(1) ... الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين :
مما قال الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة. لما ارتد أهل حريملاء فسئل الشيخ أن يكتب كلاما ينفعه الله به: فقال رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم (2)
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد :
فلا يخفى أن الله جل وعلا قد أمر بتوحيده طوعا أو كرها ، وما خلق الله جل وعلا الجن والإنس إلا ليعبدوه كما قال الله سبحانه و تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، فعبادة الله جل وعلا على خلقه حتم ولازم ، ليس لأحد أن يخرج عن عبودية الله سبحانه وتعالى ، والناس مأمورون بذلك طوعا أو كرها ، ولذلك روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس في قول الله عز وجل (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) قال : ليطيعوني طوعا أو كرها .
فالناس مأمورون بعبادة الله سبحانه وتعالى إما طواعية عن انقياد في الظاهر والباطن ، أو عن انقياد في الظاهر فحسب ، وذلك بالتطويع ، ولذلك شرع الله سبحانه وتعالى مجادلة أعداء الله سبحانه وتعالى ليخضعوا لأمر الله جل وعلا .
ولذلك كان توحيد الله بهذه المنزلة العظيمة ، والمكانة الرفيعة ، حيث اتفق أنبياء الله جل وعلا على ذلك ، فالله سبحانه وتعالى قد بعث الرسل وأنزل الكتب لعباد الله عز وجل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور ... ليوحدوا الله جل وعلا ، و لذلك كانت دعوة سائر الأنبياء هو توحيد الله سبحانه وتعالى .
__________
(1) هذه المادة قد احتواها أربعة أشرطة حسب ما سُجِّل حال الدرس .
(2) اعلم بأن المتن لم أفرغه من كلام القارئ ، وإنما وضعته من مكان آخر .(1/1)
وهذا الكتاب لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله ( مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ) من أنفس ما كتب في بابه ، وهو بيان لمنزلة التوحيد ، وبيان لخطر ضده وهو الإشراك بالله سبحانه وتعالى ، وإن كان المصنف قد قصد نازلة بعينها ، إلا أن النصوص عامة ، والمخاطب في هذا سائر الناس ، فقد جمع فيه من الأدلة والنصوص من الكتاب والسنة ما يكفي لبيان الحق .
ومعلوم أن الناس في هذه الأرض إما مسلمون وإما كفار لا يوجد غيرهم ، ولكن قد يكون هناك من الكفار مَنْهُم كفارٌ اسما لكنهم لا يكفرون حكماً ، فمن تلبَّس بشيء من أفعال الكفر وإن كان معذورا في باطنه ، إلا أنه يكون قد شابه الكفار في أفعالهم فيكون قد كفر ، وإن لم تبلغه البينة والحجة، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) ، فسماه الله جل وعلا مشركا قبل أن يسمع كلام الله ، وذلك لمشابهته في الظاهر لأعمال الكفار ، إلا أنه في الباطن أمره إلى الله جل وعلا ، وهذا يمسى عند العلماء في باب : ( باب الأسماء والأحكام ) ، فهو قد شابه الكفار في الظاهر فاستحق الاسم في الظاهر أيضا ، ومن جهة الأحكام فأمره إلى الله سبحانه وتعالى ، والأحكام تتعلق بالدنيا والآخرة ، ومعلوم أن الأسماء لها تعلق كذلك بالأمرين في الدنيا والآخرة ، ولذلك من تلبَّس بشيء من أعمال الكفر في الظاهر فإنه يكفر اسما لكنه لا يكفر حكما حتى تقام عليه البينة ، ولذلك حكم الله جل وعلا بكفر وإشراك من تشبه بالكفار فعلا وإن كان معذور ، ولذلك قال الله جل وعلا : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) فسماه مشركا قبل أن يسمع كلام الله ، وكذلك في الآيات في أوائل سورة البينة ، فالله جل وعلا قد حكم بكفرهم وإشراكهم ( من أهل الكتاب والمشركين حتى تأتيهم البينة ) فهم لم تأتيهم البينة بعد ، وقد حكم الله جل وعلا بكفرهم .(1/2)
ولذلك جعل الله عز وجل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لسائر الشرائع ، ولذلك يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .
والمراد بالإسلام : هو الاستسلام والانقياد والمتابعة والتسليم لله سبحانه وتعالى ، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
والملل الإسلامية والشرائع الإسلامية هي ما كانت على ملة إبراهيم ، فمن كان على ما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام وما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام من غير تحريف فهؤلاء مسلمون قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم استحق هؤلاء الخروج من الإسلام لعدم متابعتهم له ، وذلك من وجهين :(1/3)
1- أولا : لعدم المتابعة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما رواه البخاري من حديث أبو هريرة : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) ، وأمر الله جل وعلا بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام وقرن طاعتَه بطاعتِه ، وقارن عصيانَه بعصيانِه، ولذلك قال الله جل وعلا عن رسوله عليه الصلاة والسلام : ( وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى ) ولذلك روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا أدخله الله النار ) ، وهذا إذا كان في حق أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهو في حق غيرهم من باب أولى ، ومن لم يؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتَّبِعه فهو كافر خارج عن ملة الإسلام من وجوه ، سواء كان أهل الكتاب أو من غيرهم من الملل التي ابتدعها الخلق كالبوذية والهندوسية وغيرها ، أو الصابئة على قول أنهم ليسوا بأصحاب كتاب ، وذلك لمخالفتهم - وهذا هو الوجه الأول - لما جاء عن رسول الله صلى عليه وسلم ، وعدم اتباعهم له ، ولذلك الإسلام ينحصر هنا بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال الله جل وعلا : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) ، مع أن الإسلام يطلق في الحقيقة على ما جاء به سائر الأنبياء ، لأنه يتضمن تسليما وانقيادا واستسلاما لما جاء الله جل وعلا به على لسان أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، لكن لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ما قبله ، فاستحق التابعَ لما قبله المخالفة بمخالفته لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/4)
2- الأمر الثاني: أنه قد ثبت في النصوص من الكتاب والسنة التحريف لما قبل رسول صلى الله عليه وسلم من شرائع من اليهودية والنصرانية ، وحرَّف اليهود والنصارى ما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى في التوراة و الإنجيل .
وقد يتعلق بعض الصابئة والخارجون عن الإسلام وأهل الأهواء ببعض الآي الذي جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى ، الذي يُعد من المحكمات وليس هو من المتشابهات ، وكذلك لتعلقهم بأصل من أصول الإسلام ، وتعلق كثير من أهل الأهواء كالعلمانية واللبرالية وغيرهم بقول الله عز وجل : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) قالوا : فاليهود والنصارى إن آمنوا بالله جل وعلا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فهم مؤمنون بالله سبحانه وتعالى ، فهم كالمسلمين مستحقون للنجاة . وهذا غاية الضلال :(1/5)
1- فالله جل وعلا في قوله سبحانه وتعالى هنا : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) ، فقوله هنا : ( إن الذين آمنوا ) أي : آمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وحمله بعض المفسرين كما رواه ابن جرير الطبري عن مجاهد بن جبر وكذلك عن السدي ، قالوا : المراد بذلك من آمن بما كان عليه أهل الشرائع السابقة من غير تحريف . قال : (والذين هادوا والنصارى والصابئين ) قالوا : ما كانوا على شيء مما سبق من الملل المحرفة ، فإن عادوا إلى الله سبحانه وتعالى وآمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم حينئذ يكونون من أهل الإيمان : (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) يوم القيامة ، فحينئذ يستحقون الأمن من الفزع يوم القيامة ، وهكذا الذي حمله عليه سائر المفسرين ، فقد رُوي ذلك عن مجاهد بن جبر والسدي ، وقد أورد ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم من حديث معاوية بن صالح عن حديث أبي طلحة عن عبد الله بن عباس في هذه الآية قال : أن الله جل وعلا كتب لليهود والنصارى إن ماتوا على ما هم عليه ، ونسخه بقوله سبحانه وتعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) والاتفاق عند السلف والخلف وسائر المفسرين أن قول الله جل وعلا : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا .... ) إلى آخر الآية ونظيرها من الآيات أن المراد بها أن من كان على تلك الشريعة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك أن الله جل وعلا يتقبَّل منه عمله إذا كان على غير تحريف ، وهذا نظير ما جاء في الإسلام كما روى البخاري ومسلم من حديث البراء عليه رضوان الله تعالى قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وصلى بصلاته أناس ثم قتلوا ، ثم أمر الله جل وعلا رسوله بأن يتوجه إلى بيته ، قال: فوجلنا ، فأنزل الله عز وجل ( وما كان الله ليضيع إيمانكم) والمراد بذلك : صلاتكم عند البيت .(1/6)
ومعلوم أن الإنسان إذا تعبَّد لله عز وجل بعمل قد نُسِخَ قبل نسخه فإنه مأجور ومثاب عند ذلك ، ولكنه إن تعبَّد بعمل قد نُسِخَ بعد نسخه فإنه قد ارتكب أمرا محرَّما ويكون التحريم على حسب ما جاء في الشرع ، فإن تعبد بشيء ينقاض الإسلام كفر بالله سبحانه وتعالى ، وذلك لمخالفته وتقديمه لما جاء في شريعة الله سبحانه وتعالى من النصوص في الكتاب والسنة .
ومن خرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كفر بالاتفاق ، ولا خلاف في ذلك عند السلف والخلف ، و هو كافر بتواتر النصوص من الكتاب والسنة والإجماع ، ومن شكَّك في كفر من لم يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر ولا خلاف في ذلك ، اطرادا لقاعدة معروفة عند الأئمة : أن من لم يكفِّر الكافر - والمراد بذلك الكافر الخالص من غير شبهة - فهو كافر بالله سبحانه وتعالى ، لتكذيبه النصوص التي وردت في كلام الله سبحانه وتعالى ، وقد حكم الله جل وعلا بكفر اليهود والنصارى والصابئين .
2- وكذلك من الوجوه في هذه الآية : أن الله جل وعلا قرن الصابئين باليهود والنصارى، ومعلوم أن الصابئة ليسوا بأهل كتاب ، وهذا مروي عن الحسن البصري وعامر بن شراحيل الشعبي ومجاهد بن جبر والسدي والضحاك وغيرهم ، وقالوا أنهم كانوا يعبدون الأفلاك والنجوم ، وقيل أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ، إذاً ... فهم مشركون وليسوا بأصحاب كتاب سماوي ، فلِمَ قرنهم الله جل وعلا باليهود والنصارى ، وحكم بنجاتهم ، وأنهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون .(1/7)
والمعنى الأشهر ، وهذا الذي قد ثبت عن غير واحد من السلف كمجاهد بن جبر والسدي ... وغيرهم ، أن قول الله جل وعلا : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) أي قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فماتوا على ماهم عليه ، وكانوا على اتباع الحق من غير تحريف ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقد روى هذا ابن جرير الطبري في تفسيره من حديث ابن جريج عن مجاهد بن جبر ، وذكر فيه قصة سلمان الفارسي لما علم من أهل الكتاب الذين ماتوا على ما هو عليه من غير تحريف أرادوا بذلك تعبُّدا لله سبحانه وتعالى .
ولذلك أمر الله جل وعلا بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وأخبر أن من خرج عن طاعة نبيه فقد كفر بالله سبحانه وتعالى ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالته عامة للناس ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، فمن خرج عن ملته وخرج عن شريعته كفر بالله سبحانه وتعالى ، ومن لم يكفِّره فهوا كافر ، وذلك لأنه قد سوَّغ لأحد من الناس أن يخرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا لاريب في أنه كفر باتفاق أئمة الإسلام .
ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خاطب أئمة الكفر وملوك الكفر كهرقل وقيصر والمقوقس وغيرهم بأن يدخلوا بلاد الإسلام ولذلك معاذ إلى اليمن كما روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذ إلى اليمن ، فقال: ( إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) والمراد ( أن يوحدوا الله ) أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بتوحيده .
وهو الذي أشار إليه المصنف عليه رحمة الله تعالى في رسالته هنا وفي عنوانها بقوله : ( مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ) ، والتوحيد هو توحيد الله سبحانه وتعالى : وحَّد يوحِّد توحيدا .(1/8)
وهو بهذا التركيب جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي النفس من الأحديث الذي جاء بهذا اللفظ نظر ، فقد روى الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في مسنده من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مئة من الإبل ، فجاء ابنه هشام بن العاص فنحر خمسون ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ، قال: ( لو أقر أبوك بالتوحيد ، وتصدقت ودعوت نفعه ذلك ) قال: ( بالتوحيد ) .
وهذا اللفظ فيما يظهر أنه لم يثبت عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه ربما جاء على لسان بعض الصحابة بالرواية بالمعنى مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك في حديث بعث معاذ إلى اليمن كما روى البخاري ومسلم من حديث يحيى بن عبد الله بن صيفي - وهو في البخاري في كتاب التوحيد - عن أبي معبد عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن ، فقال : ( إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله ) ومعلوم أن الفظ الأشهر في هذا ... قال : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) ، فاختصرها هنا وقال : أن يوحدوا الله .
والمراد بتوحيد الله سبحانه وتعالى إفراد الله جل وعلا بعبادته ، بالألوهية والربوبية وبالأسماء والصفات .
وقد جاءت الدلالة على هذه الأنواع من التوحيد في كتاب الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة ، وقد جمعها الله جل وعلا في قوله سبحانه وتعالى : ( رب السماوات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ) ، وسائر هذه الأنواع من التوحيد قد كفر بها الخلق ، إلا أن جملة الخلق مقرُّون بالإجمال بربوبية الله سبحانه وتعالى .(1/9)
وقد اشتهر عند بعض طلبة العلم أن الله جل وعلا بربوبيته موحَّدا عند سائر المشركين ومنهم كفار قريش ، ومعلوم أن كفار قريش قد وقعوا في الإشراك بربوبية الله سبحانه وتعالى ، كما وقعوا في شيء من الإشراك بالألوهية لله سبحانه وتعالى ، وكذلك في الأسماء والصفات ، فوقعوا في الإشراك في الأسماء والصفات ، وكذلك في الألوهية ، وكذلك في الربوبية :
1- ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام مسلم عليه رحمة الله : ( قال الله جل وعلا : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب ...) وهذا من الإشراك بربوبية الله سبحانه وتعالى ، ويدخل في هذا باب الطيرة وهو التشاؤم ، وتعليق التمائم وغيرها مما يظن العبد أنها بنفسها تضر وتنفع من دون الله سبحانه وتعالى ، فهذا شرك في ربوبية الله سبحانه وتعالى قد وُجد عند الجاهليين ، إلا أنهم بالجملة مُقِرُّون بربوبية الله سبحانه وتعالى ، ولذلك إشراكهم بربوبية الله جل وعلا ليس في كل حين .
2- وكذلك عند إشراكهم في الألوهية : فإنهم يشركون الله سبحانه وتعالى في السراء ، ولا يشركونه في الضراء، وقد وقع منهم الإشراك في الألوهية ، لذلك أنكر عليهم صلى الله عليه وسلم ذلك .
3- ووقع منهم كذلك الإشراك في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته ، فأنكروا صفة الرحمن ، ولذلك قال الله جل وعلا في كتابه العظيم : ( قل ادعوا الله أو أدعوا الرحمن أيما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) ، فأنكروا صفة الرحمة واسم الرحمن لله سبحانه وتعالى ، فأخبر الله جل وعلا أن هذه كلها أسماء وصفات لله سبحانه وتعالى .(1/10)
وأمر الله جل وعلا بتوحيده بسائر أنواع التوحيد بقوله : ( رب السماوات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ) . ولا يُعلم إنكار سائر الصفات في شريعة الله عز وجل إلا لما جاء الجعد بن درهم ونفى سائر الصفات لله سبحانه وتعالى وكذلك سائر أسمائه ، ومن عبد إلها بلا أسماء ولا صفات فهو يعبد عدما كما هو متقرر .
وابتدأ المصنف عليه رحمة الله تعالى رسالته هذه بالتسمية اقتداء بكتاب الله سبحانه وتعالى ، وكذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكاتبته إلى الأئمة ، وكذلك إلى عُمَّاله كما روى البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله .... ) ، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره : ( كل أمر ذي بال لا يُبتدأ فيه بحمد الله ... ) فهو حديث منكر ، قد أنكره الأئمة كالإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى والدراقطني وغيرهم ، وقد صنف فيه بعض المعاصرين رسالة ومال إلى تحسينه وما هو بحسن ، ووهم الإمام الذهبي عليه رحمة الله تعالى وكذلك السيوطي والزيلعي بعزوه إلى السنن وليس هو في السنن بلفظ (البسملة) ، وإنما هو فيها بلفظ (الحمدلة) عند ابن ماجه عليه رحمة الله تعالى في سننه .
و ( بسم الله ) تضمنت سائر أنواع التوحيد الثلاثة : ألوهية الله عز وجل وربوبيته والأسماء والصفات ، فقوله: ( بسم الله ) فهذه استعانة ، يستعين بالله عز وجل ، وهذا توحيد للربوبية .
و( الله ) مشتق من: (ألَّه) وهو :
1- التعلق والحب لله سبحانه وتعالى ، ولذلك يقول رؤبة - شاعر جاهلي - :
لله درُّ الغالياتِ المُدَّهي سبَّحنا واسترجعنا من تألُّهِ
2- وحمله بعضهم على اشتقاق معنى آخر، بمعنى ( ألَهَ ) أي ارتفع ، ولذلك يقول الشاعر :
تروَّحْنَا من الدَّهْنَاء عصرًا وأعجبني الإلهت أن تغيب(1/11)
ولذلك تسمي العرب الشمس ( آلِهه ) لارتفاعها ، لا لأنها معبودة من دون الله سبحانه وتعالى .
3- وقال بعضهم أنها من ( الالتجاء ) ، فالله جل وعلا قد اشتق اسما علما لذاته سبحانه وتعالى من التجاء المخلوقين ، ولذلك يقول الشاعر:
ألِهتُ إليكم في أمورٌ تنُوبُنِي فأنْبَيْتُكُم منها كراماً أمَاجِلا
4- وقال بعضهم أن الله جل وعلا باق لا تغيره الحوادث ، فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ، ليس له ابتداء ولا انتهاء ، ولذلك هذا المعنى قد وجد في أشعار العرب ، ولذلك يقول الشاعر:
أجارِي ألِهْنَا بِدَارٍ لا تَبِينُ رُسُومُها كأن بقاياها وِسامٌ على اليد
أي أنها باقية لم تتغير .
ولعل اشتقاقها ... كلمة ( الله ) ... لفظ الجلالة لله عز وجل مشتق من هذه المعاني كلها ، وذلك لتعظيم هذا اللفظ وتعظيم معانيه ، إلا أن الأشهر الذي عليه جمهور العلماء عليهم رحمة الله تعالى أنه مشتق من ( ألَه ) ، وعليه يُحمل ما جاء في قول رؤبة :
لله در الغاليات المُدَّهي سبحنا واسترجعنا من تأله
وقال بعضهم أن المراد بذلك أن الله عز وجل قد احتجب عن سائر عباده ، فلا يُرى إلا في الآخرة ، ولذلك يقول الشاعر :
لاهت ( يعني تلك المرأة ) ...
لاهَتْ فما عُرِفَتْ يوماَ بِخَارِجَةٍ يا ليْتَهَا بَرَزَتْ حتى رأيْنَاهَا
وابتداء المصنف عليه رحمة الله تعالى بالبسملة اقتداء بكتاب الله عز وجل ، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك لما تتضمن هذه الكلمة من توحيد الله سبحانه وتعالى بأنواعه كلها ، فهي تتضمن توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .
فبسم الله : طلب استعانة من الله سبحانه وتعالى فيما يستقبله المرء ، وكذلك (الله) تتضمن توحيد الربوبية وكذلك توحيد الألوهية ، والرحمن الرحيم يتضمن اسماً لله عز وجل ، ومن الاسم تشتق صفات الله سبحانه وتعالى ... نعم :(1/12)
روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة , وأنهم ليسوا على شيء , وهم يعبدون الأوثان , قال : فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله مستخفياً جرأ عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له , وما أنت ؟ . قال : ( أنا نبي ) ! . قلت : وما نبي ؟ قال : ( أرسلني الله ) ! . فقلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : ( أرسلني بصلة الأرحام , وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ) ! . فقلت له : ومن معك على هذا ؟ . قال : ( حر وعبد ) ! . قال : ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه ، فقلت : إني متبعك . قال : ( إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا , ألا ترى حالي وحال الناس , ولكن ارجع إلى أهلك , فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني ) . قال : فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله المدينة وكنت في أهلي ، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة , حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة , فقلت : ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا الناس إليه سراع ! وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك , فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : ( نعم ! أنت الذي لقيتني بمكة ) . قال : قلت بلى ، فقلت : يا نبي الله علمني مما علمك الله وأجهله , أخبرني عن الصلاة . قال : ( صلِ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس , وحتى ترتفع , فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان , وحينئذ يسجد لها الكفار , ثم صلِ فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح , ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم , فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر , ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ) وذكر الحديث.(1/13)
المشركون في الجاهلية - كما تقدم - قد أشركوا في سائر أنواع التوحيد الثلاثة ، وجاءت النصوص في هذا في كلام الله سبحانه وتعالى بذكر بحالهم ، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1- فشركهم في ربوبية الله : كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه : ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب ) إشارة إلى كفرهم ، ويدخل في هذا ما جاء من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن الطيرة والتولة والتمائم وغيرها مما يعتقده الجاهليون أنها تنفع وتضر استقلالا من دون الله سبحانه وتعالى .
2- وأما شركهم في ألوهية الله سبحانه وتعالى : فإنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى زلفى ، مع أنهم يعلمون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق ، ولذلك أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم معترفون أنه الخالق لهم ، وأنه خالق السماوات والأرض ، ومنزل الماء من السماء ، ولذلك من أعظم الحجج على هؤلاء هو إيمانهم بأن الله عز وجل فرد في ربوبيته ، فإذا كان كذلك فهو مستحق للعبادة وحده .
3- وكذلك قد أشركوا في باب الأسماء و الصفات : كما أنكروا صفة الرحمن لله سبحانه وتعالى .
إلا أن ظاهر شركهم بالجملة هو في توحيد الألوهية ، فهم قد عبدوا من دون الله عز وجل أوثانا وأصنام .
والأوثان والأصنام قيل أنهما بمعنى واحد ، وفرَّق بينهما بعض السلف كمجاهد بن جبر كما روى ابن جرير الطبري في تفسيره من حديث ابن أبي نَجِيحٍ عن مجاهد قال : الأصنام ما كان على صورة ، والأوثان ما لم يكن كذلك . والذي عليه عامة المفسرين وتعضده سائر النصوص أن الأوثان والأصنام بمعنى واحد ، فإذا قيل صنم ووثن فقد يكون على صورة وقد يكون ليس على صورة .(1/14)
ولذلك بعث الله عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام لمشركي قريش ليخرجهم من الظلمات إلى النور ... ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ... ليوحدوا الله سبحانه وتعالى ، ويفردوه في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، فكان أعظم حجة احتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء إيمانهم أن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر ، ولذلك يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) فهم يؤمنون بأن الله عز وجل هو الخالق للسماء والأرض ، ولأنفسهم كذلك ، فهو المحيي المميت ، فإذا كان الله عز وجل كذلك فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له .
وفي هذا الحديث دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض فروع الإسلام من مكارم الأخلاق ، ومنها: صلة الأرحام ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم ينفرد بالدعوة إلى التوحيد فقط ، وإنما دعا لبعض الفروع ، ولكنها ليست هي بأكثر أمره أو جُلِّه ، وإنما جُلُّ أمره هو توحيد الله سبحانه وتعالى ، ولذلك سائر العبادة إنما شرعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر بعثته وبعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، وذلك لتمكن الإسلام .(1/15)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قَبِل من عمرو إيمانه ، ولكنه لم يقبل منه اتباعه بجسده ، وذلك أنه قد قامت عليه الحجة لعلمه بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا علم أن ما قابله رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب عليه اتباعه ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأن يتبعه بجسده ، وإنما يؤمن بقلبه ويأتيه بعد ذلك بجسده إن رآه قد مكَّن الله سبحانه وتعالى له ، فمكَّن الله جل وعلا لرسوله عليه الصلاة والسلام فتبعه بعد ذلك ، و إلا لا يُقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرجئ إيمانه إلى أن يمكن الله له ، فهو على يقين بتمكين الله سبحانه وتعالى له ، وإنما بعد أن علم بإيمانه به ويقين قلبه بذلك أمره باتباعه بجسده خشية عليه ، وهذا فيه دلالة على مشروعية الإيمان في السر عند الاضطرار والحاجة إليه ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره مع أنه لم يكن معه إلا حرٌ وعبد : أبو بكر وبلال عليهما رضوان الله تعالى ، وذلك لمصلحة رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما روى مسلم : ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار ) والمراد بالسماع هنا : هل هو سماع باسمه عليه الصلاة والسلام أن ثمة رجل اسمه محمد ونحو ذلك ... هل هو كافر أم لا ؟(1/16)
لابد من السماع على الحقيقة ، أن يكون يسمع بمحمد وحقيقة ما جاء به ، أي أنه يكون نبي ، وعليه فمن سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه رجل قائد ، أو أنه رجل مفكر ، أو كاتب ونحو ذلك ، أو مؤسس ونحو ذلك ، أو رجل سياسي ، فإن هذا لم يسمع بمحمد ولا يأتي عليه هذا الخطب ، وإنما لا بد من السماع على الحقيقة ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ) المراد بالسماع : هنا أي أنه نبي أرسل ، وهذا كافي ، فإذا وصل إلى أحد من الناس ولم يؤمن ويتبع محمد صلى الله عليه وسلم حُكِم عليه بالكفر .
وذلك أنه معلوم بالضرورة من النصوص الشرعية وكذلك بالعقل أن من سمع بشيء قد وُجد لأجله ولم يتبعه فإنه هالك وعلى غواية ، ومحاسب ومعاقب على فعله ، فالله جل وعلا قد خلق الخلق لعبادته كما قال الله جل وعلا : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) إذا كان كذلك ونجاة الإنسان في هذه الدنيا عبادة الله سبحانه وتعالى فسمع إنسان بنجاته ووجودها في هذه الأرض ، وسمع بها على الحقيقة ولم يتبعها ، فإنه كافر حينئذ بعدم اتباعه .
ونظير ذلك من جهة العقل لو أن إنساناً يعلم أن حياته وبقائه في هذه الأرض متعلق بوجود طعام أو سقيا من شراب ونحو ذلك ، فذُكِر له طعام في مكان ما من غير تكذيب فسمع به وهو فاقد للطعام والشراب ، فإن لم يذهب - وإن لم يكن هذا الخبر على يقين - فإن فعله ذلك حتى يموت موطن جريمة وعتاب عليه ، لأنه فرط في حياته ، ولذلك الرجل الظمآن يتبع السراب يظنه ماء ، وذلك لحرصه على الحياة ، مع أنه يغلب على ظنه أنه سرابا وليس بماء ، لأنه إن قصر عن اتباعه كان قاتلا لنفسه ، مؤثر للموت على الحياة ، فاستحق حينئذ القبح والذم لفعله ذلك ، كذلك إذا علم الإنسان أن سعادته في الدنيا والآخرة مرتبطة بعبودية الله سبحانه وتعالى للحق ، وسمع بإنزال كتاب ، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يؤمن به إلا كفر وأدخله الله جل وعلا النار .(1/17)
والمراد بالسماع هو السماع الحقيقي على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه ، وكان السماع حقيقيا ، فيقال : لا يخلو :
1- إذا كان هذا الرجل قد تعذَّر عليه اتباعه ، وتعذَّر عليه الوصول إلى مزيد من تشريعه مما جاء به ، فإنه معذور .
2- وأما إذا كان لم يسع إليه ، فلا يخلو هذه من حالين :
أ- الحالة الأولى : أن يكون هذا الرجل من المحال أن يصل إلى ما شرع به محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله الله جل وعلا عليه ، فيقال : أن هذا لا يخلو من حالين كذلك :
1- إما أن يكون عالما بقدرته .
2- أو ليس بعالم .
إذا كان عالما فهو معذور ، وإذا كان ليس بعالم فعلى خلاف عند العلماء .
ب- وأما من ترك اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قدرته فهو كافر خارج عن ملة الإسلام .
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم الحجة على الناس ويفقههم في دين الله سبحانه وتعالى ، علما أن الجهل ليس بعذر لمن جهل شريعة الله سبحانه وتعالى ، فمن بقي ويظن الإنسان أنه جاهل فلِم يُنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ويأمرهم بتوحيد الله سبحانه وتعالى ، ولو كان كل جاهل معذور لكان الجهل خير من العلم ، فلِم يُعلَّم الناس الأحكام الشرعية ، ولم يُعلَّم الناس توحيد الله سبحانه وتعالى ، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله ونذره مبشرين ومنذرين للناس ، ولم يبعث معاذا وعليا وأبا موسى في الآفاق ، لينذروا الناس ويدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ، وذلك أن الجاهل ليس بمعذور في أصول الإسلام والكليات الاعتقادية إذا سمع بحمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا سمع بمحمد وجب عليه اتباعه ، فإن أهمل في ذلك فإنه استحق العقوبة .(1/18)
فإن كان ما ترك تعلمه مما يناقض إسلامه كفر ، وإن كان ما لا يُناقض إسلامه ، كأن يكون ترك شيئا من شرائع الإسلام الظاهرة ، فإنه حينئذ يستحق العقوبة ولا يكفر ... بحسب ما ترك من شعائر الإسلام الظاهرة .
ولذلك أمَرَ الله عز وجل بتفقيه الناس ، وتعليمهم ، ودعوتهم إلى الحق ، وذلك أنه ليس كل جاهل معذور ، مع أن العذر قائم .
والله جل وعلا لا يعذب أحدا حتى يبعث رسولا كما قال الله جل وعلا في كتابه العظيم : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وهنا جعل استحقاق العذاب مقيد بقيام الحجة وبعث الرسل ، لكنه ما ألحق الأسماء ، فاستحق الاسم لمن وقع في شيء من الكفر وشابه الكفار في فعله ، فاستحق التكفير في ظاهر فعله كما قال الله جل وعلا : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) وفي الآية الأخرى قال : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) فنفى العذاب ، لكنه في الآية الأولى ما نفى الاسم ، فالاسم واقع عليه ، لأنه كافر ، لأنه لا يوجد في الأرض إلا مسلمون وكفار ... موحدون أو مشركون بالله سبحانه وتعالى .(1/19)
والمؤمن لا يمكن مؤمنا كامل إلا بتوفر سائر شعب الإيمان بخلاف الكفر ، فإنه يكون كافرا خالصا بتوفر شعبة من شعب الكفر المكفرة التي تخرجه من ملة الإسلام ، وهذا من الفروق بين شعب الإيمان وشعب الكفر من جهة النظر بالإجمال ، فالرجل لا يمكن أن يكون مؤمنا كامل الإيمان إلا بتوفر سائر شعب الإيمان فيه ، والكافر يكون كافرا بتوفر شعبة واحدة من شعب الكفر الأكبر ، وهذا فيه رد على ما يذهب إليه غلاة المرجئة الذين يقولون لابد من توفر أكثر شعب الكفر على المرء حتى يكون كافرا ، وهذا قد ذهب إليه غلاة المرجئة من الاتحادية والحلوية والجهمية وغيرهم وكذلك غلاة المعتزلة ، فالمؤمن يكون مؤمنا بدخوله في دائرة الإيمان ، ويستحق كمال الإيمان بتوفر سائر شعب الإيمان ، إلا أن الكفر - والمقصود به الكفر الأكبر - يكون على دائرة واحدة ، ويستحقه الإنسان بتوفر شعبة واحدة ، وهذا مما يخالف الإيمان ، ولذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بنصوص الكتاب ، كذلك بالسنة بروايته عن ربه سبحانه وتعالى : أن كفار قريش لديهم مما وقر في قلوبهم من الصدق بربوبية الله سبحانه وتعالى ، وبشيء من الألوهية ، وبشيء من أسمائه وصفاته ، والإيمان بذلك في القلب ، إلا أن ذلك لم يؤمنوا ، ولا يستحقوا اسم الإيمان ، لأنهم كفروا بتوفر شعبة من شعب الكفر أو أكثر ، بخلاف الإيمان فلا بد من استحقاق كماله أن تتوفر سائر شعب الإيمان ، وأن تنتفي سائر شعب الكفر عمن يريد أن يستحق كمال الإيمان ... وهذا من الفوارق بين شعب الإيمان وشعب الكفر من جهة الأسماء ، وكذلك من جهة الأحكام .(1/20)
ثم في هذا الخبر مما له تعلق بالباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة له سبحانه وتعالى ، وإن كان المرء مخلصا في قلبه ، وكانت العبادة في الظاهر خالصة لله عز وجل = إذا كان فيها مشابهة للكفار ، ولذلك نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وذلك أن المشركين يسجدون لها من دون الله سبحانه وتعالى ، فنهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك لأن في هذا الفعل مشابهة للكفار .
وهنا يتقرر مسألة مهمة وهو :
أن الإنسان يحرم عليه أن يتعبد لله سبحانه وتعالى عبادة يُظن منها أنها في الظاهر عبادة لغير الله ، كمن يصلي مثلا إلى سترة في بلد يعبدون الأصنام كالبوذيين والهندوس ونحو ذلك ، إذا علم وغلب على ظنه أنهم بنظرهم له يظنون أنه يسجد لهذه السترة كحائط وخشب ونحو ذلك ، فإنه حينئذ منهي عن هذا الفعل ، لمشابهته لفعلهم ، أما إذا غلب على ظنه أنه لا يطرأ عليهم ذلك فإنه يكون على أصله من التعبد ، والأصل في الصلاة إلى سترة أنه من السنن المؤكذة في الشرع ، لكنها قد تخرج من هذه الدائرة إلى دائرة النهي في باب ضيق إذا دخل في هذا الباب ، وكان فيه مشابهة لفعل المشركين .
ولذلك نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسجد عند طلوع الشمس وإن كان لله سبحانه وتعالى ، لأن فيه مشابهة للكفار ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن نذر أن يذبح إبلا ببوانة قال : أفيها عيد من أعيادهم ؟ أفيها وثن يعبد ؟ قال : لا . قال : أوفي بنذرك . وذلك أن المشابهة في الفعل وإن كان القلب خالصا لله عز وجل متوجه إلى الله منهي عن ذلك ، لأن فيه مشابهتهم في الظاهر ، وفي هذا إضلال للناس ، فإن كما أن العبرة بالجوارح ، فإن في هذا اقتداء لكثير من الناس لمن يفعل ذلك ، خاصة بمن يقتدى به من أهل العلم والصلاح ... نعم :(1/21)
قال أبو العباس رحمه الله تعالى : فقد نهى النبي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها معللاً ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان , وأنه حينئذ يسجد لها الكفار ، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله ، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان , ولا أن الكفار يسجدون لها ، ثم أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة .
والنهي عن العبادة التي قد دل الدليل عليها هذا لا يكون في الجملة إلا لمصلحة أعظم من ذلك وهي توحيد الله سبحانه وتعالى ، وذلك يدل لجلالة قدر التوحيد وعظمته ، وكذلك تعظيم قدر الشرك ، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة الله عز وجل في أوقات ، لأن فيه مشابهة لأمر من أمور المشركين ، وهو أنهم يسجدون للشمس والقمر ، وكذلك أن الشمس تطلع بين قرني شيطان ، وربما فرح الشيطان بسجود العبد ، خاصة إذا كانت القبلة جهة المشرق أو المغرب ... نعم :
ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن ولم يصمد له صمداً ، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة ، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل لما فيه من مشابهة السجود لغير الله . انتهى كلامه .(1/22)
واستدلال المصنف عليه رحمة الله تعالى بـ ... النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يُصوِّب إلى السترة ، وإنما يجعلها على حاجبه الأيمن أو الأيسر ... هذا الخبر لا يصح ، قد يكون استدل به من باب التجوُّز ، إلا أنه لا يصح إسناده ، فقد رواه أبو داود في سننه وكذلك قد رواه الإمام أحمد : من حديث علي عن الوليد بن المتوكل عن المُهَلَّب بن حُجُر عن ضباعة بنت المقداد عن أبيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ... فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عود ولا إلى شجر ولا إلى عمود وصمد إليه ، وإنما يجعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر) وهذا معلول بعلل ، وذلك لجهالة المُهَلَّب ، وكذلك جهالة ضباعة ، وكذلك قد وقع فيه اضطراب في إسناده ، فقد رواه أبو علي بن السكن في سننه : من حديث بقية بن الوليد عن المُهَلَّب عن ضبيعة عن أبيها ... فسماها ( ضبيعة ) ، كذلك الوليد بن المتوكل فيه جهالة ، وقد أعله به كذلك ابن عدي عليه رحمة الله تعالى في كامله ، ونقل عن البخاري عليه رحمة الله تعالى أنه قال : عنده عجائب .
والسنة أن يُصوِّب إلى سترة إلا إذا فعله الإنسان لمصلحة ، كأن يكون يراه أحد من المشركين من البوذيين وعبدة الأوثان ونحو ذلك ، مما يظن أن هذا تشريع في الإسلام أنهم يسجدون لحجر أو صنم أو وثن ونحو ذلك ، فإن من المصلحة حينئذ أن لا يصلي إلى سترة أصلا ، وإن صلى ينحرف عنها يمينا ويسارا لمصلحة تقرير التوحيد ، وكذلك درء مفسدة أعظم من ذلك ... نعم :
ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن ولم يصمد له صمداً ، ولهذا نُهَي عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة ، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل لما فيه من مشابهة السجود لغير الله . انتهى كلامه .(1/23)
ولذلك السجود لا يكون إلا عبادة ، وقد يكون تحية لكنه نادر ، والأصل في السجود لمن سجد أنه أراد عبادة ، وقد وُجد عند بعض الجاهليين أنهم كانوا يسجدون تحية ، ولكنهم قد انقرضوا ، وبقي الركوع .
والركوع والسجود عبادة لله سبحانه وتعالى لا تُصرف إلا لله جل وعلا ، فمن سجد لغير الله أراد بذلك تحية ، فإنه حينئذ يقال أن السجود لا يمكن أن يكون إلا عبادة ، فإن غلب على الظن أن هذا الرجل أراد بذلك تحية ، فإنه حينئذ تقام عليه الحجة ، أن السجود منهي عنه إلا لله عز وجل ، وهو عبادة محضة ، فإن سجد كفر ، وهذا إنما قيل به لأن السجود قد وُجد عن العرب ووُجد عن الناس أنهم يسجدون تحية وإن كان نادر ، ولكن لم جاءت النصوص في الكتاب والسنة لمن سجد لغير الله سبحانه وتعالى من رجل أو وثن ونحو ذلك فالأصل فيه أنه كفر ، ويُحكم عليه بالكفر ، وذلك لمشابهة الكفار ، إلا إذا غلب على الظن أن هذا الرجل إنما فعل ذلك تحية ، فيُخبر أن السجود لا يكون إلا عبادة ، فإن أعاد كفر حينئذ بالإطلاق ، ويكون كافرا ، والأصل فيمن سجد لغير الله عز وجل أنه كافر .
وثمة من العبادات ما لا يكون إلا عبادة ، ولم يرد عند الناس أنه يكون على غير العبادة ، كمسألة الطواف ، فإنه لا يكون إلا عبادة ولا يكون تحية ، ولذلك من طاف على قبر أو وثن فإنه كافر بالله سبحانه وتعالى ، ومن زعم أن الطواف يكون تحية فإنه لا يمكن أن يكون هذا ، ولا وجود له عند العرب ولا عند سائر الجاهليين أنهم يطوفون تحية ، بل يطوفون تعظيما وتعبدا .(1/24)
وقد يقول قائل : أنه قد وَجَد أن أحداً من الناس يطوف تحية على قبر كذا و كذا ، فيقال : أن النصوص الشرعية جاءت بتقرير أحكام ومسائل ، ولم تأت في بيان أحوال أفراد ، وأحوال الأفراد لا تُنازَع بالأصول ، ولا تُنازِع الأصول ، ولا تجعل قسيمة لها ، فإذا قيل كذلك أنه وُجد من يطوف على قبر الحسين أو البدوي أو السيدة زينب ونحو ذلك ويريد بذلك تحية لا يريد تعبدا ، يقال أن هذا نادر ، ولا يلغي الأصل ، وأما من يُقسِّم الطواف على القبور على ضربين ، فيقول :
1- أن الطواف إذا كان عبادة كفر .
2- وإذا كان تحية ابتدع ولم يكفر .
فيقال أن هذا الكلام غير صحيح ، ماهو وجه الرد ؟
الرد : أن الأصل في الطواف لا يكون إلا عبادة ، وهذا ما تقرر في الشرع ، وتقرر في أفعال المشركين ، ووجود بعض الأفعال لا يخرجها عن الأصل ، ولو أخرجنا بعض الأفعال عن الأصل وجعلنها قسيمة لها ، لوُجد من يطوف عند بيت الله سبحانه وتعالى على الكعبة يطوف تعظيما للحجر لا تعظيما لله ، كبعض الوثنيين ونحو ذلك ، أو غلاة المتصوفة ونحو ذلك الذين يطوفون تعظيما للحجر ، فحينئذ هل نقول أن الطواف على الكعبة على قسمين : طواف عبادة ، وطواف شرك ؟ لا يمكن أن يُقال ، لأن هذا خارم لنصوص الشرع ، لأنه قد دل الدليل على أن الطواف على هذه الكعبة لا يكون إلا عبادة ، لا وجود للشرك أصلا ، إن وُجد فيندر حالته لا تكون قسيمة للأصل ، كذلك من جهة الطواف على القبور وعلى الأوثان والأصنام ونحو ذلك ، يقال أن هذا كفر لأنه لا يكون إلا عبادة .
إن وُجد أنه تحية : نقول إذا وجدت حالة بعينها ، وعلمت أنه فعل ذلك تحية لا تُكفِّره أنت ، وتقيم عليه الحجة ، ثم بعد ذلك إن عاد كفر .
وإلا فالأصل من طاف على القبور فإنه قد شابه المشركين بأفعالهم ، وكفر وخرج من ملة الإسلام بفعله ذلك ، وأما مسألة الحكم فأمره إلى الله جل وعلا ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .(1/25)
والأصل أنه في أصول الإسلام : الناس ليسوا بمعذورين كافة ، لأن حجج الله عز وجل قد قامت على الناس ، وقد نقل الترمذي عليه رحمة الله تعالى عن أحمد أنه قال : وليس أحد معذور بالجهل عند مسائل الاعتقاد . وهذا في أصلها ، فقد قامت الحجج على سائر الناس ، لكنه قد يوجد بعض الأفراد ممن يعيش في بعض البلاد الأفريقية ، أو بعض من يعيش في بعض القرى والهجر من البلاد الآسيوية ونحو ذلك ، يقال أن مثل هؤلاء لهم أحكام خاصة ، لكنها لا تُخِرج هذه الأحوال عن حكم الشرع العام : أن من وقع في الكفر أنه كافر أصلا وإن كان معذور ، وإن كان معذور فهو كافر اسما ، لكنه لا يُقاتل ، ولا يُسلب ماله ، لم ؟ لأنه معذور ، وغلب على الظن عذره ، أما في الفعل فهو كافر ، فإذا قيل أن ثمة من يطوف على القبور ، ويسجد للأصنام ، بل من لا يؤمن بالله أصلا يقال هؤلاء كفار ، فإن قال: معذورون . نقول العذر نفاه الله جل وعلا ... نفى الله عز وجل بسببه العذاب ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، لكن الله عز وجل ما نفى اسم الكفر ، كما قال الله جل وعلا : ( وإن أحدمن المشركين - فسماه مشركا - استجارك فأجره يسمع كلام الله ) فهو مشرك وكافر قبل أن يسمع كلام الله .
ولذلك سمى الله عز وجل أهل الكتاب وكذلك المشركين كفارا قبل أن تأتيهم البينة في الآيات في أوائل سورة البينة ، وهذا أمر دقيق ينبغي التنبه له : أن قيام الحجة على الناس لا علاقة لها بالاسم ، وإنما لها علاقة بالحكم ، فلا يجوز أن يُقاتل أو تُستباح الدماء أو الأعراض أو الأموال أو الأرض ما لم تقم الحجة ، لكنهم في الاسم هؤلاء كفار ، لأنه لا وجود في الدنيا إلا مسلمين أو كفار ، قد يكون الكفر اسما و حكما وهذا على التفصيل السابق للكفر ... نعم :(1/26)
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم ، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا
الله جل وعلا قد ساق جملة من قصص المشركين ممن عاند واستكبر على عبادة الله سبحانه وتعالى ، فاستحق العقاب والنكال من الله جل وعلا ، وحكى قصص قوم عاد وثمود وهود وصالح ، وذلك لكي يعتبر من أراد العبرة ، ويتبصر من أراد البصيرة ، ليعود إلى رشده ، ولذلك كانت النصوص في القرآن على ثلاثة أقسام :
1- قصص .
2- وأحكام ، أي حلال وحرام .
3- وتوحيد .
لا تخرج نصوص القرآن عن هذه ، إما قصص وإما أحكام وإما توحيد .
ولذلك كثرت القصص في القرآن الكريم ، فإن فيها أعظم عبرة ، تسلية لرسول الله صلى عليه وسلم ، وعبرة لمن أراد الاتعاظ والعبرة .
وفيه كذلك دليل على أصل عام : مشروعية القصص ، وجواز القصص ، لما ثبت من القصص ، لما في ذلك من العبرة والعظة للناس ... نعم :
وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا، فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير(1/27)
وهذا هو الأصل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ) وهذا يدل على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) ، وسماه الله جل وعلا خاتم النبيين ، والله جل وعلا قد أرسله إلى سائر الخلق ، وجاءت النصوص في هذا كثيرة ، لمَ ؟ لأن الرسل في بني إسرائيل لم يرسلوا إلا إلى قومهم، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ناسب أن تأتي النصوص من الكتاب والسنة ببيان ما جاءت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مما لم تأت به الشرائع السابقة من عموم الرسالة ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله جل وعلا إلى سائر الخلق من الجن والإنس العرب والعجم ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد فيه نظر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في يد عمر بن الخطاب قطعة من التوراة ، فقال: ( مه يا ابن الخطاب !! أمتهوِّكون ؟! و الله لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا اتباعي ) إذا كان هذا في حق موسى عليه الصلاة والسلام فغيره من أهل الكتاب وغيره من باب أولى .
ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّق الأمر باستحقاق المتابعة بالسماع ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ) ولذلك هذا الصحابي علي رضوان الله تعالى لما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم استجاب لما سمعه ، لأن الفطرة تدل على النجاة وسلوك طريق النجاة ، ومن أعظم مسالك النجاة هو أن يسلك طريق النجاة في السبب الذي أوجده الله عز وجل لأجله ، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى معلقا الأمر بالسماع لا بالفهم : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) وقال : ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ) علَّقه بالسماع، هل السماع كافي ؟ أم المراد الفهم ؟ يقال :(1/28)
أنه ليس المراد الفهم ، وإنما مجرد السماع على وجهه ، وهذا شرط وقيد مهم في معنى السماع الوارد في النص ، أن السماع كافٍ ، والمراد بالسماع : هو سماع برسالة محمد صلى الله عليه وسلم على وجه يفهمها لو أراد ، أما إذا سمع شيئا لا يفهمه لو أراد فهمه ، فهل يكون سماع؟ ذلك السماع كافٍ أم لا؟ فيقال :
لا بد من السماع على وجه يفهمه لو أراد ، أما لو سمع كلاما لا يفهمه لو أراد فهمه ، فسواء أراد أن يفهم ما سمعه من حجة أو لم يرد ، فيقال حينئذ : لا بد من الفهم ، لا بد من إفهام السماع لا إفهام الحجة ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله جل وعلا بإسماع الناس الحجة لا بإفهامها .
قد يقول قائل: أن إفهام الناس لا بد منه حتى يفهم الحجة ، يقال: ليس المقصود بذلك شرعا ... أبدا ، من وجوه :
1- أن الله عز وجل قد رفع القلم عن المجنون ، وذلك لأنه لا يستطيع فهم الحجة .(1/29)
2- أن إفهام الحجة لا يمكن للإنسان أن يحدده ، فقد يقول قائل لم أفهم ، وهو فهم بقلبه ، فهل يُقاتل أم لا يُقاتل ؟ فكل الناس يقولون : لم أفهم ... لم أفهم . هل يُقاتل هؤلاء أم لا يُقاتلوا ؟ يقاتلوا ، وإن قالوا لم نفهم ، لأن المراد هو إسماع الحجة على وجه يفهمه لو أراد ، وإن وضع أصبعيه على آذانه قامت عليه الحجة ، ولذلك يقول سبحانه وتعالى عن كفار قريش : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) والمراد بالإسماع هنا هو الفهم ، أي أنهم ما فهموا ، وما أرادوا أن يفهموا ، وجملة منهم فهموا وعلموا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أنها الحق ، ولذلك يقول الله عز وجل : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) علموا واستيقنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصِدْقه بما جاء به وما أخبر به عن ربه ، لكنهم كفروا بالله عز وجل علوا واستكبارا ، فلو لم يخبر الله جل وعلا نبيه باستيقان كفار قريش ، وعلمهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف يعلم مجمد ما في قلوب البشر أنهم فهموا ، حينئذ ستُعطل مسألة الجهاد ، وسيُعطل مسألة إقامة الحجج على الناس ، وكذلك تمييز الناس من فريقين بين كفار ومسلمين ، فإذا اشترطنا إفهام الحجة - ولا بد من إفهامها - هذا تعلق بأمر لا يمكن للإنسان ، لأن إفهام الناس متعلق بالقلب ، والله جل وعلا قد أخبر نبيه بشيء لا يمكن أن يَطَّلِع عليه وهو قلوب الناس ، فأفهام الناس تتفاوت ، فيقال: أن كل إنسان لابد من ورود النص إليه ، وسماعه بأذنيه سماعا يفهمه لو أراد أن يفهم ، فإذا لم يفهم فقد قامت عليه الحجة ، فكان كمن قال : أنني سمعت النص وفهمته ، ولا أؤمن به. فهؤلاء كلهم سيان ، قد قرن الشرع بينهم ، لأن تعليق النص بغير ذلك تعليق بمُحال ، وتعطيل لأحكام الشرع ... نعم :(1/30)
فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير , وهذا فسر به قوله تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي حرصاً على تعلم الدين : ( لأسمعهم ) أي لأفهمهم , فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدلا منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين
الكفار على ملة واحدة مهما بالغوا في الكفر ، فحكمهم واحد من جهة الأحكام الدنيوية ، لكنهم في العذاب يوم القيامة يختلفون بحسب إمعانهم في الكفر ، ولذلك إبليس يكون على منبر من نار يوم القيامة ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه أبا طالب - وهو من الكفار - في ضحضاح من نار ، أي أنه يختلف عن الكفار ، ولذلك الكفار يختلفون في العذاب ، كما يختلف أهل الإيمان في النعيم في الجنة ، بحسب إمعانهم وتوغلهم في الكفر ، لكنهم في الدنيا من جهة الأحكام سواءٌ لا فرق بينهم ، من عاند وكفر واستكبر يُحارب ، ومن لم يعاند لكنه أظهر الكفر من جهة الأحكام لو أنطبقت عليه الأحكام سواء لا فرق بينهم ... نعم :(1/31)
فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين , فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا المطلب , فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأساً ، فان حضر أو استمع فكما قال تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم ) وفيه من العبر أيضا أنه لما قال : ( أرسلني الله ) . قال : بأي شيء أرسلك ؟ قال : بكذا وكذا . فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية ، والدعوة النبوية ، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان، ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة وتجريد السيف ، فتأمل زبدة الرسالة .وفيه أيضاً أنه فهم المراد من التوحيد ، وفهم أنه أمر كبير غريب ، ولأجل هذا قال : من معك على هذا ؟ قال : ( حر وعبد) فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له.
ولذلك أكبر الضلال وأكثر الزيغ في الناس إما هو في كبرائهم من أرباب الدنيا أو أرباب الرئاسات ونحو ذلك ، ولذلك يقول الله جل وعلا : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أَمَرنا مترفيها ) وفي قراءة سبعية ( أمَّرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليه القول فدمرناها تدميرا ) ولذلك الأنبياء بالجملة أكثر من يتبعهم الفقراء والمساكين والضعفاء ، ولذلك أكثر من يدخل الجنة ... أوائل من يدخلها هم الفقراء والضعفاء والمساكين ، بخلاف أرباب الدنيا من الأغنياء ونحو ذلك فإنهم يتفاوتون في هذا الباب ، وهم أقل الناس دخولا لها ، لأنهم قد تعلقوا بالدنيا ، وانصرفوا إليها ، ولذلك حذر الله عز وجل في آيات كثيرة من التعلق بالدنيا وبمتاعها والاطراد بها ، لأنها من أعظم صوارف الإنسان عن عبادة الله سبحانه وتعالى ، وشغله عن وحدانيته ... نعم :(1/32)
وفيه أيضاً أنه فهم المراد من التوحيد ، وفهم أنه أمر كبير غريب ، ولأجل هذا قال : من معك على هذا ؟ قال : ( حر وعبد ) فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر.
ولذلك الإنسان ينبغي أن يعتبر وأن يتعظ أن القلة ليست بدليل على الباطل ، وأن الكثرة ليست بدليل على الحق ، ولذلك أخبر الله عز وجل في آيات كثيرة أن أكثر الناس لا يؤمنون ، وأكثر الناس لا يعقلون ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن ما آمن مع نوح إلا قليل : ( وما آمن معه إلا قليل ) وممن كفر من أقرب الناس إليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ، عودي وأوذي وابتلي وامتحن ، لكن العبرة هي بالحق وما يدعو الإنسان إليه ، وأمر مهم وهو: أن يتنبه الإنسان إلى أن العبرة ليست بالدعوات ، وليست العبرة بالدعاوى ،وليست العبرة بالأقوال ، وتحسين الألفاظ ، وتبرِيقِها ، وتجميلها ، ولكن العبرة بالحقائق ... العبرة بالمعاني التي يُدعا إليها ، ولذلك فرعون عليه لعنة الله كان يتهم موسى : أنه يريد أن يبدل دينه ، أو أن يظهر في الأرض الفساد ، ووصف موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه أنهم شرذمة قليلون ، وقد ضل وأضل ... جلَّ عليه الصلاة والسلام عن ذلك ، وإنما كان قائما بأمر الله سبحانه وتعالى ، وقابله الله جل وعلا بنظير حجته على موسى ، وبذات الاسم ، وهو أن فعله وقوله ليس برشيد ، فأمر فرعون ليس برشيد ، فقال : ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) فيرى أن طريقه طريق الرشاد ، و طريق غيره طريق غواية والإفساد .(1/33)
إذاً ... العبرة بما يدعو الإنسان إليه من معاني لا بألفاظ ، ولذلك الألفاظ يُقلِّبها الإنسان حيث أراد ، ويعكسها بحسب ما يريد هواه ، ويضل في هذا الباب أصحاب العقول الضعيفة ، والمنهزمون الذين لا يتحملون نقدا ، ولا يتحملون مواجهته ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم صمد في وجه أعداء الله عز وجل من المشركين وغيرهم ، وقد وصفوه بسائر الأوصاف ... وصفوه بالسحر والجنون والكهانة والسفه والطيش ، وكل ذلك بعيد منه عليه الصلاة والسلام ، وهم أليق به من سائر الناس بأصله ... نعم :
فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل قد يملأ الأرض . ولله در الفضيل بن عياض حيث يقول : لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين .
وقول الفضيل بن عياض قد رواه أبو عبد الله الحاكم بإسناد صحيح عنه ، وهذا من جميل الألفاظ وأحاسنها ولطيفها ، أن الإنسان لا يغتر بقلة السالكين على طريق الحق ، وكذلك لا يستوحش من قلتهم ، ولا يهولنه كثرة السالكين لطريق الباطل ، لذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جهنم تمتلئ بخلاف الجنة ، وذلك لقلة أهلها بالنسبة لأهل النار ... نعم :
وأحسن منه قوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين (وفي الصحيحين أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة وفي الجنة واحد من كل ألف.
وهذا الحديث في الصحيحين ، وجاء على لفظين :
1- ( من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون ) .
2- وجاء في حديث آخر : ( من كل مئة تسع وتسعون ) .(1/34)
وهذا يدل على أن العدد في هذا الحديث ليس مرادا بذاته ، ولكن المراد التقليل ، فإذا جمعنا الحديثين فإنه في حديث المئة يكون في الألف عشرة ، وفي حديث الألف في الألف واحد ، ويقال أن العدد ليس مرادا بذاته ، ولكن المراد التقليل ، وهذا المراد بإخراج بعث النار ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( يقول الله عز وجل لآدم: يا آدم أخرج بعث النار ، قال: وما بعث النار ؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ) واحد إلى الجنة ، وهذا يدل على قلة السائرين والسالكين على طريق الحق والمنهج القويم ، وهذا فيه أعظم سلوان لأهل الإيمان وأهل الحق ، وتصبيراً لهم على منهجهم القويم ، ولذلك صبر ألوا العزم من الرسل وأتباعهم ... نعم :
ولما بكوا من هذا لما سمعوه قال: ( إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين ) قال الترمذي: حسن صحيح . فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام ومن اتبع الرسول إذ ذاك ، ثم ضم إليها لحديث الآخر الذي في صحيح مسلم أنه قال : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ) تبين له الأمر إن هداه الله
ومن عجيب أمر الناس أنه ما من داع يدعو إلى دعوة إلا وله أتباع ، وإن دعا إلى باطل ، حتى ظهر عُبَّاد الشيطان وعُبَّاد إبليس ... ظهروا وتحزبوا ، ورأوا أنه يستحق العبادة لتمرده على عبادة الله سبحانه وتعالى ، فما من دعوة يدعو الإنسان إليها إلا وله أتباع ، وهذا يدل على أن الأتباع لا يميزون بين الحق والباطل ، وإنما الذي يميز هو الحقيقة التي دُعي إليها ، ولذلك المرء المسلم حينما يريد الحقيقة لا ينظر إلى السالكين ولا إلى التابعين ، وإنما ينظر إلى الحق الذي دُعي إليه ... نعم :
تبين له الأمر إن هداه الله وانزاحت عنه الحجة الفرعونية : ( فما بال القرون الأولى ) والحجة القرشية : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ).(1/35)
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتاب ( إقتضاء الصراط المستقيم ) في الكلام على قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه.
المراد بالإهلال هو: رفع الصوت ، وعلِّق بذلك لأن الإنسان يرفع صوته في حال سكون ، ولذلك سمي الهلال هلالا لأن الناس ترفع أصواتها حينما تراه ، ويستبشرون برؤية هلال الشهر ... نعم :
كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله.
وذلك أن العبرة ، بالقلب فمن ذبح لله ونسي اسم الله فإن ذبيحته مقبولة ومأكولة اللحم ، ومن ذبح لغير الله اعتقادا ، وسمى اسم الله بلسانه فذبيحته محرمة ، وهي لغير الله سبحانه وتعالى ، وذلك أن العبرة بالقلب (1) .
__________
(1) إلى هنا انتهى كلام الشيخ في الدرس الأول، وبقي كلام القارئ وقد بدأ من قول المؤلف: ( فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة .... ) إلى قوله : ( .... أنه لا يكفر المعين ) وفي الدرس الثاني بدأ من قول المؤلف: ( فانظر أرشد الله .... ) إلى قوله: (... إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين.) فآثرت أن أدمج المقطعين مع بعضهما في مقطع واحد، وبعده أجعل كلام الشيخ في الدرس الثاني.(1/36)
فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور ، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال ، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ، وهذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن . انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين ، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة ، وتصريحه أن المنافق يصير مرتداً بذلك ، وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين .
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين :
النفاق يوصف به الكفار ، ويوصف به كذلك المؤمن ، كالكفر سيان لا فرق بينهما ، وقد وصف الله عز وجل الكفار بالنفاق .(1/37)
والنفاق في أساس الأعمال لا يمكن أن يقع من مؤمن خالص الإيمان ، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بأنهم كفرة ، ووصف الكفار بأنهم منافقين ، فإذا كان تأسيس العمل وإنشاؤه لغير الله فإن هذا من علامات الكفر ، بل لا يمكن أن يكون من مؤمن أصلا ، بخلاف إذا طرأ على نيته شيء من الشوائب في أثناء العمل ، فإنه يفسد العمل ويبطله ، إلا أن الإنسان يبقى في دائرة الإيمان ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله جل وعلا : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من أشرك معي غيري تركته وشركه ) والمراد بالشرك هنا : هو النفاق ، وهو أن يبطن الإنسان في قلبه إرادة ومقصودا غير الله عز وجل ، وهو في الظاهر يُظن أنه أراد الله سبحانه وتعالى ، وهو المقصود بالرياء والسمعة ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند والسنن : ( من رآى رآى الله به، ومن سمَّع سمَّع الله به والجزاء من جنس العمل ) ... نعم :
وقال أيضا في الكتاب المذكور : وكانت الطواغيت الكبار التي تشد أليها الرحال ثلاثة .
والطواغيت مشتق من الطغيان ، وهو : مجاوزة الحد ، ويُعرَّف بكل من طغى وجاوز حده ، ويدخل فيه المؤمن والكافر ، ولكنه غلب استعماله على الكفار ، وقد روى ابن جرير الطبري من حديث فهد بن عبد الرحمن عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال : ( الطاغوت الشيطان ) .
والطاغوت على هذا اللفظ يُذكَّر ويُؤنَّث ويُجمع ، يقال : هذه الطاغوت ، وهذا الطاغوت ، وهؤلاء الطاغوت ، وقد نص على هذا الواحدي عليه رحمة الله تعالى في تفسيره ، والأدلة على هذا من كلام الله عز وجل أكثر من أن تذكر ، ولذلك يقول الله جل وعلا : ( أولياؤهم الطاغوت ) أي أن الطاغوت يكون على الجمع على هذا اللفظ ... نعم :(1/38)
وقال أيضا في الكتاب المذكور : وكانت الطواغيت الكبار التي تشد أليها الرحال ثلاثة : اللات والعزى ومناة .
وغلب الاستعمال على من عُبد من دون الله أنه يسمى طاغوتا ، وأشهر من عُرف عنه هذا هو الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى : أنه ما عُبد من دون الله .
وقد عرَّفه ابن القيم عليه رحمة الله تعالى : أنه ما عُبد من دون الله ، وكل ما عُبد من دون الله من متبوع أو معبود أو مطاع ... نعم :
وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب ، فكانت اللات لأهل الطائف ، ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج
وهذا مروي عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري ، وكذا ابن أبي حاتم : من حديث أبي الجوزاء عن عبد الله بن عباس أنه قال : كان رجل صالحا يلت السويق للحاج . وقيل أنه صنم ووثن بين مكة والطائف ، وهذا مروي عن مجاهد بن جبر كما رواه عنه غير واحد من أصحابه كابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر ، وروي أيضا عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى ... نعم :
أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره . وأما العزى : فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات .
ولذلك كان يغلوا فيها كفار قريش ، ولذلك قال أبو سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام : العُزُّى لنا ولا عُزُّى لكم . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( الله مولانا ولا مولى لكم ) فقد كانوا يتَعَزَّوْن بها من دون الله سبحانه وتعالى ، ويستنصرون بها ، وتعلق بها كفار قريش خاصة من دون سائر العرب ... نعم :
وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون . وأما مناة : فكانت لأهل المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل
وكانت بين مكة والمدينة ، ويعبدها كذلك قريش ... نعم :
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه ، حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -(1/39)
من أراد أن ينظر إلى صفة الشرك وأحواله الذي كان عليه المشركون في الجاهلية ، وبعث الله جل وعلا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، علم أن صورة الشرك واحدة ، وإن وقع فيها من زاد شيئا من شعب الإيمان ، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كثير من الطوائف التي تنتسب للإسلام ، و تزعم أنها تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتطوف على القبور وتسجد على الأضرحة ونحو ذلك ، هذه كافرة كما كفر كفار قريش ولا ريب في هذا ، لأنهم قد شابهوهم في الفعل ، ولم يزيدوا على كفار قريش إلا شيئا من شعب الإيمان ، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان ببعض فروع الإسلام ، وتقدم أن الكفر يتحقق في الإنسان إن وجد شعبة من شعبه ، والمراد بالكفر هنا الكفر الأكبر بخلاف الإيمان ، وإذا تقرر هذا عُلم أن الإنسان إذا أعلن إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالله جل وعلا ربا ، وأنه إذا خالف ذلك بفعله أنه كفر وهو لا يغنيه ذلك ما يفعله من شعب الإيمان ، ولذلك كفار قريش كانوا يؤمنون بأن الله عز وجل واحد ، وأنه خالق السماوات والأرض ، وكذلك منزل الماء من السماء إلى الأرض، وكذلك منبت الزرع ، وغير ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى ...(1/40)
يوحِّدُون الله جل وعلا في هذا الباب ، لكنهم كفروا بتوفر بعض شعب الكفر فيهم ، فخرجوا من ملة الإسلام ، وبعث الله جل وعلا إليهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا وجدت شعبة من شعب الكفر الأكبر ، خرج الإنسان من دائرة الإسلام وإن وُجد فيه سائر شعب الإيمان ، ولا يمكن للإنسان حينئذ أن يقال عليه كافر إلا بوجود شعبة من شعب الكفر وإن وُجد فيه كثير من شعب الإيمان أو أكثر شعب الإيمان أو سائر شعب الإيمان ، ولا يمكن أن تتوفر في الإنسان كل شعب الإيمان مع وجود شيئا من شعب الكفر ، فإن هذا لا يمكن أن يقع ، فإن الله إذا عبد غير الله سبحانه وتعالى ، وسجد للإصنام ، وطاف على القبور ونحو ذلك ، وُجد في قلبه انصراف لغير الله سبحانه وتعالى .
ولذلك أشار المصنف عليه رحمة الله تعالى إلى أن الذبح لغير الله هو من الشرك الأكبر المخرج من الملة ، ولذلك جعله الله سبحانه وتعالى من أعلى درجات العبادة : ( إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وانحر ) فأمر الله عز وجل بأن يكون النحر له خالصا ، وقال الله سبحانه وتعالى : ( قل إن - وهو المراد بمحمد - صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) والمراد بالنسك هو النحر ، فمن صرف شيئا من أنواع العبادة كالذبح والنحر وغير ذلك لغير الله عز وجل كفر وأشرك ، وإن كان الدافع لذلك ليس الرغبة ، وإنما الرهبة ، فالرهبة وكذلك الخوف والرغبة كلها من العبادات التي يجب أن لا تصرف إلا الله سبحانه وتعالى ، فإذا صرف شيئا منها لغير الله عز وجل كفر وإن كان ينطق الشهادتين ، وذلك لتوفر شيء من شعب الكفر فيه.(1/41)
ومُراد المصنف عليه رحمة الله تعالى بهذا السياق والنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية هذا النقل هو: أن يشير إلى أن الإنسان إن وُجد فيه شيء من شعب الكفر كفر وإن كان قد وُجد في أكثر شعب الإيمان ، ولذلك كفار قريش كما تقدم قد وُجد فيهم شيء من شعب الإيمان لكنه لا يغنيهم ، لأنهم نقضوا شيئا من أصول الإسلام ، وهو: صرف العبادة لله سبحانه وتعالى .
والعبادة : هي التذلل والخضوع وانكسار القلب بين يدي الله سبحانه وتعالى ، وقد عرَّفها غير واحد من العلماء ، ولا أعلم من عرفها بتعريف تام ، وإنما أشمل من عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى فقال : العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال . ويمكن أن يُضاف إلى هذا كذلك : ( الاعتقادات ) فإن الاعتقاد يثاب عليه الإنسان من حسن النية وحسن المقصد وحسن الإرادة ... يُثاب الإنسان عليه كذلك ، وهذا هو مما استدرك على تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى للعبادة ، والمراد بالعبادة في لغة العرب : هو التذلل والخضوع ، ولذلك يسمى الطريق معبدا إذا كان مذللا ومهيأ للمشاة ، ولذلك يقول الشاعر جُبالي في وصف الإبل:
تباري إعتاق الناجيات وأتبـ عت وظيفاً فوق مَورٍ معبد
والمراد بالمور : هو الطريق المذلل المعبد الممشى لممشى الإبل ، فإنها إذا سلكت فيه غدوا ورواحا ، وذهابا ومجيئا ، فإنه يصبح طريقا مبينا مذللا للذهاب والإياب ... نعم:
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه(1/42)
والشرك مأخوذ من التشريك ، وهو أن يشرك مع الله عز وجل غيره ، وهو داخل في كل ما يخرج الإنسان به من الملة ... يسمى شركا ، سواء كان شرك هوى أو غير ذلك ، وجاء في بعض الاصطلاحات الشرعية تسمية المعاصي شركا ، لكنها في اصطلاح العلماء و في تقرير كثير من المسائل لا يمسونها شركا ، لأنه غلب استعمال الشرك على ما يخرج الإنسان من الملة بالجملة ، وإن كان فيه شرك أصغر لا يخرج الإنسان من الملة .
وهو أعظم ما عصي الله جل وعلا به ، ولذلك يقول الله جل وعلا : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) لما نزلت هذه الآية كما روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى : ( شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : إنه ليس كما تظنون ، إن الظلم هو الشرك ، ألم تسمعوا قول العبد الصالح لابنه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) فالشرك أعظم ما عصي الله عز وجل به ، لأنه تسوية للخالق بالمخلوق ، وكذلك منازعة الله عز وجل في حقه ، ومناهضته سبحانه وتعالى فيما هو من خصوصياته ، فمن نزع شيئا من حقوق الله سبحانه وتعالى وجعله في المخلوقين ، فإن هذا من الشرك ، يكون شركا أكبر أصالة ، وقد يكون من الشرك الأصغر إذا كان تعلقا في الأسباب.(1/43)
ولذلك كان الشرك الأصغر من كبائر الذنوب ، بل كان بين منزلتين : بين الكفر وبين كبائر الذنوب ، وقد نص على هذا غير واحد من العلماء ، وهذا بالإجمال وعند التقرير ، وأما عند التفصيل : فإنه قد يقع في بعض الذنوب من كبائر الذنوب مما هو يكون أكبر من الشرك الأصغر ، والشرك الأصغر قد نص ابن القيم عليه رحمة الله تعالى كما في كتابه إعلام الموقعين : أنه في منزلة بين الشرك الأكبر والكفر المخرج من الملة وبين الكبائر ، وهذا لا يطرد على جميع أجزائه، فلا يقال أن كل من حلف بغير الله أنه أعظم عند الله عز وجل من قتل الأنفس كلها ونحو ذلك ... لكنه بالجملة ، لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أعظم ما يُعصى الله عز وجل به الإشراك ، ولذلك قال الله جل وعلا في كتابه العظيم : ( إن الشرك لظلم عظيم ) وقال الله سبحانه وتعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .(1/44)
قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في دخول المغفرة هنا هل تدخل في الشرك الأصغر أم لا ؟ هي لا تدخل في الشرك الأكبر قطعا ، وهذا محل إجماع السلف والخلف ... بل عليه عامة المسلمين ، على أن من أشرك مع الله عز وجل شيئا قد حبط عمله ، ولا يدخل في الموازنة أصلا ، وأنه ليس بعد الكفر ذنب ، واختلفوا في الشرك الأصغر هل يغفره الله عز وجل لصاحبه إن لم يتب منه ويكون تحت المشيئة ، وهل تكفره سائر المكفرات من الأعمال الصالحة التي يمحو الله عز وجل بها السيئات كما قال عز وجل : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) على خلاف عند العلماء ، والصواب والمتقرر في هذا وهو ظاهر النص والذي عليه ظاهر كلام السلف عليهم رحمة الله تعالى: أن الشرك الأصغر لا يدخل تحت المغفرة ، وذلك لعموم الأدلة ، ونازع في هذا بعض الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كابن سعدي عليه رحمة الله تعالى في بعض رسائله ، فإنه قال أن الشرك الأصغر يدخل تحت المغفرة ، وذلك أن الله عز وجل قال : ( ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ) قالوا فإن الشرك إذا أطلق في كلام الله سبحانه وتعالى فإنه لا ينصرف إلا للشرك الأكبر ، إلا لقرينة ظاهرة تصرفه من الشرك الأكبر إلى الشرك الأصغر ، فإنه إذا قلنا أن الشرك إذا أطلق في كلام الله عز وجل فإنه يشمل الشرك الأصغر والشرك الأكبر فيلزم من هذا أن من أشرك مع الله عز وجل شركا أصغر فإن الله عز وجل يكون قد حرم عليه الجنة ، ولا قائل بذلك .
والذي عليه إجماع العلماء أن الشرك الأصغر يكون مع الموازنة ، ولا يمحو ما دونه من الأعمال ، وكذلك فإن الشرك الأصغر يدخل عند الموازنة يوم القيامة ، فإذا رجحت سيئات الإنسان كان من أهل النار حتى يُلاقي الله عز وجل إن لم يغفر له ، وإن رجحت كفة حسناته فإنه حينئذ يكون من أهل الجنة .(1/45)
إذاً ... فيكون في الموازنة إن لم يغفره الله سبحانه وتعالى على قول أنه يدخل في المغفرة .
ومن قال وعلَّق المشيئة في زيادة الحسنات وزيادة السيئات قد اختلف تنظيرهم لهذا المسألة ، فمنهم من قال أن الله عز وجل يغفر للإنسان ويرحمه ويدخله الجنة وإن كانت سيئاته أكثر من حسناته رحمة منه وفضلا ، ومنهم من قال أن الله عز وجل إذا غلبت سيئات الإنسان على حسناته أخذ الله عز وجل عهدا أن يدخله النار وينقيه من ذنوبه ثم يدخله الجنة ، وأما المغفرة التي تطرأ على سيئات الإنسان ، فإنها بسبب عمله الصالح الذي ترجَّح ، وهذا قد يكون فيه شيء من الخلاف اللفظي ، لكن الذي عليه ظاهر النصوص أن الله عز وجل يمحو عن الإنسان إن شاء سيئاته ، حتى وإن غلبت عليه ثم يدخله الله عز وجل الجنة ، ولذلك قد أشار كثير من العلماء عليهم رحمة الله تعالى إلى هذه المسألة ، ومن أبسط من توسع فيها ابن القيم عليه رحمة الله تعالى في بعض رسائله ، وأشار إليها بالإجمال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى في جملة من رسائله .
والشرك على ضربين ، ومنهم من حمله على ثلاثة أضرب :
1- شرك أكبر .
2- وشرك أصغر .
والشرك الأكبر هو المخرج من الملة ، وهو الذي قصده المصنف عليه رحمة الله تعالى وتعمده بإيراده في مصنفه هذا ، وأما الشرك الأصغر فإنه لا ورود له في كتابه هذا ، لأنه لا يكفر الإنسان به ولا يخرجه من الملة.
3- وأما النوع الثالث - ومنهم من جعله قسما داخلا في النوع الثاني - : وهو الشرك الخفي ، وهو داخل فيه ، ويدخل في هذا الرياء ودقيق الطيرة والتشاؤم ونحو ذلك ... نعم :
حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي وغيره في أخبار مكة من العلماء(1/46)
كتاب الأزرقي في أخبار مكة كتاب مليء بالأسانيد ، والأزرقي توفي في القرن الثالث فيما يظهر ، ولكنه غير معروف ، ولذلك يقول القاضي : لم أر من ترجمة له . ورغم جلالة كتابه وقدره وذكره كثير من الأخبار التي ينفرد بها إلا أنه من الأئمة المصنفين المجهولين ، وهذا من غرائب الأئمة عليهم رحمة الله تعالى ، كذلك الفاكهي أيضا في كتابه في أخبار مكة أو تاريخ مكة ، وجملة من المصنفين الذين اشتهروا بالتصنيف واشتهرت مصنفاتهم ، إلا أنهم ليسوا بمعروفين ، ومنهم الأزرقي عليه رحمة الله وكذلك الفاكهي .(1/47)
فهل يقال بضعف الأسانيد التي يرويها في أسانيده باعتبار أنه من جملة المجهولين ، ورغم اشتراكه مع البخاري عليه رحمة الله تعالى في بعض شيوخه ، إلا أن البخاري عليه رحمة الله تعالى لم يترجمه ولم يذكره لا في كتابه التاريخ ولا في غيره ، ولاكذلك ابن أبي حاتم عليه رحمة الله تعالى في كتابه الجرح والتعديل ، ومثل الإمام الأزرقي عليه رحمة الله تعالى وكذلك في الفاكهي في كتابه أخبار مكة لا تعلل الأسانيد به ، لكن يقال أنه قل ما يروي حديث وينفرد به أو أثر وينفرد به إلا ويكون ضعيفا ، وذلك لجهالة رواته ، وقد اعتمد مروياته كثير من الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كالإمام الطبري عليه رحمة الله تعالى في تاريخه ، فإنه يأخذ كثيرا من سياق الأزرقي عليه رحمة الله ، وهو من الأئمة المصنفين المجهولين ، كجملة من الأئمة عليهم رحمة الله تعالى الذين اشتهرت مصنفاتهم إلا أنهم لا يكونون من الأئمة المعروفين ، كالإمام القحطاني عليه رحمة الله تعالى ( صاحب النونية ) المشهور ، وهو إمام عَلَم بنونيته إلا أنه ليس بمعروف ، ونظير هذا - وإن كان له شهرة ومعرفة يسيرة - ياقوت الحموي عليه رحمة الله تعالى صاحب معجم البلدان ومعجم الأدباء ، له سيرة يسيرة في ابتداء حياته ، إلا أنه إنما عُرف بهذين الكتابين ، ومن ترجم له إنما أخذ وقائع قد ذكرها في كتابه ، ثم ذكر له سيرة طويلة في كتابه .
والمراد بذلك أن ما يذكره الأزرقي في كتابه من الأخبار المتأخرة التي ليس فيها الصحابة ولا التابعين في الجملة أنها تحمل على الاستقامة والقبول ، لجلالة قدره ، وفضله ، وكذلك كثرة الشيوخ ، واشتراكه مع بعض الأئمة عليهم رحمة الله تعالى بشيوخ أجلاء ، ونظير هذا كذلك الإمام الفاكهي عليه رحمة الله تعالى في كتابه تاريخ مكة ... نعم :(1/48)
وما ذكره الأزرقي وغيره في أخبار مكة من العلماء ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : ( الله أكبر ، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) فأنكر مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم . فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه .
وهذا من التعلق بالأسباب ، ولذلك مشركوا قريش وكفارهم كان لهم ذات أنواط ينوطون بها أسلحتهم ، والمراد بذلك يتبركون بها ، يعلقون بها سيوفهم ورماحهم ، ويرون أن من تعلَّق سيفه أو رمحه في هذا فإنه أصاب عدوه وغلبه وهزمه ، ولذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنهم حدثاء عهد بكفر ، ولما دخلوا الإيمان وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي لديهم في أذهانهم شيء مما كان عليه أهل الجاهلية ، فقالوا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لقد قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى : أجعل لنا إله كما لهم آلهة .
وأراد بذلك المصنف عليه رحمة الله تعالى أن يشير إلى معنيين :(1/49)
1- المعنى الأول : أن الإنسان مهما تلفَّظ بلفظ ... العبرة بفعله وحقيقة ما ذهب إليه ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام شبه قولهم بما قال بنوا إسرائيل أنهم أرادوا آلهة ، مع أنهم قالوا : اجعل لنا ذات أنوا ط كما لهم ذات أنواط . فجعل النبي عليه الصلاة والسلام كلمتهم هذه كأنهم أرادوا آلهة ، إذاً العبرة ليست بالألفاظ التي يفعلها الناس حول معبوديهم ونحو ذلك ، وإنما العبرة بالحقائق التي جاءت بمخالفة الشرع ، فإن كانت شركا فتكون شركا تخرج الإنسان من ملته ، وإنما عذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لأنهم حدثاء عهد بكفر ، كما جاء في الخبر في صحيح الإمام مسلم عليه رحمة الله ... قال (1) : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر ... ، وأرادوا بذلك أن يُسبِّبُوا بحجتهم وعذرهم عند الله سبحانه وتعالى في طلبهم ذلك .
وفي هذا : هل يقال أن الإنسان إذا وقع في شيء من المكفرات ، أو في قول شيء من الكفريات ، هل يكون هذا كفرا له يخرجه من الملة أو ثمة أعذار ؟ وهذا المقصد الثاني الذي أراد المصنف عليه رحمة الله تعالى في إيراده هنا .
فالمعنى الأول هو أن بعض الألفاظ وبعض الأقوال وكذلك بعض الأفعال التي يفعلها الناس هي من الشرك الأكبر وإن ظنوا أنها ليست شركا أكبر ، كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط - كي يعلقون بها أسلحتهم - كما لهم ذات أنواط . فجعل النبي عليه الصلاة والسلام قولهم ذلك كشرك بني إسرائيل ، فتكون هذه الشجرة آية في الحقيقة ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) فعبدوا تلك الشجرة من دون الله سبحانه وتعالى ، فهل كفر الصحابة بقولهم ذلك أم لا ؟ لم يكفروا بالاتفاق ، لم ؟ لأنهم حدثاء عهد بكفر .
__________
(1) القائل هو الصحابي : أبو واقد الليثي عليه رضوان الله تعالى.(1/50)
وهل كل من وقع في الكفر يكون معذورا حتى تقوم عليه الحجة ، وإن كان أصله من أهل الإيمان ، وداخل في الإسلام أم لا ؟ يقال : بالنظر إلى النصوص من الكتاب والسنة ، أن من وقع في شيء من الكفر لا بد من النظر إلى ثلاثة أحوال :
1- الحالة الأولى : النظر إلى ما أشرك الإنسان أو ما وقع فيه من مخالفة شرعية ، سواء في الأصول أو في الفروع .
فهذه من الدوائر التي تدور عليه مسألة وقوع التكفير على الإنسان ، فإذا كانت المسألة من ظواهر الأدلة ، وهذا الرجل من أهل الإسلام ، فبالجملة لا يُعذر الإنسان بالأصول الاعتقادية الكلية ، ويعذر ما خفي عن الإنسان ، حينئذ لا بد من النظر إلى هذه المسألة ، ويتضح هذا بالنظر إلى الأمر الثاني والثالث .
2- الأمر الثاني : النظر إلى حال الشخص الذي تلبس في الفعل المحظور .
3- والثالث : هو النظر بلد الإنسان الذي وقع في المحظور .
فهذه الثلاثة هي التي تدل الإنسان ... هل هو معذور من وقع في الكفر أم لا .
وذلك في الحالة الأولى - وهي النظر إلى المسألة المجهولة - : الأصل في المسائل الاعتقادية وكليات الدين أن الإنسان لا يُعذر بذلك ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل السماع به قياما للحجة ، ومحاسبة على ما تحته من تشريعات ، ولذلك قال : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي ... ) فبمجرد السماع لا يُعذر الإنسان فيما عدا ذلك من كليات الدين ، فمن وقع في الإشراك بالله سبحانه وتعالى ، من طواف بالقبور ، والسجود للأوثان والذبح عندها ، ممن هو في بلاد الإسلام ، أو حولها ، أو بلغته شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعها ولم يسأل عن شيء من أصول الدين ، فإنه حينئذ لا يعذر بذلك .(1/51)
ويتضح هذا فيما يلي والنظر إلى الحالة الثانية : وهي النظر إلى حال الشخص . وهذا مما يُعذر به الإنسان ، النظر إلى حال الشخص ... هل هو حديث عهد بكفر ؟ فقد يتَّحِد البلد - وهي الثالثة - ، وتتَّحِد كذلك المسألة - وهي الأولى - ، ويختلف الثانية ، فيُعذر الإنسان بها ، باعتبار حال الشخص الذي وقع في الكفر ، فقد يكون حديث عهد بكفر ، فحينئذ يعذر بوقوعه في المحظور ، فلو كان ثمة رجل مسيحي قد وقع في شيء من المكفرات في بلد الإسلام ، وهو حديث عهد بكفر ، ودخل في الإسلام قريبا ، ووقع في شيء من المكفرات ، كالتعلق بالنجوم أو السجود لوثن أو صنم ونحو ذلك ، أو حضر إلى بيت الله سبحانه وتعالى ، وصرف السجود لهذا الحجر - وهو الكعبة - ولم يسجد لله عز وجل ، ظنا منه أن السجود وهذا التعظيم إنما هو لهذا الحجر بذاته ، فهل يكفر أم لا ؟ هذا يقال أنه لا يكفر ، لأنه حديث عهد بكفر ، كحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحينئذ لم يكتمل التشريع حينئذ ، ولم يُبَلَّغوا بالشريعة تامة ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ذلك ، ولم يحكم بكفرهم ، لأنهم معذورون بشيء من الأعذار الشرعية .
والنظر الثالث : هو إلى بلد الإنسان ، فقد تشترك المسألة التي وقع فيها الإنسان ، وكذلك يشترك حال الإنسان ... أنه يكون مثلا كلهم من أهل الإسلام ، لكن البلد لها حكمها ، كأن يكون إنسان قد عاش بين ظهراني المشركين ، ولا مناص له عن ذلك ، ولم يجد مهجرا يهاجر إليه ، ولم يجد دليلا ومسلكا يسلكه ليبحث عن الحق ، ويتبع الدليل و نحو ذلك ، وهو مسلم بالولادة ، ولكنه قد وقع في شيء من الإشراك بالله سبحانه وتعالى ، فحينئذ هذا يُعذر .
أما من كان في بلاد الإسلام ، أو حولها ومن حولها ، فإنه لا يُعذر في أصول الإسلام مطلقا .(1/52)
وإن قال الإنسان : هل أقمت عليه الحجة أم لا ؟ الأصل أنها لا تقوم الحجة على أمثال هؤلاء ، لأنهم في بلد إسلام ، ويجب عليهم أن يَتْبَعوا ما سمعوه من أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يُسائل الإنسان بجهله عن أصول الدين ، وأصول الأحكام ، وكذلك أركان الإسلام ... يُسائل الإنسان بها إن جهلها ، إلا إذا علم الإنسان أنه معذور بذلك بجهله بشيء من أصول الإسلام وفروعه ، أو أنه بحث ولم يتمكن من الحصول على الدليل ، فحينئذ يعذر ، ولذلك روى ابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث حذيفة بن اليمان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يُدرَس الإسلام كما يُدرَس وشْيُ الثوب ) والمراد بوشْيُ الثوب : هو الثوب العتيق الذي يُدفن في الأرض ، وتركه أهل وارتحلوا ، فيكون قد دُرس في الأرض ، و لم يبق منه إلا شيء قليل ( يُدرَس الإسلام كما يُدرَس وشي الثوب ، حتى لا يُدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك ، إلا رجالا يقولون : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، كانوا يسمعون آبائهم يقولونها فيقولونها ) فقال : صِلة لحذيفة بن اليمان : ما تغني عنهم لا إلا الله ؟ قال : تنجيهم من النار لا أبا لك . قد يحتج بهذا من يقول مثلا أن تارك الصلاة ليس بكافر ، أو تارك جنس العمل ليس بكافر ، يقال : أن هذا لا دلالة به ، لأنه قال في هذا الحديث : ( لا يُدرى ما صلاة ولا صيام ) أي لا يدريه هو ، ولا من حوله ، فلا يدرى ما صلاة ولا صيام ، فقد جهل أركان الإسلام بالجملة ، فلا يعلم منها إلا ما ينطق به بلسانه ، وهو: لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فأنجته من النار لأنه معذور ، فمن سمع بدين محمد صلى الله عليه وسلم ولم يسع إليه فتقدم أنه على حالين:
1- إما أنه تيقن أنه إن سعى لم يتحصَّل له ، فهذا يقال : أنه لا يخلو من حالين :
أ- إما باعتقاده ذلك سعى ولم يتحصل فهذا معذور .(1/53)
ب- وإما قد تيقن أنه لو سعى ولم يتحصل على شيء ولم يسع ، فهذا على خلاف عند العلماء عليهم رحمة الله تعالى .
2- أما من سعى ولم يتحصل فإنه معذور.
أما من سعى وتحصَّل فإنه قد أعذر إلى الله سبحانه وتعالى ، وما وصل إليه من حق وبينة فإن الله عز وجل ينجيه بإذن الله سبحانه وتعالى به .
وهذه الضوابط في مسألة إيقاع الكفر على من تلبَّس بشيء من المكفرات ، هي لابد أن يستحضرها حال إيقاع الكفر على الإنسان .
1- أولا : مسائل الاعتقاد الكلية ... الأصل أنه لا يُعذر بها الإنسان إلا في باب ضيق .
2- كذلك يُنظر لحال الشخص هل هو حديث عهد بكفر ونحو ذلك ، أو وقع عليه شيء من الأعذار التي تقع في ذاته ونحو ذلك .
3- النظر كذلك إلى بلد الإنسان ، هل هو في بلاد الإسلام أم لا .
ولذلك الرجل الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام في خيبر ، فقال: إنني لي بمكة أهلا ومالا ، فأْذَنْ لي يا رسول الله إن ذكرتك بسوء ، فذهب إلى مكة وأخذ يذكر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شاعر ... كاهن ، حتى أخذ أهله وماله ولحق برسول الله صلى عليه وسلم .
فأنت لو رأيت ذاك الشخص ، وهو يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ، هل توقع عليه الكفر أم لا ؟ ظاهره أنك توقع عليه الكفر ، لأن مثله لا يمكن أن يكون معذورا ، لأنه قد قامت عليه الحجة ، فهو حينئذ قد يقال : أنه قد كفر في نظر من لم يعلم بعذره ، وذلك لوقوعه في أشياء من المكفرات ، وهو الطعن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لكنه قد استحق العذر إلى الله سبحانه وتعالى فقام عذره عند الله عز وجل ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام عذره لمصلحة رآها ، وهو لحوق أهله وماله برسول الله صلى الله عليه وسلم ... نعم :
إلى أن قال : ( فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق ) مثل مسجد يقال له مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبى طالب حتى هدم الله ذلك الوثن
ولا وجود له في هذه الأيام ، وقد اندثر ... نعم :(1/54)
وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد ، وفي الحجاز منها مواضع . ثم ذكر كلاماً طويلاً في نهيه عن الصلاة عند القبور فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك .
وإن كانت الصلاة عبادة بذاتها ، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن آداء الفرض وهي الصلوات الخمس ، لكنها من جملة الفرائض ، لم ؟ لأن ثمة مصلحة أعظم من ذلك ، وهو درء مفسدة الشرك ، وهذا يدل على أن الإنسان يحتاط للشرك غاية احتياطه ، حتى وإن كان ذلك لآداء الصلاة ، وإن كانت الصلوات الخمس ، فيجب على الإنسان أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ولا يؤديها في موطن فيه قبر ... نعم :
ثم ذكر كلاماً طويلاً في نهيه عن الصلاة عند القبور فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك . ذكر ذلك الشافعي وغيره ، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد.
ولذلك لعن النبي عليه الصلاة والسلام المتخذين قبور أنبيائهم مساجد ومن اتخذ القبور مساجد ، فإذا وُجد قبر في مسجد فهل تقوم الصلاة به ؟ يقال : لا يخلوا القبر إذا كان في المسجد من حالين :
1- إما أن يكومن القبر قد وُجد قبل المسجد ، فحينئذ هذا لا يسمى مسجدا ، وإنما يسمى بناء قد حورب الله عز وجل به ، فيجب هدمه وإزالته ، لأن هذا الموطن هو قبر ، وموطن قبر بل هو مقبرة ، ولا يمكن ولا يجوز أن يُصلى فيه ، فإن صلى فيه الإنسان من دون علم بهذا القبر فصلاته صحيحة ، إما إن صلى فيه وهو عالم بوجود القبر فصلاته باطلة ، لأنه قد شابه اليهود والنصارى بفعلهم ... باتخاذهم القبور مساجد ، وهو ملعون بفعله ذلك .
2- أما إذا وُجد المسجد ثم أدخل القبر ، فيجب أن يُنبش ... يُنبش لأن هذا مسجد قد بُني لعبادة الله سبحانه وتعالى ، وليس موطن للقبور.(1/55)
أما إذا أراد الإنسان أن يصلي في موطن فيه قبر ، كأن يصلي في فناء منزله وفيه قبر ، ومعلوم أن العرب في أوائل أمرهم كانوا يدفنون موتاهم في حجرهم ، وفي أفنية منازلهم ، لم يكونوا يستوحشون من القبور كحال المتأخرين ، فلذلك يقول الشاعر :
لكل أناسٍ مقبرٌ بِفِنَائِهم فَهمْ يَنْقصونَ والقبورُ تزيدُ
ولذلك دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في حجرة عائشة ، وكانت عائشة لما دُفن النبي عليه الصلاة والسلام في حجرتها، تصلي في حجرتها ، لكنها قطعا لم تكن تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تستحضر في قلبها شيئا من ذلك قطعا ، وكذلك لما دُفن أبوبكر ، ثم لما دُفن عمر خرجت لأنه لا مكان لها في حجرتها لصغرها .
فيُقال إذا كان في غير مسجد ، ووُجد قبر ، فإن الإنسان لا يستقبله ، ويصلي فيه ، ويجب عليه أن لا يتخذه مسجدا أي يعتاده ، كأن يكون في فناء منزل ونحو ذلك يوجد قبر ، فلا حرج عليه أن يصلي في منزله ، ويصلي فيه ، لكنه لا يعتاده بالذهاب ، كأن يكون منزل جاره فيه قبر ونحو ذلك ويتعمد الذهاب إليه ، ويقول أنه يجوز الصلاة في المنزل والأفنية ، ولأن القبور في الأفنية موجودة من قديم ، وصلَّت عائشة ... يقال: لا ، إن كان مننزلك هو فيه قبر فلا حرج عليك أن تصلي ، لكن لا تستقبله تجعله بينك وبين القبلة .
أما وضع المساجد فلا ، وهذا أمر يختلف ، فيحرم أن توضع قبور في المساجد ، وأن تبنى المساجد على القبور ، بل أنها إن بُنيت لا تعد مساجد وتجب إزالتها ، وليس لها حرمة مطلقا ، وليس لها حرمة المساجد ، بل ليس فيها تعظيم الأجر ، ولا يجوز فيها ما يجوز في المساجد ، ولا يتعبد الإنسان فيها من اعتكاف وغير ذلك ، لأنها ليست مساجد ... نعم :(1/56)
وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد ، كأبي بكر الأثرم عللوا بهذه العلة ، وقد قال تعالى : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا ..) الآية ، ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم
لذلك سماها آلهة لأنها معبودة ، ولذلك قد روى ابن جرير الطبري من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس في قول الله عز وجل : ( ويذرك وآلهتك ) قال : ويذرك وإلهتك يعني معبدوك ... نعم :
أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره .
ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد
ولذلك حرم الله عز وجل على لسان نبيه التصاوير ، لأنها ذريعة إلى الإشراك مع الله عز وجل ، فكلما كان التصوير من باب التعظيم كلما كان التحريم أعظم ، لأن ذلك يؤدي إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى ، فإن إبليس لما مات هؤلاء الصالحون ، وأراد بوضع التماثيل لهم ، أوحى إلى من جاء بعدهم من باب تخليد ذكرهم وما يسمى بالذكريات ونحو ذلك ، ثم لما جاء جيل بعدهم قال أنهم وضعوه لأنهم رجال صالحين ، ثم صرفوا لهم شيئا من أنواع التعظيم ، ثم صُرفت لهم العبادة المحضة من دون الله سبحانه وتعالى ... نعم :
ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجساً ، وقال عن نفسه : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )(1/57)
ولذلك علة النهي عن الصلاة عند القبور ليس المراد بنجاسة التربة ونحو ذلك وتحلل أجساد الموتى ، فأجساد الأنبياء ليست بنجسة ، ولذلك لعن النبي عليه الصلاة والسلام اليهود والنصارى ( اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ، ولعن من تشبه بهم باتخاذ القبور مساجد ، ليس لنجاسة التربة ، وإنما لأن ذلك يُسبب نجاسة القلوب ، وهو الإشراك مع الله عز وجل غيره ، وهو تشبه بالفعل على أقل تقدير بفعل عبدة الأوثان وعبدة القبور ، وهذا كافٍ في إفساد العبادة ، لكنه لا يخرج الإنسان من الملة ، لكنه لا يخرج الإنسان من الملة ، إلا إن اعتقد بقلبه .
فإن كان ثمة أهل بلد قد وضعوا قبورهم في مساجدهم ، وصلوا فيها ، وإن كانوا يصلون لله فإن هؤلاء من الضلَّال ، ويُقاتَلون حتى يخضعوا لأمر الله سبحانه وتعالى .
ومن العلماء من قال أن النهي عن الصلاة في المقابر لا دليل عليه ، وإنما المراد به انصراف القلب ، وذهب إلى هذا بعض العلماء عليهم رحمة الله تعالى مما اذكره هو ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى في كتابه التمهيد ، ولكنه ما أراد جواز وبناء المساجد على القبور أو ترك القبور في المساجد ، ولكنه يتكلم عن الصلاة إذا صادفت الإنسان في مقبرة ونحو ذلك = أنه يصليها ، وكل ما جاء النهي عن الصلاة في المزابل والمقابر والحمام ونحو ذلك ... الأحاديث كلها التي جاءت في هذا الباب بسند مرسل ، وكلها معلولة ، أما اتخاذ القبور مساجد فالحديث في الصحيحين ، ويحرم فعل ذلك ... نعم :(1/58)
فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سداً للذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ، ولا يدعو إلا لله ، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها ، وكلا الأمرين قد وقع ، فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعوها بأنواع الأدعية ، وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثيرا من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام , وصنف بعض المشهورين فيه كتاباً على مذهب المشركين مثل أبي معشَر البلخي.
معشَر البخلي هو : جعفر بن محمد بن علي البلخي ، ولد في بلخ في خراسان ، ثم انتقل إلى بغداد ، وكان من أهل الحديث ، وتوفي في أواخر القرن الثالث ، وهو من كبار الأذكياء ومن المنجِّمِين ، وكان طالب حديث ومن أهل الحديث في أوائل أمره ، حتى انصرف إلى علم النجوم وعلم الأفلاك ، وكذلك قد وضع في بابه ما يسمى بالهندسة ، وكذلك الحساب ، ويُسمى كذلك عند من جاء متأخرا بمسائل الرياضيات ونحو ذلك والجبر وغير ذلك ، وقد وقع في كثير من الزندقة والتعلق بالنجوم والأفلاك ونحو ذلك ... نعم :
وثابت بن قرة وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت(1/59)
وثابت بن قرة هو أشد منه زندقةً ، بل أنه قد سلك سبيل الصابئة ، وقد ولد بحرَّان ، كذلك انتقل إلى بغداد ، ثم خرج منها ، وقابل الخوارزمي ، حتى أخذه الخوارزمي لما نظر جودة وحدة ذكائه ، وأخذه إلى المعتضد بالله ووهبه الهبات ، وكان من أذكياء الدنيا ، فبرع في الفلك وله كتب مشهورة ... له كتاب : ( المدخل الكبير ) وكذلك له كتاب : ( الزيج الكبير والصغير ) و ( أسماء الذكور والإناث ) وله كتاب : ( النجوم ) ونحو ذلك ، قد برع فيما يسمى بعلوم الأفلاك والنجوم ونحو ذلك ، حتى عبدها من دون الله عز وجل وسلك دين الصابئة ، فكفر بالله سبحانه وتعالى بذلك ، وإن كان من أذكياء الدنيا ، وقد أوتي ذكاء إلا أنه لم يؤت زكاء ، فحُرِم ذكاءه فصرفه في عبادة غير الله سبحانه وتعالى ، وبرع في كثير من العلوم ، كعلوم الهندسة وكذلك الجبر ، وقيل أنه هو أول من أحدث الهندسة التحليلية ، وكذلك مسائل الجبر التي تبنى على الهندسة ، وكذلك في بعض حسابات الأفلاك في السنة النجمية ونحو ذلك ، فانتقده بعضهم وبالغوا فيه ... قالوا أنه لم يخطئ في حساب السنة النجمية إلا بقدر ثانية ونحو ذلك ، وقيل أنه كذلك هو الذي مهَّد لنظرية : ( حساب التضامن ) و ( حساب التكامل) ونحو ذلك ... نعم :
مثل أبي معشر البلخي , وثابت بن قرة وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت والجبت وهم ينتسبون إلى الكتاب كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ). انتهى كلام الشيخ رحمه الله(1/60)
العبرة ليست بالانتساب ، قد ينتسب الإنسان ، فالصابئة يزعمون أنهم أصحاب كتاب وليسوا بأصحاب كتاب ، فالكتاب لا يدل إلى عبادة النجوم من دون الله سبحانه وتعالى ، وكذلك المجوس ليسوا بأصحاب كتاب ولا يتبعون نبي ، وإنما كفروا من دون الله سبحانه وتعالى ، فاتبعوا دينا قد أملوه عليهم آباؤهم ، وكذلك من ظن أنه يتبع اليهود والنصارى ، أو تفرَّع بعض تشريعاتهم عنه ، كبعض العبادات الوثنية في الصين أو اليابان ونحو ذلك ، فهذا لا يعتد بكلامهم ، فالاحتجاج والقول لا عبرة به ، وإنما العبرة بما يفعله الإنسان ، ولذلك كثير ممن ينتسب إلى أهل الكتاب ليس من الكتاب في شيء حتى من الكتاب المحرَّف ، وإنما هم وثنيون قد عبدوا الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب من دون الله سبحانه وتعالى ... نعم :
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية(1/61)
الفخر الرازي هو من كبار الأئمة ، ومن كبار المصنفين ، قد وقع في كثير من نواقض الإسلام ، وله كتاب مشهور الذي كفَّره به غير واحد من أهل السنة ... كتاب : ( السر المكتوم في مخاطبة النجوم ) قد وقع فيه من الزندقة والكفريات ما الله به عليم ، وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى في مواطن ، وله كتاب التفسير الكبير ويسمى : ( مفاتيح الغيب ) ، وله كتاب : ( المحصول ) وكذلك : ( المطالب العالية ) وكذلك : ( الأربعين في أصول الاعتقاد ) ونحو ذلك ، قد ملأها بالضلالات ، وتقديم العقل على النقل ، ومن أجود ما صنف هو كتابه التفسير ، وقد ملأه كذلك بتقرير بعض الآراء الاعتزالية ، وكذلك آراء الأشاعرة ونحو ذلك ، وإن كان قد نصب نفسه راداً على المعتزلة في كثيرمن المواطن ، إلا أنه يرد على المعتزلة بتقرير مذهب الأشاعرة ، وقد وقع في اضطراب كثير في تفسيره ، فربما يقر مسألة في موطن و يخالفها في موطن آخر ، كما أقر أن المطر ينزل من الأفلاك ، وقال لا ينزل من السحاب ، ثم لما جاء في موطن آخر نقضه وبين بطلانه في كتاب واحد .(1/62)
ومما ينبغي أيضا أن يُعلم أن كتابه التفسير الكبير ليس كله من تصنيفه ، ويُخطئ البعض حينما ينقل بعض المواضع عن تفسير الرازي ، ويقول : قال الرازي في بعض المواضع ... وتكون ليست له ، فمن تفسيره من تفسير سورة ( العنكبوت ) إلى ( يس ) ، ومن سورة ( الفتح ) إلى ( الواقعة ) ، ومن ( الممتحنة ) إلى ( التحريم ) ... هذه ليست له ، وإنما هي من تأليف أحمد بن خليل الخولي ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله تعالى في كتابه اللسان أنه قد زاد وكَمَّل تفسيره في هذه المواضع أحمد بن محمد القمولي ، قال: وأكمل تفسير الفخر الرازي وأتمَّه ، ومنهم من قال أنه أتمَّه على هذا أكثر من واحد ، فجعلوا أحمد بن خليل وأحمد بن محمد ، وقد أشار إلى هذا وبين من زاد على التفسير وأضاف إليه الإمام عبد الرحمن بن يحيى المعلمي عليه رحمة الله تعالى في رسالة له في هذا الباب .
وكتابه (1) محشو بالاعتزال ومحشو بالتمشعر ، وقد أخذ مادته من كثير من المعتزلة ، فأخذ أصول الاعتقاد - وهي مسائل الاعتقاد الكلية - وأخذ أصول الفقه من مصنفات أبي الحسين المعتزلي ، وأخذ مسائل الفقه والفروع وكذلك أخذ مسائل البيان والعربية ... أخذها من الزمخشري ، وأخذ مسائل الفقه و آرائه الفقهية ومذهب الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى ... أخذ الفقه عن القاضي عبد الجبار المعتزلي ، إذا فكل مادته هي جلها من مصنفات المعتزلة ... نعم :
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية ، ومثل أبي معشر
ولذلك ينبغي لطالب العلم الذي يختص في مسائل الاعتقاد والرد على المتكلمين ، وخاصة على المعتزلة أن يعتني بكتابه هذا ، فإنه من أقوى من رد على المعتزلة ، ولكنه ليحذر من تقريراته لمذاهب الأشاعرة ونحو ذلك ... نعم :
__________
(1) أي كتاب التفسير للفخر الرازي(1/63)
وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهما أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام ، والفخر هو الذي ذكره الشيخ في الرد على المتكلمين ، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال : وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى .
وتأمل أيضاً ما ذكره في اللات والعزى ومناة وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعله بدمشق وغيرها وتأمل قوله على حديث ذات أنواط.
لا فرق بين ما يفعله كفار قريش في الجاهلية وبَعْث الله عز وجل محمد إليهم ، وبين ما يفعله بعض من ينتسب إلى الإسلام في الشام أوفي مصر أو في بلاد الهند أو الباكستان ونحو ذلك ممن يطوف على القبور ويسجدون عندها ... لا فرق أبدا ، إلا أن هؤلاء زادوا شيئا من شعب الإيمان ، لكن لا ينفع وجود شعب الإيمان مع وجود شعبة واحدة من شعب الكفر الأكبر ، لأنها تحبط ما يعمله الإنسان من عمل خير وبر .(1/64)
وهذا الأمر الذي ينبغي أن يفهم ويقرر حتى في نفوس العامة ، وأن يقرر في نفوس طلبة العلم، وهو أن وجود شعبة من شعب الكفر الأكبر تمحو سائر شعب الإيمان التي توجد في الإنسان ، فقد يقول قائل : إن فلان يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . وإن شهد !! إذا كان يسجد للأصنام ، ويطوف على القبور ، ويذبح لغير الله سبحانه وتعالى ... ماذا تغنيه هذه الكلمة إذا كان يتلفظ بها لفظا ، ولا يعتقد معناها ، ولا يكون ذلك على جوارحه !! ولذلك انطلى على كثير ممن ينتسب إلى العلم في كثير من البلدان الإسلامية عدم تكفير من يطوف على القبور ، أو يسجدون عندها ، أو يذبحون لها من دون الله سبحانه وتعالى ، باعتبار أن هؤلاء إما معذورون ، أو باعتبار أن هؤلاء يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ... هذا هو جهل بحقيقة التوحيد ، وإن نطقوا ووُّجد لديهم شيئا من شعب الإيمان ، لا يغني ذلك شيئا إذا وُجدت شعبة من شعب الكفر الأكبر ، لأنها تمحو ذلك كله ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) ما المراد بالعمل الذي يحبط ؟ شعب الإيمان التي توجد في الإنسان ، و إلا ما الذي يُحبط إذا كان وجد لديه الشر فقط ، إذا ثمة خير فيه ، لكنه حابط لا يقبله الله سبحانه وتعالى ، ولذلك لما نذر ... كما روى الإمام عليه رحمة الله تعالى في مسنده ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن العاص نذر أن ينحر مئة من الإبل في الجاهلية ، فتوفي فنحر ابنه هشام بن العاص خمسين ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( لو أقر أبوك بالتوحيد نفعه ما تصدقت ودعوت به ) ... نعم :
هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه ، فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام.(1/65)
ولذلك يُرى كثير من الجهلة من العوام وإن كان يملك قلماً يكتب به في وسائل الإعلام ونحو ذلك ، حينما يتكلم على شخص قد وقع في شيء من الكفريات ، فاستحق كلمة الكفر والخروج من ملة الإسلام ، يصفه ببعض شعب الإيمان ، أنه ربما كان مصليا ، وربما كان يتصدق ، ويحسن للأيتام وللفقراء ، ويقرأ القرآن ، ويذكر الله سبحانه وتعالى ، ويصل الرحم ونحو ذلك ... هذه لا تغنيه شيئا إذا وُجد شيء من المكفرات ، لأنه يخرجه بذلك من دائرة الإسلام ... لا يغنيه ذلك .
بل لا ينبغي لطالب العلم وبل ولا للمسلم أيضا أن تهزه تلك المحاسن التي يذكرها في مقابل الإشراك مع الله عز وجل غيره ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى توحيد بمكة ، ودعا إلى تقرير الإيمان في قلوب الناس ، ولم يدعو إلى شيء من فروع الإسلام إلا ما ندر ، وذلك لتقرير أمر عظيم ، ثم بعد ذلك جاءت أمور فرع الإسلام ... نعم :
وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم قال رحمه الله تعالى : أنا من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، أو تبديع ، أو تفسيق ، أو معصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى(1/66)
ومن وقع في الكفر من الجماعات والأمم والشعوب فإنه يطلق عليهم التكفير ، وإذا أقيمت على أفرادهم فيُطلق كذلك على أفرادهم بأنهم كفروا إذا تيقن الإنسان أنه قد قامت عليهم البينة بذاته، فإنه يطلق عليهم ، أما الحكم على الإجمال فإنه يُطلق الشعوب وبعض الأمم وبعض البلاد التي وقعت في شيء من المكفرات ... يُطلق عليهم أن ذلك الشعب أو تلك الأمة أمة كافرة ، لأنها عبدت غير الله سبحانه وتعالى ، كحال الرافضة أو حال مثلا الإسماعيلية وغيرهم ممن قد وقعوا في الإشراك مع الله عز وجل ، بل لا يكاد يوجد لديهم شيء مما يُشير إلى توحيدهم لله سبحانه وتعالى ، فكفروا بالله سبحانه وتعالى ، فيقال أن هؤلاء كفار ، ورؤوسهم كفار بأعيانهم ، لكن أعوامهم يطلق الإنسان عليهم الكفر بالجملة ، لكن بأعيانهم ... فلان بن فلان ... إذا تبين له أنه ليس بمعذور فيقع عليه الكفر بعينه ... نعم :
إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى . انتهى كلامه.
وهنا مسألة وهي مسألة : الأسماء والأحكام ، وتقدم الإشارة إليها، أن الإنسان قد يكفر اسما ولا يكفر حكما ، باعتبار مشابهته لأفعال الكفار في الظاهر ، لكنه قد يكون معذور في الحقيقة ، فحينئذ لا حرج بأن يطلق عليه بشرط واحد : يطلق عليه اسم الكفر إذا لم تكن تعلم عذره ، فإذا وقع الإنسان في شيء من المكفرات ، فيُقال أنه كافر اسما ، لكنه لا يكفر حكما .
والفرق بين الاسم والحكم : الاسم هو اللفظ ، والحكم هو ما يتبعه من استباحة الدم واستباحة المال ونحو ذلك .(1/67)
وهذا كما أنه يقع في باب الكفر ، كذلك يقع في باب التفسيق ، فمن وقع في الزنا ، وأنت تعلم أنه معذور مثلا ، فمن وقع في الزنا مثلا كشخص مثلا جُنَّة ، واختُلِس عقله ، فوقع على أخته أو وقع على أمه أو وقع على جارته ونحو ذلك ، وأنت تعلم أنه معذور ، هل يُعد زاني أو لا يُعد زاني ؟ يُعد زاني ، لكنه لا يُقام عليه حدٌ ، ولا يُقام عليه شيء ، لكنه يقال أن هذا وقع في الزنا . كذلك من شرب مسكرا يظنه ماء ، فقالوا : هذا سكران ومخمور . لكنه لا يُقام عليه الحد ، فلا ينطبق عليه هذا الحكم .
إذاً ... مسألة العذر إذا جهلها الإنسان فإنه يُطلق على الإنسان ما ظهر منه ، لكنه لا يُطلق عليه حكماً ، وهذا هو الفرق في باب الأسماء والأحكام .
وأما من قال ... ذهب من المرجئة وأضرابهم ، وهم على أبواب هذا ، قالوا أن من وقع في شيء من المكفرات لا بد من اعتقاد قلبه ، وحينئذ هم بفعلهم هذا قد شابهوا مسائل أصول الإيمان وخلطوا مسائل أصول الإيمان وكذلك الشركيات في فروع الإسلام ، فجعلوا التقرب إلى الله عز وجل بالتوحيد نظير التقرب إلى الله عز وجل بفروع الإسلام ، وجعلوا عصيان الله عز وجل بالشرك كعصيانه بالذنوب وسائر الذنوب والمعاصي ، وتفصيل ذلك وبيانه ... أن من قال أن من وقع في شيء من المكفرات لابد أن يعتقد بقلبه أن هذا الفعل محرم ، فيقال: أنه إن فعل فعله ذلك فإنه كفر بالله سبحانه وتعالى ... اعتقد أو لم يعتقد ، لأنه باعتقاده فقط ولو لم يفعل كفر ، لأنه باعتقاده فقط ولو لم يفعل كفر ، فلو اعتقد أنه يجوز السجود لصنم كفر بالله سبحانه وتعالى ولو لم يسجد سجدة ، لأن التعلق بالاعتقاد أمر ، وبالفعل أمر ، ولذلك الإنسان الذي يقول أن الإنسان لا يكفر إلا إذا استباح بقلبه هو قد شبَّه سائر المعاصي بسائر نواقض الإيمان ، فمن وقع في شيء من المحرمات من زنا ، هل نكفره؟ لا يكفر ، لأنه من جملة العصاة ، لكنه لو استباح واستحل الزنا كفر .(1/68)
إذاً ... ما هو الفرق بين الشرك وبين المحرمات ؟ لا فرق حينئذ ، وهذا خلط في مسائل المحرمات وبين مسائل الشركيات ، وهذا لا قائل به من أهل السنة ، فمن وقع في الشرك كفر بعبادته ، ويحكم عليه بالكفر ، وإن اعتقد كفر كذلك ، لأنه قد يقع بالكفر اعتقادا ، ويقع بالكفر عملا .
أما من جهة المعصية : من أحب أن يقع في معصية زنا أو شرب خمر ولكنه لم يفعل لا يأثم بذلك ، وهذا هو الفرق ، لكنه لو فعل ولم يعتقد التحريم ، واعتقد الحل كفر الله سبحانه وتعالى ، هل كفر بفعله أم باعتقاده ؟ كفر باعتقاده .
حينئذ نقول : أن من قال أن من وقع بالكفر لا يكون إلا أن يعتقد الحل ويعتقد الجواز ... هذا يُشبِّه أصول الإسلام بفروعه، ويجعل نواقض الإيمان كالتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات، وكذلك كمخالفة الله عز وجل بسائر المحرمات .
فمن اعتقد الحل كفر ولو لم يفعل، ومن فعل ولو لم يعتقد الكفريات كفر ، ومن فعل المحرمات من غير اعتقاد حلٍ عصى ، ومن اعتقد وأحب المحرمات مع اعتقاده تحريمها فإنه لا يكفر ، ولا يكون حينئذ قد أصاب ذنباً ، لأن الله عز وجل قد فطر الإنسان وغرس فيه شهوة ... اتباع لذة الكلام وكذلك لذة السماع ولذة النظر وكذلك شهوة الفروج ونحو ذلك التي يميل الإنسان إليها ، فمنعه من هذه هي كي يكون ثمة شيء من المدافعة بين نزوات وبين حدود الشرع ، فمن كبح نفسه فإنه قد استحق الثواب من الله سبحانه وتعالى .(1/69)
ولذلك الثواب بحسب ما في قلب الإنسان من دافع إلى الشر ، وكذلك من دافع إلى الخير ، فكلما قوي على نفسه بمجابهة دوافع الشر ، فإنه بقدر ما تكون لديه المثوبة ، وبقدر كره نفسه فيما يتقرب إلى الله عز وجل من عبادة بقدر ما يكون الثواب ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل من أفاضل الأعمال ... قال : ( إسباغ الوضوء على المكاره ) ما الفرق بين إسباغ الوضوء على المكاره وغير المكاره ؟ فسره بعض العلماء ... ( إسباغ الوضوء على المكاره ) قال : أن يتوضأ الإنسان في يوم بارد ، أو يتوضأ على وضوء ، وهذا ثقيل على النفس ، لأنه على طهارة ، وفي يوم بارد ، والصلاة قد قرُبت ، فإنه يذهب إلى المسجد أيسر له ، لكنه إن توضأ على وضوء هذا من أفضل الأعمال ، لأن النفس لا ترغب ذلك ، والإنسان بعقله يدرك أن هذا عبادة ، فيرغمها على هذه العبادة ، فيكون حينئذ قد نال أعلى الدرجات .
ولذلك كان الجهاد في سبيل الله والقتال من أعظم الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى ، لأن النفس تكرهه ، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه العظيم : ( وكتب عليكم القتال وهو كره لكم ) فالله عز وجل قد أخبر بأن الإنسان يكره العمل الصالح ، لكنه كرها فطريا ، وليس كل عمل صالح ، فلا يكره التشريع ، وإنما يكره البرد الذي يصيبه من الماء ، ويكره كذلك أن يلقي بنفسه إلى الموت ، وكذلك إلى الجراح ، وفقد ماله ونحو ذلك ، لكنه مُقر ومُحب لذات التشريع ، كاره لما يتبع ذلك من مضرة في الظاهر على نفسه ، لما يرجوه من ثواب الله سبحانه وتعالى .
وكلما كانت المدافعة بين نزوة الإنسان ، وبين نصوص الشرع في قلب الإنسان ، وترجحت نصوص الشرع على نزوة النفس كلما عظم الثواب عند الله سبحانه وتعالى .(1/70)
ولذلك يُعلم بفساد وبطلان ما يتكلمه به كثير ممن يسمى بـ ( الكُتَّاب ) أو ( المفكرين ) ونحو ذلك ، ويدعون كثير من الناس إلى الثقة بالنفس ، أي ( ثق بنفسك ) ونحو ذلك ... هذا كلام باطل ، الثقة بالنفس لا يمكن أن تجر الإنسان إلى خير ، ولذلك يقول الله عز وجل : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) لأن النفس أمَّارة بالسوء ، وهذا هو الأصل فيها ، فإذا وثق الإنسان بنفسه دلَّته إلى الغواية والضلال ، وإذا وثق بعقله وساقه مساق الشرع ، فإنه حيئذ ينجو ، ولذلك يُقال : ( ثق بعقلك ، واجعله يدور مع الشرع أينما دار ) فإن هذا هو نجاة الإنسان وخلاصه من عقاب الله ... نعم :
وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة ، وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير ، أو تفسيق ، أو معصية .
مسألة الكفر والحكم على الإنسان أنه كافر بعينه : يُطلق عليه إذا استحق الكفر ، ورفعت عنه سائر الأعذار ... يُطلق عليه أنه قد كفر بعينه ، لكنه لا يحكم عليه بالنار ، لأنه ربما قد خُتم له بخير من حيث لا يعلم الإنسان .
فيُقال :
أنه كافر بعينه ، إن مات على كفره كان من أهل النار ، لكنه لا يُقال أنه كافر من أهل النار ، لأن هذا تعالي على الله سبحانه وتعالى ، وفرق بين الحكمين .
وليس فيه تناقض ، فيقول الإنسان إذا كان الكافر من أهل النار ، فلماذا لا يُحكم عليه بالنار؟
نقول : يُحكم عليه بالنار إذا عُلم أنه مات على كفره ، ولذلك قد يجهل البعض أمثال هذه المسائل ، وقد يضل في هذا الباب كثير ممن ينتسب إلى العلم .(1/71)
فلما توفي رأس النصارى المسيحيين ( البابا ) قبل أشهر ، قد ترحَّم عليه بعض من ينتسب إلى العلم ، وقال أنه ربما مات على خير ، ولا يُعلم ذلك هل مات أم لا ... هذا من أجهل الناس بأصول الاعتقاد ، وأجهل الناس بتوحيد الله سبحانه وتعالى ، بل أنه لو شهد أنه لا إله إلا الله ، وعُلم يقينا أنه وحَّد ، فموته وبقائه على هذه الحال الذي هو فيها من أعظم نواقض الإيمان ، وهو الكفر بالله سبحانه وتعالى ، ورَضي على ما هو عليه ، بل لو علم الإنسان وثبت إليه بنقل الخبر الثقة أنه يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ويصلي الصلوات الخمس ، هو كافر بالله سبحانه وتعالى ، لأن بقاءه في هذا المكان تضليلا لأمة وشعوب من الناس = كُفُرٌ بالله عز وجل وناقض للإسلام ، و هذه شعبة من أعظم شعب الكفر بالله سبحانه وتعالى .
وقد يستدل البعض ممن يجهل أصول الإسلام بحكم الله سبحانه وتعالى وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم على النجاشي ، فالنجاشي قد أخفى إيمانه ، وكذلك قالوا أنه لم يحكم بما أنزل الله ، وبقي على حكمه بقومه ومات ، مع ذلك لم يُكَفِّره رسول الله صلى الله عليه وسلم وحَكَم على إيمانه . فيُقال :
1- أولا : هل الشريعة اكتملت ، والنجاشي إنما مات في أول الأمر ، وهل أمر الله عز وجل بتحكيم حدود معينة .
2- كذلك أيضاً : في مسألة بلوغ ما ورد إليه من أحكام الله سبحانه وتعالى وتفاصيله ، فالشريعة لم تكتمل حينئذ .
ومن قال أنه لم يحكم بما أنزل الله ، فيقال : أثبت أن حكم الله عز وجل قد نزل قبل وفاته ، وأن شريعة الله عز وجل قد اكتملت .(1/72)
ونظير هذا : من قال بذلك فإنه يلزمه أن يقول بكفر بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين وقعوا في بعض الكفريات ، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا قائل بذلك مطلقا ، لأن الشريعة لم تكتمل ، والناس حدثاء عهد بكفر ، كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ) هذا الكلام كلام كفر ، لكنهم لم يكفروا ، لماذا ؟ فلا بد من إثبات دليل أنهم علموا قبل ذلك ... ولا دليل ، لكن أن يقال بأناس قد علموا أن الله عز وجل قد أمر تحكيم كتابه ، وتشريع دينه ، وأن نصوص الشرع قد نزلت ، يُمثَّل هؤلاء بمن جاء في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ، وشريعة الله عز وجل لم تكتمل ، ولم يثبت أن حكم الله عز وجل قبله ، بل بيقين أن حكم الله عز وجل هو أمره بتحكيم كلامه ، وما أنزله الله عز وجل من تحكيم شريعته إنما كان بعد وفاته .
ولذلك الاستدلال ببعض مسائل الاعتقاد في عصر النبي عليه الصلاة والسلام في مسائل التكفير = هذه فيها ما فيها ، وإنما بعد اكتمال الشريعة ، ونزول قول الله عز وجل : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وبلوغ الأمر للناس كافة ، فيقال بذلك أنه لابد من الامتثال ما جاء في كلام الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ورد ، ومن ذلك تلك الوقائع ، فإذا عُلم أن ثمة شخص بحال النجاشي لا يقال بكفره ، وإذا وُجد أن هناك أناس بحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قالوا : ( اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ) وإن كان ذاك الكلام كفر ، لا يُقال بكفرهم بشرط أن تكون الحال كحالهم ... نعم :
وصرح رضي الله عنه أن كلامه في غير المسائل الظاهرة ، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال : وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها(1/73)
وبعض دقائق المسائل والكلام خاصة عند المتكلمين لا ينبغي للإنسان أن يبادر إلى تكفير من قال ذلك ، لأنه ربما يكون من الكلام الدقيق الذي يُحمل على معاني عدة ونحو ذلك ، فينبغي للإنسان أن يدرأ التكفير عن المرء ما دام يجد له محملاً في الشرع ، ولا يدرأ التكفير عمن وقع في الكفر إذ أنه لا يجد له محملا ، فكما أن الشارع قد حذَّر من إخراج الإنسان من الكفر إلى الإيمان ، كذلك حذَّر من إدخال الإنسان في الإيمان من الكفر ، وذلك أن كلا الأمرين محظور ، وإن كان أعظم شر هو إخراج الإنسان إذا كان أصله من أهل الإيمان أن يخرج إلى الكفر ... أعظم عند الله عز وجل ، لأن الأصل فيه أنه من أهل الإيمان ، لكن ليستحضر الإنسان أن الإنسان بين أمرين :
كما أنه يحرم عليه - والأمر عند الله عز وجل جليل عظيم - أن يُخرج الإنسان من الإيمان إلى الكفر ، كذلك عظيم عند الله عز وجل أن يدخله إلى الإيمان وهو من أهل الكفر ، ولذلك الإنسان ينبغي أن يحتاط في هذا ، وإن وقعت في قلبه شبهة في هذا أن يمسك عن كلا الأمرين ويسكت ، ولذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى قد أمسك عن ذلك في أيام المحنة ، وما أطلق التكفير على جملة ممن وقع في الفتنة ، وأجاب إليها ممن هم من أهل الإيمان وأهل غيره ... نعم :
لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله بعث بها ، وكفر من خالفها ، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين .(1/74)
وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبدالله الرازي ( يعني الفخر الرازي ) قال وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . انتهى كلامه .فتأمل هذا وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكر أعداء الله ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .على أن الذي نعتقده وندين لله به ونرجو أن يثبتناً عليه أنه لو غلط هو أو أجلَّ منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة ، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين ، أو يزعم أنه على حق ، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة
ولذلك يفرق العلماء عليهم رحمة الله تعالى في موطن إنزال بلوغ الحجة وفهمها ، فبلوغ الحجة في أصول الإسلام وكليات الاعتقاد لابد منه ، وفهم الحجة يكون في بعض الفروع كبعض فروع مسائل الأسماء والصفات ونحو ذلك ... لا بد من فهم الحجة ، فبعض المأولة وبعض المشبهة ونحو ذلك لا يقال بكفرهم ، يقال بابتداعهم وضلالهم ، ولابد من فهمهم الحجة من نصوص الشرع ، لا يلزم من ذلك بلوغ الحجة فقط ، فلابد مع بلوغها أن يفهموها .
أما في أصول الاعتقاد الكلية وهو أصول الإسلام ، فإذا بلغت الحجة كفى ، وإن لم يفهموها لأن إفهامها لا يمكن أن يدركه كل إنسان ، والشرع لا يُعلَّق بأمثال هذه الأمور كما تقدمت الإشارة إليه ... نعم :
على أن الذي نعتقده وندين لله به ونرجو أن يثبتناً عليه أنه لو غلط هو أو أجلَّ منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة ، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين ، أو يزعم أنه على حق ، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة ، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط .(1/75)
فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة ، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) أو حجة قريش : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .وقال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره بقتالهم ، قال : فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة
والخوارج من الفرق الضالة ، ومن أئمة الضلال ، وقد اختلف أهل السنة في كفرهم ، وهما روايتان في مذهب الإمام أحمد ، قد حكم بكفرهم جماعة ، وهو ظاهر صنيع الإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى ، حيث ترجم في كتابه في أبواب المرتدين من صحيحه ، وكذلك قد روي تكفيرهم عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي عليه رحمة الله ، وروي عن جماعة عدم تكفيرهم ، وعقيدتهم هو أن من وقع في شيء من الذنوب والكبائر أنه كافر بالله سبحانه وتعالى ، وأنه خالد مخلد في النار والعياذ بالله ... نعم :
فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر رسول الله بقتالهم ، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان وذلك بأسباب ، منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) وعلي ابن أبى طالب حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كنده فقذفهم فيها ، واتفق الصحابة على قتلهم ، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( لا يُعذِّب بالنار إلا رب النار ) العذاب بالنار منهي عنه ، وهذا اجتهاد من علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى ، وهو متأول فيه ... نعم :(1/76)
وكذلك الغلو في بعض المشائخ ، بل الغلو في علي ابن أبى طالب ، بل الغلو في المسيح ونحوه ، فكل من غلا في نبي ، أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية
والغلو مذموم مطلقا ، سواء في أبواب الخير والشر ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حذَّر من الغلو فيه وهو سيد ولد آدم يوم القيامة ، فقال : ( إنما أنا عبد الله ورسوله ) فأثبت أنه من عبادة لله عز وجل ، مأمور بعبادته كسائر الخلق ، وأنه عليه الصلاة والسلام محتاج فقير إلى الله جل وعلا ، كما يفتقر سائر الخلق ، وبقدر ما يصرف الإنسان العبودية لله سبحانه وتعالى بقدر ما تكون كفاية الله جل وعلا له ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( أليس الله بكاف عبده ) .
وقد غلا في كثير من الأنبياء ... وأبرز من غلا في هذا هم اليهود والنصارى ، فغلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام ، بل جعل النصارى عيسى هو الذي يفصل يوم القيامة بين الناس ، فيجلس فيحاسب هذا ويحاسب هذا ... وكفى في ذلك غلوا ، والغلو هو الذي جلب الإشراك مع الله عز وجل غيره ، بل هو أساسه ، فلا يمكن أن يقع إشراك إلا بغلو ... نعم :
فكل من غلا في نبي ، أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية ، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني ، أو أغثني ، أو ارزقني ، أو أجبرني ، أو أنا في حسبك ، ونحو هذه الأقوال فكل هذه شرك وضلال يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل(1/77)
والاستتابة تكون ولو مرة واحدة ، ويكثر عند الفقهاء تقييد الاستتابة بثلاث ، ولا دليل على ذلك ، جاء ثمة أثر عن علي بن أبي طالب ولا يصح ، وبعضهم استنبطه من قول الله عز وجل : ( إن الذين كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا (1) قالوا : في هذا دلالة على الاستتابة ثلاث . وهذا محتمل لكن لا دليل في ذلك ، فالاستتابة لو حصلت مرة واحدة قامت الحجة على الإنسان ... نعم :
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له لا يجعل معه إلهاً آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النباتات ، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون : ( إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ) ( ويقولون هؤلاء هم شفعاؤنا عند الله ) فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة
الدعاء على ضربين:
1- دعاء عبادة .
2- ودعاء مسألة .
ودعاء العبادة يدخل فيه سائر أنواع العبادة ، من الصلوات الخمس ، والزكاة والصيام ونحو ذلك ، لأنه من جملة الدعاء ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في السنن : ( الدعاء هو العبادة ) فالعبادة هي الدعاء ، وثمة دعاء مسألة والتي تسمى دعاء الاستغاثة ، وهو أن يسأل الإنسان من الله عز وجل حاجة ، وهو داخل في النوع الأول ، لأن فيه صرف عبادة لله سبحانه وتعالى .
ولذلك الدعاء كان من أعظم القربات إلى الله سبحانه وتعالى ، لأن فيه تضمين لسائر أنواع التوحيد ، فمن رفع يديه يسأل الله عز وجل حاجته ، فإنه يثبت ضمنا أن الله عز وجل قادر على أن يعطيه ، وأن الله عز وجل يسمعه وهو مستوٍ على عرشه سبحانه وتعالى ، وهذا كله من التوحيد ... نعم :
__________
(1) الصحيح في الآية : ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ... ) سورة النساء آية 137.(1/78)
فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة ، قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) الآية
فمن يدعو حاجته من غير الله سبحانه وتعالى مما لا يقدر عليه إلا الله فهذا من الشرك مع الله عز وجل غيره ، ولذلك الإنسان لا يسأل أحدا من الناس إلا ما يقدر عليه ، فإذا سأل غيره مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل - وهذا تقييد مهم ... مما لا يقدر عليه إلا الله ، فقد يقدر عليه غيره - ... إذا سأل الإنسان من شخص حاجة ونحو ذلك ، لكنه لا يقدر عليه هو لكن يقدر عليه شخص آخر ، فلا حرج في ذلك لعل هذا يُبَلِّغ حاجته إلى ذاك ، ولذلك المقيد بالنهي هنا : يسأل غير الله مما لا يقدر عليه إلا الله ، أي استثناء القدرة الله عز وجل ، ولا يمكن للإنسان أن يعين غيره في هذا الباب ، فهذا يكون من أبواب الشرك ، فربما استعان الإنسان بآخر ، وهو يعلم أنه لا يقضي حاجته لعلمه أنه يعلم أن ثمة شخص يُعِينُه ، فلا حرج في ذلك ولا يدخل في هذا الباب قطعا .
وكذلك ما يفعله كثيرمن المشركين عند القبور من دعاء غير الله سبحانه وتعالى بغفران الذنب ، وقضاء الحاجات ونحو ذلك ، فإن هذا من الإشراك مع الله عز وجل غيره .
وأما دعاء الأموات أن يدعوا للإنسان فهل هذا من الشرك أم لا ؟
هذا ليس من الشرك ، بل هو من البدع المحدثات ... أن يأتي عند قبر فيقول : يا فلان ، ادعوا لي . فهذا ليس من الشرك ، بل هو من البدع ، وفرق بينه وبين أن يأتي الإنسان إلى القبر ويقول : يا فلان ، اغفر لي ... أو كن لي شفيعا عند الله . ونحو ذلك ، هذا من الشرك ، أما أن يأتي إلى قبر ويقول : يا فلان ، أدع الله لي .(1/79)
لم كان بدعة ؟ لأنه شبهة ، وقد ورد في الشرع أن من في القبر يسمع من يأتي ويُسلِّم عليه ، وقد ثبت أن الإنسان لا حرج عليه أن يسأل الإنسان أن يدعو له في حال حياته ، فيقول : يا فلان ادعُ لي . وإن كان الخبر في هذا ضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر : ( لا تنسنا يا أخي من دعائك ) فهذا ضعيف ، في إسناده عاصم بن عبيد الله وقد تفرَّد به وهو ضعيف ، لكن إذا جاز هذا في حق الحي ... إذاً هو قادر عليه ، وكان ثمة شبهة ، وهي سماع الميت ، فإذا شخص عند قبر فقال : يا فلان ادع لي . فيقال أن هذا من البدع المحدثات التي يجب على الإنسان إنكارها ، لكنها ليست من الإشراك مع الله عز وجل غيره ، لأنه يسأل شخصاً قد دل الدليل على سماعه ، لكنه لم يدل الدليل على قدرته بأن يقول ذلك ، فيكون حينئذ من البدع المحدثات ، باعتبار أنه جائز في حال حياته ، فكان من البدع المحدثات في حال مماته ، والانتفاع هنا يكون في قدرته لا على السماع بورود أدلة في هذا ، والخلاف هذا معروف عند الصحابة ومن جاء بعدهم ، وإنما هو لقدرته على الدعاء ... نعم :
قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) الآية ، قال : طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وعزيراَ والملائكة . ثم ذكر رحمة الله تعالى آيات .ثم قال وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )(1/80)
واتفقت دعوة الرسل على أصول الإيمان وأصول التوحيد وتوحيد الله سبحانه وتعالى ، واتفقوا على الإيمان بالله عز وجل ، والدعوة إلى أنه لا إله إلا الله ، واختلفوا في شيء من فروع التوحيد ، ومن ذلك هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب اتِّباعه ، وهذا من أصول الإيمان وأصول التوحيد ، لكنه في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليس كتقريره فيمن سبق ، فمن سبق ذُكر محمد صلى الله عليه وسلم عندهم ، وأنه خاتم النبيين ، وإذا خرج فيهم أن يؤمنوا ، لكنه لم يأمر باتِّباعِه في ذلك الوقت إلا حال خروجه ، وهذا من جزئيات التباين في الفروع ، وإلا قد اتفقوا على التوحيد بالجملة ، والدعوة إليه .
ومما اتفقت فيه سائر الشرائع : اتفقوا في الدعوة إلى التوحيد ، والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، وكذلك ما أخبر به نبي من الأنبياء بخبر فإن هذا مما لا تنسخه شريعة ، ولذلك مما لا ينسخ في الشرائع ثلاثة أمور :
1- التوحيد .
2- ومكارم الأخلاق .
3- والأخبار .
... هذه لا تُنسخ (1)
ثم قال وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وكان - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل : ما شاء الله وشئت . قال : ( أجعلتني لله نداً ، بل ما شاء الله وحده ) ونهى عن الحلف بغير الله وقال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) .
__________
(1) هنا انتهى كلام الشيخ في الدرس الثاني ، وبقي كلام القارئ وكان ابتدائه من قول المؤلف : ( وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ... ) ، فآثرت أن أدمجه مع الكلام الذي ابتدأه في الدرس الثالث وهو من قول المؤلف : ( ثم قال وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين ... ) .(1/81)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين :
تقدَّم الكلام إلى ما أورده المصنف عليه رحمة الله تعالى هنا من أن التوحيد هو الذي اتفقت عليه سائر دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، من لدن نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد اتفقوا على توحيد الله جل وعلا بعمومه ، وما اختلفوا في شيء منه بالجملة ، وهذا يدل على أن الأصل وأصل الأصول والسبب الذي خلق الله لأجله الخلق هو : عبادة الله جل وعلا وتوحيده ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .
ولذلك سدَّ الشارع جميع الذرائع التي توصل إلى الإشراك بالله سبحانه وتعالى وإن لم تكن بذاتها شركا بالله سبحانه وتعالى ، كالحلف بغير الله ، وكقول: ما شاء الله وشئت ، ولو لا الله وفلان ، فكل هذه من الوسائل التي توصل الإنسان إلى الغلو بالمحلوف به ، وكذلك بالمستعان به ، فسد الشارع تلك الذرائع التي توصل الإنسان إلى الإشراك مع الله عز وجل غيره ، فجُعل ذلك من باب الشرك الأصغر .
والشرك الأصغر هو : ما كان فيه نوع تشريك ، إلا أنه لا يخرج الإنسان من الملة .
وهو من أكبر الكبائر ، بل هو بين مرحلتين : بين الكفر بالله سبحانه وتعالى وبين كبائر الذنوب ، وهذا بالجملة لا على الاطراد في كل حال ، ولذلك أشار المصنف عليه رحمة الله تعالى إلى نوعين من أنواع الشرك الأصغر مما حرَّمه الشارع الحكيم ، سداً لذريعة الشرك الأكبر ، والوصول إليه ، كقول : ما شاء الله وشئت . وكالحلف بغير الله سبحانه وتعالى ، وهذا من الشرك الأصغر عند سائر العلماء ... وهو محرم .(1/82)
وقد حُكي الإجماع على النهي عنه ، إلا أن النهي عن الحلف بغير الله سبحانه وتعالى وحكاية الإجماع فيه ... فيه نظر ، وذلك أن الإجماع فيما يبدو أنه لم ينعقد على جعل الحلف بغير الله سبحانه وتعالى من الإشراك ، ولذلك قد ثبت عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى أنه قال بجواز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام ، بل أنه رأى أن اليمين التي يُحلف بها بالنبي عليه الصلاة والسلام تنعقد يجب فيها الكفارة ، خلافا لما ذهب إليه جمهور العلماء كالإمام مالك وأبو حنيفة والشافعي وكذلك في رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله ، وهذا الذي عليه جماهير أهل العلم ، أما في ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فالذي عليه سائر العلماء المنع ، لكن هل يكون من الشرك ، أم يكون من المنهي عنه ، أم لا ؟
ذهب جماهير العلماء إلى أنه من الإشراك بالله سبحانه وتعالى ، وهذا الذي عليه جماهير السلف ، وذهب بعض الأئمة إلى أنه من جملة المحرمات وجملة المنهيات عنه ، ولذلك ذهب جملة من الفقهاء بل جماهير من الفقهاء من المالكية والشافعية إلى أنه النهي الوارد في الشرع عن الحلف بغير الله سبحانه وتعالى نهي تنزيه لا نهي تحريم ، وهذا قد ذهب إليه جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية ، وكذلك ذهب إليه جماعة من الفقهاء من الحنفية ، وذهب جمهور الحنابلة بل عامتهم إلى أنه من باب الإشراك بالله سبحانه وتعالى الشرك الأصغر .(1/83)
ومن حلف بغير الله سبحانه وتعالى فقد أثم ، ويستثنى من هذا ما يخرج على لسان الإنسان من غير تأمُّل ، كقوله : وفلان . ونحو ذلك ، كما جاء على لسان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل جرى على لسان النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث طلحة بن عبيد الله في قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( أفلح وأبيه إن صدق ) وإن تكلم عليها بعض الحفاظ ، إلا أنها ثبتت من وجوه أُخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح : لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام ، قال : من أحق الناس بصحبتي يا رسول الله ؟ قال: ( أما وأبيك لتُنَبَّأنَّ ) وجاء أيضا هذا على لسان أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب عليهم رضوان الله تعالى ، بل حكى الخلاف في ذلك الإمام القرطبي عليه رحمة الله تعالى في تفسيره عند قول الله جل وعلا : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) قال : فعُطف -كما في قراءة حمزة وكذلك مجاهد بن جبر ، وهي قراءة صحيحة - الأرحام على الله سبحانه وتعالى .(1/84)
قالوا : وفي هذا دليل على جواز الحلف بغير الله سبحانه وتعالى ، فقوله جل وعلا : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) فيه دليل على السؤال بغير الله سبحانه وتعالى كالأرحام ، وهذا على تجويز العطف على الضمير ، وقد اختلف النحويون في هذا ، فذهب جمهور البصريين إلى المنع خلافا للكوفيين الذين قالوا بالجواز ، وقد نصر هذا أئمة من أئمة اللغة كأبي حيان ، وكذلك قد مال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى كما في كتابه: التوسل والوسيلة ، فقد تكلم على هذه المسألة بما لا مزيد عليه ، وهذا يحمل على الخلاف لكن لما ثبتت هذه القراءة في جواز ذلك ، وهو كذلك سائغ في لغة العرب ، ولذلك قد ذهب إليه جمهور الكوفيين ، وهو قراءة صحيحة عن حمزة وكذلك مجاهد بن جبر كما أسنده عنه ابن جرير الطبري عليه رحمة الله تعالى في تفسيره ، وكذلك ابن أبي حاتم عليه رحمة الله تعالى في التفسير أيضا ، وهي قراءة صحيحة .
ويقال أن الحلف بغير الله سبحانه وتعالى الأصل فيه أنه محرم ، إلا ما جرى على لسان الإنسان من غير تعمد وقصد وتعظيم ، فإنه حينئذ يحمل على خلاف الأولى ، إلا أنه لا يحمل على الإشراك بالله سبحانه وتعالى ، لوروده على لسان بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، كأبي بكر ، بل جاء للسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن مال إلى تضعيف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي لما جاء إليه قال : ( أفلح وأبيه إن صدق) ... من مال إلى تضعيفها فإنه لا يمكن أن يقول بضعف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه آخر ... قال : من أحق الناس بحسن صحبتي يا رسول الله ؟ قال : ( أمك ) ... قال قبل ذلك : ( أما وأبيك لتُنَبَّأنَّ ) ثم قال : ( أمك ثم أمك ثم أمك ) قال: ( ثم أبيك ) ، وثبت كذلك عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى ، و عن عبد الله بن عمر ، وكذلك عن علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله تعالى .(1/85)
وفي الآية دلالة إلى الإشارة بالجواز مما يجري على لسان الإنسان من غير تعمُّد ، إما إذا كان متعمدا فإنه يُنهى عنه ، ويدخل في باب المحرمات ، إلا أنه لا يدخل في باب الإشراك بالله عز وجل فيما يظهر ، وأما ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) ففي إسناده غرابة ... نعم :
وقال في مرض موته : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا . وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناًَ يعبد ) . وقال : ( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراًَ وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها ، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق ، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاًَ إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه .
وهذا الذي عليه عامة السلف : أنه لا يُتمسح بشيء من قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا منبره ، وإن كان ثبت ذلك عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى ، كما أسنده عنه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى بإسناد صحيح : أنه كان يضع يده ويمسح بها عند منبر النبي عليه الصلاة والسلام ، ويرقب من حوله هل نظر إليه أم لا ، فهذا محمول على أنه أراد بذلك استئناسا لا طلب بركة ، وهذا الذي عليه عامة العلماء عليهم رحمة الله تعالى بالمنع ، وقد تعلق بعض المتصوِّفة بمثل هذه الوقائع وقالوا بجواز التبرك بقبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذلك فيما ثبت عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى بجواز التبرك بقبر النبي عليه الصلاة والسلام .(1/86)
فيُقال : أن ماجاء عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى فيما نقله عنه ابنه عبد الله كما في المسائل ، من جواز التبرك بقبر النبي عليه الصلاة والسلام ، يُقال : أن هذا من طلب المحال ، وأراد الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى أن يبين أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام طاهر .
ولذلك قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى : أيهما أعظم تربة قبر النبي عليه الصلاة والسلام أم تربة مكة ؟ والخلاف في هذا معروف ، قد حكاه غير واحد من الإئمة عليهم رحمة الله تعالى ، فيُقال : لما تقرر أنه من المحال أن يصل الإنسان إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام بذاته أو جسده ، ولذلك قال الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى بجواز ذلك .
وفيه بيان بركة جسد النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذلك تربته ، ومن المحال أن يصل إليه ، فعُلِّق الأمر بالجواز ، وحصول المفسدة التي تترتب على ذلك من أمر محظور لا يمكن أن يصل إليه ، لأن قبر النبي عليه الصلاة والسلام قد وُضِعت عليه أسوار أربعة منذ القرون الأولى ، فحِيلَ بينه وبين من أراد أن يتعبَّد به ، بخلاف ما جاء به الشارع الحكيم ... نعم :
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها ، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.(1/87)
والتقبيل عبادة ، ولذلك قال : ( لا يتمسَّح بها، ولا يقبِّلها ) التمسح طلبا للبركة عبادة ، فلابد للعبادة من دليل ، وكذلك القبلة، هي من باب العبادات ، إذا فعلها الإنسان أراد بذلك تدينا فلا بد من دليل على هذا ، ولا دليل في هذا ، ولذلك يُنهى عنه الإنسان ، ولذلك شرع الشارع الحكيم القبلة للحجر الأسود تعبداً ، ولم يشرع القبلة لسائر أجزاء البيت ، مما يدل على أن القبلة من باب العبادات .
ولذلك قد احترز جماعة من السلف عليهم رحمة الله تعالى في مسألة تقيل اليد ، وكذلك مسألة تقيل الرأس ، فقد أسند الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في كتاب الورع، عن عبد الرحمن السامي عن سليمان بن حرب قال : تقيل اليد هي السجدة الصغرى . وكأنه يرى تشديد التحريم في هذا ، وإن كان عامة العلماء وجماهيرهم على خلافهم من جواز ذلك ، ولذلك قد أخرج الترمذي عليه رحمة الله تعالى في سننه : أن اليهود لما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه مسائلهم ، قبَّلوا يديه ورجليه . وقبَّل النبي عليه الصلاة والسلام كذلك في يده أبو لبابة وكعب بن مالك لما قبلت توبتهما عند النبي عليه الصلاة والسلام ، ونزلت توبتهما من الله سبحانه وتعالى كما في القصة المشهورة ، وكذلك قد قبَّل زيد بن ثابت عبد الله بن عباس بما أخذ بخطام وزمام راحلته ، وكذلك قد قبَّل عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى يد أبيه عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى .(1/88)
ومن نهى عن قبلة اليد والرأس فإنه حمله على ذلك في مسألة التقرب إلى الدنيا ، فهذا مما نُهي عنه ، ولذلك كره الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى قبلة اليد مطلقا ، سواء من باب التدين أو من باب الدنيا ، وكره ذلك كراهة شديدة ، فقد ذهب إلى جوازها ونص عنه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى ، بل قد ذهب بعض العلماء إلى أنه قد اتفق العلماء على أنه ينهى عن القبلة لأجل الدنيا كما حكاه ابن مفلح عليه رحمة الله تعالى في الآداب الشرعية .
أما تقبيل الرجل فإنه يُقال أنه من باب الإسفاف ، ولذلك قد ترجم الإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى في كتابه الأدب المفرد قال: ( بابٌ تقبيل الرجل ) وأورد فيه جملة من الأحاديث وكلها واهية ولا يصح في هذا شيء ، وما أخرجه الترمذي عليه رحمة الله تعالى من أن اليهود قبَّلوا رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه في إسناده غرابة ، ولذلك حكم عليه الترمذي عليه رحمة الله تعالى بالغرابة .(1/89)
وما جاء من تقبيل كعب بن مالك وكذلك زيد بن ثابت و عبد الله بن عمر عليهم رضوان الله تعالى ... بل قد جاء عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى أنه كان يقبِّل يد العباس بن عبد المطلب ، وقد رُوي عنه أيضا من وجه آخر - وفيه نظر - أن كان يقبِّل يده ورجله، وقد ذكر الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في كتاب الورع عن جملة من السلف جواز تقبيل اليد خاصة لأمر الدين من باب التدين ، لا من باب مصالح الدنيا ، ونهى عن ذلك ، ولذلك قال ابن مفلح عليه رحمة الله تعالى في كتابه الآداب الشرعية قال : وتقبيل اليد لأجل الدنيا لم يجز عند عامتهم . أي عند عامة العلماء ، لأن فيه إذابة لما في قلب الإنسان من تدين وخضوع لله سبحانه وتعالى ، كذلك إن فيه خضوعاً ومشابهة للخضوع لله سبحانه وتعالى ، وهذا لا ينبغي أن يكون من مؤمن إلا في أمر الدين ، أما إذا كان من أمر الدنيا فإنه يُنهى عنه ، ولذلك قد نقل ابن مفلح عليه رحمة الله تعالى فقال في كتابه الآداب الشرعية : قال عبد الله بن أحمد : كان الفقهاء والكبراء وبنوا هاشم يأتون إلى أبي ويقبِّلون رأسه ويده ، وقد سألت أبي عن تقبيل اليد فقال بجواز ذلك ، أما لأمر الدنيا فلا . ولذلك قد نقل صاحب نفح الطيب عن ابن جبير عليه رحمة الله تعالى ... قال :
فمِنَ الله فاسأل كل ما تريده فما يملك الإنسان نفعاً ولا ضراً
ولا تتواضع للولاة فإنهم في الكِبر في حال لا تسرُّهم سراً
وإياك أن ترضى بتقبيل كفٍ فإنه قد قيل عنها أنها السجدة الصغرى
وممن قال بذلك هو سليمان بن حرب كما أسنده عنه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كما في كتابه الورع ، من حديث عبد الرحمن السامي عن سليمان بن حرب قال : تقبيل اليد هي السجدة الصغرى .(1/90)
فيقال على ذلك أن من قبَّل شيئا تعبدا فإن هذا من صرف العبادة ، أما من قبل سواء للأمر الدنيا ونحو ذلك ، فإنه لا يصل إلى النهي وهو باب الإشراك ، وهو ما قصده المصنف ... كأن يقبل الإنسان ملكا من الملوك أو من العظماء ونحو ذلك فيه شيء من الذلة والامتهان ، وقد يُقال بعدم جوازه على قول بعضهم ، وعلى قول البعض أنه ليس من المروءة ، إلا إن كان الإنسان يقبل عالما لمصلحة في الدين ونحو ذلك فإنه لا حرج عليه ، كأن يكون معلما ونحو ذلك ، أما تقبيل شيء تدينا كبعض البقاع وبعض الأماكن والأحجار و الأشجار ، أو بعض أجزاء البيت الحرام ، كمن يقبل الأميال ، ويقبل الجدارن ، ويقبل الحديد ونحو ذلك ... هذا من صرف العبادة ، خاصة إذا فعل ذلك تديناً ، ولا يمكن أن يفعله الإنسان لأجل دنيا ، فيفعله تديناً ، فيقال حينئذ بالتحريم وعدم الجواز ، و أن القُبْلة إذا صرفت بنحو ذلك تكون عبادة ، وصرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى لا يجوز ... نعم :
كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاًَ إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الآية
ولذلك كان الإشراك بالله عز وجل من أعظم الذنوب ، لأن الله عز وجل لا يغفره لصاحبه إلا أن يتوب ، ومعلوم أن المكفرات التي يكفِّر الله عز وجل بها الذنوب عن الإنسان :
1- إما التوبة .
2- وإما الحسنات التي تكفِّر السيئات ، كما في قول الله عز وجل : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) .
3- وإما بالمصائب التي تصيب الإنسان من هم وحزن وكذلك وأمراض ، فإن الله عز وجل يكفر عن الإنسان بها خطاياه .
4- وإما استغفار الإنسان لأخيه ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ... ) وذكر منها : ( ... أو ولد صالح يدعو له ) فإن هذا الدعاء يرفع الإنسان ، ويكفِّر عنه من خطاياه .(1/91)
5- كذلك ما يلحق الإنسان من فتنة ومصيبة أو افتتان في قبره ، فإن الله عز وجل يكفِّر عن الإنسان بذلك من خطاياه ، وكذلك على عرصات يوم القيامة .
... كل هذه المكفرات لا تكفِّر الشرك الأكبر ، إلا التوبة إلى الله سبحانه وتعالى من الإنسان بنفسه ، فإن تاب كفر الله عز وجل عنه ذلك .
ولذلك نهي أن يستغفر الإنسان للمشركين وأن يترحم عليهم ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له ، واستأذنه بأن يزور قبرها فأذن له بزيارتها ، وكذلك الخليل إبراهيم حينما استغفر لأبيه نهاه الله جل وعلا أن يستغفر لأبيه ، لأنه من جملة المشركين ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستغفر لعمه أبو طالب بعد أن نهاه الله عز وجل عن ذلك ، وإن كان قد آمن وصدَّق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه ، لكنه كفر بجوارحه وبلسانه ، فما نفعه تصديقه القلبي ، لأن تصديق القلب ليس بعبرة .
ولذلك قد ذهب غلاة الجهمية وغلاة المرجئة إلى أن التصديق في القلب يدخل الإنسان به ، ويلزم من هذا أن إبليس عليه لعنة الله وفرعون الذين أقروا بربوبية الله سبحانه وتعالى ووحدته واستحقاقه العبادة ، وإبليس قد عاين الملائكة وعاين الله عز وجل ، مع ذلك وهو مصدِّق بقلبه ، لكنه جحد بلسانه وجوارحه كما هو منصوص في كتاب الله عز وجل ، وكذلك فرعون عليه لعنة لله آمن بالله سبحانه وتعالى بقلبه لكنه جحد بذلك ، ولذلك كفار قريش قد حكى الله عز وجل عنهم أنهم جحدوا بها ... أي بـ : لا إله إلا الله ... ( جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) ولذلك أبو طالب وهو قد صدَّق برسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه ، وهو الذي قال في قصيدته النونية المشهورة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق بما جاء به ... قال :
وعرضت دين لا محالة أنه من خير أديان البرية ديناً
... يقول:
والله لن يصلوا إليك بجمع ....................(1/92)
يعني محمد صلى الله عليه وسلم لما أرادوا كفار قريش ، واحتجزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب لسنوات كما ذكر أهل السير والمغازي ، قال قصيدته في نونيته المشهورة قال :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسَّد بالتراب دفيناً
فاصدع بأمرك ما عليك غَضَاضَة وابشر بذاك وقُرَّ به عيوناً
ودعوتني وزعمت أنك صادق ولقد صدقت وكنت ثم أميناً
وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حِذارُ مسبَّة لوجدتني سمحاً بذاك يقيناً
إذاً ... هو آمن بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن ما منعه من ذلك إلا الكبر ، ولم ينطق بذلك بلسانه ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره يقول : قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله . ولم يقلها، وقال : هو على ملة عبد المطلب . مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم وهو يعلم وهؤلاء يعلمون أنه قد آمن وصدَّق بمحمد صلى الله عليه وسلم بقلبه ، لكن الإيمان القلبي لا يجزئ عن الإنسان مالم تصدقه الجوارح ، ولذلك يقول السلف : أن الإيمان قول وعمل واعتقاد . فلا بد من وجود هذه الأركان حتى يتحقق إيمان الإنسان ، ولذلك بعض الإيمانيات التي توجد في أشعار بعض العرب وبعض الجاهليين ، أو بمن جاء بعد الإسلام من الزنادقة ونحو ذلك ، التي تتضمن توحيداً لا تنفع الإنسان ، لأنه قد وُجد فيه من شعب الكفر ما يهدم ذلك كله ، ولذلك لما قال الشاعر وقال النبي عليه الصلاة والسلام معلقاً على قوله:
كل شيء ما خلا الله باطل .................(1/93)
قال عليه الصلاة والسلام : ( إلا نعيم الجنة ) وقال أنه آمن بقلبه ، لكن جوارحه لم تؤمن ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في العاص ... قال: ( لو أقر أبوك بالتوحيد - مع أنه قد نذر لله سبحانه وتعالى أن ينحر إبلا ، فهذا من العبادة ، فهو آمن بوجود ربه ، وأنه تصرف له العبادة ، لكن ثمة شيء قد أفسد عليه إيمانه ، فكان من جملة الكفار - .... ) ولذلك الكافر لا يمكن أن يتوب الله عز وجل عليه إلا بتوبته بنفسه ، أما سائر المكفرات فلا ، وهذا خاص بالإشراك بالله سبحانه وتعالى ، ولذلك يقول الله جل وعلا : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) هذا في الشرك الأكبر .
وأما الشرك الأصغر : هل الله عز وجل لا يغفره للإنسان إلا أن يتوب إذا وقع الإنسان في شيء من الشرك الأصغر كالحلف بغير الله - على قول إدخاله في الشرك الأصغر - ، أو في تعليق التمائم والتولة أو مثلا الطيرة ونحو ذلك ، هل من وقع في ذلك أن الله عز وجل لا يكفره له إلا بالتوبة ؟
على خلاف عند العلماء ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى كلام في هذه المسألة في القولين ، فقال في موضع أن التكفير لا يكون للإنسان إلا من توبته بنفسه ، وأن الله عز وجل لا يغفره كالشرك الأكبر ، وذكر في موضع آخر كذلك التوبة ، قد تكلم على هذه المسألة أيضا ابن القيم عليه رحمة الله تعالى ، وقد تقدم الإشارة أن ابن سعدي عليه رحمة الله تعالى في بعض رسائله قال بدخولها في سائر المكفرات لسائر الذنوب ، وأنها من جملة الذنوب يكفرها الله عز وجل للإنسان بما يصيب الإنسان من مصائب وهم وحزن ، وكذلك دعاء الناس للرجل بأن يتوب الله عز وجل عليه ... قال تدخل من جملة ذلك .(1/94)
ولعظمة الإشراك بالله عز وجل الشرك الأكبر اختص بأنه لا يغفره الله عز وجل عن الإنسان إلا بتوبة الإنسان بنفسه ، وهذا خاص بالشرك الأكبر فحسب ، والشرك الأصغر على الصحيح ... أنه لا يُكفَّر ، لعموم قول الله عز وجل : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) إلا أن العلماء قد اتفقوا أنه يدخل في باب الموازنة ، فلا يحبط ما يقابله من حسنات ، أما الشرك الأكبر فإنه لا وجود لكفة أخرى لدى العبد ، فإنه يحبط ما يقابله من حسنات كما قال الله جل وعلا : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) .
أما ما دون ذلك من الذنوب حتى الشرك الأصغر : هل يحبط الحسنات التي يعملها الإنسان ؟
يُقال : المتقرر عند أهل السنة والذي تعضده النصوص أن السيئة بالإطلاق - سواء كانت شركا أصغر ، أو من جملة السيئات التي يعملها الإنسان - أنها تحبط ما يقابلها من حسنات ، كما أن الحسنات تحبط السيئات ، وهذا أمر قد أنكره بعض أهل السنة ، وقالوا أنه لا يمكن أن السيئة تحبط الحسنة . وهذا يفتقر إلى دليل ، بالدليل يعضده ، والأدلة بالكتاب والسنة واردة ، قالوا الحسنات تحبط السيئات كما قال الله عز وجل : ( أقم طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات )
أما السيئات تذهب الحسنات : فهل ثمة دليل؟(1/95)
نعم ... ثمة دليل ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن العالية عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت لأم زيد بن أرقم لما تبايع بالعينة ، فقالت: أخبريه أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . وذلك أنه قد ارتكب كبيرة وهو تبايعه بالعينة وأكله للربا ، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) وقول الله سبحانه وتعالى أيضا : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) المُخاطب بهذا ليسوا كفرة ، بل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعني بهذا من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر .
وهذا تحذير أن الإنسان إذا رفع صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ويدخل في هذا : الرفع عند سماع حديثه ، وعدم الانتباه له ، وأن ذلك مما يحبط عمل الإنسان مما لا يشعر.
لكن هل السيئة تحبط حسنات الإنسان بالكلية ؟(1/96)
يُقال : لا تحبط السيئة حسنات الإنسان بالكلية إلا الإشراك بالله عز وجل ، هو الذي لا يقابله شيء من الحسنات ، كما قال الله عز وجل : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) لا وجود لعمل آخر ، فإذا كفَّر الله عز وجل عن الإنسان سيئاته فإنه لا يُقر بها يوم القيامة عند جماهير السلف ، وذهب بعضهم وهو قول الحسن البصري أن الله عز وجل يُقر الإنسان عليها بما تاب عليه بشيء من المكفرات ، ولكنه لا يعذبه عليها ، أي أنها لا تمحى من صحيفته وتبقى ، فيُقر بها أنك فعلت كذا وكذا في يوم كذا وكذا إقراراً ، إلا أن الله عز وجل لا يحاسبه عليه . والصحيح : أنها تمحى حتى من صحيفته ، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( الإسلام يجب ما قبله ، والهجرة تجب ما قبلها ، والحج يجب ما قبله ) وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ومن ولدته أمه لا ذنب عليه أصلا فلا يُقر ، ومعلوم أن الإقرار نوع من العذاب ، ولذلك تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح قال : ( من نوقش الحساب عُذِّب ) ... نعم :
ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه . وأعظم آية في القرآن آية الكرسي
وهي أفضل الذكر ، وقد جاء فيها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في المسند والسنن : ( أفضل ما قلت أنا والنبيون لا إله إلا الله ) والحديث الصواب فيه أنه مرسل ... نعم :
وأعظم آية في القرآن آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )(1/97)
لأن الأعمال بالخواتيم كما في حديث سهل بالبخاري ... قال : ( إنما الأعمال بالخواتيم ) إذا خُتم للإنسان بخير كان من أهل الخير ، وإن سبق قبل ذلك ما فيه من معاصي وذنوب ... بل من كفر وزندقة ، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، والتوبة كذلك تَجُبُّ ما قبلها ، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في مسلم : من حديث يزيد بن أبي حبيب في القصة المشهورة لما حضرت الوفاة عمرو بن العاص ، فوضع وجهه على جدار وأخذ يبكي ، فقيل له : ألم تكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ؟ قال: أما إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا على أحوال ثلاثة – وخلاصته - قال : فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمددت يدي ، فقلت : يارسول الله بايعني . ثم قبضتها ، قال: مالَك يا عمرو ؟ قال : إني أريد أن أشترط . قال : تشترط ماذا ؟ قال : أن يتوب الله علي . قال : أما علمت أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، وأن الهجرة تَجُبُّ ما قبلها ، وأن الحج يَجُبُّ ما قبله ... نعم :
والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستعانة به ورجاء وخشية وإجلالاً .
وهذا كله من العبادات من أعمال القلوب : المحبة والخوف والرجاء ... كلها من أعمال القلوب ، لا بد من صرفها لله سبحانه وتعالى ، فمن صرف منها شيئا لغير الله كفر بالله سبحانه وتعالى ، إلا ما جبل الله عز وجل عليه الناس من الحب الفطري ، كميل الإنسان إلى قريبه وصديقه وأبيه وأمه وأخته وأخيه وولده من محبة أو مودة ، فإن هذا أمر فطري ، لكنه لا يطغى ويغلب على جانب حب الله سبحانه وتعالى .(1/98)
والعلامة في ذلك : تقديم أصول الإسلام على رضا هؤلاء ، فإن قدَّم أصول الإسلام ومعالم التوحيد على رضا هؤلاء فإنه حينئذ يكون قد قدَّم توحيد الله عز وجل على غيره ، وإن قدَّم حب هؤلاء على شيء من فرائض الإسلام ، كالتفريط في بعض الواجبات ونحو ذلك ، ففرط فيها لرضا أبيه أو زوجته أو ابنه ونحو ذلك ، فإن هذا قد شاب حبه شائبة ، والإنسان يتقلب بين هذه الأعمال التي تتعلق بقلب الإنسان ، فيتعلق بين الخوف والرجاء ، وكذلك محبة الله سبحانه وتعالى باقية في قلب الإنسان . فأيهما يغلِّب الإنسان : الخوف أم الرجاء ؟ وفي أي حال ؟
النصوص فيها هذا متوافرة ، فينبغي أن يكون متوازناً في هذا ، ولذلك يقول مطرف ... قال : الخوف والرجاء للإنسان كالجناحين للطائر ، فإن عبد الله عز وجل بالخوف فإنه لا يُمسك وإنما يسقط . وهذا الذي عليه جمهور العلماء : أن الإنسان يكون بين الخوف والرجاء .
والتحقيق في ذلك : أن الإنسان في مسألة الخوف والرجاء له ثلاثة أحوال :
1- الحالة الأولى : أن يغلِّب جانب الخوف ، وهذا في الأمور المشتبهة كما في حديث النعمان بن بشير عليه رضوان الله تعالى في قوله عليه الصلاة والسلام : ( الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ) قال : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) جعل المرء في حال الشبهات ينبغي له أن يغلب جانب الخوف، فإذا وقع تحليل وتحريم في مسألة ما ، و لم يترجح للإنسان فإن الأولى في حقه أن يغلب جانب التحريم احتياطا لدينه .(1/99)
والمراد بذلك : ليس هذه المسألة فقط فحسب ، لكن الإنسان إذا تجرأ على مسألة المتشابهات تجرأ على الوقوع في المحرم بذاته ، وإذا قلل في جانب المتشابهات ابتعد عن الحرام الصريح ، وهذا أمر معروف مجَّرب ، ولذلك شبه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ... قال : ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ) فإن الراعي حينما يرعى حول حمى الملوك فإنه كلما قُرَب من ذلك وجاء ببهائمه لكي ترعى حول حمى الملوك ونحو ذلك ، كلما قَرُب منها فإنه ... حمى الملوك في السابق لا حدود لها ، وإنما تُعرَف بحدود ورسوم ليست ببينة ... من حدود الجبل الفلاني إلى الجبل الفلاني ، أو الوادي الفلاني إلى الوادي الفلاني ، أو الشجرة الفلانية إلى الشجرة الفلاني ، فإذا جاء الراعي يرعى فإنه يتجسَّر قليلا حتى يقع في الحمى ، وجسارته ذلك توقعه في عقاب الملوك ، لكنه حينما يبتعد عن مواطن الشبهات ، فإنه يبتعد أصلا عن موطن التحريم ... ما يُحرم ، وكلما تجرأ على موطن الشبهات كلما وقع أحد المراتب الحرام .
2- وأما الحالة الثانية : وهو أن يُغلب جانب الرجاء ، وهو في حالة واحدة ، وهو : إذا كان الإنسان في مرض ، أي : مرض الهلاك ، وعلى فراش الموت ، كأن يكون به شلل كامل ، ولا يستطيع الحراك ، فإنه ليس من الحكمة ولا من العقل أن يُقدم الخوف على الرجاء ، لأنه لا يستطيع العمل ، فإن غلَّب جانب الخوف ربما حمله ذلك على القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، وربما وقع في الكفر من حيث لا يشعر ، لأنه يظن أنه على هلاك ، فينبغي منه في مثل هذه الحالة يغلب جانب الرجاء ، فيرجوا رحمة الله سبحانه وتعالى ، وجاء في هذا الخبر وفي إسناده نظر ، لكن هذا عليه جمهور العلماء ، وقد رُوي عن مطرِّف وعن الحسن وعن يزيد بن هارون وعن أحمد بن حنبل ، وقد ساق جملة منها ابن رجب عليه رحمة الله تعالى في أوائل كتابه جامع العلوم والحكم .(1/100)
3- والحالة الثالثة : هو أن يكون بين الخوف والرجاء ، فلا يُغلب أحدا على الآخر ، وهذا في استقام حياته ، إذا لم يكن ثمة شبهات ، ولا ثمة إقعاد عن العمل ، فإنه يكون بين الرجاء والخوف .
أما المحبة فيجب أن تكون ملازمة للإنسان على حال واحدة ، فكلما عظمت محبة الله عز وجل في قلب الإنسان كلما كان ذلك ظاهر في جوارحه وعلى لسانه ، فالمحبة تُظهر العمل والقربة إلى الله سبحانه وتعالى والعبادة .
وأما من زعم محبة لله سبحانه وتعالى من غير تقرِّب إلى الله عز وجل فإن هذا من الكذب ... نعم :(1/101)
انتهى كلامه رحمه الله .فتأمل أول الكلام وآخره ، وتأمل كلامه فيمن دعا نبياً أو ولياً ، مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني ونحوه ، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل هل يكون هذا إلا في المعين والله المستعان . وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى .قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة : وأما الشرك فهو نوعان أكبر ، وأصغر . فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله ، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويبغضون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين ، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش وهو لا ينكر ذلك ، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ، وهكذا كان عباد الأصنام سواء .وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم ، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر ، وغيرهم اتخذوها من البشر ، قال تعالى حاكياًَ عن أسلاف هؤلاء : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية .فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى ، وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره ، والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله ، وأخبر أن الشفاعة كلها له . ثم ذكر الشيخ ( يعني ابن القيم ) رحمه الله فصلاً طويلاً في تقرير هذا الشرك الأكبر.(1/102)
وآلهتهم لا تغنيهم من الله شيئا ، ولذلك قال الله عز وجل : ( ما أنتم وما تعبدون حصب جهنم ) فكلهم يكبكبون في نار جهنم ، وعلى رأسهم إبليس عليه لعنة الله على منبر من ناريخطب في أهل النار ، ولذلك المعبودين وإن كانوا جمادات يوضعون في النار، ليس لتعذيبهم ولا ذنب لهم ممن يكون من أحجار ونحو ذلك إلا أن الله عز وجل ... يعلم سبحانه أنهم لا يتأذَّوْن بذلك العذاب لأنهم من جملة الجمادات ، لكن إمعان بالتبصير لهؤلاء أن معبوديهم من أشجار وأحجار معهم في نار جهنم يشاهدونهم ، لكي لا يقع في قلوبهم شيء من التعلَّق أنهم قد نجوا ، أو قد أخطؤوا في عبادتهم أو تصرفهم ، أو لم يعبدوهم حق العبادة ، بل أنهم يشاهدون معبوديهم في نار جهنم .
وهذا لا يشمل كل المعبودين ، فقد يُعبد من دون الله سبحانه وتعالى بعض الصالحين من الأئمة ونحو ذلك الذين لم يرضوا بتلك العبادة ، فهؤلاء ليسوا من أهل النار ، فإن كانوا هؤلاء موحدين وماتوا على توحيدهم ، وعُبدوا من دون الله سبحانه وتعالى من غير رضا فهؤلاء من أهل الجنة ، وهم مستثنون .
و المراد بذلك ممن عُبِد من دون الله عز وجل وهو راض ، ويدخل في هذا الوثنيون الذين يعبدون أولياؤهم من دون الله سبحانه وتعالى وهم أحياء .
ولا زالت الوثنية ، حتى في عصرنا هذا يُسجد للأحياء ، ويُعبدون من دون الله سبحانه وتعالى ، وكذلك من يسجد للأحجار والأشجار من دون الله عز وجل ، كل هؤلاء في نار جهنم ، العابدون والمعبودون ... نعم :(1/103)
ولكن تأمل قوله : وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره . يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد ، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .وذكر في آخر هذا الفصل أعني الفصل الأول في الشرك الأكبر الآية التي في سورة سبأ : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ) إلى قوله : ( إلا لمن أذن له ) وتكلم عليها ، ثم قال : والقرآن مملوء من أمثالها ، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا ، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية
وهذا لا أعلم مسنداً عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ، وقد بحثت عنه طويلا منذ سنوات ولم أقف على إسناده ، قد نقله ابن رجب عليه رحمة الله تعالى ، وكذلك قد نقله شيخ الإسلام ابن تيمية ، وعنهم قد نقل المصنف عليه رحمة الله تعالى في مواضع من رسائله .
ومعناه حقيق بذلك كذلك ، فإن الإنسان إذا لم يعرف الباطل فإنه لا يفهم الحق على وجهه ، ولذلك الحق والشيء يُعرف بأمرين :(1/104)
1- أولا : ببيانه وبيان ضده ، ولذلك المصنف عليه رحمة الله تعالى من مناهجه في كثير من مصنفاته أنه يعتني ببيان الأشياء والمسالك ببيان ضدها ، فهو مثلا في كتابه التوحيد : سمى كتابه التوحيد ، لكن جلَّ أبوابه الشرك : من الشرك كذا ... من الشرك كذا ... الشرك الأكبر ... ونحو ذلك ، وأما ما يتعلق بالتوحيد بذاته فشيء قليل ، فكأنه أراد أن يعرِّف التوحيد ببيان ضده ، فمن عرف الضلال عرف الخير ، ولذلك يقول حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني . لأنه إن نجا من الشر وقع في الخير ، لأن الأصل في الأشياء أنها موطن خير ، إلا ما دل الدليل على أنه شر ، فإن الشر هو الذي مستثنى ، فكل ما في الدنيا هو خير ، ويُستثنى الشر ، فحينئذ إذا تبصَّر الإنسان بموطن الشر والضلال ومعرفة طرق الغواية ، فإن ما عداه هو طرق الهداية ، ولذلك جعل الله عز وجل في الأصل مما في هذه الدنيا ممن متاع ولذاتها ، وكذلك المسالك ... أنها من باب الخير ومما أباحه الله سبحانه وتعالى .
أما في أمور التعبد لله عز وجل فالأصل في العبادة الوقف ، وهو اتباع الدليل ، لكنه في داخل هذا الدليل بيان لمسالك الخير ومسالك الشر ، مواطن الابتداع ومواطن الاتباع ، فكلما كان الإنسان بصيراً بمواطن الابتداع كلما علم ضمناً مواطن الاتباع ، ولذلك صنف جملة من الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في البدع ، فكتاب : ( البدع والنهي عنها ) لابن وضاح ، وأبي شامة والطرطوشي وغيرها من المصنفات في هذا الباب ... نعم :(1/105)
وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والبدعة سنة ، والسنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان ، وتجريد التوحيد ، ويبدع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع.
ولذلك قاعدة عند السلف : أنه لا يلزم من الوقوع بالكفر إطلاق الكفر على الإنسان ، ولا يلزم من الوقوع في البدعة أن تُطلق على هذا الشخص أنه مبتدع . فثمة شروط وثمة موانع ، فلا بد من توفرها .
فإذا وقع الإنسان في الكفر لا يلزم من ذلك أن يُطلق عليه أنه كافر ، فلا بد من النظر إلى أحواله بحسب الضوابط التي تقدم ذكرها فيما سبق .
كذلك الوقوع في البدعة : لا يلزم الوقوع في البدعة أن يطلق على الإنسان مبتدع ، فربما كان له تأويل في ذلك ، وكانت هذه من البدع التي تراها لكنه له رأي فيها ونحو ذلك ، إما لرأي من السلف ونحو ذلك ، فكلما كان الإنسان صاحب اتباع ، وله سلف في قوله من أئمة الإسلام كلما خرج من دائرة الابتداع إلى دائرة الاتباع .(1/106)
وغاية ما يرجوه الإنسان من الاتباع هو : ما دلَّ عليه الدليل من الكتاب ، والسنة ، وكذلك عمل الصحابة ، فما عمل فيه الصحابة وإن كان مما لا يثبت فيه شيء من الكتاب والسنة ، فلا ينبغي بل لا يجوز لإنسان أن يُطلق على من فعله أنه بدعة ، بل أنه لا حرج عليه أن يطلق على ذلك الفعل أنه بدعة ، كمسألة التعريف يوم عرفة في الحج ، ثبت ذلك عن عبد الله بن عباس كما روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من حديث قتادة عن الحسن قال : أول من فعل ذلك بالبصرة عبد الله بن عباس . يعني التعريف بعرفة ، وهو جمع الناس يوم عرفة في غير عرفة وذكر الله عز وجل ووعظهم ونحو ذلك . وكذلك الدعاء ... هل هذا بدعة أم لا ؟ يقال : أن هذا الفعل بدعة ، لكن لا يُبدَّع صاحبه لأن له سلف ، وسلفه هو من خير السلف وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت عن جملة من أئمة الإسلام أنهم قالوا عن مسألة التعريف بعرفة أنه من البدع ، وقد رُوي هذا عن نحو من عشرة من أئمة الإسلام وأئمة أهل السنة ... أنهم قالوا أن التعريف بعرفة أنه بدعة ، لكن لا يقال لمن عرَّف بعرفة أنه مبتدع ، وذلك لأن له شبهة قوية ، وأن له سلف من خير السلف ، وهم أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم ، لكن أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُقال بذلك ، كذلك ثبت عن عمرو بن حُريْث عليه رضوان الله تعالى كما عند ابن أبي شيبة أيضا .
ولذلك ينبغي للمرء أن يعتني بعمل الصحابة عليهم رضوان الله بعد عنايته بالكتاب والسنة ، فإنهم أقرب الناس إلى فهم الدليل ، وأنهم قد عاينوا التنزيل ، وكذلك هم أدرى الناس بقرينة الحال وواقع الحال الذي قد نزل فيه الدليل ، فإنهم أدرى الناس بتنزيله ، وموضع الحكم فيه ، وموطنه ... أدرى من غيرهم .(1/107)
ولذلك قد شدَّد في هذا كثير من السلف ، حتى منهم من قال أن الحديث الذي يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعمل به أحد من السلف لا أبالي بردِّه . ولذلك قد ذكر ابن أبي زيد القيرواني عن إبراهيم النخعي عليه رحمة الله تعالى قال : ما أبالي أتاني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمل به أحد من الصحابة أن أرمي به عرض الحائط . ليس هذا استهانة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من باب تعظيمه ، لأنه ربما كان من جملة المنسوخ ، أو من جملة ما أُدخِل وكُذِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالصحابة عليهم رضوان الله تعالى لا يمكن أن يأتي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعمل به أحد منهم ، فلا بد أن يثبت العمل عن الواحد أو الاثنين على الأقل ، وإذا جاء أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمل بها أحد فليتقيها الإنسان .
وثمة جملة من الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمل بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي نحو اثنا عشر حديثا قد ساقها ابن رجب عليه رحمة الله تعالى في أوائل كتابه شرح علل الترمذي ، وكذلك قد صنَّف فيها أحد المعاصرين كتابا سماه : ( الانتهاء من الأحاديث التي لم يفتي فيها الفقهاء ) ... نعم :
وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والبدعة سنة ، والسنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان ، وتجريد التوحيد ، ويبدأ بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع ، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً فالله المستعان.
فصل:(1/108)
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله ، وقول هذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
الشرك على ضربين ، وتقدم تقسيمه أنه شرك أكبر وشرك أصغر ، وبعضهم يجعل قسما ثالثا وهو الشرك الخفي ، وهو داخل في الشرك الأصغر ، لكنه أُخرج لوروده بدليل خاص في الشرع ، والشرك الأصغر لا يخرج الإنسان من الملة ، لكنه ربما إذا فعله الإنسان مع تعظيم ، وقارنه بتعظيم في القلب كتعظيم الله عز وجل ... فربما خرج من الإسلام .
لكن يُقال أن مثل هذا لا حاجة لذكره عند سياق الشرك الأصغر ، لأن الكلام على اللفظ هنا ، لأننا لو قلنا أن الإنسان لو حلف بغير الله ، أو قال ما شاء الله وفلان ، ولولا الله وفلان ، وأراد بذلك تعظيما ومساواة لفعله بفعل الله عز وجل وحقِّه في قلبه لقلنا أنه بمجرد وقوع هذا الشيء بقلب الإنسان - لو لم يتلفظ به - كفر بالله سبحانه وتعالى وخروج من الملة .
إذاً ... لا حاجة لورود هذا الاستثناء وهذا التقييد عند تعريف الشرك الأصغر ، فيُقال أن الشرك الأصغر في الألفاظ هو أن يقول لولا الله وفلان ، وما شاء الله وشاء فلان ، ثم يأتي قبل ذلك تقرير الأعمال القلبية عن الإنسان ... يعظِّم الله عز وجل تعظيما لا يوازيه تعظيم ، وكذلك يحبه ويخافه ويرجوه ، لا يوازي الله عز وجل في ذلك أحد من خلقه ، فإن وازاه أحد من خلقه كفر الإنسان بالله سبحانه وتعالى ... وهذا أصل من أصول الدين وأصول الإيمان ، وهو ينبغي أن يُقرر أصلا عند تعريف التوحيد أصالة ، لا أن يقرر ويذكر من باب التقييدات في مسألة الشرك الأصغر .(1/109)
وربما ما أراد المصنف عليه رحمة الله تعالى من ذكره لهذا التقييد في هذا الباب ... أراده تبيين لخطر الشرك الأصغر ، وأنه ربما يوصل الإنسان مع تكراره ووروده عليه ووقوعه فيه أنه ربما أوصل الإنسان إلى الخروج من الملة ، وذلك بما يقر في قلب الإنسان من تعظيم لغير الله سبحانه وتعالى ... نعم :
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ( يعني ابن القيم ) بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر : ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ
االشرك الأصغر يقع منه الرياء ، ولذلك قسَّمه العلماء عليهم رحمة الله تعالى على ثلاثة أقسام :
1- شرك في الأقوال .
2- وشرك في الأفعال .
3- وشرك في النيات .
الشرك في النيات هو كيسير الرياء ، إذا وقع من الإنسان تَعبُّد ، وخلط نيته نيةً للدنيا ، كأن يرائي أويسمع ونحو ذلك ، فإنه حينئذ قد وقع في نوع من أنواع الشرك الأصغر ، وهو الشرك في النيات ، وهو في الاعتقاد .
أما الشرك الأصغر في الألفاظ كقول ما شاء الله وشئت ، ولولا الله وفلان ، والحلف بغير الله عز وجل على قول .
وكذلك النوع الثالث وهو الشرك الأصغر في الأفعال ، كتعليق التمائم والتِّولة ونحو ذلك ... نعم :
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ( يعني ابن القيم ) بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر : ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم
السجود في الأصل أنه عبادة ، وأما السجود تحيةً هل هو ثابت أم لا ؟
جاء في حديث معاذ بن جبل وإسناده منقطع ، وقد أعله بالانقطاع الإمام الدارقطني عليه رحمة الله تعالى .(1/110)
إذاً ... فلا يصح إثبات أن السجود تحية ، لكن يُقال : لو وُجد عند شعب من الشعوب أن السجود تحية ... وُجد في عرفهم ، هل يكفرون أم لا ؟ فيسجدون لبعض ولعظمائهم وكبرائهم ونحو ذلك ، ويريدون بذلك تحية ، كما يريد تحية إذا ألوى بيده لمار أو سلَّم عليه ونحو ذلك ، أو سلَّم برأسه أو بإشارته وأراد بذلك تحية ، فإذا وُجد عند بعض الشعوب التحية بالسجود هل يقال بكفرهم ؟
يُقال : أنه لا يُقال بكفرهم إلا بعد تنبيههم أن السجود لا يكون تحية ، بل عبادة محضة ، فإن فعلوا ذلك بعد ذلك كفروا بالله سبحانه وتعالى ، وذلك لوجود الشبهة ، فإنه قد جاء في ذلك بعض الأحاديث ، منها حديث معاذ السابق بورود السجود تحية ، وقد وُجد عند بعض أحوال العرب كما ذكره بعض أهل السير .
فيقال حينئذٍ بأنه الأصل أن السجود عبادة ، فمن فعله وهو يعلم أنه عبادة وقربة لله سبحانه وتعالى كفر بالله عز وجل ، أما إذا عُلم في عُرف قوم تحية فينبَّهون أنه عبادة ، فإن فعلوا بعد ذلك ... بعد إفهامهم أنه عبادة يُكفَّرُون بسجودهم لغير الله سبحانه وتعالى .(1/111)
وأما الركوع فهو كالسجود ، لكنه وروده تحية أشهر من السجود ، فلا يُكفَّر من ركع لغير الله سبحانه وتعالى ، وعُلم من فعله أنه أراد تحية ، إلا بعد إعلامه أنه عبادة ، فمن فعله من أهل الإسلام وهو يعلم أن هذا عبادة لله سبحانه وتعالى محضة ، وليس بتحية ، ونهى الإسلام عن فعله تحية ، فإنه حينئذٍ يكفر بهذا من غير تنبيه ، أما إذا عُلم - وهو كالسجود - عند شعب من الشعوب أنه تحية ونحو ذلك ، فينبَّهون إلى ذلك أنه عبادة ، ثم بعد ذلك يُطلق بكفرهم إن فعلوا ذلك وإن أرادوا به تحية ، لأن العبادة لا يمكن للإنسان أن يقلبها من حالها ، فالشارع قد جعلها عبادة وإن زعمت أنها تحية ، فمن صلى صلاة ، وقال لأنني لا أريد بذلك عبادة ، كمن يصلي ركعتين عند قبر ونحو ذلك ، ويستقبل بها هذا القبر ، ويقول أنا أريد بها تحية ، نقول هذا لا يُقبل منك ، هذا الفعل جعله الشارع عبادة ، فإن فعلته وصرفته لغير الله عز وجل كفرت .
أما القيام - وهو : قيام الجالس وصموده بين يدي العظماء ونحو ذلك - هل هو من العبادة أم لا ؟
ُيقال : أن القيام تحية ، وهذا معروف في الجاهلية وكذلك في الإسلام ، ولم يُقرِّه الشرع ، والمراد بذلك الصمود ، أما القيام بذاته للقادر فقد جاء الدليل عليه ، والمراد بذلك هو أن يصمد الإنسان قائما .
فثمة من البعض قد جعلوه من باب العبادات ، قالوا وهو كالسجود ، لأن الله عز وجل قال : ( وقوموا لله قانتين ) قالوا : فجعل الله عز وجل القيام كالسجود ، فلا يُصرف إلا لله سبحانه وتعالى ، فمن صرفه لغير الله ، وقام صامداً بين يدي العظماء ، كفر بالله عز وجل ، لصرفه تلك العبادة لغير الله . وهذا قياس مع الفارق ، وهذا قول فاسد ... لمَ ؟(1/112)
1-أولا : أن السجود عبادة لله سبحانه وتعالى بذاته استقلالا ... دل الدليل عليه ، كسجود التلاوة وسجود الشكر وسجود الآية وغير ذلك من غير صلاة ، أما القيام ... فهل يُقال أنه يسوغ للإنسان أن يقوم تعبدا لله من غير صلاة ؟ لا يسوغ ذلك . إذاً ... ليس هو بعبادة مستقل ، كذلك الركوع شبيه به ... لا يمكن للإنسان أن يركع من غير سجود ، يقول هذا عبادة لله سبحانه وتعالى ... نقول : قد ابتدعت واحدثت .
لكن بالنسبة للقيام : القيام لا يكون عبادة إلا إذا كان في الصلاة فقط ، فمن قام تعبداً لله تعظيما نقول : قد ابتدعت . ولذلك لما قام الرجل في الشمس أراد تعبداً نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك ، وقال : ( إن الله غني عنك ) فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع ذلك .
إذاً ... فالتعبد لله عز وجل بالقيام والصمود من البدع المحدثة .
إذاً ... فما حكم القيام صموداً بين يدي بعض الناس ؟ مثل الملوك أو مثلاً العظماء ، أو الوقوف مثلاً أو صموداً أمام مثلا بعض الجمادات كالألواح أو مثلا التماثيل أو مثلا الأعلام أو البيارق ونحو ذلك أو الرايات ، يُقال : أن هذا من البدع المحدثة ، بل من المنكرات التي تجر إلى الإشراك بالله سبحانه وتعالى ، فيحرم فعلها ، لكن أن تكون شركا هذا قول بعيد لا أعلم من قال به من السلف ، وإن قال به قلة قليلة ممن تأخر ، فهو قول لا يعول عليه . (1)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ( يعني ابن القيم ) بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر : ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم ، ومن أنواعه النذر لغير الله ، والتوكل على غير الله ، والعمل لغير الله ، والإنابة والخضوع والذل لغير الله ، وابتغاء الرزق من عند غيره ، وإضافة نعمه إلى غيره
__________
(1) هنا انتهى كلام الشيخ في الدرس الثالث، وبقي كلام القارئ وهو في الدرس الرابع.(1/113)
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين :
هذا من باب الكفر والإشراك مع الله عز وجل في توحيد الربوبية ، وهذا قد وقع فيه الجاهليون ، وأشركوا مع الله عز وجل غيره في ربوبيته ، وإن كانوا يُقرِّون بالجملة بتوحيد الربوبية ، إلا أنهم قد وقع منهم الإشراك في هذا كما تقدم الإشارة إليه . ولذلك من سجد لغير الله ، وطلب منه التوبة وطلب المغفرة ، وتقرَّبَ إليه يرجو منه شيئا لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى ، كجلب النفع أو دفع الضر ... هذا فيه تشريك مع الله عز وجل ، وهو مخرج من الملة .
وقد مثَّل الشيخ عليه رحمة الله تعالى بالسجود ، وكذلك طلب المغفرة والتوبة ، فإن هذا من خصوصيات الله سبحانه وتعالى ، فإن الله عز وجل هو المالك للمغفرة ، فإذا قيل بأن أحداً من الناس يستطيع أن يمحو الذنب عن أحد من خلق الله عز وجل فإن هذا منَازعة لله جل وعلا في ربوبيته ، فهذا من اختصاص الله سبحانه وتعالى ، فإن الله عز وجل هو الذي يملك العقاب ، ويملك النعيم ، ويملك الحساب سبحانه وتعالى ، فمن قال بأن أحداً من مخلوقات الله عز وجل يملك المغفرة ، وتُصرف له التوبة ، كالأولياء والشيوخ الذين يصرف لهم غلاة الصوفية ، فإن هذا كفر بالله سبحانه وتعالى ... مخرج من الملة بالإجماع ... نعم :
ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً لمن استغاث به ، أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه(1/114)
ومن أعظم الأبواق التي يسوِّل فيها الشيطان لعباد الله سبحانه وتعالى بالإشراك مع الله عز وجل ، هو أن يسوِّل لهم أنهم مقرُّون بربوبية الله سبحانه وتعالى ، فيوقعهم في شيء من شعب الشرك الأكبر ، فيكفرون بالله سبحانه وتعالى بهذه الشعبة ، ويُطمأنهم بإيمانهم بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق ، كما وقع فيه كفار قريش .
ولذلك عارضوا النصوص التي نزلت في الكتاب ، وكذلك في السنة ، وعارضهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبادتهم لغير الله عز وجل : ( قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا ) أي أنَّا لا نعبدهم لذواتهم ، فإنَّا نعلم أنهم مخلوقون من خلق الله سبحانه وتعالى ، لكنهم وسطاء بيننا وبين الله عز وجل . وهؤلاء كفروا بالله عز وجل ، وخرجوا من الملة لأمرين :(1/115)
1- أنهم قد شبهوا الخالق بالمخلوق ، والتشبيه نوعه هنا : هو أنهم جعلوا الله عز وجل كالوجهاء والملوك الذين لا يقبلون حاجات الناس إلا بالوسطاء والحُجَّاب ، فإن الحوائج تُعرض إليهم بواسطة أناس مقربين منهم ، وأما الله سبحانه وتعالى فالخلق عنده سيان ، من دعا الله عز وجل وطلب المغفرة فإن الله عز وجل يغفر له إذا علم من قلبه صدقاً وتوبة وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ، ومن جعل بين الله عز وجل وبين خلقه وبينه وسائط فإنه قد أشرك مع الله عز وجل غيره من هذا الباب ، أي أنه شبه الله عز وجل بالمخلوقين ، أي أنه لا يقبل الله عز وجل التوبة والمغفرة وقضاء الحاجات إلا بالوسطاء كسائر الملوك والعظماء وأصحاب الأموال ونحو ذلك ، الذين يأخذون حاجات الناس ، لا بقضاء حاجاتهم من غير وسطاء ، ولكن عن طريق الوسطاء والحجَّاب ، وهذا تشبيه يتنزَّه الله عز وجل عنه ، ولذلك قال الله عز وجل : ( وإذا سألك عبادي عني - كلهم الجن والإنس - فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ) في هذا الباب الناس لا فرق بينهم ، فليدع كل منهم الله سبحانه وتعالى ، فإن اختلَّ هذا الباب في قلب العبد ، فإنه حينئذٍ قد اختلَّ إيمانه وتوحيده ، فإن جعل واسطة ... شبه الخالق بالمخلوق ، كفر بالله سبحانه وتعالى كما كفر مشركوا قريش ... نعم :
فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه
وهذه هي الشفاعة المثبتة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) فالشفاعة شفاعتان :
1- شفاعة مثبة .
2- وشفاعة منفية .
فالمنفية هي التي بُني عليها الأصل ... أنه لا شفاعة لأحد مطلقا ، فالله عز وجل لا يقبل شفاعة أحد إلا - والمستثنى هنا هو الشفاعة المثبتة - من رضي الله عز وجل عنه ليُشفع له ، وإذن الله عز وجل للشافع أن يشفع .(1/116)
والشفاعة الأصل أنها لا تكون إلا لأهل الإيمان ، أما الكفار فالله عز وجل قد أخذ على نفسه أن لا يغفر لمن أشرك معه شيئا ، وهذا أمر أخذه الله عز وجل على نفسه ، والله عز وجل يلزم نفسه بما شاء ، ويحرِّم على نفسه ما شاء كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي في الصحيح :( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) والله سبحانه وتعالى يجعل على نفسه حقوقاً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث معاذ : ( ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ) فالله عز وجل يُحق شيئا على نفسه ، ويُحرم شيئا على نفسه ، وليس لأحد أن يُوجب على الله عز وجل شيئا .
خلافا لما ذهب إليه المعتزلة وطوائف من المتكلمين الذين يرون أن الله عز وجل يُجب عليه أن يغفر للعباد بتوبتهم له ، وأنه من تقرَّب إلى الله عز وجل بالطاعات ... وقد انحرف فيها هذا جماعة كثير من أهل السنة ممن ينتسب إلى السنة في هذا الباب ، وحملوا بعض النصوص التي ألزم الله عز وجل بالغفران لمن قال لا إله إلا الله ، وكانت آخر كلامه من الدنيا ونحو ذلك ، فيُقال : هذا هو إيجاب الله عز وجل على نفسه ، لكن ليس لأحد أن يوجب على الله عز وجل ، والله سبحانه وتعالى يتنزَّه عن مثل ذلك .
وأما شفاعة الكفار فالأصل فيها أنها منفية ، ويُستثنى من هذا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ، وشفاعته لأبي لهب كما تقدم - إن صحت ، وإن كانت في صحيح البخاري فهي ليست على شرطه - بسبب إعتاقه لمرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ... نعم :
والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه ، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد ، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن(1/117)
والفرق بين الشفاعة المنفية والمثبتة : أن الشفاعة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم لا تكون إلا في الآخرة ، فالله عز وجل يأذن للشافع أن يشفع يوم القيامة في العرصات ، أما في الدنيا لا يوجد شفاعة أحد يشفع لأحد ، الناس كلهم سواء ، يسألون الله عز وجل حاجاتهم ، ويتقرَّبون إليه بالطاعة ، ويسألونه النفع ودفع الضر ، وكلهم سواء في ذلك ، وإن سألوا أحداً في هذه الدنيا كما سأل كفار قريش كفروا بالله سبحانه وتعالى .
لأن الشفاعة هي مأخوذة من الشِّفع ، وهو أن يقترن الوتر بغيره فيكون شفعاً ، فيعتضد بغيره فيقوى ، فيقال : اعتضد فلان بفلان أي : قوي به . ولذلك تسمى الشفاعة شفاعة لأن الإنسان ليس بمفرده ، فاعتضد به ليتوصَّل به إلى منشوده ومقصوده ، وهو رضا الله سبحانه وتعالى ومغفرته ، وهذا ليس في الدنيا ، فالله عز وجل قد جعل الناس سواسية ( إني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) ، أما في الآخرة فيأذن الله عز وجل لمن شاء من عباده أن يشفع ... نعم :
فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن ، والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي إذا زرنا قبور المسلمين
والمقابر قد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارتها في أول الأمر كما في الصحيح : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة ) وفي رواية : ( وتزهِّد في الدنيا ) وهذه هي الحكمة التي شُرعت لأجلها زيارة المقابر ، لا يوجد حكمة أخرى .
قد يظن البعض ، وقد وُجد كذلك في كتابات بعض العلماء : أن زيارة المقابر تشرع للوقوف على قبر الميت ، والدعاء له ، يُقال : هذا ليس بمشروع ولا دليل عليه، وإنما المشروعية لزيارة المقابر هي بسبب تذكر الآخرة، والزهد في الدنيا، لا للدعاء للميت .(1/118)
فقد يقول قائل : وهل ثمة فائدة من معرفة قبر فلان بن فلان ، حتى يزوره فلان . نقول : نعم ... ثمة فائدة ، وهي داخلة في هذا الباب ، لأن الإنسان حينما يقف على قبر أبيه ، أو على قبر أمه ، أو على قبر أخيه ، أو على قبر ابنه ، يحضر له من التزهَّد في الدنيا والبعد عنها ، لأنه يستحضر ذلك الميت ، وجلادته وصلابته في الدنيا ، وكذلك سعيه فيها ، فيُعرض عن الدنيا ، بخلاف حينما يأتي إلى قبر لا يعلم صاحبه ، فإنه أدعى إلى التزهُّد في الدنيا .
ولذلك يقال : أن الحكمة من زيارة المقابر هي تذكُّر الموت ، وحضوره في قلب الإنسان ، وكذلك أن يزهد الإنسان في الدنيا ، أما أن يحضر إلى المقابر ليدعو لهم فهذا تعضده النصوص ، بل لم يأت نص في هذا يُعتمد عليه ، وإنما الدعاء للأموات في السجود وفي أقاصي الدنيا يبلغهم ، والدعاء للميت عند القبر أو بعيداً عنه لا فرق بينهما .
وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( استغفروا لأخيكم فإنه الآن يُسأل ) فإن هذا لأنهم كانوا عند القبر بعد دفنه ، ولم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضور عند المقابر للدعاء لها ، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصد المقابر لغير هذا الشيء ، وأن الأصل في ذلك النهي إلا لهذه الحكمة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ) إذاً ... فالأصل أنه منهي عنه إلا تذكر الآخرة ، تذكر الموت والتزهُّد في الدنيا .
فعلى هذا : هل يُقال بأن زيارة المقابر لغير هذا المقصد منهي عنه أم لا ؟(1/119)
ُيقال : الأولى أن لا تُزار لغير هذا المقصد ، لأن هذا هو ما دل عليه الدليل ، أما من أراد أن ينظر إلى المقابر من غير زهدٍ في الدنيا ونحو ذلك ، أو يطَّلع على قبر فلان مثلا ، أو ينظر مثلا إلى معالم تاريخية توجد على القبور ، أو تواريخ توضع على النُّصُب ، وتوضع كذلك على الأحجار ، وترسم على القبور ونحو ذلك ... لتقييدٍ ونحو ذلك ، فإن هذا يُقال : أن الأصل أنه منهي عنه ، لأنه داخل في عموم النهي : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ) وهذا التعليل بالجواز ، ونسخ التحريم إلى الجواز ... نعم :
كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة ، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود ، وتغيير دينه ، ومعادات أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات(1/120)
والدعاء الذي أشار إليه المصنف عليه رحمة الله تعالى عند المقابر هو خاص بقبور المسلمين والمؤمنين ... لا بقبور الكفار ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم السابقون ، ونحن اللاحقون ) وفي رواية : ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) فهذا خاص بقبور المؤمنين ، أما قبور الكفار فلا ذكر عندها ، لأنها لا يأتي عليها النص ... نعم ... (1) لا ... ما يظهر ، لأن الدعاء ليس له محل معين ، والنص صريح في قوله علي الصلاة والسلام : ( فإنها تذكِّر الآخرة ) لكن كما جاء كتاب بعض الألفاظ : ( كالمودع لهم ) هذا هو فهم فهمه الراوي ، لكن هل يُقال على فهمه أن هذا الفهم مستقرٌ عندهم يدل على الجواز ... أنه يزور القبر كالتَّوديع إذا علم قُرب أجله ونحو ذلك ... أن يُودِّع المقابر ، يقال : هذا ليس بمشروع ، ولم يثبت فيه نصٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأصل و النص الصريح أن زيارة المقابر هي لتذكُّر الموت ، والتزهد في الدنيا ، أما لتوديع أصحابهم ( ... ) (2) الدنيا فإن هذا لا دليل عليه ... نعم :
وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص
__________
(1) هذا سائل يسأل .
(2) لم أتعرَّف على الكلمة .(1/121)
والشرك هو أعظم الظلم ، لأنه غاية التنقُّص ، والظلم في لغة العرب هو وضع شيء في غير موضعه ، ولذلك من أعظم العبادات هو ما انعقد عليه القلب ، ومن أعظم الآثام ما انعقد عليه القلب ، ولذلك أساس الشرك وأصله هو القلب ، كما أنه يقع في الجوارح ويكفر الإنسان بذلك ، كذلك في القلب يكفر به ، ويكون في الدرك الأسفل من النار ، وإن كان قد ظهر على جوارحه شيء من الإيمان ، لأنه قد وضع القلب في غير موضعه ، والله عز وجل قد جعل للقلب عبودية عظيمة جليلة ، وهي الخوف والرجاء والتوكل والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى والمحبة ، فإذا وضع هذه الأشياء في غير موضعها فقد ظلم نفسه ، وتعدَّى وبغى ، وارتكب أعظم أنواع الظلم ، لأنه قد ساوى الخالق بالمخلوق ، والله جل وعلا قد جعل هذا النوع من الظلم أشد أنواع الظلم : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ... نعم :
وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، أو أنهم أمروهم به ، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم . ولله در خليله إبراهيم حيث يقول : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن اضللن كثيراً من الناس ) ...
ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ، فإذا كان إبراهيم يدعو الله عز وجل أن يُجنِّبه عبادة الأصنام ، لأن الشرك فتنة ، وسماه الله سبحانه وتعالى فتنة ، لأن الإنسان إذا أُشرب في قلبه قلَّما يتركه ، لذلك المشركون قد ضلوا ورضوا بالقتل والهوان والصغار في هذه الدنيا وإن كانوا مقرَّون بتوحيد الله سبحانه وتعالى ، ولذلك قال الله جل وعلا عنهم : ( إن الشرك لظلم عظيم ) فإذا وقع الإنسان في الإشراك مع الله عز وجل قلَّما ما يتركه ، إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى ، لأنه غاية في الفتنة ، وقد وصفه عز وجل بذلك .(1/122)
من نظر وجادل المشركين الذين يعبدون الأوثان والأصنام وجد أنهم أشد عناداً من أهل الأهواء وأهل البدع والضلال والزيغ الذين أشربت قلوبهم بالبدعة والضلال ، لتمسُّكهم بمعبوديهم ، فهم يعيشون معهم في تخيلاتهم ، وفي مناماتهم ، فهم علَّقوا كل شيء ... اليقظة والمنام والسكون والحركة بهؤلاء الأولياء الذين يعبدونهم من دون الله سبحانه وتعالى ، فأشربوا في قلوبهم ، ولذلك الله عز وجل قد وصف ما تعلَّق به بنوا إسرائيل بالعجل ... قال : ( وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) فهذا هو أعظم أنواع الفتنة : أن يُفتن الإنسان في دينه ، وخاصة الإشراك بالله سبحانه وتعالى ، ولذلك قال الله عز وجل : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) والمراد بالفتنة هو الكفر ، وهذا مفسَّر عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فقد قال إبراهيم النخعي كما رواه ابن جرير الطبري وكذلك ابن أبي حاتم من طرق عدة عن إبراهيم ... قال : من يأمن البلاء بعد إبراهيم ، حيث دعا الله عز وجل أن يجنبه عبادة الأصنام ويبعده عنها ... نعم :
ولله در خليله إبراهيم حيث يقول : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن اضللن كثيراً من الناس ) وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله ، وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله . انتهى كلامه(1/123)
وهذا مشاهد ملموس : أن الإيمان إذا وقر بقلب الإنسان ، وإن لم يظهر على جوارحه شيئاً من العمل والإكثار من القربات ، فهو أحب إلى الله عز وجل وأعظم ممن يتقرَّب إليه في الظاهر وهو كافر به في الباطن ، أو يبكي ليل نهار عند القبور ... يطلبهم أن يكونوا شفعاء ووسطاء عند الله سبحانه وتعالى ، فهذا في أسفل السافلين ، ومن جملة الكفرة والملحدين ، وذاك من أعظم المقربين عند الله سبحانه وتعالى ، فإذا كان في الناس من يحبُّك و يُكنُّ لك تعظيما ، إلا أنه ليس بصاحب وِصال لك ، فإنه أعظم قدراً ... بل بالمنزلة العليا عندك في مقابل من يُنفق عليك ويُحسن إليك ، وأنت تعلم أن قلبه مليء بالحقد عليك والإعراض عنك ، فإن ذاك أعظم لأنه قد عقد قلبه على حُبِّك وإن لم يصرف شيئا من جوارحه إليك ، ولله عز وجل في ذلك المثل الأعلى ، ... نعم :
والمراد بهذا أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر ، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر . وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول والثاني صريحاً لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها: أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه ، وآخر ما صرح به قوله آنفاً : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره اهـ .
فإذا كان سؤال الأحياء الشفاعة والوساطة بينه وبين الله عز وجل كان شركا أكبر ، فسؤال الموتى من باب أولى .(1/124)
وأما ما تقدم الإشارة إليه من سؤال الميت أن يدعو لك عند الله ، أو يدعو لك بالمغفرة ... دعاء ، لا تسأله وساطة ، فإن هذا من البدع المحدثات وليس من الشرك ، لجوازه في حال الحياة ، ووُرود الشبهة فيه في حال الموت ، فإنه قد ثبت في كلام الله عز وجل وأحاديث كثيرة في سنة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا أن الموتى يسمعون ، فإذا ثبت سماعهم ... قد سكت الشارع عن كلامهم ودعائهم ، فيُقال : أنه لما كان جاز في حال الحياة أن يسأل الإنسان الحي أن يدعوَ له بالمغفرة والرحمة ، أو يتوب الله عز وجل عليه ، فيُقال : أنه كذلك لورود هذه الشبهة في حال الميت ، وثبوت سماعه بالنص ... يُقال أن ذلك من البدع ، لعدم وروده عن السلف ، فلم يكونوا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يأتون إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وهم أحوج الناس إليه ، وقد عاينوه ، بل أعظم الناس تعلقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الإنسان إذا عاين محبوبه وفقده أشد تعلقاً به ممن سمعه ولم يره ، ولذلك لم يأتوا إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يصرفوا شيئا ، بل لم يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، بل عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قدَّم العباس لكي يدعو لهم ، ولم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء ، ولذلك قيل أن هذا الباب من أبواب البدع والمحدثات ، وليس من أبواب الشرك ، لأنه مورد من موارد الشبهة ، فتُدرأ مسألة الشرك والتكفير في هذا الباب ... نعم :(1/125)
منها أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه ، وآخر ما صرح به قوله آنفاً : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره اهـ . فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد بل الإلحاد .ولكن تأمل قوله أرشدك الله : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين إلى آخره اهـ . وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعادات أهل الشرك الأكبر وإن لم يعاديهم فهو منهم وإن لم يفعله .وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين ، أن من دعا علي ابن أبي طالب فهو كافر ، وإن من شك في كفره فهو كافر ، فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له
من كفر بالله سبحانه وتعالى ، وظهر كفره وعناده وإشراكه وجب تكفيره ، ومن لم يكفِّره فهو كافر ، لتكذيبه ما ثبت في الكتاب والسنة ، والنصوص في بيان كفر المشركين مليء بها الكتاب والسنة ، ولذلك من أحجم عن تكفير المشركين ، وقال بعدم كفرهم ، وشَكَّك في ذلك ، فهو مُشَكَّك بصدق الكتاب والسنة ، وحينئذٍ يكفر من هذا الباب ، وتقدم التقسيم في مسألة عدم تكفير الكافر .(1/126)
وقد ذكر العلماء عليهم رحمة الله تعالى قاعدة أصلية : أن من لم يُكفِّر الكافر فهو كافر . والمراد بالكافر هنا هو الكافر الأصلي ، ليس من طرأت عليه شبهة ، وأما إذا كان مرتداً قد وقع في شيء من أنواع الردة من نواقض الإسلام ولم يُكفِّره الإنسان ، مع علمه أن ما وقع فيه مُكفِّر ، لكنه لم يُكفِّره بعينه، ربما لورود شبهة عليه ، فإن هذا لا يكفر ، لأنه مُقر بأن هذا الفعل كفر ، لكنه قال : ربما قد وقع في قلب هذا الرجل شبهة ونحو ذلك ، ولذلك لا أُكفِّره من هذا الوجه . فإن هذا ليس بكفر ، ولكنه يُبيَّن له الحال ولا يُقال بالكفر ، أما الكافر الأصلي الذي ليس قريباً من الإسلام ، كاليهود والنصارى والمسيحين والصابئة وغيرهم ... فإن هؤلاء كفار ومن شك في كفرهم أصلا فقد كفر بالله سبحانه وتعالى ، ويخرج من هذا من اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى أصلا ، والنصوص فيه محتملة في تكفيره كتارك الصلاة ، فإن هذا لا ورود للخلاف فيه .
واختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في مسألة تكفير المؤمن المسلم ، هل هو من المكفِّرات أيضا ؟ فيكون مقابلاً لمن لم يُكفِّر الكافر : أن من كَفَّر مؤمنا كفر ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) هل هذا يُعد من نواقض الإيمان أيضا على الطرد في المسألة الأولى ؟ فيكون أن من لم يُكفِّر الكافر فهو كافر ، ومن كَفَّر المؤمن فهو كافر أيضا ، باعتبار اشتراكهما بتكذيب النص .
وإخراج من دائرة الإسلام وهو ثابت إسلامه أعظم عند الله عز وجل من إدخال الكافر في دائرة الإيمان ، لأن الأصل في الإنسان هو الإنابة إلى الله عز وجل ، وأنه من أهل الإيمان .(1/127)
فيُقال : أن من كفَّر مؤمنا قد ثبت إيمانه ... الأصل فيه أن هذا من المكفرات ، وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام : ( فقد باء بها أحدهما ) أي إما أن يكون هذا الرجل هو الكافر ، وإما أن يكون الآخر . وحمله بعضهم وتأوَّله بتأولٍ بعيد ، قال : أن المراد بذلك الكفر الأصغر . وحمله بعضهم على الاستحلال . فيُقال : أن النبي عليه الصلاة والسلام علَّق الأمر بالقول ، ولذلك قال : ( من قال لأخيه يا كافر ) ولم يُعلِّقه بما في القلب ، ومسائل الكفر لا يُطلق القول بتعلُّقها بالقلب فحسب ، أو تعلُّقها بالجوارح فحسب ، وإنما تتعلق بالجوارح ، وتتعلق بالقلب أيضا ، وذلك علَّق الشارع هنا الكفر هنا بالقول ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) فمن كفَّر مؤمنا قد ثبت إيمانه من غير شبهة ، وجب عليه أن يُجدد إيمانه لظاهر النص ، كمن قال في كافر قد ثبت كفره من الكفار الأصليين أنه ليس بكافر وهو مسلم = وجب عليه أن يُجدد إيمانه ... هذا هو ظاهر الدليل .
ومن حمله على الكفر الأصغر فإنه يُناقضه الدليل الذي استدل به ، النبي عليه الصلاة والسلام قال :( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) فيُقال : ما الذي باء به الأول ؟ هل هو الكفر الأصغر أم الأكبر ؟ هو قد يبوء القائل بكفر أصغر ، أما الأول ما الذي يبوء به ؟ لا يبوء إلا بالكفر الأكبر .
فعلى هذا : تقسيم النص على أن ما يبوء به الأول كفر أكبر ، وما يبوء به الثاني كفر أصغر ... تفصيل وخرم للدليل عن اضطراده ، وهذا لا يتأتَّى عند النصوص الشرعية ، فالأولى في مثل هذا أن يُحمل الأول والآخر كذلك على أنه كفر أكبر ،
فمن قال لأخيه يا كافر ، وقد ثبت إيمانه ، فقد كفر بالله سبحانه وتعالى ... من أهل الإيمان الأصليين ، من غير ورود شبهة .(1/128)
أما مع وُرود الشبهة : فإن هذا مع خطر بابه وعظيم الأمر فيه فإنه لا يُقال أن الإنسان يكفر فيه ، كما تقدَّم أن من لم يُكفر الكافر لورود شبهة عليه أنه ليس بكافر ، وذلك لورود الشبهة ، وهذه الأبواب يجب على المؤمن أن يحترز فيها ... في مسألة تكفير من لم يُكفر الكافر الذي قد ارتد بشبهة عليه ، فإنه يجب عليه أن يتحرى في ذلك ، كذلك تكفير المؤمن الذي قد بان إيمانه ، وكان ما وقع فيه شيء دون شبهة ، أو شبهة قوية جدا ، فليتحرَّى المؤمن في هذا الباب ، فإنه كما يُشدَّد في عدم تكفير الكافر ، فيُشدَّد كذلك في تكفير المؤمن ، فكلاهما خطير ، وجاء النص بتكفيرهما .
وقد يهرب بعض الناس من عدم تكفير الكافر ، فيقع في تكفير المؤمن ، وهذا باب خطير ، ومزلق عظيم ، كلاهما يُوبق الإنسان ويُهلكه ، فينبغي لطالب العلم خاصة ، وعلى المسلم عامة أن يحذر من هذا الباب ، وأن يتحرَّى فيه غاية التحري ، وأن يرجع إلى العلماء عند الإشكال في هذه الأبواب ، فإن إطلاق اللسان فيها من غير بينة وحجة بالكتاب والسنة مزالق عظيمة ، لأن مسالك التِّبعات التي يُدخل فيها الإنسان الكافر في الإسلام عظيمة ، كذلك التِّبعات التي يُدخل الإنسان فيها الكافر في الإيمان ، والمؤمن في دائرة الكفر عظيمة ، فيترتَّب على هذا مسائل عظيمة ينبغي أن يُقر بها ، وهذا مسلك عظيم ، ومسلك مُظلم ، ينبغي لطالب العلم أن لا يسلكه إلا بحجة بينة من الكتاب والسنة ... نعم :
وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين ، أن من دعا علي ابن أبي طالب فهو كافر ، وإن من شك في كفره فهو كافر ، فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له ، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده ، فكيف بمن أحبه ، فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته(1/129)
لا فرق بين من يعبد ويصرف العبادة لاللات والعزى ومناة ... لا فرق بينهم وبين من يصرف العبادة للحسين أو علي بن أبي طالب أو عبد القادر الجيلاني والسيدة زينب وغيرها من الأضرحة والمزارات ، لأن كل هؤلاء من خلق الله سبحانه وتعالى ، فإن صرفوا شيئا من العبادة لغير الله عز وجل - وإن كان من هذا الباب - كفروا بالله سبحانه وتعالى ، وقد أحجم كثير ممن ينتسب إلى الإسلام عن تكفير هؤلاء باعتبار قيام الشبهة ، فهؤلاء هم ككفار قريش لا فرق بينهم ، بل لا عجب أن لو جاء كفار قريش وكانوا في عصرنا لأحجم أمثال هؤلاء عن تكفيرهم ، فإنهم قد تشبَّهوا بهم في مسألة الذبح لهم من دون الله سبحانه وتعالى ، والطواف على القبور ، وكذلك السجود عندها وقضاء الحاجات وغيرها من العبادات ، وكل هذا من أبواب الشرك الأكبر ... نعم :
فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده ، فكيف بمن أحبه ، فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته ، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك ، وقد قال تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد ومعادات المشركين بالخوف على أهله وعياله فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة
ولا يُعذر الإنسان بشيء من متاع الدنيا ولذائذها بالإشراك بالله سبحانه وتعالى ، فمن أشرك مع الله عز وجل غيره لغرض الدنيا ومتاعها كما يفعله كثير من المشركين في بعض البلدان الإسلامية ، يبنون الأضرحة والمزارات باعتبار أن أباه كان ولياً صالحا أو جده ونحو ذلك ، فيعيشون على الرزق على هذه الأضرحة والمزارات ، ويكونون من أثرياء الدنيا بسببها ، فيعِّز عليهم أن يتركوا الإشراك مع الله عز وجل ، فهذا لا عذر للإنسان فيه ، بل أول من يدخل في دائرة الكفر ، لأن الإنسان لا يمكن أن يُقر ويعلم أن الإشراك مع الله عز وجل غيره يجلب له الفقر ثم يُقدم عليه .(1/130)
ولذلك جعل الله عز وجل الإشراك مع الله عز وجل فتنة ، وسماه فتنة كما تقدم ، بل أخبر الله سبحانه وتعالى أن كفار قريش لو عاينوا النار يوم القيامة فإنهم يتمنَّون أن يعودوا إلى الدنيا ( ياليتنا نُرد ولا نكذِّب بآيات ربنا ) الله عز وجل كذبهم في دعواهم ذلك ... قال ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) فإذا كان هؤلاء بعد معاينتهم للنار ، ومشاهدتهم لها ، ورأوها يحطم بعضها بعضا ، ورأوا الكفار فيها ، تمنوا العودة إلى الدنيا ، لشدة فتنة الإشراك مع الله عز وجل غيره ( لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) لأن الإنسان يُكابر نفسه ، ويلتبس ويتعلَّق بحجج أوهى من بيت العنكبوت ، وهي توبقه في النار .
ولذلك لا يُقبل الحجة ولا يقبل ذات الدليل ، قد يُقال أن فلان يستدل بكذا وكذا ، كما استدل كفار قريش ، لا يوجد أحد في الدنيا إلا وله دليل ، ولا يمكن لأحد أن يقول هذا الباطل باطل وأنا أبقى عليه ، ولكنه يُخادع نفسه ويمنيها بأدلة واهية ، ولذلك ما عذر الله عز وجل كفار قريش ، لأنهم يقولون نحن نتخذ هؤلاء وسائط ، فكأنهم قالوا : نحن نتوارى من ذنوبنا أمام الله عز وجل ، خجلا منه أن نسأله ، ولكن يسأله هؤلاء الأولياء ، تعظيما وإجلالا لله سبحانه وتعالى . وهذا من حيل الشيطان ، وحيل إبليس ، فما قبِل الله عز وجل عذرهم ، وحكم الله سبحانه وتعالى ورسوله بكفرهم ، وأنهم من أهل النار، بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسبى نساءهم وأموالهم ، وجعلهم من جملة الهالكين في الدنيا والآخرة ... نعم :
وقد قال تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد ومعادات المشركين بالخوف على أهله وعياله فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة(1/131)
ولا يمكن أن تتحقق نصرة التوحيد والإيمان إلا بمعادة أهل الكفر والضلال والزيغ ، ولا يمكن أن تقوى شوكة الإيمان إلا بموالاة أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر .
ومن تأمل هذا الباب وجد أن النصوص فيه أكثر من أن تُذكر ، والنصوص في كتاب الله سبحانه وتعالى عظيمة ، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير متظافرة ، بل لا يمكن أن يقوم لحق شوكة ، ولا يمكن أن يزهق باطل ، إلا بسبب الولاء والبراء ... الولاء لأهل الإيمان ، والبراء من أهل الإشراك ، بل لا يمكن أن تقوم ملة في الأرض ودعوة إلا بسبب الولاء وسبب البراء ، ولا يمكن أن تنتصر أمة على أمة أخرى وشعب من الشعوب على شعب آخر إلا بسبب الولاء فيما بينهم ، ولذلك شدَّد الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر ، وشدَّد رسوله ، وجعل مولاة أعداء الله سبحانه وتعالى من الكفر ، وإن كان من يُواليه الإنسان أقرب قريب ، كأبيه وأمه وأبيه وأخيه ، فإنهم لا موطن لهم هنا ، لأن الأخوَّة هي أُخوَّة الإيمان ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( لا تجد قوما يوادون من حاد الله ورسوله ) مهما كان ، وهنا النفي هنا : ( لا تجد قوما ) يعني من أهل الإيمان ، وإن كان أهل الكفر يُوادُّون بعضاً ، فالمنافقون أولياء بعض ، وأهل الإيمان أولياء بعض ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ) فهم أولياء بعض ، وأهل الإيمان أولياء ، فمن والى الكفار كان منهم ، ولذلك يقول الله عز وجل : ( ومن يتولهم فإنه منهم ) ولذلك قد قال ابن القيم عليه رحمة الله تعالى في المدارج ، وكذلك قال في كتابه الفوائد ... قال : وظاهر النص أنه على ملتهم . ونص على هذا ابن حزم الأندلسي كذلك في كتابه المحلى أوكتاب الإحكام ، وكذلك القرطبي عليه رحمة الله تعالى في تفسيره ... نعم :(1/132)
فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة ، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يعرف معنى القرآن ، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا : ( إن نتبع الهدى معك ) الآية .ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاقاً وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون ، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب ، كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه خطه بيده يقول : بيني وبينكم أهل هذه الأقطار وهم خير أمة أخرجت للناس وهم كذا وكذا ، فإذا كان يريد التحاكم إليهم ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، فكيف أيضاً يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة . وما أحسن قول أصدق القائلين : ( والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف . يؤفك عنه من أفك ) ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) فرحم الله أمرءً نظر لنفسه وتفكر فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله من معادات من أشرك بالله من قريب أو بعيد وتكفيرهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، وعلم ما حكم به محمد فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام ، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون كعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه وغيره لما حرقهم بالنار مع أن غيرهم من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق والله الموفق .وقال أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم قال : وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه ، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد يرجح غيره المشركين ، وقد يعرض عن الأمرين جميعاً ، فتدبر هذا فإنه نافع جداً .(1/133)
ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك ، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك ، أو يأمرون به أولا يوجبون التوحيد ، وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء
وعلى هذا فمن دعا إلى الإشراك مع الله عز وجل غيره ، ودعا إلى نبذ التوحيد ، وإن كان مقرا به في قلبه ، ومقر به كذلك بلسانه ، فإن هذا من علامة الكفر ، لا يمكن أن يقر التوحيد في قلب الإنسان ، وهو معارض له بدعوته ، فيدعوا للإشراك مع الله عز وجل ، ويدعو للإلحاد ، ويزعم أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
ولذلك النطق بالشهادتين ... لا بد أن تُصدق ذلك الجوارح ، فمن الناس من يقول لا إله إلا الله ويُناقض ذلك قوله وفعله ، وحينئذٍ لا تنفعه هذا الكلمة بمجرد التلفظ بها ، لأنه قد وقع في شيء من شعب الكفر الأكبر ، وخرج من الإسلام به ... نعم :
وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك . وهم إذا ادعوا التوحيد إنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل ، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا شيء لا يعرفونه فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل ، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهاً دون ما سواه
ولذلك من زعم أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقد ترك العمل بالجملة ، فلم يعمل خيراً قط ، هل يقال بإيمانه أم لا ؟(1/134)
قد جاء في المسند وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد ، ثم قال لأهله : إن أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذرُّوني في الريح ، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابا ما عذَّبه أحدا من العالمين .... ) إلى آخر القصة المشهورة ، والقصة أصلها في صحيح الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى من حديث أبي هريرة ، في قول الزهري : حدَّثني بحديثين ، أعجبُهما إلي ... قال : حدَّثني عن أبي هريرة - يقصد حُميد - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( دخلت امرأة النار في هرة ، حبتسها ، لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) ، وأما الثاني : فهو رجل حضرته الوفاة ، ثم قال لإبنائه ... إلى آخر الحديث . من نظر إلى هذين الحديثين وجد أن المرأة يظهر أنها من أهل الخير ، لكنها أُدخلت النار بسبب هرة حبستها ، والثاني لم يعمل خيراً قط إلا ما وقر في قلبه من التوحيد ، ثم أدخله الله عز وجل الجنة .(1/135)
ثم ذكر هنا أن الإنسان لا يغتر برحمة الله سبحانه وتعالى ، فيسرف على نفسه بالذنوب ، فربما وقع الإنسان في شيء من المعاصي فكانت موبقة له ، لأنه قد صاب ذلك استهانة في جنب الله ، وربما وقع في شيء من الكبائر وقلبه وَجِل منها ، وينتظر أن يحل عليه عقاب الله عز وجل في نفسه وماله وولده ، فتكون في حقه كالصغيرة ، وربما شخص يرتكب صغيرة مستهين بها ... محتقراً لها ، غير مراقب الله سبحانه وتعالى فيها ، معرضا عنها ، نسيها حال تركها ، فتكون ربما في حقه في عداد الكبائر ، ولذلك من نظر إلى النصوص في الشرع لم يجد ثمَّة قدر معين دقيق في الفاصل بين الكبائر والصغائر ، ولذلك قد أشكل هذا الباب على كثير من العلماء ، والأصل فيه أنه بحسب ما يَقِر في قلب الإنسان ، وإن كان ثمة بالجملة نصوص في الكتاب والسنة جاء الوعيد فيها والتشديد ، ولذلك من نظر إلى الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم أمر معين في حالة معينة ... كقوله عليه الصلاة والسلام : ( ثلاثة أنا خصمهم ... ) وذكر منهم عليه الصلاة والسلام ...(1/136)
قال: ( الأشيمط الزاني ) وذكر منهم الملك الكذاب ، لأن الأشيمط الزاني - وهو شيخ كبير - الذي يقع في الزنا الدافع ، في قلبه إلى متعة الزنا ليست كغيره من سائر الناس ، ولا يمكن أن يقدم إلى ذلك إلا وقد استهان في جنب الله سبحانه وتعالى ، فالدافع في ذلك ضئيل في نفسه ، فكان من أعظم عند الله سبحانه وتعالى بخلاف غيره لو وقع في الزنا ، والملك الكذاب الذي لا يدفعه للكذب أحد ، فإن الإنسان ربما يدفعه للكذب مجاملة لأحد أو خشية من عقابه وبطشه ، أو ربما طمعا في دنيا ونحو ذلك ، لكنه إن كذب وهو لا يرجو من أحد شيئا ، ولا يخاف أحد ، فإن هذا لا يمكن أن يصدر من الإنسان إلا وهو في غاية من الاستهانة بحرمات الله سبحانه وتعالى ، فكلما كان الإنسان ليس متعلقاً بالمخلوقين من جهة العمل ، ولا يجد في قلبه اندفاعاً إليه فوقع فيه من باب الآثام فهو أعظم عند الله سبحانه وتعالى ، وهذا كذلك من باب المقابلة في مسألة الثواب والطاعات ، فكلما كان الإنسان منصرفاً عنها زاهداً فيها ، وأقبل عليها بإرغام نفسه ، كلما كان الثواب عند الله عز وجل أعظم ، وتقدمت الإشارة في هذا .
أما من قال لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط ، ولم يعمل شيئا من ظواهر العمل ، فهل يحكم بإيمانه أم لا ؟(1/137)
يُقال : أن العمل لا بد أن يظهر من الإنسان ، وإن لم يظهر منه ... فإن ادعاءه بالشهادتين باطل ، ولا يُقبل منه ذلك ، لأنه لا بد أن يصدِّق قوله واعتقاده بقلبه عمل ، والمراد بالعمل الذي لابد أن يصدِّقه ليس بالعمل الذي تدلُّ عليه الفطر عامة من غير تشريع ، كصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، وبذل التحية ، والإحسان إلى المحتاج ونحو ذلك ، وإنما هو عمل اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة وقراءة القرآن وأمثالها ، أما العمل العام الذي يدخل في دائرة الخير من فضائل الأعمال ونحو ذلك الذي تدل عليه سائر الفطر السوِّية من سائر الملل ، كصلة الرحم ، وبر الوالدين ، فإنه يسعى إليه حتى الوثنيون ، فلا يُقال أن هذا هو الذي يُدخل الإنسان في الإيمان ... لا ، وإنما هو العمل الذي اختصَّت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما من استدل بحديث الرجل الذي لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد ...
فيُقال: أن هذا الرجل قد ظهرت منه التوبة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( لم يعمل خيراً قط ) أي قبل حاله هذه ، وهنا قد تاب توبة ، وشك في قدرة الله عز وجل لجهله ، قال:( فوالله إن قدر الله علي ... ) ومثله يُعذر ، بناء على الأصل العام ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :( لم يعمل خيرا قط) يعني فيما سبق ، لأنه الآن لا يمكن أن يعمل إلا بلسانه ، فتاب بلسانه ، فقبل الله عز وجل منه ، لأنه خشي عقاب الله سبحانه وتعالى ، فقال الله عز وجل بعد ما أن ذره بنوه : ... قال: ( ما حملك على هذا ؟ قال: خشيتك يارب . قال: قد غفرت لك ) وهذا يدل على أنه قد تاب من تركه مما مضى من الأعمال الصالحة ، وأعمال البر ، وبقائه على النطق بالشهادتين ... نعم :
فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل ، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذه إلهاً دون ما سواه(1/138)
وأما من ينطق الشهادتين ، وهو لا يعلم الأحكام الشرعية ... يجهلها ، كبعض البلدان البعيدة النائية ، الذي يُسمى مسلماً لكن بالهوية ، فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وهو في عِداد الجهلة ، ويظن أن الإسلام هو فقط ، ما عدا ذلك شيء مستحب ، ويرى أنها عبادات ظاهرة لا تتعلق بالإسلام من جهة الإيمان والكفر ، فإن هؤلاء قد يدخلون في حديث حذيفة بن اليمان في قوله : ( يُدرس الإسلام كما يُدرس وشي الثوب ، حتى لا يُدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك ، إلا أناس يقولون : لا إله إلا الله ، سمعنا آبائنا يقولنها فنقولها ... ) إلى آخره ... ( قال : تنجيهم من النار ) وتقدم الإشارة إلى هذا الحديث ... نعم :
وهذا هو معنى قول ( لا إله إلا الله ) . انتهى كلام الشيخ .فتأمل رحمك الله هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جداً ، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين ، وشهد أنه الحق ، وأن الشرك هو الباطل ، وقال بلسانه ما أريد منه ، ولكن لا يدين بذلك إما بغضاً له ، أو عدم محبته كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا ، وإما إيثار الدنيا مثل تجارة أو غيرها فيدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ، كما قال تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ) الآية ، وقال تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره ) إلى قوله : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )(1/139)
الإكراه يُعذر به الإنسان إذا كان لا مناص عنه ، وكان هذا الرجل كفره لا يتعدَّاه ... أي كفره بلسانه لا يتعدَّاه ، أما من كان الإكراه ووقوعه في الكفر يقتضي تبديلا فإنه لا يُعذر ، كمن كان عالما قوله بالكفر يقتضي تبديل للسنة ، فإنه لا يُعذر بذلك ، ونظير هذا ما وقع فيه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى من محنة ، فإنه قد تصدَّى للقول بخلق القرآن ، فلم يبق إلا هو ، فلو قال به لقتضى تبديل لنصوص الشرع ، فمن كانت حاله مثل ذلك وأجاب ، ما قُبل منه الإكراه ، أما من كان إكراهه لا يقتضي تبديل ، وإنما هو على نفسه ، أو فئام قليل تبعٌ له ، فإنه حينئذٍ إذا خشي على نفسه هلاك ، أو على سائر ماله هلكة ، أو على أبنائه هلكة كذلك ، فإنه لاحرج عليه أن يُظهر الكفر بلسانه .
وهل له أن يُظهر الكفر بجوارحه إذا أكره على ذلك ؟(1/140)
قد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الإكراه في الفعل ، هل يجوز للإنسان أن يُظهر الكفر بفعله فيسجد لصنم أم لا ؟ جاء في حديث طارق بن شهاب والحديث في المسند وغيره ، فالرجل الذي دخل الجنة بذباب ، ودخل النار بذباب ، فقيل له : قرِّب . قال : وما أُقرِّب ؟ قال : قرِّب ذبابة ، فقرَّب ذبابة هو خائف ، قال : فأدخل النار . وهذا الحديث منكر ، فقد ذكره المصنِّف عليه رحمة الله تعالى في كتاب التوحيد ، وهو منكر إسناداً ومتناً ، فمع إرساله فهو غير موافق للأصول ، وإن كان قد ذهب بعض السلف وهو قول سفيان الثوري و غيره إلى أن الإكراه بالفعل غير جائز ، أي أنه من أجاب بفعله غير جائز ، وإنما الجائز شرعا هو القول باللسان ، كحال بلال حينما أُكره وعمار ، ولذلك جاءت الآية بجواز الإكراه باللسان بخلاف الفعل ، والصواب العموم ، وأن العبرة هو بالتبديل ، إذا كان قوله هذا يقتضي تبديلا ، كرجل يُقتدى به ، فُوضع السيف على رأسه ... قل بكذا وإلا قُتلت .... فيُقال : أنه هل بقوله هذا يقتضي تبديل ، وأنه هو القائم بأمر الله فحسب ؟ فإن كان كذلك فيحرم عليه القول بذلك ، وإن قال به كفر ، لأن هذا يقتضي تبديلاً ، وهذا لا يقع إلا لأفراد العلماء وأعيانهم الذين قد قاموا بأمر الله سبحانه وتعالى ، فيحرم عليهم حينئذ الإجابة .
والأولى بكل حال أن الإنسان يصبر ويحتسب حتى على الكفر ، وأما من جهة العذر والعفو فإنه معذور بذلك ... نعم :(1/141)
فإذا قال هؤلاء بألسنتهم نشهد أن هذا دين الله ورسوله ، ونشهد أن المخالف له باطل ، وأنه الشرك بالله غر هذا الكلام ضعيف البصيرة .وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملاء ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين ، وأن الحق ما عليه أكثر الناس يستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين ، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها ، فإذا قالوا التوحيد حق والشرك باطل وأيضاً لم يحدثوا في بلدهم أوثاناً جادل الملحد عنهم وقال : أنهم يقرون أن هذا شرك ، وأن التوحيد هو الحق ، ولا يضرهم عندهم ما هم عليه من السب لدين الله ، وبغي العوج له ، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال واليد واللسان فالله المستعان .وقال أبو العباس أيضاً : في الكلام على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها ، وهذا لم يعهد عنه الخلفاء والصحابة
ولا علاقة المقاتَلة بالكفر، فقد يُقاتَل غير الكافر ... يُقاتَل المؤمن الممتنع ، كمن منع الزكاة بخلاً ، أو من أضمر بعض شعائر الإسلام ، فقد نص الفقهاء بل حُكي اتفاقهم على أنه لو كان أهل بلد منعوا إعلان الأذان في بلادهم أنهم يُقاتلون ، مع أنه لم يقل أحد بكفرهم ، فالمقاتَلة لا تعني الكفر .
ولذلك قد قسَّم جماعة من العلماء المرتدون بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام إلى قسمين :
1- أناس قد كفروا وارتدوا ومنعوا الزكاة ، وقالوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يُعطى ، وبعد ذلك قد نُسخ ، فهؤلاء قد كذَّبوا النصوص واضطرادها وبقائها إلى قيام الساعة .
2- ومنهم من قال أن نمنعها بخلا ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذها منهم ، ربما دفعوها إما حياء ، وإما دفعوها خوفا ، فلما تُوفُّوا قويت نفوسهم على منعها فمنعوها ، فحينئذٍ يُقاتَلون ، لا يُقاتَلون ردة ، ولكن يُقاتَلون لمنعهم الزكاة .(1/142)
فمن منع الزكاة من أفراد الناس هل يُقاتَل ؟ لا يقاتل ، من منع الزكاة من أفراد الناس ، وإنما يُوعظ ويُذكر ، وأما الجماعات فإنهم يُقاتلون ، لذلك لو عُلم واحد من الناس أنه يمنع الزكاة لا يُلحق بهؤلاء ، لأن أحكام الجماعات ليسوا كأحكام الأفراد ، فمن كان على هذا ... فإذا قيل أن مثلاً أهل حي أو أهل مسجد لا يرفعون الأذان = لا يُقاتلون ، أما إذا كان اتفق أهل بلد على منع الأذان فيُقاتلون ، وإن كان الأذان على قول بعض العلماء أنه سنة ، وعلى قول بعضهم أنه فرض على الكفاية ، فيُقال حينئذ أن للجماعات أحكام ، وللأفراد أحكام ... نعم :
وقال أبو العباس أيضاً : في الكلام على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها ، وهذا لم يعهد عنه الخلفاء والصحابة ، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما : ( والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤودنها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه ) فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب . وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ، والشاهدة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعهم أهل الردة . وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما توقف غيره فناظرهم(1/143)
فلو لم يُقاتل الجماعات في ترك أركان الإسلام ، أو ترك معالم الدين ، لانطمس الدين ، وانطفأ نوره واضمحل ، وطُمست معالم الشريعة ، ولذلك يُقاتَل الجماعات على هجر السنن الظاهرة والشعائر العظيمة في الإسلام إذا أعلنوا تركها ، أما إذا تركها الأفراد فلا ، لأنها باقية ، فهم لم يُقاتَلوا على ذات الترك ، وإنما يُقاتَلون على ذات التبديل ، فإن تركهم هذا يقتضي تبديلاً ، ولذلك أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى قاتل هؤلاء لأنهم لو لم يُقاتَلوا لما دفع الزكاة أحد ، لأنهم أبوا عن دفع الزكاة ، فلم يدفع أحد الزكاة إلا أهل المدينة ... نعم :
وسموهم جميعهم أهل الردة . وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما توقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله
وفي هذا : أنه ينبغي للعلماء عامة وكذلك طلبة العلم ... أمثال المسائل وإن كانت ظاهرة قد يخفى فيها من الأدلة ما يخفى ، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعرض الدليل ، وعرضه للدليل لا يعني رجوعا عن الحق الذي هو عليه ، ولذلك عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق عليهم رضوان الله تعالى بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ... كان في أول الأمر عمر بن الخطاب يأبى قتال مانعي الزكاة ، وتمسَّك أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى بقتالهم ، وعرض ما لديه من أدلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) هذا وإن كان من ظواهر الإسلام وظواهر الأدلة ، إلا أنه قد يخفى علىالعالم أو يلتبس عليه شيء من الأدلة ، فإذا كان هذا على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طرأ ، فهو على غيرهم من باب أولى .(1/144)
ولذلك ينبغي لطالب العلم وكذلك العالم أن يكون في هذا الباب - وخاصة في الملمات والفتن - أن يكون صاحب سعة في هذه المسائل ، وإن كان يظنها أنها من المسائل المسلَّمة أو الظاهرة ، فربما كانت مسَلَّمة عنده ، وعند غيره ليست من المسَلَّمات ، والعلم هوفضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء ، بل ربما كانت الفتن والملمات التي تقع في الأمة تجعل على قلب الإنسان من الغشاوة وكذلك البعد عن الصواب ما تجعل .
ومن شاهد كثيراً من الوقائع التي حدثت في عصر الإسلام من الصدور الأولى إلى عصرنا هذا وجد هذا ظاهرا ، ولِينَ الإنسان في مسائل الخلاف وعرض الأدلة لا يعني رجوعه عن الحق ، ولكنه ليوناً مع غيره ، فإذا وقع هذا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ينبغي للعالم وكذلك عارض النص أن يكون مع غيرهم من باب أولى ... نعم (1) ... إيه ، لأن مَن منعها بخلا هم قلة لا يُقارنُون بمن منعها جحوداً ، ولذلك أطلقوا عليهم بالجملة المرتدين ، لأن من منعها بخلاً هم أفراد ، ولذلك لم يُفرِّقوا بين هؤلاء ولم يسألوهم ... أنت مقر بوجوبها أم لا ؟ لأنهم قد اشتركوا في الترك ، فإنهم يشتركون في القتل ... نعم :
أما قتال المقرين بنبوة مسيلمة ، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم . انتهى
__________
(1) هذا سائل يسأل .(1/145)
فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المعين والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة ، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين .قال رحمه الله : بعد ذلك وكفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة . انتهى كلامه .ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال عمن قصد اتباع الحق ، إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وإدخالهم في أهل الردة وسبي ذراريهم ، وفعلهم فيهم ما صح عنهم وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين . فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع أعني المدعين للإسلام وهي أوضح الوقعات التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا .وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام ، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء لمن عبد اللات والعزى . انتهى كلامه . والمراد منه قوله : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع .(1/146)
وقال أيضاً في كتاب الفنون : لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم ، حيث أباحه الشرك عند الإكراه ، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره ، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته ، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك , وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقاً عليك من مشقة الخلع واللبس ، وأباحك الميتة سد لرمقك وحفظاً لصحتك , وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل , وخرق العوائد لأجلك , وأنزل الكتب إليك , أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك منهمكاً , ولما أمرك تاركاً ، وعلى ما زجرك مرتكباً ، وعن داعيه معرضاً ، ولداعي عدوه فيك مطيعاً ، يعظمك وهو هو ، وتهمل أمره وأنت أنت ، هو حط رتبة عباده لأجلك ، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك ، هل عاديت خادماً طالت خدمته لك لترك صلاة ، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالى ، فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي ، ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان ، بيناً هو بحضرة الحق سبحانه وملائكة السماء سجود له ، ترامى به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجداً لصورة في حجر ، أو لشجرة من الشجر ، أو لشمس أو لقمر ، أو لصورة ثور خار ، أو لطائر صفر .ما أوحش زوال النعم ، وتغير الأحوال ، والحور بعد الكور ، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابداً الله في دار التكليف ، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف ، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها . انتهى كلامه .والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله ، ومثله بأنواع : منها السجود للشمس أو للقمر(1/147)
ومن أعظم باب الضلال الذي أوقع المشركين في شركهم - وخاصة المتأخرين - هو تعظيمهم لحال الأولياء ، وكثرة ذكرهم للكرامات ، وكذلك ما يلحقونه لهم من منامات ورؤى ونحو ذلك ، فإنهم نظروا إلى بعض النصوص التي جاءت في السنة وكذلك في الكتاب في تعظيم حال الأولياء ونحو ذلك ، فقالوا أن هؤلاء حقيق بأن يُعبدوا من دون الله سبحانه وتعالى .
ومن أعجب ما سمعته من أحد المشركين المتصوِّفة ... قال : نحن نطوف على القبور اتباعاً لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت له :كيف؟! قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - كما روى الترمذي من حديث عبد الله عليه رضوان الله تعالى - ( لئن تهدم الكعبة ، أهون عند الله عز وجل من أن تُستَباح حرمة مسلم ) قال : فإذا كنَّا نحن نطوف على الحجر أقل حرمة من حرمة المسلم ... قال : فنحن نطوف عليه من باب أولى . وهذا من الزيغ والضلال والهوى ، فقلت له : إذا كان ذلك المسلم أو الرجل له تلك الحرمة فلماذا قُطعت يده بثلاث دراهم؟!(1/148)
إذاً ... المسألة ليست هي بالنظر ... بنظرك ، وإنما هي نصوص الشرع ... هي التي تحسم الأمر ، فهذا الذي كانت حرمته أعظم من الكعبة - على فرض صحة الحديث ، والصواب وقفه - فيُقال : أنه وإن كانت هذه حرمته فتُقطع يده بثلاثة دراهم ، وإن كانت حرمته عند الله عز وجل أعظم من الكعبة ( ومن يُرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) هذا إذا أراد إلحاداً بحرم الله سبحانه وتعالى ، فيُقال: أن هذا من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان ، هو أن يُبالغ ويستحضر ما جاء في النصوص ، ولا يستحضر ما جاءت النصوص من عظمة الإشراك بالله عز وجل ، وأن يشرك مع الله عز وجل غيره ، وأنه من أعظم الظلم ، إذا استحضر النصوص حقيقة على وجهها علم خطأ ما يصبوا إليه ، وما نصب من عداء بينه وبين الله سبحانه وتعالى بالمحاربة له في هذا الأمر ، وعدوان من الإشراك مع الله عز وجل غيره من مخلوقاته ، وتسويته بهم سبحانه ... نعم :(1/149)
والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله ، ومثله بأنواع : منها السجود للشمس أو للقمر ، ومنها السجود للصورة كما في الصور التي في القباب على القبور .والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض ، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض ، كما فسر به قوله تعالى : ( أدخلوا الباب سجداً ) قال ابن عباس : أي ركعاً .وقال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) في إنكار تعظيم القبور : وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه ( مناسك المشاهد ) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام . انتهى . وهذا الذي ذكره ابن القيم ، رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد ، فقد رأيت فيه بعينه ، فكيف ينكر تكفير المعين ؟ . وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير ، فنذكر منه قليلاً من كثير أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا من أغلظ الكلام ، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال مصيحف أو مسيجد وصلى صلاة بلا وضوء ونحو ذلك .
الحنفية هم من أشد المذاهب الأربع وقوعاً في ذكر المسائل التكفير ، ولذلك الفقهاء يُوردون في أبواب المرتد : ( باب المرتدين ) ... يُوردون مسائل الردة ، وما يكفر به الإنسان .
وأوسع المذاهب الأربع في هذا الباب ، وسلوكاً له ، وذكراً لأسباب الكفر ، هم الحنفية ، حتى ذكروا أن من نواقض الإسلام وأسباب الكفر ثلاثمائة نوع يكفر بها الإنسان ، حتى أدخلوا من قال ( مسيجيد ) أو ( مصيحيف ) تصغيراً للمسجد ونحو ذلك ... قالوا أنه يكفر ، بل قالوا أن من صلى بلا وضوء متعمد كافر ، بل قالوا إن الإمام حينما يكون راكعاً ، وسمع قادماً يدخل ، أنه إن انتظره متعمداً كفر ، لأنه انتظر بركوعه هذا ، وهو عبادة ، وقصد بها غير الله عز وجل ، فكفر بذلك ، ولا شك أن هذا من باب المبالغة ، فالمؤمن يلزم النص ، ويتَّبع الدليل ، ولا يبالغ في ذلك ... نعم :(1/150)
وقال في النهر الفائق ، وعلم أن الشيخ قاسماً ، قال في شرح درر البحار : إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعاً لوجوه . إلى أن قال : ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر . إلى أن قال : وقد ابتلى الناس بذلك ، لاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي . انتهى كلامه .(1/151)
فانظر إلى تصريحه إن هذا كفر ، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام ، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته .وقال القرطبي رحمه الله لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال : هذا حرام بالإجماع .وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام ، جمال الملة أن مستحل هذا كافر ، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله ، فقد رأيت كلام القرطبي وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير . وقال أبو العباس رحمه الله حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال : كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا كان كافرا ذكياً ، فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخاري جملة كفر ابن سينا وهو رجل معين منصف يتظاهر بالإسلام .وأما كلام المالكية في هذا أكثر من أن يحصر وقد أشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس ، وقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفاً ، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر ، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه (1) وأما كلام الشافعية ، فقال صاحب الروضة رحمه الله أن المسلم في الكلام إذا ذبح للنبي كفر . وقال أيضاً : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر . وكل هذا دون ما نحن فيه .وقال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ) وما معناه إن من دعا غير الله فهو كافر .
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين :
__________
(1) هنا انتهى كلام القارئ في الدر س الرابع ، وسوف يبدأ في الدرس الخامس من كلام الشافعية .(1/152)
المصنف عليه رحمة الله يريد بسياقه لكلام أئمة المذاهب الأربعة بيان أنهم متفقون على كفر من ارتد عن الإسلام ، أو من ظهر شيء منه يخرجه من الملة من النواقض الصحيحة ، بل أنه بيَّن أنه من لم يكفر من ظهرت ردته فهو كافر ، ولذلك قد ساق هنا كلاما لأئمة الشافعية ، ومنه ما ذكره عن ابن حجر عليه رحمة الله تعالى في شرح الأربعين .
ابن حجر ليس هو العسقلاني ، وإنما هو الهيتمي صاحب شرح الأربعين ، ورسالته مطبوعة ، وقد يكون في نقل الاسم إجمال ، ولكن لشهرة هذا الشرح ، وقد نُسب هذا الشرح خطأ للحافظ ابن حجر العسقلاني - صاحب فتح الباري- وهو وهم و غلط ، وإنما هو ابن حجر الهيتمي ، وكلاهما من أئمة الشافعية .
فناسب أن ينقل هنا عنه شيئا من هذه المسألة على تكفير المرتد ... من ارتد عن الإسلام ، ومن ارتد عن دين الله عز وجل وجب قتله ، لما روى البخاري من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من بدَّل دينه فاقتلوه ) والمراد بالتبديل هنا من خرج عن دين الإسلام ، فظهرت ردته فيه ، حتى كان ما عليه تبديلا ، ولذلك قد قُتِل المرتد في عصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظهرُ ذلك ما جاء في خلافة أبي بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلهم على جحدهم الزكاة .(1/153)
وأما إذا كان في التغافل عن المرتد ، وعدم إقامة الحد عليه ، ممن ظهرت ردته من أهل الإسلام ، وإن كان في الجملة لم يُظهر تبديلا ، فقد يكون ذلك سائغا إذا كان في درء الحد عنه درء مفسدة عظيمة عن الإسلام ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهرت ردة عبد الله بن أُبي ... لما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، واستهزأ هو ومن معه من المنافقين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظهروا النفاق ، وردتهم كانت ظاهرة جلية ، وحَكَم الله سبحانه وتعالى بكفرهم في كتابه العظيم : ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) فحكم الله جل وعلا بكفرهم ، ومع ذلك لم يقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمَ ؟ لقوله عليه الصلاة والسلام : ( أتريد أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) وهذه مصلحة جليلة عظيمة درأ النبي عليه الصلاة والسلام بها الحد عن أمثال هؤلاء ، لأن فيه صدا لكثير من الناس عن دخول الإسلام ، وإلا فالمرتد يُقتل .
وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى من ظهرت ردته أيقتل حداً أم تعزيراً ؟(1/154)
ظاهر النص أنه يُقتل حداً ، ولذلك عليه الصلاة والسلام ما قيَّد النص بردعه وزجره ، وإنما قيَّده بصيغة الأمر بقتله ، بقوله عليه الصلاة والسلام : ( من بدَّل دينه فاقتلوه ) وحامَله قِلة من أهل العلم على أنه لا يظهر على المرتد ، وإنما على من انتحل ملة غير الإسلام ، وهذا لا قائل به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل الذي عليه عملهم ، وهو ما عليه عمل الخلفاء الراشدين الأربعة ، فثبت عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب عليهم رضوان الله تعالى أنهم قتلوا من ظهر منه زندقة وإن لم يُظهر تبديلا للإسلام ، وهو انتحال ملة من الملل الكفرية غير الإسلام ، كمن انتقل من الإسلام إلى اليهودية ، أو من اليهودية إلى النصارنية ، و حمل بعضهم هذا النص لقوله عليه الصلاة والسلام : ( من بدَّل دينه فاقتلوه ) أن من انتقل إلى النصرانية إلى اليهودية أنه يُقتل ، وهذا قول غريب ، لم يقل به أحد من المحققين من أهل العلم ، وإنما هو لقول قلة من الأئمة الفقهاء من أهل الرأي من الحنفية ، وكذلك بعض الفقهاء من الشافعية والمالكية ... نعم (1) ... الله عز وجل حينما بيَّن ردة عبد الله بن أُبي في قوله سبحانه وتعالى : ( قد كفرتم بعد إيمانكم ) ، وهذا نص شرعي في بيان كفره ، فمن كانت حاله كذلك يجب عليه أن تقام عليه الحدود وهو القتل ، إلا من دُرأ بعلة ، كما درأ النبي عليه الصلاة والسلام عنه ذلك ، أما أن تُدرأ الحدود عن المرتدين بأمثال هذه العلة ...
__________
(1) هذا سائل يسأل .(1/155)
وهذه العلة قد يتشبَّث بها البعض ، والمرتد إذا كانت حاله ظهرت بارتكاب شيء من نواقض الإسلام كالاستهزاء بالإسلام ، وكذلك التهكُّم بذات النبي عليه الصلاة والسلام ، أو رد النصوص جملة ، أو انتحال بعض الأفكار التي تنقاض الإسلام ، وتهدم أصوله ، وتنسف فروعه ، ويُمكَّن له بالقول والكلام والحديث ، فإن هذا الدرء درءٌ فاسد ، ودرءٌ باطل ، والتشبُّث بأمثال هذه النصوص التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام وإن عذر بها الناس لا يعذر بها الله سبحانه وتعالى ، إن كان ثمة علة ظاهرة يحكم بذلك أهل العلم العارفون بكلام الله سبحانه وتعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذا كان من ظهرت ردته بشيء من النوقض ، وكان في إقامة الحد عليه مفسدة كبرى ، كما درء النبي عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن أُبي ، وظهر كفره شرعا يتلوه الناس إلى قيام الساعة ، وبقي إلى حين وفاته ، ودفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنه بيِّنٌ أمره ... يُضيَّق عليه ، ولا يُمكَّن من الحديث ، فمثل هذا يُدرأ عنه بأمثال هذه النصوص ، وإلا فالأصل باقٍ بإقامة الحدود على المرتدين ، والمراد هنا بالردة ليست تبديل الديانة ، أما تبديل الدين فلا مجاملة فيه ومحاباة ، المراد بذلك من ظهرت به شبهة ، وقامت عليه قائمة بشيء من نواقض الإسلام ، من استهزاء ونحو ذلك مما لا يقتضي تبديلا تاما ، أما من انتحل ملة غير الإسلام ، وترك الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية أو إلى الإلحاد فهذا يُقتل ، ولا يُوجد علة يُدرأ بها الحد بالاتفاق ... نعم :(1/156)
وقال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ) وما معناه إن من دعا غير الله فهو كافر . وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه ( الإعلام بقواطع الإسلام ) ذكر فيه أنواعا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه ، وتمام الكلام في هذا أن يقال الكلام هنا في مسألتين :
الأولى : أن يقال هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين ومع كثير من الأحياء والأموات والجن من التوجه إليهم ودعائهم لكشف الضر والنذر لهم لأجل ذلك هل هو الشرك الأكبر الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم . فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك ويكفرهم ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، أم هذا شرك أصغر وشرك المتقدمين غير هذا
وشرك المتأخرين هو كشرك المتقدمين ... لا فرق ، فطافوا على القبور ، وسجدوا عندها ، وذبحوا لها من دون الله سبحانه وتعالى ، وسألوها من دون الله جل وعلا ... لا فرق ، إلا أن من تأخر زادوا أمراً واحداً من شعب الإيمان التي لا تنفع صاحبها مع وجود هذه الكفريات ، وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فالمشركون قد آمنوا بالله سبحانه وتعالى ، وأنه هو الخالق الرازق ، لكنهم قد نقضوا إيمانهم بشيء من مفسدات الإيمان ، وهو أنهم صرفوا شيئا من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى ، فكفروا بذلك وخرجوا من الإسلام ، فالإيمان بالله سبحانه وتعالى ليس كالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك ما عذرهم الله جل وعلا بذلك وقَبِل منهم إيمانهم به بأنه هو الخالق الرازق ، لأنهم قد وُجد فيهم شيء من شعب الكفر الأكبر ، فخرجوا من الإسلام ، وهذا أمر ينبغي أن يُقرر .(1/157)
ولذلك قد كثير من العوام يتحاشا إطلاق الكفر على من وقع في الإشراك بالله سبحانه وتعالى من الذين يسجدون عند القبور ، وينذرون لها ، ويذبحون لها من دون الله سبحانه وتعالى ، ويسألونها قضاء الحوائج ، وشفاء المرض ، وجلب الخير ، ودفع الشر ، من دون الله سبحانه وتعالى ، وهذ كفر صريح لا يختلف عن شرك الأوائل الذين بعث الله سبحانه وتعالى لهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومن توقَّف في كفر أمثال هؤلاء فالأصل فيه الكفر ، لأنه لم يُكفِّر قطعا كفار قريش ، لأنه لا فرق بينهم وبين كفار قريش ، إلا أن من جاء بعدهم زادوا بأنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، وخالفوا أمره ونهيه بأفعالهم ، فلم ينفعهم ذلك ، لارتكابهم الشرك الأكبر المخرج من الملة ... نعم :
فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه كابن إسماعيل وابن خالد مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم ، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة، وتارة يقولون لا يكفر إلا من كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يقولون إنه شرك أصغر وينسبونه لابن القيم رحمه الله في المدارج كما تقدم.(1/158)
وهذا من أعظم البطلان ... أن يُقال أنه لا يُكفَّر إلا من كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، وما حكم الشارع بكفره بعينه ... هذا يقتضي نسخاً أن انقطاع الوحي نسخ لما تقرَّر في النصوص ، وهذا لا قائل به من أهل السنة بل من أهل الإسلام ، وإنما هو كلام لجماعة من الملحدين كابن عربي وابن هُود والتَّلمَسَاني وابن سبْعِين من ملاحدة الإسلام ، وينتسبون الإسلام ، بل ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وكلامهم هذا من أعظم الكفر والبهتان والظلم والبغي والعدوان على نصوص الشرع ، وذلك لا شك أنه من أعظم المكفرات لهم ، ولذلك حكم العلماء بكفرهم بلا خلاف ، ولذلك من أحجم عن تكفير من أعلن الإشراك مع الله عز وجل ، وذبَّ عنه ، وناصره ودعا إليه ، بدعوى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وزالت عنه سائر الأعذار ، فإن هذا كمن نفى الشرك وتوقَّف عن كفر من أشرك مع الله عز وجل غيره من كفار قريش ، والله عز وجل قد حكم بكفرهم ، فالنصوص ثابتة وباقية إلى قيام الساعة ، وإن خالف في هذا من خالف ، فنصوص الشرع قائمة ، يُحكِّمها العارفون بالله سبحانه وتعالى ، العالمون بأحكامه ، المتبصِّرون بنصوص الوحي من الكتاب والسنة ... نعم :
وتارة لا يذكرون شيئاً من ذلك بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة ، وأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم وغير ذلك من الأقاويل المضطربة ، وجواب هؤلاء كثير في الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر ، وأيضاً إقرار غيرهم من علماء الأقطار ، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد ، لكن لم يجدوا بداً من الإقرار به لوضوحه .(1/159)
المسألة الثانية : الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة ، وكذب الرسول والقرآن واتبع اليهودية أو النصرانية أو غيرهما ، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات ، وإلا المسألة الأولى قلَّ الجدال فيها ولله الحمد لما وقع من إقرار علماء الشرك بها . فاعلم أن تصور هذه المسألة تصوراً حسناً يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين :
الأول : أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها في التكفير لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها وكذب الرسول والقرآن فهو كافر وإن لم يعبد الأوثان كاليهود ، فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذاو كذا لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة أو العمى أو العرج ، فان كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم ، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر ، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع
ولذلك لا عبرة بالدعوى ، أن يدَّعي الإنسان أنه على الإسلام ، وخالف الإسلام بقوله أو فعله ، وكم من مدَّعٍ الإسلام قد خرج من الإسلام وهو لا يشعر ، ولذلك لا عبرة بالحجة وهو ما يقوله الناس أنه على الإسلام ، أو مُتَّبع للدليل ونحو ذلك ، ولا يطَّلع على القلوب إلا الله سبحانه وتعالى ، ونحن مأمورون بالأخذ بالظاهر ... الأخذ بالأفعال ، وكذلك الأقوال ، يكفر الإنسان بقوله وإن خالف قوله فعله ، لأنه مُلزَم بذلك كله ، إن كفر بقوله وخالف فعله فإنه يكفَّر ، لأنه ارتكب شيء من نواقض الإيمان بشيء معتبر شرعاً ، فكفر بذلك وخرج من ملة الإسلام .
ومن قال أن الناس يُؤخذون بدعواهم وإن ناقضوا بأفعالهم فهذا قول لم يقل به أحد من أهل الإنصاف في كل ملة من الملل التي بقوا عليها ، بل أنه لم يشم رائحة التوحيد .(1/160)
ومن نظر إلى طوائف الكفر والأمم الكفرية التي خرجت عن دين الله سبحانه وتعالى ، من لدن نوح عليه السلام ، وجد أنه في كل ملة حجة يحتجون بها عن الخروج عن عبادة الله سبحانه وتعالى ، وانتحال شريعة من الشرائع الباطلة الفاسدة ، وعبادة غير الله سبحانه وتعالى ، من نظر إلى قوم نوح وهود وصالح واليهود والنصارى بني إسرائيل وجد أنهم أصحاب حجج بالانصراف عن دين الله سبحانه وتعالى ، كما كان كفار قريش أصحاب حجج ، فهم أرادوا عبادة الله سبحانه وتعالى ، وجحدوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل لم يعلنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم على حق ، بل أنهم يظنون ويزعمون أنهم على حق وإن كان جملة منهم يعلمون أنهم على باطل كما قال الله سبحانه وتعالى : (جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) ، ولذلك قد علَّق كثير من ملاحدة العصور بل غلاة المرجئة من الجهمية وغيرهم ... قالو أن الإيمان هو المعرفة ... هو أن يؤمن الإنسان ويعرف الله سبحانه وتعالى واحد ، وإن خالف بقوله وفعله ، ومن نظر إلى كثير من المتكلمين في هذا العصر من العقلانيين وغيرهم يعلِّقون الإيمان باللسان ، ومنهم من يعلِّقه بظواهر فعل الإنسان ، ومنهم من يعلِّقه كذلك بما يقر في قلب الإنسان من إيمان بالله سبحانه وتعالى ، وهذه هي دعوة الجهمية بعينها .(1/161)
ولذلك الجهم بن صفوان ملته يهودية ، وقد أخذ ملته من اليهود ، وإسناد ملته معروف : فهو قد أخذ ما لديه من رأي في تجهُّمه عن واصل بن عطاء ، وواصل بن عطاء أخذ ملَّته عن بيان بن سَمْعان ، وبيان بن سَمْعان أخذ ملَّته عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي عليه الصلاة والسلام ... وهذا هو إسناد الجهمية ، إلحادٌ في الله سبحانه وتعالى ، ومن نظر إلى حال كل من كفر بالله سبحانه وتعالى ، وتأمل النصوص والقصص التي حكاها الله جل وعلا عن هؤلاء ، وجد أنهم موقنون بالله سبحانه وتعالى حقا ، حتى أعتى الناس كفرا ... إبليس وفرعون وأتباعه ... أنهم مؤمنون بقلوبهم مصدقون أن الله عز وجل واحد .
ولذلك قال فرعون عليه لعنة الله لما أدركه الغرق : ( آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل ) وبقي في نفسه شيء من الكبر أن ينطق باسم الله سبحانه وتعالى : ( آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل ) هل قُبل منه ذلك ؟ لم يقبل منه ذلك ، لأن التوبة جاءت هنا بعد الغرغرة ، وبعد أن رأى الموت ، ولذلك جبريل عليه السلام يقول كما في البخاري : ( لقد رأيتني يا محمد وإني لآخذ من التراب وأضعه في فم فرعون خشية أن تدركه رحمة الله سبحانه وتعالى ) ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن التوبة لا تُقبل إلا قبل الغرغرة ، وإذا طلعت الشمس من مغربها فلا تُقبل التوبة وتُرفع حينئذ ، ولذلك ما يَقَر في قلب الإنسان من المعرفة والتصديق بالله سبحانه وتعالى - وإن تلفظ به الإنسان في بعض الأحيان - لا يُقبل منه ذلك إن وُجد من شعب الكفر في قوله وفعله ، فإنه يكفر بذلك وتهدم كل ما فعل .(1/162)
ولذلك من نظر إلى ما يخرج به الإنسان من الملة بنصوص الشرع وجد أن الشارع يخرج الإنسان من الملة بارتكاب أمر معين ، ولذلك المنافقون بل من المرتدين من يكون يرتكب أعلى الطاعات والقربات لله سبحانه وتعالى ، فعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين قد سلَّوا سيوفهم في محاربة ومجالدة أعداء الله عز وجل من الكفرة والمشركين ، فارتحلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموت في غزوة تبوك ، وسهروا الليالي ، وتحمَّلوا الرمضاء والحر والتعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهر نفاقهم في الطريق .
ولذلك المنافقون أعداء الإسلام قد يكونون في أعلى درجات الطاعات في الظاهر ، وقد يكونون من أهل الجهاد ، وقد يكونون من أهل قيام الليل ، وأهل الصلاة ، وأهل الحج وكل الطاعات ، لكنهم في الحقيقة من أهل النفاق والخروج من الإسلام ، ولذلك إن وقع في الإنسان شيء من شعب الكفر الأكبر فإنه يكفر بذلك بلا ريب ، ويُوقع عليه الكفر إن توفرت جميع شروطه وانتفت عنه سائر الموانع ، فيُحكم حينئذ بكفره وخروجه عن الإسلام ... نعم :
الوجه الثاني : أن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية ، فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو من أجهل الناس أو أبلدهم
لذلك سائر أصول الدين والكليات الاعتقادية وأصول الإسلام ... كلها من المعلوم به الدين بالضرورة ، ولذلك لا يُعذر الإنسان بتركها ، أو ارتكاب شيء مما يخالفها ، لأنها :
1- أولا : تدل عليها الفطر السليمة ... على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعلى عبوديته .(1/163)
وقد تقدم الإشارة : أن من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يأتيه ، ولم يتَّبعه عليه الصلاة والسلام ، أنه ليس بمعذور ، لأن هذا يدل عليه العقل ، فالإنسان وُجد ليعبد الله ، وسمع بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتَّبعها فهو مقصر حينئذٍ ، لأن الإنسان لو فقد شيء من قوت يومه ، وظن بالهلاك ، وخشي من الموت من الجوع أو العطش ، وسمع بطعام قريب منه أو بعيد يستطيع أن يتناوله ، ثم لم يذهب إليه ، وإن كان المُخبر لهذا الخبر ليس بمتأكداً بنقله ، وإنما شاك ، وكلامه ظن أو غلبة ظن ... ليس بيقين ، ولم يذهب إليه ، لقيل أنه قاتل لنفسه ... ملقٍ بنفسه إلى التهلكة ، يجب عليه أن يتتبَّع مواضع الطعام ، وأن يموت في طريقه في طلب الطعام لا يموت في مكانه ، وهو مؤاخذ بذلك شرعا وعقلا ... حتى عند الناس ، فكيف ذلك بترك التوحيد ، واتِّباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، والله جل وعلا ما خلق الناس إلا لذلك بقوله سبحانه وتعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ... نعم :
الوجه الثاني : أن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية ، فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو من أجهل الناس أو أبلدهم ، ما تقول فيمن عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك ، مع أنه يدعي أنه مسلم متبع
والمراد بالعصيان هنا الذي أشار له المصنف هو عصيان النبي عليه الصلاة والسلام في ترك التوحيد وارتكاب الشرك ، وهذا من جملة المعاصي بل من أعظمها ، ولذلك روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ) حمله عامة العلماء على المعصية بالإشراك ، والطاعة بالتوحيد ... نعم :(1/164)
ما تقول فيمن عصى الرسو ل ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك ، مع أنه يدعي أنه مسلم متبع إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر من غير نظر في الأدلة
ووحدانية الله سبحانه وتعالى ، والإيمان بالبعث تدل عليها الفطر السليمة ، وإن تناقض الناس واختلفوا ، بل أن لو أن عقلانيا لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى ، وليس لديه من الدلائل الشرعية ، واختلف عنده اثنان بإمكان البعث ، وآخر ينفي ، لدل العقل دلالة ظاهرة على لزوم أن يؤمن بالبعث ، لأنه إن مات فلا بد أن يصدُق أحدهما .
فمن قال بوجود البعث وأنه حق ، واستدلالاً عقلياً ، لكان هالك لأنه لم يؤمن ، ولوصدق الذي قال بأنه لا إيمان بالبعث ، وأنه لا وجود له ، ولم يُبعث فهو ناجي .
لذلك يقول أبو العلاء المعري ، وهو من كبار العقلاء ، وقد ضل في جملة من مسائل الاعتقاد ... يقول :
قال الطبيبُ والمُنَجِّمُ كلاهما لا تُبعثُ الأمواتُ قلْتُ إليكُمَا
إنْ صحَّ قولُكما فلستُ بخاسرٍ أو صحَّ قولِي فالخَسارُ عليكُمَا
أي أنكما تقولون – بإلحادكم - أن الله سبحانه وتعالى لا يبعث الناس
........................... ............... قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ..........................
أي أني سأبقى رماداً ورميماً لا أُبعث ، فأنا ناج حينئذٍ ، وإن صح قولي بأن البعث موجود فالخسار عليكما .
إذاً ... أنا ناج في حالة سالم في أخرى ، وأنتم سالمون في موطن خاسرون في أخرى ، فناسب بالعقل أن تؤمن بالحساب ... هذا من جهة العقل ، فكيف بالمؤمن وهو يرى نصوص الشرع ، وأوامر الله سبحانه وتعالى !!(1/165)
ولذلك يجب على الإنسان أن يؤمن بأصول الإيمان ، وأصول الإيمان هي : النقليات ... السمعيات ... يسميها العلماء ، أوالإلهيات هي : ما دل الدليل على أنها من أصول الإيمان ، واتفقت عليها سائر الشرائع ، يجب على العبد أن يؤمن بها ويُسلَّم بها تسليما ، ولذلك هي كانت موطن الامتحان والفتنة والاختبار .
ولذلك علَّق الشارع الحكيم في كثير من الأمور الإيمان بأمور غيبية من غير دلالة محسوسة ، كالإيمان بالأمور المغيَّبة كالميزان والصراط والجنة والنار مما لا دلالة ظاهرة سوى أوامر الشرع ، ولذلك العلة تكون خافية في كثير من النصوص من الكتاب والسنة ، وتظهر في بعض الأحيان في بعض أوامر الشرع ، ليأخذ الإنسان من العلة الظاهرة على الخافية ، فيأخذ من هذه وهذه .
ولذلك أظهر الله عز وجل المعجزة والكرامة على أيدي أولياء الله سبحانه وتعالى ، المعجزة على أيدي الأنبياء ، والكرامة على أيدي أولياء الله سبحانه وتعالى من الصالحين وغيرهم ، ليأخذوا بهذه الدلالات ، ويؤمنوا بذلك ، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بشيء من المعجزات ، ولكنه ليس بكل أمر ، جاء في بعض الأحيان ببيان المعجزات ... من أراد أن يؤمن يؤمن بواحدة ، لأن هذه الواحدة لا يمكن أن تأتي إلا برجل قد صدق في سائر قوله .
ولذلك جاء النبي عليه الصلاة والسلام بمعجزات قليلة ، وجاء بأوامر بكثيرة ، والعلل فيها وليست بظاهرة ، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالتسليم والانقياد من غير تتبُّع للعلة ، ولذلك إنما ضل من ضل من المعتزلة وغيرهم والعقلانيين من المتأخرين بتتبِّعهم للعلة التي لا تُوافق أذواقهم ، فردُّوا كثيراً من نصوص الشرع باعتبار أنها لا تنطبق على العقل ، فإذا قيل لهم أن الشارع الحكيم قد أظهر كثير من المعجزات والكرامات في بعض الأوامر ، وأن العلل ظاهرة فيها ، فهؤلاء قد حَجَبوا عن عقولهم تلك العلل الظاهرة ، والحكم البالغة ، وأرادوا العلة أن تكون في كل أمر .(1/166)
فحيئذٍ إذا ظهرت العلَّة الظاهرة ، والحجج الباهرة ، والحكم البالغة ، في كل أمر يأمر به الشارع إذا لم يخالف دين الله عز وجل إلا المجانين ، ولكن الله سبحانه وتعالى أخفى كثيراً من العلل في بعض الأوامر ليَرى من ينقاد ويسلِّم لدين الله عز وجل تسليما ، فكان حينئذٍ هذا هو موطن الاختبار ، فمن سلَّم الإيمان بنصوص الشرع لعقله ضل كما ضل كفار قريش ، أومن ضل من قبلهم من الكفرة ، فأرادوا في كل أمر أن تظهر الحجة والعلة بسبب هذا التشريع ، أو سبب هذا الإيمان .
ولذلك من نظر إلى أحوال بني إسرائيل أو من سبقهم من الأمم الكافرة ، فإنهم طلبوا من أنبيائهم أن يروا الله جهرة ، أرادوا شيئاً من الثوابت في المادية ، أو تنزل عليهم مائدة من السماء ، أو يُسقط السماء عليهم كسفاً ، أو يُميتهم ثم يحييهم ... شيء مما لم يُجِبْهُم عليه أنبياء الله سبحانه وتعالى ، فكان ذلك موطن اختبار وامتحان .
ولذلك جعل الله عز وجل شيئاً من المعجزات ليأخذ بها العقلاء من هذه لما خفيَ من الحجج والحِكم البالغة ، وجعل ما بقي فتنة ، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى بعض التشريعات وبعض الأحكام وبعض الإيمان بالغيبيات فنتنة للذين كفروا ، ليَميز الله عز وجل الخبيث من الطيب ... نعم :(1/167)
إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر من غير نظر في الأدلة أو سؤال أحد من العلماء .ولكن لغلبة الجهل وغربة العلم وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من الملحدين أشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق ، فلا تحقرها وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت ويجعلك من الأئمة الذين يهدون بأمره .فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها ويزيد المؤمن يقيناً ما جرى من النبي وأصحابه والعلماء بعدهم فيمن انتسب إلى الإسلام ، كما ذكر أنه بعث البراء ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .ومثل همه بغزو بني المصطلق لما قيل أنهم منعوا الزكاة . ومثل قتال الصديق وأصحابه لمانع الزكاة.
وذلك أن ذلك حداً ، إلا أن رأى جوازه فهو مُكذب بنص الكتاب ، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن نكاح زوجات الآباء ، وهي حرمة أبدية ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) ويُستثنى من هذا ما فعله الإنسان على جهالة بقوله : ( إلا ما قد سلف ) فهو مُستثنى من ذلك ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( من أتى ذات محرم فاقتلوه ) وهذا حد وإن كان غير محصن ... نعم :(1/168)
فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها ويزيد المؤمن يقيناً ما جرى من النبي وأصحابه والعلماء بعدهم فيمن انتسب إلى الإسلام ، كما ذكر أنه بعث البراء ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .ومثل همه بغزو بني المصطلق لما قيل أنهم منعوا الزكاة . ومثل قتال الصديق وأصحابه لمانع الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وتسميتهم مرتدين .ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا لما فهموا من قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) حل الخمر لبعض الخواص .ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان في تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه ، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم . ومثل تحريق علي رضي الله عنه أصحابه لما غلوا فيه . ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد
من نظر في هذه الرسالة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله يلحظ فيها الارتجال ، وأمثال هذه الرسائل التي يكتبها الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كجملة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله ... يلحظ فيها شيئا من تكرار المسائل ، وذلك لمناسبة المقام ، وكذلك فإن الرسائل التي يكتبها الأئمة ارتجالا لا تقع كما يقع من يقصد فيها التصنيف ، مما يزيد فيه الإنسان ويُعيد النظر فيها ، ولذلك المصنف عليه رحمة الله تعالى كررَّ كثيرا من المسائل في رسالته هذه ، لما يقتضيه حال الارتجال ، وهذا ما ينبغي التنبيه عليه في كثير من المصنفات التي صنفها الأئمة عليهم رحمة الله تعالى من باب المراسلة ، لا من باب قصْد التصنيف ... نعم :(1/169)
ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه ، مع أنه يدعي أنه يطلب بدم الحسين وأهل البيت . ومثل إجماع التابعين ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم وهو مشهور بالعلم والدين وهلم جرا ، ومن وقائع لا تعد ولا تحصى .
ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره كيف تقاتل بنى حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون , ويزكون . وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه
ولذلك المبالغة بالعمل والطاعة والإكثار منها .... إن كانت على غير حق ، فإنها لا تفيد الإنسان ولا تغنيه ، ولذلك وصف الله عز وجل كثيراً من الناس أنه يشقى بالعمل على غير هداية ، وقال فيه : ( عاملة ناصبة ) أي تلك الوجوه عاملة ومبالغة في العمل ، لكنها ناصبة في نار جهنم .
وقد جاء في الأثر عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه مرَّ بصومعة نصراني ، فناداه ، فخرج إليه ، فبكى عمر ، فقال : ما يبكيك؟! قال: تذكرت لما نظرت إليك قول الله تعالى : ( عاملة ناصبة ) قال : عاملة في الدنيا ، ناصبة في نار جهنم . وذلك أن ذلك النصراني قد بالغ في العمل ، وانقطع عن الدنيا ، فاستحق أن يكون من أهل النار ، أي ينزل على رأسه في نار جهنم ، هاوياً فيها ، وإن بالغ في عمله .
ولذلك كثير ممن ينتسب إلى الإسلام ، وانقطع عن الدنيا في صوامعهم ، كالمتصوفة والملحدين وغلاتهم ... هؤلاء من أئمة الضلال ، ولا يغلب على الإنسان العاطفة ، بل يجب عليه أن تغلب عليه نصوص الشرع .(1/170)
وقد رأيت في أحد البلدان رجلا قد بلغ السن به مبلغا ، وهو عاكف على عبادة الله سبحانه وتعالى ، وقد وضع سجادة بين يديه ، يأتي إليها محبوه ليسجدوا له من دون الله سبحانه وتعالى ، وتفرَّغ لذلك ، حتى أنه حدثني وقال أنه منذ صغره على هذه الحال منقطع لله سبحانه وتعالى . فقلت له : أنت تعمل في هذه الدنيا ، وناصب في نار جهنم والعياذ بالله . انقطع عن الدنيا ولذائذها ، فاستحق الحرمان في الدنيا والآخرة .
ولذلك الزنديق الذي اطلق لنفسه العنان في الدنيا والتمتع بلذاتها ، وإن كان في معصية الله عز وجل ، هذا هو خير وأعقل من هذا ، لأن هذا استحق الحرمان في الدنيا والآخرة ، والبعد عن الله سبحانه وتعالى فيها ، وذلك أن أباه كان من أولياء الله ، فظُنَّ أن البركة قد انتقلت من أبيه إليه ، فعُبد من دون الله سبحانه وتعالى ، فطمع بالمال ، وبقي على حاله كذلك حتى بلغ به الكبر ، فأبى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى طمعاً في الدنيا ، فمثل هذا من أئمة الكفر والضلال ، فهو أكفر من كفار قريش ، لأن كفار قريش لم يعبدوا الأحياء ، وإنما عبدوا الأموات ، والتعلق بشبهة بالأموات أعظم من التعلق بالأحياء ، وكلٌ قد وقع في دائرة الكفر وخرج من الملة والعياذ بالله ... نعم :(1/171)
ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره كيف تقاتل بنى حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون , ويزكون . وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا وهلم جرا . إلى زمن عبيد القداح الذين ملكوا لمغرب ومصر والشام وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة ونصب القضاة والمفتين لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم ولم يتوقفوا فيه وهم في زمن ابن الجوزي , والموفق , وصنف ابن الجوزي كتاباً لما أخذت مصر منهم سماه ( النصر على مصر ) ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله لأجل ادعائهم الملة , أو لأجل قول لا إله إلا الله ، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام ، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ، ولكن من فعله أو حسنه أو كان مع أهله أو ذم التوحيد أو حارب أهله لأجله أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة ، ويستدلون بأن النبي سماها الإسلام ، هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين
والإسلام يُطلق على الملل الإبراهيمية ، والملل الإبراهيمية هي أصحاب الكتب السماوية ، يُطلق على من كان على ملة إبراهيم ، حتى من كان على اليهودية والنصرانية ... أصحاب الكتب السماوية إذا كانوا عليها يُطلق عليهم مسلمون إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولذلك الإسلام يُطلق على كل من أسلم وجهه لله سبحانه وتعالى .
وقد احتج بعض الملاحدة والزنادقة في العصور المتأخرة ببعض النصوص التي جاءت في كلام الله سبحانه وتعالى بإطلاق الإسلام على هذه الملل وهذه الشرائع ، قالوا : فهم مسلمون وداخلون في دائرة الإسلام . وهذا قول فاسد من وجهين :(1/172)
1- الوجه الأول : أن فيه نقضاً لكثير من النصوص التي جاءت بعموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك لعن أهل الكتاب ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار ) وقوله عليه الصلاة والسلام كما روى الإمام أحمد وغيره من حديث أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجد في يد عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قطعة من التوراة ، قال : ( أمتهوِّكُون يا ابن الخطاب !! لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) بل أمر الله سبحانه وتعالى بالإستعاذة من طريق هؤلاء ... من اليهود والنصارى ، فالإنسان مأمور في كل ركعة أن يقرأ سورة الفاتحة ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) فالمغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى ، فأمر الله عز وجل بالاستعاذة من طريقهم ، وحكم الله سبحانه وتعالى بكفرهم في آيات كثيرة من اليهود والنصارى والصابئة والمجوس وغيرهم من الملل الكفرية .
فإطلاق الإسلام : يُطلق على من كان على شريعتهم من غير تحريف قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ... يُطلق عليه أنه مسلم ، لكن لما جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ... فمن كان على غير ملة الإسلام فلا بد أن يكفر بأحد الوجوه :
أ- إما أن يكفر بنقضه للإسلام ، بعدم الإيمان بعمومة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ونسخها لما سبقها ، والنبي عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين .
ب- وإما أن يكون قد كفر بما بقي عليه من الملة المحرفة .
ولذلك ليس ثمة ملة حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا ودخلها التحريف ، وكلام الله سبحانه وتعالى قد صانه الله جل وعلا من التحريف ، يقول الله سبحانه وتعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) فحفظه الله سبحانه وتعالى من الدخيل فيه .(1/173)
2- والوجه الثاني الذي يكفر به هؤلاء : هو أنه يتضمن قولهم ذلك أنه يسوغ للإنسان أن يتَّبع ما شاء ، وأن يخرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل فيها .
وتقدم الإشارة إلى من استدل بقول الله سبحانه وتعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ) أن المراد بهذه الآية أحد وجهين :
1- الذي عليه عامة المفسرين - وهو قول مجاهد بن جبر والسدي وغيرهم - أن المراد بذلك من كان على الإيمان قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف = أنهم من أهل الجنة ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما نَسخت ما قبلها حينما نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيَّن الله جل وعلا أنه أرسله للناس كافة ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) فالله جل وعلا قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة ... الأبيض والأحمر ... العرب والعجم ... اليهود والنصارى ... وغيرهم ، كلهم مخَاطبون بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال الله جل وعلا : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) وقال الله سبحانه وتعالى : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) المراد بالإيمان هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى .
قد يقول قائل : وما الدليل على تخصيص الإسلام ... على أنه خاص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ؟(1/174)
الدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر ، ورواه البخاري ومسلم أيضا من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل ... في قصة سؤال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام ، فقال: ما الإسلام؟ قال : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ... ) فحصر الإسلام وتعريفه بهذه التعاريف ، وهي أركان الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ...
إذاً ... فمن لم يشهد هذه الشهادة ، ولم يعمل بما جاء به ، فإنه ليس بحقيق بالإسلام ، ولذلك جاءت النصوص على أن من لم يعمل بالشهادتين بقلبه ولسانه وجوارحه فليس من أهل الإيمان ، والشهادتان هما : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويلزم من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم = التصديق بما قال ، وامتثال أمره ، وأن من عصاه فهو من أهل النار ، ومن أطاعه فمن أهل الجنة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ) والمراد بالإباء هنا ... قال : ( كل يدخل الجنة إلا من أبى ، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ) .(1/175)
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة ... قال : ( يعجب ربكم من أناس يقادون إلى الجنة بالسلاسل ) والمراد بذلك بالإكراه ، فالإنسان مأمور بالاتباع ، وإن كان مكرها ، ولذلك يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) وأمر الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمقاتلة الكفار ، ومجادلتهم على الإيمان ، يقول الله سبحانه وتعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) والفتنة هنا هو الكفر ، أي قاتلوا أعداء الله سبحانه وتعالى حتى لا ينتشر الكفر في الأرض ، فهو سبب تشريع قتال الكفار ، لكي لا تنتشر ملة غير الإسلام ، وهذا كله يدل على أن كلمة الإسلام لا تنحصر في شيء من الشرائع إلا في الإسلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فسَّرها عليه الصلاة والسلام بذلك في نصوص كثيرة ... نعم :
ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله لأجل ادعائهم الملة , أو لأجل قول لا إله إلا الله ، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام ، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ، ولكن من فعله أو حسنه أو كان مع أهله أو ذم التوحيد أو حارب أهله لأجله أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة ، ويستدلون بأن النبي سماها الإسلام ، هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين ، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش.(1/176)
ولا قائل به إلا الملاحدة الذين يقولون أن من كان على شريعة سماوية فهو من أهل الإسلام ، ولا خوف عليه ولا هو بحازن يوم القيامة ، وهذا قول الملاحدة ... كما تقدم ، قاله ابن هود وابن سبعين والتلمساني وغيرهم ... الذين قالوا أن من انتقل من الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية كمن انتقل من المالكية إلى الشافعية ومن الحنابلة إلى الحنفية وغير ذلك ... كلها طرق توصل إلى الله سبحانه وتعالى .
وهذا غاية الضلال ، وغاية الكفر ، ولذلك أخبر الله سبحانه وتعالى أن لا طريق هداية ولا نجاة إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمر بطاعته ، وأخبر أنه ( ما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى ) وقطع عليه الصلاة والسلام بكفر من خالف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتديَّن بها .
بل كان بعض الملاحدة الزمان أعظم فهماً للإيمان وتوحيد الله سبحانه وتعالى من مشركي العرب المتأخرين ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما قال لكفار قريش : ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) قالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا !! إن هذا لشيء عجاب . فهم يستغربون هذه الكلمة .
( لا إله ) أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى ، فهذه الكلمة إن تلفَّظ بها الإنسان لا يدرك معناها ، وإن خالفها بقوله ونقض أصلها ، فقد كفر بالله سبحانه وتعالى ، وخرج من الإيمان ، ولا تنفعه تلك الكلمة .
حينئذٍ فيُقال : أن من قال أن أحداً يسوغه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يتَّبع ما شاء ، وأنها كلها ملل سماوية ، جاء الإسلام بها ، وأن الله عز وجل قد تكلم بالتوراة والإنجيل كما تكلم بالقرآن الكريم ، فهذا كفر وزندقة من الوجوه السابقة، فإن التوراة والإنجيل النصوص بتحريفها بالكتاب والسنة أشهر وأكثر من أن تُذكر ، ومن جحد ذلك - ويجحده ضمناً بقوله ذلك - فقد كفر بالله سبحانه وتعالى ، وخرج من ملة الإسلام بهذا الزعم وهذه الدعوة .(1/177)
ومن ارتضى هذا القول ، واستحسنه ، ورغب فيه ، ودعا إليه ، فقد كفر بالله سبحانه وتعالى وإن لم يكن كذلك ، فكيف إذا ارتكبه ووقع فيه ، فلا شك أنه قد أمعن في الكفر والضلال ... نعم :
فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه ، ولكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته :
أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا تساوي فلساً إن رجعت إلى نقد
ولنختم الكلام في هذا النوع بما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال : ( باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان )
نقف هنا ، ونكتفي بهذا القدر ...
وما يذكره المصنف عليه رحمة الله تعالى في باب ( تغير الزمان ) والباب الذي يليه إنما هو زيادة تفصيل وتكرار لما تقدم ، وقراءة كلام المصنف عليه رحمة الله تعالى ليس مقصودا بذاته ، وإنما هو بيان المسائل التي ذكرها المصنف عليه رحمة الله تعالى ، وتفسير ما أشكل من كلامه .
وما تقدم من كلام المصنف عليه رحمة الله تعالى والتعليق عليه هو ما قرره المصنف عليه رحمة الله تعالى في البابين ، وهذه المسائل وهذه الأبواب التي تقدم بيانها هي أصول الإسلام وأصول الملة التي ينبغي ويجب على كل مسلم فهمها ، وأن يتبصَّر فيها ، وأن الإنسان إذا كان صاحب دليل فإنه على هداية .
ولذلك يُسمى النص دليلا لأنه يدل صاحبه كالمرشد إلى الصواب والحق ، وأما إذا لم يكن بصاحب دليل ، وقلَّد غيره ، فربما كان مقلده معذوراً لشبهة طرأت عليه ، وهو ليس بمعذور ، لأنه قلَّد دينه رجالاً ، وأعار عقله رجالاً قد أوقعوه في الضلال من حيث لا يشعر .
ولذلك ضلَّ كثير من الناس بعبادة غير الله سبحانه وتعالى وهم لا يُحسنون قراءة الدليل ... فضلاً عن فهمه .(1/178)
والذي يجب على طالب العلم في أمثال هذه المسائل أن يتبصَّر فيها ، وأن يحذر غاية الحذر من التساهل في إيقاع هذه الأحكام إلى أحكام وإنزالها على الواقع إلا ببيِّنة ظاهرة ، وحجج بينة كالشمس ، وأن يحترز الإنسان غاية الاحتراز من التساهل في هذا الباب ، فهو باب الإفراط والتفريط فيه ضلال وغواية ، وأنًّ التساهل في هذا الباب ليس كالتساهل في أبواب الفروع ، لأنه من المهلكات ، فربما وقع الإنسان في إخراج مؤمن من دائرة الإسلام ، ويتبع على هذا تبعات عظيمة ، منها ما يحل بالإنسان من أن يرتد إليه الكفر .
وكذلك أن يحذر الإنسان بأن لا يخرج الكفرة من الإيمان ممن ظهر كفره بالله سبحانه وتعالى ، وهذا كذلك من المحذورات التي حذَّر منها الإسلام ، وبيَّن خسران من سلك ذلك السبيل ، وقطع أن من لم يكن على الإيمان ، وعلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من الخاسرين ، لقوله سبحانه وتعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) والخسارة في الآخرة لا بد أن يسبقه خسارة في هذه الدنيا ، والخسارة في هذه الدنيا أعظمها هو ظهور كفر الإنسان وخروجه من ملة الإسلام ، وهذا غاية في أن يخسر الإنسان عاقبته عند الله سبحانه وتعالى ، وأن تكون عاقبته النار ... لا ريب في ذلك ، فمن مات على كفره فهو من أهل النار خالداً مخلداً فيها إلى أبد الآبدين .
ومن كان من أهل الإيمان ووقع في شيء من شوائب الشرك الأصغر فالمرجو له الرحمة إن دخل النار وعذَّبه الله سبحانه وتعالى ونقَّاه ومحَّص ذنوبه ، إلا من شاء له المغفرة ، فإن مآله إلى الجنة .
ولذلك حكم الله سبحانه وتعالى على أن الموحدين من أهل الجنة قطعاً ، إما ابتداءً وإما مآلاً .(1/179)
والواجب كذلك إن أشكل في هذا الباب شيء من المسائل ... الواجب على طالب العلم أن يُزيل إشكاله بالسؤال ، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند والسنن : ( فإن شفاء العِيِّ السؤال ) أي جعل الجهل كالمرض ، والشفاء فيه هو أن يسأل الإنسان أهل العلم فيتبصَّر .
ولذلك حث الشارع الحكيم على سلوك طريق العلم ، وجعل في ذلك منقبة عظيمة للإنسان في دينه ودنياه ، وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( من سلك طريقا يلتمس فيه علماً ، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) إذا سهل الله عز وجل له به طريقا إلى الجنة فلا شك أن الله سبحانه وتعالى يسهِّل له طريقا في الدنيا ، وفلاحا فيها ورفعة ، فإن الله سبحانه وتعالى لا يُضيِّع عبده إذا بغى مرضاته ، ولذلك يقول الله جل وعلا : ( أليس الله بكافٍ عبده ) والمراد بالكفاية هنا الكفاية في الدنيا ، فبقدر عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى بقدر ما تكون كفاية الله جل وعلا له ، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الكفاية لأنبيائه غاية الكفاية ، ومن أعظم الكفاية هي سعة الإنسان في صدره ، وأُنسِه بالله سبحانه وتعالى ، وإعراضه عن متع الدنيا ولذائذها ، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : ( و الله يعصمك من الناس ) يعصمك من الناس من أن يؤذوك ويضروك ، سواء بكلامهم ، وإن وقع منهم شيئا من ذلك ، فإن ذلك لا يضرك .(1/180)
ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي كالجبل في وجوه أعداء الله سبحانه وتعالى والمحاربين لملة الإسلام ، وبقي على ذلك حتى نصره الله سبحانه وتعالى ، وأعلى كلمته ، وتوفاه عليه الصلاة و السلام بعد أن أكمل الملة ، وأكمل الله سبحانه وتعالى به الدين ، ثم تلاه بعد ذلك أصحابه عليهم رضوان الله تعالى من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ، فكان عليه الصلاة والسلام نجاة لأصحابه كما روى الإمام مسلم عن عليه رحمة الله : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلَّى بأصحابه المغرب ، ثم ذهب إلى بيته فصلى ركعتين ، ثم رجع إلى أصحابه وقد مكثوا في مكانهم ، فقال : لا زلتم في مكانكم ؟! قالوا : نعم يا رسول الله ننتظرك ، قال : فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجوم ، فقال: النجوم أَمَنَة للسماء) وهذا تنبيه لطيف منه عليه الصلاة والسلام ... تشبيه للعلماء بالنجوم ، قال: ( النجوم أَمَنَة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعد ، وأنا أَمَنَة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أَمَنَة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نشبت الفتنة ، ووقع لخلاف بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فأول خلاف ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُدفن ...
هل مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
ثم هل يُغسَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
وهل يُجرَّد ؟
وأين يُدفن ؟
...(1/181)
خلافات ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جسده مسجَّى ، ولم يُدفن ، وهذا إخبار ومصداق لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله أمر يسير بما وقع بعد ذلك من الفتن والفرقة والاختلاف وتشعب الملل في عصر الخلفاء الراشدين ، ثم الخلفاء في عصر التابعين ، ثم أتباع التابعين ، ثم ما جاء بعد ذلك ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) .
وقد أخبر الرسول عليه الصلاة و السلام أن هذه الأمة تختلف على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأن أصحابه أَتبعُ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الحديث من أعلام نبوته ، ومن نظر إلى اختلاف الناس وتشعُّبَهم في الآراء وجد ذلك ظاهر جلياً في مصداق ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا الحديث اختلاف الأمة على ثلاث وسبعين ، وإن طعن فيه من طعن من بعض أهل العلم كابن العربي في كتابه العواصم ، والإمام الصنعاني عليه رحمة الله ، وكذلك الشوكاني ، وابن حزم الأندلسي ، فكلامهم غير معتبر ، وهو حجة عند عامة العلماء ، وصحَّحه جمع غفير منهم ، ويصدِّقه الواقع .(1/182)
والآن نستعرض الأسئلة ما ورد بالأمس واليوم ، كفاية فيما أخذنا من هذا الكتاب ... كفاية ، وباقي البابين الذين يذكرهما المصنف عليه رحمة الله تعالى فيما يلي هما شبيه بالتكرار لما تقدم ، وبالجملة ما تقدم ذكره كفاية ، وليس المقصود هو أن ( ... ) (1) الإنسان بما ذكره المصنف عليه رحمة الله تعالى وإن كان بالجملة نافعا ، إلا أن المقصود الفائدة وتقرير هذه المسائل ، ومن نظر إلى ما ذكره المصنف عليه رحمة الله تعالى فيما سبق يلمس تكراراً في عدة مواضع ، حتى أن بعض المسائل يعيدها مرتين وثلاثا ...... (2)
تمت
__________
(1) لم أتعرف على الكلمة .
(2) والآن بدأ الشيخ - حفظه الله - باستعراض الاسئلة ، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.(1/183)