاد أو تتلقى الدعم منها أن تكف عن بث الفكر التغريبي العلماني " المركز " ، وأن تتوجه إلى نقل صورة مشرفة لهذه البلاد المسلمة .
2- إلزام الإعلام الداخلي بتنفيذ السياسة الإعلامية المكتوبة .
3- إيقاف الكتاب والكاتبات الذين يناوئون شريعة هذه البلاد وأخلاقَ أهلها ، ويتصلون بأعدائها ، عند حدهم ، وتطهير وسائل الإعلام منهم ، وإيكال إدارة الوسائل الإعلامية إلى الأمناء على دين البلاد ووحدتها .
4- الحزم مع كل من يتصل بالقنوات أو الوسائل المعادية ممن هو معينٌ لها على إفساد بلده ، فقد رأينا بعض المرضى يتصدرون تلك القنوات مستبشرين بها وبمن وراءها لعلها تُمكنُ لفسادهم وانحرافهم في هذه البلاد ، ومن أمن العقوبة أساء الأدب .(6/3)
حمى الله بلادنا من الشرور ، ووفق ولاة الأمور إلى الإصلاح النافع الذي يحفظ للبلاد دينها وأخلاقها ، مع التطور الدنيوي في جميع المجالات .(6/4)
بين الملك عبدالعزيز - رحمه الله - .. والدكتور غازي القصيبي .. !
استاء كثيرون من تصريح الدكتور غازي القصيبي - هداه الله - أن قراره الأخير " لا رجعة فيه " !! وكأنه قرآن مُنزل ، ومعلومٌ أن الذي لا يُتعقبُ حكمُه هو الله - عز وجل - ؛ كما قال سبحانه : ( والله يحكمُ لا مُعقب لحكمه ) ، قال الشيخ ابن سعدي - رحمه الله - : ( فهذه الأحكام التي يحكم الله فيها ، توجد في غاية الحكمة والإتقان ، لا خلل فيها ولا نقص ، بل هي مبنية على القسط والعدل والحمد ، فلا يتعقبها أحد ، ولا سبيل إلى القدح فيها ، بخلاف حكم غيره ، فإنه قد يوافق الصواب ، وقد لا يوافقه ) . وقد قال الخليفة العادل عمر بن الخطاب مقولته الشهيرة لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - : ( ولا يمنعنك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم ، فراجعتَ فيه رأيك ، فهديتَ فيه إلى رشدك ، أن تُراجع فيه الحق ، فإن الحق قديمٌ لا يُبطله شيئ ، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ) . فكان الأولى بالدكتور غازي أن لا يفوه بتلك الكلمة ، وأن يُراجع الحق ، بعد أن بين له الناصحون مضار قراره مقابل مايراه من مصالح ، وأعطوه البدائل الكثيرة : تجدها على ( هذا الرابط ) .
فما حاله - هداه الله - مع هذا القرار الخاطئ الذي يرمي بفتيات المسلمين بين الرجال والعمالة الوافدة الساعات الطوال لدفع مفسدة بيع الرجال للمستلزمات النسائية إلا كحال من يُعالج " مزكومًا " بقطع رأسه ! ومن المتقرر عند العقلاء بعد العلماء أن المفسدة الكبرى تُدفع قبل الصغرى .
وأذكّر الدكتور والقراء - هنا - بأقوال مهمة لمن وحد الله على يديه هذه البلاد : الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ، تنبه إلى رأيه الذي اختط السير عليه في مثل هذه القضايا التي تتعلق بالمرأة المسلمة في بلاده :
قال - رحمه الله - :(7/1)
( أما التمدنُ الذي فيه حفظُ ديننا وأعراضنا وشرفنا ؛ فمرحبًا به وأهلا ، وأما التمدنُ الذي يؤذينا في ديننا وأعراضنا ؛ فوالله لن نرضخ له ، ولن نعمل به ، ولو قُطّعتْ منّا الرقاب ) .
( أثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية ، للدكتور حمود الرحيلي ، ص 67 ) .
* * * * * * * * * * * * * *
وقال - رحمه الله - في خطابٍ له بأحد مواسم الحج :
( إنني رجلٌ سلَفيٌ ، وعقيدتي هي السلفية التي أمشي بمقتضاها على الكتاب والسنة )
( إن أكثر ما يُهمني هو المحافظة على كلمةِ التوحيد ، ثم على محارمِ المسلمين )
( المصحف والسيف ، ص 135 )
* * * * * * * * * * * * * *
وقال - رحمه الله - :
( أنا خادمٌ لأهل العلم ، والله بحوله وقوته إن شاء الله لأمضي كلّ ما قالوا وأُحبُ من أحبوا ، وأُبغضُ من أبغضوا ، وأُمضي أمرهم على نفسي وعيالي ) .
( لسُراة الليل هتف الصباح ، ص 402 ) .
* * * * * * * * * * * * * *
أسأل الله الهداية والتوفيق للدكتور غازي ، وأن يستعمله الله في طاعته ، ويجعله ممن ينقادون لنُصح الناصحين ، ويختم لنا وله بعمل صالح .
وأن يوفق ولاة الأمور من أبناء عبدالعزيز للسير على ما سار عليه والدهم - رحمه الله - وما رضيه لهم
والله الموفق .(7/2)
باحثٌ مسلم .. يرصد الدعم الغربي للصوفية
هذا بحثٌ مختصر يرصد الدعم الغربي للصوفية في العالم الإسلامي ؛ كبديل للإسلام الصحيح ، الذي يُشكل خطرًا على المشروعات الغربية ، نُشر في مجلة البيان العدد الماضي ؛ فأحببتُ أن أساهم في انتشاره ؛ لما فيه من معلومات مهمة ، ولعل مخدوعًا بالتصوف يستيقظ من غفلته :
نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي
محمد بن عبد الله المقدي
عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها»(1) .
إن حزب النقض كان ولا يزال يكيد لهذه الأمة ويمكر بها ويلفتها عن دينها، وإن المتتبع للمكر العالمي يرى تبرماً من ظهور نهج أهل السنة والجماعة في الفهم والسلوك، فأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم.
وقد ظهر جلياً أن من أهم أهداف الخطة الأمريكية المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير ) محاربة التيارات الإسلامية التي تتصدى للعدوان الأمريكي، تحت شعار: (محاربة الإرهاب ) . ويرى المروِّجون لهذا المشروع أن القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية لا تكفي لهدم فكرة وبناء أخرى؛ فلا بد إذن من تيار إسلامي معارض لتلك التيارات منسجم مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي ـ المتخصص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حوار صحفي(2) : (وفي علاقتها بالحركات الإسلامية بالذات نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية ) .(8/1)
ويعد (برنارد لويس ) أن تفاقم تأثير الحركات الأصولية الدينية في أواخر السبعينيات والثمانينيات، قضى نهائياً على أفكار غربيين كانوا يعتقدون أن التصوف الإسلامي السياسي يحُدُّ من تأثير الإسلام السياسي؛ فمقاومة السلطة السياسية من ملوك وأباطرة وفراعنة كما يؤكد دانيال بايبس وَجَدَ له الأصوليون تفسيراً في القانون الإسلامي، ولذا فإن الغرب يسعى إلى مصالحة (التصوف الإسلامي ) ودعمه لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائياً عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استُخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة(3 ) .
أما ستيفن شوارتز(4 ) فيقول: ( ليست التعددية الإسلامية فكرة جديدة نشأت في الغرب وتُقَدَّم كشفاء ناجع للغضب الإسلامي، بل إنها حقيقة قديمة. ينطوي العالم الإسلامي على طيف واسع من التفسيرات الدينية. فإذا وجدنا في أحد أطراف الطيف المذهبَ الوهابي (5 ) المتعصب الذي يتصف بالقسوة والاستبداد ما يجعله أشبه بالإيديولوجية العربية الرسمية السائدة منه بالمذهب الديني؛ فإننا نجد في الطرف الآخر التعاليمَ المتنورة للصوفية. لا تؤكد هذه التعاليم على الحوار داخل الإسلام وعلى الفصل بين السلطة الروحية وسلطة رجال الدين وعلى التعليم باللغة المحلية فحسب، بل إنها تحترم أيضاً جميع المؤمنين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو هندوسيين أو بوذيين أو من ديانات أخرى، تشدد الصوفية علاوة على ذلك على التزامها باللطف والتفاعل والتعاون المتبادل بين المؤمنين بغض النظر عن مذاهبهم.
ثم يقول: ( إذا أخذنا هذه الصورة المتنوعة بعين الاعتبار؛ فكيف يجب على الصوفية أن تدخل في الإستراتيجية الأمريكية للتعامل مع العالم الإسلامي؟(8/2)
من الواضح جداً أن على الأمريكيين أن يتعلموا المزيد عن الصوفية، وأن يتعاملوا مع شيوخها ومريديها، وأن يتعرفوا على ميولها الأساسية... يجب على أعضاء السلك الديبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية من بريشتينا في كوسوفو إلى كشغار في غرب الصين، ومن فاس في المغرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكرتا أن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية. يجب أن ينتهز الطلاب الأمريكيون ورجال الأعمال وعمال الإغاثة والسائحون فرص التعرف على الصوفيين. الأهم من ذلك، أن أي شخص داخل أو خارج الحكومة يشغل موقعاً يسمح له بالتأثير على مناقشة ورسم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط يمكنه أن يستفيد من فهم هذا التقليد الفطري من التسامح الإسلامي ) (6 ) .
وتقول الكاتبة (فارينا علم ) (7) ـ وهي تمثل شريحة من الصوفية الموجودة في الغرب : (إن الروحانية الإسلامية ـ الصوفية ـ تعتبر الجزء المكمل لحياة المسلم الدينية، وقد قدم أولياء وشيوخ الصوفية نظرة منهجية لمعرفة الله تستند على تلاوة الابتهالات، والتدرب على تطوير شخصية ورعة قويمة، بغية إذلال الأنا وتكريس النفس لخدمة المجتمع. ومن الممكن أن تصبح الصوفية اليوم ـ بتركيزها على القيم الإسلامية المشتركة ووضع الأهداف السامية نصب عينيها ـ بمثابة قوة كبيرة مضادة للإسلام السياسي المجاهد ) .
وتستطرد قائلة: (وقد حذرت التعاليم الإسلامية الكلاسيكية علماء الدين من التقرب الكبير من السلطة السياسية ) .
يقول (دانيال بايبس ) : ( إن هناك أخباراً سارة تقول: إن فكرة أن الإسلام المتطرف والعنفي هو المشكلة، وأن الإسلام المعتدل هو الحل تلقى رواجاً واسعاً مع الوقت... كذلك فإن أشخاصاً بارزين مثل أحمد صبحي منصور، ومحمد هشام قباني يرفعون أصواتهم..)(8 ) .(8/3)
ويقول الباحث د. عبد الوهاب المسيري : ( مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين ابن عربي وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية؛ فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي...) (9) .
ويؤكد المستشرق الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم، أن (مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي ) (10) .
ومن الجدير بالملاحظة أنه في عام (2001م ) أُطلقت مجموعة من الخطابات السياسية حول الإسلام الذي يريده الغربيون ؛ ( فقد شرح رئيس الوزراء البريطاني المقصود بهذا في خطاب موجه للزعماء والمسؤولين بالدول الإسلامية، دعاهم فيه إلى أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن الإسلام (العادي أو الرئيسي ) استخدم لفظ (main stream) بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم، والفكرة نفسها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول ) في شهر نوفمبر (2001م ) في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي، حيث أشار إلى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي والعقدي لتلك المجتمعات ) (11) .
وفي يناير عام (2001م ) أقيم المؤتمر العالمي الأول لدراسات الشرق الأوسط الذي عقد بمدينة ماينز الألمانية وقد كان برنامج المؤتمر مكتظاً بالبحوث والدراسات المتنوعة؛ أما ما يتعلق بالإسلام والحضارة الإسلامية فثمة بحثان هما: الإسلام الحديث والطريقة النقشبندية ـ المجددية الصوفية، والأولياء الصوفيون وغير الصوفيين(12) .(8/4)
في صيف عام (2002م ) أصدرت مؤسسة (راند ) ( 13) البحثية مقالة(14) عكست فيها رؤيتها للفروقات والتباينات بين الفئات والجماعات الإسلامية المختلفة في العالمين العربي والإسلامي، وسوف نورد منه بعض الفقرات التي تبين مدى اهتمام الغرب بالصوفية أو ما يسمونه بالإسلام التقليدي، فإن التقرير يقول:
(ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية بل العالم الصناعي المتمدن بأسره يفضلون عالماً إسلامياً يتماشى مع بقية النظام؛ أي يريدون عالماً إسلامياً يتسم بالديمقراطية، بالقابلية للنمو، بالاستقرار السياسي، بالتقدم الاجتماعي، بالتبعية لقوانين ومعايير السلوك الدولي. هذا بالإضافة إلى أن هذا العالم الإسلامي «المفضل» مُلزَم بالمساهمة في منع أي (صدام للحضارات ) ، بكل صوره المتاحة والممكنة الممتدة من القلاقل المحلية المتصاعدة بسبب الصراعات بين الأقليات المسلمة والمواطنين (الأصليين ) في الغرب؛ إلى العمليات العسكرية المتصاعدة عبر العالم الإسلامي، وما ينتج عنها من إرهاب وعدم استقرار.
ومن ثم فإن من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر ـ الموجودة في داخل الخلطة الإسلامية ـ التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي، والمجتمع الدولي والديمقراطية والحداثة. إلا أن الأمر لا يبدو بهذه السهولة؛ فتعريف تلك العناصر وإيجاد الأسلوب الأمثل والأنسب للتعامل معها ليس بالأمر الهين.
ثم رصد التقرير أربعة عناصر موجودة على الساحة الإسلامية، وهي:
ـ الأصوليون الذين يرفضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الراهنة.
ـ التقليديون الذين يسعون إلى خلق مجتمع محافظ.
ـ الحِداثيون (أهل الحداثة ) الذين يبغون عالماً إسلامياً مندمجاً في داخل الحداثة العالمية.
ـ العلمانيون وهم يريدون عالماً إسلامياً مختزلاً للدين في الدوائر الخاصة على غرار الديمقراطيات الغربية.(8/5)
ثم يوصي التقرير بوصايا متعددة للتعامل مع هذه التصنيفات. ومن هذه الوصايا:
ـ تأييد الاتجاه الصوفي، ونشره، والدعوة إليه..
ففي تقرير نشرته مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية بعنوان (عقول وقلوب ودولارات ) نشر عام (2005م ) يقول التقرير في إحدى فقراته: ( يعتقد الإستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحداً من أفضل الأسلحة، وبينما لا يستطيع الرسميون الأمريكيون أن يُقِرُّوا الصوفية علناً، بسبب فصل الدين عن الدولة في الدستور الأمريكي، فإنهم يدفعون علناً باتجاه تعزيز العلاقة مع الحركة الصوفية...، ومن بين البنود المقترحة هنا: استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود إلى القرون الوسطى وترجمتها، ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية في بلادها ) (15) .
في (30/1/2004م ) نشرت جريدة (يني شفق ) التركية خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش ) عرض على رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان ) خلال استقباله في البيت الأبيض يوم (28/1/2004م ) معالم المشروع الأمريكي الجديد لـ (الشرق الأوسط الكبير ) الذي يمتد من المغرب حتى إندونيسيا، مروراً بجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز. وحسب ما جاء في الصحيفة؛ فإن المشروع طبقاً لما عرضه الرئيس الأمريكي، جعل من تركيا عموداً فقرياً، حيث تريد واشنطن منها أن تقوم بدور محوري فيه، حيث تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج الاعتدال المطبق في بلادهم، وأن هذا النموذج هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة:(8/6)
أولها: أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حدّ كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة.
السبب الثاني: أن تركيا تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، ومن ثم فهي تعد جزءاً من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث: أن تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي يلقى ترحيباً وتشجيعاً كبيرين من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي(16 ) .
(النموذج التركي.. الهدف.. كل هذه العوامل أسرعت بالدفع بخيار الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في المنطقة إلى المقدمة، نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان في طبعته العربية هو ما تحلم به الإدارة الأمريكية لتسييده في المنطقة )( 17) .
وفي تقرير (عقول وقلوب ودولارات ) الآنف الذكر يقرر أنه لا بد من حل لمشكلة التيارات الإسلامية وأن (هناك حلاً للمشكلة أخذ يشق طريقه بمساندة من الولايات المتحدة لإصلاحيين تجمعهم رابطة الصوفية التي تعتبر فرعاً متسامحاً من فروع الإسلام )(18) .(8/7)
وتؤكد بعض الدراسات ( أن هناك تطورات تشير إلى أنهم يبحثون عن ضالتهم في الجماعات الإسلامية التركية التي يغلب على معظمها الصبغة الصوفية بأشكالها المختلفة... واستناداً لتقارير نشرتها بعض الصحف التركية خلال الأيام الأخيرة، فإن مسؤولين من السفارة الأمريكية في أنقرة، قاموا بزيارات إلى بعض الجماعات الإسلامية والمؤسسات الخيرية لدراسة مدى شعبية ونفوذ كل جماعة، وتشير المصادر نفسها إلى أن الأمريكيين يعرضون على زعماء الجماعات التي يزورونها التعاون الاستراتيجي في نشر ما يسمى بـ (الإسلام المعتدل ) في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتقديم الدعم المادي والسياسي لجماعاتهم، وفتح مجال الدراسة لطلابهم في الولايات المتحدة. وفي تطور آخر، زار رئيس الشؤون الدينية التركية (علي بارداكوغلو ) واشنطن في نهاية الشهر الماضي، وذكرت مصادر صحفية أنه بحث مع الأمريكيين خلال زيارته سبل التعاون في تعميم النموذج التركي، وطلب منه الأمريكيون خططاً ملموسة بهذا الشأن. ويبدو أن الأمريكيين اختاروا رئاسة الشؤون الدينية التركية للتعاون في صناعة ما يسمونه بـ (الإسلام المعتدل ) ، لخبراتها وتجاربها في إماتة الروح الإسلامية الفعالة وضبط المشاعر الدينية كمؤسسة رسمية خاضعة لنظام علماني، وتسيطر على كافة الشؤون الدينية في البلاد كالإفتاء وتعيين الأئمة والخطباء للمساجد ومدرسي القرآن وغير ذلك )(19) .
النشاط الصوفي بعد أحداث سبتمبر:
ويلحظ المتابع للحركة الصوفية النشاط المتسارع بعد الحادي عشر من سبتمبر بافتتاح المدارس والأكاديميات والأربطة لاستقبال المريدين، والقيام بالمؤتمرات الدولية حول الصوفية والتصوف، ودعم وسائل النقل الثقافي:(8/8)
ففي 28/3/2001م عقد في مدينة بامبرج الألمانية المؤتمر الثامن والعشرين للمستشرقين الألمان، ومن ضمن البحوث التي قدمت في المؤتمر بحث بعنوان «الأخوة الصوفية كحركات اجتماعية» ، و (الحركة النقشبندية في داغستان ) و (التيجانية ) في غرب أفريقيا، وصورة الموالد الشعبية في مصر(20) .
وفي عام (2002م ) تم افتتاح أقسام لتعليم اللغات (الإنجليزية والفرنسية والإسبانية ) في المعاهد الشرعية التابعة للشيخ (أحمد كفتارو ) النقشبندي، وهذه الأقسام تستقبل الطلبة الناطقين بهذه اللغات أو تعلم الطلبة العرب هذه اللغات كي يقوموا بالتدريس في هذه الدول بعد ذلك(21) .
وفي 12/7/2003م نظم المركز الثقافي الأوروبي البلغاري ندوة حول أدب التصوف في الإسلام(22) .
وفي أغسطس عام (2..3م ) الموافق جمادى الآخرة (1424هـ ) صدر العدد الأول من المجلة المنعوتة: بـ (مجلة البحوث والدراسات الصوفية ) وهي من مطبوعات جمعية العشيرة المحمدية بمصر وتقع في حوالي (600) صفحة، وتصدر عن المركز العلمي الصوفي الذي يهدف إلى (إحياء التصوف في الأمة، ونشره على كافة مستوياتها، وبين كل فئاتها، وفي مختلف أوجه أنشطتها ) ! (23) .
وفي عام (2003م ) شهدت مدينة (الإسكندرية) في الفترة من (18 ـ 21) إبريل المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية بمدينة الإسكندرية وقد انعقدت جلسات المؤتمر بمكتبة الإسكندرية بالتعاون مع (منظمة اليونسكو ) و (المركز الوطني الفرنسي للبحوث والدراسات العلمية ) و (المعهد الفرنسي لآثار الشرقية ) و (الوزارة الفرنسية للبحث العلمي ) و (وزارة الخارجية الفرنسية ) و (دار العلوم الإنسانية بفرنسا ) وأخيراً (وزارة السياحة المصرية )(24) .
وفي عام (2004م ) اقيمت على مدى عشرين يوماً محاضرات عن الحلاج وابن عربي وابن الفارض في الدانمارك(25) .
وفي سبتمبر من عام (2004م ) تم افتتاح الأكاديمية الصوفية بمصر( 26) .(8/9)
وفي 9/1/2004م أعلن في العراق عن تشكيل «الأمانة العليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي» التي من أهدافها «إنشاء المدارس الدينية ودعم الطرق الصوفية»(27) .
وفي (10/9/2004م ) أقيم مؤتمر هو اللقاء الأول من: (لقاءات سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف ) تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس )(28) .
يقول الدكتور عمار حسن: « وفي الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وتقرب المتصوفة من الحكومة، بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رفع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثها بين الناس والتي لولاها لتقوض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفالات الصوفية، بل صار شيخ مشايخ الصوفية (أبو الوفا التفتازاني ) ـ توفي ـ عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء مثل سيدنا الحسين والسيد البدوي» (29)(30) .
وفي ديسمبر من عام (2004م ) أقيم في عاصمة مالي (باماكو ) المؤتمر العالمي الأول للطرق الصوفية بغرب أفريقيا تحت شعار: (التصوف أصالة وتجدد )(31) .
وفي الفاتح من سبتمبر من عام (2005 ) أقامت الجماهيرية الليبية مؤتمراً دولياً بعنوان: (الطرق الصوفية في أفريقيا/ حاضرها ومستقبلها ) ومن أهداف المؤتمر اقتراح الخطط والوسائل والبرامج التي تساعد على تفعيل دوره، أما شعار المؤتمر فهو: (معاً من أجل تفعيل دور الطرق والزوايا الصوفية في أفريقيا )(32) .(8/10)
وفي(5) يوليو (2005م ) أقيم مؤتمر (حقيقة الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر ) الذي بدأ أعماله في العاصمة الأردنية (عمان ) برعاية العاهل الأردني الملك (عبد الله الثاني ) وقد قرر في خطابه فكرة التصوف واصفاً له بالتصوف المعتدل، فقال: (لقد أفتى شيخ الأزهر بأن الفكر الصوفي المعتدل مقبول ما دام يستند إلى الشهادتين؛ ذلك أن الاعتراف بالمذاهب هو اعتراف بمنهجية الإفتاء وتحديد من هو المؤهل لهذه المهمة، مما يؤدي إلى عدم تكفير بعضنا بعضاً، وإغلاق الباب أمام الجاهلين الذين يمارسون أعمال القتل والإرهاب باسم الإسلام والإسلام منها بريء )(33) .
إن هذه المؤتمرات المتلاحقة حول التصوف تنبئ أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأمة مقبلة على مد صوفي يراد إحياؤه من جديد بعد أن بدأ بالخمود، سواء أكان هذا التحرك ذاتياً من قِبَل الجماعات الصوفية، أم هو بتحريك غربي عربي؛ فالخطر العقائدي لا يزال قائماً.
( تابع البحث هنا )(8/11)
الإنجليزي الماكر.. الذي خدع ( طوال الشوارب ) .. !
أنقل لكم من كتاب الأستاذ أنور الجندي - رحمه الله - : " الإسلام والثقافة العربية " ( ص 196-198) - شيئًا عن " لورنس " الإنجليزي الماكر الذي استطاع خديعة " طوال الشوارب " ! من القوميين العرب ، وسخرهم لخدمة بلاده . ولا تعجب فإذا ما نُحي الإسلام وأحكامه عن قضايا المسلمين ، أصبحوا - وإن ادعى بعضهم الفهم - كمن يمشي مُكبًا على وجهه ، يتلاعب به أعداؤه ، ( ومن يُهن الله فما له من مُكرم ) ، وفي نقل التاريخ عبرة لكي لا نُلدغ مرة ثانية بأسلوب مُشابه .
لورنس .. الأعمدة السبعة
إن الجانب الذي يهمنا من دراسة هذا المغامر البريطاني في هذا المجال هو كتاباته عن العرب في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) فقد كشف في كتابه عن حقد وكراهية للعرب والمسلمين ولتاريخهم، وحاول التقليل من شأنهم ورميهم بالجهل والتخلف. فضلاً عن مغالطاته المتعددة وأخطائه التاريخية.
وأبرز ما يؤكد ذلك قوله بالنص:(9/1)
" لقد كنت أعلم أننا إذا كسبنا الحرب فإن عهودنا للعرب ستصبح ( أوراقا ميتة ) غير أن الاندفاع العربي كان وسيلتنا الرئيسية في كسب الحرب الشرقية، وعلى ذلك فقد أكدت لهم أن بريطانيا سوف تحافظ على عهودها نصاً روحاً فاطمأنوا إلى هذا القول وقاموا بالكثير من الأعمال المدهشة، ولكني في الواقع بدلاً من أن أشعر بالفخر لهذا الذي فعلته، كنت أشعر دائماً بنوع من المرارة والخجل، لقد ذهبت إلى الصحراء غربياً لا أملك أن أفكر على طريقة أهلها ولا أن أشاركهم معتقداتهم، ولكنه كان علي أن أقود العرب وأن استخدم حركتهم إلى أقصى حد لصالح بريطانيا في الحرب وإذا لم أكن أقدر على التطبع بطباعهم فعلى على الأقل أن أخفي ما عندي وأن أتسلل بنفوذي بينهم، إن الرجل إذا ألقت به الظروف إلى من لا يماثلونه عاش بينهم ولا ضمير له، لأنه قد يعمل ضد صالحهم أو يستميلهم إلى غير ما يحبون لأنفسهم، وهو يتحايل بدهائه لتغلب دهاءهم، وهكذا كنت مع العرب، كنت أقلد أحوالهم فيقلدونني حكاية واقتداء، وكنت أخرج على مألوفي وأتظاهر بمألوفهم.
لقد كان بعض الإنجليز وعلى رأسهم كتشنر يعتقدون أن ثورة يقوم بها العرب على الأتراك تساعد انكلترا وهي تحارب ألمانيا على دحر خليفتها تركيا، إنني لم أبلغ درجة من الحمق تجعلني لا أدرك أنه لو قضي للخلفاء أن ينتصروا وأننا لو كسبنا الحرب فإن هذه الوعود سوف تكون حبراً على ورق، ولو كنت مناصحاً شريفاً للعرب لنصحتهم بالعود إلى بيوتهم وسرحت جيشهم وجنبتهم التضحية بأرواحهم ودعوتهم إلى عدم المخاطرة بحياتهم في مثل هذه الحرب، أما الشرف فقد فقدته يوم أن أكدت للعرب بأن بريطانيا ستحافظ على وعدها.(9/2)
لقد كان قواد الحركة العربية يفهمون السياسية الخارجية فهماً عشائرياً بدوياً، وكانت طبيعة قلبهم وصفاء نيتهم وانعزالهم عن العالم الغربي تخفي عليهم ملتويات السياسة وأخطاءها وتشجع البريطانيين والفرنسيين على القيام بمناورات جريئة يعتمدون في نجاحها على سذاجة العرب وضعفهم وبساطة قلوبهم، وكانت لهم بساطة في التفكير وثقة في العدو.
إنني أكثر ما أكون فخراً إن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي خضتها لأن جميع الأقطار الخاضعة لنا لم تكن تساوي في نظري موت إنجليزي واحد، لقد جازفت بخديعة العرب لاعتقادي أن مساعدتهم كانت ضرورية لانتصارنا القليل الثمن في الشرق، ولاعتقادي أن كسبنا للحرب مع الحنث بوعودنا أفضل من عدم الانتصار". اهـ.
وأعتقد أن هذه النصوص كافية لكي تكشف حقيقة لورنس والدور الذي قام به في العالم العربي، وآية خداع لورنس وتآمره على العرب ما سجله ( وايزمان ) في كتابه "التجربة والخطأ" قوله: وأود أن أعلن في هذا المجال تقديري للخدمات الجليلة التي أسداها لقضيتنا الكولونيل لورنس، لقد اجتمعت به في مصر وفلسطين، وقابلته فيما بعد مقابلات عدة، إن علاقته بالصهيونية علاقة إيجابية على الرغم من تظاهره بالميل للعرب.
وقد ظل اسم لورنس يدوي مصوراً تلك المغامرة السحرية الجريئة التي قام بها والعمل البطولي الذي وصف من أجله بأنه سلطان الصحراء العربية وملك العرب غير المتوج حتى توفي في 19 مايو 1935.(9/3)
ثم ظهرت بعد ذلك كتابات كشفت وجهه الحقيقي؛ كتبها أمثال ريتشارد الدنجتون في كتابه "لورنس الدجال" وجان بيروقيلار الكاتب الفرنسي، ولويل توماس، وروبرت جرنقر، وليدل هارت، فكشفوا عن حقيقته وأظهروا مئات المغالطات التي ملأ بها كتابه، وعزوا سر اندفاعه ومحبته للظهور إلى سبب باطني، ذلك أنه كان ابنا غير شرعي لأمه، ووصفوه بأنه كان متحمساً للقضاء على الإمبراطورية العثمانية لتأكيد سطوة الاستعمار البريطاني وحده, وأن ما ادعاه من محبته للعرب ومقابلته للملك البريطاني مع فيصل بالعباءة والعقال العربي ورفضه قبول الوسام إنما كان هذا كله تغطيةً لمواقفه، وبلوغا بالمسرحية إلى غايتها.
وقد دحض ريتشارد الدنجتون في كتابه هذه الأسطورة البطولية، ليحل محلها إنسان مليء بالعقد والشذوذ، وعنده أن لورنس هو الذي عمل على اجتماع فيصل وحايم وايزمان في باريس 1919 وهو الذي كتب الاتفاقية التي وقعها كليهما، وكان لورنس يُطلق على الثورة العربية (تقطيع أوصال الدولة العثمانية) !! وهدفه إيقاع الخلاف وتعميقه بين العرب والترك.
وقد عرف أن لورنس لم يصل إبان الحرب العالمية مصادفة، ولكن العمل الذي قام به كان قد بدأ ربيع 1914 عندما وصل إلى الشرق، متخذا من ( فن البناء العسكري الصليبي ) موضوعاً لدراسته، وكان قبل ذلك ملتحقاً ببعثة أوفدت إلى وادي الفرات للبحث عن الآثار، وهكذا كانت خطته في دراسة الصحراء تختفي وراء عمل علمي بحت، هو دراسة البادية والمدن العربية والإلمام بطبائع سكان الأصقاع من مدن وحضر، والإلمام باللهجات التي يتكلمون بها والوقوف على عاداتهم، ثم استخدمه الإنجليز في ديوان الاستخبارات بعد ذلك حتى وصل جدة 1916 واتصل بفيصل وعمل معه ) .(9/4)
براءة الخيام من رباعياته !! ( وفتوى الشيخ المنجد ) - للبحث -
نشر أخي ( الأسدودي ) - وفقه الله - في منتدى الكاشف فتوىً للشيخ محمد المنجد - وفقه الله - في الشاعر الشهير " عمر الخيّام " ، هذا نصها :
عمر الخيام
الحمد لله :
1. هو : أبو الفتح ، عمر بن إبراهيم الخيَّامي النيسابوري ، شاعر ، فيلسوف ، من أهل نيسابور ، مولداً ووفاة .
2. ولد سنة 408 هـ ، في قرية نيسابور ، وتوفي ودفن فيها سنة 517 هـ ، وقيل : 515 هـ
3. كان عالماً بالرياضيات ، والفَلَك ، واللغة ، والفقه ، والتاريخ .
4. ولنبوغه في علم الفلك ، فقد عيِّن مديراً لمرصد بغداد ، ولشدة اهتمامه بالفلسفة قُرن اسمه باسم ابن سينا - الذي كان له مقالات كفرية تُخرج عن الإسلام - .
5. واشتهر كذلك بالشعر ، ومن أشهر أشعاره " الرُّباعيات " ، وهي مليئة بالكفر والإباحية والزندقة ، ولا عجب إذا علمنا اهتمام الغرب بطباعتها ونشرها ، وقد ترجموها إلى لغات عديدة مثل الإنجليزية ، والفرنسية ، والروسيَّة ، والألمانية ، وغيرها ، وقد استفاد الإنجليز في نشر الفاحشة والرذيلة والتي دعا إليها الخيَّام في " رباعياته " ، وقد نشروا ذلك في الدول التي استعمروها كالهند وإيران ، ناسبين ذلك الأمر إلى واحد من المسلمين بل ومن عظمائهم في زعمهم .
6. ومِن أشعاره في الخمر - من الرباعيات - :
اشرب الراَّح فهْي رُوح الرَّوْح
بلْسم النفس والحشا والمروح
وإذا ما دهاك طوفان همٍّ
فانْجُ فيها فذي سفينة نوحِ
7. وفي إنكاره البعث بعد الموت يقول :
قُم قبل غارة الأسى مبِّكرَا
وادع بها ورْديَّةً تجلو الدُّجَى
فلستَ يا هذا الغبيُّ عسجدَا
حتى تُوارى في الثرى وتُخرجا
= العسجد : الذهب .
8. وفي إباحياته وخلاعياته يقول :
ما اسطعتَ كن لبني الخلاعة تابعاً
واهدِم بناء الصوم والصلوات
واسمع عن الخيَّام خير مقالة
إشرب وغنِّ وسِر إلى الخيرات(10/1)
9. وفي استهزائه بالشرع ووقاحته مع ربه ، وموقفه من التوبة ، يقول :
كلَّ يوم أنوي المتاب إذا ما
جاءني الليل عن كؤوس الشراب
فأتاني فصلُ الزهور وإني
فيه يا ربُّ تائبٌ عن متابي
10. ويرى بعض الباحثين كالزِّركلي أنه تاب من ذلك وحجّ ، وبعضهم كعبد الحق فاضل يشكك في نسبة الرباعيات له !
وعلى كل حال : فالرباعيات لا تدل على أنه تاب ، لأن فيها المجاهرة بالكفر والتحلل من الفضائل ، وفيها التبرِّي من التوبة والإنابة ، بل لا تدل على أن صاحبها يؤمن بالله واليوم الآخر .
والتشكيك في نسبتها إلى الخيام لا يقْوى مع كثرة من نسبها إليه ودلَّل على ذلك ، والله أعلم بالحقائق .
وانظر في ترجمته : " الأعلام " للزركلي 5 / 38 ، و "معجم المؤلفين " لعمر رضا كحالة 2 / 549 ، و " عمر الخيام بين الكفر والإيمان " لإحسان حقي ، و " ثورة الخيام " لعبد الحق فاضل . وصلى الله على نبينا محمد ) . اهـ . الشيخ محمد صالح المنجد .
http://www.alkashf.net/vb/showthread.php?t=3482
قلتُ : وقد اطلعت على مقال للباحث بكري شيخ أمين - وفقه الله - ، نشره في مجلة الحج ، عدد محرم ، 1427هـ ، أحببتُ نقله للإخوة هنا ؛ لما فيه من نظرة أخرى للرباعيات ، منتظرًا فوائدهم ( مع التنبيه إلى أن علامات التعجب مني ) :
براءة الخيام من رباعياته !!(10/2)
في كثير من بلاد العالم فنادق ومطاعم وملاهٍ ومراقص تحمل اسم (عمر الخيام) فقط، وغالباً ما تكون هذه المواطن أمكنة للعبث، والانحراف، والإثم، والمحرمات كأن صاحبها يشير –بشكل خفي- إلى العلاقة الوطيدة بين هذه التسمية وسلوك الخيام وآرائه.. أو كأن صاحب هذا الملهى لم ير تسمية موحية بالانفلات والانحراف أفضل مما يوحيه اسم (عمر الخيام) في الشرق أو في الغرب. ويقف الباحث أمام هذه الظاهرة مستغرباً، متعجباً، مندهشاً، ويتبادر إلى ذهنه أن عمر الخيام يُضرب به المثل في تعاطي السرور والخمور والفجور وأنه طوال حياته، ما كان يبالي بجنة أو نار، أو حساب أو عقاب، وإنما كان أبيقوريا يغتنم الساعة التي هوفيها.. وبعدها فليكن الطوفان، ولولا ذلك ما اختاره صاحب الملهى الليلي، أو المقهى أو المشرب عنواناً.
ويزيد هذا الظن تأكيداً وتثبيتاً انتشار آلاف الكتب في شتى لغات العالم، فيها أشعار منسوبة إلى عمر الخيام، تدعى بـ(الرباعيات) ، كثيراً ما تكون –هذه الرباعيات- مطبوعة على ورق صقيل فخم، في كل صفحة رباعية واحدة بالفارسية والعربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والأوردية والأسبانية ومعظم لغات العالم، وفي الصفحة المقابلة صورة رمزية لرجل عجوز، طاعن بالسن، أشيب الشعر، لحيته تغطي نصف صدره، وأمامه غادة حسناء، غراء، فرعاء، مصقول عوارضها، تسكب من كوز بيدها خمراً في كأس، وتقدمها إلى العجوز وبيدها الأخرى آلة طرب، وفي إطار الصورة طيور وبلابل، وزهر وعنادل، وأشجار وثمار.
والغريب في الأمر أن كتب الرباعيات منتشرة في كل مكتبات العالم، وهي في طبعات تكاد لا تحصى، وفي لغات الدنيا قاطبة، وكثيراً ما تختلف رباعيات طبعة عن أخرى في اللغة ذاتها، أو في اللغات المختلفة، وليس من المستغرب أن يتجاوز عددها في شتى الطبعات ألفي رباعية، أو يزيد.(10/3)
ويقف الباحث المدقق متسائلاً: أصحيح أن عمر الخيام، الفارسي، المسلم، كان رجلاً متهتكاً، أمضى حياته كما يصورون ويزعمون؟
أصحيح أنه نظم هذه الآلاف المؤلفة من الرباعيات الصارخة بالمجون والمعصية والفجور؟ بل كيف انتقلت هذه الأشعار الفارسية المحلية إلى معظم لغات العالم، ومن الذي نقلها، ونشرها، ورسمها وزينها وأرخص ثمنها ؟
ويعود الباحث إلى مراجعه، وكتب التراجم، يستقصي سيرة عمر الخيام ويستوضح شخصيته، ليعرفه على حقيقته، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عنه.
المفاجأة الكبرى التي تبلغ حد الصدمة تبدو حين يبدأ بقراءة سيرة هذا الرجل، فيرى أن اسمه عمر، وكنيته أبو الفتح، ولقبه غياث الدين، ووالده إبراهيم النيسابوري، وشهرته: الخيام، أو الخيامي، لاشتغاله بصنع الخيام.
اتفق أكثر المؤرخين على أنه ولد في نيسابور من أعمال خراسان في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري/ العاشر الميلادي، وتوفي قبيل انتهاء الربع الأول من القرن السادس الهجري الحادي عشر الميلادي، ويحدد خير الدين الزركلي في كتابه "الأعلام" وفاته بسنة 515 هجرية، الموافقة لسنة 1121 للميلاد.
أما عن دراساته فيذكر المؤرخون أن كتب الفلسفة اليونانية المترجمة شائعة، ومؤلفات أرسطو طاليس وأفلاطون وإقليدس وبطليموس وجالينوس وفيثاغور وزينون وأبيقور في الفلسفة الطبيعية والإلهية والرياضية، وما يتفرع عنها من منطق وطب وهندسة وأخلاق وسياسة وهيئة ميسرة بين الناس، والجدل محتدم حول آراء السفسطائيين والمشائين الرواقيين وغيرهم من أهل المذاهب الفلسفية كانت شائعة ومعروفة.(10/4)
وفي عصره نضج علم الكلام، واشتد النزاع العلمي بين الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة (!) والجبرية، وشاعت آراء الباطنية، وكثر الإقبال على التأليف في مختلف العلوم والفنون، وذاعت رسائل إخوان الصفا، وتعددت الفرق والطوائف، وكثر الأطباء والفلاسفة، وظهر أبو علي ابن سينا، واشتد النزاع بين الدين والفلسفة، وألف حجة الإسلام (!) الغزالي كتباً في الرد على الفلسفة، وعظم أمر التصوف، وكثر القائلون بالجدل ووحدة الوجود، وتفرد نفر بآرائهم الحرة فاتهموا بالزندقة والإلحاد وصفوة القول: عاش الخيام في وسط علمي، وفي بيئة علمية وفنية، فعاصر زمرة من الفلاسفة والأطباء والمهندسين والرياضيين والفلكيين من بناة الأرصاد، وتتلمذ على نوابغ عصره من العلماء، وتردد إلى بعضهم، وتردد بعضهم إليه، وكثرت بينه وبينهم المجادلات والمحاورات والمراسلات في علوم شتى، وكان لأولئك الذين تتلمذ لهم وتتلمذوا عليه مكانة علمية عظيمة في عصره.
معاصروه جميعاً وصفوه بأحلى وأجمل وأرفع ما وصف به الرجال والعلماء، رفاق دربه وأصحابه وأترابه كانوا من خيرة الناس وأفضلهم.
منهم الإمام أبو حامد الغزالي، مجدد المائة الخامسة للإسلام (!) ، وصاحب (إحياء علوم الدين) ومنهم الوزير نظام الملك، وزير ملوك السلاجقة، وباني المدارس النظامية في شتى أرجاء العالم الإسلامي، وجار الله محمود الزمخشري، صاحب التفسير المعروف باسم (الكشاف) وصاحب الكتب اللغوية، والإمام ظهير الدين البيهقي، صاحب كتاب (حكماء الإسلام). وكثيرون آخرون على هذا المستوى ناهيك عن صحبته لملوك عصره، أمثال جلال الدين ملكشاه، وألب أرسلان، وخاقان بخارى، وسواهم من أبناء مطلع القرن السادس الهجري.
مؤرخو عصره وصفوه بـ (الإمام) و(حجة الحق) و(وحكيم الدنيا وفيلسوفها) و(الدستور) و(ابن سينا الثاني) و(العالم الفلكي) و(الفقيه) و(العالم بالقراءات القرآنية) و(الزاهد) و(المتصوف).(10/5)
تُرى: هل يمكن أن يوصف إنسان على هذا القدر من العلم، والخلق، والزهد، والتقوى، والحكمة، وحسن مجالسة وعارفوه بتلك الأوصاف الرائعة.
لم يقل أحد من تلاميذه وشيوخه وأصحابه ورفاق دربه إنه كان زنديقاً، أو سكيراً، أو منحرفاً ، حتى الشعر ذكروا أن له عدداً من الرباعيات في الزهد لا تزيد على بضع عشرة، جميعها أشادت به، وعرضت أشعاره بالعربية والفارسية، وهي قليلة ومحدودة، لا تتجاوز معاني الزهد، والشكوى من الأصحاب غير الأوفياء، والفقر، وهموم الحياة، والإيمان الكامل بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
يشهد على ذلك ما جاء في ترجمة حياته بتلك الكتب التي كتبت في حياته، والكتب التي كتبت بعد وفاته بقليل، منها: (جهار مقاله) لتلميذه أحمد بن عمر النظامي السمرقندي و(حواشي جهار مقاله) و(الزاجر للصغار عن معارضة الكبار) للزمخشري، و(حكماء الإسلام) للإمام أبي القاسم البيهقي، و(نزهة الأرواح وروضة الأفراح) لشمس الدين محمد بن محمود الشهرزوري، و(فردوس التواريخ) لخسرو الأبرقوهي، و(عجائب المخلوقات) لعماد الدين زكريا القزويني، و(جامع التواريخ) لرشيد الدين، و(أخبار الحكماء) لجمال الدين علي بن يوسف القفطي، و(كامل التواريخ) لابن الأثير، وسواها، وجميعها أشادت به، وعرضت أشعاره بالعربية والفارسية القليلة والمحدودة.
ويثور في الذهن سؤال ضخم كبير: كيف نسب إلى هذا الرجل هذا الكم الهائل من الرباعيات، وهو لم يقل إلا بضع عشرة رباعية؟ وكيف جعلت الأشعار عمر الخيام زنديقاً أو كالزنديق، وهو رفيق أكابر العلماء ونظيرهم؟ وكيف انتقلت هذه الأشعار إلى لغات العالم؟ ولماذا صورته بهذه التصاوير؟ ولماذا بذلت الرباعيات هذه البذل، وغدت بمتناول كل يد؟
ونتساءل عن هذه الظاهرة التي انتشرت في العالم كله منذ ما يزيد على مئة عام من عصرنا، ونحاول أن نعرف العوامل التي دفعت إلى انتشار هذه الأشعار الماجنة لشاعر مسلم.(10/6)
كان أول من عرف الخيام من الفرنجة توماس هايد أستاذ العربية والعبرية في جامعة أوكسفورد، وتبعه المستشرق النمساوي هامر برغستل سنة 1818م، ثم غرس دوتاسي، وفي القرن التاسع عشر ترجم السير كور أوسلي رباعيتين، وإدوارد هارن بعض رباعيات، والفرنسي نيقولا السفير في طهران، وشبهه بحافظ الشيرازي، وبلغ عدد المترجمين للرباعيات في القرنين الماضيين أكثر من عشرين مترجماً، ومعظمهم من اليهود، والمؤلفين في الأدب العبري.
وفي سنة 1859م نشر الشاعر الإنجليزي فيتز جيرالد الرباعيات شعراً، وبهذا الشعر انتشرت الرباعيات في جميع أصقاع العالم، وبدأ الناس يعرفون عمر الخيام، ويرددون شعره حتى راح يتغنى به آلاف الناس في شتى بقاع الأرض؟
وفي الحق: إن من يقرأ أشعار الإنجليزي فيتز جيرالد الرائعة المسبوكة بلغة كأنها السحر، ينجذب على مضمونها، ويسحر بأسلوبها وجمالها كل من يقرؤها.
وأعجب من هذا كله أن هذه الأشعار ترجمت من الإنجليزية إلى معظم لغات العالم، وما رباعيات الخيام العربية المغناة بالعربية، والتركية، والأوردية، والفرنسية، والروسية، وسائر اللغات الأخرى إلا ترجمة لرباعيات فيتزجيرالد، وليس لعمر الخيام الحقيقي يد فيها، ولا معرفة، ولا هو قالها، بل لم تكن تخطر له على بال، وهو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
هذا التناقض العجيب بين رباعيات قال فيتز جيرالد إنها منسوبة لعمر الخيام ودراسة موضوعية رصينة لشخصية عمر الخيام تظهر لنا أن في الأمر سراً.
ويكشف العلماء والباحثون السر، ويربطون بين حركة الاستعمار التي قويت واشتدت في القرن الثامن عشر، وما رافقها من حملات تبشيرية (!) وتنصيرية.(10/7)
زعم المبشرون أنهم وجدوا مخطوطة في جامعة أوكسفورد فيها رباعيات منسوبة إلى رجل يدعى بـ(الخيام) كلها زندقة، ودعوة إلى السكر والعربدة، وسرعان ما ترجمها إلى الإنجليزية اليهودي (توماس ماير)، ثم تلقفها (فون هامر النمساوي) ونقلها إلى الألمانية حتى إذا حلت سنة 1859 الميلادية وجدنا (فيتزجيرالد) اختار من الرباعيات ما شاء له الهوى، ونقلها بالمعنى شعراءً إلى الإنجليزية، وكانت –كما يقولون- أشعاراً رائعة، وفي غاية الجمال فأعجب بها الناس، وانتقلت من الإنجليزية إلى معظم لغات العالم، حتى إلى الفارسية والعربية، وولد من خلالها شاعر جديد، اسمه: عمر الخيام لا يمت بصلة إلى عمر الخيام الفارسي الأصيل المسلم بصلة إلا بصلة الاسم، لا أكثر.
وربح الاستعمار والمبشرون (!) ربحاً لا نظير له، فلقد أوهموا المشارقة (!) –بخاصة- أن من علمائهم الكبار من ينظم مثل هذه الأشعار، ويشرب هذه الخمور، ويفعل هذه الأفاعيل، إذن، فلا حرج عليهم أن يقلدوا عالمهم، ويتبعوا فلسفته شبراً بشبر، وذراعاً بذراع.
وانطلت الحيلة أو اللعبة على كثير من الناس، فإذا جمهور غفير من المخدوعين يسلك سلوك (خيام فيتزجيرالد) ويتفلت شيئاً فشيئاً من تعاليم الدين، ويغدو في آخر العمر مدمن شراب، مريد شيطان رجيم.
كان أول من نقلها إلى العربية وديع البستاني مترجماً لأشعار فيتزجيرالد، وأعقبه محمد السباعي المصري، ثم العراقي محمد الهاشمي نقلها من الفارسية، ومثله أحمد الصافي النجفي، وجميل صدقي الزهاوي، وأحمد زكي أبو شادي، وتوفيق مفرج.
لكن الطامة الكبرى هي التي ترجمها من الإنجليزية الشاعر المصري أحمد رامي، وكانت ترجمته من الجمال الفني والعبارات المغرية أشبه بترجمة فيتزجيرالد السحرية، وزادها حلاوة أسلوب وقبول عند كثير من دعاة الإلحاد غناء أم كلثوم لها، رغم تبديلها عدداً من الكلمات الأصلية.(10/8)
وقد يقول قائل: ومن ناظم تلك الرباعيات المصورة المطبوعة، والتي وجدت في أكسفورد، وترجمها ماير وهامر وفيتز جيرالد وسواهم؟
والجواب سهل ويسير، فما أكثر دعاة الإلحاد في كل زمان ومكان، وما أكثر الوضاعين والمنتحلين والمختلقين، وهل من العسير أن ينحل الزنادقة والوضاعون والملحدون شعرًا على لسان عمر الخيام وغير الخيام ؟ وهل ننسى ما نحل على لسان الجاهليين، وكم وضع على لسان السموءل شعراً هو منه براء، وكم وضع على لسان الرسول الكريم أحاديث زعموا أنها نبوية، والنبي الكريم منها براء، ولم يسلم من الوضاعين والكذابين شاعر، أو حاكم، أو خليفة، أو نبي، حتى آدم عليه السلام قال شعراً، وأقوالاً وأفعالاً ما أنزل الله بها من سلطان، ولا خطرت على بال، ولا مرت على شفتي إنسان.
فهل ينتبه العقلاء إلى هذه المخاطر، والافتراءات، والأكاذيب على لسان نبينا العظيم، وعلى الشعراء، والحكام، والعلماء، ورجال الدين (!) ، والتاريخ العربي من أوله لآخره، ويدركون ما يحاك لهم هنا وهناك، وما يلبس الأعداء من لبوس؟ ) . انتهى مقال الأستاذ بكري .
ثم اطلعتُ على ما كتبه الباحث الراحل أنور الجندي - رحمه الله - في كتابه " أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب والعَلمانية والتنوير الغربي " ( ص 456-462) عن رباعيات الخيام ، وأظن الأستاذ بكري شيخ أمين قد استفاد منه . وأنا أنقله بطوله لأهميته :
قال - رحمه الله - :
أشعار عمر الخيّام(10/9)
استطارت شهرة العالم الفلكي الإسلامي عمر الخيام فجأة، بعد أن كان واحداً من العلماء المسلمين في مجال الكشوف الجغرافية، ورصد الكواكب، فأصبح شاعراً خطيراً في مجال الدعوة إلى الخمر والإباحية والانطلاق، وذلك عندما نشر (فيتزجرالد) الشاعر الإنجليزي مجموعة من الشعر الفارسي الملفق عام 1589 نسبها إلى الخيام وقد جند الشاعر الإنجليزي (فيتزجرالد) عشرات من أساتذة الأدب في الجامعات الإنجليزية وفي مقدمتهم (أ.ج. آربرى) لهذه المؤامرة الخبيثة.
ومنذ ذلك الوقت حرصت القوى التغريبية على ترجمتها إلى اللغة العربية، فسلط عليها عدد كبير من الشعراء العرب الذين ترجموها، وفي مقدمتهم البستاني والزهاوي ورامي والصافي النجفي والسباعي وأبوشادي ومحمد الهاشمي.
وأولتها الصحف اهتماماً كبيراً، وقد تبع ذلك اهتمام بالغ وتركيز أشد خطورة على اسم "الخيام" دفعاً لهذا التيار الجديد وتعميقاً له، فصدرت طوابع البريد في مختلف أنحاء أوربا باسمه وصورته، وأنشأت الأندية الليلية الصاخبة تحت لوائه، وكتبوا اسمه على أطراف البطاقات، (كارت بوستال) تعظيماً وتكريماً لقصائد التحلل والمجون المنسوبة إليه.
كشف الزيف:
وقد كان لهذا التيار أثره في التعريف من جديد بالخيام في نظر الشرقيين (عرباً ومسلمين) بوصفه شاعراً ماجناً عربيداً يدعو إلى اللذة، وقد استمر ذلك زمناً طويلاً، قبل أن تكشف الدراسات الأصيلة، والأبحاث العلمية الخالصة من الزيف عن كذب هذه الدعاوى العريضة وفسادها، وتبين أن الخيام لم يكن هو قائل كل هذا الشعر الذي نسب إليه، ولم يكن هو في حياته إنساناً خليعاً ولا داعية إلى إباحية.
فيتزجرالد هل زيف ؟
إن المراجعات الدقيقة التي أجريت منذ اللحظة الأولى كشفت عن أن (فيتزجرالد) حين وصلته المخطوطات الفارسية والهندية لم تكن بالوضوح الذي يمركزها كلها حول عمر الخيام.(10/10)
وإن هناك أخطاء بالغة في الترجمة، كذلك فإن هناك إشارة واضحة إلى أنه استوحى هذه النصوص ولم يترجمها، كذلك فإن الدكتور (ميلار) نشر مقالاً في جريدة المورننج بوست قال فيها: إن شخصية عمر الخيام محاطة بغلالة من غموض وإيهام، وقد نسجت حوله أساطير غامضة تدعو إلى الشك في وجوده، وجاء ببراهين أنكر فيها نسبة هذا الشعر إلى عمر الخيام.
وأشار الأستاذ (همايون) في مقال له ترجم في مجلة الثقافة 14 مارس 1939 إلى الشك في نسبة هذا الشعر إلى عمر الخيام، وأن عدداً كثيراً من قصائده منسوب إلى شعراء آخرين وكثير منهم أقدم عهداً من عمر الخيام، وهنا تبدو (دهشة) المراجعين لهذا التركيز على عمر الخيام، بينما هناك من شعراء إيران أمثال: حافظ وسعدي والعطار من لم تتهيأ لهم مثل هذه الفرصة.
وبدت الشكوك تتردد حول اتجاه هذه الرباعيات الخمسمائة المنسوبة إلى عمر الخيام وما تحمله من دعوة إلى التغزل بالخمر وحث الناس على تعاطيها والقول بأنها الدواء الناجح لآلام النفس، بينما تكشف حياة عمر الخيام عن شخصية رجل مسلم عميق الإيمان بالله، متصرف بكليته إلى العلوم الفلكية.
ومنذ ذلك الوقت الباكر كانت الإرهاصات كلها تشير بالشك، وأصبح الاتهام حول هذه الرباعيات واضحاً، بل إن واحداً من مترجمي هذه الرباعيات وهو أحمد حامد الصراف كتب تحت عنوان (هل كان عمر الخيام سكيراً) مقالاً في مجلة المقتطف 1925 حاول من خلاله أن يصل إلى مفهوم باطني زائف يختلف عن مفهوم الإسلام في موضوع العقاب والجزاء والمغفرة، والإرادة الجبرية مما تحمله فلسفات الغنوصية القديمة، ولكنه كان شاكاً في نسبة هذا الشعر إلى الخيام.
كذلك أشار لطفي جمعة (البلاغ 8 مايو) إلى أنه لم يهتد أحد بعد إلى العدد الصحيح لتلك الرباعيات ولم يتأكد أحد من صحة ما هو منسوب منها كذباً إلى الخيام، وقد استمر إلقاء الضوء على هذه الظاهرة سنوات طويلة لم يتوقف.(10/11)
وقد أشار دكتور محمد موسى هنداوي في محاضرة له ألقاها في مارس 1928 إلى أن الرباعيات تحتوي على كثير من الاختلاف والانتحال، مما يجعل (الخيام) مفترى عليه في تاريخ الأدب.
ذلك العالم الرياضي العاقل المفلسف الحكيم المالك كل مشاعره، خاصة في الرباعية التي تدعو إلى احتساء الخمر وتمجيد الكأس إلى جوار رباعية أخرى فيها الاعتراف بالإله الواحد وفي الالتجاء إليه، فكيف تستقيم النزوة الطائشة بجوار الحكمة السديدة.
إن الذين اتهموا أسرفوا في الاتهام حتى حاكموا الخيام عن رباعيات لم تثبت نسبتها إليه، فضلاً عن التزيد فيما نشروه.
وقد أشار إلى ما أورده (عبدالحق فاضل) في بحثه عن الخيام قوله: ومن الحق علي أن أنبه إلى أمر هو أني لست على يقين من أن هذه الرباعيات التي تقرأ هي رباعيات الخيام حقاً، فما من إنسان يسعه أن يجزم بأن معشار تلك الرباعيات التي تعد بالألوف والتي تكتظ بها النسخ المختلفة هي للخيام حقاً.
وقال الدكتور محمد عبدالهادي أبو ريدة في بحث مستفيض عن الخيام إن هذا العالم الفلكي اشترك في إصلاح التقويم الفارسي، وفي بناء المرصد للسلطان ملكشاه، والذي ترجع شهرته الكبرى عند المؤرخين المعاصرين إلى علو قدمه في الرياضيات وفي كثير من فروع العلم.
لذا نجد تلميذه نظامي يضعه في القسم الخاص بالمنجمين والفلكيين، لا في القسم الخاص بالشعراء، ويضعه البيهقي المؤرخ المعاصر للخيام والذي عرفه شخصياً بأنه الفيلسوف حجة الحق.
وهذان المؤرخان لا يذكران شيئاً يدل على أنه شاعر، فضلاً أن ينسبا إليه شيئاً من الرباعيات المنشورة التي تحمل اسمه.
ولكن بعد أن انقضى على وفاة الخيام أكثر من قرنين، أخذت تظهر مجموعات الرباعيات التي تنسب إليه، وأخذ حجمها يتزايد مع الزمن، وإن كان لم يذكر له قبل ذلك رباعيات ذات محتوى شكي إلحادي.(10/12)
وإذا صرفنا النظر عما في مجموعات الرباعيات التي ليس لدينا ما يثبت نسبها للخيام إثباتاً يقينياً، لأن كثيراً منها كما بين ذلك تشوكوفسكي في بحث نقدي له عام 1898 حيث ينسب بحجة أقدم أو أحسن أو مساوية إلى شعراء آخرين، فإن ما في المراجع غير المباشرة، من رباعيات تنسب للخيام تدعو إلى الاعتقاد بأن له رباعيات من التي أضيفت إليه فيما بعد.
وهكذا تعددت الكتابات في رد نسبة هذا الشعر إلى الخيام حتى تصل إلى البحث الذي قال ( الكلمة الحاسمة ) في هذا الاتهام ، وهو " كشف اللثام عن رباعيات الخيام " للسيد أبو النصر مبشر الطرازي الحسني والذي يقول إنه لم تكن للخيام رباعيات تزيد على عدة رباعيات يقال إنه أنشأها ترفيها للنفس، وقد زاد عليها المغرضون رباعيات كثيرة، وضعوها أو أخذوها من هنا وهناك، ونسبوها إليه، هذه الرباعيات المتنكرة المخزية ليست من نظم عمر الخيام، لأنها لا تتفق ومكانته العلمية.
ويعجب السيد الطرازي (رحمه الله) كيف يعرف عمر الخيام لا عن طريق مكانته العلمية الحقة، وإنما عن طريق رباعيات مزعومة، عبروا عنها برباعيات الخيام ووصفوها بأنها فلسفة الخيام، فمنهم من قال إنه (أبيقوري النزعة والميول)، ومنهم من سماه وايلد الشرق (نسبة إلى أوسكار وايلد الكاتب الجانح) ومنهم من ذهب إلى أنه معري المذهب، ومنهم من رأى أنه إباحي وأنه مستهزئ بأحكام الدين.
كما طعن فيه البعض بأنه (دهري) وزعم البعض أنه تناسخي وظن بعض أنه باطني، ولا أدري أو تشاؤمي، وجبري ، وادعى آخر أنه ثائر على كل شيء، على الدين وعلى الأخلاق وعلى العقل أيضاً.
وليس لهم دليل على ذلك إلا تلك الرباعيات التي نسبت إلى شخصه، وظنوا أنها من الحكيم عمر الخيام النيسابوري ومقولاته وآثاره.
ولقد كان عليهم أن يعرفوا الحكيم النيسابوري تحت ضوء الفحص العلمي الصحيح، والنقد التاريخي الموثوق معتمدين على آثاره ومقولاته.(10/13)
ويصل السيد الطرازي إلى القول بانتحال تلك الرباعيات بدلائل كثيرة ولا سيما التناقض بين معانيها واتجاهاتها ، ويعجب أن يعرب عمر الخيام في ضوء رباعيات مترجمة على يد شاعر إنجليزي هو (إدوارد فيتزجرالد) تلك الترجمة التي قام بها عام 1856 ونشرها في الغرب على أوسع نطاق، وقد انساق المسلمون وراء تلك الفلسفة المزعومة والخداعة، وتأثروا بما فيها من المعاني المثيرة والاتجاهات المغرية والتحليلات الباطلة.
وكشف الباحث ما وراء هذه من هدف حين قال: إن أوائل الغربيين الذين اهتموا بالرباعيات إنما كانت تدفعهم فكرة استمعارية معتمدين في ذلك على محض مصادفة ساقها القدر وقد خدمهم المستشرق فيتزجرالد الذي تلقى الإشارة من قبل السادة الإنجليز.
ويقول دكتور محمد موسى هنداوي: أنا مع الطرازي في أن الاستعمار لا يترك وسيلة إلا استخدمها ولا سلاحاً إلا استعمله.
ويقول الطرازي:" وإن الأغراض المقنعة وراء هذا هي إشاعة روح فن الرباعيات عن طريق شعر منسوب إلى مسلم ورباعيات مسكرة خليعة فيها دعوة صريحة وصارخة إلى تناول الصهباء ومجالسة الغادة الحسناء وإمرار الحياة بالعطالة والجمود والكسل والخمول والحرية المطلقة التي لا قيود فيها وفي ذلك مهاجمة واضحة لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف".
ويقول: إن الذين قاموا بذلك هم خواص الغربيين الماهرين ممن لهم علاقة بالتبشير المسيحي ومنهم المستشرق النمساوي هافر يرغستل الذي ترجم 25 رباعية منها وكلها تخالف تعاليم الإسلام وتخدش مقدساته وذلك في كتاب (تاريخ الدولة العثمانية).(10/14)
ولقد وجدوا في هذه الرباعيات بغيتهم المنشودة في الطعن على الدين الإسلامي، والاستهزاء بتعاليمه المقدسة، ولا سيما الجرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين في ذلك إلى مقولات –ولو موضوعة- منسوبة إلى رجل عظيم من عظماء الشرق وعالم من علماء الإسلام، كما كسبوا مبالغ باهظة عن طريق بيع ترجماتهم وكتبهم في الشرق والغرب . ويقول الأستاذ الطرازي: كان فيتزجرالد الشاعر الماهر الإنجليزي قد تلقى الإشارة من قبل بعض ساسة الإنجليز، فقدم إلى المستعمر المحتال خدمة مشكورة، ولكن تحت ستار الخدمة للأدب الغربي، وذلك بترجمة تلك الرباعيات إلى النظم الإنجليزي، وحذا حذوه (زوكوفسكي) المستشرق الروسي وقد تفرد فيتزجرالد بميزة خاصة، فقد صور الرباعيات المستنكرة المخزية الخليعة بصورة خلابة، وضمنها في كلمات إنجليزية منظومة جذابة، بحيث تخلب قلوب أهل الشرق، ولا سيما الشباب الناشيء ورجال المستقبل، وتكسب اهتمامهم نحوها من حيث طلاوتها اللفظية أولاً، والشهوات والنزعات النفسية، ثانياً.
وقد خدع فيتزجيرالد الشرق والشرقيين بهذه الخدعة السياسية في ثوب ثقافي أدبي.
ونجح معه الإنجليز بدهائهم المعروف في السياسة الاستعمارية في نشر هذه السموم الفتاكة بين أبناء الشرق عامة، وخاصة أبناء مستعمرة الهند، وجارتها إيران تحت ستار الأدب ، ودعاهم جميعاً إلى تناول الخمور ومغازلة الحسان وملازمة السرور والغناء ومجانية السعي والعمل، وحثهم على الإباحية والزندقة بدعوى الحرية المطلقة، الأمر الذي دفع الشرق إلى ما دفعه من التأخر وجعله مستعداً لقبول تدخل المستعمر في شئونه الاقتصادية أولاً، والسياسية ثانياً، ومما أدى إلى تأخر طائفة من الشرقيين، وفساد أخلاقهم، وابتعادهم عن كسب العلوم والفنون.(10/15)
وقد تمكنوا ونجحوا في تنفيذ خدعتهم في صفوف أبناء الشرق، ودفعوهم إلى التقدير والإعجاب بتلك الترجمة الخادعة للرباعيات حيث سارعوا إلى ترجمتها إلى العربية والأوردية.
ولقد حاولت الرباعيات أن تحيي بذكاء ورقة تعاليم الباطنية وأتباع حسن الصباح من إباحية شرب الخمر وجميع الملذات، وإنكار النبوات والمعجزات، والقول بقدم العالم وإبطال القول بالمعاد والنشر من القبور، وكون الجنة هي نعيم الدنيا، ووصايا أخرى ترمي إلى هدم الشرائع وتثبيت دعائم الإلحاد.
ويؤكد الأستاذ الطرازي أنه ليس هناك أي سند تاريخي أو دليل علمي موثوق يثبت صدور تلك الرباعيات، ولا سيما المستنكرة الخليعة منها، عن الحكيم عمر الخيام النيسابوري، وأن هذه الرباعيات التي نسبوها إليه جمعوها من هنا وهناك وطبعوها في الشرق والغرب.
ولو كان للخيام رباعيات مثل هذه الرباعيات –ولا سيما المستنكرة الخليعة الخمرية- لما سكت عن روايتها المؤرخون الأقدمون، حيث لا توجد نسخة مدونة لرباعيات الخيام، إلا ما دون بعد مرور ثلاثة قرون ونصف قرن من وفاته، وهي النسخ المعروفة بنسخة بودليان المحفوظة في أوكسفورد، وهم لا يعرفون مصدر هذه النسخة التي أخذ منها صاحبها، الأمر الذي يدل على أنها موضوعة.
ويلخص الأستاذ عبداللطيف الجوهري معلقاً على كتاب الشيخ الطرازي أهم الخطوط العامة:
أولاً: انخداع الشرقيين ولا سيما الخياميين المتطرفين، رجاء تخليصهم مما سموه (فلسفة الخيام) التي دفعت بهم إلى حضيض الأهواء والأوهام وساقتهم نحو الفساد والانحلال، ورمت بهم في مسالك الجهل والضلال، مع التنبيه على لعبة أعداء الإسلام ورجال الاستعمار وما لهم من دور خفي دقيق في هذا المضمار.(10/16)
ثانياً: لم يشر أحد من أصحاب التراجم إلى أن الخيام عرف بأنه يقرض الشعر حتى الإشارات الضعيفة التي وردت، تدل على أنه إن كان له شعر فلا يمكن بحال أن ينحدر إلى مستوى الرباعيات الخارجة، والتي تنسب إليه بلا حجة واضحة، وهو من هو، الحكيم الذي يجالس الخلفاء وينتج الرسائل في التوحيد والفقه والرياضات.
ثالثاً: رأي الغربيون أن معاني تلك الرباعيات وأهدافها متفقة مع أهواء الغرب في شرب الخمر ومصاحبة الغانيات وإمرار الحياة بحرية مطلقة مزعومة، ووجد المختصون بشئون التبشير النصراني في الغرب في هذه الرباعيات بغيتهم المنشودة، في الطعن على الدين الإسلامي والاستهزاء بتعاليمه القدسية، ولا سيما الجرأة على الرسول صلى الله عليه وسلم وجدوا بغيتهم عن طريق عظيم شرقي مسلم. ) . انتهى كلام الأستاذ أنور - رحمه الله - .
وليُلاحظ أنه كان من الأولى استبدال كلمة " الشرقيين " بـ " المسلمين " ، لكنه جرى على عادة أبناء عصره . والله الهادي .(10/17)
يا أهل السنة : من ألمّ بشيئ من البدعة فليصنع كما صنع إبراهيم بن جاسر
من المعلوم أن من أصول أهل السنة أنه لاأحد من هذه الأمة معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُبلغ عن ربه ، وأن المسلم مهما علا شأنه في العلم لا ينجو من الخطأ ، ولكن الموفق منهم إذا نوصح رجع ، ولم يُصر ويستكبر . وقديمًا قال عمر في رسالته لأبي موسى - رضي الله عنهما - : ( ولا يمنعنك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم ، فراجعتَ فيه رأيك ، فهُديتَ فيه إلى رشدك ، أن تُراجع فيه الحق ، فإن الحق قديمٌ لا يُبطله شيئ ، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ) . فالرجوع للحق من التواضع الذي يرفع الله صاحبَه ، ويعوضه خيرًا منه ؛ لأنه يتطلبُ شجاعة ، وجهرًا بالتوبة ، وتجردًا لا يستطيعه إلا ذوو النفوس الشريفة ، أما التعالي عليه - عنادًا أو استنكافًا خشية مقال الناس - فهو منقصة لصاحبه ، ودليلٌ على عدم إخلاصه وتجرده ، وعقوبته تكون بنقيض قصده ؛ حيث المقت العاجل في قلوب المؤمنين ، والحرمان من بركة العلم ، وهذا أمرٌ واقع . ( ولا يظلم ربك أحدا ) .
ومن تأمل تاريخ أهل السنة وجد في قَصَص الراجعين للحق بعد زلتهم ، ثم نوصحوا من العلماء الصادقين المحبين له وللأمة الخير الذين استجابوا لقوله تعالى : ( وتواصوا بالحق ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة .. الحديث " - عبرة لكل من عثر كعثرتهم فألم بشيئ من أقوال أهل البدع .(11/1)
ومن أبرز هؤلاء في القديم : العلامة أبو الوفاء ابن عقيل - رحمه الله - الذي زلّ فنوصح ؛ فكتب يقول : ( إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره ، ومن صُحبة أربابه ، وتعظيم أصحابه ، والترحم على أسلافهم ، والتكثر بأخلاقهم . وما كنتُ علقته ، ووُجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته ، ولا تحل كتابته ولا قراءته ، ولا اعتقاده . - إلى أن قال - واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات ، ونصرتُ ذلك في جزء عملته ، وأنا تائب إلى الله تعالى منه ، وأنه قُتل بإجماع علماء عصره ، وأصابوا في ذلك وأخطأ هو . ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة ، وغير ذلك ، والترحم عليهم ، والتعظيم لهم ؛ فإن ذلك كله حرام ، ولا يحل لمسلم فعله ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " . وقد كان الشريف أبو جعفر ومن كان معه من الشيوخ والأتباع ، سادتي وإخواني - حرسهم الله تعالى - مصيبين في الإنكار عليّ ؛ لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها ، وأتحقق أنني كنتُ مخطئًا غير مصيب ) . ( الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 3/144-145) .
أما في العصر الحديث : فقد أخطأ الشيخ ابراهيم بن جاسر - رحمه الله - ( ت 1338هـ وله ترجمة في علماء نجد1/277-293، وروضة الناظرين 1/41-43 ) في عدد من المسائل ، وجانب العقيدة السلفية ؛ فنوصح من مشايخه وعلماء عصره ، فتفكر وتأمل ، ثم كتب وجهر بـ" رجوعه " عنها ، قائلا في وثيقة محفوظة بمكتبة الحرم :(11/2)
( الحمد لله الذي جعل الرجوع إلى الحق بعد بيانه من سيما المتقين وإمارات المتورعين المخلصين لله الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، صلى الله عليه وعلى أصحابه أجمعين ، أما بعد : فإن الله تعالى إذا قضى أمرًا فلا راد له ، ولا بد من وقوعه ، وكان من قضائه - له الحمد على كل حال - أن أراد وقوع نزاع بين الفقير وبين مشايخه الكرام – عفى الله عن الجميع ووهب المسيئين منا للمطيع – في 7 شوال سنة 1303هـ في أربع مسائل :(11/3)
أحدها : أنهم كانوا يقررون لنا سابقًا ولاحقًا أن من طلب من الميت ما هو في قُدرة الحي ؛ كأن يقول : يا فلان ادعُ الله لي فهو كافر ، وكنتُ لهم موافقًا ، فعرض لي في أثناء السنة المذكورة في نسخة لشيخ الإسلام فهمتُ منها أن ذلك ليس بكفر ، فاعتمدتُ على ذلك ، فلما شعر المشايخ بذلك شق ذلك عليهم ، وتكابروا صدوره مني ، وهم في نفس الأمر مصيبون ، ثم استبان لي بعد ذلك أن الحق ما كانوا عليه ابتداء وانتهاء ، ثبّت الله الجميع عليه ، فرجعتُ إلى قولهم اعتمادًا على الدليل الشرعي ، لا موافقة بظاهري دون باطني ، فالله حسيب من ظن ذلك بي ؛ وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم يُنتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الميت إذا مات فقد انقطع عملُه إلا من شيئ قد تسبب له في حياته ، واكتسبه حال قدرته ؛ فأجري ثوابه بعد موته ، وهي ما ذكر في هذا الحديث .. وما عدا ما ذُكر لا يلحقه إلا بإهداء الغير له كما دل على ذلك القرآن والسنة ، فمن طلب من الميت أن يسأل له الله فقد ضل عن الصراط المستقيم ، وخالف خبر النبي صلى الله عليه وسلم في أنه قد انقطع عملُه . فإن قال قائل : لا ريب في ذلك ، وإنما الشأن في أنه هل يكفر ؟ قلنا : نعم . فإن قال : هذا خبر آحاد لا يوجب العلم اليقين ، وإنما يوجب العلم الظني .(11/4)
قلنا : هذا حكم خبر الآحاد إذا لم تحتف به قرائن ، فأما إذا احتفت به قرائن فإنه يوجب العلم القطعي ، وقد احتف بهذا الخبر قرينة من أقوى القرائن ، وهي ما علم بالضرورة من الدين من قدرة الحي فقد اعتقد ثبوت ما هو معلوم من الدين بالضرورة انتفاؤه ، فيستحق إطلاق الكفر عليه حينئذ ، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، رواه مسلم ، وقال تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ، وهذا القدر كفاية لمن هداه الله ، اللهم اهدنا والمسلمين .
الثانية : أنهم يعتمدون القول في أن شد الرَحل لزيارته صلى الله عليه وسلم لايجوز ابتداء وانتهاء ، وكنتُ معهم أولا ، ثم عرض لي ترجيح القول باستحباب ذلك ؛ مستدلا على ذلك بأحاديث ضعيفة ، وتبين لي الآن أن الصواب معهم ، نفع الله أهل الإسلام بوجودهم ، وجعلهم مسددين في جميع أمورهم ؛ لقوة مستندهم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " ، هذا الحديث رواه الشيخان من حديث أبي سعيد – رضي الله عنه - ، وفي رواية : " لا تشُدوا " بصيغة النهي ، رواها مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، فإذا نهى صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلى المساجد غير الثلاثة ؛ فشد الرحال إلى القبور أولى بالمنع .(11/5)
الثالثة : أنهم كانوا يذهبون إلى القول بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعة بعد موته ، وأن حديث الأعمى الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي خاصٌ بحياته كما قاله الجمهور ، وصوّبه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكنتُ موافقًا لهم ، ثم تبين لي أخيرًا أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز ، لا شك في جوازه ؛ لأثر روي في ذلك عن بعض الصحابة – رضي الله عنهم - ، فقال المشايخ – متعنا الله بحياتهم - : القول بالمنع بعد الموت أولى ، وبالصواب أحرى ؛ سدًا للذريعة ، وقطعًا للوسيلة المفضية إلى محظورات الشريعة ، فامتنعتُ من ذلك مدة وأنا الآن قد شرح الله صدري لموافقتهم ، جعلها الله بحق اسمه موافقة مستمرة ، وعلى الحق أبدًا مستقرة ، إنه على ذلك قديرٌ وبالإجابة جدير .
الرابعة : في شأن ابن عربي ، وذلك أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال : الحكم بالولاية ، والتوقف فيه ، والقطع بكفره ، وهذا اختيار المشايخ ، فسنح في أثناء السنة المذكورة أن الوقف أقرب إلى الورع ، بعد أن كنتُ موافقًا لهم على قولهم ، والآن : كفرُ الرجل بكلامه واضح ، وزندقته بخذله ناضح ، فلا معنى للتوقف فيه إلا ما سبق في القضاء من وقوع هذا الأمر المقدور ، فالحمد لله على الاتفاق ، وأتضرع إليه أن يجعله اتفاقًا مؤبدا ، مرضيًا له . والله أعلم . اهـ .
قلتُ : رحم الله الشيخ إبراهيم ، ورفع منزلته ، وجعل في رجوعه تشجيعًا لمن شابه حاله ممن تأثر بشيئ من أقوال أهل البدع ؛ من إرجاء أو تأويل أو تكفير لمن لا يستحقه .. ، وشكر الله للأخ الشيخ خضر بن سند الذي صور لي هذه الوثيقة من المكتبة المذكورة ، مع التنبيه على أن الشيخ أباعبدالرحمن الظاهري - وفقه الله - سبق أن نقلها في مجلة الدرعية ( العدد 2 ) ، وعلّق عليها . والله الهادي .(11/6)
تنبيه : أقوم بإعداد كتاب بعنوان " الرجوع إلى الحق فضيلة " - أقتصر فيه على الراجعين للحق من أهل السنة - ، وسأكون شاكرًا - إن شاء الله - لكل من خصني بفائدة مناسبة .(11/7)
تعليقٌ على دعوى يرددها بعض الفضلاء عن حال البلاد قبل الدعوة الإصلاحية
انخدع بعض الفضلاء - عفى الله عنهم - بدعوى رددها خصوم الدعوة الإصلاحية التي قام بها الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ، هي زعمهم أن علماء الدعوة ومؤرخيها بالغوا في وصف حال البلاد النجدية المُظلم قبل دعوة الشيخ ، حتى قال أحد الخصوم - وهو ابن عمرو - " إنه لم يوجد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم في نجد ومايليها من الأقطار والأمصار شركٌ ولا كفر " ! تعريضًا - كما يقول الشيخ ابن سحمان - رحمه الله - " بأن ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب من الدعاء إلى توحيد الله ، والنهي عن الشرك : أنه ليس من الدين في شيئ ، بل هو مجرد هوى وطلب للملك بدعوى الجهاد " . ( انظر : الرد على ابن عمرو ، ص 135 ، عن مجلة الدرعية ع 2 ص 270 ) . وقد أشار الإمام المجدد إلى هذه الدعوى التي نشرها الخصوم في عصره في رسالته إلى محمد بن عيد ( كما في الدرر 10/114 ) ، قال : " فلما أظهرتُ تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، سبّوني غاية المسبة ، وزعموا أني أكفر أهل الإسلام ، وأستحل أموالهم ، وصرحوا أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر " !
فتأثر بعض الفضلاء - كما سبق - بمثل هذه الدعاوى - للأسف - ، عندما أخذت بعضهم الحمية للبلاد النجدية ، زاعمًا المبالغة في كلام علماء الدعوة ومؤرخيها عند حديثهم عن الحالة الدينية أو العلمية في نجد قبل الدعوة ، مدعيًا خلاف ذلك ، وفي هذا ما فيه من التشكيك بكلام العلماء الثقات ، قادهم إليه عدم فهمهم لمقصودهم .(12/1)
وتوضيح هذا : أن علماء الدعوة - كالشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن في رسالته عن أحوال البلدان قبل الدعوة ، في الدرر السنية 1/373-439 ، ومؤرخيها ؛ كابن غنام وابن بشر في تاريخيهما - عندما يتحدثون عن انتشار البدع والشركيات فإنه لا يستلزم من كلامهم هذا : جهلهم بوجود العلماء - بالمعنى العام - قبل الدعوة ، ممن يشتغلون بالفتيا أو القضاء أو الإمامة ، فهذا لايجهله العامة فضلا عن العلماء والمؤرخين ، ولكن وجود هؤلاء العلماء المُشار إليهم لا ينفي ما ذكره أئمة الدعوة من انتشار البدع والشركيات في عصرهم ؛ لأنهم لا يخرجون عن ثلاثة أصناف :
1- إما عالمٌ مبتدع ، يدين بالعقيدة الأشعرية التي لا تُقيم لتوحيد الألوهية والعبادة وزنًا ، وإنما همها إثبات وجود الخالق ، وتوحيد الربوبية الذي لم يُنكره حتى الكفار ! ، ولهذا فهؤلاء " العلماء " لايرون في تلك الممارسات البدعية أو الشركية انحرافًا ! إن لم يؤيدوها .
2- وإما عالم " مداهن " ، رضي بالمنصب والجاه ، رغم علمه بانحراف كثير من العامة ، لكن يمنعه ماسبق ، وهؤلاء وصفهم الإمام في إحدى رسائله بأنهم " لحىً فوائن " ! - أي لانفع منها - .
3- وإما عالم " جبُن " عن مخالفة واقعه وأبناء عصره ، فرضي بالانزواء أو السكوت .
إذًا .. فعلماء ومؤرخو الدعوة ليس في كلامهم عن أحوال نجد " مبالغة " - كما ظن بعض الفضلاء - عفى الله عنهم - ؛ لأنه لا تعارض عندهم بين مايسميه هؤلاء الفضلاء - علمًا وعلماء - ويعنون المعنى العام ، وبين وجود الانحرافات المستطيرة بين العامة والبادية ، بل وبعض مبتدعة العلماء .(12/2)
فمن الخطأ البين بل السذاجة أن يُشغل هؤلاء أنفسهم لإثبات " المبالغة " المزعومة بمجرد وجود مخطوطة كتبها أحد العلماء النجديين قبل الدعوة ! أو وجود العالم الفلاني الذي ألف في الفقه أو المواريث ! حتى وصل الحال ببعضهم - لكي يُثبت هذه المبالغة - أن يستشهد بقدوم " الأوزاعي " في القرن الثاني أو الثالث لمنطقة اليمامة للتتلمذ على المحدث يحيى بن أبي كثير - رحمهما الله - !! و لا أدري ما علاقة هذا بدعوة الشيخ وماقبلها ؟!
= = = = = = = = = = = = = =
ولقد أثار الأستاذ حمد الجاسر - رحمه الله - هذه المسألة في ملاحظاته على كتاب " تاريخ البلاد العربية السعودية " للدكتور منير العجلاني ، ( 1 / 451-452 ) ، وأثارها الدكتور المؤرخ عبدالله العثيمين في مقاله المنشور بمجلة " الدارة " ( العدد 3 السنة 4 ) بعنوان : " نجد منذ القرن العاشر الهجري " ، قال فيه :
( المصادر المتوافرة بين أيدينا غير متفقة في وصفها للحالة التي كان عليها النجديون من حيث العقيدة والقيام بأركان الإسلام خلال الفترة التي يتناولها هذا البحث، فالمصادر المؤيدة لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تعطي صورة قاتمة لتلك الحالة، لكن بعضها يختلف عن البعض الآخر في المدى الذي يصل إليه قتام هذه الصورة ) .
( لكن بعض المصادر تبرز نجداً موطناً لعلماء أجلاء أكثرهم كان يتحلى بالورع والصلاح، كما أنها تصور غالبية سكانها من الحضر –على الأقل- متمسكة بأحكام الإسلام، منفذة لواجباته وسننه ، والأشعار التي قيلت في تلك الفترة لا تحتوي على ما يخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة أو يتنافى مع أحكام الإسلام العامة، بل إن تلك الأشعار تبرز تمسك قائليها بعقيدتهم والتزامهم بإسلامهم، وتوضح أن المجتمع الذي عاشوا فيه كان مجتمعاً مستقيماً في أكثر تصرفاته ) .(12/3)
( ومن المقارنة بين المصادر المختلفة يبدو أن الحالة الدينية التي كانت سائدة في نجد آنذاك لم تكن بالصورة التي أظهرتها بها بعض المصادر المؤيدة لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية ) .
( ويُنظر أيضًا : كتابه " الشيخ محمد بن عبدالوهاب - حياته وفكره " ص 21-22 ، وكتابه " تاريخ المملكة العربية السعودية " 1/53-56 ) .
وقد تعقبه الدكتور صالح الحسن - وفقه الله - في العدد الأول من السنة الخامسة من مجلة " الدارة " ، بهذا المقال :
تعقيب حول مقال الدكتور العثيمين للأستاذ : صالح محمد الحسن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
سعادة الأستاذ محمد حسين زيدان رئيس تحرير الدارة .. حفظه الله
فقد اطلعت في مجلة الدارة في عددها الثالث من السنة الرابعة على مقال بعنوان: نجد منذ القرن العاشر الهجري، حتى ظهور الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بقلم الدكتور: عبدالله العثيمين.
ولقد أعجبت بالمقال، وموضوعه الشائق، ومنهجه التحليلي لبعض الحوادث والأخبار.
ومع ذلك فإن لي عليه ملاحظة أرجو من سعادة الدكتور أن يتقبلها بصدر رحب، وله مني جزيل الشكر، وموفوره.
وفي بداية حديثي أقول: إن دور المؤرخ المسلم في بناء الأمة: يتمثل في عرض حقائق التاريخ الإسلامي عرضاً تاريخياً تربوياً، يؤدي دوره في بناء الأمة الإسلامية، كما يتمثل في تنقية التاريخ الإسلامي، مما دس فيه من روايات، وأخبار كاذبة، هدفها تشويه التاريخ الإسلامي، والنيل من المسلمين، وخدمة أغراض طائفية أو مذهبية.
ومن هذا المنطلق أقول: إنني لا أجد مبرراً لمن يشتغلون بالتاريخ من أبناء المسلمين: أن يعمدوا إلى فلسفة، وتحليل بعض الحوادث، والأخبار ليشككوا في بعض الحقائق التي تؤدي دورها في بناء الأمة الإسلامية.(12/4)
وهذا ما حدث لسعادة الدكتور، وذلك حينما بحث الناحية العقدية في ذلك الزمن –موضوع بحثه- حيث أنهى سعادة الدكتور تحليله لتلك الناحية بالقول: " بأن هناك –أي في نجد- جهله يمارسون أعمالاً شركية، لكن عدد هؤلاء –والحديث للدكتور- كان فيما يظهر قليلاً " .
وهذه النتيجة –وهي ملاحظتي على المقال- تشكيك في الدور الذي قام به الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، من محاربة مظاهر الشرك بالله، والعودة بالأمة إلى الكتاب والسنة: عقيدة، وسلوكاً، ومنهاج حياة.
وهذه النتيجة تظهر الشيخ بأنه كان مجرد زعيم، أحب الزعامة، وعمل لتحقيق هذه الرغبة، وأن ما قام به من جهاد مسلح لنجد وما حولها لم يكن لإعلاء كلمة الله، بل لم يكن مشروعاً، لأن الناس قد سلكوا منهج الله في العقيدة، والسلوك، إلا النزر اليسير منهم.
كما أن هذه النتيجة تشككنا فيما نقله الثقات لنا من أخبار ذلك الوقت، وحوادثه، بل تشكك في كل ما نقله أتباع المصلح عن إمامهم.
وأود أن أذكر سعادة الدكتور: بأن ما شكك به من أخبار أهل زمان الشيخ، وما هم عليه ، ليس هو رأي الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والشيخ حسين ابن غنام، والمؤرخ عثمان بن بشر- وكفى بهم حجة-، وإنما هو رأي جميع الكتاب، والمؤرخين- الذين كتبوا عن تاريخ الشيخ وما قام به من أعمال وتضحيات، سواء منهم المعاصر للشيخ –رحمه الله- أو المتأخر عنه.
وإليك وإلى القارئ الكريم بعض أخبار هؤلاء الثقات:(12/5)
يقول الشيخ عبدالله بن عيسى قاضي الدرعية وهو من المعاصرين للشيخ في رسالة له : ( فالله الله عباد الله: لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله، وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر، فقد مضى أكثر حياتي، ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم –فلله الحمد على ما علمنا من دينه- ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب، فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، واعتبروا بدعاء أبينا إبراهيم –عليه السلام- بقوله في دعائه : ) واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس( .
ولولا ضيق الكراسة، وأن الشيخ محمد ( يعني محمد بن عبدالوهاب ) أجاد وأفاد بما أسلفه من الكلام فيها لأطلنا الكلام.
وأما الاتحادي بن عربي صاحب الفصوص، المخالف للنصوص، وابن الفارض، الذي لدين الله محارب، وبالباطل للحق معارض، فمن تمذهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا، وانتحل طريق المغضوب عليهم، والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين، وقد كفرهما كثير من العلماء العاملين، فإن لم يتب إلى الله من انتحل مذهبهما وجب هجره، وعزله عن الولاية إن كان ذا ولاية من إمامة، أو غيرها، فإن صلاته غير صحيحة، لا لنفسه ولا لغيره.
فإن قال جاهل: أرى عبدالله - يعني نفسه - توه يتكلم في هذا الأمر: فليعلم أنه إنما تبين لي الآن: وجوب الجهاد في ذلك علي، وعلى غيري، لقوله تعالى : ) وجاهدوا في الله حق جهاده ( - إلى أن قال - ( ملة أبيكم إبراهيم( وصلى الله على محمد وآله وسلم ) .
هذا ما قاله أحد معاصري الشيخ، وهو يثبت فيه وجود الشرك في نجد حينذاك، ووجود من ينتحل مذهب ابن عربي، وابن الفارض، القائلين بوحدة الوجود في هذه البلاد النجدية.(12/6)
ويقول الإمام عبدالعزيز محمد بن سعود وهو من المعاصرين للشيخ –رحمه الله- : ( فلما من الله علينا بمعرفة ذلك - أي معنى شهادة أن لا إله إلا الله - ، وعرفنا أنه دين الرسل: اتبعناه، ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس، من الشرك بالله، من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إلى الله بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، إلى أن قال: فحين كشف لنا الأمر، وعرفنا ما نحن عليه، من الشرك، والكفر بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة: من كتاب الله، وسنة رسله صلى الله عليه وسلم ، وكلام الأئمة الأعلام الذين أجمعت الأمة على درايتهم: عرفنا أن ما نحن عليه وما كنا ندين به أولاً أنه الشرك الأكبر الذي نهى الله عنه، وحذر ) .
ويقول الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ( حالة الناس قبل هذا الدين: أكثرهم حالة، كحالة أهل الجاهلية الأولى، وكل قوم لهم عادة، وطريقة ، استمروا عليها ، تخالف أحكام الشرع، في المواريث، والدماء، والديات، وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له ) .
ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ: ( اعلم يا أخي وفقني الله وإياك للصواب أن أهل نجد في باديتهم وحاضرهم قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، قد اشتدت غربة الإسلام فيما بينهم، واستحكمت، وعم الشرك وطم، وفشا الشرك وشاع الكفر وذاع في القرى والأمصار والبادية والحضار، وصارت عبادة الطواغيت والأوثان: ديناً يدينون به، ويعتقدون في الأولياء أنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب، مع تضييع الصلاة، وترك الزكاة وارتكاب المحرمات ) .
ويقول الإمام الشوكاني في وصف نجد، وغيرها ممن دخل تحت طاعة الشيخ محمد بن عبدالوهاب : ( وبالجملة: فكانوا جاهلية جهلاء كما تواترت بذلك الأخبار، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاته )(12/7)
ويقول –أيضاً- في وصف نجد قبيل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ( وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية، وصار الإسلام فيها غريباً ) .
وبعد نصوص هؤلاء الثقات : نورد بعض النصوص لعلماء ومؤرخين، ومستشرقين كتبوا عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأثرها في نجد، ممن كتبوا في العصر الحاضر : يقول أمين الريحاني في وصف الحالة في نجد قبيل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب : ( قبل ظهور هذا المصلح النجدي كان العرب في نجد بل في الشطر الشرقي من شبه الجزيرة منغمسين في عقائد وعبادات جاءتهم من النجف، ومن الأهواز، فكان لا يزال لإباحة القرامطة اثر في الأحساء، وكان للقبور شفاعة لا شفاعة فوقها، فأحلها الناس المحل الأعلى في العبادة، والتوسل ، والحق يقال: إن هذه البدع أو هذه الخرافات القديمة أبعدت العرب بادية وحاضرة عن حقيقة الدين، أبعدتهم عن الإسلام الذي جاء يبطل عبادة الأوثان، وكل ما فيه رائحة العبودية لغير الله ) .. إلى آخر كلامه في هذا الموضوع.
ويقول الدكتور طه حسين: ( أنكر محمد بن عبدالوهاب على أهل نجد: ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة، والسيرة ) .
ويقول المستشرق كارل بروكلمان رغم تعصبه، ودسه على الإسلام عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ( ثم إنه درس مؤلفات أحمد بن تيمية الذي كان قد أحيا في القرن الرابع عشر تعاليم ابن حنبل، والواقع أن دراسته لآراء هذين الإمامين انتهت به إلى الإيقان من أن الإسلام في شكله السائد في عصره، وبخاصة بين الأتراك ، مُشرب بالمساوئ التي لا تمت إلى الدين الصحيح بنسب، فلما آب إلى بلده الأول سعى أول ما سعى إلى أن يعيد إلى العقيدة، والحياة الإسلاميتين صفاءهما الأصلي في محيطه الضيق ) .(12/8)
ويقول المستشرق ستودارد في كتابه : حاضر العالم الإسلامي ، في حديث عن واقع العالم الإسلامي قبيل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ( وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فالبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سحبا من الخرافات، وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين: يحملون في أعناقهم التمائم، والتعاويذ، والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل، والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور ، وانتشرت الرذائل، وهتكت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء.
وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته ومدلج في ظلمته: إذا بصوت يدوي في قلب صحراء شبه الجزيرة العربية مهد الإسلام يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح وإلى سواء السبيل، والصراط المستقيم ، فكان الصارخ هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور، الشيخ محمد بن عبدالوهاب ) .
والنصوص في هذا المعنى كثيرة جداً، ولا إخالها تخفى على سعادة الدكتور، ولولا خشية الإطالة لأوردت المزيد منها.
وفيما أوردته من النصوص دلالة واضحة صريحة على أن الحالة في نجد من الناحية العقدية، والسلوكية قبيل دعوة الشيخ محمد ابن عبدالوهاب –رحمه الله تعالى- قد بلغت مبلغاً سيئاً، يوجب على المسلم الحق الجهاد بكل أنواعه لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الفرقة إلى الاجتماع، ومن الخوف إلى الأمن، وهو ما قام به الشيخ محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله تعالى-(12/9)
وإن نظرة صادقة مخلصة إلى واقع كثير من البلاد العربية والإسلامية التي لم تتأثر تأثراً مباشراً بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وما فيها من البدع، والخرافات، والأمور الشركية المنتشرة اليوم رغم الدعوات الإصلاحية المتعددة، والتي لم تصل إلى مستوى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. إن هذه النظرة لتعطينا أكبر الأدلة على الدور العظيم الذي قام به الشيخ محمد بن عبدالوهاب في تطهير الجزيرة العربية عامة، ونجد خاصة، من ألوان الشرك والبدع والخرافات.
وفي ختام هذا الكلام أشكر سعادة الدكتور مقدماً على رحابة صدره، وسعة حلمه على أن أخطأت، وليعلم سعادته: أنني إنما كتبت بدافع النصح لنفسي، ولسعادة أستاذي الكريم، والقراء الكرام ومشاركة في الواجب.
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل
صالح محمد الحسن
الرياض – كلية الشريعة
29/3/1399هـ
= = = = = = = = = = = = = =
قلت : ومن المزيد الذي لم يذكره الدكتور صالح - وفقه الله - : وصف الصنعاني لحال البلاد الإسلامية الوارد في قصيدته الشهيرة في مدح الشيخ " سلامي على نجدٍ .. " ، وشهادات عديدة أوردها العجلاني في كتابه السابق ، ومسعود الندوي في كتابه " مصلح مفترى عليه " ، وغيرهم .
ويُقال - أيضًا - : أن لكل فعلٍ ردة فعل مساوية له ، ولولا " انتشار " البدع والشركيات في ذلك العصر ، لما رأينا هذه " الضجة الكبرى " التي ووجهت بها الدعوة الإصلاحية من أطرافٍ عديدة ، والعاقل عندما يرى عشرات السيارات من الإطفاء تسير بسرعة يُدرك على الفور أن هناك حريقًا ضخمًا ينتظرها .
= = = = = = = = = = = = = =
ثم كتب الدكتور الفاضل عبدالله الشبل - عفى الله عنه - مقالا ردد فيه هذا الزعم الخاطئ ، فتعقبه الشيخ صالح الفوزان - وفقه الله - بهذا المقال :
تصحيح على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله
( الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:(12/10)
فقد قرأت في جريدة الوطن في يوم الثلاثاء 2/3/1423هـ في الصفحة السابعة والعشرين كلاماً منسوباً إلى معالي الدكتور الفاضل عبدالله بن يوسف الشبل يقول فيه: " إن الظلام والسواد السائدين في الفترة التي سبقت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في بلاد نجد مما هو مذكور في تاريخ ابن غنّام وتاريخ ابن بشر فيه مبالغة في الوصف لتلك الحالة من أن الناس في جهل عظيم وشرك ووثنية، وهذا غير صحيح، بل كان هناك علماء وفقهاء ودعاة " .
وأقول: هذا كلام عجيب يُستغرب صدوره من الدكتور عبدالله الشبل وهو المؤرخ والباحث المشهور الذي يفترض أن لا يصدر عنه إلا كلام ثابت محقق بالبراهين؛ لأن معنى هذا الكلام اتهام ابن غنام وابن بشر –رحمها الله- بالكذب والتجني على أهل تلك الفترة، ومعناه التقليل من مجهود الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأن ردوده على خصومه فيها نظر.
وأما قول الدكتور عبدالله: "كان هناك علماء وفقهاء ودعاة" يعني في الفترة التي قبل دعوة الشيخ، فنقول: كان هناك علماء وفقهاء لكنهم لم يقوموا بالواجب، بل تركوا الناس على ما هم عليه، وأما أنه كان هناك دعاة فعلى الدكتور –وفقه الله- أن يسميهم ويعيِّنهم لنا، وأما الكلام المرسل هكذا فلا يصلح أن يصدر من مثل الدكتور –حفظه الله ووفقه-؛ لأن هذا فيه اتهام وغمط من جهود المصلحين ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ) .(12/11)
قلت : وللفائدة ؛ فالدكتور الشبل - وفقه الله - له بحث قديم ( عام 1400هـ ) بعنوان " تاريخ نجد والدولة السعودية " ، يُخالف فيه قوله السابق ، وقال فيه ( ص 54 وما بعدها ) : " عم الانحراف عن الدين الإسلامي الصحيح جميع بلاد العالم الإسلامي ؛ من شرك وبدع وخرافات ؛ كالدعاء والنذر والذبح ، وصرف بعض أنواع العبادات الأخر لغير الله .. الخ " . وقال - أيضًا - في تحقيقه لتاريخ الفاخري ( ص 23 ) : " كانت البلاد التي وُلدت فيها هذه الدعوة من بين البلاد الإسلامية التي عمها الانحراف عن العقيدة الإسلامية الصحيحة ؛ من شرك وبدع وخرافات " .
= = = = = = = = = = = = =
ثم ردد - أخيرًا - الأخ الباحث / راشد ابن عساكر - وفقه الله - هذه الدعوى في لقاء معه أجرته " مجلة المجلة " ( العدد 1337) ، وصف فيه من يُخالفه بالعاطفية ! ، ولو علم مقصد علماء الدعوة ومؤرخيها الذي سبق بيانه لما تعجل بهذا القول ، ولما أتعب نفسه بإيراد ما يسميه الأمثلة على وجود " علماء في نجد برعوا في شتى المجالات ؛ كعلم الفلك والعلوم العربية والنحوية .. " ! ؛ لأن علماء الدعوة ومؤرخيها لا ينازعونه في هذا - كما تقدم - .
ويقال مثل هذا للمحرر الذي أجرى اللقاء معه - وفقه الله - ، عندما تحمس لهذه الدعوى ، واستشهد عليها بأشعار لحميدان الشويعر يذكر فيها أن أهل نجد كانوا يُصلون التراويح ! ، ويُقال له - أيضًا - على سبيل التنزل : هل ترضى بشعر حميدان حكمًا على أبناء عصره ؟ إذا رضيت فيلزمك أن تأخذ بشعره الذي قاله في وصف قرى نجد . ولا يخفاك ما فيه من تجاوزات ومخالفة للواقع . ويُقال - أيضًا - : إن كان الشعر الشعبي حجة في بيان الحال ، فقد احتج غيرك ( كالدكتور الشبل في بحثه السابق ، ص 57 ) بأشعار راشد الخلاوي ، لبيان الحال العقدي المظلم الذي كانت تعيشه نجد . فبأيهما نأخذ ؟ وفق الله الجميع لما يُحب ويرضى .(12/12)
نظرات في كتاب " الحرية أو الطوفان " د حاكم المطيري ومواجهة أخوية معه
سعدتُ كثيرًا بقراءة كتاب الدكتور حاكم المطيري – وفقه الله –" الحرية أو الطوفان " ، الطبعة الأولى ( 2004م ) ؛ لما حواه من تحفيز لعودة مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المُنزّل إلى عالم الحكم في بلاد المسلمين ، وهو ماكان عليه الحال في الفترة الراشدة ؛ حيث الشورى والعدل الذي يكفل للمسلمين عيشًا كريمًا ، وحياة عزيزة ، لا تخضع لتسلط ظالم خاضع هو الآخر لتسلط الكفار ( إن لم يكن راضيًا في بعض الأحيان ) .
ومما أضاف على السعادة مثلها كون الكاتب – رعاه الله – من دعاة السلفية ، مما يضمن للقارئ – بإذن الله – صفاء في المادة ، وانضباطًا شرعيًا ، وتجنبًا لسلبيات الخائضين في هذا المجال ممن فقدوا تلك الصفات ، ( وما أكثرهم من العصريين ) .
إلا أن هذه السعادة وهذا الصفو كدرته بعض الهنات التي شابت رسالة الدكتور ، ومعظمها – في نظري – كان بسبب ضغط الواقع السياسي المعاصر ، الذي أوقع الدكتور في مجاملة للآخرين ( وأسميها هزيمة نفسية أمام استعلائهم بأفكارهم السياسية ) ، ومحاولة حشر تاريخنا أو نظرتنا السياسية في لبوس ليس لها .
وقبل إبداء ما لدي ، أقدم بعرض لتقسيمات رسالته :
********************
- يقول الدكتور في مقدمة رسالته ص7-: "هذه دراسة موجزة عن الخطاب السياسي الإسلامي ومراحله التاريخية، وعن طبيعة كل مرحلة وأبرز سماتها" أجاب فيه عن أسئلة تدور في أذهان كثيرين –منها-: "كيف بدأ الإسلام ديناً يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله –عز وجل- إلى دين يوجب على أتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، بدعوى طاعة أولي الأمر".(13/1)
وستأتي مناقشته في هذه الكلام وبيان ما فيه من مبالغة غير لائقة منه؛ لأن من يدعو إلى طاعة أولي الأمر –بضوابطه المعروفة- لا يدعو إلى "خضوع" للرؤساء والعلماء! إنما هو ينفذ أوامره صلى الله عليه وسلم تديناً وقربة، مع إنكاره لانحرافات الظالمين بالطريق الشرعي، وعدم رضاه عنها، فضلاً عن "خضوعه" !
- ثم قسَّم الدكتور مراحل الخطاب السياسي الإسلامي –وعليها مدار كتابه- إلى ثلاثة أقسام:
1-مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المُنزل، وهي فترة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وهي ما يدعو المؤلف إلى محاكاته.
وأبرز ملامحها:
أ-أنه لا دين دون دولة.
ب-لا دولة دون إمام.
ج-لا إمامة دون عقد.
د-لا عقد إلا برضا الأمة واختيارها.
هـ-لا رضا بلا شورى.
و-لا شورى بلا حرية.
ز-أن الحاكمية والطاعة المطلقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
ح-تحقيق مبدأي العدل والمساواة.
ط-حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية وصيانتها؛ وهي "حق الحياة – الحرية"
ي-وجوب الجهاد في سبيل الله.
2-مرحلة الخطاب السياسي المؤول . وأبرز ملامحها:
أ-مصادرة حق الأمة في اختيار الإمام، وتحول الحكم من شورى إلى وراثة.
ب-مصادرة حق الأمة في المشاركة في الرأي والشورى.
ج-غياب دور الأمة في الرقابة على بيت المال.
د-تراجع دور الأمة في مواجهات الظلم والانحراف.
3-مرحلة الخطاب السياسي المبدل –من عام 1350 تقريباً إلى اليوم- :
وأبرز ملامحها : تنحية الإسلام عن الحكم بدعوى أن الإسلام دين لا دولة، ومحاربة أهل الإسلام من قبل المنافقين.(13/2)
ثم عقد الدكتور خلاصة قال فيها ( ص 319 ) : " إن الخطاب السياسي الشرعي المُنزل هو الخطاب الذي يمثل تعاليم الإسلام الحق، وأن ما عداه إما مؤول أو مبدل يجب رده ورفضه، والتمسك بما كان عليه الخلفاء الراشدون في باب الإمامة وسياسة شؤون الأمة ؛ كما جاء في الحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور"، وأن التمسك بهذا الخطاب هو السنة والسلفية، وما سواه هو من البدع التي أحدثها الملوك، وتابعهم على أهوائهم العلماء والفقهاء، اتباعاً منهم لسنة القياصرة والأكاسرة؛ كما أخبر بذلك النبي r: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع".
ثم قال -مبيناً الحل الذي يراه-" هذا الخطاب لن يتحقق إلا بمواجهة الخطاب المؤول والمبدل فكرياً، ثم بالعمل على نشره ودعوة الأمة وحكوماتها إلى تبنيه الطرق السلمية، لتبادر ما فاتها، وإلا فالواجب العمل على تغييرها بكل وسيلة ممكنة، سواء بالعمل السياسي السلمي أو بالعمل الثوري، إذ بقاؤها بقاء للاستعمار ولا سبيل إلى زواله إلا بزوالها" .
********************
- يظهر جلياً لمن تأمل كتاب الدكتور أنه كتبه بعد تشبع بالواقع السياسي المعاصر لمعظم الدول الغربية – كما سبق - ؛ حيث شعارات : الأحزاب المتنوعة، وتيارات المعارضة، ، والتعددية الفكرية والسياسية ، والتداول السلمي للسلطة.. إلخ مكونات هذا الواقع [حسب الظاهر بغض النظر عن صدقه أو كذبه على أرض الواقع ] . هذا التشبع انطبع على نظرة أو قراءة الدكتور لتاريخ المسلمين السياسي –سواء فترة الخلفاء الراشدين أو ما بعدها- مما أوقعه في تكلفات، وأحياناً تجاوزات تغاضى عنها في سبيل أن ينطبق واقع تلك الدول الغربية السياسي على تاريخنا.(13/3)
- انساق الدكتور مع المنادين بأفكار الحرية ومناهضة الاستبداد وهي أفكار –بلا شك- تسلب الألباب لأول وهلة – كما سبق - ؛ لأن الإنسان مفطور على كراهية الاستعباد والظلم والنفور منهما، يكاد يتفق على ذلك بنو آدم. ولكن هذه الحرية والمناهضة للاستبداد... إن لم تُضبط وتُقيد بنصوص الشرع –وإن كانت كُرْهاً لبعض الأنفس- وإلا جمحت وضرت مجموع الأمة وأصابتها بفتنتها.
فكأن الدكتور –وفقه الله- بكتابه هذا يقول للآخرين : إن دعاة السلفية لهم حظ وافر من الدعوة إلى الحرية ومنابذة الاستبداد التي اشتهر بها غيرهم ! وهذا حسَنٌ لو تجاوز صاحبه بعض الأخطاء أو المجاملات التي تنبئ عن هزيمة نفسية تجاه الآخرين ، ومثلها رفع الأسافل لمجرد اتفاقهم معه في هذه الشعارات ( المطاطة ) . وحسنٌ لو قُيدت هذه الحرية بقيود الشرع ؛ لأنه ما كل حرية يجيزها الشرع ، وتسميتها حرية هو من التلبيس ، كمن يسمي الربا المحرم " فائدة " ، فلا ينبغي للداعية أو العالم أن يضعف أمام استعلاء الآخرين بباطلهم ، بل يأخذ منافعه ، ويحذّر من مفاسده ، ويواجههم بها .
الملاحظات التفصيلية :
1- يقول الدكتور في مقدمة كتابه ( ص 7-8) : " لِمَ لَمْ يعد أكثر علماء الإسلام ودعاته اليوم يهتمون بحقوق الإنسان وحريته والعدالة الاجتماعية والمساواة ؟
كيف تم اختزال مفهوم الشريعة لتصبح السياسة الشرعية، وحقوق الإنسان، والحريات، والعدالة الاجتماعية، والمساواة؛ كل ذلك لا علاقة له بالشريعة التي يراد تطبيقها والدين الذين يُدعى الناس إليه اليوم؟!
كيف تم تفريغ الإسلام من مضمونه، فصار أكثر الدعاة إليه اليوم يدعون الناس إلى دين لا قيمة فيه للإنسان وحريته وكرامته وحقوقه، إلى دين لا يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، بل يرفض تغيير الواقع ويدعو إلى ترسيخه بدعوى طاعة ولي الأمر ؟!!(13/4)
كيف ندعو شعوب العالم الذي تساوى فيها الحاكم والمحكوم حيث الشعب يحاسب رؤساءه، وينتقدهم علانية ويعزلهم بطرح الثقة بهم، ولا يستطيع الحاكم سجن أحد أو مصادرة حريته أو تعذيبه؛ إذ الحاكم وكيل عن المحكوم الذي يحق له عزله؛ إلى دين يدعو أتباعه اليوم إلى الخضوع للحاكم وعدم نقده علانية، وعدم التصدي لجوره، والصبر على ذلك مهما بلغ فساده وظلمه؛ إذ طاعته من طاعة الله ورسوله؟! كما يحرم على هذه الشعوب الحرة أن تقيم الأحزاب السياسية أو تتداول السلطة فيما بينها لو دخلت في الدين الجديد ؟!! " .
قلتُ : هذه العبارات المنتشية ، والمصطلحات الجميلة : ( الحرية – المساواة – العدالة الاجتماعية .. الخ ) تُطرب النفوس ، وتأسر الألباب مادامت في المخيلة ، لكنها عندما تنزل للواقع تحتمل أكثر من وجه ، منها الصالح ومنها غير ذلك . وهي – مع هذا - تشهد لمدى تأثر الدكتور بالفكر السياسي الغربي . كما سبق . فماكان ينبغي له أن يسير مع إطلاقاتها ، دون توضيح .
2- قال الدكتور ( ص 8 ) : " هذا وقد أخذت على نفسي والتزمت ألا أورد من الأحاديث إلا الصحيح، ولا من الأخبار والروايات التاريخية إلا المقبول، وقد اجتهدت في دراسة أسانيد الروايات التاريخية –مع ما في ذلك من عسر ومشقة- لأتجنب الروايات الموضوعة، فلم أورد من الأخبار التاريخية إلا ما كان صحيحاً أو مشهوراً بين المؤرخين؛ إذ للتاريخ والمؤرخين منهج يختلف عن منهج أهل الحديث في كثير من التفاصيل " .
قلتُ : هناك من الحكايات والأخبار المشهورة بين المؤرخين ما هو في عداد الموضوعات والأكاذيب عند العلماء ؛ لأن غالب المؤرخين أصحاب " جمع " لا " تحقيق " ، وقد نبه بعضهم إلى هذا في مقدمة تاريخه ؛ كالطبري . فشهرة الرواية وانتشارها في كتب أهل التأريخ لا يجعلها بمجرده صحيحة مقبولة ، وإلا لقبلنا روايات كثيرة لا أظن الدكتور يرتضيها . ومع هذا فقد خالف الدكتور شرطه كما يأتي – إن شاء الله - .(13/5)
3- قال الدكتور ( ص 40 ) : " من ذلك : الحكاية التي تقول أن عمر – رضي الله عنه - قال لصهيب – رضي الله عنه - " أحضر عبدالله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رءوسهم – أي أهل الشورى - فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبدالله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس " .
قلت: هذه الحكاية ألمح شيخ الإسلام في المنهاج ( 4/180) إلى شذوذها ، وقال : " ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين ، بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان
. والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث ، وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ولا يجوز قتل مثل هذا " .
وقال الدكتور عبدالعزيز محمد نور ولي في رسالته " أثر التشيع على الروايات التاريخية " ( ص 321) : " وقد تضمنت الروايات الشيعية – في قصة الشورى – عدة أمور غريبة ، وهي : - زعمهم أن عمر أمر صهيبًا أن يقتل من يخالف من الستة إذا اتفق خمسة أو أربعة منهم على رجل " ثم ضعفها بذكر من رواها . فلتراجع . وتُنظر : رسالة " عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة " للدكتور ناصر الشيخ ( ص 1048) . وللفائدة ، فإن نسخة تاريخ ابن شبة سقيمة ، أفاده الشيخ سعد الحميد .(13/6)
4- بسبب النظرة المُشبعة التي ذكرت أن قراءة الدكتور لتاريخ المسلمين السياسي استسلمت لها ، نجده يقول ( 49 ) : " وإذا كانت المعارضة الفردية لسياسة الخلفاء هي الأبرز في عهد أبي بكر وعمر، فقد دخل العمل السياسي والمعارضة السياسية طوراً جديداً، وأخذا بعدا أكثر تنظيماً في عهد الخليفتين عثمان وعلي، فقد بدأت المعارضة تأخذ طابعاً جديداً، حيث ظهرت جماعات منظمة معارضة لسياسة عثمان رضي الله عنه وقد بدأت في البصرة والكوفة ومصر، ثم أصبحت أكثر انتشاراً، واستطاعت أن تستقطب إلى صفوفها بعض الصحابة كعمار بن ياسر الذي أرسله عثمان رضي الله عنه لمعرفة أخبار هذه المعارضة في مصر، فانضم إلى صفوفها " !!
قلت : لا أدري أولا : هل الدكتور يتحدث عن تاريخنا الذي نعرفه أو عن أحد التواريخ الثورية في عالمنا المعاصر ؟!
ثانيًا : ولع الدكتور بالأحزاب والمعارضة ...الخ اضطره إلى تصوير قتلة عثمان والثائرين عليه – قبحهم الله – بغير صورتهم ! عندما زعم أنهم معارضة مشروعة ، وفيهم بعض الصحابة ! وكان يسعه أن يقول كما قال ابن عساكر - ونقله عنه ابن كثير رحمه الله - : " إن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله ، تسوروا عليه الدار وأحرقوا الباب ودخلوا عليه ، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم إلا محمد بن أبي بكر... " . ( تاريخ دمشق (ترجمة عثمان رضي الله عنه ) ص503-505، البداية والنهاية 7/202 ، 203) .(13/7)
وكما قال ابن تيمية -رحمه الله - وهو يدفع مزاعم الرافضي - " ومعلوم بالتواتر أن الأمصار لم يشهدوا قتله ... ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتله ... " (منهاج السنة 8/313) ، وقبلهما قال الحسن البصري - رحمه الله - وقد سئل : أكان فيمن قتل عثمان أحدٌ من المهاجرين والأنصار ؟ قال : " كانوا أعلاجاً من أهل مصر " (تاريخ بن خياط ص176) ، وفي طبقات ( ابن سعد ) : كان - قتلة عثمان - رضي الله عنه : حثالة الناس، ومتفقون على الشر (3/71) . ( ويُنظر رد الدكتور سليمان العودة على منقذ التأريخ ! حسن المالكي ) . ( ورد الأخ علي رضا على المالكي – أيضًا – في مسألة صحبة ابن عديس وابن الحمق . ولعله ينشره هنا ما دام مشاركًا في منتدانا ) .
5- قال الدكتور ( ص 57) : " كما تؤكد حادثة السقيفة أن اشتراط القرشية في الإمامة لم يكن معروفاً ولا معلوماً بين الصحابة، وإلا لما نازع فيها الأنصار، ولما احتج أبو بكر وعمر بمثل هذه الحجج، ولقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا الأمر في قريش ويحرم عليكم أن تنازعوا " .(13/8)
قلت : شرط القرشية – كما يقول الدكتور الدميجي في رسالته الإمامة ( ص 265وما بعدها ) : " من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه ، وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين ، ولم يُخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع ؛ كالخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة " ، وقال : " أول من قال بعدم اشتراط القرشية : الخوارج الذين خرجوا على علي " . وأما شبهة الدكتور حاكم فقد رد عليها وعلى غيرها ، وقال : " أما استدلالهم بقول الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فواضح البطلان ، وذلك لرجوعهم رضي الله عنهم عن هذا القول في تلك اللحظة بعد أن سمعوا النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي رواه أبوبكر رضي الله عنه في قوله : ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبرُ الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ، فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . فيحتمل أنهم قالوا هذا القول قبل أن يعرفوا النص الذي يُثبت الخلافة في قريش ، ولهذا رجعوا إلى رشدهم لما عرفوا الحقيقة " . مع الانتباه إلى أن شرط القرشية يكون حال الاختيار لا الاضطرار والتغلب – كما بين العلماء - .
6- قال الدكتور ( ص 58 ) عن علي ومعاوية – رضي الله عنهما - : " وقد اتفق الحكمان على خلعهما وإرجاع الأمر للأمة شورى بينها لتختار من تشاء منهما أو من غيرهما " .
- قلت : قصة التحكيم كما ذكر الدكتور مكذوبة ! وبيان ذلك على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/77.htm
وهذا :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/11.htm(13/9)
7- تحدث الدكتور عن تقبل الخلفاء الراشدين للمعارضة ما لم تحمل السلاح ! ثم قال ( ص 61 ) - عن الخوارج - : " قال ابن قدامة: إذا أظهر قوم رأي الخوارج؛ مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين، وأموالهم، إلا أنهم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام فإنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم .. الخ "
قلتُ : لم يُكمل الدكتور النقل ! وفيه اختيار الإمام مالك أنهم " يُستتابون ، فإن تابوا وإلا ضُربت أعناقهم " ، وفيه حجة من يرى " تكفيرهم " . وكذا لم ينقل رأي ابن قدامة القائل : " والصحيح أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء ، والإجهاز على جريحهم ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم ، ووعده بالثواب مَن قتلهم .. الخ " .
8- قال الدكتور ( ص 64) : " كما أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أول دخوله المدينة حيث وضع صحيفة المدينة ، التي تُعد أول دستور عرفه العالم، وحدد فيها الحقوق والواجبات التي على المسلمين ومن معهم من أهل الكتاب " .
قلتُ : يُنظر ضعف خبر هذه الصحيفة في رسالة الأخ ضيدان بن عبد الرحمن اليامي " بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة " ، وقال بعد أن ذكر أسانيدها وضعفها جميعًا: "فعلى هذا يتضح لك ضعف هذه الصحيفة وما ورد فيها" .
"ومن ثمَّ لا ينبغي الاحتجاج بها " . وللزيادة تُنظر رسالة " محمد عمارة في الميزان " .
9- قال الدكتور ( ص 69 ) معددًا فوائد حديث " إلا أن تروا كفرًا بواحًا .." : " حق الأمة في خلعها – أي السُلطة - والخروج عليها إذا تجاوزت حدود ما أنزل الله، وأظهرت كفرا بواحاً وهو المعصية الظاهرة كما في بعض الروايات –انظر فتح الباري 13/8- قال النووي: (المراد بالكفر هنا المعاصي –شرح مسلم 12/229- وهذا إذا أمكن بلا فساد " .(13/10)
قلت: هنا تلبيس تمنيت لو لم يقع من الدكتور – عفى الله عنه - ؛ لأن كلام النووي رحمه الله صريح وواضح في نقيض دعوى الدكتور ، ولو أكمله لتبين هذا ، ولكن !
وإليكم كلامه بالنص : قال " والمراد بالكفر هنا المعاصي ومعنى عندكم من الله فيه برهان أي تعلمونه من دين الله تعالى ، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام ؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم . وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين " . فإنكار المنكر الذي يعنيه النووي غير الخروج الذي يعنيه الدكتور !
10- قال الدكتور ( ص 93 ) : " كما له – أي المسلم - الحق في الانتماء إلى أي حزب أو جماعة شاء، فإذا جاز لغير المسلم الانتماء للأديان الأخرى والتحاكم إلى شرائعها الخاصة ورؤسائها في ظل الشريعة الإسلامية، فالانتماء إلى الجماعات الفكرية والسياسية جائز من باب أولى، ولهذا السبب لم يعترض عثمان ولا علي –رضي الله عنهما- على الانتماء للجماعات السياسية أو الفكرية، كالخوارج إذ لم ير علي رضي الله عنه أن له حقاً في منعهم من مثل هذا الانتماء، ما لم يخرجوا على الدولة بالقوة، لوضوح مبدأ: لا إكراه في الدين " .
قلت : عجبًا للدكتور – هداه الله - ، فهو في سبيل تقرير " التعددية الفكرية " المنقولة من الغرب ، سوّغ للمسلم أن يلحق بأهل البدع – المختلف في تكفيرهم - ! مهوّنًا من هذا الأمر الشنيع الذي حذر منه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتوعدا عليه .(13/11)
11- قال عن مرحلة الخطاب المؤول ( ص 107 ) : " وقد انتهى عصر الخلفاء الراشدين سنة 40 هـ ، وبدأ العصر الأموي ، حيث بدأ تراجع الخطاب السياسي الممثل لتعاليم الدين المُنَزل ، وبدأ خطابٌ سياسيٌ يُمثل تعاليم الدين المؤول ، حيث بدأ الاستدلال بالنصوص على غير الوجه الذي أراد الله ورسوله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : أول من يُغير سنتي رجلٌ من بني أمية " .
قلت : الحديث المذكور ضعيف مُنقطع ، أعله البخاري والبيهقي وابن كثير ، يُنظر لبيان ذلك : البداية والنهاية لابن كثير ( 6/234) ، و تعليق الأستاذ محمد ناصر العجمي على " الأوائل " لابن أبي عاصم ( رقم 63) . فلا عبرة بمن حسّنه غافلا عن علته . فمابال الدكتور – عفى الله عنه - يحتج به مخالفًا شرطه ؟ ثم يحمله على معاوية – رضي الله عنه - ! رغم أن من تسامح في إيراده ذكره عند ترجمة يزيد . وشتان بينهما لمن أنصف .
12- ثم قال الدكتور ( ص 107 ) عن مرحلة الخطاب المؤول : " وقد بدأت هذه المرحلة بعد عهد الخليفة الراشد عبدالله بن الزبير سنة 73 ، وهو آخر خليفة صحابي ، وامتدت إلى سقوط الخلافة العثمانية " .
قلت : تحديد الدكتور بداية هذه المرحلة بهذا التأريخ ( 73هـ) مناسب ؛ لأنه سيعافيه مما تورط فيه كثيرٌ من أهل البدع– خاصة الرافضة – ومن تابعهم من " الثوريين " في طعنهم بمعاوية – رضي الله عنه - ، وتحميلهم إياه أخطاء وتجاوزات كل من حكم بعده ! وكأنه مسؤول عنها ! والسبب أنه اجتهد في اختيار مَن يحكم المسلمين بعده ، وسيأتي عُذره في هذا – إن شاء الله - .
إلا أنه – أي الدكتور حاكم عفى الله عنه - رغم هذا التحديد المناسب لم يثبت عليه ! حيث نحى بعد صفحات باللائمة على معاوية – رضي الله عنه – في توليته يزيد ، فجعل القارئ في حيرة من أمر بداية هذه المرحلة " المؤولة " ! هل تبدأ من عام 73هـ أو من حكم معاوية – رضي الله عنه - ؟!(13/12)
والسبب لهذا الاضطراب – في نظري – هو تزاحم بل تصارع فكرتين في ذهن الدكتور ، الأولى سلفية تربأ عن جعل أحد الصحابة مجالا للوم أو النقد ، والثانية متشبعة بقراءات من سبق ، ممن لا يتورعون عن اللوم والنقد ، بخيالات مريضة ، وأسباب واهية . فكان هذا الاضطراب والقلق .
ولو قال – وفقه الله – بما قال به بعض أهل الورع و التحقيق ، ممن يرون أن معاوية – رضي الله عنه – وإن لم يكن من الخلفاء " الراشدين " المُخبر عنهم بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .." ، وحديث : " ..ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ، إلا أنه يُعد من الخلفاء الاثني عشر الذين بشّر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة .. كلهم من قريش " رواه مسلم . قال القاضي عياض : " يحتمل أن المراد من يعز الإسلام في زمنه ، ويجتمع المسلمون عليه " . وللتفصيل تُنظر رسالة الدكتور خالد الغيث " مرويات خلافة معاوية رضي الله عنه في تاريخ الطبري " ( ص 155-167) .
لو قال بهذا ، وجهر به ولم يجامل فيه أحدًا ؛ لسلم من التنازع الذي صبغ عباراته وفكرته .
13- قال الدكتور ( ص 142 ) عن خروج جيش ابن الأشعث ومن معه على الحجاج : " وقد التقوا هم والحجاج وجيشه إحدى وثمانين وقعة، كان النصر فيها حليفهم، حتى كانت آخر وقعة وهي يوم دير الجماجم سنة 83هـ. " . قلت : ليته أكمل بأنهم هُزموا شرّ هزيمة في هذه المعركة ! فأصبحوا ما بين قتيل وشريد وسجين – عفى الله عنهم - ، حتى تمنى من شارك فيها أن لو لم يفعل . وذهبت انتصاراتهم الثمانين ! هباء منثورا .(13/13)
14- قال الدكتور ( ص 150 ) مستبشرًا بنجاح العباسيين في خروجهم على الأمويين ، وأن هذا دليل على صحة هذه الطريقة في التغيير : " وبهذا قامت دولة بني العباس على أنقاض دولة بني أمية؛ ليثبت بطلان نظرية الحسن البصري وادعائه عدم قدرة القوة على التغيير، وأن التوبة هي السبيل إلى تغيير الواقع ورفع الظلم، وأنه ما أفلح قوم خرجوا على إمامهم قط " .
قلت : هنا ثلاثة أمور : 1- أن نجاح الوسيلة – أحيانًا – في الوصول للمراد ، لا يدل على شرعيتها من عدمه ، بل ذلك يُعرف بالأدلة . وإلا لجوزنا السرقة للوصول للحق مادامت ستؤدي إليه أحيانًا دون تعرض لخطر ، ومثله تجويز السحر للوصول للمودة بين الزوجين مثلا .. وهكذا .
2- أن الدكتور جزم " بنجاح " هذا الخروج لأنه أزاح حاكمًا " بني أمية " وأحل آخر " بني العباس " ! فهل هذا هو نهاية مقصد الدكتور ومن يؤيده على هذه الوسيلة ؟ دون النظر إلى ما تحققه من مصالح للإسلام والدعوة والخير ؟ وما تُفوّته ؟
إذًا : ما الفائدة من هذا الجهد والتعب إذا كانت النتيجة مجرد تغيير " حاكم " لا تغيير " واقع " ؟ بل ازداد " الواقع " سوءًا لمن تأمل . ومهما حاول الدكتور أن يُرجّح حكم العباسيين على الأمويين ليتوافق ذلك مع فكرته ، فإن الواقع – بشهادة كل منصف – يقول غير هذا . فشتان بين الحكمين ؛ عزة للإسلام وظهورًا للسنة .( وليس هنا مكان الموازنة ) .
3- أن بعض العلماء ؛ كشيخ الإسلام – رحمه الله - يخالف في نجاح هذا الخروج ؛ لأن الخارجين كانت عاقبتهم غيرحميدة . قال – رحمه الله - : " وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة ، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق ، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان ، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا ، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء .(13/14)
وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة ، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا ، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهُزم أصحابهم ، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا ، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا ، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة " .
15- قال الدكتور ( ص 252-263) عن الدولة السعودية الأولى : " لقد عاد الخطاب السياسي الشرعي بعد قيام الدولة الإسلامية الجديدة في نجد إلى مفاهيم الخطاب السياسي المؤول، كما تقرر في كتب الأحكام السلطانية، كمشروعية العهد بالأمر إلى الأبناء كما كان عليه الحال في عصر بني أمية وبني العباس، دون جعل الأمر شورى بين المسلمين كما كان عليه الحال في عصر الخلفاء الراشدين ..
ولو نجح الشيخ في إحياء هذه المفاهيم لكان للدعوة صدى أكبر وأثر أبلغ في تغيير واقع العالم الإسلامي، ولكانت نموذجاً راشدياً يقتدى به ويقتفى أثره. وقد يكون السبب الذي حال دون ذلك هو الظروف التي أحاطت بالدعوة، مع أن الظروف التي أحاطت بالدولة في عصر الخلفاء الراشدين كانت أشد وأقسى ..
ويمكن عزو أسباب عدم التجديد في الخطاب السياسي الشرعي بعد قيام الدولة إلى عدم حاجة المجتمع إلى مثل هذا التجديد آنذاك، بل كانت حاجته إلى إصلاح العقائد، وإقامة الشرائع، وتحقيق الأمن والعدل، فهذا كل ما كان يحتاجه أهل الجزيرة العربية في عصره، إلا أن الدعوة إلى السلفية تقتضي إحياء سنن الخلفاء الراشدين في الحكم وسياسة شئون الأمة، والاقتداء بهديهم، واتباع طريقهم من رد الأمر شورى، والحيلولة دون توريث الإمامة، إذ هو الطريق إلى الاستبداد، ومن ثم السقوط " .(13/15)
قلت : أولا : الشيخ محمد – رحمه الله – تعامل مع عصره بواقعية وذكاء ، ولم ينسق وراء الخيالات أو الطموحات التي قد تعيق دعوة التوحيد عن الانتشار ، فقدّم المصلحة العليا التي لأجلها بُعثت الرسل – عليهم السلام – على أي أمر آخر لايعدو أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق هذه الغاية . لاسيما وهو المحتاج للنُصرة لتبليغ دين الله .
ومع هذا فيذكر المؤرخون أن الشيخ – رحمه الله – كان له النصيب الكبير في تسيير أمور الدولة ، ومن ذلك قول ابن بشر – رحمه الله - في ترجمته : " كان رحمه الله هو الذي يُجهز الجيوش ، ويبعث السرايا ، ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه ، والوفود إليه ، والضيوف عنده ، والداخل والخارج من عنده " . وقال عنه ( ص 15 ) : " فكانت الأخماس والزكاة وما يُجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها كلها تدفع إليه بيده، ويضعها حيث شاء، ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئاً إلا عن أمره، بيده الحل والعقد والأخذ والعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش، ولا يصدر رأي من محمد وابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه، فلما فتح الله الرياض، واتسعت ناحية الإسلام، وأمِنَت السُّبُل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز ، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكن ما يقطع عبد العزيز أمرًا دونه، ولا ينفذه إلا بإذنه" .(13/16)
ثانيًا : أن عبدالعزيز بن محمد – رحمه الله – كان هو المؤهل للحكم – دينًا وسياسة - ، وهو تلميذ الشيخ النجيب الذي تربى على عينه ، قال عنه ابن بشر : " كان عبد العزيز كثير الخوف من الله والذكر ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، يُنفِّذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيماً إذا ظلم فيقمعه عن الظلم، وينفذ الحق فيه، ولا يتصاغر حقيراً ظُلم، فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن... وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية وخصوصًا أهل البلدان ؛ بإعطائهم الأموال وبث الصدقة لفقرائهم ، والدعاء لهم ، والتفحص عن أحوالهم ..
وكانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشةٍ هنية، وهو حقيق بأن يُلقّب مهدي زمانه، لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال أي وقت شاء، شتاء وصيفاً، يمناً وشاماً، شرقاً وغرباً في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعُمان، وغير ذلك، لا يخشى أحداً إلا الله، لا سارقاً ولا مكابراً، وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب، وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يُسيِّبون جميع مواشيهم في البراري من الإبل والجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مُراعي ..
وكان يوصي عماله بتقوى الله ، وأخذ الزكاة على الوجه المشروع ، وإعطاء الضعفاء والمساكين ، ويزجرهم عن الظلم ، وأخذ كرائم الأموال " .. الخ صفاته الجليلة – رحمه الله - .
فهل يُراد من الحكم إلا ما فعله هذا الموفق ؟!
وكيف يسوغ للشيخ – رحمه الله – بعد هذا - تقديم غيره عليه ؟!(13/17)
16- قال الدكتور ( ص 135 ) : " إن الحال قد تغير بعد العهد الراشدي، فصار الخليفة يتصرف في بيت المال بذلاً ومنعاً بلا حسيب ولا رقيب إلا من ضميره، وأصبح له مطلق الحرية في ذلك، وقد بدأ هذا الانحراف منذ العهد الأموي، فقد خطب معاوية في يوم جمعة، فقال : إنما المال مالنا، والفيءُ فيئُنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يَرُدَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال: مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن شهد المسجد، فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيأتي قوم يتكلمون فلا يُردُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة"، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني، أحياه الله، ورجوت ألا يجعلني الله منهم) رواه أبو يعلى الموصلي، ح رقم (7382) وقال في مجمع الزوائد: (رجاله ثقات)، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (1790).
قلت : سبحان الله ! هذه الحكاية – لمن تأملها – فيها منقبة لمعاوية – رضي الله عنه – حيث لم ينطبق الحديث عليه ، لأنه لم يرض هذا الأمر لنفسه ، فكيف أصبحت عند الدكتور مذمة ؟!!(13/18)
17- قال الدكتور ( ص 253) : " غير أن حركة فكرية جديدة بدأت تشق طريقها وتجدد خطابها السياسي بقيادة جمال الدين الأفغاني (1838م- 1897م) المولود في إمارة كنر في أفغانستان من أسرة حسنية علوية شهيرة –وهذا ما أكد المؤرخ الأديب شكيب أرسلان في ترجمته له، وقد التقى أرسلان قبل الحرب العالمية الأولى في الحج أحد أشهر سادات كنر الأفغانية فأكد له أن جمال الدين من أسرتهم، وكذا أكد ذلك جميع سفراء حكومة أفغانستان روجالها للمؤرخ أرسلان- بعد أن رأى ما آل إليه وضع الشرق الإسلامي من ضعف وتشرذم وسقوط تحت سيطرة الاستعمار، وغياب لدور الشعوب عن مجريات الأحداث؛ لجهلها بما يدور حولها، فأشعل جمال الدين شرارة النهضة وصرخ فيها كما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي: (في هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حي على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان، أنه صوت جمال الدين الأفغاني، موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة ويوم جديد) شروط النهضة ص22... وكان هدفه الأول: أن يقوض دعائم نظم الحكم الموجودة آنذاك، كما يعيد بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس (الأخوة الإسلامية) التي تمزقت في صفين، وبددتها النظم الاستعمارية نهائياً " !!(13/19)
قلت : لقد اختلطت الأمور عند الدكتور – هداه الله - ؛ بسبب إغراقه في قضية " مواجهة " الاستبداد ؛ مما أداه إلى رفع الأسافل والدفاع عنهم وعن أفكارهم ومحاولة تلميعهم ، عندما وافقوه في هذه الجزئية ، كما فعل هنا مع الأفغاني " الرافضي " " الماسوني " الذي كان هدفه إشعال الثورات في العالم الإسلامي ، لتكون النتيجة في النهاية من صالح الدول الاستعمارية المتربصة ! ، إضافة إلى فساد عقيدته وسلوكه .. الخ مخازيه التي بينها العلماء والكتاب المخلصون الناصحون لأمتهم ؛ ممن لم يغتروا بشعاراته الكاذبة ، ولمن أراد معرفة حقيقة أصله وأفكاره – بالأدلة - فليرجع إلى رسالة " دعوة الأفغاني في الميزان " للأستاذ مصطفى غزال ، ورسالة " المدرسة العقلية " للدكتور فهد الرومي ، ورسالة " العصرانية قنطرة العلمانية " على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/22.htm
وفيها بيان أن دعوته المسماة زورُا بالجامعة الإسلامية – أو كما يقول الدكتور : الأخوة الإسلامية ! – ما هي إلا دعوة " شرقية " لا تُفرق بين مسلم وكافر !
18- ثم قال الدكتور ( ص 267 ) : " إلا أن صدى حركة الأفغاني كان هو السبب الرئيس في بعث روح الأمة من جديد لمواجهة الاستعمار الغربي؛ إذ قام أتباعه في كل مكان يستنهضون همم المسلمين للتصدي له وإخراجه من الشرق الإسلامي، وقامت الثورات في كل مكان، وخرج الاستعمار العسكري " .
قلت : هذا غير صحيح ؛ بل كانت دعوته في مصر سببًا لاحتلال الإنجليز لها !! وتفصيل ذلك على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/39.htm
19- نقل الدكتور عن مالك بن نبي قوله : " ولقد شاءت الأقدار أن تجعل من هذا الرجل .. الخ " ، ولم يتعقبه . وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول : " شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا ، وشاءت الأقدار كذا وكذا " ؟(13/20)
فأجاب : " قول : " شاءت الأقدار " ، و " شاءت الظروف " ألفاظ منكرة ، لأن الظروف جمع ظرف وهو الزمن ، والزمن لا مشيئة له ، وكذلك الأقدار جمع قدر ، والقدر لا مشيئة له ، وإنما الذي يشاء هو الله عز وجل ، نعم لو قال الإنسان : " اقتضى قدر الله كذا وكذا " . فلا بأس به . أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار لأن المشيئة هي الإرادة ، ولا إرادة للوصف ، إنما الإرادة للموصوف " انتهى . "مجموع فتاواه " (3/135) .
20- الدكتور – وفقه الله – يعد كل من " ثار " على الدولة الأموية إنما يريد " الشورى " ! ( ص 146 ومابعدها ) ، لهذا تراه يحتفي بهذه الثورات . ولا أدري أي شورى أقامها العباسيون عندما حكموا ؟!
21- قال الدكتور ( ص 181 ) : " لقد غابت المفاهيم التي تُمثل مبادئ الخطاب السياسي الشرعي المُنزل ، وشاع مفهوم : اسمع وأطع وإن أُخِذ مالُك ، وضُرب ظهرك " ، ثم ضعف الحديث في الهامش . وليته اكتفى بهذا ، لكنه أوهم القارئ أن الشيخ الألباني يرى ضعفه أيضًا عندما اقتصر على ذكر تضعيفه للسند ! ومن رجع للموضع الذي نقل منه الدكتور " الصحيحة ، رقم 1791" وجد الألباني – رحمه الله – يقول بعد هذا : " لكن تابعه نصر بن عاصم الليثي عن خالد به نحوه وفيه " فإن كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمه " أخرجه أبوداود وأحمد . قلتُ – القائل الألباني - : وهذا إسناد حسن " انتهى . وتُنظر السلسلة الصحيحة ( 2739) فقد صحح الحديث الأول – أيضًا - .(13/21)
ولو تنزلنا مع الدكتور في تضعيفه لهذا المتن ، فأين يذهب عن عشرات الأحاديث الآمرة بطاعة ولاة الأمر ، والصبر على جورهم وظلمهم ، طلبًا لمصلحة أعلى ، ودرءًا لمفسدة أعظم ؟! هل سيقدح فيها أيضًا ؟! وأربأ به عن ذلك ؛ لأن هذا من مسالك أهل الأهواء . أو يستجيب لوصية محمد صلى الله عليه وسلم – وإن كان كُرهًا لبعض الأنفس - ، ويعلم أن ثمّ الحكمة والفلاح ؟ ويتهم رأيه ، ولا يُجامل أحدًا في دينه .
22- تعليقًا على ما اختاره الدكتور من حل ، وما جاء في كتابه من " تهييج " على الخروج ومنازعة الحكام ، كتبتُ التالي :
منهج أهل السنة في التعامل مع الحكام
لقد كتب كثير من أهل العلم في هذه المسألة – ولله الحمد - ، وبينوا ووضحوا أن منهج أهل السنة في هذا الباب معتمد على النصوص النبوية الصحيحة الصريحة التي تأمر بالصبر على جور الحاكم المسلم الظالم ، مع عدم ترك النصيحة له ، ونشر الخير بين المسلمين إلى أن يستريح بر أو يُستراح من فاجر ، أو يجعل الله بعد عسرٍ يسرا ، أما الحاكم الذي صدر منه كفر بواح عندهم فيه من الله برهان ، فالواجب تغييره إذا تحقق شرط القدرة . كل هذا وضحه العلماء ، ولم يأتوا به من كيسهم ، إنما التزامًا منهم بأقواله صلى الله عليه وسلم ، وفيها الخير كله ، لا محبة في سواد عيون الحاكم ، الذي جاءت النصوص بترهيبه وإيعاده بالخيبة والخسارة إن هو استمر على ظلمه وجوره .
وليس معنى هذا كما يفهم السذج وأصحاب الأهواء أنهم يرضون عن ظلم الحاكم أو يؤيدونه أو لا يناصحونه ، بل هم أصحاب المواقف المشرفة في بذل النصيحة ، والتحذير من التجاوزات ، ومن شذ عن هذا فإنما هو يمثل نفسه ، وقد جاءت النصوص بالتحذير من فعله .
ومن عاب على أهل السنة طريقتهم الشرعية في التعامل مع الحكام ؛ فإنما يعيب – شعر أو لم يشعر – على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي شرع هذه الطريقة ، فهل يستطيع الجهر بهذا ؟!(13/22)
والعجيب الغريب أن كثيرًا ممن يعيب على أهل السنة طريقتهم – سواء من أهل البدع أو العصريين أو من تأثر بهم - تجده ( واقعًا ) يلتزم بها ، ولا يدعو إلى خروج أو ثورة خشية من المفسدة ( قد تكون المفسدة أحيانًا دنياه ومصالحه ! ) ، ولكنه عند التنظير ينقلب إلى أسدٍ هصور على أهل السنة . فتأمل .
واللوم يعظم عندما يقع في هذا من يعلم أن أهل السنة متبعون لا مبتدعون .
وما أجمل ما قاله الدكتور عبدالله الدميجي في رسالته " الإمامة العظمى " ( ص 548 ) بعدما عرض لطريقة أهل السنة :
" يلاحظ تشديد السلف رضوان الله عليهم في النهي عن الخروج على أئمة الجور بالسيف ، والأمر بالصبر عليهم ، وذلك لما يلي :
أ عملا بالأحاديث الواردة في ذلك كما سبق .
ب- حرصًا على تجنب الفتن وتعريض الأمة لها ، وإراقة الدماء في غير محلها .
ج – ومحافظة على هذا المنصب الجليل في الأمة ، التي متى ضعف استهانت بهم أعداؤهم ، ومتى قوي خافتهم وهابتهم .
ولا ينبغي أن يُفهم من ذلك أنه الإجلال لأولئك العصاة واحترامهم ، ولا الخوف منهم ، ولا الطمع فيما في أيديهم ، وكسب رضاهم . يدل على ذلك سيرتهم معهم ، وما يلقونه بسببهم من المحن ، وهي مشهورة منشورة ، ومدونة في بطون الكتب " .
وقد أحببتُ أن أذكر هنا كلامًا قيّما لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، يُلخص فيه طريقة أهل السنة في هذا الباب ، ويُحذر من مخالفتها ، رغم أنه ممن ناله الأذى من حكام المسلمين الجهلة الظلمة ، ولكن هذا ليس مسوغًا له أن ينساق وراء العاطفة ، فلا يعدل في هذه المسألة .(13/23)
قال – رحمه الله – في " منهاج السنة ، 4/527-544 " : " ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان كما قال تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم . ويعلمون أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد في المعاش والمعاد وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما ، فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله ، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه .
فإن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم ؛ فإما أن يقال يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يولى غيره كما يفعله من يرى السيف ؛ فهذا رأى فاسد ؛ فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته ، وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء
،(13/24)
وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم ، فلا يكون لهم عاقبة ، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور ، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وُهزم أصحابهم فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا ، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة ، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال ، وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم ، وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق ، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين ، والله يغفر لهم كلهم .
وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث : أين كنت يا عامر ؟ قال : كنت حيث يقول الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكدت أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء .
وكان الحسن البصري يقول : إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإن الله تعالى يقول : ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ، وكان طلق بن حبيب يقول : اتقوا الفتنة بالتقوى، فقيل له : أجمل لنا التقوى،فقال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله ، رواه أحمد وابن أبي الدنيا.(13/25)
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة ؛ كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد ، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم ، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين .
ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبار أولي الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور ، ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج ، وغلب على ظنهم أنه يُقتل ، حتى إن بعضهم قال أستودعك الله من قتيل ،وقال بعضهم لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج ، وهم في ذلك قاصدون نصيحته ، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين . والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد لكن الرأي يصيب تارة ويخطيء أخرى .
فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك ، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا ، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوما شهيدا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك ، وصار ذلك سببا لشر عظيم ، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن .(13/26)
وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة .
وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابته في الصحيح كلها تدل على هذا ؛ كما في صحيح البخاري من حديث الحسن البصري : سمعت أبا بكرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول : إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ، وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوبا ممدوحا يحبه الله ورسوله ، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بترك واجب أو مستحب .
ومما ينبغي أن يُعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده ، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية ، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح بمعرفة الحق وقصده ، فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار فلا تصبر النفوس على ظلمة ولا يمكنها دفع ظلمة إلا بما هو أعظم فسادا منه ، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله .(13/27)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك وأسيد بن حضير رضي الله عنهما أن رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ قال : ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
.وفي رواية للخباري عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، فقال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه ستصيبكم أثرة بعدي
. وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال : على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه
، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادة قال:بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم وأن لا ينازعوهم الأمر ، وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه ولم يصبروا على الاستئثار،ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات ويبقى المقاتل له ظانا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه إما ولاية وإما مال(13/28)
كما قال تعالى (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل يقول الله له يوم القيامه اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا إن أعطاه منها رضي وإن منعه سخط ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا لقد أعطى بها أكثر مما أعطي
.فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة ، والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين ؛ فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم حتى قال : ما من راع يسترعيه الله
رعية يموت يوم وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة
، وأمر الرعية بالطاعة والنصح ، كما ثبت في الحديث الصحيح : الدين النصيحة ثلاثا ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
، وأمر بالصبر على استئثارهم ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم ؛ لأن الفساد الناشىء من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر ، فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما
، ومن تدبر الكتاب والسنة الثابته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الآفاق علم تحقيق قول الله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ، فإن الله تعالى يري عباده آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن القران حق ، فخبره صدق وأمره عدل ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) " .(13/29)
قلتُ : رحم الله شيخ الإسلام . وقد سبق التنبيه إلى أن عدم الخروج أو المنازعة لا يعني الخضوع أو الركون عن الدعوة وتعليم الناس العلم ، ومواصلة " التصفية " لأحوال المسلمين في جميع المجالات ، و " تربيتهم " على أحكام الإسلام ، فبهذا الفعل والجهد المستمر ، سيجد المسلمون العاقبة الحميدة في الدنيا قبل الآخرة ؛ لأن المسلمين إذا صلحوا فإنهم لن يرضوا بغير حكم الإسلام بديلا ، ولن يجد المنافقون لهم مكانًا بينهم . وليس معنى هذا أن يكون المسلمون كلهم كذلك ، لا .. بل يكفي " مجموعهم " ممن يؤثرون في المجتمع ، كما كان الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، رغم وجود المنافين والجهلة .
لماذا اختار معاوية - رضي الله عنه - ابنه يزيد للحكم ؟!
من الأمور التي يحسن عرضها تكميلا لما سبق : الموقف من تولية معاوية – رضي الله عنه – الحكم من بعده لابنه يزيد ، وهو الأمر الذي شنع به عليه خصومه – وما أكثرهم ! - ، بدءًا من الرافضة المخذولين ، ومن تبعهم من الزيدية والمعتزلة والتنويريين والثوريين . فقد جعل هؤلاء من معاوية – رضي الله عنه – شماعة لفشلهم وخيبتهم ، وشنعوا عليه بأبشع العبارات – والعياذ بالله - ، دون خوف أو ورع ، وتفننوا في اختراع الأكاذيب والحكايات الباطلة التي تخدم غرضهم ، ومن لم يكذب ويفتري صدق ونقل دون تمحيص أو تدقيق . وليس هنا مقام عرض أقوالهم الكاسدة .
أما أهل السنة ، فقد حفظوا لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم حقهم ، وكانوا واضحين في موقفهم ؛ حيث لم يدعوا العصمة لأحد منهم ، لكنهم عذروا وأحسنوا الظن ، وكفوا ألسنتهم . ودافعوا عنهم وردوا على خصومهم . وهم يعلمون أن معاوية – رضي الله عنه – ليس من كبار الصحابة وأفضلهم ، ولكنهم اضطروا لتكرار الحديث عنه ، لدفع بهتان خصومه ، ولو سكت أولئك لسكت أهل السنة .(13/30)
وأما في قضية توليته ليزيد ، فقد تفهم أهل السنة الواقع ، والتمسوا له المعاذير اللائقة به ، لاسيما مع عدم وجود النص الشرعي الذي يُحرم تولية الابن بعد أبيه ، مادام سيحكم بالشرع . ورغم هذا فهم وإن عذروه فإنهم ( عند الاختيار ) لا يعدلون بطريقة الخلفاء الراشدين غيرها . وهذا هو الفرق بينهم وبين أهل الأهواء المشنعين دون بينة ولا برهان ولا فهم للواقع أو عذر لأهل الإيمان .
ولتوضيح ملابسات القضية ، وليظهر عذر معاوية – رضي الله عنه - ؛ فإني أورد هنا ما ذكره الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني – وفقه الله – من أسباب دعت معاوية لهذا الفعل ، في رسالته " مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية " ( ص 126-140 ) :
قال : " أولاً: السبب السياسي (الحفاظ على وحدة الأمة) :
يجب أن نعرف أن الظروف التي بويع فيها أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك الفترة التي أخذ فيها معاوية البيعة لولده يزيد.
فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يشك أحد في أنه أفضل شخص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا لم يبرز خلاف في أفضليته وأهليته بالخلافة، فشخصيته تحظى بتقدير واحترام المسلمين، وذلك لقاء ما قدمه من تضحيات، وتحمله الآلام في سبيل هذا الدين.
ثم أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر بن الخطاب، وهو من هو في الفضل والمكانة، ويعرف المسلمون أنه أفضل شخص بعد أبي بكر، ولهذا انعقدت له البيعة وانقاد المسلمون له ولم يخالفه أحد.
ولما أصيب عمر رضي الله عنه أوصى بأن يكون الخليفة أحد الستة المبشرين بالجنة وهم: (عثمان بن عفان – وعلي بن أبي طالب – والزبير بن العوام – وعبدالرحمن بن عوف- وسعد بن أبي وقاص- وطلحة بن عبيد الله) رضي الله عنهم.(13/31)
وهنا أصبحت الخلافة محصورة في واحد من هؤلاء الستة، حيث كان لهم من الآهلية والفضيلة والسابقة المحمودة في الإسلام، والبشارة لهم بالجنة، ما يجعل الناس تقر لهم، وتعترف لهم بالفضل والسابقة في الدين.
وبعد استشارة واستقصاء لأراء الصحابة رضي الله عنهم، وقع الاختيار على عثمان رضي الله عنه، وذلك باعتباره أفضل المرشحين الستة لخلافة المسلمين، وبرزت الفتنة في أواخر خلافته، وحوصر وقتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه.
وتولى الخلافة من بعده علي رضي الله عنه ولم يجمع الناس على بيعته، حيث برزت التهم الموجهة له ولأهل المدينة بأنهم تواطؤا، أو تساهلوا مع الثوار حتى قتل عثمان رضي الله عنه بين أظهرهم.
وكانت بلاد الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه تمثل هذا التيار المعارض، وكان يسيطر على أهل الشام شعور جارف بوجوب الانتقام من قتلة عثمان الذين يمثلون قطاعاً من جيش علي رضي الله عنه، وحدث القتال والفرقة، وقتل من قتل من المسلمين، وهنا ظهرت فرقة الخوارج التي تكفّر المسلمين وتستحل قتالهم، وفرقة الشيعة التي بدأت تغالي في علي وأبنائه رضي الله عنهم.
وأمام هذا التغيّر في بعض معتقدات وأفكار فئة من المجتمع الإسلامي، حتمت الظروف وواقع المجتمع –في تلك الفترة- على معاوية أن يعيد النظر ويتبصر فيمن سيكون خليفة للمسلمين من بعده .
فأهل الشام الذين انتصروا لقتل عثمان رضي الله عنه أثبتوا أنهم أناس مخلصون لمبادئهم وأهدافهم، لهذا حقق بهم معاوية –بإرادة الله- انتصاراته على أهل العراق.(13/32)
وأهل العراق الذين ينضوي تحت قبائلهم الثوار المتهمون بقتل عثمان رضي الله عنه لم يربط بينهم روابط دينية محددة، فيوجد في صفوفهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين، ويوجد الشيعة التي تبلورت لديهم نظرة متطرفة حول الإمامة، وأصبح البعض منهم يرى أن الخلافة إنما هي قصر على آل البيت دون سواهم، وأصبح مذهبهم يميل إلى السرية ، علاوة على كثرة أهل الشقاق، ومحبي الفتن في هذا الإقليم، والذين كانوا أحد الأسباب في خذلان علي رضي الله عنه، وكانوا مصدر أذى وبلاء عليه وعلى أبنائه من بعده .
وأما أهل الحجاز، ففيهم الصحابة وكبار التابعين، أهل الفقه والراسخون في العلم ويعتبر الحجاز في تلك الفترة المكان الذي يمثل الإسلام أحسن تمثيل، فلا يوجد فيه أصحاب العقائد الفاسدة، ولم تظهر فيه المنكرات والبدع، وكانت بيئة أهل الحجاز بيئة علم ودين وتقى لوجود الصحابة وأبنائهم في كل من مكة والمدينة.
ويبرز من أهل الحجاز أبناء الصحابة الكبار أمثال الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، كأفضل المرشحين ليتولى أحدهم الخلافة بعد معاوية رضي الله عنهم .
وهنا يبرز سؤال ملح وهو، لماذا إذاً لم يرشح معاوية أحداً من هؤلاء الأربعة ؟
وللإجابة على هذا السؤال فإنه يلزمنا الرد على سؤال آخر يطرح نفسه: وهو من هم أهل الحل والعقد الذين يمكن لهم اختيار الخليفة ومن ثم مبايعته ؟
ولكي لا نبعد عن الحقيقة يمكننا أن نقول: إن تطبيقات النظام السياسي في الإسلام لم تأخذ حقها من الممارسة الطويلة حتى تتضح الصورة بجلاء حول اختيار الخليفة؛ والخلافة وما يتعلق بها من أحكام.
فمن هم أهل الحل والعقد في عهد معاوية؟ أتراهم أهل الشام الذين يمثلون الثقل السياسي والعسكري والقيادي في الدولة؟ أم هم أهل الحجاز؟ وهل يدخل في نطاقهم الأنصار وغيرهم، أم هم قريش فقط ؟(13/33)
ومن أهل الحل والعقد في العراق، أتراه الأمير المعين من قبل الدولة وأمراء الجند؟ أم هم زعماء القبائل العربية مع ما يمثلون من اختلاف في مشاربهم واتجاهاتهم ؟
ومن يا ترى أهل الحل والعقد في مصر، هل هم العثمانية الذين برزوا كقوة مناصرة لمعاوية وأهل الشام أثناء النزاع بين علي ومعاوية؟ أم يكونوا أمراء الجند ومن ينضم معهم من عليه القوم هناك ؟
في الحقيقة إننا لا نستطيع أن نحدد بدقة أهل الحل والعقد في كل بلد؛ ومن ثم يبدو افتراض أن معاوية سينجح في جمع الكلمة على رجل واحد أشبه بالمستحيل.
فأهل الشام ينظرون لأهل العراق كموطن للثوار الذين اغتالوا عثمان، وليس من المعقول أن يتنازل أهل الشام عن مكاسبهم ومبادئهم التي قاتلوا من أجلها وهي نصرة الخليفة المظلوم والأخذ بثأره .
فكيف يمكن لأهل الشام أن يسمحوا بترشيح شخص يحظى بدعم أهل العراق.
وأهل المدينة خصوصاً وأهل الحجاز عموماً ينظر الشاميون لهم على أنهم يشتركون اشتراكاً فاعلاً في تحمل المسؤولية عن قتل عثمان رضي الله عنه، فقد حوصر أكثر من شهر ثم تسور الثوار المنزل عليه وقتلوه بين أظهر أهل المدينة، فإذاً ليس من المعقول –حسب نظرة أهل الشام- أن يقبلوا بمرشح من أهل المدينة.
هذا تقريب لنظرة أهل الشام لمن سيكون مرشحاً للخلافة من هذه الأقاليم.
ولا تبعد كثيراً نظرة أهل العراق عن نظرة أهل الشام فيمن سيكون خليفة بعد معاوية رضي الله عنه . أهل العراق يؤيدون بقوة الحسين بن علي رضي الله عنه، ومن الصعوبة أن يقتنعوا بشخص آخر يحل محله .
ثم إن الأشخاص المرشحين لن يحظوا بتأييد كامل من أقرانهم، فالأمويون لا يرغبون في تحول الخلافة لشخص من غيرهم، فهم أكبر قبيلة في قريش، وهم أهل السيادة والإمارة، كما أنهم على خلاف مع بعض أبناء الصحابة في المدينة.(13/34)
ثم إن نفس المرشحين للخلافة الذين يفترض أن الخلافة ستنحصر في أشخاصهم لم يجمعوا أمرهم على شخص بعينه، بل إن كل واحد منهم يرى في نفسه الأحقية والآهلية التي تجعل منه خليفة للمسلمين .
وحتى ابن عمر رضي الله عنه الذي ربما اجتمعت عليه الآراء، ويجمع غالب المسلمين على ترشيحه، موقفه من الخلافة معروف، وهو من أزهد الناس فيها .
وحسماً للخلاف الذي ربما أدى بالأمة إلى نزاعات جديدة، وفتح ثغراث في كيانات الدولة، نظر معاوية إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة. وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة رحلته الأخيرة للحج، إذا كان الدافع لمعاوية رضي الله عنه عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل .
ثانياً: السبب الاجتماعي (قوة العصبية القبلية) :
لقد خاض معاوية رضي الله عنه الحرب، وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية ومحبة لنبي أمية.
كانت عندهم نظرة متأصلة تجاه أهل المدينة وأهل العراق، بأنهم السبب في قتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه .
هل كان أهل الشام يرضون بأن يتولى الخلافة أحد غير بني أمية، بالمقابل هل سيرضى كثير من أهل العراق أن يتولى الخلافة رجل من غير آل البيت؟ لقد كان هناك شعور قوي بأهمية بقاء الخلافة في بني أمية، وفي بلادهم.(13/35)
فمثلاً لما بايع بعض أهل الشام لابن الزبير اعترض كثير من أشراف أهل الشام على ذلك وقالوا: إن الملك كان فينا فينتقل إلى أهل الحجاز لا نرضى بذلك.
وكانت الدولة الإسلامية في بدايتها - أي في عصر الخلفاء الراشدين - يسيطر عليها الوازع الديني ، إلا أنه منذ خلافة معاوية كانت العصبية قد قويت، والوازع الديني قد ضعف في النفوس واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
إن نظرة ابن خلدون هذه واستنتاجه لجدير بالاحترام والتأييد، وخصوصاً وأن ابن خلدون خاض الحياة السياسية ودخل في غمارها، فاستنتاجه هذا مبني على تجربة، هو أدرى بظروفها ونتائجها.
وبالذات فإن منعطفات السياسة، يكتنفها في الغالب الغموض وعدم الوضوح، فليس بوسع أي شخص أن يدرك هذه الحقائق منذ الوهلة الأولى.
ثم لا ننسى قوة قبيلة كلب من حيث الوجود والكثرة بين قبائل أهل الشام، وهم أخوال ليزيد.
وإذا أردنا أن نميز قوة القبيلة وبالذات قبيلة كلب، ودورها في تقرير السلطة، لنتذكر ما عمله حسان بن مالك بن بحدل سيد قبيلة كلب وهو من أخوال يزيد، هذا الزعيم القبلي هو الذي شد الخلافة لمروان بن الحكم فيما بعد.
ويذهب إبراهيم شعوط إلى إعذار معاوية فيما اتخذه من العمل على أخذ البيعة ليزيد فيقول: "لما كانت العصبية والقوة في بني أمية، فقد أصبح تصرف معاوية بتولية يزيد أمراً طبيعياً يقره المنصفون ويحرص عليه العقلاء".
ثم إنه من الناحية العلمية كان نقل الخلافة من الأمويين إلى غيرهم في ذلك الوقت مطلباً يكاد يكون مستحيلاً، فالولاة على الأقاليم كانوا من بني أمية أو من أتباعهم، وإسناد الخلافة إلى أحد من أبناء الصحابة في الغالب هو عزل لهؤلاء الولاة، وقد يرفض البعض قرار العزل، ثم ستتكرر معارك الجمل وصفين على نطاق واسع.(13/36)
ومن الدلالة على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية، أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله عام 73 رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لابن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه معصب بن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان ، فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته ؟ بل نجد العكس: أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين.
ثالثاً: أسباب شخصية في يزيد :
لقد تجلت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام، والقدرة على القيادة، هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير.
وليس معاوية ذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره، وهو يسوس الناس، ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته.
لا شك أن الصحابة وأبناءهم أفضل من يزيد وأصلح، ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لم تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه، ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل، وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة فيرد عليه يزيد بقوله: "كنت والله يا أبة عاملاً عمل عمر بن الخطاب".(13/37)
لقد كان معاوية رضي الله عنه يدرك أن كثيراً من المزايا موزعة بين الشباب القرشي، وأن هذه المزايا مع تلك الطموحات الشخصية التي ظهرت فيما بعد ربما تدخل الأمة في حروب وفتن كثيرة، فمع أن يزيد يشارك بعضهم في بعض ما يمتازون به إلا أنه يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أي القوة العسكرية.
بيد أن معاوية يرى هذا التدبير على ما فيه من غمط حقوق الكفاءة للخلافة أضمن لسلامة الدولة، وتتقى به شرور قد تستطير بين الناس كلما مات لهم خليفة، أو قوي أعداؤه فأرادوا استلاب الخلافة منه، ويخشى إذا ظل المسلمون على تناحرهم، أن يجمع أعداؤهم شملهم، ويعيدوا الكرة عليهم في صميم جزيرة العرب، والله أعلم ما تكون النتيجة على الإسلام والمسلمين.
ولايُتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمور على النظر لهم في حياته، فأحرى أن لا يحتمل فيها تبعته بعد مماته، خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصص التهم في الولد دون الوالد.
فإنه بعيد عن الظن في ذلك كله، لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة، أو توقع مفسدة، فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب.
قال ابن بطال: "وعقد الخلافة من الإمام المتولي لغيره بعده جائز على عامة المسلمين لإطباق الصحابة ومن معهم على العمل بما عهده أبو بكر لعمر، وكذا لم يختلفوا في قبول عهد عمر إلى الستة: وهو شبيه بإيصاء الرجل على ولده لكون نظره فيما يصلح أتم من غيره فكذلك الإمام"
لقد كان ابن عباس يشهد ليزيد بالفضيلة، وبايعه، وكذلك بايعه ابن عمر، ولم يبق إلا الحسين بن علي الذي كان رضي الله عنه يغرر به أهل الفتن في حياة معاوية، ونهاه الحسن عنهم، وعزم على الذهاب لهم بعد وفاة معاوية، وقد حذره الصحابة ونهوه عن ذلك فأبى عليهم وحدث ما حدث.(13/38)
أما ابن الزبير رضي الله عنه عنه فكان معاوية يحذره من تصرفاته، ثم تمنى أخيراً بعد الحصار أن معاوية حياً فيخلصه مما هو فيه، وندور المخالف معروف.
معاوية رضي الله عنه وولاية المفضول مع وجود الفاضل .
لقد عدل معاوية عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهم عند الشارع، ولا يظن بمعاوية غير هذا ؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.
لقد كان النجباء من أبناء الصحابة كثير، منهم: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير والحسين بن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم ، ولم يكن أبناء الصحابة فيما بينهم يجمعون على شخصية واحدة، فهذا ابن عباس لم يبايع ابن الزبير بعد وفاة يزيد بن معاوية ومبايعة كثير من الأقطار له. بل كان يوجه إليه الانتقادات ويلومه في بعض أعماله.
وكذلك محمد بن الحنفية، وابن عمر لم يبايعا ابن الزبير، إذاً فمن الذي يضمن تراضي جميع الأطراف على شخصية واحدة؟!
لقد اشترط الفقهاء شروطاً عديدة فيمن يصلح للإمامة من ضمنها القرشية، والاجتهاد، والعدالة، والعلم والقوة، والسياسة، والحنكة، وحسن التدبير وغيرها.
ويروى عن الإمام أحمد إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل.
والذي يظهر من سيرة عمر في عمّاله الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فلأجل هذا استخلف عمرًا ومعاوية والمغيرة بن شعبة، مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم، كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأبعث الرجل وأدع من هو أحب إلي منه، ولكن لعله يكون أيقظ عيناً وأشد بأساً أو قال مكيدة".(13/39)
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب مع أنه أحياناً يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو ذر أصلح منه في الأمانة، والصدق، ومع ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحبُ لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم".
فنهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه يراه ضعيفاً.
وكذلك استعمل أبو بكر خالد بن الوليد، مع أنه يرى منه هفوات، ولم يعزله من أجلها ، بل ذلك لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
ونزع شرحبيل بن حسنة وقال: "تحرجنا من الله أن نقرك وقد رأينا من هو أقوى منك".
وعن ثابت مولى سفيان قال: سمعت معاوية وهو يقول: "إني لست بخيركم وإن فيكم من هو خير مني: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم وأعلمكم ولاية، وأحسنكم خلفاً".
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب، الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها .
"سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر".(13/40)
ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فبه يحصل مقصود الإمامة، وينتفع الناس بولايته، ويشملهم الأمن والدعة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم، وحرمهم، وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً ؛ فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه.
وقال الجويني: "والذي صار إليه معظم أهل السنة أن يتعين للإمامة أفضل أهل العصر إلا أن يكون في نصبه هرج وهيجان فتن، فيجوز نصب المفضول، إذا كان مستحقاً للإمامة، كيف ولو تقدم المفضول في إمامة الصلاة لصحت الإمامة".
وهكذا يتضح لنا من خلال النصوص السابقة أن ولاية المفضول ثابتة وجائزة شرعاً.
ويزيد بن معاوية لا شك أنه مفضول وليس بالأفضل مع وجود كبار الصحابة وأبنائهم رضي الله عنهم، ولكن هناك بعض الأسباب التي حاولنا مناقشتها والتي ظهرت لنا من عزم معاوية على تولية يزيد، وأيضاً هناك بعض الأمور التي قد تخفى علينا والتي من أجلها أكد معاوية بيعة يزيد " . انتهى . وتُنظر - أيضًا - : رسالة " العالم الإسلامي في العصر الأموي " للدكتور عبدالشافي محمد عبداللطيف ، ص 129-
أما المواجهة الأخوية مع الدكتور فتجدونها على ( هذا الرابط )(13/41)
يا أهل السنة : لنستمع - جميعًا - إلى نصيحة الإمام ابن قتيبة رحمه الله
هذه نصيحة ثمينة كتبها الإمام ابن قتيبة - رحمه الله - ( خطيب أهل السنة كما يقول شيخ الإسلام ) ، لمّا رأى انصراف كثير من أهل السنة في زمانه عن العلم النافع ، والعمل الصالح ، ودعوة الناس إلى الحق ، إلى الاشتغال بأنفسهم من خلال الخصومات والنزاعات التي أحدثها كثرة التنقير في دقائق الأمور ، والدخول في المسالك الضيقة ؛ مما أشمت بهم أهلَ البدع والمنافقين ، وأفرحهم باشتغال أهل الحق عنهم ، وحرمهم من تزكية النفوس وبركة العلم ، وكأنه يحكي واقعنا . فرحم الله سُنيًا وعاها ، واستثمر أوقاته فيما ينفع به نفسه وإخوانه ومجتمعه ، وقدّر كبار علماء أهل السنة ، ووسعه ما وسعهم ، ولم يُشغّب عليهم بتفريعات خيالية ، أو ينازعهم ويُشاقهم ويُشغل شباب الأمة بمسائل مُتكلَفة ، والموفق من وفقه الله وجعله مفتاح خير لجمع الكلمة على الحق ، والمخذول من جعله مفتاح شر لباب الفُرقة والخصام .
قال - رحمه الله - في رسالته : الرد على الجهمية والمُشبهة - ص 17 - 21(14/1)
( الحمد لله مرتضي الحمد لنفسه، وجاعله فاتحة وحيه، ومنتهى شكره، وكفاء نعمته، ودعوى أهل جنته عند إفضائهم إلى كرامته، البَرُّ بخلقه، العواد على المذنبين بعفوه، الذي لا يخيب راجيه، ولا يرد داعيه، ولا ينسى ذاكريه، ولا يقطع حبل عصمته ممن تمسك بعروته، أحمده بجميع محامده على جميع نعمه، وندعوه أن يشعرنا خشيته، ويشرب قلوبنا مراقبته عند كل لفظ وعقد ، وكل قبض وبسط، وأن يجعل كلامنا له ودلالتنا عليه وإرشادنا إليه، ويؤم بنا سمت الحق وقصد السبيل، وأن يبلغ نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم منا أفضل صلاة وأنماها وأزكاها وأقضاها لما فرض من حقه وأوجب من ذكره، صلى الله وملائكته المقربون عليه وعلى آله الطيبين وعلى جميع النبيين والمرسلين، ونعوذ بالله من نزغ الشيطان ومصائده ولطيف خدعه ومكائده، فقد صدق على هذه الأمة ظنه، وأجلب عليهم بخيله ورجله، وقعد لهم رصداً بكل مرصد، ونصب لهم شركاً بكل ريع، وطفق لغوايتهم بكل شبهة، فأصبح الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مفتونين، وفيما يوبقهم خائفين، وعن سبيل نجاتهم ناكبين، ولما وضعه الله عنهم متكلفين، وعما كلفهم معرضين، إن دعوا أنفوا، وإن وُعظوا هزأوا، وإن سُئلوا تعسفوا، وإن سألوا أعنتوا، قد فرقوا الدين وصاروا شيعاً فهم يتنابزون بالألقاب ويتسابون بالكفر ويتعاضدون بالنِحل ، ويتناصرون على الهوى ، وعاد الإسلام غريباً كما بدأ، فماذا يعجب من سلة السيف وشمول الخوف ونقص الأموال والأنفس ، وهل يتوقع بعد تزيدنا في الغواية إلا التزيد في البلاء حتى يحكم الله بما شاء بيننا وهو خير الحاكمين ، وكان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم ويُعلم ، ليعمل ويتفقه في دين الله ، لينتفع وينفع ، فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع ، ويجمع ليذكر ، ويحفظ ليغالب ويفخر ، وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر(14/2)
التناظر فيما دق وخفي ، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض من حكم الكتابة وحكم اللعان ورجم المحصن، وصار الغرض فيه إخراج لطيفه، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم، فهذا يرد على أبي حنيفة وهذا يرد على مالك وآخر يرد على الشافعي، بزخرف من القول، ولطيف من الحيل، كأنه لا يعلم أنه إذا رد على الأول صواباً عند الله بتمويهه فقد تقلد المآثم عن العالمين به دهر الداهرين.
وهذا يطعن بالرأي على ماض من السلف وهو يرى، وبالابتداع في دين الله على آخر وهو يبتدع.
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى ، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرَض والجوهر ، فهم دائبون يخبطون في العشوات قد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى.
وكان آخر ما وقع من الاختلاف أمراً خُص بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالاتباع قاهرين ، يداجَون بكل بلد ولا يداجون ، ويُستتر منهم بالنِحل ولا يستترون، ويصدعون بحقهم الناس ولا يستغشون، ولا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلا من وضعوا، ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا، إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله تعالى أصلاً في الدين، ولا فرعاً، في جهلها سَعة ، وفي العلم بها فضيلة ، فنمى شرها، وعظم شأنها ، حتى فرقت جماعتهم وشتتت كلمتهم ووهنت أمرهم وأشمتت حاسديهم وكفَت عدوهم مؤنتهم بألسنتهم وعلى أيديهم ، فهو دائب يضحك منهم ويستهزئ بهم حين رأى بعضهم يكفر بعضاً ، وبعضهم يلعن بعضاً ، ورآهم مختلفين وهم كالمتفقين ، ومتباينين وهم كالمجتمعين ، ورأى نفسه قد صار لهم سِلماً بعد أن كان لهم حرباً.(14/3)
ولما رأيتُ إعراض أهل النظر عن الكلام في هذا الشأن منذ وقع، وتركهم تلقيه بالدواء حين بدا، وبكشف القناع عنه حين نجم، إلى أن استحكم أساسه، وبسق رأسه، وجرى على اعتياد الخطأ فيه الكهل، ونشأ عليه الطفل ، وعسر على المداوين أن يُخرجوا من القلوب ما قد استحكم بالألف ونبت على شراه اللحم، لم أر لنفسي عذراً في ترك ما أوجبه الله عليّ بما وهب من فضل المعرفة، في أمر استفحل بأن قصر مقصر ، فتكلفت بمبلغ علمي ومقدار طاقتي ما رجوت أن يقضي بعض الحق عني ؛ لعل الله ينفع به فإنه بما شاء نفع، وليس على من أراد الله بقوله أن يسأله الناس بل عليه التبصير وعلى الله التيسير.
وسيوافق قولي هذا من الناس ثلاثة:
رجلاً منقاداً سمع قوماً يقولون فقال كما قالوا ،فهو لا يرعوي ولا يرجع ؛ لأنه لم يعتقد الأمر بنظر فيرجع عنه بنظر.
ورجلاً تطمح به عزة الرياسة وطاعة الإخوان وحب الشهرة ، فليس يرد عزته ولا يثني عنانه إلا الذي خلقه إن شاء، لأن في رجوعه إقرارَه بالغلط ، واعترافه بالجهل ، وتأبى عليه الأنفة ، وفي ذلك أيضاً تشتت جمع ، وانقطاع نظام ، واختلاف إخوان ، عقدتهم له النِحلة، والنفوس لا تطيب بذلك ، إلا من عصمه الله ونجاه.
ورجلاً مسترشداً يريد الله بعمله ، لا تأخذه فيه لومة لائم ، ولا تدخله من مفارقٍ وحشة ، ولا تلفته عن الحق أنفة ، فإلى هذا بالقول قصدنا وإياه أردنا ) .(14/4)
كتابٌ جديدٌ عن المرجئة .. وبيان سَلف الزهراني - هداه الله -
سبق أن نشرتُ مقالا بعنوان ( هداك الله .. يا أحمد الزهراني .. ! ) ، نصحتُ فيه الأخ أحمد - هداه الله - أن يتقي الله ، ويرجع إلى الحق بعد أن بينه له كبار العلماء ودعوه إلى التوبة منه ، وأن يدع التعصب لزلات العلماء ، إلا أنه للأسف - كما ترون - أصر واستكبر ، وأشغل نفسه وشباب الأمة عن العلم النافع والعمل الصالح .
ومن تابع المقال السابق وما جاء فيه من تعليقات ساءه أن يتطاول الزهراني - أصلحه الله - على علماء الأمة الذين حذروا من بدعته - وعلى رأسهم الإمام ابن باز رحمه الله - ، فيتهمهم - مهما راوغ - بأنهم وقعوا في " مذهب الخوارج " !!
وأنا هنا لن أناقش الرجل في هذه الفرية ؛ لأني أرى أن لا نفع من ذلك ؛ لأن الرجل - للأسف - قد تجاوز هذه المرحلة ، ودليل هذا أن الشيخ محمد بن سيف حاول الحوار معه والمناظرة إلا أنه فرّ فرار المصر على ما هو عليه ، وهذه صفة لاتليق بالمؤمن المتجرد ، وإلا فما الذي يمنعه - إن كان كما يزعم على بينة من أمره - أن يواصل الحوار مع الشيخ ؟
ولكني هنا : أبين للأخ أحمد - هداه الله - وللإخوة القراء : مَن هو سَلفه في هذه التهمة التي رمى بها أهل السنة ، وأنقل هذا من كتابٍ قيّم صدر حديثًا للأخ الشيخ محمد الكثيري - وفقه الله - ، بعنوان " براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة " ، أنصح به الإخوة ، وكذا الأخ أحمد - هداه الله - .
******
يقول الأخ محمد - متحدثًا عن المرجئة - ( ص 185 ) :(15/1)
( وقد ناقشهم الملطي –رحمه الله – نقاشاً عقلياً تدرج فيه معهم إلى أن قال: " فيجب عليهم حينئذ أن يقولوا: الإيمان قول اللسان وإقرار بالقلب" ثم قال: "والإقرار بالقلب عمل، بل هو أصل كل الأعمال التي بالجوارح؛ لأن الجوارح عن القلب تصدر"، فإذا وجد الإيمان في القلب، وجدت أعمال الجوارح، ولهذا قال - ملزماً من سلم بذلك بإدخال أعمال الجوارح في الإيمان - : "وإذا كان كذلك فقد وجب أن يقولوا: إن الإيمان قول اللسان وتصديق بالقلب لزمتهم أن يقولوا: وعمل بالجوارح"، لأنه لا يتصور أن يكون بالقلب إيمان صحيح ثم لا يظهر أثره على الجوارح، وقد أزعجت هذه الجملة الكوثري محقق الكتاب، فعلّق عليها بما يجعلها متفقة مع كلام أئمته المرجئة، فقال: "باعتبار أن عمل الجوارح من كمال الإيمان لا أنه جزء من ماهية الإيمان لئلا يلزم الانزلاق إلى مذهب المعتزلة والخوارج" ! ) .
وقال في موضع آخر ( ص 256-258) مشيرًا إلى الزهراني أمثاله :
( قال اللقاني في (جوهرته) :
ورُجِّحت زيادة الإيمان *** بما تزيد طاعة الإنسان
ونقصُهُ بنقصها وقيل: لا *** وقيل: لا خُلْفُ كذا قد نُقِلا
فذكر ثلاثة أقوال:
الأول: أن الإيمان يزيد بطاعة الإنسان وينقص بنقص الطاعة.
والثاني: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
والقول الثالث: قول من قال: "ليس الخلاف بين الفريقين حقيقياً بل لفظياً، ووجهه أن القول بأنه يزيد وينقص محمول على ما به كماله، وهو الأعمال، والقول بأنه لا يزيد ولا ينقص محمول على التصديق الباطني وهو أصل الإيمان، فيرجع الخلاف لفظياً".(15/2)
وهذا القول الذي ذهب إليه محققو المرجئة كالرازي وإمام الحرمين، قد نعق بعض مرجئة العصر بما يشبهه إذ أحدثوا وابتدعوا ما سموه ( الحد الأدنى ) في الإيمان وجعلوه غير قابل للنقصان، وما زاد عليه فهو الذي يقبل الزيادة والنقصان، فصار الحد الأدنى عندهم يقابل أصل الإيمان عند المرجئة الأوائل، وما زاد عليه -عندهم- يقابل الأعمال عند المرجئة الأوائل، وسبب هذا الابتداع أن هؤلاء النوابت وافقوا على إدخال العمل في مسمى الإيمان، وأقروا –أيضاً- بارتباط الظاهر بالباطن، ويترتب على هذا الذي أقروا به انعدام الباطن بانعدام الظاهر وإلا لزمهم ما هو مرفوض عند جميع العقلاء، وهو أن الشيء المحدود ينقص ثم ينقص ثم ينقص ولا ينتهي، أو يصرحوا بما صرّح به المرجئة الأوائل، ففراراً من هذين الأمرين اللذين لا محيد لهم عن أحدهما ابتدعوا القول بـ ( الحد الأدنى ) .
وقالوا: "إن أصل الحد الأدنى ليس فيه نقصان، أما الزيادة عليه فممكنة" .
وهذا القول يشبه قول المرجئة الأوائل، وفي الوقت نفسه يخالف قول السلف.
فأما وجه مشابهته لقول المرجئة أن المرجئة تهاب وتنفر من القول بالنقصان أكثر من الزيادة، وهؤلاء قيدوا النقصان بحد معين وأما الزيادة فأطلقوها، وهذا يعني أن الزيادة والنقصان عندهم ليستا على حد سواء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة". وأما وجه مخالفته قول السلف أن الأئمة قد نصوا على أن الإيمان ينقص حتى لا يبقى منه شيء.
ومما تقدم يُعلم الفرق بين الزيادة والنقصان التي يبرأ من الإرجاء من يقول بها، والزيادة والنقصان التي تقرّ بها المرجئة ) .
وقال في موضع آخر ( ص 266-268) :(15/3)
( وقال محمد زاهد الكوثري في كتابه (تأنيب الخطيب): "كان في زمن أبي حنيفة وبعده أناس صالحون يعتقدون أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ويرمون بالإرجاء من يرى الإيمان: العقد والكلمة، مع أنه الحق الصراح بالنظر إلى حجج الشرع، قال الله تعالى: ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ( [الحجرات:14] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب، وعليه جمهور أهل السنة .
وهؤلاء الصالحون باعتقادهم ذلك الاعتقاد، أصبحوا على موافقة المعتزلة أو الخوارج حتماً إن كانوا يعدون خلاف اعتقادهم هذا بدعة وضلالة؛ لأن الإخلال بعمل من الأعمال -وهو ركن الإيمان في نظرهم- يكون إخلالاً بالإيمان، فيكون من أخلَّ بعمل خارجاً من الإيمان، إما داخلاً في الكفر كما يقوله الخوارج، وإما غير داخل فيه بل في منزلة بين المنزلتين: الكفر والإيمان، كما هو مذهب المعتزلة.
وهم من أشد الناس تبرؤا من مذهب الفريقين، فإذا تبرؤا - أيضاً- مما كان عليه أبو حنيفة وأصحابه وباقي أئمة هذا الشأن، يبقى كلامهم متهافتاً غير مفهوم، وأما إذا عدُّوا العمل من كمال الإيمان فقط فلا يبقى وجه للتنابز والتنابذ، لكن تشددهم هذا التشدد يدل على أنهم لا يعدون العمل من كمال الإيمان فحسب، بل يَعُدُّونه ركناً منه أصلياً ونتيجة ذلك كما ترى ) .(15/4)
( ثم أعاد هذا المعنى بصياغة أخرى في كتابه : (الترحيب بنقد التأنيب ) حيث قال: "عدم عد أبي حنيفة العمل ركناً أصلياً من الإيمان حذراً من إكفار الأمة جمعاء بمجرد إخلال بعمل، وهو - أيضاً- مقتضى الكتاب والسنة، كما تجد بسط ذلك في كتب أهل الشأن، وفي ( التأنيب ) نفسه، وعد ذلك إرجاء وزيغاً ظلم وعدوان، فلا يكون نبذ رواية من لا يقول ( الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ) معتمداً على أساس سليم، وعند من يرى أن العمل من كمال الإيمان لا يكون في الأمر خلاف يوجب إساءة القول في أحد القولين، ومن أصرَّ على أن العمل ركن أصلي من الإيمان بحيث إن من أخلَّ بشيء من العمل يكون قد أخلَّ بالإيمان، فهو في سبيل الانحياز إلى المعتزلة أو الخوارج شاعراً أو غير شاعر" ) .
مقال مناسب
يا أهل السنة : من ألمّ بشيئ من البدعة فليصنع كما صنع إبراهيم بن جاسر(15/5)
هل الأشاعرة من أهل السنة ؟! ( تعقيبًا على موقع الإسلام اليوم )
نشر موقع " الإسلام اليوم " فتوى عن حكم التعامل مع الأشاعرة والماتريدية ، وعنونها بـ "الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة " ! هكذا دون تقييد . وهذا من الخطأ الذي لا يخفى على من يعرف عقيدة الأشاعرة والماتريدية ؛ سواء في باب التوحيد الذي يحصرونه في توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية ؛ مما ساهم في انتشار البدع والشركيات حولهم دونما نكير ، أو في باب الإيمان ، أو في باب القدر ، أو في تأويلهم لصفات الله ، أو تقديمهم للعقل على النقل عند ظن التعارض .. إلى غير ذلك مما خالفوا فيه أهل السنة . والتفصيل يجده القارئ في هذه الرسائل : " منهج الأشاعرة في العقيدة " للشيخ سفر ، " الفروق في العقيدة بين أهل السنة والأشاعرة " للأستاذ صادق السفياني ، " منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى " للأستاذ خالد نور ، " موقف ابن تيمية من الأشاعرة " للشيخ المحمود .
وجمع الأمة الذي يقصد إليه القائمون على موقع " الإسلام اليوم " هو مقصد حسن ، ولكنه لا يُنال بتغيير الحقائق ، والعبث بها ، ومجاملة المخالفين للحق ، وإنما يُنال بدعوة المنحرف – بالأسلوب الأمثل – إلى ترك انحرافه وبدعته ، وعرض الحق أمامه ، دون تبديل أومداهنة ، أو إنزال المخالفين محلا ليس لهم ، ومسايرتهم في دعاواهم . فالأشاعرة لا يفتأون يذكرون في كتبهم أنهم أهل السنة ، وأنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية... كما في كتبهم : الإنصاف للباقلاني ص 108، والفرق بين الفِرَق للبغدادي ص 26،318، ، والتبصير في الدين لأبي المظفر الإسفرائيني ص 25، ولمع الأدلة للجويني ص 75،92 ، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 3، ومعالم أصول الدين للرازي ص 65 ، وشرح الجوهرة للبيجوري ص 30-31، وكبرى اليقينيات الكونية للبوطي ص 125، وأركان الإيمان لوهبي غاوجي .. وغيرها .(16/1)
وكل هذه الدعاوى لا تُغير الحقيقة ، كما لا يُغير حقيقة الملح أن تكتب عليه اسم السُكر .
فالأشاعرة ليسوا من أهل السنة وإنما هم أهل كلام، عدادهم في أهل البدعة :
قال الإمام أبو نصر السجزي في فصل عقده في كتابه " الرد على من أنكر الصوت والحرف " لبيان السنة ما هي؟ وبم يصير المرء من أهلها؟
قال ص 100-101"...فكل مدَّعٍ للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، عُلم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه أو ينظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به ، بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بين، وكتبهم عارية عن إسناد ، بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب، وقال القلانسي، وقال الجبائي... " .
بل يذهب - رحمه الله – أبعد من ذلك ؛ فيرى أن ضررهم أكثر من ضرر المعتزلة، فيقول ( ص 222 ) : " ثم بُليَ أهل السنة بعد هؤلاء؛ -أي المعتزلة- بقوم يدَّعون أنهم من أهل الاتّباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم ، وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري...".
معللاً رأيه هذا بقوله ( ص 223) : " فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة " ، وقوله ( ص 177-178) : "... لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف – أي تأتي من الخلف - ولم تموِّه .
بل قالت: إن الله بذاته في كل مكان وإنه غير مرئي، وإنه لا سمع له ولا بصر... فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء. والكلابية، والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة، والذب عن السنة وأهلها، وقالوا في القرآن وسائر الصفات ما ذكرنا بعضه ".(16/2)
وروى ابن عبدالبر عن ابن خويز منداد المصري المالكي: أنه قال في كتاب الشهادات من كتابه "الخلاف"، في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: " أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته " . ( جامع بيان العلم وأهله ، 2/117) .
وقال أبو العباس ابن سريج الشافعي : " لا نقول بتأويل المعتزلة ، والأشعرية ، والجهمية ... الخ " . ( منهج الأشاعرة للشيخ سفر ، ص 18 ) .
وقال الإمام أبوالحسن الكرجي الشافعي : " لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن يُنسبوا إلى الأشعري ، ويتبرأون مما بنى الأشعري مذهبه عليه ، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه " . ( المرجع السابق ) .
ولما زلّ السفاريني في كتابه " لوامع الأنوار " ( 1/73) وقال : "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل. والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري. والماتريدية: وإمامهم أبو منصور الماتريدي " !
تعقبه في الحاشية بعض أهل العلم - ولعله الشيخ ابن سحمان رحمه الله - فقال: "هذا مصانعة من المصنف رحمه الله تعالى في إدخاله الأشعرية والماتريدية في أهل السنة والجماعة، فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستواءه على عرشه ويقول: حروف القرآن مخلوقة، وإن الله لا يتكلم بحرف وصوت، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم، فهم يقرون بالرؤية ويفسرونها بزيادة علم يخلقه الله في قلب الرائي، ويقول: الإيمان مجرد التصديق وغير ذلك من أقوالهم المعروفة المخالفة لما عليه أهل السنة اولجماعة ؟! ".(16/3)
كما علق على ذلك أيضاً الشيخ عبدالله أبابطين – رحمه الله - بقوله: " تقسيم أهل السنة إلى ثلاث فرق فيه نظر، فالحق الذي لا ريب فيه أن أهل السنة فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها بقوله: (هي الجماعة)، وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، أو (من كان على ما أنا عليه وأصحابي). قال: وبهذا عرف أنهم المجتمعون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يكونون سوى فرقة واحدة، -قال-: والمؤلف نفسه يرحمه الله لما ذكر في المقدمة هذا الحديث، قال في النظم:
وليس هذا النص جزماً يُعتبرْ *** في فرقةٍ إلا على أهل الأثر
يعني بذلك: الأثرية. وبهذا عرف أن أهل السنة والجماعة هم فرقة واحدة " .
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله- جواباً عن قول الصابوني : "إن التأويل لبعض الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة" :
قال: " الأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات لكونهم قد خالفوهم في ذلك وسلكوا غير منهجهم، وذلك يقتضي الإنكار عليهم وبيان خطئهم في التأويل، وأن ذلك خلاف منهج الجماعة... كما أنه لا مانع أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وإن كانوا منهم في الأبواب الأخرى، حتى يعلم الناظر في مذهبهم أنهم قد أخطأوا في تأويل بعض الصفات وخالفوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان في هذه المسألة، تحقيقاً للحق وإنكاراً للباطل وإنزالاً لكل من أهل السنة والأشاعرة في منزلته التي هو عليها..." . ( تنبيهات هامة على ماكتبه الصابوني ، ص 37-38) .
وقال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله - في تعقيبه على مقالات الصابوني: " ليسوا – أي الأشاعرة - منهم – أي أهل السنة - في باب الصفات وما خالفوا فيه، لاختلاف مذهب الفريقين في ذلك". ( البيان لأخطاء بعض الكُتاب ، ص 28 ) .(16/4)
قال الدكتور محمد باكريم : " والذي أميل إليه: أن لا يقال: الأشاعرة من أهل السنة إلا بقيد، فيقال: هم من أهل السنة في كذا، في الأبواب التي لم يخالفوا فيها مذهب أهل السنة.
لأننا إذا أطلقنا القول بأنهم من أهل السنة التبس الأمر وظن من لا دراية له بحالهم أنهم على مذهب أهل السنة والسلف في كل خصال السنة، والواقع أنهم ليسوا كذلك، بل في أقوالهم ما يخالف السنة في كثير من أبواب الاعتقاد.
فليسوا على السنة المحضة في كل اعتقاداتهم .
وإذا أطلقنا القول بأنهم ليسوا من أهل السنة، كان ذلك حكماً بأنهم خالفوا السنة في كل أبواب الاعتقاد، والأمر ليس كذلك فقد وافقوا أهل السنة في أبواب الصحابة والإمامة وبعض السمعيات " . ( وسطية أهل السنة ، ص 89 ومنه استفدت كثيرًا من النقولات السابقة ) .
وقال الشيخ سفر : " الحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة ، لا شك في ذلك ، أما أنهم من أهل السنة فلا " . ( منهج الأشاعرة ، ص 22 ) .
فلو قيّد الموقع فتواه بأنهم من أهل السنة - بالمعنى العام - في مقابل الرافضة ، لكان هذا مقبولا . أما بصنيعه السابق فقد وقع في التلبيس على المسلمين .
هدى الله القائمين على الموقع إلى تصحيح خطئهم ، ووفقهم للمسلك الشرعي في جمع كلمة الأمة .
رابط الفتوى في موقع الإسلام(16/5)
فطنة الشيخ أحمد شاكر .. وغفلة الشيخ عيد عباسي .. ورد الشيخ الفوزان
قامت جريدة الوطن – هذه الأيام - بفتح موضوع الحجاب ! ( ويعنون به كشف الوجه كمرحلة أولى كما في خطوات أشباههم في دول أخرى ) فرد على كتّابهم بعض العلماء ؛ كالشيخ صالح الفوزان الذي تفرد – بارك الله فيه – هذه الأيام بمقارعة أصحاب الفتنتين " الشبهات والشهوات " ، والشيخ سعد الشثري – وفقه الله - ، وغيرهم . ( كلما أوقدوا نارًا للفتنة أطفأها الله . ويسعون في الأرض فسادًا ) .
فما كان من الشيخ محمد عيد عباسي – تلميذ الألباني رحمه الله – إلا أن تدخل مصحوبًا بـ " غفلة الصالحين " و " شيئ من التعصب لشيخه " ناصرًا كتّاب الوطن ورادًا على العلماء !!
وفاته – غفر الله له – أن المقام ليس مقام خلاف اجتهادي بين علماء وطلبة علم ، تُقبل فيه مثل هذه المداخلات ، ويعذر بعضٌ بعضًا إن كانوا مجتهدين ، وإنما هو خلاف بين أهل الشريعة وأبالسة يريدون " تغريب " البلاد خطوة خطوة ، بأي طريقة ، ولو كانت طريقة " شرعية " مؤقتًا ! ( كما فعلوا في بلاد عديدة ) .
وفاته - عفى الله عنه - أن اجتهاده في نصح المتبرجات اللواتي يرتكبن المحرم خيرٌ من دعوة نساء هذه البلاد اللواتي يرتكبن " الأفضل " - باعتراف شيخه - إلى كشف وجوههن !
فيالله .. كم أتينا من هذا الباب " غفلة الصالحين " .. بل " سذاجتهم " . والله يقول : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا ) .. والخليفة المحَدّث يقول : " لست بالخب ولا الخب يخدعني " .
ورحم الله الشيخ العلامة " الذكي " أحمد شاكر .. الذي ضرب مثلا لعلماء الإسلام ينبغي أن يحتذوه ، تجده على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/23.htm
وقد رد الشيخ الفوزان على الشيخ العباسي هنا :
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006-08-14/readers.htm
وهنا بيان حال نساء الشام ( بلد الشيخ العباسي ) قبل وقوعها في الاستعمار :(17/1)
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/42.htm
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/57.htm
وهنا رد على رسالتي الشيخ الألباني اللتين أوصا بهما العباسي :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/30.htm
جاء في أولها : ( تعد مسألة "كشف وجه المرأة" البوابة الأولى التي عبر عليها "التحرير والتغريب" إلى بلاد المسلمين؛ حيث كانت بداية ومرحلة أولى لما بعدها من الشرور(1). وقد كان المسلمون مجمعين (عمليًا) على أن المرأة تغطي وجهها عن الأجانب. قال الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب"(2) ونقل ابن رسلان "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"(3). ومما يؤكد هذا أنك لا تجد مسألة كشف الوجه من عدمه قد أخذت حيزًا كبيرًا في مصنفات الأئمة ، ولم تستغرق جهدهم ووقتهم ، بل لا تكاد تجد – فيما أعلم – مصنّفًا خاصًا بهذه المسألة ؛ ولو على شكل رسالة صغيرة ؛ مما يدل دلالة واضحة أن هذه القضية من الوضوح بمكان ، وأن عمل المسلمين كما هو قائم ، يتوارثه الخلف عن السلف ، وهذا التواتر العملي يدلنا أيضًا على طبيعة تلقي العلماء لمثل هذه المسائل ، وأنهم يرشدون أمتهم لما فيه العفة والطهر والإستقامة على أرشد الأمور ، وأفضل السبل . ولم يبدأ انتشار السفور وكشف الوجه إلا بعد وقوع معظم بلاد المسلمين تحت سيطرة الكفار في العصر الحديث .... ) .
وهنا تجد بيانا لحال الكتاب السيئ ( تحرير المرأة .. ) لأبي شقه ، الذي أوصى به الشيخ العباسي للأسف !! ( علمًا أن شيخه رد على صاحبه ) :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/k.htm
وهنا رابط مهم بأقوال العلماء من مختلف البلدان :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/29.htm
والله الموفق ..(17/2)
كيف احتل الإنجليز بلاد الهند المسلمة ؟!
يجد القارئ الكريم على ( هذا الرابط ) مبحثًا سابقًا متعلقًا بهذا المقال ، عنوانه " كيف احتل الإنجليز مصر ؟ " ، فيه عبرة لكل معتبر بأساليب العدو في إضعاف أو احتلال بلاد المسلمين ، وسيجد أن الخطة واحدة ، تتكرر في كل بلد ، وتنجح للأسف ! لأن المقابل لهم ساذج أو غافل ، لا يُبادر إلى التصدي للشر وهو في مهده ، بما يُفشله ويُحبطه ويقضي عليه .
والإنجليز - كما هو معلوم - من أمهر الناس في الوصول إلى أهدافهم بطريقة هادئة ، طويلة النَفَس ، ذاق منها المسلمون العلقم ، لأسباب كثيرة ؛ على رأسها انصرافهم عن دينهم الصحيح ، وتفريطهم في اتخاذ القوة المادية الرادعة ، وتشبثهم إما بالبدع أو بالأفكار القومية و الوطنية التي تُغيّب عنهم الحقائق . والله يقول : ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) .
ومن أراد معرفة شيئ من كيد الإنجليز وتاريخهم فعليه بكتاب الأستاذ محمد العُبيدي الموصلي - رحمه الله - : ( جنايات الإنكليز على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة ) - وقد طُبع حديثًا - .
ملخص الخطة المتكررة للإنجليز ووارثيهم
1- التمهيد للاحتلال أو الإضعاف بنشر الفكر المخلخل لوحدة البلاد المسلمة - بواسطة العملاء - ، تحت شعارات : " التسامح " ، " المحبة " ، " التعددية " .. الخ الشعارات التي تُذيب الفوارق بين المسلم والكافر ، والسني والبدعي ، وتكسر الحواجز ، وتُفتت الوحدة ، وتُحدث " الفراغ " الذي يملؤه العدو القادم . ولهذا : فمن يُعين - بجهل أو غفلة أو خبث - على نشر مثل هذه الأفكار في صحيفته أو وسيلته ، ويُمكن لأصحابها من الليبراليين والعصريين ؛ فهو خائن لأمته ووطنه . ويجد القارئ على ( هذا الرابط )
اعترافًا مهمًا لأحد رؤوس العصريين حول هذا الموضوع .
2- التعاون مع الأقليات ، ومحاولة " تضخيمها " ، واستغلال مطامحها ؛ لتفتيت المجتمع وتقسيمه .(18/1)
3- إحداث نزاعات مختلفة بين أهل البلاد وحكامهم ؛ ليلجأ الجميع - في نهاية الأمر - إليهم ! ( فرق تسُد ) .
4- استغلال طموحات المتطلعين أو المتنازعين على الحكم إن وجدوا ، والتوازن في دعم الجميع بما يحفظ مصالحهم ، ويُسهل مهمتهم .
5- استخدام المال والرشاوى .
هذه أبرز وسائلهم . وأما بعد وقوع البلد في الاحتلال فتنتقل مهمتهم إلى : نهب خيرات البلاد ، التمكين لحلفائهم ، تسريح الجيش ، نشر الفساد الأخلاقي ، دعم الأقليات ، بعث التاريخ قبل الإسلامي ..
وقد اطلعت على رسالة جامعية مقدمة لنيل الدكتوراة بجامعة أم القرى ، جديرة بالنشر ، تتحدث عن كيفية احتلال الإنجليز للهند ، وسقوط الدولة الإسلامية فيها ، عنوانها :
( شركة الهند الشرقية الإنجليزية منذ تأسيسها حتى سقوط دولة المغول الإسلامية في الهند )
للباحث الأستاذ نصير أحمد نور أحمد
تتبع فيها الباحث خطة الإنجليز - وهي لا تخرج كثيرًا عما سبق - لتحقيق هذا الهدف بواسطة شركتهم السابقة ، وهو ماكان يظنه كثيرون مستحيلا ؛ إذ كيف تستولي شركة تجارية على دولة عظيمة كالهند ؟! ولكنهم غفلوا عن أن معظم النار من مستصغر الشرر ، وأن التفريط في دين الله ونصره ، والتهاون في مواجهة الأخطار المحتملة ، وعدم المبادرة بحسمها ، يُحدث ذلك وأكثر .
وأنتقي من الرسالة هذه العبارات مع ذكر الفهرس
- إلى أن يتيسر طبعها -
- ( انتهجت دولة المغول الإسلامية في الهند سياسة تسامحية تجاه مختلف المعتقدات والطوائف الموجودة بالهند والقادمة من خارج الهند، بشكل لم ير عالمٌ ذلك الزمان مثيلاً لها، وقد وضع أسس هذه السياسة مؤسس الدولة المغولية في الهند ظهير الدين محمد بابر شاه ) .(18/2)
- ( لقد أخذ حفيد بابر شاه السلطان أكبر الأول بهذه الوصايا جملة وتفصيلاً، بل ذهب في تطبيقها إلى درجة مفرطة تحول فيها التسامح إلى التهاون تجاه القيام بمسئولياته في نشر الدعوة الإسلامية، وفي هذا الإطار قام أكبر شاه بعقد المصاهرات مع الراجيوت الطبقة العسكرية الهندوكية ، وأباح المناصب الكبيرة لهم ولغيرهم من الهندوكيين، ولم يتعرض لمعابدهم وطقوسهم الدينية، وتزوج بالهندوكيات زواج مصلحة وسياسة ) .
- ( أصبحت الدولة لا تتمتع بحماية دين أو عصبية في مجتمع بدأ ولاؤه ينقسم إلى الطوائف، ومعنى هذا أن السياسة التي أريد منها كسب ود الجميع انتهت إلى أن خسرت الدولة ود الجميع، لتبقى الدولة المغولية في نهابة المطاف في حالة يرثى لها ؛ بحيث لم يبق لسلاطينها إلا التغني بالأمجاد الماضية، دون أن يجدوا من يقف إلى جانبهم بإخلاص ويعمل إلى إعادة تلك الأمجاد الغابرة إلى واقع ملموس ) .
- ( كانت شركة الهند الشرقية الإنجليزية تتحين الفرص لكسب ود سلطات دولة المغول الإسلامية في الهند، وكانت الشركة تعرف تماماً أنه ليس بمقدورها تحدي الدولة المغولية التي كانت قوية ومتماسكة وتضرب بيد عن حديد كل من يعبث بأمنها واستقرارها في البر الهندي، ومن هنا اختارت الشركة في هذه الفترة التذلل والتودد أمام سلطات الدولة على أمل أن يسمحوا لها بمزاولة نشاطاتها التجارية داخل أراضي الدولة ) .
- حدث احتكاك عسكري بين الشركة والدولة : فتصدت له الدولة بقوة : ( وهكذا فشلت أولى محاولات الشركة في اختبار عرض القوة، وكان السلطان أورنكزيب أول من وجه ضربة قاسية إلى أطماع شركة الهند الشرقية الإنجليزية وأجبرها على التقهقر في المناطق التي كانت بحوزتها وتعهدت بأن لا تعود إلى مثل هذا السلوك في المستقبل ) .(18/3)
- تعاون الإنجليز مع الأقلية السيخية : ( لقد رحب الإنجليز بنمو قوة الإمارة السيخية المتعاونة معهم في العداء السافر ضد الإسلام والمسلمين، واعتبروها إمارة حاجزة بينهم وبين أي هجوم محتمل من آسيا الوسطى لنجدة المسلمين في الهند ، كما جرى في خلال قرون عديدة مضت، وبارك الإنجليز نهج السيخ الإرهابي ضد المسلمين وأطلقوا يدهم ضمن الحدود التي سمحوا بها ) . ( بعد مرور ثلاث سنوات رأوا أن يقضوا على الإمارة السيخية نهائياً ويلحقوها بالأراضي التي تخضع لسيادة الشركة ) . ( وهكذا انتهت عن الوجود دولة السيخ بيد أصدقائها وحلفائها الإنجليز، بعد أن استنفذت خدماتها للأصدقاء ) .
- أعمالهم مع المسلمين : ( استمر الإنجليز على صب جام غضبهم على المسلمين واتبعوا معهم سياسة الإبعاد عن الوظائف وخيرات البلاد ، وتشجيع الهندوس وتثبيت أقدامهم في المراكز العليا والمناصب الرفيعة، كما فتحوا لهم أبواب الرخاء وميادين الرقي ويسروا أمام أبنائهم التعليم بالمدارس في حين كانوا يعملون على إبقاء المسلمين في ظلمات الجهل والتخلف ليكونوا آمنين من أي محاولة منهم لاسترجاع السيادة التي سلبها منهم الإنجليز بمساندة وتمهيد من جماعات الهندوس ) .
- مهمة تنصيرية : ( كانت لشركة الهند الشرقية الإنجليزية مهمة تنصيرية منذ تأسيسها، إلى جانب مهامها الأساسية في التجارة والكشف والاستعمار، وتبدو تلك المهمة واضحة في البراءة الملكية التي تم بموجبها تأسيس الشركة، إذ تنص على عدم السماح للشركة بالدخول في حرب مع أي أمير نصراني، في حين خولتها الصلاحية بإعلان الحرب أو عقد اتفاقيات السلام مع الحكام غير النصرانيين.(18/4)
إن الصبغة الاستعمارية وبسط السيطرة الأوربية كانت هي الأخرى واضحة تمام الوضوح في المراسيم التي تأسست بموجبها الشركات الأوربية الاستعمارية وفي مقدمتها شركة الهند الشرقية الإنجليزية، إذ على الرغم من تظاهر الشركات بالتجارة أمام الحكام المحليين في بدايات قدومهم إلى الهند وسائر البلدان الشرقية، كانت مراسيم التأسيس تنص على منح هذه الشركات الصلاحية في إعلان الحرب وعقد المعاهدات وفتح ما تشاء من الأراضي وإقامة الحصون والقلاع، وامتلاك الجيوش والأساطيل الحربية ) .
- لماذا ضاع حكم المسلمين ؟ : ( ضاع حكم الهند من أيدي المسلمين نتيجة تفكك الجبهة الإسلامية الهندية واضمحلالها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وكان في مقدمة العوامل التي أدت إلى ذلك التفكك والاضمحلال الحروب العائلية التي كانت تنشب عند تولي كل سلطان مغولي العرش منذ النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري الموافق للنصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، ولقد أنهكت هذه الحروب الدولة وقضت على هيبتها وأفقرتها بشرياً واقتصادياً وأضعفتها عسكرياً وسياسياً وأمنياً ، وفتحت المجال لزعزعة السلطة المركزية وزوالها وانفصال الأقاليم عن هذه السلطة واحدة بعد الأخرى، كما فتحت المجال للحاقدين على الحكم الإسلامي وللانتهازيين الذين لا تهمهم مصالح ومصير أمة، وأوقعت السلاطين الضعاف في أحضان المتغلبين الذين لعبوا بهم وفق أهوائهم وأغراضهم الضيقة على حساب مصلحة الدولة واستقرارها وثباتها، وكذلك مهدت هذه الأحداث المؤسفة الطريق أمام القادم الجديد الغريب في تاريخ الهند الإسلامي ليملأ ذلك الفراغ وليتحكم في مصير الهنود ، وليحول دون عودة الحكم الإسلامي في الهند بعد أن استمر قروناً متمادية يتداول بين الأسر الحاكمة المسلمة ) .(18/5)
- أهم عامل للضياع : ( يبقى عامل العوامل في كل ما حدث من وضع مآساوي للمسلمين في الهند هو أخطاء حكامهم التي تأتي في مقدمتها عدم قيامهم خير قيام بأداء واجبهم تجاه نشر وترسيخ العقيدة الإسلامية الصافية المستمدة من الكتاب والسنة، ونتيجة النتائج لذلك التهاون والتقاعس - الذي يتحمل قسطاً من مسئوليته العلماء - هي أن المسلمين بقوا أقلية رغم حكمهم الطويل في شبه القارة الهندية، وحتى هذه الأقلية لم تهيأ لها فرصة توعيتها بالإسلام الصافي من البدع ، وما يطلب من المسلم القيام به تجاه ربه ونفسه وأمته وبني نوعه ومستقبل بلده، والاهتمام بالتربية والتعليم والبحث والتحقيق ، والأخذ بوسائل التقدم العلمي الحضاري التي لا تتوقف عند حد معين بل تتقدم وتتطور مع تقدم الزمن وتوالي الأجيال، وإن نتيجة النتائج هذه كانت العامل الحاسم فيما آلت إليه أوضاع المسلمين في شبه القارة الهندية من استضعاف ومأساة ، ونجاح التحالف الصليبي الهندوكي من إقصاء المسلمين عن السيادة والريادة في شبه القارة الهندية الموحد ) .
فهرس الموضوعات
1- المقدمة .
2- صدى سياسة التسامح في دولة المغول الإسلامية في الهند.
الفصل الأول
تأسيس شركات الهند
- شركة الهند الشرقية الإنجليزية.
- شركة الهند الشرقية الهولندية.
- شركة الهند الشرقية الفرنسية.
الفصل الثاني
صراع الشركات الاستعمارية في الهند المغولية الإسلامية
- موقف السلطان جهانكير من القوى الأوربية الاستعمارية.
- تصاعد النفوذ الإنجليزي في عصر أورنكزيب.
- حروب الوراثة النمساوية في أوربا وحرب السنين السبع:
اشتداد الصراع بين الشركة الفرنسية والشركة الإنجليزية.
الفصل الثالث
وضع ثنائي في الهند
- معاهدة إله آباد بين شركة الهند الشرقية الإنجليزية والسلطان شاه عالم الثاني.
- وارن هستنجز وتنظيمات الشركة .
- الشركة دولة داخل دولة المغول الإسلامية في الهند.(18/6)
- استيلاء الشركة على دهلي وتقدمها في أكثر أنحاء الهند.
- اتساع ممتلكات الشركة، كلكته عاصمة.
الفصل الرابع
وسائل شركة الهند الشرقية الإنجليزية
لإحكام سيطرتها على جميع الهند
- سياسة الإلحاق.
- قانون الثغور .
- عصر السكك الحديدية.
- التنصير .
- اللغة الإنجليزية وتطبيق القوانين الإنجليزية.
الفصل الخامس
الثورة الهندية (1273هـ / 1857م)
- رد الفعل لسيطرة شركة الهند الشرقية الإنجليزية على كل الهند.
- إخماد الثورة، سقوط دولة المغول الإسلامية في الهند.
- إنهاء حكم الشركة:
- الهند الإمبراطورية، طريق الإمبراطورية.
الخاتمة
- التحليل والنتائج.
- سلاطين دولة المغول الإسلامية في الهند خلال فترة البحث.
- الحكام العامون لشركة الهند الشرقية الإنجليزية خلال فترة البحث.(18/7)
عالم شيعي يعود إلى السنة ويؤلف رسالة في نقض مذهب الرافضة
هو الميرزا مخدوم ابن السيد الشريف معين الدين أشرف الشريفي الحسني ، عُيّنَ والده أميراً في حكومة السلطان الصفوي ( طهماسب ) ، ثم وزيراً له، وكان الميرزا مخدوم في نشأته الأولى قد امتهن مهنة الخطابة، ومارسها في عدة مدن في إيران.
وتذكر المصادر الشيعية أن أسرته من الأسر العريقة بالتشيع، نبغ منهم عدد من العلماء والفلاسفة، وعلى رأسهم جدهم المير سيد شريف الجرجاني ( ت:816هـ/1413م) .
وكان الميرزا مخدوم طوال فترة حكم الشاه طهماسب يمارس الخطابة والوعظ في أحد المساجد بالعاصمة قزوين، مقر السلطنة الصفوية. وبعد تولي الشاه إسماعيل الثاني السلطة قرَّب الميرزا مخدوم إليه، ونصّبه للصدارة . ( ويُقال بأنه أحد من أثر في إسماعيل بالتخفيف من حدة الرفض في الدولة الصفوية ) .
تقلبت به الأحوال إلى أن سُجن ، ثم تمكن بعد إطلاق سراحه من الهرب إلى الحدود التركية، والالتحاق بركاب الدولة العثمانية، حيث نال الحضوة فيها، وعُيّن في مناصب رسمية عديدة في قضاء بغداد والتدريس في المدرسة المرجانية، وتولى منصب القضاء في ديار بكر، وآمد، وتدريس المدرسة الخسروية، ثم أمضى بقية حياته في مكة بعدما تولى القضاء فيها حتى وفاته سنة 995هـ/1587م .
- بعد استقرار الميرزا مخدوم في السلطنة العثمانية ألّف سنة 987هـ/1579م كتابه "النواقض لبنيان الروافض" الذي تضمن نقداً للفكر الشيعي وللسلطة السياسية المتمثلة بالصفويين، ومَنْ والاهم من العلماء، وقد نقل الكثير من القصص والمرويات سواءً المتعلقة بالبيت الحاكم، أم بالفقهاء أصحاب النفوذ .(19/1)
قال في مقدمته : " يقول العبد الداعي للسلطنة القائمة، الفقير إلى الله الغني الوفي المغتني ابن السيد الشريف معين الدين أشرف المشتهر بميرزا مخدوم الشريفي الحسني الحُسيني: إن كثيراً من أهل العجم بل من سائر البلاد قد ضلوا ضلالاً بعيداً، وانحرفوا عن قبلة الاستقامة غاية الانحراف، فأحدثوا في الدين المحدثات الشيطانية لينالوا بها علواً في الأرض وفساداً، فملئت قلوبهم القاسية نفاقاً وعناداً، استحوذ عليهم الشيطان فعقر قوائمهم، وقص قوازمهم، حتى انجر الأمر إلى أن صار شتم أزواج النبي عليهم السلام، وأغلب المهاجرين والأنصار شعارهم، بل كان على ذلك سراً وعلانية مدارهم ، فظنوا أن هذا أتم العبادات، وأفضل الطاعات، ومن يجتنب عن ذلك كفَّروه، وحرَّقوه، ومن لم يكن مصراً عليه زجروه وغرروه، غيروا دين الإسلام حتى صار بالإلحاد أقرب، وقلبوا قواعد الملة الحنيفية حتى صارت من الزندقة أقرب.
ولما رأيت هذا عزمت على تأليف رسالة مشتملة لما يمثل الطباع المستقيمة إلى مذهب السنة والجماعة، وتنفرها عن طريق الرفض والبدعة، وتحفظ أهل الهداية عن الغواية .. " .
وقال : "إن هذه الهفوات المذكورات كاشفة لفضائحهم ولا سبيل لهم إلى جحودها وإنكارها. فإنهم لم (يخنقهم) أحد قبل هذا بمثل ما أقدرني الله تعالى عليه بحوله وقوته الغالبة. فإنه لم يطلع أحد على تفاصيل كتبهم، وأقوالهم، وشرح عاداتهم، وأعمالهم كما اطلعت عليه".
قسَّم الميرزا مخدوم كتابه "النواقض لبنيان الروافض" إلى مقدمة، وفصول أربعة، وخاتمة.
المقدمة: في تحقيق الإيمان والإسلام.
الفصل الأول: في الآيات والأحاديث الواردة في فضل الأصحاب، وفضل بعض أصنافهم على الباقين عموماً، وأهل البيت منهم لأنهم من أجلة الأصحاب، " جامعون بين شرفي القرابة والصحبة " .
الفصل الثاني: في الآيات الواردة والروايات الواقعية في فضيلة المخصوصين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين .(19/2)
الفصل الثالث: في الدلالات الدالة على حقيّة خلافة الخلفاء الراشدين، وصحة طريق السنة والجماعة.
الفصل الرابع: في الأدلة الدالة على حقيّة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين والرد على الرافضة الرادين لذلك، المخربين للإسلام، وقد ذكر (15) دليلاً.
أما خاتمة كتابه فهي تتضمن قسمين:
القسم الأول: في بيان ذم اللعن، وأمثاله.
القسم الثاني: في بيان أقوال الفقهاء من أهل السنة والجماعة في لعن الصحابة، خصوصاً المهاجرين والأنصار ولا سيما الخلفاء الراشدين، ونقل عن فاطمة الزهراء أنها قالت إن أباها النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه : سيجيء من بعدي قوم يدعون الرافضة، فأينما أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون، وعلامة ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر، ومن الأدلة نُنتج الحكم بكفرهم بعد التدبر.
يقول الدكتور الشيعي جودت القزويني عن كتابات الميرزا مخدوم : " لم يتصد فيها لضرب الأسس السياسية التي تقوم عليها الدولة الصفوية، بل تعدى إلى نقض القواعد التي يستند عليها المجتهدون الإماميون في صياغة طريقة التفكير الشيعي العقائدية " . ( تاريخ المؤسسة الدينية الشيعية ، ص 390-409 ، والنقولات السابقة منه ) .
تنبيه : رسالته " النواقض .. " لا زالت مخطوطة نادرة ، ويقوم أحد الإخوة الفضلاء بتحقيقها ، ولله الحمد . رحم الله الميرزا مخدوم ، وهدى علماء الشيعة للحق ، ودعوة أتباعهم إليه . والله الموفق ..(19/3)
إلى ( محمد آل الشيخ ) : خطاب للملك عبدالعزيز .. يهمك
في رد الأستاذ محمد آل الشيخ - هداه الله - على الأخ الدكتور حمزة الطيار ذكّره بموقف للملك عبدالعزيز - رحمه الله - تصدى فيه لمن يستغل خطبة الجمعة في التشهير بالناس أو الدولة ، ودله على الطريقة الشرعية ، وقد أصاب بهذا التذكير ، ولا أظن الأخ حمزة يُخالفه . ( ووقفاته معك وفقه الله تدل على هذا لو تأملتها ) .
ولكني أحببت تذكير محمد آل الشيخ - وهو الذي ما فتئ في مقالاته سواء في الصحف أو في الشبكة " الليبرالية " ! يُنازع علماء هذه البلاد بالأقوال الشاذة ، ويُسفه أقوالهم - بخطاب صارم للملك عبدالعزيز- رحمه الله - فيه علاجٌ ناجعٌ تحتاجه بلادنا هذه الأيام .
وأنقل ذلك من مقال سابق جاء فيه :
" في بداية توحيد المملكة نمى إلى علم العلماء أن البعض بدأ بالتشغيب والتعدي ؛ بنشر الآراء الشاذة التي تبلبل أذهان العوام ، وتصرفهم عما ينفعهم ، وتوقعهم في التنازع والاختلاف . عندها قرر العلماء رحمهم الله رفع هذا الأمر الخطير للملك عبدالعزيز رحمه الله ، الذي أصدر لأجله خطابًا حازمًا صارمًا لإيقاف دعاة الفتنة عند حدهم .
يقول العلماء : حسن بن حسين ، وسعد بن عتيق ، وسليمان بن سحمان ، وصالح بن عبدالعزيز ، وعبدالرحمن بن عبداللطيف ، وعمر بن عبداللطيف ، وعبدالله بن حسن ، ومحمد بن إبراهيم بن عبداللطيف ، وكافة آل الشيخ في خطابهم :
( ... ولاينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ رحمة الله عليهم ، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين ؛ فإنه الصراط المستقيم ، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم . وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى ، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه ، واستمرت عليه الفتوى منهم . فمن خالف في شيئ من ذلك ، واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلومًا عندهم ، ومفتىً به عندهم ، ومستقرة به الفتوى بينهم ، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله .(20/1)
ونحن نعلم : أن المسائل العلمية ، والأحكام التي يُحكم بها الناس ، والفتاوى التي يُفتَون بها لا تخلو من الخلاف ، وهذا أمر يعرفه من له أدنى معرفة ، لكن الاختلاف بين الناس خصوصًا في جهة نجد لابد أن يكون سبب شر وفساد وفتنة . وسد باب الشر والفتن والفساد أمر مطلوب في الشريعة ؛ بل هو أعظم مقاصدها ، كما لا يخفى ) . ( الدرر السنية : 14 / 375 – 376 ) .
أما الملك عبدالعزيز رحمه الله فقال في خطابه :
" من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل، إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين، وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد ذلك: هذا كتاب إخوانكم المشايخ، تشرفون عليه، والعمل –إن شاء الله- على ما فيه، ثم بعد ذلك مهوب خافيكم أول منشأ هذا الأمر وتقويمه، أنه من الله ثم أسباب الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مراراً.
وكلما اختلف الأمر، وشارف الناس لنقض دين الله، وإطفاء نوره، أبى الله وأخرج من هالحمولتين من يقوم بذلك، حتى إن آخرهم والدنا، وشيخنا الشيخ: عبدالله بن عبداللطيف ، نرجو الله أن يجبرنا في مصيبتنا فيه، بعز الإسلام والمسلمين، وأن الله سبحانه يظهر في عقبهم من يقوم مقامهم، وأن الله سبحانه يعيضه بنا رضوانه والجنة.
ولهوب خافي أحداً مقامه في آخر هذا الزمان، والتزامه في أمر هذا الفصل، الذي لا حياة إلا به، وصار نوراً وقوة لكل عارف، عاقل في أمر دينه ودنياه، وردع أهل البدع والضلال، ولا نقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا خيراً، واخلفنا خيراً منها.(20/2)
ثم بعد ذلك تفهمون: أن أسباب الشر كثيرة، ولا بد أن يحصل من الناس بعض شوفات: أحدٍ يدوّر المخالفة، وأحدٍ يدوّر التروّس، وأحدٍ جاهل يريد الحق، ولكن خفي عليه سبيل الحق، فاتبع هواه ، وهذا أمر كله مخالف للشرع. والحمدلله: ما حنا في شك من أمر ديننا.
وتفهمون : أنه من حين أظهر الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في قرن أطيب من وقتنا، ورجال أطيب من رجالنا، وعلماء أطيب من علمائنا، فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة، وجدد الله أمر هذا الأصل، وأنقذ الله بأسبابه الناس من الظلمات إلى النور.
فبان أمره لأولي الأبصار، وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند من أزاغ الله قلبه، وأعمى بصيرته . وقبل هذا الحق ورضيه آباؤنا، وأجدادنا، وعلماء المسلمين، فيما أتى به من الأصل والفرع، ويتعين علينا –إن شاء الله- أن نقتدي بما اقتدوا به.
ولهوب خافيكم: حال هذا الزمان، وكثرة الطالب والسائل، وقلة البصيرة والفهم. وأيضاً مهوب خافيكم: اختلاف العلماء في أمور الفروع؛ فلابد أن كل إنسان يدّعي المعرفة على جهل: إما أحدٍ يسمع حديثاً، أو قولاً من أقوال العلماء، لا يعرف حقيقته، فيفتي به، أو يكون أحدٍ له مقصد، يدوّر الأقوال المخالفة ؛ مقصوده الخلاف، إما مخالفة أحدٍ من علماء المسلمين، أو يبي يقال: هذا فلان! يدوّر بذلك رياسة، أو شيئاً من أمور الدنيا، نعوذ بالله من ذلك.
فالآن يكون الأمر على ما ذكر المشايخ أعلاه، فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأولاده: عبدالله، وعبدالرحمن، وعبداللطيف، وعبدالله بن عبداللطيف، فهو متعرض للخطر ؛ لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلا إنسان مراوز للشر والفتنة بين المسلمين.(20/3)
فأنتم –إن شاء الله- يا جميع علماء المسلمين التزموا بهذا الأمر، وقوموا على من خالفه، ومن سمعتم منه مخالفة في قليل أو كثير، ما قدرتم عليه نفذوه، وما لم تقدروا عليه ارفعوه إلينا، إلا إن كان هنا إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب، أو من السنة، فلا يتكلم حتى يعرض أمره على علماء المسلمين، وتعرف حقيقته، فأما المتعرض بغير ذلك، أو قبل تبيين الأمر، فذمتنا وذمة المسلمين بريئة منه، ويكون عنده معلوماً أنه على خطر منا.
ثم أوصيكم، يا علماء المسلمين: بالقيام لله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس ؛ خصوصاً هذا الأصل، وأن تجتهدوا وتديموا الجلوس والمباشرة لإخوانكم المسلمين . ومن كان تعلمون منه سداداً، ومنشبته دنيا أو تكاسل، ترفعون أمره إلينا، حتى نلزمه بطلب العلم .
والأمر من ذمتي في ذمتكم، لا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بتعليم الأصل، ولا بردع الجهل والقيام على صاحبه، فلا أنتم بحل مني إذا ما اجتهدتم وقمتم بهذا الأمر، كما أنه الواجب عليكم.
وتفهمون أني إن شاء الله: خادم للشرع، لا بنفسي ولا بما تحت يدي، فافطنوا لموقف بيوقفني الله أنا وأنتم، والعالمين؛ وهذا أمر برئت منه ذمتي وتعلق بذمتكم، نرجو الله أن يعيننا وإياكم على القيام بما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن الله سبحانه ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصاره.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. سنة 1339هـ
[ المصدر : " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " ( 14 / 377-380) ، و كتاب " لسراة الليل هتف الصباح " للأستاذ عبدالعزيز التويجري ( ص 520 – 523) وقد نشر صورة الخطاب ] .
أسأل الله أن يوفق الأستاذ محمد للحق ، وأن يجعل قلمه ونشاطه في الخير ، ويباعد بينه وبين الشر وأهله .
مقال آل الشيخ
مقالي السابق كاملا(20/4)
قصة رجوع عالم تونس ( محمد المكي بن عزوز ) ... من القبورية إلى السلفية
كان الشيخ التونسي ( محمد المكي بن عزوز ) في بداية شبابه - أيام عيشه بتونس زمن الدولة العثمانية ، من دعاة القبورية المناوئين لدعوة الكتاب والسنة , وقد ألف - حينها - عدة كتب ، منها كتابه " السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني " يرد فيه على من أنكر كرامات الشيخ الشهير عبدالقادر الجيلاني وما نُسب إليه من خرافات . وقد تهجم فيه على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - لجهله بها - ، وجوّز الاستغاثة بالأموات . ( ص 35 ) . ثم حرص على توزيع كتابه هذا في أنحاء بلاد المسلمين ، فوقعت نسخة منه بيد علامة العراق الشيخ السلفي محمود شكري الألوسي - رحمه الله - ، الذي بادر بعد قراءته للكتاب إلى مناصحة صاحبه بإرسال خطاب وعظي رفيق ، دون أن يكتب اسمه عليه ، مرفقٌ به أحد كتب علماء الدعوة السلفية . ولعل هذه الهدية قد صادفت قلبًا متجردًا من ابن عزوز قادته - بإذن الله - إلى الحق ، حيث تغيرت أحواله بعد انتقاله من تونس إلى الأستانة بتركيا .
يقول علامة الشام جمال القاسمي في رسالته إلى الألوسي - ولم يدرِ برسالة الألوسي السابقة لابن عزوز - : " إن حضرة العالم النحرير، سليل العلماء الأفاضل السيد محمد المكي بن عزوز التونسي نزيل الأستانة كان من أشداء المتعصبين للجهميين والقبوريين، ثم بصّره الله تعالى الحق فاعتنقه، وأصبح يدافع عنه.(21/1)
وهذا الفاضل لشهرة بيته ونباهة أمره يُعدُّ بألوف، وقد هاجر من نحو اثني عشر عاماً من تونس إلى الأستانة، وكان رد على الصيادي في تأليف سماه: "السيف الرباني في الرد على القرماني" .. ثم إن الأستاذ الكبير صفينا البيطار لما زار الأستانة هذا العام مع الوفد الدمشقي زار السيد وجرَّ البحث إلى مسائل سلفية، ثم إن الأستاذ كاتبه من شهر فأجابه الآن بجواب نقلت محل الشاهد منه، وأشرت إلى طالب عندنا فنقل صورة ما نقلته وترونه طي هذا الكتاب. وإذا كان لمولانا أيده الله أصدقاء في الأستانة يكاتبهم فلا بأس بمكاتبة السيد المنوَّه به، وإني في هذا البريد سأكتب له بما أرسلت لفضيلتكم من كلامه، وأُعرفه بسامي مقامكم، عساه يزداد بصيرة ونوراً، فالحمد لله على توفيق هذا السيد وهدايته لما هُدي له " .
وقد أورد القاسمي نص رسالة ابن عزوز للبيطار ، وهي :
" كتبتُ إلى حبيب لي في المدينة المنورة ما نصه: سؤال خصوصي: أخبرني بإنصاف، واعلم أنك مسؤول في عرصات القيامة عن ذلك، أخبرني عن الوهابية الذين ترون: معاملاتهم، وحالتهم مع السنة، والحضرة النبوية، فأنا إلى الآن ما اجتمعت بوهابي، وقد تناقضت عندي المسموعات بالأذن والمرئيات في الكتب بالأعين؟ وبيان التناقض نقرِّره لك يا حبيب لتعرف كيف تجيبني، فإن المقام خطير: بعض الناس يقولون: الوهابية يحقرون المقام النبوي، ولا يرون فرقاً بينه وبين بقعة خالية في الأرض، ويقولون لمن شرب الدخان أشركت بالله، وهذا لا معنى له، ويضللون من أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنارة، ويكفرون من زار قبراً ودعا الله عنده ويستحلون دمه.(21/2)
وهؤلاء القادحون فيهم يقولون على سبيل القدح: هم تابعون ابن تيمية أحمد تقي الدين، فهنا جاء التناقض، فإن ابن تيمية إمام في السنة كبير، وطود عظيم من أطواد العرفان، حافظ للسنة النبوية، ومذهب السلف، يذب عن الدين، ويقمع المارقين ؛ كالمعتزلة والقدرية، والرافضة والجهمية، ما فارق سبيل الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة قيد أنملة، وإن كان حنبلياً في الفروع، فهو في أصول الدين جامع لمذاهب الأربعة الأئمة، والأربعة الخلفاء الراشدين ومن سلك سبيلهم.
فإن كان الوهابية حقيقة على منهج ابن تيمية وابن القيم ونحوهما من فقهاء الحنابلة السنية فهم أسعد الناس بالشريعة؛ لأن ابن تيمية وأصحابه لم يُسيء القول فيهم إلا القاصرون عن درجاتهم، علماً وتحقيقاً، والراسخون في العلم شهدوا بعلو مكانتهم. وإن كان الوهابية مُتَّصفين بالصفات الذميمة المشار إليها أولاً، فأول خصم لهم ابن تيمية ونظراؤه من أئمة الحنابلة، فليسوا بتابعيهم. وبعض الناس يقولون: الوهابية هم القائمون بالسنة، المتجنبون للبدع، المتبعون للحديث الشريف، وعلى مذهب أحمد بن حنبل وطريقة السلف في الاعتقاد. وقد كنت طالعت الرسائل المؤلفة من محمد بن عبدالوهاب وأصحابه، ورأيت ما كتبه الجبرتي في "تاريخه" من عقائدهم وسيرتهم، فما هي إلا طريق السنة ليس فيها ما يُنكر. ورأيت رسائل القادحين فيهم ينسبون لهم الدواهي والعظائم، والوهابية ينفون ذلك عن أنفسهم، لا يحتجون لحسن تلك القبائح. تنبه للفرق بين قول المتنصل مما نُسب إليه وقول محسِّن ما نُسبَ إليه: فالأول منسلخ من اعتقاد ذلك وفعله، معترفٌ بقبحه، مكذب لمن وصفه به. والثاني معترف باتصافه. تأمل هذه النقطة، وفي الحقيقة: ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسئلون عما كانوا يعملون ) .(21/3)
فأنا أسألك عن الوهابية الحاضرين في عصرنا، فإن رجلاً أخبرني أنهم يكونون مقيمين في المدينة، ويأتون إلى المسجد ولا يقفون على القبر الشريف يسلمون عليه وعلى الصاحبين ونحو ذلك، فإن صح هذا فما أشبه هذا الجفاء بالعداوة لصاحب القبر الشريف. فأريد منك أن تجتمع بفلان وفلان في محل لا رابع لكم إلا الله، فإن زدتم آخر تعرفونه مثلكم فيما ألاحظه منكم، فذلك عُهدته عليكم، وتقرأون كتابي هذا بتأمل، وتجيبونني بما تحصَّل لكم، ذاكرين قوله تعالى: ( وإذا قلتم فاعدوا ( . واعملوا أن من البلايا المتسلطة على الدين وإيمان المسلمين أنه صار الذي يصدع بالحديث النبوي الصحيح مقدماً له على عصارة المتفقهين يقال له: أنت وهابي. وأحكي لكم لطيفة: كنت سألت بعض متفقهة مكة الحنفية عن رجل أعرفه من أكبر الفضلاء قلت له: كيف حال فلان؟ فقال لي: ذلك وهابي. فقلت له: كيف وهابي؟ قال: يتبع البخاري !! فلما حكيتها للسيد عبدالرحمن الجزولي عليه الرحمة والرضوان –وأنا نزيل عنده إذ ذاك- ضحك وقال: هل البخاري شيخ الوهابية؟ وقد سمعت كثيراً من الناس يقولون: من يتبع الحديث فهو وهابي، ومن يعتقد عقيدة السلف فهو وهابي، فقلت لهم: أنا لا أعرف الوهابية، وكلامكم يدل على أنهم سنيون صرفاً؛ فقد مدحتموهم مدحاً كبيراً من حيث قدحتم فيهم، نتمنى أن يكون مقلدة المذاهب كلهم هكذا إن كنتم صادقين فيما تقولون، لكن الجاهل يهرف بما لا يعرف، ولذلك يقال له ( سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) ، وقال تعالى: ( وأعرض عن الجاهلين ( . وليكن جوابكم بما شاهدتموه لا بما ينقله المغفلون والأعداء المتعصبون، هدانا الله وإياكم للقول السديد ..(21/4)
وما أشرتم إليه في مكتوبكم من السير على منهاج الكتاب والسنة وعقيدة السلف، فأنفث نفثة مصدور مغتم القلب بما يرى ويسمع من قلب حقائق الأمور. أنتم منَّ الله عليكم بجلساء موافقين لمشربكم في التماس الحقائق، والتزام أقوم الطرائق، ذوق وإنصاف، واتصاف بأجمل الأوصاف، كرفقائكم الذين شرَّفوا منزلنا وأكرمونا بتلك الأخلاق الكريمة، وكالأستاذ الجمال القاسمي وغيرهم ممن لم نحظ برؤيتهم فبلِّغوهم سلامي، وخلوص غرامي، وأما الحقير هنا -أي في الأستانة- فكما قال القائل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلَّهم *** الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها *** على كثير ولكن لا أرى أحداً
فلا أجد من أطارحه مسائل العلم الصحيح؛ لأن الناس بالنظر إلى هذا المقام على قسمين:
جاهل لم يزاول العلم أصلاً، فهو لا يفقه ما نقول، وحسبه إن سأل أن أجيبه بزبدة الحكم، وهو أحب إليَّ ممن عرف بعض العلم إن لم يفتنه فاتن؛ لأنه وإن لم أستفد منه مذاكرة تُفكِّه عقلي، وتنقح نقلي، فقد أفادني من الله أجراً، وقد يكون لغيره سلسبيل تلك الإفادة أجرى.
والقسم الثاني: طالب علم زاول العلم فشمَّ رائحته، وجمد على ما عهد من شيخ مثله، فهذا أحسن أخلاقه أن لا يسمع لقولك ولا يتحدث بما يؤذي، وإنما قلت أحسن، لأن غيره من أهل العناد الحمقى يضللون من خالف ما اعتادوه.
سئلت مرة في مجلس: هل تجوز الاستغاثة بأولياء الله؟ فقلت: لا يستغاث إلا بالله. وفي المجلس شيخ كبير ممن يعاني تدريس العلم عارضني بأنه يجوز، فقلت له: ما دليلك؟ فقام مغضباً قائلاً وهو ذاهب: دليلي قول اللقاني:
وأثبتن للأوليا الكرامه *** ومن نفاها فانبذن كلامه
فانظروا الدليل وتنزيله على الاعتراض، هؤلاء لا يفرقون بين معنى الاستغاثة، ومعنى الكرامة ، وهو من الضروريات.(21/5)
ومما أتعجب منه وأتأسف، ما رأيته في نتائج مخالطاتي لأهل العلم ومناظراتي ومذاكراتي: أني أجد الشبان والطلبة الصغار أقرب قبولاً للحق، وذوقاً للصواب، وسروراً بالدليل من الشيوخ، وأكثر الشيوخ جامدون على ما ألفوه، ومن أحبارهم ورهبانهم عرفوه، ولا أدري: هل ذلك لطول قعودهم في أرض التقليد صاروا كمن دُقت له أوتاد والتحمت تلك الأوتاد بالأرض، فلا يستطيعون النهوض منها؟ أم لأن غالب الشيوخ أكبر مني سناً؟ فهم يأنفون من أن يستفيدوا ممن هو أصغر منهم؟ أم كيف الحال؟
وعلى كل حال أتذكر عند ذلك قول الشاعر:
إن الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت * ولن تلين إذا كانت من الخشب
وإني أحمد الله تعالى على أن أنقذني من أسر التقليد، وصرت إذا رأيت تعنتهم واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله أتلو قوله تعالى مذكراً لنفسي آلاء الله: (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) ، لأني كنت أرى قول فقيه: المعتمد كذا، أو استظهر شيخنا كذا، كأنه بين دفَّتي المصحف، والله بل آكد "أستغفر الله"؛ لأني أقول: الآية لا أفهمها مثله، ونظن كل كلمة قالها مالكي فهي من مقولات مالك أو حنفي فأبو حنيفة أو شافعي...إلخ والخروج عن الأربعة كالكفر ولو أيده ألف حديث.
والحمدلله الذي عافانا مع بقاء احترامهم ومحبتهم في قلوبنا.(21/6)
وأخبركم أني لما بدأت في الاستضاءة بنور الحديث ووزن خلافات الأئمة والفقهاء بالأدلة، وصرت أصلي بالقبض والرفع...إلخ، وذلك سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف، ألقي لي في المنام قوله تعالى: ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، وقمت بها من المنام على لساني. ولا تنسونا من الدعاء، ودمتم بخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في ذي الحجة سنة 1327 حافظ ودكم . محمد المكي بن عزوز التونسي " . انتهت رسالة ابن عزوز للبيطار . ( نقلتها من كتاب : الرسائل المتبادلة بين القاسمي والألوسي ، للأستاذ محمد العجمي ، ص 101-110 ) .(21/7)
فأجاب الألوسي على رسالة القاسمي السابقة بقوله : " سرّني ما كان من المراسلة بين السيد محمد المكي وبين السلفيين في دمشق. وهذا الرجل أعرفه منذ عدة سنين ؛ فإن كتابه "السيف الرباني" لما طُبع في حضرة تونس أرسل منه لنقيب بغداد عدداً كثيراً من نسخه، فأعطاني النقيب يومئذ نسخة منه، فطالعتها فرأيت الرجل من الأفاضل، غير أنه لم يقف على الحقائق، فلذلك استحكمت الخرافات في ذهنه فتكلم على السلفيين، وصحح بعض الأكاذيب التي يتعلق بها مبتدعة الصوفية ، وغير ذلك من تجويز الاستغاثة، والتوسل بغير الله، وإثبات التصرف لمن يعتقد فيهم الولاية، والاستدلال بهذيان ابن دحلان ونحوه... كما ترى بعضاً من ذلك في الورقة المنقولة عن كتابه. فأرسلت له كتاب "منهاج التأسيس" مع التتمة المسماة "بفتح الرحمن"، وذلك سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، وكان إذ ذاك في تونس لم يهاجر بعد، ولم أعلمه بالمرسل، ويخطر لي أني كتبت له كتاباً أيضاً التمست منه أن يطالع الكتاب كله مع التمسك بالإنصاف، ولم أذكر أسمي ولا ختمته بختمي، وأرسلت كل ذلك إليه مع البريد الإنكليزي. وبعد ذلك بمدة هاجر إلى القسطنطينية، وكان يجتمع كثيراً مع ابن العم علي أفندي ويسأله عن كتب الشيخين ويتشوق إليها.
وقد اجتمع به ابن العم في هذا السفر الأخير وأخبرني عنه أنه الآن تمذهب بمذهب السلف قولاً وفعلاً وأصبح يجادل أعداءه، ويخاصم عنه . ولم يزل يتحفني بسلامه، ويتفضل علي بالتفاته ". ( المرجع السابق ، ص 113-115 ) .(21/8)
قلت : وقد أرسل ابن عزوز بعد هدايته للسلفية رسالة إلى الشيخ الكويتي عبدالعزيز الرشيد صاحب مجلة "الكويت" قال فيها : " دخل علي السرور ما الله به عليم في التعرف بكم وظفري بصاحب مثلكم، وذلك أن قلبي موجع من غربة العلم والدين وأهله وقلة أنصاره. وإيضاح هذا: أني لست أعني بالدين الدين الذي قنع به أكثر طلبة العصر والمنتسبين إلى العلم في الشرق والغرب من كل مذهب من مذاهب أهل السنة.
سارت مشرِّقة وسرت مغرباً * شتان بين مُشرِّق ومغرِّب
ولكني أعني بالعلم والدين علم السنة، وما الدين إلا اتباعها وإيثارها على عصارات الآراء وهجومة المتفقهة، وما التوحيد إلا توحيد السلف الصالح، وأما غيره فأشبه بالضلالات وزلقات الهفوات... إننا نجد فقيهاً تقياً محباً للسنة ومبغضاً للبدعة، متعففاً من تناول الحرام، واقفاً موقف النصح والإرشاد للخلق، حسن النية، لكنه جاهل بعبادات النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه في شؤونه كلها.(21/9)
وقد يكون عارفاً بها أو ببعضها، ويترك المتابعة النبوية عمداً، لأنها خالفت قول فقهائه، ولو تخبره بإصلاح عبادة أو تحرير حكم شرعي بنص نبوي ينفر منك نفرته من العدو، ورآك مخادعاً ، ولربما اتخذك عدواً مبيناً بعد المحبة والصحبة ويحكم بضلالك ، كل ذلك لغلوه في التقليد، ولا يخفى أن أولئك لا يقال لهم علماء إلا مجازاً خلاف في ذلك كما قاله ابن عبدالبر وغيره، وتجد آخر متفنناً بعدة علوم، وربما يكون مطلعاً على دواوين الحديث نبيهاً، له همة تنبو به عن التقليد، يبالغ في تتبع الأدلة، فينقلب عن الدين وغيرته في اعتقاد تأثير الطبيعة، حتى ينكر معجزات الأنبياء، وينكر كونها خارقة للعادة ونحو ذلك من القول بنفي حشر الأجساد في الآخرة ونفي تناسل البشر من آدم وحواء. الخ. وإياها أعني في عدة مباحث من (العقيدة الإسلامية) التي رأيتموها بجدة، وبعض هؤلاء أيضاً لهم حسن نية في تعديهم الحدود، فهذان الفريقان اللذان هما على طرفي نقيض، أحدهما مُفرط، والآخر مُفَرط، كلاهما يعدهما المغفلون من علماء الدين، ولكل منهما أتباع وأنصار. (انعق بما شئت تجد اتباعاً) .(21/10)
والقسم الثالث: وهم الأوسطون الذين تفقهوا بفقه الأئمة رضوان الله عليهم، واعتنوا بالحديث الشريف مع تفنن في الأصول والعلوم العربية، ودققوا مسائلهم الدينية، فما كان من الفقه سالماً من مصادمة سنة بقوا عليه، وما صادمها نبذوه وعذروا قائله بعدم بلوغ الخبر له، هذا فيما يتعلق بالعلم العملي، وأما الاعتقادي فهو معذور في الابتداء في كتب المتكلمين، ثم يترقى بطريقة السلف ، ولا تؤخذ حقيقتهما إلا من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبه الذي هو نسخة صحيحة لا تحريف فيها الشمس ابن القيم، فيعتقد ما هناك بأدلة متينة وإيمان راسخ، فيصبح من الفرقة الناجية التي عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم على ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا القسم الثالث الذي هو على الصراط المستقيم، المدعو بالهداية إليه في الفاتحة بكل ركعة، قليل في الوجود مع الأسف، قال الله تعالى: ( وقليل من عبادي الشكور) فأنا أنظر شرقاً وغرباً فأرى كما قيل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم * الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها * على كثير ولكن لا أرى أحداً
وربما أجد في مليون من الخلق واحداً، فأنا أشد فرحاً من ولادة ولد ذكر لابن الستين الفاقد البنين، ولهذا سررت بكم بعدما تتبعت كتابكم الذي أهديتموه لي، لأني طالما انخدعت للمدعين بطريقة السلف اعتقاداً وتحري السنة تفقهاً، فأجد من آثارهم عند إمعان النظر، أنهم ليسوا الذين أريد، ولذلك وقفت النظر في كتابكم، وأنا معذور، إذ لم يسبق بيننا تعارف ولا مذاكرة، فوجدتكم والحمدلله من الضالة التي أنشدها، وأيده كتابكم الخصوصي الذي أرسلتموه لي، فجزى الله علامة العراق خيراً السيد شكري، حيث دلكم على إجراء وسيلة التعارف بيننا، وكذلك صديقنا الكامل السني السيد محمد نصيف في اطلاعكم على رسالتنا التوحيدية، وهذا كله يظهر مصداق الحديث الشريف (الأرواح جنود مجندة) الخ..(21/11)
(ومنها بعد كلام طويل وسطور كثيرة) .. أحبابنا غرّوكم بالعاجز، فكما أنه لا يقبل قدح العدو في عدوه، فكذلك لا يقبل إطراء الحب لحبيبه، والذي نفسي بيده إني لخال مما تظن ويظنون فلا علم ولا عمل ولا صلاح ولا إخلاص، ووالله ما هو من هضم الأفاضل أنفسهم تواضعاً بل الإنسان على نفسه بصيرة، وأحمق الناس من ترك يقين نفسه لظن الناس، وأنا أحكي لكم مقدار بضاعتي تحقيقاً كأنكم ترونني رأي العين، والله على ما نقول وكيل. أما الأصل والنسب فلا نتعرض له كما قيل:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا * ليس الفتى من يقول كان أبي(21/12)
فأنا قد ربيتُ في معهد العلم من صغري، وقد وسّع الله علينا من رزقه، ما سهل به القراءة زمان التعلم والإقراء على شيوخ عديدة على اختلاف مشاربهم وتفاوت درجاتهم تفنناً وأخلاقاً، وارتحلت إلى بلدان عديدة، فجمعت بعض ما كان متفرقاً من العلوم والحمد لله، ولكن لهو الشباب حال بيني وبين الاستكمال في العلم والتهذيب، وأيضاً لا نعرف في بلادنا المغربية إلا التقليد الأعمى، فقد كنا نعد الفتوى بحديث البخاري ومسلم ضلالاً، وكما شدد علينا شيوخنا في ذلك، شددنا على تلاميذنا هناك، فالتاجر كما اشترى يبيع ويزيد المكسب، فمن ذلك أني عند سفري إلى المشرق استعار مني ابن أختي الخضر ابن الحسين الذي لقيتموه في المدينة (نيل الأوطار) للشوكاني، فما تركته حتى أقسم لي بالله أنه لا يتبعه فيما يقول، ومن ذلك أني وجدت في عام 1300 كتاب (الروضة الندية) للسيد صديق حسن خان يباع عند كتبي في مكسرة ، اسمه الشيخ الأخضر السنوسي العقبي، فنهرته وزجرته، وقلت له: حرام عليك تبيع الروضة الندية، فصار يعتذر بمسكنة كأنه فعل خيانة، أما تصانيف ابن تيمية وابن القيم فو الله ما نظرت فيها سطراً لنفرة قلوبنا منها، ومن جهل شيئاً عاداه. لكن في العاجز رائحة استعداد وشوق للدليل، فلما ارتحلت إلى المشرق سنة 1316، واطلعت على كتب أهل هذا الشأن باستغراق الوقت لا واشي ولا رقيب، وأمعنت النظر بدون تعصب، فتح الله على القلب بقبول الحقيقة، وعرفت سوء الغشاوة التي كانت على بصري، وتدرجت في هذا الأمر حتى صارت كتب الشوكاني وصديق خان وشروح بلوغ المرام وما والاها أراها من أعز ما يطالع ، أما كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم فمن لم يشبع ولم يرو بها فهو لا يعرف العلم.
ويلحق بها كتب السفاريني، وجلاء العينين للسيد نعمان، وآثار إبراهيم الوزير ونحوهم، ومنذ عرفت الحقائق، استرذلت الحكم بلا دليل والحمد لله (وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً) .(21/13)
ومن اللطائف أن في الشهر الأول والثاني من انفتاح البصيرة، ألقي إلي في مبشرة منامية قوله تعالى : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). والحاصل فما ذكر لكم من تلك المناقب لم ألبس منها ثوباً قط، وإنما أنا محب لأهلها، وذاب عنهم، وناصر لهم، ولعله يشملني حديث (المرء مع من أحب) فمن وصفني بما زاد على ذلك، فقد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم " ( المرجع : مجلة الكويت ، الجزء 10 العدد الأول ، ورسالة : المكي بن عزوز - حياته وآثاره ، للأستاذ على الرضا الحسيني ) .
تعليق
1- رحم الله الشيخ ابن عزوز الذي حرص على معرفة الحق ، وبذل السبب في السؤال عنه ، ولم يركن إلى تقليد المغرضين ؛ حتى شرح الله صدره له ، وهكذا الموفق إذا ما تشوف قلبه للحق أدركه بحول الله .
2- ورحم الله العلماء ( البيطار والألوسي والقاسمي والرشيد ) الذين بذلوا النصح له ، وراسلوه بالأسلوب الحسن ، وأخذوه بالرفق ؛ حتى يسر الله رجوعه .
3- في مراسلة الألوسي له فائدة ؛ وهي أن يجتهد العلماء وطلبة العلم في مراسلة المعرضين والجاهلين ؛ خاصة من الرؤوس والمشاهير ، مع إتحافهم بالهدايا من الكتب والأشرطة النافعة التي ترشدهم ، وتبين لهم الحق ، ولايزهدوا في هذا الأمر ، فربّ رسالة أو كتاب أو شريط قادت إلى نفع عظيم للإسلام والمسلمين . والله الهادي ..(21/14)
هل انخدع الإخوان المسلمون بالشيعي نواب صفوي ؟!
أما العالم فهو : الشيخ أحمد الكسروي ، الذي وفقه الله لترك التشيع ونقده ، واعتناق دعوة الكتاب والسنة . قال عنه الأستاذ محمود الملاح: "لم يظهر في عالم الشيعة أحد في عياره منذ ظهر اسمٌ شيعيٌ على وجه الأرض ". وقال عنه الدكتور ناصر القفاري : " هو أحمد مير قاسم بن مير أحمد الكسروي ، ولد في تبريز عاصمة أذربيجان أحد أقاليم إيران وتلقى تعليمه في إيران، وعمل أستاذاً في جامعة طهران، كما تولى عدة مناصب قضائية، وقد تولى مرات رئاسة بعض المحاكم في المدن الإيرانية، وقد أصبح في طهران أحد أربعة كبار مفتشي وزارة العدل ثم تولى منصب المدعي العام في طهران، وكان محرراً في جريدة "برجم" الإيرانية وكان يعرف اللغة العربية، والتركية والإنجليزية، والأرمينية والفارسية، والفارسية القديمة "البهلوية" وله كتب كثيرة جداً، ومقالات منتشرة في الصحف الإيرانية.
وقد كانت مقالاته التي ينقض فيها أصول المذهب الشيعي قد جذبت نظر بعض المثقفين إليه والجمعيات العاملة في البلاد ، وأقبل عليه فئات من الناس من كل أمة ونحلة، ولا سيما الشباب من خريجي المدارس فأحاط به آلاف منهم وقاموا بنصرته وبث آرائه ونشر كتبه .
ووصلت آراؤه بعض الأقطار العربية وهي الكويت، وقد طلب بعض الكويتيين من الكسروي تأليف كتب بالعربية ليستفيدوا منها ؛ فكتب كتابه الشهير "التشيع والشيعة" الذي أوضح فيه بطلان أصول المذهب الشيعي، وأن خلاف الشيعة مع المسلمين إنما سنده التعصب واللجاج لا الحجة والبرهان، وما إن أتم كتابه هذا حتى ضُرب بالرصاص من قبل مجموعة من الروافض، أُدخل على أثرها المستشفى وأُجريت له عملية جراحية وتم شفاؤه.(22/1)
ثم أخذ خصومه من الروافض يتهمونه بمخالفة الإسلام ورفعوا شكوى ضده إلى وزارة العدل ودعي للتحقيق معه ، وفي آخر جلسة للتحقيق معه في نهاية سنة 1324هـ ضُرب بالرصاص مرة أخرى، وبخنجر ، ومات إثر ذلك ، وكان في جسمه 29 جرحاً، وقد عاش 57 سنة، وترك أفكاره وكتبه ومقالاته الكثيرة حية مع الأحياء". ( دعوة التقريب 2/218-219 بتصرف يسير ) .
وأما الشيعي المتعصب ؛ فهو ( نواب صفوي ) مؤسس جماعة " فدائيان إسلام " الشيعية .
قال عنه الكاتب الشيعي ماجد الزبيدي في كتابه " التحفة الزبيدية في مقاتل علماء الإمامية " ( ص 209-218 ) والتعجب بالأحمر مني : " كان أحمد كسروي قد جاهر بدعوته الإلحادية الهدامة في إيران ( ! ) ؛ سواء بأحاديثه أو بمطبوعة، ووصلت أخباره إلى النجف فقرر المترجم العودة إلى إيران لمناوأة كسروي والقضاء عليه فاعتقل وأودع السجن، ثم أطلق سراحه فدخل كلية الشريعة.
ويبدو أن دعوة كسروي الإلحادية ( ! ) هي التي أنبتت في ذهنه وجوب إيجاد تنظيم إسلامي واع يرتكز على جماعات متكاتفة تقاوم الدعوات الهدامة وتدعو إلى الإسلام وتحارب الإلحاد ( ! ) ، فاتصل أول الأمر بأحمد كسروي والتقى به في عدة جلسات يناقشه ويحاوره فلم يزدد كسروي إلا عناداً واسترسالاً في دعايته وبثها في الناس. فصمم المترجم على القضاء عليه، واستطاع الحصول على ثلاثمائة تومان من أحد المؤمنين ( ! ) فاشترى بها مسدساً وترصد لكسروي في أحد المنعطفات حتى إذا مر أطلق عليه النار ولكن الرصاصة أصابت رجله، ولما رأى المترجم أن كسروي لم يُقتل انهال ضرباً بالمسدس على رأسه ووجهه فتجمع عليهما الناس وخلصوه منه، فقبض على نواب صفوي ونقل كسروي إلى المستشفى، وصادف أن زار وفد حكومي إيران بعض العلماء في النجف الأشرف فتوسطوا لإطلاق صفوي فنجحت الوساطة وأطلق.(22/2)
وكان أول عمل قام به التنظيم أن نجح في اغتيال أحمد كسروي، واهتدت السلطة إلى الفاعلين فاعتقلت المنفذ للاغتيال ورفاقاً له وسجنتهم تمهيداً لمحاكمتهم والحكم عليهم، وصادف أن الشاه محمد رضا أرسل وفداً إلى النجف الأشرف ليعزي الحوزة العلمية بوفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني، فأسرع صفوي للاتصال بالسيد حسين القمي الذي كان شبه منفي في العراق ليحمل العلماء على التوسط لإطلاق المعتقلين ونجحت الوساطة فأطلقوا وساعد على إطلاقهم أن الشعب الإيراني كان قد أبدى ضروب الابتهاج بقتل أحمد كسروي وأبدى تضمانه مع منفذي هذا القتل. فرأت السلطات أن في إطلاقهم تقرباً بعلماء النجف، وإرضاء لعواطف الشعب.
وكان الشهيد ( ! ) نواب صفوي في تلك الفترة في النجف الأشرف سيداً شاباً عرف بين الناس بقاتل كسروي، وكانوا يعظمونه ويجلونه ويعتزون بصحبته ورفقته.
وفي سنة 1953م. كان أمر التنظيم قد استقر وانتشرت دعوته وعمت شهرته وبدأ يدعو لمبادئه الإسلامية وينشط في مختلف ميادين العمل ويتصل بالدعوات خارج إيران ويعقد معها الصلات ، وفي هذه السنة زار نواب صفوي البلاد العربية لحضور مؤتمر القدس في مدينة القدس وزار سورياً كما زار مصر بدعوة من الإخوان المسلمين وكانت الأمور قد تأزمت بين الإخوان وحكومة الثورة وأوشك الانفجار بينهما أن يقع، وجاء يوم 12 كانون الثاني 1954م فاحتشد الإخوان وطلابهم في جامعة القاهرة للاحتفال بذكرى بعض ضحاياهم، كما حضرت جماعات من خصومهم وأقبل جمهور من طلاب الإخوان على الاجتماع حاملين نواب صفوي على الأكتاف ثم أصلوه إلى المنصة حيث خطب في الجماهير وكان موضوع فلسطين أهم ما في خطابه .. الخ الترجمة " .
ولنقرأ الآن مقتطفات مما ذكره فتحي يكن - زعيم جماعة الإخوان بلبنان - في موسوعته الحركية ( 1/ 163 - 165 ) عن الشيعي المتعصب صفوي قاتل الكسروي - والتعجب بالأحمر مني - :(22/3)
" الشهيد ( ! ) نواب الصفوي : شاب متوقد إيماناً وحماسة واندفاعاً بلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً.
درس في مدينة "النجف" بالعراق ثم رجع إلى إيران ليقود حركة الجهاد ضد الخيانة والاستعمار.
أسس في إيران حركة "فدائيان إسلام" التي تؤمن بأن القوة والإعداد هي سبيل تطهير الأرض المسلمة من الصهيونيين والمستعمرين ( ! ) .
كان لحركته في أوساط الشعب الإيراني أثر كبير في الانتفاضة الجبارة التي شغلت العالم منذ أعوام والتي كانت تستهدف القضاء على الخونة وتأميم شركات الزيت.
كانت له .. مواقف جريئة خالدة مع شاه إيران ومصدق وأديب الشيشكلي وجمال عبدالناصر.
في عام 1953زار نواب صفوي المملكة الأردنية الهاشمية لحضور المؤتمر الإسلامي في القدس ثم زار بعد ذلك عمان وقابل الملك حسين ووجه إليه كلمة جريئة نشرتها الصحف آنذاك ثم زار دمشق والقاهرة.
عندما قابل الزعيم أديب الشيشكلي أثناء زيارته لدمشق قال له:
لقد لمست أن الشعب لا يحبك وليس معك لأنك تضغط عليه وتكبت حريته ولذا فمن واجبك أن تكون مع الشعب لتبقى.
في أثناء زيارته لمصر ألقى في جامعة القاهرة خطاباً حماسياً قوياً دعا فيه إلى تعبئة القوى العامة وتجنيد الشباب لانقاذ فلسطين ( !! ) . وقد تعالت الأصوات القوية آنذاك بهذا الهتاف الجبار : الله أكبر والعزة للإسلام، وقد حاول شباب هيئة التحرير أن يقاطعوا نواب صفوي، ولكن شباب الإخوان المسلمين –وكان ذلك قبل المحنة الأخيرة- أسكتوهم على الرغم من تأييد البوليس المصري لهم ،وقد حنق عبدالناصر على السيد نواب صفوي فأمر بإخراجه من القطر المصري، ثم عدل عن ذلك واستقبله في مكتبه بمجلس الوزراء، وهناك سمع عبدالناصر رأي زعيم فدائيان إسلام في حكم عبد الناصر الذي يستند إلى الإرهاب وكبت الحريات
- قبض عليه بتهمة مشاركته في محاولة قتل حسين علاء رئيس وزراء إيران وحكمت محكمة عسكرية عليه وعلى رفاقه بالإعدام.(22/4)
كان لهذا الحكم الجائر صدى عنيفاً في البلاد الإسلامية ، وقد اهتزت الجماهير المسلمة ( ! ) التي تقدر بطولة نواب صفوي وجهاده وثارت على هذا الحكم وطيرت آلاف البرقيات من أنحاء العالم الإسلامي تستنكر الحكم على المجاهد المؤمن البطل الذي يعتبر القضاء عليه خسارة كبرى للإسلام في العصر الحديث ( !! ) .
ولكن تجاهل حكام إيران الذين يسيرون في ركاب الاستعمار رغبة الملايين من المسلمين ورفض الشاه العفو عنه، وسقط نواب صفوي وصحبه الأبرار شهداء برصاص الخونة وعملاء الاستعمار ، وانضموا إلى قافلة الشهداء الخالدين الذين سيكون دمهم الزكي الشعلة الثائرة التي تنير للأجيال القادمة طريق الحرية والفداء ( !! ) .
وهذا الذي كان، فما أن دار الزمان دورته حتى قامت الثورة الإسلامية في إيران ودكت عرش الطاغية (الشاه) الذي تشرد في الآفاق، وصدق الله تعالى حيث يقول: ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) ( !! ) .
تعليق
1- حكاية الكسروي - رحمه الله - مع صفوي تُلخص لنا موقف جماعة الإخوان - هداهم الله - من الشيعة - أو غيرهم من المنحرفين ؛ فهم يغترون ويرفعون ويروجون لمن يرونه يناكف الحكام ويتصدى لهم ، بغض النظر عن عقيدته المنحرفة التي تُحركه ، أو سلوكه المشين ، أو أهدافه ؛ بسبب تضخم مسألة " الحاكمية " عندهم . وقل مثل هذا في موقفهم ممن " يتاجر " بقضية فلسطين . ولهذا تجدهم يقعون في نفس الخطأ مرات ومرات ، دون أن يستفيدوا من تجاربهم الماضية مع أمثال صفوي أو الخميني أو صدام ..الخ أصحاب الشعارات . ولايعني هذا عدم وجود أفراد معدودين من الإخوان تنبهوا لخطر الرافضة ، وأكاذيبهم ، واستحالة التقارب معهم ؛ كسعيد حوى والسباعي ، ولكنهم ندرة لم يؤثرا في مسار الجماعة .(22/5)
2- الواجب على جماعة الإخوان - وفقهم الله للخير - الاهتمام بأمر العقيدة ، والعلم الشرعي ، تعلمًا وتواصلا مع أهله ؛ مما يحجزهم - بإذن الله - عن الوقوع في خطأ الاغترار بأهل البدع ومخادعاتهم .
3- ليعلم كل مهون من خطر الشيعة أو متوهم لجدوى التقارب معهم ، أنه يغش الأمة - لا سيما العوام منهم - ، عندما " يخدرهم " بهذه الأفكار " الوهمية " ، التي تجعلهم صيدًا سهلا للمبتدعة الذين يستغلون أمثاله ، ساخرين من سذاجته وتصديقه للخيالات ، بينما هم جادون في نشر بدعتهم ، يعرف هذا من تابع نشاطاتهم . ولهذا تجد بعض أهل السياسة - ولو كانوا من أفجر الناس - يشعرون بخطر التشيع لاطلاعهم على حقائق الأمور بواسطة التقارير التي تُرفع لهم . ( ليتذكر القارئ تصريح ملك الأردن أو رئيس مصر أو جهود رئيس اليمن حول هذا الأمر ) . بينما - للأسف - ينخدع بعض العلماء والدعاة بخرافة " التقارب " و " التعاون " .. الخ المخدرات .
4- لعل في تصريح الشيخ القرضاوي - وفقه الله - بالتحذير من خطر التشيع خطوة " تقدمية " ، وبداية " يقظة " من جماعة الإخوان في هذه المسألة . أسأل الله التوفيق لهم ، وأن يرينا وإياهم الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .(22/6)
من نابليون ( في مصر ) ... إلى بوش ( في العراق ) .. الخطة لم تتغير !
خطة العدو مع المسلمين منذ أول " احتلال " لبلادهم إلى اليوم واحدة لم تتغير ، إنما يتغير المُنفذ فقط . الخطة باختصار تقول : مهّدوا لاحتلال البلاد المسلمة بمراقبة أوضاعها عبر الجواسيس ( تجار - قناصل - سفراء ! ) ، ومن خلال دعم " العملاء " من المنافقين بأنواعهم ، من الذين يصرفون المسلمين عن دينهم وأخلاقهم ويخلخلون وحدة البلاد ، ثم افتعلوا حدثًا يُسوغ الاحتلال ، ثم ادّعوا أنكم جئتم محررين لأهلها من الظلم ! ناشرين فيها العدل والحرية ، وأنه لانية لكم في التعرض لدينهم أو البقاء .
هذه هي الخطة بإيجاز . ويجد القارئ نموذجًا لها ( هنا ) و ( هنا ) . ومادام المسلمون لم يعوا الخطة ويعدوا لها العدة ، فسيجدونها تتكرر بين حين وآخر . وإليك شيئًا من ادعاءاتهم المتكررة المتشابهة منذ احتلالهم الأول لبعض بلاد المسلمين إلى اليوم .
كانت البداية مع نابليون الذي عندما احتل البلاد المصرية بادر بنشر بيان يقول فيه :(23/1)
( بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونبارته، يعرف أهالي مصر جميعهم، أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية - أي المماليك - ، يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم ، وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة، والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم، يا أيها المصريون قد قيل لكم، إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين ) . ( تاريخ الجبرتي 3: 5-4 ) .
وعندما احتل البريطانيون مصر - بعد الفرنسيين - بدؤوا على الفور بإطلاق وعودهم بالانسحاب ( بلغت 66 وعدًا !! ) ، وأعلن غلادستون قائلاً : ( بناء على رغبة الخديوي، فقد تبقى قوة بريطانية صغيرة في مصر تتحمل مسؤولية البلاد إلى أن تترسخ سلطته وتثبت وتتجاوز حدود الخطر ) !! لكن القوات بقيت ، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تجرأ البريطانيون على تحويل "محميتهم المستترة" إلى محمية حقيقية وعلنية، ثم أعلنوا رسمياً في عام 1922 استقلال مصر، وفي عام 1936 أعلنوا إنهاء احتلالهم العسكري ! إلا أن القوات البريطانية لم تغادر مصر فعلاً إلا في حزيران / يونيو 1956 حين أجبرت على الوفاء بتعهداتها المتعددة والمتكررة بالانسحاب، أي بعد أربعة وسبعين عاماً من الغزو الأصلي !!(23/2)
وعندما احتلت القوات البريطانية بغداد عام 1917م أصدر الجنرال مود منشوراً تاريخياً محاولاً التقرب من أهل العراق قائلا: ( إننا لم ندخل بلادكم أعداء فاتحين، إنما دخلناها محررين ) ! ، ثم ذكرهم بما هم فيه من ظلم واستبداد منذ أيام هولاكو إلى أيام الحكم التركي . ومما قاله أيضاً : ( إنها ليست أمنية جلالة ملكي بمفرده ، بل إنها أمنيات الحكومات المتحالفة مع جلالته أيضاً أن تفلحوا كما في السابق، حينما كانت أراضيكم خصبة وكان العالم يتغذى من ألبان آداب أجدادكم وعلومهم وحرفهم ، يوم كانت بغداد إحدى عجائب الدنيا ) ! ثم احتل الموصل مع الولايات التابعة لها التي كانت تابعة لفرنسا ( حسب تخطيطهم ) ، على أن تأخذ فرنسا مقابل ذلك حصة من النفط، وهكذا أصبح العراق كله تابعاً لبريطانيا ، فأذاعت الدولتان المتحالفتان –بريطانيا وفرنسا- في اليوم التالي بياناً أعلنتا أنهما خاضتا الحرب بغية تحرير الشعوب من مظالم الترك، وإقامة حكومات وطنية باختيار المواطنين ، وإشاعة العدل والمساواة وتطوير البلاد اقتصادياً وعلمياً، وجمع كلمة المواطنين التي كان قد فرقها الحكم التركي ! وبينما كانت العهود والبيانات تتوالى كانت ترافقها عملية إبرام معاهدات سرية متناقضة ومطاطة، كانت هي الوسيلة التي استعملها الاستعمار في تحقيق أهدافه، أهمها: معاهدة سايكس بيكو ، ووعد بلفور ، ومؤتمر سان ريمو فيما بعد. ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 132-133) .(23/3)
وسلك الإيطاليون نفس مسلك غيرهم عندما احتلوا ليبيا ؛ فأصدروا منشورات تفيد اهتمامهم بمصلحة أهالي البلاد ، وتسعى للتقرب منهم ، وتعلن أن إيطاليا تود طرد الأتراك حفاظاً على مصالحهم ! فقد أصدر قائد الحملة الجنرال كارلو كانيفا منشوراً باللغة العربية، بمثابة "إنذار" خاطب فيه المسلمين قائلا : ( إن إيطاليا لا تريد في الحقيقة سوى رضا العرب وتأمينهم على أحوالهم وأرواحهم، لأن حكومة رومة بمثابة الأم الرؤوم التي ترغب فقط أن تعلم العرب كيف ينشئون أولادهم ويربونهم وكيف يصبحون أثرياء بفضل المخترعات الجديدة في الصناعة التي سوف يأتي الإيطاليون بها إلى ليبيا .. ) ! وقد أعلن في هذا المنشور مهمته ورسم خطته وتودد إلى أهل البلاد وخاطب سكان طرابلس والقيروان والبلاد الأخرى التابعة لها،محاولاً تقوية سلطته ومبرراً موقف دولته، بآيات قرآنية، وواعداً الليبيين بحكام منهم يحكمون بالعدل والرأفة كما أوصت الآية القرآنية الكريمة : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) !! ثم أخذ يؤكد عزمه على احترام الشرائع والتقاليد الدينية والحقوق والأشخاص، ثم أخذ يدعم وجود الطليان بآيات قرآنية .(23/4)
ولكن هذا القائد الذي أصدر هذه المنشورات يتودد فيها إلى أهل البلاد، ارتكب الجرائم المروعة بحق المسلمين على أرض الواقع ؛ ومن أشنعها ما صنعه في 23 تشرين أول، أكتوبر، عام 1911 بأهل المنشية التي تقع شرقي مدينة طرابلس، فقد أعمل الإيطاليون في الأهلين السيف وأوقعوا بهم مجزرة كبيرة لم ينج منها طفل أو شيخ أو امرأة ، وأباح الجنرال ( كانيفا ) قائد الحملة البلدة ثلاثة أيام لجنوده حتى يبيدوا فيها المسلمين ، وامتدت فظائع الطليان إلى غيرها، وتعوَّد الجند إطلاق الرصاص عبثاً ولهواً على الأهلين أينما صادفوهم لا ينجو من أيديهم أحد ، هذا بالإضافة إلى ما ألصق من تهم كاذبة بالأهلين لتبرير استباحة البلد لجنود القائد ثلاثة أيام قتل خلالها ما بين 4 إلى 7 آلاف نسمة ونفي حوالي 900 مسلم ، وهتكت أعراض النساء ثم أعدم المجاهدون جماعات جماعات دون تحقيق ودون محاكمة، وقتل كل من بلغ من العمر 14 عاماً ) . ( المرجع السابق ، ص 425-427 ) .
أخيرًا : خاطب ( بوش ) العراقيين في 2003م قائلا : ( سرعان ما ستعود حكومة العراق ومستقبل بلادكم إليكم ، لسوف نُسقط نظاماً وحشياً ، بحيث يتمكن العراقيون من العيش في أمان، سوف نحترم تقاليدكم الدينية العظيمة، حيث مبادئ العدالة والرحمة جوهرية لمستقبل العراق، سوف نساعدكم على إقامة حكومة مسالمة ونيابية تحمي حقوق المواطنين كافة، ومن ثم ستغادر قواتنا العسكرية، سيسير العراق قدماً كدولة موحدة ومستقلة وذات سيادة بعد أن يستعيد مكانه اللائق في العالم، أنتم شعب طيب وموهوب ورثة حضارة عظيمة قدمت إسهامات لصالح كل البشرية ) !
تعليق
سيبقى الحال كما هو - والله أعلم - ، وسيُفاجأ المسلمون باحتلالٍ لبعض دولهم مابين حين وآخر ، ماداموا في ضعفهم الديني والدنيوي ، وهوانهم على العدو ؛ بسبب التفريط في أسباب النصر والعزة والقوة والوحدة . والحل يكمن - بحول الله - في الحصانة من الاحتلال من خلال :(23/5)
1- التمسك بدين الله كما أنزل - دون بدع أو خرافات - ، ونصرته ، والتمكين له ولأهله ، وتنشئة الأمة عليه ؛ عبادة وسلوكًا وولاء وبراء : ( إن تنصروا الله ينصركم ) ، ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا ) .
2- البعد عن المخالفات والمنكرات التي تستوجب خذلان الله ، وعدم طاعة المنافقين ، أو تقريبهم وتمكينهم ، والسماح لهم بصرف المسلمين عن دينهم ، أو إفساد أخلاقهم ؛ لأن المحصلة ستكون إيجاد أمة متهالكة - دينًا وخُلقًا - ، قابلة للاحتلال . قال تعالى عن المنافقين - وهم اليوم يُسمون الليبراليين أو العلمانيين أو العصرانيين - : ( هم العدو فاحذرهم ) .
3- إعداد القوة المادية الرادعة التي تُرهب أعداء الله : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. ) . وتنويع مصادرها ، واللعب بمصالح الدول الأخرى من خلال الثروات والطاقات التي تملكها الدول الإسلامية .
4- المبادرة الجادة بالوحدة الإسلامية بين دول الإسلام - تدريجيًا - ؛ لتواجه مخططات العدو كدولة واحدة .
أسأل الله أن يوفق المسلمين ، ويقيهم شرور أعدائهم ، ويحفظ بلادهم من كيدهم(23/6)
ياجريدة الجزيرة .. لماذا الترويج لهذا العَلماني ..؟
بمناسبة ظروفه الصحية ومرض قلبه أفردت جريدة الجزيرة اليوم ملفًا عن الكاتب " العَلماني " المصري جابر عصفور ، مليئ بالمديح والإعجاب ، بما يثير العجب من صحيفة تصدر من هذا البلد . يقول المشرف على الملف - هداه الله - عن عصفور : " فهو - دون لقب - الوزير التنفيذي للثقافة في أكبر بلد عربي، ودوره التنويري مؤثر ومبشر " !! ولا أدري بماذا سيبشر عصفور .. سوى علمانيته التي عرف بها ، ومحاربته للإسلام تحت ستار محاربة التطرف ، كما في كتابيه " مواجهة الإرهاب " أو " ضد التعصب " .
ولكي يُكشف هذا التضليل الذي مارسته الجريدة على قرائها ؛ أنقل شيئًا عن حقيقة عصفور من كتاب " أعلام وأقزام " :
جابر عصفور مقالاته تقطر سماً:
انظر ما كتبه في الأهرام 13/9/1990 في تأبين النصراني الحاقد لويس عوض فإنه يرى أن حياة لويس كانت كلها جهداً متصلاً وكفاحاً دائماً لتغيير الواقع الذي ظل يرفض ما فيه من تقاليد جامدة وظلم اجتماعي وغياب للحرية.
ما هكذا يا عصفور تورد الإبل !!
أمين عام المجلس الأعلى للثقافة جابر عصفور من أشد الناس دفاعاً عن فصل الدين عن الدولة ؛ يقول عن ظاهرة الإرهاب:
( تبرز هذه الظاهرة على نحو دال في العصر الحديث، وهي المرحلة المعاصرة على وجه التحديد، وتفرض نفسها على منطق المساءلة، خصوصاً في سياق تاريخي، تزايدت فيه – منذ مطلع السبعينيات الساداتية في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية – مجموعات الضغط الديني الأصولية التي سعت إلي أن تستبدل بالدولة المدنية القائمة على احترام الأديان والمعتقدات والمذاهب دولة دينية تقوم على مذهب واحد، تتعصب له في علاقتها بغيرها من المخالفين الموصومين بالتهم العديدة التي تجمع ما بين الضلالة والكفر.(24/1)
وكان من نتيجة انتشار هذه المجموعات الأصولية، وتزايد عنف ممارساتها، تصاعد نائج تعصبها الذي انفجر في جرائم إرهابية أودت بحياة الكثيرين من الأبرياء، وأودت بحياة مبدعين ومفكرين، كان اغتيالهم تأديباً لغيرهم، وأمثولة على ما يمكن أن يصل إليه قمع المخالفين، خصوصاً الكتاب الذين تنوعت أشكال الإرهاب التي تعرضوا لها ما بين الإرهاب المادي والمعنوي. وقد سبق أن كتبت في مواجهة مخاطر إرهاب هذه الجماعات كتابي (ضد التعصب ) ( سنة 2000 ) الذي كان كشفاً وإدانة لما حدث لأمثال نصر حامد أبي زيد وحسن حنفي وسيد القمني ومارسيل خليفة وأحمد البغدادي وغيرهم من المفكرين والمبدعين الذين امتدت إليهم حراب الإرهاب الديني، وحاولت القصاص منهم ومن أمثالهم ) (1) .
وقال: ( ولم يكن من المصادفة أن يتم اغتيال الكاتب فرج فودة في صيف 1992، بعد أن كتب ما كتب عن التطرف والتعصب، وكشف عن الأسباب التي تؤدي إلي الإرهاب نتيجة تأويلات دينية أصولية، أبعد ما تكون عن سماحة الإسلام ودعوته إلى المجادلة بالتي هي أحسن) (2) .
جابر عصفور هو القائل:
( طه حسين مسئول عن أجزاء كبيرة من هذا الكائن جابر عصفور .. طه حسين موجود في نفسي وأنا موجود به )(3) .
ويقول عن دعوته وإيمانه بالفصل بين الدين والدولة ودعوته إلى الدولة المدينة ( العلمانية ) : ( أنا شخصياً على الرغم من أنني معروف بكثرة كتاباتي عن التنوير، لم أعد أميل كثيراً إلى هذه الثنائية ( تنويوي/ إظلامي) ؛ لأنها في حالات كثيرة لا تدل على شيء.
الثنائية الحقيقية التي تدور حولها معركة فعلية، ولكنها تأخذ أشكالاً مختلفة هي:
( دولة مدنية ) و( دولة دينية) .
أنصار هذه الدولة الدينية يعتمدون على تأويل بعينه للدين، وبترتب على هذا مجموعة من النتائج المعروفة.... الخ ترويجه للدولة العلمانية ( 4 ) .
وانظر إلى قوله عن رواية ( وليمة لأعشاب البحر ) ودفاعه المستميت عنها وأنها إبداع ( 5 ) .(24/2)
أما عن محاربته لأحكام الإسلام تحت ستار محاربة التطرف والإرهاب - حسب زعمه ، فالتعليق عليه على هذا الرابط :
ضد التعصب أم ضد الإسلام .. ؟
وهنا مقال مهم عنه
مفكرة الإسلام:صورة المرأة العربية في وسائل الإعلام العربية
____________________________________
(1) (مواجهة الإرهاب قراءات في الأدب المعاصر) للدكتور جابر عصفور (ص24-25) - مكتبة الأسرة .
(2) لمصدر السابق (ص27) .
(3) (علي ضفاف الثقافة .. حوارات حول المستبقل ) للدكتور عمرو عبد السميع (ص116)- مكتبة الأسرة.
(4) المصدر السابق (ص136-137) .
(5) المصدر السابق (ص 130-131) .(24/3)
(( 6 )) أصول يلتقي عليها أهل السنة
حدد الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - ستة أصول يلتقي عليها أهل السنة ، أحببت التذكير بها :
قال : ( الأصل الأول: الأسماء والصفات: هم فيه وسط بين الممثلة والمعطلة :الممثلة طائفة تقول: صفات الله تعالى كصفاتنا؛ فوجه الله كوجوهنا، وعينه كأعيننا، ويداه كأيدينا، وما أشبه ذلك، والمعطلة –بالعكس- ينكرون ما وصف الله به نفسه، يقولون: ليس له وجه، ولا يد، ولا عين، ويحرفون الكلم عن مواضعه في هذه الأمور.
الأصل الثاني: القدَر: هم فيه وسط بين الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله ولا اختيار له ولا إرادة، وبين القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بنفسه وليس لله فيه تعلق، يفعل بدون مشيئة من الله وبدون خَلْق. وأهل السنة والجماعة قالوا: إن الإنسان يفعل باختياره وهو مختار مخير، ولكن أي فعل يفعله فهو بمشيئة الله تعالى وخلقه.
الأصل الثالث: أسماء الإيمان والدين: هم وسط فيه بين المعتزلة والخوارج من وجه وبين المرجئة، قالت المعتزلة والخوارج: إن الإنسان إذا فعل كبيرة خرج من الإيمان، ولا يصدق عليه أنه مؤمن أبداً، لكن الخوارج سموه كافراً والمعتزلة قالوا: هو في منزلة بين منزلتين. وقالت المرجئة: الإنسان إذا فعل كبيرة فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه مثل إيمان أطوع الناس لله ! وقال أهل السنة والجماعة: إذا فعل كبيرة فإنه مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
الأصل الرابع: الأحكام: هم فيها وسط بين المرجئة والوعيدية، فالإنسان ماذا يكون إذا فعل الكبيرة ؟ قالت المعتزلة والخوارج وهم الوعيدية: إنه مخلد في النار مع المنافقين: مع أبي جهل وأبي لهب وغيرهم، وقالت المرجئة: فاعل الكبيرة لا يدخل النار أبداً. وأهل السنة والجماعة قالوا: إنه يستحق العقاب دون الخلود في النار ، وقد يغفر الله له.(25/1)
الأصل الخامس: في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: هم وسط فيهم بين الرافضة والخوارج، فالرافضة كفروهم أو ضللوهم إلا آل البيت، فإنهم غالوا فيهم وأنزلوهم فوق منزلتهم، فصاروا ضالين في الصحابة من وجهين: من جهة تكفير وتضليل من عدا أهل البيت، ومن جهة الغلو في أهل البيت.
والخوارج وهم النواصب كفروا علي بن أبي طالب وخرجوا عليه وقاتلوه واستحلوا دمه. أما أهل السنة والجماعة فقالوا: الصحابة رضي الله عنهم خير القرون وأفضل الأمة ولهم حقهم الذي يجب علينا، ولآل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين به حق القرابة مع الإيمان والصحبة، إذا كانوا من الصحابة، ولكننا لا نغلوا فيهم كما فعل الرافضة، ولا نقدح فيهم كما فعلت الخوارج ، بل نعطيهم حقهم من غير غلو ولا تقصير.
ومن الأصول التي يختلف فيها أهل السنة وأهل البدع: الخروج على الأئمة :
أهل السنة والجماعة يقولون: علينا أن نسمع ونطيع لولي الأمر وإن فعل ما فعل من الكبائر والفسق، ما لم يصل إلى حد الكفر البواح، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الخروج على الأئمة إلا بشروط وقال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان" أربعة شروط:
الأول: أن تروا؛ يعني: بأعينكم، أو تعلموا ذلك علم اليقين، الثاني: أن تكون معصيته كفراً لا فسقاً؛ فلو كان يزني أو يسرق أو يقتل النفس المحرمة بغير حق دون استباحة لذلك، فإنه ليس كافراً؛ بل هو فاسق من ضمن الفاسقين، ولا يحل لنا أن نخرج عليه، الثالث: أن تكون كفراً بواحاً يعني: صريحاً، لا يمكن فيه التأويل، فإن أمكن فيه التأويل، فإننا لا نكفره ولا نخرج عليه. الرابع: أن يكون عندنا فيه من الله برهان، يعني: ليس الكفر الذي رأيناه بواحاً كفراً بقياس أو ما أشبه ذلك؛ ولكن هو كفر حقيقي عندنا فيه من الله برهان؛ أي: دليل واضح من الكتاب والسنة.(25/2)
هذه أربعة شروط ، وهناك شرط خامس يؤخذ من الأدلة الأخرى، وهي أن يكون عندنا قدرة على إزاحة هذا الحاكم الكافر الذي كفر كفراً صريحاً، فإن لم يكن لنا قدرة صار الشر الناتج عن إزالته أكثر مما لو تركناه على حاله، وعلى هذا نحاول بطريقة أو بأخرى الإصلاح ما استطعنا ) . ( لقاء الباب المفتوح ، 45/108-109) .(25/3)
كتاب( عمر والتشيع ) للسياسي العراقي العلوي .. ( 4 ) وجهات نظر
جاء كتاب " عمر والتشيع " للسياسي العراقي حسن العلوي على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في معرض الكتاب الأخير.ومؤلفه ينتمي لأسرة شيعية معروفة في العراق، إلا أنه يتبنى الطرح العلماني .
فكرة الكتاب : التفريق بين نوعين من التشيع : ( التشيع العربي ) الذي يمثل حقيقة التشيع ، ويؤمن بالمشاركة بين علي رضي الله عنه والخلفاء الراشدين ، و ( التشيع الصفوي الفارسي القادم من إيران ) الذي انحرف بالتشيع إلى المفاصلة ، ومعاداة الصحابة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه .
يقول الكاتب : إن "الشيعة الصفوية" أساءت كثيرا للعلاقة الوطيدة بين الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه والخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى وصل بها المطاف إلى اغتيال المرجع الشيعي علي شريعتي لأنه تبنى نظرية "الشراكة" بين علي وعمر.
- إن أبرز محاور هذا الكتاب: العلاقة الوثيقة التي كانت بين الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه والخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على عكس روايات الشيعة الصفويين (الإيرانيين) التي تنفي ذلك ، ومن تفاصيل تلك العلاقة الوطيدة بين عمر وعلي 18 ألف صلاة التي أدياها معا، شركاء في مشروع واحد. وأن عليا كان يشاركه في القرارات السياسية ، لاسيما وعمر يؤمن بالشورى .
- يعتبر المؤلف أن عمر بن الخطاب هو مؤسس العراق العربي" مشيرا إلى أنه هو باني العراق لأنه فتح أيام خلافته ، فقد أسس بلدا وبنى حضار ة رافدية " .
- رد العلوي في كتابه على فئة المتحولين من التصوف إلى التشيع ؛ كالتيجاني وغيره ، ممن يتكسبون بسب عمر رضي الله عنه .(26/1)
- يقول العلوي : "الفترة العمرية كانت فترة الحكم المشترك لجميع الصحابة وهذه لم تتكرر، ففي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان القرآن والسنة، وفي زمن أبي بكر كان يميل لأن يتخذ قراراته الصارمة بنفسه بسبب الظروف ويأخذ استشارات عدد قليل من الصحابة، وأما عمر فهو الذي وسع المشاركة وأصبح الرجل يستمع لآراء الصحابة ولذا تشكل الفقه العمري من فقه الصحابة، وإذا عدت مثلا لجذور مواقفه يتبين أنها رأي عثمان أو علي أو صحابي آخر، ولكن كانت تصدر الفتوى باسمه".
ويفرّق الكاتب بين الشيعة الصفويين والشيعة العرب، قائلا إن الشيعة الصفويين لديهم روايات "تتنقص من عمر فضلا عن الهجوم عليه وينفون زواج عمر من أم كلثوم صغرى بنات علي وهو زواج يذكرني بزواج النبي من عائشة والعلاقة الوطيدة التي صارت بين النبي وأبي بكر فيما بعد، وصارت نفس العلاقة بين علي وعمر وكان لهما نسل مشترك هو زيد بن عمر بن الخطاب "
- وعن الدوافع وراء إصدار هذا الكتاب يقول العلوي: الكتاب ليس دفاعا عن عمر لأن الدفاع يأتي عن متهم وعمر ليس متهما، وليس كتابا تاريخيا في عمر لأن عمر من أعضاء التاريخ الإسلامي. هذا الكتاب هو لدرء الأذى عن التشيع إذ يوجد جناح قوي في التشيع يساهم في طعن عمر والتشهير به حتى هذه اللحظة. والوقت السياسي مناسب لإصدار هذا الكتاب عن عمر لأن هناك فقهاء شيعة يشتمون عمر في تلفزيونات عربية ويقدمون مبررا للفئات الأخرى المتطرفة للذبح على الهوية ويعطون المسوغ الشرعي لمن يصدر فتاوى قتل الشيعة، والكتاب ضد الفتنة، وعمر كان يسمى قفل الفتنة أو قفل الأمة.
وجهات النظر تجاه الكتاب:
الأولى : أن حسن العلوي رغم أنه شيعي علماني ، لكنه منصف مع الصحابة فقد سمى ابنه عمر ، وهدفه من الكتاب إنصاف عمر رضي الله عنه .(26/2)
الثانية : أن حسن العلوي شيعي علماني العقيدة بعثي المنهج, لذلك هو ينطلق من منهجه العلماني( لا الديني ) في محاولة التقريب بين السنة والشيعة في العراق ,فهذا الكتاب موجه إلى العراقيين خاصة بعد ما آلت أليه الأمور في العراق,وخاصة إذا علمنا أن الأستاذ حسن العلوي كان من المعارضين لنظام صدام حسين وكان من أشد الداعين إلى إسقاط نظامه ولو بالتدخل الأمريكي الصليبي.فهذا الكتاب هو محاولة من حسن العلوي لتصحيح ما قام به هو ورفاقه المنادين باحتلال العراق لشعورهم بالذنب تجاه ما وصل إليه الحال هنا في العراق الجريح .
الثالثة : أن هذا الرأي خطوة طيبة في الاتجاه الصحيح ، لكن للأسف لا يتبناه الشيعة الأمامية ولا مراجعهم .فهو سيبقى رأيًا لا تقيم له المرجعية الشيعية أي وزن ولن يؤثر في الشيعة ،
الرابعة : أن الكاتب ينطلق منطلق قومي علماني تمده جذور بعثية يحاول أن يوائم وبطريقة متكلفة بين انتسابه عن طريق والديه للفرقة الشيعية وبين اعتزازه بالحضارة العربية لأنه عربي ، ولعل المؤلف اكتشف حقيقة التناقض بين التشيع والعروبة فحاول متكلفا التفريق بين تشيعين " عربي " و " صفوي " !! لكي يُلصق كل انحراف وخيانة بالتشيع الصفوي ، ويدافع عن التشيع العربي المنزه عن كل عيب !! وهذا كله خيال في خيال ، لأن هذه التفريق لا واقع له ، فالتشيع الإمامي واحد ، من ركائزه الكبرى : سب الصحابة بل تكفيرهم ، وعلى رأسهم أبوبكر وعمر رضي الله عنهما . يقول أحد الشيعة معلقًا على كتاب العلوي في أحد المنتديات : ( لايوجد تشيع صفوي..التشيع واحد..وهذه بدعة من بدع شريعتي تلاقفها الأعداء لكي يمزقوا المذهب ) !
فالكاتب يريد بتفرقته الخيالية أن يبرئ التشيع العربي الذي ينتمي إليه من الخرافة والخيانة والولاء للفرس ولأعداء الإسلام .
فالكتاب في حقيقته : ليس حبًا في عمر ولكن دفاعًا عن التشيع ! . فلا فائدة منه لأهل السنة
فما رأي الإخوة ؟؟؟؟(26/3)
( 8 ) قواعد مهمة لمن أراد نقاش المخالفين لدعوة الشيخ محمد - رحمه الله
هذه ثمان قواعد أو تمهيدات أراها مهمة لمن أراد الدخول في النقاش مع المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - استللتها من كتابي " ثناء العلماء على كتاب الدرر السنية والرد على من تطاول عليه "؛ كحسن المالكي
تمهيد ( 1 ) :الطعن في دعوة الشيخ ليس بالأمر الجديد
إن الطعن في دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – ليس وليد الساعة ، إنما بدأ منذ أن خالف الإمام عقائد المنحرفين في عصره ، وجهر بدعوة التوحيد ، وفي هذا يقول – رحمه الله – في رسالته لعلماء البلد الحرام : " سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد : جرى علينا من الفتنة مابلغكم وبلغ غيركم ، وسببه هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين ، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين ، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله ، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور ، كبر على العامة ، وعاضدهم بعض من يدعي العلم ؛ لأسباب ما تخفى على مثلكم ، أعظمها اتباع الهوى ، مع أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين ، وأنا على غير جادة العلماء ، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب ، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها " . فما المالكي إلا حلقة ضئيلة في سلسلة بائسة من أهل البدع والمناوئين على مر الأيام ، ولكنه يفوقهم قبحًا ووزرًا ؛ لأنه يمارس هذا التلبيس والضلال في وقت تكشفت فيه الحقائق ، وانجلت الغمة بإظهار الله – عز وجل – لهذه الدعوة ، وانتشارها في الآفاق ، وانقشاع غشاوة الشبهات والأكاذيب التي أثيرت حولها ، رغم كيد الحاقدين .(27/1)
ولطلاب الحق أن يُطالعوا هذه الرسائل المهمة : " عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي " للشيخ صالح العبود ، " دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب " للدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف ، " إسلامية لا وهابية " للشيخ ناصر العقل ، " الشيخ محمد بن عبدالوهاب المجدد المفترى عليه " للشيخ أحمد بن حجر آل بو طامي ، " محمد بن عبدالوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه " للأستاذ مسعود الندوي ، و " كشف الأكاذيب والشبهات عن دعوة المصلح الإمام محمد بن عبدالوهاب " للأستاذ صلاح آل الشيخ .
تمهيد ( 2 ) : الحوار لا ينبغي أن يكون عن وجود " التكفير " ، إنما يكون عن أسبابه
إن الشيخ – رحمه الله – وأتباع دعوة التوحيد مع خصومهم – قديمًا وحديثًا – يدورون في حلقة مفرغة ، وجدال عقيم ؛ عندما يتهمونه وأتباعه أنهم يُكفرون المسلمين أو أن عندهم غلوًا في التكفير .. الخ تهمهم ؛ لأنه سيرد عليهم بأنه يبرأ من ذلك كله ، وإنما هو يكفر من وقع في الشرك الأكبر
فالخلاف بينه وبينهم ينبغي أن لا يكون في مجرد " التكفير " ؛ لأنه لا إسلام دون تكفير لمن يستحق التكفير – لو كان الخصوم يعقلون - ، ونصوص الكتاب والسنة حافلة بهذا ، إنما الخلاف – كما سبق في مقدمة الرسالة – ينبغي أن يكون في حقيقة من كفرهم الشيخ ؛ هل هم مسلمون ؟ أو أنهم نقضوا إسلامهم بما ارتكبوه ودافعوا عنه من " شركيات " ؟
فينبغي أن تنصرف جهود خصوم الشيخ – ومن وافقهم – إلى إثبات أن من كفرهم الشيخ مسلمون – رغم صرفهم أنواعًا من العبادة لغير الله ؛ من نذر أو ذبح أو دعاء .. الخ .
هاهنا المعترك بين الشيخ وخصومه .(27/2)
أما الصياح بأن الشيخ كفر هؤلاء أو قاتل أولئك ، والاعتقاد بأنهم بهذا أقاموا الحجة على أن دعوة الشيخ " تكفيرية " ! فهذا سذاجة وجهل . لأن الشيخ وعلماء دعوته لم يُنكروا هذا كله – رغم التزيدات والفهم السقيم كما سيأتي - حتى " يفرح " البعض بالعثور عليه ! بل هم يقرون ما ثبت منه ، ولا يعدونه مذمة – مادام مرجعه الأدلة الشرعية - .
فالخلاف ينبغي أن يكون في : " هل يستحق هؤلاء المكفَّرين " أن يُحكم عليهم بذلك ، أو لا يستحقون ؟! ويكون المرجع في هذا الأدلة الشرعية بفهم سلف الأمة ، لا بمجرد العواطف والأماني التي يعقبها " التباكي "
تمهيد ( 3 ) : عند المخالفين : من قال " لا إله إلا الله " فقد برئ من الكفر مهما ارتكب من النواقض !
ظن المخالفون للشيخ أن من قال : لا إله إلا الله لا يكفر، ولو لم يعمل بمقتضاها، ويقولون إن الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكفَّرهم، ونزل فيهم القرآن، لا يشهدون أن (لا إله إلا الله) فكيف يُجعل أولئك المشركون الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله مثل الذي يقولها ويصلي ويصوم؟ ولأن هذه المسألة من أهم المسائل التي إذا ما وعاها المسلم وفهمها حق الفهم تيقن افتراء الخصوم على دعوة الشيخ ، وعدم فهمهم لحقيقة التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإليك نقولا مفيدة للشيخ – الذي أولاها الأهمية - ولبعض علماء الدعوة وغيرهم :(27/3)
- هذه الشبهة أُوردت على الإمام محمد بن عبدالوهاب، وتولى الإجابة عليها بنفسه، قال - رحمه الله - ما نصه : " اعلم أن لهؤلاء شبهة، يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن، لا يشهدون أن (لا إله إلا الله)، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم، أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، وكذبه في شيء، أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن، وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله، وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله، وجحد الحج.
ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج، أنزل الله في حقهم )فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين( ، ومن أقر بهذا كله، وجحد البعث، كفر بالإجماع، وحل دمه وماله، كما قال تعالى: إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً( ، فإذا كان الله قد صرّح في كتابه، أن من آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو الكافر حقاً، وأنه يستحق ما ذكر، زالت الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء، في كتابه الذي أرسله إلينا.
ويقال أيضاً: إن كنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة، إنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان، وصدق بذلك كله، لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا.(27/4)
فمعلوم أن التوحيد هم أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل! ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويؤذنون، ويصلون.
فإن قال إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، فقل: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان، ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان، أو يوسف ؟ أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه )كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون( .
ويقال أيضاً: الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟
ويقال أيضاً : بنو عبيد القداح، الذين ملكوا المغرب في زمان بني العباس، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء، دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون، حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.(27/5)
ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب: (باب حكم المرتد)، وهو المسلم الذي يكف بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها، يكفِّر ويُحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم )يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم( ، أما سمعت الله كفّرهم بكلمة، مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه، ويصلون، ويزكون ويحجون ويوحدون.
وكذلك الذين قال الله فيهم )لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم( ، فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.
فتأمل هذه الشبهة، وهي قولهم: تكفِّرون من المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها، فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق... إلى أن قال: وللمشركين شبهة أخرى: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله، وكذلك قوله "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، وأحاديث أخر في الكف عمن قالها.
ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها لا يكفر، ولا يُقتل، ولو فعل ما فعل. فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود، وسباهم، وهم يقولون لا إله إلا الله.
وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويدّعون الإسلام.(27/6)
وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل، ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقُتل، ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعا من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد، الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا الأحاديث.
فأما حديث أسامة: فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام، بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام: وجب الكف عنه، حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك )يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا( ، أي: فتثبتوا، فالآية تدل: على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قُتل، لقوله تعالى )فتبينوا(، ولو كان لا يُقتل إذا قالها، لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، معناه ما ذكرناه أن : من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه، إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك. والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ وقال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، هو الذي قال في الخوارج "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقلنهم قتل عاد"، مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام، لما ظهر منهم مخالفة الشريعة" .(27/7)
- و قال الشيخ عبدالله أبا بطين – رحمه الله - : " من أعظم المصائب إعراض أكثر الناس عن النظر في معنى هذه الكلمة العظيمة – أي لا إله إلا الله - ، حتى صار كثير منهم يقول : من قال لا إله إلا الله ما نقول فيه شيئًا وإن فعل ما فعل ! لعدم معرفتهم بهذه الكلمة نفيًا وإثباتًا . مع أن قائل ذلك لابد أن يتناقض ، فلو قيل له : ما تقول فيمن قال : لا إله إلا الله ، ولا يُقر برسالة محمد بن عبدالله ؟ لم يتوقف في تكفيره . أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث ؟ لم يتوقف في تكفيره . أو استحل الزنا أو اللواط أو نحوهما ، أو قال إن الصلوات الخمس ليست بفرض ، أو أن صيام رمضان ليس بفرض ؟ فلابد أن يقول بكفر من قال ذلك . فكيف لاتنفعه لاإله إلا الله ولاتحول بينه وبين الكفر ؟!! فإذا ارتكب ما يناقضها ؛ وهو عبادة غير الله ، وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الذنوب ، قيل : هو يقول لا إله إلا الله ، ولا يجوز تكفيره!! "
- وقال – أيضًا - رحمه الله-: "ولازم قول من قال: إنه لا يجوز قتال من قال لا إله إلا الله. تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي إذا كانوا طائفة ممتنعين. بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتالهم بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج، بل لازم ذلك رد النصوص بل رد نصوص القرآن كما قدمنا، ورد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحصى، ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود لأنهم يقولون لا إله إلا الله !! فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب والسنة والإجماع".(27/8)
- وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن – رحمه الله - : " وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفَّر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج، وليس كذلك؛ بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعاً من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان .
وأما من قالهما ولم يحصل انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله، واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرَّب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى: ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (.
ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو : عبادة الله ، وترك عبادة ما سواه ، فمن استكبر عن عبادته ولم يعبده ؛ فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله ، ومن عبده وعبد معه غيره ؛ فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله ".
- وقال – رحمه الله – رادًا على من تشرب قلبه هذه الشبهة ممن شابههم المالكي :
" وأما قوله: ومن تسمّى بالإسلام، وأحب محمداً سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفِّر أحداً من سائر المسلمين، فضلاً عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" وسوّل لهم الشيطان وأملى لهم، حيث استباحوا دماء المسلمين إلى آخر رسالته.
فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله واتخذ معه الأنداد والآلهة، ودعاهم مع الله لتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، يحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين؛ لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتهما لا تضره، ولا توجب عند كفره، فمن كفَّره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.(27/9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعاً" . انتهى
ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلَّت عليه كلمة الشهادة، لا يجدي شيئاً، والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار.
نعم، إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يُكف عنه بمجرد القول، ويحكم بإسلامه، وأما إذا تبين منه وتكرر عدم التزامه ما دلّت عليه من الإيمان بالله وتوحيده والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له، ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة تدل على هذا.
فمن تسمى بالإسلام حقيقة، وأحب محمداً، واقتدى به في الطريقة، وأحب أصحابه الكرام، ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوّى بالله غيره، ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة، ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام، ولا يعرف حقيقته ، وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد، والظاهر الأول.
وقد ابتلي بهذه الشبهة، وضل بها كثيرٌ من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال تعالى: )ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون (. وقال تعالى: )ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين (. وقال تعالى: )له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال( فالتكفير بدعاء غير الله: هو نص كتاب الله، وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار". وفي الحديث أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وفي رواية: "إلا بحق الإسلام".(27/10)
وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه، وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، فمن قالها وعبد غير الله، أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذب لنفسه، شاهد عليها بالكفر والإشراك.
وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة في كتب الفقه باب مستقلاً في حكم المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذمٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه: )ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم( فكفَّرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قولهم "لا إله إلا الله".
وكذلك: إجماع الأمة على كفر من صدَّق مسيلمة الكذاب، ولو شهد "أن لا إله إلا الله" وقد كفَّر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذُكرت عنهم في احتمال صدق مسيلمة، ولم يلتفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم يشهدون "أن لا إله إلا الله". لأنه قد وجد منهم ما ينافيها: )ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور( وبالجملة فالذي يقوم بحرمة "لا إله إلا الله": هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها علماً وعملاً، كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه، ومن تبعهم بإحسان، كشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله تعالى- وأما من أباح الشرك بالله وعبادة غيره، وتولى المشركين، وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم فهو الذي أسقط حرمة (لا إله إلا الله) ، ولم يعظمها، ولا قام بحقها، ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها " .(27/11)
وقال – أيضًا – رحمه الله - : " وقد رأيت لبعض المعاصرين كتاباً يعارض به ما قرر شيخنا من أصول الملة والدين؛ ويجادل بمنع تضليل عُبَّاد الأولياء والصالحين، ويناضل عن غلاة الرافضة والمشركين، الذين أنزلوا العباد بمنزلة الله رب العالمين، وأكثر التشبيه بأنهم من الأمة، وأنهم يقولون: لا إله إلا الله، وأنهم يصلون ويصومون، ونسي في ذلك عهود الحمى؛ وما قرَّره كافة الراسخين من العلماء، وأجمع عليه الموافق والمخالف من الجمهور والدهماء، ونصَّ عليه الأكابر والخواص، من اشتراط العلم والعمل في الإتيان بكلمة الإخلاص، والحكم بموجب الردة على فاعل ذلك من سائر العبيد والأشخاص، وسمّى كتابه: "جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة"، ومراده بالأمة هنا: من عبد آل البيت وغلا فيهم، وعبد الصالحين ودعاهم، واستغاث بهم؛ وجعلهم وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم !! هذا مراده ولكنه أوقع عليهم لفظ الأمة ترويجاً على الأغمار والجهال، ولبساً للحق بالباطل، وهو يعلم ذلك وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين. قال تعالى: )إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين( ، فلكل مفترٍ نصيب منها بحسب جرمه وعلى قدر ذنبه، وقد رأيت على هذا الرجل من الذلة والمهانة مدة حياته ما هو ظاهر بين يعرفه من عرفه " .(27/12)
- وقال – رحمه الله - : " إن الشيخ إنما كفّر وقاتل وأخذ الأموال بأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقلّ وتكثر، وأنها لا يكفر بها أحد، وأن تكفير الصحابة لمن كفَّروه من أهل الردة على اختلافهم، وتكفير علي للغلاة، وتكفيره للسحرة وقتلهم، وتكفير من بعدهم للقدرية ونحوهم، وتكفير من بعد أولئك للجهمية، وقتلهم للجعد بن درهم وجهم بن صفوان ومن على رأيهم، وقتلهم للزنادقة، وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر من كفَّره الله ورسوله، وقام الدليل على كفره لا يتحاشون عن ذلك؛ بل يرونه من واجبات الدين وقواعد الإسلام وفي الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه.
وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المقلدون، وأتباعهم في كل عصر ومصر، وكفَّروا طوائف من أهل الأحداث، كالقرامطة والباطنية، وكفّروا العبيديين ملوك مصر وقاتلوهم، وهم يبنون المساجد، ويصلون ويؤذنون، ويدَّعون نصرة أهل البيت، وصنَّف ابن الجوزي كتاباً سمَّاه "النصر على مصر" ذكر فيه وجوب قتالهم، وردتهم.(27/13)
وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم، أبواباً مستقلة في حكم أهل الأحداث التي توجب الردة، وسماه: باب الردة، وأكثرهم عرَّفوا المرتد: بأنه الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات حكموا بكفر فاعلها، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم. قال الشيخ عثمان الحنبلي صاحب "حاشية المنتهى" في عقيدته: تتمة: الإسلام: الإتيان بالشهادتين مع اعتقادهما والتزام الأركان الخمسة إذا تعينت وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به: ومن جحد ما لا يتم الإسلام بدونه، أو جحد حكماً ظاهراً، أجمع على تحريمه أو حله إجماعاً قطعياً، أو ثبت جزماً كتحريم لحم الخنزير، أو حل خبز، ونحوهما كفر، أو فعل كبيرة، وهي ما فيها حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو داوم على صغيرة – وهي ما عدا ذلك- فسق . انتهى.
وهذا يعرفه صغار الطلبة فضلاً عن العلماء الممارسين.(27/14)
وهذا الأحمق يَعُدُّ هذا باباً ضيقاً، ويسفه رأي الأئمة وعلماء الأمة ويجهلهم، وهو يزعم أنه ينصرهم. وما أحسن ما قيل: " لأن يعادي المرء عاقلاً خير له من أن يكون له صديق أحمق " .والباب الذي يسع كل أحد هو الباب الشرعي، الذي عليه الداعي النبوي. وأما إهمال الجهاد، وعدم تكفير المرتدين، ومن عدل بربه، واتخذ معه الأنداد والآلهة، فهذا إنما يسلكه من لم يؤمن بالله ورسوله، ولم يُعَظِّم أمره، ولم يسلك صراطه، ولم يقدر الله ورسوله حق قدره، بل ولا قدَّر علماء الأمة وأئمتها حق قدرهم، وهذا هو الحرج والضيق. قال تعالى: )فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام( .والجهاد للمارقين والمرتدين وتكفيرهم داخل في مسمى الإسلام، بل هو من أركانه العشرة، كما نصَّ عليه بعض المحققين، وفي الحديث: "وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" فلا ينشرح له ويراه حقاً وواسعاً إلا صدر من أراد الله هدايته وتوفيقه، ويراه ضيقاً حرجاً من أراد الله أن يضله ويخزيه بين عباده المؤمنين. هكذا يقرر الكلام هنا والقول في هذا الموضع، لا ما زعمه من خسف الله قلبه، فعكس القضية، وراغم الأدلة الشرعية، والقوانين المحمدية، فبعداً لقوم لا يؤمنون. وأما قوله: (إن تكفيرها حذَّر منه نبيها صلى الله عليه وسلم غاية التحذير) .(27/15)
فيقال: إن زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر عن تكفير من أتى ما يوجب الكفر ويقتضيه ممن بدّل دينه، فهذا مكابرة وجحد للضروريات والحسيّات، وقائله إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى تلاوة الآيات والأحاديث، وحكاية الإجماع، وفعل الأمة طبقة طبقة وقرناً قرناً. وإن أراد أن النهي عن تكفير عموم الأمة وجميعها: فهذا لم يقله أحد، ولم نسمع به عن مارق ولا مبتدع، وهل يقول هذا من له عقل يدرك به ويعرف ما في الأمة من العلم والإيمان والدين؟ وأما بعض الأمة فلا مانع من تكفير من قام الدليل على كفره كبني حنيفة، وسائر أهل الردة في زمن أبي بكر، وغلاة القدرية والمارقين الذين مرقوا في زمن علي رضي الله عنه وغلوا فيه، وهكذا الحال في كل وقت وزمان، ولولا ذلك لبطل الجهاد وترك الكلام في أهل الردة وأحكامهم، وفي هذا القول ما تقدم من تسفيه جميع الأمة، وتجهيل علمائها الذين كفّروا بكثير من الأحداث والمكفِّرات، وفيه أنهم لم يسلكوا الطريق الواسع، ولم يفهموا الحديث عن نبيهم . وبالجملة: فهذا المعترض مموّه بلفظ الأمة مُلَبِّس " .
- وقال – رحمه الله - : " واعلم أن هذا المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد؛ بل ظن أنه مجرَّد قول بلا معرفة ولا اعتقاد، وإلا فالتصريح بالشهادتين والإتيان بهما ظاهراً هو نفس التصريح بالعداوة والبغضاء، وما أحسن ما قيل: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم.(27/16)
ولأجل عدم تصوره أنكر هذا، وردّ إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره، وإجراء الحكم مع علته، واعتقد أن من عبد الصالحين ودعاهم وتوكل عليهم وقرَّب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله ويبني المساجد ويصلي، وأن ذلك يكفي في الحكم بالإسلام ولو فعل ما فعل من الشركيات !! وحينئذٍ فالكلام مع هذا وأمثاله في بيان الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وحكم بأنه لا يغفر، وأن الجنة حرام على أهله، وفي بيان الإيمان والتوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وحرم أهله على النار، فإذا عرف هذا وتصوره تبيَّن له: أن الحكم يدور مع علَّته، وبطل اعتراضه من أصله، وانهدم بناؤه " .
- وقال – رحمه الله – موجهًا حديثه إلى من هم سلفٌ للمالكي : " ما تقول في الغالية الذين حرَّقهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بمشهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! أهم من الثنتين والسبعين فرقة أم لا؟ وما تقول في مانعي الزكاة الذين قاتلهم الصديق وأجمعت الصحابة على تكفيرهم، أهم من الثنتين والسبعين فرقة أم لا ؟ وكذلك بنو حنيفة، وبنو عبيد القداح ملوك مصر والمغرب، فإن دخلوا في الثنتين والسبعين فرقة بطل تأسيسك وانهدم أصلك الفاسد، وإن لم يدخلوا كما هو الصحيح بطل إدخالك أمثالهم من عُبَّاد القبور في مسمى الأمة في هذا الحديث، وثبت أن من الفرق من يخرج عن الملة ويرتد بما خالف فيه من نحلته " .
وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بو طامي : "ونحن نسأل هؤلاء المنتقدين: ما حكم من تشهد بالشهادتين وصلى وصام وحج البيت الحرام وكثيراً ما تصدق على الفقراء والمساكين ويعمل أعمال البر، ولكن أخذ ورقة من أوراق المصحف الشريف وألقاها في القاذورات وهو يعرف أن هذا لا يجوز، بل هذا كفر ولكنه عمل هذا مع أنه قد أتى بتلك الأعمال الجليلة كما سبق ذكره.(27/17)
فما يكون موقف هؤلاء؟ هل يقولون إنه مسلم لأنه تشهد بالشهادتين وصلى وصام؟ أو يقولون إنه كافر؟ فإن قالوا هو مسلم فقد خالفوا الإسلام وإجماع المسلمين، وسأورد للقارئ من نصوص العلماء ما يبين خطأهم وضلالهم. وإن قالوا كافر فقد نقضوا قولهم وانهار أساسهم حيث أنهم خطأوا الوهابيين على زعمهم وبدعواهم لأنهم يُكفرون من يستغيث بغير الله، أو ينذر لغير الله ولم يراعوا أنه تشهد بكلمة الشهادتين، فهاهم كفروا من كان مسلماً على زعمهم ولم يلتفتوا إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم تشفع له أعماله الجليلة عندهم.
وها أنا ذا أنقل للقراء من كلام العلماء أتباع المذاهب الأربعة في تكفير من أتى بشيء مما سيأتي بيانه". – ثم ذكر ما تيسر منها - .
تمهيد ( 4 ) : عدم فهم المخالفين لحقيقة العبادة
إن المناوئين لدعوة الشيخ – ومنهم المالكي ومن تأثر به - يعترفون أن الشرك الذي حرمه الله - عز وجل – هو صرف " العبادة " لغير الله ، ولكنهم يُخرجون بعض أفرادها ؛ كالدعاء أو الذبح أو النذر . وهم بهذا وقعوا في جهل وتناقض ؛ جهل بحقيقة العبادة ومعناها ، وتناقض عندما فرقوا بين المتماثلات .(27/18)
وفي هذا يقول الشيخ عبدالله أبا بطين – رحمه الله - عن أحد هؤلاء الخصوم : " فإنه مع اعترافه بأن الشرك الذي حرمه الله هو الشرك في العبادة ، لا يعرف حد العبادة وحقيقتها ، وربما قال : العبادة التي صرفها لغير الله شرك : الصلاة والسجود . فإذا طُلب منه الدليل على أن الله سمى الصلاة لغيره أو السجود لغيره شركًا ، لم يجده ، وربما قال : لأن ذلك خضوع ، والخضوع لغير الله شرك ! فيقال له : هل تجد في القرآن أو السنة تسمية هذا الخضوع شركًا ؟ فلا يجده . فيلزمه أن يقول : لأنه عبادة لغير الله . فيقال : وكذلك الدعاء والذبح والنذر عبادات ، مع ما يلزم هذه العبادات من أعمال القلوب : من الذل والخضوع والحب والتعظيم والتوكل والخوف والرجاء وغير ذلك " .
تمهيد ( 5 ) : خلط المناوئين للشيخ بين " التوسل " البدعي والشركي ! ثم افتراؤهم على الشيخ أنه يُكفر بالأول !
إن المناوئين لدعوة الشيخ يخلطون بين " التوسل " البدعي المختلف فيه ، وبين " الاستغاثة " أو " الشفاعة " الشركية ؛ تلبيسًا على المسلمين ؛ فيسمون الثاني باسم الأول ؛ ثم يضيفون لهذا الخلط والتلبيس افتراء وبهتانًا على الشيخ أنه يُكفر " المتوسل " ! فيظن المسلمون ويصدقون أنه يُكفر من وقع في التوسل المختلف فيه ، وهذا ما يريده الخصوم ! – وقد تابعهم المالكي في هذا البهتان للأسف رغم ادعائه العقيدة السلفية !!
- يقول الدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف في رسالته " دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب " : " لقد استغل الخصوم هذا الإجمال والاشتراك في لفظ التوسل، فقبلوا الحقائق، وأجازوا دعاء الموتى، والاستغاثة بهم باسم التوسل، ثم زعموا أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بالأنبياء والصالحين !!(27/19)
إن الشيخ الإمام كفّر من استغاث بالأموات سواء كانوا أنبياء أو أولياء ولو سميت تلك الاستغاثة توسلاً، فالعبرة بالحقائق والمعاني وليست بالأسماء والمباني، فالتوسل عند عبّاد القبور يطلقونه على الاستغاثة بالموتى وطلب الحاجات منهم –كما تقدم-. وأما دعوى أن الشيخ كفّر من توسل بالصالحين، بمعنى سؤال الله بجاه هؤلاء الصالحين فقد أجاب الشيخ الإمام على تلك الدعوى –رداً على ابن سحيم- فقال: "فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر وذكر الشيخ الإمام منها- قوله: أني أكفر من توسل بالصالحين، وجوابي أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم" .
ووضح حفيده الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب الفرق بينهما بقوله: " اعلم أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه، فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وادخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك فهذا بدعة ليس شرك، وسؤاله ودعاؤه هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة وأنا في كرب شديد، فرّج عني، واستجرت بك من فلان فأجرني ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه من الملة؛ لأنه صرف حق الله لغيره؛ لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك، والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله فافهم ذلك " .(27/20)
وقال الشيخ عبدالله أبابطين – رحمه الله – : " فإذا علم الانسان وتحقق معنى الإله وأنه المعبود ، وعرف حقيقة العبادة ، تبين له أن من جعل شيئًا من العبادة لغير الله فقد عبده واتخذه إلهًا ، وإن فر من تسميته معبودًا أو إلهًا ، وسمى ذلك توسلا وتشفعًا أو التجاءً ونحو ذلك . فالمشرك مشرك شاء أم أبى ، كما أن المرابي مرابٍ شاء أم أبى ، وإن لم يُسمّ ما فعله ربًا ، وشارب الخمر شاربٌ للخمر وإن سماها بغير اسمها ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يأتي ناسٌ من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها " ، فتغيير الاسم لايُغير حقيقة المسمى ولايُزيل حكمه " .
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن – رحمه الله - : " تلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين ، بأن دس عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية ، والألفاظ اللغوية ؛ فسموا الشرك وعبادة الصالحين توسلا ونداء وحُسن اعتقاد في الأولياء وتشفعًا بهم واستظهارًا بأرواحهم الشريفة ؛ فاستجاب له صبيان العقول وخفافيش البصائر ، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق " .(27/21)
وقال - أيضًا - : " اعلم أن مسألة الله بجاه الخلق نوع، ومسألة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله نوع آخر، فمسألة الله بجاه عباده منعها أهل العلم، ولم يجزها أحد ممن يعتد به، ويقتدى به كالأئمة الأربعة، وأمثالهم من أهل العلم والحديث، إلا أن ابن عبد السلام أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقيّده بثبوت صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع يا محمد الحديث قال ابن عبدالسلام إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة. إلى أن قال الشيخ عبداللطيف: وبالجملة فهذه المسألة نوع، ولا يخرج بها الإنسان عن مسئلة الله، وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله... فسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، ولو قال يا ولي الله اشفع لي فإن نفس السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم بشبه قول النصارى يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك.
وقال الشيخ حمد بن عتيق - رحمه الله - : " المسألة الثالثة ؛ وهي مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهو أن يقول القائل : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فهي مسألة مشهورة ، والكلام فيها معروف .. – إلى أن يقول – ونحن وإن قلنا بالمنع من التوسل به صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أو نحوه لما نعتقده من أصحية المنع ، فنحن مع ذلك لا نشدد في ذلك على من فعله مستدلا بالحديث ؛ فضلا عن أن نكفره ، كما ينسبه إلينا من لم يعرف حقيقة ما نحن عليه " .(27/22)
وقال الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله – رادًا على أحد الشانئين ممن شابههم المالكي في الافتراء : " قد كان من المعلوم أن الوهابية لا يقولون إن التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه وحقه وزيارة قبره الشريف شركٌ بالله ، بل هذا من الكذب الموضوع على الوهابية ، وهم – ولله الحمد – فيما يقولون وينتحلون على صراط مستقيم ، ولايقولون بجهل الجاهلين وانتحال المبطلين الزائغين عن الدين القويم ، بل يقولون إن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المحرمة المحدثة في الإسلام ؛ لأنه لم يرد نصٌ عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا من بعدهم من سلف الأمة وأئمتها المهتدين ... " ثم وضح – رحمه الله – الفرق بين التوسل البدعي والاستغاثة الشركية .
وقال الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ : " التوسل بالأموات قسمان : قسم محرم لا يجوز ؛ كأن تقول : اللهم إني أتوسل إليك بفلان ، وقسم شرك لا يُغفر ؛ كأن يقول القائل : يا سيدي يا بدوي أنا في حسبك ، أنا في عرضك ، اشفع لي ، يا سيدي الحسين اشفع لي ، فهذا شرك ؛ لأن الشفاعة ملك لله ، ولا تُطلب إلا منه " .
وأختم بجواب رائع للشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ – حفظه الله – يجلي هذا الأمر الذي حاول المخالفون الخلط فيه :
" سؤال: ما الفرق بين التوسل والشفاعة، نرجو التوضيح وجزاكم الله خيراً.(27/23)
الجواب: التوسل هو اتخاذ الوسيلة، والوسيلة: هي الحاجة نفسها، أو ما يوصل إلى الحاجة وقد يكون ذلك التوسل باستشفاع، يعني: بطلب شفاعة؛ بمعنى أنه يريد أن يصل إلى حاجته –بحسب ظنه- بالاستشفاع، وقد يروم التوصل إلى حاجته –بحسب ظنه- بغير الاستشفاع؛ فيتوسل مثلاً بالذوات فيسأل الله بذات فلان، أو بجاهه، أو بحرمته، مثل أن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد –بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- أو يقول: اللهم إني أسألك بأبي بكر، أو بعمر، أو بالإمام أحمد، أو بابن تيمية، أو بالولي الفلاني، أو بأهل بدر، أو بأهل بيعة الرضوان، أو بغيرهم. فهذا هو الذي يسمونه توسلاً، وهذا التوسل معناه: أنه جعل أولئك وسيلة، وأحياناً يستعمل في التوسل لفظ: الحرمة، والجاه، فيقول: أسألك بحرمتهم، أو أسألك بجاههم، ونحو ذلك .
أما الاستشفاع: فهو أن يسألهم الشفاعة أي: يطلب منهم أن يشفعوا له.
فتحصل من ذلك: أن التوسل يختلف عن الاستشفاع، في أنَّ المستشْفِع: طالب للشفاعة، وقد علم أن الشفاعة إذا طلبها من العبد يكون قد سأل غير الله، وأما المتوسل –بحسب عُرْف الاستعمال- فإنه يسأل الله، لكن يجعل ذلك بوسيلة أحدٍ.
فالاستشفاع: سؤال لغير الله، وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان، أو بحرمته، أو بجاهه: وكل هذا لا يجوز؛ لأنه اعتداء في الدعاء؛ ولأنه بدعة محدثة ووسيلة إلى الشرك، وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء، كالميت، أو الغائب، أو نحوهما: فهو شرك أكبر؛ لأنه طلب ودعاء لغير الله.
فالتوسل –بحسب العرف- هو من البدع المحدثة، ومن وسائل الشرك، وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله، وهو شرك أكبر.(27/24)
لكن الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون جميع عباداتهم الشركية –من طلب الشفاعة، والذبح، والنذر، والاستغاثة بالموتى، ودعائهم- توسلاً وهذا غلط في اللغة، والشرع معا، فالكلام في أصله لا يصح؛ فإن بين التوسل والشفاعة فرقاً من حيث مدلول المعنى اللغوي، فكيف يسوى بينهما في المعنى؟! أما إذا أخطأ الناس وسموا العبادات المختلفة توسلاً فهذا غلط من عندهم، لا يتحمله الشرع، ولا تتحمله اللغة " .
تمهيد ( 6 ) : خصوم الدعوة كفّروا الشيخ – رحمه الله – وأتباعه ، وبادروهم بالقتال
وهذا مالايذكره المناوئون للدعوة عند حديثهم عنها ! لأنه يناقض ويعارض ما يحاولون إشاعته . وقد اعترف بهذا المؤرخون :
- لقد اتخذ أشراف مكة موقفاً عدائياً من دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية على حد سواء منذ البداية. فقد سجن أحد أولئك الأشراف الحجاج التابعين للدولة السعودية سنة (1162هـ) .
وأصدر قاضي الشرع في تلك البلدة المقدسة فتوى بتكفير الشيخ محمد وأتباعه.
ولذلك مُنِعوا من أداء الحج سنوات طويلة. وكم كانت فرحة الشيخ عظيمة عندما تلقى رسالة من الشريف أحمد بن سعيد عام (1185هـ)، طالباً منه بعث عالم نجدي لشرح الدعوة التي نادى بها. وقد أرسل إليه الشيخ تلميذه عبدالعزيز الحُصيِّن. وبعث معه رسالة تنبئ عبارتها بما كان يختلج في نفسه من مشاعر طيّبة تجاه ذلك الشريف، وما كان يملأ جوانحه من آمال في مناصرته لدعوة الحق. قال الشيخ:(27/25)
"بسم الله الرحمن الرحيم. المعروض لديك، أدام الله فضل نِعَمه عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد - أعزَّه الله في الدارين، وأعزَّ به دين جده سيد الثقلين-، أن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمَّل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها. وهذا هو الواجب على ولاة الأمور... فلا بدَّ من الإيمان به - أي بالنبي صلى الله عليه وسلم- ولابد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذين بعثه الله منهم، وشرَّفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم".
على أن هذه الرسالة اللطيفة لم تُجن منها الثمار المرجوَّة؛ ذلك أن الشريف أحمد نفسه لم يبق في الحكم أكثر من سنة، فتلاشى ما دار في ذهن الشيخ من أمل، واستمر منع أنصاره من أداء الحج، ومع مرور الأيام لم يكتف أشراف مكة بذلك المنع؛ بل بدأوا بمهاجمة الأراضي النجدية التابعة للدولة السعودية عام (1205هـ/1790م). وكانت النتيجة أن انتصر السعوديون في نهاية المطاف على أولئك الأشراف حتى دخلت الحجاز تحت حكمهم. ولم يكن موقف زعماء بني خالد من دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية أقل عداوة من موقف أشراف مكة .(27/26)
- يقول زيني دحلان القبوري : " وكان أهل الحرمين يسمعون بظهورهم - أي الشيخ محمد وأتباع دعوته - في الشرق وفساد عقائدهم ولم يعرفوا حقيقة ذلك، فأمر مولانا الشريف مسعود أن يناظر علماء الحرمين العلماء الذين أرسلوا فناظروهم فوجدوهم ضحكة ومسخرة كحمر مستنفرة فرت من قسورة، ونظروا إلى عقائدهم فإذا هي مشتملة على كثير من المكفرات ، فبعد أن أقاموا عليهم البرهان والدليل أمر الشريف مسعود قاضي الشرع أن يكتب حجة بكفرهم الظاهر ليعلم به الأول والآخر وأمر بسجن أولئك الملاحدة الأنذال، ووضعهم في السلاسل والأغلال فسجن منهم جانباً وفرَّ الباقون ووصلوا إلى الدرعية وأخبروا بما شاهدوا ،فعتى أمرهم واستكبر، ونأى عن هذا المقصد وتأخر، حتى مضت دولة الشريف مسعود وأقيم بعده أخوه الشريف مساعد بن سعيد، فأرسلوا في مدته يستأذنون في الحج فأبى وامتنع من الإذن لهم فضعفت عن الوصول مطامعهم ،فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلد الأمر أخوه الشريف أحمد بن سعيد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه كما أرسل في المدة السابقة.
فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة فأبى أن يقر لهم في حمى البيت الحرام قرار ،ولم يأذن لهم في الحج بعد أن ثبت عند العلماء أنهم كفار، كما ثبت في دولة الشريف مسعود.(27/27)
فلما أن ولي الشريف سرور أرسلوا أيضاً يستأذنونه في زيارة البيت المعمور فأجابهم: بأنكم إن أردتم الوصول آخذ منكم في كل سنة وعام صرمة مثل ما نأخذها من الأعاجم وآخذ منكم زيادة على ذلك مائة من الخيل الجياد ،فعظم عليهم تسليم هذا المقدار وأن يكونوا مثل العجم فامتنعوا من الحج في مدته كلها، فلما توفي وتولى سيدنا الشريف غالب أرسلوا أيضاً يستأذنون في الحج فمنعهم وتهددهم بالركوب عليهم ،وجعل ذلك القول فعلاً ،فجهز عليهم جيشاً في سنة ألف ومائتين وخمسة، واتصلت بينهم المحاربات والغزوات إلى أن انقضى تنفيذ مراد الله فيما أراد وسيأتي شرح تلك الغزوات والمحاربات بعد توضيح ما كانوا عليه من العقائد الزائغة التي كان تأسيسها من محمد بن عبدالوهاب.
إلى أن يقول معترفًا : " والحاصل أنه – أي الشيخ محمد - لبَّس على الأغبياء ببعض الأشياء التي توهمهم بإقامة الدين، وذلك مثل أمره للبوادي بإقامة الصلاة والجماعة ومنعهم من النهب، ومن بعض الفواحش الظاهرة كالزنا واللواط، وكتأمين الطرق والدعوة إلى التوحيد، فصار الأغبياء الجاهلون يستحسنون حاله وحال أتباعه " .
- وقال الشيخ محمد - رحمه الله – في رسالته لأهل المغرب : " وأما: ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها واتخاذها أعياداً، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" رواه مسلم(27/28)
وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً: أنه بعث علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا: هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا، وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم ، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ؛ ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) " .
- وقال الشيخ عبد الله بن الإمام محمد – رحمهما الله - : "وهذا الدين الذي ندعو إليه، قد ظهر أمره وشاع وذاع، وملأ الأسماع، من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا، وخرّجونا، وعادونا عنده، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات، حتى غُلبوا وقُهِروا، فعند ذلك أذعنوا وأقروا بعد الإنكار" .(27/29)
- وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، مقرراً منهج جده –الإمام محمد- في مسألة القتال، ومزيلا للشبه في ذلك:" الشيخ لم يبدأ أحداً بالقتال، بل أعداؤهم الذين ابتدأه بذلك، وقتاله كان من باب الدفع والمجازاة على السيئة بمثلها، وما حدث بعده أو في وقته من خطأ أو تعد، فلا يجوز نسبته إليه، وأنه أمر به أو رضيه، وقد جرى لأسامة بن زيد في دم الجهني، وجرى لخالد بن الوليد في دماء بني جذيمة، وأموالهم ما لا يجهله أهل العلم والإيمان.
وذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد برئ منه وأنكره، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، وقال لأسامة "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة؟" .
ومن أشكل عليه أمر القتال في زمن الشيخ، وعلى دعوته، فهو إما جاهل بحال الأعداء وما قالوه في الإسلام، وما بدلوه من الدين، وما كانت عليه البوادي والأعراض من الكفر بآيات الله، ورد أحكام القرآن، والاستهزاء بذلك، والرجوع إلى سوالف البادية، وما كانت عليه من العادات والأحكام الجاهلية... أو هو جاهل بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، لا شعور له بشيء من ذلك، ولا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم ؟
وبالجملة: فالواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، ومن فاته العلم، فحسبه السكوت، إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن خلع ربقة الدين من عنقه، فليقل ما شاء، والله بما يعملون بصير " .
- وقال الدكتور ناصر العقل عن الشيخ وأتباع الدعوة :(27/30)
" 1- إن خصومهم هم البادئون بالقتال بإعلان الحرب المسلحة وغير المسلحة على الدعوة ودولتها وأتباعها، بل أعلنت قوى الشر استعمال القوة والقتال للشيخ وأتباعه قبل وصوله الدرعية وقبل أن يكون لهم كيان ،حيث هدده سليمان بن محمد الحيدي في الأحساء (من بني خالد) وأنذر عثمان بن معمر -أمير العيينة- إن لم يتخذ موقفاً حازماً ضد الشيخ الإمام وكذلك فعل ابن شامس العنزي. ) انظر : حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، لخزعل ، ص 14) . ثم لما استقرت الدعوة في الدرعية بدأها بالحرب دهام بن دواس أمير الرياض آنذاك.
2- إن الخصوم كانوا كثيراً ما يغدرون بأتباع الدعوة من الدعاة القضاة والعلماء وطلاب العلم والمعلمين الذين كان يبعثهم الشيخ محمد والولاة والمشايخ –المؤيدين للدعوة- للقرى والبادية والأقاليم لتعليم الناس دينهم وإجراء الأحكام الشرعية بينهم ،بل كثيراً ما يعلنون العصيان على الحاكم الإمام محمد بن سعود، وينقضون البيعة والعهد، ويخرجون على الجماعة والإمام، وهذا ما يحرمه الإسلام، ويأمر بتأديب من يفعله.
3- وكان حكام الحجاز غالباً يعلنون العداء لدعوة التوحيد وأتباعها وكانت عداوتهم متنوعة عقدية وسياسية وإعلامية ثم عسكرية، وأحياناً يقتلون بعض العلماء والدعاة بل والرسل الذين يبعثهم أهل الدعوة إليهم.
4- وكانوا يمنعونهم من حقوقهم المشروعة كإبلاغ الدعوة، وكأداء فريضة الحج، فقد منعوهم منه سنين طويلة ثم أذنوا فيه سنة (1197هـ)، ثم الشريف غالب منعهم من الحج مرة أخرى منذ سنة (1203هـ) وما بعدها ثم غزا معتدياً، فقد بدأ الشريف غالب وغيره من حكام الحجاز الحرب على الدعوة وأتباعها قبل أن يبدؤوهم.
وأعلن الحرب المسلحة ضدهم، وقد اعترف خصوم الدعوة بذلك وذكره مؤرخوهم معتزين به. ( انظر : خلاصة الكلام لدحلان ، ص 228-229) .(27/31)
وعلى هذا فإنه عند التحقيق العلمي المتجرد يثبت قطعاً أن ما يقال عن الإمام وعلماء الدعوة وحكامها (آل سعود) وأتباعها حول التكفير واستحلال قتال المسلمين ودمائهم كلها مما لا يصح ،أو مما قد يكون له وجه شرعي معتبر قام عليه الدليل الشرعي، ذلك أن تكفير من يستحق التكفير شرعاً وسب من يستحق السب شرعاً ليس من التكفير والسب المذموم ولا القسوة، بل مما هو مطلوب شرعاً في الدين الإسلامي بشروطه وضوابطه التي يعرفها الراسخون في العلم. إذن فقد ثبت أنهم لم يبدءوا القتال ولم يقاتلوا ابتداء إنما بدأ القتال خصومهم.
ثم إنه من الطبيعي أن اختيار منهج القوة والحزم والقتال عند الضرورة هو الحل الأمثل في كثير من الأحوال ،ومنها الحال التي وصلت إليها الدعوة مع خصومها. ونظراً لقوة الباطل والهوى وتمكنه من قلوب كثير من الناس وحياتهم لم تقبل نفوسهم الحق ولم تذعن لأهله. كما أن الناظر لحال كثيرين من الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها تشنيعاً على الدعوة وأتباعها في شبهة التكفير يجد العجب من تحيزهم ضد السنة وأهلها في هذه المسألة (وغيرها) وإغفالهم لأهل البدع الخلص الذين يكفرون خيار الأمة؛ فيكفرون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزاوجه أمهات المؤمنين، ويكفرون السلف الصالح.
بل إن أكثر مزاعم التكفير والتشدد التي ألصقت بالدعوة وإمامها حدثت من الرافضة الذين يكفرون خيار الأمة ويستنقصونهم، ومن أشياعهم الذين يشاركونهم في بدع المقابرية والقباب والمشاهد والمزارات البدعية، والطرق الصوفية والموالد والأذكار المحدثة، ومن المعلوم لدى كل باحث ومحقق: أن أصل هذه البدع ومنشأها كان من مكفّرة الصحابة والسلف الصالح، فأين العدل والإنصاف والتحقيق الذي يدّعونه؟، وأين الغيرة على الحق والدين وعلى الأولياء والصالحين التي يزعمونها؟ وهم يهينون الصالحين ببدعهم. وأين النصح للمسلمين الذي يتظاهرون به؟! وهم يروجون البدع وينصرونها " .(27/32)
- ثم نقل عن المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي قوله في تاريخه عن جيش إبراهيم باشا عدو الدعوة : " ولما وصلوا بدراً واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف، وبها خيار الناس، وبها أهل العلم الصلحاء : نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم فكانوا ..يبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون :هؤلاء الكفار الخوارج".
- ويقول الشيخ فوزان السابق : " إن الوهابين لم يبدأوا أحداً بالقتال، ولم يعتدوا على جيرانهم بالحجاز والعراق، حتى غزاهم جيرانهم في عقر دارهم، ومنعوهم من حج بيت الله الحرام، حتى آل الأمر إلى تجذيب النساء مع الرجال من تحت أستار الكعبة في وقت الشريف مسعود وبعده، فلما حيل بينهم وبين أداء ركن من أركان الإسلام تعين عليهم الجهاد. فلما مكن الله لهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، لا كما يقول المعترض المفترى.(27/33)
وهذا ما ذكره العلامة محمود فهمي المصري في كتابه البحر الزاخر. قال رحمه الله تعالى: ومع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد بالعرب لم يعتدوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم، وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت قوافل الحجاج تمر من وسط أراضيهم من غير أن يحصل لأي قافلة ضرراً أو انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة، وفي سنة 1781 بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة، فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الغيرة والحسد في قلب الشريف غالب، وفي ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة، وتوظفه شريف مكة بعد الشريف سرور: أعلن حرباً على الوهابية، وكانت طرائق هذا الحرب مثل طرائق حرب البدو، متقطعاً بهدنات صغيرة قصيرة المدة، ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع الدولة التركية العثمانية، لم يهمل أدنى طريقة يمكنه إجراءها في تمكين الدولة العثمانية من إدخال عساكرها في بلاد العرب لأجل الوقوع بالوهابين، إلا وأجراها، وادعى أنهم من الملحدين الكافرين " .
تمهيد ( 7 ) : واقع أهل نجد قبل دعوة الشيخ محمد – رحمه الله -(27/34)
ظن المناوئون للدعوة – ومن اغتر بكلامهم – أن علماء الدعوة ومؤرخيها بالغوا في وصف حال نجد قبل قيام الشيخ محمد – رحمه الله – بدعوة التوحيد ؛ من حيث انتشار الممارسات البدعية والشركية ، وزعموا أن هذا من المبالغات المقصودة المخالفة للواقع لأجل مدح الشيخ أوالدعوة و التماس العذر له فيما قام به ! ثم فهم بعضهم من تلك العبارات أن الشيخ أو علماء الدعوة يُكفرون بالعموم ! وهذا جهلٌ ومغالطة . ولو أنصف هؤلاء لعلموا أن ما نُقل من المعارضة والمخاصمة للشيخ – سواء بواسطة التآليف أو القتال – دليلٌ واضح على حال البلاد قبل دعوة الشيخ ، وإلا فلماذا هذا الاستنكار الواسع لها والمدافعة لو كان الناس ذاك الوقت على حالٍ مستقيمة مرضيّة ؟! كيف وقد شهد لهذا الحال الكئيب مؤرخو تلك الفترة ممن هم أوثق من المناوئين جميعًا ؟! .
ولو عقل هؤلاء – أيضًا – لعلموا أن وصف انتشار الجهل المنتشر والمخالفات الشرعية لا يعني تكفير الناس بالعموم -كما يدعون - ، فشتان بين الأمرين . وهذا يُدركه أهل العلم المنصفون الذين يُنزلون الألفاظ منزلها المناسب ، دون تزيد أو تضخيم . ويلزم هؤلاء المدعون أن يحكموا بهذا الحكم الشنيع على كل من وصف حال الأمة – في فترة من فترات الجهل والإعراض عن دين الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم – بأنه يُكفر الناس . فهل يلتزمون هذا ؟ لا أظن ذلك ؛ لأن مؤلفات العلماء – سنيّهم ومبتدعهم – لا تخلو منه .
مثلا : - ما قول المالكي في قول إمام الزيدية ! الهادي بن الحسين في إحدى رسائله : " .. فقد تراكمت الفتن ، وجَل ما نحن فيه من تعطيل الكتاب والسنة ، وظهور السِفاح وخمول النكاح ، وظهور الرويبضة من الناس ، وشرب الخمور ، وارتكاب الشرور ، وأكل الربا ، وقبول الرشا ، والجري في ميادين الهوى ، وجور السلطان ونهج الشيطان ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. " .(27/35)
- وما قوله في ما ذكره الإمام الزيدي الآخر ! إدريس بن عبدالله في إحدى رسائله : " وأذكركم الله في أرامل افتقرت ، ويتامى ضُيعت ، وحدود عُطلت ، وفي دماء بغير حق سُفكت ، فقد نُبذ الكتاب والإسلام ؛ فلم يبق من الإسلام إلا اسمه ، ومن القرآن إلا رسمه " .
- وما قوله في ما قاله ابن حجر الهيتمي في مقدمة رسالته " الزواجر عن اقتراف الكبائر " : " .. دعاني ذلك مع ما تفاحش من ظهور الكبائر ، وعدم أنفة الأكثر عنها في الباطن والظاهر ، لما أن أبناء الزمان وإخوان اللهو والنسيان قد غلبت عليهم دواعي الفسوق ، والخلود إلى أرض الشهوات والعقوق .. الخ ".
- وماقوله فيما أخبر به الشوكاني – رحمه الله – عن أبناء عصره عندما قال – وكأنه يرد على المالكي - : " ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالا ؛ فليخبرنا ما معنى ما يسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم : يا ابن العجيل ، يا زيلعي ، يا ابن علوان ، يا فلان بن فلان ، وهل يُنكر هذا منكر ؟ أو يشك فيه شاك ؟ وما عدى ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم ، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه ، وفي كل مدينة جماعة منهم ، حتى إنهم في حرم الله ينادون : يا ابن عباس ، يا محجوب ، فماظنك بغير ذلك ؟ " . ثم قال : " واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيرًا مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركًا ، قد يخفى على كثير من أهل العلم ؛ وذلك لا لكونه خفيًا في نفسه ، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر ، وكونه قد شاب عليه الكبير ، وشب عليه الصغير ، وهو يرى ذلك ويسمعه ، ولا يرى ولا يسمع من ينكره .. " .وما قوله فيما ألفه العلماء من كل المذاهب في التحذير من البدع والشركيات التي أخبروا عن انتشارها في عصرهم ؛ كأبي شامة وابن وضاح والشاطبي والسيوطي وعلي محفوظ والقاسمي وغيرهم ؟
تمهيد ( 8 ) : أصول الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله - في قضية التكفير.
حمل الكتاب من هنا(27/36)
حكم الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية
نص السؤال
المكرم فضيلة الشيخ : صالح بن فوزان الفوزان :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ماقول فضيلتكم في الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية ؟ وهو الفكر الذي يدعو إلى الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي ، فيساوي بين المسلم والكافر بدعوى التعددية ، ويجعل لكل فرد حريته الشخصية التي لا تخضع لقيود الشريعة كما زعموا ، ويحاد بعض الأحكام الشرعية التي تناقضه ؛ كالأحكام المتعلقة بالمرأة ، أو بالعلاقة مع الكفار ، أو بإنكار المنكر ، أو أحكام الجهاد .. الخ الأحكام التي يرى فيها مناقضة لليبرالية . وهل يجوز للمسلم أن يقول : ( أنا مسلم ليبرالي ) ؟ ومانصيحتكم له ولأمثاله ؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد : فإن المسلم هو المستسلم لله بالتوحيد ، المنقاد له بالطاعة ، البريئ من الشرك وأهله . فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي ؛ هذا متمرد على شرع الله ، يريد حكم الجاهلية ، وحكم الطاغوت ، فلا يكون مسلمًا ، والذي يُنكر ما علم من الدين بالضرورة ؛ من الفرق بين المسلم والكافر ، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة ، ويُنكر الأحكام الشرعية ؛ من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومشروعية الجهاد في سبيل الله ، هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام ، نسأل الله العافية . والذي يقول إنه ( مسلم ليبرالي ) متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذُكر ، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الأفكار ؛ ليكون مسلمًا حقًا .
صورة الفتوى
تعليق
جزى الله الشيخ صالح الفوزان خير الجزاء عن إجابته ، وهو صاحب الجهود المعلومة في الرد على من تأثر بالليبرالية من الصحفيين - هداهم الله - .
وظني - والله أعلم - أن الليبراليين لدينا ثلاثة أصناف :(28/1)
1- الصنف الأول - وهو أسوؤهم - : من يعرف مناقضة الليبرالية لكثير من أحكام الإسلام ، لكنه - وللأسف - يستمر في الدعوة إليها ، ويرتضيها معتقدًا ، ويُقبل عليها على علم ، فهذا قد باع دينه بها ، ومعلومٌ حكم هذا ومآله - نسأل الله العافية - .
2- الصنف الثاني : مقلد ، يردد هذه الكلمة دون فهم لما تدل عليه وما يترتب عليها ، فهو مفتون بكل فكرة غريبة ، إما بدعوى حب الشذوذ ، أو لانخداعه بكلمة ( الحرية ) التي تقوم عليها هذه الفكرة ، فيظن أنها لا تُخالف الإسلام ، ومعلومٌ أن الإنسان مجبول على حب الحرية ؛ لكنه بين حرية يقيدها الشرع أو حرية تقيدها الأحكام الوضعية ( لأنه لا يوجد حرية دون قيود ) ، فإن تقيدت حريته بحدود الشرع محتسبًا الأجر من الله فقد فاز ، وإن تقيدت حريته بالأحكام الوضعية متعديًا حدود الشرع ؛ فقد خاب وخسر ، والاثنان يجمعهما قوله تعالى : ( تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك الفوز العظيم . و من يعصِ الله و رسوله و يتعد حدوده يُدخله نارًا خالدًا فيها و له عذاب مهين ) .
3- الصنف الثالث : من يعرف مناقضة الليبرالية لكثير من أحكام الإسلام ، لكنه يقول : أنا سأقيد هذه الليبرالية بأحكام الشرع ، وسأنبذ كل مايخالفه فيها ، وهذا نيته طيبة ، لكنه متناقض ؛ لأنه إذا قيد الليبرالية بقيود الشرع خرجت عن كونها ليبرالية ! فلاداعي لأن يدعو لها ويعتنقها وهو يخالف أساساتها السابقة في السؤال ، وهذا يذكرني بمن يدعو للديمقراطية من المسلمين - كالقرضاوي - ويقول : سأقيدها - أيضًا بأحكام الشرع - فلن أقبل مثلا التصويت على أمر قد حكم فيه الشرع ، وهذا كالأول متناقض ؛ لأنه إذا قيدها بما سبق خرجت عن كونها ديمقراطية !
أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، ويجعلنا ممن قال الله فيهم : ( اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينًا ) .(28/2)
أبحاث ومقالات عن الليبرالية(28/3)
تعقيبان عقديّان .. على الشيخ علي الحلبي - وفقه الله -
هذان تعقيبان عقديّان على الشيخ علي الحلبي – وفقه الله - ، أنشرهما بسبب نشر كتابيه المُتعقب عليهما :
التعقب الأول : أشرف الشيخ على طبع كتاب " النهاية في غريب الحديث " لابن الأثير ، دار ابن الجوزي – 1421، لكن فاته التعليق على موضعين تأول فيهما ابن الأثير صفتَين من صفات الله . وكان الأحرى به أن لا يتعجل بوضع اسمه على كتاب لم يقرأه بعناية ( حدث له هذا أيضًا في تحقيقه لتاريخ ثَغْر عدن ) وليته اطلع على بحث قديم نُشر في مجلة البحوث الإسلامية ، ( العدد31) بعنوان " تأويل الصفات في كتب غريب الحديث " ، للشيخ بدر الزمان النيبالي . لكان استفاد وأفاد بتبيين خطأ ابن الأثير .
1- قال ابن الأثير تحت لفظة " قدم " : ( هـ -وفي صفة النار : " حتى يضع الجبار فيها قدمه " أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه ... الخ تأويلاته ) .
قال الشيخ النيبالي : ( كنت قد سجلتُ بعض ملاحظاتي حول هذه الظاهرة الزائغة – أي التأويل في كتب غريب الحديث - أثناء مطالعتي لكتاب النهاية لابن الأثير ؛ فأحببت أن أصوغها في مقالة، وألفت بها أنظار المستفيدين من كتاب النهاية، ومصادره ؛ ليكونوا على حذر من هذه التأويلات الفاسدة التي دخلت في كتب الغريب من جهة المعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم : نقل ابن الأثير عن الهروي حديثاً في صفة النار: "حتى يضع الجبار فيها قدمه". وقال الهروي بعد ذكر الحديث: "روي عن الحسن: يجعل الله تعالى فيها الذين قدمهم من شرار خلقه، فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدم للجنة"... قد وردت أحاديث عديدة في إثبات هذه الصفة لله تعالى فنذكر بعضها: - ثم ذكرها وقال - فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في إثبات صفة القدم لله تعالى ) .(29/1)
2- قال الشيخ النيبالي : ( وأورد ابن الأثير الحديث الذي عند الزمخشري – أي "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء" - ثم شرح نحو شرحه، وأضاف إليه فقال: "وتخصيص ذكر الأصابع عن أجزاء القدرة والبطش لأن ذلك باليد، والأصابع أجزاؤها" !
قال ابن خزيمة في "باب إثبات الأصابع لله عز وجل" يعد ذكر أحاديث الأصابع: "والصواب والعدل في هذا الجنس مذهباً، مذهب أهل الآثار ومتبعي السنن، واتفقوا على جهل من يسميهم مشبهة، إذ الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه... كيف يكون مشبهاً من يثبت لله أصابع على ما بيّنه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم للخالق البارئ". قلت: لأنه لا مشابهة بين أصابع الرحمن، وأصابع الإنسان سوى اتفاقهما في الاسم ، ولا يكون تشبيهاً إلا إذا قسنا أصابعه بأصابعنا، فأما إذا أثبتناها له من غير تمثيل ولا تكييف يكون كإثباته لذاته "نفساً" ولبعض مخلوقاته "نفساً" حيث قال على لسان عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب) . فيقال: نفس لا كنفس، ومثله يقال: أصابع لا كأصابع ويدان لا كيدين، وهكذا في كل ما ثبت عن الله تعالى في وصف نفسه، وكذا فيما أثبت له رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأما ما لم يثبت فالخوض فيه ضلال. هذا، وما قدّمناه كنماذج لتأويل الصفات الذي أدى إلى التعطيل، أخذاً من كتب غريب الحديث، يكفي لإظهار ما فيها أو في معظمها من أفكار التجهم والاعتزال –والعياذ بالله- فليحذر الذين يستفيدون منها، وينقلون عنها، وليدركوا ما في النقول قبل نقلها والموافقة عليها ) . اهـ كلام الشيخ النيبالي – وفقه الله – بتصرف يسير .(29/2)
فائدة : قال العلامة تقي الدين الهلالي – رحمه الله - : ( كنت أظن أن ابن الأثير سلفي العقيدة ، بريئ من التعطيل والتجهم ؛ لأني رأيت المتأخرين من المشتغلين ينقلون من كتابه شرح غريب الحديث ، ولما رأيت شرحه لأسماء الله الحسنى ، وجدته من شرار الجهمية المعطلة ) . ( سبيل الرشاد 1/19 ط مشهور ) .
==============================
التعقيب الثاني : قام الشيخ علي – وفقه الله – بالتعليق على كتاب " كشف الشبهات " للإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله - ، واهتمامه وغيره بكتب هذا الإمام مما يُفرح ؛ لأن كتبه – رحمه الله – نافعة للمسلمين ، موضحة لتوحيد رب العالمين ، دافعة للشبهات عنه . وقد أحسن الشيخ علي في تعليقاته ، إلا أنه أساء في ختامها !(29/3)
- فقد قال الإمام ( ص 109) : ( لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل ؛ فإن اختل شيئ من هذا لم يكن الرجل مسلمًا ) . وهذا كلام محقق ، ماش على طريقة أهل السنة في تعريفهم للإيمان – كما هو معلوم - . فبماذا علق الشيخ علي – هداه الله - ! لقد أحال في ( ص 109 ) على رسالته " التعريف والتنبئة .. " ، وفي ( ص 111 ) على كتابه الآخر هو ومجموعة معه " مجمل مسائل الإيمان والكفر .. " !! وشتان بين مذهب الإمام ، ومذهبهم المُحال عليه ! فهم يقولون – كما هو معلوم – إن أعمال الجوارح شرط كمال – مهما عبّروا - ؛ ولهذا رد العلماء على بعضهم ، ومنهم الشيخ علي – هداه الله - . فكان الواجب عليه إن لم يرجع عن زلته ، أن لا يتكثر بأئمة أهل السنة ، ويوهم أنه يوافقهم أو هم يوافقونه ! وقد نصحه العلماء بهذا عندما قالوا له في بيانهم : ( .. وأن يُقلع عن مثل هذه الآراء والمسلك المزري في تحريف كلام أهل العلم ، ومعلوم أن الرجوع إلى الحق فضيلة وشرف للمسلم ) . أسأل الله الهداية والتوفيق لي وللشيخ علي ولجميع المسلمين ، وأن يُسهل له أمر الرجوع عن زلته التي خالف فيها أهل السنة ، وأشغل نفسه بها وغيره عن المفيد .
رسالة مهمة فيه بيان الفرق في مسائل الإيمان بين أهل السنة والمرجئة
والرد على الشبهات التي حرفت الشيخ علي وإخوانه إلى مخالفة أهل السنة
والرد - أيضًا - على من غلط على الإمام محمد - رحمه الله -
أسأل الله أن ينفع بها
http://saaid.net/book/open.php?cat=1&book=3045(29/4)
قراءة في كتاب الغذامي الجديد : ( حكاية الحداثة في المملكة )
صدر عن المركز الثقافي العربي كتاب جديد بعنوان " حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية " للدكتور / عبد الله الغذامي ، وهذا العنوان يغري كل متابع للساحة الثقافية بالمملكة ، فلذا حرصت كثيراً على قراءته لأهمية موضوعة - بالنسبة لي على الأقل - ، وبعد فراغي منه كانت هذه المدونات المركزة ، التي أحببت نشرها تفاعلاً مع الكتاب وصاحبه وقرائه :
1- عنوان الكتاب أضخم من مضمونه !! وقد تفاجأت بهذا الأمر ؛ لأن كاتبه كان في يوم ما يعد سادن الحداثة وقطبها في بلادنا . فتوقعت أن أجد عنده من الأسرار والخفايا مالا أجده عند غيره . إلا أن الأمر كما قيل " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " .
فملخص الكتاب : أن بلادنا كانت تعيش " نسقاً " فكرياً واجتماعياً محافظاً ثابتاً رغم بعض المحاولات الفردية ممن يسميهم الغذامي " بالمستنيرين " ! كحمزة شحاتة ومحمد حسن عواد .. ثم حدث التعليم .. فظهر جيل مثقف من " الشباب المبدعين " كمحمد العلي والدميني والحميدين .. ثم ظهرت " المثقفة " .. ثم جاءت الموجة الحدايثة الثالثة .. إلى أن اصطدمت بالآخر " المحافظ " ! وهم العلماء والدعاة وأبناء المجتمع المسلم . فانكسرت الحداثة باعتراف بعض دعاتها ! كالسريحي .
هذه باختصار مضامين كتاب الغذامي ! ولا أظنه أتى بجديد ، سوى بعض الأحداث الشخصية التي مرت به في جامعة الملك عبد العزيز بجدة .
2- كان الأولى بالكاتب أن يجعل كتابه من قبيل " السيرة الذاتية " ؛ لأنه جعل الحداثة وحكايتها تدوران وتتمركزان حوله . فهو " القضية " وهو " الناقد " وهو " المدافع " وهو " المتهم " ثم هو " البريء " ! . " صرت أسمع تعليقات الزملاء التي تقول إن ما كان بيد الغذامي من مسؤوليات أسند الآن إلى أربعة أشخاص " ( ص225 ) !(30/1)
3_ أثنى الغذامي على " محمد حسن عواد " كما سبق بصفته أحد " المستنيرين " ( ص59 ) الذين سعوا إلى تحديث مجتمعنا ، لا سيما من خلال كتابه الشهير " خواطر مصرحة " الذي أعطي أكبر من حجمه؛لأن الكتاب مجرد مقالات إنشائية عن نواحي الحياة المختلفة تذكرني وأمثالي بموضوعات مادة " المطالعة " في المرحلة الابتدائية !
وتذمر العواد في كتابه من " علماء " عصره وسخريته اللاذعة بهم ، كقوله " كم جلبت لنا من المصائب تلك العمائم المشيدة فوق الرؤس " ( ص 113 ضمن الأعمال الكاملة ) ، يعني بهم علماء الحجاز في عصره ممن انكفأ على عاداته وبدعه ولم يقبل غيرهما ، ولهذا نجد العواد يدعوهم إلى الاقتداء بابن القيم ( 18- 21 من خواطره) .
ولكن كيف فات على الغذامي المعجب بالعواد : غلو الأخير في مدح الغرب ( كما في ص 82،62 من خواطره ) مما حدا بمقدم الكتاب عبد الوهاب آشي أن ينكر عليه هذا الأمر . وكذا قال العطار عنه : " أثرت فيه فلسفة المتمردين من كتاب الشرق والغرب " ( العواد أبعاد وملامح ، ص 226 ) .
وكيف فات على الغذامي المفتخر بتدينه وتتلمذه على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ! قول العواد في كتابه السابق لنساء السعودية : " زحزحن بأيديكن هذا الحجاب الدخيل على عادات العرب وعلى مبادئ الدين ( !! ) وعلى أسس الأخلاق الشريفة العاملة ( !! ) " ( ديوان العواد 2/374 نقلاً عن خواطر مصرحة الجزء الثاني ) .
فهل الغذامي المسلم ! يؤيد العواد في هذا التحرر ؟! وهل يرضاه لنساء هذه البلاد ؟! وهل هو من شروط الكاتب " المستنير " ؟! ثم هل تُعجز مثل هذه الأمور التافهة ( التذمر من المجتمع أو الدعوة لنزع الحجاب ، أو الشكوى من السلطة السياسية والدينية ! ) أي كاتب ولو كان من سفلة الكتاب ( تعليماً وفناً وأخلاقاً ) لكي يحظى من الغذامي وإخوانه بوصف ( الكاتب المستنير ) أو ( المثقف التقدمي ) .. الخ الأوصاف الرنانة ؟!
ما أسهل التقدم حينئذٍ !(30/2)
تنيبه : يفتخر الحداثيون كشأن أستاذهم الغذامي بالعواد ويعدونه من طلائعهم في بلادنا للأسباب السابقة ! ولهذا فقد تتابعوا على تأبينه وذكر محاسنه . ومنهم علي الدميني الذي يقول فيه : " إننا لنعذر له هذا التطرف ، بل ونجله له ، ونصنع من تلك المواقف المتمردة علي الصيغ الأدبية الجامدة ، والكتب الجافة ، وعلي المتزمتين في شتئ شؤون الحياة ، وعلي النائمين في ثبات التاريخ ( ! ) نصنع منها كياناً عامراً بالريادة والشجاعة والتمرد ( ! ) " ( العواد أبعاد وملامح ، ص 256 ) .
ومنهم : فوزية أبو خالد التي تقول عنه : " إن العواد بمواقفه عموماً إحدى الشارات الهامة التي تدلنا على مفترق الطرق الصحيح ( ! ) الذي سيتحتم علينا يوماً ما أن نصنع باتجاهه القرار والمشوار " ( السابق ، ص 265 )
ومنهم : هاشم عبده هاشم وعبد الله الجفري ، وعزيز ضياء ..
تنبيه آخر : العواد أحد المعتقلين عام 1352هـ بتهمة المشاركة في ثورة " ابن رفادة " علي الدولة السعودية : إضافة إلى صاحبه حمزة شحا ته ! ( انظر : محمد حسن عواد .. شاعراً ، لآمنه عقاد ، ص 44 )؛ فهما قد جمعا بين الحداثة الفكرية والسياسية !!
4- أكثر الغذامي في كتابه من الشكوى لأن بلادنا تعيش كما يقول " نسقاً " ثابتاً لم يتغير رغم مامر بها من حداثات دنيوية ظاهرية يسميها " حداثة الوسائل " وهذه وحدها لا تكفي عنده ! ، لأنها " حداثة في الوسائل ورجعية في الأذهان " !! ( ص 173 ) ولم يوضح ما هذه الرجعية الذهنية !
ويزداد تذمره لأن مجتمعنا " مجتمع لا يعرف سوى التسليم وليس النقد " ( ص244 ) .
ويقول محددا مايريد لمجتمعنا : " إن التحول يجب أن يتكامل سياسياَ وثقافياً لكي يحدث التحول الاجتماعي المأمول " ( ص64 ) .
قلت : أما سياسيًا فنتركها لولاة الأمور يتفاهمون فيها معه !(30/3)
وأما ثقافيًا واجتماعيًا فنرجو من الغذامي أن يتحفنا بكيفيتها لعلنا نتخلص من تخلفنا ونلحق بحداثته هو وإخوانه ! لأن الكلمات العامة المطاطة لاتكفي .
5- ردد الغذامي في كتابه كلمة " النسق " وتصريفاتها بشكل ممل ، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات الكتاب دون أن تجدها فيه ( انظر مثلاً : 36 ، 57 ، 67 ، 168 ، 171 ، 172 ، 210 ، 221 ، 231 ، 241 ، 244 ، 250 ، 256 ، 261 ، 262 ، 288 .. ) .
6- دافع الغذامي عن نفسه مقابل الحملة الشرسة التي واجهتها الحداثة في بلادنا ممن لم يفهموها ! - كما يزعم - ولذا ظنوها قرين الإلحاد والتمرد على الدين ! ( ص33 ــ وما بعدها ) . وهذا غير صحيح في نظر الغذامي ، لأن " تعريف الحداثة مسألة بحثية فردية ، وليس هناك إجماع مؤسساتي ولا مدروس يشير إلى معنى واحد متفق عليه " ( ص 36 ) . وأحيل القارئ إلى رسالة الدكتور سعيد الغامدي ـ حفظه الله " الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها " ليتبين له زيف ما ذكره الغذامي ويتأكد له من أقوال القوم أن الحداثة مهما تعددت تعريفاتها فإنها تلتقي على معاداة الدين ونسف ثوابت المجتمع المسلم وقيمه .
والغذامي هنا يذكرني ببعض دعاة العلمانية في البلاد الإسلامية الذين من أجل ترويج علمانيتهم ـ زعموا أن العلمانية قسمان : قسم معارض للدين وقسم غير معارض له وإنما يحصره في إحدى الزوايا !
7- أثناء دفاع الغذامي عن الحداثة وأهلها في المملكة ( ص37 ) زعم أن منهم من هو يصلي ومنهم من هو بار بوالديه وآخر قد تتلمذ على الشيخ ابن عثيمين ـ رحمة الله . ! وهذا كافٍ في الحكم بإسلام القوم وعدم اتهاماتهم بما اتهموا به .(30/4)
وأنا ألفت نظر الغذامي ومن معه إلى أن الأصل في المسلم الإسلام مالم يتلبس بأحد نوا قض الإسلام أو الكفريات المخرجة من الملة ـ وهذا يعرفه صبيان المسلمين ـ وقد كان المنافقون في عهده صلي الله عليه وسلم يصلون خلفه ويتصدقون بل ويجاهدون ! وقد قال الله تعالى فيهم ( وما منعهم أن تقبل منهم صدقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ) . وقال في آخرين منهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) .
فليحذر الإنسان أن يدعي الإيمان والإسلام وهو في حقيقته كافر بالله ، إما ببغض شيء من أمور الشريعة ، أو بمحبة الكفار وتمني ظهورهم على أهل الإسلام ، أو بموالاة من حاد الله ورسوله .. إلى غير ذلك . عندها يصدق فيه ما قاله الله تعالى في المنافقين ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ).
8- انتقد الغذامي موقف الدكتور سعد البازعي الذي عده من أنصار الحداثة الرجعية ! ( ص 7 ، 37 ، 254 وما بعدها ) . فقال عنه : " هو رجل ناصبنا العداء من ظهور ( الخطيئة والتكفير ) عام 1985 ، ومع تخصصه في الأدب الإنجليزي ودراسته في أمريكا ، ومع اندماجه الشخصي مع الحداثيين ، إلا أنه عجز أن يتأقلم مع الحركة , وله مع كل كتاب من كتبي موقف مناهض مبالغ في مناهضته " . " الخلل يكمن في أنه رجل محافظ عقلياً ونفسياً ، ولذا عجز عن تقبل التحولات المعرفية التي ظل يعلن عن تخوفه منها والتحذير من مغبتها .. " " تظهر كتاباته في نقد النظريات أنه لم يستوعب النظريات استيعاباً علمياً ولا منهجياً ينم عن فهم .. " .
قلت : ذم الغذامي للبازعي هو من محاسنه لمن تأمل ! وهو يستحق الشكر عليه ؛ لأنه تصدى لهذه الفئة المنحرفة ، ولم يتورط فيما تورطوا فيه ، أو ينخدع بأدبهم وأفكارهم .(30/5)
9- انتقد الغذامي كل من وقف ضد الحداثة من الدعاة ، كالدكتور سعيد الغامدي ، والدكتور عوض القرني ، والأستاذ محمد مليباري ـ رحمه الله ـ وغيرهم . ( ص 22 وما بعدها ، 210 ، 284 ) .
10- انتقد الغذامي الجامعات السعودية لأنها لم تساهم في حركة الحداثة ! ( ص 77 وما بعدها ) .
11- أخيراً : يرى الغذامي أن الحداثة لم تنته في بلادنا ! إنما الذي انتهى فعلياً وعملياً هو " الصراع العلني المركز ضد الحداثة كمصطلح وكميدان وحيد للصراع والنقاش ، ثم إن الذي انتهى فعلياً أيضاً هو بعض الأسماء التي كانت متوهجة في الثمانينات وتراجعت بعد ذلك وانطفأت " ( ص 286 ) .
ودليل عدم انتهاء الحداثة عند الدكتور أنها ظلت تتفاعل بطرق وأساليب متعددة ، كاتساع نظرية النقد ، وظهور نظريات جديدة ، وظهور الرواية ، وظهور ما يسمى بيانات المثقفين ، ثم خطاب الإنترنت المفتوح . ( ص 286 - 288 ).
قلت : هذا رأي الدكتور ، ولغيره آراء تناقض هذا الرأي ملخصها أن الحداثة المناهضة للدين كسرت وتعرت وانتهت في بلادنا ـ ولله الحمد ـ ولم يبق من يتشبث بها إلا شرذمه من الكتاب والكاتبات الذين لا زالوا يعيشون على أطلالها الخاوية ، ويحاولون ما استطاعوا بعثها من جديد .
أما إن كان المقصود بالحداثة أن يساهم المسلمون في صناعة الحضارة ( المادية ) ، ويزاحموا الآخرين في سبيل هذا الأمر ، إما بنقل التقنية ، أو دعم الموهوبين والمخترعين ، أو بالاكتفاء والاستغناء عن الآخرين في المجالات الدنيوية المتعددة ، مع الحفاظ على شرعنا وعدم التنازل عنه .. فحي هلا بها من حداثة ، وأنا زعيم بأن لا أحد من أبناء مجتمعنا سيعترض عليها ! والله الهادي .(30/6)
عصراني يُهرول خلف قبوري !! ( يوسف أبا الخيل وحسن السقاف)
مما استقر عند الباحثين أن العصرانيين القدماء من أتباع الأفغاني ومحمد عبده - رغم انحرافاتهم الكثيرة - إلا أنهم وافقوا " أهل السنة " في إنكارهم لخرافات الصوفية والقبوريين ، لأنها تخالف عقلانيتهم ، ونابذوهم ؛ فالتقوا مع السلفيين في هذا الأمر - أي الإنكار - ، ولهذا كان القبوريون في ذاك الزمان يُهاجمون الطائفتين " أهل السنة " و " العصرانيين " ؛ كما فعل الصوفي الخرافي يوسف النبهاني في قصيدته الرائية الشهيرة ، فقد خصص أولها لمهاجمة مدرسة الأفغاني ، ثم انتقل بعدها إلى مهاجمة أهل السنة ، ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ؛ لأنها بينت حكم الشرع في بدع وشركيات دعاة القبور والمتصوفة .
فالعصرانيون القدماء - رغم انحرافاتهم - أنكروا خرافات المتصوفة وأهل القبور ..
أما عصرانيونا - في السعودية - ، فللأسف - زادوا على أسلافهم بمخالفة عقلانيتهم المزعومة ! فجمعوا بين " ادعاء العقلانية " وموافقة وتأييد " القبوريين " ! دون حرج من هذا التناقض العجيب ؛ لأن الهدف والغاية - عندهم - : مجرد تبني كل ما يُخالف أهل السنة ؛ بقصد إغاظتهم . ولو كان بالهرولة خلف القبوريين أعداء الدين والعقل .
- في مقال بتاريخ 24رجب - للعصراني يوسف أبا الخيل ، كتب يهوّن من أمر التوسل بغير الله ، ويورد بعض شبهات المتوسلين بغير الله !
- وكان قد كتب قبلها في العدد ( 13579) مقالا حاول فيه إثبات أن الرازي لم يرجع إلى عقيدة أهل السنة !! ولم يقل قصيدته الشهيرة : نهاية إقدام العقول عِقالُ * وأكثر سعي العالمين ضلالُ ...
ولا أدري ما دخل العصراني العقلاني بمثل هذه المواضيع ؟ وهلا انشغل بليبراليته التي لا تُفرق بين سني وبدعي ؟! ليَعلم القراء بعدها كذب ادعاءات هؤلاء في ظهورهم بمظهر العقلانيين التنويريين .. فهل رأيتم التنوير يجتمع مع ظلام الخرافة ؟(31/1)
هرول أبا الخيل - هداه الله - في المسألة السابقة خلف القبوري " حسن السقاف " ، الذي كفّر شيخ الإسلام على قناة المستقلة ! ، وأعاد بث شبهاته ، فتورط في أمر كان له عنه غنية وسَعة .
. يقول أبا الخيل - هداه الله - متابعًا السقاف :
( هذه القصيدة التي تُروى عن الرازي ذكرها الإمام ابن تيمية في كتابه ( منهاج السنة، الجزء الثالث، ص 69) ، ولكن محققاً للكتاب المذكور - وفقاً لما ذكره حسن السقاف في كتابه ( صحيح شرح العقيدة الطحاوية ) - يشير إلى أنه لم يجد هذا الكلام فيما بين يديه من كتب الرازي، لا المطبوع منها ولا المخطوط، والذين أشاروا إلى تلك القصيدة كدليل عن تراجعه عن علم الكلام، ذكروا أنه كان يتمثل بأبياتها في كتابه ( أقسام اللذات ) وهذا الكتاب على ما يبدو منحول عليه، إذ أنه في الوقت الذي لا يزال فيه ذلك الكتاب مخطوطاً بالهند ولم يطبع بعد، فإن ( بروكلمان ) لم يذكره ضمن مؤلفات الرازي، وبالتالي فربما تكون هذه الأبيات مما هو منحول عليه أيضاً كدليل على إضاعته عمره فيما لا يفيد ولا ينفع، يضاف إلى ذلك أن مثل هذه الاعترافات التي قيل عنها الكثير لم تظهر ولم تُذكر إلا بعد موته ! ) !
قلتُ : هنيئًا لك المبتدع السقاف رائدًا ! لقد ضل من كانت العميان تهديه ..
لقد رد أهل العلم والباحثون على هذا الكذب الذي ورطك فيه الكذوب ، وأنتقي منهم واحدًا خصّ السقاف برده ، هو الموسوعي أبو عبدالرحمن الظاهري ، الذي يقول رادًا كذبة السقاف بعد نقلها :
( قال أبو عبد الرحمن : واحَرَباه بغير حقٍّ !! .. وههنا أمور :
أولها : أنه جعل جَهْلَهُ وقصوره في البحث ذريعة للتطاول على إمام مثل ابن تيمية .
وثانيها : أن كتب الرازي ليست هي المخطوطة والمطبوعة ، بل منها كثير مفقود .
وثالثها : أن الشعر والرسائل قد لا يُضَمِّنُها صاحبها كتبه .(31/2)
ورابعها : أن ياقوتاً الحموي نسب القصيدة للرازي [ 543 ـ 606هـ ] ، وياقوت الحموي [ 574 ـ 626هـ ] معاصر للرازي ، ووفاته قبل مولد ابن تيمية [ 661ـ 728هـ ] بخمسة وثلاثين عاماً ؛ فكيف يكون ابن تيمية هو الذي نظمها ، ثم كذب ونحلها الرازي ؟! .. إن هذا هو البهتان المبين ، والتطاول على الأئمة .. ورواها موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة ابن أبي أصيبعة [ ـ 668هـ ] وقد توفي قبل مولد ابن تيمية بسبع سنين .. ورواها ابن السبكي وهو على مذهب الرازي ، والرازي من أحب العلماء إليه .
وخامسها : أن الأبيات لا تشين الرازي ، بل هي من حسناته .. تأسف على صرف عمره في علم الكلام وغيره أولى منه ، ثم نثر حِكَماً لا مغمز فيها والله المستعان ) . ( تابع الرد هنا ) ثم ( هنا ) .
قلتُ : هذه فضيحة عاجلة لمن يزهد في الحق الذي كان يحمله ، فيُبدله بالتنكر له ، مؤثرًا مناوأته ، ولو بالتنقل بين المذاهب ، والسير في طريق الحيرة ، ويُخشى على مثل هذا أن يصدق فيه وفي أصحابه قوله تعالى : ( ومن يُبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ) . أسأل الله أن يثبتنا على دينه ، وأن لا يجعلنا ممن قال عنهم عند وفاتهم : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ) .
مقال علمي عن توبة الرازي
حسن السقاف وعلاقته بالرافضة(31/3)
ابنُ أحد العصرانيين يقول : ( والدي لا يصوم ولا يصلي .. ) .. !
- سبق أن نشرتُ مقالا بعنوان : " وصف العلماء للعصرانيين وتدينهم ! " على ( هذا الرابط ) ؛ يبين قيمة الأحكام الشرعية عند من يحملون هذا الفكر الهجين ، وخطوات تنصلهم منه حكمًا حكمًا ، ولو كان من أركان الإسلام ! وهذا التدرج في التهاون بالشريعة سماه الله " خطوات الشيطان " ، لأنه لا يأتي مرة واحدة ، ولكن متدرجًا ، حتى يصل ببعض من يوغل فيه إلى الإلحاد - والعياذ بالله - . ولا تعجب فلهذا نماذج . وسببه قيام العصراني بتحطيم المقدسات واحدة بعد أخرى ، بدعوى التحرر والتنور .. الخ الزخارف . فالإجماع لا عبرة به ، وأقوال العلماء لا قيمة لها ، والصحابة بشر لا نلتزم بفهمهم ، والأحاديث لا نقبل منها الآحاد أو ما يعارض العقل ( عقلهم طبعًا ) ، والقرآن له فهوم متعددة .... وهكذا ، يُحطم ويتهاون ... إلى أن يصل إلى الاكتفاء بالايمان العقلي أو الباطني المجرد ، وبعضهم - كما سبق - يتخطى هذا إلى الشك ثم الإلحاد أو اللا أدرية - عياذًا بالله - . إن لم يتداركه الله برحمته . وأبرز سبب لحالتهم - في نظري - هو الكبْر والعُجب .
- ولهذا تجدهم عند الشدائد والتقاء أهل الإسلام بأهل النفاق والعلمنة ، في النقاشات أو المناظرات ، يقفون في صف أهل النفاق ، ومن آخر ذلك ما رأيته في إحدى القنوات المشبوهة عندما ناقشوا موقف الإسلام من الليبرالية ، أتوا بأحد الفضلاء في مقابل ثلاثة من الليبراليين ! ، فداخل أحد العصرانيين التنويريين ! ووقف في صف أهل اللبرلة ! ( تشابهت قلوبهم ) ، أما أشكالهم فالفارق بينها " لحية " خفيفة تُستخدم كجواز مرور عند أفراد المجتمع المسلم ! ولا أدري لماذا لا يطالها تهاونهم ، وقد طال أركان الإسلام ؟!(32/1)
- لقد كتب أحد الإخوة نقلا عن قريب لأحد العصرانيين ممن ألفوا في جواز صلاة الجماعة في البيت أنه لا يُصلي !! ، فتعجب البعض ، وأقول : لا تعجبوا ، فمن اطلع على شيئ من أحوالهم تبين له أشد من هذا . - عافاني الله وإياكم - .
- فهذا أحد رؤوس العصرانيين " العقلانيين " في عصرنا ، ممن عظموا العقل حتى ردوا به أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وانتصروا للمعتزلة ضد أهل السنة - وهو الكاتب أحمد أمين - يقول عنه ولده جلال في مذكراته ( ص 303-304) :(32/2)
( في كتاب "حياتي" وصفَ أبي البيت الذي نشأ فيه بقوله : إنك إذا فتحت بابه شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية ! أما أنا فلا أستطيع بالمرة أن أقول إن هذا الوصف ينطبق على البيت الذي نشأت فيه. فأبي على الرغم من نشأته هذه، وشدة تدين أبيه وأمه، ونوع التعليم الذي تلقاه في صباه وشبابه، ورغم أن أهم كتاباته كانت تدور حول الإسلام، لم يكن متديناً بمعظم المعاني الشائعة اليوم. إني لا أتذكر مثلاً أني رأيت أبي وهو يصلي، ولا أذكر أني رأيته وهو يقرأ في المصحف. إني أتذكر اعتذاره عن الصوم بسبب مرض أو آخر كان يفرض عليه نظاماً معيناً في الأكل، أو بسبب التدخين، ولكني لا أتذكره وهو ينتظر حلول المغرب ليتناول إفطاره في رمضان .. إن هذا لا ينفي ما كان يتحلى به أبي من صفات قريبة من التصوف، كما لا يتعارض مع ما أتذكره من أقواله الكثيرة التي تنم عن إيمان عميق بالله ( ! ) ، من الذكريات الملتصقة بقوة في ذهني ركوبنا معه في قارب شراعي في النيل في إحدى ليالي الصيف في رأس البر، وكانت هي ليلة القدر، وإذا به يطلب منا أن نردد وراءه دعاء طويلاً إلى الله، يقول منه جملة، ونقولها بعده، ثم ينتقل إلى ما بعدها. كان هذا في أوائل الأربعينات، فلابد أني كنت في السابعة أو الثامنة، وأنا أتذكر هذا الآن مرتبطاً بشعور من السعادة لابد أن كان من أسبابه ما يشعر به صبي في مثل هذه السن عندما يرى العائلة كلها تقوم بعمل مشترك، ويسيطر عليها أثناءه شعور بالمحبة والوئام. وعلى أي حال فإني لا يخامرني أي شك في أن أبي كان يعلق على أخلاق المسلم أهمية أكبر مما يعلقه على شعائر الدين. لدي ألف دليل على هذا من أقواله وتصرفاته وكتاباته ) .
ثم يقول - بعد أن تحدث عن تأثر أمه بوالده !:(32/3)
( كيف يمكن، والحال كذلك، أن تفوح رائحة الدين من بيتنا كما كان الحال في البيت الذي نشأ فيه أبي؟ بل الراجح أن هذا الموقف من جانب أبي وأمي قد ترك فينا كلنا، نحن الإخوة، الذكور والإناث، أثراً دائماً لم تمحه الأيام. فلا أذكر أن أحداً منا نحن الإخوة قد واظب على أداء شعائر الدين لفترة طويلة من حياته. كان هناك الميل المعروف إلى التدين في فترة من فترات الصبا وبداية الشباب، وهو ما أذكر أنه سيطر عليّ سنة أو سنتين، كما أذكر نفس الشيء فيما يتعلق بإخوتي الذين وعيت هذه الفترة من حياتهم، أما بقية الإخوة فلا يقترن أي منهم في ذهني بأي مشاعر دينية قوية أو حرص على أداء شعائر الدين بانتظام ) .
قلتُ : بل خرج منكم من هو أشد من والدكم ! انحرافًا ومجاهرة بعلمانيته ، وهو حسين أحمد أمين ، والتفاصيل على ( هذا الرابط ) .
أسأل الله أن يهدي من تأثر بهذه الأفكار الهدامة ، وأن يوفقه لتدارك نفسه قبل أن يأتيها الموت ، وهي في شك أو ريب أو تهاون بأركان الإسلام ، أو واقعة في نواقضه . والله الهادي .(32/4)
تعقيب على الشيخ سلمان في مقاله عن أبي غدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتب الشيخ سلمان العودة – وفقه الله للخير – مقالا يثني فيه على شيخه عبدالفتاح أبي غدة ، صاحب – كما يقول – ( الابتسامة الصافية ) ، الذي كان ( يُصدر رسائل علمية سلفية ) !! والذي كان بحاجة إلى من ينصفه ! .. الخ مقاله في مجلته الإسلام اليوم العدد الأخير ( 33 ) .
ولا تثريب على الشيخ في إطراء شيخه ومدحه وتصويره بصورة المظلوم ! فالأرواح جنود مجندة .
لكن الشيخ – هداه الله – لو اقتصر على مدح شيخه وتبرئة ساحته ، لما لامه أحد ، فهذه مشاعره ، ولكنه في تصويره المظلوميةَ التي أصابت أباغدة تحامل على إمامين من أئمة أهل السنة في هذا العصر ، وصورهما في صورة الظالم ! :
أولهما : العلامة بكر أبوزيد الذي ألف رسالة بعنوان " براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة " في نقد أبي غدة وشيخه ، بين فيها ما يحملانه من غل على أهل السنة ، .
وثانيهما : الإمام ابن باز – رحمه الله – شيخ شيوخ أهل السنة في هذا الزمان ! الذي قدّم رسالة الشيخ بكر السابقة .
- يقول الشيخ سلمان – عفى الله عنه - متعذرًا لشيخه الذي ألف رسائل سلفية ! فلم يُقبل منه ! وساخرًا ممن طالبه بالتبرؤ من شيخه المبتدع : ( .. على أن تفاقم الخصومة واحتدامها لم يُجد معه دواء ، ولابد عند بعض الموغلين فيها أن يتبرأ من شيخه ، ومن كتبه ، وأن يرد عليه ، وأن يُعلن ذلك على الملأ ، ولو حدث هذا فالظن أنه سيُقال بأن وراء الأكمة ما وراءها ، وأن الأمر لايعدو أن يكون ذرًا للرماد في العيون ) !!
فمن الموغل في الخصومة ؟ الذي طالب أباغدة بالتبرؤ من شيخه القبوري الهالك " الكوثري " عدو السلف ؟
إنه سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله - !! الذي تصدى لخبث أبي غدة وتلونه ، وقدم رسالة الشيخ بكر - كما سبق - قائلا :(33/1)
( من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إِلى حضرة الأَخ المكرم صاحب الفضيلة العلامة الدكتور بكر بن عبد الله أَبو زيد وكيل وزارة العدل. لازال مسدداً في أَقواله وأَعماله, نائلاً من ربه نواله, آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أَما بعد: فقد اطلعتُ على الرسالة التي كتبتم بعنوان: " براءة أَهل السنة, من الوقيعة في علماء الأُمة " ، وفضحتم فيها المجرم الآثم, محمد زاهد الكوثري بنقل ما كتبه من السَّبِّ, والشَّتم, والقذف لأَهل العلم والإِيمان, واستطالته في أَعراضهم ، وانتقاده لكتبهم .. إِلى آخر ما فاه به ذلك الأَفَّاك الأَثيم, عليه من الله ما يستحق, كما أَوضحتم أَثابكم الله تعالى تعلُّق تلميذه الشيخ عبد الفتاح أَبو غدة به, وولائه له, وتبجحه باستطالة شيخه المذكور في أَعراض أَهل العلم والتُّقَى, ومشاركته له في الهمز واللمز, وقد سبق أَن نصحناه بالتبرئ منه, وإِعلان عدم موافقته له على ما صدر منه, وأَلححنا عليه في ذلك, ولكنه أَصر على موالاته له هداه الله للرجوع إِلى الحق, وكفى المسلمين شره وأَمثاله. وإِنا لنشكركم على ما كتبتم في هذا الموضوع ونسأَل الله أَن يجزيكم عن ذلك خير الجزاء, وأَفضل المثوبة لتنبيه إِخوانكم إِلى المواضع التي زلت فيها قدم هذا المفتون - أَعني: محمد زاهد الكوثري- . كما نسأَله سبحانه أَن يجعلنا وإِياكم دعاة الهدى, وأَنصار الحق إِنه خير مسئول, وأَكرم مجيب . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) .
ومن الموغل في الخصومة ؟
إنه الشيخ العلامة بكر أبوزيد - صاحب رسالة براءة أهل السنة - القائل في رسالته عن أبي غدة المظلوم ! بعد أن نقل شيئًا من مخازي شيخه الكوثري الطاعن في بعض الصحابة وأئمة الحديث : ( فهل يصدق من قال: بأَنه تائب من البدعة, وهو محتضن لحاملها, متنكر لمفترعها ) ؟!(33/2)
وقال عن مؤلفات " السلفي !! " أبي غدة : ( أَثقلها بالحواشي التي شدت على هذا الانتصار بتجسيد المذهب الحنفي, والتمشعر, حتى امتلأَت بهذه النصرة خاصرتا حواشيه بما يشهد الناظر فيها أَن هذه هي الروح التي تموج في جسم تلك الحواشي من رأْسها إِلى عقبها, مع ما فيها من المحامل البعيدة والمغامز, والتَّذَرُّع بكلام الشيخين: ابن تيمية, وابن القيم - رحمهما الله تعالى - في مواضع, في ضروب من التعسف بالاستدلال واجتراء النقول, والحط عليهما حيناً, ونقل كلام خشن في حقهما أَحياناً, وانتقاد مسلكهما. إِلى آخر ما أَفْضَتْ إِليه النوبة عن شيخه بقلمه الهماز في هذا المَهْيَع. مثل: همزه ابن القيم - رحمه الله تعالى - بأَنه: ( تغلبه عادته, ومشربه المعروف ) أَي في الحكم على الأَحاديث صحة وضعفاً في: أَبواب التوحيد ) .
( وهكذا, كسكوته في حواشيه على الأَحاديث التي تعالج المشرب الخلفي, ولو كانت مرفوضة سنداً مثل: ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) ! ، ولم يعلق عليه . وفي تعليقه على ( الرفع والتكميل ) ذكر ترجمة اللكنوي لابن تيمية ومنها قوله: ( وقد نُقل عنه عقائد فاسدة . . . ) !! ولم يتعقبه !
( كما تابع شيخه في التنقص من أَمير المؤمنين الإِمام البخاري -رحمه الله تعالى- في مبحث الإِرجاء ) .
وقال - بعد أن أورد طعن الكوثري في الإمام ابن القيم : ( ثم يأْتي التلميذ - أي أباغدة - , ولا ينفي ذلك عن ابن القيم, بل يقبض قبضة من آثار أُستاذه فينبذها في حواشيه, وتعليقاته مشتدة حفاوته بهذا الكتاب, ممجداً له هو ومؤلفه فيقول: ( وتجد نماذج كثيرة من هذا النوع في نونيته المسماة ( الكافية الشافية ) وقد استوفى نقد ما فيها الإِمام ! تقي الدين السبكي في كتابه ( السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ) . وشيخنا الإِمام ! الكوثري في تعليقه عليه الذي سماه ( تبديد الظلام المخيم على نونية ابن القيم ) اهـ !(33/3)
وقال عن عقائد الكوثري وتلميذه : ( الشيخ - أي الكوثري - ينشرها عن طريق الفظاظة والمجاهرة, والسرف والمناكدة, لأَنه في إِقليم يسمح له بذلك, والتلميذ تحت وطأَة الإِقليم, والعيش الرغيد ! ينشرها بكلمات يلف حبلها على غاربها عن طريق النقل المجرد, وترك النص بلا تعليق, ومسلك التشذيب لمدرسة أَهل الحديث بالشد على مسلك مدرسة الرأْي في القديم والحديث ) .
وقال رادًا على من يدافع عن أبي غدة - من أمثال الشيخ سلمان - : ( فإِن قيل: إِنه على مذهب السلف, قيل: لم يحصل في هذا ما يؤيده من الحواشي في بابَي: الأَسماء والصفات والعبادة. فما بقي إِلا سلفه على مشربه. وكم من مناسبة مرت ولم يحصل له أَي تقرير. ومن ينحو في الاعتقاد منحى السلف, المعروف عند الإِطلاق, ينفض يديه من المبتدعة, ويغسل كتبه من الخلفية, ويكف قلمه عن المدح, والتمجيد, والحفاوة بمن يلعن السلف, ويسبهم, ويكفرهم . وإِذا كان شيخه يكفر أَهل هذه الديار الكريمة السائرين على اعتقاد السلف الصالح في قديم الدهر وحديثه ممن يصفهم, ويصف أَئمتهم: بالحشوية, والمجسمة, والبربهارية, والشرائحية, والتيمية, والوهابية, وزعيم البادية, وبقايا الوثنية, والصابئة الحرانية . . . وهكذا . فإِن كان التلميذ لا يرتضي هذا فكيف لا ينفيه, وكيف لا يُسقط هذا ( الجركسي الناقد ) من حسابه؟ وإِن كان يرتضيه, فكيف يسوغ له ديناً وشرعاً أَن يعيش بين من يعتقد كفرهم, وأَنهم -كما يقول شيخه- بقايا نحل محاها الإِسلام, كما مَرَّ؟ فبأَي المسلكين يحمي دينه, ويصون ماء وجهه؟ ) .(33/4)
وقال - كأنه يخاطب الشيخ سلمان - : ( وما التمدح بمن يرمي المسلمين في صميم علمائهم إِلا ممن يسره كثرة سواد المنسلخين من اعتقاد السلف, ولا أَظن عامياً على فطرته السليمة يفهم غير هذا. وكيف يصيح مغتبطاً بهذا اللفظ في وسط جزيرة العرب, وأَمام شُداة الاعتقاد لمذهب السلف الأَخيار, كأَنهم في حساب المُسْتًخِف صم بكم لا يعقلون. إِن لم يكن هذا هو عين الاستخفاف والاستغفال فلا يعرف لهما سواه من سبيل؟ وكيف يصح لأَهل السنة بعد هذا: شهر كتبه, والحفاوة به وبها. وبالتالي بمن ينفخ بشأْنه وشأْنها, ويذكي جذوتها ) .
ثم ختم الشيخ بكر رسالته بتوجيه نصيحة لطلبة العلم قائلا : ( فعلى طلبة العلم: التيقظ من كل مسرف على نفسه, ومنابذته وما كتب. وجميل بمن سمع الحق: أَن يقيم الوزن بالقسط فيتبعه بوضوح وجلاء, فالاعتقاد لا يحتمل المجاملة ولا المتاجرة, ولا نثر ماء الوجه وإِهداء صيانته. فليصل العبد قلبه بربه. وليقطع أَسباب مثل تلك المحبة الجامحة به إِلى الهلكة .وليبحث: ليعلم. وليكتب: ليفيد. ولينقد: لنصرة الحق والحقيقة المستقيمة على الطريقة بمثل ما كان عليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأَصحابه -رضي الله عنهم- . ومن حاد: فسيكون علمه وبالاً, وبحثه ضلالاً, وجهده هباءً. نعوذ بالله من الشقاء, والفتن الصماء. وإِن وراء الأَكمة رجالاً, وللحق أَنصاراً. ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) ) .
بارك الله في الشيخ بكر .. وهدى الله الشيخ سلمان ، وجنبه مسلك التلميع للمبتدعة ، والاحتفاء بهم ، والتجميع الخاطئ الذي يخلط السني بالبدعي ، ويوهن عقيدة الولاء والبراء ، ويُضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يستفيد منه سوى أهل البدع . والله الهادي .
رسالة الشيخ بكر كاملة على ( هذا الرابط )(33/5)
عودة إلى ( عبدالوهاب المسيري ) .. وعلمانيته
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سبق أن اعترض بعض الإخوة على وصفي للمسيري أنه أحد دعاة العلمانية ؛ مكتفين منه بتراجعه عن الماركسية ، وكتابته لموسوعته اليهودية ، وقد نقلتُ من كتبه قوله بصراحة إن مايسميه العلمانية " الجزئية " لا تُعارض الإسلام ! ، وإنكاره لما يسميه العلمانية " الشاملة " فقط . ثم طُبع - أخيرًا - كتابٌ مهم للباحث المصري محمد إبراهيم مبروك ، عنوانه " العلمانية : العدو الأكبر للإسلام - من البداية إلى النهاية - " ، ناقش في فصل منه دعوى المسيري السابقة ، وسماها " فرية المسيري " ، وقد صدق في هذا - كما يأتي - . فأحببتُ أن يطلع الإخوة الكرام على هذا الفصل منشورًا في الساحة ، وهذا هو :
فرية المسيري في عدم تناقض العلمانية مع الإسلام
بتقسيمها إلى شاملة وجزئية
" إن الدكتور المسيري قد جاء في مناظرة قريبة ببرنامج الاتجاه المعاكس (أبريل -2007) ليعلن صراحة أن العلمانية الجزئية التي تعني فصل الدين عن الدولة لا تتناقض مع الإسلام ! هذا بالإضافة إلى موقف المسيري المتخاذل من هجوم مناظره الوقح على الإسلام كنظام شامل للحياة على الرغم من التهافت الشديد المعروف عن هذا المناظر علماً وفكراً وأشياء أخرى ، ولم يفعل المسيري شيئاً سوى اختزال الإسلام في مجموعة من القيم التي لا تختلف كثيراً عن القيم التي يقررها بعض الأديان والفلسفات الأخرى.(34/1)
ومن ثم أكرر الآن إن الموضع الذي نتحدث عنه لا يمثل هفوة للمسيري يتردد فيها وقد ينقضها كلام آخر له ، وإنما هي فرية قاتلة تؤدي إلى إرباك الأمة ، ويبدو أنه يصر عليها ، والمصيبة أن مفكراً له وزنه مثل الدكتور محمد عمارة التجأ إلى القول بهذه البدعة تحت ضغط ومحاصرة محاور علماني في أحد البرامج الفضائية ، مع أن الدكتور عمارة له كتاباته الكثيرة التي يقرر فيها أن العلمانية تتناقض مع الإسلام لا محالة ، وكان مفكر آخر هو راشد الغنوشي استند على مقولة المسيري تلك في معرض دفاعه عن نهج حزب العدالة والتنمية التركي في تخليه عن دور الإسلام في الدولة ، أي أن طامة فرية المسيري في تقسيم العلمانية إلى شاملة وجزئية تكتفي بفصل الدين عن الدولة طامةكبرى يتحدث بها ويلتجئ إليها أسماء كبيرة لها وزنها وتأثيرها على الواقع الإسلامي.
كل هذا مع أن تهافت هذه الفرية بيّن شديد البيان وواضح غاية الوضوح، ولكن ماذا نفعل إذا كانت المساومات السياسية مع أنظمة أو تيارات معينة تلجئ البعض إلى هذا السقوط.
أمامغالطة المسيري شديدة الوضوح فهي تتحدد في المقولة مفادها ألا تعارض بين الإسلام والعلمانية الجزئية، لأنه حتى لو كانت العلمانية الجزئية هي فصل الدين عن الدولة فهي تعني العمل على الانتقاص من شمولية الدين ، بل وتهدف إلى تبعيضه وهو الأمر الذي يتناقض مع قوله تعالى: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) .(34/2)
وقوله تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ) . ولعل ذلك هو ما دعا الدكتور محمد البهي ( وهو المفكر الإسلامي النابغ الذي جمع بين دراسته الأزهرية للدين ودراسته الألمانية للفلسفة ) إلى أن يعنون كتابه عن العلمانية بالتالي: " العلمانية وتطبيقها في الإسلام: إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر " .
ويبلغ السيل الربى عندما يطبق المسيري ذلك على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" حيث يقول وهو يورده في إطار إقراره للفصل النسبي بين الدين والدولة: "ففي القطاع الزراعي بإمكان المرء أن يؤبر النخل أولاً حسب مقدار معرفته للملابسات متحرراً في بعض جوانبه من المنطلقات الأخلاقية". وما بين القوسين للمسيري ليس به شيئ إذا أخذ حرفياً ، لكن المشكلة في الإيهام أن ذلك يعني إمكانية الفصل بين الدين والدولة في الإسلام اعتماداً على هذا الحديث ؛ لأن الحديث بكل وضوح يتناول الجوانب العلمية التطبيقية من الحياة ، وهي أمور عامة مجردة وموقف الإسلام ( وليس كل الأديان ) من هذه الأمور شهير جداً ، ومفاده عدم التدخل والاعتماد على الخبرة ، ولكن لا ينطبق ذلك على أي جانب من الجوانب السلوكية للحياة التي تنظمها الدولة، بعكس ما يقوله المسيري.
على أي من الإسلاميين استند المسيري؟!(34/3)
نستطيع القول إن العذر العام الذي يظلل مواقف الدكتور المسيري أن الرجل حديث الانتقال في نقده للحضارة الغربية من المنظور الاشتراكي الماركسي إلى المنظور الإسلامي ، أو بشكل أكثر دقة إلى منظور فلسفي يبدو عاماً ولكنه يستبطن رؤية إسلامية أو تبدو أنها إسلامية ، ومن ثم فإن تراكمه المعرفي يتشكل أساساً من التراكم المعرفي الغربي نفسه؛ ولهذا فإن منظوره الإسلامي لا يقوم إلا على بعض القواعد العامة ، وربما غير المحددة ، ويفتقد التراكم المعرفي الإسلامي لدرجة محزنة خصوصاً إذا تعلق الأمر بموقعه المتقدم المفترض في مواجهة الحضارة الغربية ، مما ينعكس على مواقفه في الكثير من الحالات بغياب الرؤية الإسلامية المحددة أو ضبابيتها في مواجهاته الفكرية مع هذه الحضارة ، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من المشاكل حتى مع إقرارنا باشتراك المنظور الإسلامي والاشتراكي في بعض المواقف الناقدة للحضارة الغربية.(34/4)
ولكل ما سبق كان من الطبيعي أن يحاول الدكتور المسيري الاستناد إلى بعض المفكرين الإسلاميين في تحديد موقف المنظور الإسلامي من العلمانية ؛ ولأنه من الطبيعي أيضاً أن يتحدد استناده هذا بعاملين هما: محدودية تراكمه المعرفي الإسلامي وعزوفه الشخصي عن احتداد المواجهة في مواقفه السياسية، فقد وقع اختياره على تيار الوسط التوفيقي بين الإسلام والعلمانية، وهو ما أعتيد أن يطلق عليه في القنوات الإعلامية المرضي عنها بالتيار الوسطي ! والذي يُعد الكاتب فهمي هويدي أحد أبرز رواده؛ ولذلك فقد كان هو الشخص الوحيد من المحسوبين على الإسلاميين الذي استند إليه المسيري في تعريفه للعلمانية ، حيث يذكر عن هويدي أنه "يجعل نقطة انطلاقة ما سماه (المشروع القومي العام ) وكل من يعمل على إنجاحه علمانياً كان أم إيمانياً فهو منا " أما من يقوضه ويفككه فهو خارج الصف. فالمعيار هنا - لا أدري إن كان هذا الكلام لهويدي أم تعليقاً من المسيري - ليس العلمانية أو الإسلامية وإنما الانتماء إلى الوطن. ويميز فهمي هويدي بين تيارين علمانيين يسميهما المتطرفين والمعتدلين ( وهما يقابلان إلى حد ما العلمانيين الشامليين والجزئيين في مصطلحنا ) ويُعرف المتطرفين بأنهم ليسوا ضد الشريعة وحسب بل ضد العقيدة أيضاً ؛ فهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب حلها بالانتهاء منها وتجفيف ينابيعها لاستئصالها. أما المعتدلون فليست لديهم مشكلة مع العقيدة ، فهم يعتبرون أن الدين والإسلاميين حالة يمكن التعايش معها إذا أقيم حاجز بين الدين والسياسة للحيلولة دون ما يتصورنه "سلطة دينية". والأستاذ فهمي هويدي هو صاحب المقولة الشهيرة: "العلمانيون المعتدلون هم أقرب إلى الإسلاميين المعتدلين من الإسلاميين غير المعتدلين " ! اهـ كلام المسيري .(34/5)
والنتيجة التي ينتهي إليها الاثنان معاً ( هويدي والمسيري ) هي كما يقول هويدي: "إن كل تيار سياسي يحترم عقيدة الأمة ويلتزم بنصوص الدستور المعبرة عن ذلك يصبح من حقه أن يكتسب الشرعية وأن يكون شريكاً في الحياة السياسية للمجتمع الإسلامي ، ينسحب ذلك على مختلف فصائل العلمانيين المعتدلين سواء كانوا ليبراليين أو قوميين أو ناصريين أو ماركسيين " !
ويعلق المسيري على ذلك بقوله: "وإن الحوار بين فصائل الأمة المختلفة ممكن في إطار التعريفات الجزئية، أما التعريفات المادية الشاملة فإنها تسقط كل المرجعيات ولا تخلف لنا سوى الصراع في الداخل والتبعية لقوى العولمة في الخارج. ولعل الذين قرأوا مقال الأستاذ فهمي هويدي لاحظوا أن مطالبة الإسلاميين بتأكيدهم قبول التعددية التي تشمل التيار العلماني كانت موقفاً التقى عليه رأي آخرين من أهل الفقه والنظر ؛ في مقدمتهم الدكاترة يوسف القرضاوي وأحمد العسال ومحمد سليم العوا وعبد الغفار عزيز وسيف الدين عبدالفتاح وأبو العلا ماضي وعادل حسين. ومما يجدر ذكره أن فهمي هويدي ليس وحيداً في موقفه هذا بل يمكن القول بأن هذا الرأي هو الرأي الممثل للتيار الإسلامي الأساسي " .
أعتقد أن القارئ النابه لا يستطيع الآن أن يعرف -بعد هذا الذي سردته الآن- أين ذهب المسيري المفكر الفلسفي العميق؟
هل استغرقه الجهد في إيجاد مخرج للعلمانيين بهدف إيجاد مخرج لنفسه من الصدام مع النخبة الفكرية المسيطرة حتى ذاب تماماً في تيار السياسة؟!!(34/6)
ولا بد أن ننظم الآن نقاط البحث حتى لا نذوب نحن أيضاً مع تيار السياسة هذا. ولذلك فإن ما يهمنا هنا هو ليس قبول التعايش أو عدم التعايش مع هذه العلمانية المعتدلة التي تتطابق إلى حد ما - لاحظ إصرار المسيري على استخدام مثل هذه الألفاظ (إلى حد ما ) حتى يحتفظ لنفسه دائماً بالقدرة على الإفلات من المحاسبة الفكرية الدقيقة مع العلمانية الجزئية- ولكن المهم بالنسبة لنا هنا هو هل هذه العلمانية الجزئية أو المعتدلة تتناقض مع الإسلام أو لا تتناقض؟
النقطة الثانية هي: هل هذه العلمانية الجزئية تخرج في شيء عن العلمانية الشاملة أم أن المسألة لا تخرج عن كونها مجرد ادعاء سياسي يتم التستر به على الموقف الحقيقي من الدين أمام المجتمع الإسلامي؟(34/7)
في الإجابة عن النقطة الأولى، ما هي المرجعية لنا في ذلك: هل هو الانتماء للوطن أو الانطلاق من المشروع الوطني العام أو الموقف من الاستعمار؟ إن مثل هذه الأمور قد تصح كمعايير للتعاون في القضايا العامة وهذا أمر سياسي ، ولكن ليس كمعايير لتحديد العلاقة بين العلمانية الجزئية والإسلام والتي لا يصح فيها إلا معيار واحد هو المرجعية الإسلامية التي تقرر أن الإسلام دين شمولي لا يقبل التجزئة ولا يقبل الاستعاضة عنه كمرجعية في أي أمر من أمور الحياة سواء كانت السياسة أو غير السياسة ، فإذا كانت هذه العلمانية الجزئية أو المعتدلة لا تقر الإسلام على ذلك وتصر على تنحيته كمرجعية في مجال السياسة أو في أي مجال آخر فهي تتناقض تماماً مع الإسلام. أما الحديث عن إمكانية التعاون مع هؤلاء العلمانيين أو عدم التعاون معهم فهذا حديث آخر ، ولكنه حديث من الخارج واستخدام ما قد يصح من مرجعية له كالموقف من الاستعمار أو الانتماء للوطن في تحديد العلاقة بين العلمانية المعتدلة والإسلام هو خلط ما هو سياسي بما هو عقائدي. ومن ثم فإن تولي مثل هذه الرؤية لا يؤدي إلا إلى المزيد من الارتباك في الواقع الفكري وينعكس سلباً على وضوح المواقف لدى الإسلاميين.
المسيري والعلمانيون العرب
يقول المسيري: "تتأرجح التعريفات العربية لمفهوم العلمانية بين العلمانية الجزئية بوصفها إجراء جزئياً لا علاقة له بالأمور النهائية مقابل العلمانية الشاملة بوصفها رؤية شاملة للكون". والذي يعنيه هذا الكلام هو عدم استطاعة تقسيم المسيري- الذي استمد مصداقيته من قدرته على التفسير- استيعاب هذه التعريفات أو تفسيرها. فماذا أدى المسيري به منهجه في التعامل مع العلمانيين العرب؟(34/8)
يقدم حسين أحمد أمين (وما أدراك ما حسين أحمد أمين؟ ) فيقول عنه : إنه يُعرف العلمانية بأنها "محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة" ويعلق على ذلك قائلاً: "فكأن المرجعية النهائية هنا ليست علمانية وإنما مستمدة من نسق معرفي وأخلاقي آخر وكأن العلمانية تنحصر في الدائرة الصغيرة الجزئية". ثم يقول في موضع آخر "فكأن حسين أمين يرى أنه لا توجد ضرورة حتمية للصراع بين العلمانية والدين ، وأن كل ما حدث هو صراع نتيجة ظروف تاريخية طارئة، وهناك بعض المفكرين الإسلاميين -ممن يؤمنون بالتعددية والتدافع وضرورة الاجتهاد ومن ثم استحالة احتكار الحقيقة- يتفقون في بعض النقاط الأساسية مع حسين أحمد أمين". لم يذكر المسيري من هم هؤلاء المفكرون الإسلاميون الذين يتحدث عنهم ولكن ذكر بعض الأوصاف التي تستخدم عادة كأكليشيهات سياسية دون أن يكون لها معنى محدد (ممن يؤمنون بالتعددية والتدافع وضرورة الاجتهاد ) المهم أنه بهذا الكلام الهلامي أعطى حسين أحمد أمين جواز مرور من عدم التصادم مع الإسلام !
وحسين أحمد أمين هذا ( بعيداً عن علاقته الخاصة بالدوائر الغربية ) له مؤلفات شهيرة في الهجوم على الشريعة الإسلامية كبيرها وصغيرها ( راجع كتابنا: تزييف الإسلام وأكذوبة المفكر الإسلامي المستنير ) ، ولكن من الطبيعي أن يجد له مكاناً إسلامياً في رؤية المسيري الفضفاضة والمرتبكة في العلاقة بين الإسلام والعلمانية.(34/9)
أما الأمثلة الأخرى التي يتخذها المسيري للمفكرين فأشد غرابة ؛ لأن نموذج حسين أحمد أمين نموذج معروف بالعلمانية الملتوية التي تحاول أن تتخذ ستاراً إسلامياً ، لكن ما بالكم بالدكتور فؤاد زكريا ذلك المفكر المادي المعروف والذي قد تمثل صراحته الفكرية أهم مميزات فكره؟! فيذكر المسيري أن الدكتور فؤاد زكريا يصف العلمانية بأنها "الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة" ويوضح فؤاد زكريا موفقه بقوله: "إن ما تريده العلمانية إن هو إلا إبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع والإبقاء على هذا الميدان بشرياً بحتاً تتصارع فيه جماعات لا يمكن لواحدة منها أن تزعم أنها هي الناطقة بلسان السماء. فأساس المفاضلة بين المواقف المختلفة يجب أن يكون العقل والمنطق والمقدرة على الإتيان بالحلول الواقعية الناجحة "! ويذكر المسيري للدكتور زكريا أيضاً قوله: "إن العلماني المتحمس يرفض توجيه التنظيم السياسي للمجتمع توجيهاً يرتكز على سلطة الدين ، ولكنه في الوقت ذاته يتزوج بوثيقة شرعية إسلامية " ! ثم يتساءل المسيري -بفيض من البراءة المصطنعة ! - هذا السؤال العجيب: هل يمكن الحديث عن فؤاد زكريا بعد هذا باعتباره علمانياً شاملاً؟!! ولا أدري هل ينتظر المسيري أن يرفض الدكتور فؤاد زكريا الزواج بوثيقة شرعية إسلامية وهو يعيش بين أكناف مجتمع مسلم له ضغوطه الخاصة حتى يقبل الحديث عنه باعتباره علمانياً شمولياً؟!! ثم ما الذي يهمنا هنا في هذا المثال ( مثال الدكتور فؤاد زكريا ) في رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية في كونه علماني جزئي أو شامل في تحديد موقفه من الإسلام ولكن الدكتور المسيري بتلك الحيلة العجيبة ( ادعاء أن العلمانية الجزئية يمكنها التوافق مع الإسلام ثم ادعاء أن الدكتور زكريا فؤاد علماني جزئي ) أوجد له مخرجاً من تناقضه الفكري مع الإسلام.
ننتقل الآن إلى مثال آخر أكثر وضوحاً(34/10)
فمحمد أركون قدم تعريفاً للعلمانية يقترب للغاية من التعريف الذي قدمناه حيث تكاد تتطابق عنده العلمانية مع "العقلانية التي تشكل أساس الحضارة الغربية وتذهب إلى ضرورة سيادة العقل البشري القائم على التفحص والتجريب والقياس الرياضي الدقيق".
ثم يعود فيخص الغرب بهذه العلمانية العقلانية التي يصفها بالجامدة والصراعية مع الدين ؛ لأن "مفكري أوروبا إذ يستمرون في العمل والتفكير داخل إطار الفكر المعلم كلياً ويستبعدون بشكل قطعي كل ما يخص البعد الديني من إنتاج المجتمعات البشرية فإنهم يجترجون عملاً تعسفياً لا منطقياً ولا عقلانياً.
حسناً. إذاً ما هي العلمانية التي يحبذها ( المفكر الموضوعي الكبير ! ) محمد أركون؟ يتلخص ذلك بحسب ما يعرضه المسيري لموقفه في هذه الأسئلة التي يطرحها: "هل يحق للإنسان أن يعرف أسرار الكون والمجتمع أم لا يحق؟ هل نثق بعقله في استكشاف المجاهيل وقيادة التاريخ أم لا نثق؟ هل هو قادر بواسطة عقله -وعقله فقط- على فهم الأشياء واتخاذ القرار أم غير قادر؟(34/11)
يقول أركون: إنه توجد إجابتان على هذه التساؤلات فالبعض يقول: إن الإنسان بحاجة إلى قوة خارجية ( فوق طبيعية ) لكي تسيره وتسير أموره. والبعض الآخر يقول: "لا. إن الإنسان قادر بحد ذاته على تسيير أموره وحل مشاكله وتشكيل الصيغ الأجمل والأفضل للحياة في المجتمع ، وفي الحالة الأول نكون من أتباع الإنسية الدينية ، وفي الحالة الثانية نكون من أتباع الإنسية الحديثة". وينادي أركون بما يسميه العلمانية المنفتحة التي تعمل على التوفيق بين الإجابتين حيث أن "هذه العلمنة الإيجابية تأخذ الإنسان في كليته المادية والروحية دون أن يؤثر بعد من أبعاده على حساب البعد الآخر". ولكن أركون عندما يتحدث مباشرة عن برنامجه العلمي الإصلاحي يقول: "كل ما أطلبه من أجل إدخال العلمنة الصحيحة في المجتمعات العربية والإسلامية هو إلغاء برامج التعليم السائدة، وإلغاء الطريقة اللاتاريخية والعقائدية التبشيرية لتعليم الدين في المدارس العامة وإحلال تاريخ الأديان والأنثربولوجيا الدينية محله" !
ويبدو أن هذه الخطوة الأخيرة أدت إلى ارتباك المسيري أو ادعائه الارتباك في تحديد موقف أركون من الدين إذ يقول: "ببدو أن محمد أركون قد نسي الهدف الأساسي من برنامجه الإصلاحي! وهو إتاحة إمكانية وجود روحانية جديدة.. إذ إنه بدلاً من ذلك يحدد الهدف من برنامجه بأنه "دراسة بنية العقل الديني وطريقة اشتغاله ووظائفه. ولا تهم مضامين العقائد والمذاهب بحد ذاتها". وكأن المسيري قد صدق بالفعل أن علمانية أركون تسمح بإمكانية وجود روحانية جديدة كما يدعي؟ يالبراءة المسيري!
ولهذه البراءة العجيبة وضع الرجل في خانة المترددين بين العلمانية الجزئية والشاملة.(34/12)
والمسألة ببساطة هي أن أركون ما فعل سوى ما اعتاد فعله العلمانيون العرب ؛ وهو التهويم باقتصار الرؤية العلمانية على المسائل السياسية والواقعية فقط دون التدخل في العقائد ، ولكن عندما يتعلق الأمر بالخطوات العملية فلا مناص من القفز إلى قلب هذه العقائد والإطاحة بها تماماً. لكن المسيري لا يقول إنه يفهم هذا ، ومن ثم يزعم أنه أصيب بالارتباك من موقف الرجل.
إن المسيري بعد أن ناقش التعريفات السابقة والكثير غيرها للعلمانيين العرب يعلق على ذلك فيقول: "معظم التعريفات أهملت قضية المرجعية النهائية للمصطلح ( والمفهوم ) [ وهل تحتاج العلمانية إلى مرجعية نهائية غير نفسها؟!] ومن ثم لم يتم التمييز بين الدائرتين: الصغيرة الجزئية والكبيرة الشاملة".
وإهمال تعريفات العلمانيين العرب للتمييز بين الدائرتين ليس عيباً فيها ، وإنما العيب في فكر المسيري الذي توهم وجود مثل هاتين الدائرتين ، ثم جعل من هذا الوهم محكاً للحكم على هذه التعريفات. بل إن اعتراف المسيري نفسه بإهمال هذه التعريفات لذلك التمييز يُظهر مدى ما بذله من تكلف من الاستخراج المصطنع لوجود مثل هاتين الدائرتين في تلك التعريفات. إن قلة قليلة من العلمانيين العرب ( وهذا أمر طبيعي تماماً نظراً للتشبث المجتمعي بالإسلام رغم كل العداءات ) هي التي من الممكن أن تتبنى صرامة موقف العلمانية الحقيقي الإقصائي من الدين ، ولكن الغالب الأعم منهم يبحث دائماً عن شكل ما من أشكال الاحتيال الفكري الذي لا يضعه في هذا التعارض الصريح مع الدين ، ويكاد يتمثل الجانب الأكبر من تاريخ الفكر العلماني في العالم العربي في تلك الجهود المبذولة في اتخاذ مثل تلك الأشكال المختلفة من الاحتيال الفكري.(34/13)
ولكن الدكتور عبدالوهاب المسيري يعطي بهذا الاختلاف المصطنع لما سمي بالعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة تسويغاً اجتماعياً (يحاول أن يضفي عليه مسحة من الإسلامية ) لكل هذا الغالب الأعم. ولأن أصعب شيء على نفس هؤلاء العلمانيين هو التأكيد على تلك الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية ، فإن ذلك يبرز خطورة تيار الوسطية بين الإسلام والعلمانية ( والذي أعطاه المسيري بكتابه هذا زخماً كبيراً ) والذي يُدفع للانتشار والهيمنة على الأجهزة الإعلامية من جهات عديدة ، وتتمثل غاية ذلك التيار الأساسية التي تُبذل من أجلها كل جهوده في محو تلك الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية ! " . انتهى كلام الدكتور محمد مبروك – وفقه الله - .
تعليق
1- قول الأستاذ مبروك الأخير : " إن ذلك يبرز خطورة تيار الوسطية بين الإسلام والعلمانية ( والذي أعطاه المسيري بكتابه هذا زخماً كبيراً ) والذي يُدفع للانتشار والهيمنة على الأجهزة الإعلامية من جهات عديدة ، وتتمثل غاية ذلك التيار الأساسية التي تُبذل من أجلها كل جهوده في محو تلك الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية " ، يجد القارئ مصداقه في هذا الرابط ( العصرانية قنطرة العلمانية ) .
2- ذكر الأستاذ بعض الأسماء : هويدي - الغنوشي - فؤاد زكريا - أركون - حسين أمين - عمارة .. تجد التفصيل عنهم على هذه الروابط : ( هنا ) و ( هنا ) و ( هنا ) .
3- ذكر الأستاذ شبهتهم في الاستدلال بحديث : " أنتم أعلم بأمور دينكم " . تجد ردها على ( هذا الرابط ) و ( هذا ) . والله الموفق ..(34/14)
كذبة طاش وبدرية البشر على العلماء .. في مسألة البرقيات .. !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
توضيح هذه الكذبة وغيرها من الكذبات التي اعتاد عليها أهل الإفساد ؛ لتشويه الالتزام بشرع الله ، وبالعلماء والمستقيمين من أهل هذه البلاد ، أنهم يتلقطون أخطاء الجهال ، فيُعممونها على العلماء وطلبة العلم والأخيار ، متجاهلين أن العلماء هم أول من تصدى لها وأنكرها ، وناصح أهلها ، وبين لهم خطأهم . وهذا من الاصطياد في الماء العكر . وليس العجب من كذبهم ؛ لأن كذب الحاقد أمرٌ مفروغٌ منه ، ولكن العجب أن يسمع لهم بعض الطيبين ، فيصدقوا كذباتهم ، والله يقول : ( وفيكم سماعون لهم ) .
أمثلة :
1- تراهم دائمًا إذا ما أرادوا ذم الأخيار ، رددوا قصة الإخوان الذين اختلفوا مع الملك عبدالعزيز – رحم الله الجميع - ، متجاهلين أن العلماء هم أول من تصدى لهم ، وناصحهم ، وحذر منهم !
2- ومثلها : يرددون حادثة جهيمان ! والعلماء هم أول من أنكر عليه وتصدى لهم .
3- ومثلها : ترديدهم لحادثة من أنكر تعليم البنات ( خشية أن يكون كالتعليم في الدول الأخرى المبتلاة بالاستعمار ) ، فبين لهم العلماء ووضحوا شرعية هذا الأمر بضوابطه . وتوضيحه في ( هذا الرابط ) .
وأهل الإفساد لا يرضيهم أن يتصدى العلماء وطلبة العلم للجهلة ؛ لأنهم يريدون تشويه ( الجميع ) ! بل لو كانوا صادقين مع أنفسهم لقالوا : نريد تشويه الاستقامة على شرع الله ؛ لأنها تعارض أهواءنا وشهواتنا ، ولهذا نلجأ للتلبيس على الناس بطمس جهود العلماء ، والتركيز على أهل الجهل ، مع تعميم حالهم ؛ للتشويه والصد – كما سبق - .(35/1)
ومن هذا : ماقام به فريق الطائشين في " طاش " – وهو مسلسل يقف وراءه أهل مكر وتخطيط ، يطرحون من خلاله فكرهم بواسطة المهرجَين - ، حيث ادعى هؤلاء – ومعهم بدرية البشر في كتابها الأخير عن طاش - أن أهل الاستقامة قد حرموا " البرقية " أول دخولها المملكة !! متجاهلين أن من حرمها هم فئة من الجهال ( بغض النظر عن نيتهم الطيبة ) ، أما العلماء فقد تصدوا لهم ، وأنكروا فعلهم ، وأصدروا بيانًا بهذا ، لن يفرح برؤيته أهل الإفساد . وهذا نصه من مصدر مقبول منهم ، وهو كتاب " عند الصباح حمد القوم السرى " ، للأستاذ عبدالعزيز التويجري ، الذي نشر صورته أيضًا . ( ص 145-150 ) :
بسم الله الرحمن الرحيم(35/2)
من محمد بن عبداللطيف ، وسعد بن حمد بن عتيق ، وسليمان بن سحمان ، وعبدالله بن عبدالعزيز العنقري ، وعمر بن سليم ، وصالح بن عبدالعزيز ، وعبدالعزيز بن عبداللطيف ، وعمر بن عبداللطيف ، وعبدالله بن حسن ، وعبدالرحمن بن عبداللطيف ، ومحمد بن إبراهيم ، ومحمد بن عبدالله ، إلى من يراه من كافة الإخوان ، وفقهم الله لما يُحبه ويرضاه ، وجعلنا وإياهم ممن اتبع هداه ، آمين : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ذلك : أشرفنا على بعض مكاتيب الإمام عبدالعزيز ، وفقه الله وحفظه ، إلى بعض الإخوان ، ورأينا فيها بعض الكلام على مسألة " الأتيال " ( التلغراف ) وأجناسها ، وكأنه مشكل عليكم توقفنا العام الفائت عن الجزم بالتحليل ، وظننتم أن عندنا أمرًا قد كتمناه عنكم ، وهذا ظن ما ينبغي منكم بنا ، نحن إخوانكم ، لأن الواجب عليكم أن لا تظنوا أننا نتوقف عن شيئ قد ظهر لنا حكمه مراعاة لوجه خدمة الناس ، فنعوذ بالله أن نكون كذلك ، وإنما توقفنا اتباعًا لأمر الله ، وما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله سبحانه : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام اتفتروا على الله الكذب ) ، ونحن ما نقول ولا نعمل ، إن شاء الله ، إلا بما ظهر لنا من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال السلف ، رضي الناس أم غضبوا ، وعند العلماء عادة مشهورة ، وهي أن العلماء إذا توقفوا في شيئ واختلفوا فيه فلا يُعاب على فاعله ولا يعاتب على تاركه إلا بدليل شرعي ، فأما مسألة " الأتيال " وأجناسها فلا والله ، ونبرأ إلى الله ، أن يكون قد ظهر لنا فيها أمر محرم من كتاب الله أو من سنة رسوله أو من أقوال العلماء ، أو من أهل الخبرة ممن نثق به ، فنقول : من تكلم في مسألة الأتيال بتحريم ، أو عاب على الإمام بسببها والحالة هذه ، فقد أخطأ وارتكب معصية ، وخالف أمر الشريعة . هذا الذي ندين الله به ، وهو الحق ، ونبرأ إلى الله من غير ذلك .(35/3)
هذا الذي عندنا ( ومن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ) ، نرجو الله أن يُلهمنا وإياكم رشدنا ، ويُعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، والله على ما نقول وكيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين " .
تعليق
1- الاندهاش من المخترعات الحديثة التي لم يعرفها بنو آدم إلا في هذا العصر أمر فطريٌ في الإنسان ، الذي من طبعه الجبلي استنكار كل جديد وغريب ، إلى أن يتعرف عليه ، فيُصدر حكمه عليه . ولاعلاقة له بدين أو مكان الإنسان . ( ولنتذكر قصة موسى عليه السلام مع العصا التي انقلبت إلى ثعبان كيف ولى مدبرًا ) ، وعندي الكثير من الأخبار عن اندهاش الناس في المجتمعات الغربية – نفسها - لما شاهدوا بعض المخترعات ، ومثلها عن الدول العربية ، سأنشره قريبًا إن شاء الله . فمن المؤسف أن يأتي إنسان في هذه السنين – بعد أن ألفَ الجميع المخترعات وعايشوها – ليضحك من تصرفات الأولين ، ويسخر منهم ، وأظنه لو عاش عصرهم لفعل أعظم من فعلهم ! ولهذا :
2- ما أجمل ما قاله محمد جلال كشك – رحمه الله – مدافعًا عن الإخوان الذين سخرت منهم بدرية وزوجها ، قال : " وهذا الرفض للمخترعات قبل فهم سرها ، يدل على عقلية أكثر علمية ، وأكثر احترامًا للنفس ، من المتخلف الذي يتعاطى هذه المخترعات دون أي انفعال ، رغم مخالفتها لكل قوانين عالمه ، وجهله المطلق بفكرتها تمامًا ، كتعامل القردة مع الآلات ، إن الخوف من المجهول هو أول درجات العلم .. الخ ماقال " . ( السعوديون والحل الإسلامي ، ص 588 ) .
3- في مقابلة جريدة شمس مع بدرية البشر المهاجرة وزوجها من بلاد التوحيد ! سألها الصحفي : " حصلتِ على الماجستير من جامعة الملك سعود في (الرياض) والدكتوراة من الجامعة اللبنانية،في ( بيروت ) ..ما الفارق الذي لفت نظرك بين الجامعتين والعاصمتين؟ " .(35/4)
أجابت : " منحتني بيروت شاطئها أتريض عنده حين حرمتني الرياض من أسواقها إن خالفت شريعة وضع العباءة على الرأس وليس الكتف ، ويطردني مطاوعتها منها " !!
قلتُ : مسكينة أنتِ يا بدرية !
لبنان التعيس .. الذي يئن تحت وطأة الحروب ، والتفجيرات ، والنزاعات ، والاغتيالات ، والأحزاب ، والاقتصاد المنهار ، والحال السيئ الذي لايتمناه المرء لمن يُحب .. كل هذا نسيتيه ؛ لأجل أنكِ تمددتِ على شاطئ البحر بدون عباءة !! ما أحقر أمانيكم !
ومادام هذا مستوى تفكيركِ فإني أقترح عليكِ وزوجكِ – بعد أن انسلختما من بلاد التوحيد – أن تنسلخا – أيضًا – من جنسيتكما ، وتهدوها إحدى العوائل اللبنانية البائسة التي تحلم بمثل هذه الجنسية ؛ لتعيش حياة الفضيلة والعز ، بعد أن زهد فيها مرتاضو الشواطئ !
أصلح الله حالكِ وزوجكِ .. وكفانا شر أهل الإفساد بما شاء .. والله الموفق .(35/5)
إلى الشيخ القرضاوي : خالف الإجماع ولكن لاتنسبه لابن القيم ( مع هدية )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُعد القرضاوي - هداه الله - من منظري ما يسمى " منهج التيسير " في الفقه ، حيث شاد كثيرًا من بنائه ، وأسس له في بلاد كثيرة ، فتأثر به فئة من الدعاة وطلبة العلم ، ظانين أنهم بهذا المنهج يخدمون الإسلام ، ويُرغبون الناس فيه . وفاتهم - هداهم الله - أن هذا المنهج فيه مفاسد كثيرة ؛ منها : أن فيه إعراضًا عن نصوص الكتاب والسنة ، وتحايلا عليها بشتى الحيل التي لا ترضي الله ، بل تدل على أن هذا المتحايل لم يرض حكم الله ، فهو يستحيي من عرضه على الناس ، ومنها : أن فيه صدًا عن الإسلام ، عندما يكتشف المدعو أن هؤلاء الميسرين قد خدعوه وأخفوا عنه جانبًا من جوانب الإسلام ، ومنها : أن فيه تلاعبًا بدين الله واستهانة بأوامره ونواهيه ، فهذا المنهج السيئ بإيجاز : استدراك على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعدم يقين بقوله تعالى : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم ) .
ومن تجاوزات هذا المنهج الضار : مادعا له بعض رموزه ( كالعلايلي قديمًا ثم الترابي حديثًا ) من جواز زواج الكافر من المسلمة !! خارقين بذلك النصوص الشرعية ، غير آبهين بإجماع المسلمين على مر العصور ، وقد رد علماء الإسلام عليهم انحرافهم هذا على رأسهم مفتي المملكة ، ولله الحمد ، تجد بعض ذلك في الكتاب المرفق .
ثم جاء القرضاوي - هداه الله - مؤيدًا الترابي في بعض قوله . ولم يكفه هذا حتى نسب انحرافه إلى ابن القيم - رحمه الله - ! لما يعلمه من مكانة لهذا الإمام ، وهذا من الغش والتلبيس على المسلمين ، وتمكين لعلوج الكفار من وطء المسلمات - والعياذ بالله - . وليته إذ اختار هذا الانحراف مذهبًا له ، تحمل تبعته أمام الله ، ولم يُقحم معه أئمة الإسلام الذين باعد الله بينهم وبين هذه المذاهب المنحرفة .(36/1)
يقول القرضاوي في مذكراته التي صدرت قريبًا ( 3/ 387 ) : " وأذكر أن الترابي قد أثار زوبعة في المؤتمر ، عندما أشار إلى جواز أن تبقى المرأة مع زوجها الكتابي ، إذا أسلمت هي وبقي هو على دينه . وقامت القيامة عليه ، ورد عليه العلماء الشرعيون الحضور .. - إلى أن قال - وكنتُ أظن أن في المسألة إجماعًا يجب أن يُحترم ولا يُخترق . وبعد نحو ربع قرن من الزمان : ثارت القضية من جديد في المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ، وتبين لي أن المسألة التي كنت أظن أنها إجماعية فيها تسعة أقوال ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة ، منها عن عمر وعن علي رضي الله عنهما في جواز بقائها مع زوجها ، وعدم فسخ النكاح الأول - إلى أن قال - وقد أعد زميلنا في المجلس الأوربي الشيخ عبدالله الجديع بحثًا معمقًا مفصلا مدللا .. ورجح بالأدلة جواز بقاء المرأة مع زوجها الكتابي ، ولو لم يُسلم " !! ( هكذا بإطلاق ) .
قلتُ : رجّح أنت وزميلك الجديع ما شئتما ، فحسابكما على الله ، ولن ينفعكما هذا التحايل على الأحكام الشرعية ، ولكن لا تنسبوا ترجيحاتكما المنحرفة الخارقة للإجماع - لتمريرها - إلى علماء المسلمين الذين حماهم الله من هذا الزيغ ، ورفع ذكرهم عندما عظموا شرعه ، ولم يستخفوا منه ، أو يستنقصوه .
فهذا الرأي الذي نسبته لابن القيم - رحمه الله - هو كذب عليه ، وتلبيس على المسلمين ، وفيه استهانة بأعراض المسلمات ، وسأنقل قول ابن القيم كاملا دون بتر !
قال - متحدثًا عن هذه المسألة الفقهية في كتابه أحكام أهل الذمة 1/320 - :(36/2)
( وقال حماد بن سلمة عن أيوب السختياني وقتادة - كلاهما - عن محمد بن سيرين عن عبدالله بن يزيد الخطمي أن نصرانيًا أسلمت امرأته ، فخيرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه . وعبدالله بن يزيد هذا له صحبة . وليس معناه أنها تقيم تحته وهو نصراني ، بل تنتظر وتتربص ، فمتى أسلم هي امرأته ، ولو مكثت سنين ، فهذا قول سادس ، وهو أصح المذاهب في هذه المسألة ، وعليه تدل السنة كما سيأتي ، وهو اختيار شيخ الإسلام ) انتهى كلام ابن القيم - رحمه الله - . ولم يكتفِ بهذا ، بل قال في نهاية الأقوال : ( قلت : ومرادهم أن العصمة باقية ، فتجب لها النفقة والسكنى ، ولكن لا سبيل له إلى وطئها ) .
فتأمل الفرق بين القولين . القرضاوي والجديع يفتيان ببقائها مع زوجها ، دون تنبيه إلى عدم جواز وطء زوجها الكافر لها ، ولا أظنه يخفى القرضاوي الذي رجع لكتاب ابن القيم هذا القيد ، ولكنه منهج التيسير ، ولو على حساب الأعراض ! - نسأل الله العافية - .
وإلى القارئ الكريم رسالة مهمة في بيان الفرق بين منهج التيسير الشرعي المنضبط ، ومنهج التيسير الفاسد الذي يسير عليه القرضاوي وأتباعه - هداهم الله - وفيه أيضًا ردٌ على من قال بالانحراف السابق المخالف للإجماع .والله الهادي .
( حمل من هنا )(36/3)
(العلماء والنفط ) كذبة رددها العواجي وآل الشيخ ..ماذا قال عنها الطريقي؟
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سبق للدكتور محسن العواجي - هداه الله - أن ادعى أن العلماء اعترضوا على استخراج النفط ! وقبله فعلها الأستاذ محمد آل الشيخ الكاتب بجريدة الجزيرة ؛ بل ردد هذه الكذبة ثلاث مرات في مقالاته بالجريدة أو بالشبكة الليبرالية ، يُتبعان ذلك بحسرة : كيف لو أن الملك طاوعهم ! .. الخ تهويلاتهما .(37/1)
وبعد البحث وجدتُ أن عمدتهما وغيرهما : ماجاء في كتاب " لسراة الليل هتف الصباح " للأستاذ عبدالعزيز التويجري ، حيث أورد وثيقة خطاب من الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ - رحمه الله - إلى الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يقول له فيها بعد السلام : ( أمابعدُ ؛ فالموجب لهذا هو النصيحة لكم ؛ لأن الله تعبدنا بذلك وأوجبه علينا ، وحرّم علينا الغش والسكوت عن البيان ، وهو أن الله من عليكم بهذه الولاية الإسلامية الدينية التي نشأتم عليها ، وعشتم في ظلها ؛ بانتسابكم إليها ، ولكن يا محب : الواجب عليك حفظ هذه الولاية ورعايتها وإحاطتها عما يشينها ، ويوجب زوالها ، نرجو من الكريم المنان أن يديمها ولا يغيرها عليكم ، ولكن دوران هؤلاء الأجانب في ولاية المسلمين بقولهم : معادن وغير ذلك ، فأنت ولله الحمد في غنى عن هذه الأمور ، وتمكينهم من التماس المعادن بزعمهم لا يؤمن مكرهم ، وأنت ولله الحمد من أحزم الناس وأكيسهم وأبصرهم بالأحوال ، ولكن هذا شيئ في النفس ، ومثل هذا الذي عند " كشب " و " تنورة " امنعهم من ذلك ، وهذه الولاية التي أكرمكم الله بها ، وبسط أمنها على أيديكم ، لا يصلح فيها إلا من هو مأمون موثوق به ) . ( لسراة الليل ص 379) . علق الأستاذ عبدالعزيز التويجري قائلا : ( رحمك الله يا شيخنا وغفر لك ، إنك مخلص في اجتهادك ، تقي ورع ، ولكن الحمد لله على ما قدر وحصل ، ماذا لو أن الملك عبدالعزيز أخضعته مثل هذه النصائح ، التي لا بينة عليها للناصح .. الخ ) .(37/2)
قلت : أظن هذا التعليق هو مصدر العواجي ومن معه . ومن تأمل رسالة الشيخ محمد بن عبداللطيف - رحمه الله - علم أن هدفه منها ( التحذير من دوجان أجانب الشركات في بلادنا ) سواء للنفط أو لغيره ، وأنهم لايؤمن مكرهم بالتجسس أو التنصير أو غير ذلك من مفاسدهم ، والعواجي وآل الشيخ وغيرهما يوهموننا أن الشيخ والعلماء حذّروا الملك من ( استخراج النفط ) !! ولا أدري ما الداعي لهذا الفهم المغلوط ؟ وهم يعلمون أن العلماء قبل غيرهم استعملوا أمورًا كثيرة تأتي من الكفار ؛ كالأسلحة ونحوها . فهل هذه المغالطة لأجل مافي نفوسهم من نقمة على العلماء ، أو بسبب ادعاء كل واحد منهم أنه فقيه الواقع الذي لا يُشق له غبار ! أو ماذا ؟
ويرد هذا الفهم الساذج أن الشيخ - رحمه الله - قال في خطابه : ( وهذه الولاية التي أكرمكم الله بها ، وبسط أمنها على أيديكم ، لا يصلح فيها إلا من هو مأمون موثوق به ) . فلو كان المُنقّب عن النفط مسلمًا لما اعترض الشيخ أو العلماء ؛ لأن الهدف هو إبعاد الأجانب عن هذه البلاد المسلمة . لاسيما وقد رأى الجميع - في عصرهم - مكر الأجنبي الكافر الذي اتخذ من مثل هذه الشركات وسيلة لمد نفوذه إلى بلاد المسلمين ، والسيطرة عليها ، أو على الأقل اختراقها ، والاستفادة من خيراتها بأقل الأثمان . وماقصة احتلال شركة الهند الشرقية التابعة لبريطانيا لبلاد الهند المسلمة عنا ببعيد . وقد تعرضت لها في مقال سابق ، تجده على ( هذا الرابط ) .(37/3)
إذن : فتصرف العلماء مع الملك هو التصرف الصائب من الناصح الشفيق ، محبة لهذه البلاد التي جمعها الله على يديه أن يختل نظامها بسبب تدخلات الأعداء ، وكون الملك يستمر في منحهم امتياز التنقيب لا يعني خطأ تحذير العلماء ؛ لأنه سيُقدم عليه وهو مضطر له في تلك الفترة التي يندر أن يوجد فيها بديلٌ لأولئك الأجانب ، ولكنه سيكون حذرًا منهم ، مُحَجمًا لنشاطاتهم وتطلعاتهم بسبب المناصحة والتنبيه . ومن نعم الله على الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أنه هيأ له كوكبة من العلماء الثقات الناصحين ، الذين شيدوا بناء الدولة معه لبنة لبنة ، بنوايا خالصة لله وحده ، وفي سبيل إعادة بناء دولة التوحيد بعد أن أذهبتها الخلافات - كما هو معلوم - ، ولم تكن لهم مطامح دنيوية ، ولهذا بارك الله في أعمالهم ، ولايجحد هذا إلا من هو شانئ لهم . وقد استفاد الملك منهم كثيرًا في مواقف متعددة - ليس هذا مكان تفصيلها - .
عبدالله الطريقي : وزير النفط النابغة
يؤيد فهم العلماء وتخوفاتهم
وفهم العلماء السابق وتحذيرهم من الشركات الأجنبية ، ومخططاتها في البلاد المسلمة ، هو مافهمه أحد أبرز خبراء النفط في بلادنا ، ممن لايُشك في ذكائه ولا نُصحه ، أعني : عبدالله الطريقي - رحمه الله - ، أول وزير للنفط في السعودية ، الذي كانت له مواقف مشرفة في مجال مزاحمة هذه الشركات الأجنبية ، والتصدي لأطماعها ، والتحذير منها . فمن أعماله وأقواله :
1- تأسيس كلية البترول والمعادن ، من أجل تكوين قدرات وطنية قادرة على استيعاب تكنولوجيا النفط .
2- تأسيس منظمة الدول المصدرة للبترول ( الأوبك ) مع وزير النفط الفنزويلي خوان بابلو بيريز الفونسو. للتحكم في أسعار النفط وحصصه .(37/4)
3- من مقولاته : ( كلنا نعرف أن شركات البترول ذات طابع سياسي بجانب طابعها الاقتصادي والتجاري ، وأنها تُشكل حكومات في الأقطار العربية التي تعمل فيها ، وتنظيماتها مرتبة ومقسمة بطريقة تجعلها وكأنها حكومات مستقلة ذات سيادة .. وهي تتعامل مع الحكومة المحلية على قدم المساواة ، ولديها من القوة الفعلية ما يجعلها تتصرف في بعض الحالات وكأنها السلطة الوحيدة في البلاد . والذين يرون هذه الأمور بسهولة لابد لهم من أن يعيشوا كما عاش كاتب هذه السطور مدة طويلة بين ظهراني تلك الشركات ؛ ليتأكدوا من هذه الحقائق ) . ( الأعمال الكاملة ، ص 30 ) . فهو قد قال ماقال من خلال تجربة مع هذه الشركات الاستعمارية .
4- من مقولاته : ( إن الفنيين العرب إذا ما عادوا من جامعات أوروبا وأميركا - يحملون نفس الكفاءات العلمية التي يحملها زملاؤهم الأجانب- فإنهم يشعرون في بلادهم وفي أوساط الشركات النفطية الأجنبية بأنه لا يحق لهم ما يحق للأجنبي في بلادهم مهما علت درجاتهم العلمية. وتتحايل الشركات النفطية بشتى الطرق لإبعادهم عن ممارسة اختصاصاتهم وممارسة التمييز العنصري بحقهم وجعلهم يشعرون في بلادهم بأنهم أقل كفاءة وأقل أهلية للثقة من زملائهم الأجانب. مما سبب لكثير من هؤلاء الفنيين خيبة أمل ودفع الكثير منهم إلى ترك العمل في مجال تخصصهم ، والعمل في مكاتب الحكومة حيث يقومون بأعمال لا علاقة لها بما خصصوا أنفسهم له. وقد يضطر البعض منهم إلى الهجرة إلى الخارج وهذا يحدث كثيراً ) . ( السابق ، ص 17 ) .(37/5)
5- قال المعلق على أعماله الكاملة : ( لقد أدت تجربة الطريقي النفطية في الخمسينيات واحتكاكه وتعامله المباشر مع شركة أرامكو التي كانت مهيمنة بصورة مطلقة على صناعة النفط السعودية، إلى تركيز قناعته بأن الشركات النفطية الأجنبية تعمل لمصلحتها أولاً، ولصالح حكوماتها ثانياً، وأخيراً، وبشكل ثانوي، لفائدة الدول المنتجة. ودعمت دراسة قامت بها منظمة الأوبك في عام 1963 صحة مخاوف الطريقي بالأرقام ؛ فقد وجدت الدراسة "أن معدل سعر برميل من المنتجات البترولية المكررة للمستهلك النهائي في ذلك الوقت كان يبلغ حوالي 11 دولاراً، في حين شكلت العوائد الحكومية للأقطار المنتجة 6.7 بالمئة فقط ( حوالي 47 سنتًا ) بالمقارنة بـ 52.3 بالمئة ( حوال 5.75دولار ) على شكل ضرائب مباشرة وغير مباشرة مفروضة على النفط من قبل حكومات الأقطار المستهلكة، والبقية تبقى من حصة الشركات".
ركز الشيخ الطريقي أثناء العقد من الزمن الذي عمل فيه في صناعة النفط السعودية، ونتيجة للقناعات التي توصل إليها، على أمور ثلاثة رئيسة:
الأول: تحقيق ريع أعلى من الدخل النفطي لصالح بلاده، وذلك من خلال إثارته قضية محاسبة شركة أرامكو على أساس السعر المعلن للنفط، ومسألة تنفيق الريع، بالإضافة إلى تحديد الإنتاج بحيث يتناسب مع الطلب في الأسواق.
الثاني: محاولاته الدؤوبة لتغيير أولويات شركة أرامكو لكي تخدم مصلحة المملكة لا مصلحة الشركة نفسها فقط. فطالب، ضمن ما دعا إليه، إلى مشاركة الحكومة في رأسمال الشركة، وفي انفصال أرامكو عن السيطرة المحكمة التي وضعتها فيها شركاتها الأم الراعية المالكة لها في حينه.(37/6)
لاقت جهود الطريقي معارضة قوية من قبل الشركات الأجنبية. وكان يشتكي من ذلك كثيراً. فذكر في مقابلة له مع نشرة بتروليوم وبك " إن الشركات لا تريدنا أن نقوم بأي شيء. إنها تفضل ألا تقوم الحكومات بأي شيء بالنسبة لنشاط يحصلون منه على معيشتهم. إنها لا تريد من الحكومة أن تتدخل بأن شكل كان في مجال النفط في بلدها" ، وفي مداخلة له في مؤتمر البترول العربي الذي عقد في بيروت في عام 1960، اتهم الطريقي الشركات أنها " تستطيع أن تُبلغ حكومتين شيئين مختلفين ! لهذا فإننا لا نستطيع أن نقبل أي شيئ تقوله الآن بدون تحرٍ حقيقي . إنها لا تُطلعنا على مايجري خارج مرحلة الإنتاج، وتدعي بأن هذا شيء معقد وأنه من اختصاص الشركات الأم !! إنها تعاملنا كأطفال !! ".
الثالث: تدريب الشباب السعودي وابتعاثه إلى الخارج لتلقي العلم والعودة للمساهمة في إدارة الصناعة البترولية الوطنية ) . ( السابق ، ص 17-19 ) .
6- كتب مقالا مهمًا بعنوان : ( الشركات الاحتكارية العالمية وسيلة الاستعمار الجديدة في السيطرة والاستغلال ) . قال فيه :(37/7)
( هذه هي الحلقة الأولى عن أساليب الاستعمار في السيطرة. وسنتبعها بعدة حلقات لنضع أمام القارئ صورة صحيحة عن أساليب الاستعمار ، وكيف أن الشركات الاحتكارية العالمية تمارس نشاطاً سياسياً بجانب نشاطها الاقتصادي ) . وقال : ( وإذا ما عدنا إلى المشرق العربي وتبصرنا في نشاط الاحتكارات الأجنبية بطريقة موضوعية بحتة لوجدنا أن نشاط هذه الاحتكارات لا ينفصل مطلقاً عن النشاط الاستعماري والسياسي للحكومات التي تنتمي إليها. وما من حادث هام يحدث في المنطقة إلا وأمكن الإثبات بأن لنشاط الاحتكارات الأجنبية يدًا في الموضوع ) . وقال : ( لقد كان بالإمكان لو لم تتغير الظروف في العالم وتظهر على خشبة مسرح السياسة العالمية قوى لم تكن في الماضي تستطيع التأثير على الأحداث وتعلن معارضتها لجميع أنواع سيطرة الشعوب القوية على الشعوب الصغيرة، لولا ظهور هذه القوى بعد الحرب العالمية الثانية ؛ لظلت الجيوش الأجنبية مرابطة في المشرق والمغرب العربي ، ولباشرت الدول التي كانت تستعمر أرضنا نفس أسلوبها القديم في السيطرة والاستعمار. ولكن تغير الظروف جعلها تلجأ إلى أسلوب جديد في التعامل ظاهرة الاستقلال السياسي للشعوب الصغيرة ، وإدخالها الأمم المتحدة مع إبقائها مستعمرات اقتصادية لا تملك من أمرها شيئاً. ولهذا فهي، كما قال الرئيس نكروما، تعترف بالاستقلال السياسي الشكلي وتحاول جاهدة الحفاظ على الاستعمار الاقتصادي ) . ( المصدر السابق ، ص 320-325 ) .(37/8)
7- من أقواله الرائعة التي تدل على فهمه لبواطن الأمور : ( الدول الإسلامية تشكل فعلاً وحدة اقتصادية، ليس لتشابه ظروفها فحسب، وإنما لتخلفها عن ركب الحضارة، سواء أكانت نفطية أم غير منتجة للنفط. لقد لوثت الحضارة العربية معتقدات المسلمين في جميع أوطانهم، وظهر الإسلام، بفعل تعاليم الغرب ودسائسه ، وكأنه عامل من عوامل التخلف، وبدأ المغرضون ينادون بأن على المسلمين أن يتخلوا عن دينهم ليحظوا بالعيشة الآمنة الرغدة. ولقد لاحظنا أن الاستعمار الغربي لم يترك أثراً نافعاً في بلاد المسلمين، فقد منع عنهم وسائل النجاح، وحرمهم من التعليم الفني، واختار الأقليات من النصارى وغيرهم لإعطائهم الأعمال وإظهارهم في مظهر الناجحين في الحياة. وحيث أتحدث عن وحدة الدول الإسلامية فلا أعني بها ما يعلنه المسؤولون دائماً عن التعاون والتضامن والتفاهم الذي لا نجد له أثراً في واقع الحياة. إنما أعني التعاون الحقيقي. يملكون أرصدة كبيرة في الغرب، تخدم اقتصاده، وتزيد من قوته. فلو أن العرب طوروا الإمكانيات الزراعية والصناعية في الباكستان وإندونيسيا وبلاد أفريقيا المسلمة لتغير الوضع.
ولعل أعظم مثل على تخلفنا وتخاذلنا ما حصل في أوغندا، فقد حاول عيدي أمين التعاون مع الدول العربية المسلمة التي لم تستجب له. وكان في إمكانها، التنسيق معه وحتى مراجعته في بعض التصرفات الفردية التي أُذيعت عنه، مما أعطى الغرب عذراً في القضاء عليه. كما أن السودان وهي دولة مسلمة أيضاً يحتاج إلى أرضها الخصبة العربُ والمسلمون، فيمكن تطوير الزراعة فيها، باستخدام جزء من أرصدتنا في الخارج بزراعة أراضيها واستثمارها.. والقول ينطبق على دول كثيرة في أفريقيا ؛ كالصومال وإريتريا، وفي هذا إغناء لهم عن الغرب، وإيجاد أسواق لصناعات الأسمدة في بلادنا ) . ( السابق ، ص 956 ) .(37/9)
ختامًا : قال جامع أعمال الطريقي - رحمه الله - عن أيامه الأخيرة : ( وانصرف في تلك الفترة إلى ممارسة الشعائر الدينية بشكل ملحوظ ، أكثر مما كان معتاداً عليه في الماضي، كما واصل ممارسة رياضته المفضلة ؛ ألا وهي تربية وركوب الخيل .. ) .(37/10)
جماعة الإخوان تدعو للتقارب مع الشيعة .. والخطيب يرفض .. !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لم يعد يخفى على متابع موقف جماعة الإخوان - هداهم الله - من الشيعة ، حيث لا زال كثيرٌ منهم يسير وراء سراب إمكانية " التقريب " بين الشيعة وأهل السنة والجماعة ، وهو أمرٌ لا أبالغ إن قلت إنه من المستحيلات . فهل يُتصور أن تتقارب مع قوم لا يؤمنون بقرآنك ، ويعتقدون أنه محرف ومنقوص ؟ ولا يؤمنون بسنتك ، ويرونها من الأكاذيب ؟ فأي أرضية تجمعك معهم بعد هذا ؟ هذا ما يدين الله به كل عاقل لا تستخفه أوهام التقريب الموجودة في الأذهان ، ولكنها مستحيلة على الواقع ، وهذا مافهمه العلامة محب الدين الخطيب - رحمه الله - الذي خبر مذهب الشيعة ، وتصدى له بقوة ، بجهود مشكورة يعرفها المهتمون بهذا المجال . وفي المقال التالي يُبين الشيخ استحالة هذا التقارب الذي توهمته جماعة الإخوان من أيام حسن البنا - رحمه الله - ، الذي - للأسف - لم يستفد من موقف الشيخ الخطيب ولا حتى الشيخ رشيد رضا في هذا الشأن ، وخالفهما جريًا وراء الوهم ؛ مما جعل المتعصبين له - إلى اليوم - يسيرون سيره ! رغم الأحداث التي بينت حقيقة الشيعة ، ورغم السنين الطويلة التي تلقوا فيها كثيرًا من الكيد الرافضي ، وأظن هذا يرجع إلى ماذكرته في مقال سابق على ( هذا الرابط ) عن البنا أنه يختار كثيرًا التوسط في الأمور - مهما كان هذا التوسط ممدوحًا أو مذمومًا - ، مما أوقعه في أخطاء لا زالت الجماعة تعيشها - وتستكبر أن تُخطئه فيها ، وتقبل نُصح الناصحين . والله المستعان . قال الشيخ محب الدين الخطيب في مقاله المنشور بصحيفته الفتح ( العدد 862 ) :
كلام صريح وكلام مبهم
حول خرافة التقريب بين المذاهب
وجه أحد المسلمين - بل أحد الإخوان المسلمين- في المحلة الكبرى سؤالاً إلى رصيفتنا مجلة الأخوان المسلمين الغراء الأسبوعية يقول لها فيه:(38/1)
"نرجو إيضاح موقف الإخوان من مذهب التقريب بين المذاهب الإسلامية بعد أن أعلن عنه الأستاذ تقي القمي محبذاً ومتفائلاً بانضمام فضيلة المرشد العام، ثم ردّ عليه الأستاذ محب الدين الخطيب ناقداً".
فأجابت مجلة الإخوان المسلمين على ذلك في العدد 217 من سنتها السادسة بما نصه: " يرى الأستاذ محب الدين الخطيب أن التقريب بين المذاهب مستحيل، لأنها مذاهب مقررة وموضوعة على أسس ثابتة، والتقريب بينها يتطلب نقض هذه الأسس وإنشاء مذهب ثالث. ويرى أن الممكن هو العمل على التعاون في المصالح المشتركة. ويرى الإخوان أنه يجب العمل على إزالة الفوارق أو بعضها ما أمكن، وكلما قلت الاختلافات كلما أمكن التعاون والتوفيق".
وبما أن المسألة مسألة دين، والكلام في الدين يجب أن يكون صريحاً وواضحاً، فلا بد لنا أن نكون صرحاء واضحين في تفهم الغرض المقصود من "العمل على إزالة الفوارق أو بعضها ما أمكن" ، ومبدأ " أن إمكان التعاون متوقف على الإقلال من الاختلافات ، وكلما قلت الاختلافات أمكن التعاون والتوفيق".
إن المذهب الذي يتبعه تقي قمي هو المذهب الشيعي، والمذهب الشيعي يختلف عن المذهب الذي يتبعه الإخوان المسلمون والشيخ شلتوت والشيخ عبدالمجيد سليم والشيخ الزهاوي في أمرين: أحدهما يتناول أصول الدين، والآخر يتناول فروع الدين.(38/2)
فنحن - معشر أهل السنة والجماعة- نرجع في أصول الدين إلى ما جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أوحى إليه من الله، وفي السنة التي لا ينطق فيها عن الهوى ، وإنما هي من تعليم الله له ووحيه. ومضت سنة أهل السنة في فهم كتاب الله أن يتحروا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، وما فهمه التابعون من الصحابة، وما فهمه أئمتنا الأربعة وإخوانهم الذين في طبقتهم عن شيوخهم من التابعين أو التابعين لهم بإحسان. والعقائد الإسلامية، وأصول الدين قد تلقاهما أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطريق: طريق التابعين عن شيوخهم من الصحابة الذين هم تلاميذ الهادي الأعظم. فكل أصل في الإسلام أو عقيدة ، مستمدة من كتاب الله بمفهومه الذي فهمه أصحاب رسول الله، أو من سنة رسول الله، منقولة بلسان أصحابه .
والمذهب الشيعي مبني على بغض أصحاب رسول الله وشتمهم ولعنهم -يستثنون منهم عدداً قليلاً جداً- وقد بلغ بهم الحقد على أكمل خلق الله بعد رسول الله أن كذبوا على سلمان الفارسي فادعوا عليه في كتاب الوافي (2: 45) وهو من أمهات كتبهم الشرعية المعتمدة أن علي بن أبي طالب قال:" إن أول من بايع أبا بكر هو إبليس" وفيه (2: 47) أن جعفراً الصادق قال في آية ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه مجنون) نزلت في أبي بكر وعمر. ويقول شيخهم الكذوب أبو جعفر الكليني في كتابه (الكافي) 3: 325 عن آية ( إن الذين آمنوا ثم كفروا...) نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان.(38/3)
هذا قول أئمتهم الأولين في صفوة البشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما علماؤهم المتأخرون ؛ فهذا علامتهم المجتهد محمد مهدي السبزواري يقول في كتاب تاريخه 4 ربيع الآخر سنة 1347 بعث به إلى السيد إبراهيم الراوي من علماء بغداد: "قلتم أدام الله ظلكم: وإذا صدق قول الشيعة في ارتداد الصحابة كلهم الذين يتجاوز عددهم مائة ألف إلا خمسة أو ستة أو سبعة -والصواب ثلاثة - فلمَ يقاتل أبو بكر أهل الردة ويردهم إلى الإسلام؟ وكفره كفر حكمي لا كفر واقعي كعبادة الوثن والصنم ؟ وقلتم وفقنا الله وإياكم: وهذا النبي مدة ثلاث وعشرين سنة يصحبه أصحاب كفار، ومدة طويلة أيضاً تصحبه زوجة كافرة لا يعلمهم ... أقول: لم يعتقد الشيعة كفر الصحابة وعائشة في حياة النبي، وإنما قالوا إنهم ارتدوا بعد النبي" !!(38/4)
فإذا كان هذا اعتقاد الشيعة في الصحابة فبديهي أنهم ينكرون فهم الصحابة لأصول الدين، ويرفضون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها هؤلاء الأصحاب، ودوّنها أقطاب المحدثين من أهل السنة وفي طليعتهم الإمامان العظيمان البخاري ومسلم وسائر أصحاب الكتب الستة ومن في منزلتهم. وتمتاز الأحاديث التي رواها أمثال هؤلاء بأن رواتها معروفون بالصدق والعلم والأمانة والتقوى ، وسائر ما تستلزمه عدالتهم في أخبارهم، وإن تفاوتوا في ذلك ، كما هو المشاهد في خيار الناس في كل زمان ومكان. وإذا توفرت هذه الصفات الطيبة في شيعي أو زيدي أو إباضي أو معتزلي فإنهم يقبلون روايته في كل شيء إلا فيما يتعلق بالمعاني التي انفردت بها نحلتهم ؛ فإنهم يجتنبونها من هذه الناحية ويقبلون سائر ما يروونه. مثال ذلك : الحسن بن صالح بن حي الثوري الهمداني وأخوه علي كانا من الشيعة الزيدية، وكانا عوناً لكل من يقوم من آل البيت بحركة أو ثورة، وفي بيتهما اختبأ عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بعد وقعة باخمرى التي قتل فيها إبراهيم بن عبدالله المحض ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط في خلافة أبي جعفر المنصور. وكان سفيان الثوري ينكر عليهما تشيعهما وافتراقهما عن الجماعة حتى في الجمعة والجهاد. ولكنهما لصلاحهما وصدقهما وتقواهما يقبل أهل السنة ما يرويانه على القاعدة التي ذكرناها، أما الشيعة الاثناعشرية فيتبرأون منهما ويذمونهما في كتبهم المعتمدة لأنهما من الشيعة الزيدية وليسا من الشيعة الاثني عشرية. وقد حصر الشيعة الاثنا عشرية تشيعهم باثني عشر رجلاً من أهل البيت لا يعترفون بغيرهم لا من الصحابة ولا من آل البيت، فكما لا يعترفون بأبي بكر وعمر وأم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين حفصة لا يعترفون بالإمام زيد ولا بغيره من أعلام آل البيت. ولا يكتفون بذلك، بل يعتقدون العصمة بهؤلاء الاثني عشر، ويعتبرونهم مصدر التشريع.(38/5)
وأول من اخترع لهم هذه العقيدة الضالة خبيث يسميه المسلمون ( شيطان الطاق ) وتسميه الشيعة ( مؤمن آل محمد ) واسمه محمد بن علي بن النعمان الأحول. دخل الإمام زيد بن علي ( الذي يرجع إليه مذهب الزيدية ) على ابن أخيه جعفر الصادق ذات يوم فوجد عنده هذا الملعون شيطان الطاق، وكان قد بدأ يذيع عقيدة العصمة لأناس مخصوصين من آل البيت وحصر الإمامة والتشريع فيهم، فقال له الإمام زيد : يا محمد بن علي أنت تزعم أن في آل محمد إماماً مفترض الطاعة معروفاً بعينه؟ فأجابه: نعم، أبوك أدهم. قال له الإمام زيد: ويحك، وما يمنعه أن يقول لي؟ فوالله لقد كان يؤتى بالطعام الحار فيقعدني على فخذه ويتناول البضعة فيبرّدها ثم يلقمنيها، أفتراه كان يشفق عليّ من حرّ الطعام ولا يشفق علي من حر النار؟ فأجابه شيطان الطاق: كان يكره أن يقول لك فتكفر فيجب عليك من الله الوعيد، ولا يكون له فيك شفاعة، فتركك مرجئاً لله فيك المسألة وله فيك الشفاعة !(38/6)
ومن ذلك اليوم قرر الشيعة عقيدة العصمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأشخاص عينوهم وجعلوهم مصدر تشريع ، ولو اقتصر الأمر على ذلك لكان هيناً، ولكنهم جاءوا برواة عن هؤلاء الاثني عشر لم يشترطوا فيهم ما اشترطه أهل السنة في الرواة من الصدق والعلم والأمانة والتقوى، ولو اشترطوا ذلك لقبلوا أمثال الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل وشيوخهما وتلاميذهما. إن العبرة عندهم ليست للصدق والعلم والأمانة والتقوى، بل للعصبية والحب والبغض، فكل من كان أشد بغضاً لأبي بكر وعمر وسائر أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات - عدا ذلك العدد القليل من الصحابة - وكان لا يسمي عائشة إلا ويكتب في جانب اسمها "الملعونة" ! فهو أوثق تشيعاً وأصدق حديثاً حتى لو عرف في حياته الشخصية بأنه أكذب الناس. وقد كان سيدنا أمير المؤمنين علي بي أبي طالب يقول "اعرفوا الرجال بالحق ولا تعرفوا الحق بالرجال " فلوى هؤلاء الملتوون مذهبه وعكسوا أمره ، وصاروا يعرفون الحق بالرجال، وقد بلغ من تحزّبهم وتعصبهم لأسماء عدد قليل من آل البيت أن اخترعوا لهذا العدد القليل من آل البيت مذهباً يرويه عنهم أشخاص عرفهم معاصروهم بالكذب والخبث والدس ، ولخبثهم كذبوا ودسوا على هؤلاء الاثني عشر من آل البيت ما لا علم لهم به، وقالوا: إن هذا هو المذهب الشيعي!(38/7)
ولو قام أساس المذهب الشيعي على شريعة مصدرها معصومون بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويرويها عنهم كذابون امتازوا عندهم بالعصبية لأناس والبغضاء لأناس آخرين لكان ذلك أقل شراً من حكاية الرقاع التي كانوا يكتبون بها الاستفتاء في شرع الله ويدسونها ليلاً في ثقب شجرة على مقربة من السرداب الذي غاب فيه إمامهم الثاني عشر وهو صبي دون الحلم ليجيبهم عليها بزعمهم، فإذا كان الصباح وجدوا الجواب الشرعي مكتوباً عليها بخط مجهول ووسائط مجهولة ! ومثل هذه الرقاع لا يقام لها وزن في قضاء ولا في منطق ولا في عقل من عقول البشر، وهي من مصادر تشريعهم الذي يريد القمي أن يقرب بينه وبين التشريع الإسلامي الذي يعتمد على كتاب الله كما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى السنة المحمدية كما رواها الصادقون عن الصادقين عن هؤلاء الصحابة الكرام البررة المتقين.
وهذا الشاب الأنيق الذي يسمى تقي قمي جاءنا من بلاد هؤلاء، وفتح لعلمائنا وباشاواتنا نادياً في الزمالك سماه " دار التخريب بين المذاهب " ينفق فيه وعليه عن سعة، ويريد منا أن نقرب بين مذهبنا ومذهبه. مع أنه لم يقم بهذه الدعوة في بلاده ؛ لأنه لا يستطيع أن يقوم بها، ولا يجرؤ لا هو ولا غيره على الجهر بها، ولا يملك لا هو ولا أي عالم من علمائهم أن ينقض عقيدته أو يغير من مذهبه قيد شعره. وهو يعلم أنه ليس في أهل السنة رجل يجرؤ على أن يعطي لنفسه الحق بأن ينقض عقيدة من عقائد أهل السنة ولا أن يحول المسلمين عن كفرهم بكل عصمة للبشر غير عصمة الأنبياء، أو أن يزحزح أهل السنة شعره عن الاعتقاد بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالنجوم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: "بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، فجاء الشيعة يقولون لنا: إن اقتديتم بهم ضللتم !(38/8)
أنا صريح في أن من المستحيل التقريب بين مذهبين هذا أساسهما. وأسمع من يقول ينبغي "إزالة الفوارق أو بعضها ما أمكن" و"كلما قلت الاختلافات أمكن التعاون" !! ماذا يريدون أن يزيلوا من الفوارق؟
هل يريدون أن نلعن معهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات ؟ وهن أهل البيت كما سماهن الله عز وجل في سورة الأحزاب ( وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) ؟!
أم يريدون منا أن نمزق صحيحي البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة وما في درجتها لأن ما فيها من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم رواه هؤلاء الأصحاب المغضوب عليهم من الشيعة ؟!
أم يريدون منا أن نعتقد العصمة في غير الأنبياء، وأن نتخذهم مصدر تشريع، عملاً بما اخترعه شيطان الطاق لهؤلاء الضالين، وأن نقبل من التشريع المنسوب إليهم ما رواه الكذابون المحترقون تعصباً وبغضاً لخير أمة أجرها الله للناس؟!
وإذا كانت إزالة الفوارق من جانبنا في هذه الأمور مستحيلة ؛ لأن الإسلام نفسه يتغير بها، فأشد منها استحالة أن يتحول شيعي عن شيعيته إلا بالرياء والتقية لدسيسة ينويها أو مكيدة يدبرها. لأن المذهب بني عندهم على التشيع أي على التحزب والتعصب. وإذا كنا نحن نقبل في صفوفنا من يخالفنا على صدق وصلاح كالحسن بن صالح بن حي وهو شيعي زيدي، فإن جماعة تقي قمي لا يقبلونه على شيعيته لفرق فرعي بينه وبينهم. وهل الذي هذا موقفهم من الزيدية يمكن أن يزيلوا شيئاً من الفوارق التي بينهم وبين أهل السنة ؟!
ثم من ذا الذي يزعم أن المذاهب ملك لأفراد يعبثون فيها كما يريدون؟(38/9)
إن المذاهب الفرعية المتقاربة التي ترجع إلى أصل واحد - وهي مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل - لا يستطيع فقهاء أي مذهب منها في أي عصر من عصورها أن يزعموا أن لهم سلطاناً في إلغاء شيء من أحكامها أو تعديل شيء منها. فإذا كان لمس المتوضئ يد المرأة الأجنبية ينقض وضوءه عند الشافعي ، هل يستطيع جميع علماء الشافعية من بلاد الأكراد إلى حضرموت فأندونيسيا أن يعدلوا فيه ويقولوا شيئاً جديداً غير المعروف في المذهب؟
وإذا كان هذا في اختلاف فرعي صغير بين مذهبين متقاربين بل متحدي الأسس كالشافعي والحنفي، فكيف باختلاف جسيم يقلب الدين كله رأساً على عقب؟!
نحن نعرف أن البابا له أن يعدل في بعض شئون الكاثوليكية إلى حد ما، ولكن لم نكن نعرف أن في الذين يترددون على دار التخريب من ينتحل لنفسه في الإسلام مثل سلطان البابا في الكاثوليكية.
وبعد ؛ فإن أصحاب رسول الله على مراتبهم - من أبي بكر وعمر إلى من يليهم - هم صفوة البشر والطبقة الممتازة من بني الإنسان في تاريخ الإنسانية، ونحن لا نقبل سبهم والبغي عليهم من يهودي فضلاً عن أن نقبله ممن يزعم الانتساب إلى الإسلام. ودار التخريب يجب أن تُقفل من الزمالك وتُفتح في طهران وأصبهان وقم وزنجان، وأن يكون رأس الدعوة فيها هناك : الخجل من التاريخ -بعد الخجل من الله- في ذلك الموقف المزري الذي يقفه الشيعة من خير أمة أخرجت للناس، فإذا غيروا هذا الموقف، وعدلوا عن القول بعصمة غير الأنبياء، وتبرأوا من كل ما بني على هذين الأساسين، حصل التقريب بذلك ، وتم ما يريدون، وإلا فالعلم وأهله لهم بالمرصاد " . انتهى كلام الأستاذ الخطيب – رفع الله درجته في المهديين - .(38/10)
مقتطفات من مذكرات : القومي الكويتي د أحمد الخطيب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أصدر الدكتور " القومي - الكويتي " أحمد الخطيب " - وفقه الله لما يُحب ويرضى - مذكراته بعنوان ( الكويت من الإمارة إلى الدولة - ذكريات العمل الوطني والقومي ) ، تحدث فيها عن نشأته ، ودراسته في الكويت ثم بالجامعة الأمريكية ببيروت ، وكيفية اعتناقه للفكر القومي الذي كان طاغيًا فترة شبابه ، وعن أحوال بعض دول الخليج ( خاصة الكويت ) ، وتجربتها الأولى مع الديمقراطية ، ثم عن نظرته للفكر القومي الذي ساد ثم باد ، وتكمن أهمية هذه المذكرات في كونها أتت من واحد من أبرز القوميين في الخليج ، ومن رجل عايش مراحل دخول الأفكار القومية إلى هذه البلاد ؛ فأحببتُ أن أنقل بعض المقاطع المهمة من كتابه ؛ يفي معظمها بأخذ العبرة للجيل الحالي من الشباب ، ممن قد تستهويهم الأفكار الطارئة على مجتمعاتهم ، مع وضع عناوين للمقاطع ، وتعليق باللون الأخضر على مايستحق التعليق :
نشأته الدينية :
( في المدرسة المباركية أيضا تبلور تديني؛ صلاة العصر تقام في المدرسة وكان الأستاذ جابر حديد أستاذ الرياضيات المخيف يناديني "أقم الصلاة يا خطيب" لآخذ دور أخي عقاب بعدما سافر إلى البحرين للدراسة عام 1940) . (ص 37) .
( في هذه الفترة عُيِّن عبداللطيف الشملان القادم من البحرين بعد أن أنهى دراسته عام 1940 مدرساً للغة العربية في المدرسة المباركية وهو خريج كلية دار العلوم بمصر، وسرعان ما جعلني أحس بتعاطفه نحوي ، وكان يحاول أن يساعدني بأي وسيلة، فقد كان يعطيني بعض الكتب لقراءتها، ومرة أعطاني ديوان المتنبي وطلب مني أن أحفظ الديوان بعد أن عرف أنني أحفظ القرآن الكريم ؛ لأنني في رمضان أقرأ ختمة كل يومين ) . (ص39) .
وفي لبنان :(39/1)
( أما أولى المواجهات التي كادت تتسبب في قطعي لدراستي في هذه المرحلة المبكرة فقد كانت بسبب التزامي الصلاة. فقد قررت فعلاً أن أقطع دراستي نهائياً وأعود إلى الكويت، والسبب يعود إلى ما شعرتُ به من مضايقة بعض الطلاب اليهود القادمين من فلسطين أثناء وضوئي وصلاتي، إذ قدّموا شكوى ضدي لدى أحد الأساتذة، مدعين أنني أسيء استعمال الحمامات أثناء الوضوء، فما كان من ذلك الأستاذ إلا أن استدعاني ووبخني بشدة على ذلك. فوقفت مشدوهاً ولم أستطع الدفاع عن نفسي، وخشيت أن أخسر ديني ؛ فأرسلت رسالة إلى أخي عقاب أطلب منه أن يرفع شكواي إلى المسؤولين في الكويت طالباً العودة إلى الكويت، ولكنه لم يفعل ) . (ص46) . ( شباب هذه البلاد نشأوا على الفطرة ، وعلى الدين ، ولذا يقل تأثرهم بالأفكار الوافدة ، مقارنة بغيرهم ، ومعظم المتأثرين يعود إليه وعيه إذا ما تخطى مرحلة الشباب والكهولة الموّارة ، والعاقل من يستفيد من تجربتهم ، ويختصر طريق المغامرة ؛ لأنه قد ينجو.. وقد ..) .
استقطاب الغرب للعقول :(39/2)
( وبعد فترة قصيرة زارني ويكلين في بيروت، وأخذني إلى بناية يسكن فيها بعض الطلبة الذين يدرسون على حساب المعهد الثقافي البريطاني، لأطلع على الامتيازات التي يتمتع بها هؤلاء، والخدمة الممتازة التي يحصلون عليها، مثل شاي بعد الظهر على الطريقة الإنجليزية، علاوة على الوجبات الثلاث ، وإمكانية الذهاب إلى السينما في أي يوم ! وكنا في الثانوية لا يُسمح لنا بالخروج من الكلية سوى مرة واحدة في الشهر، عصرية يوم السبت، وقال ويكلين: الأحسن لك أن تنتقل إلى هنا وتكون على حساب المعهد الثقافي البريطاني، بدل أن تكون على حساب حكومة الكويت. ومع أن العرض كان مغرياً، إلا أنني رفضته قائلاً: أفضل أن أدرس على حساب حكومتي، فلم يعجبه ذلك. وقبيل انتهاء الدراسة وبدء العطلة الصيفية، أرسل إليّ أخي عقاب رسالة من الكويت يقول فيها إنه تقرر أن تُنقل إلى مصر للدراسة هناك، وإن ويكلين أقنع المسؤولين في الكويت بالقبول بهذا القرار، وإنه سوف يمر عليك ويأخذك معه إلى مصر، وكان عليّ أن أغادر إلى الكويت فور انتهاء الامتحانات وظهور النتائج. وعندما وصلت إلى الكويت علمت بأنه سافر إلى لبنان لتنفيذ قراره، واتصلت بنصف اليوسف النصف وقلت له: لماذا أنقل من بيروت وأنا أعد من الطلبة المميزين؟ وكنت قد حملت معي كل نتائج امتحاناتي. استطعت أخيراً إقناع المسؤولين ببقائي في الجامعة الأمريكية لاستكمال دراستي. ويكلين كان يريد أن يكسبني لأدور في فكله ولمصلحة دولته ) . (ص49) .
أثر الجامعة الأمريكية في حياته :(39/3)
( كان للجامعة الأمريكية تأثير كبير في حياتي ومنهجية تفكيري، ولعل أبرز ما يميز الجامعة الأمريكية ببيروت كون جسمها الطلابي حاضناً لخليط لا ينتهي، وتنوع لا حد له من الطلبة العرب وغيرهم من الأجانب، مسلمين ومسيحيين ويهوداً وربما ديانات أخرى ) . (ص51) . ( الجامعة الأمريكية أنشئت لأغراض استعمارية ، ولخدمة مصالح دولتها ، ومن ضمن ذلك : استقطاب الشباب المسلم النابه ، وتغذيته بالثقافة الغربية ؛ ليعود إلى بلاده كسفير غير رسمي لهم ، يترقى في المناصب ، فيُنفذ أهدافهم ومايريدون - عن سذاجة أو عن انخداع بفكرهم - وللتفصيل طالع ( هذا الرابط ) عن الجامعة الأمريكية :
بداية الاتصال بالقوميين :
( في هذه الفترة تم الاتصال بي من قبل أحد الأساتذة بالجامعة لحضور حلقات ثقافية يديرها د. قسطنطين زريق عن القومية. وقد علمت أن خليفة الغنيم، وكان قد تخرّج لتوه من الجامعة وكان يشارك في هذه الحلقات، ربما هو الذي رشحني للحضور، فاستهوتني الفكرة وكذلك وديع حداد، أما آمال قريان فلم تكن له اهتمامات سياسية ولذا لم يشارك في هذه الحلقات. وقد اتضح لنا فيما بعد أن هاجس د. زريق كان نشر الوعي القومي والتبشير به. (ص71)(39/4)
( تشكلت مجموعتنا الأولى من تلاميذ حلقات د. زريق وبعض أنصار العروة. بدأنا ننظم عملنا ونتوسع باسم "الشباب القومي" ، واتخذنا من بيت أسماء الموقع السورية في رأس بيروت ملتقى لنا، للنقاش والحوار والعمل، ومن ثم أصبحت جمعية "العروة الوثقى" واجهة لنشاطنا، وتحوّل نشاط "العروة الوثقى" من نشاطات ثقافية إلى نشاطات سياسية ) . (ص 73) . ( كذلك حرصنا على القراءة وبالذات الكتب عن القومية العربية والوحدة الألمانية والإيطالية، وقد اقترح عليّ جورج حبش أن أقرأ كثيراً عن الإعلام والدعاية، بعد أن اتضحت له قدراتي في هذا المجال ) . ( ص 74) . ( قسطنطين زريق نصراني أرثوذكسي ، توفي عام 2000م ، من رواد العمل القومي . ومعلومٌ أن بذرة القومية العربية زرعها نصارى العرب ، مستغلين بعض الظلم الذي وقع من الدولة العثمانية على العرب ؛ لأنهم يعلمون أن انتشار مثل هذه الأفكار " القومية أو الوطنية .. الخ " يُفيدهم ، ويساويهم بالمسلمين ، وكل هذا تم تحت نظر بريطانيا التي خدعت العرب بعد أن حققت هدفها بتقسيم الدولة العثمانية ، ثم أوعزت للعرب بتأسيس جامعة للدول العربية ؛ لتضمن دورانهم حول هذه الفكرة التي ليس منها ضرر عليهم ! - وللتفصيل : طالع هاتين الرسالتين القيمتين : " الجمعيات القومية العربية وموقفها من الإسلام " للدكتور خالد الدبيان - وفقه الله - ، و" فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام " للشيخ صالح العبود - وفقه الله - ) .
الإنجليز ومحاولة فرض مستشاريهم لإدارة شؤون الكويت !(39/5)
( وعندما أدرك الإنجليز صعوبة الوقوف في وجهه، تقدموا بطلب تعيين مستشارين إنجليز له يشاركونه في إدارة الدولة على شاكلة الوضع في البحرين، مما أحدث انزعاجاً شديداً للعائلة عبّر عنه لي بوضوح المرحوم الشيخ خالد عبدالله السالم عندما كنت أدرس في لندن عامي 1953-1954، وكان هو موجوداً هناك. وقد كان الإنجليز قد وضعوا شروطاً على عبدالله السالم لكي يعترفوا به حاكماً كما يورد ذلك الدكتور غانم النجار في كتابه "مدخل للتطور السياسي في الكويت"، وكان من أبرز تلك الشروط ضرورة قيام عبدالله السالم بتسمية ولي للعهد، وإبعاد المستشار الخاص عزت جعفر بالإضافة إلى تعيين مستشارين إنجليز. إلا أن عبدالله السالم رفض تلك الشروط وعدّها تدخلاً لا داعي له، ووافق فقط على تعيين "خبراء" لا مستشارين - خشية من تكرار تجربة بلغريف في البحرين- ، وأصر على أن يتم التعاقد بين أولئك الخبراء وحكومة الكويت بعقود واضحة ومحددة المدة، وأن يكون من حق حكومة الكويت إنهاء تلك العقود متى شاءت. ولم يجد الإنجليز سبيلاً إلا التجاوب مع موقف الشيخ عبدالله السالم، وهكذا أقرت الاعتراف به حاكماً على الكويت ، وتم ذلك في احتفال كبير في 25 فبراير 1950، وهو التاريخ الذي اعتمدته الكويت حتى يومنا هذا عيداً وطنياً للكويت ) . (ص103) .
رسالتهم ودعمهم لمعشوق القوميين الأول : جمال عبدالناصر :(39/6)
( سيادة الرئيس جمال عبدالناصر المحترم، تحية العروبة وبعد، إيماناً منا بأن قضية العرب هي قضية واحدة لأنها قضية شعب واحد بالرغم من الحدود المصطنعة التي تفصل بين أجزاء وطنه، هذا الشعب الذي يسعى لتحقيق حريته وتوحيد أجزاء وطنه واسترداد أراضيه المغتصبة. وإيماناً منا بوحدة نضال الشعب العربي وبأن ما يصيب أي جزء إنما يعود أثره على الأمة العربية كلها؛ رأينا أن من واجبنا المشاركة بنصيبنا في كفاح العرب بما نستطيع من مال عندما يتعذر علينا الجهاد. فقد جمع شعب الكويت هذا المبلغ المتواضع وقدره (27370) سبعة وعشرون ألفاً وثلاثمئة وسبعون دولاراً لا غير، ليصرف بمعرفة سيادتكم على ضحايا العدوان اليهودي من عرب قطاع غزة.وإننا ننتهز هذه الفرصة لنعرب لكم عن عميق شعورنا بالتقدير والإجلال للخطوات الكبيرة التي حققتموها لصالح القضية العربية، منتظرين بفارع الصبر تتويج هذه الخطوات بتحقيق اتحاد مصر وسورية كدعامة كبرى لتوحيد سائر أجزاء الوطن والتحرر الشامل من الاستعمار والثأر من الصهاينة. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، لجنة الأندية الكويتية - الدكتور أحمد الخطيب 17 سبتمبر 1956 ) . (ص 128) . ( جمال عبدالناصر وثورته مجرد عملاء للغرب ، ولم تتم ثورتهم إلا بعد أخذ الإذن من السفارتين : الأمريكية والبريطانية - التي لم تُحافظ على عرش فاروق لانتهاء صلاحيته ! - ، وتوضيح هذا تجده في رسالة محمد جلال كشك - رحمه الله - " ثورة يوليو الأمريكية " ) .
تخوف عبدالله السالم من القوميين :(39/7)
( فإن عبدالله السالم فهم محبة الشارع الكويتي لعبدالناصر بشكل خاطئ، ففي إحدى جولاته اليومية بالسيارة بعد صلاة العصر التفت نحو صديقه نصف اليوسف النصف وهو يرى السيارات تحمل صور عبدالناصر وقال: ألا يعرف هؤلاء أن عبدالله السالم هو حاكم الكويت؟! فقد رأى تعارضاً بين ولاء الناس له ومحبتهم لعبدالناصر، فخامره الشك في مدى محبة الكويتيين له، وقد برز خطأ تصوره ذلك بشكل مفجع عندما طالب عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق ؛ إذ خرج الكويتيون بشكل عفوي إلى قصر السِيف وهم يهتفون : " يابو سالم عطنا سلاح " . وعندما علم عبدالله السالم بقدوم المظاهرات إلى قصر السيف التفت إلى عبدالعزيز حسين الجالس بجانبه يسأل: هل هؤلاء معي أم ضدي؟ فقال له: طال عمرك لقد جاؤوا لمساندتك وهم يهتفون بحياتك ويطلبون منك تسليحهم للدفاع عن الكويت. فكيف دار بخلده أن يسأل مثل هذا السؤال؟ كيف يشكك في حب الكويتيين له؟ بالطبع هذا يفسر موقفه من مهرجان الشويخ. وبعد أن تأكد من حب الكويتيين له كان موافقته على المشاركة الشعبية في السلطة واتخاذ القرار، وموقفه المؤيد للجنة وضع الدستور، ووقوفه مع أعضاء اللجنة في رفضهم اقتراحات سعد العبدالله الهادفة إلى تقليص صلاحيات المجلس لمصلحة العائلة، وهو ما يفسر الموقف المعادي من بعض المتنفذين من العائلة لعبدالله السالم وحكمه ) . (ص 192) .
تدخل الإنجليز في شؤون الدول الإسلامية :(39/8)
( أما الإنجليز، دولة الحماية، فقد كانت الكويت مهمة جداً لهم، فمعظم استهلاك بريطانيا من النفط يأتي من الكويت، وكانت كل أرصدة الكويت مودعة بالجنيه الإسترليني في بريطانيا. كانوا يهتمون كثيراً باستقرار الوضع والحفاظ على الامتيازات التي يتمتعون بها. وكانوا قلقين لتردي الأوضاع الداخلية في الكويت وتصرفات بعض أفراد الأسرة الحاكمة التي أخذت تثير السخط عند الكويتيين، فمثلاً اتصل بي الدكتور بيتر ويلسون وهو يعمل في المستشفى الأميري وكانت تربطني به صداقة زمالة ونقل إليّ رسالة من المعتمد البريطاني يقول فيها إنه يشاركني قلقي من تصرفات بعض الشيوخ، وقال : إنه مكلف من الحكومة البريطانية بأن أطلب إليك أن تضع قائمة بأسماء الشيوخ الذين ترى أن وجودهم في الكويت يعرقل عملية الإصلاح، وتوقع عليها من اثنين من الكويتيين وهم مستعدون لينفوهم إلى الخارج ! الحقيقة أنني صعقت من هذا الكلام والتدخل الصارخ في شؤوننا الداخلية ؛ فقلت له: يجب أن يعرف أن الصباح كويتيون وأنا كويتي، والكويتيون قد يختلفون بعضهم مع بعض إلا أنهم يحلون مشكلاتهم بينهم ، ولا يمكن أن يسمحوا للأجنبي أن يتدخل في شؤون الكويت الداخلية، لأن ذلك يرقى إلى مستوى الخيانة. وكان هذا الرد هو سبب مقاطعة السفارة البريطانية لي بعدها، حتى إنني عندما كنت نائباً في المجلس لا أدعى إلى احتفالات السفارة كبقية النواب وإلى يومنا هذا ) . (ص203-204) .
خبر غريب من دبي !
( تعرضت الحركة الإصلاحية في دبي لمجزرة بشعة أمام أنظار السلطة البريطانية الحاكمة دون أن يهتز لها ضمير، فقد قام الحاكم بدعوة أعضاء المجلس المنتخب لحفلة زواج ابنه ، ولما حضروا الحفل أمر قواته بإطلاق النار عليهم ، فأرداهم قتلى برضا السلطات البريطانية ومباركتها ) . (ص205) . ( هذا الخبر الغريب يحتاج لمن يؤكده ، أو يُبين تفاصيله ، أو ينفيه ) .
سياسة أحد سلاطين عمان :(39/9)
( بثتها محطة discovery قبل سنوات مع القنصل البريطاني المتقاعد لعُمان، فمقدم البرنامج سأل القنصل: كيف سكتم عن سياسة سعيد بن تيمور في منع التعليم والعلاج الطبي في السلطنة؟ فرد قائلاً: إننا لم نسكت فقد أثرت هذا الموضوع معه، فقال لي السلطان: أنا منعت العلاج في السلطنة لأننا دولة فقيرة لا تتحمل الزيادة في السكان، ومعالجة المرضى تساهم في زيادة السكان مما يزيد في إفقار الشعب ! أما منع التعليم فقد تعلمته من تجربتكم في الهند ، فأنتم سمحتم بالتعليم هناك مما خلق مجتمعاً هندياً متعلماً مكنه من طردكم من بلاده، وأنا لا أريد لهذه التجربة أن تتكرر عندي ! هذا هو رد القنصل البريطاني المتقاعد الذي يقول إنه لا حول له ولا قوة على سعيد بن تيمور. والحقيقة أن هذه السياسة كانت تلقى التأييد الكامل من بريطانيا، ولكن عندما بدأ الشعب بالثورة على هذه الأوضاع، ورأت بريطانيا أن هذه السياسة قد تهدد مصالحها في السلطنة، لم تتردد في إقصائه واستضافته عندها معززاً حتى وفاته! وهل هي مصادقة أن ذلك تم بعد اكتشاف النفط هناك ؟! ) . (ص206) .
مراوغات الإنجليز ومكرهم :(39/10)
( ولكن الإنجليز أصروا على تنفيذ مخططاتهم بالنسبة إلى الكويت، فاتصل المعتمد البريطاني ببعض الكويتيين وأخبرهم بأن المعارضة البريطانية سوف تطالب الحكومة البريطانية بإعطاء الكويت استقلالها وتحولها إلى دولة ديمقراطية، وعندها ستكون الحكومة البريطانية مضطرة إلى إعطاء الكويت استقلالها مما يرفع الإحراج عنها أمام الصباح، وهو دور اتُفق عليه بين الحكومة البريطانية والمعارضة كعادة البريطانيين في معالجة الأمور الأمنية الحساسة. ومعروف أن هناك اجتماعاً أسبوعياً سرياً بين رئيس الحكومة البريطانية وزعيم المعارضة تُبحث فيه المسائل المهمة التي تتعلق بالمصلحة العليا، ويتم الاتفاق على طريقة معالجتها. هذا الاجتماع الدوري بين رئيس الحكومة وزعيم المعارضة يعد جزءاً مهماً من دستور بريطانيا غير المكتوب ، لا يجوز المساس به ، حتى إن تاتشر في إحدى المرات وفي حالة غضب من زعيم المعارضة هددت بوقف هذا الاجتماع، إلا أنها سرعان ما تراجعت عن هذا التهديد لردود الفعل العنيفة التي سببها هذا التصريح الطائش ) . (ص208) .
حرص الغرب على قيام النظام الدستوري في بلاد المسلمين ، المتضمن تشكيل الأحزاب المتناحرة ؟!
( في هذه الفترة جاءني الصديق محمد أحمد الغانم، وقال لي إن أخاه يوسف أحمد الغانم الذي له علاقة جيدة مع الأوساط الحاكمة في بريطانيا قد وصل من لندن ومعه رسالة من الحكومة البريطانية إلى عبدالله السالم تحثه على العمل لقيام نظام دستوري في الكويت ) . (ص 209) . ( الغرب يحرص على شرذمة الأمة ، عن طريق هذه الأحزاب المتناحرة ، التي لم تستفد منها البلاد المسلمة ، غير المشاحنات والصراعات ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، وكل حزب يتبع دولا أجنبية تدعمه ؛ إما يمينًا أو يسارًا ، والعاقل لا يغتر بأكاذيب العدو وشفقته المصطنعة ) .
رغم الانتخابات .. إلا أن الطبع يغلب التطبع !(39/11)
( كنت ومنصور المزيدي المرشحين لمنصب نائب الرئيس بعد أن انسحب يعقوب الحميضي لمصلحتي بعد أن أصررت على ترشيح نفسي عندما لمست أن هناك اعتراضاً على ترشيح شخص عادي مثلي لاعتلاء المنصة وترؤس الشيوخ وعلية القوم. وكانت النتيجة كما يلي:
د. أحمد الخطيب 19 صوتًا - منصور المزيدي 10 أصوات - امتناع صوت واحد.(39/12)
ومع ذلك فإن المفهوم العنصري الجاهلي ثم تنفيذه بدقة، وظل هذا العُرف مستمراً إلى يومنا هذا. فمنصة الرئاسة احتوت كرسياً واحداً للرئيس فقط، مما جعلني أجلس مع بقية الأعضاء، وعندما يمرض الرئيس تلغى الجلسة كي لا أترأس المجلس ! ولما اجتمعت اللجنة المخصصة لتقدير مكافآت أعضاء المجلس قررت المكافأة للرئيس والأعضاء، ولما أثار أحد أعضاء اللجنة، يوسف المخلد، عن مكافأة نائب الرئيس، رد وزير المالية الموجود في اللجنة بأن مكافأته نفس مكافأة الأعضاء، وإذا أراد أكثر فليراجعني بالوزارة! معتبراً أن القرار بيده وليس بيد المجلس. وبما أن أعضاء اللجنة حديثو العهد بالعمل البرلماني تقبلوا كلام الوزير وعُدَّ قراراً للجنة ! ولما أخبرني الأخ يوسف المخلد بذلك لم أستغرب القرار؛ فالوزير شيخ وهو يتصرف كشيخ ، والأعضاء لا يعرفون صلاحياتهم فسكتوا، وبالطبع لم أثر الموضوع مع أحد لأنني لم أرشح نفسي للمكافأة وعاملتهم جميعاً على "قد عقولهم" كما يقول المثل، فهم لا يعلمون بأنهم هم السلطة التشريعية التي تقرر مخصصات الأمير والوزراء ومن بينهم وزير المالية! وكل هذا أمر بسيط أمام المظهر الشاذ والمخجل الذي شاهدناه عندما بدأ الأعضاء يصلون إلى المجلس قبل الجلسة الأولى - جلسة الافتتاح- . لقد وقف بعض الأعضاء في الطابور ليسلموا على الوزراء من الصباح وهم يقبّلون خشومهم ورؤوسهم، غير مدركين أنهم يمثلون السلطة التشريعية التي هي مسؤولة عن محاسبة كل الوزراء ومن بينهم الشيوخ !! هذا المنظر البشع دفعنا إلى الاتصال برئيس المجلس وطلبنا إليه إفهام هؤلاء الأعضاء بأن يحافظوا على كرامتهم وعلى كرامة الشعب الذي انتخبهم، ويتركوا هذه العادة المذلة ) . (ص 214-215) .
الموقف بعد وفاة عبدالله السالم :(39/13)
( بعد وفاته بثلاثة أيام فقط صدرت الأوامر إلى جميع وزارات الدولة وإداراتها ومؤسساتها المستقلة بإزالة صور عبدالله السالم من جدران المكاتب. كما صدرت الأوامر إلى وزارة الإعلام بعدم نشر أي خبر أو صورة له حتى الأغاني التي يذكر فيها اسمه أو تظهر فيها صورته، وصارت الإذاعة والتلفزيون يذيعان أغنية جديدة تقول: "راح وقت المزاح لما جانا صباح" ! وترددها طوال النهار! وهكذا تم الحكم على عهد عبدالله السالم بأنه كان "حقبة مزاح"، وأن الفرحة العارمة عمت أهل الكويت بزوال هذا العهد البغيض الذي منع الصباح من ممارسة حقهم بالحكم المطلق، أي الشيخة المعروفة في الخليج. هذه الأغنية الوقحة أثارت استياء المواطنين المحبين لعبدالله السالم، مما أجبر المسؤولين على التوقف عن إذاعتها.
لم أدرك عمق الكراهية عند بعض أفراد عائلة الصباح لعبدالله السالم إلا بعد وفاة صباح السالم وتولي جابر الأحمد الحكم، ونشوء الصراع بين جابر العلي وسعد العبدالله وصباح الأحمد الذي تنازل لسعد العبدالله عن ولاية العهد خوفاً من مجيء جابر العلي، وقد حُسم الأمر باجتماع العائلة لمصلحة سعد العبدالله. وقتها كان مجلس الأمة قد تم حله، عندما نُقل لي عن أحد أفراد الأسرة قوله بأننا أسقطنا جابر العلي لأنه مثل عبدالله السالم الذي أخذ منا الإعلام والخيازرين والبراميل! أي الاستيلاء على أراضي الدولة. أي حرمهم من الشيخة التي كانوا يتمتعون بها في السابق. هنا أدركت سرّ كراهيتهم لعبدالله السالم ) . (ص274-275) . ( كنت في قصر الشعب عند وفاة عبدالله السالم وكان يجلس بقربي السفير البريطاني ريشموند فقال لي: دكتور .. هذه بداية النهاية لحكم الصباح. فاستغربت منه هذا الكلام وسألت: لماذا؟ فقال: لقد مات آخر عاقل في عائلة الصباح ) . (ص275) .
أصبحوا وزراء .. فكيف يستقيلون ؟!(39/14)
( حتى أذيعت نتائج الدائرة العاشرة -الأحمدي- الفحيحيل لتعلن سقوط جميع مرشحيه من العجمان، فاستشاط غضباً وسب الحاضرين وطردهم من مجلسه متهماً إياهم -وهم من العجمان- بخيانته ولم يخطر بباله أنه استُهدف إلا بعد أن هدأت أعصابه، فاتصل بخالد المسعود وطلب منه أن يقدم استقالته من الوزارة ويطلب من الوزراء وهم الذين أتى بهم مع خالد المسعود للوزارة أن يقدموا استقالتهم، إلا أن خالد المسعود فوجئ بأن زملاءه رفضوا ذلك، لأنهم ما كانوا مصدقين أن يصبحوا وزراء فكيف يستقيلون !! ) . (ص303) .
تنافس :
( التنافس بين فرع جابر وسالم معروف منذ وفاة مبارك الصباح، وفي منتصف الستينيات كانت المنافسة واضحة بين جناحي جابر الأحمد الجابر وجابر العلي السالم، فعندما طلب عبدالله السالم من صباح السالم تشكيل الوزارة اتصل بعبدالعزيز الصقر وطلب منه ترشيح خمسة وزراء، فعدّ جابر العلي ذلك إبعاداً له بسبب ما هو معروف من قرب التجار لجابر الأحمد، وجمع حوله أغلبية من النواب كما ذكرت سابقاً لإسقاط الحكومة، وقام بالدور الأساسي في تشكيل حكومة أخرى موالية له. وهكذا فرض جابر العلي سيطرته على الجميع، ونسي أنه بذلك قد استقز سعد العبدالله الطامع بالحكم، وجعله ينتقل إلى معسكر جابر الأحمد، وهكذا نشأ تحالف قوي بين الاثنين أطاح جابر العلي فيما بعد، وظل هذا التحالف بين الاثنين قائماً - تقريباً! - إلى صيف 2004 ) . (ص304) .( اللافت للانتباه أن الوزارة التي شكلها جابر العلي تم الاحتفاظ بها حتى انتخابات 1971، فبقيت فترة أطول من أية وزارة أخرى كمكافأة لدورها المميز في تزوير الانتخابات! ولأن ما يهم هؤلاء الوزراء هو الحفاظ على كراسيهم بأي ثمن! ) . (ص304) .
مآخذ الدكتور على العمل القومي :(39/15)
( كانت طبيعة حقبة الأربعينيات والخمسينيات هي حقبة التحرر الوطني من الاستعمار، الذي كان الوطن العربي يرزح تحته، لا بل كان العالم الثالث كله يناضل من أجل التحرر، وشعار التحرر يتسع لفئات الشعب كلها ويجمعها ما عدا قلة مرتبطة مصالحها مع المستعمر.
وكنا في الوطن العربي مستعمرين من قبل الإنجليز والفرنسيين والطليان، أما أمريكا فكانت بعيدة عن المنطقة في تلك الفترة، بل إن رئيس الجامعة الأمريكية آنذاك "دودج" كان يشجع الطلاب على الاشتراك في المظاهرات المطالبة بخروج الفرنسيين من لبنان، وجاءت النكبة لتعمق شعور العداء للغرب والصهاينة. ولعلنا كحركة قوميين عرب، وفي غمرة تلك المواجهة المحتدمة مع العدو، قد نسينا الأهداف الأخرى، فلم يكن برنامجنا يتضمن أي مشروع نهضوي وتنموي، يراعي مصلحة أغلبية المجتمع المسحوقة، ولم يكن لدينا برنامج اجتماعي أو اقتصادي. وكانت قضايا الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان مجمدة، لا بل حتى قضية الوحدة التي كانت المدخل لتحررنا لم تجد الاهتمام الذي تستحقه. فلم يكن عندنا مشروع وحدوي واضح يجيب عن مشكلات الاختلافات الإقليمية ومشكلات الأقليات. لا بل إن كل الأحزاب العربية المنادية بالوحدة بما فيها حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي لم يكن عندها أي تصور واضح حول نوعية الوحدة التي نطالب بها. لذلك فوجئنا بوحدة مصر وسورية عام 1958، وظهر التخبط واضحاً فولدت الجمهورية العربية المتحدة مع أمراضها المميتة التي أدت إلى فشلها بسرعة عجيبة.(39/16)
إن السبب في هذا القصور بالنسبة إلينا كحركة قوميين عرب كان واضحاً، فقد كان معظم القادة المؤسسين للحركة من الأطباء، بينما كان بيننا قلة تحمل شهادة جامعية في العلوم السياسية أو الفلسفة أو أي من العلوم الاجتماعية، فلم تكن لديهم أية خبرة عملية. كذلك فإن الأحزاب السياسية العربية خصوصاً في المشرق العربية تعد جديدة نسيباً، وليس لها تاريخ طويل في العمل السياسي، باستثناء الأحزاب الشيوعية التي كانت تتصادم مع طموحات الشعب القومية وكذلك مع انتمائه الديني. ( وكذلك الأحزاب القومية تتعارض مع الإسلام ) .(39/17)
كذلك فإن الفكر القومي السائد آنذاك كان معظمه فكراً عنصرياً فاشياً متعالياً، يرى نفسه شعب الله المختار ويحتقر الطبقات الشعبية الواسعة، ويضمر العداء للأقليات غير العربية، مما سبب نفور هذه الفئات التي وجدت في الأحزاب الشيوعية ملاذاً لها بسبب ذلك التهميش. أو كما نرى حالياً كيف أن هذه الفئات الشعبية أصبحت المادة الأساسية للأحزاب الدينية وبرزت منها قيادات مهمة تتصدر الحركات السياسية مما هو واضح بشكل صارخ في الكويت. ومع أننا كنا ننفر من الانقلابات العسكرية وتدخل العسكر في السياسة إلا أننا رأينا في جمال عبدالناصر زعيماً قومياً يُعتز به بعد فترة الحذر منه كعسكري، فتأميمه للقنال وتعرضه للعدوان وطرح برنامج اجتماعي متقدم على كل ما هو مطروح في الساحة جعلنا نشعر بأننا أقرب الناس إليه، ولذلك عندما أصبح الشارع العربي بأغلبيته الساحقة ناصرياً وبدأ عبدالناصر بتشجيع قيام أحزاب ناصرية في بعض الدول العربية رأينا من الواجب علينا أن نعمل من ضمن هذه الأحزاب ونبقى التنظيم في الأقطار التي ليس فيها تنظيم ناصري. أما في مصر فكان هناك تنظيم حزبي "لثورة الضباط الأحرار" أخذ أكثر من اسم ؛ مما دل على التخبط في تنظيم العمل الشعبي لمشكلات لم نكن نعلم بها في البداية، حتى قرر جمال عبدالناصر أن يشكل حزباً سرياً هو الحزب الطليعي في مصر، مما أكد لنا عدم إيمانه بما هو موجود. فما كان منا إلا أن قررنا انضمام فرع حركة القوميين العرب في مصر -على الرغم من صغر حجمه- إلى هذا التنظيم ؛ ففاتحنا جمال عبدالناصر بذلك وقبل التحاقهم جميعاً إلى تنظيمه السري. أما المفاجأة الكبرى لنا فقد كانت عندما تم اعتقال القادة من حزبنا اليمني الجنوبي الموجودين في القاهرة وكذلك القادة الموجودين في صنعاء من قبل المخابرات العسكرية المصرية.(39/18)
لقد هالنا الحدث، فكيف تعتقل عناصر من قياديي الحركة -وهم جزء من التنظيم الناصري- فقررنا الذهاب إلى القاهرة لتقديم أنفسنا للمحاكمة إن كانت هناك أية جريمة اقترفناها. وفعلاً ذهب بعض القياديين إلى القاهرة وقابلوا جمال عبدالناصر وشرحوا له تفاصيل ما حدث، وخلاصته أن أجهزة الاستخبارات العسكرية كعادتها كانت تعامل الجبهة القومية التي تقود الثورة في الجنوب معاملة متعالية وغير كريمة ومهينة مما لا يمكن أن يقبل به أي مناضل شريف. وكانت الفاجعة لما طلب جمال عبدالناصر من الإخوة أن يذهبوا إلى عبدالحكيم عامر ويتظلموا عنده! من كان يصدق أن هناك قوى في مصر تصارع جمال عبدالناصر على السلطة، وما هو سر قوة عبدالحكيم عامر حتى يتمرد على جمال عبدالناصر. وتذكرنا ما علمناه من قبل من أن عبدالحكيم عامر رفض طلب عبدالناصر التخلي عن وزارة الدفاع بعد حرب 1956 وظهور الخلل في الجيش المصري مما سبب له هزائم مذلة على يد العدو الصهيوني، فالجيش المصري الباسل لا يستحق هذا الإهمال، وقد برهن على قدراته القتالية البطولية عندما عبر قناة السويس في حرب 1973، وكاد يحقق نصراً مميزاً لولا تدخل المسؤولين السياسيين في خططه العسكرية. وبموت جمال عبدالناصر جاء نقيضه أنور السادات، وهذا مصير كل أمة تربط مصيرها ومستقبلها بشخص واحد، فهو بشر معرض للموت أو للتغير ) . (ص311- 312- 313) .(39/19)
( ليت الدكتور - وقد ذكر المآخذ على العمل القومي ، بين أهمها ، وهو تعارضه في أمور كثيرة مع شريعة الرحمن ، تفصيلها في الرسالتين المحال إليهما سابقًا ، ولهذا لم يعش طويلا - ولله الحمد - ، وتوالت عليه النكبات والحوادث ؛ حتى إنه لم يستطع توحيد دولتين فقط ، فضلا عن أكثر من 20 دولة ! ، وقد سقطت آخر أوراقه عند احتلال العراق " العربي " لجارته الكويت " العربية ، والواجب على أبناء هذا الجيل أن لايُعيدوا تكرار المآسي ؛ باعتناق أفكار أخرى معارضة للإسلام - وطنية أو ليبرالية أو غيرها من الأفكار الوضعية - ، وظنهم أنها ستوصل الأمة إلى مجد الكرامة والعزة والرفعة ، فهذه ظنون كاذبة قد خدعت غيرهم ، فلا عزة للعرب بغير الإسلام ، ولهذا قال تعالى : " وإنه لذكر لك ولقومك " ، أي شرفٌ لك ولهم إذا ماتمسكتم به ) .
الظلم عواقبه وخيمة على الأفراد والدول :
( إنه لمن المؤسف أن قوى كثيرة في منطقتنا لم تستفد من كل هذه المآسي التي مرت بنا، فهي لا تزال توهم نفسها بأن بعض القيادات العربية المستبدة قادرة على النهوض بهذه الأمة، وترى أن حقوق الإنسان واحترام كرامته وحقه في المشاركة في تقرير مصيره هي أمور ثانوية قابلة للتأجيل إلى الأبد، وصدق فيها قول الشاعر عمر أبو ريشة: أمتي كم صنم مجدتِه .. لم يكن يحمل طُهر الصنم ) . ( ص314) . ( لن ينهض بالأمة إلا اعتمادها على ربها ، ونصر دينه وشرعه ، كما قال : ( إن تنصروا الله ينصركم ) ، ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ، ولا يُشترط هذا لكل أفراد الأمة ؛ لأنه سيبقى هناك منافقون ومرضى قلوب ، فالعبرة بعموم الأمة ) . والله الهادي ..(39/20)
عودة الشيخ عبدالقادر السندي - رحمه الله - إلى السلفية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مشاركة مني فيما ابتدأه الإخوة الفضلاء في الموقع المبارك ( صيد الفوائد ) ، من جمع أخبار العلماء والمشاهير العائدين إلى مذهب السلف ، بعد أن كانوا من المخالفين له ؛ إلى أن وفقهم الله تعالى للرجوع والأوبة إليه ، قبل أن يفجأهم ملك الموت ، وهم على غير جادة . وهذا من فضل الله عليهم ورحمته بهم ؛ لما علم من حرصهم على طلب الحق ، بخلاف غيرهم ، ممن قال الله عنهم : ( ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم .. ) . ولعل في نشر هذه القصص وانتشارها حافزًا لمن هو متحير ومتردد ، أن يلحق بركب أهل السنة ، قبل الفوت . والله الهادي والموفق .
عودة الشيخ عبدالقادر السندي - رحمه الله - إلى السلفية
قال - غفر الله له - في كتيبه النادر الضوء القرآني والسني على عقيدة النبهاني " ( ص 37 - 44 ) :
( لقد كنتُ في بلادي السند وأنا صغير لم أبلغ الحلم أسمع هذه الكلمة ( الوهابية ) من أفواه مشايخ الطرق ، الذين كانوا دائماً وأبداً يحذرون عوام الناس وخواصهم منها، ووضعوا لها مفهوماً خطيراً، تقليداً لغيرهم ممن سمعوا منهم، لدعاية خبيثة ماكرة، مع علمهم أنها جاءت من أسيادهم المستعمرين الذين كانوا يحكمون البلاد الهندية وغيرها بالحديد والنار ؛ لكي يصدوا بها الناس ؛ لئلا يقبلوا على هذه الدعوة الكريمة التي جدد الله بها دينه، وأعلى بها كلمته، وكان العدو يخشى من ظهور هذه الدعوة الكريمة، وانتشارها في العالم كله ، خصوصاً في القارات التي كانت تحت سيطرته وبطشه؛ لأن هذه الدعوة الكريمة كانت تقف أمام العدو بالمرصاد وتحول بينه وبين مخططاته الاستعمارية الخبيثة.(40/1)
ولم يكن هذا النوع من الدعوة الكريمة منحصراً وجوده في نجد وحدها فقط ، بل كان في كل مكان وزمان، وهناك رجال مخلصون يدعون إلى هذه الدعوة الكريمة، إلا أن الدعوة لم تلق دعماً قويًّا، ومساندة فعّالة مثالية إلا في ديار نجد ، على يد الأمراء السعوديين ، وعلى رأسهم الإمام محمد بن سعود تغمده الله برحمته ورضوانه وجعل الجنة مثواه وسائر أبنائه وأحفاده رحمهم الله تعالى، فتقَوَّى أمر هذه الدعوة السامية ، فصار لها صدى عظيم في أنحاء العالم ، وأعدل دليل على ذلك أن من سمع الإذاعة البريطانية في تلك الأيام المباركة التي رجعت هذه البلاد مرة ثانية إلى أهلها كانت تقول الإذاعة البريطانية: إن الجيش الوهابي فعل كذا، وترك كذا ، ومن هنا كان انتشار هذه الكلمة بمفهومها الخاص في أطراف العالم، نعم وصل صوت الدعوة الحلو الرنين، من أقصى الدنيا إلى أعلاها، ومن أعلاها إلى أقصاها، في وقت لم تكن وسائل المواصلات موجودة البتة بمثل ما توجد في الوقت الحاضر، إلا أن العدو اللعين الماكر اتخذ - بسياسته الماكرة الخبيثة، وحيله الإبليسية دفاعاً لنفسه، ومخططاته الاستعمارية - سماسرة مأجورين من كل نوع وصنف في كل مكان ، ممن عُرفوا ببيع الضمائر رخيصة للاستعمار ، وهم ينتسبون إلى العلم زوراً وبهتاناً ؛ أمثال أحمد زيني دحلان بمكة، والنبهاني بالشام، وأحمد رضا خان بالهند، وغيرهم عاملهم الله تعالى بما يستحقون.(40/2)
نعم : فاتخذهم العدو، واشترى ضمائرهم بمبلغ كبير من المال لكي يشوهوا حقائق هذه الدعوة السامية، فأساؤوا إليها بتلصيقهم إياها بأنواع من الدعايات المغرضة الفاسدة ، فحرفوا مبادئها العليا، وقواعدها الرفيعة، وفي ضوء تلك الدعاية حرفوا القرآن الكريم ونصوص السنة الصحيحة حسب هواهم الفاسد، فجعلوا لهذه الكلمة ( الوهابية ) مفهوماً خاصًّا، ومعنىً بشعاً خبيثاً ؛ لكي يدندنوا حوله، فلما كان نجد قد ورد ذكره في الأحاديث الصحيحة وعدم دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأهله دون أن يحققوا ما هو النجد المعني في الحديث الشريف، ولم يلتفتوا إلى تلك القرائن الواضحة الظاهرة التي تنطبق على ذلك النجد، وما هو كلام أهل الحديث من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نجد ، الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه . وقد ذكر العلامة ياقوت الحموي في معجم البلدان عشرات من النجود وكذا غيره ، وليس المراد الذي عينوه هم، فتركوا كل هذا مع علمهم ويقينهم أن نجداً الوارد في الحديث ليس هو الذي عينوه، وأشاروا إليه في هذه الدعاية الماكرة الخبيثة الفظيعة التي أقامها الاستعمار وعملاؤه في أطراف العالم على أنقاض هؤلاء السماسرة الدخلاء المأجورين، ومن هنا كان هذا المفهوم الجديد الخبيث شائعاً وذائعاً في أطراف العالم ، وهو أن الوهابية تعادي الرسول صلى الله عليه وسلم وتحرم الصلاة عليه، وهدمت القباب والأبنية التي كانت مبنية على قبور الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وكان للاستعمار في كل بلد وقرية ممثل يقوم بنشر هذه السخافات والترهات، ومن هنا انتشرت كلمة ( الوهابية ) في العالم كله ؛ في شرقه وغربه وجنوبه وشماله، بمفهومها الخاص، فانظر فلسفة المستعمر.(40/3)
إن الداعي في نجد إلى هذه الدعوة المحمدية كان اسمه بلا خلاف بين جميع المسلمين ( محمد بن عبدا لوهاب ) فكان من الواجب أن تنسب الدعوة بمفهومها الخاص عند هؤلاء بالقياس الصحيح عند جميع أهل اللغة ( بالمحمدية ) لأن اسم صاحبها والداعي لها ( محمد ) وليس عبد الوهاب ، إلا أنهم لم يرضوا بهذه النسبة الصحيحة الموافقة للواقع واللغة العربية خوفاً على كشف مؤامرتهم الخبيثة أمام عوام الناس من المسلمين وخواصهم، لأن الدعوة إذا حملت اسماً صحيحاً، ونسبة صحيحة فلابد لها من قبول، وإقبال عليها ؛ لأنها تحمل اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت ممن اغتر بهذه الدعاية الماكرة الخبيثة وأنا في بلدي - السند - فلما أكرمني الله تعالى بالهجرة إلى هذه البلاد المقدسة وذلك في عام 1368هـ من بلدي ومسقط رأسي حظيت بلقاء إنسان كريم فاضل جاء من الهند إلى المدينة مهاجراً إلى الله تعالى، وكان حاله سابقاً كحالي، إلا أنه رحمه الله تعالى التجأ بعد الله تعالى إلى مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن طريق الشيخ العلامة الطيب الأنصاري رحمه الله تعالى، فتلذذ بمطالعتها جدًّا حتى اعتنق العقيدة السلفية عن طريق هذه الكتب النافعة ، ولابد من ذكر هذا الرجل رحمه الله تعالى وهو العلامة الأثري الشيخ رشيد أحمد بن إبراهيم الهندي رحمه الله تعالى المتوفى في ذي القعدة عام 1381هـ بالمدينة المنورة ، وكان رحمه الله تعالى قد أسس بعد اعتناقه العقيدة السلفية مدرسة - بناء على موافقة سامية كريمة - سماها دار العلوم السلفية، ومن هنا بدأت لي حياة جديدة بلقاء هذا الرجل الكريم ، فكان يلقي إليَّ دروسه في المسجد النبوي الشريف مساءً ، وكان يبكي كثيراً عند إلقائه الدروس في التوحيد فرحاً واستبشاراً، وكان يقول دائماً رحمه الله تعالى: لو متُ يا بنيّ قبل اعتناق هذه العقيدة الصافية النقية لمت على غير ملة الإسلام، ولما كان يأتي اسم شيخ الإسلام ابن(40/4)
تيمية رحمه الله تعالى وكذا اسم الإمام ابن القيم والإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى أثناء إلقاء الدروس كان يترحم عليهم كثيراً ، ويمجد ذكرهم وشأنهم ، ودائماً يوصي الطلبة بمطالعة كتبهم رحمه الله تعالى، وفي تلك الأيام بالذات قد كشف الله تعالى عن قلبي الغطاء ، ثم عرفت بعد ذلك أن الدنيا والله في غيبوبتها وضلالها إلا ما شاء الله تعالى، ولقد تأكدت حينئذٍ تماماً أن هذه الوهابية المزعومة في أنظار هؤلاء لا تعادي الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً ، وإنما هي التي تحبه وحدها، لما درست عنها دراسة وافية شافية ، وعما تعتقده في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي توجب الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجعلها ركناً من أركان الصلاة، فإن تركها أحد عامداً أو ناسياً، بطلت صلاته عندها ، وهذا هو مذهب أهل الحديث، بينما تنص كتب أخرى فقهية - والتي تمسك بها هؤلاء الذين أقاموا هذه الدعاية الكبرى - بأن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست ركناً من أركان الصلاة عندهم ، فإن تركها أحد ناسياً سجد سجدتي سهو، فلا تبطل صلاته عندهم، ومن هنا كتب العلامة المحدث الشيخ مسعود عالم الندوي كتاباً بارعاً عظيماً في ترجمة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى باللغة الأردية دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن دعوته الكريمة وفند جميع شبه أهل الباطل: من عباد القبور والأضرحة التي تمسكوا بها ، فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء، وجعل الجنة مثواه - هذا هو مفهوم الوهابية عند النبهاني وأمثاله في كتبهم ورسائلهم التي سبق الوصف الدقيق عنها، وللمقال بقية في العدد القادم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ) .
العائدون إلى السلفية
http://www.saaid.net/feraq/el3aedoon/index.htm(40/5)
( تسلسل الحوادث ) بين الشيخ الألباني .. والشيخ سفر الحوالي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تُعد مسألة " قِدَم العالم ، أو حدوثه " من المسائل المهمة التي طال فيها التنازع بين أهل السنة وأهل البدعة - بأنواعهم - ، فنزع الفلاسفة إلى القول بقِدمه ، منازعين الله في خلقه ، وذهب أهل الكلام إلى حدوث النوع والأفراد، ملتزمين لأجل هذا لوازم شنيعة ؛ من أهمها تعطيل بعض صفات الله الفعلية ، فجاء شيخ الإسلام - رحمه الله - ، مسفهًا رأي الطائفتين المبتدعتَين ؛ مبينًا لوازم أقوالهم الشنيعة ، فضلا عن مخالفتها للنصوص ، ولما عُلم من دين الله بالضرورة ، مبينًا حقيقة قول أهل السنة ، مُفرقًا بين النوع والآحاد - كما يأتي - . فمن لم يفهم شيخ الإسلام رماه بما هو بريئ منه ؛ من موافقة الفلاسفة ! الذين هدّ الشيخ مذهبهم في مواضع كثيرة من كتبه ، ولكن ! لم ترها عيون الشانئين أو الجاهلين .
ومن الكتب التي جلّت حقيقة قول شيخ الإسلام ، وردت على مناوئيه ، وغيرهم ؛ كتاب الفاضلة : كاملة الكواري - وفقها الله - " قِدَم العالم وتسلسل الحوادث بين شيخ الإسلام والفلاسفة " ، وقدّم له الشيخ سفر الحوالي - وفقه الله وشفاه - . قال في مقدمته ( ص 17 - 22 ) :
( إن هذه الأمور العظيمة والأصول الكبرى إنما جلاها وفصّلها وتعمق في معقولها ومنقولها ، ونقَد وقارن وفصل بين الطوائف المختلفة فيها ، في كلياتها وجزئياتها : العالم الفرد والعلم الفذ شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- ، الذي قيضه الله لهذه الأمة .
والناس في هذه الأصول ثلاث طرق:(41/1)
الأولى: المتكلمون الذين سلموا ببعض أصول الفلسفة، وأصّلوا ذلك الأصل الأفسد في حدوث العالم، وأهملوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى إنهم في مؤلفاتهم عن الأقوال والفرق لا يكادون يذكرون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً. وعلى أيديهم حدثت الفتن الجسام ؛كفتنة القول بخلق القرآن ، وفتنة القول بوجوب التأويل ، وغيرها. وبقيتهم في المتأخرين الكوثري وتلامذته.
والطائفة الثانية: الفلاسفة المثبتون لقِدم العالم، وعمدتهم هو نقض ما قرره أولئك المتكلمون ؛ إذ شغبوا على أهل الكلام قائلين: كيف تحول الأمر من الامتناع الذاتي إلى الإمكان أو الوجوب الذاتي؟ وكيف ترجح الفعل بلا مرجح؟ وغير ذلك من اللوازم ؟ فليس لهم على الحقيقة حجة إلا فساد قول أولئك !
والطائفة الثالثة: المنتسبون للسنة والحديث بلا خبرة في العقليات ، فكانوا فتنة للطائفتين السابقتين ، وغرضاً لسهام الفريقين، ومن تفريطهم دخلتا ، وعلى أكتافهم تسلقتا ، وهم الذين عبر عنهم شيخ الإسلام بقوله: "من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان.....". وبقاياهم في زماننا على ثلاثة أصناف:
1- من أعرض عن هذه المسائل بالكلية - مع أنها لا تزال تُقرر في كثير من معاهد العلم الشرعي في أنحاء المعمورة – وتُعلل بالنهي عن الخوض في علم الكلام، وهذا حق ولكن مسألة على هذا القدر من الأهمية بلوازمها واشتهار الكلام فيها ؛ لا ينبغي الجهل بها ولا تجاهلها ، وترك أهل البدع يثلمون عرض الشيخ ، ويفرون أديمه ، ويفتنون العامة بل طلبة العلم من أهل السنة.
2- من تجرأ فخطأ شيخ الإسلام وصرح برفض قوله ، وجعله مخالفاً لما اتفق عليه العلماء .(41/2)
3- من ادعى أن هذا ليس مذهب شيخ الإسلام ! وجعل ذلك تبرئه لساحته ودفاعاً عنه ، فكابر عقول قراء الشيخ كلهم ، ولزمه تخطئة من خالف الشيخ ومن وافقه سواء، فابن القيم – عنده - مثلاً مخطئ حين وافق الشيخ على ما ليس مذهبه ، والألباني مثلاً مخطئ حين خالف الشيخ فيما ليس مذهبه. وصدق من قال : عدو عاقل خير من صديق جاهل.
ولا ريب أن المسألة بتفصيلاتها ولوازمها دقيقة المنزع ، وعرة المسلك ، بعيدة الغور ، إلا أننا نذكر خلاصة ما يجب على المسلم - لاسيما طالب العلم- معرفته في هذا الشأن ، وهو هذه الأمور:
1- أن الله تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء.
2- أن الله تعالى متصف بصفات الكمال أزلاً وأبدًا ، ومنها كونه خالقاً لما يشاء متى شاء ، فعالا لما يريد ، فلم يأت عليه زمن كان مُعَطلاً عن الخلق أو الكلام ، أو غير ذلك من صفات كماله ، ونعوت جلاله.
3- أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق له ، مربوب ، كائن بعد أن لم يكن.
وبعد هذا إن أمكنه أن يفهم الفرق بين النوع والآحاد ، وبين حكم الواحد وحكم المجموع ؛ فقد انكشف له أصل المسألة، وإن لم يفهمه ؛ فلا يضيره الوقوف بالساحل ، وإنما الضير في التخبط بلا هدى، وأسوأ منه الجهل المركب الذي اشترك فيه من كفروا الشيخ !! أو خطأوه ، ومن دافع عنه بنفي ما يعلم كلُ مطلع على كتبه أنه من مشهور أقواله ) .
وقال الشيخ سفر - رعاه الله - في الهامش : ( انظر تعليق الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة ( حديث رقم 133 ) ، وقد أوردته الباحثة الفاضلة هنا ص 167.(41/3)
وللشيخ رحمه الله تعليق آخر على متن العقيدة الطحاوية ص 53 طبعة المكتب الإسلامي الثانية هذا نصه : " قلت : ذكر الشارح هنا أن العلماء اختلفوا : هل القلم أول المخلوقات، أو العرش؟ على قولين لا ثالث لهما ، وأنا وإن كان الراجح عندي الأول، كما كنت صرحت به في تعليقي عليه ..... فإني أقول الآن: سواء كان الراجح هذا أم ذاك، فالاختلاف المذكور يدل بمفهومه على أن العلماء اتفقوا على أن هناك أول مخلوق، والقائلون بحوادث لا أول لها، مخالفون لهذا الاتفاق، لأنهم يصرحون بأن ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق، وهكذا إلى ما لا أول له، كما صرح بذلك ابن تيمية في بعض كتبه، فإن قالوا: العرش أول مخلوق، كما هو ظاهر كلام الشارح، نقضوا قولهم بحوادث لا أول لها ، وإن لم يقولوا بذلك خالفوا الاتفاق ! فتأمل هذا فإنه مهم والله الموفق " اهـ.
وبالرجوع إلى أصل كلام الشارح نجد:
1-**إنه قال "على قولين ذكرهما الحافظ أبو العلاء..... " فجمله " لا ثالث لهما" من كلام الشيخ ناصر !
2- أنه لم يقل : إن العرش أول مخلوق بل قال " أصحهما أن العرش قبل القلم " .
3- أن هذا الكلام إنما هو في الفقرة الخاصة بالإيمان باللوح والقلم ، أما في الفقرة التي تعرض فيها الشارح للموضوع نفسه أي : هل للحوادث أول ؟ فكلامه صريح في التقييد بهذا العالم المشهود لا جنس المخلوقات ، وذلك في جمل كثيرة منها: -
أ-**قوله : " واختلفوا في أول هذا العالم ما هو ؟ " .
ب- قوله عن حديث كتابة المقادير : " فأخبر *أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه السموات بخمسين ألف سنة " .
ج- قوله عن حديث عمران بن حصين : " وقد أجابهم النبي *عن بدء هذا العالم المشهود لا عن جنس المخلوقات".
وأوضح من هذا كله وأهم : أن الشارح إنما نقل كلامه عن شيخ الإسلام من منهاج السنة 1/360- 362 ، والشيخ أجل من أن يتناقض بل صرح بأن المراد هو هذا العالم لا جنس الخلق.(41/4)
وإنما أوردنا هذا لأن شبهة أهل البدع في تكفير شيخ الإسلام أو تضليله هي دعوى مخالفة الإجماع ، وربما اعتضدوا بكلام الشيخ الألباني –رحمه الله- كما فعل السقاف.
ويبدو لي أن الشيخ الألباني لم يقرأ كلام شيخ الإسلام ، فهو يحيل عموماً إلى كتبه عموماً ، وأجزم أنه لو قرأه مع ما أوتي من التجرد ودقة الفهم لأقره وأيده ، لا سيما شرحه حديث عمران بن حصين. وعلى أي حال ؛ فالشيخ الألباني نقل ص 41 من الكتاب نفسه قول الشارح "...... أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ..... وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً وهذا المأثور عن أئمة السنة والحديث" ، وقد أقر الشيخ هذا القول ، وهو حق ، وهذا بعينه قول شيخ الإسلام عن صفة الخلق ، فنوع المخلوقات قديم قدم نوع الكلام ، وإن لم يكن شيء من المخلوقات المعينة قديماً ، ومخلوقاته هي أثر كلماته ، قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " ، وقال : " ألا له الخلق والأمر" ، فمن سلم بمذهب أهل السنة في الكلام فليُسلم بكلامهم في الخلق ، كما ذكره شيخ الإسلام مؤيداً كلامه بأقوال أئمة السنة فيه ؛كالإمام أحمد والبخاري وابن المبارك والدارمي ومن قبلهم من الصحابة والتابعين.
ومما يجلي ذلك : أن شيخ الإسلام قد نص على أن اشتباه النوع بالعين وقع لكثير من الناس في الخلق كما وقع في الكلام ، انظر : مجموع الفتاوى 12/184- 191 و 154- 157 وكذلك منهاج السنة 1/195 وغيرها. والشيخ الألباني - رحمه الله- لم يقع له الاشتباه في الكلام ، بل نقل قول الشارح كما ذكرنا عارفاً بمضمونه مقراً له ، لكن وقع له الاشتباه في الخلق ؛ كما رأيت ، فلعل الشيخ زهيراً الشاويش الذي أعد الكتاب وقدم له يستدرك هذا ) . انتهى كلام الشيخ سفر .(41/5)
قلت : وأفضل من بيّن قول شيخ الإسلام وأوضحه : الأستاذ خالد السنوسي في رده على البوطي ، والدكتور عبدالله الغصن في رسالته " دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام " . وهو موجود على هذا الرابط
http://saaid.net/monawein/taimiah/9.htm
. والله الموفق .(41/6)
مابالُ أقوامٍ لم يدَعوا لنا خالدًا القسري ؟!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مناسبة هذا الكتابة عن القسري - رحمه الله - مقالٌ قرأتُه في أحد المواقع المحسوبة على أهل السنة - للأسف - ، أفرده صاحبه للتشنيع على القسري ! ولا أدري ما المصلحة في هذا ؟! لأن خالدًا إنما شكره أهل السنة ؛ لأنه تفرد من بين الأمراء بقصبه لرؤوس الزنادقة ، وهذه منقبة يعجز عنها فئامٌ من الأمراء ، وإلا فالجميع يعلم أنه كغيره من أمراء المسلمين : له ماله ، وعليه ماعليه . فماحاجة " السني " للتشنيع عليه ؟! ومثل هذا الصنيع ضد القسري لم يُعرف إلا من الرافضة ، أو أحفاد الجعد بن درهم من الجهمية ؛ كالكوثري ، وأمثاله . فلعل في قراءة مايأتي من كلام أهل العلم ، مايحجز أهل السنة عن الوقوع في عرض أمير المشرق - كما سماه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ( تلبيس الجهمية 4/604-605) . وقال عن قتله للجعد : " وشكره العلماء على ذلك " . وقال في ( منهاج السنة 3 / 165) : " قتله - أي الجعد - خالد بن عبدالله القسري برضا علماء الإسلام " . خاصة إذا علم القارئ من هم أسلاف الطاعنين .
1- قال الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - في كتابه " تنبيه ذوي الألباب السليمة " ( ص 137-143 ) ردًا على الزيدي المعترض على شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - :
"قوله : لم يُجمع المسلمون على قتل الجعد ".(42/1)
" فالجواب أن يقال لهذا الجاهل الأحمق : نعم ذكر الشيخ رحمه الله في رسالته إجماع التابعين ومن بعدهم على كفر الجعد بن درهم وقتله ، كما ذكر ذلك أهل العلم ، وادعى الإجماع على ذلك كما ادعاه على كفر المختار بن أبي عبيد وقتله ، ولا يشك في ذلك من له أدنى إلمام بإجماع العلماء وما قاله أهل العلم في ذلك ، ودعواه أن هذا باطل كلامُ من لا يعقل ما يقول ، فهلا ذكر أحداً من العلماء قال ذلك وأنكره ؟! ولن يجد إلى ذلك سبيلا . ولو قال ذلك أحد كان قوله مردوداً مخالفاً لما أجمع عليه أئمة السلف رحمهم الله ، وقد ذكر إجماع أهل السنة على قتل الجعد وعلى كفره شمس الدين ابن قيم الجوزية ، وقد ذكرتَ في نظمك أنه الأوحد الذي أتى بنفيس القول في كل ما يبدي .
فمن نفيس ما يبدي رحمه الله تعالى قوله في الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ -- ـقسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله -- كلا ولا موسى الكليم الدان
شكر الضحيةَ كلُ صاحب سنة -- لله دَرُّك من أخي قربان
فذكر رحمه الله إجماع أهل السنة على استحسان قتل خالد للجعد ، وأن جميع أهل السنة شكروه على هذا الصنيع ، وأخبر أن قتله لأجل أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، فقتله لأجل ذلك لا لأجل شيء من المقاصد التي يرميه بها من قل نصيبه من العلم والدين ، وأنه إنما قتله لغير ذلك من المقاصد السيئة .(42/2)
وإذا أجمع أهل السنة على قتله ، فماذا عسى أن يكون قاتله من عمال بني أمية أو من غيرهم إذا حسن قصده والحامل على ذلك الغيرة لله من كفر هذا الملحد المفتري على الله ؟ فليس علينا من تحامل هذا المعترض إذ جعل ذلك مطعناً بأن قاتله قد كان عامل مروان ؛ فإن هذا لا يذكره من له علم وفضل ودين ، وحاشا لله أن يكون هذا الكلام الساقط المتناقض كلام الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني ، فإنه لا يليق بمنصبه وجلالته وإمامته في الدين وعلو قدره.(42/3)
وأما ما ذكره من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في المنهاج من حال الجعد بن درهم وقتل خالد له ، فقد ذكر في الرسالة الحموية أن أصل مقالة التعطيل إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضُلال الصابئين ، فإن أول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام من أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعنى استولى ونحو ذلك ؛ أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد ابن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها ، فنُسبت مقالة الجهمية إليه ، وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أرض حران وكان قبلهم خلق كثير من الصائبة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم .. إلى آخر كلامه رحمه الله ، ولم يذكر رحمه الله أنه لم يجمع الناس على قتله كما ذكر هذا المعترض ، بل قرر كفره وذكر أنه أول من أظهر مقالة التعطيل وأنه إنما أخذ هذه المقالة من اليهود والفلاسفة والصابئين . فما وجه الاستدلال بكلام شيخ الإسلام على ما يدعيه من عدم الإجماع على قتله ؟ وشيخ الإسلام لم يذكر ما يدل على مطلوبه ، بل ذكر ما يناقضه ويدل على كفره ووجوب قتله ، اللهم إلا ما استراح إليه هذا المعترض من كلام شيخ الإسلام من أن الجعد كان معلم مروان ! فكان ماذا ؟! وهذا لا يستدل به عاقل فضلاً عن العالم ، والله المستعان.
وأما قوله : " فهذا الذي قتل الجعد عامل من عمال بني أمية قتله من غير مشاورة عالم من علماء الدين فكيف يقول ابن عبدالوهاب إنه قتل بإجماع التابعين فأين الحياء من رب العالمين في نسبة الإجماع لهذا الفعل إلى التابعين وهو فعل عامل من عمال الجبارين " .(42/4)
والجواب : أن يقال لهذا الجاهل الذي ينطق بمالا يعقل : قد كان خالد بن عبدالله القسري من عمال بني أمية ، وقد غضب لله وغار من كفر عدو الله الجعد بن درهم ؛ حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى تكليما ، فقتله غضباً لله وغيرة وحمية ، فأقره على ذلك وشكره عليه جميع أهل السنة ، فكان إجماعاً ، ولا يلزم من ذكر الإجماع على مسألة أو قضية أو فتوى أن يبعث إلى جميع الأمة ويشاورهم على فعلها ، ولا يكون إجماعاً إلا ما كان كذلك ، وهذا لم يقله أحد من العلماء ، بل الذي ذكر أهل العلم أن الصحابي أو الواحد من العلماء إذا قال قولاً أو قضى بقضية فانتشرت وظهرت ولم يكن لها مخالف من الصحابة ، أو فعل ذلك أحد من التابعين ولم يعرف له مخالف ، أن ذلك إجماع ، وقد اشتهر قتل خالد بن عبدالله القسري لجعد عدو الله ولم ينكره أحد من التابعين ولا من بعدهم من العلماء ، ولم يُعرف في ذلك مخالف ، فكان إجماعاً .
والطرق التي يُعرف بها الإجماع القطعي معروفة عند أهل العلم مقررة في محلها لا تخفى على مثل شيخنا ، فإذا احتج بالإجماع قبل منه وأخذ عنه ، فإن القول ما قالت حذامِ ، ولا يقدح في مثل حكاية الإجماع على قتل الجعد إلا رجل مغموص بالنفاق ، قد غاظه وأمضه ما فعل أمراء الإسلام من قتل أعداء الله ورسوله ، وقد أقره على ذلك وشكره عامة علماء أهل السنة .(42/5)
وأما تعليله بأنه من عمال الجبارين ! فهو تعليل بارد ، أما علم هذا المفتون أن أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية حاشا عمر بن عبدالعزيز وما شاء الله من بني أمية قد وقع منهم ما وقع من الجرأة والحوادث العظام والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام ، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معروفة مشهورة ، لا ينزعون يدًا من طاعتهم فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام وواجبات الدين ، وأضرب لك مثلاً بالحجاج بن يوسف الثقفي ، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغشم والإسراف في سفك الدماء وانتهاك حرمات الله ، وقتل من قتل من سادات الأمة كسعيد بن جبير ، وحاصر ابن الزبير وقد عاذ بالحرم الشريف ، واستباح الحرمة ، وقتل ابن الزبير مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن وأكثر سواد العراق ، والحجاج نائب عن مروان ثم عن ولده عبدالملك ، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان ولم يبايعه أهل الحل والعقد ، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته ، وكان ابن عمر ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه ولا يمتنعون من طاعته فيما يقوم به الإسلام ويكمل به الإيمان ، وكذلك من في زمانه من التابعين كابن المسيب والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم التيمي وأشباههم ونظرائهم من سادات الأمة ، واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة وأئمتها يأمرون بطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر ، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد ، وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهرًا بالسيف لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين ، فقتلوا خلقاً كثيراً وجماً غفيراً من بني أمية وأمرائهم ونوابهم ، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق ، وقتلوا الخليفة مروان حتى نُقل أن السفاح قتل في يوم واحد ثمانين من(42/6)
بني أمية ووضع الفرش على جثتهم وجلس عليها ودعا بالمطاعم والمشارب ، ومع ذلك فسيرة الأئمة كالأوزاعي ومالك والزهري والليث بن سعد وعطاء بن أبي رباح مع هؤلاء الملوك لا تخفي على من له مشاركة في العلم ، واطلاع ، والطبقة الثانية من أهل العلم كأحمد بن حنبل ومحمد ابن إسماعيل البخاري ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن نوح وإسحاق ابن راهويه وإخوانهم وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكار الصفات ودعوا إلى ذلك وامتحنوا فيه ، فقُتل من قتل كمحمد ابن نصر ، ومع ذلك فلا يعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة ولا رأى الخروج، والمقصود أنه إذا فعل عامل من عمال هؤلاء الملوك الظلمة أمراً يحبه الله ورسوله يجب على كل مسلم إعانته عليه وحضه على فعل ما أمر الله ورسوله ، وكان فيه إعزاز الإسلام وأهله وقمع الشرك وأهله ومحق آثار البدع وأهلها ومن أحدثها ، فإنه لا يعاب على فعل ما أمر الله به ورسوله لكونه عاملاً من عمال الظلمة الجبارين ، فكيف إذا أقره على ذلك كافة علماء السنة وشكروه على هذا الصنيع ، فلا يعيب بهذا إلا رجل جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم ، ولا يعيب على الشيخ محمد رحمه الله بنقل إجماع أهل السنة على ذلك إلا معتوه مصاب في عقله ، مغموص بالنفاق ، والله المستعان.
وأما قوله : "فلذلك قلنا :
فذلك لم يجمع على قتله ولا -- سوى خالد ضحى به وهو عن قصد
على أن ابن عبدالوهاب خالف إمامه الإمام أحمد بن حنبل في دعوى الإجماع ؛ فإن أحمد يقول من ادعى الإجماع فهو كاذب ولذلك قلنا:
وقد أنكر الإجماع أحمد قائلاً -- لمن يدعيه قد كذبت بلا جحد
روى ذلك ابن القيم الأوحد الذي -- أتى بنفيس العلم في كل ما يبدي " .
فالجواب أن يقال :
ودعواك في الإجماع إنكار أحمد -- فذاك لأمر قد عناه من الضد
يرون أموراً محدثات ويذكروا -- على ذلك الإجماع من غير ما نقد
فأنكره لا مطلقاً فهو قد حكى -- على بعض ما يرويه إجماع من يهدي(42/7)
كما ذكر ابن القيم الأوحد الذي -- أتى بنفيس العلم في كل ما يبدي
على قتل جعد في قصيدته التي -- أبان بها شمس الهداية والرشد
وفيها حكى الإجماع في غير موضع -- وفي غيرها من كتبه عن ذوي النقد
وقد كان من سادات أصحاب أحمد -- ويحكي من الإجماع أقوال ذي المجد
وقد ذكر الإجماع بعضُ ذوي النهى -- فسل عنه أهل الإصابة من نجد
وذلك لا يخفى لدي كل عالم -- ففي كتب الإجماع ذاك بلا عد
فما وجه هذا اعتراض بنفيه -- وقد كان معلوماً لدى كل مستهد
2- وقال العلامة المعلمي اليماني في رده على طعن الكوثري الجهمي بالأمير خالد : " أقول: كان خالد أميراً مسلماً خلط عملاً صالحاً كإقامة الحدود، وآخر سيئاً الله أعلم ما يصح عنه منه. وقد جاء عن جماعة من الأئمة كما في التأنيب نفسه أن أبا حنيفة استتيب في الكفر مرتين، فإن كان خالد هو الذي استتابه في إحداهما، وقد شهد أولئك الأئمة أنها استتابة عن الكفر ، فأي معنى للطعن في خالد؟ هبه كان كافراً! أيجوز أن يحنق عليه مسلم لأنه رُفع إليه إنسان يقول قولاً شهد علماء المسلمين أنه كفر فاستتابه منه؟ وكان خالد يماني النسب وكان له منافسون على الإمارة من المضريين ، وأعداء كثير يحرصون على إساءة سمعته، وكان القصاصون ولا سيما بعد أن نُكب خالد يتقربون إلى أعدائه بوضع الحكايات الشنيعة في ثلبه، ولا ندري ما يصح من ذلك؟ وقضية الكنيسة إن صح فيها شيء فقد يكون بر أمه بمال فبنى لها وكيلها كنيسة ؛ فإنها كانت نصرانية ، وليس في هذا ما يعاب به خالد، فقد أحل الله عز وجل نكاح الكتابيات والتسري بهن ، ونهى عن إكراههن على الإسلام وأمر بإقرارهن على دينهن وأمر ببر الأمهات.(42/8)
فأما قضية الجعد، فإن أهل العلم والدين شكروا خالداً عليها، ولا يزالون شاكرين له إلى يوم القيامة، ومغالطة الأستاذ في قضية التضحية مما يضحك ويبكي، يضحك لتعجرفه، ويبكي لوقوعه من رجل ينعته أصحابه أو ينعت نفسه "الإمام الفقيه المحدث، والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير..." لا يخفى على أحد أن الأضحية الشرعية هي ذبح شاة أو بقرة أو بدنة بصفة مخصوصة في أيام الأضحى تقرباً إلى الله تعالى بإراقة دمها، وليأكل منها المضحي وأهله ويهدي من لحمها إلى أصحابه ويتصدق منه على المساكين، وأن خالداً لم يذبح الجعد ليأكل من لحمه ويهدي ويتصدق ! وإنما سماه تضحية لأنه إراقة دم يوم الأضحى تقرباً إلى الله تعالى ، فشبهه بالأضحية المشروعة من هذا الوجه ؛ كما سمى بعض الصحابة وغيرهم قتل عثمان رضي الله عنه تضحية ؛ لأنه وقع في أيام الأضحى.
فقال حسان:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به -- يُقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وقال أيمن بن خريم:
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ُضحىً -- وأي ذبح حرام ويلهم ذبحوا
وقال القاسم بن أمية:
لعمري لبئس الذبح ضحيتم به -- وخنتم رسول الله في قتل صاحبه
فإن قيل: لكن يظهر من القصة أن خالداً لم يضحّ، بل اجتزأ بذبح الجعد. قلت: ليس ذلك بواضح، وكان خالد يذبح كل يوم عدة ذبائح، وهب أنه لم يضحّ ذاك اليوم، فغاية الأمر أن يكون اجتزأ بإقامة ذلك الحد من جهة كونه قربة إلى الله عز وجل وإقامة حد من حدوده، والأضحية عند جمهور أهل العلم ليست بواجبة، فلا إثم على من تركها، فإن كان مع تركه لها قد قام بقربة عظيمة ورأى أن ما يفوته من أجر الأضحية وإقامة الشعائر بما يجبره ما يرجوه على تلك القربة الأخرى فهو أبعد عن الإثم، ولو ضحى الرجل ألف أضحية لما بلغ من أجرها وإقامة الشعائر بها أن توازن إقامة الحد على الجعد، وإماتة فتنته " . ( التنكيل ، 1/255-256 ) .(42/9)
3- وقال الدكتور محمد بن خليفة التميمي في رده على الشيخ مشهور سلمان - عفى الله عنه - الذي ضعّف قصة قتل الجعد ، وتابع غيره في اتهام القسري :
" قال المؤلف - أي مشهور سلمان - : " ثانياً: ترجمة خالد بن عبد الله القسري مظلمة، وفيها ما يفيد أنه كان ظالماً، ولذا قال الذهبي في "السير" (5/432) عقب القصة: "قلت: هذه من حسناته"!. انتهى كلامه.
قلت: المؤلف متناقض في مواقفه ، ويكيل بمكيالين ، ويزن بميزانين، فهو في قصة قتل الجعد يريد تطبيق شروط المحدثين في ثبوت الحديث المرفوع على قصة تاريخية ، وهنا في سيرة خالد القسري أصدر حكماً بأنها مظلمة دون أن يحقق في أسانيد سيرته أو أن يُفصل شيئا من ذلك ! وهذا الغمز في هذه القصة من هذا الوجه لم يكن المؤلف أول من طعن في ذلك ؛ بل هو مجارٍ لغيره فيه.
فمن قبله جمال القاسمي في كتابه تاريخ الجهمية والمعتزلة الذي نقل خليطاً من الروايات في الطعن في خالد بن عبد الله القسري بأنه جعل الولاية للنصارى والمجوس على المسلمين، وأنه كان ناصبياً يبغض علياً رضي الله عنه، وأن الإسلام كان في عهده ذليلاً، وأحال من أراد استيفاء أحواله وأخباره إلى كتاب الأغاني للأصفهاني الشيعي!!
ولنا مع كلام المؤلف وكلام القاسمي وقفات:(42/10)
الوقفة الأولى: زعْمُ المؤلف أن ترجمة القسري مظلمة وكذا التهم التي ذكرها القاسمي، على فرض صحتها، لا تطعن في صحة القصة، فلو قرأ المؤلف ومن قبله القاسمي التاريخ بتأمل ، لعلموا أن صاحب القرار في إعدام وقتل الجعد هو هشام بن عبد الملك، فالفضل يعود إليه في المقام الأول ، فلو اعتمدنا رواية ابن الأثير للقصة، لعلمنا أن هشاماً هو الذي قبض على الجعد وأرسله إلى خالد القسري ، وأن خالداً القسري اكتفى بحبسه ولم ينفذ أمر القتل ، وأن هشاماً أرسل إلى خالد يلومه ويعزم عليه بقتله. قال ابن الأثير: ( وقيل إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك، فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاماً، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله ) .
ولو اعتمدنا رواية ابن عساكر وابن كثير لوجدنا كذلك هشام بن عبد الملك هو الذي طلب القبض على الجعد في بداية الأمر عندما كان في دمشق ، لكن الجعد هرب إلى الكوفة.
قال ابن عساكر: ( كان الجعد أول من أظهر القول بخلق القرآن في أمة محمد فطلبه بنو أمية فهرب من دمشق إلى الكوفة ) .
وقال ابن كثير: ( وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم، فسكن الكوفة..) .
والنديم في الفهرست ينص على أن هشاماً هو الذي أمر بقتل الجعد حيث قال: ( وقتَلَ الجعدَ هشامُ بن عبد الملك في خلافته بعد أن طال حبسه في يد خالد بن عبد الله القسري. فيقال إن آل الجعد رفعوا قصته إلى هشام، يشكون ضعفهم وطول حبس الجعد، فقال هشام: أهو حي بعد؟! وكتب إلى خالد في قتله، فقتله يوم أضحى، وجعله بدلاً من الأضحية بعد أن قال ذلك على المنبر، بأمر هشام..) . فالروايات التاريخية السابق ذكرها تؤكد أن هشام بن عبد الملك هو صاحب القرار في ذلك.(42/11)
الوقفة الثانية: لا يُسلم للمؤلف زعمه بأن ترجمة خالد بن عبد الله القسري مظلمة، وفيها ما يفيد أنه كان ظالماً، وليس الأمر كما زعم ؛ فالرجل له وعليه، وهناك صفحات مشرقة في تاريخه، وبعض ما نُسب إليه لا يصح عنه. فهذا الذهبي ينصفه ويقول في ترجمته: ( الأمير الكبير أبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد ين أسد بن كرز البجلي القسري الدمشقي أمير العراقين لهشام، وولي قبل ذلك مكة للوليد بن عبد الملك ثم لسليمان ، وكان جواداً ممدحاً معظماً عالي الرتبة من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف...) وقد اعتذر له بعد أن ذكر شيئاً مما له وعليه فقال: ( وكان خالد على هناته يرجع إلى الإسلام ) .
وقد أشاد الذهبي بقتله للجعد بن درهم وقال: ( هذه من حسناته هي وقتله مغيرة الكذاب ) .
وقد دافع عنه ابن كثير في البداية بعد أن أورد بعضاً من تلك المثالب التي نُسبت إليه وقال: ( والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد ، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة لأهل البيت ) .
وحال صاحب كتاب الأغاني الذي اعتمد عليه القاسمي في ترجمة القسري ليس ببعيد عن صاحب العقد الفريد ، فقد قال عنه ابن كثير: ( وكان فيه تشيع، قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر) . والأصفهاني قد روى الكثير من أخبار كتابه عن طائفة من الرواة الكذابين.
وأما عن اتهامه بالنصب وشتم علي رضي الله عنه فأجاب عنه ابن الأثير فقال: ( قيل كان يفعل ذلك نفيا للتهمة وتقرباً إلى القوم ) ، وقال: ( وكان خالد يصل الهاشميين ويبرهم ) .(42/12)
وفي العموم فإن خالداً القسري ليست ترجمته مظلمة بالصورة التي حاول المؤلف والقاسمي رسمها عنه في ذهن القارئ ، وأترك الحكم للقارئ الكريم ليقارن بين كلام الذهبي وابن كثير من جهة - وهما إمامان من أئمة أهل السنة في المعتقد والتاريخ- ، وبين كلام صاحب العقد الفريد وصاحب الأغاني - الشيعيين الحاقدين على أعلام أهل السنة- ، فأي الفريقين خير مقاماً ؟!
الوقفة الثالثة: أساء المؤلف استخدام عبارة الذهبي في السير (5/432) حيث قال الذهبي بعد إيراده لقصة قتل الجعد ( قلت: هذا من حسناته هي وقتله مغيرة الكذاب ) ، فقد أراد المؤلف إفهام القارئ أن الذهبي يذم خالد بن عبد الله القسري ! والأمر في حقيقته على العكس من ذلك، فلقد أنصف الذهبي خالداً القسري، ولم يقصد بتلك العبارة انتقاصه أو التقليل من حسناته، ومن يقرأ سير أعلام النبلاء، يدرك صواب ما أقول.
وقد شكر علماء المسلمين هذا العمل وأثنوا عليه، وعلى رأس أولئك الحسن البصري.
وقال ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالدُ الـ --- ـقسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله --- كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كلُ صاحب سنة --- لله دَرك من أخي قربان
وقال أبو محمد اليمني : ( فاستحسن الناس منه ذلك، وقالوا نفى الغل عن الإسلام جزاه الله خيرا ً) .
وقال الدارمي: ( وأما الجعد فأخذه خالد بن عبد الله القسري، فذبحه ذبحاً بواسط يوم الأضحى، على رؤوس من شهد العيد معه من المسلمين، ولا يعيبه به عائب، ولا يطعن عليه طاعن ، بل استحسنوا ذلك من فعله، وصوبوه من رأيه) .
قال المؤلف: ( ثالثا: لم يكن من همِّ أمثال القسري -آنذاك- هذه الغيرة التي لا تكون إلا ممن يعتقد العقيدة الحقة، وكان الخلفاء وولاتهم في زمن الأمويين أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل مثل هذه، ولهذا قال بعض المعاصرين إن قتل الجعد لم يكن إلا لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة ) . انتهى كلامه .(42/13)
قلت: لي مع هذه الشبهة وقفات:
الوقفة الأولى: قول المؤلف: (لم يكن من همِّ أمثال القسري -آنذاك- هذه الغيرة التي لا تكون إلا لمن يعتقد العقيدة الحقة ) .
هذا الطعن في القسري يخالفه قول ابن كثير : ( والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه فإنه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد) ، وليست أدرى ما موقف المؤلف من كلام هذا الإمام العلم الحافظ ابن كثير؟
الوقفة الثانية: قول المؤلف: ( وكان الخلفاء وولاتهم في زمن الأمويين أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل مثل هذه) .
الرد عليه: هذه العبارة ليست من كلام المؤلف ، وإنما نقلها عن شعيب الأرنؤوط في تعليقه على السير ، وعزاها الأرنؤوط إلى بعض الباحثين.
والمؤلف هنا أورد هذه العبارة بطريقة توهم أنها من كلامه ! وهي عبارة خطيرة ؛ لأنها لم تستثنِ أحداً من خلفاء بني أمية ولا حتى الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه، أول خلفاء بني أمية، وكذلك لم تستثنِ عمر ابن عبد العزيز وهو أحد خلفاء بني أمية وعلم من أعلام أهل السنة، و المؤلف ينقل عبارات وينسبها لنفسه وهو لا يدرك مدى خطورتها وفسادها، فمثل هذه العبارة لا تصدر من شخص يحمل عقيدة أهل السنة.
وقد سبق أن تحدثت عن جهود بني أمية الأوائل في الدفاع عن السنة وإطفاء نار أهل الضلال والبدع، والحق يقال إنَّ راية السنة وكلمة علماء السنة كانت هي العليا في تلك الفترة، ولم يكن أهل البدع يتجرأون على إظهار بدعهم فضلا عن أن يدعوا إليها.
الوقفة الثالثة: قال المؤلف ( ولهذا قال بعض الباحثين المعاصرين إن قتل الجعد لم يكن إلا لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة ) ، وأشار في الحاشية إلى سير أعلام النبلاء (5/433).(42/14)
والجواب عن ذلك: نقل المؤلف هذا الكلام عن شعيب الأرنؤوط من تعليقه على كتاب سير أعلام النبلاء،، فقد قال بعد أن نقل كلام ابن كثير عن الجعد وأنه أخذ مقالته عن اليهود : ( قلت -القائل الأرنؤوط- لم يذكر ابن كثير سنده في هذا الخبر حتى ننظر فيه، ويغلب على الظن أنه افتعله أعداء الجعد. ولم يحكموه لأن أفكاره التي طرحها في العقيدة مناقضة كل المناقضة لما عليه اليهود، فهو ينكر بعض الصفات القديمة القائمة بذات الله ويؤولها لينزه الله تعالى عن سمات الحدوث، ويقول بخلق القرآن وأن الله لم يكلم موسى بكلام قديم بل بكلام حادث، بينما اليهود المعروف عنهم الإغراق في التجسيم والتشبيه، ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن قتل الجعد كان لسبب سياسي لا لآرائه في العقيدة، ويعلل ذلك بأن خلفاء بني أمية وولاتهم كانوا أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل تمت إلى العقيدة) . انتهى كلام الأرنؤوط ، وهو كلام مشحون بالطعن والغمز والافتراء، ولست هنا بصدد الرد على جميع ما ورد في هذا النقل من عبارات باطلة، لكن المقصود الرد على زعم من قال بأن الدافع لقتل الجعد كان سياسياً ، وقد شارك علي سامي النشار الأرنؤوط في هذا الزعم والتسويغ لضلالات الجعد وانحرافاته ، حيث يقول: ( لا نستطيع أن نصدق أن قتله -أي الجعد- كان لآرائه الفكرية، بل يبدو أنه سبب سياسي ) .(42/15)
ولكن لم يوضح صاحب الأرنؤوط ولا النشار ما هو الدافع السياسي وراء قتل الجعد ! فبقيت دعواهم مجرد استنتاج لا دليل عليه ولا برهان، وهو استنتاج لا يقوم على أساس من الواقع، ويحق لنا أن نسأل : ما هو الدافع السياسي المزعوم ؟ وأي ثقل كان الجعد يشكله في الساحة السياسية آنذاك ؟ خاصة إذا علمنا أنه من الموالي ، والعمل السياسي آنذاك بيد العرب، فهم الولاة وهم القادة وهم أهل الحل والعقد والرأي والمشورة، ولذلك كان يحسب لهم حسابهم في كل تحرك سياسي على عهد الأمويين، ولم يكن للموالي دور سياسي إلا في عهد العباسيين ، ولذلك فإن هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت.
والحقيقة أن قتل الجعد كان لزندقته وإلحاده ، وفي هذا يقول ابن تيمية: "فضحى بالجعد خالدُ بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين، وهم بقايا التابعين في وقته: مثل الحسن البصري وغيره ، الذين حمدوه على ما فعل، وشكروا ذلك." ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين " . انتهى كلام الدكتور محمد التميمي – وفقه الله - . أسأل الله الهداية والتوفيق للجميع .(42/16)
قبل أن نندفع خلف ( مؤتمرات الحوار بين الأديان ).. ورسالة لخادم الحرمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الدعوة إلى الحوار بين الأديان - في زماننا - تأتي من أحد شخصين : ( مريد الخير ) ، أو ( مريد الشر ) .
1- مريد الخير : - وهذا الظن بخادم الحرمين وفقه الله - يريد بها تهدئة الأوضاع ، وكف شر المتطاولين على الإسلام و نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتهيئة الأجواء لنشر دعوته - دون معوقات قد تعترضه - . ولكن يبقى السؤال : على ماذا سيكون الحوار ؟ - وسيأتي التوضيح - .
2- مريد الشر ، وهو من لايهمه أمر الإسلام ، إنما تهمه دنياه وأهواؤه ، ولو تنازل في سبيلها عن دينه أو شيء كثير منه - إما رغبة أو رهبة - ؛ وهؤلاء قال الله عنهم : ( فترى الذين في قلوبهم مرض يُسارعون فيهم يقولون نخشى أن تُصيبنا دائرة ) ، وقال عنهم : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا ) . فلاحرج عند هؤلاء من لبس الحق بالباطل ، أو تصحيح أديان الكفار ، أو غير هذا من الوقوع في الكفريات والانحرافات - نعوذ بالله من حالهم - . والحل مع هؤلاء : نُصحهم ، وتخويفهم أن يخسروا دينهم بسبب هذه التنازلات والمداهنات ، وتحذير المسلمين منهم ، وأن عاقبة تنازلاتهم ستُضيع الدين والدنيا ؛ لأن الكفار كلما تنازلت لهم كلما طالبوك بأكثر .. كما قال تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، وقال : ( ولئن اتبعتَ أهواءهم من بعد ماجاءك من العلم إنك إذًا لمن الظالمين ) .(43/1)
ومع إرادة الشخص الأول للخير من هذه الدعوة إلا أنه لابد من تذكيره بالنتائج التي جناها المسلمون منها عبر عشرات السنين ، وعشرات الحوارات . وقد أحببتُ أن يكون هذا التذكير من فارس من فرسان هذه الحوارات واللقاءات ؛ هو الدكتور محمد عمارة ؛ الذي كان في يوم ما مخدوعًا بها ، مؤملا عليها آمالا كثيرة ؛ إلى أن اكتشف في النهاية أن آماله تتبخر مثل السراب بعد كل مؤتمر يحضره أو يشارك فيه .
ولعل في نشر اعترافه - الذي يشهد لشجاعته - عبرة لمن يؤمل أن يجني من الشوك العنب .
يقول الدكتور في مقدمة كتيبه " مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا " ( ص 5-14) : ( مع كل ذلك، فتجربتي مع الحوارات الدينية -وخاصة مع ممثلي النصرانية الغربية- تجربة سلبية، لا تبعث على رجاء آمال تُذكر من وراء هذه الحوارات التي تُقام لها الكثير من اللجان والمؤسسات، وتُعقد لها الكثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات ، ويُنفق عليها الكثير من الأموال.
وذلك أن كل هذه الحوارات التي دارت وتدور بين علماء الإسلام ومفكريه وبين ممثلي كنائس النصرانية الغربية، قد افتقدت ولا تزال مفتقدة لأول وأبسط وأهم شرط من شروط أي حوار من الحوارات ؛ وهو شرط الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار، فالحوار إنما يدور بين "الذات" وبين "الآخر"؛ ومن ثم بين "الآخر" وبين "الذات"، ففيه إرسال وفيه استقبال، على أمل التفاعل بين الطرفين، فإذا دار الحوار -كما هو حاله الآن- بين طرف يعترف بالآخر، وآخر لا يعترف بمن "يحاوره"، كان حواراً مع "الذات"، وليس مع "الآخر"، ووقف عند "الإرسال" دون "الاستقبال"، ومن ثم يكون شبيهاً –في النتائج- بحوار الطرشان! ..(43/2)
موقف الآخرين من الإسلام والمسلمين هو موقف الإنكار، وعدم الاعتراف أو القبول، فلا الإسلام في عرفهم دين سماوي، ولا رسوله صادق في رسالته، ولا كتابه وحي من السماء، حتى لتصل المفارقة في عالم الإسلام إلى حيث تعترف الأكثرية المسلمة بالأقليات غير المسلمة، على حين لا تعترف الأقليات بالأغلبية!
فكيف يكون، وكيف يثمر حوار ديني بين طرفين، أحدهما يعترف بالآخر، ويقبل به طرفاً في إطار الدين السماوي، بينما الطرف الآخر يصنفنا كمجرد "واقع"، وليس كدين، بالمعنى السماوي لمصطلح الدين؟!
ذلك هو الشرط الأول والضروري المفقود، وذلك هو السر في عقم كل الحوارات الدينية التي تمت وتتم رغم ما بُذل ويُبذل فيها من جهود، وأنفق ويُنفق عليها من أموال، ورُصد ويُرصد لها من إمكانات!
أما السبب الثاني لعزوفي عن المشاركة في الحوارات الدينية -التي أُدعى إليها- فهو معرفتي بالمقاصد الحقيقية للآخرين من وراء الحوار الديني مع المسلمين، فهم يريدون التعرّف على الإسلام، وهذا حقهم إن لم يكن واجبهم، لكن لا ليتعايشوا معه وفقاً لسنة التعددية في الملل والشرائع، وإنما ليحذفوه ويطووا صفحته بتنصير المسلمين!
وهم لا يريدون الحوار مع المسلمين بحثاً عن القواسم المشتركة حول القضايا الحياتية التي يمكن الاتفاق على حلول إيمانية لمشكلاتها، وإنما ليكرسوا -أو على الأقل يصمتوا- عن المظالم التي يكتوي المسلمون بنارها، والتي صنعتها وتصنعها الدوائر الاستعمارية التي كثيراً ما استخدمت هذا الآخر الديني في فرض هذه المظالم وتكريسها في عالم الإسلام.
فحرمان كثير من الشعوب الإسلامية من حقها الفطري والطبيعي في تقرير المصير واغتصاب الأرض والسيادة في القدس وفلسطين والبوسنة والهرسك وكوسوفا والسنجق وكشمير والفلبين .. إلخ .. إلخ .. كلها أمور مسكوت عنها في مؤتمرات الحوار الديني.(43/3)
بل إن وثائق مؤتمرات التدبير لتنصير المسلمين التي تتسابق في ميادينها كل الكنائس الغربية، تعترف –هذه الوثائق- بأن الحوار الديني –بالنسبة لهم- لا يعني التخلي عن "الجهود القسرية والواعية والمتعمدة والتكتيكية لجذب الناس من مجتمع ديني ما إلى آخر" بل ربما كان الحوار مرحلة من مراحل التنصير!
وإذا كانت النصرانية الغربية تتوزعها كنيستان كبريان، الكاثوليكية، والبروتستانتية الإنجيلية، فإن فاتيكان الكاثوليكية –الذي أقام مؤسسات للحوار مع المسلمين، ودعا إلى كثير من مؤتمرات هذا الحوار- هو الذي رفع شعار: "إفريقيا نصرانية سنة 2000م"، فلما أزف الموعد، ولم يتحقق الوعد، مد أجل هذا الطمع إلى 2025م !!
وهو الذي عقد مع الكيان الصهيوني المغتصب للقدس وفلسطين معاهدة في 30-12-1993م تحدثت عن العلاقة الفريدة بين الكاثوليكية وبين الشعب اليهودي، واعترفت بالأمر الواقع للاغتصاب، وأخذت كنائسها في القدس المحتلة تسجل نفسها وفقاً للقانون الإسرائيلي الذي ضم المدينة إلى إسرائيل سنة 1967م!!
بل لقد ألزمت هذه المعاهدة كل الكنائس الكاثوليكية بما جاء فيها، أي أنها دعت وتدعو كل الملتزمين بسلطة الفاتيكان الدينية –حتى ولو كانوا مواطنين في وطن العروبة وعالم الإسلام- إلى خيانة قضاياهم الوطنية والقومية!
وباسم هذه الكاثوليكية أعلن بابا الفاتيكان أن القدس هي الوطن الروحي لليهودية، وشعار الدولة اليهودية، بل وطلب الغفران من اليهود، وذلك بعد أن ظلت كنيسته قروناً متطاولة تبيع صكوك الغفران !
أما الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية الغربية، فإنها هي التي فكرت ودبرت وقررت في وثائق مؤتمر كولورادو سنة 1978م:(43/4)
"إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية، وإن النظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً، إنه حركة دينية معادية للنصرانية، مخططة تخطيطاً يفوق قدرة البشر، ونحن بحاجة إلى مئات المراكز تؤسس حول العالم بواسطة النصارى، للتركيز على الإسلام ليس فقط لخلق فهم أفضل للإسلام وللتعامل النصراني مع الإسلام، وإنما لتوصيل ذلك الفهم إلى المنصِّرين من أجل اختراق الإسلام في صدق ودهاء"!!
ولقد سلك هذا المخطط -في سبيل تحقيق الاختراق للإسلام، وتنصير المسلمين- كل السبل اللا أخلاقية- التي لا تليق بأهل أي دين من الأديان- فتحدثت مقررات هذا المؤتمر عن العمل على اجتذاب الكنائس الشرقية الوطنية إلى خيانة شعوبها، والضلوع في مخطط اختراق الإسلام والثقافة الإسلامية للشعوب التي هي جزء وطني أصيل فيها، فقالت وثائق هذه المقررات:
"لقد وطّدنا العزم على العمل بالاعتماد المتبادل مع كل النصارى والكنائس الموجودة في العالم الإسلامي، إن النصارى البروتستانت في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، منهمكون بصورة عميقة ومؤثرة في عملية تنصير المسلمين. ويجب أن تخرج الكنائس القومية من عزلتها، وتقتحم بعزم جديد ثقافات ومجتمعات المسلمين الذي تسعى إلى تنصيرهم، وعلى المواطنين النصارى في البلدان الإسلامية وإرساليات التنصير الأجنبية العمل معاً، بروح تامة من أجل الاعتماد المتبادل والتعاون المشترك لتنصير المسلمين".
فهم يريدون تحويل الأقليات الدينية في بلادنا إلى شركاء في هذا النشاط التنصيري، المعادي لشعوبهم وأمتهم !
كذلك قررت "بروتوكولات" هذا المؤتمر تدريب وتوظيف العمالة المدنية الأجنبية التي تعمل في البلاد الإسلامية لمحاربة الإسلام وتنصير المسلمين، وفي ذلك قالوا:(43/5)
"إنه على الرغم من وجود منصرين بروتستانت من أمريكا الشمالية في الخارج أكثر من أي وقت مضى، فإن عدد الأمريكيين الفنيين الذين يعيشون فيما وراء البحار يفوق عدد المنصرين بأكثر من 100 إلى 1، وهؤلاء يمكنهم أيضاً أن يعملوا مع المنصرين جنباً إلى جنب لتنصير العالم الإسلامي، وخاصة في البلاد التي تمنع حكوماتها التنصير العلني"!
كذلك دعت قرارات مؤتمر كولورادو إلى التركيز على أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يعملون في البلاد الغربية، مستغلين عزلتهم عن المناخ الإسلامي لتحويلهم إلى "مزارع ومشاتل للنصرانية"، وذلك لإعادة غرسهم وغرس النصرانية في بلادهم عندما يعودون إليها، وعن ذلك قالوا:
"يتزايد باطراد عدد المسلمين الذين يسافرون إلى الغرب؛ ولأنهم يفتقرون إلى الدعم التقليدي الذي توفره المجتمعات الإسلامية، ويعيشون نمطاً من الحياة مختلفاً –في ظل الثقافة العلمانية والمادية- فإن عقيدة الغالبية العظمى منهم تتعرض للتأثر.
وإذا كانت "تربة" المسلمين في بلادهم هي بالنسبة للتنصير "أرض صلبة، ووعرة" فإن بالإمكان إيجاد مزارع خصبة بين المسلمين المشتتين خارج بلادهم، حيث يتم الزرع والسقي لعمل فعال عندما يعاد زرعهم ثانية في تربة أوطانهم كمنصرين"!
بل إن بروتوكولات هذا المؤتمر التنصيري لتبلغ قمة اللا أخلاقية عندما تقرر أن صناعة الكوارث في العالم الإسلامي هي السبيل لإفقاد المسلمين توازنهم الذي يسهل عملية تحولهم عن الإسلام إلى النصرانية! فتقول هذه البروتوكولات:(43/6)
"لكي يكون هناك تحول إلى النصرانية، فلابد من وجود أزمات ومشاكل وعوامل تدفع الناس، أفراداً وجماعات، خارج حالة التوازن التي اعتادوها. وقد تأتي هذه الأمور على شكل عوامل طبيعية، كالفقر والمرض والكوارث والحروب، وقد تكون معنوية، كالتفرقة العنصرية، أو الوضع الاجتماعي المتدني. وفي غياب مثل هذه الأوضاع المهيئة، فلن تكون هناك تحولات كبيرة إلى النصرانية .. إن تقديم العون لذوي الحاجة قد أصبح عملاً مهماً في عملية التنصير! وإن إحدى معجزات عصرنا أن احتياجات كثير من المجتمعات الإسلامية قد بدلت موقف حكوماتها التي كانت تناهض العمل التنصيري ؛ فأصبحت أكثر تقبلا للنصارى " !
فهم -رغم مسوح رجال الدين- يسعون إلى صنع الكوارث في بلادنا، ليختل توازن المسلمين، وذلك حتى يبيعوا إسلامهم لقاء مأوى أو كسرة خبز أو جرعة دواء! وفيما حدث ويحدث لضحايا المجاعات والحروب الأهلية والتطهير العرقي –في البلاد الإسلامية- التطبيق العملي لهذا الذي قررته البروتوكولات، فهل يمكن أن يكون هناك حوار حقيقي ومثمر مع هؤلاء؟!
تلك بعض من الأسباب التي جعلتني متحفظاً على دعوات ومؤتمرات وندوات الحوار بين الإسلام والنصرانية الغربية، وهي أسباب دعمتها وأكدتها "تجارب حوارية" مارستها في لقاء تم في "قبرص" أواخر سبعينيات القرن العشرين، ووجدت يومها أن الكنيسة الأمريكية -التي ترعى هذا الحوار وتنفق عليه- قد اتخذت من إحدى القلاع التي بناها الصليبيون إبان حروبهم ضد المسلمين، "قاعدة" ومقراً لإدارة هذا الحوار ؟!(43/7)
ومؤتمر آخر للحوار حضرته في عمّان -بإطار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية- مع الكنيسة الكاثوليكية في الثمانينيات وفيه حاولنا –عبثاً- انتزاع كلمة منهم تناصر قضايانا العادلة في القدس وفلسطين، فذهبت جهودنا أدراج الرياح! على حين كانوا يدعوننا إلى "علمنة" العالم الإسلامي لطي صفحة الإسلام كمنهاج للحياة الدنيا، تمهيداً لطي صفحته -بالتنصير- كمنهاج للحياة الآخرة !
ومنذ ذلك التاريخ عزمت على الإعراض عن حضور "مسارح" هذا "الحوار ) ! . انتهى كلام الدكتور عمارة .
قلتُ : فرسالتي إلى خادم الحرمين - وفقه الله - أن يجعل حواره الأول معهم عن : مدى اعترافهم بالإسلام - كدين سماوي - ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم كرسول من الله ؟
فإن امتنعوا .. فكيف يكون حوارٌ مع من لايعترف بدينك ولا نبيك ؟!
ويحسن بالقارئ لمعرفة المزيد عن زيف مؤتمرات حوارات الأديان أن يطلع على رسالة قيمة مطبوعة في أربعة مجلدات للدكتور أحمد القاضي بعنوان " دعوة التقريب بين الأديان " . وكذا رسالة " تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر - دراسة نقدية في ضوء الإسلام " . وعلى هذا الرابط : يجد رسالة ( الإبطال لنظرية الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان ) للشيخ بكر أبوزيد - رحمه الله - :
http://saaid.net/Warathah/bkar/index.htm(43/8)
حكاية مسؤول يسعى لنشر (الاختلاط) ، والحلقة (2) من خدعوك ..، وشكر للأمير فيصل بن مشعل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ِرسالة إلى مسؤول أضاع عمره لأجل نشر الاختلاط بين المؤمنين والمؤمنات
يُحكى أن رجلا كان يجلس ممددًا قدميه على النهر المقابل لمنزله ، جلسة هانئة هادئة ، فأتاه صاحبٌ له " يزعم محبته والبحث عن مصلحته " ، فقال له : أنت هنا ، والناس يتنافسون على فُرص التجارة الكثيرة !
فقال له : حسنًا .. ماذا أفعل .
قال صاحبه : أرى أن تبيع منزلك وتشتري أرضًا في المكان الفلاني .
قال : ثم ماذا ؟
قال : إذا ارتفعت تبيعها ، وتتاجر في الأسهم .
قال : ثم ماذا ؟
قال : تفتح لك مصنعًا أو شركة للتجارة .
قال : ثم ماذا ؟
قال : ستتنامى أرباحك ، وتكثر مشاريعك .
قال : ثم ماذا ؟
قال : تصبح من أصحاب الأموال .
قال : ثم ماذا ؟
قال : ثم ترتاح وتشتري منزلا ، وتُمدد رجليك على النهر !
قال : وهذا ما أنا فيه – ولله الحمد - !
هذه الحكاية الرمزية تُضرب مثلا لمن يريد إقحام البلاد في طرق شاقة عسيرة محذورة ؛ للوصول إلى أهداف ، يمكن الوصول إليها بطريق سهل مشروع مباشر .
مثال ذلك : من يدعي أنه " نصير المرأة " ، وأنه حريص على حقوقها ؛ سواء التعليم أو العمل .
تقول له : من الممكن لنا أن نصل إلى هاتين الغايتين بطرق مشروعة آمنة يرضاها الله و يرضاها المجتمع المسلم ؛ بأن تتعلم المرأة في وسط غير مختلط ( كما هو الحال عندنا ولله الحمد ) ، وتعمل ( إذا احتاجت للعمل ) في ما يناسب طبيعتها ، وفي وسط بعيد عن الاختلاط وبواعث الفتنة .
فلماذا تُصر على الوصول إلى هاتين الغايتين بطرق ملتوية ، توقع المسلمين في المحذور ، وتُقلق المجتمع ، وتشوش عليه ، وتبعث التنازع بين أهله ؟
هل الهدف عندك : التعليم والعمل .. أو الاختلاط ؟
إن كانت الأولى : فلديك الطريق الشرعي السالك .
وإن كانت الأخرى ، - خبتَ وخاب مسعاك - : لماذا لا تجهر بهذا ؟!(44/1)
بدلا من محاولة التلبيس على الناس أن هدفك نصرة قضايا المرأة ، وأن مخالفيك ، يخالفونك لأجل هذا ، فيقفون عائقًا في دربك !
وكل هذا كذبٌ لم يعد يخفى على عاقل ، خاصة في ظل وجود هذا الفضاء المفتوح ، الذي انقرضت فيه وصايتكم ، وأصبح الناس يسمعون صوت الحق الذي حاولتم كتمه في وسائلكم عشرات السنين .
هداك الله ، ووفق ولي الأمر للأخذ على يدك عن هذا العبث الذي أضعت عمرك في سبيله ، نسأل الله العافية والثبات وحسن الخاتمة .
خدعوك فقالوا : عدم الاختلاط عادة سعودية (2)
كنتُ قد نشرت الحلقة الأولى من مقال " خدعوك فقالوا : عدم الاختلاط عادة سعودية ! " ، على هذا الرابط :
http://www.saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/136.htm
كاشفًا كذبة بعض كتاب الصحف في ادعائهم أن الاختلاط لم يُحرمه إلا علماء هذه البلاد ؛ مخفين عن المسلمين حقيقة أن المجتمعات الإسلامية لم تعرف الاختلاط ، وكذا التبرج والسفور إلا بعد الاستعمار ، الذي شجع أذنابه ودعمهم لنشرهما بين المسلمين ؛ ليُشغل شبابهم وشاباتهم عن التصدي له ولمخططاته ، ويستنفذ جهودهم في الشهوات والفتن .
وهنا أذكر فتاوى أخرى لعلماء من مختلف بلدان العالم الإسلامي ، يُحرمون الاختلاط ، ويُحذرون من مفاسده وآثاره ، ودعاته "مرضى القلوب " .
وهؤلاء العلماء استفتتهم جمعية الإصلاح بالكويت عن ( حكم الاختلاط في الإسلام ) ؛ وهم :
1- الشيخ عبد الله النوري ، رئيس لجنة الفتوى في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت سابقا .
2- علي حسن البولاقي ، ( مصر )
3- الشيخ أحمد نصار ، ( من علماء الأزهر )
4- الشيخ محمد سليمان الجراح ، ( عالم الكويت الشهير ) .
5- الشيخ محمد صالح العدساني ، ( أحد علماء الكويت ) .
6- الشيخ أبو الأعلى المودودي ، ( الداعية الهندي الشهير ) .
7- الشيخ محمد نمر الخطيب ، ( لبنان ) .
8- الشيخ عبد المنعم أحمد ثعيلب ، ( مصر ) .
9- الشيخ نجم الدين الواعظ ( العراق ) .(44/2)
10- الشيخ عبد الله القلقيلي ، ( الأردن ) .
11- الشيخ عبد القادر الخطيب ، ( العراق ) .
12- الشيخ شاكر البدري ، ( العراق ) .
13- الشيخ تقي الدين الهلالي ، ( المغرب ) .
14- محمد الأمين الشنقيطي ، ( موريتانيا ) .
ولتحميل فتاواهم ، احفظ الملف الموجود على الرابط التالي باليمين :
http://saaid.net/book/open.php?cat=6&book=4689
شكر وتقدير .. للأمير فيصل بن مشعل
أما الأمير فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز – وفقه الله - ، فقد أجاد في محاضرته الأخيرة ( يوم الاثنين 28/5/1429هـ ) في القصيم بحضور أميرها وثلة من وجهائها ، عندما قال – بصراحة ووضوح - :
(المرأة في الغرب تغبط المرأة في المجتمع السعودي الإسلامي، إذ إنها مصونة ومحترمة تعدل نصف المجتمع ، وهي التي تربي نصفه الآخر، هي الأم والأخت والزوجة والبنت، لقد جاء إكرام المرأة السعودية من إكرام الإسلام للمرأة وحمايتها وصيانتها، والحفاظ على عفتها وكرامتها من الامتهان أو الاستغلال ) .
وقال : ( وفيما يتعلق بالحجاب وعدم اختلاط الرجال بالنساء ، لقد استطاعت المملكة أن يكون لها أثر بارز في ذلك، فالحجاب هو سمة المجتمع السعودي ، وكذلك عدم الاختلاط سواء في أماكن العلم أو الاحتفالات أو غيرها من الأماكن التي يكون من السهل اختلاط الرجال بالنساء، وقد برز هذا كله في التعليم ونظمه من مراحله الأولى وحتى النهائية ؛ كل ذلك صيانة للمجتمع وللمرأة من كثير من الفتن والمصائب التي وقعت فيها بعض المجتمعات من جراء السفور والاختلاط ، وهنا تُعد المملكة نموذجاً للعالم كله في الحفاظ وصيانة الأعراض ، وتؤكد للبشرية كلها بأن هذا أصلح للعملية العلمية والتربوية أيضاً ، والله هو الحافظ والواقي من كل سوء ) .
انتهى كلامه – وفقه الله – .
http://www.al-jazirah.com/829659/mh1d.htm(44/3)
وهو الكلام اللائق به ، وبأبناء أسرة آل سعود – وفقهم الله للخير - ، بالنظر لتاريخهم المشرف ، والمناصر للشريعة ، أما رعاية الفساد ووسائله ، أو التمكين للاختلاط والتبرج ، فلايليق بهم ؛ فضلا عن كونه محرمًا ، قد أعد الله لأهله عذابًا أليمًا . والله يقول : ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) ، جعلني الله وإياهم وإياكم من الهداة المهتدين ، الناشرين للخير ، الصادين عن الشر ، المتصدين بحزم لدعاته . والله الهادي ..(44/4)
زوار السفارات .. ساهموا في سقوط ( الدولة العثمانية ) .. !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لازلنا نذكر تصريح الأمير نايف – وفقه الله – عن زوار السفارات ، والمتعاونين مع السفارات الأجنبية ضد دينهم وبلادهم ، وتهديده بقطع ألسنتهم .
ولايُستغرب هذا التهديد الحازم ؛ لأن العقلاء يعلمون أن هذا المتصل بأعداء الإسلام ، المنسق معهم ، المتعاون ضد بلاده ، هو من " الطابور الخامس " المنافق ، الممهد لما هو أعظم من ذلك ؛ ولو وصل الحال إلى تسهيل الاحتلال ؛ في سبيل دنيًا يصيبها ، أو شهوة يُحصلها ، وقد رأينا أمثال هؤلاء في العراق .
وقد أحببتُ – لبيان خطر زوار السفارات على بلاد المسلمين – أن أنقل شيئًا من مساهمتهم مع الأعداء في إسقاط الدولة العثمانية ؛ لعل في هذا معتبرًا لنا – حكومة وشعبًا – أن نحذرهم ، وننبذهم ، ولا نُقربهم ، أو نوكل لهم أمرًا مهمًا من أمور البلاد والعباد .(45/1)
يقول الأستاذ عبدالمنعم الهاشمي في كتابه " الخلافة العثمانية " ( 550-569) : ( إذا تحدثنا عن الإصلاحات الدستورية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني فإننا سنتحدث عن طرفي مسألة الدستور، وهما: السلطان عبدالحميد الثاني ، ومدحت باشا، وقد تحدث السلطان عبدالحميد الثاني عن مدحت باشا كثيراً في مذكراته، ويبدو من حديثه العداء الذي استشرى بين الرجلين. يقول عبدالحميد عنه : إنه كان لا يفهم من الديمقراطية إلا معنى تقليد الغرب. ويقول: "مدحت باشا غير فوائد الحكم المشروطي ( الديمقراطي ) وذلك أنه لم يدرس أسباب هذه الديمقراطية ولا تأثيراتها الأخرى، أمراض ( السلفات ) لا تصلح لكل مرض كما لا تصلح لكل بنية، وأظن أن أصول الديمقراطية لا تصلح لكل شعب ولكل بنية قومية، كنت أظن أن الديمقراطية غير مفيدة، أما الآن فإني مقتنع بضررها". وقد بدأت محاولات مدحت باشا في إعلان ما سمي بالدستور أثناء خلافة السلطان عبدالعزيز وفشلت، ولكنه حاول إعادة الكرة في عهد السلطان مراد ولم يتمكن أيضاً.
وفي عهد السلطان عبدالحميد تولى الصدارة تحت ضغط الدول الأوروبية وخاصة الإنكليز ليُفسح لهم المجال في نشر الأفكار الغربية، فقد تمهدت السبل أمامه حسبما تهيأ له، فعقد مؤتمراً لسفراء الدول الكبرى في العاصمة بناءً على اقتراح من إنكلترا، ثم جرى بعده ضغط دولي بغية القيام بالإصلاحات، فشكل مدحت باشا مؤلفة من ستة عشر موظفاً متديناً وعشرة من العلماء وقائدين كبيرين من الجيش لوضع مشروع الدستور ، الذي استوحي من الدستور البلجيكي تحت اسم قانون أساسي ، وذلك في سنة 1294هـ، فأصبح الدستور البلجيكي المعدل دستوراً للدولة الإسلامية بعد أن كان الإسلام هو دستور الدولة ! ..(45/2)
يقول السلطان عبدالحميد في مذكراته: "لم يكن مدحت باشا قد درس أي قانون أساسي في أي دولة من الدول عندما اقترح عليّ إعلان القانون الأساسي، ولم يكن له في هذا الموضوع فكر متأصل، كان ( أوديان أفندي الأرمني ) هو أستاذ مدحت باشا الفكري " .
إن بين السلطان عبدالحميد الثاني ومدحت باشا مواجهة، ولكن المواجهة صنعتها رعونة مدحت باشا وعدم فهمه للأمور كما كان السلطان عبدالحميد الثاني يفهم، وكان كل همه التغيير إلى اتجاه الغرب، فقد انبهر بالغرب وسياسته ، ونسي أنهم يريدون مصالحهم أولاً وقبل كل شيء، ونستطيع أن نستخلص ذلك من رواية السلطان عبدالحميد الثاني التي تنطق بالصدق وحسن المنطق وسلامة الرؤيا، يقول السلطان في مذكراته:
"عند إعادة قراءة ما كتبته عن مدحت باشا، وجدت أني مررت على إحدى النقاط مرّ الكرام، ترددت كثيراً عندما فكرت في تركها، ولكن ليس من شيء أخفيه عن الله وعن التاريخ مهما اختبأ الشيء، ومهما تسترنا عليه، فلا بد أن يظهر يوماً بكل تفرعاته.
الإنكليز أعدائي يرشون قائد جيشي :
كنت أعلم أن السرعسكر عوني باشا قد أخذ من الإنكليز أموالاً، إن رجلاً من رجال الدولة يأخذ مالاً من دولة أخرى لا بد وأن يكون قد قدّم لها خدمات، يعني هذا أيضاً أن خلع المرحوم عمي السلطان عبدالعزيز وتولية السلطان مراد باشا بدله، لم يكن حقداً فقط من حسين عوني باشا، ولكنه مرضاة لرغبة دولة أخرى أيضاً.(45/3)
وكما كتبت من قبل، فإن السلطان عبدالعزيز كان قد جرّد حسين عوني باشا من رتبته ونياشينه، ونفاه إلى أسبرطة، لم يكن حسين عوني باشا في ذلك الوقت يملك شروى نقير، بالإضافة إلى أنه كان مريضاً، عندما أبلغت إليه إرادة عمي كان في منزله، تملكته الحيرة والدهشة، ظهر عليه الندم الشديد، كان يفكر في أنه لا يمتلك شيئاً، وأنه لم يستطع تأمين دخل له حتى ذلك اليوم، كثيرون سمعوا حسين عوني باشا وهو يقول في تلك الأيام: "آه لو تسنح لي فرصة أخرى لعرفت ماذا أفعل".
كان لحسين عوني باشا مزاياه، كما كانت له عيوبه، كان يثق بنفسه كثيراً، وكان يظن أنه يعرف ما لا يعرفه أحد.. أقبل القول بأنه جيد كجندي، ولكنه كرجل دولة كان سيئاً بعدم تبصره وكثرة كلامه وغروره، ولكني أعرف أنه حتى تاريخ إرساله إلى المنفى كان رجلاً شريفاً، إن أسباب الحاجة والآلام التي قاساها في منفاه أوقعته في غفلة البحث عن الشرف، وكان هذا محور سوء حظه.
كنا نسمع أنه كان في ضيق وحرمان أثناء مقامه في أسبرطه، وكان عمي يسمع مثلنا بهذا، وأظن أن هذا أثّر في عمي، فرق له، وصفح عنه، وأذن له بالعودة إلى استانبول، ليس هذا فحسب، بل عيّنه والياً على إيدين في الأناضول.
طلب حسين عوني باشا السفر إلى أوروبا للاستشفاء، حيث العيون المعدنية ؛ لأنه يعاني من المرض الذي أصيب به أثناء مقامه في المنفى ، والذي استمر مدة أحد عشر شهراً، وسافر.
صفح السلطان عن سر عسكره السابق، ولكن السر عسكر السابق لم يصفح عن سلطانه! كان حسين عوني باشا يعيش وهو يدفن حقده، وكان يعمل كل ما في وسعه دون أن يطلع عليه أحد عما ينوي فعله، وعندما سافر إلى أوروبا طرق أبواب رجال الحكم هناك أكثر من ذهابه إلى المياه المعدنية وأثناء سفره إلى فرنسا وإنكلترا ارتمى في أحضان الإنكليز.(45/4)
لا أعرف كيف حدث هذا؟ هل اتصل حسين عوني بالسفارة الإنجليزية وقت أن كان هنا؟ أم أن الخارجية الإنكليزية أحسّت بهمهمات حقده عندما وصل هناك فأوقعته في المصيدة؟ لا أدري، وإنما بعد فترة من الزمن أخبرني سفيرنا في لندن موسوروس باشا أن حسين عوني باشا تقاضى مالاً كثيراً من يد أجنبية في إنكلترا، ولم يعلم سفيرنا بهذا إلا في وقت متأخر جداً، وعندما وصل إلي الخبر كان حسين عوني باشا قد مات، ولكن مسألة أن قائداً عثمانياً يقبل نقوداً من دولة أجنبية لم يكن عملاً يستهان به. وقفت طويلاً أمام هذه المسألة باهتمام " .
وتحت عنوان مثير يقول السلطان عبدالحميد :
"وزيري الأعظم ( مدحت باشا ) وقائد جيشي، عميلان لأعدائي" :
كانت الهدايا القيمة التي قدمها سواء للقصر أم لأصدقائه المقربين، بعد عودته من أوروبا، تفوق كثيراً قدرة مدحت باشا حديث العودة من المنفى ، الذي قاسى فيه الفقر والحرمان، تلك الأيام لم تغب عن عيناي، وأنا إلى الآن ما زلت مندهشاً متسائلاً: كيف لم يلحظ المرحوم عمي هذا؟ رغم أن الباشا قدم له شمعداناً ثنائياً مرصعاً على القيمة تاريخياً، واشتراه من باريس بثلاثة آلاف ذهباً ليهديه إلى السلطان، علمت بعد ذلك أن تحقيقاً تم في أمر هذا الشراء، أبلغني موسوروس باشا بهذا، وكان مدحت باشا وقتها صدراً أعظم، وكان حسين عوني باشا رفيقاً لمدحت باشا ، واشتركا معاً في إنزال عمي عن عرشه". مدحت باشا أيضاً مثل حسين عوني باشا، اتبع سياسة مؤيدة للإنكليز، وكان دائماً يفصح عن ثقته في الإنكليز.(45/5)
ويقول السلطان عبدالحميد : " كنت أعلم أن كمال بك وضياء بك ورشدي باشا وآخرين من رفاقهم يجتمعون كل مساء في قصر مدحت باشا يعاقرون الخمر ويتحدثون، وذات مرة قال مدحت باشا: ليس في الأسرة المالكة العثمانية خير يرجى، ولم يبق إلا الاتجاه نحو الجمهورية تُرى كيف يمكن هذا؟ إن عدة أشخاص مثلكم يفهمون المسألة الآتية: يوجد في العالم حتى الآن بآل عثمان، ماذا يحدث لو ظهر ما يسمى بآل مدحت ! " .
وقد كان السلطان عبدالحميد يعرف أن لإنكلترا دوراً في كل هذه المؤامرات ، وفي جراءة مدحت باشا على شخصه، فلم يكتف مدحت باشا بإثارة ما أثار من مشاكل، فهو من ناحية يريد خلق أزمة في السراي، ومن ناحية أخرى يريد الزج بالبلاد في أتون الحرب، وقد حاول سن بعض الأعمال التي لا يتصورها العقل ؛ مثل تعيين الولاة من الأقلية ( النصارى والأرمن ) في ولايات الأغلبية فيها مسلمون، وقبول طلبة من ( الروم ) في المدرسة الحربية التي هي عماد الجيش.. أعمال كهذه يمكن أن تؤدي -معاذ الله- إلى تقويض الدولة من أساسها".
ويضيف السلطان قائلاً: "كان الملك العثماني يهتز بشدة من أساسه بناء على هذا كله، كنت أرى أن الصدر الأعظم ( مدحت باشا ) يؤيد الإنكليز ويتعاون معهم، سواء بدافع من ماسونية ، أو بدافع من أسباب أخرى خاصة، ولم أعد أحتمل، فاستندت إلى صلاحياتي في القانون الأساسي وعزلته عن الصدارة العظمى ( رئاسة الوزراء ) وأبعدته خارج الحدود".
بعض أفكار جمعية " الاتحاد والترقي " التي تعاونت مع العدو في إلغاء الخلافة :(45/6)
" وأخذتْ هذه الجماعة تعمل على بث دعوتها سراً، ونشر أفكارها عن طريق الجيش، وبرز من بين روادها مسيحيون وألبانيون وأكراد وأتراك، أمثال إسحق سكوتي، وشركس محمد رشيد، وعبدالله جودت، وأصدرت في جنيف مجلة "عثمانلي" لبث أفكارها واستقطاب المؤيدين، وقد تأثرت بأفكار الثورة الفرنسية التي مر عليها مائة عام في عام 1889م ، وهو العام الذي شكلت فيه الجمعية " .
الوفد الذي قابل السلطان عبدالحميد لخلعه :
" في هذه الأثناء استدعي رئيس الوزراء توفيق باشا إلى المجلس لإبلاغ القرار للخليفة، ولكنه اعتذر ، فانتخب الاتحاديون وفداً مؤلفاً من الفريق البحري عارف حكمت الكرجي ، وآرام أفندي الأرمني، وعمانوئيل قراصو اليهودي نائب سلانيك ، وأسعد طوبطاني الأرناؤوطي، ودخل الوفد على السلطان عبدالحميد ، فوجدوه واقفاً وكأنه بانتظارهم هادئ الأعصاب متزناً، فقرأ الفتوى الفريق عارف حكمت أمامه ، فأجابه السلطان الخليفة: ( ذلك تقدير العزيز العليم ) . فتقدم أسعد طوبطاني وقال له: لقد عزلتكم الأمة، فغضب السلطان عبدالحميد وقال: تقصد الأمة خلعتني لا بأس، ولكن لماذا جئتم بهذا اليهودي ( يقصد قراصوا ) إلى مقام الخلافة؟ " .
" وفي عام 1328هـ أرسل إلى سلانيك مع نسائه وأولاده وبعض المرافقين والخدم، وبقي هناك تحت حراسة الاتحاديين ، وفي مقر يملكه أحد اليهود ! " .(45/7)
حداثي وشيخ يتفقان على ( الخصوصية السعودية )... وبرقية مشرفة للملك فهد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
للمملكة العربية السعودية مكانةٌ وخصوصيةٌ يتفق عليها كلُ عاقل ؛ يستوعب ظروف نشأتها ، وماتحتويه أرضها " جزيرة العرب " من أماكن مقدسة ، هي مهوى أفئدة المسلمين من كل مكان ، فهي متميزة شكلاً ومعنى عن غيرها من البلاد : ( خذ هذه الأمثلة : تحكم بالشريعة – يحتوي عَلمها على الشهادتين – لا يُنكس – للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها هيئة قائمة – مناهجها وفق دعوة الكتاب والسنة - الانضباط الشرعي في قضايا المرأة - تعليمًا وعملا - ... الخ ) ، وللمزيد طالع رسالة خصائص جزيرة العرب للشيخ بكر أبوزيد - رحمه الله - ، على هذ الربط :
http://www.saaid.net/book/open.php?cat=83&book=1404
ولايخفى أن المفسد الذي لايهتم إلا بنشر الفساد في هذه البلاد ، يتضجر ويقلق من هذه الخصوصية التي تقف حائلا بين المجتمع وتقبل فساده ؛ لذا تجده يسخر منها ، أو يُهون من شأنها . أما العاقل من أبناء الأمة - من هذه البلاد أو غيرها - فإنه يُدرك الخصوصية السعودية ، التي يراها خصوصية له أيضًا ، ويفرح بها ، ويحث عليها ؛ لأنها إن ضاعت ، فقد غُزيت الأمة في عقر دارها . فتجده لايرضى لها أن تكون نسخة مكررة من غيرها من بقية دول العالم الإسلامي ؛ فضلا عن الغربي . وعلى هذا - كما مر - اتفقت نظرة العقلاء ؛ من المتدينين أو غيرهم . وإليكم شهادتين من شخصين متنافرين في وجهتهما ، متفقَين في نظرتهما للخصوصية السعودية ..
شهادة الروائي الحداثي : الطيب صالح
قال في مقالٍ حديث له بمجلة المجلة ( عدد 1470) وتاريخ 19/4/2008م :(46/1)
( حين احتفل السعوديون بالذكرى المئوية لتأسيس دولتهم العتيدة، كان لاحتفالهم طعم خاص ونكهة خاصة. كان الاحتفال رصيناً كما يليق بهذه الدولة الرصينة.وقد أتيح لي في تلك الأيام أن أكون هناك. لم أر صواريخ نارية تُطلق في الهواء ولا بالونات، ولا طوابير من الشباب والأطفال، يجوبون شوارع المدينة، ويهزجون بالأناشيد الحماسية، رافعين صوراً ضخمة لقائد المسيرة وحامي العشيرة، ولا أياً من مظاهر الطبل والزمر التي تصحب هذه المناسبات في بعض البلاد - وهو في حد ذاته أمر يدعو إلى الغبطة، وينبئك بالكثير عن هذه الدولة - وقد لفتت نظري كلمة الأستاذ عبد الرحمن السماري في صحيفة "الجزيرة" ؛ كأنه يدافع فيها أو يعتذر عن هذا الأسلوب السعودي في الاحتفال يقول:
"لقد احتفلنا بالمناسبة بطريقتنا: نعم ، نحن لنا خصوصيتنا ولنا تميزنا ولنا منهجنا ، لن تكون احتفالاتنا مثل احتفالات الآخرين أبداً، لأن دستورنا غير دستورهم: دستورنا هو القرآن الكريم وهو منهجنا ، ومنه انطلقت هذه البلاد وإليه تحتكم في كل شؤونها.في المناسبة المئوية، كنا نسترجع الذكريات ونبحث في سنين خلت ، ونستلهم العبر ، ونقرأ الدروس ونقيم تجربتنا أكثر من أنه احتفال".
صدقت ولكنه احتفال أيضاً. و لم تكن بحاجة إلى الدفاع أو الاعتذار. الناس جميعاً قد أدركوا أن ثمة تاريخاً سعودياً مميزاً، وأسلوباً مميزاً في الحكم ، ونهجاً سعودياً مميزاً في السياسة ، بدأ العالم يفهمه أكثر فأكثر، ويفهم أن هذا التميز السعودي ينبع من قيم إنسانية أصيلة جديرة بالاحترام.
ولا يخفى أن الدولة السعودية دولة ليست كغيرها من الدول ؛ لأنها تقوم على أرض باركها الله ، وجعلها منطلقاً وحمى لدينه الحنيف، وفيها المدينتان المباركتان اللتان تهفو إليهما قلوب المسلمين شرقاً وغرباً.(46/2)
وإن كان العاهل الكريم لهذه الديار الكريمة قد ارتضى لنفسه لقب "خادم الحرمين الشريفين" فإن الأقدار بذلك قد ألبسته عباءة من شرف ، لا يدانيه أي شرف ) .
شهادة الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله –
قال في خطابٍ وجهه للملك فيصل – رحمه الله – عندما كان وليًا للعهد :
( حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالعزيز ولي العهد المعظم ورئيس الوزراء حفظه الله ورعاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد! فأدام الله عليكم النعم التي أكرمكم بها، ووفقكم لما فيه رضا الله، وثناء المسلمين وشكرهم وطيب الذكر وخلود الأثر ولسان صدق في الآخرين، وما هو وفاء وقيمة لمواهبكم العظيمة والفرص السانحة الكريمة التي منَّ الله بها عليكم.
إنه من المقرر المعلوم لديكم أن هذه البلاد ليست ككل البلاد التي ينظر في قضاياها، ومدنيتها، وتقدمها، وترفيه أهلها، وتنظيم معارفها، وتوجيه الرأي العام فيها كأي بلد في الشرق والغرب، إنها بلاد أراد الله وقضى أن تكون عاصمة الإسلام ومعقل الدين، ومثابة لقلوب المسلمين، وإنها مقدمة ووديعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرجت ببعثته من الظلمات إلى النور، ومن الخمول والعزلة والانطواء والاختفاء في حاشية الأمم تحت ركام التاريخ، إلى الشهرة والقيادة، والمركزية في العالم، وانتشرت لغتها وثقافتها في أوسع رقعة من الأرض، وفي أطول مساحة من الزمن، وفي أوسع دائرة وأكثرها تنوعاً من الشعوب والأمم.(46/3)
فمما يقتضيه الدين والشعور بالأمانة والمروءة والشرف والاعتراف بالواقع التاريخي والعملي ومراعاة عواطف المسلمين المنتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، ومما تقتضيه السياسة الحكيمة أن يكون كل ما يُقرر ويسنُّ، ويدعى إليه ويسمح به في مصلحة من مصالح الحكومة، وفي كل ناحية من نواحي الحياة العامة، خاضعاً لشخصية هذه البلاد الخاصة ، ورسالتها ، ومركزها في العالم ، والدعوة التي قامت بها في الماضي، وعُرفت بها في الحاضر، وليُتجنب كل التجنب عن كل ما ينافي عقيدتها ومبادئها ، ويرزؤها في شخصيتها ومعنوياتها، مهما جر ذلك على هذه البلاد من النفع المادي، وعلى أهلها من الترفيه والتسلية والخصب، وإن هذه البلاد وقادتها أولى بهذه التضحية في سبيل المبدأ من الشيوعيين في روسيا والرأسماليين في أمريكا ، الذين لا يسمحون أبداً بما ينافي مبدأهم وسياسة بلادهم مهما صغر وتفه، ومهما تضخم نفعه المادي وربحه المالي.
وقد يعتقد بعض الناس أن في هذا التوسع والانطلاق في مواد التسلية وتقليد الأقطار المتمدنة التي سارت وراء الغرب في أساليب التعليم وبرامج الإذاعة وتطبيق مظاهر الحياة الغربية مما لا تقدم ولا تؤخر في نهضة البلاد وقوتها، ترفيهاً للشعب، وتحقيقاً لمطالبه، وعلاجاً للتذمر، وشاغلاً له عن التفكير الخاطئ ، وتقدماً بالبلاد - ومع الأسف والاعتذار- لا أوافق على ذلك في ضوء التجربة والتاريخ، فليس هذا هو العلاج، وماء البحر المالح الأجاج لا يزيد الشارب إلا عطشاً ، إنما العلاج هو تحقيق العدالة الاجتماعية الإسلامية، والتقدم بصناعة البلاد وتجاربها ، وإيجاد الوسائل الكفيلة للرزق الحلال، والسير في طريق الاكتفاء الذاتي ، وكفالة البلاد لنفسها ، وإنشاء المصانع ، وترخيص الحياة وحاجياتها، والتقليل أو التحديد من أسباب البذخ والكماليات ، والترفيه الكريم المشروع ، الذي ليس ضيقاً ولا محدوداً ؛ كما يعتقد من لا يعرف الشرع وطبائع البشر.(46/4)
أما التقليد والتفكير المترهل الذي ينجرف مع التيار ، والذي لا مقاومة فيه، والذي يخضع لكل دعاية ، ويُسرع إلى تحقيق كل مطلوب ؛ فهو خطر على البلاد ، وخطر على الحكومة، وهو ينشر في أقرب وقت التفسخ الخلقي والميوعة، وضعف الشخصية ، الذي تعانيه البلاد الأخرى ، وقد أفلت الزمام من أيدي قادتها ومصلحيها ؛ فأصبحوا لا يملكون من أمرها شيئاً .
ثم إن هذا الاتجاه يُفقد هذه البلاد حرمتها وقداستها وشخصيتها، ويقطع صلتها عن الماضي، ويحول بين هذه البلاد وقادتها، وبين نصر الله ورحمته التي لا انتصار ولا عز ولا كرامة، ولا سلامة ولا عافية بغيرها، فالعدو قوي ماكر ، لا يحترز من شيء في سبيل مراميه البعيدة، وعزائمه الخبيثة، وفيه الحرمان من أسباب نصر الله ورحمته التي لا غنى بنا عنها.
إن هذه البلاد لو سارت في هذا الاتجاه الذي يدعو إليه بعض الناس، الاتجاه الذي سارت فيه مصر، وسورية، ولبنان، من الحرية المطلقة والترفيه غير المحدود وغير المقيد بالشرع والأخلاق، وسارت في اتجاه القومية كما يدعو إليه كثير في الخارج، واعتبرت نفسها قطراً من الأقطار، ودولة من الدول ، ومجتمعاً من المجتمعات البشرية الكثيرة، ليست لها شخصية خاصة، ولا رسالة، ولا دعوة، ولا حدود مستمدة من الشرع الإسلامي تقف عندها، فإنها تصبح بلداً من البلاد الكثيرة التي لا قيمة لها في خريطة العالم، ولا في هيئة الأمم، وضاعت - لا سمح الله- الجهود التي بذلها أجيال المسلمين الأولى، ولا قيمة لبلاد يترفّه أهلها، ويأكلون كما تأكل الأنعام، ويموتون كما تموت الحشرات، ولا رسالة ولا دعوة، ولا عقيدة ولا مبدأ ولا شخصية، ولا خُلق، وفقدت احترام العالم الإسلامي وقيادته ، ورهبة أوربة وقادتها، وإجلالهم، والمكانة التي كانت تشغلها في التاريخ، وتستطيع بقليل من الجهد والعزم أن تشغله في الحاضر، إنه سقوط في الهمة وضعف في التفكير، وجبن في الإرادة ، أربأ بنفس كل عاقلٍ عنه.(46/5)
إنني كفرد يدين لهذه البلاد في دينه وعقله وثقافته ، أستحث هممكم ومواهبكم وما أكرمكم الله به من جاه ومنصب ونفوذ، لمحاربة هذا الاتجاه الخطر، إذا وجد في زاوية من الزوايا الخاصة والعامة، وتجنيد جميع قواكم في سبيل حفظ شخصية هذه البلاد الإسلامية العربية، وتوجيه التفكير والرأي العام، والصحافة والإذاعة، والأدب والمعارف، إلى ما يغرس في نفوس الشعب وشبابه وجيله الناشئ : الإيمان والحماس الديني والغيرة الإسلامية وحب الأخلاق والفضيلة، وكراهة الإثم والفسوق والفحشاء، ويرسي فيهم القيم الإسلامية ، ويجعلهم جديرين لحمل المسؤولية الكريمة العظيمة التي يرشحهم لها الإسلام ، وترشحهم لها هذه البلاد .. ) إلى آخر نصيحته المنشورة في كتابه " خطابات صريحة ، 32-35" .
برقية مُشرفة للملك فهد - رحمه الله - تؤكد الخصوصية السعودية
( صاحب السمو الملكي الرئيس العام لرعاية الشباب
نشير إلى برقية سموكم رقم 1174وتاريخ 3/4/1422هـ ، بشأن طلب التوجيه حيال الدعوة الموجهة من رئيس مهرجان القاهرة الدولي السابع للأغنية ، ورئيس الجهاز التنفيذي لمركز المؤتمرات للفنان / سراج عمر للمشاركة في لجنة تحكيم مهرجان القاهرة الدولي السابع للأغنية الذي سيُقام خلال الفترة من 1-9/6/1422هـ . ونخبركم بأنه لايجوز الزج باسم المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين الشريفين ومهبط الوحي في مثل هذه المهرجانات وغيرها من المحافل الخاصة بالغناء والطرب والموسيقى ، ونرغب إليكم من الآن فصاعدا الحرص على عدم المشاركة الرسمية في مثل هذه المهرجانات والمحافل مع عدم الرفع عن ذلك مطلقًا . فأكملوا ما يلزم بموجبه . وقد زودنا الجهات ذات العلاقة بنسخة من أمرنا هذا للاعتماد . فهد بن عبدالعزيز رئيس مجلس الوزراء ) .
الخلاصة(46/6)
مكانة السعودية المميزة بين الناس - مسلمهم وكافرهم - ، وثقلها الدولي ، وقوتها المعنوية ؛ أتت بسبب خصوصيتها الدينية ، وأنها مأرز الإسلام ، وستبقى مابقيت هذه الخصوصية وحوفظ عليها ، فمن أعز الله وشرعه ؛ سيُقابل بالمثل منه تعالى : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) . لهذا ؛ فإن مَن يزينون للدولة : التفريط في هذه الخصوصية بدعاوى مزخرفة كثيرة - خاصة مانراه منهم من تسارع في إقحام المرأة السعودية في أتون الاختلاط والتبرج - هم يضرونها ولا ينفعونها ، شعروا أو لم يشعروا ، وإن ادعى بعضهم أن هذا يسبب تخفيف الضغط على البلاد من الأعداء !! وغفل هذا وأمثاله ، أن الأعداء لن يقفوا عند هذه الأمور ، بل سيتجرأون على غيرها ، إن رأوا تهاونًا وطواعية ، مصداقًا لقوله تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم ) . وتغافل هذا وأمثاله عن قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أرضى الناس بسخط الله ، سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس ) . وأن خير ما يدفع كيد الأعداء : الثبات على شرع الله ، والاعتصام به ، وتأمين " الجبهة الداخلية " ، وجمعها على عقيدة ومنهج أهل السنة - ولا عبرة بالشواذ بعدها - . وعندها لن يشكل الأعداء أي خطر ، بل سيصدق فيهم قول الله : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا ) .
فالواجب على الدولة - وفقها الله - عدم السماع لهذا المزين وأمثاله ؛ لأنهم يُساهمون في إضعاف مكانة البلاد ، وتجرئة الأعداء عليها ، والحيلولة بينها وبين نصر الله ورعايته ، وحينها لا ينفع الندم . أسأل الله أن يوفق ولي أمرنا لما يُحب ويرضى ، ويرزقه البطانة الصالحة ، التي تعينه على أمري الدين والدنيا . والله الهادي ..(46/7)
كتابي عن ( القصيمي ) هدية + اعتراف مرافقه +3 إضافات + خبر مفرح عن حفيده !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يطيب لي أن أهدي الإخوة الكرام كتابي عن " القصيمي " ، وقد سميته : " عبدالله القصيمي .. وجهة نظر أخرى " ، جمعتُ فيه ملخصات لنقد العلماء والكتّاب لفكره بعد زيغه عن الحق ، واستبداله الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ ليتعرفوا على النظرة الشرعية لكتاباته فيما بعد إلحاده ، وهي النظرة التي حاول البعض حجبها بإبراز وجهة نظر أهل الباطل ( بأنواعهم ) ، الذين صوروه في صورة المفكر الحر ، الذي واجه المضايقة بسبب ذلك ، حاثين الشباب المسلم على السير على خطاه ! ، متغافلين عن حقيقة فكره الإلحادي الهدمي العبثي ، الذي لايرضاه أهل العقول ،فضلا عن أهل الإسلام .
لتحميل الكتاب ( اضغط هنا )
هل تاب القصيمي ؟!(47/1)
ردد البعض أن القصيمي قد تاب آخر حياته ، وعكف على تلاوة القرآن ! ، ورغم أن هذا الفعل لو صدق لا يُعد توبة حقيقية ، ما لم يتبرأ صاحبه من كتاباته الكفرية ، فإن المرافق للقصيمي إلى آخر لحظة في حياته : صديقه ( إبراهيم عبدالرحمن ) قد نفى هذا ، مفتخرًا أنه مات على فكره الذي عُرف عنه ، وقد نقل هذا الاعتراف الكاتب " المعجب بالقصيمي ! " : عبدالله القفاري - هداه الله - في مقالاته المعنونة بـ " خمسون عامًا مع القصيمي " ، في جريدة الرياض ، الاثنين 12 جمادى الآخر 1429هـ -16 يونيو2008م - العدد 14602 ، قال : ( سألته أخيراً: هناك من روج لفكرة تحول القصيمي في آخر أيام حياته وهو على فراش الموت، وأنت القريب منه حتى تلك الساعات الأخيرة في مستشفى فلسطين حيث ودع الحياة ؟! قال لي : هذه كذبة جميلة، روج لها البعض ليمرر اسم القصيمي على صفحات الصحف ، في وقت كانت الكتابة عن القصيمي مشكلة بحد ذاتها ، لقد حسم عبدالله القصيمي منذ وقت مبكر خياراته، لقد كانت كذبة جميلة تستهوي من يبحث عن فكرة التائب العائد ، لكنها ليست هي الحقيقة على الإطلاق ) .
قلت : لهذا يصدق فيه ما قاله الشيخ أبوعبدالرحمن الظاهري : ( منذ كتاب الأغلال إلى أن هلك ، لا أعلم له كلمة منشورة تُعلن توبته ، ولا أعلم له كتابًا فيه خير ، بل كل كتبه المطبوعة كفر وتجديف ) .. - إلى أن قال - : ( يجب على المسلم المفكر ، الذي يملك مقومات الإيمان العلمي ، أن يدحض كتب القصيمي المنتنة ، التي يُطبع أكثرها في بلاد غير إسلامية ولا عربية .. ) . ( ص 824 من كتابي السابق ) .
إضافات لم أذكرها في كتابي السابق :
1- قال الشيخ أحمد النجمي - رحمه الله - في كتابه " أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة " ( 177 - 178 ) بعد أن ذكر ترجمة القصيمي وانحرافه :(47/2)
( والذي أعقب به على ترجمة هذا المارق ؛ أنه يجب على أهل العلم أن يأخذوا منها عبرة وعظة، وتتلخص مواطن العبرة منها في أمور:
أولها: الإخلاص لله في كل عمل، وذلك أن عواقب النفاق والمقاصد السيئة قبيحة ووخيمة، إذ لو كان القصيمي مخلصاً عند تأليف كتابه لحماه الله عن الردة.
ثانياً: أن الواجب على العبد ألا يُعجب بنفسه أو يفخر بعمله، فالفضل لله على العبد فيما أنجزه من أعمال، وكل نعمة على العبد تستوجب شكراً، وشكرها نعمة تستوجب شكراً آخر.
ثالثاً: أن هذه القصة تعطينا درساً أن من أعرض عن القرآن بعد أن علمه واتجه إلى دعاة الضلال ليأخذ ثقافته ووعيه منهم، عاقبة الله بالخذلان ، واستولى عليه الشيطان. ولنأخذ مثلاً على ذلك الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وزعموا أنها لا تكفي في العقيدة دون المنطق المأخوذ عن اليونان كيف ضلوا في العقيدة، فعطلوا صفات الله، وآل بهم ذلك العلم إلى الحيرة، حتى صار بعض فحولهم عند موته يتمنى أن يموت على دين العجائز. والآن من ترك كتاب الله وسنة رسوله وذهب يقرأ كتب الملحدين الضالين حتى ولو كان بقصد النقد، يخاف عليه إذا أكثر من ذلك أن لا يخرج منها سليماً... وهذا حال هذا الرجل فيما نعتقد.
رابعاً: أن العبد بحاجة إلى أن يكثر الابتهال إلى الله في أن يثبته على الصراط المستقيم، ولذلك شرع الله قراءة الفاتحة في كل ركعة، لأن فيها الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم. وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه كثيراً ما يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".(47/3)
خامساً: أخذ الحذر من كل ما يؤدي بالإنسان إلى الهلكة وإحباط العمل من الرياء والعجب، ومخالطة الأشرار، وقراءة كتب الضلال والانحراف، ومطالعة القصص الخليعة، والنظر إلى الصور الفاتنة بواسطة وسائل الإعلام المرئية، من سينما وفديو وتلفاز وغير ذلك، ومثل ذلك سماع التمثيليات والقصص الماجنة وأكل الحرام والوقوع في الكبائر، من سكر وزنا وغير ذلك... كل هذه الأشياء يُخشى على من وقع فيها أن يتغير قلبه ويضعف إيمانه أو يضمحل حتى يذهب بالكلية، فيشك بعد اليقين ، ويكفر بعد الإيمان ، والشأن كل الشأن في اللجوء إلى الله أن يحفظ عليك دينك ويصرف عنك كل ما ينقصه، فإن بدرت منك بادرة بحكم بشريتك فالجأ إلى الله أن يغفر ذنبك ؛ لعلك أن تقطع سفر الدنيا سالماً ؛ فإن حصل لك ذلك فتلك هي الغنيمة، وإنما الأعمال بالخواتيم، ذلك أن لنا عدواً متربصاً نغفل ولا يغفل ونسهو ولا يسهو ، ونتعب، ولا يتعب، فإن استعنا عليه بالله غلبناه، وإن غفلنا عن ذكر الله غلبنا. اللهم أعنا على أنفسنا وعلى الشيطان، واغفر لنا ما بدر منا إنك أنت الغفور الرحيم ) .
2- قال الشيخ محمد سلطان المعصومى - رحمه الله - في رسالته " الرد الوفي على تعليقات حامد الفقي " ، ( ص44 ) :
( وقد أحزنني حزنًا شديدًا ، وآلمني ألمًا قلبيًا أن رجلا من أفاضل الناس ؛ ألا وهو عبد الله القصيمي ، بعد أن كان يخدم الإسلام ويذب عنه خرافة الخرافيين ، ودجل الدجالين ، وشرك القبوريين وعباد الأرواح المخلوقة ؛ أزاغ الله قلبه ، وأضله عن الصراط المستقيم ، فألف مؤلفًا سماه " هذي هي الأغلال" ، فطبع ونشر ، و قد زاغ فيه عن الحق ، ونكب عن الطريق ؛ فألحد في اثنين و عشرين موضعًا ، وارتكب الكفر و الزندقة . و العبد الضعيف قد كتبت عليه ردًا ، وأشرت إليه في ص 113 من كتابي المطبوع المنشور في هذه السنة ، المسمى " تمييز المحظوظين عن المحرومين " ) .(47/4)
قلت : رده على القصيمي مفقود ، كما بين هذا صاحب رسالة : " الشيخ محمد سلطان المعصومى وجهودة فى نشر العقيدة " .
3- قال الدكتور أحمد بن علي علوش في رسالته " الشيخ حافظ الحكمي" ( ص 242-245 ) ، معددًا قصائد الشيخ حافظ - رحمه الله - : ( قصيدة دالية قالها الشيخ رداً على المنحرف عبدالله بن علي القصيمي ، ولها ثلاث نسخ ، إحداها بخط الناظم ، والثانية بخط تلميذه هادي بن علي مطيع ، والثالثة بخط تلميذه علي بن قاسم الفيفي بدون تاريخ، ولأهمية القصيدة كونها تبحث في العقيدة ، ونحن بصدد جهود الشيخ حافظ في ذلك ، أود إثباتها كاملة وهي:
الحمد لله لا بالخط معدودا *** حصراً ولا بمدى الأزمان محدودا
لمالك الملك موليه وملهمه *** ما زال ربي على التحميد محمودا
سبحانه مِن إله لا سمى له *** الكل عبد وكان الله معبودا
لقد حمى الذكر حفظا وهو أنزله *** وهكذا لم يزل بالحفظ موعودا
حماه بالشُهب ترمي كل مسترق *** ما رامه قط إلا عاد مطرودا
كذاك في الأرض يرميهم بأنجمها *** هم الرجوم بهم ما زال مرصودا
أئمة العلم والتقوى أولئك في *** بيت القصيد قصدت أعلمه مقصودا
فهم مصابيح دين الله قيّضهم *** يجلو بهم ظلمات الحيرة السودا
من كل مستبصر لله منتصر *** بالله مقتدر في الله محمودا
هم الجبال ثبوتا والبحار علوما *** والشموس ضياءاً والسماء جودا
فلا يزال كتاب الله معتصما *** حبلاً متيناً لباغي الحق ممدودا
ولم تزل سنة الهادي لطالبها *** وعذب منهلها ما زال مورودا
ولا تزال رجال العلم تحرسه *** ولا يزال لواء الحق معقودا
فلم يرم ملحد كيداً لملتنا السمحاء *** إلا وألفى الثغر مسدودا
وللقصيمي رجس قد سمعتُ به *** ذكراً ولم أره لا زال مفقودا
لكن تواتر وصف المشرفين عليه *** من ثقات بأنْ قد ساء مقصودا
وقد حكوا عنه أقوالا شناعتها *** تكفيك في كون ما ألقاه مردودا
فظيعة ضُمنت كفرا وزندقة *** بل رد أن يفرد الرحمن معبودا(47/5)
فقلت إن صح ما قالوه فيه فمن *** إيمانه انحل ما قد كان معقودا
وصار من ربقة الإسلام منسلخا *** وكان بالنصر للتوحيد معهودا
أبعد أن كان في أعداد ناصره *** يعود من أخبث الأعداء معدودا
أشقوة من كتاب سابق نفذت *** هذا وربك أمر ليس مردودا
وظلت أقرأ آيات العقود من الولا *** وفي خلف المرتد موعودا
من أنه سوف يأتي الله جل بأنصار *** يكون بهم ذا الدين محفودا
مستيقنا أن سيقضى الله موعده *** أن لا يزال نصير الدين موجودا
وبينما الفكر في ذا الأمر منتظرا *** إتيان شرح يجلي الغيب مشهودا
إذ اطلعت على رد عليه وفى *** عندي بتحقيق ما قد كان منشودا
من لوذع جهبذ للدين منتصرا *** يا حبذا نصر دين الله مقصودا
أبان فيه بأن الخب زاغ عن الحق *** المبين وعنه ضل مصدودا
وفارق الدين والوحيين والسلف *** الماضين بل كل شرع كان موجودا
وأنه فوق ما قد قيل فيه وما *** قالوه من بعض ذاك الشر معدودا
وأنه رام أمرًا لا يحاوله *** محاول قط إلا عاد محصودا
وأنه نابذ الإسلام مؤتفكا ***عن كل حكم أتى في الشرع محدودا
يقول هذي هي الأغلال مانعة *** لأهلها من رقي كان محمودا
ولا رقى غيرهم من مرتقى بسوى *** نبذ الشريعة أن ينقاد مصفودا
وقام يدعو لنبذ الدين مجتهدا *** بكل جهد له قد خاب مجهودا
وعنده الرب والمخلوق متحد *** بل قد يفوه بليس الرب موجودا
بل الطبيعة ما زالت مدبرة *** لكل أمر يُرى أو كان مفقودا
وأنه انتقص الرسل الكرام وأهل العلم *** منقرضا منهم ، موجودا
بل لانبي ولا وحي ولا ملك *** بل كيف دين ولا يرجون معبودا
وقام يثني على الإلحاد ممتدحا *** أئمة الكفر فرعونا ونمرودا
معظّما لملاحيد الفلاسفة الطبائعيين *** ساء الرفد مرفودا
وأنكر الوعد والإيعاد بل جحد *** الأخرى وكون مقام الحشر مشهودا
محرفاً لنصوص الوحي منحرفا *** عنها وكان لديه الوحي مجحودا
بأخبث الرأي كي يرتاد مقعده ***من الجحيم إذا ما تاب موصودا(47/6)
وقد أضاف إلى تحريفها وإلى *** التكذيب كذبا وهزلا ليس محدودا
وقد يراه بنصر الدين مستترا *** حباله تحتها قد خد أخدودا
من أين هذا وما أملاه ينبئنا *** بأنه شر أهل الأرض مولودا
ظن الخبيث بأن العارفين بأمر *** الله لم يفهموا للرجس مقصودا
واضرب له مثل الغاوي فأتبعه الشيطان *** واقرأه في الأعراف مسرودا
نفسي الفداء لقرم قام محتسبا *** يهد أرصاده لا زال مهدودا
ونزه الدين عن أرجاس ما كتب *** الغاوي المضل إلى أن صار مهدودا
ورد أغلاله السوآي بلبته *** قسراً فعاد بها المخذول مشدودا
رداً جليلاً جلياً ما تكلف بل *** من بحر علم خضم ليس مثمودا
على اختصار بإنصاف ومعرفة *** مطهر ليس بالأرجاس محشودا
بل بالبيان وإرشاد السبيل على *** علم وكان يرى العلم ممدودا
فالله يجزيه عنا كل صالحة *** دنيا وأخرى ثواباً ليس محدودا
وأن يثبتنا فضلاً بقدرته *** بثابت القول في الداري ممدودا
والأبعد القاصي نرجو الله توبته *** أن لا يموت على الإلحاد ملحودا
ثم الصلاة مع التسليم دائمة *** على النبي المصطفى حيا ومفقودا
والآل والصحب والأتباع قاطبة *** والحمد لله حمداً ليس محدودا
أما الخبر المفرح الذي قد لا يعرفه كثيرون عن حفيده : الأخ / شريف القصيمي - وفقه الله - ، أنه أحد الدعاة المتميزين في مجال " دعوة الجاليات " ، وله تعاون مع بعض مكاتب الدعوة في هذا ، ثبتنا الله وإياه على الحق ، وهذا مصداق لقوله تعالى : ( يخرج الحي من الميت ) ، والله الهادي ..(47/7)
هل يفعل مبتعثونا .. مثل ما فعل الطالب الياباني ( تاكيو أوساهيرا ) ؟!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ابتعاث الطلاب المسلمين - السعوديين خاصة - للخارج مطلب فريقين :
1- الغرب ومن يتبع أهواءهم ، الذين يراهنون على نتائج هذا الابتعاث في تغريب المجتمع المسلم ، واختراقه بواسطة العقول المغسولة الناقلة لفيروساتهم ؛ فيكون في النهاية مستَلبًا لهم ؛ غير متطور ، نقل العفن والعبث ، وترك النافع ، كما فعلوا في مجتمعات أخرى ، منذ " رفاعة الطهطاوي " ، مرورًا بـ " طه حسين " .
2- فرقة تراهن على هذا الابتعاث في تطوير مجتمعات المسلمين ، والاستفادة مما هو " مفيد " عند الآخرين .
فأما الفرقة الأولى ، فيُقال لهم : نسأل الله أن يُخيب آمالكم ، ويريكم من هؤلاء المبتعثين مالم تكونوا تحتسبون ؛ فيكونوا لكم كما كان موسى - عليه السلام - لفرعون ؛ حيث رباه وآواه ، فكانت نهايته على يديه . قال تعالى : ( فالتقطه آلُ فرعون ليكون لهم عدوًا وحزَنا ) .
وأما الفرقة الثانية ، فتُشكر عن نيتها وهدفها ، لكن لابد من تذكيرها بأمور :
1- أن لا تتفاءل كثيرًا في أن مبتعثيها ستُفتح لهم أبواب " جميع التخصصات " النادرة والمهمة ، بل سيبقى الغرب يحجبها عنهم - بمهارة - ؛ لأنه لايريد لهم ولدولهم أن تتجاوز ما رسمه من قيود وحدود . فلذا عليهم أن يجتهدوا في تحصيلها " إما ذاتيًا أوبطرق فيها تحايل ولعب على مصالح دول العالم المتنوع " ، دون أن يرتبطوا بدولة منها .
2- أن لايُبالغوا في الابتعاث ، بل يُقتصر فيه على التخصصات المهمة التي لا يمكن الحصول عليها هنا .
3- وضع شروط حازمة أمام المبتعث ، وتحصينه بالعلم والنصائح ، والعمر المناسب ، مع متابعة دراسته ومعيشته هناك ، والتواصل الدائم معه ، ومعرفة إنجازاته ، ومعالجة مشاكله .(48/1)
4- دعم العقول النابغة ، وتسهيل مهمتها في الاختراع والابتكار ، وخدمة مجتمعاتها المسلمة ، فقد آن الأوان لكسر حاجز الخوف منها ! أو من الغرب ، الذي لن يرتاح لاستثمارها ..
هذه مقدمة مختصرة أضعها بين يدي هذه القصة المحفزة للشباب السعودي والمسلم المبتعث ، التي نتمنى أن يحذو كل واحد منهم حذو بطلها ، في همه وجده ، وقد ذكرها الدكتور محمود سفر في كتابه " دراسات في البناء الحضاري " ( ص 88 ) ، ونقلها عنه الدكتور نعمان السامرائي في " مذكراته " ( ص 54-55 ) :
قال د . السامرائي : ( كتب د. محمود سفر قصة طالب بعثة ياباني اسمه تاكيو أوساهيرا، نصحه أستاذه الياباني أن يدرس الميكانيكا العلمية في جامعة هامبورج، فلما حصل على الابتعاث من حكومته، كان اعتقاده أن المحرك هو سر الصناعة كلها، لذا صار حلمه أن يذهب إلى مصنع ليرى ذلك بنفسه وكيف يُصنع، وحين ذهب للجامعة فوجئ بالدراسة النظرية وبالكتب الكثيرة التي عليه أن يدرسها، ومع ذلك راح يلتهم العلم التهاما، لكن قضية المحرك كانت كأنها لغز يصعب حله، وذات يوم جاء الفرج فقد اطلع "تاكيو" على إعلان في الصحف عن معرض لمحركات إيطالية، أخذ الطالب مكافأته ليشتري بها محركاً صغيراً قوة "حصانين" ودفع ما عنده وحمل "درته" وعاد إلى حيث يسكن ويدرس، وضع المحرك في غرفة نومه وراح يتأمله، وراح يحدث نفسه: هنا يكمن سر قوة أوروبا، ومتى استطعت أن أصنع مثله فسيتغير اتجاه التاريخ في اليابان " .(48/2)
قرر تاكيو أن يقوم بتفكيك هذا المحرك ثم يعيد تركيبه، ثم يحاول تشغيله ، فإذا استطاع ذلك فقد كشف "السر" ، لكنه خاف إن فككه أن لا يعرف كيف يعيده، فأحضر حزمة من الورق، وكلما فك قطعة رسمها على الورق وأعطاها رقماً خاصاً، فلما انتهى من التفكيك، عمل على إعادة التركيب، ثم شغل المحرك، فلما اشتغل - يقول "تاكيو" : " كاد قلبي أن يتوقف من شدة الفرح " ، هذه العملية كلفته العمل ثلاثة أيام، يتناول وجبة واحدة في اليوم، ولا ينام إلا قليلاً ...
هنا هرول "تاكيو" ليقابل رئيس البعثة ، وليخبره بما فعل، فكان جوابه غريباً ، إذ قال: سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أولاً تفكيكه، والكشف عن مكان العطل، ثم تقوم بإصلاحه وتشغله، التجربة هنا أصعب من محرك سليم يفكك ويركب ويشغل. قبل تاكيو هذا التحدي ، واشتغل عشرة أيام حتى حدد مكان العطل، مستخرجاً ثلاث قطع تالفة، ثم صنع بيديه قطعاً جديدة، وكلفه ذلك : الالتحاق بمصانع صهر الحديد، مما جعله يترك رسالته والدراسة، ليتحول إلى عامل في صهر المعادن، يجامل مدير المصنع ويطيعه في كل ما يريد، لينجح في تحقيق ما يريد. ونجح في هذا الامتحان العسير. وقد قضى "تاكيو" ثماني سنوات، يشتغل بمعدل 15 ساعة يومياً، وفي الليل يراجع قواعد كل صنعة، وهنا كتب المشرف الديني على البعثة رسالة إلى إمبراطور اليابان يخبره، بما فعله ويفعله طالب البعثة "تاكيو"، فقدم له الإمبراطور خمسة آلاف جنيه ذهب، أنفقها تاكيو كلها في شراء محركات وأدوات صناعية، ثم قرر العودة لبلاده، تاركاً الدكتوراه خلف ظهره.
وحين وصل أول ميناء قيل له : إن الإمبراطور يريد أن يراك، فكان رده: لا أستحق هذا الشرف إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات في بلدي.(48/3)
وفي ظرف ( 9 ) سنوات أنجز صنع ( 10 ) محركات، خصص لها الإمبراطور قاعة في قصره، ثم قام تاكيو بتشغيلها، وعندما دخل الإمبراطور، وسط تحية الجميع ، ابتسم وقال: ( هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، إنها أصوات محركات يابانية خالصة ) . يقول تاكيو: " بعد ذلك نمتُ عشر ساعات متواصلة لأول مرة منذ سنوات .. " .
روابط ذات صلة
( ملف الابتعاث للخارج ) - دراسات وندوات ومقالات -
يا ( بني علمان ) ..... ما قولكم في اليابان ؟!
اقتراحات .. لقضية ( التخلف العلمي والتقني ) في العالم الإسلامي
نقل التقنية المتطورة إلى الدول الإسلامية ... ( عوائق وحلول )(48/4)
إذا اجتمع ( عالم السوء ) مع ( الحاكم بأمره ) .. فلا تسل عن حال الأمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" عالم السوء والضلال " هو من يصد الناس عن سبيل الله ، ويصرفهم عن السنة إلى البدعة أوالشرك أو الانحراف، ويُزين لهم ذلك ، ويُدافع عنه ، ويسعى لتمكينه في بلاد الإسلام ؛ لمآرب متنوعة ( إما لأجل المادة أو السيادة أو تقليد الأسلاف .. الخ الأسباب ) ، وهذا النوع من العلماء - تجوزًا - سماهم بعض العلماء : ( قطاع طريق ) ؛ لأنهم يحولون بين الناس وإخلاص العبادة لله ، الموصل إلى جنته ورضوانه . وهم من عناهم ابن المبارك - رحمه الله - بقوله :
وهل أفسد الدين إلا الملوك .. وأحبارُ سوء ورهبانها .
فكيف إذا اجتمع " عالم السوء " ، مع " الحاكم بأمره " ؟!
فلاتسل عن حال أهل الإسلام
ومن النماذج ؛ ماذكره الأستاذ عبداللطيف علي سالم في كتابه " التوسل بالأولياء " ( ص 50 ) ، قال : ( فقد أصدر وزير الأوقاف وقتئذ قراراً بإغلاق مقصورة الحسين ؛ حتى لا يُصلي فيها الناس، فأحضر الرئيس جمال عبدالناصر الشيخ حسن الباقوري واستفتاه فيما يفعله الناس حول قبر الحسين من صلاةٍ في المقصورة، والتوسل بالحسين والاستغاثة به ، والطواف حول ضريحه ، والتمسح بجدران الضريح، فأجابه الشيخ بجواز ذلك !! قائلاً: لو كانت الصلاة في الأماكن التي تقوم فيها أضرحة ممنوعة ديناً ؛ لكان المسلمون مخطئين على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان كانوا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه ضريحه مع صاحبيه أبي بكر وعمر !!(49/1)
ويصرف النظر عما يحدث في مقصورة الحسين من شرك وبدع، فإن في احتجاج الشيخ بوجود قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده تزييف للتاريخ ، وبطر للحق ، ونصرة للباطل ، ومعاداة لنواهي رسول الله في هذا الأمر. فإن بناء أضرحة المقبورين في المساجد بدعة لم يعرفها الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، وإنما أحدثها الشيعة الفاطميون في القرن الرابع الهجري، قال الشيخ محمد علي عبدالرحيم: " إن بدعة وضع الأضرحة في المساجد، أو بناء المساجد من أجل القبور، لم يعهدها المسلمون في القرون الأولى، إلا في عهد الفاطميين في القرن الرابع الهجري، وهم الذين سنوا هذه السنة السيئة مغالاة في حب الصالحين " ) . انتهى كلام الأستاذ عبداللطيف - وفقه الله - . ولتفصيل الرد على شبهة الباقوري يُنظر ( هذا الرابط ) ، و ( هذا الرابط ) ، وتُنظر فتاوى علماء الأزهر الفضلاء في بدع القبور في هذا الكتاب ( احفظ باليمين ) .
قال الأستاذ المصري الفاضل : عبدالسلام البسيوني في كتابه " الألوهية في العقائد الشعبية على ضوء الكتاب والسنة " ( ص 45 ) :
( ويسوؤنا أن كثيراً من الموالد تقع على مرمى حجر من معاقل العلم في مصر ؛كمولد الحسين رضي الله عنه ، الملاصق لجامعة الأزهر، ومولد البدوي القريب من المعهد "الأحمدي" نسبة للبدوي ، وهو معهد مشهور خرّج عدداً من العلماء الكبار ؛كالشيخ الشعراوي والقرضاوي وغيرهما. ومع ذلك يضعف صوت المصححين لخرافات العامة ولمهازل الموالد ، حتى بات الناس يقبلون بها وكأنها من شعائر الله التي لهم فيها خير وتقرب وزلفى ) .
وفق الله علماء المسلمين ؛ لبذل الجهود العلمية والعملية في سبيل توضيح عقيدة التوحيد للعامة ، وتحذيرهم من البدع والشركيات ، والتصدي لشبهات علماء السوء ، ومناصحة الحكام لما فيه صالح البلاد والعباد ، والله الهادي ..
تنبيه :(49/2)
1- كان بإمكان جمال عبدالناصر تأييد رأي وزير الأوقاف ، وإعانته على محاربة الشرك ، ولكنه لم يفعل ، واستفتى صاحبه الباقوري الذي خان جماعة الإخوان ، وانضم لخصمهم ، لعلمه - أي جمال - أن إلهاء الشعب بهذه البدع والخرافات يُشغلهم عن دنياه .
2- الحديث عن مجال " العقيدة " ؛ لأنها الأساس ، وقس عليها ماتحتها ، إذا ما اجتمع الصنفان ضد مصالح الأمة .(49/3)
( دعوة تحرير الرجل ) .. بطلها قاسم أمين " آخر " .. فاسمعوا ما يقول ؟!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لنتخيل خروج قاسمٍ أمين آخر لتحرير " الرجل " هذه المرة ، وليس المرأة ، متفقًا مع صاحبه القديم في النظر إلى الرجل والمرأة وأحكامهما في الشريعة الإسلامية بنظرة ( المساواة ) ..
ولهذا أظنه سيقول في كتابه : " تحرير الرجل " :
( أيها السادة والسيدات ، لابد من تحرير الرجل المسلم ، ورفع الظلم عنه ، ومنع استئثار المرأة دونه ، بسبب تمسك المجتمع " الأنثوي " بالعادات البالية ، والتقاليد المتخلفة ، وإليكم أنواع الظلم الذي حلت بالرجل ؛ لعدم مساواته بالمرأة ؛ لعلنا نتعاون في رفعها عنه ؛ ولو بالتعاون مع : " المؤتمرات الدولية " و " القوى الخارجية " !
1- ياسادة : المرأة تستطيع أن تلبس الذهب والفضة، ولو كثر ، وهما من أجمل الجواهر ، وسواء كان محل اللبس الآذان أو العنق أو الصدر أو المعاصم أو الرأس أو الأصابع ؛ وسواء كان الحلي من القلائد والأقراط والجواهر والفتخ والخواتم والخلاخل ، فكل ذلك مباح لهن. أما الرجل المسكين فإنه لا يستطيع التزين بحلي الذهب والفضة ، ولا يلبس من ذلك شيئاً إلا ما استثني كالخاتم من الفضة فقط .
2- ياسادة : للمرأة أن تلبس الحرير ، وهو من أنفس الألبسة وأنعمها و أجملها ، ولكنه محرم على الرجل المظلوم إلا لعذر من مرض أوحكة.
3- ياسادة : لا تجب صلاة الجمعة ولا الجماعة على المرأة ، فأما الرجل فيجب عليه حضورها في المساجد خمس مرات في اليوم والليلة ، ولا يخفى ما في هذا من التعب والمشقة .
4- ياسادة : لقد اتفق الفقهاء على أن الزوج لا يدفع زكاة ماله إلى زوجته الفقيرة لوجوب نفقتها عليه ، بعكس المرأة التي يجوز لها أن تدفع زكاة مالها لزوجها .
5- ياسادة : هل تعلمون أن زكاة الفطر تجب على الزوج دون الزوجة ؟!(50/1)
6- ياسادة : يسقط عن المرأة الحائض والنفساء طواف الوداع ولا تقعد في مكة لأجله. أما الرجل فيجب عليه ، ولا يخفى عليكم ما في هذا من مشقة ومزاحمة .
7- ياسادة : الجهاد بالنفس مأمور به الرجال دون النساء ، ولا يغيب عنكم ما فيه من تعريض النفس للمخاطر ، أما المرأة فتكسب أجر الجهاد العظيم بمجرد الحج ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور.
8- ياسادة : الرجل المحارب يُقتل ، ومثله من يُعين برأي أو مكيدة من الرجال الشيوخ ، أما المرأة فلا تُقتل في الحرب .
9- ياسادة : القرار في البيت وتدبير شؤون الزوج والأولاد وظيفة أولى للمرأة ، قال تعالى: ( وقرن في بيوتكن ) .. الآية، أي : الزمن البيوت ولا تخرجن ، وكن فيها أهل وقار وهدوء وسكينة. أما الرجل المسكين فهو مطالب بالخروج ، والكدح ، والتعب .
10- ياسادة : المرأة أولى بالحضانة من الرجل. لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص: "أن امرأة قالت: يا رسول الله : إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وحِجري له حواء ، وثديي له سقاء ، وزعم أبوه أنه ينزعه مني. فقال: "أنتِ أحقُ به ما لم تنكحي". فلماذا يُحرم الرجل من فلذة كبده ؟!
11- ياسادة : المرأة إذا قَتلت قتلَ خطأ فإنها لا تدفع من الدية شيئاً ، وإنما العاقلة - وهم العصبات الذكور - هم الذين يحملون الدية عنها في قتل الخطأ.
12- ياسادة : " القسامة " في باب الجنايات تختص بالرجال ، دون النساء .
والقسامة هي أن يوجد رجل مقتول بين قوم متشاجرين أو بين حيين ولا يُعلم مَن قتله. فيُطالب " الرجال " من أوليائه بالقَسَم أن فلانًا قتله – إذا ماكانت هناك قرينة على القتل - . أما المرأة فقد ارتاحت من هذه الأمور .
13- ياسادة : الفقهاء مجمعون على أن المهر حق للمرأة ، وهو واجب على الزوج. ولكم أن تتخيلوا مقادير المهور التي يدفعها الرجال ، وقد أعفيت منها النساء .(50/2)
14- ياسادة : النفقة حق من حقوق الزوجة على الزوج ، يدفع لها ما يكفيها من الطعام والكسوة ويُعد لها السكن المناسب لبيئتها . أما المرأة فلا حق له عليها .. ( يُذكر أن أكثر من نصف عقارات الرياض بأسماء نساء ! اللهم زد وبارك ) .
15- ياسادة : المرأة لايجب عليها أن تنفق على أولادها بوجود الزوج ، وكذلك لا تنفق على أقاربها إلا من باب البر والإحسان فقط . بخلاف الرجل .
هذا ياسادة غيض من فيض ، مما حل بالرجل المنتهك الحقوق ، في مجتمعات " أنثوية " لا تعترف إلا بحقوق المرأة . فساهموا – رعاكم الله – في رفع الظلم عنه ؛ ولو بكلمة أو مقال أو اقتراح ؛ إلى أن تنجلي الغمة ، ونفرح بتحرره من القيود . أخوكم : قاسم أمين ) .
تعليق
- نظر قاسم أمين " الأول " إلى أحكام الرجل والمرأة في الإسلام بنظرة " المساواة " ؛ فوجد شيئًا من التفاوت ، فظنه من الظلم ؛ فقرر أن يُحرر " المرأة " ؛ فأوقع الأمة في فتنة وصراعات مفتعلة ..
- ونظر قاسم أمين " الثاني " إلى أحكام الرجل والمرأة في الإسلام بنظرة " المساواة " ؛ فوجد شيئًا من التفاوت ، فظنه من الظلم ، فقرر أن يُحرر " الرجل " ؛ فسيوقع الأمة فيما أوقعها صاحبه الأول ..
وكلاهما مخطئ ..
لأن الإسلام دين ( العدل ) لا دين ( المساواة ) ..
- بل إن ( المساواة ) بين الأشياء المختلفة – فضلا عن إنكار الشرع لها - مما تُنكره العقول السليمة ، والفِطَر المستقيمة . فالشمس غير القمر ، والسماء تختلف عن الأرض .. وهكذا ؛ لكل خلقٍ طبيعته ووظيفته . وما حال من يساوي بين الأشياء المختلفة إلا كمن يقول : سأقطع اللحم بالكأس وأشرب بالسكين !(50/3)
- ولو نظر الاثنان بنظرة " العدل " - مستحضرَيْن قوله تعالى : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) .. وحذرَيْن من قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) .. وقوله تعالى : ( فلاوربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما ) - لأراحا أنفسهما وأراحا الأمة من شرور كثيرة ..
والله الهادي ..
روابط متعلقة بالمقال
الإسلام دين العدل لا المساواة
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/48.htm
من عبدالله بن محمد الداوود إلى قاسم بك أمين - رحم الله أموات المسلمين -
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/126.htm
المشابهة بين قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة و دعاة التحرير في هذا العصر
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/16.zip
هل تصدق ؟ ( زوجة قاسم أمين تغطي وجهها ! ودرية شفيق انتحرت ! )
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/20.htm(50/4)
أحد وجهاء ( آل البيت ) يوجه لهم نصيحة سديدة ..
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذه نصيحة من اللواء الركن السيد يوسف بن عبدالله جمل الليل ، ذكرها في مقدمة كتابه : " الشجرة الزكية في الأنساب وسير آل بيت النبوّة " ( ص 9-11 ) ، وجهها لكل من ينتسب للنسب الشريف ، من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ تحصينًا لهم أن يُخترقوا من قِبل الرافضة ، الذين مافتئوا يستدرجونهم عبر التاريخ للرفض ، عن طريق الغلو في تقديسهم ، أو تسهيل المُتع المادية لهم ؛ إلى أن ينسلخ ضعيف النفس منهم من عقيدة جده صلى الله عليه وسلم ، وينقلب رافضيًا سبابًا للصحابة أو لبعضهم ، فجزى الله اللواء يوسف كل خير عن هذه النصيحة السديدة لأقربائه – وفقهم الله - ..
قال – حفظه الله - :
( اعلم أنه يتأكد في حق الناس عامة وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة رعاية هذه الأمور:
1- الاعتناء بتحصيل العلوم الشرعية وآدابها وآداب العلماء ؛ فإنه لا فائدة في نسب من غير علم.
2- ترك الفخر بالآباء وعدم التعويل عليهم من غير اكتساب العلوم الدينية، فقد قال الله تعالى: ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ) ، وفي الصحيحين قيل: يا رسول الله من أكرم الناس ؟ قال: "أتقاهم". وروى ابن جرير وغيره: "إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة إلا عن أعمالكم، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وروى مسلم من جملة حديث: "من أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه". ولقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بيته على تقوى الله وخشيته، وأن لا يؤثروا الدنيا على الآخرة اغتراراً بأنسابهم، وأن أولياءه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة المتقون مَن كانوا وحيث كانوا.(51/1)
3- تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ؛ لأنهم خير الأمم ، قال الله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) الآية. وخير قرون هذه الأمة ما جاء في الحديث المتفق على صحته: "خير القرون قرني"، وقد جاءت الأحاديث الدالة على فضلهم وكمالهم ووجوب محبتهم وبراءتهم من النقائض والجهالات..
فاحذر أن تكون إلا مع السواد الأعظم من هذه الأمة أهل السنة والجماعة، وحاذر أن تتخلف مع أولئك المتخلفين عن الكمالات ، إخوان الهوى والبدع والضلال والجهالات، فلا ينفعك حينئذ نسب ، وربما سُلبت الإسلام.
4- اعلم أن ما أصيب به الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في يوم عاشورا إنما هو الشهادة الدالة على حظوته ورفعته ودرجته عند الله، فمن ذكر ذلك اليوم مصابه لا ينبغي أن يشتغل إلا بالاسترجاع ؛ امتثالاً لقول الله عز من قائل: ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ، ويجب أن لا يشتغل ببدع الرافضة ونحوهم من الندب والنياحة والحزن، إذ ليس ذلك من أخلاق المؤمنين، وإلا كان يوم وفاته أولى بذلك وأحرى. أو ببدع الناصبة المتعصبين على أهل البيت من إظهار الفرح والسرور وإظهار الزينة فيه، فصار هؤلاء لجهلهم يتخذونه موسماً، وأولئك لرفضهم يتخذونه مأتماً، وكلاهما مخطئ ومخالف للسنة ) . اهـ .(51/2)
عودة الشيخ المعصومي إلى العقيدة السلفية ..
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مشاركة مني فيما ينشره الإخوة في الموقع المبارك " صيد الفوائد " على هذا الرابط :
http://www.saaid.net/feraq/el3aedoon/index.htm
من ذكر نماذج من أخبار العلماء العائدين إلى السلفية ، ممن تربوا في أجواء مشوبة بالبدع ؛ كالتصوف أو التمشعر .. الخ ، ولكنهم - بفضل الله - ؛ نبذوا ذلك كله ، وآثروا اعتناق مذهب السلف ، ولو كان فيه مخالفة لأهل مكانهم وزمانهم ، في ذلك الوقت ؛ إيثارًا للحق على الخلق .
ومن هؤلاء الموفقين : الشيخ محمد بن سلطان المعصومي – رحمه الله - ، المولود في مدينة خجندة بروسيا عام ( 1297هـ ) ، والمتوفى بمكة عام ( 1381هـ ) ، ومابين التاريخين عاش في رحلات وتنقلات وتقلبات .
وهذه نبذة عنه :
هو أبو عبد الكريم محمد سلطان بن محمد أورون بن محمد مير سيد المعصومي الخجندي، فقيه وعالم وقاض وداعية ، وكان سلفي العقيدة، ورحالة من بلاد ما وراء النهر، ولد سنة 1297هـ، الموافق 1880م، ورحل رحلات طويلة ثم استقر في مكة.
ولقد أقام في بلدة خجندة وقرأ الصرف والنحو، وبعض الفقه والمنطق على علماء بلده، كالشيخ عبد الله بن محمد مراد المفنن الخجندي.(52/1)
ثم سافر إلى بخارى وأقام فيها ست سنين، وقرأ على علمائها على ما تعارفوه : المنطق، والحكمة، والفقه كالهداية، والأصول كالتنقيح والتوضيح، وحاز ختم الكتب المتعارف عليه هناك، وقد أجازه عمدة علمائها وكتبوا له سند الإجازة، كالشيخ العلامة محمد عوض الخجندي، ثم في سنة 1322هـ، الموافق 1904م، سافر إلى الحجاز، وتشرف بزيارة الحرمين الشريفين، ثم أقام بمكة المكرمة، سنة ونصف وأخذ عن علمائها والواردين عليها، وكلهم أجازوه، كالشيخ علي كمال الحنفي المكي، والشيخ محمد سعيد بابصيل المفتي بها سابقا، ثم سافر للمدينة المنورة وأقام بها عدة أشهر وأخذ عن علمائها فأجازوه، ثم سافر إلى الشام، وأقام بدمشق أشهرا، وأخذ الإجازة عن الشيخ بدر الدين بن يوسف المغربي مدرس دار الحديث، والشيخ عبد الحكيم الأفغاني الحنفي والشيخ محمد عارف المنير، وغيرهم، ثم قدم بيروت، وأخذ عن الشيخ يوسف النبهاني الشافعي، والشيخ عبد الرحمن الحوت وغيرهما.
ثم سافر لبيت المقدس وبعدها قدم مصر وأقام في الجامع الأزهر في القاهرة بالرواق السليماني، وأخذ عن الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ عبد الرحمن الشربيني، وغيرهما.
واشترى لنفسه كتب كثيرة، ثم سافر إلى الأسكندرية.
ثم إلى الأستانة ( أستانبول ) ، وأقام فيها عدة أشهر وأخذ عن الشيخ إسماعيل حقي المناسترلي، والشيخ جمال الدين الحنفي، وغيرهما.
ثم رجع إلى خجندة، وأقام في داره الكائنة في محلة توغباخان وبنى فيها مكتبة نفيسة، وجمع أصناف الكتب الدينية، وأشتغل بالتدريس والتأليف حسبة لله، ولم يأخذ على تدريسه أجرا، وكان قوته من فيض تجارته.(52/2)
وعندما حدث الانقلاب الشيوعي البلشفي عام 1335هـ، الموافق عام 1917م، اغتر عامة الناس في خجندة بالأنقلاب ورفعوا أعلام منقوش عليها عبارة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وتحتها ( الحرية والمساواة والعدالة ) ، وأسسوا مجالس الحكم، وانتخبوا المعصومي رئيسا لمجلس الحكم، فسافر إلى موسكو للاشتراك في مجالس الشيوخ والمبعوثين ، إلا أن الوضع لم يستقر سوى بضعة أشهر، وقامت الحكومة الشيوعية بقتل العلماء المسلمين وتهجيرهم وسفروا الآلاف إلى القطب المتجمد، فهلك غالبيتهم، ونجا المعصومي حيث سجن سنة 1342هـ، في خجندة.
وفي سنة 1344هـ، الموافق 1925م، سجن مرة أخرى ، ونجى من السجن وسافر إلى مرغينان، فاستقبله أهلها وعينوه قاضيا، وكانت الأجهزة الأمنية الشيوعية تراقبه مراقبة شديدة، فأعتزل القضاء لعدم إمكان الحكم بالحق، ولكن المحن لازمته فناظر الملاحدة في طاشقند على مرأى من الجميع، وأفحمهم برأيه، ولما عاد لبيته في مرغينان من بلاد فرغانة هجم خصومه على بيته وسرقوه وصادروا أمواله، وحكموا عليه بالإعدام رميًا بالرصاص، ولكنه نجا منهم وتمكن من الفرار إلى الصين، ولبث بها بضع سنين.
وفي شهر ذي الحجة عام 1353هـ، الموافق سنة 1934م، خرج من الصين عازما التوجه إلى مكة، فوصلها في مستهل شهر ذي القعدة سنة 1353هـ، واستوطنها، وأصبح مدرسا بدار الحديث في مكة، وكان يدرس في أشهر الحج بالبيت العتيق وباللغة التركية، ويحضر دروسه الحجاج الأتراك، وبواسطتهم كان يراسل أباه وذويه، وتوفي سنة 1381هـ، الموافق سنة 1960م، ولقد ألف الكثير من الكتب والرسائل تجاوز عددها الخمسون مؤلف.
فمن مؤلفاته :
•هدية السلطان إلى قراء القرآن.
•العقود الدرية السلطانية.
•حبل الشرع المتين وعروة الدين المبين.
•سيف الأدب فيمن غير النسب .
•البرهان الساطع في تبرؤ المتبوع من التابع.
•تمييز المحظوظين عن المحرومين في تجريد الدين وتوحيد المرسلين.(52/3)
•الذهب الأصيل في الحوض المدور والطويل.
•هدية السلطان في اختلاف حروف القرآن.
•أسامي البلدان من تحرير السلطان.
•اللآليء العالية في الرحلة الحجازية.
•الدرة الثمينة في حكم الصلاة في ثياب البذلة.
•الدرر الفاخرة في الآثار الخالية والحكايات الرابحة.
•الفوائد الرابحة في ذيل الرحلة الحجازية.
•الدر المصون في أسانيد علماء الربع المسكون.
•تحفة الأبرار في فضائل سيد الاستغفار.
•تنبيه النبلاء من العلماء.
•عقد الجوهر الثمين في تكملة حبل الشرع المتين.
•تحفة السلطان في تربية الشبان.
•جلاء البوس في انقلاب بلاد الروس.
•رفع الالتباس في أمر الخضر وإلياس.
•سند الإجازة لطالب الإفادة.
•السيف الصارم الحتوف في تخطئة موسى بيكييوف.
•القول السديد في تفسير سورة الحديد.
•المستدرك على الأسانيد المستهلك.
•الهدية المعصومية في نظام التجارة.
•هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان.
•هدية المهتدين في مقدمة الشرع المتين.
•أوضح البرهان في تفسير أم القرآن.
قلت : ومن أهم كتبه : " أجوبة المسائل الثمان في السنة والبدعة والكفر والإيمان " ، الذي دافع فيه عن دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله - ، وحققه الشيخ علي الحلبي .
وتجد عرضًا لمحتوياته على هذا الرابط :
http://www.d-sunnah.net/forum/showthread.php?t=26585
وقد قام الأخ فواز السلمي – وفقه الله – بإعداد رسالة جامعية عن الشيخ المعصومي ، بعنوان : " الشيخ محمد سلطان المعصومي وجهوده في نشر العقيدة " ، في جامعة أم القرى ، كلية الدعوة وأصول الدين ، قسم العقيدة ، عام 1423هـ ، نقل فيها قول المعصومي متحدثًا عن مسيرته بعد بيان نشأته الأشعرية النقشبندية :(52/4)
( ولكني لما حصَّلْتُ العلوم والفنون بحول الله وقوته وهدايته وتوفيقه، وحصُلَتْ لي ملَكة المطالعة، وحُزْتُ خَتْمَ الكُتُبِ المتَعارف عليها في بلد النشأة هناك، وكان عمري إذ ذاك ثلاثًا وعشرين سنة، ظهر لي خطأُ بعض المؤلفين وتعصبهم على ما عليه ائتلفوا، وتعارض ما حرروا ومناقضة بعضه بعضًا، فأعلنت ذلك في الملإ من الناس، وشرحت المسألة، وما عليه أهل ما وراء النهر ومن وافقهم ) .
ولما أظهر - رحمه الله - المذهب الحق، وبيَّن السنَّة، وعدل عن التعصب الأعمى، وأعلن على الملإ من الناس تبْيِِين تعصب العلماء والمشايخ في تلك البلاد؛ قال في بيانه لهذا الموقف ( فصاح العلماء والمشايخ وحملة العمائم الكبار، وقالوا: إنما نعمل بقول علمائنا على ما وجدنا عليه مشايخنا وسلفنا، ولا يجوز الأخذ والعمل بالقرآن والحديث؛ لأن ذلك وظيفة المجتهد، وقد انقرض وانسدَّ بابُ الاجتهاد ) !
وقد رد على هؤلاء المتعصبين المعرضين عن الأخذ بالسنة بقوله: ( إنَّ الشيطان أغواكم حتى جعلكم منكرين للسنَّة، بل قائلين ومعتقدين بحرمتها، فأدلاكم في الهاوية وأنتم لا تشعرون، ولا شك أنَّ من يحرم الحلال يكفر، فكيف من يحرم السنَّة الثابتة! وكيف من يقول ويعتقد أنَّه لا يجوز العمل بالقرآن والحديث! ويرجح قول الميتين غير المعصومين على قول المعصوم، فما هذا إلا بلاء ومصيبة ابتُلِيَ بها من استحق غضب الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
فلمَّا آل الأمر أخيرًا إلى الجدال، عزمت على السفر إلى الحجاز، وترك بلاد بخارى وما وراء النهر، وقلت: هذا فراق بيني وبينكم ، إلى أن يصلحني الله تعالى وإياكم ) .(52/5)
وفي أثناء رحلته فتح الله تعالى عليه بعلم القرآن العظيم، والسنَّة النبوية المطهرة؛ حيث قال: ( ثم فتح الله تعالى عليَّ بعلم القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل هو تنزيل من رب العالمين، وبعلم السنَّة التي هي كلام سيد المرسلين وسيرته صلى الله عليه وسلم، وما عمله خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، واستعنت بالله، وانهمكت في مطالعة كتب التفسير، وكتب الحديث ) .
وبعد عودته - رحمه الله - من رحلاته العلمية الناجحة بدأ دعوته السلفية الإصلاحية في بلاد بخارى وما وراء النهر.
حيث قال: ( وجاء أوان البحث والكشف عن منشإ كل مسألة ودليلها حسب المقدرة، فقابلت الكتبَ بالكتبِ، ووزنتها بميزان الكتاب والسنَّة وما عليه سلف الأمة، فشرعت في الردِّ على كثير من المعاصرين أو الغابرين الذين خالفوا أصول الدين كائنًا من كان، فألفتُ الرسائل، ونشرتُ المجلات، فحصل التجدُّد في أهل بلاد ما وراء النهر، وشاع فكر الإصلاح الديني، وعرف من هداه الله مضار البدع والخرافات ومفاسدها، فتابعنا كثيرًا من متنوري الأفكار، وقمنا بإصلاح ما أفسده الخرافيون، وعرف من عرف بفضل الله حقيقة التوحيد والشرع الإسلامي، فبدأ الناس يعودون فيتجنبون ما أحدثه المبتدعون من الطرائق الصوفية الخرافية، والتوجه إلى القبور والبناء عليها والنذْرِ لها والاستمداد من أهلها.
حتَّى وُفِّقْنَا بحول الله وقوته إلى هدم كثير من القباب، والضرائح، والمشاهد، وأفهمنا الناس الحقائق، ومنعنا كثيرًا من الصوفية الجهلة عما يفعلونه من أفعالهم الخرافية، وأذكارهم الغنائية، وشرعنا في إصلاح المدارس، وتسهيل طرق التعليم، وقد وافقنا على ذلك وسلك مسلكنا جمع من الأفاضل والأعيان من عامة البلدان ) . انتهى من رسالة الأخ فواز ، ( ص 55 – 57 ) .(52/6)
رحم الله الشيخ المعصومي ، وأكثر في الأمة أمثاله ، من المصلحين ، المصححين للأوضاع في الدول الإسلامية ؛ بدءًا من تصحيح العقيدة ..(52/7)
دعوة تحرير الرجل ) .. بطلها قاسم أمين " آخر " .. فاسمعوا ما يقول ؟!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لنتخيل خروج قاسمٍ أمين آخر لتحرير " الرجل " هذه المرة ، وليس المرأة ، متفقًا مع صاحبه القديم في النظر إلى الرجل والمرأة وأحكامهما في الشريعة الإسلامية بنظرة ( المساواة ) ..
ولهذا أظنه سيقول في كتابه : " تحرير الرجل " :
( أيها السادة والسيدات ، لابد من تحرير الرجل المسلم ، ورفع الظلم عنه ، ومنع استئثار المرأة دونه ، بسبب تمسك المجتمع " الأنثوي " بالعادات البالية ، والتقاليد المتخلفة ، وإليكم أنواع الظلم الذي حلت بالرجل ؛ لعدم مساواته بالمرأة ؛ لعلنا نتعاون في رفعها عنه ؛ ولو بالتعاون مع : " المؤتمرات الدولية " و " القوى الخارجية " !
1- ياسادة : المرأة تستطيع أن تلبس الذهب والفضة، ولو كثر ، وهما من أجمل الجواهر ، وسواء كان محل اللبس الآذان أو العنق أو الصدر أو المعاصم أو الرأس أو الأصابع ؛ وسواء كان الحلي من القلائد والأقراط والجواهر والفتخ والخواتم والخلاخل ، فكل ذلك مباح لهن. أما الرجل المسكين فإنه لا يستطيع التزين بحلي الذهب والفضة ، ولا يلبس من ذلك شيئاً إلا ما استثني كالخاتم من الفضة فقط .
2- ياسادة : للمرأة أن تلبس الحرير ، وهو من أنفس الألبسة وأنعمها و أجملها ، ولكنه محرم على الرجل المظلوم إلا لعذر من مرض أوحكة.
3- ياسادة : لا تجب صلاة الجمعة ولا الجماعة على المرأة ، فأما الرجل فيجب عليه حضورها في المساجد خمس مرات في اليوم والليلة ، ولا يخفى ما في هذا من التعب والمشقة .
4- ياسادة : لقد اتفق الفقهاء على أن الزوج لا يدفع زكاة ماله إلى زوجته الفقيرة لوجوب نفقتها عليه ، بعكس المرأة التي يجوز لها أن تدفع زكاة مالها لزوجها .
5- ياسادة : هل تعلمون أن زكاة الفطر تجب على الزوج دون الزوجة ؟!(53/1)
6- ياسادة : يسقط عن المرأة الحائض والنفساء طواف الوداع ولا تقعد في مكة لأجله. أما الرجل فيجب عليه ، ولا يخفى عليكم ما في هذا من مشقة ومزاحمة .
7- ياسادة : الجهاد بالنفس مأمور به الرجال دون النساء ، ولا يغيب عنكم ما فيه من تعريض النفس للمخاطر ، أما المرأة فتكسب أجر الجهاد العظيم بمجرد الحج ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور.
8- ياسادة : الرجل المحارب يُقتل ، ومثله من يُعين برأي أو مكيدة من الرجال الشيوخ ، أما المرأة فلا تُقتل في الحرب .
9- ياسادة : القرار في البيت وتدبير شؤون الزوج والأولاد وظيفة أولى للمرأة ، قال تعالى: ( وقرن في بيوتكن ) .. الآية، أي : الزمن البيوت ولا تخرجن ، وكن فيها أهل وقار وهدوء وسكينة. أما الرجل المسكين فهو مطالب بالخروج ، والكدح ، والتعب .
10- ياسادة : المرأة أولى بالحضانة من الرجل. لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص: "أن امرأة قالت: يا رسول الله : إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وحِجري له حواء ، وثديي له سقاء ، وزعم أبوه أنه ينزعه مني. فقال: "أنتِ أحقُ به ما لم تنكحي". فلماذا يُحرم الرجل من فلذة كبده ؟!
11- ياسادة : المرأة إذا قَتلت قتلَ خطأ فإنها لا تدفع من الدية شيئاً ، وإنما العاقلة - وهم العصبات الذكور - هم الذين يحملون الدية عنها في قتل الخطأ.
12- ياسادة : " القسامة " في باب الجنايات تختص بالرجال ، دون النساء .
والقسامة هي أن يوجد رجل مقتول بين قوم متشاجرين أو بين حيين ولا يُعلم مَن قتله. فيُطالب " الرجال " من أوليائه بالقَسَم أن فلانًا قتله – إذا ماكانت هناك قرينة على القتل - . أما المرأة فقد ارتاحت من هذه الأمور .
13- ياسادة : الفقهاء مجمعون على أن المهر حق للمرأة ، وهو واجب على الزوج. ولكم أن تتخيلوا مقادير المهور التي يدفعها الرجال ، وقد أعفيت منها النساء .(53/2)
14- ياسادة : النفقة حق من حقوق الزوجة على الزوج ، يدفع لها ما يكفيها من الطعام والكسوة ويُعد لها السكن المناسب لبيئتها . أما المرأة فلا حق له عليها .. ( يُذكر أن أكثر من نصف عقارات الرياض بأسماء نساء ! اللهم زد وبارك ) .
15- ياسادة : المرأة لايجب عليها أن تنفق على أولادها بوجود الزوج ، وكذلك لا تنفق على أقاربها إلا من باب البر والإحسان فقط . بخلاف الرجل .
هذا ياسادة غيض من فيض ، مما حل بالرجل المنتهك الحقوق ، في مجتمعات " أنثوية " لا تعترف إلا بحقوق المرأة . فساهموا – رعاكم الله – في رفع الظلم عنه ؛ ولو بكلمة أو مقال أو اقتراح ؛ إلى أن تنجلي الغمة ، ونفرح بتحرره من القيود . أخوكم : قاسم أمين ) .
تعليق
- نظر قاسم أمين " الأول " إلى أحكام الرجل والمرأة في الإسلام بنظرة " المساواة " ؛ فوجد شيئًا من التفاوت ، فظنه من الظلم ؛ فقرر أن يُحرر " المرأة " ؛ فأوقع الأمة في فتنة وصراعات مفتعلة ..
- ونظر قاسم أمين " الثاني " إلى أحكام الرجل والمرأة في الإسلام بنظرة " المساواة " ؛ فوجد شيئًا من التفاوت ، فظنه من الظلم ، فقرر أن يُحرر " الرجل " ؛ فسيوقع الأمة فيما أوقعها صاحبه الأول ..
وكلاهما مخطئ ..
لأن الإسلام دين ( العدل ) لا دين ( المساواة ) ..
- بل إن ( المساواة ) بين الأشياء المختلفة – فضلا عن إنكار الشرع لها - مما تُنكره العقول السليمة ، والفِطَر المستقيمة . فالشمس غير القمر ، والسماء تختلف عن الأرض .. وهكذا ؛ لكل خلقٍ طبيعته ووظيفته . وما حال من يساوي بين الأشياء المختلفة إلا كمن يقول : سأقطع اللحم بالكأس وأشرب بالسكين !(53/3)
- ولو نظر الاثنان بنظرة " العدل " - مستحضرَيْن قوله تعالى : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) .. وحذرَيْن من قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) .. وقوله تعالى : ( فلاوربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما ) - لأراحا أنفسهما وأراحا الأمة من شرور كثيرة ..
والله الهادي ..
روابط متعلقة بالمقال
الإسلام دين العدل لا المساواة
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/48.htm
من عبدالله بن محمد الداوود إلى قاسم بك أمين - رحم الله أموات المسلمين -
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/126.htm
المشابهة بين قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة و دعاة التحرير في هذا العصر
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/16.zip
هل تصدق ؟ ( زوجة قاسم أمين تغطي وجهها ! ودرية شفيق انتحرت ! )
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/20.htm(53/4)
كتابي : ( الخطوة الأولى ) .. أهديه لدعاة الفضيلة + بيان مهم لعلماء مكة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
البداية كانت من موقع " الساحات " الشهير الذي كنت ولا زلت أحد كتابه ، فقد دخلت في محاورة مع أحد الأعضاء ممن يرفعون شعار " تحرير المرأة " في هذه البلاد ، وكان كثيرًا ما يُردد أن حجاب المرأة لدينا " ستر الوجه " خاص بالسعوديين ! ثم غلا في هذا فجعله خاصًا بالنجديين ! مدعيًا أن علماء البلاد الإسلامية الأخرى لايرون هذا الرأي . فحفزني هذا لجمع أقوال كثير من علماء العالم الإسلامي في بيان وجوب هذا الحجاب الشرعي " غطاء الوجه " ، في مقال مستقل يجده القراء على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/29.htm
ثم صدر في كتيب عن طريق دار القاسم بالرياض . ثم وجدتُ بيانًا مهمًا أصدره علماء " مكة " زمن حكم الأشراف ، يُنكرون فيه على حكام الدولة العثمانية ممن جاؤا بعد السلطان عبدالحميد عندما دعوا إلى " السفور " و " الاختلاط " ، هذا نصه :
خطاب إلى العالم الإسلامي
من علماء مكة المكرمة
( فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون )(54/1)
إننا معاشر علماء بيت الله الحرام قد من الله تعالى علينا بما من به على كثير من علماء هذه الأمة من خدمة الشرع الشريف ، والغيرة على الدين المحمدي الحنيف. وقد علمنا أن الدنيا وما فيها لا تساوي في جانب الحق جناح بعوضة وأن هذه الدار لا يُقام لها وزن إلا بما يقدمه المرء فيها من صالح الأعمال لحياة الآخرة. وأي مسلم استأنست روحه بمشاهدة كعبة الله المعظمة في كل صباح ومساء وتشرف بسكنى أرض منها نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقدميه الطاهرتين تبارك كل موطئ قدم فيها، يرضى بأن تمس هذه المشاعر الدينية بسوء أو يصاب هذا الدين بأذى لاسيما ونحن الذين نشأنا النشأة الدينية الخالصة، ولم نغنم في هذه الدنيا غير مجاورة بيت الله المحرم وخدمة رسوله صلى الله عليه وسلم وإننا بما حصل لنا من الاختلاط بهذه الفئة المتغلبة على مملكة آل عثمان الكرام واحتكاكنا بها، واطلاعنا على حقيقة ما تظهره وما تبطنه لأحكام شرعنا وآداب ملتنا ، وما تفعله من المنكرات في بلادنا، وما جرته من المصائب إلى أوطاننا ؛ قد وضح لنا طريق النجاة الذي يأمرنا ديننا القوم بسلوكه، وتبين لنا سبب الفلاح الذي قضت علينا المصلحة الإسلامية بالتمسك به. وأن من علم حجة على من لم لا يعلم ، وشتان بين من رأى المنكر فبذل دمه في سبيل دفعه وبين من عاش بعيداً عن معرفة حقائق هذه الجهات فأراد أن يحكم عليها قبل الحصول على المقدمات الكافية لإصدار الحكم فيها.
وإذا لم تر الهلال فسلم --- لأناس رأوه بالأبصار(54/2)
وإننا لم يخف علينا أن فريقاً من إخواننا المسلمين خاضوا في أمر نهضتنا بغير بينة ؛ فشط بهم التسرع إلى الحكم فيها عن غير علم، اعتماداً على السماع ممن لم يبن أقواله على أساس الحقيقة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود والحاكم بحديث صحيح: "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع"، وفي رواية مسلم : "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، ونحن لا نطلب من ذلك الفريق أن يتسرع بموافقتنا قبل فهم حقيقتنا لأننا لا ننتفع بمثل هذه الموافقة؛ ولكنا ننصح لإخواننا في الدين (عملاً بالأمر الإلهي في التواصي بالحق) بأن لا يرتكبوا إثماً كبيراً عند الله بالتحديث بكل ما يسمعون ، والقطع فيما يتوهمون ويتخيلون ، وندعوهم إلى استعمال الروية وترك عصبية الجاهلية ، وذلك شأن المسلم الذي تشرب الأخلاق الإسلامية، المعنية بقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . .. – إلى أن قالوا - :(54/3)
ونكتفي الآن بتكليف إخواننا المعترضين أن يرسلوا من يعتمدون عليهم إلى الأستانة عاصمة الاتحاديين ليشاهدوا بأعينهم كما شاهد كثير منا بأنفسهم وجود المخدَّرات من المسلمات التركيات موظفات في دوائر البريد والمالية بوظائف الرجال بكمال البهرجة والزينة والجمال، سافرات الوجوه ، يقابلن كل من يأتي إليهم من الرجال على اختلاف أجناسهم لقضاء أشغالهم. فما قول إخواننا (أرباب الدين والحمية) المعترضين علينا بلا روية في هذا الأمر ؟ الذي هو نموذج لما يؤلمنا تفاقم شره، وننادي على رؤوس الأشهاد بالشكوى منه. وهل من تكون هذه القضية أدنى مراتب سيئاتهم للإسلام والمسلمين تكون طاعتهم طاعة أم معصية ؟ كلا ورب الكعبة ثم كلا. فإن إطاعتهم لا تتم إلا بمعصية رب العالمين . وحاشا أن يرضى بذلك أحد من المؤمنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده: "من أمركم من الولاة بمعصية فلا تطيعوه"، وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الحاكم عن جابر بحديث حسن: "من أرضى سلطاناً بما يسخط ربه خرج من دين الله"، وقال عليه السلام فيما أخرجه الديلمي : " من سود اسمه مع إمام جائر كان قرينه في النار"، وروى الخطيب عن أنس رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سود مع قوم فهو منهم.(54/4)
ومن روع مسلماً لرضى السلطان جيء به يوم القيامة معه"، وهانحن نرى بأعيننا أن المملكة قد انسلخت عن شكلها الإسلامي الذي نعهده ، وصرنا كلما بحثنا عن سبب موجب للطاعة وعن أي شرط من شروط الخلافة وانتظام أمر الجماعة لا نجده ، ونحن ليس من غرضنا بيان ما آل إليه أمر الإسلام على أيدهم ؛ فإن ذلك من واجب كل مسلم البحث عن حقيقته بنفسه وليس هو مما تستوعبه عجالتنا هذه، وحسبنا أن نخبركم بأننا رأينا أنفسنا أمام أمرين مختلفين تمام الاختلاف: أحدهما : إرضاء هذه الفئة المتغلبة على المملكة العثمانية بإغضاب الله تعالى، والثاني : إغضابها لرضائه تعالى. فآثرنا الآخرة على الأولى، ورضى الحق على رضى الخلق. ولو كان الخلفاء الراشدون شرفهم الله فعلوا ما يفعله الاتحاديون –وحاشا لهم من ذلك- لتقربنا إلى الله بالقيام عليهم وترجيح رضا الله على رضائهم ، وأننا لا نفعل ذلك من عندنا بل بإرشاد الخلفاء الراشدين أنفسهم، فقد خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطبته الأولى بعد الخلافة فقال: " أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم " ، وهكذا كان يقول كل من ولى أمر المسلمين من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبهذا انتصر المسلمون وفازوا بالسعادتين، وكانوا أعزاء بين أمم الأرض. ونحن قد حاولنا أن نجد لنا مخرجاً آخر يجمع بين إرضاء الله تعالى وعدم القيام على هؤلاء الناس ؛ فلم يعينونا على أنفسهم في ذلك ، فغضبنا لله ، فنصرنا وثبت أقدامنا، تأييداً لشرعه وتثبيتاً لدينه، ولحكمة هو يعلمها في صلاح آخر هذه الأمة بما صلح به أولها, وإن كل قلب من قلوب المسلمين في المملكة العثمانية حتى الأتراك في الأنضول بل وأفراد العائلة السلطانية في قصورهم يدعون الله لنا بالتأييد ، وحاشا لله أن يردّ رجاء المظلومين ويخيب دعاء الأتقياء على الفاسقين ..(54/5)
– إلى آخر خطابهم الذي قالوا في ختامه - : والسلام على من سمع القول فأتبع أحسنه. والله يتولى هدانا أجمعين .
وكيل مفتي الحنابلة / الشيخ محمد صدقة عبدالغني
مفتي المالكية / الشيخ محمد عابد المالكي
مفتي الشافعية / السيد عبدالله الزواوي
قاضي القضاة ومفتي الأقطار الحجازية /الشيخ عبدالله سراج
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ عبدالكريم الناجي
نقيب السادة السيد محمد السقاف أمين الفتوى /الشيخ درويش عجيمي
شيخ الخطباء بالمسجد الحرام / الشيخ أحمد أبو الخير مرداد
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ علي بابصيل
مدرس بالمسجد الحرام / السيد عباس بن عبدالعزيز المالكي
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ عبدالله أبو الخير مرداد
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ محمد أمين مرداد
مدرس بالمسجد الحرام /السيد محمد المرزوقي
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ علي المالكي
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ محمد جمال المالكي
مدرس بالمسجد الحرام /الشيخ عبدالرحمن خوقير
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ جعفر لبنى
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ أسعد بن أحمد دهان
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ أحمد بن عبدالله القاري
مدرس بالمسجد الحرام / السيد محمد هاشم مجاهد
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ سالم شفي
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ محمد علي سراج
مدرس بالمسجد الحرام / السيد محمد طاهر مسعود الدباغ
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ أحمد بن عبدالله ناظرين
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ خليل بن إبراهيم عجيمي
مدرس بالمسجد الحرام / الشيخ محمد بن كامل سندي
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ عبدالرحمن بن سليمان قاضي
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ محمد علي بلخيور
مدرس بالمسجد الحرام السيد أحمد السقاف
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ حسن اليماني
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ سعيد بن محمد اليماني
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ عبدالله بن أحمد المغربي
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ عبدالله بن عباس حداوي(54/6)
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ حامد بن عبدالله القاري
مدرس بالمسجد الحرام الشيخ محمد سالم عجيمي
مدرس بالمسجد الحرام السيد أحمد بن عبدالعزيز المالكي
مدرس بالمسجد الحرام السيد محمد بن صالح بن عقيل
صورة البيان من مجلة " القبلة "
اضغط على صورة لتكبيرها
قلت : ثم تطورت الفكرة السابقة لتكون جمعًا لشذرات من كلام مؤرخي تلك البلاد ، يتطرقون فيها إلى حال الحجاب الشرعي للمرأة في بلادهم قبل الاستعمار ، الذي شجع السفور بواسطة عملائه ؛ من أمثال قاسم أمين وغيرهم ، ممن فتنوا الأمة في دينها وأخلاقها ؛ ليكون هذا دليلا قاطعًا لمن تعودوا " الجدل " و " المماراة " في هذا الموضوع . فكانت حلقات مقالات " بدايات السفور في العالم الإسلامي " التي كنت أنشرها في موقع " الساحات " وموقع " صيد الفوائد " ، ثم أضفتُ لها إضافات عديدة ، تشكل منها هذا الكتاب الذي أهديه للقراء الكرام ، لافتًا النظر إلى أن التزام المرأة المسلمة حكم الله " الحكيم " لن يعيقها عن كل مافيه مصلحتها ، مع مافيه من الأجر ، والنجاة من العقوبة والوزر ، وقد قال تعالى : " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " ..
غلاف الكتاب
لتحميل الكتاب
http://saaid.net/book/open.php?cat=&book=4975(54/7)
العالم الحضرمي ( باصبرين ) والعالم النجدي ( السناني ) كسرا الحواجز .. فأفلحا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من كيد الشيطان للإنسان – عمومًا - أنه يُقيم العوائق والحواجز الوهمية بينه وبين الحق المتمثل في الإسلام ؛ لكي يستكثر من ذرية آدم " عدوه " في النار ؛ كما قال تعالى عنه : ( لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم .. الآية ) .
قال ابن القيم – رحمه الله – في " إغاثة اللهفان " ( 1 / 93 ) : ( إن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه ، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه .. وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر ، وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ؛ فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك ؟ فعصاه .. – الحديث - ) .
قلتُ : ومثله ، إذا كان الإنسان مسلمًا ؛ لكنه قد وقع في البدعة أو شيئ منها ؛ فإن الشيطان يكيده ؛ بصرفه عن دعوة الكتاب والسنة ، التي تجعل عمله متوافقًا مع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، عقيدة وعبادة .. وما يترتب على هذا من أجر وفلاح ، مقارنة بالبدعة وأخطارها التي يجد القارئ بعضًا منها هنا :
http://www.asyeh.com/print.php?actio...67§ionid=1
لذا ؛ فإن الشيطان يُقيم الحواجز الوهمية بينه وبين السنة وأهلها ؛ إما بتنفيره منهم ، أوتصديقه ما يُشيعه أهل الباطل عنهم ، دون أن يُكلف نفسه عناء الاطلاع على كتبهم وإنتاجهم القريب من يده . فتمضي عليه الأيام بل السنون ، وهو في غمرة ساهي ؛ إلى أن يفجأه هادم اللذات ، وهو مقيم على البدعة - والعياذ بالله -(55/1)
أما الموفقون ممن سبق ؛ فيقودهم تدينهم ونيتهم الطيبة - وقبل هذا فضل الله - إلى أن يكسروا هذه الحواجز الوهمية التي بناها الشيطان ؛ ليطلعوا بأنفسهم على ما فيه نفعهم ، وهم عنه غافلون ؛ فعندها يكتشفون " الوهم " الذي كانوا يعيشونه ، وينزاح عنهم " الغبش " الذي حال بينهم وبين الحق ، حينها يفرحون بفضل الله ونعمته عليهم أن اصطفاهم للسنة قبل الوفاة ..
ومن الموفقين الكاسرين للحواجز – قديمًا - : الطفيل بن عمرو – رضي الله عنه - ، الذي أجلب عليه المناوئون للإسلام أن لا يستمع للنبي صلى الله عليه وسلم ، فما زالوا به حتى وضع في أذنيه القطن حتى لا يسمع منه ! وتفاصيل قصته يجدها القارئ هنا :
http://sirah.al-islam.com/Display.asp?f=rwd2069
ومن الموفقين الكاسرين للحواجز – حديثًا - ، اثنان من العلماء ، أحدهما " حضرمي " ، والآخر " نجدي " . وإليك نبأهما :
1- قال الشيخ عبدالله البسام في ترجمة الشيخ مبارك آل مبارك – رحمه الله - :
( حدثني الشيخ محمد نصيف رحمه الله قال: كان العلامة الشيخ علي باصبرين يُدرس لطلابه ما بين المغرب والعشاء في جامع الشافعي بجدة، ففي إحدى الليالي جاء البحث في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعها، فنال الشيخ باصبرين منها نيلاً فاحشاً، وكان من الطلبة: الشيخ صالح العبد الله البسام، والشيخ مبارك آل مساعد، فلما فرغ الدرس قاما إليه، وقالا له: هل اطلعت يا شيخ على كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب حينما نلت منه ومن دعوته؟ فقال لهما: لا، إنني لم أطلع عليها، ولكني قلتُ هذا نقلاً عن مشايخي، فقالا له: ألا ترغب في الاطلاع على كتبه؟ قال: بلى، فأتياه بنسخ من كتبه، فدرسها نحو أسبوع، وهو لا يأتي للشيخ محمد بذكر ؛ لا بمدح ولا قدح.(55/2)
وبعد ذلك قال للطلبة: إنني في إحدى الليالي السابقة نلتُ من الشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته، والحق أن كلامي لم يكن عن اطلاع على كتبه، وإنما هو تقليدٌ وحُسن ظن في مشايخنا، وقد أطلعني بعض إخواننا النجديين على بعض كتبه ورسائله، فرأيت فيها الحق والصواب، وأنا أستغفر الله تعالى عما قلت، ثم صنّف رسالة سمّاها " هداية كُمَّل العبيد إلى خالص التوحيد " ) . ( علماء نجد خلال ثمانية قرون ، 5/434 ) .
2- وأما الشيخ محمد السناني ( ت 1269هـ ) - رحمه الله - ؛ فقال عنه الشيخ البسام - رحمه الله - في كتابه السابق ( 5 / 473-474 ) : ( لم يقرأ كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وكان بعض الناس يحذره منها، فسافر إلى الأقطار الشامية والعراقية ورأى من البدع والشرك الأمور الفظيعة، فعلم ما لفضل دعوة الشيخ محمد في نجد من الأثر الطيب، ورجع إلى كتبه، وقرأها ؛ فأولع بها وشغف باتباعها، وقال كلمة وقصيدة في هذه الحال التي مرت به، وهذا نص كلامه: " كنتُ في أول أمري مع أناس نسمي (كشف الشبه) بـ( جمع الشبه ) ! ولم أرها ولم أطالع فيها تقليداً لمن غروني، فلما سافرت إلى بعض الآفاق ورأيت كثرة من أعرض عن الهدى، دعوت الله أن يهديني لما اختُلف فيه إلى الحق، فأزال الله عني الهوى والتعصب، وأبدله بالإنصاف ، وصار عندي الحق أحق أن يُتبع، فعنَّ لي أن أطالع (كشف الشبه) فوجدتها كاسمها، مشتملة على أجل المطالب وأوجب الواجبات ؛ فكانت جديرة أن تُكتب بماء الذهب، ثم قلتُ نظماً:
لقد ضل قوم سمو الكشف بالجمع --- وقالوا مقالاً واجب الدفع والرد
فجمع الشبه ما لفقوه ببغيهم --- وتضليلهم من هد ما شيد من ند
وقام بنصر الدين لله وحده --- وتجريده التوحيد للواحد الفرد
وجاهد فيما قام فيه لربه --- بماله والأهلين حقاً وباليد
إلى أن قال:
فيا طالب الإنصاف بالعلم والهدى --- ألا تنظر كشف الشبه درة العقد
فقد حل فيها كشف ما كان مشكلاً --- بأوضح تبيان ينوف على العد(55/3)
فجازاه رب الخلق خير جزائه --- لما قام في التوحيد يهدي ويهتدي
وما سقناه خلاصة من رسالته ونظمه ، رحمه الله تعالى ) .
والله الهادي والموفق ..
إسلامية لا وهابية
http://www.wahabih.com/
http://saaid.net/monawein/index.htm(55/4)
اتصال الشيخ الطنطاوي بالشيخ البيطار سبّب له أزمة " وهابية " ! .. أما الآن فتغير الحال
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - في ترجمة الشيخ بهجة البيطار - رحمه الله - :
( كان أول اتصالي بالشيخ بهجة سبب أزمة لي في حياتي. فلقد كان أكثر مشايخي، بل أكثر مشايخ الشام، ممن يميلون إلى الصوفية، وينفرون من الوهابية، وهم لا يعرفونها ولا يدرون أنه ليس في الدنيا مذهب اسمه المذهب الوهابي، ولكن ذلك أمر افتراه عليهم خصومها، ينفرون منها كما ينفر الإنسان من عدو خطر مجهول.
وكان عندنا جماعة من المشايخ يوصفون أو يوصمون بأنهم من الوهابيين، على رأسهم الشيخ محمد بهجة البيطار وزميله في القراءة علي الشيخ جمال القاسمي الأستاذ حامد التقي. ومن أعجب العجب أن والد الشيخ بهجة صوفي من غلاة الصوفية، القائلين بوحدة الوجود على مذهب ابن عربي وابن سبعين والحلاج. كما أن الشيخ خالد النقشبندي، المفسر السلفي كان جده المدفون في سفح قاسيون هو الذي حمل الطريقة النقشبندية إلى دمشق. ومن تبع أمثال هذه الظاهرة في تاريخ علمائنا وأدبائنا وجد منها الكثير، ولعل من أغربها أن صاحب "الأغاني" أبا الفرج الأصفهاني، أموي النسب شيعي المذهب، ومن أبنائي الأستاذ محمد سعيد المولوي، وهو سلفي العقيدة وعمه شيخ المولوية وأبوه من مقدميها.
من هنا كان اتصالي بالشيخ بهجة سبب سخط هؤلاء المشايخ علي، حتى أن أحدهم لقيني مرة، فسألني عن حالي، فقلت في نفسي: لماذا ألقي بالحقيقة الثقيلة عارية في وجهه، وما شاء فليفعل؟ فقلت له: أقرأ كتاباً لابن تيمية على الشيخ بهجة، في دار الشيخ ياسين الرواف، أي أنني جمعت له الوهابية من أطرافها !(56/1)
فأخذني إلى مدرسته، وكان مدير مدرسة أهلية فلقينا الشيخ أمين سويد .. فقال له: يا سيدي هذا ابن الشيخ مصطفى، صار وهابياً ينكر التوسل. فقال الشيخ، رحمة الله عليه: يا بني، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. دعه فلا شيء لك عليه ) .
( رجال من التاريخ ، ص 416 - 417 ) ..
قلت : هذا ما كان في الزمن القديم ؛ بسبب سطوة " الصوفية " على المجتمع الشامي ، أما اليوم - ولله الحمد - فقد تحرر أهل الشام من هذه السطوة ، وأصبحوا يحاكمون أقوال وأعمال رعاة التصوف بالكتاب والسنة ، دون خوف أو وجل . ( انظر مثلا : " إلى أين أيها الجفري " للأستاذ الفاضل خلدون الحسَني ) . وانتشرت بينهم الدعوة السلفية ، وهي مقبلة على خير - إن شاء الله - ، بسبب الانفتاح الإعلامي ، خاصة عندما تتضاءل قبضة " النصيرية " ..
أسأل الله أن يوفق أهل الشام إلى ما يحبه ويرضاه ، ويحفظهم من كل مكروه ، ويولي عليهم خيارهم ، وينزع شرارهم ..(56/2)
رأي الرافضة في صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال حسن ابن علامتهم الشهير محسن الأمين في كتابه " حقائق حول التشيع ودور الإيرانيين فيه " ، ( الصادر عام 1427هـ ) :
- ( خلاصة ما نقول في صلاح الدين الآن : إن قصة صلاح الدين من زيف التاريخ ، إن صلاح الدين بحقيقته المجردة شيء تافه جداً، بل وفوق التافه ) ! ( ص 74 ) .
- وقال ( ص 80 ) : ( وصلاح الدين الأيوبي قضى أولاً على المكتبات كلها ، أحرقها وأتلفها وأفسدها ، وارتكب من الفضائح والأمور التي ينفر منها كل ضمير إنساني. ومنها تعطيل دراسات الشيعة في الأزهر ، والقضاء على الفاطمية.
فقد جمع صلاح الدين الأيوبي كل العائلة الفاطمية ، وكل من ينتمي إليها، ووضع النساء في سجن والرجال في سجن، ليموتوا جميعاً دون أن يتزاوجوا ويتوالدوا، وهذا شيء لم يفعله أي إنسان في التاريخ. فهذا من بعض أفعاله، فكيف يُحفظ التدريس الشيعي في الأزهر ) !
قلتُ : أنقل هذا ؛ لعل القائمين على العلم والدعوة في الأزهر وفي مصر يطلعون على رأي القوم ، دون تقية ؛ لأن كتاب المذكور عبارة عن كلمات وإجابات لأسئلة في محيط الشيعة ، تحكي همومهم وتألمهم من طردهم من مصر .(57/1)
بمناسبة استضافة ( الجابري ) أعيد نشر اعترافه،وأنيس منصور يضحك على الحرس الوطني!!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عندما تستضيف وزارة الثقافة والإعلام المنحرفين فكريًا ؛ من أمثال الجابري أو عبدالمعطي حجازي أو غيرهم ، هي تفعل هذا لأمرين :
1- إما إعجابًا بهم ، ورضىً عن أفكارهم ، وكفى بهذا إثمًا ؛ مع مافيه من مخالفة لأنظمة وتوجهات ومكانة هذه البلاد " السعودية " ، وتشويه صورتها لدى المسلمين ؛ عندما يرونها ترعى هؤلاء المنحرفين وتحتفي بهم ؛ فيتهمونها بالنفاق ، بسبب هذه التصرفات السيئة من الوزارة .
2- وإما أنها تقول : أنا أحاول كسبهم واحتواءهم بمثل هذا الاحتفاء والاستضافة ! - وفضلاً عن مخالفة هذا للشرع ؛ لأن الاحتواء لايكون بتمكين المنحرفين من إضلال المسلمين ، وتصويرهم لهم بصورة القدوات ، فضلاً عن هذا أقول - : هيهات أن ينفع مثل هذا الاحتواء مع هؤلاء ، لأنهم ينظرون إليك نظرتهم إلى المتخلف الساذج المغفل ، الذي يضحكون عليه ؛ ليأكلوا أمواله ، فـ ( السعودية ) عندهم مثل ( الشعير ) يؤكل ويُذم ، كما تشهد بهذا مواقف كثيرة لهم ، وهم باقون على فكرهم المنحرف ، إن لم يكن المعادي – وهذا لا يتبين إلا في الأزمات - ، وأذكر شاهدًا لهذا ، وهو موقف الصحفي أنيس منصور عندما وقع بيان الدفاع عن " المرتد " الطاعن في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم : سلمان رشدي ، وهو في ضيافة ( السعودية ) !! وكان يقول ضاحكًا : ( إنني وقعت البيان بالفاكس وأنا في ضيافة الحرس الوطني السعودي ) !! ( انظر : أعلام وأقزام ، 2 / 86 ) .قال الشيخ سيد العفاني بعد أن نقل هذا عنه : ( عاملك الله بما تستحق يا أنيس ، أليست هذه خيانة للمضيف الذي أكرمك .. ) .. ؟ ولازال أنيس - للأسف – يكتب في صحيفة محسوبة على بلادنا .(58/1)
فتخيل ؛ لو صُرفت هذه الأموال ، واستضيف المحبون لهذه البلاد ودينها وشعبها ؛ ألم يكن أجدى من هذا الاستنزاف ، وهذه المغامرات الطائشة ؛ المثيرة للاستفزاز والمشاغبة ، دون أي نتيجة ( دينية ) أو ( سياسية ) ؟
*****************
وبمناسبة استضافة معرض الكتاب للجابري ؛ أعيد نشر اعترافه بطريقته في هدم الأحكام الشرعية ، وكما هو معلوم للمتابعين فإن الجابري يعد على قائمة الرموز الذين تأثر بهم قلة من شبابنا المرضى بما يسمى ( العصرنة ) التي انتقلوا إليها من الطرف الآخر ( الغلو والتشدد ) ! حيث عكفوا على كتبه وتأثروا بها ، فصبغتهم بأفكارها وألفاظها .
سئل أحد هؤلاء عن الكتب التي أثرت في عقله ( القروي ) فقلبته 180 درجة !! فقال - بالنص - : ( أما الكتب المعاصرة فسأذكر لك عناوين عابرة ربما تفيد :تكوين العقل العربي ، وبنية العقل العربي كلاهما لمحمد عابد الجابري) .
وهذا الاعتراف من الجابري ورد في مقابلة أجراها معه الكاتب ( عبدالإله بلقزيز ) في مجلة : المستقبل العربي ، العدد 278. أبان فيه عن سعيه إلى تحقيق الحداثة ( ! ) من خلال التراث لا من خارجه كما يفعل ( العلمانيون ) الفاشلون ! الذين لم تنجح دعوتهم لتغريب المجتمع المسلم؛ لأنها أتت من خارجه . أما هو فسوف يلجأ إلى أسلحة التراثيين ! ويجعلها ترتد في نحورهم ! في محاولة خبيثة لإعادة تشكيل العقل والتاريخ والتراث حسب ما يريد . ومن هنا تأتي الخطورة !
وقد تابعه على هذا المعجبون به لدينا ، وحاولوا نقل مشروعه ..
يقول تركي الربيعو في كتابه ( المحاكمة والإرهاب ، ص 32 ) : ( الخطاب العربي المعاصر هو خطاب محكوم بسلف ، والمطلوب تحريره من ربقة السلف . هذا ما قادنا إليه الجابري ) .
يقول بلقزيز في سؤاله :(58/2)
( مع كل هذا العطاء العلمي في ميدان الدراسات التراثية ، مقرونًا بإطلالة غير منقطعة على أسئلة العصر وأسئلة الفكر الحديث ، هل ما زلت مقتنعًا بأن الطريق إلى كسب مطالب العقلانية والحداثة والتقدم تمر حتما عبر تبيئتها وتأصيلها وعبر ربط الجسور باللحظات الحية والتقدمية في تراثنا ؟ أم أنك أفسحت مجالا آخر ؟ أو تتفهم ذاك المجال الذي يمكن أن يكون ساحة لمنافذ أخرى قصد طلب هذه القيم والمبادئ ، طبعا دون المرور بمسائل التراث ؟
فيرد الجابري : إن وجهة نظري في هذا الموضوع تعبر عن اقتناع شخصي ، ليس فقط من خلال تجربتي منذ البداية ، وأنا على اتصال بالطلاب والمثقفين ، بل أيضًا لأن هذا الاقتناع تكون لدي أساسا كنتيجة النظر في تاريخ النهضة العربية . أنت تعرف أنه كانت هناك ثلاثة تيارات معروفة ؛ هي التيار السلفي والتيار الليبرالي و التيار التوفيقي أو التلفيقي ، وأنت تعرف أن تجربة مائة سنة قد أسفرت عن جمود الحركة في هذه التيارات ، فلا أحد منها تطور وحقق أهدافه ، بل كل ما حدث هو اجترار وعود على بدء مستمر . لقد استنتجت من ذلك تلك القضية الأساس التي أدافع عنها ؛ وهي أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعًا معاصرًا لنا ، وفي الوقت ذاته بالحفاظ له على معاصرته لنفسه ولتاريخيته ، حتى نتمكن من تجاوزه مع الاحتفاظ به (!) وهذا هو التجاوز العلمي الجدلي .(58/3)
هذا هو اقتناعي إذا كنا نفكر في الأمة العربية و الإسلامية كمجموع ، وليس كنخبة محصورة العدد متصلة ببعض مظاهر الحداثة ، تنظر إلى نفسها في مرآتها ، وتعتقد أن الوجود كله هو ما يرى في تلك المرآة . هذا في حين أن هذه النخبة صغيرة ، قليلة ، ضعيفة الحجة أمام التراثيين . والمطلوب منا في ما يخص الحداثة ليس أن يحدث المحدثون أنفسهم ، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق ، والنطاق الأوسع هو نطاق التراث . فإذا لم نكن على معرفة دقيقة وعامة بالتراث وأهله ، فكيف يمكن أن نطمع في نشر الحداثة فيه ، أن نجدد فيه ، أن ندشن عصر تدوين في مجالاته ) .
ويقول في نفس المقابلة عن إحدى أمنياته :
( لو كان لدي ، وكان لدي مثل هذا الميل نحو مشروع إصلاحي ؛ لكان في برنامجي الاشتغال على ابن تيمية أيضا ، ولقدمت للقراء وجهًا آخر عنه ، يختلف عن الوجه السائد والمؤدلج ..) !
ولا تعجب من قوله هذا .. فقد حُرفت نصوص نبوية ..وتؤولت آيات قرانية ..فما ظنك بابن تيمية .. ؟!
الخلاصة : أن خطة الجابري تقوم على التغيير من داخل البيت الإسلامي ، لا من خارجه من خلال العبث بالنصوص الشرعية بتأويلها وتفريغها من محتواها ( الحقيقي ) ، واستبداله بالمحتوى الذي يريدون .. والله له ولمتابعيه بالمرصاد ، سنة الله فيمن قبلهم .
ومن أراد معرفة انحرافات الجابري والرد على أفكاره فليرجع مشكورًا إلى ماكتبه الفضلاء على هذا الرابط :
http://www.lojainiat.com/index.php?a...wMaqal&id=7586
وهنا مقال مهم عنه : ( قراءة في قراءة خبيثة ) ( التعليق 20 ) للأخ عبدالمعز - وفقه الله - :
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=4348&page=2(58/4)
تقارب السنة والشيعة .. بين محب الدين الخطيب و حسن البنا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- الأستاذ محب الدين الخطيب – رحمه الله – كاتب إسلامي شهير ، تميز بكتاباته المهمة في التحذير من مذهب الشيعة ، بعد أن خبره وعلم أنه دين آخر غير دين الإسلام في أصوله ، وتبين خطر أهله على أمة الإسلام ، وأن فكرة التقارب معهم مجرد وهم وخداع بسبب هذا التفاوت ؛ وبسبب مارآه شخصيًا من ألاعيب ملاليهم ، وأن معنى التقارب عندهم هو تصدير مذهبهم الباطل بين أهل السنة . وهو - رحمه الله - ليس بغريب عن جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها حسن البنا رحمه الله ، فقد شهد نشأتها ، وكان مرشدها يتردد على مكتبته ويستفيد من جهاده وجهوده ، ويكتب في صحيفته " الفتح " . إلا أن هذه العلاقة الودية بينهما لم تمنعه من قول الحق ، ونُصح الجماعة في موقفها السلبي تجاه مخططات الشيعة منذ أيام مرشدها . وهذا هو شأن العالم والداعية " المتجرد " من الحزبيات ، الذي يفرح بجهود " أهل السنة " ، ويتواصى معهم بالحق والتعاون النافع .
-والأستاذ حسن البنا – رحمه الله – أسس جماعته الإخوان تأثرًا بسقوط الدولة العثمانية ، وماتبعه من تفرق للأمة ، فلذا اقتصر همه الأكبر على الجانب السياسي و " الحكم " ، وماعداه - مهما كان مهمًا - فيأتي تبعًا له ، مما جعله يحرص على " التجميع " بين أهل السنة والمبتدعة ، ومن ثمَّ الاغترار بفكرة التقريب بين السنة والشيعة ، التي كان مآلها " تخدير " السنة تجاه الخطر الرافضي ، وإفساح المجال لهم للتفرد بعامة المسلمين ومحاولة تشييعهم . وقد أصبح رأي البنا في هذه المسألة – للأسف – حجر عثرة أمام تنبه " الإخوان " لهذا الخطر ، إلا من أفراد معدودين ؛ كمصطفى السباعي وسعيد حوى – رحمهما الله - .(59/1)
-وهنا : مقال للأستاذ محب الدين الخطيب نشره في مجلته " الفتح " ( العدد 862 ) ، علّق فيه على فكرة التقريب التي كانت مثارة في تلك الأيام ، عندما أنشأ الشيعي القمي ومجموعة مغترة به دارًا في القاهرة ، سموها " دار التقريب " ، وموقف " الإخوان المسلمين " منها . وقد أقام فيه الحجة على الجماعة ومرشدها ، منذ ذلك الحين .. ولكن !
كلام صريح وكلام مبهم
حول خرافة التقريب بين المذاهب
وجه أحد المسلمين – بل أحد الإخوان المسلمين – في المحلة الكبرى سؤالاً إلى رصيفتنا مجلة الإخوان المسلمين الغراء الأسبوعية يقول لها فيه: "نرجو إيضاح موقف الإخوان من مذهب التقريب بين المذاهب الإسلامية بعد أن أعلن عنه الأستاذ تقي القمي محبذًا ومتفائلا بانضمام فضيلة المرشد العام، ثم رد عليه الأستاذ محب الدين الخطيب ناقدًا".
فأجابت مجلة الإخوان المسلمين على ذلك في العدد 217 من سنتها السادسة بما نصه: "يرى الأستاذ محب الدين الخطيب أن التقريب بين المذاهب مستحيل، لأنها مذاهب مقررة وموضوعة على أسس ثابتة، والتقريب بينها يتطلب نقض هذه الأسس وإنشاء مذهب ثالث ، ويرى أن الممكن هو العمل على التعاون في المصالح المشتركة. ويرى الإخوان أنه يجب العمل على إزالة الفوارق أو بعضها ما أمكن، وكلما قلت الاختلافات كلما أمكن التعاون والتوفيق" .
وبما أن المسألة مسألة دين، والكلام في الدين يجب أن يكون صريحًا وواضحًا، فلابد لنا أن نكون صرحاء واضحين في تفهم الغرض المقصود من "العمل على إزالة الفوارق أو بعضها ما أمكن" ومبدأ أن إمكان التعاون متوقف على الإقلال من الاختلافات "وكلما قلت الاختلافات أمكن التعاون والتوفيق".
إن المذهب الذي يتبعه تقي قمي هو المذهب الشيعي، والمذهب الشيعي يختلف عن المذهب الذي يتبعه الإخوان المسلمون والشيخ شلتوت والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ الزهاوي في أمرين: أحدهما يتناول أصول الدين، والآخر يتناول فروع الدين.(59/2)
فنحن – معشر أهل السنة والجماعة – نرجع في أصول الدين إلى ما جاءنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أوحي إليه من الله، وفي السنة التي لا ينطق فيها عن الهوى ، وإنما هي من تعليم الله له ووحيه. ومضت سنة أهل السنة في فهم كتاب الله أن يتحروا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وما فهمه التابعون من الصحابة، وما فهمه أئمتنا الأربعة وإخوانهم الذين في طبقتهم عن شيوخهم من التابعين أو التابعين لهم بإحسان. والعقائد الإسلامية، وأصول الدين قد تلقاهما أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطريق: طريق التابعين عن شيوخهم من الصحابة الذين هم تلاميذ الهادي الأعظم. فكل أصل في الإسلام أو عقدية مستمدة من كتاب الله بمفهومه الذي فهمه أصحاب رسول الله، أو من سنة رسول الله، منقولة بلسان أصحابه.
والمذهب الشيعي مبني على بغض أصحاب رسول الله وشتمهم ولعنهم – يستثنون منهم عددًا قليلاً جدًا – وقد بلغ بهم الحقد على أكمل خلق الله بعد رسول الله أن كذبوا على سلمان الفارسي فادعوا عليه في كتاب الوافي (2/45) وهو من أمهات كتبهم الشرعية المعتمدة أن علي بن أبي طالب قال : "إن أول من بايع أبا بكر هو إبليس" !!وفيه (2/47) أن جعفرًا الصادق قال في آية {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه مجنون} نزلت في أبي بكر وعمر. ويقول شيخهم الكذوب أبو جعفر الكليني في كتابه (الكافي) 3/325 عن آية {إن الذين آمنوا ثم كفروا... } نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان.(59/3)
هذا قول أئمتهم الأولين في صفوة البشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما علماؤهم المتأخرون ؛ فهذا علامتهم المجتهد محمد مهدي السبزواري يقول في كتاب تاريخه 4 ربيع الآخر سنة 1347 بعث به إلى السيد إبراهيم الراوي من علماء بغداد: "قلتم أدام الله ظلكم: وإذا صدق قول الشيعة في ارتداد الصحابة كلهم الذين يتجاوز عددهم مائة ألف إلا خمسة أو ستة أوسبعة (والصواب ثلاثة) فلمَ يقاتل أبو بكر أهل الردة ويردهم إلى الإسلام؟ وكفره كفر حكمي لا كفر واقعي كعبادة الوثن والصنم. وقلتم وفقنا الله وإياكم: وهذا النبي مدة ثلاث وعشرين سنة يصحبه أصحاب كفار، ومدة طويلة أيضًا تصحبه زوجة كافرة لا يعلمهم... أقول: لم يعتقد الشيعة كفر الصحابة وعائشة في حياة النبي، وإنما قالوا إنهم ارتدوا بعد النبي ".(59/4)
فإذا كان هذا اعتقاد الشيعة في الصحابة فبديهي أنهم ينكرون فهم الصحابة لأصول الدين، ويرفضون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها هؤلاء الأصحاب، ودونها أقطاب المحدثين من أهل السنة ، وفي طليعتهم الإمامان العظيمان البخاري ومسلم وسائر أصحاب الكتب الستة ومن في منزلتهم. وتمتاز الأحاديث التي رواها أمثال هؤلاء بأن رواتها معروفون بالصدق والعلم والأمانة والتقوى وسائر ما تستلزمه عدالتهم في أخبارهم، وإن تفاوتوا في ذلك كما هو المشاهد في خيار الناس في كل زمان ومكان. وإذا توفرت هذه الصفات الطيبة في شيعي أو زيدي أو إباضي أو معتزلي فإنهم يقبلون روايته في كل شيء إلا فيما يتعلق بالمعاني التي انفردت بها نحلتهم فإنهم يجتنبونها من هذه الناحية ويقبلون سائر ما يروونه. مثال ذلك : الحسن بن صالح بن حي الثوري الهمداني وأخوه علي كانا من الشيعة الزيدية وكانا عونا لكل من يقوم من آل البيت بحركة أو ثورة، وفي بيتهما اختبأ عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بعد وقعة باخمرى التي قُتل فيها إبراهيم بن عبد الله المحض ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط في خلافة أبي جعفر المنصور. وكان سفيان الثوري ينكر عليهما تشيعهما وافتراقهما عن الجماعة حتى في الجمعة والجهاد. ولكنهما لصلاحهما وصدقهما وتقواهما يقبل أهل السنة ما يرويانه على القاعدة التي ذكرناها، أما الشيعة الاثنا عشرية فيتبرأون منهما ويذمونهما في كتبهم المعتمدة ؛ لأنهما من الشيعة الزيدية وليسا من الشيعة الاثنى عشرية.(59/5)
وقد حصر الشيعة الاثنا عشرية تشيعهم باثنى عشر رجلا من أهل البيت لا يعترفون بغيرهم لا من الصحابة ولا من آل البيت، فكما لا يعترفون بأبي بكر وعمر وأم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين حفصة لا يعترفون بالإمام زيد ولا بغيره من أعلام آل البيت. ولا يكتفون بذلك، بل يعتقدون العصمة بهؤلاء الاثنى عشر، ويعتبرونهم مصدر التشريع، وأول من اخترع لهم هذه العقدية الضالة خبيث يسميه المسلمون (شيطان الطاق) وتسميه الشيعة (مؤمن آل محمد) واسمه محمد بن علي بن النعمان الأحول. دخل الإمام زيد بن علي (الذي يرجع إليه مذهب الزيدية) على ابن أخيه جعفر الصادق ذات يوم فوجد عنده هذا الملعون شيطان الطاق، وكان قد بدأ يذيع عقيدة العصمة لأناس مخصوصين من آل البيت وحصر الإمامة والتشريع فيهم، فقال له الإمام زيد : يا محمد بن علي أنت تزعم أن في آل محمد إمامًا مفترض الطاعة معروفا بعينه؟ فأجابه: نعم، أبوك أحدهم. قال له الإمام زيد: ويحك، وما يمنعه أن يقول لي؟ فوالله لقد كان يؤتى بالطعام الحار فيقعدني على فخذه ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها، أفتراه كان يشفق علي من حر الطعام ولا يشفق علي من حر النار؟ فأجابه شيطان الطاق: كان يكره أن يقول لك فتكفر فيجب عليك من الله الوعيد، ولا يكون له فيك شفاعة، فتركك مرجئًا لله فيك المسألة وله فيك الشفاعة !(59/6)
ومن ذلك اليوم قرر الشيعة عقيدة العصمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأشخاص عينوهم وجعلوهم مصدر تشريع ، ولو اقتصر الأمر على ذلك لكان هينًا، ولكنهم جاءوا برواة عن هؤلاء الاثنى عشر لم يشترطوا فيهم ما اشترطه أهل السنة في الرواة من الصدق والعلم والأمانة والتقوى، ولو اشترطوا ذلك لقبلوا أمثال الحسن بن صالح بن حي الثوري وأخيه علي، بل لقبلوا أمثال الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل وشيوخهما وتلاميذهما. إن العبرة عندهم ليست للصدق والعلم والأمانة والتقوى، بل للعصبية والحب والبغض، فكل من كان أشد بغضا لأبي بكر وعمر وسائر أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات (عدا ذلك العدد القليل من الصحابة) وكان لا يسمي عائشة إلا ويكتب في جانب اسمها "الملعونة" فهو أوثق تشيعًا وأصدق حديثًا ، حتى لو عرف في حياته الشخصية بأنه أكذب الناس.
كان سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول "اعرفوا الرجال بالحق ولا تعرفوا بالحق بالرجال" فلوى هؤلاء الملتوون مذهبه وعكسوا أمره وصاروا يعرفون الحق بالرجال، وقد بلغ من تحزبهم وتعصبهم (لأسماء) عدد قليل من آل البيت أن اخترعوا لهذا العدد القليل من آل البيت مذهبًا يرويه عنهم أشخاص عرفهم معاصروهم بالكذب والخبث والدس، ولخبثهم كذبوا ودسوا على هؤلاء الاثنى عشر من آل البيت ما لا علم لهم به، وقالوا: إن هذا هو المذهب الشيعي.(59/7)
ولو قام أساس المذهب الشيعي على شريعة مصدرها معصومون بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويرويها عنهم كذابون امتازوا عندهم بالعصبية لأناس والبغضاء لأناس آخرين لكان ذلك أقل شرًا من حكاية الرقاع التي كانوا يكتبون بها الاستفتاء في شرع الله ويدسونها ليلا في ثقب شجرة على مقربة من السرداب الذي غاب فيه إمامهم الثاني عشر وهو صبي دون الحلم ليجيبهم عليها بزعمهم، فإذا كان الصباح وجدوا الجواب الشرعي مكتوبًا عليها بخط مجهول ووسائط مجهولة ، ومثل هذه الرقاع لا يقام لها وزن في قضاء ولا في منطق ولا في عقل من عقول البشر، وهي من مصادر تشريعهم الذي يريد القمي أن يقرب بينه وبين التشريع الإسلامي الذي يعتمد على كتاب الله كما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى السنة المحمدية كما رواها الصادقون عن الصادقين عن هؤلاء الصحابة الكرام البررة المتقين.
وهذا الشاب الأنيق الذي يسمى تقي قمي جاءنا من بلاد هؤلاء، وفتح لعلمائنا وباشواتنا ناديًا في الزمالك سماه دار التخريب بين المذاهب ، ينفق فيه وعليه عن سعة، ويريد منا أن نقرب بين مذهبنا ومذهبه ، مع أنه لم يقم بهذه الدعوة في بلاده ؛ لأنه لا يستطيع أن يقوم بها، ولا يجرؤ لا هو ولا غيره على الجهر بها، ولا يملك لا هو ولا أي عالم من علمائهم أن ينقض عقيدته أو يغير من مذهبه قيد شعرة. وهو يعلم أنه ليس في أهل السنة رجل يجرؤ على أن يعطي لنفسه الحق بأن ينقض عقيدة من عقائد أهل السنة ، ولا أن يحول المسلمين عن كفرهم بكل عصمة للبشر غير عصمة الأنبياء، أو أن يزحزح أهل السنة شعرة عن الاعتقاد بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالنجوم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا : "بأيهم اقتديتم اهتديتم" ، فجاء الشيعة يقولون لنا: إن اقتديتم بهم ضللتم.(59/8)
أنا صريح في أن من المستحيل التقريب بين مذهبين هذا أساسهما. وأسمع من يقول ينبغي "إزالة الفوارق أو بعضها ما أمكن" و"كلما قلت الاختلافات أمكن التعاون" !
ماذا يريدون أن يزيلوا من الفوارق؟
هل يريدون أن نلعن معهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات وهن أهل البيت كما سماهن الله عز وجل في سورة الأحزاب {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} ؟
أم يريدون منا أن نمزق صحيحي البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة وما في درجتها ؛ لأن ما فيها من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم رواه هؤلاء الأصحاب المغضوب عليهم من الشيعة ؟
أم يريدون منا أن نعتقد العصمة في غير الأنبياء، وأن نتخذهم مصدر تشريع، عملاً بما اخترعه شيطان الطاق لهؤلاء الضالين، وأن نقبل من التشريع المنسوب إليهم ما رواه الكذابون المحترقون تعصبًا وبغضًا لخير أمة أخرجها الله للناس؟
وإذا كانت إزالة الفوارق من جانبنا في هذه الأمور مستحيلة ؛ لأن الإسلام نفسه يتغير بها، فأشد منها استحالة أن يتحول شيعي عن شيعيته إلا بالرياء والتقية لدسيسة ينويها أو مكيدة يدبرها، لأن المذهب بني عندهم على التشيع ، أي على التحزب والتعصب. وإذا كنا نحن نقبل في صفوفنا من يخالفنا على صدق وصلاح كالحسن بن صالح بن حي وهو شيعي زيدي، فإن جماعة تقي قمي لا يقبلونه على شيعيته لفرق فرعي بينه وبينهم. وهل الذين هذا موقفهم من الزيدية يمكن أن يزيلوا شيئًا من الفوارق التي بينهم وبين أهل السنة أو الإباضية.
ثم من ذا الذي زعم أن المذاهب ملك لأفراد يعبثون فيها كما يريدون؟(59/9)
إن المذاهب الفرعية المتقاربة التي ترجع إلى أصل واحد - وهي مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل - لا يستطيع فقهاء أي مذهب منها في أي عصر من عصورها أن يزعموا أن لهم سلطانًا في إلغاء شيء من أحكامها أو تعديل شيء منها. فإذا كان لمس المتوضئ يد المرأة الأجنبية ينقض وضوءه عند الشافعي ، هل يستطيع جميع علماء الشافعية – من بلاد الأكراد إلى حضرموت فأندونيسيا – أن يعدلوا فيه ويقولوا شيئًا جديدًا غير المعروف في المذهب؟
وإذا كان هذا في اختلاف فرعي صغير بين مذهبين متقاربين بل متحدي الأسس كالشافعي والحنفي، فكيف باختلاف جسيم يقلب الدين كله رأسا على عقب؟!
نحن نعرف أن البابا له أن يعدل في بعض شئون الكاثوليكية إلى حد ما، ولكن لم نكن نعرف أن في الذين يترددون على دار التخريب من ينتحل لنفسه في الإسلام مثل سلطان البابا في الكاثوليكية !
وبعد ؛ فإن أصحاب رسول الله على مراتبهم – من أبي بكر وعمر إلى من يليهم – هم صفوة البشر والطبقة الممتازة من بني الإنسان في تاريخ الإنسانية، ونحن لا نقبل سبهم والبغي عليهم من يهودي فضلاً عن أن نقبله ممن يزعم الانتساب إلى الإسلام. ودار التخريب يجب أن تُقفل من الزمالك وتُفتح في طهران وأصبهان وقم وزنجان، وأن يكون رأس الدعوة فيها هناك الخجل من التاريخ – بعد الخجل من الله – في ذلك الموقف المزري الذي يقفه الشيعة من خير أمة أخرجت للناس، فإذا غيروا هذا الموقف، وعدلوا عن القول بعصمة غير الأنبياء، وتبرأوا من كل ما بني على هذين الأساسين، حصل التقريب بذلك وتم ما يريدون، وإلا فالعلم وأهله لهم بالمرصاد.
تعليق
1-رحم الله الأستاذ محب الدين الخطيب ، فقد نصح أهل السنة أن لايغتروا بخداع الشيعة – هداهم الله وردهم للحق - .
وهنا رابط كتابه الشهير " الخطوط العريضة للأسس التي يقوم عليها دين الشيعة " :
http://www.saaid.net/book/open.php?book=3291&cat=89(59/10)
2-الواجب على " جماعة الإخوان " بعد أن تبينت حقيقة الشيعة وشعاراتهم ومآلات التقارب معهم ، أن لا تظل أسيرة لاجتهاد مرشدها الذي تبين خطأه ، وأن لاترضى أن تكون " محيَّدة " في هذه القضية المهمة ، وهي تشاهد استغلال دعاة التشييع لهذا الحياد غير الشرعي . وليس المطلوب منها أن تهاجم أو تسب الشيعة – كما قد يتوهم البعض - ، إنما المطلوب أن تُساهم في تحصين أهل السنة عن مذهبهم المنحرف ، وتحذر من استغلال الشيعة لها في خدمة أهدافهم ، وأن لاتجعلها معارضتها للحكام تتخندق في صف الشيعة ، فتكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار ..
3-ومثله يُقال لوسائل الإعلام المحسوبة على الإخوان – لاسيما القنوات ؛ كالرسالة واقرأ والحوار وغيرها – أن تُشارك في التحصين السابق ، من خلال طرح البرامج التي تبرز مكانة الصحابة رضي الله عنهم ، وحكم من ينالهم بسوء ، والتي تحث على وحدة الأمة وفق ماكانوا عليه – رضي الله عنهم - .. إلخ العقائد المناقضة لمذهب الشيعة وغيرهم من المنحرفين.
4-هنا : رسالة " مسألة التقريب بين السنة والشيعة " ( 2 مجلد ) ؛ للدكتور ناصر القفاري . وفيها عبرة لمن لازال مغترًا بوهم التقارب :
http://s203978783.onlinehome.us/waqfeya/books/08/0743/0743_01.rar
http://s203978783.onlinehome.us/waqfeya/books/08/0743/0743_02.rar
والله الموفق(59/11)
تعقيب على الدكتورة ( ليلى الأحدب ) في ترويجها للسفور والإختلاط
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كنت قد ذكرت في رسالتي ( المشابهة بين قاسم أمين ودعاة تغريب المرأة ) ( 27 ) وسيلة من وسائل الإفساد تابع فيها المتأخرون شيخهم قاسم ؛ فكانوا عالة عليه وعلى كتابه ( تحرير المرأة ) حتى في مجال الأمثلة والشواهد الجزئية .
ومما قلته :
(5-الحجاب عادة وليس عبادة:
يقول قاسم: (إن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصاً بنا، ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكنه عادة، معروفة عند كل الأمم تقريباً) ( ص 351 ) .
ويقول: (الحق أن الإنتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية؛ لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام) (ص 357).
ويقول: (لا نجد نصاً في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين؛ كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها) (ص 352).
تعليق: سبق أن المتحررين يعلنون دائماً أنهم ضد العادات وليسوا ضد الإسلام، وهم كذبة؛ لأنهم يجعلون شعائر الإسلام ضمن العادات التي يحاربونها.
مثال ذلك: تركيزهم على أن الحجاب (أي ستر الوجه) من العادات لا من العبادات، وهم يعلمون أن الشريعة قد جاءت بالأمر به، لكنهم يخشون الاعتراف بهذا؛ لأنه يحبط كيدهم.
8-نصف الأمة معطل!
يقول قاسم: (إن النساء في كل بلد يقدرن نصف سكانه على الأقل فبقاؤهن في الجهل حرمان من الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمة) (ص 330).(60/1)
تعليق: هذا الأمر لا تكاد تخلو منه كتابات المتحررين؛ وهو الزعم بأن (نصف الأمة معطل)، وهم النساء إذا التزمن أحكام الشريعة، أو قولهم (المجتمع يتنفس برئة واحدة!)، أو (يطير بجناح واحد!)، ونحو هذه العبارات المخادعة التي توهم السذج بأن النساء إذا لم يخرجن ويتحررن فإنهن يبقين معطلات في البيوت ، ونسي هؤلاء المفسدون بأن المرأة تنتج أكثر من الرجل من خلال رعايتها لبيتها وتربيتها لأولادها، ولكن (قد علم كل أناس مشربهم)، فللرجل أعماله المناسبة له، كما للمرأة ذلك.
وهكذا خلق الله الجنسين في توافق وتكامل ).
هذا ما قلته في تلك الرسالة . وقد ساءني أن تقع الدكتورة ليلى الأحدب في مقالها بجريدة الوطن لهذا اليوم 19/3/1425فيما وقع فيه دعاة تغريب المرأة المسلمة من مشابهة لمفسدها قاسم أمين ، حيث اتبعته في أن الحجاب الشرعي هو مجرد ( عادة ) !! وأن المرأة المسلمة بالتزامها له تكون ( معطلة ) !!!
فتأمل !
تقول الدكتورة في مقالها المعنون ب ( أيهما أحق أن يتبع : التقليد أم الشرع ) تعني أن سفور المرأة هو الشرع !
( وإلى متى يبقى نصف المجتمع معطّلا طاقته بحجة دعاوى ليس لها أساس من الصحة؟) !!
وقد رددت في هذا المقال مغالطات عجيبة تهدف من ورائها إلى الترويج لما هي واقعة فيه من كشف وجهها لغير المحارم ، وهو ما جاء الشرع بتحريمه . حيث نقلت عن صحفية ( لئيمة ) ألمحت في سؤالها للأمير سعود الفيصل أن بعض الإرهابيين يتخفون في عباءات وأغطية النساء !
فالحل إذا : منع المرأة المسلمة من تغطية وجهها حرصًا على أمن بلادنا الذي أقلق الصحفية والدكتورة ما وقع فيه من تفجير !!
وهذا الحل يذكرني بمن يطالب بمنع بيع السكاكين لأن أحد المجرمين ارتكب جريمته بسكين ! وقس على هذا ..(60/2)
لا نلوم الصحفية على هذا اللؤم والخبث الذي اعتدناه من أزلام الصحافة إلا من رحم الله .. ولكننا نلوم الدكتورة العاقلة أن تنساق مع تفاهات المذكورة ، وتسر بمزاحمتها للرجال في المؤتمر وترى فيه - كما تقول - ( عظيم الأثر في رفع شأن المرأة والنظر إليها من حيث هي إنسان لها نفس الواجبات وعليها نفس المسؤوليات, وليس من حيث هي أنثى فقط ينظر لها على أنها عورة وفتنة ولا مكان لها إلا البيت) !!
وهي - هداها الله - تعلم قبل غيرها أن لاأحد يمنع المرأة أن تعمل في مجال الصحافة إذا كانت لا تختلط بالرجال وتنشر ما ينفع المجتمع وبنات جنسها .
ثم ذكرت مثالا للمرأة العاملة المجتهدة .. فلم تجد مثالا سوى إحدى صديقاتها ( وهي سعودية طبعا ! ) تعمل في مجال التمريض ! ولاتنسى الدكتورة بأن تصفها بأنها ( لم تكن تغطي وجهها) !!
فلماذا هذا الترويج لهذه الأمثلة المتبرجة التي لاترى بأسا في الإختلاط بالرجال ؟؟!
ولماذا لم تضرب مثلا بإحدى النساء المتحجبات اللواتي لا يرضين بهذا الإختلاط المشين -وهن بالألوف؟؟!
أم أن وراء الأكمة ما وراءها ؟
وكيف ترضى الدكتورة أن تحمل أوزار من تضل بسببها من النساء اللواتي قد يغتررن بدعوتها للسفور أو للإختلاط ؟
أما تخشى أن تكون ممن قال الله فيهم ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) ؟
فإن قالت : معاذ الله أن أكون منهم . فأقول : ولكنك دعوت إلى أسباب ذلك الموصلة إليه .
ثم خاضت الدكتورة في قضية كشف الوجه ومشروعيتها ، وهذه مسألة قد بينها العلماء وذكروا أدلة تحريمها بما لامزيد عليه ، وردوا على دعاة السفور أدلتهم التي هي كما قال شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - ( إما صحيح غير صريح وإما صريح غير صحيح ) .
وأما أدلة وجوب تغطية الوجه فهي كثيرة جدا لايستطيع دعاة السفور دفعها ولله الحمد . ولذلك تجدهم لا يتعرضون لها عندما يتكلمون على هذه المسألة .(60/3)
وقد كتبت منذ مدة رسالة بعنوان ( وقفات مع من يرى كشف الوجه ) قلت فيها :
( وقد كان المسلمون مجمعين (عمليًا) على أن المرأة تغطي وجهها عن الأجانب. قال الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب" فتح الباري (9/235-236). ونقل ابن رسلان "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"نيل الأوطار للشوكاني (6/114). ومما يؤكد هذا أنك لا تجد مسألة كشف الوجه من عدمه قد أخذت حيزًا كبيرًا في مصنفات الأئمة ، ولم تستغرق جهدهم ووقتهم ، بل لا تكاد تجد – فيما أعلم – مصنّفًا خاصًا بهذه المسألة ؛ ولو على شكل رسالة صغيرة ؛ مما يدل دلالة واضحة أن هذه القضية من الوضوح بمكان ، وأن عمل المسلمين كما هو قائم ، يتوارثه الخلف عن السلف ، وهذا التواتر العملي يدلنا أيضًا على طبيعة تلقي العلماء لمثل هذه المسائل ، وأنهم يرشدون أمتهم لما فيه العفة والطهر والإستقامة على أرشد الأمور ، وأفضل السبل .
ولم يبدأ انتشار السفور وكشف الوجه إلا بعد وقوع معظم بلاد المسلمين تحت سيطرة الكفار في العصر الحديث، فهؤلاء الكفار كانوا يحرصون على نشر الرذيلة ومقدماتها في ديار الإسلام لإضعافها وتوهين ما بقي من قوتها. وقد تابعهم في هذا أذنابهم من العلمانيين المنافقين الذين قاموا بتتبع الأقوال الضعيفة في هذه المسألة ليتكئوا عليها ويتخذوها سلاحًا بأيديهم في مقابلة دعاة الكتاب والسنة. لا سيما في الجزيرة العربية ، آخر معاقل الإسلام ).
( تنبيهات مهمة :(60/4)
1- أن الألباني رحمه الله معذور –إن شاء الله- في ما ذهب إليه من جواز كشف الوجه ؛ لأنه من العلماء الثقات المجتهدين، وقد أداه اجتهاده إلى هذا القول الضعيف، قال صلى الله عليه وسلم : "إذا اجتهد الحاكم ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" متفق عليه. فينبغي علينا حفظ مكانته، لكن مع عدم متابعته على زلته ومع التنبيه على خطئه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة ، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا؛ قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور ، لا يجوز أن يُتْبع فيها ، مع بقاء مكانه ومنزلته في قلوب المؤمنين" بيان الدليل على بطلان التحليل ( ص 203) ، وانظر : الفتاوى ( 32 / 239 ) .
2- إذا كان الألباني معذورًا، فما عذر من يتابعه لمجرد أن قوله وافق هواه وشهوته؟! فهؤلاء غير معذورين، وهم ممن يتتبعون زلات العلماء بعد أن استبان لهم الحق؛ متابعة لأهوائهم. ولتتأكد من هذا فإنك سوف تجد بعض من تابعه في هذه المسألة لا يتابعه – وهو مصيب - في تحريمه للأغاني مثلاً! أو في تحريمه لحلق اللحية! أو تحريم الإسبال! بل لا يتابعونه في الشروط التي ذكرها – وهي حق - للحجاب الشرعي! لتعلم بعدها أنهم ممن قال الله عنهم (اتخذ إلهه هواه).
3- أن الألباني رغم قوله بهذا القول الضعيف فإنه يرى أن تغطية المرأة لوجهها أفضل. قال رحمه الله: "نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن كشف الوجه وإن كان جائزاً فستره أفضل"جلباب المرأة .. ، ص 28. وقال: "فمن حجبهما –أي الوجه والكفين- أيضاً منهن، فذلك ما نستحبه وندعو إليه"السابق ، ص 32.(60/5)
4- أن الألباني عندما اختار هذا القول الضعيف فإنه اجتهد كثيرًا في البحث عن أي دليل يرى أنه يدل عليه. ولكنه في المقابل لا يذكر جميع أدلة من أوجب تغطية الوجه؛ لأنه –في ظني- لا يستطيع أن يجيب عن أكثرها لصراحتها! أما القائلون بتغطية الوجه فإنهم يذكرون أدلتهم، ثم يذكرون أدلة الألباني جميعها ويجيبون عنها ويفندونها. وما هذا إلا دليل على قوة موقفهم –ولله الحمد-
انظر أدلتهم في كتاب ( الصارم المشهور ) للشيخ حمود التويجري . وكتاب ( إبراز الحق والصواب ) للمباركفوري . وكتاب ( عودة الحجاب ) لمحمد بن اسماعيل المقدم .
5- أن الأولى –عندي- لمن يريد أن يناقش من يرون جواز كشف الوجه أن لا يُشغل نفسه بالرد على شبهاتهم ، إنما يكتفي بذكر أدلة وجوب تغطية الوجه مما لا يستطيعون له ردًا ، ولأنه ناقل عن الأصل. وقد ذكرت أهمها كما سيأتي -إن شاء الله-.
6- أن الواجب على المسلم الذي يريد السلامة لدينه أن يلزم النصوص المحكمة الصريحة في هذه المسألة وغيرها ويدع تتبع النصوص المتشابهة؛ لكي لا يكون ممن قال الله فيهم (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة).
7- أنه يلزم من يرى جواز كشف المرأة لوجهها أمام الأجانب في البلاد التي يسود فيها تغطية الوجه ما يأتي :
أ - أن يكون ذلك صادرًا عن اجتهاد منه وتأمل في الأدلة، لا عن اتباع هوى وشهوة.
ب- أن لا يدعو إلى كشف الوجه ؛ لأننا علمنا سابقاً أن تغطية الوجه أفضل وأولى حتى عند القائلين بجواز كشفه ؛كالألباني، فكيف يُدْعى من يعمل بالفاضل إلى تركه ؟! وهل هذا إلا دليلٌ على مرض القلب ، لمن تأمل ؟!(60/6)
ولك أن تعجب إذا رأيت من يتحمس لنشر هذا الرأي الضعيف بين النساء العفيفات المتسترات، ولا تجده يتحمس هذا الحماس لدعوة المتبرجات الفاسقات إلى التزام الحجاب! مع أن المتبرجات يرتكبن (المحرم) بالاتفاق، وأولئك النسوة المتسترات يفعلن الأفضل ! نعوذ بالله من زيغ القلوب وانتكاسها ).
ثم ذكرت أدلة وجوب تغطية الوجه .
فأتمنى من الدكتورة إن كانت تريد الحق أن تطلع على هذه الرسالة التي تجدها في صفحتي بموقع ( صيد الفوائد ) . وكذلك تطلع على رسالة الدكتور محمد بن إسماعيل ( عودة الحجاب ) لتجد الرد على كل شبهات دعاة السفور ، ومن ذلك ما أشكل عليها في حديث ( سبيعة ) .
أخيرًا : مما يلفت النظر أنه في هذا اليوم الذي كتبت فيه الدكتور مقالها صرح مصدر مسؤل في وزارة التربية بأن الوزارة ستبدأ بتطبيق نظام ( البصمة ) في تحديد هوية الطالبات ! فلله الحمد والمنة !
ونسأل الله أن يوفق ولاة أمرنا لتعميم هذا الأمر النافع الذي يتوافق مع ديننا ؛ مصداقًا لقوله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) . ليدرك نساؤنا بعدها التفوق دون أن يتنازلن عن دينهن - كما فعل غيرهن ممن ابتلين بحكومات علمانية أفسدت على المسلمين دينهم ودنياهم . وما بلاد الدكتورة عنا ببعيد !
أسأل الله أن يوفق الدكتورة للخير ، وأن يسخر قلمها لنشره ، وأن لاتأخذها العزة عن قبول نصائح الآخرين، وأن تجتهد في نشر ماتراه ( حجابًا شرعيًا ) بين المتبرجات المرتكبات للمحرم بالإجماع - وهن كثر في بلدها - قبل أن تنكر من يفعل الأفضل ( كما صرح الألباني ) .(60/7)
كفريات ( محمد أركون ) !! - تعليقًا على عادل الطريفي -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في مقالة له بجريدة الوطن بشرنا عادل الطريفي - هداه الله - بأن ( بعض طلبة الشريعة يسألون عن أركون في الخفاء ) !!
ولماذا في الخفاء يا عادل ؟! وكتبه مبذولة لمن أرادها ؟!
إن كتب أركون التي بشرتنا بها ، وفرحت أنت وصحبك باكتشافها مؤخرًا ! وكأنكم قد اكتشفتم إكسير الحياة ؛ قدعرفها أهل الإسلام قديمًا قبل أن يبدو عذارك أنت وبعض طلبة الشريعة ، فلم يجدوا فيها سوى الكفر بالله وآياته ، والتطاول والجرأة على كتابه الكريم ، بلغة فجة ركيكة .
وقد أحببت أن أسوق مقالا مكتوبًا قبل سنين للدكتور محمد الأحمري لخص فيه الفكرة التي لا يجاوزها أركون في جميع كتبه التي يتنطع بكتابتها بالفرنسية ، ثم يقوم تابعه هاشم صالح بترجمتها إلى العربية مضيفًا إليها ما يزيدها ظلمة فوق ظلمتها !
ثم أتبع ذلك من آخر كتب أركون " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل " بما يشهد على أن الرجل باق على هذه الكفريات .
أسوق هذا كله لسببين :
الأول : أن لا ينخدع شباب الإسلام بترويج الطريفي وصحبه لهذا المنحرف ، وأن يعلموا حقيقة ما يساقون إليه .
الثاني : موعظة للطريفي ومن تورط معه في طريق العصرنة - إما لطلب شهرة أو حب للتميز والشذوذ أو لغير ذلك من الأسباب - أن ينتهوا عن هذا الطريق المظلم ، ويحاسبوا أنفسهم ، وينيبوا إلى الحق قبل أن يحال بينهم وبينه بسبب الإصرار ، وأن يتقوا الله في الترويج والمدح لمن يكفر بدينهم وقرآنهم . وأن يعلموا أن طريق العصرنة : أوله شذوذ .. وأوسطه علمنة ...وآخره إلحاد . والواقع شاهد لهذا .
يقول الدكتور محمد - وفقه الله - :
محمد أركون ومعالم من أفكاره(61/1)
تطورت في عصرنا هذا وسائل الدعاية لكل شيء بمقدار لم يسبق له مثيل ، هذه الدعاية في قضايا الكماليات ووسائل الراحة قد تكون معقولة إلى حد ما ، لكن الغريب من أصناف هذه الدعاية، الدعاية الفكرية لعامة الكتاب والشعراء والروائيين إلى درجة تدفع إلى السأم وعدم الثقة بأي شيء يشتهر من كتاب أو كاتب أو صحيفة ، فيجعلك هذا لا تثق بالشهرة لأي عمل، إذ قد يكون في غاية الرداءة والفساد لكن جيوش الإعلام والترويج تحاصرك حتى تفقد بصيرتك. وقد حاصرتنا الدعاية في زماننا ورفعت في وجوهنا مجموعة من الكتاب والمفكرين والأدباء، وألصقتهم في وجوه ثقافتنا كرهاً، وألزمتنا بهم وحاصرتنا كتبهم في كل زاوية ، وليس هذا الحصار فقط بين العرب ، بل لقد شكَت إحدى المستشرقات وقالت : إن أدونيس لم يقل شيئاً ولكن اللوبي الأدونيسي هو الذي أعطاه الأهمية" ! . هذا الجيش الدعائي من وراء كتاب صغار أو مغالطين كبار هو الذي أعطاهم أهمية كبرى في عالم الكتاب العربي .
قال أحد القراء لقد رأيت كتب أركون ولفت انتباهي الدعاية الكبيرة لها؛ فذهبت مع القوم واشتريت منها وقرأت الأول والثاني فما أحسست بفائدة ولا ساعدني الفهم ، وقلت كاتب متعب ولكن زادت الدعاية للرجل فقلت في نفسي : النقص في قدرتي على الدراسة والفهم ، وسكتُّ وخشيت أن أقول لأحد : لا أفهمه ، حتى إذا كان ذات يوم جلست إلى قارئ وكاتب قدير وتناول كتاب "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وقال : لقد حاولت أن أفهم هذا الكاتب أركون فما استطعت ، فكأنما أفرج عني من سجن وقلت : رحمك الله أين أنت فقد كنت أبحث عن قارئ له يعطيني فيه رأياً ، لا الذين أكثروا من الدعاية له دون دراية.(61/2)
وحتى لا تضر بنا المبالغة في هذا إليك نموذجاً للدعاية الأركونية : علق هاشم صالح مترجم أركون إلى العربية في آخر كتاب "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد" يقول هاشم : بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر في حجم المعركة التي يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها ، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد أصبحت واضحة محصورة ، كلما اكتشفت أنها متشابكة معقدة ، شبه لا نهائية. هناك شيء واحد مؤكد على أي حال : هو أن محمد أركون يخوض المعركة على جبهتين جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أًصوليي المسلمين ، وجبهة أصوليي المستشرقين :
وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيْك تميل ؟ (1)
هذا مثل مما يفعل هذا المترجم ، وقد يفاجئك مراراً بالمدح في وسط الكتاب أو في المقدمة أو في الهامش (2) أو في لقاءاته مع أركون التي تمثل جزءاً كبيراً من أعماله ؛ فهذه طريقة في الكتابة جديدة إذ يُجري المترجم حواراً حول أفكار أركون بعد كل فصل أو في آخر الكتاب كما في "الفكر الإسلامي قراءة علمية" ، أو "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد".(61/3)
أثناء قراءة أعمال أركون قد تصادفه ينقد مدرسة عقائدية أو فقهية ، ويحاول أن يقول إنها خرافة، وأسطورة دغمائية كما يحلو له أن يكرر، وتقول : لعله ينصر المدرسة الأخرى ، فهو إما شيعي أو خارجي ، ثم يخرج عليك في صفحة أخرى وهو يعرض بعدم معقولية فكرة الإمامة لدى الشيعة (3) ، ثم في مكان آخر لا يتفق مع الإسلام السني المتزمت في نظره (4) علماً أن السني عنده هم الأشاعرة ، وأما أحمد وابن تيمية فيدعوهما حنابلة متزمتين . وتحاول جاهداً أن تقف تماماً على ما يريد فإذا هو متناقض لا يؤمن بشيء ولا يرى أن لهذا العلم أو التراث الإسلامي أي مكانة إلا في عين المدارس النقدية الغربية ؛ فما أقرته فهو الحق والمحترم - كنص للدراسة ليس أكثر من نص بشري قابل للأخذ والعطاء - وما لا تقره المكتشفات الأسلوبية اللغوية الاجتماعية والنفسية المعاصرة فإنه لا يرى إقراره والاهتمام به لقدمه وتخلفه عن العصر.
ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجُل ما قال في الكتب الأخرى ، وأشار فيه بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
عند أركون أهداف واضحة لمن يستقرئ أعماله ويصبر على التزوير والمراوغة واللعب بالكلمات في غير معانيها حتى يحصل على هدفه الكبير من كل مشروعه وسيأتي بيان الهدف بعد ذكر وسائله إليه .
الوسائل :(61/4)
أول وسائله نقد الكُتاب الإسلاميين الذين ليست لهم صلة بالمدارس الغربية في الفكر ، والذين ليس لهم إلمام بعلوم اللسانيات والاجتماع والنفس والنظريات التي خرجت - فيما يرى - بعد الخمسينات من هذا القرن الميلادي ، وبالتالي يطالبهم بالمشاركة والدراسة لمستجدات النظريات الإنسانية الغربية ، ثم هو يستخدم نظريات ميشيل فوكو في مسائل المعرفة والسلطة ، ويرى تاريخية المعرفة وبكوْنها قابلة للتغيير والتطوير والشمول ، وأهم جوانب المعرفة التي يتحدث عنها المعرفة الدينية بكل أبعادها ، ويرى اعتبار المعرفة الإسلامية نموذجاً أسطورياً لابد أن يخضع للدراسة والنقاش - كما سيأتي - ويرى المجاهرة باعتبار العلوم الإسلامية سياقاً معرفياً أسطورياً يزعج المسلمين ويهز إيمانهم ، ولكن لابد - كما يرى - من بناء مفاهيم جديدة مستمدة من الاحتياجات الجديدة كما فعل السلف، ويرى أن هناك مناطق عديدة في الفكر الإسلامي لا تمس ولا يفكر فيها مثل مسألة عثمان - رضي الله عنه - وقضايا جمع القرآن، والتسليم بصحة أحاديث البخاري والموافقة على الأصول التي بناها الشافعي، ويرى أنه يضع أساساً للاجتهاد وعقلانية جديدة (5) ، وهو يرى أن الوعي الإسلامي قد انشق فيما بين السنة والشيعة ، والوسيلة عنده ليست بالتوفيق بين الجانبين ولا الانتقاء منهما إنما الوسيلة نقد الطرفين وهو يعتنق "النقدية الجذرية" للطرفين وإسقاط كل الحجج التي بأيدي الجميع ، وبالتالي فإن النص السني مغلوط ومزور والنص الشيعي نص العدالة والعصمة مغلوط ومزور وأسطوري، والمطلوب أن يتحرر كل من الفريقين من نصه فيتوحدان (6).
الأهداف :(61/5)
من أهم ما يهدف له أركون في كتاباته المكررة والمملة نزع الثقة من القرآن الكريم وقداسته واعتباره نصاً أسطورياً (7) قابلاً للدراسة والأخذ والرد. وهو يغالط كثيراً في معنى كلمة "أسطورة" ويقول : إنه يعاني من صعوبة هذه الكلمة على أسماع العرب الذين يربطون بين هذه الكلمة وبين الأكذوبة أو الخرافة، لكن ما هي الكلمة التي يستخدمها أركون في تعبيره عن القرآن باللغة الفرنسية التي يكتب كل كتبه بها.
إنه استخدم كلمة MYTHE وبالإنجليزية MYTH وكلتا الكلمتين تعني الخرافة أو الحكاية والكلمتان جاءتا من الكلمة الإغريقية MUTHOS وهي تعني في جميع اللغات الأوربية حكاية خرافية شعبية تتحدث عن كائنات تجسد - بصورة رمزية - قوى الطبيعة والوضع الإنساني (8).
ثم إذا سلم بهذه الأسطورة - بزعمه - فإنها أولاً لم تصلنا بسند مقطوع الصحة؛ لأن القرآن -كما يقول - لم يُكتب كله في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل كُتب بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن فيما بعد (9) وهذه من المغالطات التي يسوقها أركون بكل سهولة ويخلط فيها ما بين قضية الجمع وقضية الكتابة ، وبزعم أن الظروف السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون فقط على قرآن واحد ويتركون ما عداه (10).
ومن أجل أن يمهد لما يريد من إنكار القرآن سنداً في أول الأمر يدخل بعد ذلك إلى نصوص القرآن فيشكك في القصص والأخبار ويرى أن التاريخ الواقعي المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن ، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة! ولنقرأ له هذا النص الذي يجد القارئ في كتبه كثيراً مثله يقول :
"ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس" (11) .(61/6)
ويرى أن القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلا من قِبَل ندرة أهمهم عنده "محمد أحمد خلف الله" عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن القصة القرآنية مفتعلة، ويتحسر على عدم استمرار "خلف الله" ويذكر أن الأسباب التي لم تمكن "خلف الله" في عمله أنه راعى الموقف الإسلامي الإيماني أولاً ، وثانياً : لنقص المعلومات. إذن فقد آل الأمر إلى أركون الذي سيهاجم القرآن؛ لأنه لا يراعي الموقف الإسلامي الإيماني لأنه مطلع على الأبحاث الجارية. ومع زعمه أنه يعرف الأبحاث الجارية التي كتبها فوكو والحاخام دريدا ؛ فإنه يظهر للقارئ بشكل يجعله لا يثق في قدرة أركون ولا أنه فهم ما زعم فهمه من قضايا المعرفة ونقد اللاهوت ونظريات البنيوية وما بعدها (12) ، ويعاني في عرضه للأقوال من عدم التوثيق أو القول الصحيح لما ينقل ؛ إذ يقلب كل قضية قرآنية أو تفسيرية أو سياق لعلم حتى يفسد المعنى ويلويه إلى ما يريد كما مر معنا في مسألة كتابة القرآن ، ومثال آخر يعرِّف الوحي بقوله : "إنه يُدعَى بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت" (13).
معاني القرآن :
لو تجاوزنا قضية شكه في القرآن وردّه للسنة من باب أَوْلى فماذا يفسر به القرآن وكيف يفهمه، إنه يقول : "إن القرآن - كما الأناجيل - ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري ، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً، أما الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس - اعتقاد الملايين - بإمكانية تحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون شغال وفعال ومبادئ محدودة تطبق على كل الحالات وفي كل الظروف" (14) .
ويقول في موضع آخر :
"إن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقَّى بصفتها تعابير أدبية ، أي تعابير محورة عن مطامح ورؤى وعواطف حقيقية يمكن فقط للتحليل التاريخي السيولوجي والبسيكولوجي اللغوي - أن يعيها ويكشفهما" (15).(61/7)
ويفصل أركون بين القرآن والشريعة ، فالقرآن عنده "خطاب مجازي يغذي التأمل والخيال والفكر والعمل ويغذي الرغبة في التصعيد والتجاوز ، والمجتمعات البشرية لا تستطيع العيش طيلة حياتها على لغة المجاز" (16) ولكن هناك البشر المحسوسون العائشون - كما يقول - في مجتمع وهناك أمورهم الحياتية المختلفة التي تتطلب نوعاً من التنظيم والضبط وهكذا تم إنجاز الشريعة (17) ثم يعقب بأن هناك مجالاً أسطورياً مجازياً وهو مجال القرآن، ومجال آخر واقعي للناس هو مجال الشريعة ويقول : "إنه وهم كبير أن يتوقع الناس علاقة ما بين القرآن والشريعة التي هي القوانين الشرعية وأن المناخ الميثي (الأسطوري) الذي سيطر على الأجيال السابقة هو الذي أتاح تشييد ذلك الوهم الكبير ، أي إمكانية المرور من إرادة الله المعبر عنها في الكتابات المقدسة إلى القوانين الفقهية (الشريعة) وحجته في ذلك ما يلي : في الواقع أن هناك أنواعاً مختلفة من الكلام (من الخطاب) وهناك فرق بين خطاب شعري أو ديني ، وخطاب قانوني فقهي أو فلسفي ، ولا يمكن لنا أن نمر من الخطابين الأولين إلى الخطابات الأخرى إلا بتعسف واعتباط"(18) ألا ترى أنك يا أركون قد استطعت أن تمرق من الخطابين .
مكانة السنة عنده :(61/8)
ليس هذا مجالاً لمتابعة هذه الأقوال والرد عليها، فيكفي هنا التعريف بمعالم فكره بما فيها جرأته على الشك في ثبوت وصول القرآن إلينا ، وجرأته على نفي الحديث والزعم بأن الظروف السياسية وأوضاع المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام احتاجت إلى أحاديث وقال : "إن السنة كُتبت متأخرة بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بزمن طويل وهذا ولَّد خلافات . لم يتجاوزها المسلمون حتى اليوم بين الطوائف الثلاث السنية والشيعية والخارجية ، وصراع هذه الفرق الثلاث جعلهم يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة"(19) . وهو يرى أن الحديث هو جزء من التراث الذي يجب أن يخضع للدراسة النقدية الصارمة لكل الوثائق والمواد الموروثة كما يسميها (20)، ثم يقول: "وبالطبع فإن مسيرة التاريخ الأرضي وتنوع الشعوب التي اعتنقت الإسلام - قد خلقت حالات وأوضاعاً جديدة ومستحدثة لم تكن متوقعة أو منصوصاً عليها في القرآن ولا في الحديث، ولكي يتم دمجها وتمثلها في التراث فإنه لزم على المعنيين بالأمر أن يصدقوا عليها ويقدسوها إما بواسطة حديث للنبي ، وإما بواسطة تقنيات المحاجة والقياس" . (21)(61/9)
الشريعة والحياة تلك هي مكانة الشريعة عنده وهذه مكانة أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يرى أي تشريع جاء به القرآن، وأن القرآن خطاب أدبي عاطفي لا علاقة له بالحياة، والشريعة ضرورة اجتماعية أملتها ظروف المجتمع وحاجة الناس، وهي في مجموعها تراث إذا قابلت في الطريق ثقافة مجتمع آخر أو استجد شيء فإن هذا الجديد يدمج في هذا التراث بواسطة حديث أو قياس ، وهو يناقض نفسه تماماً ، إذ لو لم تكن الشريعة من غير هذين المصدرين كأساس لما سعى المعنيون بالأمر - كما يسميهم - لفعل ما كذبه عليهم. وهذا مثال واحد كبير من الغث والانحراف والكفر الذي يملأ به كتبه، كله يناقض بعضه بعضاً، وكفاه زوراً أو جرأة على كتاب الله قوله : "وليس في وسع الباحثين أن يكتفوا اليوم في الواقع بالتكرار الورع للحقائق الموحى بها في الجزيرة العربية في القرن السادس والتي طُرحت منذئذ على أنها بآن واحد مما يمكن تعريفه واستخدامه وأنها متعالية"(22) وهو يرى أن الباحثين - يعني نفسه ومَن تابعه - (إذ حتى كبار الكفار من المستشرقين لم يحملوا على القرآن والسنة والأمة كالحملة التي يقودها أركون ولم يستطيعوا القول بكل هذه الافتراءات في آن واحد) لا يسعهم تطبيق القرآن لأنه نزل في الجزيرة في ذلك الزمن القديم،وهو لا يرى نفسه وهو يقدس ويستسلم لبقايا قوانين الرومان، بل ويحاسب الإسلام على أفكار فوكوه هل تتطابق معها أم لا ، ويقول في نفس الوقت بأن القرآن حقائق، وقد سبق أن قال إنه مجازات عالية وقد أجمع القائلون بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر (23) ، علماً بأن المجاز بالأسلوب الذي يريده أركون أبعد بكثير من المجاز الذي حدث فيه الخلاف بين المسلمين والذي قال فيه الشنقيطي إن وروده في القرآن غير صحيح ولا دليل يوجب الرجوع إليه من نقل ولا عقل ونحن ننزه القرآن على أن نقول فيه مجاز بل نقول كله حقائق . (24)(61/10)
ونقل الشنقيطي عن عدد من العلماء عدم جواز المجاز في اللغة أصلاً فضلاً عن القرآن وهو - أي الشنقيطي - ممن يرى هذا، وأركون لا يرى أن آيات الأحكام هي المجاز، ولا آيات الصفات كما قال بعض السابقين المخالفين لأهل السنة، لكنه يرى كل القرآن مجازات عالية ، ومرة يقول متعالية أي تكون بعيدة عن المجتمع سياسة واقتصاداً واجتماعاً ، إنما تهذيب روحي لا علاقة له بالدنيا.
وليس هذا مكان الحديث عن المجاز ولا الخلاف فيه . لكن جاء بمناسبة خلط أركون وتناقضه؛ إذ يقول : القرآن حقائق نزلت قديماً ثم يرجع ويقول مجازات عالية . إن أركون يهدم كل شيء ولا يقيمك على سنن ولا يثق بأحد ولا بعلم أحد، فهو يسخر من كل مَن سبقه حتى يسخر من الطبري ومن طريقته في التفسير. وما دام قد اجترأ على كتاب الله وسنة رسوله كل هذه الجرأة فماذا يتوقع القارئ عن غيرها. وهناك جوانب عديدة يستنكرها كقضايا الثواب والعقاب والبعث بعد الموت (25) . ويرى في آيات القرآن التي تحدثت عن الجنة وثوابها سياقات شعرية ، وأيضاً يرى رمزية العذاب.
خلاصة :(61/11)
يرى أركون أن القرآن والكتب السابقة تعاني من سياق واحد ، ويضع القرآن مع الأناجيل في مستوى من الثبوت والدراسة واحد ، وبرى أهمية النقد والتجديد. وعمله هذا النقدي السلبي النافي - الذي يمسخ كل الحقائق وكل المعاني - لا يمكن بحال أن يكون مذهباً فكرياً بديلاً ؛ بحيث يحل محل شيء من الفرق أو الجماعات التي وجدت على الساحة الإسلامية وليس بأسلوب يمكن قبوله من قِبل السنة أو الشيعة؛ ذلك أنه يلغي الجميع ويرى العدمية(26) التي يقدمها هي البديل أو التجديد ، فالشك والجحود بكل شيء لن يكون أبداً بديلاً للإيمان ، إذ هذا العدم لا يكون ديناً ولا يبني خلقاً ، وهو يرى - مع هذا - ضرورة النظام في حياة الناس ويرى أهمية القوانين وهذه القوانين عنده تنشئها الضرورة الاجتماعية ، لكن أي مجتمع وأية قوانين ، أما المجتمع فلا يرى أركون أن يكون للإسلام سلطة عليه؛ لذا فليس للإسلام أن يسن أي قانون في ذلك المجتمع إذ ليس للإسلام في نظره أي قانون ولا علاقة بالوجود ، وهو قد بذل وعصر كل سمومه وآفات الملحدين في الغرب لينكر المصادر أولاً ثم لو افترض إثباتها فليس لها حقائق ولا معاني تمس الناس ، ثم إذا فهم منها معاني فتلك المعاني جاءت للحاجة والضرورة ؛ لأنه لم يكن هناك قوانين في المجتمع. وقد علق أحدهم على نمط تفكير أركون وأسلوب تعامله مع النصوص فقال : إن تجديدية أركون هي تجديدية عدمية ولا نحسب أن مسلماً عاقلاً يهتم لقراءة أركون النافية (27) وهذا ملخص لبحث مطول يتناول كتب ومقالات أركون ، ومع أن أعماله غير معقولة لكن - ويا لَلأسف! - إن الذي يتحكم في سلوك وأفكار العالم الإسلامي اليوم هو (اللامعقول) لهذا يحتاج إلى بيان .
( 2 )
كفريات أركون كما جاءت في كتابه الأخير " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل "(61/12)
يقول أركون : ( لننتقل الآن إلى ما يدعوه الناس عموماً بالقرآن. إن هذه الكلمة مشحونة إلى أقصى حد بالعمل اللاهوتي والممارسة الطقسية الشعائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين، إلى درجة أنه يصعب استخدامها كما هي. فهي تحتاج إلى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة كانت قد طُمست وكُبتت ونُسيت من قبل التراث التقوي الورع، كما من قبل المنهجية الفيلولوجية النصانية أو المغرقة في التزامها بحرفية النص ). ( ص 29) .
ويقول : ( كانت الأرثوذكسية الإسلامية تضغط دائماً بالمحرمات على الدراسات القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب ، وقد سهل على المستشرقين في المرحلة التاريخوية والفيلولوجية أن ينتهكوا هذه المحرمات أكثر مما يسهل علينا اليوم.
لماذا؟
لأن العقل العلمي كان آنذاك في أوج انتصاره، وكان مدعوماً من قبل الهيمنة الاستعمارية التي رافقته. هكذا نجد أن المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محققة عن النص القرآني لم يعد الباحثون يواصلونها اليوم بنفس الجرأة كما كان عليه الحال في زمن نولدكه الألماني أو بلاشير الفرنسي، لم يعودوا يتجرأون عليها أو على أمثالها خوفاً من رد فعل الأصولية الإسلامية المتشددة، وهذه الطبعة النقدية تتضمن بشكل خاص إنجاز تصنيف كرونولوجي (أي زمني) للسور والآيات من أجل العثور على الوحدات اللغوية الأولى للنص الشفهي. ولكن المعركة من أجل تحقيق القرآن لم تفقد اليوم أهميتها العلمية على الإطلاق، وذلك لأنها هي التي تتحكم بمدى قدرتنا على التوصل إلى قراءة تاريخية أكثر مصداقية لهذا النص ). ( ص 44- 45) .(61/13)
ويعلق مترجم كتبه هاشم صالح على هذا النص بقوله : ( هذا أمر طبيعي ؛ لأن القرآن يمثل قدس الأقداس . وبالتالي فتطبيق الدراسة العلمية عليه يعتبر جرأة ما بعدها جرأة، بل ويعتبر تدنيساً وكفراً، وذلك لأن الدراسة العلمية سوف تكشف عن تاريخيته في نهاية المطاف،وسوف تربطه بظروف عصره الذي ظهر فيه. وهذا ما تحاول الأرثوذكسية الدينية أن تتحاشاه بأي شكل، بل وهذا ما تخشاه كل الخشية، ودليلنا على ذلك ما حصل في جهة المسيحية الأوروبية عندما حاولوا دراسة الإنجيل دراسة نقدية تاريخية، وكذلك الكشف عن تاريخية شخصية يسوع المسيح، فقد هاج الوعي الإيماني المسيحي عندئذ وحاول أن يمنع ذلك بوسائل شتى، وسوف يحصل في الإسلام نفس الشيء عندما تُنقَل الدراسات الاستشراقية عن القرآن إلى اللغة العربية مثلاً، أو اللغة الفارسية، أو التركية أو غيرها من اللغات الإسلامية، فالدراسة التاريخية تعتبر عدواناً صريحاً على التراث المقدس ).
( بمعنى أنه ما دمنا لم نتوصل بعد إلى نسخة محققة تماماً عن القرآن فإن قراءتنا التاريخية له سوف تظل ناقصة، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها الاستشراق منذ نولدكه وحتى اليوم إلا أن تحقيق القرآن لا يزال يعاني من ثغرات مهمة، ويبدو أن هذه حالة لا مرجوع عنها ؛ لأن كل النسخ التي كانت معاصرة للقرآن دُمرت إلا نسخة واحدة هي النسخة الأرثوذكسية التي فرضتها السلطة الرسمية، فلو بقيت نسخ أخرى معاصرة لهذه النسخة كمصحف ابن مسعود وغيره لاستطعنا التوصل إلى صورة أكثر تاريخية أو أكثر حقيقية للنص وكيفية تركيبه ) .(61/14)
ويقول أركون : ( لقد نوقشت بعض أطروحات الدكتوراه عن القرآن مؤخراً في فرنسا، ولكن أياً منها لم ينشر حتى الآن. أقول ذلك في حين أن الأبحاث العلمية التي كتبت عن التوراة والأناجيل كانت عديدة وطبعت بسرعة، وأما القراءات الألسنية المختصة بنقد الخطاب فلم تكن ممثلة بأفضل مما هو عليه الحال فيما يخص القراءات السيميائية، أقصد لم تنشر ولم تطبع. نقول ذلك على الرغم من أن الدراسات المختصة بتاريخ الألسنيات العربية قد شهدت ازدهاراً استثنائياً خلال العشرين سنة الأخيرة، وهذا أكبر دليل على مدى الحذر الفكري السائد في مجال الدراسات العربية الإسلامية، ويتغذَّى هذا الحذر من خوف الباحثين من الاشتغال على النص المقدس للمسلمين، وأعترف هنا بأن العديد من طلابي في السوربون قد فضّلوا التراجع عن دراسة هذا الموضوع بعد أن سجّلوه على الرغم من أنه يثير شهيتهم الثقافية أو فضولهم المعرفي، ولكنهم خشوا من رد فعل بلدانهم الأصلية إذا ما تابعوا العمل فيه ). ( ص 60 ) .
ويقول : ( نذكر من بين هذه العقبات ذلك التدمير الإرادي للوثائق: كتدمير المصاحف الجزئية للقرآن من أجل ضمان انتصار النص الرسمي المغلق (أو مصحف عثمان)، وكذلك تدمير كل الكتابات المعتبرة غير أرثوذكسية ). ( ص 151) .
ويقول : ( وأما فيما يخص المرأة فعلى الرغم من أنها موعودة بكرامة روحية مساوية للرجل ، إلا أنها أُبقيت داخل مكانة شعائرية وقانونية دنيا (أو أدنى).
لماذا؟ لأن القرآن نفسه لم يستطع أن يلغي كل المحرمات وكل القيود التي كانت تضغط على وضع المرأة في زمن الجاهلية (أو في الفترة التي دعاها بالجاهلية) ) .( ص214-215).(61/15)
ويقول مادحًا الحداثة التي أتت بما لم يأت به الإسلام من حقوق ، وتفوقت عليه : (وينبغي أن نعترف هنا بأن الحداثة هي التي ألغت نظام الرق والعبودية، وهي التي أسست المواطنية على قاعدة جديدة واسعة تلتغي فيها كل التمييزات الطائفية، ولكنها لم تنه بعد عملها البطيء والصبور في تحرير الشرط البشري، وبخاصة وضع المرأة وحماية حقوق الطفل). (ص 215).
ويقول مشككا في الإسلام : ( فهؤلاء اللاهوتيون كانوا يعلّمون آنذاك عقائد من نوع شعب الله المختار، أو لا خلاص خارج الكنيسة، أو أن الإسلام هو آخر نسخة عن الدين الحق، وأنه هو وحده المقبول من قبل الله والملقَّن من قبل خاتم الأنبياء. من الواضح أن تفكيك أنظمة التصورات وأطر الفكر الموروثة عن الماضي لا يزال في بداياته. أقصد تفكيك أنظمة الثقافات المناضلة من أجل بقائها على قيد الحياة والخائفة من تهميش الثقافة المهيمنة لها). (ص 247).
ويتابع : ( في الواقع أن الفكر الإسلامي الحالي لايزال يستعصي على الحداثة ، أو قل لا يزال يقاوم تعايمها وإنجازاتها الأكثر رسوخًا وصحة . إنه لايزال يقاومها باسم " الدين الحق " الذي يرفض أن تطبق عليه أي مراجعة تاريخية أو أي دراسة نقدية ) . ( ص 191 ) .
ويقول مترجم كتبه هاشم صالح : معلقًا ( المقصود بأن الدين الحق لا يُناقش ولا يُمس ولا يُدرس حتى دراسة علمية . إنه فوق الدراسة والنقد ، أو على الأقل هذا مايعتقده المؤمنون التقليديون . إنهم يخشون عليه من الدراسة التشريحية أو التفكيكية التي تظهره على حقيقته التاريخية ، وتزيح بالتالي هالات المثالية والتعالي عليه . وهذا ما فعله المسيحيون التقليديون في أوروبا عندما قاوموا بشدة تطبيق النقد التاريخي على التراث المسيحي ) . ( 191 ) .(61/16)
يقول أركون : ( إن جميع الأديان من يهودية ومسيحية وإسلامية تنافس بعضها البعض على القول بأنها سبقت غيرها إلى التأكيد على القيم التالية : حرية الضمير ، وفضيلة التسامح المرتبطة بالحرية الدينية ، وحرية التعبير ، وحرية تشكيل الروابط والجمعيات ، وتشجيع الشخص البشري على ممارسة استقلاليته الذاتية الكاملة ، وتحقيق مصيره الروحي على هذه الأرض بشكل خاص . ولكننا نعلم أن هذه القيم هي من صنع الحداثة والمجتمعات الأوروبية الحديثة ، ولم تعرفها المجتمعات السابقة ، لا في الجهة الإسلامية ، ولا في الجهة المسيحية ) . ( ص 194 ) .
-----------------------
الهوامش :
1- الفكر الإسلامي فكر واجتهاد ص335 ، "حقاً إن أركون أشد على الإسلام هجوماً من مفكري الروم وسيأتي بيان ذلك".
2- انظر الكتاب السابق ص254 ومواقع عديدة في "الفكر الإسلامي قراءة علمية".
3- أركون ، مقابلة مع أدونيس ، مجلة "مواقف" ، عدد رقم 54 - ربيع عام 1988 ، ص10.
4- أركون ، الفكر العربي ، ترجمة عادل العوا ، ص128 والفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص9. ولعل كتاب "الفكر العربي" أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص غامض لجل ما قال بعد في الكتب الأخرى وفيه إشارة بكثير من التحفظ إلى آرائه في القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
5- عيسى بلاطة ، توجهات وقضايا في الفكر العربي المعاصر ، ص89-90.
6- رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص190.
7- محمد أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص202 وما بعدها.
8- محمد العربي الخطابي ، مقال بعنوان "الأسطورة الأصلية في رأي أستاذ جامعي" ، جريدة "الشرق الأوسط"26/2/1990.
9- محمد أركون الفكر ، الإسلامي نقد واجتهاد ، ص85-86..
10- المصدر السابق ، ص86.
11- أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص203.
12- انظر مجلة الحوار ، عدد 9 ، ص117-118.
13- الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص79.
14- تاريخية الفكر الإسلامي ، ص299.(61/17)
15- الفكر الإسلامي قراءة علمية ، ص191.
16- تاريخية الفكر الإسلامي ، ص299.
17- المصدر السابق ، ص299..
18- المصدر السابق ، ص299.
19- أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص102.
20- أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص103.
21- أركون ، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ، ص108.
22- أركون ، الفكر العربي ، ص174 ترجمة عادل العوا .
23- الشنقيطي ، منع جواز المجاز ، ص8.
24- الشنقيطي ، منع جواز المجاز ، ص51.
25- للتوسع يراجع الفصل الأخير من كتابه "الإسلام أصالة وممارسة" ترجمة د.خليل أحمد ، وأيضاً مواضع متعددة من "الفكر الإسلامي قراءة علمية" .
26- رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص190.
27- رضوان السيد ، الإسلام المعاصر ، ص190.(61/18)
نقد الفكر الغربي (1) : نقد البراجماتية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذه سلسلة جديدة من المقالات أسأل الله أن ينفع بها تتعلق بنقد الأفكار الغربية المعاصرة التي انخدع بها بعض أبناء المسلمين بعد إعراضهم عن مصدر عزهم وقوتهم ، واستبداله بالذي هو أدنى وأضر .
حيث كانت تمر بي أثناء قراءاتي انتقادات متفرقة من بعض الدكاترة والمتخصصين لهذا الفكر الوافد ؛ فكنت أقيد منها ما تيسر وأحفظها إلى حين ، إلى أن رأيت إخراجها مهذبة للقارئ لعله يطلع على الوجه الآخر لتلك الأفكار البراقة المخادعة من أناس ذوي بصيرة وفهم . وليعلم أنه ليس لي في هذه السلسلة سوى الجمع والتهذيب وبعض الإضافات اليسيرة مع التنبه إلى أنني قد حذفت الهوامش لكي لاتثقل على المقال ، ومن أرادها وجدها في الأصل المنقول عنه .
والفكرة الأولى أو المذهب الغربي الذي اخترت الابتداء به هو المذهب ( البراجماتي ) ؛ لسبب مهم ؛ وهو أنه المحرك الأول للسياسة الأمريكية في عصرنا هذا ؛ لاسيما وقد كانت نشأته الأولى على أرضها .
( 1 )
يقول الدكتور سماح رافع محمد في كتابه " المذاهب الفكرية المعاصرة " ( ص 49-52) : ( البراجماتية فلسفة عملية انبثقت من الروح المادية للقرن العشرين ... وهي أمريكية النشأة ، رأسمالية الإتجاه ) .
( وكلمة البراجماتية في أصلها اللغوي مشتقة من كلمة يونانية تعني العمل النافع ، أو المزاولة المجدية ، ويصبح المقصود منها هو " المذهب العملي " أو " المذهب النفعي " ) .
ومؤسسها " تشارلز بيرس " الذي ( كان أول من ابتكر كلمة البراجماتية في الفلسفة المعاصرة ) .
( 2 )
ويقول الدكتور مصطفى حلمي الذي يقول في كتابه " الفكر الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافي " ( ص 203 - 216 ) :
- ( تنسب " البراجماتية " كفرع فلسفي إلى أصل شجرتها المسماة بـ " الوضعية " ، فيجب أن نعرف أولاً بالوضعية ليسهل علينا بعد ذلك فهم معالم الفلسفة البراجماتية .(62/1)
إن الوضعية " هي اتجاه فكرى يقتنع بما هو كائن ويفسره ويرفض : أن ينبغي أن يكون " ، ثم أخذت الوضعية الشكل الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية واسمه " البراجماتية " ، هذا الشكل الجديد يحدده الدكتور توفيق الطويل بقوله " إذا كانت الوضعية قد رفضت التسليم بالحقائق المطلقة والقضايا الميتافيزيقية ، فإن الفلسفة العملية لا تتردد في قبولها واعتبارها صادقة متى كانت مفضية إلى نفع يتحقق في حياة الناس " .
ولفهم مضمون هذه الفلسفة ، ينبغي أن نعرف أولا أصلها اللغوي ثم ننتقل إلى التعريف بمؤسسها " تشارلز بيرس " ، ثم بيان تفصيل الفلسفة عن أبرز فلاسفتها وهو " وليم جيمس " :
الأصل اللغوي يفيد " ما هو عملي " ومن هنا أطلق عليها اسم " الفلسفة العملية " ، ولذلك فإنها تهتم بالعمل على حساب النظر.
إن مؤسس هذا المذهب الفلسفي هو تشارلز ساندر بيرس " 1839 ـ 1914 " م ، وهوصاحب فكرة وضع ( العمل ) مبدأ مطلقًا ؛ في مثل قوله : "إن تصورنا لموضوع ماهو إلا تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر " .
ويتوسع فى دائرة العمل بحيث يشمل المادي والخلقي أو التصور ، وتثمر هذه النظرة للعمل اتساع العالم أمامنا ، إنه عالم مرن ، نستطيع التأثير فيه وتشكيله ، وما تصوراتنا إلا فروض أو وسائل لهذا التأثير والتشكيل .
أما أشهر فلاسفة البراجماتيزم فإنه " وليم جيمس" ( 1842 ـ 1910 م ) الذي تدرج في اهتماماته العلمية والفلسفية التي تلقاها في معاهد وجامعات أوربية وأمريكية حتى حصل على درجة " الدكتوراة " في الطب من جامعة هارفارد سنة 1870 ، وعين أستاذاً للفسيولوجيا والتشريح بها ، ثم أستاذاً لعلم النفس فبرز فيه.
ويتبين من ترجمة حياته أن سبب اتجاهه إلى الفلسفة يرجع إلى سماعه لمحاضرة فلسفية ألقاها " بيرس " الذي كان يعرض فيها مذهبه ، فشعر وليم جيمس على أثرها وكأنه ألقى عليه رسالة محدده ، وهى تفسير رسالة " البرجماتية " .(62/2)
ويعرف وليم جيمس الحقيقة بأنها " مطابقة الأشياء لمنفعتنا ، لا مطابقة الفكر للأشياء ".
ولاختصار الإحاطة بهذه الفلسفة فإن مدخل دراستها يقتضي تحليلها إلى مكوناتها الأساسية في النظم والقيم ، فنحن أمام مقولتين :
الأولي : ازدراء الفكر أو النظر.
الثانية : إنكار الحقائق والقيم.
أي بعبارة أخرى أكثر وضوحاً ، فإن العمل عند جيمس مقياس الحقيقة " فالفكرة صادقة عندما تكون مفيدة . ومعنى ذلك أن النفع والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة ما أو رفضها " .
وقد نبتت فلسفته منذ بداية اهتماماته بها من حاجاته الشخصية ، إذ عندما أصيب في فترة من عمره بمرض خطير ، استطاع بجهوده أن يرد نفسه إلى الصحة ، فاعتقد أن خلاص الإنسان رهن بإرادته ، وكان الموحي إليه بالفكرة المفكر الفرنسي " رنوفيير " الذي عرف الإرادة الحرة بأنها " تأييد فكرة لأن المرء يختار تأييدها بإرادته حين يستطيع أن تكون له أفكار أخرى " .
وكانت تجربة شفائه من المرض قد هدته إلى أهمية العمل ورجحت عنده الاجتهاد في العمل بدلاً من الاستغراق في التأمل " لأن العمل هو الإرادة البشرية استحالت حياة " .
وتلون هذه الفلسفة نظرة أتباعها إلى العالم . فإن العالم الذي نعيش فيه ليس نظرية من النظريات ، بل هو شئ كائن ، وهو في الحق مجموعة من أشياء كثيرة ، وليس من شئ يقال له الحق دون سواه ! . إن الذي ندعوه بالحق إنما هو فرض عملي ـ أي أداة مؤقتة نستطيع بها أن نحيل قطعه من الخامات الأولية إلى قطعة من النظام.
ويلزم من هذا التعريف للعالم ، أنه خاضع للتحولات والتغيرات الدائمة ولا يستقر على حال " فما كان حقاً بالأمس ـ أي ما كان أداة صالحة أمس ـ قد لا يكون اليوم حقاً ـ ذلك بأن الحقائق القديمة ، كالأسلحة القديمة ـ تتعرض للصدأ وتغدو عديمة النفع ".
نقد البرجماتية من وجهة النظر الفلسفية :(62/3)
1- في نقدنا لهذه الفلسفة ، سنبدأ بالمنهج المقارن حيث يتبين أنها في جوهرها الفلسفة هي الرواقية القديمة ، التي أسسها زينون (343ـ 270 الميلاد ) !!
فإذا أباح وليم جميس لنفسه بعث الحياة فيها من جديد ، فإن ذلك يقوض دعائم فكرته عن استبعاد " الحق القديم " كما سنوضح بعد قليل !
2- الحق قيمة مطلقة ـ وليست نسبية ـ وإلا فإن المجتمع يصاب بالفوضى المدمرة لكيانه وبعلاقاته مع غيره من المجتمعات بسبب الحرب .
وبغير الاعتقاد في ثبات المبادئ ، فإننا لسنا أمام فلسفة جديدة وإن بدت كذلك ، ولكنها مجرد إعادة للنظرية الرواقية القديمة " مضافاً إليها الروح النضالية الحديثة " فإن الخير الحقيقي عند الرواقي القديم في حكمة الاختيار وحدها وليس في الشيء المختار الذي يصطفيه " مثله كمثل ضارب القوس يهدف إلى عين الثور فغايته ليست في إصابة الهدف نفسه ، بل إظهار مهارته في إصابته " !!
إن تعليق الحكمة هنا في مظهرها العملي ـ أي على النجاح فى ذاته بصرف النظر عن إصابة الهدف ـ تجعل من المجتمع غابة من الوحوش الضارية يأكل بعضها بعضاً إذ تتنافس على " التفوق " و " الغلبة " ولا تتفق إرادتها على تحقيق أي قيمة من القيم الفاضلة : كالحق والعدل والإيثار وغيرها من الفضائل الإنسانية الثابتة فى ذاتها .
فهل نحن مرة أخرى أمام دليل جديد يثبت أن الفلسفة الغربية تعيش على تراثها القديم ؟!
3- يرى وليم جيمس أن " الحق " إنما هو فرض عملي ، أي مجرد أداة يختبر بها " تصوره " السابق ، ويرى أن الحقائق تنقسم إلى قديمة وجديدة !!
والصواب الذي يتفق عليه أغلب الفلاسفة : أن الحق يستمد قيمته المطلقة من قيمته الثابته خارج مقولتي ( الزمان ) و ( المكان ) .(62/4)
ونراه أيضًا يخلط خلطاً معيباُ بين المبادئ والأهداف حيث يصبها في قالب " المنفعة " ، بينما التفكير السليم يقتضي العكس ، أي الإيمان بالفكرة والعقيدة أولاً عن اقتناع وتثبت بقيمتها الذاتية ، ثم السعي بمقتضاها مهما قابلنا في طريقنا من صعوبات ، فضلاً عن افتقاد " المنافع " وهذا هو منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام .
يقول الدكتور توفيق الطويل في تقييم هذه الفلسفة " ويكفي أن تعتبر البراجماتية الحق أو الخير كالسلعة المطروحة في الأسواق ، قيمتها لا تقوم في ذاتها بل في الثمن الذي يدفع فيها فعلاً ، فالحق فيما يقول جيمس كورقة نقد تظل صالحة للتعامل حتى يثبت زيفها ! ولم يجد أصحاب البراجماتية غضاضة في النظر إلى الحق أو الخير كما ينظرون إلى السلعة التي تطرح في الأسواق ، هذه هي العقلية الأمريكية في الفلسفة وفى الأخلاق وفى السياسة وفى كل مجال "
ونضيف إلى ذلك أن هذه الفلسفة كانت ملهمة للنظام الرأسمالي القائم على مبدأ المنافسة الحرة . ثم ظهرت مساوئه عند التطبيق واستفحلت أخطاره التي تتضح ـ كما يرى الدكتور فؤاد ذكريا - في ثلاثة :
أ اللاأخلاقية: بالرغم من التقيد ببعض الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد ولكنها ـ كفضائل ـ ليست مقصودة لذاتها ، ولكنها تفيد الرأسمالي في تعامله مع الغير ، وتظهر " اللاأخلاقية " بوضوح في أساليب الدعاية والإعلام .
ب الارتباط الوثيق بالحروب.
ج- الانحرافات السلوكية : وأظهرها الإجرام ، إذ إن فتح الباب على مصراعيه للمنافسة والصراعات من شأنه تمجيد العنف ، ويتضح الانحراف بصورة أخرى في شرب المسكرات والمخدرات وعقارات الهلوسة وغيرها " وتفسيرها أنها ظاهرة هروبية من واقع العنف والمنافسة المريرة التي لا ترحم ".(62/5)
4- ولم يسلم ( الدين ) أيضاً من التفسير ( النفعي ) في ضؤ الفلسفة البراجماتية ، " فإن اعتبار شروط وجود الدين وأصوله ونشأته لا أهمية لها عند من يسأل عن قيمة الدين ؛ لأن قيمته فيما ينتجه " .
الفرق بين نظرته للدين وعقيدتنا الإسلامية :
لم يكن " الدين " عند وليم جيمس كموضوع للبحث في ذاته ، ولكن في آثار الانفعال الديني ، وهل هذه الآثار حسنة تحقق الأمل ؟ وهل يمكن الحصول عليها بطريق آخر خلاف الديني ؟
إنه يرى أن للدين أثراً أخلاقياً ، كما أنه يتفوق على أي مصدر آخر للحث على النشاط والمثابرة وفعاليته تظهر بإيحائه المؤثر في الغالب أكثر من الأساليب المادية ، ويضرب على ذلك مثالاً بالطبيب الذي يعترف بأن شفاء المريض لا يتحقق بالعلاج المادي وحده ، بل بالإيحاء الناجم عن قوة الإيمان .
وهذا الرأي ـ كما يقول " برتراندرسل " ـ لا يقنع مؤمناً مخلصاً في إيمانه ، لأن المؤمن لا يطمئن إلا متى استراح إلى موضوع لعبادته وإيمانه ، إن المؤمن لا يقول : إني إذ آمنت بالله سعدت ـ ولكنه يقول إني أؤمن بالله ومن أجل هذا فأنا سعيد .... إن الاعتقاد بوجود الله ـ تعالى ـ في نظر المؤمن الصادق مستقل عما يحتمل أن يترتب على وجوده من نتائج وآثار " .
النظرية الإسلامية :
أما نحن معشر المسلمين فإننا - بحمد الله - نمتلك أعظم ثروة للعقيدة والقيم تضمنها كتاب الله عز وجل ونفذها الرسول صلى الله عليه وسلم ؛حيث حقق في عقيدته وسلوكه وأخلاقياته الأسوة الحسنة ـ وجمع بين " الحق " عقيدة وإيماناً ، و " العمل " أخلاقاً وسلوكاً ، وحدد الأهداف ، ووضع المنهج وأحصى القيم ، مبيناً الطريق الذي يجتازه المسلمون من دنياهم إلى أخراهم ، وقد ألف علماؤنا مجلدات في هذه الأغراض كلها . ولكن يكفينا أن نسجل بهذه المناسبة بعض التعليقات التي تصلح لعلاج آفات " البراجماتية " ، التي تبرهن على أن العقل البشرى لا يستطيع الوقوف وحده بغير عون من الوحي :(62/6)
أولاً :
أ إن الخير هو الذي يحدد الشرع ويستمد إلزامه منه للتسليم بأن الله تعالى هو العليم الحكيم . قال تعالى : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )
يفسر ابن كثير هذه الآية ببيان وجوب الجهاد وآثار قتال أعداء الإسلام من النصر والظفر ثم يمضي في تفسير قوله تعالى : ( وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ) فيذكر أن " هذا عام في الأمور كلها ، قد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خيرة ولا مصلحة ، ومن ذلك القعود عن القتال ، قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى : ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم ، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم ، فاستجيبوا له ، وانقادوا لأمره ، لعلكم ترشدون) .
ب كذلك قد يجهل الإنسان الفروق المرجحة لما يفيده مما يضره ، قال تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) :
أما إثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية ، ولكن هذه المصالح لا توازي المضرة والمفسدة الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا كانت هذه الآية ممهدة للتحريم على البتات كما في سورة المائدة : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) .
ثانياً :
إن النجاح مطلوب ، والسعي والتنافس على فعل الخيرات مرغوب ؛ فإن المؤمن القوي أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ، ولكن ينبغي أن يستظل السعي هدفاً وطريقاًُ بأوامر الشرع والالتزام بآدابه ، وسنورد هنا بعض الآيات للاسترشاد :(62/7)
أ - قد يوسع الله تعالى الرزق للعبد استدراجاً له ، ثم ينزل به عقابه الشديد ، قال تعالى : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ) .
وقال عز وجل : ( والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين )
وقال سبحانه وتعالى : ( أيحسبون أنما نمدهم به من مالٍ وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) .
ب - لا يصلح الله حال أمة إلا إذا صلحت قلوبها وأعدت نفسها للتقوى ، قال تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .
جـ - تكثر المصائب عند فساد الأخلاق ، قال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ ) .
د - وفيما يتعلق بتقوية الإرادة فهناك آية تبين كيف يربى الله تعالى المسلم على تحمل الشدائد حتى يكون قوي العزيمة معداً لتحمل كل خطر : قال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) .
ثالثاُ : " ضرورة أعمال الخير لإقامة المجتمعات الإنسانية :
إن إقامة المجتمع على موازين المكسب والخسارة وحدهما كفيل بهدمه مادامت العلاقات بين أفراده لا تقوم إلا على أساس المصلحة ، والكسب المادي ، فكم من علاقات أخرى تقوم على الإيثار والتضحية وحب الخير لذاته ، وهي التي تكفل تحقيق السعادة للمجتمع ؛ لأن التعاطف والتعاون هما الرائدان في حركة المجتمع الإنساني ، وإلا تحول إلى غابة من الغابات التي يأكل فيها القوى الضعيف.
ومن الصعب ـ بل يتعذر ـ إقناع النفوس بأعمال الخير ، التي لا تقوم بالمال ، إلا بناءً على عقيدة إيمانية راسخة تتحقق أعمالاً خيرة ، وتسعى لاكتساب فضائل أخلاقية وتنميها ابتغاء مثوبة الله تعالى وجنته.(62/8)
إن الحديث عن هذه الأعمال يحتاج إلى مجلد كامل ، ونكتفي بالإرشاد هنا إلى نزر يسير منها ونحيل القارئ إلى المصادر للتوسع في معرفتها وتنفيذها ؛ لتحقق لنفسه الطمأنينة النفسية والسعادة المرجوة ، ولمجتمعه المثالية على المستوى الإنساني الذي تحقق في عصر الحضارة الإسلامية الزاهرة ، مع العلم بأنه كثيراُ ما تشتمل هذه الأعمال على الجزاءين الدنيوي والأخروي :
-عن أبى موسى رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم : " على كل مسلم صدقة " قال : أرايت إن لم يجد ؟ قال : يعمل بيديه ، فينفع نفسه ، ويتصدق ، قال : أرايت إن لم يستطع ؟ قال : يعين ذا الحاجة الملهوف ، قال : أرايت إن لم يستطع ؟ قال : يأمر بالمعروف أو الخير ، قال : أرايت إن لم يفعل ؟ قال : يمسك عن الشر فإنها صدقة " متفق عليه.
-عن جابر رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقه ، وما سرق منه له صدقه ، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقه " رواه مسلم.
وفى رواية له " فلا يغرس المسلم غرساً ، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير ، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ".
وفي الحديث المتفق عليه : " اتقوا النار ولو بشق تمرة" .
( 3 )
أما الدكتور إبراهيم مصطفى إبراهيم فيقول في كتابه (نقد المذاهب المعاصرة : 1 / 119 - 122 ) :
( يمكن توجيه سهام النقد لفلسفة جيمس الدينية في النقاط الآتية :
1- بدأ جيمس آراءه الدينية بقوله : إن الذي يكون صميم الدين ليس الطقوس ولا الفرائض ولا المعتقدات بل يكون صميم الدين العاطفة والشعور الديني
ولكن هذا الرأي يحتاج منا إلى وقفة : فالإيمان لا يتوقف فقط على العاطفة ؛ ذلك لأن العاطفة والوجدان من المعروف عنهما أنهما عواطف متقلبة دائماً ، وبالتالي فالإنسان سوف يؤمن في حالة مزاجية عاطفية وجدانية ، ويعود إلى الإلحاد عندما تتغير حالته المزاجية !(62/9)
وبالطبع فالإيمان ليس كذلك ؛ إنما هو صرح يقوم على أسس عقائدية يؤمن الإنسان ويلتزم بها ويسلم بها لأنها تأتيه من الله تعالى لصالحه.
2- يذهب جيمس إلى أن التجربة الدينية تشارك الله تعالى في خلقها ! وهذا ما يتنافى مع يتنافى مع الوحدانية التي لله تعالى . فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يولد ولم يكن له كفوا أحد .
فلا خالق إلا هو ، سبحانه وتعالى .
3- يذهب جيمس إلى أن الله تعالى شخصية حقيقية متناهية توجد في الزمان !!
سبحان الله ! أي إله هذا الذي يتكلم عنه جيمس ؟ تعالى الله .
إن الإنسان يتصف بالتناهي والنقص والضعف ، والله تعالى عكس ذلك تماماً ؛ فهو الكامل القادر والقاهر فوق عباده ،عنت له الوجوه ودانت له رقاب العباد والبلاد ، فسبحان الله عما يصفون .
4- يقول جيمس : إن الله تعالى لا يستطيع أن يضمن لنا خيرية العالم !! ولن أرد هنا على جيمس بل سأدع القرآن يرد عليه ويبين بعض خير الله النازل على عباده : يقول الله تعالى في محكم التنزيل :
( نحن خلقناكم فلولا تصدقون . أفرأيتم ما تمنون . أ أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون . نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وتنشئتكم في ما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأه الأولى فلولا تذكرون . أفرأيتم ماتحرثون . أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون . لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون . إنا لمغرمون . بل نحن محرومون . أفرأيتم الماء الذي تشربون . أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون . لو نشاء جعلناه أجاجاً فلو لاتشكرون . أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون . نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين . فسبح باسم ربك العظيم ) .
5- ترى البراجماتية بوجه عام وبراجماتية بيرس وجيمس بوجه خاص أن الاعتقاد لا الإيمان لا ينفصل عن الشك ، ومن ثم فالإيمان على مذهب البراجماتيين لا يفارقه الشك .(62/10)
6- من الخطأ في زعم جيمس التمسك الدائم بالمعتقدات ، فالإيمان الراسخ عنده يحجب يحجب عن الإنسان المعرفة الصحيحة !! وهذه مقولة يطرب لها الملاحدة والعلمانيون والمنافقون أينما ثقفوا .
7- لذلك فإنه يلزم ـ فيما يزعم جيمس ـ اختيار صحة العقائد من وقت لآخر ، واستبعاد ما يتضح للمرء عدم صحته منها أو عدم صلاحيته !!
إن معيار اختيار صحة العقائد عند جيمس ومن حذا حذوه هو إخضاعها لمحك التجربة ، فهي التي تميز الحق من الباطل وليس حكم الله تعالى !
فإذا أردنا أن نطبق المنهج البراجماتي على إحدى العقائد ، كاعتقادنا أن الله تعالى هو الرازق على سبيل المثال ، فلا ينبغي على مذهب جيمس البراجماتي أن نظل متمسكين دائماً بهذه العقيدة ، وإنما يتعين علينا اختبارها تجريبيا ، فإذا تبين لأحدنا أن الله تعالى قدر عليه رزقه ، ولم يعطه ما سأل من رزق في أي صورة من صوره ، فعليه أن يتخلى فوراً عن هذه العقيدة !! لأن التجربة أثبتت عدم جدواها ، وهكذا يكون المؤمن على طريق البراجماتية إنه كمن يعبد الله على حرف ! ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) .(62/11)
إن المسلم الحق لا يضع عقيدته موضع الشك ، ولا يجعل إيمانه بالله تعالى موضع اختيار ، بل على العكس تماما ، يؤمن بأن الله عز وجل يختبر عباده ) ولنبلونكم بشيئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) . ويقول تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) . والله تعالى يبتلي العباد بالنعم كما يبتليهم بالنقم ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) فلقد خلق الله الإنسان ليبتليه ليرى هل يصبر أو يكفر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، وإن إصابته ضراء صبر فكان خيراً له " ( رواه مسلم ) .
( 4 )
أما الدكتور محمد مهران رشوان فيقول في كتابه " مدخل إلى دراسة الفلسفة المعاصرة " ( 41، 82-86) :
( الفلسفة البراجماتية اسم يطلق على عدد من الفلسفات المختلفة التي تشترك في مبدأ عام ؛ وهو أن صحة الفكرة تعتمد على ماتؤديه هذه الفكرة من نفع أيًا كان نوع هذا النفع ، أو على ما تؤدي إليه من نتائج عملية ناجحة في الحياة ) .
( أهم الانتقادات التي توجه إلى البراجماتية ، نوجزها في التالي :
1- أن البراجماتية لا تقدم لنا بحثاً إيجابيا عن الحقيقة . إذ إنها مجرد منهج لاكتشاف الأفكار الخاطئة ، وهي التي ليست لها آثار عملية . وهذا منهج سلبي لا إيجابي ، لأنها لا تهدف إلا إلى استبعاد الأفكار الخاطئة ، تلك التي لا تكون لها هذه الآثار العملية . والاستبعاد ـ كما هو واضح ـ منهج سلبي للكشف عن الحقيقة وليس إيجابيا بحال من الأحوال .(62/12)
2- يلاحظ بعض الباحثين ذلك الامتداد غير المشروع لفكرة المنفعة ، فقد كان " جيمس جيمس " والبراجماتيون يفخرون باتساع أفقهم ، ولكن الحق أن هذه الروح الفضفاضة تبلغ حداً يؤدي إلى القضاء على كل معني لكلمة " النافع " عندما كانوا يعرفون الحقيقة عن طريق المنفعة . فالنافع في اللغة المتداولة هو ما يفي بحاجة " حيوية " ؛ إلا أن البراجماتيين قد أضفوا على كلمة الحاجة معان بلغت من الكثرة حداً لم تعد معه تدل على شيئ ، حتى ولا كلمه " النافع " ذاتها .
فهناك حاجات ترمي إلى حفظ الحياة والعمل على استمرارها ، ولكن من الممكن أن نطلق اسم " الحاجة " على ما يعبر عن أكثر الميول الوجدانية تنوعاً : فالمرء بحاجة إلى أن يكون محترماً ، محبوباً ، كما أنه بحاجة إلى أن يحب ، والى أن يرى من يحبهم سعداء . والغيورون الحاقدون بحاجة إلى أن يروا الآخرين تعساء وأقل سعادة منهم . والمرء بحاجة إلى الإيمان بوجود الله ، وخلود النفس . كما أن هناك حاجات عاطفية وعقلية كالحاجة إلى المعرفة والفهم ... وهكذا نلاحظ أن " حاجات " الإنسان و " المنافع " التي تناظرها تبلغ من التنوع حدا يجعل كل تعريف للحقيقة بالمنفعة ينتهي آخر الأمر إلى أنه لا يوضح من طبيعتها أي شيئ .
3- لا شك في أن " الحقيقي " نافع على نحو ما ، إلا أن ذلك لا يستتبع القول بأن المنفعة هي أساس لتعريف الحقيقة . فالحقيقي نافع لأنه " حقيقي " قبل أي اعتبار للمنفعة .وقد ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن المذهب البراجماتي يعرف الحقيقة بأنها ما يفي بالحاجة ، غير أن أول ما نحتاج إليه عندما نبحث عن الحقيقة هو ألا نكون براجماتيين !!(62/13)
ومعنى ذلك أن القاعدة الأساسية التي نضعها عندما نشغل أنفسنا بالكشف عن الحقيقة هي أن نصرف كل اعتبار للمنفعة ، ولو تطرق الشك إلى نفوسنا وآمنا بشيء لأننا بحاجة إلى هذا الإيمان ، لفقد الإيمان إذن كل قيمة له . ومرة أخرى نقول " إن الحقيقي نافع لأنه حقيقي ، وليس حقيقياً لأنه نافع " .
ولنتصور الحالة العقلية لمريض يقول لطبيبه " لا تقل لي سوى ما أحتاج إلى تصديقه " ، ألا يكون قوله هذا توسلا إليه أن يكذب ؟
وهكذا ينتهي الأمر بالبراجماتية إلى أن تكون نظرية الأكذوبة الحيوية التي تقوم على أساس من نزعة الشك .
إن جيمس ـ ومعه بقية البراجماتيين ـ يلعبون لعبة خاسرة مع الحقيقة . فهو إذ يجعل من الحقيقة : حقنا في الاستمرار في الاعتقاد بما ينفعنا ، إنما يرفض مفهوم الحقيقة بأسره . إن وضع الفكرة ذات النتائج المرضية مكان مفهوم الحقيقة معناه فتح الباب لأي خيال لذيذ . فماذا يمكن أن يرضي الإنسان أكثر من استمراره في الاعتقاد بأنه ذكي بينما هو في الواقع أبله ؟!! ان العالم مليء بالكثير من السخف الذي يستشعر معه الإنسان قسطا من المتعة .
وإذا كان تقديم الأفكار يتم على أساس ما تؤدي إليه من نتائج عملية ، فعند أي حد نستطيع أن نحكم على فكرة معينة بناء على هذا الأساس ؟ فلو كان هناك شخص يعتقد أن الطريقة لحل مشكلاته الاقتصادية هي السيطرة على أحد البنوك ، لكانت هذه الفكرة صحيحة أحياناً ، لما يترتب عليها من نتائج عملية . إلا أن البراجماتيين يصرون على أن المرء لا بد أن يضع في حسبانه لا مجرد النتائج المباشرة التي تترتب على الفكرة ، بل آثارها البعيدة أيضاً .(62/14)
وهنا قد نقول إننا لا نستطيع أن نعرف النتائج العملية لهذه الفكرة ، مادامت النتائج البعيدة قد تستمر إلى غير ما حد . فقد تعمل الفكرة بنجاح في وقت معين ، ثم تفشل في وقت آخر ، ثم تعود للنجاح بعد ذلك . ومعنى هذا أننا ينبغي علينا أن ننتظر بلا نهاية لكي نتمكن من تقييم نتائج أي اعتقاد ، ومن تقرير ما إذا كانت له نتائج عملية أم أنه يفتقر إلى مثل هذه النتائج .
4- أما تطبيق النظرية البراجماتية عن الحقيقة في مجال العلم ، وما ذهب إليه جيمس جيمس والبراجماتيون من أن قضايا العلم قضايا حقيقية لأنها مفيدة عملياً ، فيبدو نسفاً للحقائق العلمية من أساسها !
إن قبول نظرية معينة واعتبارها صحيحة بدون برهان ولمجرد أنها نافعة أو أنها ترضينا من ناحية ما ، هو نقيض الموقف العلمي تماما . إن الفرض المرضي فحسب هو في أغلب الأحيان أقرب الفروض إلى الخطأ .
5- أما تطبيق الفكر البراجماتي على المعتقدات الدينية ، فيبدو بالنسبة لنا كارثة ! فإننا لا نسلم بالحقائق الدينية لمجرد أنها نافعة – في نظرنا القاصر - ، بل لأنها حقائق في ذاتها بصرف النظر عن فائدتها ونتائجها العملية الناجحة – بحسب النظرة القاصرة - . لأننا لو سلمنا بهذا المعيار البراجماتي ـ كما فعل جيمس ـ لكانت أية عقيدة ـ مهما تكن أسباب إنكارنا لها ـ حقيقة لمن يرى أنها نافعة له ، فتستوي بذلك النحل والبدع والديانات المحرفة مع الدين الحق ( الإسلام ) !!
لقد تنفس جيمس الصعداء لاستطاعته إزالة العراقيل التي كانت تقف في طريق معتقداته الدينية ، ولكنه كما قال " سنتايانا " بقسوة " لم يكن يؤمن حقيقة ، كان يؤمن بأن من حق الإنسان أن يؤمن بأنه يمكن أن يكون على حق لو آمن " !
إننا لو قلنا لشخص ما " إنني أعتبر عقيدتك خرافة ، ولكن إذا كانت مفيدة لك فهي عقيدة حقيقة بالنسبة لك " . أليس في ذلك سخرية به ؟!(62/15)
6- إن البراجماتية تركز على الفرد ، وتعلي من " الفردية " إلى أقصى حد . وهي بذلك تعكس الفردية الممزقة التي سادت أمريكا في القرن التاسع عشر . وهذه الفردية بما يرتبط بها من فوضى وغموض تجعل الأفراد عاجزين عن تحمل النظام والرقابة والمهام الاجتماعية .
إن هذه الفردية هي التي جعلت أواصر قربى بين البراجماتيين وبين الفيلسوف السوفسطائي " بروتاجوراس " حين قال : " إن الإنسان مقياس الأشياء جميعاً " . وقد كتب " شيلر " يقول " ينبغي علينا أن نعود مرة أخرى إلى ما فعله بروتاجوراس ، فنتخذ الأحكام الفردية لأشخاص مفردين نقطة بدء لنا " . لكن ليس لنا أن ننسى أن بروتاجوراس هو أحد هؤلاء الذين كانوا يخلطون الحق بالباطل ، لكي يتصيد في الماء العكر ما هو زائف ومريح ، ويشيد صرح الخطابة على أنقاض الفلسفة . لقد لاحظ أفلاطون بحق في " ثيتاتوس " أننا لو سلمنا بمبدأ بروتاجوراس ، لكان معنى ذلك التسليم بأن حجج المجنون تعادل في صدقها حجج العاقل ، وأن أحط الحيوانات شأنا قد يكون له رأي في الكون لا يقل حصافة عن رأي الإنسان الحكيم !!
وبعد ... إن البراجماتية قد تصلح لأولئك الذين يتمتعون بروح عدوانية ، تسعى إلى السيطرة النابليونية . أما بالنسبة لأولئك الذين يتمتعون بالروح الإنسانية ، ويتمسكون بالمثل العليا ، والقيم الدينية ، فإن البراجماتية تبدو لهم ضيقة الأفق ، محدودة الإطار، مخيبة للآمال ) .
قلت : ومن أراد الزيادة فليعد إلى كتاب الدكتور توفيق الطويل " فلسفة الأخلاق " ، وإلى رسالة " الفلسفة البراجماتية في مجال التربية " للأستاذ عبدالله الزيلعي ( لم تطبع بعد ) . وكتاب " في الفلسفة الحديثة والمعاصرة " للدكتور محمد الشنيطي . والله أعلم.(62/16)
موقف أئمة الدعوة السلفية .. من أهل البيت
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يسوؤني كثيرا عندما أرى بعض الردود والتعقيبات على أناس ينتمون لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يكتبون في هذا المنتدى ( والناس مؤتمنون على أنسابهم ) ؛ لما أرى من الجفاء معهم مما يتجاوز حد الإعتدال شرعًا ، إضافة إلى أن نصح المسلم أمر مطلوب وهو من حقوقه الشرعية ؛ فكيف إذا كان من أهل البيت ؟
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل لإخواني كلمات يسيرة ومهمة عن بعض أئمة الدعوة السلفية في وجوب حفظ حقوق أهل البيت ، وتوضيح هذه الحقوق ، دون غلو أو جفاء .
يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في حق أحد الأشراف ؛ مبيناً خطأ الذين أنكروا هذا الحق: ( وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو ونحن ما أنكرنا إلا إكرامهم لأجل ادعاء الألوهية فيهم أو إكرام المدعي لذلك) . (مؤلفات الشيخ الإمام (5) الرسائل الشخصية ص (284).
ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب : ( وأما أهل البيت: فقد ورد سؤال على علماء الدرعية في مثل ذلك، وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت –رضوان الله عليهم- لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم، والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك، كالجلوس في صدور المجالس، والبداءة بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك، إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن والعلم).( الدرر السنية 1 / 232-233) .(63/1)
وقال الإمام عبدالعزيز بن سعود بن محمد : ( من عبدالعزيز بن سعود: إلى جناب أحمد بن علي القاسمي، هداه الله، لما يحبه ويرضاه. أما بعد: فقد وصل إلينا كتابك، وفهمنا ما تضمنه من خطابك، وما ذكرت من أنه قد بلغكم: أن جماعة من أصحابنا، صاروا ينقمون على من هو متمسك بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن مذهبه مذهب أهل البيت الشريف. فليكن لديك معلوماً أن المتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه أهل البيت الشريف فهو لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولكن الشأن: في تحقيق الدعوى بالعمل ).
ثم قال: ( وأما ما ذكرت: من أن مذهب أهل البيت أقوى المذاهب، وأولاها بالاتباع، فليس لأهل البيت مذهب، إلا أتباع الكتاب، والسنة، كما صح عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، أنه قيل له: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: لا؛ والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهم يؤتيه الله عبداً في كتابه، وما في هذه الصحيفة... الحديث؛ وهو مخرج في الصحيحين . وأهل البيت رضي الله عنهم كذبت عليهم الرافضة ، ونسبت إليهم ما لم يقولوه ، فصارت الروافض ينتسبون إليهم ، وأهل البيت براء منهم .....) .(63/2)
إلى أن قال: ( فإن أصل دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته، عليهم السلام، هو: توحيد الله بجميع أنواع العبادة، لا يدعى إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه؛ كما دل على ذلك الكتاب العزيز. فقال تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)، وقال تعالى: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء)، وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)، وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). فهذا التوحيد، هو: أصل دين أهل البيت –عليهم السلام- من لم يأت به، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته براء منه، قال تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئٌ من المشركين ورسوله).
ومن مذهب أهل البيت: إقامة الفرائض؛ كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج . ومن مذهب أهل البيت: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإزالة المحرمات . ومن مذهب أهل البيت: محبة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان؛ وأفضل السابقين الأولين: الخلفاء الراشدون، كما ثبت ذلك عن علي من رواية ابنه محمد بن الحنفية، وغيره من الصحابة، أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، والأدلة الدالة على فضيلة الخلفاء الراشدين، أكثر من أن تحصر.(63/3)
فإذا كان مذهب أهل البيت ما أشرنا إليه، وأنتم تدعون أنكم متمسكون بما عليه أهل البيت، مع كونكم على خلاف ما هم عليه؛ بل أنتم مخالفون لأهل البيت، وأهل البيت براء مما أنتم عليه؟ فكيف يدّعي اتباع أهل البيت من يدعو الموتى، ويستغيث بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته؟! والشرك ظاهر في بلدهم، فيبنون القباب على الأموات، ويدعونهم مع الله، والشرك بالله هو أصل دينهم، مع ما يتبع ذلك من ترك الفرائض، وفعل المحرمات، التي نهى الله عنها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسب أفاضل الصحابة: أبو بكر، وعمر، وغيرهما من الصحابة؟! ) . (الدرر السنية 1/269- 272).
وقال أبناء الإمام محمد بن عبدالوهاب والشيخ حمد بن ناصر المعمر : ( وأما السؤال عما ورد في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: قد صح في فضائل أهل البيت أحاديث كثيرة؛ وأما كثير من الأحاديث، التي يرويها من صنف في فضائل أهل البيت، فأكثرها لا يصححه الحفاظ؛ وفيما صح في ذلك كفاية) (الدرر السنية 1/210- 213)
انظر رسالة الدكتور ناصر العقل - حفظه الله - ( إسلامية لا وهابية ، ص 131 - 134 ) .
أخيرا أقول لكل من ينتمي لأهل البيت : والله إنا نتقرب إلى الله بحبكم ، ونسعد عندما نراكم متمسكين بسنة نبيكم وهديه صلى الله عليه وسلم ، وأنتم – لا شك – أولى الناس من غيركم بحمل عقيدته وسنته ونشرها والدفاع عنها ، ومكافحة كل بدعة دخيلة عليها . وأبشر الجميع بظهور جمع كريم من طلبة العلم السلفيين المنتمين نسبًا لأهل البيت ، يتصدرون الناس في حمل الدعوة الصحيحة – زادهم الله توفيقا - . وأنصح بالرجوع إلى الرسالة القيمة ( العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط ) للدكتور سليمان السجيمي .(63/4)
الرد على .. [ الماجن1] الذي أوصى بقراءة كتب قاسم أمين !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قامت إحدى الفضائيات مؤخرًا باستضافة أحد ( المجان ) للحديث عن قضايا المرأة المسلمة ! فأوصى الجميع بقراءة كتب شيخه قاسم أمين !! وكتاب " تحرير المرأة في عصر الرسالة " للهالك عبدالحليم أبوشقة !
فكان لقومه .. كالغراب الذي يدل على الخراب ..
ليبوء بإثمه ، وإثم من يضل بسبب نصيحته .
ولو كان الرجل يعيش في عصر قاسم لالتمسنا له بعض العذر ؛ حيث لم تتبين له حقيقة الدعوة الإفسادية بعد .... ولكنه للأسف يعيش بعد ( 100 ) عام أو أكثر على تلك الدعوة المخربة .
وقد شاهد - كما شاهد الجميع - آثارها وماجنته على البلاد المصرية ؛ حيث كانت فاتحة شر على أهلها .. وسببًا رئيسًا في إيهان قوتها ، وترويضها للمحتل الإنجليزي - حينذاك - .
ولكن - ولله الحمد - قد لفظها أهل مصر فيما بعد لما تيقنوا ضررها ، وأنها مجرد شعارات فارغة .. لا يوجد تحتها سوى الفساد الأخلاقي العريض الذي صدقه الواقع .
فهل يريدنا هذا ( الماجن ) ومن يُمَكن له من توجيه نسائنا : أن نبدأ من حيث بدأ الآخرون ، فلا نستفيد من التجارب ؟!
تخيل : لو كنت تسير خلف إنسان فعثر في حجر أو سقط في حفرة .. هل تعثر أوتسقط خلفه ؟!
ماذا سيقول عنك العقلاء حينئذ ؟!
أما كتب قاسم أمين : فقد قرأها المسلمون ، ولم يجدوا فيها سوى محاولة مسخ المرأة المسلمة ، وجعلها تابعة ذليلة لنساء الغرب الوضيعات .
وتحدثوا وأطالوا في كشف باطلها .
فمابال هذا ( المريض ) ومن معه يصمون آذانهم ؟! ويحاولون إحياءها من جديد ؟!
وأنصح القارئ أن يعود إلى كتاب ( عودة الحجاب ) للشيخ محمد بن إسماعيل - وفقه الله - ، ومذكرة بعنوان ( المشابهة بين قاسم أمين ودعاة تحرير المرأة ) في موقع صيد الفوائد .(64/1)
وأما كتاب ( أبوشقه ) الذي فتن به ( الماجن ) ؛ فقد كتبت مذكرة قديمة في نقده تجدها في الموقع السابق . ثم اطلعت - فيما بعد - على مقال جميل عنه للأستاذ جمال سلطان - وفقه الله - نشره في كتابه ( ثقافة الضرار ، ص 71 - 74 ) .
أسوقه للقارئ فيما يلي :
تحرير المرأة في عصر الضلالة !
بقلم / جمال سلطان
( لا تزال قضية ما يسمى بتحرير المرأة تمثل محوراً أساسياً في حوارات المثقفين والمثقفات العرب، تخفتُ حيناً لتعود إلى الظهور مرة أخرى، مواكبة لحركات المد والجزر في تحولات الصحوة الإسلامية في أقطار العرب المختلفات من المحيط إلى الخليج.
وقد تابع الكثيرون تظاهرات نسائية جزائرية حشدتها بعض الأحزاب العلمانية والتجمعات النسائية المضبوطة على موجات البث الفرنسي، وكان الداعي العصبي لهذه التظاهرات الغاضبة هو الرفض الحاسم من قبل "أحرار نساء الجزائر" للتوجهات الظلامية والأفكار الإرهابية التي تصدر عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والتي تهدد مستقبل المرأة الجزائرية وحريتها وكرامتها.
الجدير بالذكر هنا، أن هذه التجمعات النسوية وحلفاءها من الأحزاب العلمانية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لم تحشد مثل هذه التظاهرات أو نصفها أو عشرها للدفاع عن "كرامة" الإنسان الجزائري، وحريته، وحقوقه الإنسانية الأولية، ولم تحشد مثل هذه التظاهرات ضد "الحكومة الجزائرية" –مثلاً- بوصفها صاحبة السلطات والقوة القاهرة التي تمارس بها تنفيذ سياساتها الاقتصادية والتربوية والإعلامية التي تُهدّد مستقبل الإنسان الجزائري برمّته، في حين برزت التظاهرات العصبية ضد حزب معارض، لم يكن يملك –حينها- سلطة الحسم والتوجيه لمستقبل دولة، بل كان واضحاً تماماً للمراقبين الدعم الإعلامي والتنظيمي الذي تقدمه الحكومة لهذه التظاهرات من خلال أجهزتها الإعلامية المختلفة.(64/2)
لقد كان واضحاً أن مثل هذه التظاهرات "التحررية" مجرد "خطوط دفاعية أولى" لقوى التغريب والتبعية السياسية والثقافية في الحكومة وغيرها، لإعاقة المد الإسلامي أو تفتيت جهوده حتى يصل إلى معركة "الحسم" منهك القوى، مثخناً بالجراح.
الظاهرة نفسها تكررت بوجه آخر في "الأردن"، حيث دفعت العلمانية بخطوط دفاعها الأولى لمواجهة النمو المتزايد لنفوذ القوى الإسلامية في البلاد . فاستعملت القضيتين التقليديتين: أمن الدولة، وأمن النساء، وظهرت زعامات تحرير المرأة، التي تتحدث عن اضطهاد المرأة في الخطاب الإسلامي ، وأثيرت قضية "الفصل بين الجنسين"، حين أصدرت وزارة التعليم الأردنية –وزير إسلامي في الحكومة السابقة- قراراً تنظيمياً بهذا الخصوص، لتلاشي الآثار الأخلاقية السيئة التي يفرزها الاختلاط الجنسي، فما كان من "زعماء تحرير المرأة" إلا أن أعلنوا الحرب على "الإجراء التنظيمي"، وكان أمراً عجباً، أن تقف امرأة أردنية "زليخة" على مرمى حجر من القدس الملتهبة، لترى أن معركتها الأولى والمصيرية هي في الدفاع عن حقها في مخالطة الرجال !
الظاهرة ذاتها متكررة في مصر، وبين الحين والآخر تدفع "القوى الظلامية" ببعض الوجوه المعروفة لإثارة زوبعة حول "المرأة المضطهدة"، وكثير من هذه التجمعات النسوية في مصر، انفضح أمرها في غمرة جهادها التحرري! وتكشفت أبعاد دورها عندما كشف النقاب عن "نفق الدولارات" الذي ينساب في جيوب المتنفذات من زعماء تحرير المرأة، على النحو الذي تكشفت فيه فضيحة "نوال السعدواي" وتلقيها أموالاً "سرية" من مؤسسة "فورد فونديشن" الأمريكية، وغيرها من المؤسسات الإنجليزية والهولندية.(64/3)
اللعبة واضحة، والأسلوب شبه متطابق في تنفيذه في مختلف ديار الإسلام ، الأمر الذي يستدعي من الإسلاميين منهجية جديدة في التعاطي مع هذه الظاهرة وحيلها وتكتيكاتها، فالأمر لم يعد يحتمل أن يتصدى معه الإسلاميون لهذه الهجمات التافهة والمأجورة بالمنطق نفسه الذي استعمله "محمد عبده" و"قاسم أمين"، كأن أضع نفسي في قفص الاتهام بمحض إرادتي، ثم أبدأ في طرح "دفاعي المجيد" عن براءتي، ثم تبدأ نشوة الفصاحة الثقافية في دغدغة مشاعر القضاة وممثلي الادعاء بتقديم بعض التنازلات التي تبيض وجه المسلمين والإسلام، دون أن ندري أننا قد فتحنا "الثقب" في جدار القيم الإسلامية الأصيلة، ليبدأ سيل التخريب والتدمير يأتي على "منظومتنا" من أطرافها حتى يصل إلى التذويب الكامل.
ولكننا –مع الأسف- مازلنا نجد بعض الإسلاميين يتخذون المواقع القديمة نفسها، كأن الهزيمة النفسية أصبحت قدراً مقدوراً في فكرنا الإسلامي المعاصر، مازلنا ننطلق مع مواقع الدفاع، وما زلنا نقدم شهادات البراءة لمن ؟ لمجموعة من المتهوكين والفسقة –بمنطق الشرع- لا يملك أي منهم أو منهن أي مصداقية أخلاقية أو علمية، ناهيك عن أن يملك القداسة، التي تبيح له تبوأ مقام المرجعية لبيان الحق والباطل، والرشد والضلال، في القيم والمفاهيم والأفكار.(64/4)
لقد عنى أحد الباحثين المصريين مؤخراً بإصدار "موسوعة" ضخمة سماها "تحرير المرأة في عصر الرسالة" تقوم بكاملها وفق ذلك المنهج الدفاعي، منهج الخذلان، الذي اختطه الشيخ "محمد عبده"، والتقط الخيط الكاتب الصحفي "فهمي هويدي" الذي عرض للكتاب عرضاً مثيراً في مقال له بجريدة الأهرام المصرية، وتوقف فيه طويلاً عند الكشف الكبير الذي أبرزه الكاتب، وهو "حق المرأة في المبيت وحدها خارج بيتها" ؟! والتأكيدات والمستندات الشرعية التي قدمها الباحث لهذا الحق المبدئي المقدس، وبطبيعة الحال ليس مثل "فهمي هويدي" بالمغفّل حتى يجهل الأبعاد الاجتماعية المعاصرة التي يوظّف في سبيلها هذا الكلام، ولكنها الاندفاعية المتهورة في "مزلق" تمدين الإسلام، وغياب التصور الشامل لأبعاد المعركة .
لقد كتب "فهمي هويدي" مهاجماً الحركة الإسلامية في فلسطين لأنها طرحت في برنامجها التأكيد على "الهوية الإسلامية" لفلسطين المحررة، ورأى أن تلك قضية جانبية لا ينبغي أن تفتت الصفوف وتشغل الجهود، ثم هو يعود ليتحدث –في أوسع منبر إعلامي بالشرق- عن القضية المصيرية للمرأة المسلمة، وهو "حقها في أن تبيت خارج بيتها"!
أخشى أن يكون مثل ذلك البحث لا يبحث عن معنى "تحرير المرأة في عصر الرسالة" وإنما يبحث عن ثوب إسلامي مزيف يكسو به دعوى " تحرير المرأة في عصر الضلالة " ! ) . انتهى مقال الأستاذ جمال .
تنبيهان :
الأول : للدكتور محمد فؤاد البرازي كتاب بعنوان ( حجاب المرأة المسلمة .. ) تعرض فيه لكتاب ( أبوشقه ) وتعجب من عده انتشار الحجاب من إحدى المصائب !! ( انظر : ص 16 وما بعدها ) .
الثاني : أن العاقل يتساءل : لماذا طرح مثل هذه الدعوة الفاسدة الآن ؟! وبلادنا يتربص بها العدو ويضغط عليها بكل مااستطاع ؟!
فهل خلف الأكمة ما وراءها ؟!
وهل نلام إذا ما عددنا هذا ( الماجن ) وأمثاله ، ومن يُمكنون لهم من ضمن ( الطابور الخامس ) الذي يهدد حصوننا من الداخل ؟!(64/5)
أخيرًا : ألا يستحق هذا الطابور المتواطئ مع العدو - شاء أم أبى - وقفة حازمة من ولاة الأمر - وفقهم الله - تجتث جذوره ، وتقي المسلمين شروره ؟! قبل أن يتمدد فيكون قاعدة صلبة للعدو الرابض قريبًا منا ؟!
-------------------------
(1) أقصد بالماجن : كل من يوصي بقراءة رائد التغريب كتب قاسم أمين وهو يعلم مافيها من انحراف وإفساد ..
ومن ذلك : قوله : ( فأول عمل يعد خطوة في سبيل حرية المرأة هو تمزيق الحجاب ومحو آثاره ) !!!! ( المرأة الجديدة ، ص 442 ضمن أعماله الكاملة )
وتنبه إلى أنه لايعني بالحجاب هنا تغطية الوجه ؛ لأن هذا قد فرغ منه في كتابه الأول ( تحرير المرأة ) ! بل يقصد كل مايسميه المسلمون حجابًا !
وللفائدة : فالماجن في اللغة هو قليل الحياء .
وفق الله الجميع للخير ، وجنبهم خطوات الشيطان ، أو الدفاع عن حزبه .
.(64/6)
فعلها( كوناكاتا ) فهل يفعلها ( خالد الغنامي )؟ - بخصوص اتهام ابن تيمية-
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتب الباحث الياباني حسن كوناكاتا أطروحة تقدم بها إلى جامعة القاهرة بعنوان ( النظرية السياسية عند ابن تيمية ) ، أجاد فيها ؛ إلا أنه ادعى في أحد الفصول توافق الشيخ مع جماعات الغلو المعاصرة التي تستبيح الخروج ، والتفجير ، واستحلال الدماء !! حيث انخدع الباحث بنقلهم المتكرر عن ابن تيمية . ( انظر ص 221 – 227 من رسالته المطبوعة عام 1415 ) .
ولكنه – وفقه الله – بعد أن قرأ بحثًا للدكتور أنور ماجد عشقي ينفي فيه صلة شيخ الإسلام بالغلاة اعتذر عن ماوقع فيه من خطأ على الشيخ .
يقول الدكتور أنور في مقدمة كتابه ( خلافة أبي بكر الصديق في فكر ابن تيمية السياسي ، ص 12 ) :
( لقد اتصل بي الدكتور كوناكاتا ، واعتذر عن ماجاء في كتابه من أن فكر ابن تيمية رحمه الله هو المهيمن على التيارات الإسلامية المعاصرة ، وإنه حمّل فكر ابن تيمية ممارسات العنف التي نشاهدها اليوم ، والخروج على الحاكم . لكن بعد أن قرأ ما نشرت ، طلب أن أضع لكتابه مقدمة أوضح فيها تسرب فكر المعتزلة والخوارج للتيارات الإسلامية المعاصرة . فله الشكر على شجاعته العلمية ) .
قلت : هذا ما كان من الباحث حسن كوناكاتا الذي لما تبين له الحق رجع إليه وأعلن عن ذلك بشجاعة ، وهذا دليل تجرد وعدم تحامل .
فهل يفعل الأستاذ خالد الغنامي مثل ما فعله الباحث الياباني ؟!
لقد كتب الغنامي مقالا قديما في جريدة الوطن بعنوان ( الإنسان والوطن أهم من ابن تيمية ) تحامل فيه على الشيخ ، وحمله أخطاء الآخرين ممن يتمسحون بكتبه ... وكان الواجب عليه أن يتروى قبل إطلاق هذه التهمة الشنيعة ، وأن يذاكر فيها من يوضحون له ما قد يخفى .
ولكن بعد أن نشر مقاله الذي طار به أعداء شيخ الإسلام رحمه الله .. هل نأمل بتراجع منه كما تراجع غيره من المتجردين للحق وحده ؟!(65/1)
عسى أن يفعلها .. وهي رفعة له وتكفير عما سبق .
والله الموفق ..(65/2)
هل سمعتم بالداعية : ( جورج محمد ) ؟!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قرأت في بعض الكتب - والعهدة على الكاتب - أنه عندما كانت الحرب اللبنانية على أشدها ، والأحزاب المتقاتلة تنتشر في ربوع لبنان ، وتقيم حواجزها على الطرقات ...... أراد أحد اللبنانيين دخول بيروت ، فمر بحاجز من تلك الحواجز .. على جانبه الأيمن مقاتلون مسلمون .. وعلى الأيسر كتائب نصرانية ...فلما سألوه عن اسمه ؛ أراد أن يتخلص من الجميع بماعنده من ذكاء و( تلون )... فقال - ظانًا أنه سيرضي الطرفين - : اسمي ( جورج محمد ) ! فأتته رصاصتان من الجانبين أردتاه قتيلا !!
هذه الحكاية تذكرني بحال بعض الدعاة عندما يظن أنه ( بتلونه ) و( فهلوته ) سيرضي المتناقضين ....... ولكنه يكتشف فيما بعد أن لا أحد رضي عنه .. بل نقص شيئ من دينه وورعه ... ليصبح مذبذبُا بين هؤلاء وهؤلاء ..فالجميع ساخط عليه :
تعددت الأسباب و( السخط ) واحدُ
ولو أنه عفى الله عنه أرضى ربه بسخط الناس .. لرضي الله عنه وأرضى عنه الناس .. كما في الحديث الصحيح .
وهذا - في ظني - سر القبول المطروح لبعض العلماء ؛ كالشيخ ابن باز أو ابن عثيمين أوالألباني رحمهم الله .. أنهم لم يجاملوا في دين الله أحدا .. بل قالوا ما يظنونه حقا .. دون أي ( حسابات ) أو ( تكتيكات ) أخرى ..
بخلاف الداعية ( جورج محمد ) الذي تعب وأجهد نفسه في حسابات كثيرة .. ثم خرج خاوي اليدين من رضا الأبرار والفجار ..
فهل من متعظ ؟!(66/1)
عندما استسلم اليهود للقائد البطل عبدالله التل !
( مذكرات مهمة ونادرة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وثيقة التسليم
الفريق الأول: وكيل القائد عبدالله التل.
الفريق الثاني: قائد الهاجناه في القدس القديمة.
بناءً على الطلب المقدم من يهود القدس القديمة للاستسلام قدم الفريق الأول الشروط فقبلها الفريق الثاني وهي:
1- إلقاء السلاح وتسليمه للفريق الأول.
2- أخذ جميع المحاربين من الرجال أسرى حرب.
3- السماح للشيوخ من الرجال، والنساء والأطفال ، ومن كانت جراحهم خطيرة، بالخروج إلى الأحياء اليهودية في القدس الجديدة بواسطة الصليب الأحمر.
4- يتعهد الفريق الأول بحماية أرواح جميع اليهود المستسلمين.
5- يحتل الجيش العربي الأحياء اليهودية في القدس القديمة.
28 / 5 / 1948
الفريق الأول / عبدالله التل
الفريق الثاني/ موشه روزنك
هذه الوثيقة السابقة حدثت أثناء حرب فلسطين عام 1948م ، ذكرها القائد البطل عبدالله التل في كتابه أو مذكراته المهمة ( كارثة فلسطين ) ، وبين فيها أن النصر على اليهود كان قاب قوسين أو أدنى بسبب تضييق الحصار عليهم ، إلا أن الخيانات ( برعاية حاكم الأردن عبدالله بن الحسين ) والتدخل البريطاني والأمريكي باقتراح الهدنة التي ساعدوا فيها يهود حالت دون ذلك .
يقول القائد البطل ( ص 201-202) :(67/1)
"حينما أيقنت بريطانيا من قرب هلاك ربيبتها إسرائيل ولم يمض على دخول الجيوش العربية إلى فلسطين أكثر من أسبوعين، سارعت لنجدة اليهود –سياسياً- تلبية لاستغاثة كبار الصهيونيين الذين نشطوا لإقناع الإنكليز والأمريكان بخطورة الوضع في فلسطين. فتقدم المندوب البريطاني لمجلس الأمن في آخر شهر مايو 1948 باقتراح يقضي بوقف القتال لمدة أربعة أسابيع وتعيين وسيط دولي للتوفيق بين العرب واليهود. وقد استخدمت بريطانيا نفوذها للتأثير في جميع أعضاء مجلس الأمن ؛ فأقر المجلس الاقتراح البريطاني في 29 مايو 1948 بوقف القتال في فلسطين لمدة أربعة أسابيع وتعيين الكونت برنادوت وسيطاً منتدباً من قبل هيئة الأمم مهمته التوفيق بين العربي واليهود.
الحكومة الأردنية تضغط على الدول العربية :
بعد أن أبلغ مجلس الأمن قراره إلى اليهود والدول العربية وطلب الرد على هذا القرار اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في عمان لدراسة قرار مجلس الأمن واتخاذ الخطوات اللازمة بشأنه".
ثم يقول ( ص 203) :
"وهكذا وافقت الدول العربية على قرار الهدنة بعد أن اشترطت أموراً معينة ما لبثت أن سحبت شرطها عليها بعد أن سعى برنادوت وأقنعها بقبول حله الوسط" !
يقول التل معلقًا ( ص 203 205 ) :
"ليس لي إلا أن أصفها بالجريمة الكبرى ! وهي أخف وصف يمكن أن توصف به موافقة الجامعة العربية على شروط الهدنة التي قدمها برنادوت بدون قيد أو شرط، فقد وافق أعضاء اللجنة السياسية على أكبر خطيئة في تاريخ الحروب بالشرق العربي ؛ ألا وهي السماح بفك الحصار عن مدينة القدس ، وإنقاذ مئة ألف يهودي كانوا على وشك التسليم أو الموت جوعاً وعطشاً.
وافقوا ( أي العرب ) قبل أن يفكروا قليلاً في نتائج ما أقدموا عليه.
وافقوا قبل أن يفكر أحدهم فيما سيقع بعد عشرة أيام فقط من ذلك اليوم المشئوم.(67/2)
وافقوا لأنهم وثقوا من وفد الأردن في اللجنة السياسية وصدقوا رئيس الحكومة الأردنية الخائن.
وافقوا قبل أن يفهموا أن القدس هي كل شيء في فلسطين ، وأن من يحتلها ينهي المعركة كلها.
وافقوا قبل أن يسألوا ليفهموا :كيف كانت حال مئة ألف يهودي في القدس هم سُبع يهود فلسطين ؟!
وافقوا قبل أن يسمعوا ما يقوله القائد العربي في تلك المدينة العظيمة، وقبل أن يعلموا مقدار الدماء والدموع والجهود التي بذلناها في القدس حتى جعلناها تترنح لتهوي صاعقة على رأس الصهيونية فتزيلها إلى الأبد.
وافقوا قبل أن يفكروا قليلاً في نوايا الإنكليز وعزمهم على إنقاذ الصهيونية وخاصة القلب ( فلسطين ) .
وافقوا قبل أن يسيئوا الظن قليلاً بشروط الهدنة ويفرضوا شرطاً واحداً على الأقل لمراقبة طريق الحياة للقدس ، وجعل تموين اليهود تحت إشراف العرب.
لقد وافقوا ولو لم يفعلوا لتغير مجرى الحرب في فلسطين، وإنني أعتبر جميع الدول العربية مسؤولة عن ذلك القرار في اليوم الأسود بعمان ؛ لأن الواجب كان يقضي بإخراج الأردن من الجامعة العربية في ذلك التاريخ ما دامت النتيجة واحدة، وما يريده الأردن من فواجع وكوارث لابد أن يتحقق، أما إذا كانت الدول العربية في ذلك الحين حسنة الظن في عمان فتكون الجريمة قد تمت نتيجة الجهل الفاضح وسوء الإدراك لما يجري على مسرح السياسة ؛ وفي هذا مسؤولية لا تقل عما سبق ) .
قلت : مذكرات القائد التل مهمة جدًا لمن يريد معرفة ملابسات حرب 1948م ، ومعرفة كثير من الحقائق والخيانات والتواطؤات التي تمت بين حاكم الأردن على وجه الخصوص وبين اليهود والنصارى على حساب أرض فلسطين المسلمة ، وفيها عبرة وموعظة لمن يريد أن لايلدغه اليهود مرة ثانية .
وحسب علمي فهذه المذكرات المهمة لم تطبع حديثًا مع أنها تستحق ذلك .
فأتمنى ممن يعرف عنها زيادة أن يفيد الجميع .(67/3)
تنبيه : لأحد قواد الجيش السعودي في تلك الحرب مذكرات طبعت حديثًا كشف فيها شيئا من الخيانات العربية ؛ لعلي أعرض له في مقال قادم إن شاء الله .
تنبيه آخر :
من أراد التعرف على شخصية عبدالله التل فعليه بكتاب جديد للشيخ محمد حامد الناصر بعنوان ( علماء الشام في القرن العشرين ) ( ص 379 - 393) المبحث الثاني : عبدالله التل بطل معركة فلسطين .(67/4)
كلمة كفرية للملك فيصل بن حسين .. ورد الشيخ رشيد رضا عليه !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
استفتاء في كلمة للملك فيصل في الأديان السماوية
نشرت جريدة الخلافة (خلافت) التي تصدر في بمبي (الهند) في عددها الذي صدر في 22 صفر من هذه السنة (1344) الاستفتاء الآتي، وقد نشر في كثير من جرائد الأقطار الإسلامية ولهج كثير من الناس بعد إطلاعهم على ما قاله الملك فيصل عن الأديان والأنبياء بأنه ردة عن الإسلام، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلماء الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها :
هذه خطبة للأمير فيصل بن الشريف حسين، ألقاها في الحفلة التي أقامها اليهود في دار الرئاسة الحاخامية لليهود في بغداد، ونشرتها جريدة دجلة التي تصدر هناك في عددها الثاني والعشرين تاريخ 12 ذي القعدة سنة 1329هـ 19 تموز سنة 1921 ننقلها للقراء بحروفها، ليطلعوا على حقيقة معتقد هذا الأمير في الأديان السماوية، وأنه كوالده في اعتماده في كل أموره على الإنكليز لا على الله .
(الخطبة بنصها)
"إني أشكر مواطني الإسرائيليين العراقيين لإقامتهم هذه الحفلة الكريمة التي أعربت عن شعورهم نحو البلاد، إني أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى الأعمال التي تزيد ثقتهم بي، واعتمادهم عليَّ.
إني لا أرى في هذا الاحتفال مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً، وإني أعتقد أنه لو جاء موسى وعيسى ومحمد إلى هذا الاحتفال وشهدوا منا ما نقوله من يهود ونصارى ومسلمين لغضبوا علينا غضباً شديداً، أنا أريد أن يقول الجميع إننا ساميون عراقيون نرجع إلى جد واحد، وما الاختلافات الدينية والمذاهب إلا دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين، وإني لا أرى لزوماً لتكرار القول ؛ فإنا أولاد جدّ واحد، إننا أولاد سام، وآباؤنا سكنوا العراق مدة طويلة وقاموا بأمر تعميره مشتركين .(68/1)
قال أحد الخطباء الآن: إن للأمة العربية أيادي بيض على اليهود في جزيرة العرب، وأنا أقول: ما قام العرب تجاه اليهود إلا بالواجب المفروض الذي لا يطلبون مقابلة حمداً ولا شكراناً، إن البلاء قد نزل باليهود والمسلمين على حد سواء، إني أرغب أن يتزايد الاعتماد في هذه الأيام لننقذ البلاد من الخراب الذي أنزلته بها أيادي الظلم والاستعمار السابقة التي عاثت بأرض العراق فساداً.
فإني لم أزل أتذكر كلمة لأكبر رجل في العالم –وهو المستر لويد جورج زعيم الحكومة الإنكليزية- قالها في مانشستر على ما أظن، وهي قوله: نحن دخلنا العراق ونرغب أن نرجعها إلى حالها حال جنات النعيم.
نحن لا نستطيع أن نبلغ بالبلاد العراقية إلى درجة جنات النعيم في خمسين عام أو أكثر، ولكننا نقول: كل من سار على الدرب وصل، إن لي الأمل العظيم في نجاحنا في هذه المسألة، لأننا اليوم بعهدة أكبر دولة وأعظم أمة ألا وهي بريطانيا العظمى، فإن المراحل البعيدة لا نستطيع قطعها، ولكن بمساعدة بريطانيا ومعاضدتها ستكون المراحل قصيرة، فإنا نبلغ منانا إذا ساعدتنا بريطانيا كما هي تساعدنا اليوم، فبسعي الإنكليز ومعاضدتهم سيكون النجاح قريباً، إني أرغب أن أرى هذا النجاح، ولكن من أين لي ذلك العمر الطويل، فإننا إذا لم نره فإن أبناءنا سيشهدوه ويشكرونا على ذلك العمل، وفي الأخير أقول: أن ليس لي غاية سوى تقدم البلاد، وليس لي حزب إلا الجميع، وأملي وطيد بأن إخواني الإسرائيليين سيبذلون جهدهم لرقي البلاد العراقية كما هو شأنهم في البلاد الأخرى . اهـ انتهت بحروفها.(68/2)
فنوجه رجاءنا إلى علماء الإسلام أن يفتونا في رجل يعتقد ويصرح على رؤوس الأشهاد بأن الديانات والمذاهب ما هي إلا دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، وأنه لو جاء موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام وسمعوا كلامه يغضبون عليه غضباً شديداً، ومع ذلك هو لا يبالي بهم، ويريد أن يرفع اسم اليهود والنصارى والمسلمين بين أفراد الشعب الذي يحكمه، هل هذا الرجل (يعد) مسلماً؟ أفتونا مأجورين اهـ الاستفتاء.
(جواب المنار)
هذه الكلمة التي قالها فيصل ملك العراق البريطاني هي هِجّيرَى فريقين من الناس: دعاة اللادينية، وأعداء الرابطة الإسلامية، الذين يرى القارئ بعض مقاصدهم في مقالنا الخاص بالمسألة السورية –وقد فصلناه من قبل في مقالات كثيرة- ولقد كان فيصل في غنى عن اتباعهم وعن الحكم بهواه على ما يرضي رسل الله صلواته وسلامه عليهم وما يغضبهم، لو كان حريصاً على مظاهر الدين الذي نشأ فيه، نعم كان يسعه أن يدعو اليهود إلى الاتفاق مع المسلمين والنصارى في التعاون على ترقية العمران في العراق، فإن ذلك لا ينافي استمساك كل منهم بدينه.
إن كان فيصل يعرف عقائد الإسلام وقواعده التي يكون بها المسلم مسلماً ويؤمن بما جاء في كتاب الله تعالى وبما أجمع عليه المسلمون منها، فعليه إذا لم يقل بها ويدعو إليها أن يسكت عنها أو أن لا يصرح بمخالفتها، وهذا أقل ما يباح له في مثل ذلك الموقف.(68/3)
إن حكم الإسلام في الاختلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في الدين هو أن دين الله تعالى على ألسنة رسله واحد وهو الإسلام: قال تعالى (إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) الآيات. هو واحد في العقائد والمقاصد، ولكنه مختلف في الشرائع العملية والمناهج، كما قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) ومن أصول الإسلام أن محمداً خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وأن بعثته عامة، وأنه لا يعتد بدين أحد بلغته دعوته إلا إذا اتبعه، وأن موسى صلى الله عليه وسلم لو كان حياً ما وسعه إلا اتباعه، وكذا غيره من الرسل (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).(68/4)
إن كان فيصل ملك العراق البريطاني مؤمناً بما ذكر فالواجب عليه أن يقول: لو جاء موسى وعيسى ومحمد -عليهم صلوات الله وسلامه بالرغم من كل منافق وكافر مجاهر- لغضبوا غضباً شديداً من ترككم لوحدة الإسلام، وعدم اتباع خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، الذي بعث هادياً لإزالة الاختلاف والاختصام، وناسخاً لما كان من الاختلاف في الشرائع والأحكام، وداعياً إلى ما يحبه الله ويرضاه ، ومحرماً لعصبيات الأجناس والأوطان، والآيات والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، والتفرقة بين من يؤمن بخاتم الرسل ويتبعه ومن يكفر به ويخالفه معلومة بالضرورة، لا يسع مسلماً جهلها، ومن أنكرها وخالفها لا يعد مسلماً، ولا أن يعامل معاملة المسلمين في ولاية عامة ولا خاصة ولا زواج ولا إرث ولا غير ذلك. ولولا أن أهل العراق خانعون لسلطة أجنبية قاهرة لطالبه علماؤهم أن يصرح بعقيدته، ويتبرأ مما تبادر إلى أذهان الناس الذين قرأوا خطبته في كل قطر من مخالفة ما ذكر، ويعتذر عنه بأنه لم يكن يريد بما ذكر في الخطبة ما يخالف شيئاً من تلك الأصول الاعتقادية القطعية في الإسلام، ولكن العبارة كانت قاصرة مثلاً ، أو يجدد إسلامه.(68/5)
إذا كان فيصل بجهل ما لا يسع مسلماً جهله من عقائد الإسلام وأصوله فهو بدين اليهود والنصارى وتاريخهما أجهل، لأنه لم يتلق علوم الدين ولا غيرها عن العلماء فيتكلم عن علم، وجل ما يعلمه مقتبس من الجرائد وأحاديث المجالس، ليس له قاعدة يرجع إليها فيها، فيكون على بينة من مراد قائليها منها، فيظهر أنه سمع أو قرأ قول بعض أهل العلم والرأي : إن اختلاف المذاهب الذي كان مثار الشقاق والتفرق بين أهل الدين الواحد كالإسلام، إنما كان سببه البدع والأهواء، والتنازع على الملك أو الجاه ثم استغلته الأمم والدول الطامعة في ملك أهله واستعمار بلادهم كما فعل الإنكليز في الهند، وكما يفعلون الآن في العراق، ففهم الكلام مقلوباً أو حرفه بهواه فحمله على اختلاف الأديان، جاهلاً أو غير مكترث بالإجماع ونصوص القرآن .
أي فيصل! إن الخلاف بين اليهود والنصارى منشؤه عدم إيمان اليهود بالمسيح عليه السلام، وأن الخلاف بين المسلمين من جهة وبين اليهود والنصارى جميعاً من جهة أخرى هو في التوحيد المحض والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ولم يكن هذا ولا ذاك "دسائس أجنبية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية" ليوقعوا الشقاق بين أبناء سام كما زعمت !! حتى يصح قولك، ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين !!
ثم ما معنى قولك بعد هذا "وإني لا أرى لزوماً لتكرار القول فإنا أولاد جد واحد، إننا أولاد سام" فهل انتساب الشعوب إلى جد واحد يقتضي عقلاً أو طبعاً أن يكونوا على دين واحد؟ كيف وأولاد الأب الواحد القريب قد يختلفون في الدين، ولو صح قولك لما وجد في الأرض دينان، فإن جميع أهل الأرض من أولاد نوح أبي سام، ومن أولاد آدم عليهما السلام ؟(68/6)
على أن أهل العراق ليسوا كلهم من أولاد سام كما زعمت، فالمشهور أن الكلدانيين –وهم أقدم أمم الحضارة في العراق- من أولاد كوش بن حام بن نوح، وفي البلاد كثير من سلائل الفرس الآريين، ويقال: إن الكرد بدوهم، وقيل من عرق آخر وقيل بل هم من العرب، ومع هذا فقد سمح فيصل لهم بأن يحافظوا على جنسيتهم، ثم أي حاجة إلى اشتراط انتساب أهل الوطن الواحد إلى جد واحد من ألوف السنين، وماذا يقول في الإنكليز الذي يمهد لهم سبيل السيادة الدائمة في البلاد بخطبته هذه وسائر أقواله وأعماله هل هم من أولاد سام أيضاً؟ وهل يقبلون أن يرتفع اسم النصارى عنهم أو عن بقايا الآشوريين والكلدانيين الذين يتخذونهم ذريعة لفصم عروة كل اتحاد في العراق، كيف وملك الإنكليز هو حامي الإيمان المسيحي، وشعبه من أشد شعوب الأرض عناية وبذلاً في سبيل نشر النصرانية؟ ومما أودعه الإنكليز في المعاهدة الإنكليزية العراقية حرية دعاة النصرانية في العراق ليعملوا ما استطاعوا في تحويل المسلمين فيه عن الإسلام.
يا حسرة على فيصل وعلى أبي فيصل وعلى إخوة فيصل! يا حسرة على أهل بيت ينتسبون إلى خاتم الرسل وسيد ولد آدم ، ثم يكون هذا حظ أمته وملته منهم، ولماذا هذا كله؟ لأجل التمتع بلقب (ملك) في ظل الإنكليز، ألا بعداً لملك زائل بل لقب باطل، يتوسل إليه بهذه الوسائل، وصاحبه لا يملك به إلا تنفيذ أمر الأجنبي فيما يهدم به سلطان أمته وتشريع ملتها.(68/7)
يبشر الملك فيصل البريطاني أهل العراق بأن مستر لويد جورج الذي زعم أنه أكبر رجل في العالم قال: "نحن دخلنا العراق ونرغب أن نجعلها جنات النعيم" وإن العوام ورعاة الإبل والغنم في العراق لترتعد فرائصهم من هذه البشارة، لأنها صريحة في أن الإنكليز لا ينشئون هذه الجنات للعراقيين بل لأنفسهم !!لأنهم ينوون امتلاك العراق وعدم الخروج منه، وفيصل يعتقد هذا ويرضاه، ولكنه لا يعلم أن أكثر أهل العراق يفهمونه، كما يعلم أنهم إذا فهموه لا يرضونه، ولذلك بشرهم به! كأنه لا يقرأ كما يقرؤون عما يفعل الإنكليز في السودان وفي مصر أيضاً.
وجملة القول في جواب الاستفتاء : إن ما تبادر إلى أفهام الناس في الهند ومصر وغيرهما من عبارة فيصل هو عين ما عليه المعطلون للأديان، المنكرون للوحي، الداعون إلى استبدال الروابط الجنسية والوطنية بالدين، ولا مخرج له إذا أراد أن يحافظ على ظاهر الإسلام لاشتراطه في ملك العراق أو لذاته إلا أن يتأول لنفسه بأنه لجهله باللغة العربية لم يستطع أن يعبر عن مراده ويذكر نحواً مما تقدم في كلامنا، أو يتوب ويجدد إسلامه، ويجب على علماء العراق مطالبته بذلك وأن ينذروه بخلعه إذا أبى، ولا يستطيع هو ولا سادته الإنكليز أن يعاقبوهم على هذه المطالبة كما عللنا سكوتهم فيما تقدم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".
( مجلة المنار : ج 9 م 26 ص 647 - 652 بتصرف يسير) .(68/8)
كيف حدثت مشكلة جنوب السودان ؟!
( لزيادة الوعي بمكر أعدائنا )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فيما يلي مقتطفات من كتاب للدكتور إبراهيم محمد حاج موسى ، بعنوان ( التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان ) تلخص لنا أسباب مشكلة جنوب السودان التي نسمع عنها كثيرًا هذه السنين الأخيرة ، وتعطينا وعيًا آخر بأساليب العدو في إشغال بلاد المسلمين بما يصرفهم عن تحقيق التقدم الدنيوي ، ويستنزف طاقاتهم في مشاكل تم حبكها بدهاء وخبث .
يقول الدكتور ( ص 578 ومابعدها ) :
( إذا كان الاستعمار الإنجليزي قد عرف باللين على خلاف الاستعمار الفرنسي، إلا أن هذا اللين كان يخفي وراءه سياسة خبيثة ممعنة في اللؤم والإجرام. كان يخفي السياسة الحقيقية للاستعمار الإنجليزي، وهي تمزيق الشعوب وبذر بذور العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، وهذه هي السياسة التي سار عليها الإنجليز في جميع مستعمراتهم تقريباً، فهم قد خلقوا في الهند دولتين، هما الهند والباكستان، بالإضافة إلى تشجيع نظام الإمارات الذي اشتهرت به الهند.
وهم في العراق قد خلقوا مشكلة الأكراد التي استنزفت وتستنزف طاقات الشعب العراقي.
وهم في الشام سلبوا الشعب الفلسطيني أرضه وسلموها لليهود عن طريق مؤامرة يندى لها جبين البشرية، وجعلوا من الشعب الفلسطيني الآمن المستقر شعباً من اللاجئين، عاش ويعيش في الخيام على مدى واحد وعشرين عاماً وما يزال، ليستقر فيها اليهود الوافدون من دول أوروبا وأمريكا وغيرها، لا لشيء إلا ليكونوا ركيزة للاستعمار الحديث في منطقة الشرق الأوسط.
وهم في نيجيريا قد عملوا على تقسيمها إلى دولتين وما زالت رحى الحرب الأهلية دائرة هناك بهدف إخضاع إقليم بيافرا المنشق وإعادته إلى نيجيريا الأم.(69/1)
وهم في وادي النيل قد عملوا على التفرقة بين مصر والسودان من ناحية، كما عملوا على فصل جنوب السودان عن شماله، ووضعوا العراقيل والقوانين والإجراءات الإدارية التي تمهد لإبقاء جنوب السودان في عزلة عن الشمال، يخيم عليه الفقر والجهل والمرض، رغم ما فيه من خيرات.
التعريف بجنوب السودان:
يطلق لفظ جنوب السودان على ذلك القسم الجنوبي من جمهورية السودان الديمقراطية والذي يشمل ثلاث مديريات هي:
مديرية أعالي النيل: وعاصمتها مدينة ملكال.
مديرية بحر الغزال : وعاصمتها مدينة واو .
المديرية الاستوائية : وعاصمتها مدينة جوبا .
وتشمل هذه المديريات الثلاث جميع حدود السودان الجنوبية مع الكونغو ، ويوغندا ،وكينيا ،كما تشمل معظم الحدود الجنوبية الغربية مع جمهورية أفريقيا الوسطى ، وبعض حدود السودان الشرقية المتاخمة للحبشة .
وتبلغ مساحة هذه المديريات الثلاث حوالي ربع مليون ميل مربع أي ربع مساحة السودان البالغ قدرها مليون ميل مربع.
ويبلغ تعداد سكان هذه المديريات الثلاث، ثلاثة ملايين نسمة، وهم ينقسمون إلى عدد كبير من القبائل، بعضها كبير يبلغ تعداد أفرادها المليون ، وبعضها لا يزيد عدد أفرادها على بضع مئات.
أهم قبائل جنوب السودان :
تسكن بجنوب السودان قبائل عديدة ؛ ولكن جميعها ترجع إلى فصيلتين:
الأولى : القبائل النيلية .
والثانية : القبائل النيلية الحامية .
وأهم قبائل جنوب السودان من ناحية الكثرة العددية والنفوذ السياسي هي:
1- قبيلة الباري .
3- قبيلة الآزاندي .
3- قبيلة الدينكا .
4- قبيلة النوير .
5- قبيلة الشلك .
6- قبيلة الأنواك .(69/2)
لم تظهر سياسة الإنجليز الرامية إلى فصل جنوب السودان عن شماله إلا في سنة 1917م ، ففي تلك السنة وتشجيعاً لإرساليات التنصير المسيحية ، ومحاربة للدين الإسلامي ، ومنعاً له من الانتشار بالجنوب ؛ جعلت العطلة الرسمية بالمديريات الجنوبية يوم الأحد بدلاً من الجمعة، كما رحلت قوات الأمن التي كانت تتكون من العرب المسلمين إلى الشمال، وتضمن تقرير لجنة ملنر سنة م 1921م توصية مضمونها ضرورة اعتماد حكومة السودان في إدارة جنوب السودان على أهل الجنوب .
وبناءً عليه ومنذ سنة 1921م لم يعد من الضروري حضور مديري المديريات الجنوبية اجتماع مديري مديريات السودان الذي يعقد بالخرطوم سنوياً.
في سنة 1922م صدر قانون الرخص والجوازات لسنة 1922م ، وبناءً على المادة 22 منه صدر قانون المناطق المقفلة ؛ والذي بموجبه أصبحت كل من مديرية دارفور، والاستوائية، وأعالي النيل وبعض أجزاء من المديريات الشمالية، وكردفان، والجزيرة ، وكسلا، مناطق مقفلة.
وقانون المناطق المقفلة يحرم على غير المواطنين السودانيين دخول أو البقاء في هذه المناطق إلا بإذن خاص من السكرتير الإداري أو من مدير المديرية التي يتبعها ذلك الجزء الممنوع دخوله، وكذلك من حق السكرتير الإداري أو مدير المديرية المختص منع أي مواطن سوداني من الدخول أو البقاء في تلك المناطق.
وقد استغل هذه القانون لمنع أبناء المديريات الشمالية من دخول المديريات الجنوبية أو البقاء فيها.
وفي سنة 1924م وتنفيذاً للسياسة القبلية التي اتبعها الإنجليز في كل السودان نصح حاكم عام السودان البريطانيين الذين يعملون بجنوب السودان أن يتبسطوا في محادثاتهم الودية الخاصة مع زعماء العشائر ، وأن يؤكدوا لهم أن أنسب مسلك يليق بهم هو المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم القبلية ، خاصة فيما يتعلق بالزي.(69/3)
وفي نفس العام صرح السكرتير الإداري لحكومة السودان بأنه ليس هناك أي مبرر في أن يحكم العرب الشماليون الجنوبيين الزنوج، وأبدى مخاوفه من قيام دولة واحدة بالسودان يوماً ما ، وهو بهذا كان يشير إلى ضرورة قيام دولة بالجنوب أو ضمه إلى دول شرق أفريقيا.
وفي سنة 1925م كتب سكرتير عام المنصرين بالسودان خطاباً لرئاسة منظمات التنصير بلندن يتهم فيه حكومة السودان بأنها تعرقل سير التنصير بالجنوب ؛ وذلك للأسباب التالية:
1- أن حكومة السودان تعين الإداريين السودانيين المسلمين "مآمير" بالجنوب، وباتصالهم بحكم عملهم بالجنوبيين يرسخ في ذهن الآخرين أن الدين الإسلامي هو صاحب السلطان في البلاد.
2- تسمح حكومة السودان للتجار الشماليين بدخول الجنوب، فيختلطون بالجنوبيين يتجرون معهم بالنهار ويعلمونهم الدين الإسلامي بالليل.
3- يأتي بالإجازة أبناء الجنوب الذين يعملون بالشمال لزيارة ذويهم بالجنوب ويختلطون بالسكان ، ونظراً لأنهم يعتنقون الإسلام فإنهم يلقنونه لذويهم بالجنوب ، ولذلك فإنهم يهدمون في إجازتهم القصيرة ما يبنيه المنصرون في أعوام !
وفي سنة 1930م وضع السكرتير الإداري لحكومة السودان آنذاك هارولد ماكمايكل، سياسته الرامية إلى فصل جنوب السودان عن شماله، ووضعت هذه السياسة على أساس قانون المناطق المقفلة لسنة 1922م ، وادعى الإنجليز أن الهدف منها هو حماية جنوب السودان من حكم الشماليين.
وقد ضمن السكرتير الإداري سياسته الجديدة في التوجيهات التي أرسلها إلى مديري المديريات الجنوبية الثلاث، والتي فحواها أن السياسة الجديدة لحكومة السودان بالنسبة للجنوب هي العمل على بناء عدد من الوحدات العنصرية أو القبلية يكون لها طابعها ونظامها الخاص، القائم على أساس التقاليد المحلية ، ويقتضي تطبيق هذه السياسة أن يقوم غير المتكلمين باللغة العربية بالوظائف الإدارية والكتابية والفنية، وأن توقف هجرة التجار الشماليين إلى الجنوب.(69/4)
وقد ترتب على ذلك :
1- نقل كل الموظفين الإداريين والفنيين والكتبة من الشماليين الذين يعملون بالجنوب إلى الشمال.
2- منع الرخص عن التجار الشماليين الذين يعملون بالجنوب وترحيلهم إلى الشمال وإعطاء الرخص التجارية لليونانيين واللبنانيين.
3- ترحيل جميع المسلمين من الشماليين إلى الشمال.
4- محاربة الإسلام وطرد المسلمين من الأجناس الأخرى ؛ كالفلاتة والهوس من قبائل نيجيريا.
5- منع تدريس اللغة العربية بمدارس الجنوب.
6 - جعل اللغة الإنجليزية هي لغة التخاطب كلما كان ذلك ممكنا.
7- إغلاق المحاكم الشرعية بكل أنحاء الجنوب.
وبالنسبة للمواطنين الجنوبيين فقد عمل الإنجليز على إبعادهم عن كل ما يتصل بالشمال أو الإسلام ، وحتى أولئك الذين كانوا يحملون أسماء عربية أجبروا على تغيير أسمائهم، ومنع أو حرم التخاطب باللغة العربية لتحل محلها اللغة الإنجليزية الأجنبية، وأطلقت يد إرساليات التنصير المسيحية، ووضع التعليم تحت إدارتها وأمدت حكومة السودان الإرساليات بالأموال اللازمة لها؛لدرجة أن إعانة حكومة السودان لتلك الإرساليات بلغت 95 في المائة من ميزانياتها، فأخذت تلك الإرساليات تنشر سمومها ودعاياتها المغرضة ضد الإسلام وضد العرب في الجنوب ، مستغلة بساطة الأهالي هناك، وأدخلت في عقول هؤلاء البسطاء أن الشمال المسلم هو المسئول عن تجارة الرقيق، وأنه لا يرضى إلا باستعباد الجنوبيين ). انتهى كلام الدكتور ( الذي استخدم كلمة التبشير فأبدلتها بالتنصير ) .
( تعليق )(69/5)
قال الدكتور عبدالحي يوسف رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم في مقابلته مع مجلة البيان ( العدد 178) : ( إن الدعوة في الجنوب كانت ممنوعة عمدًا ، وبسياسة اتبعها المستعمر الإنجليزي النصراني الماكر ؛ حيث أقام في الجنوب ما عرف بالمناطق المقفولة التي يحظر على أهل الشمال دخولها ، فعزل أهل الجنوب عن أهل الشمال ، وفي الوقت نفسه سمح للمنصرين - بل سهل لهم وهيأ الأسباب - لنشر باطلهم ) - إلى أن قال : ( وبعد رحيل المستعمر الغاصب خلفته حكومات علمانية لم تكن الدعوة من أولوياتها ولا اهتماماتها ، بل حصرت القضية في مفاوضات سياسية حول قسمة السلطة بين الجنوب والشمال دون أن تدرك أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير بسبب الحقد الذي زرعه المستعمر في نفوس أهل الجنوب تجاه أهل الشمال .. ) ثم حث وفقه الله على التركيز على دعوة أهل الجنوب ، والتلطف بهم أثناء ذلك لعل الله أن يشرح صدورهم للإسلام ، ثم قال : ( وتأتينا الأخبار في كل حين بأن فئاما من أهل الجنوب يدخلون في دين الله أفواجا ، وقد لقيت بعضا ممن هداه الله ، فإذا هو على حال طيبة ، وعقيدة راسخة ، أسأل الله له الثبات ) .
قلت : ليت الحكومة السودانية تستجيب لفكرة الدكتور عبدالحي ؛ فتهتم بدعوة أهل الجنوب للإسلام ، وتتلطف معهم ؛ لتكسب الأجر الأخروي أولا ، وتجعلهم أنصارا بعد أن كانوا أعداء .. والله يقول : {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (7) سورة الممتحنة(69/6)
من يعيد لنا سهيلة زين العابدين ؟!
( مقتطفات من كتبها القديمة )
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفاجأ كثيرون بالمواقف الأخيرة للكاتبة / سهيلة زين العابدين التي تخالف الشخصية التي تكونت عندهم عنها خلال سنين طويلة ؛ حيث كانت - وفقها الله للخير - من أوائل الداعيات في بلادنا ، وكانت في فترة ماضية تسبح وحدها عكس التيار التغريبي في مجال الإعلام.
ولكنها بمواقفها الأخيرة محت تلك الصورة الجميلة .. عندما تلقفها أهل الأهواء فرحين وطاروا بمقالاتها وتصريحاتها ؛ نكاية بأهل الإسلام ، كما فعلوا مع غيرها من المنتكسين من قبل .
فمابال سهيلة ارتضت هذا السقوط المشين ، ولم تصبر على الحق الذي تعرفه قبل غيرها ؟!
الأجل فتنة عابرة وأزمة طارئة يتنازل المرء عن أمور دينه ؟!
أم الأجل ( ظروف مالية صعبة ) يمر بها يداهن الآخرين ويرضيهم ؟!
أين الثبات على الدين وقت الفتن والأزمات ؟!
ألم تقرأ قوله تعالى :{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} ؟!
ألا تخشى أن تكون ممن قال الله فيهم : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} .
أسأل الله أن يثبتني والمسلمين على دينه إلى أن نلقاه .
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل مقتطفات من كتب الأستاذة سهيلة القديمة تناقض ما صدر عنها مؤخرًا ؛ لعلها تكون دافعًا لها أن تراجع أمرها قبل أن توغل وتتمادى في هذا الدرب المظلم فيصعب حينها الرجوع :
رأيها في الحجاب :
تقول سهيلة :(70/1)
( تعمد المغرضون –من أعداء الإسلام وأعوانهم من أبناء الإسلام ممن تتلمذوا على أيديهم وتأثروا بآرائهم- ربط الحجاب بالتخلف والسفور بالتطور، لتنبذ المرأة السعودية حجابها، كما نبذته من قلبها أختها المسلمة، والتي سارت على نهج وخطى المرأة الغربية، لخضوع بلادها تحت سيطرة الاستعمار الأجنبي الذي عكف على إبعادها عن دينها، فنشر المدارس التبشيرية، وعمم التعليم المختلط، وأقصى مناهج التعليم عن الدين، وأخذ يوهم المرأة المسلمة أن دينها لم ينصفها، وقد أدرك بخبثه الفذ أن حجاب المرأة المسلمة، إن كان في ظاهرة يحجب وجهها، وجسدها، ومفاتنها عن نظر الرجل، فهو في حقيقته كان –وسيكون ما دامت متمسكة به- حجاباً لها من الفساد، وسداً منيعاً، ودرعاً واقياً لها من السقوط في مهاوي الرذيلة –وليتها أدركت هذه الحقيقة، وأدركها معها مجتمعها!!- ولهذا نجد المستعمر قد ركز هجومه وحملاته على الحجاب، منادياً بالسفور والتبرج، وخلع عليهما اسم "التحرر".(70/2)
ولكي يصبغ دعوته هذه الصبغة الشرعية –كعادته في دعواته- جعل بعض أبناء الإسلام يتبنونها، وكان في مقدمتهم قاسم أمين، الذي تطوع في نشر ما يسمى"بدعوة تحرير المرأة"، التي اتخذتها المرأة في بعض البلاد الإسلامية شعاراً لها، فقذفت بحجابها بعيداً، متخذة من المرأة الغربية قدوة لها، واعتبرتها المثال الذي يحتذى، فسلكت سلوكها، وامتهنت مهنها، حتى تلك التي حرمها الله عليها لحمايتها ولصيانتها، كعملها في صالات القمار، وحانات الخمور، وفي الملاهي الليلية، راقصة وغانية، وخلعت ثوب الحياء في هذه الأعمال وغيرها، وتدنت بل انحطت إلى أقصى درجات الهمجية والإباحية، وشرع المغرضون وعبيد شهواتهم وغرائزهم يمجدون أعمالها هذه، واعتبروها خدمة كبرى لمجتمعها، واتهموا المعارضين بالرجعية والتخلف، ووصفوهم بأنهم ذوو عقليات متحجرة، لا تجاري واقعها، ولا تعايش عصرها، ولا ترضى لمجتمعها التطور، وهكذا نجد المجتمع المسلم اللاهث وراء التطور بلهفة العطشان، رضي للمرأة المسلمة وضعها الجديد، مسلماً به باسم التطور، وكأن التطور لا يأتي إلا من هذا الباب، وغاب عنه أنه بتسليمه هذا، قد قذف بنفسه في أحضان التخلف والتبعية التي نبذها وضحى بحياة الكثير من أبنائه من أجل التخلص منها، ومما لا شك فيه أن الذي ساعد على نجاح هذا المخطط الاستعماري الخبيث، وسرعة استجابة المرأة المسلمة له، هو تلك المعاملة التي كانت تعامل بها والتي حرمتها من الكثير من حقوقها، ونسبة هذه المعاملة الظالمة إلى الإسلام، والإسلام منها براء، مما جعلها تصدق ما يقال لها عن دينها، فرأت أنها لن تحصل على حقوقها المسلوبة إلا إذا سلكت سلوك المرأة الغربية، وظهرت بمظهرها .(70/3)
ولما كانت ظروف المرأة السعودية مشابهة تماماً لظروف أختها المسلمة من ناحية نظرة مجتمعها لها، ومعاملته لها، وتطلع هذا المجتمع إلى التطور، أخذ الأعداء يلعبون معها تلك اللعبة القذرة التي لعبوها من قبل مع أختها المسلمة، مستغلين خروجها إلى مجتمعاتهم وتلقي بعض أخواتها العلم في مدارسهم وجامعاتهم، وإقامة بعضهن في بلادهم سنين وأعواماً، وانبهار البعض بحضارتهم، استغلوا كل هذا ليوجهوا مسيرتها الوجهة التي يريدون لأهداف ذكرتها آنفاً، فشرعوا يرددون على مسامعها أن المرأة المحجبة متخلفة، لأن الحجاب يعيقها عن التطور، وأن الاختلاط بين الجنسين قد بات من الضروريات، وأن هناك ما يسمى بحسن النية، فإذا ما اختلطت المرأة بالرجل، وكانت نية كليهما حسنة، فلا حرمية في اختلاطهما، ولا مندوحة من صداقتهما، وأنها لا تساهم في نهضة وتقدم مجتمعها، إلا إذا خرجت من بيتها للعمل ... الخ ) . ( مسيرة المرأة السعودية ، ص 15 - 18 ) .
وتقول سهيلة عن أضرار السفور والإختلاط وفضيلة قرار المرأة في بيتها !
( إذاً الأمر الإلهي للنساء بالقرار في البيوت لم يكن عبثاً وإنما نتيجة لإدراك دور المرأة في التربية والإعداد.
ولقد واكب خروج المرأة إلى العمل التكسبي : السفور والتبرج والاختلاط، ولو تأملنا قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن ترج الجاهلية الأولى) يثبت لنا أن خروج المرأة من بيتها أدى إلى سفورها وتبرجها، والسفور والتبرج والاختلاط من أخطر المظاهر على الأخلاق، ومن أهم عوامل النكسة الأخلاقية التي أصيبت بها أمتنا الإسلامية والتي أوصلتها إلى ما وصلت إليه.(70/4)
فلقد كرم الإسلام المرأة بفرض الحجاب عليها، فهو تكريم معنوي ومادي وليس حبساً وقهراً لها، إنما هو صيانة لجمالها وعرضها وعفافها، فالله سبحانه هو الخالق للنفس البشرية ويعلم طبيعتها ويدرك وسائل إدراك الإنسان، الإدراك والوجدان ، وأنهما يؤديان إلى نزوع أي محاولة للحصول على ما يستقر في وجدانه من ميل عاطفي تجاه ما يراه ويدركه، كما أنه يدرك مدى وقع المرأة على الرجل وافتتانه بها، وما هو مزود به من غرائز تجاهها وأنه لو ترك بهذه الغرائز دون كابح يكبحها وضابط يضبطها مطلقاً وأطلق لها العنان لفسد المجتمع ولأصبحت سلالته كلها سلالات فاسدة، بل لأصبح المجتمع الإنساني مجتمعاً حيوانياً.
فمنعاً للفتنة ونشر الفساد ، ورحمة بالرجل والمرأة فرض الحجاب على المرأة وأمر الرجل والمرأة بغض البصر، ولكن الرجل والمرأة ظلما نفسيهما عندما أباحا لنفسيهما النظر إلى بعضهما ، كما أباحا للأنثى أن تظهر جمالها وزينتها للرجل وتجالسه في مقاعد الدراسة ومكاتب العمل ، ومع هذا فهما مطالبين بالعفاف والطهر، وهذا مناقض لطبيعة النفوس البشرية إذ كيف نسمح للرجل بالنظر إلى المرأة وهي بكامل زينتها ومجالسته لها جنباً إلى جنب في مقاعد الدراسة ومكاتب العمل بل والخلو بها ثم نقول لهما : لا تزنيا، كونا طاهرين عفيفين ؟!
إن نظرة منا إلى المجتمعات الغربية وما يحدث فيها من انتهاك للأعراض وانحلال وفساد لهو أكبر دليل على السفور والتبرج والاختلاط ). ( دور المرأة المسلمة في وضعنا الراهن ، ص 55 - 57 ) .
وتدعو سهيلة للحد من الإختلاط في الدول الإسلامية غير السعودية !
: ( أما بالنسبة للحد من الاختلاط فإنه على الدول الإسلامية –وهنا يجدر بنا أن نستثني المملكة العربية السعودية لأنها الدولة الوحيدة في العالم التي لا تبرج ولا اختلاط فيها- أن تعمل من أجل القضاء على الاختلاط) . ( المرأة بين الإفراط والتفريط ، ص 50 - 51 ) .
وتنعى على بعض الناس الذي :(70/5)
( تجده متهاوناً مسرفاً في تهاونه إلى أبعد الحدود، لدرجة أنه أباح للمرأة ما حرمه الله عليها، فتجده أباح السفور والتبرج والاختلاط، وغدت احتفالاته ونزهاته واجتماعاته لا تخلو من ذلك ؛ بل أصبحت عنده عادة من العادات استصحاب الزوج زوجته لزيارة أصدقائه وجلوسها معهم سافرة متبرجة، بل هناك من الأزواج من أجبروا زوجاتهم على السفور والتبرج أمام أصدقائهم وأقاربهم، ويهددونهن بالطلاق إن لم يستجبن لهم. وهناك أيضاً من سمح لابنته أو أخته أو زوجته بالعمل في الإذاعة والتلفاز كمذيعات أو ممثلات بقصد خدمة المجتمع، وهناك من لا يمانع من خلوة ابنته أو أخته بخطيبها وخروجها معه بمفردها دون رقابة أحد فيحدث ما لا يحمد عقباه ). ( مسيرة المرأة السعودية ، ص 26 ) .
وتقول عن حكمة فرض الحجاب وعدم الإختلاط :
( إن حكمة الإسلام في فرضه الحجاب وتحريمه السفور والتبرج، هي ذاتها في تحريمه الاختلاط، لذا فهو لا يجيز لها الاختلاط بالرجال في الحفلات العامة أو المنتديات، ولو كانت محتشمة ، فنذهب بها (في خارج المملكة) إلى الملاهي الليلية والأماكن المشبوهة، حتى ولو كانت محتشمة يقلل من مكانتها ويعرضها للشبهات، وللأسف الشديد أن بعض من سيداتنا المتحجبات منهن يذهبن إلى هذه الأماكن بهدف الترويح عن النفس، اعتقاداً منهم أنهن ما دمن متحجبات لا إثم عليهن وهذا خطأ كبير، فالذهاب إلى الأماكن المشبوهة، والاختلاط بالرجال والجلوس مع من لعبت برؤوسهم الخمر، والنظر إلى الراقصات الخليعات وعورات النساء وسماع الغناء الفاحش المبتذل، كل هذا فيه آثام وذنوب ومعصية للخالق ). ( مسيرة المرأة السعودية ، ص 31 ) .
وأما عن الخلوة المحرمة فتقول سهيلة :(70/6)
( والإسلام لا يجيز للمرأة الخلوة برجل أجنبي، حتى ولو كان خطيبها فهو يحرم اختلاءها به لأنها محرمة عليه، فإذا وجد محرم جازت الخلوة لامتناع وقوع المعصية مع حضوره، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليس معها ذو محرم، فإن ثالثهما الشيطان"، وللأسف الشديد أننا نجد كثيراً من الأسر المتهاونة تسمح لبناتها بالخلوة مع خطابهن، والخروج معهم دون رقابة، ودون رفقة أحد، وكثيراً ما ينتج من هذه الخلوات ما لا يحمد عقباه، ويقع المحظور، ولا يتم الزواج.
أما مسألة حسن النية، فتحريم الاختلاط والخلوة لم يستثن حسن النية، لأنه ما اجتمع رجل أجنبي بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما، ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا النوع من الاختلاط، وأسماه الموت، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت" والحمو هو قريب الزوج، وقد عبر عنه بالموت لما يسفر عن هذا النوع من الاختلاط من سفك الدماء ) . ( مسيرة المرأة السعودية ، ص 32-33) .
وأما عن عمل المرأة فتقول :
( فالإسلام وإن كان لم يحرم على المرأة العمل خارج بيتها للضرورة الملحة، إلا أنه لا يستريح لخروجها منه، ويفضل بقاءها فيه، والتزامها له لصالحها هي، وللصالح العام، ولهذا قال تعالى في كتابه الكريم (وقرن في بيوتكن) ) . ( مسيرة المرأة السعودية ، ص 85 ) .
وتقول عن العمل الصحفي للمرأة :
( دفع الحماس الصحفي بإحدى الأخوات الصحفيات إلى مقابلة بعض المسؤولين في مكاتب أعمالهم، وإجرائها معهم مقابلات صحفية، وفي الحقيقة(70/7)
أنا لا أتمنى أن تصل الصحفية السعودية إلى هذه النتيجة، لأن هذا ليس لصالحها، إذ يجب أن لا نحقق أحلامنا على حساب ديننا وقيمنا ومثلنا، وأن لا نتبع أهواءنا في أية خطوة نخطوها، وأي قرار نتخذه، فعلينا أن نجعل ديننا هو مرجعنا، وأن نكون بعيدين النظر في قراراتنا وخطواتنا، ونعمل حساباً لنتائجها قبل الإقدام عليها، ولا نعمل حساباً للوقت الذي نعيشه فقط، بل علينا أن نعمل حساباً للأجيال المتعاقبة ).( مسيرة المرأة السعودية ، ص 84 ) .
وعن عمل المرأة في الصحة تقول :
( إن عمل المرأة في وزارة الصحة بوضعه الحالي يعرضها للشبهة والفتنة، لما فيه من اختلاط، إذ يجب افتتاح مستشفيات خاصة للنساء خالية من الاختلاط، بحيث يكون جميع العاملين فيها من إداريين وأطباء وصيادلة وعمال نظافة...الخ من السيدات على أن يعمل ملحق بالمستشفى للعمليات الجراحية تحول إليه المريضات للضرورة، ويكون هذا الملحق منعزلاً عن المستشفى النسائي ). ( مسيرة المرأة السعودية ، ص 90 ) .
أما عن اقتراحاتها للمسؤلين عن المرأة السعودية فتقول :
( وذلك عن طريق الآتي:
1- منع المرأة السعودية من العمل في الإذاعة والتلفاز كمطربة، أو ممثلة، أو مذيعة؛ لأن عملها في هذه المجالات يعد من أخطر المتناقضات الموجودة في المجتمع، فمعروف أننا متمسكون بالحجاب وبعدم الاختلاط، وملتزمون بتعاليم الدين الإسلامي، وكم من الصعوبات تواجهنا في سبيل توفير الكوادر العلمية النسائية للتعليم العالي للبنات، من أجل تجنيب الفتاة السعودية الاختلاط، وتفادي أن يقوم الرجل بتعليمها وجهاً لوجه، وقد أوجدت الدوائر التلفازية المغلقة في جامعاتنا وكلياتنا لهذا الغرض، فكيف نسمح بالاختلاط وبكل بساطة في الإذاعة والتلفاز، إذ لا تزال هناك فقرات تمثيلية رغم قصرها تمثل فيها بعض الفتيات السعوديات يعرضها التلفاز، ونحن نعلم أن عمل المرأة في هذه المجالات مع الرجال لا يتفق مع تعاليم الدين.(70/8)
وإنني هنا أتوجه برجاء خاص إلى معالي وزير الإعلام، أن يوقف المرأة السعودية من العمل والغناء في الإذاعة، ومن التمثيل في الإذاعة والتلفاز، وأن يمنع المطربات السعوديات من إحياء حفلات خارج المملكة.
2- إعادة تصميم الكبائن الموجودة على شواطئنا البحرية، فتصميمها الحالي لا يتفق تماماً مع تعاليم ديننا، فهي مصممة وكأنها في أوروبا أو في أي مكان آخر غير المملكة العربية السعودية بلد الحجاب وعدم الاختلاط ...
3- منع الرجال من القيام بأعمال الضيافة في حفلات الزفاف المقامة في الفنادق، كما يمنع دخول أي رجل إلى صالة الاحتفال الخاصة بالسيدات مهما كانت صلته بالعروسين...
4- عدم السماح لأية طالبة سعودية من الدراسة في الخارج في مدارس أو معاهد أو جامعات مختلطة، وإلزام كل سعودية بارتداء الزي الإسلامي عندما تسافر خارج المملكة ). ( مسيرة المرأة السعودية ، ص 103-105 ) .
قلت : هذه سهيلة التي نعرف ...... فمن يعيدها لنا ؟؟؟(70/9)
وصف العلماء ( للعصرانيين ) وتدينهم !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حدثني أحد طلبة العلم أنه اجتمع ببعض العصرانيين في أمسية حوارية استضافوه فيها ، وكان من ضمن الملاحظات التي وجهها لهم : استغرابه ضعف تدين وتعبد الإنسان بعد أن يسلك مسلكهم ؛ وهو أمر لايخفى على أحد ؛ فبعد أن كان يصلي في المسجد أصبح يصلي في البيت ، وبعد أن كان يتطوع بالعبادات المتنوعة أصبح بالكاد يفعل الواجبات ، وبعد أن كان يقرأ القرآن ويهتم به أصبح هاجرًا له .... هذا خلاف الأمور الظاهرة من تهذيب اللحية شيئا فشيئا حتى أصبحت عند بعضهم مجرد " سكسوكه " !
قال : فضجوا من هذه الملاحظة التي أثارت كوامنهم ، ولمست جرحًا غائرًا في نفوسهم .. فحاولوا دفعها والتبرؤ منها ... ولكن هيهات :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
قلت : لا عجب من هذا
فضعف التدين والتعبد سمة أسلافهم القدماء من أهل الكلام أو تيار المدرسة العقلية .. فهم على آثارهم يهرعون
ولهذا أسباب كثيرة ليس هذا مقام سردها ، ولكن من أهمها في نظري :
1 - انشغالهم " بالكلاميات " و " الفلسفات " و" الهذر " التي لا تدفع للعمل الصالح .
2 - انصرافهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى كلام البشر .
3- جرأتهم على المقدسات ؛ وتحطيمها في نفوسهم واحدا بعد آخر .. مما يؤدي إلى ضعف تعظيم أوامر الله والإنتهاء عن نواهيه .
4 - كثرة تعرضهم لفتن الشهوات والشبهات - بدعوى الاطلاع والحرية !- إلى أن تتشرب قلوبهم بالشهوات المضعفة ؛ التي لا تقابل بما يدفعها من اعتصام بالله وعبادة ، والإنسان خلق ضعيفا ، والله يقول عن المنافقين ومرضى القلوب ( ولكنكم فتنتم أنفسكم ) .
وأسباب أخرى ..
ومثل هؤلاء - في نظري - كمثل من يسير على رجل واحدة .. إما أن يتعثر فيسقط .. وإما أن يستقيم في سيره على رجليه
أما البقاء على حاله فمن المحال .(71/1)
فهم إما أن يتداركهم الله برحمته كما تدارك بعض أسلافهم ؛ فيعودوا إلى الحق والتدين الصحيح ..
وإما أن يزداد انحرافهم تدريجيًا .. حتى يلحقوا بالملحدين والإباحيين - والعياذ بالله - كما حدث لغيرهم .
وقد أحببت - هنا - التعليق على ما قاله صاحبي عنهم ؛ بذكر ما يؤيده من كلام العلماء الأولين في وصف شيوخ العصرانيين .
قال الإمام أبو القاسم الأصبهاني في كتابه : ( الحجة في بيان المحجة ، 1/121-122) :
( وهل رأى أحد متكلماً أداه نظره وكلامه إلى تقوى في الدين، أو ورع في المعاملات، أو سداد في الطريقة، أو زهد في الدنيا، أو إمساك عن حرام وشبهه، أو خشوع في عبادة، أو ازدياد من طاعة إلا الشاذ النادر. قل: لو قلبت القصة كنت صادقاً : تراهم أبداً منهمكين في كل فاحشة ملتبسين بكل قاذورة ، لا يرعوون عن قبيح، ولا يرتدعون من باطل إلا من عصمه الله، فلئن دلّهم النظر اليقين وحقيقة التوحيد، فليس ثمرة اليقين هذا ، وتعساً لتوحيد أداهم إلى مثل هذه الأشياء، وأوردهم هذه المتالف في الدين، ومن الله التوفيق وحسن المعونة ).
وقال - رحمه الله - مبينًا سبب سلوكهم طريق الضلال : ( 1/372-373) :(71/2)
( فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله، فلا تنكر ما تشاهده منه، وسل الله العافية من البلاء، واحمده على ما وهب لك من السلامة، ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسوّل لكل من أحسّ من نفسه بفضل ذكاء وذهن، يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعُدّ واحداً من الجمهور والكافة، فحرّكهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع بمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا في حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم، ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسننه المأثورة عنه، وردّوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عند ما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر عجزاً عنه ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة.(71/3)
وكان في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينةٍ من أمرهم، وعلى بصيرةٍ من دينهم لما هداهم الله به، من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أُزيحت بمكانهما) .
وقال أحد العلماء في وصف الأفغاني وعبده وتلاميذهما :
شياطين بين المسلمين تفرقوا *** باغوائهم كم أفسدوا جاهلاً غُمرا
قد اختصروا بالجهل دين محمد *** وما تركوا من عشر أحكامهِ العشرا
لقد زعموا إصلاحه بفسادهم *** وكم حمّلوه من ضلالاتهم إصرا
كفيران قصر أفسدت فيه جهدها *** ترى نفسها قد أصلحت ذلك القصرا
فما بالهم لا يصلحون نفوسهم *** أما هي بالإصلاح من غيرها أحرى
وقد جاء في القرآن ذكر فسادهم *** وزعمهم الإصلاح في السورة الزهرا
بفعل البرستنت اقتدوا باجتهادهم *** لقول رسول الله لو دخلوا جُحرا
أولئك قد ألغوا زوائد دينهم *** وقد ضللوا في ذلك القس والحبرا
قد اجتهدوا في دينهم حينما رأوا *** مجامعهم زادتهُ في نكره نكرا
فلله در المصطفى سيد الورى *** فقد طابقت أخباره كلها الخُبرا
أمن بعد قول الله أكلمت دينكم *** يريدون في الإسلام أن يحدثوا أمرا
قد اجتهدوا في خذل دين محمد *** وإن زعموا بالاجتهاد له نصرا
قد اجتهدوا أن لا تكاليف عندهم *** فصاروا إباحيين لا نهي لا أمرا
تراهم إباحيين أو هم نظيرهم *** إذاكنت عن أسرارهم تكشف السترا
وكل امرئ لا يستحي في جداله *** من الكذب والتلفيق مهما أتى نكرا
فمن قال صلوا قال قائلهم له *** يجوز لنا في البيت نجمعها قصرا
وإن قيل لا تشرب يقول شربتها *** بقصد الشفا أو قال ليس اسمها خمرا
فيجهر كلٌ بالمعاصي مجادلا *** بما نفث الشيطان في قلبه سرا(71/4)
فلا صام لا صلى ولا حج لاحبا *** فقيراً وإن أودى به فقره برا
وفي الألف منهم واحد ربما أتى *** مساجدنا لكن إذا كان مضطرا
وأخبرني من لا أشك بصدقه *** بأن قد رأى من بال منهم بلا استبرا
ولازمه حتى أتى بعدُ مسجدا *** فصلى ولم يحدث من الحدث الطهرا
وآخر منهم قد أقام صلاته *** بدون اغتسال مع جنابته الكبرى
عداة لكل المؤمنين قلوبهم *** لهم ملئت حقداً وإن أظهروا البشرا
ذئاب على الإسلام صالوا وما اكتفوا *** بأنيابهم حتى به أنشبوا الظفرا
مقاريض أعراض بألسنة لهم *** حداد بها قد أشبهوا الجرذ والفأرا
لهم أوجه كالصخر مثل قلوبهم *** ولكن بها ماء الحيا ما له مجرى
ففي وجه كل قد بدا من ظلامه *** دخان يرينا أن في قلبه جمرا
أشد من الكفار فينا نكاية *** وأعظم منهم في ديانتنا ضرا
من الكفر ذو الإسلام يأخذ حذره *** ومن هؤلاء القوم لا يأخذ الحذرا
مُعاشرهم يسري له من ضلالهم *** مفاسد ترديه ويحسبها خيرا
على ديننا ساقوا كتائب كتبهم *** وفي حربه جاءت جرائدهم تترى
بها فتحوا للناس باب ضلالهم *** بها رفعوا الدنيا بها خفضوا الأخرى
بها خلطوا بالحق باطل غيهم *** بها مزجوا الإسلام بالملل الأخرى
محمد عبده :
يعاشر نسوان النصارى ولايرى *** بذلك من بأس وإن كشف السترا
ويأكل معهم كل ما يأكلونه *** ويشربها حمراء إن شاء أو صفرا
ويفتي بحل المسكرات جميعها *** إذا هي بالأسماء خالفت الخمرا
ويأكل مخنوقا ويفتي بحله *** لئلا يقولوا إنه ارتكب الوزرا
وتحليله لبس البرانيط والربا *** به بعض أهل العلم قد ألحق الكفرا
وكم زار باريسا ولُنْدُرَةً ولم *** يزر مكة يوماً ولا طيبة الغرا
وقد كنت في لبنان يوما صحبته *** لقرب غروب الشمس من ضحوة كبرى
وصليت فرض الظهر والعصر بعده *** لديه وما صلى هو الظهر والعصرا
وكان صحيح الجسم لا عذر عنده *** بلى إن ضعف الدين كان له عذرا
ومع كل هذا فهو أستاذ عصره *** فأفّ له شيخا وأف له عصرا(71/5)
وقبل غروب الشمس صاحبت شيخه *** لقرب العشا أيام جاورت في مصرا
ولم أره أدّى فريضة مغرب *** فقاطعت شيخ السوء من أجلها الدهرا
فويل له ويل لمن يتبعونه *** ومن كان من أعدائهم فله البشرى
وقد دخلوا حزب المسون بهمة *** بها حل كلٌ من محافله الصدرا
ومذهبهم حكم الديانات واحد *** تساوى به الإسلام والملل الأخرى
فيارب أصلحهم وإن لم ترد لهم *** صلاحا فلا تنجح إلهي لهم أمرا
آمين
أسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه ، وأن يرزقنا الإخلاص ، ويجمع لنا بين العلم النافع والعمل الصالح .(71/6)
الليبرالية ..... النبت اليهودي !!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كثيرة هي الأفكار والنظريات والمذاهب الهدامة التي صنعها اليهود على أعينهم ، وصاغوها ، ثم نشروها في العالم ، وأشغلوا الناس بها عن مصادر القوة الحقيقية . فمن ماركسية إلى داروينية إلى فرويدية إلى ماسونية ....الخ .
ومن تلك الأفكار والنظريات ما يسمى ( الليبرالية ) التي تعني " حرية الإعتقاد ، وحرية السلوك ، والتعددية ...الخ الزخارف " .
وقد فتن بعض بني قومنا بهذه الليبرالية كما فتنوا سابقا بأخواتها : الماركسية ، العلمانية ، الديمقراطية .... وليت الأمر اقتصر على ( حزب المنافقين ) الذين يتعلقون بكل قادم من الغرب يغنيهم – في زعمهم – عن الإسلام ! وشريعته المكبلة لأهوائهم وشهواتهم. ولكن المصيبة أن هذه الفكرة وغيرها قد تسللت إلى عقول بعض من يطلق عليهم ( الإسلاميون ) ! حتى رأينا من يتمدح بأنه ( ليبرالي إسلامي ) ! كما تمدح أقوام قبله ب ( اشتراكية الإسلام ) و ( ديمقراطية الإسلام ) ....الخ هذا ( الترقيع ) الذي ينم عن نفسية منهزمة أمام الآخر .
ويأسف المرء عندما يقابل هذه الإنهزامية بمواقف بعض عقلاء الغرب ممن لم تستخفهم هذه الأفكار ببريقها عن النظر في حقيقتها وعواقبها ومن يقف خلفها .
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل إليكم شهادة مجموعة من عقلائهم في حقيقة هذه ( الليبرالية ) الفاتنة ، وأنها مجرد نبت يهودي حاول أحفاد القردة والخنازير زرعه بكل جدارة في المجتمعات الغربية ؛ لأنه يحقق لهم أهدافا كثيرة ؛ يأتي في مقدمتها : بلبلة الأفكار وتشويشها ، وتغذية الصراعات والإنقسامات التي تمكنهم من إضعاف الآخرين ثم السيطرة عليهم .(72/1)
ناقلا هذه الشهادة من كتاب مهم للملياردير الأمريكي ( هنري فورد ) صاحب مصانع السيارات الشهيرة باسمه، الذي تعرض لمؤامرات يهودية كثيرة لزحزحته عن نشاطاته ونجاحاته المتوالية التي لم تسر وفق أهوائهم نظرا لتعصبه لبلده ( أمريكا ) التي يرى أن اليهود دخلاء عليها .
فما كان من فورد إلا أن كلف مجموعة من الباحثين الأمريكيين لدراسة تاريخ اليهود في بلده ومصادر قوتهم وأساليبهم وطريقة تفكيرهم ...الخ ليستفيد منها في تعريتهم وفضحهم أمام بني وطنه . فألفوا له كتابا مهما بعنوان ( اليهودي العالمي ) .
وقد جاءت في هذا الكتاب معلومات كثيرة مهمة عن اليهود ؛ أنتقي منها ما يخص أمر ( الليبرالية ) آملا من القارئ تأمل ما قاله الباحثون عنها ، ثم أتبع ذلك بنقل مؤيد من ( بروتوكولات حكماء صهيون ) ؛ لعل من أعجب بهذا النبت اليهودي يلفظه سريعا ويعود إلى مصدر عزته ونجاته : الإسلام .
يقول أصحاب الكتاب ( ص 160، 162، 169 ) ::
( استخدام الأفكار الهدامة لتمزيق المجتمع : الطريقة التي تعمل بها البروتوكولات لتحطيم المجتمع طريقة واضحة كل الوضوح، وكل من يرغب في الوصول إلى معنى التيارات الفكرية والتيارات الفكرية الأخرى المعارضة لها مما يخلق حالة الفوضى والهرج والمرج الموجودة في أيامنا الحاضرة، فمن الضروري له أن يفهم الطريقة التي تعمل بها البروتوكولات لتحطيم المجتمع والناس الذين يضطربون وتَفْتُرُ وتَضْعُفُ عزائمهم من جراء الأصوات المتعارضة والنظريات المتناقضة التي تبدو كل منها متسقة وواعدة. اليوم سيجدون مفتاحاً يفتح مغاليق أبواب الحيرة والتردد والبلبلة وضياع الأمل والخوف عندما يدركون أن إيجاد هذه الحالة المضطربة إنما هو هدف مقصود في حد ذاته، ولا ريب في أن وجود هذه الاعتبارات الخطيرة في حياة الناس اليوم يدل على ما حققته خطط البروتوكولات من نجاح.(72/2)
إنها خطة تحتاج إلى وقت طويل، وتقول البروتوكولات إنها قد تطلبت بالفعل قروناً من الزمان، وأولئك الذين عكفوا على دراسة هذه المسألة قد استخلصوا نتيجة أن الخطة التي تتضمنها البروتوكولات كانت موجودة وكانت موضوعة موضع التنفيذ بواسطة أبناء الجنس اليهودي من القرن الأول الميلادي فصاعداً حتى اليوم.
لقد تطلب البرنامج اليهودي واستغرق بالفعل 1900 سنة لكي يصل اليهود بالدول الأوروبية إلى مرحلة التبعية والانقياد للمخططات اليهودية كما هو شأنها الآن في الوقت الحاضر – تبعية تامة في بعض الأقطار الأوروبية، وتبعية سياسية في بعضها الآخر، وتبعية اقتصادية فيها كلها- أما في أمريكا، فقد حقق البرنامج اليهودي النجاح نفسه وتطلب من الوقت خمسين سنة فقط!).
(إنه عن طريق مجموعة الأفكار التي تدور حول فكرة "الديمقراطية Democracy" حصل اليهود على "انتصارهم الأول" في مجال السيطرة اليهودية على "الرأي العام Their First Victory over Public Opinion" وتؤكد البروتوكولات أن "الفكرة" هي السلاح The Idea is the Weapon، ولكي تكون الفكرة سلاحاً ملائماً لليهود، فمن الضروري أن تكون هذه الفكرة فكرة ضارة فاسدة متعارضة ومتضاربة مع الأوضاع السليمة الطبيعية في حياة الناس، وهذا هو الشأن أيضاً مع النظريات المنطوية على أفكار متعددة في المجالات المختلفة من الحياة، ومثل هذه الأفكار والنظريات لا يمكن لها أن تكون عميقة الجذور وفعالة ومقبولة إلا إذا بدت لعقول الناس كأفكار ونظريات منطقية ومتسقة مع مطالب الجماهير، بل ومسرفة في التظاهر بأنها تحقق للجماهير أكبر قدر من مطالبهم وآمالهم في الحياة، وغالباً ما تكون الفكرة الصحيحة غير ملبية للمطالب والآمال الكبرى للناس، وتبدو الأفكار والنظريات السليمة في كثير من الأحيان أمام الناس أفكاراً ونظريات قاسية مخيبة للآمال، وتبدو كما لو كانت شرّاً على الرغم من أنها تتصف بأنها حقيقة من الحقائق الخالدة.(72/3)
إن كل ما يترتب وينتج عن مثل هذه الأفكار والنظريات الحقيقية ليس هو الضرر أو الفوضى، ومثل هذه الأفكار والنظريات الحقيقية هي أول ما يهدف البرنامج اليهودي إلى تحطيمه والقضاء عليه، وجدير بنا أن نلاحظ أن الدعوة إلى التحرر والليبرالية يحتل مكان الصدارة في البرنامج اليهودي الذي تتحدث عنه البروتوكولات إذ نجد أنها تقول بالحرف الواحد: "لتحقيق السيطرة على الرأي العام من الضروري أولاً إرباكه". والحقيقة واحدة، ولا يمكن إرباكها، ولا يصح إلا الصحيح، ولا توجد حقائق غير صحيحة، وإن لم تكن الحقيقة حقيقة فهي الخطأ بعينه، ويستحيل أن يتصف شأن من الشئون بأنه حقيقة إذا كان خاطئاً، كيف سيربك اليهود الحقيقة، إنهم يعتمدون في ذلك على هذه "الليبرالية Liberalism" الزائفة ، ولكنها جذابة تستهوي الجماهير وتروق لهم رغم زيفها ، ولقد حقق اليهود لفكرة الليبرالية الذيوع والانتشار بسيطرتهم على دور النشر والإعلام وأجهزة النشر والإعلام على نطاق واسع في أمريكا بسرعة أكبر بكثير من سرعتهم في ذلك في البلاد الأوروبية، ومن الممكن القضاء على هذه الليبرالية الزائفة بسهولة؛ لأنها لا تمتُّ إلى الحقيقة بأي صلة من الصلات الحقيقية، إنها خطيئة كبرى، وللخطايا أكثر من ألف شكل وشكل، وأكثر من ألف صورة وصورة.
ولنأخذ أمة أو حزباً أو مدينة أو مؤسسة، ولنفترض أن سُمَّ الليبرالية Poison of Liberalism قد سرى في عروق أي من هذه المؤسسات ؛ سنجد أمامنا أن كلاً منها قد انقسم وتمزق إلى عدة أقسام، وعدد من الشيع لا ينقص عن اثنين، ويجوز أن يزيد على ذلك في كثير من الأحيان، وذلك عن طريق بث أفكار جديدة، وتقديم تعديلات للأفكار القديمة، وهذه الخطة السوقية الشريرة معروفة تمام المعرفة لدى القُوَىَ اليهودية التي تسيطر على أفكار الجماهير بصورة خفيَّة غير مكشوفة.(72/4)
وقد عرف تيودور هرتزل – اليهودي الشهير الذي فاقت شهرته شهرة أي يهودي آخر، وكان برنامجه السياسي يسير في خط مواز مع برنامج البروتوكولات- هذه الحقيقة قبل سنوات كثيرة، وذلك عندما قال: إن الدولة الصهيونية ستتحقق قبل تحقيق الدولة الاشتراكية، والسبب في ذلك هو أنه كان يعرف ما سيواجه الأفكار الليبرالية –والشيوعية العالمية واحدة من الأفكار الليبرالية الكبرى- التي نشرها هو وأسلافه بين شعوب العالم الأوروبي من عقبات وصعوبات ناجمة عن تشعب الانقسامات التي تقف عقبة كأداء وتحول دون تحقيق مثل هذه الأفكار.
إن العملية اليهودية التي كان الأغيار ضحيتها، ولم يكن اليهود أبداً أبداً من ضحاياها تمضي إلى حيز التنفيذ بالضبط كما يلي: إيجاد مناخ من "سعة العقل An Ideal of Broad- mindedness" وهذا هو التعبير الذي نسمعه دائماً عندما يبادر أحد إلى معارضة البرنامج اليهودي العالمي، ولقد ألفنا أن نسمع دائماً من يقول: "...كنا نظنك أوسع أفقاً في تفكيرك من أن تعبر عن مثل هذه الأفكار" ولا شك في أن مثل هذه العبارة التي تقال كعبارة افتتاحية للكلام تشير بوضوح إلى "الحالة العقلية المضطربة" التي يريد اليهود أن يفرضوها على غير اليهود، وهي لا تعدو أن تكون دعوة فضفاضة إلى هجر أفكار قديمة، والقبول بأفكار جديدة من الضروري أن يتسع لها عقل من يوجه إليه الكلام بعد تشكيكه في سلامة الأفكار التي كان يعتقد أنها صحيحة.
إن مثل هذه التعبيرات عن تحرر العقول والدعوة إلى الحرية الفكرية لا معنى ولا حدود لها، وهي تعمل كالأفيون لتخدير وتبطيل العقول والضمائر عن العمل والفاعلية لكي تفتح الأبواب واسعة لمختلف المواقف والتصرفات تحت ستارها الخادع الزائف ) .(72/5)
( وليس من الصعب أن نتبع أصول الأفكار اليهودية عن الليبرالية منذ بدايتها حتى نصل بها إلى آثارها الأخيرة في حياة غير اليهود، هنا على وجه التحديد سنجد أن الفوضى والتشويش على أفكار الناس Confusion هي الهدف. إن البلبلة الفكرية والحيرة Bewilderment هي السمة الغالبة على الأجواء العقلية للشعب اليوم إذ لا يعرف الناس الأفكار التي يصح أن يؤمنوا بها، ولا الأفكار التي لا يصح أن يؤمنوا بها، إن الناس يتلقون في وقت ما مجموعة من الأفكار ثم يتلقون بعد قليل مجموعة أخرى من الأفكار ويصل إلى الناس تفسير معين للأمور، ثم سرعان ما يتلقون تفسيراً آخر مخالفاً له ، والأزمة الفكرية أزمة حادة بالغة الحدة، وتوجد سوق رائجة للتفسيرات التي لا تفسر شيئاً، ولكنها تهدف إلى تكريس حالة الارتباك والفوضى الفكرية والتشويش على أذهان الناس.
وتبدو الحكومة أمام الناس عاجزة عن إزالة العراقيل وبث الطمأنينة في قلوب الناس، وعندما تشرع الحكومة في محاولة تقصي الحقائق لإزالة عقبة من العقبات أو حل مشكلة من المشكلات تجد الحكومة العراقيل التي وضعها اليهود في طريقها بمختلف الصور والوسائل وبطرق غامضة، وتفشل محاولات الحكومة في مواجهة المشاكل والعقبات رغم ما بذلت من جهود شاقة، وهذا الجانب المتصل بعرقلة عمل الحكومات واضح وضوحاً تاماً في نصوص البروتوكولات.
ونستطيع أيضاً أن نضيف إلى ذلك ما تتعرض له الميول الفطرية للناس نحو التدين The human tendency toward Religion من الهجمات الشرسة العنيفة وذلك لأن الدين Religion هو الشأن الوحيد والحصن الأخير الذي يستطيع أن ينقذ الناس من أن يكونوا فريسة سهلة للمكر والمؤامرات والعنف واللصوصية ).
قلت : وجاء في البروتوكول العاشر : ( ولما أدخلنا اسم الليبرالية على جهاز الدولة، تسممت الشرايين كلها، ويا له من مرض قاتل، فما علينا بعد ذلك إلا انتظار الحشرجة وسكرات الموت.(72/6)
إن الليبرالية أنتجت الدولة الدستورية التي حلت محل الشيء الوحيد الذي كان يقي الغوييم السلطة المستبدة. والدستور، كما تعلمون جيداً، ما هو إلا مدرسة لتعليم فنون الانشقاق، والشغب، وسوء الفهم، والمنابذة، وتنازع الرأي بالرد والمخالفة، والمشاكسة الحزبية العقيمة، والتباهي بإظهار النزوات. وبكلمة واحدة: مدرسة لإعداد العناصر التي تفتك بشخصية الدولة وتقتل نشاطها. ومنبر الثرثارين وهو ليس أقل من الصحف إفساداً في هذا الباب، راح ينعى على الحكام خمولهم وانحلال قواهم ، فجعلهم كمن لا يرجى منه خيرٌ أو نفع. وهذا السبب كان حقاً العامل الأول في القيام على كثيرين من الحكام فأُسقطوا من على كراسيهم. فأطل عهد الحكم الجمهوري، وتحقق، فجئنا نحن نبدل الحكم بمطية من قِبَلِنا ونجعله على رأس الحكومة وهو ما يعرف بالرئيس، نأتي به من عداد مطايانا أو عبيدنا، وهذا ما كان منه المادة الأساسية المتفجرة من الألغام التي وضعناها تحت مقاعد شعب الغوييم، بل على الأصح شعوب الغوييم ) .(72/7)
خطأ شنيع في أحد كتب الشيخ الألباني رحمه الله ..!
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من قرأ " صحيح ابن ماجه " للشيخ الألباني رحمه الله لعله تفاجأ بتعليق غريب عجيب !! في ( 2 / 197 ) يُستغرب صدوره من الشيخ السلفي ناصر الدين الألباني !!
وذلك تعليقًا على حديث " من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل ، فإني أشهد لمن مات بها "
قال في الحاشية : ( قال الدميري : فائدة زيارة النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الطاعات وأعظم القربات . لقوله صلى الله عليه وسلم : " من زار قبري وجبت له شفاعتي " رواه الدارقطني وغيره ، وصححه عبدالحق . ولقوله صلى الله عليه وسلم : " من جاءني زائرًا لاتحمله حاجة إلا زيارتي كان حقًا علي أن أكون له شفيعًا يوم القيامة " رواه الجماعة ، منهم الحافظ أبوعلي بن السكن في كتابه المسمى بالسنن الصحاح . فهذان إمامان صححا هذين الحديثين ، وقولهما أولى من قول من طعن في ذلك . نقله السندي ) !!
قد يستغرب القارئ هذا التعليق المروج لبدعة شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي البدعة التي حمل لواءها الصوفية والقبورية ، فيظنه للشيخ ناصر رحمه الله ! الذي طالما رد هذه البدعة وبين وهاء ما جاء فيها من أحاديث في كتبه الكثيرة . ( انظر على سبيل المثال رده على البوطي : " دفاع عن الحديث النبوي " ) .
ولكن الحقيقة : أن هذا التعليق الشنيع هو من طابع الكتاب : زهير الشاويش هداه الله ، الذي عودنا على تجرئه على كتب الشيخ الألباني بما يستدركه عليها أو يعلق به دون استشارة الشيخ ! مما حدا بالألباني أن يبحث عن ناشر غيره، كما هو معلوم .(73/1)
وقد تحدث الشيخ عن هذا التعليق الجريئ في السلسلة الضعيفة ( 5732) تحت الحديث السابق : " من جاءني زائرًا .... " ؛ فقال : ( من المؤسف أن كلام السندي هذا نقله الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي في تعليقه على ابن ماجه مسلما به ، الأمر الذي يدل القارئ أنه لم يكن على معرفة بهذا العلم الشريف ، ثم تورط به أخونا زهير الشاويش فنقله حرفيًا في تعليقه على صحيح ابن ماجه ؛ حيث اعتمد فيه أكثر تعليقات الأستاذ ، ومنها هذا التعليق المخالف للمنهج العلمي الذي لا يخالفنا فيه إن شاء الله ) . ثم بين رحمه الله أن عمله مع مكتب التربية هو فقط ( وضع مرتبة كل حديث بجانبه مع ذكر أسماء الكتب التي شرحت المرتبة فيها ) .(73/2)
سياسة الملك عبدالعزيز والعلماء في تحقيق الأمن الفكري للسعودية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يقول الله عزوجل مذكرًا عباده المؤمنين بنعمة عظيمة ؛ هي نعمة الوحدة الإيمانية والتآلف من بعد التشتت والتفرق : ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا) . تذكرت هذه الآية الكريمة وأنا أتأمل تاريخ بلاد التوحيد قبل توحدها على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله ؛ حيث الفرقة ، وتنازع الآراء والأهواء ، والتباغض بين أهلها ؛ إلى أن أذن الله باجتماعهم على الدين القويم . وأتأمل حنكة وسياسة الملك عبدالعزيز ومن معه من العلماء الثقات الذين استطاعوا - بفضل الله - أن يحافظوا على هذه الوحدة وهذا الانسجام بين أفراد الوطن الكبير ؛ رغم تعدد قبائله وتباين مناطقه ، وذلك عن طريق نشر الخير بين أهله وربطهم به وبالدعوة إليه ، والتصدي بحزم لكل من يهدد الأمن الفكري فيه ؛ ممن جبلت نفسه على حب الشقاق والمراء ، والسعي لمزاحمة دعوة التوحيد الجامعة بمختلف الولاءات والطموحات المفرقة .
هذا الحزم في الحق الذي لمسنا - كما لمس أجدادنا وآباؤنا - آثاره ، ونعمنا بنتائجه سنين عددا ؛ حيث الولاء الواحد ، والأمن البدني والفكري ،والتآلف ، والطمأنينة والسكينة التي تميز هذا البلد عن غيره .
وتذكرت - أيضًا - مقولة الأستاذ محمود شاكرمتألمًا من الحال التي وصلت إليها بلاده ( مصر ) من حيث كثرة التنافر بين أهلها ؛ عندما قال : ( إن تعدد الثقافات في الشعب الواحد قد أفضى إلى شر آثاره ؛ حيث تنابذت العقول على المعنى الصحيح ، واختلفت المناهج المؤدية إلى الغايات ، وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدء لا ينتهي ، وفي اختلاف لا ينفضّ ) . ( انظر جمهرة مقالات محمود شاكر ، جمع الدكتور عادل جمال ، ( 1 / 143 ).(74/1)
لقد علم الملك عبدالعزيز ومن معه من العلماء رحمهم الله أن المسلمين من أهل هذه البلاد لا يصلحهم سوى الالتفاف على مبدأ واحد ؛ هو الدعوة السلفية التي أنعم الله بها عليهم ، والبعد عن كثرة القيل والقال ، والخوض فيما لا ينفع ، والانصراف والاشتغال بما يفيدهم ويفيد بلادهم .
ولهذا : قرر رحمه الله التصدي لكل من يريد العبث بمكتسبات هذه البلاد الدينية والدنيوية .
ومن ذلك : أنه في بداية توحيد المملكة نمى إلى علم علماء الدعوة أن البعض بدأ بالتشغيب والتعدي ؛ بنشر الآراء الشاذة و الفتاوى الفردية التي تبلبل أذهان العوام ، وتصرفهم عما ينفعهم ، وتوقعهم في التنازع والاختلاف . عندها قرر العلماء رحمهم الله رفع هذا الأمر الخطير للملك عبدالعزيز رحمه الله ، الذي أصدر لأجله خطابًا حازمًا صارمًا لإيقاف دعاة الفتنة عند حدهم .
يقول العلماء : حسن بن حسين ، وسعد بن عتيق ، وسليمان بن سحمان ، وصالح بن عبدالعزيز ، وعبدالرحمن بن عبداللطيف ، وعمر بن عبداللطيف ، وعبدالله بن حسن ، ومحمد بن إبراهيم بن عبداللطيف ، وكافة آل الشيخ في خطابهم :
( ... ولاينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ رحمة الله عليهم ، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين ؛ فإنه الصراط المستقيم ، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم . وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى ، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه ، واستمرت عليه الفتوى منهم . فمن خالف في شيئ من ذلك ، واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلومًا عندهم ، ومفتىً به عندهم ، ومستقرة به الفتوى بينهم ، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله .(74/2)
ونحن نعلم : أن المسائل العلمية ، والأحكام التي يُحكم بها الناس ، والفتاوى التي يُفتَون بها لا تخلو من الخلاف ، وهذا أمر يعرفه من له أدنى معرفة ، لكن الاختلاف بين الناس خصوصًا في جهة نجد لابد أن يكون سبب شر وفساد وفتنة . وسد باب الشر والفتن والفساد أمر مطلوب في الشريعة ؛ بل هو أعظم مقاصدها ، كما لا يخفى ) . ( الدرر السنية : 14 / 375 – 376 ) .
أما الملك عبدالعزيز رحمه الله فقال في خطابه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل، إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين، وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد ذلك: هذا كتاب إخوانكم المشايخ، تشرفون عليه، والعمل –إن شاء الله- على ما فيه، ثم بعد ذلك مهوب خافيكم أول منشأ هذا الأمر وتقويمه، أنه من الله ثم أسباب الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مراراً.
وكلما اختلف الأمر، وشارف الناس لنقض دين الله، وإطفاء نوره، أبى الله وأخرج من هالحمولتين من يقوم بذلك، حتى إن آخرهم والدنا، وشيخنا الشيخ: عبدالله بن عبداللطيف ، نرجو الله أن يجبرنا في مصيبتنا فيه، بعز الإسلام والمسلمين، وأن الله سبحانه يظهر في عقبهم من يقوم مقامهم، وأن الله سبحانه يعيضه بنا رضوانه والجنة.
ولهوب خافي أحداً مقامه في آخر هذا الزمان، والتزامه في أمر هذا الفصل، الذي لا حياة إلا به، وصار نوراً وقوة لكل عارف، عاقل في أمر دينه ودنياه، وردع أهل البدع والضلال، ولا نقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا خيراً، واخلفنا خيراً منها.(74/3)
ثم بعد ذلك تفهمون: أن أسباب الشر كثيرة، ولا بد أن يحصل من الناس بعض شوفات: أحدٍ يدوّر المخالفة، وأحدٍ يدوّر التروّس، وأحدٍ جاهل يريد الحق، ولكن خفي عليه سبيل الحق، فاتبع هواه، وهذا أمر كله مخالف للشرع. والحمدلله: ما حنا في شك من أمر ديننا.
وتفهمون : أنه من حين أظهر الله الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في قرن أطيب من وقتنا، ورجال أطيب من رجالنا، وعلماء أطيب من علمائنا، فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة، وجدد الله أمر هذا الأصل، وأنقذ الله بأسبابه الناس من الظلمات إلى النور.
فبان أمره لأولي الأبصار، وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند من أزاغ الله قلبه، وأعمى بصيرته . وقبل هذا الحق ورضيه آباؤنا، وأجدادنا، وعلماء المسلمين، فيما أتى به من الأصل والفرع، ويتعين علينا –إن شاء الله- أن نقتدي بما اقتدوا به.
ولهوب خافيكم: حال هذا الزمان، وكثرة الطالب والسائل، وقلة البصيرة والفهم. وأيضاً مهوب خافيكم: اختلاف العلماء في أمور الفروع؛ فلابد أن كل إنسان يدّعي المعرفة على جهل: إما أحدٍ يسمع حديثاً، أو قولاً من أقوال العلماء، لا يعرف حقيقته، فيفتي به، أو يكون أحدٍ له مقصد، يدوّر الأقوال المخالفة ؛ مقصوده الخلاف، إما مخالفة أحدٍ من علماء المسلمين، أو يبي يقال: هذا فلان! يدوّر بذلك رياسة، أو شيئاً من أمور الدنيا، نعوذ بالله من ذلك.
فالآن يكون الأمر على ما ذكر المشايخ أعلاه، فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأولاده: عبدالله، وعبدالرحمن، وعبداللطيف، وعبدالله بن عبداللطيف، فهو متعرض للخطر ؛ لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلا إنسان مراوز للشر والفتنة بين المسلمين.(74/4)
فأنتم –إن شاء الله- يا جميع علماء المسلمين التزموا بهذا الأمر، وقوموا على من خالفه، ومن سمعتم منه مخالفة في قليل أو كثير، ما قدرتم عليه نفذوه، وما لم تقدروا عليه ارفعوه إلينا، إلا إن كان هنا إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب، أو من السنة، فلا يتكلم حتى يعرض أمره على علماء المسلمين، وتعرف حقيقته، فأما المتعرض بغير ذلك، أو قبل تبيين الأمر، فذمتنا وذمة المسلمين بريئة منه، ويكون عنده معلوماً أنه على خطر منا.
ثم أوصيكم، يا علماء المسلمين: بالقيام لله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم الناس ؛ خصوصاً هذا الأصل، وأن تجتهدوا وتديموا الجلوس والمباشرة لإخوانكم المسلمين . ومن كان تعلمون منه سداداً، ومنشبته دنيا أو تكاسل، ترفعون أمره إلينا، حتى نلزمه بطلب العلم .
والأمر من ذمتي في ذمتكم، لا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بتعليم الأصل، ولا بردع الجهل والقيام على صاحبه، فلا أنتم بحل مني إذا ما اجتهدتم وقمتم بهذا الأمر، كما أنه الواجب عليكم.
وتفهمون أني إن شاء الله: خادم للشرع، لا بنفسي ولا بما تحت يدي، فافطنوا لموقف بيوقفني الله أنا وأنتم، والعالمين؛ وهذا أمر برئت منه ذمتي وتعلق بذمتكم، نرجو الله أن يعيننا وإياكم على القيام بما يرضيه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن الله سبحانه ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من أنصاره.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
سنة 1339هـ
[ المصدر : " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " ( 14 / 377-380) ، و كتاب " لسراة الليل هتف الصباح " ( ص 520 – 523) وقد نشر صورة الخطاب ] .(74/5)
لقد علم العلماء والملك – رحمهم الله – أن حمل الناس على قول اجتهادي واحد تؤيده الأدلة الشرعية ؛ فيه من الحكمة الشيئ الكثير ؛ لأنه الأصلح للناس والأوفق بهم ، بدلا من ترك الأمر فوضى ، وكلأ مباحًا لكل أحد ، بدعوى ( في المسألة قولان ) !! أو ( حرية الرأي ) !! أو ( التعددية ) !! ... الخ الزخارف اللفظية التي لم يجن منها المسلمون سوى المزيد من التناحر والتشرذم .
نعم : بهذا الحزم ، وبأطر الناس على الحق الذي استبان وظهر : استقامت أمور أهل هذه البلاد ، وشغلوا بما فيه خير دينهم ودنياهم عن كثرة التهارج والخصومات ؛ فسعدوا وهنئت عيشتهم . بخلاف ما لو تساهل الملك والعلماء مع كل ناعق أو مدع للإصلاح ! فعندها ستدخل البلاد في متاهات لا يعلمها إلا الله ، وسيلتبس على أهلها الحق الظاهر بالباطل الذي يثيره دعاة الفتنة .
ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله - مؤكدًا على قيام ولاة الأمور بهذا الحزم مع مثيري الشغب والفساد ( بأنواعه ) ممن لا يرضيهم الحق الظاهر المستبين :
( فإن الحق إذا كان ظاهرًا قد عرفه المسلمون ، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته ، فإنه يجب منعه من ذلك ، فإذا هُجر وعُزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي ، وكما كان المسلمون يفعلونه . أو قُتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما ؛ كان ذلك هو المصلحة ، بخلاف ما إذا تُرك داعيًا ، وهو لا يقبل الحق : إما لهواه ، وإما لفساد إدراكه . فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين )
إلى أن قال : ( والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف ، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس ؛ قوبل بالعقوبة) . ) درء التعارض : 7 / 172 – 173 ) .
قلت : وقل مثل ذلك فيمن يريد جعل الأمر فوضى في مجال الفتاوى والأحكام ؛ لا سيما في المسائل العامة التي تتعلق بالمجتمع كله .(74/6)
وقال الشيخ بكر أبوزيد - سلمه الله - متحدثًا عن قاعدة ( تغير الفتوى بتغير الزمان ) التي يدندن حولها أهل الفساد للتخلص من أحكام الشرع : ( وليُعلم هنا : أن هذه القاعدة مع مسألة البحث هذه " فتح باب الاجتهاد " يستغلهما فقهاء المدرسة العصرانية الذين اعتلت أذواقهم ، وساورتهم الأهواء ، ومجاراة الأغراض ؛ فهذا يشيد حججًا لإباحة الربا ، وذلك لوقف تنفيذ الحدود ... وهكذا . وكلها شبه على أساس هار متداع للسقوط ، وبأول معول . فيجب على من ولاه الله أمر المسلمين : معالجة هذه الأذواق الفاسدة ؛ بتحجيمها ، والقضاء عليها ؛ لتسلم الأمة من أمراضها واعتلالها) . ( المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل , 1 / 84 – 85) .
هذا ما حصل في عهد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – فكانت له العواقب الحميدة على أهل هذه البلاد .
فهل نرى مثيلا لهذا الحزم في أيامنا هذه التي تقاطر فيها علينا أصنافٌ من " الغلاة " و " محبي التفرد بالشواذ " و" الطامحين " و" مدعي الإصلاح " و " المتعصرنين " و " الليبراليين " ، واشرأب فيها أهل البدع القديمة " من صوفية و رافضة " برؤسهم ؟!
مع التذكير أخيرًا بقوله تعالى ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) ، فبقدر تحقق التوحيد والطاعات يكون الأمن للعباد والبلاد ، وإن نقصوا نُقص من أمنهم . ولهذا مقال آخر إن شاء الله .
أسأل الله أن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا للأخذ على يدي كل سفيه يريد أن يخرق السفينة ، وأن يصرف عنا كيد المتربصين والحاقدين . والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(74/7)
تنبيه : اطلعت بعد كتابة ما سبق على رسالة للأخ عبدالعزيز الريس - وفقه الله - بعنوان " إجماع أهل التقوى على تحريم توحيد الفتوى " ، تعجل عفى الله عنه في إخراجها ، قبل أن يحررها ؛ ويبين فيها متى يسوغ للحاكم وأهل الحل والعقد إلزام الناس بما هو خير لهم في دينهم ودنياهم في المسائل الإجتهادية ، التي لا تدخل تحت قول شيخ الإسلام الذي نقله الأخ عبدالعزيز ؛ لأن الشيخ يقول : ( وإما إلزام السلطان في مسائل النزاع التزام قولٍ بلا حجة من الكتاب والسنة .. ) وما نحن فيه هو من إلزامهم بما فيه حجة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا مما فعله الخلفاء الراشدون ، وتوضيح هذا له مقام آخر .
فليت الريس لم يتعجل بإخراج رسالته التي قد تفهم بفهم آخر قد لا يرتضيه !
فهل يعيد النظر فيها ويحرر مسائلها بما يزيل إشكالات عديدة ؟!
أتمنى ذلك .(74/8)
هذه قصة الفتاة المغربية .. ( نزهة كويز ) .. مع الهلالي !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ذكر الدكتور تقي الدين الهلالي المغربي - رحمه الله - وهو من أشهر الدعاة السلفيين في العصر الحاضر هذه القصة في مقال له عن المرأة في ( مجلة الجامعة السلفية ، عدد مايو 1979م) ، وفيها عبرة لكل أخت مسلمة تعظم شرع الله ، وتُقدمه على كل المغريات أو الحريات المزعومة التي تبعدها عن دينها ، وتعرضها لسخط ربها .
قال الدكتور - رحمه الله - :
( صارت " نزهة كويز " من تلميذاتي قبل ثلاث سنين ، ولما عرفت ما أوجب الله عليها من ستر العورة والتمسك بالعفاف عزمت على أن تعصي والديها ولا تعود إلى المدرسة ، فلما حان ابتداء السنة الدراسية أخبرت أهلها بذلك، فقالا لها : أجننت؟ كيف تتركين الدراسة بعد ما نجحت في السنة الخامسة من الثانوي وتضيعيننا وتضيعي نفسك؟
فقالت لهم: إني قد علمت من دروس الدكتور محمد تقي الدين ابن عبدالقادر الهلالي الحسيني أن ما ترتكبه المدارس الثانوية من إجبار الفتيات على التجرد من ثيابهن بحيث لا تبقي إلا خرقة رقيقة تستر القبل ستراً كالعدم، وأخرى مثلها تستر الدبر ويكون ذلك أمام رجال المدرسة من معلمين وطلاب، ومن يمر بجانب المدرسة من عابري السبيل [ لايجوز ] .(75/1)
وجاءتني باكية فذهبت إلى طبيب مشهور في مكناس، والتمست منه أن يكتب لها شهادة بأنها مريضة، وأن الرياضة البدنية التي يتستر بها المجرمون في تعرية الفتيات وهن ما بين السادسة عشرة والثانية والعشرين لا تتفق مع صحتها، فلما قدمت الشهادة إلى مدير المدرسة بعثها إلى طبيب فرنسي ففحصها ووجدها صحيحة لا مانع لها من الرياضة البدنية بل التعرية الشيطانية، فرجعت إليَّ باكية أيضاً وكان عندي سبعة من المعلمين في المدارس الثانوية يتلقون دروساً من كتابي (تقويم اللسانين) فعرضت عليهم المشكلة، فقالوا: إن مدير المدرسة التي تدرس فيها نزهة متدين وقد حج بيت الله ، فنحن نتوجه إليه ونسأله إعفاءها من درس الرياضة البدنية التي يتسترون به على كشف عورات النساء وتعويدهن على الوقاحة وقلة الحياء بل عدمه فيصلن بذلك الفجور..
فذهبوا إليه وإلى الحارس العام الذي يشاركه في التصرف فاعتذر المدير بأنه يخاف المفتش خصوصاً، وقد ثبت أنها تستطيع أن تلعب الرياضة، فقال الحارس العام: إذا وافقني المدير فنحن نعفيها من ذلك، فأُعفيت من تلك السنة، وكانت تحافظ على صلاة العصر في وقتها فيجتمع عليها سفهاء المدرسة من الرجال والنساء، ويقولون : هذه الجدة جاءت !! هذه الحاجة جاءت !!تقبل الله !! استهزاء بها ،فلا تبالي بهم، وتؤدي صلاتها بغاية الاطمئنان ، لا تألوا جهداً أن تصلي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(75/2)
واتفق أن في تلك السنة اتصلتُ بصاحب الفضيلة رئيس تعليم البنات الشيخ ناصر بن حمد آل راشد، فبعث إلي مدير التعليم سعادة الأستاذ الشيخ عبدالله العقيل وقدم عليّ في مدينة الدار البيضاء، وأقام أياماً تكرر اجتماعنا فيها، وأخبرني: بأن سماحة رئيس تعليم البنات الشيخ ناصر بن حمد آل راشد يقبل على خمس طالبات كل سنة يكملن تعليمهن في دائرة تعليم البنات بالمملكة العربية السعودية ، وكان في ذلك فرج ومخرج لنزهة كويز ، فكانت أولى الطالبات الخمس ، وفرحت بذلك فرحاً عظيماً، وقد استجاب الله دعاءها، فأخرجها من الظلمات إلى النور.
ولما حان وقت سفرها مع سائرات الطالبات ذهبت إلى المدرسة التي كانت فيها لتأخذ كتاباً أعارته طالبة أخرى فرآها المجرم المكلف بتعرية الطالبات يوم الثلاثاء من كل أسبوع وراء التستر بدرس الرياضة البدنية فنظر إليها شزراً ووسعها هجراً ، وقال لها: لماذا غطيت رأسك أمريضة أنت؟ فأجابته إن الإسلام أمرني بتغطية رأسي ، فقال لها بالفرنسية ما معناه "في نظري واعتقادي لا وجوه للإسلام" ، ولما أخبرتني بذلك استشطت غضباً، وقلت لها: هلا قلت له : وفي اعتقادي أنا: أنت لست موجوداً، وأنت تعلمين أنه لم يبق له عليك سلطان، ولكن الفتاة المسلمة غلبها الحياء، وقد درست هذه الطالبة السنة الماضية في مدارس تعليم البنات بالرياض ونجحت، وهي الآن تدرس في هذه السنة هناك.
والفتيات المسلمات الطاهرات إذا سافرن للتعلم في مدارس السعودية يتلقين تغطية الوجه مع التستر التام بغاية السرور والفرح، وقد كتبت إلي إحداهن وهي آمنة الهاشمي ممن بُعثن في هذه السنة بعدما وصلت إلى الرياض، ورأت في الطريق كيف يعامل الناس الطالبات المسلمات بغاية الاحترام والتكريم ، افتتحت الكتاب بهذه العبارة: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور).
فالحجاب التام ومنه ستر الوجه تراه الطالبة المغربية الصالحة نعيمًا ) . انتهى كلام الدكتور .(75/3)
قلت : من أراد الحق وتطلبه فإنه يوفق إليه بإذن الله ، وسيجعل الله له مخرجًا .
وهذه الفتاة وغيرها يعددن تغطية الوجه نعيمًا ؛ لأنهن عشن الحياة المناقضة له ، ورأين ما فيها من تبذل ومهانة للمرأة .. رغم كل دعاوى المساواة والتحرير المزعومة التي لا حقيقة لها على أرض الواقع . والله الموفق .(75/4)
أكذوبة ......... تُردّد في الصحافة السعودية !
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لقد فرض بعض كتاب الصحافة وصايتهم على المجتمع زمنًا طويلا ؛ استطاعوا خلاله بث بعض الأكاذيب والأوهام والترويج لها كحقائق لا تقبل الجدل ؛ في سبيل إقناع الناس بأفكارهم المنحرفة ، وعدم السماح بما يعارضها أو يفندها .
فصدقهم من صدقهم ، والله يقول ( وفيكم سماعون لهم ) .
ثم جاءت الشبكة العنكبوتية على قدَر !! لتقول لهؤلاء : لقد انتهى ليل الوصاية ، وأشرق نور الحق الهادي لكل من غررتم به وخدعتموه ؛ من خلال هذه الشبكة الحرة التي تكشف أكاذيبكم للجميع من خلال الحقائق والوثائق .
وقد سبق أن كشفتُ أكذوبة ووهمًا طالما ردده بعض الصحفيين - رجالا ونساء - على أسماعنا ؛ عندما زعموا أن ستر المرأة لوجهها إنما هو عادة لنساء بلادنا ، وأن المسلمين مجمعون على كشف الوجه !!!
ثم نكتشف جميعًا أن الحق خلاف ذلك !
فإذا العادة المزعومة هي الحكم الشرعي القائم على الأدلة الصحيحة ..
وإذا الإجماع ( العملي ) في جميع بلاد المسلمين متفق على ستر الوجه .. وذلك قبل أن تقع بلادهم بيد المستعمر الذي روج للسفور بواسطة عملائه ؛ من أمثال قاسم أمين وغيره ..
وإذا الصور القديمة تؤكد هذا ..
وإذا عشرات العلماء يُذَكّرون به ..
وأما الكذبة الثانية أو الوهم الثاني الذي ردده أؤلئك ؛ ليتوصلوا به إلى ما بعده فهو زعمهم : أن العلماء في بلادنا قد عارضوا ( تعليم ) البنات !! هكذا
أو أن أهل الخير وقفوا ضد ( تعليم ) البنات في بدايته ، ثم اقتنعوا به مع مرور الوقت !!
فأصبحوا عندما يطرحون أي قضية عن المرأة يعارضها الأخيار يذكرونهم بهذا الوهم الكبير ! فيقولون – مثلا - : قد كنتم تعارضون ( تعليم ) البنات ، ثم وافقتم عليه ، وهذه مثلها ، ستعارضونها قليلا ثم تؤيدونها فيما بعد !!(76/1)
وكل هذا كذب ودجل منهم ليمهدوا المجتمع لقبول انحرافاتهم – كما سبق - ، وإلا فإنهم يعلمون قبل غيرهم أن العلماء وطلبة العلم لم يعارضوا ( تعليم ) البنات – كما زعموا- ؛ لأنهم - أي العلماء وطلبة العلم - يعلمون شرعية هذا الأمر فيما يقرؤنه من نصوص الكتاب والسنة ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " ، وهو يشمل المسلمات كما بين هذا العلماء ، وكقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي تعرف الرقية : " علميها حفصة كما علمتيها الكتابة " ( انظر : السلسلة الصحيحة للألباني ، 178) .
فاعتراض من اعترض منهم كان على ( ماهية ) التعليم الذي سيُجعل للفتاة السعودية ، وليس على مجرد ( تعليمها ) كما يدعي الأفاكون .
لأن المعترضين كانوا يخشون أن يُقر تعليمُ البنات لدينا على الحال الذي كان عليها في الدول العربية الأخرى ؛ لاسيما مصر التي كانت أوائل المدرسات لدينا قادمات منها . فلهذا خشي الغيورون أن تزل بنا القدم فنحذو حذو الآخرين في تعليم مختلط ، أو تعليم بعيد عن الدين والفضيلة .
وهذه منقبة لهؤلاء تشهد بكمال عقولهم لو كان هؤلاء يعقلون !
لأن الإنسان العاقل لايقدم على شيئ جديد أو مجهول دون أن يتحقق منه ، وإلا أصبح كالإمعة الذي يسير خلف الآخرين بغباء .
أرأيت لو أن إنسانًا قيل له : اسلك هذا الطريق المجهول دون أن تفكر في نهايته أو فيما ستلاقي فيه ، وهو يرى القادمين منه ، بعضهم مثخن بالجراح وآخر يتهادى من الألم .
فمضى هذا الانسان في هذا الطريق دون تفكير أو تروٍ أو استعداد أو حذر.. ماذا سيقول عنه العقلاء ؟! لا شك أنه متهور وأرعن .
وقارنه بآخر قيل له مثل ذلك ، ولكنه تروى وتمهل حتى يسأل عن ماهية هذا الطريق ، وعثراته ؛ لكي يتجنبها . فلما تبين أن لاخطر سيصيبه توكل على الله ومضى .
وقد قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا خذو حذركم ) .(76/2)
إذا : لم يكن الاعتراض على مجرد ( تعليم ) البنات كما يدعي أولئك ؛ إنما كان الاعتراض على ( طبيعة ) التعليم المراد تقريره ؛ حيث حدث التمهل والتوقف ؛ حتى تبين الأمر واستقر على تعليم شرعي موافق لفطرة الفتاة ، بعيد عن الاختلاط ، برعاية كريمة من كبار العلماء .
ويشهد لهذا : ماقاله العلماء الذين شهدوا القضية :
قال الشيخ عبدالله بن سليمان بن حميد – رحمه الله – في رسالته " أخطار تحيط بكم أيها المسلمون " بعد أن تحدث عن واقع تعليم البنات في الدول العربية :
( وقد عارض بعض المسلمين في تعليم المرأة بهذه الصفة، خوفاً من فتنتها، وحذراً من ضررها على المجتمع، في المستقبل بعد مدة.
وألفتُ نظر ولاة الأمور، إلى أنه لا مانع من توسيع تعليم المرأة على المنهج الذي يقره الدين وتعاليمه، مع التمسك بالحجاب، وبالأخلاق الفاضلة ). ( الدرر السنية ، 16/79).
وقال الشيخ محمد بن عبدالله بن حمدان – رحمه الله – ردًا على من طالب بتقليد الدول الأخرى في مجالات تعليم البنات ! : ( ليتكم يا هذا: تطالبون بتعليم البنات، في حدود ما رسمه الدين الحنيف، وتكتفون بذلك، إذاً لرحبنا بذلك، وأيدناكم ، ولكنكم تريدون تعليماً كالتعليم الموجود في الخارج –مجرد تقليد ومحاكاة- ولا تهمكم تعاليم الإسلام، التي تأمر بالمحافظة على أخلاق المرأة، وتصون لها عفتها وكرامتها ). ( الدرر السنية ، 16/93).
ويؤكد هذا ويجليه أن تعليم البنات – ولله الحمد – لم يقر إلا بعد موافقة كبار العلماء عليه ؛ كما جاء في الخطاب الملكي الذي صدر عن الملك سعود رحمه الله .(76/3)
وقد دارت - كما يقول صاحب كتاب " تعليم المرأة في المملكة " " ص 203" - (حوارات ومناقشات، ونشرت مقالات وردود عن ذلك، وكان عدد من العلماء وعلى رأسهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ –يرحمه الله- وغيره يردون على المعترضين، ويبينون أن الإسلام دين العلم للجميع، وأن النصوص الكثيرة التي تحض على طلب العلم عامة شاملة للرجال والنساء، وأن هناك فرقاً بين مبدأ تعليم المرأة، وبين ما يجب أن تتعلم. فمن حيث المبدأ؛ فإن تعليم المرأة من حيث الوجوب والندب والإباحة -بالمعنى الفقهي- مثل الرجل ).
وأما بيان الملك سعود رحمه الله فكان كالتالي :
(نطق ملكي كريم)
الحمد لله وحده وبعد: فلقد صحت عزيمتنا على تنفيذ رغبة علماء الدين الحنيف في المملكة في فتح مدارس لتعليم البنات العلوم الدينية، من قرآن وعقائد وفقه، وغير ذلك من العلوم التي تتمشى مع عقائدنا الدينية، كإدارة المنزل، وتربية الأولاد وتأديبهم، مما لا يخشى منه عاجلاً أو آجلاً أي تغيير على معتقداتنا، لتكون هذه المدارس في منأى عن كل شبهة من المؤثرات التي تؤثر على النشء، في أخلاقهم، وصحة عقيدتهم وتقاليدهم، وقد أمرنا بتشكيل هيئة من كبار العلماء الذين يتحلّون بالغيرة على الدين، لتشرف على نشء المسلمين في تنظيم هذه المدارس، ووضع برامجها، بمراقبة حسن سيرها فيما أنشئت له، وتكون هذه الهيئة مرتبطة بوالدهم حضرة صاحب السماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، على أن تختار المدرسات من أهل المملكة أو غيرهم اللواتي يتحقق فيهن حسن العقيدة والإيمان، ويدخل إلى هذه المدارس ما قد سبق فتحه من مدارس للبنات في عموم المملكة ، وتكون جميعاً مرتبطة في التوجيه والتنظيم بهذه اللجنة تحت إشراف سماحته، مع العلم أن هذا التشكيل يتقدم الوقت الكافي بتهيئة وسائل التأسيس، ونأمل أن يكون ذلك في وقت قريب، والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله ) . ( سعود بن عبدالعزيز )(76/4)
( انظر : جريدة أم القرى / يوم الجمعة 21 ربيع الثاني سنة 1379هـ ) .
قلتُ : فنأمل - بعد هذا - من هؤلاء الكتاب والكاتبات - هداهم الله - أن لايرددوا هذه الأكذوبة على أسماعنا !(76/5)
فعلها علماء اليمن ... فهل يفعلها علماء مصر ؟!
لم يعد خافيًا على كل عاقل أن لهوان المسلمين ومهانتهم أسبابًا كثيرة ؛ يأتي على رأسها بُعد فئام منهم في بلاد كثيرة عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم - في العقيدة ، واتباعهم ما يقدح دينهم من الشركيات والبدع المتنوعة .
فكان واجب العلماء والدعاة الناصحين لأمتهم أن يبينوا لهؤلاء الحق وخطر ما هم عليه ، ويناصحوهم ويقيموا عليهم الحجة ، ويدعوهم إلى عقيدة السلف الصالح ؛ لتعود الأمة كما كانت معتصمة بحبل الله ، عزيزة ، مهابة الجانب من أعدائها .
وقد أحسن نخبة من العلماء والدعاة في اليمن عندما أصدروا فتوى في كثير من الأعمال الشركية أو البدعية المنتشرة في بلادهم ، ولم يداهنوا في دين الله ، أو يهونوا من الأمر بدعوى " عدم تفريق الأمة " كما هي شنشنة البعض !! هداهم الله .
وقد قام محبو الخير بتعليقها في المساجد وتوزيعها على مجامع الناس .. فكان لها الأثر الطيب .
وهاكم ملخص الفتوى كما نشرها صاحب كتاب " القبورية في اليمن " ( ص 657-659) :
نص السؤال
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
فإن في بلادنا قبور رجال صالحين، مرفوعة ببناء فوق الأرض، فيها حفرة صغيرة، بداخلها تراب يتبرك به ويستشفى به، وتقام لهذه القبور زيارات سنوية موسمية في شهر رجب الحرام وغيره، يُذبح فيها الكباش لأصحاب القبور، ويجتمع عندها الرجال والنساء والباعة والألعاب، ويحتفل بهذه الزيارات كالاحتفال بيوم العيد، وتهان فيها القبور أيما إهانة.
فما هو قول السادة العلماء والأئمة الفضلاء في رفع القبور بالبناء؟ وما حكم هذه الزيارات؟ وهل هي الزيارات الشرعية التي حث عليها أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلم؟ أفتونا مأجورين. نفع الله بكم الإسلام والمسلمين.
وقد تفضل أصحاب الفضيلة العلماء بالإجابة على هذه الاستفتاء، ننشر هنا خلاصة إجاباتهم:(77/1)
أولاً: أوضح العلماء في فتاواهم على أنه لا أحد من الخلق لا ملك ولا نبي ولا ولي يضر أو ينفع، وأن الأموات لا ينفعون الأحياء ولا يغنون عنهم من الله شيئاً ،بل الأموات بحاجة إلى دعاء الأحياء لهم، والاستغفار لهم، وإذا كان سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف يملك ذلك غيره ممن هو دونه، وعليه فلا يجوز اعتقاد النفع والضر في أصحاب القبور مطلقاً؛ لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام .
ثانياً: أوضح العلماء أن شد الرحال إلى القبور بدعة محدثة منكرة وقد جاء الشرع بالنهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى". أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
ثالثاً: أكد العلماء على حرمة رفع القبور أكثر من شبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : "لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته". أخرجه مسلم.
رابعاً: أكد العلماء على حرمة البناء على القبور مطلقاً، وتجصيصها، والكتابة عليها، والقعود عليها، لحديث جابر بن عبدالله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد على القبر، وأن يجصص أو يبنى عليه". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وفي رواية: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكتب على القبر شيء". أخرجه أبو داود وابن ماجه.(77/2)
خامساً: بيّن العلماء الفرق بين الزيارة الشرعية للقبور، التي تكون للعظة، والاعتبار، وتُذكر الآخرة، والدعاء والاستغفار للميت. وبين الزيارات البدعية والشركية التي يُتقرب فيها إلى أصحاب القبور، بالذبائح والنذور، والاستغاثات، وما إلى ذلك من أمور الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام، وأن هذه الأمور لا تكون إلا لله عز وجل وحده لا شريك له، لقوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) ولقوله تعالى: (فصل لربك وانحر) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله" أخرجه مسلم.
سادساً: أكد العلماء على أن وضع حفرة على القبر وجعل التراب فيها للتبرك والاستشفاء به من وسائل الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام.
سابعاً: أكد العلماء على تحريم، وخطورة ما يجري في هذه الزيارات، من الاختلاط بين الرجال والنساء، وخروج الباعة، والطبول، وما يجره من الفتن، والفواحش والموبقات، علماً أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن زوَّرات القبور" أخرجه أحمد والترمذي.
ثامناً: أوضح العلماء تحريم تخصيص شهر من السنة، لزيارات قبور الأولياء، خاصة في شهر رجب الحرام، وأن ذلك وسيلة من وسائل الشرك، الذي لا يغفره الله عز وجل، إن مات صاحبه عليه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً" أخرجه أبو داود.
وإليك أسماء بعض العلماء والمشايخ الذين أفتوا ووقعوا على هذه الفتوى.(77/3)
(1) محمد بن إسماعيل العمراني (2) مقبل بن هادي الوادعي (3) د. إبراهيم القريبي (4) د. عبد الوهاب الديلمي (5) محمد الصادق مغلس (6) عبدالمجيد الزنداني (7) عبدالعزيز الدبعي (8) عبد المحسن ثابت (9) عبد المجيد الريمي (10)عقيل المقطري (11) محمد بن عبدالوهاب الوصابي (12) د. أحمد محمد زبيلة (13) أحمد حسن المعلم (14) إسماعيل العنسي (15) محمد المهدي (16)عبدالرحمن بن عبد الله شميلة (17) حسين بن محفوظ (18) عمر أحمد سيف (19) عبدالقادر الشيباني (20) صالح الوادعي (21) طارق عبد الواسع (22) عبدالله الحاشدي (23) ناصر الكريمي (24) عيسى شريف (25) أحمد حسان (26) علي بارويس ( 27) علي بن فتيني ( 28) عبدالله الحميري ( 29) أحمد أهيف (30) أمين جعفر (31) عمار ناشر (32) محمد الوادعي (33) عارف أنور (34) علي مقبول الأهدل (35) محمد سالم الزبيدي (36) محمد سعد الحطامي (37) حسن صغير الأهدل ( 38) مراد القدسي ( 39) إسماعيل عبدالباري (40) حسن الزومي ( 41) حاكم زبيد : عبدالكريم النعماني (42) محمد المعمري ( 43) عبدالله فيصل الأهدل ( 44) عمر سقيم .
تعليق
جزى الله خيرًا العلماء والدعاة اليمنيين على هذه الفتوى الصريحة ، الصادرة عن قلوب ناصحة لأمتها ، متألمة لانصرافها عن التوحيد الخالص إلى بدع وشركيات ما أنزل الله بها من سلطان .
وأتمنى أن يحذو إخوانهم في البلاد الإسلامية حذوهم ؛ بالجهر بالحق ، وبثه بين العامة من خلال فتاوى يوقع عليها مئات من السلفيين وتلصق في المساجد ، ويذيع خبرها في وسائل الإعلام ، أو أشرطة ميسرة تحذر من أنواع الشركيات والبدع ، أو كتيبات ومطويات تُنشر وتوزع في أماكن الموالد والمواسم المخترعة .
قد يقول قائل : إن اليمن تختلف عن غيرها ؛ فالحكومة فيها لا تحمي القبور والبدع ، بل تهمها السياسة فقط . أما في البلاد الأخرى ؛ كمصر مثلا ، فإن الحكومة ترعى وتستفيد من هذه القبور والمواسم فائدتين :(77/4)
1- الربح المادي .
2- صرف الناس عن الدين الحق إلى الدروشة والتصوف الذي لا خطر منه .
فأقول :
أولا : يجب قبل أن نحكم بالنتائج مسبقًا أن نحاول ونبذل الجهد ، ونحتسب الأجر من الله . فإن منعنا فقد أعذرنا عند الله .
ثانيًا : يجب إيصال هذه الفكرة إلى الدول : وهي أن نشر عقيدة أهل السنة ودعمها يحقق لها هدفين مهمين :
1- النجاة في الآخرة بإذن الله ؛ حيث نصر دين الله بما يستطيع . بخلاف البدع والشركيات فإنها تعرضه للكفر والردة والعذاب المقيم . وثق أن كل مسلم ولو كان رئيسًا أو مسؤولا يقلقه هذا الأمر . فلنحرص على إيصال الفكرة .
2- حماية ملكه مادام لم يصدر منه كفر بواح ! لأن من عقيدة أهل السنة عدم جواز الخروج على الحاكم .
وتوضيح هذا له مقال آخر إن شاء الله بعنوان ( مصالحة .. بين الحكام ودعاة الإسلام ) .
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى . وآمل من الأخوة إثراء هذا الموضوع بآرائهم وأفكارهم ، لا سيما من يعيشون في غير السعودية .(77/5)
ايضاح الإشكال .. في مقال : أحمد بن باز
لقد اطلعت كغيري على المقال الذي كتبه الأخ أحمد بن باز – وفقه الله للخير – وتأملته ؛ فوجدت أنه – هداه الله – قد خلط بين عدة قضايا لعلها أشكلت عليه ، فكان الواجب أن لا يبادر بالكتابة في هذا الموضوع الذي لازال مشوشًا في ذهنه ؛ كما هو متضح من مقاله . وقد أحببت توضيح ما رأيته مشكلا على الأخ أحمد من خلال نقاط متسلسلة ونقولات علمية بعد نقل كلامه .
1 - يقول الأخ أحمد : (إن مظاهر الغلو والتطرف العملية والسلوكية هي في الحقيقة نتاج طبيعي للتطرف في الفكر والتصور العقلي ومن أخطر صور التطرف الفكري (التعميم) و(الاجمال) في اطلاق الالفاظ والمصطلحات، لا سيما حال اصدار الاحكام ومن ذلك لفظ (الكافر)، حيث اصبح يطلق على كل شخص لا يدين بدين الاسلام وهذا اصطلاح خاطئ ونصوص الكتاب والسنة شواهد بذلك ) !!! ولم يذكر شيئا من هذه النصوص التي تمنع هذا الإطلاق !!
2 - ثم يقول : (ان غير المسلم قد لا يكون بالضرورة كافرا فقد يكون ممن يتعبد الله باليهودية او النصرانية ولم يسمع بالاسلام أو سمع به سماعا مشوها ـ وهو الغالب ـ او سماعا لا تقوم به الحجة كما قال سبحانه وتعالى: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون» (آل عمران 113) وقوله سبحانه وتعالى: «وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما انزل اليكم وما انزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب» (آل عمران 199). أو قد لا يكون يهوديا ولا نصرانيا ولم يسمع بالاسلام او سمع به ايضا سماعا مشوها او سماعا لا تقوم به الحجة، وهو كثير جدا فيحكم عليه بأنه من أهل الفترة ومعلوم حكمهم) .(78/1)
3 - ثم يقول : ( وقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد جاور اليهود واخدمهم فاستعملهم على خيبر وعاد مرضاهم وأكل طعامهم وباعهم واشترى منهم ومات ودرعه مرهونة عندهم، وأوصى بأهل الكتاب خيرا، بل أمر بصلة المشركين ممن لم يعاد المسلمين، فكيف بغيرهم، كما في حديث المرأة التي سألته فقالت: «ان امي قدمت عليَّ وهي مشركة أفأصلها؟»، فقال صلى الله عليه وسلم «صليها». وقبل ذلك كله فقد قال سبحانه وتعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم» (سورة الممتحنة 8)، وهل بعد البر والاقساط شيء من الاحسان؟!، بل وأباح سبحانه وتعالى الزواج من أهل الكتاب مع ما يحصل في الزواج من الرحمة والألفة والمحبة المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: «ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة» (سورة الروم21)، كل هذا ليؤكد بقوة ان كون الانسان غير مسلم لا يعني بالضرورة كونه كافرا، ويؤكد كذلك على ان كون الانسان ايضا غير مسلم لا يعني بالضرورة استحقاقه للعداوة والبغضاء، واستحلال الدم والمال حتى ولو لم يكن معاهدا ولا ذميا وان هناك فرقا كبيرا بين من يعادي المسلمين ويحاربهم وبين من لا يعاديهم ولا يحاربهم وهو الغالب على أهل الأرض ) انتهى كلام أحمد بن باز
ايضاح الإشكال :
1- الحمد لله أن أحمد بن باز يرى كفر اليهود والنصارى ، ولم ينسق وراء الفكرة الكفرية القائلة بعدم تكفيرهم ؛ كما ينادي به بعض العصريين . وقولهم مناقض للإسلام كما بين ذلك أهل العلم في غير موضع ، وأنصح بالرجوع إلى رسالة ( الإبطال ) للشيخ بكر أبوزيد – حفظه الله – أو كتاب ( الإعلام بكفر من ابتغى غير الإسلام ) للشيخ ابن جبرين – حفظه الله - .(78/2)
2- لكن الأخ أحمد يرى أنه لا يجوز لنا أن نطلق وصف ( الكافر ) على غير المسلم ؛ لأنه قد يكون ممن لم تبلغه الدعوة أو ....... الخ كلامه ! ولكنه لم يبين لنا : ماذا نطلق عليهم ؟!
وقوله هذا مصادم لنصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين القاضي بأن كل من لم يدن بدين الإسلام فإنه ( كافر ) سواء بلغته الدعوة أو لم تبلغه ، وسواء كان صغيرًا أو كبيرًا ، فإنه يعامل معاملة ( الكفار ) في الدنيا ؛ بجميع ما يتعلق بهم من أحكام .
3- ولكن يبقى : هل هذا ( الكافر ) المعين ممن سيعذبهم الله عز وجل ؟ يقال في هذا : من بلغته الدعوة عذب ، ومن لم تبلغه فإنه يعامل ( في الآخرة ) معاملة أهل الفترة ؛ والراجح فيهم أن الله يختبرهم يوم القيامة ، كما دل على ذلك الحديث .
وقد وضح ابن القيم – رحمه الله – هذه المسألة خير توضيح في كتابة ( طريق الهجرتين ، ص 679 – 681 ) ؛ حيث قال : (( الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه. هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر: فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة ، وهو مبني على أربعة أصول:(78/3)
أحدها : أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقال تعالى: (كلما أُلقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء) وقال تعالى: (فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) وقال تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) وهذا كثير من القرآن، يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، وقال تعالى: (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) والظالم من عرف ما جاء به الرسول أو تمكن من معرفته بوجه وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟.
(الأصل الثاني) أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
(الأصل الثالث) أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.(78/4)
(الأصل الرابع) أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة) .
وقال سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله - : ( وقد أجمع العلماء على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين ، وأن من لم يؤمن به ويتبع ما جاء به فهو من أهل النار ومن الكفار سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو هندوكيا أو بوذيا أو شيوعيا أو غير ذلك .
فالواجب على جميع الثقلين من الجن والإنس أن يؤمنوا بالله ورسوله ، وأن يعبدوا الله وحده دون ما سواه ، وأن يتبعوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى الموت . وبذلك تحصل لهم السعادة والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة كما تقدم ذلك في الآيات السابقة والحديث الشريف .
وكما قال الله عز وجل : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ وقال سبحانه : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وقال عز وجل في سورة النور : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } والآيات في هذا المعنى كثيرة .(78/5)
وجميع الديانات المخالفة للإسلام فيها من الشرك والكفر بالله ما يخالف دين الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وبعث به محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأفضلهم . . وفيها عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعدم اتباعه ، وذلك كاف في كفرهم واستحقاقهم غضب الله وعقابه وحرمانهم من دخول الجنة واستحقاقهم لدخول النار إلا من لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم . فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى . والصحيح : أنه يمتحن يوم القيامة فإن أجاب لما طلب منه دخل الجنة وإن عصا دخل النار ، وقد بسط العلامة ابن القيم - رحمه الله - هذه المسألة وأدلتها في آخر كتابه : ( طريق الهجرتين ) تحت عنوان : طبقات المكلفين . فمن أراده فليراجعه ليستفيد منه الفائدة الكبيرة. ) . ( مجموع فتاوى ابن باز 7 / 28 – 29 ) .(78/6)
4- أنه لا يشترط في بلوغ الحجة أن يفهمها الإنسان فهما جليا كما يفهمها من هداه الله ؛ يقول الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله - : ( كل من بلغه القرآن فليس بمعذور ؛ فإن الأصول الكبار التي هي أصل دين الإسلام قد بينها الله في كتابه ووضحها ، وأقام بها حجته على عباده ، وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهمًٍا جليًا كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره ؛ فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا كلامه ، فقال ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) ، وقال ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ) وقال تعالى ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) وقال ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) والآيات في هذا المعنى كثيرة . يخبر تعالى أنهم لم يفهموا القرآن ولم يفقهوه ، والله عاقبهم بالأكنة على قلوبهم ، والوقر في آذانهم ، وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ، فلم يعذرهم الله مع هذا كله ، بل حكم بكفرهم ، فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوع وفهمها نوع آخر ) . ( إجماع أهل السنة النبوية .. ، ص 112 – 113 ) .
قلت : ويندر الآن بين الكفار من لم يسمع بالإسلام أو القرآن ، ولهذا قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : ( إن هؤلاء اليهود والنصارى كفار ؛ لأن الحجة قد قامت عليهم ، وبلغتهم الرسالة ، ولكنهم كفروا عنادا ) . ( الصحوة الإسلامية – ضوابط وتوجيهات ، ص 199 ) .(78/7)
5- أن الأخ أحمد – هداه الله – بعد أن قرر بأن غير المسلم لا يوصف بأنه ( كافر ) ! ادعى بأنه مادام الأمر كذلك فإن لنا أن نواده ولا نبغضه أو نعاديه !!! وقد سبق أن غير المسلم يوصف ( بالكفر ) ويلحقه ما يلحق الكفار من أحكام الدنيا ؛ وعلى رأسها تكفيره وبغضه وعدم مودته أو موالاته ؛ وأنه لا تناقض بين هذا وبين البر والإحسان إليه ؛ كما يعرف هذا صغار الطلبة ! ولعل الأخ أحمد قد تأثر في هذه القضية بدعاة العصرنة وتمييع أحكام الإسلام أو تلبيسها على الناس ؛ لعل الكافر يرضى عنهم أو لعلهم يظهروا بمظهر التنور والتقدم ولو على حساب دينهم !! – نسأل الله العافية - ؛ فقد ردد مثل هذه المقولة كثير منهم وعلى رأسهم الغزالي والقرضاوي والغنوشي وأضرابهم . وليت هؤلاء جميعا تدبروا قوله تعالى ( هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ) ! فأنتم تنازلتم لهم عن كثير من أحكام دينكم ولكنهم لا زالوا يبغضونكم ويقاتلونكم ويحتلون دياركم .. ! فتأمل هذا الذل وهذه المهانة .
يقول الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله – مؤكدا على التفريق بين حرمة مودة الكفار وجواز الإحسان مع غير المحاربين منهم : (ومما يوضح هذا أن الله سبحانه نهى عن موادة الآباء والأبناء إن استحبوا الكفر على الإيمان ؛ حيث يقول جل شأنه : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم ....) الآية ، مع أنه أوصى بالإحسان إلى الوالدين الكافرين بقوله : ( وصاحبهما في الدنيا معروفًا ) فدل على أن الإحسان لا يستلزم المودة في القلب ) . ( الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام ، ص 15 ) .(78/8)
ويقول– حفظه الله – في رده على الغنامي أحد المروجين لمذهب العصرنة الخاسر : (وكون الغنامي يستثقل كراهية المسلم لكثير من الأمم الكفرية على وجه الأرض فالله سبحانه نهانا عن اتباع الكثرة إذا كانت على غير هدى.؛ قال تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وليس معنى كراهيتهم أننا لا نتعامل معهم في تبادل المصالح المباحة ونعقد الصلح والمهادنة معهم إذا اقتضى الأمر ذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما كراهيتهم تعني البراءة من دينهم وأن لا نتنازل عن شيء من ديننا لأجلهم.
وقول الغنامي إن هناك فرقاً بين النص المنزل والتفسير الذي هو من اجتهاد الفقهاء - يقصد أن القول بالولاء والبراء من تفسير الفقهاء وليس فيه نص ونقول له هذا من المكابرة الواضحة فهناك نصوص كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية توجب الولاء والبراء. وليس تفسيراً اجتهاديا للفقهاء. منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) ثم استدل الغنامي استدلالاً خاطئاً بقول الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) الآية، على جواز موالاة الكفار ولو أنه أكمل الآية لعرف المراد منها إلا إن كان يريد أن لا يعرف أو يريد أن يغالط لأن الله قال (أن تبروهم وتقسطوا إليهم) والبر يكون بالإحسان إليهم نظير صنيعهم مع المسلمين بالإهداء إليهم وإعطائهم شيئاً من المال مكافأة لهم وليس ذلك من باب الولاء لهم والمحبة بل هو تعامل دنيوي كغيره من التعاملات المباحة معهم.
فالله لم يقل: أن تولوهم أو تحبوهم، بل قال: (أن تبروهم) والبر يكون بالعطاء والمنفعة فقط لا بالمحبة لهم ولدينهم .(78/9)
ثم ختم الغنامي استدلالاته العجيبة بأن تزوج المسلم من الكتابية تدل إباحته للمسلم على جواز موالاة الكفار لما يكون بين الزوجين من المودة. ونقول له هذه مودة زوجية طبيعية وليست مودة دينية فزوج الكتابية المسلم لا يحب دينها لأن ذلك لا يجوز له وإنما يحبها محبة طبيعية فقط) ( جريدة الوطن ، 16 / 11 / 1424 ) .
ختامًا : أسأل الله أن يوفق الأخ أحمد بن باز ، وأن يجعله كسلفه ناشرا وناصرا لدينه ، وأن يجنبه شياطين الإنس ممن يكيدون للحق ، ويستدرجون أهله إلى باطلهم ؛ لأجل عرض من الدنيا قليل ..(78/10)
هداك الله ........... يا ( عداب الحمش ) !
كنت قد ذكرت في مقدمة رسالتي عن " انحرافات خالص جلبي " أن القادمين إلى بلاد التوحيد من العلماء وطلبة العلم المتلبسين بشيئ من البدع أصناف : فمنهم من يدع بدعته ، ويُقر بخطئه ، بل ويُحذر منه بعد أن يتبين له الحق ، ؛ لأنه طالبٌ له، مبتغٍ الدار الآخرة - نحسبه كذلك - ؛ كالشيخ الشنقيطي - رحمه الله - .
ومنهم من يبقى على بدعته ، ولكنه يخفيها ولايجهر بها ؛ كما قيل : ودارهم ما دمت في دارهم ! وهذا الصنف سرعان ما يجهر بل يجأر ببدعته عندما يخرج دون عودة من هذه البلاد ؛ كممدوح سعيد وأمثاله .
ومنهم - وهم الأخطر - من يبقى على بدعته وانحرافه ، جاهرًا به ، ناشرُا له ؛ لما يلقاه من تأييد بعض أشباهه من المنحرفين في هذه البلاد ؛ كخالص جلبي القابع منذ أكثر من عشر سنين في بريدة !
_
والدكتور عداب الحمش - هداه الله - هو في نظري من الصنف الثاني ؛ لأننا لم نكن نراه يجهر ببدعته عندما كان بيننا قبل أزمة الخليج ، بل كان يكتب المؤلفات النافعة على منهج أهل الحديث ! كدفاعه عن الصحابي ثعلبة بن حاطب رضي الله عنه ، وكرده على أبي غدة في مسائل حديثية ..
ولكننا تفاجأنا بعد خروجه من هذه البلاد بنفَسٍ غير النفس الذي كان يكتب به سابقًا ؛ فوجدنا عنده الهمز واللمز بعلماء أهل السنة ، ووجدنا التقارب مع الروافض ، والدفاع عن غلاة الصوفية وملاحدتها !! وذلك في كتابه الأخير " المهدي المنتظر " .
- ( انظر : ص 32، 52، 77، 83، 236 لمزه في ابن القيم والشيخ حمود التويجري والشيخ الألباني رحمهم الله ) .(79/1)
- ( وانظر : ص 61، 405-410، 413، 535 تبجحه بعلاقاته الطيبة مع الروافض ! وادعاءه الكاذب أن الخلاف بيننا وبينهم إنما هو في مسائل الفروع ولا يتجاوز 5% !!!!!!!! ودعوته إلى التعايش السلمي بين الفريقين وعدم الحرص دعوتهم للحق ؛ لأنهم يدعون أنهم على الحق ونحن ندعي أننا على الحق ولن يتراجع أحد عن قوله ! ولا أدري : هل يشك عداب في أن الحق مع أهل السنة !! إنها مصيبة ما بعدها مصيبة أن لا يجني طالب العلم من كل هذه السنين الماضية سوى الشك والريب في الحق ، وعدم معرفة دين الرافضة ) .
_____________________
وقد وُفق الشيخ أحمد بن أبي العينين - حفظه الله - في التنبيه على انحرافات عداب السابقة ؛ وذلك في كتابه " تحذير ذوي الفطن من عبث الخائضين في أشراط الساعة والملاحم والفتن " ( ص 292-321) .
ولهذا سأركز في ردي هذا على مسألة تعرض لها عداب في كتابه الآنف لم يبينها الشيخ أحمد في رده ؛ وذلك عندما دافع عداب عن أعلام الصوفية ، وكال لهم عبارات المديح ، منخدعًا بأساليبهم في التغرير بالمسلمين ، من حيث تكلف الخشوع والرقة والأدب .. الخ ( انظر ص 239)، وكل هذا لا يغني صاحبه شيئا عند الله مادام دينه خاويًا من التوحيد الخالص لله رب العالمين ، ومن متابعة سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
ثم كانت الطامة الكبرى عندما قال - بعد ذلك - ( ص 246) : ( لقد ترجح عندي أن كل مخالفة عقدية في كتب الشيخ محيي الدين ! ابن عربي إنما هي من دس الزنادقة الذين كانوا يتظاهرون بالتصوف ، ولاعتقادي هذا فإنني أترحم على الشيخ وأترضى عنه) !!
______________________
فعداب - هداه الله - يردد ما يروجه غلاة الصوفية عندما يواجَهون بالكفريات " الصريحة " لابن عربي وغيره من ملاحدة الصوفية، التي لا يجدون ما يدفعها ؛ فيزعمون أن هذه الكفريات مدسوسة في كتبه من قبل الشانئين أو غيرهم !(79/2)
قال الشعراني الصوفي عن ابن عربي : ( وجميع ما عارض من كلامه ظاهر الشريعة وماعليه الجمهور فهو مدسوس عليه ) ! ( اليواقيت والجواهر ، 1/9) . وقال أيضا : ( كذب من دس في كتاب الفصوص والفتوحات أن الشيخ محيي الدين ابن عربي قال بأن أهل النار يتلذذون بالنار .... الخ ) . ( السابق ، 2/205) .
وقال الحصكفي في الدر المختار : ( الذي تيقنته أن بعض اليهود افتراها على الشيخ قدس الله سره ) !! وأيده ابن عابدين في حاشيته ( 3/303) !
وقال الشيخ عبدالقادر عيسى مدافعًا عن ابن عربي وإخوانه من الملاحدة : ( ومنهم من أراد أن يُفسد دين المسلمين بأشياء أخر تمس عقائدهم ؛ فنسب إلى بعض رجال الصوفية أقوالا تخالف عقيدة أهل السنة ؛ كالقول بالحلول والاتحاد ، وبأن الخالق عين المخلوق ، والكون عين المكوّن ..... الخ ) . ( حقائق عن التصوف ، ص 494-515).
_______________________
قلت : قد أجاد العلماء والعقلاء من الباحثين عندما بينوا تهافت هذا الاعتذار الساذج عن زنادقة التصوف الذين كانوا يُجاهرون بكفرياتهم ويملؤن بها الأسفار والأشعار .
يقول الدكتورمحمد الأنور البلتاجي في كتابه " الله توحيد وليس وحده " ( ص 98-100) :
( وأول ما يدفع به الصوفيون إنكار المنكرين على ابن عربي، هو زعمهم بأنه قد دُست عليه الكثير من الآراء التي لم يقلها!!(79/3)
يقول الشعراني – وهو من أقطاب الصوفية-: "وقد توقفت حال الاختصار –يعني للفتوحات- في مواضع كثيرة منه، ولم يظهر لي موافقتها لما عليه أهل السنة والجماعة، فحذفتها من هذا المختصر ، وربما سهوت فتبعت ما في الكتاب، كما وقع للبيضاوي مع الزمخشري، ثم لم أزل كذلك أظن أن المواضع التي حذفت ثابتة عن الشيخ محيي الدين، حتى قدم علينا الأخ العالم الشريف شمس الدين السيد محمد ابن السيد أبي الطيب –المتوفى عام 955هـ- فذاكرته في ذلك، فأخرج إليّ نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط للشيخ محيي الدين نفسه بـ"قونيه"، فلم أر فيها شيئاً مما توقفت فيه وحذفته، فعلمت أن النسخ التي في مصر الآن كلها كتبت من النسخة التي دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السنة والجماعة، كما وقع له ذلك في كتاب الفصوص وغيره"!!
ونحن نقول: هكذا الشأن معهم دائماً: الإنكار، ثم التشكيك، ثم التأويل!!
ولنا في هذا تجربة :
حدث ذلك عندما نقلنا عن "الطبقات الكبرى" للشعراني بعض النصوص التي تخالف العقيدة، ولا تتفق مع بدائه العقول، لمناقشتها في كتابنا "من وصايا القرآن الكريم"؛ فقوبلنا أولاً بالإنكار. إذ نفوا وجود هذه الأفكار التي تعرضنا لها، بل وأنكروا وجودها تماماً، معتمدين في ذلك على ندرة هذه المراجع أو ارتفاع أثمانها، بحيث يتعذر الحصول عليها أو الرجوع إليها!!
فلما جابهناهم بالمراجع التي أخذنا عنها، عمدوا إلى التشكيك، فادعوا أنها من الدخيل عليهم مما دسه خصوم الشعراني عليه!!
فلما قلنا: كيف يكون هذا، وأنتم تعتمدون على هذه المراجع نفسها، تنقلون عنها وتحتجون بها؟!
أيكون الدليل صحيحاً إذا كان في أيديكم، ثم يصبح هذا الدليل نفسه زائفاً إذا انتقل إلى أيدينا؟!
ولماذا لم ترفعوا هذا الدخيل المدسوس من مراجعكم إذا كان ما تدعون صحيحاً؟!(79/4)
عندئذ لجأوا إلى التأويل، فقالوا: إن هذه النصوص تحوي من المعاني الباطنة والعلوم اللدنية ما لا يدركه سوى الخواص من الصوفيين –لأنهم أهل الحقيقة- أما طبقة العوام وهم أهل الشرعية فإنهم لن يصلوا أبداً إلى أسرار هذه الأفكار لكونها محجوبة عنهم!!
وهكذا دأبهم دائماً !!
ويذهب البعض –ومنهم الشيخ محمد عبده، والدكتور محمد حسين الذهبي- إلى أن تفسير ابن عربي القرآن الكريم من عمل عبد الرزاق القاشاني، ونسبه لابن عربي ترويجاً له بين الناس، وتشهيراً له بشهرة ابن عربي!!
ويقول الشيخ محمد عبده: "وقد اشتبه على الناس فيه -أي في التفسير الإشاري- كلام الباطنية بكلام الصوفية، ومن ذلك: التفسير الذي ينسبونه للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وإنما هو للقاشاني الباطني الشهير، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز".( تفسير المنار ، ج 1 ص 18 ).
وقد أيده فيما ذهب إليه الدكتور الذهبي عندما تعرض لتفسير ابن عربي في الجزء الثاني من كتابه "التفسير والمفسرون".
ونحن إذا سلمنا بهذا القول، وأن هذا التفسير من عمل القاشاني، وأنه قد نسبه لابن عربي ترويجاً له بين الناس، وتشهيراً له بشهرة المنسوب إليه ؛ فلا نملك أبداً إغماض عيوننا عن موافقة ما جاء بهذا التفسير من آراء وأفكار تتفق مع المبادئ التي بثها ابن عربي في مؤلفاته كلها كالفتوحات، والفصوص، وغيرها ).
انتهى كلام الدكتور البلتاجي .
_______________________
وقال الشيخ عبدالقادر السندي في رده على الصوفي محمود الغراب - بعد أن نقل كلام ابن المقرئ المغربي من كتاب طبقات الصوفية للمناوي الذي ادعى فيه الدس على ابن عربي - : ( ثبت عن ابن عربي مقالاته تلك الكفرية بأمرين معروفين قد خفيا على ابن المقرئ والمناوي وابن العماد وغيرهم ؛ وهما :
1- سماع الثقات المعاصرين ومشاهدتهم لابن عربي الضال الملحد ..(79/5)
2- ووجود خطه بيده ، وقد خط وحرر بخخط يده الكفر الغليظ والنفاق المبين ، والشرك الأكبر ، وتحريمه الحلال وتحليله المحرم ... ) . ( 2/209باختصار) .
_______________________
وقال الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق في " فضائح الصوفية " ( ص 11) : ( وربما قالوا بل هو مدسوس عليه ؛ وهذه أيضاً من جملة كذبهم وتدليسهم ، وأتحدى أي صوفي أن يذكر عبارة بعينها ويقول إنها مدسوسة أو عقيدة خاصة بعينها ويقول إنها قد دست على الكاتب الفلاني، كيف وهي كتب كاملة، وعقائد مصنفة منمقة، وقصائد مدبجة موزونة ... أتحدى أي صوفي أن يقول : هذه القصيدة مدسوسة، أو هذا القول المعين مدسوس. لأنه لو قال ذلك لأصبح التصوف كله مدسوساً مكذوباً ) .
_______________________
أما الشيخ علي الطنطاوي فقد أتى بالخبر اليقين والقول القاطع عندما تعرض في فتاواه للصوفي السابق " محمود الغراب " الذي ادعى أن الطنطاوي لايعرف شيئا عن ابن عربي ! فقال الشيخ ردًا عليه :
( أما قوله في الرسالة من أنني لا أعرف شيئًا عن ابن عربي وعن عقيدة وحدة الوجود ؛ فأخبره - و لافخر في ذلك - أن الذي جلب كتاب الفتوحات من قونيا ونقله من النسخة المكتوبة بخط ابن عربي نفسه ، المحفوظة الآن في قونية ، هو جدنا الذي قدم من طنطا إلى دمشق سنة 1250هـ ، فإن كان أخطأ في ذلك فأسأل الله المغفرة له ، وإنني قابلت مع عمي الشيخ عبدالقادر الطنطاوي نسخة الفتوحات المطبوعة على هذا الأصل المنقول صفحة صفحة ) . ( انظر فتاوى الطنطاوي : ص 79- 80 ).
قلت : ولو سلمنا بأن هذه اللفظة أوتلك مدسوسة على ابن عربي ؛ فإن كتبه وأشعاره قائمة بمجموعها على عقيدة وحدة الوجود لا يمكن الانفكاك عنها مهما ادعي فيها من الدس عليه ؛ لالتصاقها بالكفر - والعياذ بالله - .
_______________________
فوائد :(79/6)
1- ذكر الشيخ السندي في رده السابق على الغراب أن ترجمة ابن عربي في شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي ربما تكون محرفة من مالك النسخة المخطوطة ؛ وهو داود بن جرجيس القبوري الشهير عدو الدعوة السلفية ! وذلك لاشتمال الترجمة على تزكية ابن عربي ، وعدم التعرض لعقيدته وانحرافاته . فلعل أحد طلبة العلم يستجيب لدعوة الشيخ عندما قال ( ص 314) :( ولابد من بذل الجهود والوقت للحصول على النسخة الأصلية المقروءة والمسموعة على المؤلف ثم مطابقتها بالمطبوع ومقابلتها حسب العادة المتعبة، ولابد من وجود الجهة العلمية العليا التي تحرص أشد الحرص على متابعة هذا الموضوع الخطير بالدقة والإمعان ، وإلا سيلزم اتباع الكفر والباطل دون علم القارئ العادي وما أكثرهم اليوم على وجه الأرض والله أعلم ). مع أنني أعتقد - والله أعلم - أن ابن العماد قد اغتر بابن عربي كما اغتر غيره ؛ لأنني وجدته يثني على غير ابن عربي من الصوفية ؛ كابن الفارض والسهروردي ( انظر : 3/149،153) .
2- ذكر الشيخ الطنطاوي في فتواه السابقة أن الغراب المردود عليه ربما يكون اسمًا وهميًا ؛ لأنه من أعرف الناس بعلماء الشام ، ولايوجد فيهم من يسمى بهذا الاسم الغريب .
3- اطلعتُ على رسالة صغيرة مطبوعة أرسلها هذا الغراب للشيخ ابن باز رحمه الله يشتكي فيها ظلم الشيخ عبدالقادر السندي له !
4- من أفضل الكتب التي ردت على ابن عربي :
أ - الفتاوى لشيخ الإسلام ( المجلد الثاني ) .
ب- " ابن عربي " لسميح الزين .
ج - " الإلحادية : عقيدة ابن عربي الاتحادية " للأستاذ مصطفى سلامة ز
د - " كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق " للشيخ عبدالقادر السندي .
هـ - العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين " للفاسي ؛ حيث ترجم لابن عربي وذكر فتاوى العلماء فيه . وقد طبعت الترجمة مفردة بتحقيق الشيخ علي الحلبي .(79/7)
ز - " نعمة الذريعة في نصرة الشريعة " لابراهيم الحلبي ؛ وهو رد مفصل على " فصوص الحكم " . وقد طبع بتحقيق الشيخ علي رضا .
ح - " رسائل وفتاوى في ذم ابن عربي الصوفي " جمع وتحقيق الشيخ موسى الدويش .
5- من المعلوم اهتمام المستشرقين القديم ببعث العقائد المنحرفة عن منهج أهل السنة ؛ لكي يصرفوا المسلمين عن مصدر عزهم وقوتهم . وقد وجدتُ أن العلمانيين - قبحهم الله - عندما رأوا انتشار الخير والتمسك بالدين بين المسلمين ساروا على نفس خطى أساتذتهم ؛ فبدؤا ببعث تراث الفرق المنحرفة وأعلامها . ومن ذلك : قيام أحد رموزهم في هذا الزمان " نصر حامد أبوزيد " بتأليف كتاب جديد بعنوان : " هكذا تكلم ابن عربي " .(79/8)
سألني سائل عن الدكتور عبدالله الحامد ...!
كنت قد كتبتُ مقالاً ضمن سلسلة "ثقافة التلبيس" بعنوان "مصطلح الإصلاح" بينت فيه أن هذا الوصف أطلق في القرآن على صنفين من الناس:
1- على المصلحين الحقيقيين من أتباع الأنبياء –عليهم السلام-.
2- وعلى مدعي الإصلاح من المنحرفين عن الكتاب والسنة، الذين يُغلفون إفسادهم وباطلهم بهذا الوصف الجميل بغية تضليل الناس وحرفهم إلى مضمونه الفاسد.
وللأسف فإن بعض المخادعين لا زالوا يُطلقون هذا الوصف الجميل على النوع الثاني ، كذباً وزوراً.
وقد رأينا جميعًا في قضية "الدميني والفالح والحامد" كيف صورهم البعض بتلك الصورة الإصلاحية الجميلة، ولكن من علم أفكارهم وأهدافهم علم أنهم خلاف ذلك .
ويتضاعف الأسف عندما ينساق بعض الطيبين - من الأشخاص أو المواقع! - خلف هؤلاء مروجين لهم ولقضيتهم ومصورينهم بصورة المظلوم، نكاية بالدولة . وقد بين أخي طالوت المعافري –وفقه الله- في مقال له بُعد هؤلاء عن الإصلاح الشرعي المأمول؛ وأنهم ما بين حداثي ، و قومي ، و عصراني .
وفي ظني أن الذي جمع الثلاثة وألف بين قلوبهم ! أمران:
1- معارضة الدولة السعودية –وفقها الله للخير-.
2- الافتتان بما يسمى "المجتمع المدني" الذي جعلوا منه "المدينة الفاضلة" التي يحلمون بها ويعيشون رغم اختلافهم متعاونين في سبيل إقامتها! (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى).
وقد اختاروا - للأسف - ظرفًا عصيبًا تمر به الدولة ليقيموا تجمعاتهم وينادوا بأفكارهم .. غافلين عن العدو المتربص الذي يطرب لمثل هذه الأصوات متخذًا منها ذريعة للتدخل في شؤون المسلمين الداخلية وفرض مايراه من " إصلاح " ! عليها .
ـــــــــــــــــــــــ
فأولهم هو أحد المشرفين على مجلة الحداثيين في هذه البلاد : " النص الجديد " التي خصصت عددًا كاملا للحديث عن " مجتمعهم المدني " المراد تحقيقه بدلا من المجتمع الإسلامي الذي قامت عليه هذه البلاد .(80/1)
وثانيهم له كتاب بعنوان " المجتمع المدني والديمقراطية .." نشر مركز دراسات الوحدة ، الذي لازال يعيش أوهام القومية العربية البائدة .
وثالثهم تحول من الاهتمام بالأدب والكتابة فيه إلى الترويج لهذا المجتمع المدني الذي فُتن به بعد أزمة الكويت ، وجعله همه الأكبر .
وقد سبق لي أن بينتُ حقيقة هذا المجتمع ، وأنه عبارة عن مجتمع علماني دنيوي – باعتراف دعاته - لا تحكمه شريعة الله –عز وجل- ؛ مهما حاول المرقعون أن يُجروا له من عمليات تجميل تغير من شكله القبيح ، مجتمع يعيش فيه الموحدون والزنادقة والكفار جنبًا إلى جنب دون فوارق بينهم ، همهم أن يأكلوا ويشربوا ويتمتعوا ؛ ليعمروا دنياهم –زعموا- بخراب دينهم ، ومناقضة أحكامه .
ومثل هذا المجتمع – ولو بلغ ما بلغ – ( وما هو ببالغ ! ) لا عبرة له في دين الله ، فكم أهلك الله قبله من مجتمعات عمرت دنياها بتدمير توحيدها وعبوديتها لله وتمايزها عن أعدائه ؛ قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}، وقال سبحانه : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .. وغيرها من الآيات التي تبين للمؤمنين أن العمران والإنتاج الدنيوي دون إقامة لدين الله وشرعه بلا تحريف أوتلبيس أومداهنة .. ستكون عاقبته الهلاك وعدم الفلاح ؛ وسيشابه أصحابه الكافرين الذين قال الله عنهم : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} .
انظر الرابط التالي : http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/38.htm
ـــــــــــــــــــــــ(80/2)
ومشكلة هؤلاء الثلاثة وأمثالهم أنهم أرادوا أن يفروا من ظلم الدولة –كما يزعمون- (سواء في توزيع الثروات أو الاستبداد بالقرارات ..) ولو كان الفرار إلى مجتمع كفري "وهمي" يحكمه دستور البشر، يظنون أنهم من خلاله سيحققون العدالة المنشودة.
فهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا .
ومشكلة هؤلاء أيضاً أنهم في دعوتهم لمثل هذا المجتمع المدني الكفري يستعملون الألفاظ الموهمة المحتملة لكل تفسير! التي لا تدل على مشروع عملي واضح.
فلو قلت لهم: لنفترض أن الشعب انساق وراء أفكاركم وآمن بها، فأخبرونا: ما الذي تريدون الوصول إليه؟
لقالوا لك: نريد أن نحقق المجتمع المدني العادل ،والمشاركة الشعبية، وضمان حقوق الإنسان و...الخ
شعارات وراء شعارات دون أي نتيجة عملية ملموسة.
حسناً: كل هذه مجرد شعارات ولا تعدو كونها وسائل ، ولكن: بماذا ستحكمون؟! وكيف ستحكمون؟! وما هي الحقوق التي ستحققونها للإنسان ؟! و و
الجواب: لا جواب! وفي ظني أنهم سيختلفون لاختلاف مرجعية كل واحد منهم عن الآخر. فالأمر مجرد تأجيل للخلافات والصراعات إلى حين الخلاص من الدولة السعودية!
فـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } .
ـــــــــــــــــــــــ
قد يقول قائل : ولكن الدكتور الحامد من" الإسلاميين " ! ولانعلم عنه إلاخيرًا ، وقضيته الكبرى : أن ترتقي الأمة في المجال الدنيوي الذي فاقها فيه الأعداء ، وأن تواجه الظلم والاستبداد ... فلماذا التحامل عليه وحشره مع من سبق ؟!
فأقول :
أولا : أنا لم أحشره معهم ، بل هو من حشر نفسه ! و " المرء مع من أحب " .
ثانيًا : وصف " الإسلاميين " لم يعد وصف تزكية ؛ لأنه أصبح يُطلق على المبتدعة والمنحرفين والمخلطين ممن يخالفون حقيقة الإسلام ؛ فلا بد حينئذ من عرض أفكار كل إسلامي يتصدر الأمة على نصوص الكتاب والسنة حتى لا نُخدع .(80/3)
ثالثًا : أنه لا يلزم من كونه من الإسلاميين أو حسَن النية والقصد أن نغض الطرف عن انحرافاته وتجاوزاته التي قد تجر على بلادنا وشبابنا ما تجر من مصائب وفتن نحن في غنىً عنها .
ـــــــــــــــــــــــ
أما عن فكره ؛ فقد كان الرجل من المتخصصين في الأدب العرب بأطواره ، وتخرج في جامعة الإمام ، وألف في ذلك مؤلفات ، من أفضلها رسالته عن شعراء الدعوة الإسلامية .. ثم بعد أن حدثت أزمة الكويت استهوته قضية الإصلاح ، فأصبح من المطالبين به مع من طالب ذاك الحين ، ثم تطور فكره إلى الافتتان بالمجتمع المدني وألف في ذلك كتيبات – كما سيأتي – وحث الأمة على التقدم الدنيوي ، والاهتمام بـ" عالم الشهادة " كما تهتم بـ" عالم الغيب " – كما يقول - .
أما فكرة " المجتمع المدني " فقد تم بحثها – كما سبق – وبيان ما فيها من مخالفات .
انظر الرابط التالي : http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/16.htm
وأما حث الأمة على التقدم الدنيوي فحيّ هلا به لو لم يشوهه بالمعاني الباطلة ، والتحامل على أهل السنة ؛ بسبب ضعفه في العلم الشرعي ، ومجالسته لأهل البدع من أمثال حسن المالكي وغيره .
وتوضيح ذلك يكون بتسليط الضوء – في نقاط - على أقواله التي عبر بها عن مشروعه هذا ، والتي فاه بها في مقابلته مع الجزيرة أو خطها بنانه في آخر كتبه " البحث عن عيني الزرقاء " :
1- قال في المقابلة : (هناك شيء قد يفوت كثيراً من الناس وهو أن صياغة الفكر الإسلامي إنما تمت في العصر العباسي، وهذه الصياغة نظر إليها على أنها هي الإسلام) ! وردد مثل هذا كثيرًا في المقابلة وفي كتيبه المذكور . وأحيانًا يدعي أنهم ركنوا إلى العهد المماليكي إضافة إلى العباسي !! يقول في كتابه ( ص 15) : ( فالتيارات المحافظة الساكنة فكراً وسلوكاً، ماتت دماغياً أو هي تحتضر، مهما كانت أسماؤها لأنها ركنت إلى تقليد الفكر العباسي والمماليكي) !! ( ومثلها في ص 83،54،30،28).(80/4)
ولم يوضح كيف صاغ السلفيون فكرهم وعقيدتهم من العصر العباسي والمملوكي ! ( وهما عصر الإمام أحمد وشيخ الإسلام !). إنما هو يردد دون وعي .
ولا أدري كيف يكون ذلك ؟ وهم إنما يقوم دينهم على اتّباع الكتاب والسنة بفهم السلف ، وبهذا عرفوا وتميزوا عن غيرهم ، واعترف لهم به أعداؤهم .
قد يقول : ولكنهم يُكثرون من النقل عن الإمام أحمد وابن تيمية . فأقول : فكان ماذا ؟!
إذا نصر الإمام أو شيخ الإسلام أو غيرهما مذهب الكتاب والسنة فماالذي يمنع من الاحتجاج أو الاستشهاد بأقوالهم ؟! وهو يعلم قبل غيره أن أتباع الكتاب والسنة يردون قولهما وغيرهما لو خالف الحق . وكم في هذا من أمثلة .
فإلقاء الكلام على عواهنه دون فهم أو عقل لمجرد التشبث بشيئ لرمي الخصوم وتشويه دعوتهم أمام الآخرين يدل على رقة في الديانة وفقدان للأمانة .
فالحامد أو غيره يلزمه أحد أمرين في هذا المقام :
الأول : أن يقول : قال الإمام أحمد كذا أو قال ابن تيمية كذا ،وقد تبعهما السلفيون على هذا ونسبوه للسلف ، وهو أمر مخالف للكتاب والسنة ، ثم يبين ذلك . أو :
الثاني : أن يقول : الحقيقة أنني استشكلت أمورًا وردت في العقيدة السلفية لها أدلتها ، أظن أنها لاتناسب هذا العصر ؛ ولهذا فأنا لا أملك التصريح بهذا ؛ ولكني وغيري سنتخلص من هذا الأمر بادعاء أنه مُقحم على العقيدة من بقايا العصر العباسي أو المملوكي !!
قد يقال : ولكن بعض القضايا التي طُرحت في عهد أحمد أو ابن تيمية قد كان لها ظرفها المناسب لتضخيمها آنذاك ، وقد تغيرت الظروف اليوم ؛ كقضية " خلق القرآن " وتفريعاتها مثلا .(80/5)
فأقول : هذا لايعني أن ندعي إقحامها على عقيدة السلف بحجة أنها ضُخمت وأشغلت الأمة ولم نعد نحتاج لها ؛ بل هي من صلب عقيدة المسلم لثبوتها بالنصوص . أما تضخيمها والانشغال بها من عدمه فهذا يخضع لظروف العصر . أي أن المبتدعة لولم يخوضوا فيها ويشغلوا الأمة بها بل يمتحنوهم عليها ! لما أعاد السلف فيها وكرروا ، بل اكتفوا بالتنبيه المجمل لها . وقل مثل ذلك في مسائل أخرى اضطر السلف إلى تفصيل القول فيها اضطرارًا .
فاللوم في الحقيقة يقع على أهل البدع الذين أشغلوا أهل الأمة عن نشر الإسلام بين الناس ، والسعي في منافسة الآخرين في مجال الدنيا .
قلت : ولظهور ارتباط الدعوة السلفية بالنصوص الشرعية ، مما يريد الحامد نفيه ! فقد استشكل مقدم اللقاء – وهو من هو – قول الحامد ؛ ورد عليه قائلا : (كيف تتهمهم بأنهم لا يعتمدون على الكتاب والسنة، وجوهر منهجهم قائم على اتباع الكتاب والسنة؟ ) . فتخبط في الجواب ! حيث ادعى أنهم نعم يعودون للكتاب والسنة !! ولكنهم لا يُقدمون حلولا منهما !!
مرة يرى أنهم يعودون للعصر العباسي أو المملوكي ، ومرة يعودون للنصوص !
ثم سأله المقدم سؤالا محرجًا ينقض عليه زعمه جمود السلفيين أتباع الكتاب والسنة قائلا : (طيب كيف تفسر إذن هذا الانتشار؟ إذا كان هذا الفكر بهذه التقليدية بهذا البعد عن الإبداع، بهذا البعد عن روح العصر، كيف تفسر انتشاره علماً بأننا نعيش على الأقل في الخمسين سنة الماضية فترة حيوية جداً مليئة بالتغيرات، مليئة بالتحديات، كيف ينتشر فكر جامد بهذه الطريقة محافظ كما أسميته ونحن نعيش هذه الفترة المليئة بالتغيرات؟ ) .
فماذا كان جوابه ؟(80/6)
استمع إلى التشويش واللف والدوران ! يقول : ( سبب الانتشار أن الزمن الذي أوجد تراكماً ثقافياً في الأمة صار من الصعب على المفكرين والمثقفين إصلاح الفكر الديني، لأن الناس في هذا المضمار نوعان، إما مثقف ديني لا يكاد يعرف من الأمور الحديثة شيئاً مذكوراً، وإما مثقف غير ديني يعرف الأمور الحديثة لكن لا يعرف كيف يؤسس مثلاً حقوق الناس على الدين، كيف يؤسس مثلاً فكرة المجتمع المدني على الدين، فبالتالي تظل الفجوة حتى توجد ومن أسبابه، أيضاً أن خطاب النهضة الذي صاغه المفكرون الأوائل كمحمد عبده والأفغاني، لم يكد يتجاوز تقديم النهضة أو تقديم الإسلام، قدمه كخطاب، لم يتوسعوا في بناء النظريات، خذ مثلاً نظرية الحرية، نظرية حقوق الإنسان، نظرية.. نظريات المجتمع المدني، لم يكتب فيها الإسلاميون شيئاً كثيراً، لو كتب الإسلاميون في المجتمع المدني وحقوق الإنسان مثلما كتبوا في السواك أو في الوتر أو تقليم الأظافر، لاستطعنا أن نجد تأسسياً دينياً لنهضتنا، فبالتالي عبر الزمن حصل حصر للدين، ممكن أن تسميه رهبنة أو دروشة، هذا هو الذي يبدو ) .
قلت : السؤال كان واضحًا وصريحًا ، ولكن الدكتور – كحال إخوانه التنويريين – يُحسن الحيدة والمراوغة !
ومادام أنه يعد المنحرفَين ( الأفغاني وعبده ) من رجال النهضة ، فعلى فكره العفاء !
أي نهضة حصلتها الأمة من هذين ، وهذه نتائج دعوتهما المتميعة أمامك حاضرة في بلدهما بعد أكثر من نصف قرن من رحيلهما ؟ إن العقلاء لا يرون سوى الضعف الديني والتخلف الدنيوي ، وسقوط البلاد بيد المستعمر الأجنبي ثم العلماني .. فلماذا تريد تكرار التجربة المرة ؟!(80/7)
ثم ختم الحامد حلقته بقوله : (الشيء اللي أطالب فيه أنا هو الرجوع إلى منهج السلف الصالح، لا إلى متون السلف الصالح، يعني إلى كتب الحديث، إلى القرآن الكريم ) !! وهذه لا تحتاج لتعليق ! لأنها تنقض كل مابناه ؛ ولأنها مطلب أهل السنة . ولكن المهم التطبيق لا مجرد الدعاوى .
ـــــــــــــــــــــــ
2- من شدة افتتان الدكتور وهوسه بالمجتمع المدني فقد وصل إلى مرحلة جعلته يرى أن كل سوء يحدث في هذا العالم هو بسبب تضييع هذا المجتمع ! وكل فضيلة يفوز بها الناس تعود إلى تعظيمهم وحرصهم على تحقيق هذا المجتمع .
( انظر : ص 67،29،24،21من كتابه ) ، وقد أعلن عن تأليفه لكتابين في هذا المجتمع " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " ، " نظرية المجتمع المدني في الإسلام ! " .
ومن طريف ما وقع فيه ( ص 71 ) أنه عزى سقوط الأندلس إلى تفريط أهلها بالمجتمع المدني !! دون تفريطهم في دين الله وأوامره ، وتفرقهم وتنازعهم .
ـــــــــــــــــــــــ
3- يحمل الحامد على الأمة حملة عنيفة ؛ لاهتمامها – كما يدعي - بعالم الغيب وتحقيرها لعالم الشهادة " الدنيا " ، وأن ثقافتها وأدبياتها تدعم هذا الأمر ؛ مما أدى بنا إلى التأخر عن ركب الحضارة .
ولو اكتفى الرجل بنقد القيم السلبية التي أحدثتها الصوفية بين الناس في كثير من المجتمعات الإسلامية من خلال نشر الخرافة والجهل والقذارة، والخلط بين التوكل والتواكل، والتهوين من شأن الأسباب الدنيوية .(80/8)
أو أنه حث الأمة وحكامها على الاهتمام بالتقدم الدنيوي والمسارعة فيه بنقل التقنية من عدة مصادر ، وتشجيع العلماء والباحثين والنابغين ، وتسهيل أمور البحث والاختراع ، والحرص على التخلص من السيطرة الغربية ، واستغلال الثروات فيما ينفع الأمة ، وتوحيد صفوف دولها في رابطة متكاملة ...الخ الأفكار النافعة ؛ لوفعل هذا لكنا أول المؤازرين والمعاضدين له ، ولكنه – هداه الله - لفرط حماسه لمجتمعه المدني ولتضخم أمر الدنيا في عقله لجأ للتهويل ، وتجرأ بالنقد أو التحريف لبعض المعاني الواردة في الكتاب والسنة! وشكك أو كذب بعض الأحاديث الصحيحة ؛ لأنه لم يفهمها حق فهمها أو رأى أنها تعارض ما هو مفتون به ، وتطاول على العلماء ، وهون من شأن الاهتمام بالكتاب والسنة . وخذ هذه الشواهد من كتابه :
يقول : (نحن بين أمرين: إما أن نقدم الإسلام مشروعاً تنويرياً تجديدياً، كي نبقى. أو أن نُلقى في آخر قاطرة من قطار الحضارة، ولن ينفعنا آنذاك أن يُنقش القرآن في صدرونا أو في مصاحفنا، لأن دوره لن يتجاوز دور أي نقش في متحف الآثار ) .
ويقول : ( التعليم الديني الشائع، يكرّس القطيعة المعرفية، بين التقدم الروحي والتقدم المدني، وهذه القطيعة المعرفية الثقافية، تفرز قطيعة تربوية اجتماعية، أي أن ثقافة القطيعة بين الدنيا والآخرة، تفضي إلى ترسيخ قيم القطيعة، بين الروحي المدني، ولابد من إعادة ربط الحبل المقطوع، بين العبادتين، العبادة الروحية والعبادة المدنية ) .
فهل صحيحٌ أن تعليمنا الديني يفعل ذلك ؟! أم أنه يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا كما يعرف هذا كل دارس ، حتى أصبحنا نخشى أن تتقلص الأولى على حساب الثانية ! ، أم أن الدكتور يردد مايردده الآخرون لكي يظهروا بصورة " المصلحين " " المنقذين " الذين يُعيدون الحق إلى نصابه ؟! كما فعل أخويه من قبل ؛ صاحبا بحث المناهج .
ـــــــــــــــــــــــ(80/9)
4- من أخطر أقوال الدكتور في كتابه : قوله : (ومن ما ينتج عن الروح الحوارية المتسامحة، أن يدرك الإسلاميون، أنهم يقدمون وجهات نظر، قابلة للأخذ والرد، ولا يلزم من دعواهم صدق زعمهم، فقد يقدمون تقاليد المكان مطلية بدهان الإيمان، وقد يقدمون أعراف القبيلة البدوية، في عباءة السنة المهدية، وقد يقدمون المفاهيم التراثية الكديرة، على أنها وحي الشريعة الصافية، وقد يقدمون أحد مذاهب أهل القبلة، على أنه المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا الهالكون ) !!!
نعوذ بالله من الشك والريب في دين الله ؟! فالحق – في نظر الدكتور – قد يكون مع اليهود أو النصارى أو البوذيين ، أو غيرهم من أهل الكفر والضلال ؛ فلا يحق لأهل الإسلام أن يجزموا بصحة دينهم وأنه الحق الذي لا يقبل الله غيره ، إنما هو " وجهة نظر " من وجهات أخرى !!
هذا ما يُفهمه كلامه الخطير هذا . فهل يعي الدكتور خطورة ما يقول ؟! ومعلومٌ حكم من شك في كفر الكفار عند العلماء .
كما أن الحق عنده داخل نطاق الإسلام قد يكون في مذهب الرافضة أو الصوفية أو الباطنية أو غيرها من الفرق المنحرفة عن السنة !
ظلمات بعضها فوق بعض .
وحيرة ما بعدها حيرة .
وسقوط في شراك أهل " الحقيقة النسبية " وشكوكهم .
فعقل الدكتور مشوش جدا ؛ مما جعله يخلط بين المسائل الاجتهادية داخل نطاق أهل السنة ؛ وبين الخلاف بينهم وغيرهم من المبتدعة ، بل بين أهل الإسلام والكفار ! فلم يعد يُفرق بين الحق والباطل . وهذه إحدى نتائج العكوف على كتب من يُسمون المفكرين وأهل " التنوير " المزعوم ممن اتخذوا دينهم الحق هزوًا ، وفرطوا فيه وفي أحكامه مقدمين أهواءهم عليه . فمابال الدكتور وهو خريج جامعة شرعية يتابعهم في ضلالهم الذي يدركه صبيان أهل التوحيد ؟!
ـــــــــــــــــــــــ(80/10)
5- يدعو الدكتور في كتابه إلى : ( دين بمعنى الجنسية الحضارية العامة للجميع، أي أنه يحتضن التعددية، في إطار المواطنة، وإن كان ديناً خاصاً بالمسلمين) !
فهو – هداه الله – يتابع شيوخ العصرنة في تقديمهم " المواطنة وحقوقها " على دين الله وأحكامه الفارقة بين المسلمين والكافرين ؛ فيساوي بين الطائفتين اللتين أمر الله بالتفريق بينهما في أحكام كثيرة يرونها تتعارض مع " وطنيتهم " المزعومة .
6- لتضخم أمر الدنيا والمجتمع المدني في ذهن الدكتور فقد أتى بفهم غريب عجيب لمبدأ الولاء والبراء في الإسلام ؛ حيث قسمه ثلاثة أقسام ! فصلها بقوله :
( إن لمفهوم الموالاة صوراً عديدة:
1- الموالاة النموذجية : هي موالاة من صلح دنيا وأخرى ؛ أي في نيته وعمله معاً، أي في شطر الإسلام الروحي والمدني معاً.
2- وهناك موالاة (ناقصة) عملية في الدين، (تراعي الناحية العملية)، حين يوالي المسلم الأشخاص لا لصلاحهم الذاتي ولا الروحي، بل بسبب عملهم المدني الصالح للمجتمع، فهي موالاة دينية للصواب المدني، مبنية على إدراك أن الولاء للإسلام يوجب الولاء للنفع العام، فالولاء للصالحات المدنية يوجب الولاء للصالحين مدنياً في عمارة الأرض، فهو ولاء للعبادة المدنية، فالقدرة على تمثيل مبادئ الدين الإدارية والاجتماعية، أساس الموالاة المدنية في الدين.
فهذا الناجح هو أحد أفراد الأمة الإسلامية بالمفهوم الحضاري، سواء أكان فاسقاً أم كتابياً.
هذه عمادها المصلحة العامة المدنية للمسلمين، فهي موالاة أصحاب العمل المدني الصالح.
3- ثم هناك ثالثاً الموالاة الدينية الروحية الأخروية، وعمادها الأخوة الإسلامية، فهي موالاة أصحاب العمل الروحي والأخلاقي الصالح، ولكنها عندما يكون النجاح المدني هو الهدف، لا تقدم عليه، لأن الولاء للأشخاص، يتأخر عن رتبة الولاء للجماعة ) !!!!(80/11)
فالكافر الناجح في أمور دنياه ينبغي أن " يوالى " من المؤمنين ، وتقدم موالاته على موالاة المؤمن غير المنتج " دنيويًا " !!
تقسيم غريب عجيب مخترع قاده إليه تعظيم أمر الدنيا على حساب الدين ؛ مما جعله يهدم ركنًا من أركان العقيدة رأى أنه يصادم قوله المخترع .
ماكان أسهلها على الدكتور لو صان نفسه عن التورط في هذا الباطل وقال : الموالاة لاتكون إلا لأهل الإيمان كما أوجب الله ، ولكن لا مانع أن نستفيد من الكافر في أمور " الدنيا " . كما يقوله علماء الإسلام إلى اليوم .
ـــــــــــــــــــــــ
7- وكما حرف الدكتور مبدأ الولاء والبراء ، واخترع له مفهومًا جديدًا من عنده فقد تجرأ ثانية – جرأة تُذكرنا بصاحبه خالص جلبي ! – باختراع معنى جديد لمصطلح " السلف الصالح " يتماشى مع غلوه في الحياة الدنيا .
يقول الدكتور :
( إذا عرفنا أن الصلاح المدني في العقيدة الإسلامية، هو الشطر الثاني، وهو مهر النجاح الدنيوي، عرفنا من هم السلف الصالح، من خلال العودة بمفهوم الصلاح إلى القرآن الكريم، والسنة المطهرة والتطبيق النبوي ثم الراشدي، فأدركنا أن هناك "سلفاً صالحاً" من أهل الشطر الروحي في مجال الصلوات والتنسك والورع الفردي، ورواية الأحاديث والتفسير والمغازي والأخبار.
وأن هناك "سلفاً صالحاً" من أهل الشطر المدني، حاولوا التجديد والكلام على تأصيل العلوم والثقافة، بعد استيعاب الثقافات الأجنبية، وحاولوا توصيف العقيدة وأصول الفقه والتاريخ واللغة والأدب عليها، فَجُلَّ المنهجية العلمية بعد الشافعي، من إنجاز أهل الكلام الذين تمتلئ ثقافتنا الدينية بثلبهم وغمرهم.
وأدركنا أن هناك "سلفاً صالحاً في مجال العمران"، أدرك كيف تبنى المصانع والمزارع والجوامع معاً، وكيف تكون الإدارة والسياسة والحضارة.(80/12)
وأدركنا ما هو أبعد من ذلك وهو أن هناك أيضاً "سلفاً صالحاً" في إنجازه المدني التطبيقي، قد لا يكون ملتزماً في جانب صحة العقيدة الغيبية أو الشعائر الخاصة، بل قد لا يكون قرأ شيئاً من كتب سلفنا الصالح الروحية، وقد يكون مبتدعاً، وقد يكون فاجراً، بل قد يكون كافراً، ولكن الحكمة المؤمن، لـ"أن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاسق" أو "الكافر" فلنا صلاح عمله المدني الاجتماعي والتقني، وعليه فساد خلقه الشخصي وعقيدته الروحية..الخ ) .
ثم يؤكد هذا الغلو بقوله : ( بمراعاة الصلاح المدني، ندرك أن "أديسون" الذي اخترع المصباح الكهربائي، له فضل على كل من استنارت عيناه بضوء شمعة في أي مكان، وأن عمله أجدى للأمة من المسلم الذي اخترع نعشاً تقنياً، لتقليب الأموات أثناء التغسيل.. ) الخ سخريته !
فعند الدكتور : أي إنسان بارع في أمر الدنيا – مهما كان دينه ومذهبه – هو في المحل الأرفع ، وهو الذي يستحق " الموالاة " ويستحق أن يكون من " السلف الصالح " ... حتى أخشى لفرط حماس الدكتور الدنيوي أن يجعله من المسلمين الموحدين الذين يدخلون الجنة من أي أبوابها الثمانية دون حساب أو عقاب !!(80/13)
ولا تعجب ! فالتدرج في هذا المسلك المعوج يقود – حتمًا إلى ذلك – إن لم يعصم الله ؛ وقد قاد شيوخ الدكتور من قبل ؛ فرأى بعضهم أن الكفار إخوان لنا ، ورأى آخر منهم عدم كفر اليهود والنصارى ، وقال ثالث قولته الشنيعة المشابهة لما يدندن الدكتور حوله ! : ( أنه شهد مجلسًا لبعض المشايخ وجرى الحديث فيه عمن سيدخلون الجنة ومن سيُحرمون منها . فسألهم : ماقولكم في أديسون مخترع النور الكهربائي ؟ فقالوا : إنه سيدخل النار . فقال لهم : بعد أن أضاء العالم كله حتى مساجدكم وبيوتكم باختراعه ؟ ... ) الخ دفاعه عن الكفار وانتصاره لعدم تكفيرهم ! ( والقائل هو الهالك أبورية الذي ألف كتابًا بعنوان " دين الله واحد " يزعم فيه أن اليهود والنصارى ناجون يوم القيامة ولو لم يُسلموا ! وقد رد عليه الدكتور الفاضل محمد بن سعد الشويعر في كتابه " وقفات مع كتاب دين الله واحد " وانظر " العصريون معتزلة اليوم ، ص 112ومنه نقلت ما سبق ) .
فيادكتور .. احذر أن يتدرج بك الأمر كما تدرج بهؤلاء . وقف عند حدود الله لاتتجاوزها بتأويل أو تحريف . ولاتجاوز بمن أخبر الله عنهم بأنهم أضل من الأنعام قدرهم ومكانهم الذي أراده الله لهم . فالكافر يبقى كافرًا تشمله أحكام الكفار وأوصافهم مهما بلغ في تقدمه وعلمه الدنيوي ، ومهما انتفع البشر بأفكاره ومخترعاته . فالعبرة عند الله بالتزام دينه الذي ارتضاه خاتمًا للأديان .
ولايمنعنا هذا من أن نستفيد من الكافر المبدع في أمور الدنيا – كما سبق – وكما هو مقرر عند العقلاء .
أما عن مدحه " لأهل الكلام " فهو دليل على قلة فهمه ؛ لأن أهل الكلام صرفوا الأمة عن صفاء الكتاب والسنة الذي يدعو له الدكتور ! بما شققوه من التفريعات والحواشي الكلامية المتكلفة ، وبما ابتدعوا من البدع التي استنزفت طاقات الأمة ؛ وصرفتا عن ركب الحضارة .
فكانوا أحرى بذم الدكتور من غيرهم .
ـــــــــــــــــــــــ(80/14)
8- هون الدكتور من أمر إقامة الحدود الشرعية قائلا : ( ومن النماذج التي يلتبس فيها الحق النظري بالعلمي: إذا طبق الحاكم حداً من حدود الله، ثم أنتج تطبيق هذا الحد منكرات أكبر وأعظم، فإن تطبيق ذلك خطأ شرعي، كما ذكر العلامة علال الفاسي رحمنا الله وإياه: إذا كان تطبيق جزئي من الشريعة، يؤدي إلى خلل في التطبيق الكلي؛ فليس ذلك التطبيق من العلم بالشريعة ) !
ولم يوضح لنا متى يكون تطبيق الحد الشرعي يؤدي إلى مفسدة أو منكر أعظم منه ! فإطلاق الكلام هكذا يُفهم الاستهانة بإقامة الحدود الشرعية التي " تملص " منها المنهزمون أمام الغرب بدعاوى كثيرة .
ـــــــــــــــــــــــ
9- لم يستعمل الدكتور في كتابه المسميات الشرعية المتعارف عليها : ( المسلم ) ، ( الكافر ) ، ( المبتدع ) .. إنما استعمل مسميات عصرية : ( الصلاح المدني ) ، ( العقيدة الروحية ) ! .. الخ .
والسبب أن الأولى محددة مقيدة ؛ بخلاف الثانية التي تقبل " التمطيط " والتوسع في إدراج المعاني الباطلة تحتها .
____________________________
تنبيهات مهمة :
1- ذكرتُ سابقًا أن للدكتور علاقة بالمبتدع الزيدي حسن المالكي . وقد أكد هذا المالكي نفسه في كتابه عن " الصحبة والصحابة " ( ص 20 ) وشكر صاحبه الدكتور !
2- من قرأ كتاب الدكتور السابق ، وقدر له قراءة كتاب الملحد القصيمي " هذه هي الأغلال " سيجد التشابه الكبير بين الكتابين من حيث تعظيم أمر الدنيا على حساب الدين ، وتحريف كل مايقف أمام هذا التعظيم والغلو من آيات وأحاديث ، حتى لو أدى الأمر إلى ردها ، والخلط بينها وبين المعاني الباطلة عند الصوفية ، بل سيجد تشابهًا في العبارات والشواهد .(80/15)
ومن حنكة العلماء الربانيين الذين ردوا على كتاب القصيمي وفطنتهم أنهم لمحوا في كتابه ثورة غير منضبطة ستقوده لزامًا إن مشى معها إلى الثورة على الدين نفسه . وهذا ما ألمحه في كتاب الدكتور ! فليتبصر الدكتور أمره قبل أن يندفع في هذا الطريق الشائك الذي سقط فيه من هم أعظم منه علمًا وعقلا .
3- أتمنى أن لا يفهم أحدُ من مقالي هذا أنني أؤيد ما قد يحصل ظلم ، أو أني أقف ضد الإصلاح الحقيقي الذي نتمناه من بلادنا - حرسها الله - .
لا .... ولكني أرى أن يكون ذلك بالطريقة الشرعية القائمة على النصيحة ، وتقديم المشورة والاقتراحات النافعة . فإن أخذ بها فالحمد لله ، وإلا فقد أعذرنا أمام الله وأمام خلقه .
أما الطريق الأخرى فقد يكتشف صاحبها أنه أراد أن يفر من " الظلم " فوقع في " الكفر " ولم يتخلص من " الظلم " !
أسأل الله أن يهدي الحامد ورفيقيه إلى الحق ، وأن يوفق بلادنا إلى الأخذ بالإصلاح الحقيقي الذي يجمع لها بين التمكين لدين الله وحراسة الفضيلة مع التطور الدنيوي النافع ، وأن يباعد بينها وبين كل من يريد صرفها عن دينها وأخلاقها ، وأن يجعلها رحيمة برعاياها ، آخذة بيدهم إلى كل خير .(80/16)
بين ( عبدالله ) القصيمي .. و ( عبدالله ) الحامد ..!
في مقالي عن الدكتور عبدالله الحامد - هداه الله - ذكرت بأنني لاحظت تأثره الواضح في كتابه بالقصيمي الهالك صاحب كتاب " الأغلال " من ناحية المبالغة في تعظيم أمر الدنيا وأهلها على حساب الآخرة ؛ تعظيمًا قاده إلى تحريف النصوص والمعاني الشرعية التي تخالف نظرته ؛ كعقيدة الولاء والبراء ، وتعريف السلف الصالح .. الخ .
وقلت ما قاله العلماء في سلفه القصيمي : لو كانت ثورته ضد المعاني السلبية التي ألصقها الصوفية بالدين الحق فعاقت أهله عن التقدم ؛ لكانوا له من المؤازرين .. ولكنه خلط الحق بالباطل ، وتطاول على ماجاء به الشرع مما لم يفهمه حق فهمه ؛ كأثر الدعاء ، وتهوين النصوص من شأن الدنيا .. الخ .
وقد اطلعتُ على مقال للشيخ محمد صادق عرنوس ، وكيل جماعة أنصار السنة بمصر زمن القصيمي ، كتبه ردًا على كتابه " الأغلال " متعرضًا فيه للقضية السابقة ، ومبينًا في خاتمته ما لاحظوه على القصيمي من تغير وتدرج في الضلال ؛ أحببتُ نشره من جديد لمناسبته لما نحن فيه . والله الموفق .
قالت مجلة الهدي النبوي لسان حال أنصار السنة بمصر في عدد ( 10 ، 11 عام 1365) متفاجئة بانتكاسة القصيمي عن حاله الأولى عندما كانت تطبع له الكتب السلفية في مطبعتها :
يا لها من مصيبة !!(81/1)
ننعى إلى إخواننا أنصار السنة المحمدية أخاهم "سابقاً" عبدالله القصيمي ؛ فقد ألقى الشيطان على لسانه وقلمه قنبلة "هذي هي الأغلال" محاولاً بها نسف الدين الصحيح الذي كان بالأمس يدافع عنه؛ ليقيم للناس أصنام وآلهة المادة التي تعبدهم أوروبا وعبدها قدماء المصريين واليونان والرومان، فما كاد يلقيها حتى نسفته ومزقته إرباً، وقد كان يظنها قذيفة صاروخية سترفعه إلى القمر. فأنا لله وإنا إليه راجعون، وقد جمعنا شظايا وفتات قنبلته وأخذنا في تحليلها، ولما نفرغ منه ، وسننشر على الناس في أقرب فرصة نتيجة هذا التحليل ونكشف عن محتويات هذه القنبلة من عناصر فتاكة ومواد مدمرة لكل عقيدة وخلق وأدب ومعنى سام من معاني التوحيد وإخلاص العبادة والرحمة والشفقة والإيمان بالله وكتابه ورسوله والدار الآخرة ؛ لعل الله القادر أن يحييه من هذه الشنيعة التي أسفنا لها كل الأسف ، وحزنا كل الحزن.
نظرة خاطفة في كتاب : هذي هي الأغلال
بهذا العنوان أخرج الأستاذ عبدالله القصيمي النجدي كتاباً يقع في ثلاثين وثلاثمائة صفحة، وقسمه إلى اثني عشر فصلاً غير الإهداء –الموجه إلى حضرة الملك عبدالعزيز آل سعود- وغير المقدمة .
وهو يصف كتابه بقوله على غلافه الخارجي " أنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل " !
ويصفه أيضاً على الغلاف الداخلي بأنه "ثورة في فهم العقل والدين والحياة... دراسة عميقة للعوامل النفسية والاعتقادية والتاريخية والخلقية التي قضت بانحلال المسلمين عربهم وعجمهم وذهابهم في طوفان الغرب الطاغي.. ثم كيف يمكن أنه ينحسر عنهم ذلك الطوفان.."
وهما بلا شك وصفان ضخمان يغريان بتصفح الكتاب وقراءته، فإن الوصف الأول يعطي أن المؤلف قد أتى بما خفي عن العرب هذه القرون الطويلة.(81/2)
قرأنا الكتاب الذي وصفه مؤلفه بما وصف فإذا بجميع فصوله –على طول نفَسه في صياغتها ومظهر القوة في عبارتها- لم يأت فيه بجديد، بل نسخة مجموعة من الصحف والمجلات التي دأبت على الدعوة الملحة إلى عبادة المادة وتقديسها، وإلى الكفر بكل المعاني الروحية السامية التي دعا إليها كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقد عرف الناس قديماً وحديثاً أن أولئك الماديين إنما قاموا بدعوتهم هذه الملحة، نتيجة ما أصيبوا به من فقد وحرمان من هذه المادة، أوغر صدورهم على من وهبهم الله منها، ووسع عليهم في دنياهم وعيشهم؛ ثم نتيجة حتمية لموت قلوبهم وأرواحهم التي طال بها الحرمان من الغذاء الروحي الذي أنزله الله شفاء لما في الصدور، فلما طال عليها الأمد في ذلك قست وتحجرت، فكانت من الفاسقين، فأملت على الألسنة والأقلام هذا الدين الذهبي الحديدي الجديد، محاولة تقويض ما أقام الإسلام الصحيح بكتابه ورسوله من صروح الإيمان الصادق في قلوب الذين آمنوا بالله وكتابه ورسوله، وآمنوا بأن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار، وآمنوا بقول الله (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب، قل أؤنبئكم بخير من ذلك للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار)
فكل فصول الكتاب عني فيها المؤلف أشد العناية بإكبار المدنية الغربية المادية ودعوة المسلمين دعوة حارة ملحة إلى اتخاذها شرعة ومنهاجا إن أرادوا لأنفسهم الخلاص مما هم فيه مهما انحرفت عن دينهم؛ وأوضعت في ظلمات الضلالة، إذ كلها في نظر المؤلف حسنات لاتجد سيئة إلى شيء منها سبيلا، وكيف لا تزكو إلى درجة القداسة ما دام أصحابها قد ملكوا بها نواحي هذه القطعان الآدمية المنبثة في رقاع البلاد الشرقية.(81/3)
وهو في كل فصول الكتاب تقريباً يعزو خمول هذه المخلوقات إلى كونهم متدينين، وإن كان يستدرك على ذلك في بعض الفصول بقوله: إن دينهم المبدل هو السبب في نكبتهم في عقولهم وتفكيرهم ثم تعدى هذه النكبة إلى كل أحوالهم وملابساتهم ، ولكن القارئ الحصيف لا تفوته تلك الغمزات اللاذعة التي غمز بها المتدينين كلهم سواء أكانوا يدينون بدين حق أم بدين باطل، فإنك تراه كلما استطرد في ذم المتدينين على الإطلاق وأتى بطائفة من مخازيهم وأسباب ضعفهم أفلت الزمام من يده فأنحى على الدين من حيث هو دين، وعده أصفاداً في أيدي أهله وأغلالاً في أعناقهم يحول بينهم وبين المجد والسيادة والقوة، تلك الصفات التي لا تنال إلا بالفسق والبطش والجبرية، ولكنه عندما يشعر أنه عثر، يجعل ما نسبه للأديان من المثالب لغيره، وأنه لا يعتقد هذه العقيدة فيها، مع أن القارئ يفهم بغير عناء أنه أورد ذلك مستحسناً إياه فخوراً بلفظه ومعناه، ولن يسلم من غب هذا القول إلا إذا كان له قلبان في جوفه يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، ولا يغض كفر أحدهما بإيمان الآخر ما دام قادراً على التوفيق بين الضلالة والهدى، كما قدر على ذلك المؤلف فيما سطر وسجل في كتابه، وكما تقرأ وتسمع من كثير من أساتذة المؤلف في مجلاتهم ونواديهم.(81/4)
ونحن نجتزئ من كتابه بمثل واحد يغني القارئ عن إيراد غيره –وإن كان الكتاب كله مثل على ذلك- ليستدل منه على حفيظة المؤلف التي تعتلج في صدره على الدين وأهله، أو بعبارة أخرى على منُزل الدين الذي أعاق أمماً كثيرة من النوع البشرى أن تبلغ المستوى الرفيع الذي بلغته أمم جعلت الدين من أساطير الأولين، والقارئ إذ يشعر من هذا المثل بلهيب الغيظ المشبوب على الدين وأهله فهو يشعر في الوقت نفسه بنسيم الولاء العطر يرسله تقديساً وعبادة لذلك العجل الذهبي الماثل في صورة المدنية الغربية، فاستمع إليه إذ يقول (من صحيفة 17) : " فطبيعة المتدين غالباً (ولم يفرق بين المتدين بحق والمصاب بنوع من الهستيريا سماه ديناً) طبيعة فاترة فاقدة للحرارة المولدة للحركة المولدة للإبداع ومن ثمة فإنك غير واجد أعجز ولا أوهى من هؤلاء الذين يربطون مصيرهم بالجمعيات الدينية " ! ويقول في الصفحة نفسها قبل ذلك بقليل "وتجد كل الذين صنعوا الحياة وصنعوا لها العلوم والأساليب المبتكرة العظيمة هم من أولئك الموصوفين بالانحراف عن الدين وبالتحلل منه"!
ويسوق على ذلك شواهد لو ساقها غيره في مثل هذا المقام لكان موضع سخريته وتندره ؛كأن يقول على لسان زياد بن أبيه: أما عبدالله بن عمر فقد قعدت به تقواه. يعني عن النهوض إلى السيادة والمجد .
ونحن نسأله هو إن فاتنا سؤال زياد: هل قعدت بعمر أبي عبدالله هذه التقوى عن أن يكون المثل المضروب على وجه الدهر في كل صفة كريمة يجب أن يتحل بها من يسوس الناس، وهل هناك بين من اقتعدوا غارب المجد والسيادة عن طريق الحكم مثل عمر بُعد صيت ورفعة ذكر وشدة احترام وتوقير من الناس جميعاً ؟ !
ومن مغالطاته الطريفة: أنه استشهد بقول المتنبي يصف رجلاً اختاره ليكون عوناً له في انتزاع الملك:
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ويستحل دم الحجاج في الحرم(81/5)
وينسى بل يتناسى عامدًا صنو هذا البيت الذي يدل دلالة قاطعة على أن المتنبي يجعل هجاء الرجل غرضاً مقصودًا لذاته لا أن يجعل وصفه بهذه الخلال المرذولة من آيات كفايته التي اصطفاه لأجلها ليساعده على انتزاع الملك!! وذلك إذ يقول المتنبي بعد البيت المتقدم:
صفاته لست أحصيها لكثرتها *** لكنها ذ كرت في نون والقلم
والصفات التي جاءت في نون والقلم يجمعها قوله تعالى (فلا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم) فأي عقل يسوغ مدح إنسان بصفات جعلها الله نهاية ما في النفوس البشرية من حقارة وإسفاف، كما لا يتصور أحد مهما ضؤل تفكيره أن صاحب هذه الصفات أو بعضها ممن يستعان به في شيء من محقرات الحياة فضلاً عن انتزاع ملك وتوطيد عرض! فإن كانت الرواية صادقة وأصر المتنبي على اتخاذ بطانة من نوع مهجوه هذا فلا يكون في ادعائه النبوة شيء من الغرابة ! خصوصاً إذا اصطفى الذين يبلغون رسالته من نوع صاحبه هذا، وإذاً يكون استشهاد الأستاذ بشعره هذا من البراهين القوية في إثبات دعواه.
ولو أن مغالطاته وقفت عند تخريج الشعر أو كلام الناس حسب هواه لهان ذلك بعض الشيء ولكنه يأبى إلا أن ينهج هذا النهج بعينه وبالجرأة نفسها في صريح الكتاب وصحيح السنة، وتلك هي الطامة التي تجعل ما حام حوله من ظنون يكاد يرتقي إلى مرتبة اليقين، والمرء كما قالوا مخبوء تحت لسانه.(81/6)
ونسوق على ذلك كذلك شاهداً واحد على جرأته في تمزيق نسيج الآيات بالتأويل السخيف الذي يقهرها به على أن تكون دليلاً له ؛ فقد وصف الطور الإنساني في زمن الرسالة بأنه "لا يعدو النظرة السطحية والإلمام بظواهر الأشياء دون النفوذ إلى بواطنها الخ" والدليل على ذلك قوله تعالى (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) وهب أن حال الناس كان كذلك عند البعثة فهل سيقت الآية لتصف هذه الحالة التي يقصدها هو؟ أو أنها سيقت لوصف حالة أخرى بينها وبين ما يرمي إليه بُعد المشرقين.
ولقد احتال على إدخال هذا التمويه على بسطاء المعجبين به بأن حذف طرفي الآية وساقها محذوفة الصدر والعجز؛ لتوافق غرضه وما زعم، ولو أنه أدلى بها مجتمعة لصاح به –حتى المفتون بزخرف قوله- إنك كنت من الخاطئين، وذلك أن الله عز وجل يقول من سورة الروم بعد إخباره بانتصارهم بعد انكسارهم (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون).
ومجرد ذكر الآية يريك البون البعيد بين ما قصد وقصد الله: فالرب تعالى نسب أكثر الناس للجهل لمريتهم في صدق وعده وهو يعرفنا أنهم مهما بلغوا من العلم بشئون الحياة وكشفوا كل يوم من أسرارها جديداً، وبلغوا في اكتناه مساتيرها أمداً بعيداً، فأوفوا من الماء على قراره، ومن النجم على مداره؛ ووصلوا بعلمهم إلى غاية ليست بسبيل التصديق اليوم مع جهلهم بالله ومرائهم في الآخرة وعدم الالتفات إلى وجه الخلاص من أهوالها فلن يعدو علمهم هذا ظاهر الحياة الدنيا، وذلك هو القصد الذي لا قصد غيره في إيراد الآية في هذا الموضع، وهي لظهورها ليست من المشكلات فتكثر حولها الخلافات .(81/7)
وفي ثنايا كتابه من رد أحاديث البخاري ومسلم والهزء بها والسخرية منها، أو تأويلها أغرب تأويل وأبعده عن منطوقها العربي اتباعاً لهواه شيء كثير نحيل القراء في الإلمام به إلى الكتاب نفسه فهو واجد فيه ما يحكم به على طوية المؤلف وفتنته بالحضارة الغربية؛ فتنة جعلته ينحل أربابها كل فضيلة؛ بل إن كل فضيلة لم يتحلوا بها لا تعد فضيلة ، وإن تعجب فعجب أن يقف المؤلف ذلك الموقف من الدين ويجعله في عبارة صريحة سبباً في نكبة المتمسكين به وفيما يتقلبون فيه من ذلة وهوان.
نعم إنه ساق في كتابه من أسباب نكبة المسلمين بالمتصوفة المجرمين والزهاد الكاذبين والعلماء المضللين وتسميمهم عقول المسلمين بأن تعاليمهم هذه من الدين ما نقره عليه ونصدقه فيه ؛ ولكن ذلك الإطلاق في جعل الدين من حيث هو دين –بغض النظر عن براءته مما يفهم منه المروق والانحراف- من أسباب هذه النكبة حتى لقد أنحى باللائمة أشد الإنحاء على إحدى الجماعات الإسلامية التي تدعو إلى الحكم بما أنزل الله فتقول في دعوتها: إن طريق المجد الإسلامي المنشود ينحصر في الأخلاق الدينية الأولى وفي تنفيذ الحدود الشرعية الخ ، ومن ذا الذي يماري في هذا إلا من في قلبه مرض وكان ممن دمغهم الله بقوله –مقصرين في السعي إلى الحكم بما أنزل أو راضين لعكسه- (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).(81/8)
وهو ينكر أشد الإنكار كون الله تعالى يأخذ الأمم بذنوبها، جاحداً ما ورد في القرآن بهذا المعنى بتأويلات تسعده بها قريحته الخصبة!! وهل أدل على أن الله عز وجل لا ترضيه مثل هذه المدنية إذا تجردت من معانيها الصالحة واستعملها أهلها في البطش والجبروت كسائر الأمم في القديم والحديث، من أن كل أمة من الأمم التي ضربها الله مثلاً في التفصي عن طاعته، والعتو عن أمره؛ وعاقبها بالعقوبات المختلفة كانت لها حضارة بلغت بها من سيادة الدنيا حداً كبيراً؛ فقال تعالى تذكيراً للخلف بحال السلف (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءآ أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) فإذا مارى أهل الجدل في أية حضارة من هذه الحضارات فلن يماروا في حضارة أجدادهم قدماء المصريين وتلك هي آثارهم تدل عليهم.
وكان فرعون موسى هو الرمز الذي أقامه الله آية على مقته وغضبه لعدم رضاه على كل من فعل مثل فعله وفعل من سبقه ومن لحقه من الفراعين وغيرهم من الظالمين، فهل أنجت المدنية الغابرة المجردة من معانيها الصالحة عاداً وثمود وقوم فرعون وسواهم من غضب الله وبطشه بهم, وهل أنجت كذلك المدنية الحديثة معبودة المؤلف ومهوى قلبه ومثله الأعلى أن يصيب الله بعض أهلها لما ظلموا بالهلاك والدمار؛ بأقسى وأعنف مما فعله في الأمم السابقة، وما الفرق في العقوبة بين أن ينزل على أمة رجزاً من السماء وبين أن يسلط أمة على أمة فتذوق على يديها رجزاً كرجز السماء أو أشد هولاً.(81/9)
نفهم من هذا أن المدنية الحقة في الدين ؛ من عبادة الله وحده، والسير على النهج الذي يريد أمراً ونهياً، وأخذاً وتركاً؛ فهو تعالى لا يرضى عن طغيان أهل المدنية الحاضرة الذين عاقبهم بتسليط بعضهم على بعض فحدث لهم ما سمعنا ورأينا؛ وما زال يتربص بعضهم ببعض الدوائر، فهم من خوف الموت في موت، كما لا يرضيه خمول أولئك القطعان الآدمية باسم أي دين كانوا؛ ما داموا قد انحرفوا عن ذلك الدين، وجروا في غير مضماره، فعاقبهم بالذلة التي ضر بها عليهم بواسطة أصحاب هذه المدنية الذين لو أنصف المؤلف لسماهم وحوشاً مخالبهم الدبابات، وأنيابهم المدافع والطيارات.
ولما يعلمه الله من انحراف الإنسان عن قصد السبيل لو ترك لنفسه ، اقتضت رحمته به أن ينزل إليه ديناً يعصمه من الزلل، ولا يتعرض لحريته إلا بمقدار ما يحجزه عن الخطر ويرده إلى الجادة؛ فلا ينطلق بلا قيد فيطغى، ولا يخلد إلى الأرض فيشل، وصدق الله إذ يقول (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً).
والأستاذ المؤلف لو خلا من الغرض والمرض لكان بحكم ثقافته وماضيه أول الداعين إلى رجوع المسلمين إلى دينهم الحق؛ الذي به عز أسلافهم؛ وما كان له من حاجة لأن يدعوهم إلى عبادة هذه المدنية الفاجرة التي لا ترقب في سبيل غايتها إلاً ولا ذمة؛ فكل ما في أهلها من فضائل إنما هو طلاء سرعان ما ينصل لونه بأقل احتكاك.(81/10)
وإذا كان المؤلف أميناً في نصحه فهل من أمانة الداعي الناصح أن يدل مريديه على غاية تعج بالوحوش الكاسرة تتواثب وتتهارش؟ فيزين لهم أعمالها باسم المدنية ليقلدوها ويكونوا أمثالها، أو يدلهم على مدنية فاضلة أهلها من الأناسي الذين كانت لهم قدم صدق، فيما عاد ويعود على الإنسانية بالخير العميم، فإن لم يجدها اليوم بالفعل على خريطة الكرة الأرضية، فقد تكفل القرآن بالدلالة عليها، ووصف أهلها بآيات بينات، لا تعجز من أراد أن يسلك سبيلهم، وأراه من علاماتهم مالو اتسم به ما شاءه سابق، ولا بزه في حلبة العزة لاحق.
وإن إلمامة واحدة بالكتاب الكريم، ونظرة واحدة في تاريخ الدولة المثالية التي استمسكت به، لترينا الفرق الكبير والبون الشاسع بين المدنيتين .
ففي ميدان القتال نرى الجندي الذي صنعته هذه المدنية في الحرب الأخيرة، فدخلها بكل ما ابتكره العلم الجبار من آلات تدمير واستئصال، هو هو الجندي الفاتك المخرب الذي ليس له غاية شريفة يهدف إليها، وإنما كل غرضه من الحرب استعباد غيره، وما يترتب على ذلك الاستعباد من نيل المجد الكاذب، شأنه تماماً كشأن الجندي البدائي صاحب القوس والنشاب الذي كان لا يطمح في أكثر من قهر عدوه وسبي نسائه، والاستيلاء على أشيائه !! مع يسير من الفرق في الوسائل اقتضته سنة التطور، أما الغاية واحدة.
وقد اصطنعته المدنية على عينها على هذا الأساس، أساس فهمها للحرب، المبيدة المدمرة، فقام بما عهد إليه خير أو شر قيام.(81/11)
فتعال استمع إلى الشروط العنيفة التي شرطها الله في الجندي الإسلامي حتى لا يكون لعنة بل رحمة، وحتى لا يكون وباء بل شفاء، وليكون امتداداً لهذه الرسالة الزكية، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أينما توجه وحيثما دعاه الواجب، وذلك حيث يقول الله من سورة التوبة (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم، التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين).
فلو أن جندياً اتصف بهذه الصفات وذهب يبشر بها، فإن لم يستجب إليه الناس حملهم عليها بالقوة لقال أعداؤه بل أوليائه ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم.
وفي ميدان التضحية الاجتماعية أرأيت كيف رمز الله للفئة الباغية بمن إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل وجعل في الجهة المقابلة (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد) فهل رأيت أروع أسلوباً في الحث على مقاومة الظالمين من هذا الأسلوب ، وفي الدعوة إلى التضحية أقوى من هذه الدعوى والحث عليها ؟(81/12)
أما في السلم، فانظر كيف شرط الله في أهل الحل والعقد أو أهل الشورى الذي تنحل بآرائهم المشاكل، ويرتفع الشك عن محيا اليقين في كل أمر يعرض عليهم ، وذلك إذ يقول عز وجل من سورة الشورى (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) فتصور مجلس نواب تكون (لائحته الداخلية) هذه الصفات الرفيعة، كيف ينصح الأمة وكيف يكون وجوده فيها مناط صلاحها وفلاحها ؟ وقارن بين مجلس نواب هذا شأنه، وبين مجلس نواب ما استفادت منه أمة رزئت به إلا ما تسمع أخباره وترى آثاره، من بلاء فوق بلاء وعللاً ليس لها شفاء؛ ودعاء إلى الله ليخلصها منه إثر دعاء، مع زعمهم أنه أسس على أحدث الطرز، وأجد ما ابتكرته الحضارة (معبودة المؤلف) من تجارب ناضجة.
ذلك وغيره؛ ليعلم الناس أن الدين إنما جاء ليثبت الأخلاق الفاضلة، وينافح عنها، ويصدهم عن كل خلق مرذول، لا ليدعو إلى القوة المجردة أو العلم الذي يزيد هذه القوة طغياناً وكفراً؛ وفي الوقت نفسه، تراه وضع العلم النافع فوق الذروة ومدح المتلبسين به فقال (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وقال (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وقال (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) وجعلها خاتمة آية تدعو إلى التمرس فيما أودع الله في خلقه من حيوان وإنسان وزرع وجبال من عجائب وخصائص، فالعلماء في الآية هم المتخصصون في هذه الآيات الكونية علماً وعملاً واستكشافاً واختراعاً.(81/13)
وإنا نعتقد أن التوسع في هذه البحوث واستكناه الخلق العظيم، هو من صميم العلم الذي يزيد به الإيمان ويربو اليقين، وبحسبك أن تصغي بقلبك إلى قوله تعالى (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) لتعلم أن العلم المقصود هو كل ما يوصل إلى الله من دراسة آياته كونية كانت أو وحياً، فأولئك الذين نبغوا في العلم الصحيح، أول من يشهد بحقية الكتاب العزيز وأنه الهادي إلى الصراط المستقيم؛ بما أودعه من أسرار أن يستوعبها الناس أو ينقضي عمر الدنيا.
فلو أن باستور وكوري وزوجه وماركوني وستفنسن وغيرهم، وحتى بريمس صاحب ذلك الموقد المنتشر اللطيف وغيرهم ممن خدموا الإنسانية بعلومهم واستكشافاتهم قاموا بما قاموا به على أساس الإيمان، لا أنه شيء استقلالي أفادوه باجتهادهم المحض، لكانوا عند الله مع الصديقين والشهداء.
ما ذنب الدين ونصوصه كالنهار وضوحاً في وجوب تعلم العلم النافع، إذا وجد من المجرمين من صد الناس عن هذا العلم؛ فتركوا علم الرحمن إلى علم الشيطان، فبدل أن يتخرجوا في مدرسة الرسول التي خرجت أمثال: خالد وسعد والمثنى وعكرمة وغيرهم من دهاقين الحرب التي تعقبها الحياة العزيزة والتساوي في القسم بين الغالب والمغلوب. نعم إنهم بدل أن يتخرجوا في تلك المدرسة تتلمذوا للشعراني والشاذلي وأبي يزيد البسطامي وغيرهم من المتصوفة الحلولية المجرمين، من الذين لم يحسنوا من الطب إلا عملية التخدير ، فنجحوا في تخدير ضحاياهم -وما أكثرهم- نجاحاً فات كل تقدير وعمَّر أطول تعمير فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله .(81/14)
ما ذنب هذا الكتاب الذي ما ذكر آية في الإيمان، إلا قرن بها العمل الصالح ورتب المثوبة على القيام بهما معاً أو تركهما معاً، فما انفراد أحدهما عن الآخر عند امرئ بمزحزحه من العذاب شيئاً إذا وجد من هؤلاء المساكين من ينكر الأسباب ويرى الأخذ بها ضلالة أو يفسر القضاء والقدر تفسيراً يميت الهمم ويشل العزائم أو يفسر التوكل الحافز إلى كل طموح بالتواكل المقعد المميت !!
ما ذنب الدين إذا كان قد فرغ من سن هذا القانون السماوي، وقال لرسوله الأمين على تبليغه (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) ومن مواد هذا القانون ما نظم به علاقة المرأة بالرجل خير نظام وأدقه، يناسب طبيعتهما بلا إفراط أو تفريط . نعم ما ذنبه إذا وجد رجل من أهل العلم، كصاحب الكتاب يضع المرأة في غير الموضع الذي ارتضاه الله لها ولا يرضى لعباده –من ذكر وأنثى- إلا الرحمة والعدل واليسر، والله تعالى خلق المرأة على هذه الصورة لتكون قرة عين لزوجها، ووعاء لولده، لها ما له في كافة الحقوق والاجتماعية إلا الدرجة التي ميزه الله بها وهي لا تغض من هذه الحقوق بل تزيدها جمالاً وتثبيتاً، فإذا انحرف الغالون عن فهم مراد الله فسجنوها وبخسوها حقها من تعليم وغيره، وانحرف المفرطون فوضعوا حبلها على غاربها كالسائمة من غير قائد؛ فشطت هذا الشطط الذي يشكو منه حتى من أكبرهم المؤلف وغالى في مدحهم حتى أوجب على الناس عبادتهم، فأي ذنب على الإسلام أو كتابه وهذا هو الحق يلمح في أثنائه لا يحجب عنه إلا كل محروم .(81/15)
كل ما ذكره الأستاذ في الفصل الذي ناصر فيه المرأة يكاد يكون مغالطة صريحة للحس والواقع ،وما ساقه من الشواهد إن هو إلا سفسطات جدلية لا تثبت عند البحث الصحيح على قدم، وليعذرني القراء لو أبديت عجبي من أولئك الذين أقاموا أنفسهم محامين عن المرأة وأدى هذا العجب إلى سؤالهم: ما الذي بقي في نفس المرأة لم تحصل عليه من الرجل اغتصاباً ولقد استخذى أمامها حتى في موقف الدفاع عن عرضه الذي امتهنته بتصرفاتها الحمقاء، بل نسي أن له حصة في هذا العرض فوهبه إياها تتصرف كيف شاءت وشاء لها الهوى ؟ وليطب أولئك المحامون -ومنهم الأستاذ المؤلف- نفساً فقد أبلغوها ما أرادت وأرادوا لها واغتصبوا لها من أشباه الرجال سائر ما صبت إليه ولم يبق أمامهم إلا شيء واحد إن قدروا عليه فقد أوفوا على الغاية في خدمة المرأة، ذلك أن يطلبوا من الله أن يغير تصميمها هذا إلى صورة لا تكون معها معرضة لحمل ولا ولادة ولا حيض ولا نفاس من هذه الحالات التي تعوقها جزء كبيراً من الوقت عن الانطلاق حيث أرادت !! أو ليريحوا أنفسهم من عناء دعاء غير مقبول انتظاراً لبشارة الأستاذ الذي يقول في كتابه باحتمال قدرة العلم مستقبلاً على التحكم في الجنين فيجعل الأنثى ذكراً والذكر أنثى؛ وعندئذ يختار الأمهات –ذوات الخيرة في كل أمر- لأجنتهن النوع الذي يرغبن فيه؛ ولله في خلقه شئون.(81/16)
ويقول الأستاذ إن ما أصاب المسلمين من ضعة وهوان وسوء حال، كان شغله الشاغل وموضع تفكيره من ست سنوات أو يزيد، وكان رأسه يلتهب طول هذه المدة بالتفكير التهاباً، ونحن لا نذيع سراً إن قلنا إن أعراض المرض الذي أصابه فغير اتجاه تفكيره كانت تبلغنا بطرق شتى وعلى صور مختلفة ؛ منها إنكاره المعلوم من الدين بالضرورة كما يقولون إن عجز فيه عن الإنكار الحرفي أنكر معناه وفسره بهواه، يبشر بذلك ويذيعه في مجالسه الخاصة والعامة وفي النوادي والمنتزهات؛ فإن صارحه أحد إخوانه القدماء تملص من التهمة بعدم فهم ناقل الخبر لغرضه، وتكرر منه ذلك كثيراً ، فكان ذلك يحزننا كثيراً لذلك الماضي الذي نعرفه عنه من الذود عن الدعوة الحقة زمناً غير وجيز، وفي كل هذه المدة كنا ننتظر أن يفئ إلى أمر الله، ولكن الأخبار كانت تأتينا بأن أعراض مرضه ازدادت وتفاقمت حتى أخرج للناس كتابه هذا، وقد تمت به عملية الهضم والتمثيل لهذه الأفكار الهدامة التي كانت مستولية على كل مشاعره فأصبح من المستحيل أن يصده عنها صاد أو يقنعه ببطلانها دليل، لذلك فقد عجلنا بنشر هذه الكلمة الإجمالية على صفحات مجلة الهدي النبوي نحذر فيها الناس من سموم هذا الكتاب إلى أن يتم نقده تفصيلاً في فرصة أوسع من هذه، ولكنها ستكون قريبة إن شاء الله ؛ليحي من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
محمد صادق عرنوس
وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية(81/17)
هل تُصدق أن ( الدكتورة نوال السعداوي ) كانت .......!
قد لا يعرف البعض أن الدكتورة الشهيرة ( نوال السعداوي ) صاحبة الانحرافات الخطيرة ، والأقوال الكفرية التي تسخر فيها من نصوص الكتاب والسنة .. كانت في يوم ما من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين !
بل من المتحمسين لها !
يقول الدكتور محمود جامع في كتابه الجديد الذي صدر هذا العام ( وعرفت الإخوان ) ، وهو كتاب مهم جدًا لمن يريد التوسع في معرفة تاريخ الجماعة ... يقول - وفقه الله - ( ص 130) والتعجب مني :
( وكان معنا في نفس الدفعة : الدكتورة نوال السعداوي ، التي نجحنا في ضمها للإخوان ، وتحجبت في ملبسها ، وغطت شعرها ، وكانت ملابسها على الطريقة الشرعية ! ، ونجحت في أن تنشئ قسمًا للأخوات المسلمات من طالبات الكلية ، كما أنشأت مسجدًا لهن في الكلية ، وكانت تؤمهن في الصلاة, وكنت أنا ضابط اتصال بينها وبين الإخوان..
وأقنعت هي كثيرا من زميلاتها بالانضمام للأخوات المسلمات تحضهن على الصلاة و التمسك بالزى الإسلامي في وقت كان الحجاب بين النساء نادرًا, وكانت تخطب في المناسبات الإسلامية وفي حفلات الكلية باستمرار , وكان والدها يرحمه الله من علماء كلية دار العلوم, هو الشيخ سيد السعداوي, ولكن للأسف انقلب حالها وتغيرت أمورها إلى ما وصلت إليه الآن, واتهمت بالإلحاد والإباحية ) . اهـ
قلت : في هذا عبرة لي ولغيري من شباب الإسلام ( ذكورًا وإناثًا ) أن يسألوا الله الثبات على دينه مرارًا وتكرارُا . وأن لا يغتروا لكونهم قد استقاموا على دين الله فترة من الزمن أن لاتصيبهم فتنة أو نكوص عن الهدى ولو بعد حين .
وأسباب الزيغ ( في مجال الشبهات ) بعد تبين الحق للإنسان كثيرة جدًا ..
منها : أن يكون المرء غير مخلص النية منذ بداية توجهه ؛ بمحبته للشذوذ وتتبع الآراء الغريبة ..(82/1)
ومنها : كثرة مجالسته للمنحرفين - تحت دعاوى كثيرة - تسحبه رويدًا رويدًا عن الخير وأهله وهو لايشعر ..
ومنها : إكثاره من القراءة الفكرية المُقسية للقلب حتى تطغى على العلم النافع الذي يزيد من ثباته ..
ومنها : غفلته وتفريطه التدريجي بالعمل الصالح وأنواع العبادات التي تشد من اعتصامه ..
ومنها ، ومنها , ( تعددت الأسباب والنتيجة واحدة ) .
وأثناء عمل هذه الأسباب المردية تنشأ بذرة خبيثة في القلب ؛ هي بذرة " التمرد " !
وتبدأ أولا بالتمرد على أقوال العلماء وأفهامهم المبنية على النصوص الشرعية ، وازدرائها - بأعذار شتى - ، يأتي على رأسها أنهم " لايفهمون " ، أو أن الزمن تغير وهم " ثابتون على نهجهم الأول " ، أو أنهم " تقليديون " ، أو أن أقوالهم تخالف الرأي الذي اعتقده ، أو ، أو . أما هذا " المتمرد " فهو الفاهم وهو المتطور وهو المنفتح .. وهو يٌلبس على نفسه بأن " تمرده " هذا هو من قبيل " التطور الفكري " ! أو أنه انتقل من مدرسة " الحفظ والتقليدية " إلى مدرسة " الفهم والتجديد " !
هذه البداية ...
ثم تبدأ بذرة " التمرد " بالنمو وهو ساهٍ في غمرته .. حيث يكتشف أن تمرده هذا بدأ يصطدم ببعض النصوص الشرعية التي تخالف هواه الجديد .. وهذه مشكلة ! فلم تعد المسألة مسألة أقوال علماء !
و" المتمردون " في هذا المقام ينقسمون قسمين حسب تتبعي وقراءتي لهم :
القسم الأول : يلجأ إلى التملص من النصوص الشرعية بالحيل المتنوعة : ( التأويل ) ، ( عدم الأخذ بخبر الآحاد ) ، ( الاكتفاء بالقرآن ) ، ( التفريق بين اليقينيات والظنيات ) .. الخ . وهذا تجده كثيرًا في كتابات العصريين .
القسم الثاني : الموقن بأنه مهما طال الزمن أو قصر لا بد من " المواجهة " مع النصوص !! لأنه مهما تملص وراغ يمينًا وشمالا .. فستأتيه نصوص شرعية " يقينية " " قرآنية " تعارض عقله " الضعيف " لا يستطيع لها دفعًا .
فعندها يردد :(82/2)
إذا لم يكن إلا ( الإلحاد ) مركبًا *** فماحيلة المضطر إلا ركوبه ؟
فيخلع هذا " المتمرد " مابقي عليه من رداء التقية ، وتبدأ رحلته الجديدة في " التمرد " على النصوص نفسها ، وازدرائها ، والتهكم بها ، بل تصل الحال ببعضهم إلى التطاول على رسول الله صلى عليه وسلم ، ثم التطاول على رب العالمين - والعياذ بالله - !
وتجد نماذج من هذا الكفر والضلال عند القصيمي الملحد .. وعند الشيخ ! الملحد خليل عبدالكريم .. ومثلهم ( نوال السعداوي ) سيئة الذكر .
المهم : أن نعتبر جميعًا - وأنا أولكم - بحال الآخرين من الهالكين بأن لا نسالك مسالكهم ؛ لأن النتيجة ستكون واحدة مهما حاولنا غير ذلك ، وأن نعالج الأمراض الخفية ، ونقضي على كل بذرة خبيثة في مهدها ؛ قبل أن تنمو وتكبر فيصعب الخلاص منها حينذاك .. وأهمها بذرة " الكبر " و"حب الشذوذ " و" سلوك الطريق عن غير قناعة بل مجاملة للآخرين " .. وأن نعلم يقينًا أن المرء لأن يكون ذنَبًا في الحق خيرٌ من أن يكون رأسًا في الباطل .
والله الهادي .(82/3)
الكاثوليك .. الأرثوذكس .. المارون .. البروتستانت
فيما يلي تهذيب واختصار وتقريب لما جاء في كتاب " الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام " للدكتور علي عبدالواحد وافي ، عن فرق النصارى والتعريف بها ، وجدتُ أنه قد أجاد عرضه بوضوح وسلاسة ؛ حفزتني على نقله للقارئ لعله يستفيد منه .
ومن أراد المزيد فعليه بأصل الكتاب ، أو رسالة الدكتور سعود الخلف - حفظه الله - " دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية " ، أوغيرها من كتب الأديان أو الموسوعات .
قال الدكتور ( ص 120-146) :
( اجتازت العقيدة المسيحية مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى من بعثة المسيح إلى مجمع نيقية سنة 425م، والمرحلة الثانية من مجمع نيقية إلى الوقت الحاضر. وسنتكلم على كل مرحلة منهما على حدة:
المرحلة الأولى: من بعثة المسيح إلى مجمع نيقية سنة 325م:
كانت المسيحية في فاتحة هذه المرحلة –كما ينبئنا القرآن- ديانة توحيد تدعو إلى عبادة إله واحد، وتقرر أن المسيح إنسان من البشر أرسله الله تعالى بدين جديد وشريعة جديدة كما أرسل رسلاً من قبله، وأن الإرهاصات التي سبقت بعثته والمعجزات التي ظهرت على يديه بعد رسالته هي من نوع الإرهاصات والمعجزات التي يؤيد الله تعالى بها رسله، وأن خلقه بدون أب ليس إلا إرهاصاً من هذه الإرهاصات، وأن أمه صديقة من البشر قد كرمها الله فنفخ فيها من روحه فحملت بالمسيح.
ولكن لم تمض بضع سنين على رفع المسيح حتى أخذت مظاهر الشرك والزيغ والانحراف تتسرب إلى معتقدات بعض الفرق المسيحية، وافدة إليها أحياناً من فلسفات قديمة، وأحياناً من رواسب ديانات ومعتقدات كانت سائدة في البلاد التي انتشرت فيها المسيحية والتي احتك بأهلها المسيحيون.
فانقسم حينئذ المسيحيون إلى طائفتين: طائفة جنحت عقائدها إلى الشرك بالله؛ وطائفة ظلت عقائدها محافظة على التوحيد، وضم كل طائفة من هاتين الطائفتين تحت لوائها فرقاً كثيرة:(83/1)
( أ ) فمن أهم الفرق التي انحرفت عقائدها في هذه المرحلة : فرقة المرقيونيين ، وفرقة البربرانية ، وفرقة الأليانية ، وفرقة التثليث .
1 - أما فرقة "المرقيونيين" فإنها تنسب إلى مرقيون أو مرسيون Marcion وهو من رجال القرن الثاني الميلادي، وكان قسيساً، ثم حكم عليه بالطرد والحرمان، ويقوم مذهبه على الاعتقاد بوجود إلهين: أحدهما الإله العادل Dieu Juste أو الإله ديميورج Demiurge أي الخالق والمهندس، وهو الإله الذي اتخذ من بني إسرائيل شعباً مختاراً وأنزل عليهم التوراة، والآخر الإله الخير Dieu Bon الذي ظهر متمثلاً في المسيح وخلص الإنسانية من خطاياها، وقد كان للإله الأول السلطان على العالم حتى ظهر الإله الثاني فبطلت جميع أعمال الإله الأول وزال سلطانه.
ومن ثم يقوم هذا المذهب على اطراح العهد القديم (كتب اليهود المقدسة) في جملته وتفاصيله، ولا يعترف كذلك بمعظم أسفار العهد الجديد، والأسفار القليلة التي يعترف بها من أسفار هذا العهد، وهي إنجيل لوقا ورسائل بولس، لا يعترف بها إلا بعد أن يدخل على نصوصها تغييرات كثيرة تخرجها عن أوضاعها ومدلولاتها الأولى.
ولعل هذا المذهب متأثر بالديانة الزرادشتية الفارسية في مراحلها الأخيرة، فقد انتهى الأمر بالزرادشتيين إلى الاعتقاد بوجود إلهين، إله للخير وكانوا يسمونه أهورا مزدا، وإله للشر وكانوا يسمونه أهريمان.
وعلى الرغم من الحرب الشعواء التي شنتها الكنيسة على هذا المذهب فإنه قد انتشر وتبعه خلق كثير في إيطاليا وأفريقيا ومصر، وظل كذلك حتى منتصف القرن الثالث، أي حتى انتهاء المرحلة التي نتحدث عنها، ثم أخذ يضمحل ويتناقص اتباعه تناقصاً كبيراً، ولكنه لم ينقرض انقراضاً تاماً إلا حوالي القرن العاشر الميلادي.(83/2)
2- وأما فرقة "البربرانية" فكانت تذهب إلى القول بألوهية المسيح وأمه معاً، ويقرر ابن البطريق مذهب هذه الفرقة فيقول: "ومنهم من كان يقول إن المسيح وأمه الإلهان من دون الله وهم البربرانية، ويسمون الريميتيين". ولعل هؤلاء هم الذين يشير إليهم القرآن الكريم فما يخاطب به الله تعالى عيسى بن مريم إذ يقول: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) ، وإذ يرد عليهم في قوله: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) .
هذا، وقد أوشكت هذه الفرقة على الانقراض كذلك في نهاية المرحلة التي نتحدث عنها، وإن كان يبدو من ذكرها في القرآن أنه كان لا يزال لمذهبها اتباع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام (القرن السابع الميلادي).
3- وأما فرقة إليان فيؤخذ مما ذكره في صددها ابن البطريق والشهرستاني في الملل والنحل أنها كانت تؤله المسيح وتقرر أنه ابن الله وتصور حقيقته وحمل أمه به وقصة صلبه في صورة خاصة، فتذهب إلى أن مريم لم تحمل به كما تحمل النساء بالأجنة ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب.
وقد أوشكت هذه الفرقة على الانقراض في نهاية المرحلة التي نتحدث عنها، وإن كان يبدو مما ذكره الشهرستاني في صددها إذ يقول: "وهؤلاء يقال لهم الإليانية، وهم قوم بالشام واليمن وأرمينية"، أنه كان لا يزال لهذه الفرقة أتباع في مصر (القرن السادس الهجري والثالث عشر الميلادي).
4- وأما فرقة التثليث وألوهية المسيح فهي الفرقة التي تذهب إلى أن الإله ثلاثة أقانيم وهي الأب والابن وروح القدس، وأن الابن أو الكلمة هو المسيح، وكانت كنيسة الإسكندرية من أشد الكنائس تعصباً لهذا المذهب الذي أصبح المذهب الرسمي المقرر لجميع الفرق المسيحية بعد مجمع نيقية سنة 325م، كما سيأتي .
ــــــــــــــــــــــ(83/3)
(ب) ومن أهم الفرق التي ظلت عقائدها محافظة على التوحيد فرقة أبيون وفرقة بولس الشمشاطي وفرقة أريوس.
1- أما فرقة أبيون أو الأبيونيين ؛ فكانت تقر جميع شرائع موسى، وتعتبر عيسى هو المسيح المنتظر الذي تحدثت عنه أسفار العهد القديم، وتنكر ألوهية المسيح وتعتبره مجرد بشر رسول.
2- وأما فرقة الشمشاطي فهم أتباع بولس الشمشاطي ، وكان بولس هذا أسقفا لأنطاكية منذ سنة 260م. وأنكر ألوهية المسيح وقرر أنه مجرد بشر رسول، وقد عقد بأنطاكية من سنة 264 إلى سنة 269 ثلاث مجامع للنظر في شأنه، وانتهى الأمر بحرمانه وطرده، وقد بقي لمذهبه أتباع على الرغم من ذلك حتى القرن السابع الميلادي.
3- وأما الأريوسيون فهم أتباع أريوس، وكان قسيساً في كنيسة الأسكندرية، وكان داعياً قوي التأثير، واضح الحجة، جريئاً في المجاهرة برأيه، وقد أخذ على نفسه في أوائل القرن الرابع الميلادي مقاومة كنيسة الإسكندرية فيما كانت تذهب إليه من القول بألوهية المسيح وبنوته للأب، فقام يقرر أن المسيح ليس إلهاً ولا ابناً لله إنما هو بشر مخلوق ، وأنكر جميع ما جاء في الأناجيل من العبارات التي توهم ألوهية المسيح.
وما زال مذهبه يضمحل ويتناقص عدد أتباعه حتى انقرض كل الانقراض في أواخر القرن الخامس الميلادي.
ـــــــــــــــــــ
المرحلة الثانية: من مجمع نيقية سنة 325م إلى الوقت الحاضر:(83/4)
في سنة 325م أمر قسطنطين إمبراطور الرومان بأن يعقد مجمع ديني يضم ممثلين لجميع الكنائس في العالم المسيحي للفصل في أمر الخلاف بين أريوس ومعارضيه، ولبيان أي الرأيين يتفق مع الحق، ولتقرير مبدأ صحيح يعتنقه المسيحيون فيما يتعلق بألوهية المسيح، ولاتخاذ ما ينبغي اتخاذه من قرارات أخرى في شئون العقيدة والشريعة، فاجتمع في نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، ولكنهم اختلفوا اختلافاً كبيراً ولم يستطيعوا الإجماع على رأي، ويظهر أن قسطنطين كان يجنح للرأي القائل بألوهية المسيح، فاختار من بين المجتمعين ثمانية عشر وثلاثمائة من أشد أنصار هذا المذهب، وألف منهم مجلساً خاصاً وعهد إليهم أمر الفصل في هذا الخلاف واتخاذ ما يرون اتخاذه من قرارات أخرى في شئون العقيدة والشريعة، على أن تصبح قراراتهم مذهباً رسمياً يجب أن يعتنقه جميع المسيحيين، فانتهوا إلى عدة قرارات كان من أهمها القرار الخاص بإثبات ألوهية المسيح وتكفير أريوس وحرمانه وطرده وتكفير كل من يذهب إلى أن المسيح إنسان، وتحريق جميع الكتب التي لا تقول بألوهية المسيح وتحريم قراءتها.(83/5)
وبذلك تقرر التثليث في الديانة المسيحية، وأصبح هو العقيدة الرسمية التي يجب أن يعتنقها كل مسيحي، ويحكم بكفر من يقول بغيرها، وأخذت المذاهب المسيحية الأخرى التي كانت منتشرة عند بعض الفرق المسيحية في المرحلة الأولى، والتي أشرنا إليها فيما سبق، تتلاشى شيئاً فشيئاً، ويتضاءل عدد أتباعها، حتى انقرضت كل الانقراض، سواء في ذلك مذاهب الفرق التي كانت محافظة على التوحيد، أم مذاهب الفرق التي انحرفت عن التوحيد إلى عقائد أخرى غير عقيدة التثليث، ولا نجد الآن أية كنيسة مسيحية ولا أية فرق من المسيحيين لا تقول بالتثليث، ولكنهم جميعاً، مع ذلك يتسترون وراء كلمات التوحيد، فيقولون "تثليث في وحدية" أو "وحدية في تثليث" !! مع أنه لا يمكن أن يكون التثليث وحدانية ولا الوحدانية تثليثا: (لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد).
تقرر التثليث إذن في الديانة المسيحية على الوجه الذي سبق بيانه، وأجمع على اعتناقه المسيحيون جميعاً. غير أنهم مع إجماعهم على هذه العقيدة، قد اختلفوا فيما بينهم في أمور فرعية أخرى من عقائدهم وانقسموا إلى طوائف كثيرة، وأعطت كل طائفة لنفسها، نتيجة لهذا الاختلاف، لقباً خاصاً بها، ولكنها ما كانت تخرج في ذلك عن أحد لقبين وهما الكاثوليكية والأرثوذكسية.
فاختلفوا في طبيعة المسيح: هل طبيعته طبيعة واحدة لأنه إله؟ أم أن له طبيعتين طبيعة إلهية وطبيعة إنسية ؛ لأنه ابن الله وابن الإنسان معاً (فقد جاء من مريم، ومريم من البشر) فيكون بذلك قد اجتمع فيه اللاهوت بالناسوت على حد تعبيرهم.(83/6)
وقد أخذت بالمذهب الأول، وهو أن للمسيح طبيعة واحدة، وهي الطبيعة الإلهية، ثلاث كنائس صغيرة من الكنائس التي سمت نفسها الأرثوذكسية: إحداها الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة (وتسمي نفسها كذلك الأرثودكسية المرقسية نسبة إلى الرسول مرقس صاحب الإنجيل، لأن بطاركتها يعتبرون أنفسهم خلفاء لهذا الرسول ). وثانيها الكنيسة الأرثوذكسية السريانية التي يرأسها بطريرك السريان ويتبعها كثير من مسيحيي آسيا، وثالثها الكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية. ومع أن الأرمن يتفقون مع الكنيستين السابقتين في القول بالطبيعة الواحدة للمسيح فإنهم يختلفون عنهما في بعض التقاليد والطقوس، ولهم بطاركة يرأسونهم، ولا يندمجون مع الكنيسة السريانية ولا مع الكنيسة المصرية، وبذلك انفصلت هذه الكنائس الثلاث عن بقية كنائس المسيحيين .
وقد اكتسب هذا المذهب قوة بعد أن انتصر له في القرن السادس الميلادي داعية قوى الحجة، بليغ الأثر، جرئ في الجهر برأيه، اسمه يعقوب البرادعي ، حتى لقد أطلق على هذا المذهب اسم المذهب اليعقوبي وعلى أنصاره اسم اليعاقبة أو اليعقوبيين.
وأخذت بالمذهب الآخر، وهو أن للمسيح طبيعتين طبيعة إلهية وطبيعة إنسية، أي اجتمع فيه اللاهوت بالناسوت، جميع الكنائس الأخرى، وقرر هذا المذهب في صورة حاسمة في مجمع خليكدونية المنعقد سنة 451، فقد انتهى هذا المجمع بعد خلاف كبير بين أعضائه إلى القول بأن للمسيح طبيعتين لا طبيعة واحدة، وأن الألوهية طبيعة وحدها والناسوت طبيعة وحده التقتا في المسيح.
وقد انتصر الإمبراطور الروماني لهذا المذهب، بل إنه هو الذي عمل على اجتماع مجمع خليكدونية لينتهي إلى تقرير هذا الرأي في صورة حاسمة، ومن ثم يطلق على هذا المذهب اسم المذهب الملكي أو الملكاني نسبة إلى الملك أي إمبراطور روما.
ــــــــــــــــــــــ
ظهور " المارونية " :(83/7)
وقد ظلت الكنائس التي تقول بالطبيعتين متحدة في جمع آرائها المتعلقة بشخص المسيح إلى أن ظهر في القرن السابع الميلادي (سنة 667) يوحنا مارون، فذهب إلى أن المسيح، مع أنه ذو طبيعتين، له مشيئة واحدة وإرادة واحدة وهي المشيئة الإلهية والإرادة الإلهية، لالتقاء الطبيعتين في أقنوم واحد إلهي وهو الابن أو الكلمة، وقد شايعه في هذا الرأي بعض مسيحيي آسيا، ولم ترق هذه المقالة في نظر بابوات روما ورؤساء الكنيسة الكاثوليكية، فأوعزوا إلى الإمبراطور أن يجمع مجمعاً ليقرر أن المسيح ذو طبيعتين وذو مشيئتين بعد أن استوثقوا من أن الإمبراطور يشاركهم هذا الرأي، فاجتمع لذلك مجمع القسطنطينية السادس سنة 680م وكان مؤلفاً من 289 أسقفا وانتهى إلى إصدار قرار بكفر يوحنا مارون ولعنه وطرده وكفر كل من يقول بالمشيئة الواحدة .
وقد نزلت بعد ذلك بأصحاب المذهب الماروني القائل بالمشيئة الواحدة اضطهادات شديدة، فأخذوا يفرون بدينهم من بلد إلى بلد إلى أن انتهى بهم المطاف في جبل لبنان، واشتهروا بلقب المارونيين، وظلوا مستقلين في شئونهم الدينية إلى أن قربتهم إليها كنيسة روما فأعلنوا في سنة 1182 الطاعة لها مع بقائهم على مذهبهم القائل بالمشيئة الواحدة، ولا تزال هذه الطائفة متوطنة في جبل لبنان، وإن كان قد هاجر منها عدد كبير إلى قارة أمريكا وغيرها، ولها بطريرك خاص، وإن كان يقر بالرياسة لبابا الكنيسة الكاثوليكية بروما.
وقد ظلت الطوائف القائلة بالطبيعتين والمشيئتين متفقة في آرائها إلى أن نشب بينها في منتصف القرن التاسع خلاف بشأن الأقنوم الذي انبثق منه روح القدس، فذهب بعض الطوائف إلى أن انبثاق روح القدس كان من الأب وحده، وذهب بعضها الآخر إلى أن انبثاقه كان من الأب والابن معاً.
وكان ذلك سبباً في انقسام الكنائس القائلة بالطبيعتين والمشيئتين إلى كنيستين رئيسيتين:(83/8)
إحداهما: الكنيسة الشرقية اليونانية؛ ويقال لها كذلك الكنيسة الشرقية فقط وكنيسة الروم الأرثوذكسية، وهي التي يذهب أتباعها إلى أن روح القدس منبثق عن الأب وحده، والمشايعون لها أكثرهم في الشرق وبلاد اليونان وتركيا وروسيا والصرب وغيرها.
وثانيتهما: الكنيسة الغربية اللاتينية، ويقال لها كذلك الكنيسة الغربية فقط، وكنيسة روما، والكنيسة الكاثوليكية، وهي التي تذهب إلى أن روح القدس منبثق عن الأب والابن معا، والمشايعون لهذه الكنيسة أكثرهم في الغرب في بلاد إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال وأمريكا الجنوبية وبلاد أخرى كثيرة.
ولما أحيط به رئيس كنيسة روما من تقديس بين مشايعيه وعند الملوك ورؤساء الدول، ولكثرة معتنقي مذهبه، تتساهل الكنيسة الشرقية فتعترف له بالتقدم لا بالسلطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظهور " البروتستانتية " :
في أوائل القرن السادس عشر ظهر في العالم المسيحي، بجانب النحل السابق ذكرها، نحلة جديدة أطلق عليها اسم " البروتستانتية " أي نحلة الاحتجاج أو الاعتراض ، وأطلق على معتنقيها اسم "البروتستانت" أي المحتجين أو المعترضين. وقد دعا إلى ظهور هذه النحلة أمور كثيرة يرجع أهمها إلى مظاهر الفساد التي بدت في كثير من شئون الكنيسة الكاثوليكية ومناهجها وطقوسها، وما أحدثته من بدع، ومسلك قسيسيها والقوامين عليها، وإلى تحكمها في تفسير كل شيء، ومحاولة فرض آرائها على جميع أتباعها حتى الآراء التي لا علاقة لها بالدين ؛كالآراء المتعلقة بظواهر الفلك والطبيعة وشئون السياسة ونظم الحكم وما إلى ذلك.
لهذه الأسباب وأسباب أخرى كثيرة من هذا القبيل ظهر في القرن السادس عشر دعاة للإصلاح الديني وتخليص المسيحية من هذه الأدران، وتكونت من إصلاحاتهم نحلة جديدة هي النحلة البروتستانتية. وكان على رأس هؤلاء المصلحين مارتن لوثر الألماني ، وزونجلي السويسري ، وكلفن الفرنسي.(83/9)
أما مارتن لوثر (1483-1546) فهو أسبقهم جميعاً وإليه تنسب النحلة البروتستانتية أكثر مما تنسب إلى غيره ، وقد ثار أول الأمر ضد صكوك الغفران وأعلن بطلانها وكتب في ذلك احتجاجاً علقه على باب الكنيسة (ومن ثم سميت نحلته بالبروتستانتية أي نحلة الاحتجاج أو الاعتراض). فأصدر البابا قراراً بحرمانه واعتباره كافراً زائغ العقيدة، فلم يأبه لهذا القرار بل عمد إلى الإنذار الذي أرسل إليه في هذا الصدد فأحرقه في ميدان من أكبر ميادين المدينة في جمع حاشد من الناس، فجمع البابا سنة 1520 مجمعاً قرر محاكمته، فلم يذعن مارتن لوثر لهذا القرار. ولما حاول الإمبراطور في سنة 1529 أن ينفذ هذا القرار ثار أنصار لوثر واحتجوا على ذلك (ومن ثم سمي أتباع هذه النحلة بالبروتستانت أي المحتجين). وأخذ لوثر من ذلك الحين ينشر مبادئه المعارضة للكنيسة الكاثوليكية، التي تكونت منها النحلة البروتستانتية. وأخذ الناس يدخلون في نحلته أفواجاً.
وأما زونجلي السويسري ((1484-1531) فقد ظهر في العصر نفسه الذي ظهر فيه لوثر ودعا إلى كثير مما دعا إليه لوثر في شئون الدين، وثار على صكوك الغفران وغيرها من مفاسد الكنيسة الكاثوليكية وتبعه كذلك خلق كثير. ولكنه مات قتيلاً في أثناء صراع وقع بين أنصاره وأنصار الكنيسة الكاثوليكية. وكانت دعوته منفصلة عن دعوة لوثر وإن التقت معها في مبادئها.
وأما كلفن الفرنسي (1509-1564) فقد قام بعد لوثر بالدعوة إلى البروتستانتية ونشر مبادئها وألف في ذلك بحوثاً ورسائل كثيرة نشر معظمها بعد فراره إلى جينيف بسويسرا. فإليه يرجع تنظيم البروتستانتية وتحرير مبادئها.(83/10)
وقد انتشرت البروتستانتية في كثير من بلاد العالم النصراني ، ويعتقنها الآن معظم أهل ألمانيا والدانمرك وسويسرا وهولندا والسويد والنرويج وإنجلترا واسكتلنده وايرلندة الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية؛ وأخذت الآن بسبب جمعيات التنصير البروتستانتية وعظيم نشاطها وواسع إمكانياتها المالية وإخلاص رجالها لمبادئها، تغزو كثيراً من معاقل الكاثوليكية والأرثوذكسية، وتنتشر في السودان الجنوبي وأواسط أفريقيا والصين واليابان.
هذا، ولا تختلف البروتستانتية عن النحل السابقة فيما يتعلق بجوهر العقيدة،فهي مثلها تؤمن بالتثليث وألوهية المسيح وبنوته لله وصلبه وقيامته ورفعه وحسابه للعالم يوم القيامة وبأنه صلب لتكفير الخطيئة الأزلية التي ارتكبها آدم وعلقت بجميع نسله.. وما إلى ذلك من الأمور التي استقرت عليها العقيدة النصرانية.
ـــــــــــــــ
وإنما تختلف البروتستانتية عن غيرها من النحل المسيحية بوجه عام وعن الكاثوليكية بوجه خاص في أمور فرعية من أهمها ما يلي:
1- تستمد البروتستانتية جميع الأحكام المتعلقة بالعقائد والعبادات والشرائع من الكتاب المقدس وحده، ولا تقيم لغيره وزناً في هذا الصدد إلا إذا كان تفسيراً معقولاً لما ورد في هذا الكتاب؛ على حين أن الكنائس الأخرى تستمد أحكامها من الكتاب المقدس ومن قرارات المجامع وآراء البابوات ورؤساء الكنائس، ومن ثم سميت الكنائس البروتستانتية الكنائس الإنجيلية لاعتمادها على الإنجيل خاصة وعلى سائر أسفار الكتاب المقدس بوجه عام، بينما سميت الكنائس الأخرى الكنائس التقليدية لاعتمادها على التقاليد المستمدة من المجامع ومن آراء رؤساء الكنيسة ، وجعلها لهؤلاء الرؤساء سلطاناً في تقرير حقائق العقائد والعبادات والشرائع.(83/11)
2- لا تقرر البروتستانتية البابوية أو الرياسة العامة في شئون الدين، ولذلك ليس لكنائسهم رئيس عام كما هو الشأن في الكنائس الأخرى، وإنما تجعل لكل كنيسة بروتستانتية رياسة خاصة بها، وليس لها إلا سلطان الوعظ والإرشاد والقيام على شئون العبادات والواجبات الدينية الأخرى،وعلى تعليم مسائل الدين، ولا يسمون رجال الدين قسسا كما هو الشأن في الكنائس الأخرى، وإنما يسمونهم "رعاة" لأنهم يرعون تابعي كنيستهم ويؤدون لهم ما يجب على الراعي أن يؤديه نحو رعيته من واجبات.
3- ليس في البروتستانتية نظام الرهبنة، وهي لا تحرم الزواج على رجال الدين كما تحرمه الكاثوليكية على جميع الرهبان والقسس بمختلف درجاتهم.
4- تنكر البروتستانتية كل الإنكار أن يكون لرجل الدين الحق في غفران الذنوب في حالة الاحتضار وغيرها، وإنما تجعل ذلك الحق لله وحده، فيقبل إن شاء توبة العاصي ويغفر له ما تقدم من ذنبه، بل إن أهم ما اتجهت البروتستانتية في نشأتها إلى القضاء عليه هو ما كانت تزعمه الكنيسة الكاثوليكية لرجالها من السلطان في محو الذنوب، وما تبع هذا الزعم من نظام صكوك الغفران .
5- تقرر البروتستانتية أن الغرض من أكل الخبز وشرب الخمر في العشاء الرباني هو أن يكون وسيلة رمزية لتذكر ما قام به المسيح في الماضي ؛ إذ قدم جسمه للصلب ودمه للإراقة لتخليص الإنسانية من الخطيئة الأزلية ، ولتذكر ما سيقوم به يوم القيامة إذ يدين الناس ويحاسبهم على ما كسبت أيديهم، وبذلك تنكر البروتستانتية كل الإنكار ما تذهب إليه الكنائس الأخرى إذ تزعم أن ما تجريه على الخبز والخمر من طقوس يحولهما إلى أجزاء من جسم المسيح ومن دمه !
6- تنكر البروتستانتية إنكاراً باتاً جميع ما تقيمه الكنائس الأخرى للسيدة مريم أم المسيح من طقوس واحتفالات وعبادات وأعياد، وتعتبر ذلك خروجاً على أصول الدين.(83/12)
7- تحرم البروتستانتية ما تسير عليه الكنائس الأخرى من وضع الصور والتماثيل في أماكن العبادة واتجاه المصلين لها بالسجود، معتمدة على تحريم التوراة لذلك وعلى أن شريعة موسى شريعة للمسيحيين إلا ما ورد نص صريح من المسيح بنسخه أو تعديله.
8- تحرم البروتستانتية أن تقام الصلاة بلغة غير اللغة المفهومة للمتعبد، كما تفعل الكنائس الأخرى التي تقيمها بلغة ميتة كاللاتينية والقبطية ). انتهى الإختصار والتهذيب .
__________________
بقي بعد هذا الحديث عن العلاقة الحميمة التعاونية التي نراها اليوم بين " اليهود " متمثلة في دولة إسرائيل ، وبين " البروتستانت " متمثلة في أمريكا ومن معها .. كيف أصبحت كذلك بعد أن كان النصارى بجميع طوائفهم أعداء لليهود إلى وقت قريب ؟!
وجواب هذا تجده في الرسالة الأخرى التي قمتُ بنشرها قديمًا : " كيف تحولت العلاقة بين اليهود والنصارى من عداوة إلى صداقة ؟ " ، وتجدها على هذا الرابط : http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/20.htm(83/13)
حقيقة الصوفي .. ( أحمد كفتارو ) .. !
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – معلقًا على قوله صلى الله عليه وسلم في البخاري : " لاتسبوا الأموات " : ( وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحذير منهم والتنفير عنهم . وقد أجمع العلماء على جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتًا ) . ( الفتح 3/305) . وعليه يُحمل حديث : " أنتم شهداء الله في أرضه " . أقدم بهذا لأنني وجدتُ البعض يخلط في هذه المسألة فيُعمم الحديث على كل ميت ؛ ولو كان ممن أبقى بعده تراثًا يقود الناس إلى البدعة أو الكفر والشرك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد سألني أحد الإخوة من الأعضاء في اتصال هاتفي عن الشيخ المتوفى بالأمس ( أحمد كفتارو ) مفتي سوريا ، وأخبرني بأن أحد المواقع الإسلامية قد ذكر ترجمته وجهوده الدعوية !! وقد كان في غنى عن هذا كله بأن يذكر الخبر مجردًا .. ولكن ! فأجبته بأن الرجل رأس من رؤوس غلاة المتصوفة في زماننا ، ووارث أمين لتراث الفرقة النقشبندية ؛ التي تقول بوحدة الوجود ، والفناء ، والإستغاثة بالأموات ، وتعظيم قبورهم .. الخ ، مما تجده موضحًا بالأدلة من كتبهم في كتاب الشيخ الفاضل عبدالرحمن دمشقية – حفظه الله - . وقد أنشأ كفتارو لأجل ذلك معهدًا متخصصًا في جامعه أبي النور بدمشق لتخريج الدعاة النقشبنديين من الجنسين . وقد سبق أن زرتُ هذا المعهد . كما أن له جهود غير مشكورة في التقرب إلى الفرق المنحرفة ، بل النصارى ، وقد كان أحد الأسباب في جعل محمود شلتوت يُصدر فتواه الشهيرة في جواز التعبد بالمذهب الرافضي ! ثم وعدت هذا الأخ المتصل أن أنقل مالدي عنه من أقوال تلاميذه ما يشهد بحماسه للدعوة إلى الفرقة الصوفية النقشبندية ، بدعم مالي ممن يريد لمثل هذا الإسلام أن ينتشر ويحل بديلا لدعوة الحق " أهل السنة والجماعة " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(84/1)
وأنا أنقل من كتابين ألفهما تلميذان من تلاميذه ومريديه مع وضع عناوين وتعليقات يسيرة على بعض النصوص ، : الكتاب الأول : " الشيخ أحمد كفتارو ومنهجه في التجديد والإصلاح " ! لمحمد الحبش ، تقديم الدكتور محمد الزحيلي !! . ط 1 ، 1417هـ . والكتاب الثاني : " الشيخ أحمد كفتارو يتحدث " إعداد وحوار أحمد نداف . ط 1 ، 1418هـ
مقدمًا قبل ذلك بترجمة مختصرة لكفتارو مأخوذة من موقعه – جاء فيها - : الاسم: أحمد ابن الشيخ محمد أمين كفتارو التولد: دمشق سوريا عام 1915م الدراسة: تلقى علومه الدينية على أيدي علماء دمشق ، ومنهم الشيخ أبو الخير الميداني، والشيخ إبراهيم الغلاييني، والشيخ محمد الحلواني، والشيخ محمد الملكاني، والشيخ محمد جزو، والشيخ المُلا عبد المجيد، رحمهم الله وغيرهم، بالإضافة إلى والده وشيخه الشيخ محمد أمين كفتارو الله رحمه الله تعالى. وقد أجازوه بتدريس علوم الشريعة والتصوف والدعوة والإرشاد. وبعد وفاة والده الشيخ محمد أمين كفتارو عام 1938م تولى مهام الدعوة للتصوف على منهج والده وشيخه، ولا زال قائماً بتلك المهام إلى هذا اليوم ، من خلال جامع أبي النور والمعهد الملحق به .
مؤهلاته العلمية: 1- دكتوراه في علم الدعوة الإسلامية من جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية في جاكرتا عام 1968. 2- دكتوراه في علوم أصول الدين والشريعة من جامعة عمر الفاروق في الباكستان عام 1984م. 3- دكتوراه في علوم الدعوة الإسلامية من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان عام 1994م.(84/2)
الوظائف التي شغلها: 1- انتخب من قبل مفتيّ سوريا مفتياً عاماً للجمهورية عام 1964م، وما يزال. 2- رئيس مجلس الإفتاء الأعلى في سورية منذ عام 1964م. 3- رئيس مجمع أبي النور الإسلامي منذ تأسيسه عام 1974م. 4- عضو المجلس المركزي لمنظمة الدعوة الإسلامية العالمية عام 1965 في إندونيسيا. 5- عضو مؤتمر العالم الإسلامي في الباكستان. 6- عضو مجمع التقريب بين المذاهب في إيران. 7- عضو المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي في السودان. 8- عضو ندوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التابعة للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (سيسكو) في المغرب. 9- عضو لجنة التنسيق والعمل الإسلامي المشترك في مجال الدعوة والتابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاء في الكتاب الأول : - ( نشأ الشيخ كفتارو في مدرسة صوفية نقشبندية ) ( ص 278 ) . - ( كانت خطة الشيخ في التربية تتلخص في إعداد الدعاة وبنائهم روحيًا وعلميًا ، ثم توجيههم لينفروا في قراهم وبلدانهم وأحيائهم يعقدون للناس مجالس الذكر على أصول الطريقة النقشبندية ) ( ص 210 ) . - ( وحتى الآن فإن حلقات الشيخ كافة والتي تُعد بالألوف في مختلف أنحاء العالم تبدأ بجلسة الذكر وتنتهي بجلسة الذكر ، ولا زالت الطريقة النقشبندية التي انطلقت من مسجد أبي النور هي عماد اللقاءات ، وهي جزء هام من أي منهاج يوضع لأي مؤسسة تعليمية تنطلق من جامع أبي النور ) ( ص 72 ) . - ( كانت زيارة الشيخ كفتارو للنمسا بداية نشاط له في أوربا أثمر فوائد جمة على صعيد التعريف بالإسلام ، والحوار الإسلامي المسيحي ، وليس أدل على ذلك من المجموعات النقشبندية التي تعاظم نشاطها في المجتمع النمساوي ) ( ص 175 ) .(84/3)
- ( كذلك فقد انطلق إلى المسلمين من الشيعة بطوائفها ومذاهبها المختلفة ، وبادرهم بالزيارة ، واتخذ منهم أصدقاء وأعوانًا ، وأنشأ معهم أوثق الصلات ) ( ص 86 ) . - ( كان من بركة هذه اللقاءات صدور فتوى شيخ الأزهر الشريف بتوقيع الشيخ شلتوت ، وهي تدعو المسلمين إلى نبذ الخلاف ، واعتبار المذهب الجعفري خامس المذاهب الإسلامية المعتمدة ) ( ص 94 ) . - ( وصلة الشيخ بالمسلمين الشيعة قديمة قديمة ) ( وأظهر الأمثلة على ذلك أنهم يتواصون أن يُصلي على أمواتهم في جامع أبي النور ؛ إذ يرون فيه رمزًا حقيقيًا للوحدة الإسلامية ) ( ص 161 ) .
- يقول كفتارو : ( إن من مطلبي أن نرفع اسم المذاهب ونكتفي باسم مسلم فقط ، نرفع اسم سلفي ، لم يكن بزمن النبي صلى الله عليه وسلم شيئ اسمه سلفي ، صوفي ، سني ، شيعي ، شافعي ، لنرفع كل هذه الأسماء ) ( ص 295-296) ! ( أنا أعلنتُ مئات المرات في كل محاضراتي التي يحضرها الألوف من الناس : يحرم أن نتلفظ بكلمة سنة وشيعة ) ! ( ص 305 ) . قلتُ : هذا حسَن لو كان المراد إعادتهم جميعًا إلى ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم . أما هذا الجمع الصوري مع بقاء كل مبتدع على بدعته فلا مصلحة منه ، بل فيه ضرر عظيم على المسلمين ؛ بالتلبيس عليهم عندما يُخلط الحق بالباطل . وأحرى بهذا الجمع الصوري أن يُقال فيه ما قاله تعالى : ( تحسبهم جميعً وقلوبهم شتى ) .
- ( ولم يقتصر نشاط الشيخ في إطار الوحدة الإسلامية حدود السنة والشيعة ، بل قام بجهد آخر في سبيل إيلاف الإسماعيلية والدروز ) ( ص 315 ) . - ( وكان في طرحه لأي خطاب يوجهه إلى المسيحيين يًصدره بقوله " إخواننا المسيحيون " ) ( ص 326 ) .
- في الكتاب عدة صور لكفتارو : منها صورة لزيارته لأحد الأضرحة وتبرعه بترميمه - كما يقول التعليق - !! ، ومنها صور لقاءاته مع النصارى والرافضة وغيرهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(84/4)
أما الكتاب الثاني فجاء فيه : - ( إن الشيخ أحمد كفتارو النقشبندي يتصل من خلال أبيه برجال السلسلة العلية النقشبندية ) ( ص 85 ) . - يقول كفتارو : ( جمعتني مع الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي المملكة لقاءات كثيرة ، وفي أول لقاء سألني : لقد بلغني عنك خبران متناقضان : بعضهم يقول بأنك صوفي ، وبعضهم يقول بأنك سلفي ، فأيهما الصحيح ؟ وكان في المجلس أخونا وصديقنا الشيخ السيد أبوالحسن الندوي الذي تجمعني معه صلة مودة ومحبة منذ الخمسينات . فقلت للشيخ ابن باز : إن الخبرين صحيحان ، فأنا صوفي وسلفي ! فقال : لا يجتمعان ! ....... الخ ) . ( ص 175 ) .
قلتُ : ثم أوهم كفتارو قارئه بأنه أفحم الشيخ ابن باز !! وأنا في شك من طريقة نقل هذه الحكاية . ولا أظن الشيخ عبدالعزيز رحمه الله يرضى بهذا التلبيس .
ويقول كفتارو : ( ويجمعني مع كبار علماء السعودية علاقات طيبة ؛ ومنهم .. الشيخ علوي المالكي والد الشيخ المحب المحبوب محمد العلوي المالكي ) ( ص 176 ) .
أخيرًا : يقول الأستاذ مروان كجك عن كفتارو : ( الشيخ أحمد كفتارو سلخ شطراً من حياته وأوقفه في سبيل دعوة « الحوار بين الأديان » مستجيباً وداعياً ، وكم حملته الطائرات شرقاً وغرباً إلى تلك المؤتمرات الزائفة لكنه لم يَعُدْ من ذلك كله حتى بخفي حُنَيْن ) . ( مجلة البيان ، العدد 164) .(84/5)
تعقيب على ... الدكتورة عزيزة المانع
قامت جريدة المدينة قبل فترة بعمل مكاشفات مع الدكتورة عزيزة المانع - وفقها الله للخير - ، ونشرت على ثلاث حلقات ، فقمت بالتعقيب على ما جاء في الحلقة الثالثة المتعلقة بالمظاهرة النسائية التي قامت بها الدكتورة مع بعض النسوة ، ووضحت لها أن المظاهرات النسائية أسلوب قديم استخدمه أعداء الإسلام لغزو وتغريب ديار المسلمين .
وقد أحببت نشره هنا نظرا لمحدودية انتشار الصحيفة :
(المظاهرات النسائية) أسلوب قديم استخدمه أعداء الإسلام
اطلعت على المكاشفات الأخيرة للدكتورة عزيزة المانع -وفقها الله للخير- ولفت نظري ما ذكرته من أن المظاهرة النسائية الشهيرة التي قادتها هي ومجموعة من النساء كانت عفوية ولم يتم التخطيط لها من أي جهة. وهو ما كان خلافه شبه مستقر في أذهان الناس مما دعا الأستاذ المحاور إلى التوقف عند هذه النقطة كثيراً.(85/1)
وأنا من باب إحسان الظن بالمسلم لن أتوقف عند هذا الأمر، لكني أحببت في هذه المداخلة أن ألفت نظر الدكتورة ومن كان معها إلى أن (المظاهرات النسائية) أسلوب قديم جربه أعداء الإسلام ومن يعاونهم من (الغافلين) لتغريب المرأة المسلمة في عدد من البلاد الإسلامية مستغلين ما يصاحب مثل هذه المظاهرات -عادة- من (عقل جمعي) ينسي المرء تفكيره السوي، ليتم من خلال ذلك تمرير ما يريدون، لعلمهم أن المرأة هي القلب النابض للمجتمع فإذا فسدت تبعتها الأعضاء الأخرى -إلا ما رحم ربي- والواقع خير برهان. واللوم لا ينال أعداء الإسلام الذين أخبر الله عنهم بقوله (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) أو قوله (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) أو قوله (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم). اللوم لا ينالهم بقدر ما ينال بعض مثقفينا ومثقفاتنا من أبناء الإسلام الذين لا زال الآخر يستغلهم لإضعاف مجتمعات المسلمين واحداً بعد الآخر، حتى يجردوها من كل معاني القوة والعزة ليسهل لهم سلب خيراتها وتحريف ثقافتها كما هو مشاهد في المجتمعات التي نجحوا فيها.
وهذا الآخر مستعد أن يبذل الإعلام والأموال في سبيل هذا الأمر لأنه يعلم نتائجه المربحة، لكنه في المقابل يقيم الدنيا ولا يقعدها عندما يصل إلى سمعه أن إحدى بلاد المسلمين قد خطت خطوة واحدة نحو التقدم الصناعي أو الاكتفاء الاقتصادي أو الزراعي أو غير ذلك من مجالات القوة المادية (الحقيقية)، ولا يرتاح باله حتى يئد طموحها ومشاريعها، ولو كان ذلك باستخدام القوة العسكرية.
أعود إلى موضوع (المظاهرات النسائية) التي لم يعرفها العالم الإسلامي إلا بعد أن وقعت كثير من دياره في قبضة المستعمر الكافر الذي كاد وخطط واستعمل كثيراً من الأساليب، من ضمنها هذه المظاهرات التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب -كما سيأتي-!(85/2)
1- ففي مصر: انطلقت أول مظاهرة نسائية في العالم الإسلامي زمن الاحتلال الإنجليزي عام 1919م تحت إشراف ربيب الاستعمار وخليل اللورد كرومر سعد زغلول، وبقيادة زوجته (صفية) مع رفيقتها رائدة التغريب (هدى شعراوي) إضافة إلى مجموعة من النساء القبطيات! وذلك للتعبير عن رفضهن للاحتلال الإنجليزي - كما أشيع!- إلا أن المظاهرة تحولت عن مسارها إلى (الهتاف بالحرية ونزع الحجاب)!! (أنظر تفاصيل هذه المظاهرة في مذكرات قائدتها هدى شعراوي، ص187 وما بعدها، وفي كتاب المرأة المصرية لدرية شفيق، ص119 وما بعدها، وفي كتاب عودة الحجاب للشيخ محمد بن إسماعيل، 1/158. وانظر صور هذه المظاهرة في كتاب 50 عاماً على ثورة 1919م، ص197 (إصدار جريدة الأهرام).
2- وفي مصر أيضاً: انطلقت مظاهرة نسائية من مقر (الجامعة الأمريكية!!) عام 1951م بقيادة درية شفيق وبتحريض من (وزير الشؤون البريطانية)! (أنظر تفاصيل هذه المظاهرة في كتاب قائدتها درية شفيق: المرأة المصرية، ص201 وما بعدها. وليعلم أن درية هذه ماتت منتحرة عام 1975م - نسأل الله العافية-).
3- وفي سوريا: قامت مظاهرة نسائية عام 1926م احتجاجاً على سياسية الانتداب الفرنسي! (أنظر تفاصيلها في مقدمة كتاب السفور والحجاب لنظيرة زين الدين، ص11) ولعلها هي المظاهرة التي ذكرها محب الدين الخطيب في مجلته: الفتح - السنة الأولى، 64، وتوجد صورها في كتاب: مكتب عنبر لظافر القاسمي، ص113-117).
4- وفي سوريا أيضاً: بعد المظاهرة الفاشلة السابقة بسنتين عام 1928م قامت مظاهرة نسائية بقيادة (ثريا الحافظ) التي كما تقول الدكتورة بثينة شعبان (رفعت الغطاء عن وجهها كما فعلت مئة امرأة ونيف كن يساهمن معها في المظاهرة نفسها)! (انظر: المرأة العربية في القرن العشرين، ص18).(85/3)
5- وفي البحرين: تأخرت المظاهرات قليلاً نظراً لتغير الأوضاع! حيث خرجت في الخمسينيات مجموعة من النسوة بمظاهرة نسائية (سياسية)! إلا أنه -كما يقول الدكتور علي تقي- (قامت إحدى الفتيات بنزع عباءتها وأخذت تخطب في الجماهير)!! (أنظر: دراسة حول واقع الأسرة البحرينية، ص18).
هذه بعض المظاهرات النسائية التي حدثت في بلاد المسلمين لتكون الخطوة الأولى نحو التردي في (خطوات التغريب) كما اتضح للعيان فيما بعد، قادها الأعداء من خلف الكواليس! وحرفوها إلى ما يريدون، مستغلين غفلة بعض أبناء وبنات المسلمين الذين انساقوا معهم في سبيل تحقيق (نزوة) أو (شهوة)، ولو أدى ذلك إلى خراب بيوتهم بأيديهم، وتسليم بلادهم لقمة سائغ لعدوهم. ولكن لعل ما حدث يكون موقظاً للغالين عن المكر الكبار الذي يحاق لهم.
وقد أعجبني في هذا المقام رد جميل ذكي للأميرة الفاضلة فهدة آل سعود حفظها الله - ردت به على بعض الجمعيات النسائية الغربية في محاولتهن استدراجها وزميلاتها في الجمعية الفيصلية للانخراط في مخططاتهم ضد المرأة المسلمة في هذه البلاد، ولكن الأميرة الحصيفة قطعت الطريق عليهم لتكون قدوة معاصرة لنساء هذه البلاد الطيبة أن يكن نبيهات لما يكاد لهن . وبإمكان القارئ مطالعة هذا الرد الرائع على هذا الرابط
(www.saaid.net/female/m120.htm)
ختاماً: أهمس إلى الدكتورة عزيزة بقولي إن المرء العاقل قد يتنازل عن ما يراه (مصالح) جزئية في سبيل تحقيق (مصالح) أعظم منها، على رأسها وحدة هذه البلاد وتماسكها في مواجهة عدوها المتربص بها. وأتمنى منها ومن زميلاتها أن يقرأن كتاب (عودة الحجاب) بأجزائه الثلاثة - للشيخ محمد بن إسماعيل المصري - الذي وثق فيه معركة الحجاب على أرض مصر لتكون عبرة للآخرين.وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وجنبنا وبلادنا الفتن.(85/4)
المزيد .. عن دين النقيدان الجديد .. !! ( الإنسانية )
لم أستغرب كثيرًا مما فاه به منصور النقيدان في مقابلته مع تركي الدخيل - هداه الله - ؛ لأنني أعلم - سابقًا - أن هذه مرحلة متقدمة من مراحل الضلال ، وخطوة من خطوات الشيطان سيبلغها كلُ من سار على درب " التميع " و " التقلب " و " العصرنة " - أعاذنا الله من ذلك - .
والسبب : أن السائر في هذا الطريق الموحش سيتنازل رويدُا رويدًا عن ثوابته الإسلامية - إما إرضاء للكفار أو حقدًا على أهل الخيرأو طلبًا للتميز والشهرة أو لغير ذلك من الأسباب - ، وسيقوم بهدم كل المقدسات التي تواجهه في هذا الطريق ، عندما يجدها تُخالف هواه .
فالخطوة الأولى في هذا الطريق تبدأ - عادة - بالدعوة إلى " التسامح مع الآخر " هكذا بشكل فضفاض ! ، ثم تتطور إلى الادعاء بأن الكفار إخوة للمسلمين ! ثم تتدرج إلى التشكيك في مبدأ الولاء والبراء ! ثم ترتقي إلى التشكيك في كفر اليهود والنصارى وغيرهم ! ثم الدعوة إلى المذهب " الإنساني " الذي لا يُفرق بين مسلم وكافر ، إلى أن يصل السائر إلى نهاية الكفر ؛ بالدعوة إلى وحدة الأديان .. بل وحدة الوجود - والعياذ بالله - .
وكل هذا قد حصل من ضُلال متنوعين .. فلا تعجب .
والله يقول ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) .
ومن لطائف ماذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " نزلت هذه الآية في عبدالله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قاموا بشرائعه وشرائع موسى ؛ فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها . فأنكر ذلك عليهم المسلمون ، فقالوا : إنا نقوم على هذا وعلى هذا ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها ؛ فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولاتتبعوا خطوات الشيطان ) " .(86/1)
فليس غريبًا - إذًا - ما قاله النقيدان من كلمات كفرية باتفاق المسلمين ؛ لأن الرجل مسبوق في هذا الطريق الذي اختاره ، رغم مناصحات المشفقين .
ولكن العجب والاستغراب حقًا ممن يدافع عن أقوال الرجل الكفرية التي نطق بها ! ليبوء بما باء به صاحبه ورفيقه .
وهذا الأمر يعطي للعقلاء دلالة واضحة على أن بعض أفراد هذه الفئة المنتكسة تشترك وتتآزر مع النقيدان في هذا الفكر المنحرف الذي استبدلت به الإسلام . ولكنه تجرأ على البوح به ، بخلافهم .
فهل يتنبه الغافلون منهم ؟!
ــــــــــــــــــــــــ
وأما عن الدين الذي اختاره النقيدان ؛ وهو ما يسمى( الإنسانية ) ؛ وهي فكرة جاهلية كفرية تقوم على نبذ الدين ، وعلى خلط الحق بالباطل ، وعدم الممايزة بين من وصفهم الله بأنهم ( خير البرية ) ومن وصفهم بأنهم ( شر البرية ) و( أضل من الأنعام ) . هذا الدين أو هذه الفكرة ليست جديدة في عالم الأفكار ، أو في عالم المسلمين .
فقد بدأت الدعوة إليها منذ أن اختار الغرب الانقلاب على كنيسته المتسلطة ودينه المُحرف . وقد بين علماء الإسلام أمرها منذ أن وفدت إلى ديارهم على يد متبعي سَنَن اليهود والنصارى .
فبإمكان القارئ الاطلاع على حقيقتها في : كتاب الشيخ محمد قطب " مذاهب فكرية معاصرة " ، وكتاب الدكتور عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني " كواشف زيوف " ، و " الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب .. " التي أصدرتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي ( 2 / 809-812) . و" معجم المناهي اللفظية " للشيخ بكر أبوزيد ( ص 162-163) ، ومقال المقدم سعد القرني في مجلة كلية الملك عبدالعزيز الحربية ( عدد ذي الحجة 1424) بعنوان " الإنسانية : شعار براق وحقيقة مسمومة " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(86/2)
ومما كتب في المذهب الإنساني مؤخرًا : رسالة دكتوراة قيمة - لم تُطبع بعدُ حسب علمي - بعنوان : ( الإنسانية في فكر المسلمين المعاصر – دراسة وتقويم ؛ للدكتور محمد إدريس عبدالصمد ، نوقشت عام 1417هـ ) .
تحدث فيها مؤلفها عن التالي :
- معنى كلمة الإنسانية .
- مفهوم الإنسانية في الإسلام والفكر الغربي .
- الإنسانية في الاتجاه التغريبي عند المفكرين المسلمين المعاصرين .
- الإنسانية في الاتجاه التوفيقي .
- الإنسانية في الاتجاه التأصيلي .
- النظام العالمي الجديد والإنسانية .
- الخاتمة والتوصيات .
وقد اخترتُ نقل شيئ مما جاء في رسالته من الصفحات : ( 12،13،17،114،216،224،491-492) :
- ( يتضح مما ذكره مؤلف الموسوعة الفلسفية في معرض كلامه عن الإنسانية: أنها " كل دعوة موضوعها الإنسان تؤكد فيه كرامته، وتجعله مقياس كل قيمة، وهي عند (كونت) ديانة تزعم أن الإنسانية وليس الله هي الأولى بالعبادة ! وهي -أيضاً- فلسفة عصر النهضة الأوربية التي مثلت إسهام مفكريه في محاولة تثبيت أقدام الإنسان بالأرض وتحويل أنظاره إليها ودمجه بالطبيعة وإثارة إحساسه بدوره التاريخي ) .
- ( وجاء في المعجم الفلسفي أيضاً أن مصطلح الإنسانية يُستعمل في معان كثيرة، ويطلق بخاصة على :
أولاً: تلك الحركة الفكرية التي سادت في عصر النهضة الأوربية، وكانت تدعو إلى الاعتداد بالفكر الإنساني ومقاومة الجمود والتقليد، وترمي بوجه خاص إلى التخلص من سلطة الكنيسة وقيود القرون الوسطى، ومن أشهر دعاتها (بترارك) و(إرزم) .(86/3)
- ( والمخططون لدعوة الإنسانية الحديثة هم اليهود، وهدفهم المهم والحقيقي منها هو نبذ المبادئ والمذاهب والمعتقدات والنظم التي تسبب الفرقة والتنازع بين الناس –حسب زعمهم-، وأهم ما يجب في دعوة الإنسانية –كما يجاهرون- هو نبذ الدين. وأخطر الأديان التي تقف حاجزاً أمام مخططي دعوة الإنسانية –وفق مفهومهم- هو الدين الإسلامي، إذ هو الطود العظيم الذي يريدون دكه والإجهاز عليه ) .
- ( ومما سبق تبين أن الإنسانية في المفهوم الغربي ترتكز على الإيمان بالإنسان، والاعتقاد بقيمته واعتباره مقياس كل شيء، ويتم ذلك عن طريق تحقيق الحرية، وسبيل ذلك لديهم تحطيم ما يسمونه قيود العصر الوسيط ومقاومة الجمود والتقليد، والسعي إلى إحياء التراث اليوناني والروماني.
وبذلك فإن الإنسانية أصبحت بمثابة دين يعبد من دون الله، فهي تجعل الإنسان مقياس كل شيء، وقادرًا على بلوغ حقه المطلق للتمتع بالحياة ) .
- ( إن من مظاهر مفهوم الإنسانية عند أصحاب الاتجاه التوفيقي هو النظر إلى ما يخص النوع البشري والتهاون فيما ينبغي من اعتبار معيار الحق والالتزام به، فهم حين ينادون بشعار "الإخاء الإنساني" بدعوى عدم التفرقة بين أنواع البشر، إنما يتابعون في ذلك مفكري الغرب الذين سبقوا إلى تبني هذا الشعار، وردده عدد من مفكريهم في مطلع ما يسمى عندهم عصر النهضة ) .
- (بل الأنكى من ذلك أن بعض هؤلاء المفكرين ذهب إلى تأويل الآيات القرآنية تأويلاً لا يمت إلى الإسلام بصلة، إذ يقول أحدهم مثلاً: "إن لفظ (الإسلام) في قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) لا يعني إلا الاستسلام لرب واحد، فإذا تحقق استسلام أحد من الناس مسلماً كان أم غير مسلم فهو مرضي عند الله ) !!(86/4)
- ( قام المذهب الإنساني في عصر النهضة الأوربية على يد فلاسفة هذا المذهب لإبراز القيمة الجوهرية لحياة الإنسان في الدنيا دون الاهتمام بالعنصر الروحي له، ودون العناية بالدين؛ وذلك في مقابل نظرة الكنيسة القاصرة للإنسان.
ونشأت –فيما بعد- الحركة الإنسانية الجديدة، وفي إطار من ازدهار حركة الفلسفات الغربية التي بالغت في إعلاء قيمة الإنسان إلى حد تقديسه وتأليهه. ويتضح ذلك فيما نادت به في بداية عصر التنوير (الرومانطيقية) و(الفلسفة الطبيعية) من إخضاع الإنسان لمفاهيم تربوية وبيولوجية جديدة؛ وذلك في القرن الثامن عشر.
وفي القرن التاسع عشر اتجهت الحركة الإنسانية إلى العقلانية والعلمية، حيث وضعت فلسفات هذا القرن ثقتها في قوة العقل البشري ومنطقية العلم الإنساني، ومن هذا الاتجاه انبثقت الاشتراكية بأشكالها.
والفكر الغربي بعامة لم يقف –في الظاهر- عند محاربة الدين، بل حاول إيجاد بديل للدين، يتمثل في دعوات كثيرة، أبرزها "الإنسانية"، التي جعلت من الإيمان بالإنسانية بديلاً عن الإيمان بالله، وأعلنت أن الإنسانية غاية لا تُعرف غاية وراءها.
والقاسم المشترك بين فلاسفة المذهب الإنساني الغربي من عصر (بروتاغوراس) إلى عصر (أوجست كونت) :
أنهم يثقون في العلم والعقل ثقة مطلقة، ويعتبرونهما منقذين رئيسين للإنسان.
وأن منهج معرفة الإنسان وفلسفة الإعلاء لقيمته يبدأ بتوجيه الإنسان نحو الأفضل وفق رؤية محدودة لهذه الفلسفات بصورة أدت إلى الانتقاص من فطرة الإنسان وذاتيته، بل الانحدار به إلى عالم الحيوانات.
لقد عنيت الإنسانية الغربية بحياة الإنسان الدنيوية، وأنكرت الحياة الآخرة، مما أدى بها إلى القول بالمصادفة بحدوث الخليقة، والحتمية التاريخية، والقول بأن قدرة الطبيعة تستطيع أن تكوِّن جسم الإنسان بتركيباته العجيبة ووظائفه العديدة. وتعتبر هذه النظرة من أخطر مزالق الحركة الإنسانية في الغرب ) .(86/5)
( الاختلاط ) .. بين المفسدين في السعودية و الشيوعي خالد بكداش ..!
لازال المفسدون لدينا في ضلالهم القديم ؛ في أفكارهم ، وكتاباتهم ، وأمانيهم ..
رغم تعاقب الليالي والأيام لم يتغير شيئ منها ، ولم تتطور عقلياتهم وتترقى إلى ماينفع الناس في دنياهم - ولا أقول دينهم ! لأنهم خاوون من هذا ، وفاقد الشيئ لايعطيه - ، والغريب أنهم من أشد الناس دعوة إلى التغيير والتطور !
فمن أفكارهم الدنيئة التي لازالت تؤرقهم وتشغلهم فكرة خلط النساء بالرجال ؛ سواء في التعليم أم العمل .. المهم أن يختلطوا !
وكأن الأمة والبلاد لو جارتهم في هذا الأمر لانحلت مشاكلها وأزماتها ..
فقد تخلى هؤلاء عن كل فكر دنيوي نافع ، وانحصرت اهتماماتهم بقضايا شكلية تُفسد ولا تُصلح .
فعجبًا لهذه الحقارة ..
وقد رأى الجميع وسمعوا عن الرجل الذي شارك في مؤتمر الحوار الثالث .. فلم يكن يشغله طوال أيام الحوار سوى أن يسمح القائمون على الحوار بالاختلاط بين النساء والرجال في ذاك المؤتمر !
ثم جاء الملتقى الأول للمثقفين فتكررت نفس المطالبة .. ولكن من رجل آخر !
( تشابهت قلوبهم )
تذكرت هذا عندما كنت أقرأ في مذكرات ( خالد بكداش ) أحد أبرز قادة الشيوعيين العرب ؛ وذلك لما سأله أحدهم ( ص 135 ) :
( لماذا لايوجد اختلاط بين الذكور والإناث في هيئات الحزب ؟ ) .
فقال : ( في إحدى المدن السورية جرى دمج تنظيم اللجنة الفرعية النسائية مع الرجالية ؛ فتواردت الشكاوى بأن هذا الدمج لم يكن مواتيًا ؛ لأن الرجال لايعرفون خاصية العمل بين النساء الشعبيات . وكانت الفائدة أكبر حالما أصبحت هناك استقلالية في العمل النسائي ) .
فهذا الشيوعي نظر للقضية نظرة دنيوية لادينية ؛ فوجدها مضرة وغير مجدية .
فهلا نظر دعاة الاختلاط نظرة الشيوعي الهالك إن كان الدين لايهمهم ؟!(87/1)
الشيعي ( حسن الصفار ) والكذب على ( الشيخ الألباني ) ..!!
كنتُ أعتقد أن ما اشتُهر عن الشيعة من أنهم أكذب الناس خاصٌ بغلاتهم دون المثقفين المعاصرين منهم ، الذين بسبب ثقافتهم العصرية وتنورهم سيتنزهون عن هذه الخصلة الذميمة التي اتصف بها أسلافهم .
ولكن الأستاذ الشيعي الشهير ( حسن الصفار ) خيب ظني !!
لأني وجدته قد مارس هذه الخصلة الذميمة في أحد كتبه ، مفتريًا على أحد أعلام أهل السنة المعاصرين : ( الشيخ الألباني - رحمه الله - ) .
فعلمتُ صدق مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الخبير بمذهب القوم ؛ عندما قال : ( ليس في أهل الأهواء أكثر كذبًا من الرافضة ) ( منهاج السنة ، 7/41) .
يقول الصفار في كتابه " علماء الدين : قراءة في الأدوار والمهام " ( ص 213-215) :
( وقبل فترة بسيطة اطلعت على كتاب طبع مؤخرا تحت عنوان " الإصابة في تصحيح حديث الذبابة " ، وهو رد على المشككين في صحة حديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم لينتزعه فان في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء " . وبطريق آخر عن أبي سعيد الخدري أنه قال : " إن أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء ، فإذا وقع في الطعام فأمقلوه، فانه يقدم السم ويؤخر الشفاء " ، علما أن من المشككين فيه أحد أبرز العلماء السلفيين المعاصرين : الشيخ الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة ) انتهى كلام الصفار !!
لما قرأتُ هذا الكلام تعجبتُ من أن يكون الشيخ الألباني قد شكك في هذا الحديث الصحيح !
فرجعتُ إلى الموضع الذي أحال عليه الصفار ( السلسلة الصحيحة ، 1 / 58) ..
فماذا وجدتُ ؟!
لقد وجدتُ الشيخ الألباني - رحمه الله - قد صحح الحديث ورد على من شكك فيه من الرافضة الطاعنين في راويه أبي هريرة - رضي الله عنه - !!
ومن قوله - رحمه الله - :(88/1)
( أما بعد ، فقد ثبت الحديث بهذه الأسانيد الصحيحة عن هؤلاء الصحابة الثلاثة : أبي هريرة وأبي سعيد وأنس ، ثبوتا لا مجال لرده ولا التشكيك فيه ، كما ثبت صدق أبي هريرة رضي الله عنه في روايته إياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلافا لبعض غلاة الشيعة من المعاصرين ، ومن تبعه من الزائغين ، حيث طعنوا فيه رضي الله عنه لروايته إياه ، واتهموه بأنه يكذب فيه على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحاشاه من ذلك ، فهذا هو التحقيق العلمي يثبت أنه برئ من كل ذلك ، وأن الطاعن فيه هو الحقيق بالطعن فيه ؛ لأنهم رموا صحابيا بالبهت ، وردوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة ! ) .
قلتُ : فتأمل جرأة ووقاحة هذا الشيعي في كذبه وافترائه على الشيخ ! ولعله ظن أن قراء كتابه من أفراد طائفته أو من المثقفين ! لن يعودوا إلى المصدر الذي نقل عنه ؛ فهان عليه اقتراف الإثم ؛ لحاجة في نفسه .
فكيف يليق بعاقل أن يثق بمن هذا شأنه ومقدار أمانته ؟!(88/2)
بين الآمدي وابن تيمية ... في الرد على الرافضة ..!
عندما كتبتُ رسالة " شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن ناصبيًا " في الرد على الجهلة الذين اتهموا شيخ الإسلام بالفرية السابقة ، بينتُ أنه رحمه الله عند رده على الرافضة كان بين خيارين :
الأول : أن يلزم الأسلوب المشهور عند العلماء ؛ وهو أسلوب الدفاع عن الصحابة ، وتفنيد مفتريات الرافضة عليهم . فكلما أوردوا شبهة كشفها وردها . وهذا أسلوب لايجدي مع أمثالهم ممن دينهم الكذب والجرأة على خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن يلجأ لأسلوب ( الإلزام ) ، ومواجهة شبهات الرافضة وأباطيلهم بشبهات الخوارج والنواصب لكي يُسكت الطائفتين . وقد ذكر أن هذا منهجه في ردوده المتنوعة ؛ كما في درء التعارض .
فكلما أورد الرافضة شبهة على أحد الصحابة .. رد عليهم الشيخ بأن هذا أو مثله يلزمهم في علي - رضي الله عن الجميع .
وبهذا يضمن تبكيتهم وقمعهم عن التطاول .
وقد نجح الإمام في مهمته أيما نجاح .. وأصبح من بعده عالة على رده ؛ لما رأوا من تميزه وأثره .
ولكن البعض من المتعجلين ( أو الحاقدين على الشيخ ! ) لم يفهم هذا الأمر حق فهمه ، فصعب عليه ، وظن في الشيخ الظنون . فأصبح يحاكم الشيخ بكلماته ( الإلزامية ) للرافضة ، متعاميًا عن نصوصه الصريحة الواضحة .
فضل وأضل ..
وقد بينتُ في الرسالة السابقة أن هذا الخيار والمسلك جادة مطروقة بين العلماء في ردودهم على المخالفين ؛ وذكرتُ إلزام الباقلاني الأشعري للنصارى لما طعنوا في عائشة - رضي الله عنها - بما قاله اليهود في مريم - عليها السلام - ؛ حتى أفحمهم .
ثم عثرتُ على مثال آخر يشهد لما ذكرت في كتاب الآمدي الشافعي الأشعري ! ( أبكار الأفكار ) الذي طُبع حديثًا في خمسة مجلدات .
فقد قال عند رده على الرافضة في اتهامهم عثمان رضي الله عنه بأنه ضرب عمارًا رضي الله عنه ( 5 / 279 - 280 ) :(89/1)
(( ماذكروه لازم على للشيعة ؛ حيث أن عليًا رضي الله عنه قتل أكثر الصحابة في حربه ، فلئن قالوا : إنما قتلهم بخروجهم عنه ، وافتئاتهم عليه . قلنا : فإذا جاز القتل دفعًا لمفسدة الافتئات على الإمام ؛ جاز التأديب أيضًا )) !!
فهل من متعظ ؟!(89/2)
تعرف على الملحد .. ( صادق العظم )
خرج علينا قبل أيام عبر قناة الجزيرة : الماركسي القديم ( صادق العظم ) خلال محاورة فكرية ، وكنت أظن أن مثل هذه المخلوقات قد انقرضت بعد سقوط أمها وحاضنتها روسيا الشيوعية ؛ ولكن يظهر أن بعض بني قومنا ماركسيون أكثر من ماركس نفسه ! وقد أحببت أن أعرف القراء بحقيقة هذا الرجل الذي ربما يجهل البعض تاريخه ... فأقول – مستعينًا بالله - :
- هو صادق جلال العظم، ملحد سوري (من أصل تركي) يدين بالفكر الشيوعي البائد. ولد في دمشق سنة 1934م. - والده جلال العظم كان أحد العلمانيين المعجبين بتجربة كمال أتاتورك في تركيا (انظر ص 14-15 من كتاب " حوار بلا ضفاف "، الذي أجراه صقر أبو فخر مع العظم ). وزوجته هي فوز طوقان (عمها الشاعر إبراهيم طوقان وعمتها الشاعرة فدوى طوقان).
- يعترف العظم بأنه نشأ في جو علماني متحرر لا يعرف أحكام دينه ولا ينفذها. يقول (ص 15 من المرجع السابق) : (كان هناك -أي في بيته- تدين عادي ومتسامحٍ وغير متمسك بالشعائر والطقوس)!! ويقول أيضاً (ص22): (لم يكن أحد حولي يصلي أو يصوم)! - سأله صقر أبو فخر (ص 63): (هل ترى في السلفية الجديدة خصماً حقيقياً؟) فأجاب: (نعم، هي خصمٌ جدي) !
- درس الفلسفة، وكانت رسالته عن الفيلسوف (كانط)، عمل في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم أستاذاً بجامعة عمَّان سنة 1968م، ثم باحثاً في مركز الأبحاث الفلسطيني، ثم عاد إلى دمشق وتولى رئاسة قسم الفلسفة، بجامعة دمشق.
- اعتنق العظم الفكر الشيوعي (وجهر) بإلحاده في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" المطبوع عام 1969م، الذي خلاصته الزعم بأن الدين (لاسيما الإسلام!) يناقض العلم الحديث! كما هي دندنة الشيوعيين سابقاً قبل أن ينكشف زيفهم وتنتكس شعاراتهم وأفكارهم.
وإليك شيئاً من أقواله في هذا الكتاب :(90/1)
- (إن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يُلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية) ! (ص59من الطبعة الثامنة).
- (أصبح الإسلام الأيدلوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه: السعودية، أندنوسيا، الباكستان) (ص 16-17).
- (إن الدين بديل خيالي عن العلم) (ص17).
- (يعترف رجال الدين الإسلامي! وكتابه بوجود تناقض ظاهري –على أقل تعديل- بين العلم الحديث وثقافته ومناهجه من ناحية، والدين الإسلامي) (ص23) ولا ندري من هؤلاء المعترفون؟!
- يطعن العظم في القرآن (صراحة) بقوله (ص25): (يشدد القائلون بالتوافق التام بين الإسلام والعلم أن الإسلام دين خالٍ من الأساطير والخرافات باعتبار أنه والعلم واحد في النهاية، لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة! بإحالته إلى مسألة محددة تماماً. جاء في القرآن مثلاً أن الله خلق آدم من طين ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة أسطورة أم لا ؟ نريد جواباً محدداً وحاسماً من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الكون؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقاً تاماً وتنطبق على واقع الكون وتاريخه لابد من القول أنها تتناقض تناقضاً صريحاً ! مع كل معارفنا العلمية..)!! الخ هرائه. ولا ندري ما هي هذه المعارف العلمية التي تناقض كلام الله؟! إلا إذا كانت معارفه المادية التي لا تؤمن بالغيب.(90/2)
- يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم" (ص12-13) بأن العظم ألف كتابه السابق: (خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية، وسائر النظريات بل الفرضيات اليهودية الإلحادية. وهو في كل ذلك يتستر بعبارات التقدم العلمي والصناعي والمناهج العلمية الحديثة، ولا يقدم من البينات إلا قوله مثلاً: إن العلم يرفض هذا، أو لا يُسلم بهذا، أو يثبت هذا، دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة).
- ويقول العظم عن عقيدته الشيوعية (ص 29): (إنها أهم نظرية شاملة صدرت في العلوم)!
- ومما يثير العجب: أن العظم –رغم إلحاده- عقد فصلاً في كتابه السابق "نقد الفكر الديني" يدافع فيه عن (إبليس) !! سماه (مأساة إبليس) (ص55 وما بعدها) ردد فيه شبهات إبليس التي نقلتها بعض الكتب السابقة في اعتراضه على القدر؛ ككتاب "الملل والنحل" للشهرستاني (7-10) . ولكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في الفتاوى (8/115): (هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه).
وقال –رحمه الله- معدداً طوائف القدرية (القسم الثالث: القدرية الإبليسية الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران [أي أنه قدَّر وأمر ونهى]، لكن عندهم هذا تناقض.. وهؤلاء كثير في أهل الأقوال والأفعال من سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة) (الفتاوى 8 /260).
ثم ختم العظم كلامه بقوله عن إبليس (ص85): (يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص!... يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً) !! فتأمل هذا (الكفر) ما أعظمه ؟(90/3)
قد يقول قائل: كيف يكون العظم ملحداً ثم يعترف بوجود إبليس ؟! فأقول: قد صرح الملحد في بداية كلامه –كما سبق- أنه لا يعترف بوجود إبليس لأنه لا يعتقد أصلاً بوجود خالقه ولكن بحثه –كما يدعي- (ص57): (يدور في إطار معين لا يجوز الابتعاد عنه على الإطلاق؛ ألا وهو إطار التفكير الميثولوجي الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية) فهو يريد دراسة شخصية إبليس (باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية، وطورها وضخمها خياله الخصب) (ص 57).
ومع هذا: فقد قال الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني" (ص61) بأن بحث العظم عن إبليس: (لم يكن من بنات أفكاره، ولا من وحي ثقافته العلمية، وإنما استقى خطوطه الأساسية من بحث المستشرق "ترتون" عن الشيطان، وبحث المستشرق "فنسنك" عن إبليس المنشورين في الانسكلوبيديا الإسلامية). قلت: انظر البحثين في دائرة المعارف الإسلامية (14/46-57).
أخيراً : فقد قام بالرد على العظم كثير من العلماء والكتاب؛ من أبرزهم:
1- الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه "صراع مع الملاحدة حتى العظم".
2- الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "هوامش على كتاب نقد الفكر الديني".
3- الأستاذ جابر حمزة فراج في كتابه "الرد اليقيني على كتاب نقد الفكر الديني".
4- الأستاذ محمد عزت نصر الله في كتابه "تهافت الفكر الاشتراكي".
5- الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه "القرأن والملحدون" .
6- الدكتور عبداللطيف الفرفور في كتابه "تهافت الفكر الجدلي".
7- الباحث حسن بن محمد الأسمري في رسالته "موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي". ( لم تطبع بعد ) .
8- الأستاذ أحمد أبو عامر في مقاله "إلى متى تنطح صخور الإسلام" في المجلة العربية (رجب 1413هـ).(90/4)
وقد قمت باختصار مقالة الأستاذ أحمد –حفظه الله- ليستفيد منها القراء؛ نظراً لوفائها بالمقصود: قال الأستاذ أحمد: (صادق جلال العظم كاتب يحمل درجة الدكتوراة في الفلسفة، ويقوم بتدريس تخصصه في الجامعة الأمريكية في بيروت. ماركسي متطرف في توجهه وطروحاته الفكرية. من أشهر كتبه "نقد الفكر الديني" سأوضح نبذة عنه وكيف تصدى له كثير من العلماء والمفكرين بالنقد والمناقشة العلمية، ولا يغيب عن الذهن قول أحد المفكرين المعاصرين من حملة الفكر الفلسفي. إذ يقول: إن الفيلسوف إما أن يحيط بعلمه فيكون مؤمناً أو لا يحيط به فيلحد، وجل الملحدين من هؤلاء أنصاف وأرباع فلاسفة. وهذا هو حال (العظم) الذي يتظاهر بمظهر الفيلسوف وهو ليس كذلك بل هو داعية ملحد في طروحاته الفكرية المعروفة. ولقد بدأ الرجل كاتباً في عدد من الصحف الشيوعية والعلمانية المشبوهة مثل (الثقافة العربية) يسارية، و(دراسات عربية) ماركسية، و(حوار) وهي ذات عمالة لأحد مراكز الاستخبارات الغربية. وكانت تلك المجلات التي تصدر في بيروت تتبنى الطروحات الإلحادية من دعاوى مصادمة العلم مع الدين والدعاية لنظرية النشوء والارتقاء والدعوة إلى أن نهاية كل شيء هو الفناء والدعوة إلى الاتجاه المادي للحياة. وكتابات العظم في تلك المجلات التي جمع بعضها في كتابه (نقد الفكر الديني) يتبين منها إلحاده ومحاولة تستره خلف ظلال باهته من المعرفة المشوهة والعلم الناقص والادعاءات الفارغة والملونة بألوان من الفلسفة والفكر، وأنا حينما أقول ذلك لا أتجاوز الحقيقة كما سترون.(90/5)
هو كما أسلفت جمع لعدد من مقالاته السابقة وبعض محاضراته التي ألقاها في بعض المنتديات اليسارية والعلمانية، ومن تلك المقالات (الثقافة العلمية والفكر الديني) ومحاضرته (مأساة إبليس) ومحاضرة (الله والإنسان في الفكر المسيحي المعاصر) والتعليق على زعم ظهور (مريم العذراء في مصر) وأما ما يعتبر جديداً وينشر لأول مرة فهو مقالته عن الدعوة إلى التصور العلمي المادي للكون وتطوره. ومن خلال هذه العناوين يمكن تلخيص أفكاره في النقاط التالية:
1- الفكرة الأساسية للكتاب إنكار وجود الباري جل وعلا إنكاراً كلياً!
2- زعمه وجود تناقض بين العلم والدين.
3- إنكاره ما سماه بالنظرية الدينية وزعمه تناقضها مستشهداً بقصة إبليس في القرآن الكريم.
4- دعوته لإقامة تصور مادي للكون وتطوره بمعزل عن الدين.
وقد تناول كثير من العلماء والمفكرين كتابه هذا الذي طارت به الصحف والمجلات الماركسية دعاية وتأييداً كعادتها، لكن علماء الإسلام بعد قراءته نقدوه نقداً علمياً بين تهافت أفكاره وسقوطها.
ولابد من وقفات سريعة تبين تهافت مزاعمه الإلحادية السابقة على النحو التالي:
أولاً: وجود الباري عز وجل: فالعظم لا يقتنع بالأدلة النقلية لأنه لا يؤمن بها أصلاً، فلم يعد أمامي سوى النقاش العقلي الذي أضعه في النقاط الآتية:
1- لابد لكل حادث من محدث ؛ إذن هذا العالم وما يحويه لابد له من خالق مبدع متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقصان وإنكار ذلك ضلال وخطأ.
2- هذا الكون ليس أزلياً لا ابتداء لوجوده ؛ إذ لو كان كذلك لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود وهذا ما يؤكده العلم التجريبي في (القانون الثاني للحرارة الديناميكية) والذي ينص على أن الطاقة في الكون تقل تدريجياً بصورة مطردة. وبما أن له بداية فلا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه كما مر في الفقرة الأولى.(90/6)
3- القول بالمصادفة بالنسبة لنظام الوجود الشامل المحكم ذي الإتقان العجيب لا يقول به إلا جاهل بعيد عن التحقيق ومكابر يرى الحق ويعرض عنه وهذا ما تؤكده القاعدة الرياضية في حساب الاحتمالات أو (قانون المصادفة) وتفصيلة يطول به البحث. ومن ينكر هذه الحقائق العلمية فما عليه إلا أن يعالج نفسه من أسباب الإنحراف الفكري من جهل وكبر وهوى وتردد في قبول الحق وحينها ستشرق في نفسه بوادر الحق وتتلألأ في قلبه أنوار اليقين.
ثانياً: لابد من إقناعه بنبوة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء برسالة الإسلام، فقد أخبر بالغيوب كغلبة الروم للفرس (سورة الروم الآيات 1-6)، وإخباره بوعد الله باستخلاف المؤمنين في الأرض (سورة النور آية 55) وإخباره بإظهار دين الإسلام على سائر الأديان (الفتح28) . ودليل نبوته صلى الله عليه وسلم معجزته الخالدة القرآن الكريم التي أعجزت العرب قديماً وحديثاً ويكفي القرآن فخراً أن أثبت بحث المستشرق الفرنسي (موريس بوكاي) صدقه في دراسته المعروفة (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة) ويمكن لمعرفة المزيد الرجوع إلى (الوحي المحمدي) لرشيد رضا.(90/7)
ثالثاً: أما الزعم بوجود تناقض بين الدين والعلم فهو تعميم مرفوض وغير مقبول في الدراسات العلمية، نعم قد يوجد هذا التناقض في الأديان الأخرى غير الإسلام مثل النصرانية واليهودية وكتبهم المقدسة شاهدة على ذلك. أما أن يدخل الإسلام في هذه الدعوى فهو مردود عليه وعلماء المسلمين قد بينوا هذه المسألة قديماً وحديثاً ، فشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) أو ( الرد على المنطقيين ) ناقش هذه المسألة وبين استحالة ذلك مما تسقط معه هذه الشبهة .وفي العصر الحديث كتب عنها كثيراً؛ ومن أبرز ما كتب كتاب (الدين في مواجهة العلم) للداعية الإسلامي الهندي وحيد الدين خان حيث ناقش هذه الإلحادية الغربية في مواقفها المتشنجة من الدين وأسقطها وبين أن هذه الدعوى وليدة الصراع بين العلم الحديث والكنيسة النصرانية، ولا علاقة للإسلام بها إذ أنه دين العلم والفكر، وما جاء في الإسلام من أحكام قد يكشف العلم أسراره وحكمه وقد يعجز لكنه قد يكشف مستقبلاً وصدق الله العظيم (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ولذلك كان لكثير من عقلاء الغرب وقفات منصفة مع الإسلام أعلنوا بعد إطلاعهم عليه إسلامهم ومنهم رجال للدين النصراني، فهل بعد ذلك يصح (للعظم) أو غيره إثارة هذه الدعاوي الباطلة؟ وهل يغتر بها سوى الجهلة والمضللين؟ وعلاج هؤلاء بالعلم والإنصاف وستتضح لهم الحقيقة وما بعد الحق إلا الضلال.
أما ضرب العظم (لقصة إبليس ورفضه السجود لآدم) مثالاً للتناقض في الدين وزعمه إنها أسطورة دينية تنتهي بمأساة بطلها إبليس القديس المظلوم، لأنه وضع بين أمرين: الأمر بالسجود لآدم وأن السجود لغير الله كفر. فهذا التناول للقصة خاطئ لاعتماده فيه على آراء شخصية إلحادية وباطنية مع التستر بالمذهب الجبري في موضوع (القضاء والقدر).
فهذه المسألة :(90/8)
أولاً : دينية يجب أن تبحث على ضوء الدين كتاباً وسنة ولا دخل للفلسفات الأخرى فيها.
ثانياً: أن السجود المطلوب سجود تحية وكان معتبراً قديماً كما سجد أبو يوسف بين يديه تحية له. وبيان سقوط الاتجاه الجبري ورفض الإسلام له يطول به البحث.
وقد نوقشت هذه الشبهة علمياً، ومن أحسن الردود العلمية عليها بحث د. فاروق الدسوقي، وهو بعنوان (مواضع التلبيس في شبهات إبليس) المنشور في مجلة (المسلم المعاصر) العدد33، وكذلك كتاب (أنيس الجليس في رد شبهات إبليس) للأستاذ محمد عزت نصر الله، وقد ناقشها العلامة عبدالرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم) في ص (345) وما بعدها.(90/9)
ثالثاً: أما الدعوة إلى إقامة تصور علمي مادي للكون فهي الفكرة الماركسية في توجهها الإلحادي وهم يهدفون من هذه الدعوى إلى أن الكون ليس بحاجة إلى خالق وينتفي تبعاً لذلك الدين كله. وهذا المنطق الإلحادي المنكوس قديم جداً وهو سابق للماركسية بآلاف السنين وهو ما كان دافعاً للتكذيب بالأديان والرسل على مر العصور حتى جاء (كانت) في كتابه (نقد العقل الخالص) زاعماً (أن كل كلمة لا رصيد لها إلا الحس المادي فهو الذي يبين صدقها أو زيفها) وتبعه ماديو الحضارة الغربية أمثال ماركس وسارتر وراسل وغيرهم. والماديون يقعون في تناقض ظاهر حينما ينكرون كل ما عدا المحسوسات بينما هم يؤمنون بغيبيات كثيرة في العلم التجريبي مثل (الأثير) و(المغناطيس) و(الإلكترون) وغيرها ؛مع أن إيمانهم بها مبني على مجرد الاستنتاج المنطقي ومعرفة آثاره ، بينما ينكرون الباري جل وعلا وهو معروف بالعقل والنقل وآثاره تملأ الكون (وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد) جل وعلا.. فلماذا يؤمن الماديون الملحدون بمبدأ الاستنتاج المنطقي والمعرفة بالآثار لأنفسهم ويحرمونه على غيرهم ؟! إني أدع ذلك لفطنة القارئ ليكشف تناقض الملحدين وصدق الله العظيم: (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ) .(90/10)
إن الفلسفة الماركسية أفلت شمسها والمبادئ المادية تساقطت على ضوء العلم نفسه، فلم يعد للإلحاد أي معنى ويجب أن تعود أيها ( العظم ) إن كنت ( صادقًا ) حقًا إلى المحاسبة الذاتية بعيداً عن كل خلفية فكرية، وستجد أن الإيمان هو الحل. ونذكرك بالحديث النبوي الذي يقول: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فإذا لم يكن بينه وبينها إلا مقدار ذراع سبق عليه القول فعمل بعمل أهل الجنة فكان من أهلها"، ولا شك أن وقفة متأنية للمحاسبة والاطلاع على الدراسات العلمية التي وضحت تجارب العلماء التجريبيين الغربيين التي دعتهم إلى العودة إلى الإيمان يمكن أن تخلخل نوازع الإلحاد في النفس المضطربة.
ومن ذلك (العلم يدعو إلى الإيمان) لكريسي موريسون، وكذلك كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) لمجموعة من العلماء ترجمة د. الدمرداش سرحان. كل ذلك جدير بأن يعيد نفحات الإيمان الفطرية إلى مستقرها في الفؤاد الشارد وفيها ستجد أن غمامات الإلحاد تنقشع وظلمات الضلالة تتلاشى وستتبدل بها برداً ويقيناً، ثم لماذا لا تعود إلى مصادر الإسلام الأصيلة والدراسات العلمية التي كتبها علماء ومفكرو الإسلام ممن جمع بين العلم والإيمان فسترى فيها معالم علمية ستساعدك على العودة إلى الله مثل دراسات الأستاذ وحيد خان والأستاذ عبدالرحمن الميداني وجمال الدين الفندي وستجد فيها المنهج العلمي للمعرفة في الإسلام والمنهل العذب لآفاق اليقين.
أرجو أن تتأمل فيما قلته، وأرجو ألا تأخذك العزة بالإثم. فاللهم أرنا الحق وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ). انتهى كلام الأستاذ أحمد أبو عامر –بتصرف يسير واختصار-.
ختامًا : العظم ( ملحد ) أي لا يؤمن بوجود إله .. فأتمنى أن لايخرج علينا من يستغفر له أو يترحم !!(90/11)
( المغفل النافع ) .. وصف صادق لأهل التفجير ..!!
( المغفل النافع ) هو الاسم الرائع الذي أطلقه مؤلف كتاب ( السعودية : قدر المواجهة المصيرية وخصائص التكوين ) : محمد أبو القاسم حاج حمد ؛ على من قام بالتفجيرات المتنوعة في المملكة العربية السعودية - حرسها الله - في الفترة الأخيرة .
وقال عنهم : ( حين تأتي أمريكا لتدين تفجير الخُبر في السعودية فإنها لا تنفرد بهذه الإدانة ، فالكل يدين هذا العمل الوحشي ، سعوديًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا . ولكن ثمة فرق كبير بين إدانة هذا العمل ، ومحاولة استثماره وتوظيفه ؛ ضمن خطة أمريكية أعدت مسبقًا لتبرير الهيمنة على المنطقة تحت مظلة إدانة الإرهاب دوليًا ..) ( ص 57 ) .
إلى أن قال ( ص 58 ) : ( الذين فعلوا فعلتهم في الخبر أو في العليا إنما هم في مقام " المغفل النافع " للمخطط الأمريكي بمنحه ما يريد من مبررات ، تمامًا كما كان النظام العراقي من قبل ) .
فهل يفيق المغفلون النافعون الذين تسلطوا على بلاد التوحيد بحركاتهم الإرهابية الحمقاء التي لا تخدم سوى الأعداء ؟!
والعقلاء - ولله الحمد - قد اتضحت لهم الصورة مع الأحداث المتتالية ؛ فعلموا أن مثل هذه التصرفات لا تخدم سوى :
1- الكفار من أمريكان وغيرهم باتخاذها ذريعة للضغط على هذه البلاد لتركيعها في قضايا كثيرة لم توافقهم فيها .
2- المنافقون ( أهل بدع وعلمانيون ) - كما نشاهد جميعًا في مقالاتهم ولقاءاتهم - حيث فرحوا بها واتخذوها ذريعة وفرصة سانحة للتهجم على أحكام الإسلام ، ومحاولة صرف هذه الدولة عن التمسك به وبالمنهج السلفي الذي يقف أمام أهوائهم وشهواتهم ؛ وذلك بإيهام الدولة السعودية أن الحل هو التضييق على الخير وأهله ، أو تبني التغريب ، أوالسماح للبدع والشركيات بدعوى التعددية والتسامح وعدم الأحادية ....الخ زخارفهم .
ولكن هيهات لهم بإذن الله ..(91/1)
فالدولة لن تحول عن هذا المنهج - بإذن الله - ولو كرهت الطائفتان جميعًا ..
بل ستثبت وتزداد تمسكًا واعتصامًا به وبأهله من كبار العلماء وطلبة العلم .. لأنه السبب الحامي لها بعد الله - عز وجل - .(91/2)
الإمام ( تركي بن عبدالله ) ...يُقرب البطانة الصالحة ويُبعد الفاسدة
بعد سقوط الدرعية على يد إبراهيم باشا عام ( 1234هـ) عاشت البلاد السعودية حوالي سبع سنوات في فوضى واضطرابات وفتن ونزاعات ضج منها المؤمنون ، وتضرعوا إلى بارئهم أن يُعيد لهم أمنهم ووحدتهم التي عرفوها . فقيض الله لهم الإمام تركي بن عبدالله - رحمه الله تعالى - الذي استطاع بفضل الله طرد الغزاة ، والتمكين لأهل الخير والصلاح ؛ فعادت البلاد كما كانت - ولله الحمد والمنة - .
كان قاضي بلدة " مرات " الشيخ المؤرخ أحمد بن علي بن دعيج قد عاصر زمن الفتنة وسقوط الدولة ، ثم شهد بعد ذلك زمن الانتصار والتمام الشمل ؛ فسجل هذا كله في " أرجوزة " مشهورة تداولها الناس بعده شفويًا ؛ وكتبها بعضهم ؛ وفيها وصفٌ يغلب عليه عدم التكلف والسهولة لما حل بالبلاد .
وقد أعجبني قوله - رحمه الله - أثناء تعداده لمناقب الإمام تركي التي اشتهر بها أنه كان حريصًا على ( البطانة الصالحة ) أن تكون حوله ؛ ترشده وتدله على ما ينفع البلاد في دنياهم وأخراهم ؛ لعلمه بأن هذا الصنيع هو من أسباب ثبات الملك .
وفي المقابل أبعد ( البطانة الفاسدة ) التي تأمر بالسوء والفحشاء ؛ وتُزين له الظلم والفساد ؛ وتُعجل بضعف الدولة وانحلالها ؛ كما هي سنة الله في الأمم .(92/1)
وقد قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر ) : يعتقد البعض أن هذه الآية وردت للتحذير من الركون والاعتماد في الحكم على اليهود أوالنصارى ، وفاتهم أن المفسرين ذكروا مع هذين فريقًا ثالثًا لا يقل عنهما عداوة وبغضًا للدولة المسلمة ؛ وهم المنافقون . بل ابتدأ بهم ابن كثير - رحمه الله - تفسير هذه الآية قبل غيرهم ؛ لعلمه بخطورة أمرهم ، قال : ( يقول الله تبارك وتعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة ؛ أي يُطلعونهم على سرائرهم وما يُضمرونه لأعدائهم . والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لايألون المؤمنين خبالا ؛ أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ، وبما يستطيعون من المكر والخديعة ، ويودون ما يُعنت المؤمنين ويُحرجهم ويشق عليهم ) .(92/2)
ولذا نجد أن الشيخ عبدالرحمن بن حسن - رحمه الله - وجه نصيحة ثمينة للإمام فيصل بن تركي - رحمه الله - يحثه فيها أن يسير سيرة أبيه مؤسس الدولة السعودية الثانية في هذا الأمر ؛ ومما قال له : ( من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ المحب الكريم فيصل بن تركي ، ألهمه الله رشده ، ووقاه شر نفسه ، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد : تعلم أن نصيحتي لك نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ؛ لأن بصلاحك يقوم الدين ، ويصلح أكثر الناس ... - إلى أن يقول - وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعة الكافرين والمنافقين ؛ فقال تعالى ( يا أيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين . إن الله كان عليمًا حكيمًا ) عليمًا بما يُصلح عباده ، حكيمًا في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره . ولما كان التحذير من أولئك من أهم مقامات الدين قال الله تعالى لنبيه ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) .. فعليك بقرب من إذا قربتهم قربك الله وأحبك ، وإذا نصرتهم نصرك الله وأيدك . واحذر أهل الباطل الذين إذا قربتهم أبعدك الله ، وأوجب لك سخطه .. فلو حصل ذلك لثبت الدين ؛ وبثباته يثبت الملك ، وباستعمال أهل النفاق والخيانة والظلم يزول الملك ويضعف الدين ..) . ( الدرر السنية 9/90-95) .
نعود إلى " ابن دعيج " الذي يقول في أرجوزته :
وأظلمت نجد وثارت الفتنْ
واستنسر البعوض والثعلب فتنْ
فانتدب الشهم الموفق تركي
وجرّد " الأجرب " نظام الملكِ
وأورد الأعدا بحار الهلكِ
وقض من نجد قصور التركِ
ولاح بدرٌ طالعًا في السَعَدِ
وكف شرًا واستقرت نجدي
فانصلحت به الأمور الفاسده
وأرغم الله تعالى حاسده
واستنقذ الملة والخلافه
وناف فعلا عن فعال أسلافه
يُجهز الجيوش للمغازي
ويقمع أهل الشين والمخازي
وينصر المظلومَ ، والحدودا
يُقيمها ويُكرم الوفودا
يُقرب أهل الخير والأمانه
يجعلهم شعارهْ والبطانه
ويُبعد أهل الشر من ناديه(92/3)
ويُقصهم لو كانوا من ذويه
أسأل الله أن يوفق ذرية الإمام تركي بن عبدالله - رحمه الله - للسير على ما سار عليه هذا الرجل الموفق من تقريب البطانة الصالحة ، والتمكين لهم ، وإبعاد البطانة الفاسدة ، وعدم السمع لهم ، وأن يُثبت ملكهم ، ويُعز الإسلام وأهله بهم .
( مرجع الأرجوزة : مقال " من النظم التأريخي " للدكتور محمد بن سعد الشويعر ؛ مجلة الدارة ، عدد رجب ، 1403هـ ) .(92/4)
( اليونسكو ) .. ودورها المشبوه ..! - حقائق -
لم يعد خافيًا على عاقل أن المنظمات العالمية ؛ كهيئة الأمم المتحدة وما يتبعها من منظمات متنوعة هي مجرد أدوات طيعة بيد منشئيها من دول الغرب ؛ يسيرونها لتخدم أهدافهم ومخططاتهم وتكريس هيمنتهم الثقافية والعسكرية ؛ وإن ستروا ذلك بشيئ لا يُذكر مما يسمونه بالأعمال الإنسانية ذرًا للرماد في العيون ؛ أو كما قال الأستاذ خالد أبوالفتوح : ( وحتى لا يتضح دور العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا في الهيمنة العالمية فسيكتفي الغرب بدور الموجه والمشرف فقط ، تاركاً تتميم الإجراءات وفرض رؤى العولمة للمجتمعات المستهدفة نفسها عن طريق المؤتمرات الدولية والإقليمية والمنظمات الدولية ، كالبنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية (Wto) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ، ومنظمة الأغذية والزراعة (Fao) ومنظمة العمل الدولية ، ومنظمة الصحة العالمية ، ومنظمة اليونسكو.. ) ( مجلة البيان ، العدد 136) .
ومن تلك المنظمات سيئة الهدف : منظمة اليونسكو ( منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ) .
وقد أحببت أن أجمع للقارئ شيئًا من تاريخها غير النزيه مع الإسلام والمسلمين :
نشأتها : خرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» إلى حيز الوجود في عام 1946م، وذلك بعد انقشاع رماد الحرب العالمية الثانية، وما صاحبها من تدمير هائل لبنيات المؤسسات التربوية والثقافية والعلمية .(93/1)
وتشير المعلومات الخاصة بتأسيس (اليونسكو) إلى أن البداية ترجع إلى سلسلة من المؤتمرات لوزراء التربية في الدول الحليفة بدأت في عام 1942م نوقشت من خلالها الكيفية التي يمكن من خلالها استنهاض منظمة دولية للتربية والثقافة من أجل توطيد السلم في العالم. وبمبادرة من الحكومتين البريطانية والفرنسية انعقد المؤتمر التأسيسي لمناقشة دستور المنظمة عام 1945م في مدينة لندن، وتم تشكيل لجنة تحضيرية كلف السير جوليان هكسلي أمينًا تنفيذيًا لها. وقد دخل الميثاق التأسيسي للمنظمة إلى التنفيذ بعد أن وقعت عليه الدولة العشرون (اليونان) وعقد أول مؤتمر عام للمنظمة اجتماعاته في ديسمبر 1946م، حيث تم انتخاب السير جوليان هكسلي أول مدير عام للمنظمة. وشارك في ذلك المؤتمر التأسيسي (44) دولة من ضمنها المملكة العربية السعودية ومصر ولبنان، بل كانت هذه الدول من ضمن قائمة الدول العشرين الأولى التي صادقت على ميثاق المنظمة ، لذا تعتبر الدول العربية من أوائل الدول التي شاركت وساهمت في الاجتماعات التأسيسية لمنظمة اليونسكو ؛ كما تدعم منظمة اليونسكو بأساليب مختلفة ؛ مثل الإسهام في الودائع الخاصة باليونسكو إلى جانب دفع المساهمات السنوية التي تمثل في حدود (5%) من ميزانية اليونسكو، ومن أمثلة الدعم العربي لليونسكو أيضًا برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة.
الوظائف الأساسية لليونسكو :
ويمكن إيجاز الوظائف الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم في التالي:
- أن تكون معملاً للفكر ييسر تفهم التطورات الكبرى في عالم اليوم ويرسم مبادئ توجيهية فكرية وأخلاقية.
- أن تحث السلطات على وضع أهداف محددة، واعتماد السياسات المحققة لها، في ميادين التربية والعلوم والثقافة والاتصالات وتعزيز القانون الدولي بوضع صكوك معيارية في هذه الميادين.(93/2)
- أن تكون مركزًا دوليًا لتبادل المعلومات عن الاتجاهات في مجالات التربية والعلم والثقافة والاتصالات.
ويلاحظ أن هذه الأهداف قابلة لشتى التفسيرات والتوجهات ! حسب هوية من يسعى في إقرارها وتنفيذها .
( للمزيد عن اليونسكو : انظر : كتاب " مسيرة نحو غاية جليلة - كتاب مرجعي لليونسكو " لميشيل لاكوست ، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993م . وانظر : مجلة المعرفة ، عدد محرم 1426 ) .
====================
يقول مؤلفو كتاب " المؤامرة على التعليم " ( الأساتذة : حسن جودة ، محمد خفاجة ، أحمد العدل ، صلاح الدين محمد ، محمد يوسف صبيح ، عبدالفتاح غالي ) ( ص 81-84) :
ثانياً: الأمم المتحدة ومنظماتها المشبوهة : اليونسكو ومنظمة الإسلام والغرب
(أ) اليونسكو: ودورها المشبوه
اليونسكو تتعمد تشويه تاريخ الإسلام وتتبنى الإلحاد والعلمانية:
كانت اليونسكو عند إنشائها تجنح إلى الفكر الإلحادي الصريح ؛ حيث تولى رئاسة اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيس الأول (جوليان هكسلي)البريطاني الجنسية والذي وضع في كتابه (اليونسكو وأهدافها وفلسفتها) نظرية اسمها " الإنسانية الارتقائية " ، لتحل محل الأديان والفلسفات المحلية، وذلك بحجة تذويب الفوارق الثقافية بين الشعوب لتجنب الصراعات الدولية، ولما عارض ذلك عدد من دول العالم الثالث، وطالبوا بالعدالة في تمثيل ثقافات الدول انسحبت أمريكا من اليونسكو مما أفقد المنظمة نحو ثلث مواردها المالية، وعلل جورج شولتز وزير خارجية أمريكا لذلك بقوله: " إن الأفكار والأيدولوجيات التي سادت المنظمة تضر مصالح الأمريكان " ! وهذا دليل قاطع على عنصرية التفكير الأمريكي ورغبته المعلنة في تسيير سياسة المنظمة وإلا ما انسحبت منها، وهكذا بدأت منظمة اليونسكو بالإلحاد وانتهت بالعنصرية.(93/3)
ومن الأمثلة على تحيز اليونسكو ضد الإسلام أنها قررت عام 1947 أن تدرس تاريخ التطور العلمي ، وفي أثناء مناقشات المؤتمر العام لليونسكو سنة 1954 علق الوفد المصري على خطة المجلد الثالث لدراسة التاريخ الثقافي العالمي بأنها لا تفسح مكاناً ملائماً لتاريخ الإسلام ، وطالب بمشاركة ممثلين عن العالم العربي في هذا العمل، ولكن لم ينل هذا النقد سوى الوعود الكاذبة، وصدرت ستة مجلدات تباعاً بها الكثير من الأكاذيب حول الإسلام والمسلمين.
والمثير للشكوك والريب حول لجان اليونسكو بالعالم العربي والإسلامي أن هذه القضية لم تكتشف إلا عام 1975 عندما أثارها د. عبدالعزيز كامل (عضو جماعة الإخوان المسلمين سابقاً ووزير الأوقاف المصري سابقاً) وذلك في جريدة الأهرام حيث أعلن عن وجود مغالطات عن الإسلام في أهم مؤلفات اليونسكو، ووجد بالفعل في المجلد الثالث فقرات يمكن أن تصدم مشاعر أي مسلم يعتز بدينه.
ثم توالت الأصوات في العالم الإسلامي والعربي تنادي بمنع هذا المجلد من التداول.
وأمام هذه الزوبعة التي أثارها المجلد الثالث، لما فيه من تشويه للتاريخ الإسلامي برمته، تصرف المدير العام لليونسكو أحمد مختار امبو تصرفاً حكيماً، حيث قرر عمل لجنة لمراجعة هذا العمل ككل، وتنقيحه مما فيه من أغلاط، ولكن هذه اللجنة اكتشفت ثغرات وعيوباً خطيرة ومتعددة ؛ بعضها يتعلق بالمنهج وبعضها يتعلق بالموضوع، وكان من أخطر ما جاء في تقرير اللجنة هو الإقرار بوجود " تحريف خطير للحقائق فيما يتعلق بإعداد المصنف وتصميم مادته " .
ويضيف التقرير قائلاً: إنه لا يسعنا إلا أن ندهش إزاء ما يجب تسميته "رؤية لتاريخ البشرية تمركز حول أوربا في المقام الأول" وخلصت اللجنة إلى أنه يجب إعادة كتابة تاريخ البشرية والاستغناء تماماً عن العمل السابق ذي المجلدات الستة.(93/4)
هذا هو نموذج لموقف اليونسكو من الإسلام وتاريخه، فلا نندهش إذن من تبنيها للمنظمة العالمية المشبوهة : " الإسلام والغرب " .
(ب) منظمة "الإسلام والغرب" المشبوهة
إنه لشيء مؤلم حقاً أن تكتشف فجأة تورط منظمات عالمية لها مكانتها في التآمر على عقول المسلمين ومؤسساتهم التعليمية، ومن ذلك منظمة اليونسكو التعليمية unesco التابعة لهيئة الأمم المتحدة، ومما يؤلم أكثر أن تكتشف أن هناك مشاركاً لها في تلك المؤامرة، من بني جلدتنا ، وهم أعضاء المنظمة العربية للتعليم والثقافة التابعة لجامعة الدول العربية، حيث تبنت كل من اليونسكو unrsco والأليسكو Alesco ومؤسسات أخرى غربية قيام منظمة عالمية خبيثة اسمها "الإسلام والغرب" تخصصت في الدس على المناهج والمقررات الدراسية في العالم الإسلامي وبخاصة مادة التاريخ والدين ؛ وفيما يلي عرض لبعض أعمال هذه المنظمة المشبوهة ولائحتها التأسيسية ودورها في إفساد الكتب الدراسية وغيرها في طول البلاد الإسلامية وعرضها.
ثم نعرض نماذج تطبيقية من مصر ودولة الإمارات والسعودية حيث اتخذت فيها إجراءات للتطوير في مجال التعليم تكاد تكون هي بحذافيرها التي خُطط لها بهذه المنظمة المشبوهة والتي حضر اجتماعاتها مندوبين عن هذه الأقطار وغيرها.
حقيقة منظمة (الإسلام والغرب) : وكيف تخصصت في إفساد مناهجنا الدراسية؟ تكونت هذه الجمعية المشبوهة تحت رعاية اليونسكو unesco، ومنظمة التعليم والثقافة Alesco التابعة لجامعة الدول العربية ، حيث عقدت ندوة استشارية حول التوصل إلى تفاهم أفضل بين الإسلام والغرب عن طريق تغيير مناهج التاريخ والعقيدة الإسلامية !! وقد تم ذلك بالفعل في فينيسيا (البندقية) بإيطاليا في المدة من 16 : 20 أكتوبر 1977 م.
وكان المشتركون في الندوة خمسة وثلاثين ؛ منهم عشرة من المسلمين أما الخمسة والعشرون فمعظمهم من الغربيين الصهاينة والصليبيين من أعلى المستويات التعليمية والسياسية ..(93/5)
وقد شكلت الندوة لجنة لتصنع دستوراً لمنظمة (الإسلام والغرب) وتتكون هذه اللجنة من ثمانية أعضاء منهم أربعة من الدول الإسلامية وأربعة من غير المسلمين ويضاف إليهم رئيس هذه المنظمة الدكتور معروف الدواليبي والسيد/ براون والمدير العام اللورد كارادون الذي كان له النفوذ الأكبر هو والأمين العام الدكتورة مارسيل بواسار اليهودية السويسرية ، على أن تجتمع اللجنة في فبراير 1978 في باريس لتستخلص الأهداف من المناقشات العامة التي تمت في فينيسيا توطئة لتقديم اقتراح بدستور المنظمة، وذلك للعمل بوجه خاص لإخراج كتب للمراحل الابتدائية والثانوية والتعليم العالي والإذاعة والتلفزيون ودور النشر.
وإلى هنا والأمر لا يشوبه إلا أن المشاركين من الغرب أكثرية وفطاحل ومتمرسون في الصياغات المهلكة مثل (كارادون) وغيره.
وفي المدة من 3 – 6 أكتوبر 1979 عقد المؤتمر التأسيسي لجمعية منظمة (الإسلام والغرب) حيث أصدرت دستورها الذي حظي بالقبول، وكان عنوانه (مراجعة كتب تدريس التاريخ وتطوير المواد التعليمية بوصفها السبيل إلى تفاهم أفضل بين الإسلام والغرب) وجاء في قائمة محتويات البرنامج ما يؤكد على الاتجاه العلمي البراجماتي أي النفعي (الأمريكي) ص 10 A pragmatic approach. P. 10، ويؤكد أيضاً على مراجعة الكتب المدرسية، وإعداد المادة الدراسية الخ .
وفيما يلي نقتطف من هذا الدستور بعض الفقرات:
وجد في ص 7: " إن مؤلفي الكتب والمدرسين لا ينبغي لهم أن يسمحوا لأنفسهم بأن يصدروا أحكاماً على القيم سواء صراحة أو ضمناً، كما لا يصح أن يقدموا الدين على أنه معيار أو هدف، وعليهم أن يجتنبوا الخوض فيما يتعلق من الماضي بالحاضر، أو القيم الشخصية التي تتسم بالمفارقات التاريخية ، ولا ينبغي لمدرس التاريخ خاصة أن يقدم إحدى الممارسات الدينية على أنه تفوق سائر الممارسات ولا يصح له أن يضفي أفضلية عليها "!!(93/6)
وأيضاً : " من المرغوب فيه أن الأديان يجب عرضها ليفهم منها التلميذ خصائصها الأساسية فقط ولكن أيضاً ما تشترك فيه مع غيرها من الأديان، على وجه العموم ، وذلك في القطر الذي يتم فيه التدريس " .
ص8: " ويلزم فحص الكتب الدراسية التي قامت بتقديم الظاهرة الدينية، على أن يقوم بذلك علماء من مختلف التخصصات وكذلك أعضاء من أصحاب العقائد الأخرى، وكذلك من اللادينيين " !!
تعليق: كل هذه القرارات غير قابلة للتطبيق إلا في البلاد الإسلامية! وقد طبقت بالفعل كما هو موضح في نموذج دولة الإمارات العربية ومصر ، أما دول الغرب ومنها أمريكا فإنه لا يُسمح بتدخل الحكومة سياسياً، في تغيير أي منهج حتى بالنسبة للولايات الفيدرالية ، فالعملية التعليمية عندهم بعيدة عن أصابع العبث والتذبذب مع التغيرات السياسية أو غيرها، فتربية النشء عندهم تخضع لسياسات ثابتة تخدم القضايا القومية، وما ذكر عن ضرورة تحول القرارات إلى تطبيق عملي وفرض ذلك بالقرارات السياسية غير مقبول في مجتمعات الغرب ولا يقصدون به إلا مجتمعاتنا ، وهو ما تسعى إلى تحقيقه جمعية " الإسلام والغرب " في بلادنا للأسف ) .
ثم ذكر الأساتذة نماذج من التحريفات في مناهج الدول العربية .
====================
وقال الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري " ( ص 115 ) :(93/7)
( والغريب أن الهيئات العالمية مثل اليونسكو –وهي هيئة دولية تشترك فيها الدول الإسلامية- تستكتب المستشرقين، بوصفهم متخصصين في الإسلاميات، للكتابة عن الإسلام والمسلمين في الموسوعة الشاملة التي تصدرها اليونسكو عن "تاريخ الجنس البشري وتطوره الثقافي والعلمي". وقد أثارت كتاباتهم حفيظة المسلمين على مؤسسة اليونسكو . والمهم ما فيها من مجافاة للحقائق التاريخية وتهجم على نبي الإسلام، وكتب الكثيرون احتجاجات على هذه الإساءات التي ليست إلا وحياً لتقاليد موروثة، وامتداداً للروح الصليبية ، وهو عمل كان ينبغي أن تتنزه عنه هذه المؤسسة الكبيرة ) . وانظر أيضًا : " نظرات في حركة الاستشراق " للدكتور عبدالحميد مذكور ، ص7) .
قلتُ : وممن كتب الاحتجاجات على هذه المنظمة وتطاولها على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم : الدكتور محمد السمان في كتابه الشهير " مفتريات اليونسكو على الإسلام " .
ومن ذلك : ماتراه في هذين الرابطين : http://www.iu.edu.sa/Magazine/30/19.htm
http://www.iu.edu.sa/Magazine/30/20.htm
====================
أما عن دوراليونسكو في تغريب " المرأة المسلمة " فأحيل القارئ إلى بحث بعنوان " العولمة الاجتماعية للمرأة والأسرة " للأستاذ فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم ، نشر في مجلة البيان ( العدد 170) ، قال فيه وهذه المنظمة الأخيرة التي تعرف باسم : « منظمة اليونسكو » ، لها دور فاعل ومميز في هذه المؤتمرات من حيث الإعداد والمشاركة فيها ؛ فقد قرر المدير العام لهذه المنظمة إنشاء لجنة استشارية معنية بالمرأة ، وعهد إلى هذه اللجنة بإعداد ما يمكن لهذه المنظمة الإسهام به في مؤتمر المرأة الرابع في بكين 1995م ، وتهدف هذه المساهمة إلى ما يلي :
- تعزيز نشاط اليونسكو وتفكيرها بشأن موضوعات المؤتمر الثلاثة : المساواة ، والتنمية ، والسلام ، وإبرازها بصورة أوضح .(93/8)
- الإسهام في القضاء على القوالب الجامدة التي لا تزال تحدد أدوار وسلوك الرجال والنساء ، وتبقي من ثم على أشكال التفاوت والتمييز التي تستند إلى الجنس .. ) الخ .
====================
وأما عن دورها في نشر " العلمنة " والفكر المنحرف بين المسلمين ؛ فيكفي شاهدًا عليه مشروعها ( كتاب في جريدة ) الذي توزعه - للأسف ! - بعض صحف بلادنا ؛ حيث التركيز المتعمد على أدباء الحداثة العلمانية ؛ من أمثال : سعد الله ونوس ، نجيب محفوظ ، بدر شاكر السياب ، صلاح عبدالصبور ، غسان كنفاني ، أمل دنقل، غالب طعمة ، فرمان قيصر ، بايّاخو (شاعر إسباني) ، يوسف إدريس ، توفيق الحكيم ، حنا مينة ، عبد المجيد بن جلون ، محمد خضير ، الطيب صالح ، إلياس خوري .. فهي أعمال موجهة مختارة لكتّاب أصحاب توجه فكري واضح ومعلوم .. وليس هذا بمستغرب ؛ حيث لا بد أن القائمين على اختيار الأعمال سينتقون ما يتوافق مع قناعاتهم ، ولتعرف هذه القناعات نذكر قائمة (الهيئة الاستشارية) كما جاؤوا في ( كتاب في جريدة ) ومنهم : أدونيس محمود درويش جابر عصفور عبد العزيز المقالح يمني العيد ناصر الظاهري أحلام مستغانمي توفيق بكار بدر عبد الملك .
فمن الذي وضع هؤلاء أو أولئك أوصياء على وعي الأمة ؟ !
ومن الذي أعطى لليونسكو سلطة تشكيل العقل العربي (أو الإنساني) ؟ ! . ( انظر : البيان ، العدد 130 ) .(93/9)
وأختم بما قاله سيد قطب - رحمه الله - : ( إن " العالم الحر" ! لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة ، ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام ، ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي ، وفي هيئة اليونسكو ، وفي النقطة الرابعة ، ويحاربنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة في بلادنا ... وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام ، وتشتري الهيئات والجماعات ) . ( مجلة الرسالة : العدد 1018 - 5/1/1953 ، نقلا عن مجلة البيان ، العدد 45 ) .
فهل تعيد الدول الإسلامية النظر في دعمها لهذه المنظمة المشبوهة ؟! وأليس باستطاعتها وهي ذات الامكانات المتنوعة - إذا صدقت النية - أن تستغي عنها بمنظمات إسلامية جادة ، تحمل الهم الحقيقي لترقية الشعوب الإسلامية بما ينفعها ولا يضرها ؟!(93/10)
شاكر النابلسي ..! ( حقائق عنه )
بمناسبة استكتاب " منتدى الندوة " لشاكر النابلسي ؛ فقد أحببت أن أذكر هنا شيئًا من أفكاره وتوجهاته من خلال كتبه ومقالاته ؛ لكي يعلم المسلمون حقيقة هذا المحتفى به عند أصحاب الندوة ؛ وحقيقة ليبراليتهم التي يريدون نشرها في مجتمعنا :
- شاكر النابلسي كاتب أردني من مواليد 1940م ، درس الآداب في مصر ، مكث زمنًا ليس بالقصير في المملكة العربية السعودية ؛ يكتب في بعض صحفها ؛ ويدعم الحداثيين السعوديين الناشئين ذاك الوقت من خلال كتبه النقدية ؛ ككتابه " نبت الصمت " الذي تهجم فيه كثيرًا على الدكتور عوض القرني ؛ لفضحه حداثيي هذه البلاد .
- توجهاته القديمة ماركسية ؛ كحال معظم الحداثيين ؛ إلا أنه سرعان ما أدار الوجهة تجاه الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ! أيضًا كحال بعض الماركسيين الذين يدورون مع الموجات العالمية ؛ غير آبهين بدينهم وأمتهم . ( ينظر في هذه التحولات الجذرية للماركسيين كتابًا مهمًا بعنوان " خيانة المثقفين " للدكتور عبدالحكيم بدران " وقد ذكر نماذج منهم ) .. فأصبح شاكر يصف نفسه بأنه ( باحث ليبرالي في الفكر العربي ) !! كما في كتابه ( الفكر العربي في القرن العشرين ، 2/696) .
- انتقل إلى أمريكا في السنوات الأخيرة ليخرج لنا تحت مسمى " الليبراليين الجدد " ! وهم قوم قد انسلخوا من دينهم وأمتهم ؛ وحتى عروبتهم كما سيأتي ، وأصبحوا مجرد طابور خامس للغازي الأمريكي ؛ يروجون لمشروعه ، ويمهدون العقول لقبوله ، ويدافعون عن جرائمه ؛ خابوا وخسروا . وقد بين خيانتهم كثيرون ؛ كما سيأتي .(94/1)
- له مؤلفات عديدة ؛ من أهمها : فدوى تشتبك مع الشعر (دراسة في شعر فدوى طوقان) . رغيف النار والحنطة (دراسة في الشعر العربي الحديث) . الضوء واللعبة (دراسة في شعر نزار قباني) . مجنون التراب (دراسة في شعر محمود درويش) . نَبْتُ الصمت (دراسة في الشعر السعودي الحديث) . قامات النخيل (دراسة في شعر سعدي يوسف) . مذهب للسيف ومذهب للحب (دراسة في أدب نجيب محفوظ) . فضٌّ ذاكرة امرأة (دراسة في أدب غادة السمّان) . مدار الصحراء (دراسة في أدب عبدالرحمن منيف) . النهر شرقاً (دراسة في الثقافة الأردنية المعاصرة) . الزمن المالح (أوراق في جدلية السياسة والثقافة العربية) . عصر التكايا والرعايا (المشهد الثقافي للشام في العهد العثماني) . الثقافة الثالثة (أوراق في التجربة الثقافية اليابانية) . ثورة التراث (دراسة في فكر خالد محمد خالد) . الرجم بالكلمات (دراسة لمجموعة من المفكرين العرب المعاصرين) . الفكر العربي في القرن العشرين (1950 – 2000) (ثلاثة أجزاء) . النار تمشي على الأرض (شهادات في الحياة العربية) . قطار التسوية (دراسة لكافة مبادرات التسوية الفلسطينية) . محاولة للخروج من اللون الأبيض (أوراق في السياسة العربية) . وسادة الثلج (العرب والسياسة الأمريكية) . السلطان (دليل السياسة لحفظ الرئاسة) . سعودية الغد الممكن (بحث استشرافي تنموي) . طَلْقُ الرمل (أوراق في التنمية والثقافة الخليجية) .(94/2)
- يقول في كتابه " الفكر العربي .. " ( ص 3/142-147) مبينًا أمنيته التي يرجوها : ( ونحن نتصور بأن يستمر تجاذب الأطراف على هذا النحو طيلة القرن الحادي والعشرين بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة العلمانية، مع يقيننا بأن التيار العلماني هو الذي سيتغلب في النهاية، ولنا في ذلك أسبابنا التالية : .. – ثم ذكر منها بفرح واستبشار - : إلغاء المحاكم الشرعية في معظم الدول العربية وإنشاء المحاكم المدنية بقوانين وضعية، وفي بعض الدول بقيت المحاكم الشرعية ولكن قُلصت صلاحياتها بحيث اقتصرت على النظر في القضايا التي لها علاقة بالدين كالزواج والطلاق والإرث ومسائل الوقف وخلاف ذلك - إلغاء إقامة الحدود والعقوبات الشرعية من رجم وجلد وتعزير وقطع رقبة في معظم البلدان العربية، واستبدالها بعقوبات مدنية موضوعة - زوال العهد العثماني رمز الدولة الدينية، وزوال الاستعمار الغربي الذي من أجله حوربت الدولة العلمانية - وأخيراً، فإن سقوط الاتحاد السوفياتي وانمحائه من الخارطة السياسية العالمية وانفراد أمريكا –والغرب العلماني إلى جانبها- في قيادة العالم والتأثير عليه سياسياً وعلمياً واقتصادياً، ووقوف أمريكا ضد الدولة الدينية ..، كذلك محاربتها ومعاقبتها ومطاردتها للجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط والأقصى قد شدَّ من ساعد التيار العلماني في العربي، وسوف يشدُّ من ساعده أكثر فأكثر في القرن الحادي والعشرين ويشجع الدولة العربية الحديثة على المزيد من التطبيقات العلمانية ) !! ( تلك أمانيهم ) ؛ وللعلم فقد قال هذا قبل الاستعمار الأمريكي للعراق !(94/3)
- كشف النابلسي عن وجهه القبيح كاملا في كتبه الأخيرة بعد استقراره في بلاد أسياده ؛ واختياره طريق الخيانة لأمته ، ورضاه بأن يكون مجرد بوق إعلامي بيد الأعداء ؛ ( يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ) ؛ فأصبح " الخائن " لا يتورع في كتبه الأخيرة عن التطاول على الإسلام والقرآن وأحكام الشريعة مرددًا مقولات المستشرقين ؛ ومؤديًا بذلك دوره الجديد الذي اختاره له الأسياد . ولا مانع عند هذا " الليبرالي " المتأمرك أن يتقمص شخصيته الماركسية القديمة عندما يريد التطاول على الإسلام . وقد كفره الشيخ ابراهيم الخولي على قناة الجزيرة بسبب مقولاته الأخيرة وتطاوله على القرآن ومطالبته بحذف الآيات التي تعرضت لأسياده من اليهود والنصارى .
وفيما يلي أستعرض بعض أقواله في كتابيه الأخيرين : " المال والهلال " و " لولم يظهر الإسلام ماحال العرب الآن ؟ "
أما كتابه الأول " المال والهلال " فقد ألفه بنظرة ماركسية ابتغى من خلالها تشويه الإسلام ، وعزو جميع أحداثه منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العامل الاقتصادي ! مقتاتًا على المستشرقين الحاقدين ، والماركسيين العرب الذين يرددون هذه الأفكار البائدة في كتاباتهم ؛ من أمثال حسين مروة وخليل عبدالكريم وسيد القمني وعبدالله العلايلي وغيرهم ممن حشا كتابه بالنقل عنهم . زائدًا عليهم ببجاحته في التصريح " بكفرياته " ؛ من تشكيك بالقرآن ولمز في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام . وأعتذر للقراء عن نقل وقاحاته ؛ لأن هدفي أن يعلموا حقيقة الرجل وحقيقة من يلمعه .(94/4)
يقول " الخائن " : ( فالقرآن الكريم، هو أهم مصدر تاريخي/ وعظي/ عجائبي/ أخلاقي لنا ولغيرنا من المؤرخين ومن الباحثين –حيث كان الكلام التاريخي المكتوب الوحيد الدال في صدر الإسلام المبكر-، من الصعب أن يكون مصدراً تاريخياً علمياً، لسبب بسيط جداً وهو أن الأخبار التي وردت فيه عن الماضي وعن حاضر القرآن غير موثّقة بتواريخ محددة، أو بمصادر تاريخية أخرى موثوقة تسندها، يستطيع المؤرخ أو الباحث معها اعتمادها، وبناء أحكامه واستنتاجاته على أساسها.
فالقرآن جاء على دفعات متفرقة، خلال مدة طويلة بلغت حوالي ثلاثة وعشرين عاماً، وتاريخ مجيء معظم آيات القرآن غير موثق تاريخياً باليوم والشهر والسنة والمكان المحدد، ، وترتيب القرآن توفيقي، لم يراعَ فيه تاريخ النزول ولا اتخاذ الموضوع ، ولا سيما أن في القرآن الكريم آراء متضاربة حول كثير من المواقف نحو الأحداث والأديان الأخرى، وعلى رأسها اليهودية ، وبالتالي فإن القرآن لم يكُ "كتاب تاريخ" بقدر ما كان كتاب "موعظة تاريخية" ) . ( ص 9-10 ) .(94/5)
- ويقول مدافعًا عن أسلافه من مشركي قريش : ( من الصعوبات التي يواجهها الباحث في هذا الشأن، إشكالية أنه قد تمَّ التعتيم على تاريخ ما قبل البعثة المحمدية تعتيماً يكاد يكون تاماً على اعتبار "أن الإسلام يجبُّ ما قبله"، أي أن الإسلام يُلغي ما قبله، ولم يكُ بين أيدينا غير شعر ما قبل الإسلام (ق.س) ، وبعض روايات الإخباريين، وهذا هو حال صراع الأيديولوجيات في التاريخ، فكلما جاءت أيديولوجيا ألغت سابقتها، ورمتها بالجهل والتخلف والانحلال، وتصدرت هي واجهة التاريخ وحدها، وكان كل ما سبقها جهلاً وجهالة وسفهاً وسفاهة، ومن العهود البائدة، والأزمنة الفاقدة ) . ( ص 11) . وأي تاريخ كان عند الجاهليين يا جاهل غير عبادة الأوثان والنهب والسلب والحروب ووأد البنات الخ أمورهم الجاهلية التي ذكرت في القرآن نفسه ؟! فأين التعتيم المزعوم ؟! أم أنك لا تثق في كتاب ربك ، وتتهمه بظلم أسلافك الجاهليين ؟! "(94/6)
- التوجه لبيت المقدس سببه العامل الاقتصادي ! : ( وفي الجانب الديني الآخر، ربما يقرأ بعض القراء حادثة قرار الرسول التوجه إلى بيت المقدس في صلاته ودعائه كقبلة يرضاها طيلة خمس عشرة سنة من بدء البعثة قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكة، قراءة عابرة من دون أن يخطر بباله أن الرسول منذ البداية، قرر أن يطعن قريشاً في خاصرتها التجارية الموجعة، وأن مكان هذا الطعن هو الذي سيؤدي بقريش في النهاية إلى الخضوع والاستسلام له، وهذا ما حصل وتمَّ بالفعل في ما بعد. فقرار الرسول أن يكون بيت المقدس، قبلة المسلمين طوال هذه الفترة، يعني أن تتحول أماكن العبادة من مكة إلى بيت المقدس، وتتحول معها بالتالي المواسم الدينية والتجارية التي تستمر أربعة أشهر (من بداية ذي القعدة حتى نهاية رجب) وما تدرها من دخل كبير، إلى بيت المقدس، وينصرف العرب عن مكة وينصرف معهم باقي المسلمين من غير العرب عن مكة ويتوجهون إلى بيت المقدس ) . ( ص 45-46) . حسنًا ؛ لكن فاتك أيها الماركسي الجاهل بأحكام دينك أن التوجه لبيت المقدس لا يعني أن تتحول المواسم الدينية إليها !! لأن الحج والعمرة باقيان في مكة مهما تغيرت القبلة !!(94/7)
- تحريم الربا سببه توجيه ضربة مالية لليهود !! : ( هل سكوت الإسلام الطويل عن تعاطي قريش الربا كان مرده إلى أن الإسلام كان لا يريد أن يُغضب قريشاً كثيراً ويُصيب تجارتها في مقتل ما، حتى لا تقاوم الإسلام أكثر فأكثر، وتؤذي رسوله أكثر فأكثر؟ والدليل على ذلك أن أول سورة مكية (سورة الروم) جاءت في شأن الربا، لم تُحرّم الربا، وإنما دعت بالحُسنى إلى إقراض المال للمحتاج ولوجه الله، علماً بأن مكة كان فيها كثير من المرابين من عرب ويهود أيضاً، وكان فيها ربا فاحش شأنه شأن ربا المدينة، وإن تحريم الربا هذا التحريم القاطع المانع المتأخر جداً، قد صدر في المدينة بعد هجرة الرسول إليها بزمن طويل، وبعد خصامه مع اليهود الذين كانوا من أكبر المرابين في المدينة. وهل كان تحريم الربا بعد الهجرة النبوية إلى المدينة بوقت طويل، وقبل وفاة الرسول بتسع ليال فقط، جاء بعد خلاف الرسول المالي الطويل مع اليهود، وكيداً باليهود ، وذلك بتوجيه ضربة مالية قوية لهم ) . ( ص 54-56) . قبل قليل تدعي أن جعل بيت المقدس قبلة كان " طعنًا لقريش في خاصرتها التجارية " ! وهنا " لا يريد إغضابها وإصابة تجارتها في مقتل " !! ما هذا التناقض ؟!(94/8)
- ترديده لمقولات المستشرقين القديمة : ( علينا أن نعلم جيداً أن جانباً من خلاف الرسول مع اليهود في المدينة وطردهم منها كان لأسباب مالية بحتة، برغم تأثير العقيدة اليهودية الواضح في العقيدة الإسلامية والذي كان أكبر من تأثير العقيدة المسيحية ) . ( هامش ص 55) . (لم يقاوم العرب الإسلام إلا عندما حاول فرض الدين بالقوة، وتهديد مصالحهم التجارية بإثارة الطبقات الدنيا على الطبقات العليا ) . ( ص 75) . ( يُقال إن الإسلام أخذ عدد الصلوات الخمس كل يوم عن الصابئة، فالصابئة كانوا يعبدون الكواكب السيارة الخمسة: المشتري والزهرة وزحل وعطارد والمريخ، وكان الصابئة يتوجهون لكل كوكب بصلاة في كل يوم، فيصبح المجموع خمس صلوات في كل يوم ) ( هامش ص 81) . ( وقد قضى هذه الفترة في التأمل والاستماع والدرس والتفكّر والتعلّم، وإن نصوص التوراة كانت بين يدي الرسول ومتوفرة لمن شاء القراءة والدرس، ولابد من أن الرسول في هذه الفترة كان قد اطلع على التوراة –أو قُرئت له- بإمعان، وفهمها وصدَّقها ) . ( ص 84) . ( كان الفاتحون المسلمون يعتبرون أن كل ما تمَّ فتحه بالسيف أصبح ملكاً خاصاً لهم، ولا سيما أن معظم البلاد المفتوحة أو التي خُطط لفتحها مستقبلاً كانت بلداناً غنية جداً بالثروات المنقولة والثابتة كالشام والعراق ومصر وبلاد فارس وغيرها، ومن هنا، اندفع المسلمون تجاه الفتح هذا الاندفاع الكبير والمثير في فترة زمنية قصيرة ) . ( ص 149-150) .( إن حروب الردة هذه لم تكُ كلها على أقوام ارتدت عن الإسلام وكفرت به، فقسم من هذه الطوائف والأقوام لم تكفر ولم تُلحد، ولم يكُ ما يستوجب حربها ومقاتلتها على ذلك النحو الشرس، وإنما تمَّ قتالها لا لأنها كفرت أو ألحدت، ولكن لأنها امتنعت عن أداء الزكاة وامتنعت عن التقيد بالنظام المالي الذي كان سائداً في عهد الرسول، وقد كان لهذا الامتناع أسبابه ومبرراته التاريخية). ( ص 161).(94/9)
(فلو لم يكُ الدافع لهذه الفتوحات السريعة والمتلاحقة، المال، لما حمل العرب السيوف وقاتلوا، ولدعوا إلى الإسلام بالحُسنى، ولأرسلوا الدعاة والهُداة والمبشرين به، من دون إرسال الجيوش والسيوف والمحاربين، أو لفتحوا ما فتحوا من بلاد وتركوا المال والسبايا والغنائم الأخرى لأهلها، فهم قد ذهبوا للتبشير بدعوة دينية وليس لنهب ثروات الشعوب الأخرى على النحو الذي جرى) . ( ص 162-163) . (يرى بعض المؤرخين أن الحضارة العربية الإسلامية قد شاخت بسرعة، وفي رأينا، إن سبب هذه الشيخوخة المبكرة للحضارة العربية الإسلامية يعود إلى ارتباط هذه الحضارة ومنها الاقتصاد بدين له ثوابته التي لا تتغير، فالإسلام كان في البدء ديناً ولم يك حضارة، ولكن ارتباط الحضارة العربية الإسلامية كان ارتباطاً وثيقاً بالإسلام، في حين أن الحضارة العربية الإسلامية في حقيقتها لم تأت من النصوص القرآنية الإسلامية، ولكن من جهد البشر الذين دخلوا الإسلام من أجناس مختلفة، وبرغم ذلك فقد تمَّ ربطها بالإسلام كدين ذي ثوابت لا تتغير، ومن هنا جاءت الشيخوخة المبكرة للحضارة الإسلامية ) . ( ص 182-183) . ( ظهور معظم الصحابة بمظهر الأغنياء الحقيقيين الذين اغتنوا وأثروا بفضل الإسلام، كما سبق ، واغتنوا وأثروا بفضل التجارة، فلم تنقض ثلاثون سنة على ظهور الإسلام إلا وكان التاريخ يقدم لنا قائمة طويلة بأسماء أغنياء قريش الجدد الذين أثروا بفضل العطايا والهدايا والغنائم من الأنفال والفيء وخلاف ذلك، وكانت تلك القائمة الطويلة تشمل أسماء وتبين ثرواتهم التي تحققت خلال خمس عشرة سنة من تاريخ فتح مكة، من دون تجارة أو صناعة أو زراعة) . ( ص158) .(94/10)
( نلاحظ أن الآيات التي لعنت اليهود (يهود المدينة على وجه الخصوص) وهي ثماني آيات –في سور البقرة والمائدة والتوبة- كانت كلها مدنية، وبعد أن اختلف الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة بالذات على أمور مادية وعقائدية، وكان الرسول قبلها على وفاق مع اليهود، وأشركهم في أول دولة إسلامية أقامها في المدينة، في حين أن الآيات التي كرّمت موسى والكتاب والعقيدة اليهودية التي جاء بها كانت كلها آيات مكية قبل هجرة الرسول إلى المدينة ، وقبل خلاف الرسول مع يهود المدينة خاصة، علماً بأن اليهود كانوا في مكة ولم يلعنهم القرآن طيلة ثلاث عشرة سنة من بدء الدعوة الإسلامية في مكة وحتى سنة الهجرة إلى المدينة، ذلك أن الرسول لم يكُ على خلاف مع يهود مكة في ذلك الوقت كما صار عليه الحال بعد هجرته إلى المدينة ) . ( هامش ص 10 ) . وقد تركت كثيرًا من مخازيه ؛ كتطاوله على الصحابة رضي الله عنهم ؛ اكتفاء بما سبق .وللرد على هذه المقولات الاستشراقية التي يقتات عليها النابلسي وبيان تهافتها ؛ ينظر " تعقبات العلامة أحمد شاكر لدائرة المعارف الإسلامية " التي وضعها المستشرقون ، وكتاب " الغزو الفكري للتاريخ والسيرة بين اليمين واليسار " للمستشار سالم البهنساوي ، و كتاب : " افتراءات المستشرق كارل بروكلمان على السيرة النبوية " للدكتور غيثان جريس ، وكتاب " افتراءات فيليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي " للأستاذ عبدالكريم علي باز ، وكتاب " مركسة التاريخ النبوي " للأستاذ منصور أبوشافعي، وكتاب " المستشرقون والإسلام " لمحمد قطب .
أما كتابه الآخر " لو لم يظهر الإسلام .." فقد ابتغى من خلاله التقليل من شأن الإسلام ، والطعن والتشكيك في القرآن ، والدفاع عن أسلافه الجاهليين الذين ظلمهم الإسلام وطمس " حضارتهم " !! وإليك بعض أقواله ( الكفرية ) :(94/11)
- ( إن الوثنية كعقيدة دينية لم تكن بتلك القوة التي صورها لنا القرآن ) . ( ص 39) . ( إن الإسلام عندما ظهر لم يصطدم مع المسيحيين المساكين البعيدين عن لعبة المال والسياسية ولم يتحارب معهم كما اصطدم وتحارب مع اليهود القابضين على زمام الاقتصاد المديني والذي كان سبب العداء بين المسلمين واليهود ) . ( ص 82) . القرآن طمس نثر الجاهلية - بزعمه - خشية ( أن يكون لهذا النثر من سحر البيان ما كان ينافس سحر بيان القرآن ) ! ( ص 96) . ( هذا الشعر القوي لم يظهر لنا ولم يصلنا وتم على ما يبدو طمسه ومنعه من التداول من قبل السلطة الإسلامية الجديدة حتى يكون القرآن هو البيان الساحر الوحيد في أيدي العرب في ذلك العهد ) !! ( ص 120) . أحاديث تحريم التماثيل : ( يميل بعض مؤرخي الفن العربي إلى أنها أحاديث غير صحيحة ) ! ( ص 133) . ( في صدر الإسلام كانت هناك حياة سياسية وكانت هناك أحزاب سياسية، ولكنها أحزاب نفعية.. الحزب الأموي النفعي ومن مؤسسيه في عهد الرسول أبو سفيان ومن قادته عثمان بن عفان ) ! ( ص 195) . ( من المعروف أن الإسلام وضرورة نشره بالقوة المسلحة دفع المسلمين إلى ارتكاب مجازر سياسية عنيفة ) ( ص 221) . عام الرمادة أثبت - كما يزعم - ( فشل الإدارة المالية لعمر بن الخطاب فشلاً ذريعًا ) ! ( ص 283وما بعدها ) .
أما مقالاته في السنوات الأخيرة التي تُنشر في عدة صحف عربية في وقت واحد !! فأنتقي منها ما يزيد القارئ بصيرة بهذا " الخائن " ؛ وأذكر عنوان المقال بعد كل نقل ؛ مع تعليق يسير باللون الأزرق :(94/12)
- لم يعد عداؤه لأهل الإسلام فقط : ( إن قسماً كبيراً من الإعلاميين الأردنيين ومن كتاب الأعمدة اليومية والأسبوعية هم من حركة فتح ومن الجناح الموالي لياسر عرفات. إضافة إلى وجود عدد كبير من البعثيين الموالين للنظام العراقي السابق والموالين للنظام السوري الحالي، ووجود عدد آخر من جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير وبقية الجماعات الإسلاموية الأخرى . ومن هنا نرى أن الإعلام الأردني في معظمه هو مجموعات من الجزر الموبوءة من الأيديولوجيين القومجيين والسلفيين ) ( الملك عبد الله والإعلام الظلامي ) .
- كتب مستبشرًا بالانتخابات التي أقامها أسياده في العراق مقالا بعنوان : ( العراقيون يؤدون الأحد صلاة العيد! ) اضغط هنا
- الإرهاب لا علاقة له بإسرائيل : ( أن الإرهاب العربي - وليس الإسلامي - اليوم لا علاقة كبيرة له بسياسة (أمريكا) تجاه اسرائيل، ولا علاقة كبيرة له بالظلم الذي يحيق بالفلسطينيين من قبل اسرائيل ) . ( لا شك أن التعليم الديني الظلامي قد لعب دوراً كبيرا في هذه الأسباب، فغسل أدمغة التلاميذ والطلبة يومياً بالهوس بالماضي، وبالنرجسية الدينية) . ( أسئلة الأعراب في أسباب الإرهاب )
- الاستعمار له فضائل على النابلسي !! : ( فدساتيرنا العربية هي مقتطفات واسعة المساحة من الدساتير الغربية، وهي من صنع الاستعمار ومن فضائلة الكثيرة علينا) !! ( الإصلاح من الداخل دعوة طفولية ساذجة لتطييب الخواطر وتقليل المخاطر) .(94/13)
- الفرح بتدمير الفلوجة على أيدي الصليبيين : ( صباح الخير يا فلّوجة.. صباح الخير يا مقبرة الارهابيين .. صباح الخير يا عدّامة المقاولين المرتزقة..صباح الحرية والآمان..صباح الخير والنماء..صباح الحب والرخاء..عندما انفلج صباح الحرية في الفلّوجة أمس، وتحررت الفلّوجة من حكم طالبان العراقي كما تحررت بالأمس كابول من حكم طالبان الأفغاني وهو حكم القرون الوسطى، لم نكن نتصور أبداً أن حكم طالبان العراقي يريد للفلّوجة الحمامة البيضاء أن تصبح "كابول القرون الوسطى" التي كانت تحت حكم طالبان الظلامي ) . (انفلاج الصُبح في الفلّوجة ) .(94/14)
- النابلسي يهنيئ بانتصار بوش ، ويذكر شيئًا من فضائله !! : ( مبروك للرئيس جورج بوش هذا النجاح الساحق في الانتخابات الرئاسية. ومبروك للحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الكونجرس بمجلسيه: النواب والشيوخ.وهذه أول مرة في تاريخ أمريكا يحقق الحزب الجمهوري هذا النجاح الساحق في الرئاسة وفي الكونجرس معاً.وهذا النجاح الساحق هو نجاح للسياسة الأمريكية الخارجية وخاصة في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في العراق وأفغانستان ومحاربة الارهاب..إن الرئيس جورج بوش أعطى للعرب من الفرص والمبادرات والأفعال السياسية ما لم يعطه أي رئيس أمريكي سابق. فهو الذي أعلن تعهد بقيام دولة فلسطينية في عام 2005 وكان على العرب الأمريكيين أن يعيدوا انتخابه لكي يحقق ما وعد به، شرط أن يكون السياسيون العرب على مستوى المسؤولية لمثل هذا الوعد. وهو الذي حرر افغانستان من حكم القرون الوسطى المتخلفة، وأقام نظاماً سياسياً فيها،كانت أبرز مظاهره الانتخابات الأفغانية الحرة لأول مرة في أكتوبر 2004. وهو الذي حرر العراق من طغيان واستبداد الديكتاتورية، ولم يكن العراق وحده بمستطيع ذلك ولو امتدت به السنون. وهو الذي يجهز العراق الآن لانتخابات حرة في مطلع 2005 . وهو الذي يحارب الارهاب حرباً لا هوادة فيها في الشرق الأوسط دفاعاً عن مصالح أمريكا، وعن مصالح دول الخليج كذلك. وهو الذي سيحاول في ولايته الثانية نزع أسلحة الدمار الشامل من إيران وكوريا الشمالية كما فعل في العراق وليبيا. وهذه كلها انجازات في الشرق الأوسط لم يفعل مثيلاً لها أي رئيس أمريكي سابق ) . ( خيبة العُربان والإرهابيين في الانتخابات الأمريكية) .(94/15)
- في مقاله ( سجن "أبو غريب"أقامته الديكتاتورية وفضحته الديمقراطية ) يحاول الخائن تلميع جرائم أسياده في العراق ، مخادعًا الناس بأنهم ديمقراطيون إنسانيون حضاريون !! عندما عاقبوا بمن قام بتعذيب العراقيين في أبي غريب ! أنصح هذا الخائن ومن قد يغتر به بقراءة كتاب " أمريكا وحرب الإبادة " لمعرفة جرائم الكاوبوي الأمريكي في معظم دول العالم ، وكتاب " أمريكا التي تعلمنا العدل .. " للدكتور فهد العرابي .
- في مقاله ( الإجابة على سؤال: لماذا دولة "الرسول" و"الراشدين" لا تصلح لنا الآن؟! ) يشوه النابلسي المتأمرك الدولة الإسلامية ويُنفر المسلمين منها ؛ ثم يختم مقاله بقوله : ( فمن أراد منكم أيها القراء أن يعيش في مجتمع يُطبّق مثل هذه الأحكام، فليصوت للجماعات الإسلامية والأحزاب الإسلامية في أول انتخابات تجرى في بلده ) .
- في مقالته ( المحافظون الجدد والليبرالون الجدد بين الواقع ومهاترات الغوغاء ) يدافع عن الصهاينة الأمريكيين الذين ينفذون تعاليم اليهود ومخططاتهم .(94/16)
- وفي مقالته ( من هم الليبراليون العرب الجدد،وما هو خطابهم؟ ) أبان بوضوح عن حقيقة حاله في هذه الفترة ، وعن أهدافه ومن معه من حزب " الخونة " وإليك شيئًا منها : ( - المطالبة باصرار بالإصلاح التعليمي الديني الظلامي - تأكيد اخضاع المقدس والتراث والتشريع والقيم الأخلاقية للنقد العميق - اعتبار موقف الدين العدائي من الآخرين موقفاً جاء بناء على ظروف سياسية واجتماعية معينة قبل خمسة عشر قرناً، ولم تعد هذه الظروف قائمة الآن - اعتبار الأحكام الشرعية أحكاماً وضعت لزمانها ومكانها، وليست أحكاماً عابرة للتاريخ كما يدعي رجال الدين، ومثالها الأكبر حجاب المرأة، وميراث المرأة، وشهادة المرأة.. الخ - عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتورية العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، - لا حرج من أن يأتي الإصلاح من الخارج، ولكن بالطرق الديبلوماسية، والمهم أن يأتي سواء أتى على ظهر جمل عربي، أو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية - الايمان بالتطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء ) .. تكفيكم هذه لمعرفة مدى ما وصل إليه الرجل من مهانة وانسلاخ . - قبحه الله - .
أما الردود عليه من قبل الشرفاء الذين هالهم ماوصل إليه النابلسي من خسة ودناءة ؛ فهي كثيرة ؛ أنتقي منها هذه الروابط التي قد تجد بعضها لقوميين أو غيرهم ممن قد لانرتضي جميع أفكارهم ؛ لأن هدفي بيان أن الرجل قد تجاوز كل الحدود التي يقف عندها من لديه ذرة من حياء أو شرف :
1- رد الدكتور مسفر القحطاني اضغط هنا
2- رد الأستاذ مهند صلاحات اضغط هنا
3- رد الأستاذ رشاد أبوشاور اضغط هنا وقد ذكر في مقاله بأن عائلة النابلسي قد تصد بيانًا في البراءة من شاكر " الخائن " !!
4- رد موقع التجديد اضغط هنا
5 - رد الأستاذ مظفر الخميسي اضغط هنا
6 - رد الأستاذ منتصر حماده اضغط هنا
7 - رد الدكتور ثائر كريم اضغط هنا(94/17)
8 - رد الأستاذ نضال العرابيد اضغط هنا
9- رد الأستاذ عبدالحميد حاج خضر اضغط هنا
10 - رد الأستاذ ياسر الزعاترة اضغط هنا(94/18)
عبرة للدعاة من حياة الشيخ حسن البنا رحمه الله
كان سقوط الدولة العثمانية وتقاسم ممتلكاتها بين الصليبيين دافعًا للشيخ حسن البنا - رحمه الله - إلى المبادرة بإنشاء جماعة " الإخوان المسلمين " ؛ لعلها تنقذ ما يمكن إنقاذه ؛ وتعيد شباب المسلمين إلى مصدر عزهم وسط هذا الغزو العنيف . يقول - رحمه الله - حاكيًا الشعور الذي انتابه تلك الأيام العسيرة : ( فها أنذا أرى أن الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين إسلامها الغالي العزيز ، الذي ورثته وحمته ، وألفته وعاشت به واعتز بها أربعة عشر قرنًا كاملة ، وبين هذا الغزو الغربي العنيف ) .
( ولكن هذا القدر لم يكن يكفي ولا يشفي ، وخصوصًا وقد اشتد التيار فعلا ، وصرت أرقب هذين المعسكرين ؛ فأجد معسكر الإباحية والتحلل في قوة وفتوة ، ومعسكر الإسلامية الفاضلة في نقص وانكماش ، واشتد بي القلق حتى أني لأذكر أنني قضيت نحوًا من نصف رمضان هذا العام في حالة أرق شديد ، لا يجد النوم إلى جفني سبيلا من شدة القلق والتفكير في هذه الحال ) . ( مذكرات الدعوة والداعية ، ص 66-67) .
ولكنه - رحمه الله - عندما أنشأ جماعته اختار لها أن تسير في طريقين ظنهما نافعَين للأمة ولشبابها :
الطريق الأول : طريق " التجميع " الذي يخلط السني بالمبتدع ؛ لأنه رأى الناس في عصره منقسمين إلى أهل سنة يتبعون الدعوات السلفية الناشئة ، وأهل بدعة وتصوف وخرافة يتبعون الطرق الصوفية أو ( بعض ) شيوخ الأزهر . فظن - رحمه الله - أن الحل لخلافاتهم " تجميعهم " في دعوة واحدة ! غافلا عن أن الحق لا يمكن أن يختلط بالباطل ؛ مهما حاول صاحبه ؛ إلا أن يتنازل للآخرين عن شيء منه . وأن " تجميعًا " كهذا ينطبق عليه قول الله تعالى ( تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ) . وأن قلوب أهل الحق إن كانت سليمة فلن تصبر على مثله . ولست هنا بصدد الحديث عن مفاسد هذا الأمر .(95/1)
الطريق الثاني : الشحن العاطفي المعتمد على تهييج النفوس للنهوض بأمر الدين ؛ بعيدًا عن العلم الشرعي القائم على الكتاب والسنة الذي يعصم المرء - بإذن الله - من الانحراف أوقات الأزمات والمحن والمنعطفات - التي قد تمر بها الدعوة - إلى مسالك انفعالية . فالعواطف مالم تضبط بالشرع قد تتحول إلى عواصف - كما نبه على هذا العلماء ، وكما عُلم صدقه في أحداث عديدة ؛ بما لايرتضيه الداعية نفسه الذي شحن النفوس ، لكنه لم يعتن بتربيتها وفق دعوة الكتاب والسنة ؛ مما قد يقوده في النهاية إلى أمرين أحلاهما مر للأسف :
الأول : أن يجامل الأتباع ويسايرهم في تلك العواطف خشية أن يخسرهم ؛ مما يُعرض دينه للقدح ؛ نظرًا لمعرفته للحق المخالف لما يقوم به الأتباع .
الثاني : أن يجهر بالحق عندما يرى الأمور قد تجاوزت الحدود الشرعية ؛ ولكنه سيخسر عندها الكثير من الأتباع الذين شبوا عن الطوق ؛ وخرجوا عن مجال السيطرة !
وقد اختار الشيخ البنا - رحمه الله - الأمر الثاني عندما رأى بوادر الفتنة ؛ ولكن بعد فوات الأوان ؛ حيث أن الفتنة إذا قدحت شرارتها صعُب إطفاؤها .. وهذا ما كان .
وقد أحببت أن أذكر الدعاة - وفقهم الله - بهذه الحادثة القديمة ؛ لعلها تكون عبرة لهم لتصحيح مسيرة الشباب والأتباع منذ البداية ، وربطهم بالعلم الشرعي والفهم السلفي الذي يحميهم - بإذن الله - من مثل تلك الانفلاتات ؛ وتربيتهم على الأهم من نشر دعوة التوحيد وتعليم الناس ؛ ونشر الخير والدفاع عنه بالطرق الشرعية السليمة ؛ لكي لا يقفوا في يوم ما موقف الشيخ البنا الصعب ..
====================
وفيما يلي أنقل تسلسل الأحداث من كتاب " التيارات السياسية في مصر " والهوامش عنده موثقة :(95/2)
( في يناير 1948 أعلن البوليس أنه اكتشف بمحض الصدفة مجموعة من الشبان تتدرب سراً على السلاح في منطقة جبل المقطم، وأنه بمداهمة المجموعة –التي قاومت لبعض الوقت- ضبط البوليس 165 قنبلة ومجموعات من الأسلحة، وقال زعيم المجموعة سيد فايز (وكان اسمه جديداً تماماً على البوليس برغم أنه كان أحد القادة الأساسيين للجهاز السري) : "إن السلاح يجري تجميعه من أجل فلسطين وإن الشباب يتدرب من أجل فلسطين"، وقال: "إنهم اشتروا السلاح من العرب (البدو) من أجل العرب (الفلسطينيين)" وتحت ضغوط ووساطات من الجماعة أفرج عن سيد فايز وزملائه، لكن أنظار البوليس بدأت تتجه ناحية شباب الجماعة.
وتكون الخطوة الثانية في 22 مارس 1948 عندما يقتل اثنان من الإخوان المستشارَ أحمد بك الخازندار، وذلك بسبب إصداره حكماً قاسياً على أحد أعضاء الجماعة سبق أن اتهم بالهجوم على مجموعة من الجنود الإنجليز في أحد الملاهي الليلية، ويكتشف البوليس الصلة بين الشابين وبين مجموعة المقطم وبين جهاز سري مسلح داخل جمعية الإخوان المسلمين، ويُقبض لوقت قصير على المرشد حسن البنا نفسه، ولكنه لا يلبث أن يُفرج عنه لعدم توافر الأدلة.
وفي 20 يونيو 1948 اشتعلت النيران في بعض منازل حارة اليهود.
وفي 19 يوليو تم تفجير محلي شيكوريل وأركو وهما مملوكان لتجار من اليهود.
ويكون الأسبوع الأخير من يوليو والأول من أغسطس هما أسبوعي الرعب بالقاهرة حيث تتوالى الانفجارات في ممتلكات اليهود وتهتز المرة تلو الأخرى شوارع قلب العاصمة بتفجيرات عنيفة راح ضحيتها الكثيرون، وخلال أسبوعين دمرت محلات بنزايون وجاتينيو وشركة الدلتا التجارية ومحطة ماركوني للتلغراف اللاسلكي، وفي 22 سبتمبر دمرت عدة منازل في حارة اليهود ثم وقع انفجار عنيف في مبنى شركة الإعلانات الشرقية.(95/3)
وفي 15 نوفمبر ضُبطت سيارة الجيب الشهيرة (تقول مصادر البوليس إن ضبط السيارة تم مصادفة، ولو أن الكثيرين يستبعدون ذلك) ؛ وعلى أية حال فإن واقعة سيارة الجيب قد وضعت يد البوليس في ضربة من ضربات الحظ على اثنين وثلاثين من أهم كوادر الجهاز السري، وعلى وثائق وأرشيفات الجهاز بأكمله بما فيها خططه وتشكيلاته وأسماء الكثيرين من قادته وأعضائه.
وكان البنا قد أمضى معظم شهر أكتوبر وبضعة أيام من نوفمبر مؤدياً فريضة الحج، فما أن عاد حتى تعرض للقبض عليه بدعوى وجود دليل ضده في سيارة الجيب المضبوطة، وبدعوى مسؤوليته المباشرة عن حادث نسف شركة الإعلانات.
ثم خرج البنا من السجن ليبذل جهوداً لإيقاف عجلة الأحداث محاولاً إنقاذ الجماعة من الوقوع فريسة لنظام أصبح غير راض عنها، بل وراغب في الخلاص منها، لكن سرعة الأحداث كانت تفوق قدرة الشيخ على الحركة.
والشيخ الذي اعتاد المناورة بالسياسة والسياسيين وجد نفسه محاصراً تماماً عاجزاً عن الفعل، فالقصر والسعديون حلفاء الأمس القريب، الذين شجعوا الإخوان ونظروا لتحركهم باتجاه قضية فلسطين بعين الرضا بغية صرف الأنظار عن معركة الجلاء عن مصر، وعن قضايا الداخل المختلفة، بدؤا يخونون قضية فلسطين كما خانوا من قبل قضية مصر.
والبنا الذي شحن نفوس أتباعه إلى أقصى مدى بالمشاعر الإسلامية تجاه قضية فلسطين يجد نفسه مطالباً إما بأن يواجه القصر والحكومة، وإما أن يواجه أتباعه، وحاول أن يتخذ موقفاً وسطاً، ولعله راح ضحية هذه المحاولة.(95/4)
وكان شباب الجامعة من الإخوان وغيرهم يغلي رفضاً للشروط المهينة التي خضعت لها الحكومة في اتفاقية الهدنة في فلسطين، ولعل البنا حاول أن يلعب بآخر أوراقه (نفوذه وسط طلاب الجامعة) ، ليخفف قبضة الحكومة عن عنق الجماعة، وخرج البوليس ليردعهم كعادته ، ودارت معارك مسلحة أمام فناء كلية طب القصر العيني أحد مراكز القوة بالنسبة لطلاب الإخوان، واستخدم البوليس الرصاص، واستخدم الإخوان المتفجرات، وكان حكمدار العاصمة سليم زكي يقود المعركة من سيارته حيث سُددت نحوه قنبلة أصابته إصابة مباشرة، واتهم بيان حكومي جماعة الإخوان المسلمين بقتله.
وعلى أثر ذلك، صدر قرار من الحاكم العسكري، (كانت الأحكام العرفية معلنة بسبب حرب فلسطين) بإيقاف صحيفة الجماعة، وحاول البنا يائساً إنقاذ الجماعة ؛ فاتصل بكل أصدقائه وحتى خصومه، ولعب بكل أوراقه، وحاول الاتصال بالملك، وبإبراهيم عبد الهادي رئيس الديوان الملكي، وبعبد الرحمن عمار (صديقه الشخصي وصديق الجماعة) وكان وكيلاً لوزارة الداخلية.
ولأن الشيخ قد فقد أسباب قوته، فقد بدأوا يتلاعبون به، ففي الساعة العاشرة من مساء يوم 8 ديسمبر اتصل به عبد الرحمن عمار وأكد له أن شيئاً ما سيحدث لتحسين الموقف وإنقاذ الجماعة ، واطمأن الشيخ وقبع هو ومجموعة من أنصاره في المركز العام ينتظرون "الإنقاذ" ؛ فإذا بالراديو يذيع عليهم قرار مجلس الوزراء بحل الجماعة بناء على مذكرة أعدها عبد الرحمن عمار نفسه!!
ولما حاول البعض الخروج من مقر المركز العام وجدوه محاصراً ، ثم اقتحمه البوليس ليلقي القبض على كل من فيه باستثناء البنا، الذي تُرك طليقاً بحجة أنه لم يصدر أمر باعتقاله، وكانت حريته هذه هي عذابه .(95/5)
واشتملت مذكرة عبد الرحمن عمار المرفوعة إلى مجلس الوزراء بشأن طلب حل جماعة الإخوان المسلمين على قرار اتهام طويل يعيد إلى الأذهان كل أعمال العنف التي ارتكبتها الجماعة، حتى تلك التي ارتكبتها بإيعاز من السلطات ولخدمة مصالحها!
وبناء على هذه المذكرة أصدر الحاكم العسكري العام محمود فهمي النقراشي باشا قراراً عسكرياً من تسع مواد : تنص مادته الأولى على : "حل الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين بشعبها أينما وجدت، وغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها، وضبط جميع الأوراق والوثائق والسجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال وكافة الأشياء المملوكة للجمعية، والحظر على أعضائها والمنتمين إليها بأية صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية ؛ وبوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لإحدى شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها أو جمع الإعانات، أو الاشتراكات أو الشروع في شيء من ذلك، ويعد من الاجتماعات المحظورة في تطبيق هذا الحكم اجتماع خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية المذكورة، كما يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي السماح باستعمال أي مكان تابع له لعقد مثل هذه الاجتماعات، أو تقديم أي مساعدة أدبية أو مادية أخرى ".
وتنص المادة الثالثة: "على كل شخص كان عضواً في الجمعية المنحلة أو منتمياً لها وكان مؤتمناً على أوراق أو مستندات أو دفاتر أو سجلات أو أدوات أو أشياء أن يسلمها إلى مركز البوليس المقيم في دائرته خلال خمسة أيام من تاريخ نشر هذا الأمر".
أما المادة الرابعة: فتنص على تعيين "مندوب خاص مهمته استلام جميع أموال الجمعية المنحلة وتصفية ما يرى تصفيته، ويخصص الناتج للأعمال الخيرية أو الاجتماعية التي يحددها وزير الشؤون".
ودارت ماكينة العنف البوليسي ضد الإخوان ، وافتتحت لهم المعتقلات ..(95/6)
يقول البنا إنه قد تم فصل 150 موظفاً، وشرد من القاهرة وحدها إلى الوجه القبلي 500 موظف، وأبعد عن كليات الجامعة والمدارس الثانوية نحو من ألف طالب.
وحاول البنا جهد طاقته أن يوقف طوفان المحنة، لكنه كان عاجزاً بالفعل، فالحكومة التي هادنها وهادنته، كانت تضرب بعنف وقوة مصممة على تصفية الإخوان، ورفض النقراشي كل محاولات البنا للالتقاء به, والجماعة التي بناها الشيخ بعرقه وجهده، وشيدها بيديه لبنة لبنة عبر عشرين عاماً تنهار أمام عينيه، وجهازه السري تنقطع خطوط اتصاله، فقد كانت ضربة سيارة الجيب قاصمة بالنسبة لقيادة الجهاز السري، وشبكات اتصالهم، وإذ ضربت قيادة الجهاز فقد البنا اتصاله به ، بل وفقد سيطرته عليه .
وفي 28 ديسمبر (كانون الأول) وقعت الواقعة وصعدت المأساة إلى أعلى قممها إذ قام طالب في الثالثة والعشرين من عمره (عبد المجيد أحمد حسن) بإطلاق رصاصتين محكمتي التصويب على رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا.
وشيع أنصار الحكومة جثمان رئيس وزرائهم هاتفين في صراحة "الموت لحسن البنا".
وأتى إبراهيم عبد الهادي ليدير ماكينة العنف الرسمي إلى أقصى مداها، ولتتسع دائرة الاعتقالات في صفوف الإخوان فتشمل 4000 معتقل، ويتعرض بعض المعتقلين لأقصى درجات التعذيب الوحشي الذي لم تعرف له مصر مثيلاً من قبل، وباختصار "كانت الستة أشهر التالية لتولي إبراهيم عبد الهادي الحكم صورة راسخة في أذهان المصريين جميعاً للسلطة الرسمية الغاشمة ، وقد اكتسب عبد الهادي لنفسه خلالها عداء كافة فئات الرأي العام المصري".(95/7)
وفي زنازين التعذيب الرهيبة –التي تناولت المتهم وأسرته رجالاً ونساءً- كان أقصى ما يؤلم الإخوان قيام أجهزة الأمن بتعليق الآية الكريمة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) .
ولعل شكوكاً كثيرة قد ساورت هؤلاء الشبان من أعضاء الجهاز السري وهم يعانون من التعذيب الوحشي في جدوى عملية الإرهاب ضد خصومهم، وربما في مدى مشروعيتها.
وفي مدى انطباق "فكرة الجهاد" على ما ارتكبوه من أعمال، ولعل فتاوى مفتي الديار المصرية ، وبيانات شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء التي تدين أعمالهم قد أثرت فيهم كثيراً.
لكن الطامة الكبرى جاءت عندما استنكر الشيخ البنا نفسه هذه الأعمال واتهم القائمين بها بأنهم "ليسوا أخواناً وليسوا مسلمين"! وهنا انهار المتهمون جميعاً، فقد كان صمودهم واحتمالهم للتعذيب يستمد كل صلابته من "البيعة" التي أقسموا بها بين يدي الشيخ أو من يمثله في حجرة مظلمة، فإذا تخلي الشيخ عنهم وعن فكرة "الجهاد" كما لقنها لهم، فماذا يبقى ؟!
لقد صمد عبد المجيد حسن قاتل النقراشي ثلاثة أسابيع كاملة في مواجهة تعذيب وحشي ضده وضد أسرته، لكنه ما لبث أن انهار تماماً عندما قرأ بيان الشيخ البنا الذي نشرته الصحف.
ويوقع البنا بياناً بعنوان "بيان للناس" يستنكر فيه أعمال رجاله ورفاق طريقه، ويدمغها بالإرهاب والخروج على تعاليم الإسلام.
وبعد يومين من صدور "بيان للناس" قبض على أحد قادة الجهاز السري وهو يحاول نسف محكمة استئناف مصر !(95/8)
فيضطر الشيخ إلى كتابة بيان أو مقال يتبرأ فيه من القائمين بهذا الفعل بعد مفاوضات مع الحكومة ؛ عنوانه "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"! يقول فيه : "وقع هذا الحادث الجديد، حادث محاولة نسف مكتب سعادة النائب العام، وذكرت الجرائد أن مرتكبه كان من الإخوان المسلمين فشعرت بأن من الواجب أن أعلن أن مرتكب هذا الجرم الفظيع وأمثاله من الجرائم لا يمكن أن يكون من الإخوان ولا من المسلمين؛ لأن الإسلام يحرمها والإخوان تأباها وترفضها، ومن المرجح بل من المحقق أنه أراد به أن يتحدى الكلمة التي نشرت قبل ذلك بيومين تحت عنوان "بيان للناس" ولكن مصر الآمنة لن تروعها هذه المحاولات الأثيمة، وسيتعاون هذا الشعب الحليم الفطرة مع حكومته الحريصة على أمنه وطمأنينته في ظل جلالة الملك المعظم على القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة.
وليعلم أولئك الصغار من العابثين أن خطابات التهديد التي يبعثون بها إلى كبار الرجال وغيرهم لن تزيد أحداً منهم إلا شعوراً بواجبه وحرصاً تاماً على أدائه، فليقلعوا عن هذه السفاسف ولينصرفوا إلى خدمة بلادهم كل في حدود عمله، إن كانوا يستطيعون عمل شيء نافع مفيد، وإني لأعلن أنني منذ اليوم سأعتبر أي حادث من هذه الحوادث يقع من أي فرد سبق له اتصال بجماعة الإخوان موجهاً إلى شخصي ولا يسعني إزاءه إلا أن أقدم نفسي للقصاص وأطلب إلى جهات الاختصاص تجريدي من جنسيتي المصرية التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء، فليتدبر ذلك من يسمعون ويطيعون، وسيكشف التحقيق ولا شك عن الأصيل والدخيل، ولله عاقبة الأمور ".
وهكذا امتص المفاوضون البرتقالة إلى آخر قطرة، والشيخ الذي يعيش في قفص الحرية يعاني أكثر من رجاله في السجن. ويتعرض لضغوط مريرة عنيفة، آلاف الأسر بلا عائل، إخوانه في السجن وهو بلا حول ولا طول.(95/9)
وبيانه الأول أثار استياء أعضاء الجماعة بالسجون ، ويقال إنهم وجهوا له رسالة إنذار يقولون فيها إنهم يعتقدون "أن البيان مدسوس فإن كان صحيحاً فإن يوم الحساب آت بعد الإفراج عنا"!
ويكون تحدي من بقي بالخارج لبيان الشيخ محاولة نسف محكمة الاستئناف – كما سبق - .
فماذا بقي من الشيخ ؟
رجاله في السجون يبعثون له يهددونه، ومن بقي خارج السجن يتمرد عليه، وهو يتهم أخلص خلصائه، الذين أقسموا له على المصحف والمسدس يمين الطاعة التامة في المنشط والمكره، يتهم "رهبان الليل وفرسان النهار" بأنهم "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين".
بل ويضطر إلى مديح الحكومة التي تعذب رجاله أشد العذاب، ويقول إنها حريصة على أمن الشعب وطمأنينته "في ظل جلالة الملك المعظم"، بل ويحرض الشعب على التعاون مع الحكومة "للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة".
"رهبان الليل وفرسان النهار" أصبحوا في آخر بيان للشيخ "أولئك من العابثين" وجهادهم أصبح "سفاسف".
ولا يبقى للشيخ ما يقوله، سوى أنه سيطلب تجريده من جنسيته المصرية "التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء" ؟
وقرر القتلة أن يُطلقوا الرصاص عليه
سحبوا منه سيارته ، ثم مسدسه المرخص ، ثم سحبوا الحراسة المحيطة به، واستدرجوه إلى جلسة مفاوضات أخرى أو أخيرة، وأطلقوا عليه الرصاص ) .
====================
غفر الله للشيخ حسن البنا ؛ ووفق جميع دعاة الإسلام إلى الاستفادة من تجربته المريرة ، وسهل لهم أمرهم في نشر الخير وتربية الأتباع على ما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .(95/10)
وفي السعودية ...... ( لحى ليبراليه ) !!
كنت قد كتبتُ قبل عام تقريباً مذكرة بعنوان " العصرانية قنطرة العلمانية " بينت فيها أن التغريب غزا المجتمعات الإسلامية بطريقتين:
إما بطريقة مباشرة؛ كما في المجتمعات التي لا تركن إلى هيئة شرعية بارزة، حيث لا توجد عوائق أمام التغريب . وإما بطريقة غير مباشرة بل من خلال (وسيط)؛ وذلك في المجتمعات التي تركن إلى هيئة شرعية بارزة؛ كالبلاد المصرية –لوجود الأزهر وعلمائه-، ومثلها السعودية.
والوسيط هنا هو "العصرانية" التي تحقق الأهداف التي يريدها أعداء الإسلام (من غزاة وعلمانيين) لكن بمسوح شرعي، وقد قام بهذا الدور في مصر جماعة (الأفغاني) –الرجل المشبوه- فمكنوا للاحتلال ثم للعلمانية الصريحة في بلادهم.
ولهذا وجد هؤلاء كل حفاوة ودعم من المستعمر ومن حزب المنافقين تمثل في تصديرهم في الإعلام وتصويرهم أمام عامة المسلمين بأنهم يمثلون ( الإعتدال ) و( الوسطية ) !! في مقابل المتشددين والمنغلقين ...الخ !؛ نظراً للدور الذي قاموا به، وقد نقلتُ شيئاً من أقوال الطائفتين في مدح (جماعة الأفغاني) في المذكرة السابقة، وتجمع لي من ذلك فيما بعد شيء كثير أضيفه لاحقاً –إن شاء الله-.
ومن ذلك مقولة ( النصراني الماركسي !) جورج طرابيشي : ( من وجهة نظر مرحلية فإن مهمة ثورة لاهوتية لاتزال مطروحة على جدول أعمال العقل العربي ، وهي ثورة يزيد ضرورتها إلحاحًا مايشهده العالم العربي اليوم من صحوة ... – إلى أن يقول – وعلى أي حال فليس لنا أن نتصور فولتيرًا عربيًا بدون لوثر مسلم ) !! ( مجلة أبواب ، 16/114-115). أي أنه لا علمانية دون عصرانية تمهد لها .
وانظر أيضًا ماذكره عبدالإله بلقزيز في كتابه ( الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر ، ص 285 ) .(96/1)
ثم اطلعتُ على كتاب للدكتور (رفعت السعيد) –الشيوعي المصري المعروف- بعنوان "عمائم ليبرالية" ! يثني فيه على الجماعة ( العصرانية ) المذكورة في مصر، وينوه بجهودها في تغريب البلاد أو مايسميه "تنويرها"!، ويعترف صراحة في (ص157) بأنه أراد بهذا الكتاب أن يُسهم –كما يقول- ( في المعركة الدائرة لم تزل، والتي من فرط الظلام الفكري الذي فرضه المتأسلمون فرضت علينا أن نخوضها متراجعين ومتحصنين بآراء عمائم هي بالضرورة أعمق مرجعية وأكثر دراية بالشأن الديني) !!
فهو يقر بأن استعانته بهذه الفئة العصرانية (المعممة) ليس حباً فيها؛ إنما لأجل أنها تمثل (القنطرة) التي تحمل العلمنة إلى البلاد الإسلامية التي تصعب علمنتها مباشرة؛ ولأنها أقدر على خداع بعض المسلمين بما تحمله من علم شرعي سوف يُسخر لهدم الدين من داخله! –كما يزعمون-، وهذا يذكرنا بوصية محمد عبده لشيخه الأفغاني بقوله: "لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين" !!
فطليعة الفئة العصرانية في مصر (الطهطاوي، الأفغاني، محمد عبده، الكواكب، علي عبد الرازق..) أدت الدور المناط بها دون أن تخلع (عمائمها)؛ لأن هذه (العمائم) شعار مهم في تلك المرحلة لتسهيل المهمة. حتى إذا استقر الأمر لهم رأينا كثيراً من الجيل الثاني للعصرانية يكشف عن وجهه القبيح، ويجاهر بعلمانيته، ويلقي هذه العمائم وراءه ظهرياً (سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، قام أمين ...).
صلى المصلي لأمر كان يطلبه
فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما!(96/2)
وسبب ذلك أن العصرانية مجرد وسيط أو ناقل غير ثابت، فهي كاللهب الذي يشع ثم سرعان ما ينطفئ بعد أن يقضي مهمته، والعصراني كمن يسير على رجل واحدة، سرعان ما يتعثر فيسقط بعد أن يتشبع بالفكر العلماني المصادم للدين الذي قد يصل به إلى الإلحاد –نسأل الله العافية- بسبب استغراقه في هذا الفكر الخبيث وتحطيمه لكل المقدسات ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه فيعود سوياً يمشي على صراط مستقيم. (قارن برشيد رضا الذي نبذ العصرانية بعد أن انكشف أمرها وعاد إلى دعوة الكتاب والسنة، ولله الحمد، ولا ينفي هذا بقاء لوثة من لوثاتها في تراثه، ولكن شتان بينه وبين من انتكس وارتكس).
أقول -بعد هذا- : وفي السعودية بدأنا نلمح ظهور "اللحى الليبرالية"!! من أصناف الشاذين والطامحين ، هذه اللحى التي أصبح (البعض) يمكنها من التصدر في الصحف والقنوات لتؤدي ما أدته أختها في مصر، وليس من المستغرب بعد أن عرفتَ الدور المناط بها أن ترى هذه "اللحى الليبرالية" تنسف ثوابت الدين وأصوله، وتقع في العظائم والمكفرات، بدعوى الاجتهاد وحرية الخلاف... الخ دعاواهم. لكن هذا الاجتهاد المزعوم لا يطال أمر اللحية التي يتحلون بها!! (وحلقها هو مجرد معصية).
والسبب: أن هذه "اللحية" –مهما تضاءلت !- لابد أن تبقى كما بقيت "العمامة" على رؤوس طلائع العصرانية في مصر. فهي (جواز المرور) الذي سوف يسهل مهمة العملية التي كلفوا بها، ولذلك لن تمس بسوء مهما كانت الظروف!
ولكني أقول لهذه "اللحى الليبرالية":
ليس الخليل كما قد كنت تعهده *** قد بدل الله ذاك الخل ألوانا
وأقول لهم –أيضاً- ما قاله الشاعر في أسلافهم بمصر:
ليت شعري ماذا دهي مصر حتى *** عاث فيها أولئك المارقونا
ودعا الناس للضلال دعاة *** وادعى العلم أجهل الجاهلينا
ليس فيهم إلا جهول ولكن *** قد رأوا أن يعلموا العالمينا
هل سمعتم يوماً بغير بصير *** قائد في الطريق للمبصرينا(96/3)
يزعمون (الإصلاح) للدين فاعجب *** لشياطين يصلحون الدينا !
فإن كانت (العصرانية) في مصر قد نجحت وأدت دورها البغيض؛ نظراً لحداثة التجربة، ومساعدة الظروف التي من أهمها: احتضان (أحد الشيوخ المعممين) لها، وكونها واجهت مجتمعاً مليئاً بالبدع والخرافة –إلا ما رحم ربي-، فإنها –بحول الله- ستفشل في بلاد التوحيد؛ لعدة أمور :
أولا : أن المسلمين قد وعوا الدرس جيداً –ولله الحمد- ولن يُلدغوا من هذا الجحر مرة ثانية .
ثانيًا : أننا رأينا هذه العصرانية لا زالت تراوح مكانها وتبحث يمنةً ويسرة علها تجد "شيخاً" تتترس وراءه –ولن تجده بإذن الله-.
ثالثًا : أننا رأيناها قد اصطدمت بمجتمع سلفي واعٍ تحطمت عنده ضلالات عديدة أراد أصحابها نشرها فيه، لكنهم باؤا بالخزي والفشل، مجتمع لا تغره الشعارات ولا الزخارف، ولا مكان فيه لغير دعوة الكتاب والسنة ، مجتمع يأخذ من الحضارة المادية محاسنها ويلفظ مساؤيها ، فليس فيه ( فصام نكد ) بين الإثنين .
واجبنا لمواجهة هذه الفئة الضالة:
1- أما واجب ولاة الأمر – وفقهم الله- لطاعته فهو: أن يأخذوا حذرهم من هذه الأفكار العصرانية التي بدأت تتسلل إلى عقول الشواذ، ومتابعة من يقف وراءها من "القادمين المشبوهين"!؛ لأنها –كما اتضح للعيان- تقوض الأساسات التي قامت عليها حكومة هذه البلاد، وتبطن الشر والسوء لحكامها وأهلها، فهي لا تقل خطراً عن أفكار الغلاة والمتشددين من أصحاب التفجيرات وقتل معصومي الدماء، فكلا الطائفتين شر ووبال على هذه البلاد، وكلاهما تعملان لمصلحة أعداء الإسلام، وتهيئان له الأرضية، وتزعزعان وحدتنا الأمنية والفكرية، وتجعلان المسلمين نهباً للشعارات والتشرذم والتنازع.(96/4)
فالواجب التصدي بحزم لهذه الفئة الضالة كما تصدينا –ولله الحمد- لأختها, وعدم تمكينها من الإعلام، بل تصدير علماء الإسلام الكبار الذين يتعبدون الله بطاعة ولاة الأمور، ولا يبطنون خلاف ما يُظهرون، ويجمعون الناس على ذلك . وهم ( صمام الأمان ) – بعد الله – لهذا المجتمع كما اتضح ذلك للعيان في عدة أحداث مرت بالبلاد .
2- وأما واجب العلماء والدعاة: فهو أن يفضحوا –ما استطاعوا- هذه الفئة، ويبينوا زيفها وباطلها، ويُصدروا البيانات والفتاوى الرادعة والزاجرة لمعتنقيها، وأن لا يتورط (البعض) بمجاملتهم أو التستر عليهم أو تهوين شأن خطرهم تحت أي مسوغ ، فقد انكشف الغطاء لكل ذي لب، ورأينا هذه الطائفة (العصرانية) المخذولة تقف مع العدو في خندقه، وتهدد حصوننا من داخلها. وما بحث تعديل المناهج المقدم في مؤتمر الحوار عنا ببعيد !
3- وأما واجب شباب الإسلام: فهو أن يحذروا أفكار أصحاب "اللحى الليبرالية" مهما تزخرف وازينت، فإن حقيقتها ومصيرها منابذة الإسلام وأهله، والارتكاس في الانحرافات والكفريات، وأن يجانبوا أهلها ؛ فإن الله يقول (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، ويقول (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم..) ويقول (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم). وأن يتصدوا لهم عبر الإعلام وعبر شبكة الأنترنت ، وليلزموا – قبل هذا - دعوة الكتاب والسنة وعلماءهم الكبار المشهود لهم بالعلم والتقى والصلاح من السائرين على الصراط المستقيم دون تقلب أو ذبذبة أو شك أو ريب.(96/5)
ختامًا : أسأل الله أن يهدي أصحاب ( اللحى الليبرالية ) ، وأن يوقظ قلوبهم قبل أن يوغلوا في هذا الدرب المظلم الذي يسلخهم رويدًا رويدًا عن دين الإسلام ، وأن يتعظوا بمصير أسلافهم في مصر ، وأن لا يكونوا مطية لأعداء الأمة . كما أسأله تعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يكفينا شر كل ذي شر، وأن يباعد بيننا وبين أسباب غضبه، ويتوفانا مسلمين غير مفتونين. وصلى الله على نبينا محمد وأله وصبحه وسلم.(96/6)
مجلة ( الإسلام اليوم ) .....و ( رضوان السيد ) ..!
ابتُليت بعض المجلات الإسلامية التي يقوم عليها للأسف أناس فضلاء بالتهافت على من يُسمون المفكرين الإسلاميين تُجري معهم الحوارات ، وتطلب منهم الحلول لمشاكل الأمة - وفاقد الشيء لا يُعطيه - . وفي ظني أن الذي يدعوهم لهذا ؛ مع علمهم بأن هذا المفكر أو ذاك لن تخلو إجاباته من تجاوزات بسبب فكره وتوجهه المناهض لدعوة الكتاب والسنة أمران :
الأول : أن بعض المتنفذين في هذه المجلات - للأسف أيضًا - أصبحوا يعيشون مرحلة الانبهار والإعجاب بما يأتي به هؤلاء المفكرون ( الكلاميون أصحاب الهذر ) مما لم يعتادوا على سماعه من علمائهم الربانيين . ولو فقهوا لتألموا على تضييع الجهود ، وتشتيت عقول الجيل بلهاثهم خلف أصحاب العقول الخاوية التي لاتجيد غير هدم الحق والتشكيك فيه ، ولو كان فيها خير لنفعت بلدانها التي تعيش فيها قبل أن تُصدر عقولها وحلولها الوهمية للآخرين . ولو فقهوا لعلموا أن تسخير مجلتهم في نشر العلم الشرعي والاستفادة من علماء الأمة ودكاترتها النابغين ودعاتها الناصحين - وهم كثُر ولله الحمد - خير لهم وللأمة وأبقى .
الثاني : أن بعض المتنفذين في هذه المجلات رغم علمه بحقيقة ماعليه أولئك المفكرون من تجاوزات - مابين مقل ومكثر - ؛ إلا أنه يغض الطرف عنها في سبيل " تجميع " وهمي ، أو لأجل أن يُقال بأنه ومجلته ممن يقبل " تعددية الأفكار " ! و " الرأي الآخر " ! .. الخ هذه الزخارف التي ملأت أسماعنا في السنين الأخيرة ؛ ( فانهزم ) بعضنا أمامها ، ولبَس الحق بالباطل لأجلها . والعجيب أن هذا ( البعض ) يقبل نشر تجاوزات خطيرة يأتي بها هؤلاء المفكرون ، ولكنه لايقبل أن يستكتب في صحيفته واحدًا من إخوانه في العقيدة ممن يخالفهم في مسائل فرعية لا تُذكر !!(97/1)
وخطورة استكتاب أمثال هؤلاء المفكرين أو محاورتهم وترميزهم عند شباب الأمة يأتي من أمرين - أيضًا - :الأول : أن في هذا تلبيسًا على المسلمين - كما سبق - ؛ حيث تلميع هؤلاء المنحرفين ، وإنزالهم منزلا ليسوا مؤهلين له .والثاني : أن فيه خطورة على هؤلاء المفكرين أنفسهم ؛ حيث يعتقدون - بسبب هذا التلميع واللهاث خلفهم - صواب مسلكهم ؛ فيستمرون على غيهم ، بل قد يصيب بعضهم الغرور والانتفاخ لما يرى من ( ركض ) من فضلهم الله بالتمسك بدعوة الكتاب والسنة خلفه .
فإن قلت : ما الحل ؟! فأقول : الحل سهلٌ ويسير على من يسره الله عليه ؛ وهو يكمن في خيارين : الأول : أن تتجنب هذه المجلات استضافة هؤلاء المنحرفين وتصديرهم كرموز للأمة . وهذا أحوط وأولى وأسلم ؛ لأدلة كثيرة ليس هنا مقام ذكرها ؛ يكفي منها أن لا تشابه هذه المجلات من قال الله عنهم : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ، وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) .الثاني : أن تستضيف هذه المجلات المفكرين المذكورين ؛ وتستفيد مما قد يكون عندهم من صواب أو تميز ، ولكن تناقشهم وترد عليهم ( بعلم وأدب ) في انحرافاتهم وتجاوزاتهم ، و( تكشف ) حقيقة فكرهم أمام القارئ ؛ نُصحًا لشباب الأمة ؛ مستفيدة من الثقات القادرين على هذا الأمر . وهذا الخيار فيه نفع لطرفين : الأمة وشبابها كما سبق . والمفكر المستضاف إن كان طالبًا للحق ؛ حيث يتبين له خطؤه فيتراجع عنه - إن شاء الله - ؛ فيكون هذا اللقاء أو الحوار خيرًا له ؛ يوقفه على عيوبه وتصوراته الخاطئة .
====================
قدمتُ بهذا عندما قرأتُ الحوار الذي أجرته مجلة " الإسلام اليوم " في عددها الأخير مع المفكر الإسلامي ! " رضوان السيد " ؛ وما جاء فيه من تجاوزات خطيرة لم يُعقب عليها من أصحاب المجلة ؛ مما قد يوهم ( البعض ) أنهم موافقون للمفكر المذكور عليها .(97/2)
فمن ذلك أنه سئل عن الخطاب الإسلامي في السعودية ( الأولى أن يُقال الدعوي ) فقال : ( بالنسبة للسعودية الأمر في غاية الصعوبة ، والإصلاح مدعوم من رأس الدولة ، وهناك ممكنات تسيره ويقين بضرورة رفض العنف وترشيد الخطاب ، وهناك عقليات معتدلة لها صوتها الواضح اليوم ، ولابد من التروي قليلا ، وعلينا أن نراقب جيدا التطورات .أما المثقفون في السعودية فهم ثلاثة أقسام : 1- القسم المؤمن بالإصلاح العلمي وهو يقم بأعمال مفيدة في المؤسسات . 2- القسم المؤمن بالإصلاح النظري وينتج أطروحات ويصارع السلفيين . 3- القسم الذي يرى أن الوضع السابق أو القديم هو الأسلم والأحسن .وفي تقديري أن الفريق الثاني المنظر هو الذي يملك حظًا أوفر ، لكن حتى هؤلاء لم ينجزوا انجازات كبرى ) !! فمن هم هؤلاء المصلحون الذين " يُصارعون " السلفيين ؟! ومن هم السلفيون " المصارَعون " ؟! والجميع يعلم أن هذه البلاد ما قامت - ولله الحمد - إلا على الدعوة السلفية ؛ يفتخر بهذا علماؤها وحكامها . وأعني بالدعوة السلفية دعوة الكتاب والسنة وماعليه سلف الأمة ؛ وعلى هذا سار علماء هذه البلاد . ولا أعني من يريد حصر السلفية في " حزب " أو " فئة صغيرة " لا تُمثل إلا نفسها . فمن " يُصارع " دعاة الكتاب والسنة لاشك أنه جاهل أو مبتدع . فهلا وضحت المجلة هذا وعقبت على كلام المفكر ؟!(97/3)
وسئل : ( هل نقول : إن مناهجنا الدينية مسؤولة عن إنتاج إسلام متشدد ؟ ) ؛ فأجاب : ( هناك مشكلة في التعليم الديني ، سواء في الجامعات أو المدارس ، هذه المشكلة بحاجة إلى إصلاح متأن ، والفكر الديني المدرس بحاجة لدراسات نقدية ، ولا يمكن أن يكون الإصلاح الديني إلا بالدراسات الجادة والاطلاع الواسع ، يجب أن يكون هناك عمل على اللاهوت المقارن من جهة والفقه المقارن من جهة أخرى ، ولابد من تنقية مناهجنا من مسألة التكفير للآخر ، ونبذ العنف ) !! قلتُ : أما عن مناهجكم في " لبنان " فأظنها لا تُكفر حتى النصراني عابد الصلبان !! وأما مناهج هذه البلاد فلا أظنك تعيها حتى تتحدث عنها . فهلا عقبت المجلة على هذا الاتهام من هذا الجاهل بعقيدة أهل السنة ؟! ووضحت للقاريء خطأ قوله ؟!
وسئل : ( ولكن كيف تنظر إلى الدعوات المتكررة للإصلاح في المنطقة التي تنادي بها السياسة الأمريكية بين الحين والآخر ؟ ) . فأجاب : ( أنا أميل إلى جهة النظر التي تقول مايلي : إذا كان الأمريكان يريدون تنمية حقيقية ، ودولا قوية فينبغي أن نجربهم من جديد ، لا ينبغي إهمال أية إمكانية ولو ضئيلة للإصلاح ) !! فماذا أبقى هذا المفكر " الإسلامي ! " - بعد هذا القول الصريح - لليبراليين الجدد من الطابور الخامس ؟!
====================
ولكي يعرف القاريء شيئًا عن المفكر المذكور ؛ أنقل له بعض أقواله ومواقفه مع التعليق عليها من رسالة الدكتور أحمد القاضي - سلمه الله - ( دعوة التقريب بين الأديان - الجزء الثاني ) مع إضافات مني باللون الأزرق الغامق .(97/4)
قال الدكتور أحمد ( ص 575) : ( د. رضوان السيد: حصل على الدكتوراه في الفلسفة (قسم الإسلاميات ) من جامعة توبنغن بألمانيا الغربية عام (1977 م ) ، أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية ، ومدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية في بيروت منذ تاريخ 1/11/1994م ، درس في جامعات هارفارد و شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية ، أستاذ زائر لعددٍ من الجامعات ومراكز البحوث ، له حضور قوي في المؤتمرات والندوات الفكرية ، يشغل منصب رئيس تحرير مجلة (الاجتهاد ) منذ عام 1988م. من مؤلفاته: " الأمة والجماعة والسلطة " " دراسات في الفكر السياسي العربي و الإسلامي - عام 1984م " ، " مفاهيم الجماعات في الإسلام-1985م " ، " الإسلام المعاصر- 1987م " ، وغيرها ، بالإضافة إلى تحقيق بعض كتب التراث. انظر ملاحق مجلة الاجتهاد (29-32) ، وكتيب: "حركات الإسلام السياسي والمستقبل" (ص31) ) .
قلتُ : وقد تحدث رضوان عن ذكرياته وشيء من تاريخه في كتابه " الإسلام المعاصر .. " ( ص 140 وما بعدها ) .وذكر للأستاذ علي العميم أنه درس المرحلة الإبتدائية في مدرسة " مسيحية " ، وأنه تعلم الكثير عن الإسلام في " ألمانيا " " من خلال إعادة قراءة النصوص الإسلامية " . ( العلمانية والممانعة الإسلامية ، ص 152-153) .(97/5)
( يقول رضوان السيد: " نواجه نحن المسلمين في فكر فئات من شبابنا وسلوكهم انكماشًا و توترًا ، أطلق عليه الدارسون اسم " لأصولية الإسلامية " . وهناك مثل هذا الانكماش في المسيحية العربية الذي يتسم ، مثل أصولياتنا ، بالخوف على الهوية و العدوانية. وهذا الانكماش المتوتر - الذي يشكل الطرف الإسلامي فيه الجانب الأخطر في المدى البعيد - لا يعالج إلا بالانفتاح المشترك و المتبادل في الداخل ، و الانفتاح على الخارج العالمي المسيحي و الكوني ... ما نحتاج إليه ليس التكنلوجيا وحسب كما يظن ، ذلك أن أصوليينا المسلمين و المسيحيين هم في مقدمة متقنيها و مستخدميها. بل ما نحتاج إليه جميعاً ، الانخراط في العالم المعاصر ، و التعلم منه في مجالات القيم الإنسانية الرحبة ونمو الذات في الآخر ، و التعرف عليها فيه ومشاركة العالم في آفاقه تأثراً وتأثيراً " . وفي مقدمة العددين (31-32) ، وتحت عنوان: الحوار الإسلامي المسيحي ، والعلاقات الإسلامية المسيحية ، بقلم " التحرير " تُقرر نفس الفكرة: " لا سبيل للخروج من المأزق بالمعنى التاريخي إلا بالانخراط في هذا العالم توصلاً لإزالة انكماشنا الحضاري و الثقافي والمضي في التحول إلى جهات فاعلة في ثقافة العالم و مصائره". هذه نهاية المطاف في دعوة التقريب و الحوار... تكشف عن تقريب باتجاه واحد. إنه تقريب المسلمين إلى النصارى ليصبحوا ذيلاً لهم منخرطين في ثقافتهم ، مقتنعين أنه لا سبيل للخروج من مأزقهم إلا بتسليم قيادهم لهم. إننا أمام فكرٍ موحش غريب ، فكرٍ لا يرعى إلاً و لا ذمة ، ولا يتورع عن تحطيم الثوابت العقدية و الحضارية للأمة الإسلامية ، ويزفها أسيرة ذليلةً لعلوج الروم. لقد انطلق الكاتبان من حالة الدمار و الضياع التي منيت بها الأمة العربية و الإسلامية أمام الغرب المتنامي القوي ، فأورثت حالة الهزيمة و الإحباط هذه مزيداً من الارتماء في حضن المنتصر ، وفراراً إليه.(97/6)
وفات الكاتبين أن التجارب التي خاضتها الأمة ، سواءً على يد التيارات القومية و اليسارية السائدة في الخمسينات و الستينات ، أو حركات الإسلام السياسي السائدة بعد ذلك ، كانت تفتقر إلى النضج و الترشيد ، وتعتمد في كلا الحالين على الشعارات العاطفية ، و البهرجة الإعلامية. دون رصيدٍ حقيقي من البناء الداخلي للأمة. هذا من حيث التشخيص. أما من حيث العلاج فيبدو مشروع الكاتبين ضرباً في التيه وقفزاً في العماء ، عبر الحواجز التالية: 1 - الأخذ بثقافة الغرب ، والانخراط في العالم! . 2- تجاوز ثقافة الغرب وتجاوز ثقافتنا الموروثة! 3-الوصول إلى ثقافة جديدة لعالم جديد ، يكون الإنسان محوره وهدفه و مبتغاه. إنها مضامين مبهمة ، لا تقل خطورةً عن النماذج التي انتقدها من قبل. إنها مسخٌ للأمة ، وتضييع تام لهويتها و عقيدتها ، وإلقاءٌ بها إلى الضياع السرمدي. ويتساءل المرء : ما هو موقع الإسلام في مشروع هؤلاء الليبراليين؟ وكيف يخصصون خمسة أعداد من مجلتهم لملف العلاقات الإسلامية النصرانية ، و الحوار الإسلامي النصراني ، والإسلام ذاته خارج مجال رؤيتهم المستقبلية؟! ) . ( دعوة التقريب .. ؛ ص 761-763) .(97/7)
( ويقول الدكتور رضوان السيد: "فهم الإسلام نفسه من اللحظة الأولى باعتباره دعوة عالمية تشكل استمرارًا لليهودية و المسيحية اللتين أراد منهما الاعتراف به ، أو أنه أراد مزاملتهما على قدم المساواة في نطاق الميراث الإبراهيمي لدعوة الله ، ودين الله" ، " وبدا من ناحيةٍ أخرى توق المسلمين الشديد ليعترف بهم المسيحيون ديناً مستقلاً ، كما اعترف بهم الإسلام باعتبارهم أهل الكتاب" ، " الإسلام كان يواجه تحدياتٍ ضخمة في بدايات عهده. وأهم تلك التحديات محاولته وضع نفسه في سياق التقليد الإبراهيمي ، وسياق التقليد الكتابي ، وحاجته في المسألتين إلى اعترافٍ من اليهود و المسيحيين" ، " عرف الإسلام وعرف المسلمون... كل أنواع المسيحية: السريانية والأرثوذكسية و فرقهما و فروعهما ، وعرف أخيراً المسيحيتين المسيطرتين اليوم: الكاثوليكية و البروتستانتية ، لكن الفرق بين الأوليين و الحاضرين بالنسبة إليه ، أنه عرف الأولين وهو في مكانة المسيطر و المتحكم و السَّان و الشارع بالمعاني كلها؛ وعرف الحاضرين وهو في أطوار الصراع والاستضعاف ، ولكلا الطورين التاريخيين قوانينهما ومقتضياتهما. ففي الطور الأول امتزجت في مواقفه عناصر الدولة و السطوة و الثقافة المسيطرة المطمئنة ، وفي الطور الثاني تقاطعت في مواقفه عناصر الاكتفاء والتردد و الضيق واليأس و الغربة ، لكن في الطورين كليهما ضل أمرٌ واحد قوي الحضور فيهما: الحاجة إلى الاعتراف؛ طلب ذلك في الطور الأول ، و استجداه في الطور الثاني؛ لكنه ما استغنى عنه في الحالتين" !! انتهى كلامه .(97/8)
وهذا كلام يندى له الجبين ، ويبعث على الاشمئزاز ، ولا يصدر من مسلم فقه دين الله ، وامتلأ قلبه بنعمته التي امتن به على عباده المؤمنين إذ يقول) : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فمن يشعر بنقص ما ، أو حاجة ما لأمر يطلبه أو يستجديه ، لم يكن مؤمناً بهذه الآية العظيمة ، ولا فرحاً بها. وثم فرق بيِّن واضح بين أن يطالب الإسلام والمسلمين أهل الكتاب بالإيمان بدين الحق ورسوله خاتم النبيين ، والإقرار بأنه من عند الله فيلزمهم حينئذٍ إتباعه ، والانخلاع مما هم عليه مما يخالف دين الإسلام ، وبين أن يُصوَر ذلك الطلب بصورة الحاجة إلى اعتراف ، أو محاولة استصدار شهادة تزكية ، وحسن سيرة وسوك !!
إن الكاتب بهذه الصياغة المتكررة يهين دينه حين يصفه بـ( محاولة وضع نفسه في سياق التقليد الإبراهيمي ) ، و ( حاجته إلى الاعتراف من اليهود والمسيحيين ) و ( إرادة مزاملتهم على قدم المساواة في نطاق الميراث الإبراهيمي ) و ( توق ) و ( طلب )و ( استجداء ) المسلمين ذلك!!(97/9)
وقد أغنى الله عباده المؤمنين عن شهادة المغضوب عليهم و الضالين بصدق الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام ، وشهد بذلك بنفسه لرسوله و المؤمنين فقال: ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين أتبعوه وهذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين ) ، وذلك بعد أن أكذبهم الله تعالى بانتحال إبراهيم عليه السلام فقال: ( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ) . والمقصود أن بعض دعاة الحوار يرى أن في الدخول في الحوار مع أهل الكتاب اعترافاً ضمنياً منهم بانتماء الإسلام إلى سلسلة الديانات الإبراهيمية. وربما طمع في الظفر بفقرةٍ في البيان الختامي تنص صراحةً على تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ! وكلا الأملين خاب ، فأهل الكتاب يحاورون الهندوس و البوذيين و سائر الأمم من الوثنيين و الملاحدة ، فمجرد الاشتراك في الحوار لا يحمل أي دلالة من قبيل ما أراد هؤلاء. كما أن أهل الكتاب على مدى العقود الأربعة السابقة التي حاوروا فيها المسلمين لم يتزحزحوا قيد أنملةٍ عن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فلمَ الخنوع لهم و اللهاث خلفهم من قبل هؤلاء العصرانيين؟ (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً ) . (دعوة التقريب .. ؛ ص 828-831) .(97/10)
قلتُ : ويعترف رضوان ( الإسلامي ! ) للعميم ( ص 159 ) أنه " لا يريد إقامة الدولة الإسلامية " ! . ويتمايع في أحكام أهل الذمة في كتابه " مفاهيم الجماعات في الإسلام " حتى يتجرأ في ( ص 119 ) على لمز الصحابي الجليل أبي عبيدة بقوله : " وهناك عهد مشهور منسوب إلى أبي عبيدة عند فتح بعض المدن ، نشره لأول مرة ابن عساكر في منتصف القرن السادس الهجري يبدو شديد التعصب والحقد على المسيحيين " ! ومثله ابن القيم الذي لم يسلم من اتهامات رضوان بسبب كتابه البديع " أحكام أهل الذمة " الذي لم يوافق هوى المفكر .ويذكر من ضمن أصحاب المبادرات في " تفعيل تاريخ الأمة وإرادتها " ( الإمام الخميني ) ! ، " الإسلام المعاصر ؛ ص 52) .ولايمانع في مجلته " الاجتهاد " أن ينشر للعلمانيين من أمثال نصر أبوزيد ؛ أو يعرض كتبهم ؛ كما في عرض عبدالإله بلقزيز لكتاب برهان غليون . ( العدد 9 والعدد 15-16) . ولايتورع عن المساهمة في بعض المجلات الشيعية .(97/11)
نصر حامد أبو زيد ... و ( الهرمنيوطيقا ) ..!
هذه حلقة جديدة من حلقات " نظرات شرعية في فكرٍ منحرف " تتناول الدكتور نصر حامد أبوزيد ، أحد المفكرين المعاصرين ؛ من الذين جل بضاعتهم نقل ماعند الغرب من نظريات سلطوها على دينهم المحرف فهمشوه بها ؛ فأراد بنو جلدتنا من أمثال أبوزيد تطبيقها بالمثل على خاتم الأديان . ولكن : هيهات لهم ؛ فالله حافظ دينه ، ولكن المنافقين لا يفقهون .
ترجمته : من مواليد 1/7/1943م ، طنطا – محافظة الغربية ، حاصل على دكتوراه من قسم اللغة العربية وآدابها ، كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، في الدراسات الإسلامية 1972 ، عين سنة 1995 أستاذًا بقسم اللغة العربية وآدابها نفس الكلية .
تلقى في سنة 1975 - 1977 منحة من مؤسسة فورد (!) للدراسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وفي سنة 1978 - 1979 منحة من مركز دراسات الشرق الأوسط ، جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية ، ومن سنة 1985 - 1989 عين في اليابان ، جامعة أوساكا للغات الأجنبية كأستاذ زائر ، أما في سنة 1195 وحتى هذه الساعة فيعمل كأستاذ زائر ( أستاذ دكتور ) في جامعة ليدن بهولندا . من مؤلفاته : " الإمام الشافعي وتأسيس الإيدلوجية الوسطية " ، " نقد الخطاب الديني " ، " البحث عن أقنعة الإرهاب " ، " التراث بين الاستخدام النفعي والقراءة العلمية " ، " إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني " ، " مفهوم النص " ، " التفكير في زمن التكفير " ، " إشكاليات القراءة وآليات التأويل " .(98/1)
رد عليه كثيرون : منهم : الأستاذ محمد جلال كشك في " قراءة في فكر التبعية " ، وعبدالصبور شاهين في " قصة أبوزيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة " ، و الدكتور رفعت عبدالمطلب في " نقض كتاب نصر أبوزيد ودحض شبهاته " ، والدكتور سيد العفاني في " أعلام وأقزام " ، والدكتور محمد سالم أبوعاصي في رسالته " مقالتان في التأويل - معالم في المنهج ورصد للإنحراف " ، و الدكتور عواد العنزي في رسالته " المعاد الأخروي وشبهات العلمانيين " - لم تُطبع بعد - .. وغيرهم . ومن أفضل من رد عليه وكشف حقيقة أفكاره : الأستاذ طارق منينه في رسالته " أقطاب العلمانية في العالم العربي والإسلامي " ، ومنه ألخص الآتي لأهميته مع إضافات :
فكرته : نادى أبوزيد بإخضاع القرآن لنظرية غربية مادية تنكر الخالق وتؤول الوحي الإلهي على أنه إفراز بيئوي أسطوري ، ناتج عن المعرفي التاريخي الغارق في الأسطورة .
اسم هذه النظرية « الهرمنيوطيقا » ، و « مصطلح الهرمنيوطيقا » مصطلح قديم بدأ استعماله في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني « الكتاب المقدس » .. يشير المصطلح إلى « نظرية التفسير » ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م وما زال مستمرًا حتى اليوم خاصة في الأوساط البروتستانتية . وقد اتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة ، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية ؛ كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجى وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفلوكلور.
والقضية الأساسية التي تتناولها « الهرمنيوطيقا » بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام ، سواء كان هذا النص نصًا تاريخيًا ، أم نصًا دينيًا .(98/2)
من علماء « الهرمنيوطيقا » المفكر الألمانى شلير ماخر ( 1843م ) و « ويلهلم ديلش » ( 1833م – 1911 ) و « مارتن هيدجر » و « جادامر » . يقول نصر أبو زيد : « وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي ، نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب ، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن » ، إشكاليات القراءة وآليات التأويل لنصر حامد أبو زيد ص49 ، وما قبلها .
يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري عن الهرمنيوطيقا : " هي مشتقة من الكلمة اليونانية "Hermeneuin" بمعني يُفسِّر أو يوضِّح - من علم اللاهوت - حيث كان يقصد بها ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المعني بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة " - كما تزعم -
( للزيادة عن الهرمنيوطيقا يُنظر : " مدخل إلى الهرمنيوطيقا : نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر " للأستاذ عادل مصطفى . وللفائدة فإن مفكري وفلاسفة الشيعة يحتفون كثيرًا بهذه الفكرة التي تخدم باطنيتهم وتأويلاتهم ! ؛ ولهم أبحاث كثيرة عنها ) .
لقد طالب أبوزيد بالتحرر من سلطة « النصوص » وأولها « القرآن الكريم » الذي قال عنه : « القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة »(1) . « لقد صار القرآن هو « نص » بألف ولام العهد »(2) « هو النص المهيمن والمسيطر في الثقافة »(3) « فالنص نفسه - القرآن - يؤسس ذاته دينًا وتراثًا في الوقت نفسه »(4) .
وقال مطالبًا بالتحرر من هيمنة القرآن : « وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها ، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا ، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان »(5) .(98/3)
وهو نفسه ما فعلته أوروبا مع « الوحي » و « الدين » باعتبارهما إنتاج مجتمعات قديمة وبيئات ثقافية متخلفة ، وينقل « نصر أبو زيد » المعركة مع « الوحي » إلى ساحة العالم الإسلامي فيقول : « بأن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي »(6) ! .
ويقول « إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج إلى إثبات »(7) .
سوف نستدعى دكتورًا علمانيًا يشترك مع د. نصر في « الإلحاد المشترك » هو د. على حرب ، وفقط سندعه يعلق على موقف د. نصر في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ « العلمانية » في عالمنا العربي والإسلامي ، سندعه يوضح لنا هدف د. نصر حامد أبو زيد . يقول حرب : « يستهدف أبو زيد ، بالنقد والتحليل ، خطاب الوحي ، بجعله مادة لمعرفة نقدية عقلانية ، شأنه بذلك شأن أي خطاب بشرى وأي إنتاج معرفي .. مستلهمًا موقف طه حسين الذي اعتبره أبو زيد الفدائي الأول في مقاومته للنظرة التقديسية إلى النصوص الدينية »(8) .
ويعلق على كتابه « مفهوم النص » بالقول : « كان أولى به أن يسمي هذا الكتاب « نقد النص » إذ هو يتناول فيه القرآن وعلومه تناولاً تحليليًا نقديًا .. أجل إنها لجرأة بالغة أن يتعامل باحثنا مع النص القرآني بوصفه « منتجًا ثقافيًا » ، أنتجه واقع بشري تاريخي »(9) !! .
إن د. على حرب نفسه كان قد طالب بالتحرر – أيضًا - من النصوص الدينية ومن وصاية الشريعة ! وهو يحب هذه الجرأة ! و يمدح هذه الطائفة العلمانية الجريئة في نقد الوحي القرآني من أمثال أركون وأبو زيد وأدونيس وغيرهم ويعتبرهم كما ذكر في الكتاب نفسه الذي علق فيه على كلام « نصر أبو زيد » المتقدم : نقاد الوحي والشريعة « أهل التذكرة » وأنهم « ذوى البصيرة ، أي ذوى الألباب »(10) !!(98/4)
إن مشروع « نصر أبو زيد » ، هو وضع التصورات الماركسية والمضامين المادية الجدلية وتفسيراتها للحياة والكون والإنسان والوحي والنبوة والغيب والعقيدة في المعنى القرآني فيصير القرآن ماركسيًا ينطق باسم ماركس وفلاسفة المادية الجدلية والهرمنيوطيقا ( نظرية تفسير مادية ) فيغير بذلك المفاهيم الرئيسة للقرآن ، ويلغي المعاني الحقيقية للسور والآيات ، ويطمس الحقائق الدينية التي رسخها القرآن وبينتها السنة .
وهو لا يفعل في معركته مع الإسلام وتاريخه وعلمائه المحدثين والقدامى إلا ما يفعله الماركسيون العرب إحياء للموقف اللينيني الذي وظف التراث في الصراع الأيديولوجي ، فلينين – كما يقول جورج طرابيشي – هو أول من دعا إلى التعاطي مع التراث بمنهج البضع والبتر من خلال مناقشاته في مطلع القرن مع الشيوعيون الروس ... فلينين .. لم يكن يهمه من التراث حقيقته التاريخية ، بل قابليته للتوظيف في الصراع الأيديولوجي »(11) .
إنه منهج الإسقاط الأيديولوجي ، الذي يستخدم القرآن للأيديولوجية المسبقة !
يقول طرابيشي [ العلماني ] : « منهج الإسقاط الأيديولوجي يتنطع أكثر من الفهم أو عدم الفهم ، فهو ينصب نفسه جراحًا يريد إخضاع التراث لعملية جراحية ليستأصل منه ما يعتقد أنه أورامه الخبيثة ، وتراءى لنا ، من وجهة نظر تاريخية ، أن قصب السبق في مداورة المنهج البضعي أو البتري يعود إلى المثقفين والباحثين الملتزمين بالرؤية الماركسية للعالم »(12) .
هذه « خبرة » طرابيشي من داخل الماركسية يقول عن نفسه : « فلقد كان لكاتب هذه السطور ، هو أيضًا طور ماركسي في تطوره الفكري »(13) ! . ولا يعنى ضبط طرابيشي هؤلاء الماركسيين متلبسين بالتلاعب بالتراث أنه معنا داخل الأسوار فهو أولا نصراني ثم ماركسي ثم أخيرًا فرويدي فاحش .(98/5)
إن « القرآن » عند المستترين بالإسلام من المتلاعبين بالنصوص من فئة العلمانيين الذين اتخذت طريق الهدم من الداخل وسيلة لتهديم المجتمع الإسلامي ومقدساته الإسلامية إن « القرآن » عندهم « قالب وإناء » « فارغ » ، لاينطق بما أنزل به من عند الله على محمد – صلى الله عليه وسلم - رسول الله وخاتم النبيين وإنما ينطق بأيديولوجياتهم المسبقة ، فهم يحاولون أن يجعلوه بحسب هذه الأيديولوجيات الحديثة ناطقًا رسميًا لهم وحسب ! يقول ما يقولونه ويتكلم بما يتكلمون به ، وهو عندهم كما قال « أبو زيد » و « على حرب » ينطق بكل المذاهب والفلسفات ؛ أي أنه ليس له معنى ثابت ، فمن شاء أن يجعله وجوديًا فلا حرج ، وماركسيًا لا مانع ، صهيونيًا ما المشكلة ، وجوديًا ما الاعتراض ، عبثيًا ما الخلل ؟!
هذا هو إعجازه عندهم ، يقول د. على حرب في وقاحة متناهية : « ليس إعجازه إذًا مجرد كونه ينطوي على تشريع أو تسنين ، وإنما كونه ينفتح على كل معنى بحيث يمكن أن تتمرأى فيه كل الذوات ( ! ) وأن تُقرأ فيه مختلف العقائد والشرائع »(14) .
إذن : فأبوزيد يتهم الوحي بأنه ليس له مصدر سماوي مقدس ، وينفي عنه صفه الفوقية – إن صح التعبير - لأنه عنده خرج من الواقع ورجع إلى الواقع وليس هناك إلا الواقع ! وهو ينص على ذلك في قوله : « فالواقع أولاً والواقع ثانيًا ، والواقع أخيرًا »(15) !! الواقع فقط !!(98/6)
وهو يظن أنه بهذه الاتهامات يستطيع أن ينزع صفة الوحي الإلهي عن القرآن ، ويظن أنه قد حطم بذلك الأسطورة الدينية وكشف عن حقيقة رموزها – والرموز بزعم الماركسية هي الله – تعالى عن قوله - ، الملائكة ، الجن ، الوحي ، الغيب ، اليوم الآخر ، وما إلى ذلك - إن النص التالي له يكشف لنا عن الأدوات التي يمكنه هو وغيره استخدامها بجانب فلسفة الهرمنيوطيقا في تحليل القرآن ، يقول : « يركز « بول ريكور » اهتمامه على تفسير الرموز ، وهو يفرق بين طريقتين للتعامل مع الرموز، الأولى هي التعامل مع الرمز باعتباره نافذة نطل منها على عالم من المعنى ، والرمز في هذه الحالة وسيط شفاف عما وراءه ( ! ) هذه الطريقة يمثلها « بولتمان » في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير . وهذه الطريقة يطلق عليها « ريكور » « Dymythologizing » والطريقة الثانية يمثلها كل من « فرويد » و « ماركس » و « نيتشه » وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به ، بل يجب إزالتها وصولا إلى المعنى المختبئ وراءها Dymystification إن الرمز في هذه الحالة لا يشف عن المعنى ، بل يخفيه ويطرح بدلاً منه معنى زائفًا ، ومهمة التفسير هي إزالة المعنى الزائف السطحي وصولاً إلى المعنى الصحيح . لقد شككنا فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحيًا يخفي وراءه اللاوعي ، وفسر كل من ماركس ونيتشه(*) الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة ووضعا نسقًا من الفكر يقضى عليها ويكشف زيفها ، وإذا كان تفسير الرموز عند بولتمان أو فرويد أو نيتشه أو ماركس ينصب على الرموز بمعناها العام اللغوي والاجتماعي فإن تعريف ريكور للرمز معبرًا عنه باللغة ، ومن ثم ينصب التفسير عنده على تفسير الرموز في النصوص اللغوية ، وهذه هي غاية الهرمنيوطيقا »(16) !! .(98/7)
إذن فغاية الهرمنيوطيقا - التي هي نظرية في التفسير غربية المبنى والمعنى - تحطيم الأسطورة الدينية ، والرمز لا يعنى شيئًا قط ، وإنما هو وسيط شفاف - أو حقيقة زائفة - ينم عما وراءه من موروثات لغوية بيئية معرفية تاريخية أسطورية !
ينقل « نصر أبو زيد » هذه النظرية ، ليقوم بنفس الغاية التي توصل إليها هؤلاء الملاحدة مع الكتب اليهودية والمسيحية ، وبدل أن يكتفوا بإظهار أساطير القوم ، الأساطير التي أظهرها الإسلام من قبلهم ! ، أقبل نيتشه مثلاً وأعلن « أن الله قد مات » ! وقال ماركس بأن الحياة مادة ولا إله ! وغير ذلك من خرافات وترهات الماديين الماركسيين . وبهذه الأدوات حاول « أبو زيد » أن يتعامل مع « القرآن » وبهذه العيون الغربية التي كلما وجدت - أو قرأت أو سمعت ! – اسم الله اشمأزت منه ، اشمأزت منه قلوب الذين كفروا ، واعتبرته رمزًا لا يقول شيئًا ولا يعنى شيئًا إنما هو حقيقة زائفة أو نافدة نطل منها على معان مناقضة لحقيقتها تمامًا !
بهذه الموازين المادية التي تنفي وجود الله وتلغي عالم الغيب لصالح عالم الحس انتهج « نصر ابو زيد » طريقًا في تحليل القرآن وتفسيره أي بأفق الماركسية والمادية الجدلية والهرمنيوطيقا الجدلية . بهذه الموازين نظر إلى القرآن وآياته وإلى التفسير والمعاني المستنبطة منه ، ويؤكد على ذلك بقوله : « وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي ، نقطة بدء أصلية للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ، ونظرية الأدب فحسب ، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن ؛ لنرى كيف اختلفت الرؤى ( ! ) ، ومدى تاثير كل عصر - من خلال ظروفه - للنص القرآني »(17) .(98/8)
إنه يجعل هذه الأدوات الإلحادية هي نقطة الانطلاق لتأويلاتها ، فينزع عن القرآن مضمونة باعتبار أن مضمون القرآن أسطوري غيبي ، ويعطيه دلالات ومضامين أخرى يزعم أنها الوعي بالتاريخ والعالم والنصوص !
يقول عن وعيه الجديد إنه : « وعي ينقل الثقافة ، كما نقل المواطن من حالة إلى حالة ، ومن مرحلة « الوعي الديني الغيبي الأسطوري » إلى مرحلة « الوعي العلمي »(18) .
وهو هنا يعطي للنظرية المادية التي تنكر الله سبحانه وتعالى وترفض الوحي ، يعطيها صفة « العلمية » و « الهيمنة » على القرآن ! ويريد أن ينقل الثقافة الإسلامية والحقائق الإسلامية إلى حالة أخرى مغايرة لها تمامًا ، حالة الوعي الماركسي والفرويدي اللعين ، والذي أدى في عالم الغرب إلى فصل الإنسان عن ربه وخالقه ومبدعه في نفس الوقت الذي أنزله إلى مرتبة الحيوان [ دارون ] وحلل نفسيته بأنها حيوان أشد ولوغًا في الجنس من الحيوان .
إن هذا الوعي العلمي المتطرف في حكمه على الدين أدى إلى خلل كبير : « إن التصور الغربي للإنسان يشتمل على خلل أساسيين : الخلل الأول هو اعتبار أن الإنسان هو ذلك الحيوان الدارويني المتطور ، الذي قدمته نظرية دارون في القرن الماضي ، وما تزال تغذيه في كثير من مجالات الدراسة ، والدراسات الاجتماعية بصفة خاصة ، والخلل الثاني هو دراسة الإنسان بمعزل عن خالقه الذي أنشأه وأخرجه إلى الوجود »(19) .(98/9)
وكان قد ادعى ماركس وفرويد ونيتشه وريكور وجادامر وشليرماخر وبولتمان وغيرهم كثير أن ليس للإنسان في ظل التطورات الفكرية والفلسفية الغربية الحديثة ، ليس له مرجعية خارج حدود نفسه ، أي إقامة الإنسان نفسه مرجعًا بدلاً من الله ، وراحوا ينظرون إلى الوحي الإلهي على أنه أسطورة ، ونقلها نصر حامد أبو زيد معركة ضارية مع القرآن عازلاً عنه مضمونه الحقيقي ومضيفًا إليه مضمونًا ماديًا بحتًا ، ماركسيًا في غايته ، ماديًا في نظرته ، مدعيًا أن ذلك هو التأويل الحقيقي المحترم للقرآن !! وأنه يؤمن بثوابت الإسلام !! تقول بروتوكولات حكماء صهيون : " لاحظوا أن نجاح دارون وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل ، وأن الأثر الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي ( غير اليهودي ) سيكون واضحًا لنا بكل تكيد " ! وليس هناك أوضح من ذلك التأثير غير الأخلاقي الذي جعل نصر أبو زيد يجلب تلك النظريات المادية ومضامينها الإلحادية ليغير بها معاني القرآن وحقائق القرآن وثوابت القرآن : ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) .
تطبيقات الهرمنيوطيقا :
نأتي هنا إلى تطبيقاته لهذه الفلسفة على القرآن وإعطاؤه مضامينها المجازية التي تنكر وجود الله وتنفي ما أثبته القرآن من حقائق . فالهدف من الهرمنيوطيقا هو - حسب قوله : « أن يعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية الاجتماعية الأصلية ( ! ) وإحلال المفاهيم المعاصرة الأكثر إنسانية وتقدمًا ( ! ) ، مع ثبات مضمون النص ( ! ) . إن الألفاظ القديمة لا تزال حية مستعملة لكنها اكتسبت دلالات مجازية »(20) .
قلتُ : كيف يكون ثبات مضمون النص مع تغيير مضمون النص ؟!(98/10)
وفي النص التالي يقدح في مضمون ما سماه النص ويقدح – ويسخر كذلك - في إيمان العالم الإسلامي المتمسك به – يقول : « بصورة الإله الملك بعرشه وكرسيه وصولجانه ( ! ) ومملكته وجنوده الملائكة وما زال يتمسك بالدرجة نفسها من الحرفية بالشياطين والجن والسجلات التي تدون فيها الأعمال والأخطر من ذلك تمسكه بحرفية صور العقاب والثواب(*) وعذاب القبر ونعيمه ومشاهد القيامة والسير على الصراط ... إلى آخر ذلك كله من تصورات أسطورية »(21) !! .
فهو يحذف وينفي هذا المضمون القرآني وهذه الحقائق القرآنية ويجعلها أسطورية !! وطبعًا لا يستسيغ ما سماه « ظاهرة الوحي » « ظاهرة النص » وفوقيته وثوابته التي نبذها منذ هنيهة ، فقد أنكر هذه « الحقائق » واعتبرها « مزيفة » .
الأدهى من ذلك ، هو أنه ادعى أن أساس « الوحي » ليس هو التنزيل السماوي ، وأنه ليس تبليغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الناس « وحيًا من الله » وإنما أساسه هو ما كان يعتقده العربي من إمكانية الاتصال بين البشر والجن - وقد قال بأن هذه الإمكانية أسطورية كما سيأتي بعد قليل ، بالإضافة إلى حضور وبروز ظاهرتي الشعر والكهانة في المعرفي / التاريخي عند العرب وارتباطهما بالجن : « لقد كان ارتباط ظاهرتي ( الشعر والكهانة ) بالجن في العقل العربي وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها »(22) !!
كل ذلك عند أبو زيد ظواهر اجتماعية ، أفرزها الواقع وطورتها الكهانة والشعر والوحي ، واخترعتها مخيلة الأساطير !
الوحي عنده هو « ظاهرة » في « الثقافة » والثقافة عنده إفراز ونتائج التطورات المادية والبنى الاقتصادية والاجتماعية !(98/11)
فـ « ظاهرة النص » و « ظاهرة الوحي » و « ظاهرة النبوة » و « الظاهرة الدينية » – وهى أوصاف نصر أبو زيد - نتاج البيئة ، والنبوة عنده ليست ظاهر فوقية مفارقة(23) وإنما هي فاعلية خلاقة لم تتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية ، وهى آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة »(24) .
فظاهرة الوحي - بحسب وصفه للوحي وزعمه عنه - لم تكن غريبة عن الرسول فهو : « كان يعانى دون شك إحساسًا طاغيًا بالإهمال والضياع »(25) ولأنه - بحسب زعم نصر أبو زيد - لم يكن يعزل نفسه عن الواقع ولا عن استخدام إمكانياته وتطويرها لصالحه وما يدعو إليه فقد كرر في النص القرآني ، الذي يبدأ بـ ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) الفعل « خلق » ليعوض عن إحساسه بالإهمال الذي لقيه من المجتمع وليختلق له ربا !!
يقول : « ولا شك أن إحساس محمد الذي تتوجه إليه هذه الرسالة - بأن ربه هو الذي خلق ، يتصاعد بذاته وبقيمته وأهميته ، ويداوي إحساس اليتم والفقر في أعماقه . ولأن محمدًا لا يعزل نفسه من الواقع وعن إنسان مجتمعه فإن النص يكرر الفعل « خلق » كاشفًا لمحمد عن تساؤلاته عن الإنسان »(26) « إن المتحدث إلى محمد بالوحي ليس غريبًا عنه »(27) ! .
فهو هنا يجعل النص من إنتاج محمد – صلى الله عيه وسلم – الذي لا يعزل نفسه عن الواقع ولذلك ، ولسبب إحساسه بالفقر واليتم ، كرر الفعل « خلق » في هذه السورة مرات ليشعر بأن له كفيلاً وعائلاً ووكيلاً .
وليس المتحدث بالوحي إلى محمد – صلى الله عيه وسلم – في فلسفة « نصر أبو زيد » المادية إلا محمد نفسه – صلى الله عيه وسلم – فالوحي ليس غريبًا عنه من هذا الوجه !
وبدلاً من معالجة هذه العزلة وهذا الإحساس باليتم والفقر بالدخول في عالم الكهانة والاتصال بالجن ، فإن محمدًا – صلى الله عيه وسلم – اتخذ وسيلة أخرى للتعبير عن نفسه فيما سمي « الوحي » هكذا يفكر نصر أبو زيد تقليدًا للملاحدة من الغربيين !(98/12)
وقد طور هذا الوحي الواقع وأعاد صياغته من جديد بما يتلاءم مع ظروف النبي – صلى الله عيه وسلم – ! « إن النصوص وإن تشكلت من خلال الواقع والثقافة تستطيع بآلياتها أن تعيد بناء الواقع ولا تكتفي بمجرد تسجيله أو عكسه عكسًا آليًا مرآويًا بسيطًا »(28) . كل ذلك يتماشى مع فلسفة المادية الجدلية التي تدعى أن الواقع هو منشئ الوعي والدين والأخلاق وليس العكس ؛ وأن الوحي ما هو إلا من خيال الأنبياء ناتج عن ظروف الفقر واليتم والاضطهاد !
أخيرًا : يدعي الدكتور نصر أبو زيد أن : « اعتماد حل المشكلات على مرجعية النصوص الإسلامية من شأنه أن يؤدى إلى إهدار حق المواطن بالنسبة لغير المسلمين »(29) .
- إن فلسفة نصر أبوزيد تنتهج نهج الفكر الغربي في تطوير كل شيئ ؛ حتى عقيدة المسلمين ، وعنده أن تغيير العالم لا يتم حتى ينال التطوير عقائد المسلمين التي نزل بها الروح الأمين جبريل – عليه السلام – وحيًا قرآنيًا .
====================
الهوامش :
( 1 ) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص19
(2-3) مفهوم النص ، ص27
(4) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص16
(5) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية ص146
(6) مفهوم النص ، ص24
(7) المرجع السابق ويقول « الأوضاع والظروف التي أنتجت النص » نقد الخطاب الديني ، ص145
(8) نقد النص لعلى حرب ، ص201
(9) نقد النص ، ص200
(10) المرجع السابق ، ص24(98/13)
(11) مذبحة التراث ، ص11 ، ولينين كان شديد الإنكار على اختصار الطريق بالقفز مباشرة إلى الهدف ! وقد رفض « نظرية الهجوم » التي وضعها الزعماء الشيوعيون الألمان الذين تسببوا في انهيار أكبر وأقوى الأحزاب الشيوعية في العالم أجمع وقتذاك – 24 آذار 1921 كانت بداية النهاية ! – ومن الأحزاب الشيوعية العربية من حذا حذوهم فانهاروا كالحزب الشيوعي العراقي الذي كان له تواجد قديم في الساحة السياسية ونفوذ في أوساط الشباب جعله أقوى الأحزاب لسنوات طويلة ، إلا أنه استعجل بعض الاستعجال في أعقاب ثورة 1958م ، وباشر التصفيات الدموية ضد أعدائه فسقط ، وكرهه الناس ، وأصبح حزبًا ثانويًا ، ودفع الثمن غاليًا ، كذلك الحزب الشيوعي السوداني كان قويًا ، فورطه هشام العطا سنة 1971م ، ورفع الرايات الحمراء فجأة ، فدفع ثمنًا باهظًا أيضًا ، وأطيح برؤوسه ، انظر المسار لمحمد أحمد الراشد ، ص231 – 233
(12) مذبحة التراث ، ص 11
(13) مذبحة التراث ، ص 11
(14) نقد النص ، ص87
(15) نقد الخطاب الديني ، ص130
(*) عن نيتشه يقول د. فؤاد زكريا « ففي رأيه بين الله والإنسان في الخلق تعارضًا ، ولا بد لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان أن تزاح كل العقبات من طريقه » نيتشه ، ص46 ، وانظر ، ص133 ، ويقول « فلم يكن نقد نيتشه لفكرة الألوهية لا يدع مجالاً للشك في أنه تخلى تمامًا عن هذه الفكرة » ص133
(16) إشكاليات القراءة وآليات التأويل ، ص44 ، 45
(17) إشكاليات القراءة ، ص49
(18) النص ، السلطة الحقيقة 41 قبل ذلك قليلاً قال « إن خطاب التنوير فشل في إحداث التنوير » وذلك أنه لم يحدث وعي علمي – على نمط وعي أبو زيد – بالتراث !!
( 19) حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية ، ص51
(20) نقد الخطاب الديني ، ص133
( * ) ومع ذلك زعم أنه مسلم يؤمن باليوم الآخر [ الأهرام ] 19/6/1995 ، و [ المصور ] 23/6/1995 انظر التفسير الماركسي للإسلام ، ص53(98/14)
( 21) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص135
( 22 ) مفهوم النص ، ص2
(23 ) المرجع السابق ، ص52
( 24 ) المرجع السابق ، ص63
( 25 ) المرجع السابق ، ص67
( 26 ) المرجع السابق ، ص67
( 27)المرجع السابق ، ص67
( 28 ) المرجع السابق ، ص69
( 29 ) النص ، السلطة ، الحقيقة ، ص143 ، وانظر أيضًا التفكير في زمن التكفير ، ص153(98/15)
الإجابات ... عن مازعمه ( ابن زلفه ) من المبررات ..!
قبل الإجابة عن مازعمه ابن زلفه من مبررات لقيادة المرأة للسيارة ؛ لا بد من التنبيه على أمر مهم يغفل عنه البعض ؛ وهو أن المطالبين بهذا الأمر في مقالاتهم أو كلماتهم يحاولون إيهام المرأة المسلمة في بلادنا أنهم أنصارها ! وأنهم لأجل هذا يريدون تمكينها من حقوقها - وحقوقها عندهم مجرد قيادة السيارة ! - وأن من يمنعها هذا " الحق " ظالمٌ لها .. الخ أساليبهم المكرورة ؛ محاولين بذلك التأثير عليها بمثل هذه العبارات المعسولة ؛ لعلها تنخدع فتتحمس للمطالبة بهذا " الحق " المغتصب !
والحقيقة التي يُخفيها هؤلاء أن من يربأ بالمرأة عن قيادة السيارة ومشاكلها هو من أحرص الناس على كرامتها و " حقوقها " الحقيقية ؛ لأنه يصونها عن كل ما يخدش حياءها ، أو يبتذلها .
فهي عنده بمثابة الملوك وكبار الشخصيات الذين يتنزهون عن قيادة السيارة ؛ لأنها لا تليق بمقامهم ، ولأنها تمتهنهم أمام الناس - كما هو مشاهد - .
فأيهما أحرص على مكانة المرأة المسلمة وحقوقها :
من يريد ابتذالها بين تلويث الزيوت وروائح البنزين وقذارة الإطارات ؟! أو من يعاملها كما يُعامل الملوك وكبار الشخصيات ؟!
والحمد لله أن المرأة في هذه البلاد الطيبة لم تعد تنخدع بعبارات ومبررات القوم التي خدعوا بها غيرها ؛ ولهذا تجد أن المطالبين بهذا من فئة الذكور ! ( كابن زلفة الذي له 4 أولاد ذكور !! ) .
====================(99/1)
كان ابن زلفة - هداه الله - إلى سنوات قريبة مجرد مدرس تاريخ ؛ متخصص في الوثائق التركية ، يعيش حياة مغمورة ، لايكاد يعرفه أحد ، وأذكر أنني زرتُ مركز " خدمات المؤلف " بشارع الثلاثين بالعليا ؛ لأطبع بعض الكتيبات ؛ فأخبرني العاملون الذين يعرفونني أن المركز قد بيع لأحد دكاترة التاريخ . فدخلتُ للسلام عليه في مكتبه - وأنا لا أعرفه ولم أسمع به - ، فأخبرني أنه اشترى المركز ليجد فيه مكانًا مناسبًا للبحث والتأليف التأريخي .
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر فوجدها ابن زلفة - هداه الله - فرصة " للترزز " مع " المترززين " - كما ذكر أخي نمر بن عدوان في مقاله - ؛ وأصبح بين عشية وضُحاها ملء السمع والبصر ! لم يدع قناة إلا وشارك فيها ! وصار الناس لا يستغربون كل ليلة أن يسمعوا : ( معنا الدكتور ابن زلفة من السعودية ) ! يتحدث حينًا في السياسة ، وحينًا آخر في المناهج ! مرة خبيرًا في الحركات الإسلامية ، وأخرى في علم النفس والتحولات السيكولوجية ! فصار كما يقول المثل العامي : ( ما يحقر نفسه ) !
وليته عندما تصدر في هذه القنوات ووسائل الإعلام نقل الصورة الحقيقية لهذه البلاد ؛ دينًا ووسطية . لا .. بل راح يلقي التهم على مناهجنا وأنها سبب الإرهاب ؛ مرددًا مايردده أعداء البلاد من الحاقدين ؛ غير آبه بتصريحات ولاة الأمر التي تبرئ المناهج التي قامت عليها هذه البلاد من هذا الفكر التخريبي . فأين وطنيته المزعومة هنا ؟! ألا يعلم أن من ينقد مناهجنا السلفية إنما هو ناقد لأساسات هذه البلاد التي يدعي محبتها والدفاع عنها ؟! ( وقد رددتُ عليه في قضية المناهج على هذا الرابط ) .(99/2)
ثم استحلى ابن زلفة الأضواء ، وسحرته الشهرة ؛ فأراد أن يُجرب حظه في عالم النساء ! لعله يكون الفارس المنقذ لهن مما هن فيه من ظلم ! فجاء بطامته الأخيرة حول قيادة المرأة - متجاوزًا صلاحياته - ؛ لأنه رآها الوسيلة الأسرع للشهرة بينهن ! وإلا فأينه عن المشاكل الحقيقية سواء للمرأة المسلمة أو للبلد ؟!
أين ابن زلفة مثلا عن ( 150،000) مائة وخمسين ألف شاب سعودي عاطل ؟! كما صرح بهذا وزير العمل القصيبي ؟! أم أن شباب البلد لن يجد من ورائهم شهرة ولا " تميلحًا " أو نرجسية ؟! ( الرابط ) .
====================
لم يهتم ابن زلفة في قضية القيادة :
1 - لفتاوى كبار العلماء في هذه البلاد - وهي معروفة مشهورة - .
2 - ولا للقرار الملكي الصادر من خادم الحرمين - شفاه الله - بمنع هذا الأمر ؛ لضرره على المسلمات .
3 - ولا بتأكيد وزارة الداخلية للقرار السابق .
4 - ولا بتصريحات الأمير نايف - وفقه الله - المتتالية .
5 - ولا بالمعارضين لهذا الأمر من المسلمين ؛ وقد تجاوزوا 94%
كل هذا لم يهتم به ابن زلفة ، وألقاه وراء ظهره مستهينًا منتقدًا ؛ إرضاء لهواه وهوى قلة معه ؛ لا هم لهم إلا هذه الأمور الشكلية ، التي يفوق ضررها منفعتها .(99/3)
قال ابن زلفة معددًا مبرراته الوهمية : (المبررات: 1 - الحد من الأعداد الكبيرة من السائقين الأجانب الذين تقدر بعض المصادر اقتراب عددهم من المليون إن لم يكن أكثر, وهؤلاء السائقون يستقدمون من بلدان مختلفة, وينتمون إلى ثقافات وأديان ومذاهب مختلفة غريبة على ثقافتنا وعاداتنا.. ) ثم قال في مبرره الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس ! : (2- الأضرار الاجتماعية المختلفة التي يحدثها السائقون الأجانب كثيرة.3- الأضرار الاقتصادية تقدر تحويلات السائقين شهرياً بمليار ريال سعودي, 12 مليار سنوياً. 4- المخالفات الشرعية تتوافر الخلوة المحرمة مع وجود السائق الأجنبي. 5 - كثير من السائقين الأجانب تنقصهم مهارات القيادة, مما يعرض العوائل لكثير من الحوادث وخسائر في الممتلكات. 6 - بعض الأسر تصرف الجزء الأكبر من دخلها أجرة للسائق الأجنبي بينما يمكن لربة الاسرة أن تقوم بهذا العمل ) .
قلتُ : جميع هذه المبررات المزعومة تعود إلى مبرر واحد ! وهو ضرر السائقين .. ولكن ابن زلفة يحاول التكثر !
والجواب عن هذا المبرر الوحيد له أن يُقال :
أولا : ادعاؤك أن عدد السائقين لدينا مليون أو أكثر يخالف الإحصاء الأخير الذي اعتمدت عليه ماتسمى " منظمة العفو " وهي أحرص منك على كل ما يضر المملكة ! عندما حددتهم بـ( 264 ألف ) ! فكيف تضاعف الرقم عندك ثلاث مرات أو أكثر ؟! ألمجرد خداع المسلمين والتهويل عليهم ؟!
ثانيًا : ادعاؤك أن قيادة المرأة للسيارة ستقضي على وجود السائقين في البيوت غير صحيح أبدًا ، وهذا ما يقضي على مبررك الوحيد من الأساس ، فواقع الدول القريبة منا – دول الخليج - يشهد بهذا، حيث قادت نساؤهم وبقي السائقون في بيوتهم!! فاجتمع الضرران . وضرر واحد خير من اجتماع ضررين. ويؤكد هذا:(99/4)
- أن هناك من الأعمال والطلبات الكثيرة التي سببتها الحياة المعاصرة داخل البيوت ما لا يمكن لرب البيت أو للمرأة ( لو قادت السيارة) تلبيته إلا بوجود سائق، والأمثلة على هذا كثيرة – لايُنكرها عاقل - ؛ لأن المرأة كالرجل لن تُرهق نفسها بهذه المشاوير والطلبات اليومية.
إذًا : فالسائق سيبقى ؛ سواء قادت المرأة السيارة أم لم تقدها، فكيف يليق بمسلم عاقل - بدلاً من أن يخفف ضرر وجود السائق - أن يزيد هذا الضرر بمطالبته بضرر آخر وهو قيادة المرأة للسيارة ؟!
ثالثًا : إن منع المرأة من قيادة السيارة لا يعني أن البديل هو ركوبها لوحدها مع السائق – كما تدعي ! - ؛ فالخيارات كثيرة ؛ وليست مجرد خيارين ! ؛ وهي كالتالي :
أ أن يتولى توصيلها محرمها: أبوها أو زوجها أو ولدها ... الخ.
ب أو أن تركب هي وامرأة أو أكثر مع السائق.
ج أو أن تركب مع السائق ومعه زوجته . ويكون هذا السائق مسلماً، كبيرًا في السن، سيماه الصلاح.
د في حال اضطرارها وعدم تمكنها من البدائل السابقة – وهذا قليل - فإنها تركب لوحدها مع السائق [ بمواصفاته السابقة ] وهي متحجبة محتشمة، في المشاوير داخل نطاق المدينة.
وهذا الحل الأخير أخف ضرراً وفساداً من قيادتها للسيارة كما يشهد بذلك العقلاء؛ لأن ضرره – إن وجد – فهو خاص، وضرر قيادتها للسيارة عام .
ثم قال ابن زلفة : ( 7- بعض الأسر تشل حركتها, ولا تستطيع قضاء الحوائج الضرورية لعدم توفر من يقوم بإيصالهم لقضائها, مثل المطلقات والأرامل ) .
والجواب :
أولا : أنت هنا كمن يعالج الجرح اليسير بقطع رأس المجروح !
ثانيًا : إن كثيرًا من الأسر فيها أرامل ومطلقات ولم تُشل حركتها – كما تزعم - ! لوجود الترابط الأسري عندنا – ولله الحمد - .(99/5)
ثالثًا : الندرة الباقية وأظنها لاتساوي 1% ! قد جعل الله لها فرجًا – إذا احتاجت واضطرت – باستقدام سائق وزوجته ( بالشروط السابقة ) ، وجعل لها فرجًا بما وفرته الدولة - وفقها الله للخير - من وسائل النقل ، فالتعليم العام والجامعي يتوفر له حافلات نقل مجانية . وجعل الله لها فرجًا بوجود النقل الجماعي أو سيارات " الليموزين " الموجودة بعدد الرمل ، والتي ما وجدت إلا لخدمة من يضطر ؛ من الرجال أو النساء . فلماذا التهويل يادكتور ؟! الغريب أن من يُطالب بهذه القيادة هم من الميسورين لا من الأسر السابقة !!
ثم قال ابن زلفة : ( 8- عدم رغبة بعض الأسر في استقدام سائق أجنبي, فيلقى العبء كله على كاهل رب الأسرة, مما يؤثر على عمله وعلى راحته مع توفر من يساعده من أهله ) .
والجواب :
أولا : أن يقال : سبحان الله ! هذا الرجل المتعب بالعبء بدلا من أن يريح نفسه وأهله بسائق يعينه ؛ يقوم بإلقاء العبء على أهله !! فأين حقوق المرأة المسكينة هنا ؟!
ثانيًا : لماذا جزمت بأن من لايرغب بالسائق يرغب بأن تسوق امرأته ؟! هذا من التناقض الذي يتنزه عنه العقلاء . لأن المعروف عند الناس كلهم أن الذين لايرغبون في السائق إنما رغبوا عنه بُعدًا عن مفسدته ؛ وهم من أشد الناس معارضة لما تدعو إليه ؛ لأنهم يعرفون مفاسده وضرره . فكيف تُقولهم ما لم يقولوا ؟!
ثم قال ابن زلفة : ( 9- يمكن وضع ضوابط وقيود على من تمنح لهن رخص القيادة من النساء مثل:
أ- ان يكون عمرها فوق 35 عاماً.
ب- ان تكون قيادتها للسيارة داخل المدينة ) .
والجواب :
أولا : هذا لايُسمى مبررًا ! فلماذا أقحمته في المبررات ؟! وهو مجرد اقتراح .
ثانيًا : هذا الاقتراح الوهمي يُضحك العقلاء؛ لأنهم يعلمون أن هذه الشروط مجرد خيال في خيال ! وإلا فهل يصدق العاقل أن أحدًا سيلتزم بهذه الشروط الخيالية لو فُتح هذا الباب ؟!(99/6)
وقد قيل مثل هذا في دول أخرى (كالكويت مثلاً) ، ثم لم يمر وقت قصير حتى نسوا هذه الضوابط والشروط وأصبحت في خبر كان ! والشر يبدأ صغيراً ثم لا يزال يكبر شيئاً فشيئاً ما لم يُحسم منذ البداية . ويشهد لهذا : أن تتخيل كيف سيُتأكد من تطبيق هذه الشروط ؟ هل يُوقف المرور كل امرأة ليسألها عن عمرها مثلا ؟ حدث العاقل بما يُعقل ..!
ثم قال ابن زلفة : ( 10- وضع قانون صارم لردع كل من يحاول التحرش بالنساء أثناء القيادة بأي شكل من أشكال التحرش.
11- وضع برامج تثقيفية تحث على احترام آداب المرور ونشرها على جميع المستويات على مدار أيام العام.
12- رفع نسبة تثقيف رجال المرور بمسؤولياتهم تجاه حماية كل مواطنة من أي أذى, وردع كل مؤذ ردعاً حازماً.
13- تكثيف رجال ودوريات رجال المرور خلال الفترة الأولى من السماح للمرأة بالقيادة. وكذلك رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنع أي متجاوز على حرية المرأة وسلامتها أو مضايقتها بأي شكل من أشكال المضايقة وتقديم يد العون والمساعدة لها حين طلبها لذلك ) .
والجواب :
أولا : هذه النقاط الأربع لا دخل لها في المبررات ! فلماذا أقحمتها فيها وهي مجرد اقتراحات ؟!
ثانيًا : أنت بهذه الاقتراحات الغريبة كمثل من يُشعل النار تلو النار ثم يقول لرجال الدفاع المدني : أطفؤوها ! وكونوا منتبهين متيقظين !!
بدلا من أن تُخفف الأعباء الملقاة على رجال الأمن – وفقهم الله – خاصة مع ما تمر به بلادنا من ظروف لا تخفاك ، تقوم – لأجل هوى فاسد - بتحميلهم عبءً فوق عبئهم . وأنت متكئ على أريكتك !
أسأل الله أن يهدي ابن زلفة ، وأن يجنبني وإياه والمسلمين أن نكون مفاتيح شر على بلادنا ؛ فيحق فينا قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلو نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار ) . ( رابط مهم ) .(99/7)
الفرق بين : زواج المسيار ..وزواج المتعة .. والزواج العرفي
وجدتُ بعض الناس يخلط بين " زواج المسيار " و " زواج المتعة " و " الزواج العُرفي " ؛ فأحببتُ تعريف هذه الزواجات الثلاث ، وبيان الفرق - باختصار وعلى نقاط - بينها . ناقلا من رسالة " زواج المسيار " للشيخ عبدالملك المطلق . و " الزواج العرفي في ميزان الإسلام " للأستاذ جمال بن محمود - وفقهما الله - .
التعريف :
1- زواج المسيار : هو: أن يعقد الرجل زواجه على امرأة عقدًا شرعيًا مستوفي الأركان . لكن المرأة تتنازل عن السكن والنفقة .
2- زواج المتعة : هو: أن يتزوج الرجل المرأة بشيئ من المال مدة معينة ، ينتهي النكاح بانتهائها من غير طلاق . وليس فيه وجوب نفقة ولا سُكنى . ولاتوارث يجري بينهما إن مات أحدهما قبل انتهاء مدة النكاح .
3- الزواج العُرفي : وهو نوعان :
أ - باطل ؛ وهو أن يكتب الرجل بينه وبين المرأة ورقة يُقر فيها أنها زوجته ، ويقوم اثنان بالشهادة عليها ، وتكون من نسختين ؛ واحدة للرجل وواحدة للمرأة ، ويعطيها شيئًا من المال ! وهذا النوع باطل ؛ لأنه يفتقد للولي ، ولقيامه على السرية وعدم الإعلان .
ب - شرعي ؛ وهو أن يكون كالزواج العادي ؛ لكنه لايُقيد رسميًا عند الجهات المختصة ! وبعض العلماء يُحرمه بسبب عدم تقييده عند الجهات المختصة ؛ لما يترتب عليه من مشاكل لاتخفى بسبب ذلك .
أوجه المشابهة بين الزواج العرفي – الموافق للشريعة - وزواج المسيار :
1- العقد في كلا الزواجين قد استكمل جميع الأركان والشروط المتفق عليها عند الفقهاء، والمتوفرة في النكاح الشرعي، من حيث الإيجاب والقبول والشهود والولي.
2- كلا الزواجين يترتب عليه إباحة الاستمتاع بين الزوجين، وإثبات النسب والتوارث بينهما، ويترتب عليهما من الحرمات ما يترتب على الزواج الشرعي.(100/1)
3- كلا الزواجين متشابهين في كثير من الأسباب التي أدت إلى ظهورهما بهذا الشكل، من غلاء المهور، وكثرة العوانس، والمطلقات، وعدم رغبة الزوجة الأولى في الزواج الثاني لزوجها، ورغبة الرجل في المتعة بأكثر من امرأة، وخوف الرجل على كيان أسرته الأولى... وغيرها.
4- كلا الزواجين يغلب عليهما السرية عن عائلة الزوج !
ويختلفان في النقاط التالية :
1- زواج المسيار يوثق في الدوائر الحكومية، ولكن الزواج العرفي لا يوثق أبداً.
2- في الزواج العرفي تترتب عليه جميع آثاره الشرعية بما فيها حق النفقة والمبيت، ولكن في زواج المسيار يُتفق على إسقاط حق النفقة والمبيت.
أوجه الفرق بين زواج المسيار وزواج المتعة:
1- المتعة مؤقتة بزمن، بخلاف المسيار، فهو غير مؤقت ولا تنفك عقدته إلا بالطلاق.
2- لا يترتب على المتعة أي أثر من آثار الزواج الشرعي، من وجوب نفقة وسكنى وطلاق وعدة وتوارث، اللهم إلا إثبات النسب، بخلاف المسيار الذي يترتب عليه كل الآثار السابقة، اللهم إلا عدم وجوب النفقة والسكنى والمبيت.
3- لا طلاق يلحق بالمرأة المتمتع بها، بل تقع الفرقة مباشرة بانقضاء المدة المتفق عليها، بخلاف المسيار.
4- أن الولي والشهود ليسوا شروطاً في زواج المتعة، بخلاف المسيار فإن الشهود والولي شرط في صحته .
5- أن للمتمتع في نكاح المتعة التمتع بأي عدد من النساء شاء، بخلاف المسيار ؛ فليس للرجل إلا التعدد المشروع ، وهو أربع نساء حتى ولو تزوجهن كلهن عن طريق المسيار.
فتوى في زواج المسيار :(100/2)
من الذين قالوا بالإباحة: سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز –رحمه الله- فحين سئل عن الرجل يتزوج بالثانية ، وتبقى المرأة عند والديها، ويذهب إليها زوجها في أوقات مختلفة تخضع لظروف كل منهما، أجاب رحمه الله : ( لا حرج في ذلك إذا استوفى العقد الشروط المعتبرة شرعاً، وهي وجود الولي ورضا الزوجين: وحضور شاهدين عدلين على إجراء العقد وسلامة الزوجين من الموانع، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". وقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم" فإن اتفق الزوجان على أن المرأة تبقى عند أهلها أو على أن القسْم يكون لها نهاراً لا ليلاً أو في أيام معينة أو ليالي معينة، فلا بأس بذلك بشرط إعلان النكاح وعدم إخفائه ) .
من خلال تأمل أقوال من أباح زواج المسيار من العلماء نجد أنهم استدلوا على رأيهم هذا بعدة أدلة من أهمها:
1- أن هذا الزواج مستكمل لجميع أركانه وشروطه، ففيه الإيجاب والقبول والتراضي بين الطرفين، والولي، والمهر، والشهود .
2- ثبت في السنة أن أم المؤمنين سودة – رضي الله عنها – وهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة. ( رواه البخاري ) .
ووجه الاستدلال من الحديث: أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها عندما وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها وقبول الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، دل على أن من حق الزوجة أن تُسقط حقها الذي جعله الشارع لها كالمبيت والنفقة، ولو لم يكن جائزاً لما قبل الرسول صلى الله عليه وسلم إسقاط سودة - رضي الله عنها - ليومها.(100/3)
3- أن في هذا النوع من النكاح مصالح كثيرة، فهو يُشبع غريزة الفطرة عند المرأة، وقد تُرزق منه بالولد، وهو بدون شك يقلل من العوانس اللاتي فاتهن قطار الزواج، وكذلك المطلقات والأرامل. ويعفُ كثيرًا من الرجال الذين لا يستطيعون تكاليف الزواج العادي المرهقة .(100/4)
فيلسوف القومية العربية ... ( ساطع الحصري ) .. !
هذه آخر دراسة مختصرة عن إحدى الشخصيات الشهيرة المؤثرة في تاريخ المسلمين أضيفت في موقع الكاشف ؛ وهي عن إمام القومية العربية في هذا العصر " ساطع الحصري " :
هو ساطع بن محمد هلال بن مصطفى الحصري " أبو خلدون " ، ولد في صنعاء من والدين حلبيين في 1297هـ الموافق 1880م ، تعلم في إسطنبول زمن الدولة العثمانية ، فتترك ثم تعرب ! وبقي ضعيفًا في العربية ! . لما انفصلت سوريا عن الحكم العثماني دعته حكومة الملك فيصل بن الحسين " القومية " ليُعين وزيرًا للمعارف ، ولما احتل الفرنسيون سوريا سافر إلى بغداد ليعمل مديرًا لدار الآثار ، ورئيسًا لكلية الحقوق ، ثم أجبر على مغادرة العراق سنة 1941م فعاد إلى سوريا مستشارًا في وزارة المعارف . ثم عهدت إليه جامعة الدول العربية إنشاء معهد الدراسات وإدارته . ألف أكثر من خمسين كتابًا ؛ معظمها في التنظير لفكرة القومية العربية ؛ حتى سمي " فيلسوفها " ، وقد صدرت مجموعة أعماله الكاملة في 3 مجلدات عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت عام 1985م . توفي الحصري عام 1968م .
يُنظر للمزيد عن ترجمته : " الأعلام " للزركلي ( 3/70 ) ، و " دعاة الفكر القومي العربي " لشاكر اليساوي ( ص 9-38) ، و " الجمعيات القومية العربية وموقفها من الإسلام " للدكتور خالد الدبيان ( 1/441-463) ، ومجلة " المستقبل العربي " ( العددان 244و248 مخصصان للحديث عنه ) ، و " ساطع الحصري وفلسفة القومية العربية " لمحمد ناجي عمايره ، ومقدمة أعماله الكاملة .
ويُنظر في الرد عليه وعلى فكرته " القومية الجاهلية " : رسالة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - " نقد القومية العربية " ، ورسالة " فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام " للشيخ صالح العبود ، ورسالة الدكتور الدبيان السابقة .(101/1)
يقول الأستاذ محمد فاروق الخالدي عن الحصري : ( كان من أبرز دعاة الفكر القومي العلماني الحديث ، ويعتبره القوميون فيلسوف القومية العربية . لقد كان الحصرى هو العقل المفكر لفتنة القومية التي لم يأت منها إلا أننا كنا أمة واحدة هي « أمة محمد صلى الله عليه وسلم » فصرنا جمعية أمم ، وكنا إخوة يجمعنا الحب في ظلال الإيمان ، فصرنا أعداء تفرقنا هذه الدعوة الجاهلية ..
وقد أفسد مناهج سوريا لما دعا بعد الاستقلال لإصلاحها ، إذ كان يُعتبر من السابقين والمربين العرب ، وإن عاش حياته الطويلة ومات وهو لا يحسن العربية لا نطقًا ولا كتابة ! كان من المشتغلين بالتربية من عام 1908م في تركيا ثم في الشام والعراق » (1) .
- لقد كان فكر الحصرى يمثل جاهلية جديدة ، باسم القومية العربية .
كان يستمد نظريته القومية من النظرية الألمانية ، التي تقول باللغة والتاريخ ، وكان من أكبر أساتذته « ماكس مولو » وماكس نوردو ، وهما فيلسوفان يهوديان ، كانا يقصدان من وراء نظريتيهما إحياء القومية اليهودية(2) .
- ومعلوم أن الحصرى قد ربي في تركيا ، وتلقى في شبابه التربية لدى جيل تركيا الفتاة ذات التوجه الطوراني اليهودي (3) .
- وكان الحصرى قد شغل مراكز هامة في وزارة التربية العثمانية ، وصار وزيرًا للتربية في حكومة الملك فيصل بن الحسين ، ثم عين وزيرًا للتربية في العراق .
- وكان الحصرى معروفًا بولائه للمبشرين ، ويرى أن الرابطة القومية أقوى وأعم من الرابطة الإسلامية ، وأن الوحدة الاسلامية باتت حلمًا وخيالاً .. وأن الدين طارئ على الأمة العربية ، وكان همه بعث أمجاد العرب قبل الإسلام ، بل كان يدعو إلى دراسة الحثيين والآشوريين والآراميين والبابليين والعبرانيين ، ويشرح أمجاد هذه الأمم البائدة « من خلال آثارها » تلك الأمم التي أهلكها الله بكفرها ، ويدعو إلى الفخر بتلك الوثنيات وآلهتها المتمثلة بعبقرية والاختراع (4) .(101/2)
- كان الحصرى لا يرى إقحام الدين في السياسة ! ويجب - عنده - أن تُفسر النصوص الشرعية وتنفذ حسب ظروف الزمان والمكان ، فالنصوص شيء ، والتفسير شيء آخر ، « وما كان يصلح للناس في القرن الأول لا يصلح لغيرهم في القرن الرابع عشر ، وما يناسبنا اليوم ، نحن معشر العرب ، هو أن نعلق هذه النصوص وغيرها » !! (5) . فالحصرى يدعو إلى علمانية متطرفة ، يشجب فيها خط القرآن ، خط الافتخار بحملة لواء العقيدة ، عقيدة الإيمان بالله تعالى ونبذ الأمم الكافرة المعادية لمنهج الله .. وهي نكسة إلى الجاهلية الأولى ..
- وقد نفذ الحصرى مفاهيمه هذه ، منذ أن استلم وزارة المعارف في عهد فيصل بن الحسين 1918م بدمشق ، وفي العراق طيلة عهد فيصل أيضًا .. وقد استطاع أن يعمم هذا الخط عن طريق الجامعة العربية ، وعمله من خلالها ومن الاتفاقيات الثقافية (6) .
- يعتبر فكر الحصري مرجعًا أساسيًا لدى القوميين العرب فيما بعد ، وتعتبر الحركات القومية الحديثة استمرارًا لهذا الفكر ، وتطبيقًا لهذا الانحراف ، طوال النصف الثاني من القرن العشرين ) اهـ " التيارات الفكرية والعقدية .. " ( ص 139- 141) .
- قلتُ : من أقوال الحصري الدالة على قيامه ببناء فكرته على غير هدى الإسلام ؛ قوله : ( الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية ، كما أن تأثيرها في تسيير السياسة لا يبقى متغلبًا على تأثير اللغة والتاريخ ) " آراء وأحاديث في الوطنية والقومية ، ص 41 " .
ومنها : قوله : ( أما الوحدة الإسلامية فمستحيلة التحقيق ؛ لأنها تضم قوميات مختلفة ) !! " مجلة الرسالة ؛ س 7 م 2 العدد 315 " .
وقوله : ( إن الرابطة الوطنية والقومية يجب أن تتقدم على الرابطة الدينية ) . " الأعمال الكاملة 2/74 " .(101/3)
ولذا قال عنه الأستاذ شاكر اليساوي : ( أما علاقة الدين بالقومية فقد كانت في فكر الحصري علمانية ؛ لأن القومية نفسها فكرة علمانية ) . " دعاة الفكر القومي ، ص 17 " . ويؤكد هذا أنه عندما قيل للحصري في إحدى الحفلات المقامة لتكريمه ! : ( مرحبًا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام ) رد : ( عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك ) ! أي علماني أو لاديني . " شخصيات اختلف فيها الرأي ؛ لأنور الجندي ، ص 74 " .
ـــــــــــــــ
(1) ذكريات علي الطنطاوي ، جـ1 ، ص65 – 66 ، دار المنارة للنشر ، جدة ، طبعة ثانية 1409هـ - 1989م .
(2) أخطاء المنهج الغربي الوافد : أنور الجندي ص206 ، دار الكتاب اللبناني عام 1974م .
(3) الفكر العربي في عصر النهضة : ألبرت حوراني ، ص371 ، دار النهار - بيروت ، ترجمة كريم عزقول .
(4) ينظر : الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام : منير محمد نجيب ، مكتبة المنار بالأردن ، ط : ثانية ، 1403هـ . ص9 - 29
(5) العروبة أولاً : ساطع الحصري، بيروت الطبعة الثانية ، 1955م ، ص106
(6) الحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام ، ص23 – 24 ، بتصرف وإيجاز .(101/4)
ماذا قال ابن باز فيما نشرته (الحياة) بالأمس؟ ومناشدة للأمير خالد بن سلطان
قالت جريدة الحياة في عددها بالأمس ( الأحد 19/5/1426) على لسان محررها :
( " المرأة ناقصة عقل ودين " مقولة يرددها المجتمع الذكوري دائمًا في مناسبات عدة للتعبير عن مواقفهم الصارمة حينًا والناقصة حينًا ، حتى أن كثرة تكرارها أصابت السعوديات فآمنّ بها أكثر من الرجال في أحايين كثيرة ، خصوصًا الأجيال السابقة ، لكن نتائج البنين والبنات في الثانوية العامة هذا العام كسرت حدة هذه المقولة إلى حد كبير ) !!
وقال الشيخ العلامة المجاهد بقلمه عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - :
( الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه: أما بعد: لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الدعوة في عددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 27 / 1 / 1397هـ تحت عنوان "صحيفة محلية تسخر من القرآن وأهله" ثم ذكرت تحت هذا العنوان ما نصه: وطلعت علينا الصحيفة المشار إليها - عكاظ - في عددها الصادر بتاريخ 7 / 4 / 1396هـ لتسخر من القرآن وأهله ولتقول ما نصه:
"والرجال يعتقدون أن المرأة كائن آخر, والمرأة في تعبيرهم ناقصة عقل ودين وهم يعتقدون أن الرجال قوامون على النساء". انتهى ما نقلته مجلة الدعوة.
ولقد دهشت لهذا المقال الشنيع واستغربت جدا صدور ذلك في مهبط الوحي وتحت سمع وبصر دولة إسلامية تُحَكِّم الشريعة الإسلامية وتدعو إليها، وعجبت كثيرا من جرأة القائمين على هذه الجريدة حتى نشروا
هذا المقال الذي هو غاية في الكفر والضلال والاستهزاء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهما، وليس هذا ببدع من القائمين على هذه الصحيفة، فقد عُرِفَت بنشر المقالات الداعية إلى الفساد والإلحاد والضرر العظيم على المجتمع, كما عُرِفَت بالحقد على علماء الإسلام والاستطالة في أعراضهم والكذب عليهم؛(102/1)
لأنه ليس لدى القائمين عليها وازع إيماني ولم تردع بوازع سلطاني؛ فلهذا أقدمت على ما أقدمت عليه من الكفر والضلال في هذا المقال الذي لا يقوله ولا ينشره من يؤمن بالله واليوم الآخر. ولا يقوله وينشره من يحترم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولمزيد التثبت والرغبة في الوقوف على أصل المقال ومعرفة من قاله، طلبتُ الصحيفة المذكورة المنشور فيها هذا المقال، فأحضرت لي، فألفيتها قد نشرت ما نقلته عنها مجلة الدعوة حرفيا ونسبت ذلك إلى ما سمت نفسها (أمل بنت فلان) ولم تعلق الصحيفة شيئا في إنكار هذا المقال فعلم بذلك رضاها به وموافقتها عليه. ومعلوم أن الذي جعل الرجال قوامين على النساء هو الله عز وجل في قوله تعالى في سورة النساء : ( الرجال قواموان على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) فالطعن في قوامة الرجال على النساء اعتراض على الله سبحانه وطعن في كتابه الكريم وفي شريعته الحكيمة وذلك كفر أكبر بإجماع علماء الإسلام كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض في كتابه (الشفاء) ، كما أن الذي وصف النساء بنقصان العقل والدين هو النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عليه الصلاة والسلام أن من نقصان عقلها أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد وذكر أن من نقص دينها أنها تمكث الليالي والأيام لا تصلي وتفطر في رمضان بسبب الحيض، وإن كان هذا النقصان ليس عليها فيه إثم، ولكنه نقصان ثابت معقول لا شك فيه ولا اعتراض على الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأنه أصدق الناس فيما يقول وأعلمهم بشرع الله وأحوال عباده.(102/2)
فالطاعن عليه في ذلك طاعن في نبوته ورسالته ومعترض على الله سبحانه في تشريعه وذلك كفر وضلال لا ينازع فيه أحد من أهل العلم والإيمان، والأدلة النقلية والعقلية والشواهد من الواقع ومن معرفة ما جَبَل الله عليه المرأة وميزها به عن الرجل، كل ذلك يؤيد ما أخبر الله به سبحانه من قوامة الرجال على النساء وفضلهم عليهن، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من نقصان عقل المرأة ودينها بالنسبة إلى الرجل.
ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كل فرد من أفراد الرجال أفضل ولا أعقل من كل فرد من أفراد النساء، وكم لله من امرأة أفضل وأعلم وأعقل من بعض الرجال، وإنما المراد تفضيل الجنس على الجنس وبيان أن هذا أكمل من هذا والأدلة القطعية شاهدة بذلك كما سبق.
وقد اتضح من كلام صاحبة المقال (أمل المذكورة) أنها أرادت من طعنها على قوامة الرجال على النساء ومن اعتراضها على نقصهن في العقل والدين أن ذلك يسبب انقسام المجتمع وعدم ترابطه وتعاونه وذلك يؤيد ما ذكرناه آنفا من كون المقصود بالمقال المذكور هو الطعن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتهامهما بأنهما سبب التخلف وانقسام المجتمع وعدم تعاونه.(102/3)
ولا شك أن هذا من أوضح الكذب وأبطل الباطل, وليس في اعتقاد ما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في قوامة الرجال على النساء ونقص عقول النساء ودينهن ما يوجب الضرر على المجتمع الإسلامي وانقسامه وعدم ترابطه وتعاونه، بل ذلك من تزيين الشيطان وإيحائه إلى أوليائه من الجهال والمشركين ومن سار في ركابهم، كما أنه لا يلزم من ذلك إهدار المرأة من حساب المجتمع, ولا إعفاؤها من المشاركة فيما يصلح المجتمع من النصيحة لله ولعباده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الحق, وغير ذلك من الأمور الواجبة على الجميع بل هي مأمورة بذلك ومفروض عليها القيام بما تستطيع في هذا السبيل كما قال الله عز وجل : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) ، وقال سبحانه ، ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورة أم سلمة يوم الحديبية وحصل بذلك نفع كبير, وقصة خديجة رضي الله عنها في بدء الوحي وما حصل بها من الخير والتفريج عن النبي صلى الله عليه وسلم معروفة لدى أهل العلم, والوقائع من هذا النوع في التاريخ الإسلامي كثيرة.
وإنه لعجب عظيم أن يجترئ أصحاب هذه الصحيفة على نشر هذا المقال مع انتسابهم للإسلام
وقبضهم المعونات السخية من دولة الإسلام لتشجيع صحيفتهم واستمرار صدورها. ولكن لا عجب في الحقيقة فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن مما أدرك من كلام النبوة إن لم تستح فاصنع ما شئت . وفي الأمثال السائرة المتداولة:(102/4)