مقاصد الشريعة الإسلامية
للأستاذ الدكتور
محمد مصطفى الزحيلي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقاصد الشريعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
تمهيد:
إن هذا البحث ذو أهمية بالغة لكل داعية إلى الله تعالى، وإننا سنتناول دراسته وبحثه إجمالاً بحسب المخطط التالي:
1 ـ تعريف المقاصد
2 ـ تحقيق مقاصد الشريعة بتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة.
3 ـ فائدة دراستها ومعرفتها.
4 ـ أقسام المصالح بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة.
5 ـ وسائل تحقيق المقاصد بالتشريع.
6 ـ ترتيب الأحكام بحسب المقاصد، ومعرفة الراجح منها عند التعارض.
أولا: تعريف المقاصد:
المقاصد لغة جمع مقصد، من قصد الشيء وقصد له وقصد إليه قصدًا من باب ضرب، بمعنى طلبه وأتى إليه واكتنزه وأثبته، والقصد والمقصد هو طلب الشيء أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء أو العدل فيه (1) .
ومقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان (2) .
ثانيا: تحديد مقاصد الشريعة:
__________
(1) انظر: القاموس المحيط 2/327، معجم مقاييس اللغة 5/95، المصباح المنير 2/692، مختار الصحاح ص536، تهذيب الأسماء اللغات 2/93.
(2) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ص13، الأصول العامة لوحدة الدين الحق ص61.(1/1)
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرم بني آدم في غاية التكريم، وفضلهم على سائر المخلوقات، وسخر لهم ما في الأرض وما في السموات، وجعلهم خلفاءه في الأرض، وفوق كل ذلك فن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يتركه سدًى، وإنما أرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب والشرائع، إلى أن ختم الله الرسل والأنبياء بسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وختم الكتب والشرائع بالقرآن العظيم وشريعة الإسلام، وتهدف هذه الشريعة إلى تحقيق السعادة للإنسان في هذه الدنيا لتحقيق خلافة الله في أرضه، فجاءت الشريعة لتأمين مصالح الإنسان، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه فترشده إلى الخير، وتهديه سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدى القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية، ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون له هاديًا ودليلاً لتحقيق هذه المقاصد والغايات، وأنزلت عليه الأصول والفروع لإيجاد هذه الأهداف، ثم لحفظها وصيانتها وتأمينها وعدم الاعتداء عليها.
وحدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل، ومصالح الناس في الدنيا هي كل ما فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر ودفع الفساد، إن عاجلاً أو آجلاً، ومصالح الناس في الآخرة هي الفوز برضاء الله تعالى في الجنة، والنجاة من عدابه وغضبه في النار، وقد وردت الأحكام الشرعية لجلب المصالح للناس، ودفع المفاسد عنهم. هذا وإن كل حكم شرعي إنما نزل لتأمين أحد المصالح أو دفع أحد المفاسد، أو لتحقيق الأمرين معًا، وما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وقد رعاها المشرع، وأوجد لها الأحكام التي تكفل إيجادها والحفاظ عليها، ويجب التنويه إلى أن المشرع الحكيم لم يترك مفسدة في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل إلا بيَّنها للناس وحذرهم منها، وأرشدهم إلى اجتنابها والبعد عنها.(1/2)
والدليل على ذلك الاستقراء الكامل للنصوص الشرعية من جهة، ولمصالح الناس من جهة ثانية، وأن الله تعالى لا يفعل الأشياء عبثًا في الخلق والإيجاد والتهذيب والتشريع، وأن النصوص الشرعية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات المالية والعقوبات وغيرها جاءت معللة بأنها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد (1) .
ـ فالعقيدة بمختلف أصولها وفروعها إنما جاءت لرعاية مصالح الإنسان في هدايته إلى الدين الحق، والإيمان الصحيح، مع تكريمه والسمو به عن مزالق الضلال والانحراف، وإنقاذه من العائد الباطلة والأهواء المختلفة والشهوات الحيوانية، فجاءت أحكام العقيدة لترسيخ الإيمان بالله تعالى واجتناب الطاغوت، ليسمو الإنسان بعقيدته وإيمانه، وينجو من الوقوع في شرك الوثنية، وتأليه المخلوقات من بقر وقرود، وشمس وقمر، ونجوم وشياطين، وغير ذلك.
قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } [البقرة: 256]
__________
(1) اختلف علماء الأصول في اعتبار الأحكام معللة أم لا، على قولين: فذهب الجمهور إلى أن جميع الأحكام الشرعية معللة بمصالح العباد، ولكن معظمها معلل بعلة ظاهرة، وبعضها معلل بعلة غير ظاهرة، وهي التي يسمونها (الأحكام التعبدية) أي الأحكام التي تعبّدنا الله تعالى بها، لتنفيذها وإرضاء الله تعالى بها، ولو لم تعرف لها علة وحكمة وسببًا، كأوقات الصلاة، وأعداد الركعات، ونصاب الزكاة، وقال بعض العلماء: إن الأحكام الشرعية كلها غير معللة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: "لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان، والأكثرون على التعليل" [منهاج السنة النبوية 2/239 مطبعة المدني] وانظر تحقيق هذا الموضوع مع مراجعه وأدلته في [شرح الكوكب المنير 1/312 وما بعدها، الموافقات 2/3، الأحكام للآمدي 2/252، 271، مقاصد الشريعة الإسلامية ص13، 20، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/5].(1/3)
وقال تعالى: { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى، فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب } [الزمر: 17 ـ 18]
وقال تعالى مبينًا الحكمة والغاية من خلق الإنسان: { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء ليبلوكم أحسن عملاً } [هود: 7]
وقال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [الذاريات: 56 ـ 57]
والعبادة هنا بمعناها العام الشامل لكل عمل قصد به وجه الله تعالى.
وبين تعالى أن الحكمة والغاية والهدف من ابتعاث الرسل هي تحقيق هذه المصلحة الكبرى للإنسان في عبادة الله واجتناب الطاغوت في الدنيا، والفوز برضاء الله في الجنة، وأن لا يبقى للإنسان حجة على الله تعالى بكفره وضلاله وانحرافه، قال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36]، وقال تعالى { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165].
وصرح القرآن الكريم بالحكمة والمصلحة في بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فقال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107]، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة وصريحة.
وبين تعالى أن الغاية والهدف من إنزال الكتب هي تحقيق مصالح الناس، بتحقيق السعادة لهم في الدنيا، والفوز والنجاة بالآخرة لإخراجهم من الظلمات إلى النور، فقال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، إلى صراط العزيز الحميد } [إبراهيم: 2](1/4)
وجمع الله تعالى في آية واحدة الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ليقوم الناس بالقسط الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ليقوم الناس بالقسط والعدل والاستقامة، فقال تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معه الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } [الحديد: 25]، ثم بيّن الله تعالى وظيفة القرآن بشكل عام وشامل، فقال تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابًا أليمًا } [الإسراء: 9 ـ 10]، وغير ذلك من بقية فروع العقيدة والإيمان.
ـ وفي مجال عبادات وردت نصوص كثيرة تبين أن الحكمة والغاية من العبادات إنما هي تحقيق مصلحة الإنسان، وأن الله تعالى غني عن العبادة والطاعة، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، فقال عز وجل عن الهدف من العبادة عامة: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } [البقرة: 21]، فالقصد من العبادة التزود بالتقوى للإنسان، وهو ما جاء مفصَّلاً في كل عبادة من العبادات؛ ففي الصوم قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } [البقرة: 183]، وفي الحج قال تعالى { الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولى الألباب } [البقرة: 197]، فالحج دورة تدريبية وتربوية للمسلم في التعود على الفضائل والأخلاق الكريمة، والعبد عن الفساد والرذائل، فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، وإنما يجب عليه التزود بالتقوى في مناسك الحج.
وقال تعالى عن الزكاة: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [التوبة: 103]، فالزكاة تزكية للمسلم وتطهير له، لتعود الفائدة الخالصة للمزكي.(1/5)
وقال تعالى عن الصلاة: { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [العنكبوت: 45]
وأكد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا" (1)
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله تعالى: "يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئًا" (2)
وفي المعاملات بيَّن تعالى الهدف والحكمة منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب المنافع لهم ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم، وإزالة الفساد والغش وغيره من معاملاتهم، قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه... } ثم قال تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم... } إلى قوله تعالى محددًا الهدف والغاية من ذلك { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } [البقرة: 282]، وقال تعالى في النهي عن أكل المال بالباطل، وأنه ظلم وإثم وطغيان ومفسدة: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } [البقرة: 187].
وبيَّن تعالى الحكمة والهدف والمقصد من تحريم الخمر، فقال تعالى: { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله والصلاة فهل أنتم منتهون } [المائدة: 91]
__________
(1) رواه الطبراني عن ابن عباس بإسناد ضعيف، ورواه علي بن معبد من حديث الحسن مرسلاً بإسناد صحيح [انظر: فيض القدير 6/621].
(2) رواه مسلم والحاكم وابن حبان وأبو عوانة عن أبي ذر مرفوعًا. [انظر: الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية ص41].(1/6)
وبيَّن عز وجل الحكمة والغاية من مشروعية القصاص وأنها لتأمين الحياة البشرية، وحفظ النفس والأرواح، فقال تعالى: { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } [البقرة: 179]، وأكد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "حدٌّ يُعملُ به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطَروا أربعين صباحًا" (1) .
وبيَّن تعالى أنه لا يهدف من التكليف الإرهاق، بل الهدف من الأحكام رفع الحرج والمشقة عن الناس، فقال تعالى: { لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها } [البقرة: 286]، وقال تعالى: { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } [البقرة: 282] { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } [البقرة: 282].
وهكذا يثبت قطعًا أن الله تعالى شرع الأحكام لمقاصد، وأن المقاصد منها كلية، ومنها جزئية، وأن العلماء بينوا طرق معرفة المقاصد الكلية والجزئية (2) .
ثالثا: الفائدة من معرفة مقاصد الشريعة:
إن معرفة مقاصد الشريعة لها أهمية عظيمة، وفوائد كثيرة بالنسبة للطالب والفقيه والباحث والعالم والمجتهد.
أما فائدتها بالنسبة للطالب فتحدد بما يلي:
__________
(1) رواه النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعًا. [انظر سنن النسائي 8/68، سنن النسائي 2/848].
(2) انظر: الموافقات 2/289، مقاصد الشريعة الإسلامية ص22، شرح الكوكب المنير 1/314.(1/7)
1 ـ أن يعرف الطالب الإطار العام للشريعة، ويكون عنده التصور الكامل للإسلام، ويحصل عنده الصورة الشاملة لتعاليمه، لتتكون لديه النظرة الكلية الإجمالية لأحكامه وفروعه، وبالتالي يدرك الطالب المكان الطبيعي لكل مقرر دراسي، ولكل مادة علمية، ويعرف موقعها الحقيقي في ذلك، ومن ثم تتحدد لديه بشكل عام ما يدخل في الشريعة وما يخرج منها، فكل ما يحقق مصالح الناس في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة فهو من الشريعة، ومطلوب من المسلم، وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر، والاضطراب والمشقة فليس من الشريعة، بل هو منهي عنه، وهذا يساعده على وضع اللبنات في أماكنها ويقيم المواد على قواعدها (1)
2 ـ إن دراسة مقاصد الشريعة تعين الطالب في الدراسة المقارنة على ترجيح القول الذي يحقق مقاصد الشريعة ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد.
__________
(1) يقول العلامة ابن القيم: (إن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصدقها) [إعلام الموقعين 3/14].(1/8)
3 ـ إن بيان مقاصد الشريعة يبرز للطالب الهدف الذي سيدعو الناس إليه بعد التخرج، وأن دعوته تهدف إلى تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم، وأنها ترشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق لهم السعادة في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة، وأن مهمة الأنبياء والرسل كانت تهدف إلى تحقيق هذه المقاصد، والعلماء ورثة الأنبياء في الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، وتسعى للخير والبر والفضيلة، وتحذر من الفساد والإثم والرذيلة والشر، ولذلك كانت وظائف الأنبياء أنبل الأعمال، وأشرف الأمور، وأسمى الغايات، وأقدس المهمات، ومن سار على طريقهم لحق بهم، ونال أجرهم.
أما أهمية معرفة مقاصد الشريعة بالنسبة للعالم والفقيه، والباحث والمجتهد فتظهر في الفوائد التالية:
1 ـ الاستنارة بها في معرفة الأحكام الشرعية الكلية والجزئية من أدلتها الأصلية والكلية.
2 ـ الاستعانة بمقاصد الشريعة في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع.
3 ـ الاسترشاد بمقاصد الشريعة عند تحديد مدلولات الألفاظ ومعانيها، لتعيين المعنى المقصود منها، لأن الألفاظ والعبارات قد تتعدد معانيها، وتختلف مدلولاتها، كما سبق بيانه في أسباب اختلاف الفقهاء ـ فتأتي المقاصد لتحديد المعنى المقصود منها.
4 ـ الرجوع إلى مقاصد الشريعة عند فقدان النص على المسائل والوقائع الجديدة فيرجع المجتهد والفقيه والقاضي إلى مقاصد الشريعة لاستنباط الأحكام بالاجتهاد والقياس والاستحسان والاستصلاح وغيرها بما يتفق مع روح الدين ومقاصد الشريعة وأحكامها الأساسية.
5 ـ إن مقاصد الشريعة تعين المجتهد والقاضي والفقيه على الترجيح عند تعارض الأدلة الكلية أو الجزئية في الفروع والأحكام، وكثيرًا ما يكون التعارض ظاهريًا بين الأدلة ويحتاج الباحث إلى معرفة الراجح للتوفيق بينها، أو معرفة الوسائل للترجيح، وأن طرق الترجيح في الفقه وأصول الفقه كثيرة، ومنها الترجيح بالمقاصد الشريعة.(1/9)
وهذه الفوائد تحتم على الباحث والعالم والفقيه والمجتهد أن يضع مقاصد الشريعة نصب عينيه لتضيء له الطريق، وتصحح له المسار، وتعينه على الوصول إلى الحق والعدل، والصواب والسداد.
وقد لمس رجال التشريع هذه الأهمية والفوائد، ولجأت السلطات التشريعية في الدول المعاصرة إلى وضع المذكرات التفسيرية للقانون أو للنظام، لتبين للناس عامة المقصد الخاص لكل مادة، ليستطيع شراح القانون والقضاة والمحامون من حسن فهم القانون، وحسن تطبيقه وتنفيذه بما يتفق مع روح التشريع والمقصد الذي وضع من أجله.
كما تطلب معظم الأنظمة في العالم من القضاة أن يحكموا بمبادئ العدالة وبما يتفق مع المبادئ العامة عندما يفقدون النص في النظام على أمر ما.
كما أن فقهاء الشريعة الإسلامية اتفقوا على أن تصرفات الإمام (الحاكم) منوطة بالمصلحة، أي: إن جميع تصرفات الحكام مرتبة بتحقيق مصالح الناس، فإن خرجت من المصلحة إلى المفسدة كانت باطلة، ويتعرض أصحابها إلى المسؤولية في الدنيا والآخرة (1) .
رابعًا: تقسيم المقاصد بحسب المصالح:
__________
(1) يقول العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (وليس كل مكلف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة، لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم...ثم يقول: وحق العالم فهم المقاصد، والعلماء في ذلك متفاوتون على قدر القرائح والفهوم). [مقاصد الشريعة الإسلامية ص18]، وانظر علم أصول الفقه، للمرحوم خلاف ص18، مقاصد الشريعة الإسلامية ص15 وما بعدها.(1/10)
قلنا: إن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس، ولكن مصالح الناس ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هي على مستويات مختلفة، ودرجات متعددة، فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته، وبعضها يأتي في الدرجة الثانية ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وتساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات، وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجيات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس وتحقيق الكماليات لهم (1) .
1 ـ المصالح الضرورية:
وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمّت فيهم الفوضى وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار.
وتنحصر مصالح الناس الضرورية في خمسة أشياء، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، أو النسب، والمال (2) ، وقد جاءت الشريعة الغراء لحفظ هذه المصالح الأساسية، وإن مقاصد الشريعة الأساسية مرتبة بها وهي:
1 ـ حفظ الدين 2 ـ حفظ النفس 3 ـ حفظ العقل 4 ـ حفظ العرض أو النسب 5 ـ حفظ المال، وقد اتفقت الشرائع السماوية على مراعاة هذه الأصول الأساسية والمصالح الضرورية للناس.
قال حجة الإسلام الغزالي: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتصمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يُفوِّتُ هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" (3)
2 ـ المصالح الحاجية:
__________
(1) انظر: قواعد الأحكام 1/29 وما بعدها، 42 وما بعدها.
(2) انظر: المستصفى 1/286، علم أصول الفقه، خلاف ص199، الموافقات 2/4، الأصول العامة ص60،61.
(3) انظر: المستصفى 1/287.(1/11)
وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هذه الأمور لا يختل نظام حياتهم ولا يتهدد وجودهم، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجية للناس لترفع عنهم الحرج، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية، وتأديتها والحفاظ عليها، عن طريق (الحاجيات) (1) .
3 ـ المصالح النفسية:
وهي الأمور التي تتطلبها المروءة والآداب، ويحتاج إليها الناس لتيسير شؤون الحياة على أحسن وجه وأكمل أسلوب، وأقوم منهج، وإذا فقدت هذه الأمور فلا تختل شؤون الحياة، ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها.
وهذه الأمور التحسينية ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق الفاضلة والأذواق الرفيعة، وتكمل المصالح الضرورية والمصالح الحاجية على أرفع مستوى وأحسن حال (2) .
وجاءت الشريعة الإسلامية لتأمين هذه المصالح جميعًا، بأن نصت على كل منها، وبيّنت أهميتها وخطورتها ومكانتها في تحقيق السعادة للإنسان، ثم شرعت الأحكام لتحقيقها، كما سنفصله في الفقرة التالية:
خامسًا: الوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد:
يدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل بأن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح، وأنه ما من حكم شرعي إلا قصد به تحقيق أحد هذه المصالح أو أكثر، بحيث يكفل التشريع جميع المصالح بأقسامها الثلاثة:
وكان منهج التشريع لرعاية هذه المصالح عن طريقين أساسيين:
أ ـ الأحكام الشرعية التي تؤمن إيجاد هذه المصالح وتكوينها.
__________
(1) انظر: المستصفى 1/289.
(2) انظر: الموافقات 2/6، علم أصول الفقه، خلاف ص200، المستصفى 1/290.(1/12)
ب ـ الأحكام الشرعية لحفظ هذه المصالح وصيانتها ورعايتها ومنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، أو ضمانها والتعويض عنها (1) .
ونريد أن نفصل الكلام عن كل قسم مع بيان الأدلة لذلك وضرب الأمثلة لكل منها، بما يؤكد مقاصد الشريعة في حفظ هذه المصالح.
1 ـ حفظ المصالح الضرورية:
وردت أحكام كثيرة جدا تدعو لتأمين المصالح الضرورية للناس وتسعى لإيجادها على خير وجه وأفضل طريقة، ثم تكفل حفظها ورعايتها:
ـ فالدين مصلحة ضرورية للناس، لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بمجتمعه، وقد شرع الإسلام أحكامًا كثيرة لتنظيم هذه العلاقة كلها، فبين أحكام العقيدة والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره، وشرع أركان الإسلام الخمسة وهي: الشهادتان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام، وشرع أنواع العبادات وكيفيتها لتنمية الدين في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإيجاده في الحياة والمجتمع ونشره في أرجاء المعمورة، وأوجب الدعوة إليه لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
__________
(1) انظر: الموافقات 2/5، علم أصول الفقه، خلاف ص201، الأصول العامة ص65.(1/13)
ثم شرع الجهاد لحفظه ورعايته وعدم الاعتداء عليه، ومنع الفتنة في الدين، قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } وشرع عقوبة المرتد عن دينه، وبيّن عقوبة المبتدع والمنحرف عن دينه، وطلب الأخذ على يد تارك الصلاة ومانع الزكاة والمفطر في رمضان والمنكر لما علم من الدين بالضرورة .. وغير ذلك لإبعاد الناس عن الخبط في العقائد، وحفظهم من مفاسد الشرك، وإنقاذهم من وساوس شياطين الإنس والجن، وعدم الوقوع في الضلال والانحراف، وحتى لا يرسف العقل في عبادة الأحجار والأصنام، أو الأبقار والقرود والحيوان، أو الشمس والقمر والنجوم، أو تأليه الأشخاص وعبادة البشر، ولينقذ البشرية من طقوس العبادات المزيفة، والترانيم المخيفة، والاعتقادات الباطلة (1) .
ـ والنفس هي ذات الإنسان، وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين، وفي الحفظ والرعاية كما سبق بيانه.
وشرع الإسلام لإيجادها وتكوينها التزاوج والتوالد والتناسل لضمان البقاء الإنساني، وتأمين الوجود البشري، واستمرار النوع السليم على أكمل وجه وأفضله وأحسنه، ثم حرم الزنا، وبقية أنواع الأنكحة الفاسدة الباطلة.
وشرع الإسلام لحفظ النفس وحمايتها وعدم الاعتداء عليها وجوب تناول الطعام والشراب واللباس والمسكن، وأوجب القصاص والديّة والكفارة (2) .
ـ والعقل أسمى شيء في الإنسان، وأبرز ميزة وصفة تميزه عن الحيوان، وهو أعظم منحة من رب العالمين للإنسان ليرشده إلى الخير ويبعده عن الشر، ويكون معه مرشدًا ومعينًا.
__________
(1) انظر: المستصفى 1/287، الموافقات 2/5.
(2) انظر: علم أصول الفقه، خلاف ص201، الأصول العامة ص130، الموافقات 2/5، قواعد الأحكام 2/5، المستصفى 1/287.(1/14)
وإن وجود العقل جزء من إيجاد النفس، وأحكامها أحكامه، ولكن الحفاظ عليه يختلف عنها، ويختص بوسائل خاصة، فشرع الإسلام أحكامًا للحفاظ على العقل، فدعا إلى الصحة الكاملة للجسم، لتأمين العقل الكامل، فالعقل السليم في الجسم السليم، وحرم الإسلام الخمر وجميع المسكرات التي تزيل العقل، وتلغي وجوده، وتؤثر عليه، وشرع الإسلام حد الخمر لمن يتناول هذه المشروبات النجسة الضارة، لأن الحفاظ على العقل مصلحة ضرورية للإنسان، وإلا فقد أعز ما يملك (1) .
ـ والعِرض فرع عن النفس الإنسانية، وهو ما يمدح به الإنسان ويذم، وهو أحد الصفات الأساسية المعنوية للإنسان، والتي تميزه عن الحيوان، والقصد منه حفظ النسل والنسب بأرقى الوسائل، وأشرف الطرق، ويعبر عنه العلماء بحفظ النسب أو النسل، وإن وجود النسل والنسب فرع عن وجود النفس الإنسانية التي شرع الله لوجودها الزواج ويتأكد وجود النسل والنسب بأحكام الأسرة، وإن الحفاظ على العرض مقصود بذاته من جهة، وهو وسيلة لحفظ النسل والذرية من جهة أخرى، حتى لا تختلط الأنساب، وتضيع الذرية، ويتشرد الأطفال.
وقد شرع الإسلام للحفاظ على العرض، إقامة حد القذف على القاذف الذي يعتدي أدبيًا على العرض (2) .
ـ والمال شقيق الروح كما يقولون، وهو ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره، وهو الوسيلة الأساسية التي تساعد الناس على تأمين العيش وتبادل المنافع والاستفادة من جوانب الحياة الكثيرة، وما سخره الله تعالى لفنسان في هذا الكون، ولذلك كان المال مصلحة ضرورية للناس، وإلا صارت حياتهم فوضى وبدائية وهمجية.
وقد شرع الإسلام لإيجاده وتحصيله السعي في مناكب الأرض والكسب المشروع والمعاملات الشرعية التي تكفل الحصول عليه وتوفيره للمسلم.
__________
(1) انظر: الأصول العامة ص136، والمراجع السابقة.
(2) انظر: الأصول العامة ص149، والمراجع السابقة.(1/15)
وشرع الإسلام لحفظه وحمايته ومنع الاعتداء عليه أحكامًا كثيرة، فحرم السرقة، وأقام الحد على السارق، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، ةاعتبر العقد عليها باطلاً، ومنع إتلاف أموال الآخرين وشرع الضمان، والتعويض على المتلف والمعتدي (1) .
وهكذا نلاحظ أن الإسلام شرع لكل مصلحة ضرورية للناس أحكامًا تكفُلُ إيجادها وتكوينها، وأحكامًا ترعى حفظها وصيانتها، لؤمن لهم مصالحها الضرورية، ويكفل لهم حفظها وبقاءها واستمرارها، ثم أباح الله تعالى المحظورات إذا تعرضت المصالح الضرورية للخطر والتهديد.
2 ـ حفظ المصالح الحاجية:
شرع الله تعالى أحكامًا لا حصر لها لرعاية المصالح الحاجية للناس، فشرع الرخص في العبادات والعقيدة لرفع الحرج والمشقة عن الناس للتخفيف عنهم، فأباح الفطر في رمضان، وشرع قصر الصلاة وجمعها للمسافر والحاج، وأجاز الصلاة قاعدًا ومستلقيًا وعلى جنب للعاجز، وأباح التيمم والمسح على الجبيرة والمسح على الخفين للمعذور، وشرع البيوع والشركات والإجارة لتأمين التعامل الصحيح بين الناس، وإرشادهم إلى القواعد السليمة والأسس العادلة في التبادل والأخذ والعطاء لتأمين حاجيات الناس، وجلب النفع لهم ودفع الضرر والظلم والغش عنهم.
ثم رخص تعالى في بعض العقود التي لا تنطبق عليها الأسس العامة في العقود، فشرع السَّلم وهو بيع المعدوم، وأجاز الاستصناع والمزارعة والمساقاة لرفع الحرج عن الناس في التعامل، كما شرع الطلاق كدواء لأمراض الزوجية المستعصية، وهو أبغض الحلال إلى الله، وأحل الله الصيد.
وفي العقوبات فرض الدية على العاقلة في القتل الخطأ تخفيفًا على القاتل، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورغب ولي المقتول بالعفو عن القصاص والإحسان إلى الجاني (2)
__________
(1) انظر: الأصول العامة ص149، والمراجع السابقة.
(2) انظر: الموافقات 2/5، علم أصول الفقه، خلاف ص202، قواعد الأحكام 2/8، المستصفى 1/289.(1/16)
وقد وردت النصوص الشرعية صريحة واضحة لتأكيد هذه المعاني، وبيان الحكم من مشروعية الأحكام التي تحقق المصالح الحاجية للناس وترفع الحرج عنهم، فقال تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا } (1) ، وقال تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج } (2) ، وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (3)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عن مشروعية قصر الصلاة: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (4)
3 ـ حفظ المصالح التحسينية:
شرع الله أحكامًا كثيرة لتأمين الأمور التحسينية للناس، وتحقيق مصالحهم فيها، بما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق في مختلف فروع الشريعة، لتؤدى مصالح الناس على أكمل وجه وأحسنه.
فشرع الله في العبادات أحكامًا متنوعة لتكون العبادة على أقوم السبل كالطهارة في الجسم والثوب والمكان، وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والتطوع بالصلاة والصيام والصدقة.
وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والاحتكار، وحرم الإسراف والتقتير في الإنفاق، ونهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، ونهى عن بيع النجاسات.
وفي الجهاد حرم قتل النساء والصبيان والرهبان، ومنع قطع الأشجار، ونهى عن الغدر والتمثيل بالقتلى، وطلب الإحسان في معاملة الأسرى.
وفي العقوبات والقصاص فرض المماثلة والإحسان في القتل، وجعل حق الدم لأولياء القتيل، ولكن عن طريق القضاء والسلطان.
ثم أفاض الإسلام في رعاية الأخلاق العامة، والآداب الراقية، والفضائل السامية (5) .
__________
(1) سورة النساء: [الآية: 28].
(2) سورة المائدة: [الآية: 6].
(3) سورة البقرة: [الآية: 185].
(4) رواه الإمام مسلم وأصحاب السنن عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا (انظر فيض القدير 4/191).
(5) انظر: الموافقات 2/6، علم أصول الفقه، خلاف ص204، المستصفى 1/290.(1/17)
وصرح الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (1) .
4 ـ الأحكام المتممة والمكملة لحفظ المصالح:
اقتضت الحكمة الإلهية أن تضع أحكامًا تشريعية إضافية مكملة للأحكام التي شرعت لحفظ كل نوع من أقسام المصالح، وقد شرعت هذه الأحكام المكملة لتحقيق مقاصد الشريعة على أكمل وجه وأتمه وأحسنه، ولتكون أمانًا احتياطيًا، وسياجًا واقيًا للحفاظ على مصالح الناس، دون أن تتعرض لخدش أو نقص أو خطر.
فشرع الإسلام الصلاة لحفظ الدين، وشره للصلاة أحكامًا تكميلية كالأذان لإعلانها، وصلاة الجماعة في المسجد، وخطبة الجمعة والعيدين لتعليم الناس أمور دينهم.
وشرع القصاص لحفظ النفوس، وشرع لإكماله التماثل في النفس والعضو والجروح، وحرم الزنا لحفظ العرض وشرع لإكماله تحريم الخلوة ومنع النظر إلى الأجنبية، وحرم الإسلام الخمر لحفظ العقل، وشرع لإكماله تحريم القليل منه ولو لم يسكر، لأنه يريد أن يسد منافذ الشيطان بشكل يقيني حاسم، كما طلب الشارع التورع عن الشبهات والمحرمات، وأن لا يحوم المسلم حول الحمى حتى لا يقع فيه، وشرع الإشهاد في المعاملات، واشترط الكفاءة في الزواج، وأوجب النفقة الزوجية، وطلب حسن المعاشرة لتأمين السعادة الكاملة في الأسرة.
وشرع الإسلام لتكميل الحاجيات الشروط في العقود، ونهى عن الغرر والجهالة وكل ما يؤدي إلى التخاصم والاختلاف، لتتم مصالح الناس الحاجية دون أن تؤدي إلى الخصومات والخلافات والأحقاد والأضغان بين الأفراد.
__________
(1) رواه الإمام مالك وأحمد عن أبي هريرة بلاغًا (أي إن أبا هريرة لم يسمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة بل بلغه الحديث من صحابي آخر) ومرفوعًا. (انظر الموطأ ص564، مسند أحمد 2/281) .(1/18)
وفي التحسينات بَيَّنَ الشارع شروط الطهارة، والإحسان بالتعامل، والتحلي السامي بمكارم الأخلاق، وأن يترفع المسلم عن المعاملة بالمثل، كما طلب الشارع الإنفاق من الطيب الحلال، وأن يحسن المسلم [اختيار] الأضحية والعقيقة ليقدمها بين يديه يوم القيامة (1) .
ونبادر إلى التنبيه إلى أن هذا التقسيم للأحكام بحسب مقاصد الشريعة ومصالح الناس لا يعني أن الأحكام الضرورية فرض وواجب وأن الأحكام الحاجية مندوبة وسنة، وأن الأحكام التحسينية مباحة، وإنما شرعت الأحكام لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وفي كل قسم منها فرائض ومندوبات ومباحات.
سادسًا: ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقاصد:
تبين لنا من النظر العقلي والواقع الملموس أن مصالح الناس مندرجة ومرتبة بحسب أهميتها ومكانتها في الحياة الإنسانية، وجاءت الأحكام الشرعية مطابقة لذلك، فجاءت على درجات مختلفة بحسب مصالح الناس، ويأتي ترتيبها بحسب أهميتها، فأهمها الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح الضرورية، لأنه يترتب على تركها وضياعها الاختلال في نظام الحياة، ثم تأتي الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح الحاجية، لأنه يترتب على عدم الأخذ بها وقوع الناس في الضيق والحرج، والشدة والمشقة والعسر، ثم تأتي الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح التحسينية، وأخيرًا تأتي الأحكام المكملة لكل نوع من الأنواع السابقة.
__________
(1) انظر: الموافقات 2/6.(1/19)
ويظهر من ذلك أيضا أن الأحكام الحاجية هي كالتتمة والتكملة والصيانة للمصالح الضرورية وأحكامها، وأن التحسينات مكملة للحاجيات والضروريات التي هي أصل المصالح كلها، وهي مقصودة الشارع الأصلي، فشرع لها الأحكام الأصلية، ثم صانها ورعاها وحفظها ببقية الأحكام، وينتج عن ذلك أنه إذا تعرضت المصالح الضرورية أو إحداها للخلل لأدى ذلك قطعًا إلى اختلال المصالح الحاجية والتحسينية، وإذا اختل حكم حاجي أو تحسيني فإنه يؤثر بطريق غير مباشر على المصالح الضرورية بوجه من الوجوه، وينذرها بالخطر، لذلك تجب المحافظة على المقاصد الحاجية والمقاصد التحسينية حتى لا تتعرض المصالح الضرورية للخلل، ولأن (في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه) (1)
وإذا تعارض حكمان من الأحكام الشرعية، فيقدم الأهم فالأهم، وقد وضع العلماء قواعد للترجيح في ذلك، منها:
__________
(1) الموافقات 2/13، وانظر: المرجع نفسه 2/9، 10. ويقول العز بن عبد السلام: (طلب الشرع لتحصيل أعلى الطاعات كطلبه لتحصيل أدناها في الحد والحقيقة، كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع أدناها، إذ لا تفاوت بين طلب وطلب) قواعد الأحكام 1/22.(1/20)
1 ـ تقدم الأحكام المشروعة للمصالح الضرورية على الأحكام المشروعة للمصالح الحاجية والتحسينية، فالصلاة المفروضة لحفظ الدين مقدمة على البيع والشراء والمعاملات المشروعة لحفظ المصالح الحاجية، ومقدمة على النوافل والذكر وتلاوة القرآن، والمؤمن يترك البيع والشراء في بعض الأوقات لأداء العبادات المفروضة من صلاة وصيام وحج حتى لا تفوت عليه هذه العبادات، لأن حفظ الدين ضروري وأهم من ممارسة المعاملات وحفظ الحاجيات، وإذا مرض إنسان فإنه يباح له أن يكشف عورته على الطبيب للمعالجة وأخذ الدواء، ويرخص له أن يفطر في رمضان، ولأن حفظ النفس أهم من ستر العورة، قال تعالى في آية الصيام: { فمن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (1) .
وأنه لا يصح الأخذ بحكم حاجي أو تحسيني إذا كان في تطبيقه مساس أو تأثير على حكم ضروري، فلا يصح البيع والشراء إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، لأن ذلك يؤدي إلى هدم أمر ضروري، وهو إقامة الدين وتأدية شعائره في الخطبة وصلاة الجمعة.
وإذا تعارض حكم مشروع لتحقيق الحاجيات مع حكم مشروع لتحقيق التحسينات فإنه يقدم الأول، فمن التحسينات النهي عن بيع المعدوم والنهي عن الجهالة في البيع، ولكن الشارع أباح ذلك في السَّلَم والاستصناع لرفعه الحرج والمشقة عن الناس.
__________
(1) سورة البقرة: [الآية: 185].(1/21)
2 ـ إن المصلحة العامة في كل قسم من أقسام المصالح تقدم على المصلحة الخاصة فيه، فالمصلحة العامة في أحد الضروريات تقدم على المصلحة الخاصة في الضروريات، كما لو تترس الكفار وراء أسرى المسلمين [...]، وكما يجوز الإقدام على القتل والقتال في المعركة للحفاظ على حياض المسلمين والدفاع عن أرواحهم، والمصلحة العامة في الحاجيات تقدم على المصلحة الخاصة فيها، فيحرم الاحتكار لأن فيه ضررًا بمصلحة حاجية عامة، والمصلحة العامة في التحسينات تقدم على المصلحة الخاصة فيها، ولذلك ورد النهي عن التطويل في الصلاة، وأن من أمّ في الناس فليخفف، والمصلحة العامة مثلاً في الجهاد لحفظ الدين مقدمة قطعًا، على المصلحة الخاصة في حفظ النفس والمال، ولذلك شرع الجهاد في سبيل الله، لإقامة الدين والحفاظ عليه، مع ما فيه من تعريض النفس للقتل والمال للهلاك والخطر (1)
والمصلحة العامة في الضروريات كلها تقدم بالأولى على المصلحة الخاصة في الحاجيات والتحسينيات؛ فالجهاد مقدم على المعاملات وإقامة النوافل.
3 ـ إن الأحكام لرعاية المصالح الضرورية نفسها على درجات فبعضها أهم من بعض، فيجب مراعاة الأهم فالمهم، فحفظ الدين أهم من حفظ النفس، فشرع الجهاد بالنفس والمال للحفاظ على الدين، وحفظ النفس أهم من حفظ العقل، فإذا تعرضت النفس للهلاك فيرخص شرب الخمر، وتباح المحظورات عند الضرورة التي تهدد الإنسان على إتلاف نفسه أو عضو منه، مما يطول شرحه وتفصيله.
الخاتمة
ونختم هذه الفقرة بسرد أهم القواعد الفقهية التي وضعها العلماء لترجيح أحد الأحكام والمصالح على بعض، وهي:
1 ـ الضرورات تبيح المحظورات.
2 ـ يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
3 ـ يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما.
4 ـ يختار أهون الشرين.
5 ـ المشقة تجلب التيسير.
6 ـ الحرج مرفوع شرعًا.
7 ـ الحاجات [العامة] تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات.
__________
(1) انظر: المستصفى 1/294 وما بعدها.(1/22)
8 ـ الضرر يزال شرعًا.
9 ـ الضرر لا يزال بالضرر.
10 ـ دفع المضارّ مقدم على حلب المنافع.
11 ـ درء المفاسد أو لى من جلب المصالح.
ونكتفي بهذا العرض الموجز لمقاصد الشريعة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي
أهم مراجع البحث
1 ـ الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية للعلامة المحدث عبد الرؤوف المناوي ت(1031هـ) طبع إدارة الطباعة المنيرية.
2 ـ الأصول العامة لوحدة الدين الحق، للدكتور وهبة الزحيلي ـ نشر المكتبة العباسية بدمشق ـ الطبعة الأولى / 1972م.
3 ـ شرح الكوكب المنير للعلامة ابن النجار الفتوحي (ت972هـ) نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث بكلية الشريعة بمكة المكرمة.
4 ـ علم أصول الفقه، للمرحوم عبد الوهاب خلاف ـ الطبعة الثامنة 1382هـ /1968م.
5 ـ القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز أبادي (ت817هـ) طبعة المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.
6 ـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام (660هـ) طبع دار الشرق للطباعة 1388هـ/1968م.
7 ـ المصباح المنير للعلامة أحمد بن محمد الفيومي (770هـ) الطبعة السادسة بالمطبعة الأميرية بالقاهرة 1926هـ.
8 ـ معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس (ت395هـ)، طبع دار الفكر، 1399هـ/ 1979م.
9 ـ مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ـ نشر الشركة التونسية للتوزيع.
10 ـ الموافقات في أصول الأحكام للإمام المحدث أبي إسحاق الشاطبي (790هـ) ـ مطبعة المدني بالقاهرة.(1/23)