من منشورات
حزب التحرير
الطبعة الأولى
1373هـ ـ 1953م
الطبعة السادسة
(طبعة معتمدة)
1421هـ ـ 2001م
مفاهيم حزب التحرير
منذ أواسط القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) والعالم الإسلامي ينحدر عن المستوى اللائق به انحداراً سريعاً، ويهبط إلى هوة الانحطاط هبوطاً فظيعاً. وبالرغم من قيام محاولات عديدة لإنهاضه، أو الحيلولة دون استمرار انحداره، لم تنجح ولا محاولة واحدة من هذه المحاولات، وظل العالم الإسلامي يتخبط في دياجير الفوضى والانحطاط، ولا يزال يعاني آلام هذا التأخر والاضطراب.
أما سبب انحطاطه فيرجع إلى شيء واحد، هو الضعف الشديد الذي طرأ على الأذهان في فهم الإسلام. وسبب هذا الضعف هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية حين أهمل أمر اللغة العربية في فهم الإسلام وأدائه منذ أوائل القرن السابع الهجري. فما لم تمزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية بأن تجعل اللغة العربية - التي هي لغة الإسلام - جزءاً جوهرياً لا ينفصل عنه فسيبقى الانحطاط يهوي بالمسلمين، لأنّها الطاقة اللغوية التي حملت طاقة الإسلام فامتزجت بها، بحيث لا يمكن أداء الإسلام أداء كاملاً إلاّ بها، ولأن بإهمالها سيبقى الاجتهاد في الشرع مفقوداً، ولا يمكن الاجتهاد في الشرع إلاّ باللغة العربية، لأنّها شرط أساسي فيه. والاجتهاد ضروري للأمّة، لأنّه لا تقدم للأمّة إلاّ بوجود الاجتهاد.
وأما سبب إخفاق المحاولات التي قامت لإنهاض المسلمين بالإسلام فيرجع إلى ثلاثة أمور: أحدها عدم فهم الفكرة الإسلامية من قبل القائمين بالنهضة فهماً دقيقاً، وثانيها عدم وضوح طريقة الإسلام لديهم في تنفيذ فكرته وضوحاً تاماً، وثالثها عدم ربطهم الفكرة الإسلامية بالطريقة الإسلامية ربطاً محكماً غير قابل للانفصال.(1/1)
أما الفكرة فقد طرأ عليها من عوامل التغشية ما أبهم الكثير من دقائقها على الكثير من المسلمين. وعوامل التغشية هذه قد بدأت منذ أوائل القرن الثاني للهجرة حتى مجيء الاستعمار، فقد كان للفلسفات الأجنبية كالهندية والفارسية واليونانية أثر على بعض المسلمين حملهم على ارتكاب محاولات للتوفيق بين الإسلام وبين هذه الفلسفات، مع التناقض التام بينها وبين الإسلام. فأدت محاولات التوفيق هذه إلى التأويل والتفسير الذي أبعد بعض الحقائق الإسلامية عن الأذهان، كما أضعف إدراكها إياها. وعلاوة على ذلك كان لدخول بعض الحاقدين على الإسلام المبغضين له في حظيرته - نفاقاً - أثر في أن تدس على الإسلام مفاهيم ليست منه، بل مناقضة له. وقد أدى ذلك إلى فهم الإسلام فهماً مغلوطاً عند كثير من المسلمين، ثمّ أضيف إلى ذلك في القرن السابع الهجري إهمال اللغة العربية في حمل الإسلام. فكان هذا كله مؤذناً بانحطاط المسلمين. وزاد عليه منذ أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) حتى الآن الغزو الثقافي والتبشيري، ثمّ الغزو السياسي من الغرب، فكان ضغثاً على إبالة، وعقدة جديدة في المجتمع الإسلامي تضاف إلى العقد السابقة. فكان لذلك كله الأثر الفعال في خطأ تصور المسلمين للفكرة الإسلامية، حتى فقدت التبلور الحقيقي في الأذهان.(1/2)
وأما الطريقة الإسلامية فإنهم فقدوا وضوح تصورها بالتدريج. وذلك أنهم بعد أن كانوا يعرفون أن وجودهم في الحياة إنّما هو من أجل الإسلام، وأن عمل المسلم في الحياة هو حمل الدعوة الإسلامية، وعمل الدولة الإسلامية هو تطبيق الإسلام وتنفيذ أحكامه في الداخل وحمل الدعوة إليه في الخارج، وأن طريقة ذلك الجهاد تحمله الدولة - نقول: إن المسلمين، بعد أن كانوا يعرفون ذلك، صاروا يرون أن عمل المسلم كسب الدنيا أولاً، والوعظ والإرشاد إذا واتت الظروف ثانياً، وصارت الدولة لا ترى أي تقصير أو أي حرج في تساهلها في تنفيذ أحكام الإسلام، ولا ترى أي غضاضة في القعود عن الجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام، ثمّ صار المسلمون، بعد أن فقدوا دولتهم - على ما فيها من هزال وتقصير - يرون عود الإسلام في بناء المساجد، وإصدار المؤلفات، وتربية الأخلاق، ويسكتون عن سيادة الكفر عليهم واستعماره إياهم.
هذا من حيث الفكرة والطريقة، أما من حيث ربطهما فإن المسلمين صاروا يرون الأحكام الشرعية المتعلقة بمعالجة المشاكل، أي المتعلقة بالفكرة، ولا يعنون أنفسهم في الأحكام التي تبين كيفية المعالجة، أي التي تبين الطريقة، فغلبت عليهم دراسة الأحكام منفصلة عن طريقة تنفيذها، وغلبت عليهم دراسة أحكام الصلاة والصوم، والنكاح والطلاق، وأهملوا دراسة أحكام الجهاد والغنائم وأحكام الخلافة والقضاء وأحكام الخراج وما شابهها، ففصلوا بذلك الفكرة عن الطريقة، حتى نتج عن ذلك عدم إمكان تنفيذ الفكرة دون طريقتها.(1/3)
وقد أضيف إلى ذلك كله في أواخر القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) الخطأ في فهم الشريعة الإسلامية لتطبيقها على المجتمع، فصار الإسلام يفسر بما لا تحتمله نصوصه ليوافق المجتمع الحاضر، وكان الواجب أن يغير المجتمع ليوافق الإسلام، لا أن يحاول تفسير الإسلام ليوافق المجتمع، لأنّ القضية هي أن هناك مجتمعاً فاسداً يراد إصلاحه بمبدأ، فيجب أن يطبق المبدأ كما هو، ويغير المجتمع برمته تغييراً انقلابياً على أساس هذا المبدأ، أي كان لزاماً على المحاولين للإصلاح أن يطبقوا أحكام الإسلام كما جاءت، دون نظر إلى المجتمع أو العصر أو الزمان أو المكان، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل أولوا أحكام الإسلام ليوافق العصر. وقد أوغلوا في هذا الخطأ في الكليات والجزئيات. واستنبطوا قواعد كلية وأحكاماً جزئية تتفق مع هذه النظرة، إذ وضعوا عدة قواعد كلية خاطئة مثل (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) ومثل (العادة محكمة) وغير ذلك، وأفتوا بأحكام لا سند لها من الشرع، بل أفتوا بأحكام تعارض نص القرآن القطعي. فأجازوا الربا القليل بحجة أنه غير مضاعف وبحجة الضرورة لمال القاصر، وصار القاضي الذي يسمى (القاضي الشرعي) يحكم بالربا في صناديق الأيتام، كما صار القاضي الذي سموه (قاضياً نظامياً) يحكم بالربا أيضاً، وأفتوا بوقف الحدود، وأجازوا أخذ قوانين العقوبات من غير الإسلام، وهكذا وضعوا أحكاماً تخالف الشرع بحجة موافقتها للعصر، وضرورة أن يوافق الشرع كل عصر وكل زمان ومكان. وقد نتج عن ذلك أن أبعد الإسلام عن الحياة، واتخذ أعداء الإسلام من هذا الفهم المغلوط وهذه الأحكام الباطلة وسيلة أدخلوا بها على المسلمين قوانينهم ومبادئهم دون أن يجد المسلمون فيها أي تناقض مع دينهم لما تركز في أذهانهم من جراء الفهم المغلوط، أن الإسلام يتفق مع كل زمان ومكان، وصار تأويل الإسلام على لسان الكثيرين ليوافق كل مذهب، وكل مبدأ، وكل حادثة، وكل قاعدة، ولو(1/4)
خالف مبدأ الإسلام ووجهة نظره، فكان هذا مساعداً على إبعاد الإسلام عن الحياة. ولذلك كان إخفاق كل حركة إصلاحية تسير حسب هذا الفهم السقيم أمراً محتوماً.
وقد أضيف إلى ذلك في أوائل القرن العشرين ما ركز الحواجز التي قامت بين الإسلام وبين الحياة، وزاد الصعوبات القائمة في وجه الحركات الإسلامية صعوبات أخرى. وذلك أن المسلمين، ولا سيما العلماء والمتعلمين، كانت تغلب عليهم في هذا الوقت ثلاثة أشياء:
أحدها أنهم كانوا يدرسون الإسلام دراسة تخالف طريقة الإسلام الدراسية في فهمه، لأنّ طريقة الإسلام الدراسية أن تدرس أحكام الشريعة كمسائل عملية للتطبيق من قبل الدولة فيما يختص بها، ومن قبل الفرد فيما هو من شأنه. ولذلك عرف العلماء الفقه بأنه: «علم بالمسائل الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية» . وبذلك تكون الدراسة منتجة علماً للدارس، وعملاً للمجتمع في الدولة والفرد. غير أن هؤلاء العلماء والمتعلمين، بل جمهرة المسلمين، درسوا الإسلام للعلم النظري المجرد، كأنه فلسفة نظرية خيالية. وبذلك صارت الأحكام الفقهية فرضية غير عملية، وصار الشرع يدرس مسائل روحية وخُلُقية، وليس أحكاماً تعالج مشاكل الحياة. هذا بالنسبة للدرس، أما بالنسبة للدعوة إلى الإسلام، فكانت تغلب عليها طريقة الوعظ والإرشاد التي يتبعها المبشرون، وليس طريقة التعليم التي يريدها الإسلام، وبهذا صار المتعلمون للإسلام: إما علماء جامدين كأنهم كتب متحركة، وإما وعاظاً مرشدين يكررون للناس الأقوال (الخطب) المملولة، دون أن يحدث ذلك في المجتمع أي أثر. ولم يفهموا معنى التثقيف بالإسلام الذي يعني تعليم المسلمين أمور دينهم تعليماً يؤثر في مشاعرهم، ويخوفهم عذاب الله وسخطه، حتى يصبح المسلم طاقة مؤثرة حين ترتبط مشاعره بعقله، من جراء تعلم آيات الله وطريقة تعليمها. نعم، لم يفهموا ذلك، وجعلوا مكان طريقة التعليم المؤثرة العميقة طريقة الوعظ والإرشاد التي تنحصر(1/5)
في الأقوال (الخطب) السطحية المبتذلة. فكان من جراء ذلك أن رؤي أن بين معالجة مشاكل المجتمع وبين الدين الإسلامي تناقضاً أو شبه تناقض، يحتاج إلى التوفيق، حتى صار تأويل الإسلام ليوافق العصر أمراً مألوفاً عند النّاس!
وعلاوة على ذلك، فإنهم أساؤوا فهم قوله تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(122) } وفسروها بأن ينفر لطلب العلم من كل جماعة فئة يتعلمون الدين ويرجعون ليعلموا قومهم، وبذلك جعلوا تعلم الدين فرض كفاية، وخالفوا بذلك الحكم الشرعي، كما خالفوا معنى الآية.
أما الحكم الشرعي فهو أنه يجب على كل مسلم بالغ عاقل أن يتفقه في الدين الأمور التي تلزمه في الحياة، لأنّه مأمور أن يسير أعماله كافة بأوامر الله ونواهيه. ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بمعرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأعماله. وعلى ذلك يكون التفقه في الدين للأحكام اللازمة للمسلم في معترك الحياة فرض عين لا فرض كفاية، أما الاجتهاد لاستنباط الأحكام فهو فرض كفاية. وأما مخالفتهم لمعنى الآية فإن الآية آية جهاد، وهي تعني أنه لا يجوز للمسلمين أن يخرجوا جميعاً للجهاد، فهلاّ خرج للجهاد جماعة وبقيت فئة تتعلم الأحكام على الرسول عليه السلام، حتى إذا رجع المجاهدون علّمهم الباقون ما فاتهم من أحكام الله تعليماً يؤثر فيهم، ويدل على ذلك أيضاً ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من حرص على تعلم أحكام الدين وملازمة الرسول عليه السلام، فقد كان يخرج بعضهم في السرايا للجهاد، ويبقى الباقون ليتعلموا أحكام الدين. ثمّ يرجع المجاهدون فيعلمهم الباقون ما فاتهم من أحكام.(1/6)
ثانيها أن الغرب الحاقد المبغض للإسلام والمسلمين هاجم الدين الإسلامي، وصار يطعن فيه فيفتري عليه من جهة، ويقبح بعض أحكامه من جهة أخرى، مع أنّها هي المعالجات الصحيحة لمشاكل الحياة. فكان للمسلمين ولا سيما المتعلمين، موقف أمام هذا الهجوم يغلب عليه الضعف، إذ قبلوا أن يكون الإسلام متهَماً وصاروا يدافعون عنه، وجرهم هذا إلى محاولات لتأويل أحكام الإسلام، فمثلاً أولوا الجهاد بأنه حرب دفاعية لا هجومية، وخالفوا بذلك حقيقة الجهاد. مع أن الجهاد حرب لكل من يقف في وجه الدعوة الإسلامية، سواء أكان معتدياً أم غير معتد. وبعبارة أخرى، هو إزالة لكل حاجز يقف في وجه دعوة الإسلام، أو هو الدعوة إلى الإسلام، والقتال في سبيلها، أي في سبيل الله. والمسلمون حين هاجموا فارس والروم ومصر وشمال أفريقيا والأندلس وغيرها إنما هاجموها لأنّ الدعوة تقتضي الجهاد لنشرها في هذه البلاد، فذلك التأويل للجهاد خطأ نتج عن الضعف في قبول الإسلام متهَماً، والدفاع عنه دفاعاً يظهر فيه إرضاء المتهِمين (بكسر الهاء). ومثل ذلك مسألة تعدد الزوجات، ومسألة قطع يد السارق، وغير ذلك من المسائل التي حاول المسلمون أن يردوا فيها على الكفّار، فصاروا يحاولون تأويل الإسلام تأويلاً يناقضه. وكان من جرّاء ذلك كله إبعاد المسلمين عن فهم الإسلام، وبالتالي إبعاد الإسلام عن العمل به.(1/7)
ثالثها أنه كان من جراء تقلص ظل الدولة الإسلامية عن كثير من الأقطار الإسلامية، وخضوعها لحكم الكفر، ثمّ من جراء انهيار الدولة الإسلامية والقضاء عليها، أن حصل في أذهان المسلمين استبعاد وجود الدولة الإسلامية، واستبعاد الحكم بالإسلام وحده، ولذلك صاروا يرضون أن يحكموا بغير ما أنزل الله، ولا يرون بأساً في ذلك ما دام يحافظ على اسم الإسلام، ولو لم يحكم به، وينادون بوجوب الاستفادة من المذاهب والمبادئ الأخرى لتساعد على تطبيق الإسلام في الحياة، فنتج عن هذا قعود عن العمل لإعادة الدولة الإسلامية وسكوت عن تطبيق أحكام الكفر على المسلمين بأيدي المسلمين.
فكان من جراء ما تقدم أن أخفقت جميع الحركات الإصلاحية التي قامت لإنهاض المسلمين ولإعادة مجد الإسلام. وكان طبيعياً أن تخفق، لأنّها وإن كانت حركات إسلامية، لكنها كانت في سوء فهمها للإسلام تزيد العقدة، وتعقد المشكلة، وتبعد المجتمع عن الإسلام، بدل أن تعمل لتطبيقه فيه.
ولهذا كان لا بد من حركة إسلامية تفهم الإسلام فكرة وطريقة، وتربط بينهما، وتعمل لاستئناف حياة إسلامية في أي قطر من الأقطار الإسلامية حتى يكون هذا القطر نقطة ابتداء، تنبثق منها الدعوة الإسلامية، ثمّ نقطة انطلاق للدعوة إلى الإسلام.
وعلى هذا الأساس وجد حزب التحرير، وقام يعمل لاستئناف حياة إسلامية في البلاد العربية، ينتج عنها - طبيعياً - استئناف الحياة الإسلامية في العالم الإسلامي بإيجاد الدولة الإسلامية في قطر أو أقطار نقطة ارتكاز للإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الكبرى، التي تستأنف الحياة الإسلامية، بتطبيق الإسلام كاملاً في جميع البلاد الإسلامية، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم كله.(1/8)
وبعد الدراسة والفكر والبحث تبنى حزب التحرير هذا أحكاماً شرعية منها ما هو متعلق بمعالجات المشاكل الفردية التي تقع بين الأفراد وفي علاقات الأفراد بعضهم مع بعض مثل منع إجارة الأرض للزراعة، ومنها ما هو متعلق بالآراء العامة التي تقع بين عامة المسلمين وغيرهم وفي علاقات عامة المسلمين مع غيرهم مثل جواز المعاهدات الاضطرارية، والدعوة إلى الإسلام قبل البدء بالقتال، وما شابه ذلك، ومنها ما هو متعلق بالأفكار، وهي أحكام شرعية كسائر الأحكام الشرعية، وذلك كالقواعد الكلية والتعاريف مثل قاعدة: «ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب» ومثل تعريف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وما شابه ذلك. فقد تبنى الحزب في كل نوع من هذه الأنواع من الأحكام أحكاماً معينة، وأخذ يدعو لها إذ يدعو للإسلام. وهي آراء وأفكار وأحكام إسلامية ليس غير، وليس فيها أي شيء غير إسلامي ولا متأثرة بأي شيء غير إسلامي، بل هي إسلامية فحسب، لا تعتمد غير أصول الإسلام ونصوصه. ويعتمد الحزب فيها على الفكر ويرى أن الدعوة إلى الإسلام يجب أن تقوم على الفكر، وأن تحمل قيادة فكرية، لأنّ الفكر المستنير هو الذي تتركز عليه الحياة وينهض الإنسان على أساسه، وهو الذي يري حقائق الأشياء فتدرك إدراكاً صحيحاً. والفكر حتى يكون مستنيراً لا بد أن يكون عميقاً، والفكر العميق هو النظرة العميقة للأشياء. والفكر المستنير هو النظرة العميقة للأشياء ولأحوالها وما يتعلق بها والاستدلال بذلك للوصول إلى النتائج الصادقة، وبعبارة أخرى هو النظرة العميقة المستنيرة للأشياء، ولذلك كان لا بد من النظرة العميقة المستنيرة للكون والإنسان والحياة، ولا بد من النظرة العميقة المستنيرة للإنسان ولأعمال الإنسان، حتى يمكن إدراك الأحكام المترتبة عليها.(1/9)
والنظرة العميقة للكون والإنسان والحياة هي التي تعطي الفكرة الكلية عنها، وهي التي تحل العقدة الكبرى للإنسان، وهي التي تكون العقيدة عند الإنسان، وهي التي تعين للإنسان غاية الحياة، وغاية الأعمال التي يقوم بها في الحياة، لأنّ الإنسان يحيا في الكون، فما لم تحل عنده العقدة الكبرى عن نفسه، وعن الحياة التي تقوم فيه، وعن الكون الذي هو مكان حياته ووجوده، لا يمكن أن يعرف السلوك الذي ينبغي أن يسلكه. ولذلك كان أساس كل شيء هو العقيدة.
والنظرة العميقة المستنيرة إلى الكون والإنسان والحياة تؤدي إلى العقيدة الإسلامية فيظهر بوضوح أنّها مخلوقة لخالق، وأن هذا الخالق هو وحده الذي يدبرها، ويقوم بحفظها وتسييرها وفق نظام مخصوص، وأن هذه الحياة الدنيا ليست أزلية ولا أبدية، فيوجد ما قبلها وهو خالقها ومدبرها، ويوجد ما بعدها وهو يوم القيامة، وأن أعمال الإنسان في هذه الحياة الدنيا يجب أن تكون سائرة وفق أوامر الله ونواهيه، وأن الإنسان سيحاسب عليها يوم القيامة وهو يوم الحساب، ولذلك كان لزاماً على الإنسان أن يتقيد بشرع الله الذي بلغه إياه رسول الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
والنظرة العميقة المستنيرة للكون والحياة والإنسان تُري أنها مادة فقط، وليست روحاً، ولا مركبة من المادة والروح. والمراد بالمادة هنا الشيء المدرك المحسوس، سواء عرفت المادة بأنها ما شغلت حيزاً وكان لها ثقل، أو عرفت بأنها الطاقة المشحونة ظاهرة أو خفية، إذ ليس البحث عن ماهية المادة بل البحث عن الكون والحياة والإنسان - هذه الأشياء المحسوسة المدركة - من ناحية كونها مخلوقة لخالق. والمراد بالروح هنا إدراك الصلة بالله، وليس المراد سر الحياة، إذ ليس البحث عن الروح بمعنى سر الحياة، وإنما البحث عن علاقة الكون والحياة والإنسان بالمغيب عنا أي بالخالق، وعن إدراك هذه العلاقة أي هل إدراك صلة الكون والحياة والإنسان بخالقها جزء منها أو ليس جزءاً منها.(1/10)
فالنظرة العميقة المستنيرة للكون والحياة والإنسان - من حيث معنى الروح بأنها إدراك الصلة بالله لا من حيث الروح سر الحياة - تُري أنها مادة فقط وليست روحاً ولا مركبة من المادة والروح. أما أنّها مادة فظاهر غير خفي لأنّها مدركة محسوسة. وأما أنها ليست روحاً فذلك أن الروح هي إدراك الإنسان صلته بالله تعالى، وهذا الإدراك من الإنسان لصلته بالله ليس هو الكون ولا الإنسان ولا الحياة، بل هو شيء غيرها. وأما أنّها ليست مركبة من المادة والروح فظاهر في الكون والحياة، وأما في الإنسان فإن إدراكه لصلته بالله ليس جزءاً من تركيبه بل صفة طارئة، بدليل أن الكافر المنكر لوجود الله لا يدرك صلته بالله ومع ذلك فهو إنسان.(1/11)
وعلى هذا فإن ما يقوله بعض النّاس من أن الإنسان مركب من مادة وروح، فإذا غلبت فيه المادة على الروح كان شريراً وإذا غلبت فيه الروح على المادة كان خيراً، وأن عليه أن يغلب الروح على المادة ليكون خيراً، هذا القول غير صحيح، فالإنسان ليس مركباً من المادة والروح، وذلك لأنّ الروح المبحوث عنها في هذا الباب عند جميع البشر الذين يؤمنون بوجود إله هي أثر الخالق أو ما يشاهد من آثار للناحية الغيبية أو كون الشيء مدركاً فيه ما لا يُوجَد إلاّ من الله أو بهذا المعنى، أي هي من حيث الروحانية أو الناحية الروحية، والروح من حيث الروحانية أو الناحية الروحية الموجودة في الإنسان ليست هي سر الحياة ولا ناشئة عن سر الحياة ولا علاقة لها بسر الحياة، بل هي شيء غيرها قطعاً، بدليل أن الحيوان فيه سر الحياة ومع ذلك ليس لديه روحانية ولا ناحية روحية، ولا أحد يقول عنه أنه مركب من المادة والروح، مما يقطع بأن الروح بهذا المعنى ليست سر الحياة ولا ناشئة عن سر الحياة ولا علاقة لها بسر الحياة، فكما أن الحيوان ليس مركباً من المادة والروح مع أن فيه سر الحياة فكذلك الإنسان ليس مركباً من المادة والروح ولو كانت فيه سر الحياة، لأنّ الروح التي يتميز بها الإنسان والتي توجد لديه ليست متعلقة بسر الحياة ولا ناشئة عنه وإنما هي إدراك الصلة بالله فلا يقال إنّها جزء من تركيب الإنسان بحجة أن فيه سر الحياة.
وما دامت الروح المبحوث عنها في هذا الباب هي إدراك الصلة بالله ولا علاقة لها بسر الحياة فإنها لا تكون جزءاً من تركيب الإنسان، لأنّ إدراك الصلة ليس جزءاً من تركيبه، بل هو صفة طارئة، بدليل أن الكافر المنكر لوجود الله لا يدرك صلته بالله ومع ذلك فهو إنسان.(1/12)
ومع أن الكون والإنسان والحياة مادة وليست روحاً، ولكن الناحية الروحية بالنسبة لها، هي كونها مخلوقة لخالق، أي هي صلتها، بوصفها مخلوقة، بالله تعالى خالقها، فالكون مادة، وكونه مخلوقاً لخالق هو الناحية الروحية التي يدركها الإنسان. والإنسان مادة، وكونه مخلوقاً لخالق هو الناحية الروحية التي يدركها الإنسان. والحياة مادة، وكونها مخلوقة لخالق هي الناحية الروحية التي يدركها الإنسان.
فالناحية الروحية ليست آتية من ذات الكون أو الحياة أو الإنسان، بل هي من كونها مخلوقة لخالق خلقها هو الله تعالى. فهذه الصلة هي الناحية الروحية.(1/13)
والأصل في معنى الروح أن النّاس الذين يؤمنون بوجود الإله يرددون كلمات الروح والروحانية والناحية الروحية، ويريدون بها أثر الخالق في المكان أو ما يشاهد من آثار للناحية الغيبية، أو كون الشيء مدركاً فيه ما لا يُوجَد إلاّ من الله أو بهذا المعنى. فهذه المعاني التي يطلقون عليها الروح والروحانية والناحية الروحية وما في معناها معانٍ عامة غامضة مبهمة غير مبلورة، فهي لها واقع في ذهنهم ولها واقع في الخارج لديهم ألا وهو المغيب المدرك وجوده وغير المدرك ذاته وأثر هذا المغيب في الأشياء، ولكن هذا الواقع الذي يحسونه يقع إحساسهم عليه فعلاً ولكنهم غير مستطيعين تعريفه وغير مبلور لديهم. وكان من جراء عدم بلورة هذه المعاني أن اضطرب تصورها لديهم، فكان أن اختلطت عند بعضهم بالروح التي هي سر الحياة وصاروا يطلقون على الإنسان بأنه مركب من مادة وروح لإحساسهم بوجود الروح فيه التي هي سر الحياة ولوجود الروح من حيث الروحانية أو الناحية الروحية فظنوا أن هذه هي تلك أو أنّها ناشئة عن تلك ولم يتلفتوا إلى أن الحيوان فيه روح أي سر الحياة وليس لديه الروحانية أو الناحية الروحية. وكان أيضاً من جراء عدم بلورتها أن صار يطلق على ما يجده الإنسان من انتعاش نفسي بأنه روحانية فيقول الشخص عن نفسه أحسست بروحانية فائقة أو فلان لديه روحانية عظيمة، وكان أيضاً من جراء عدم بلورتها أن صار يؤتى إلى المكان فيحس فيه انشراح أو تجلٍّ فيقال في هذا المكان ناحية روحية أو روحانية، وكان من جراء عدم بلورتها أن صار الشخص يجيع نفسه ويعذب جسده ويضعف جسمه زاعماً أنه يريد تقوية روحه. كل ذلك لعدم بلورة معنى الروح ومعنى الروحانية ومعنى الناحية الروحية. فهو يشبه واقع العقل عند القدامى، فإن العقل كلمة يراد منها الإدراك والحكم على الشيء وما في هذا المعنى، ولكن القدامى كانوا يتصورون أن هذه الأشياء من إدراك وغيره هي آثار العقل وليست العقل، والعقل له واقع(1/14)
عندهم يحسون به ولكن لا يتبينون حقيقته وهو غير مبلور لديهم، وكان من جراء عدم بلورته لديهم أن اختلف تصورهم له واضطرب تصورهم لمكانه واختلط عليهم إدراك حقيقته، فمنهم من يقول هو في القلب ومنهم من يقول هو في الرأس ومنهم من يقول هو الدماغ ومنهم من يقول غير ذلك، ولما جاءت هذه العصور انصرف بعض المفكرين لبلورة معنى العقل وتعريفه فاختلط عليهم لعدم إدراك واقعه فقال بعضهم هو انعكاس الدماغ على المادة وقال آخرون هو انعكاس المادة على الدماغ إلى أن عرف التعريف الصحيح بأنه نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الإحساس ومعلومات سابقة تفسر هذا الواقع، وبهذا التعريف صار يدرك ما هو العقل. فكذلك لا بد أن ينصرف بعض المفكرين لبلورة معنى الروح والروحانية والناحية الروحية وما في هذا المعنى بلورة تجعل الذهن يدركها ويدرك واقعها. لأنّ هناك واقعاً للروح والروحانية والناحية الروحية، إذ المشاهد المحسوس للإنسان أن هناك أشياء مادية يحس بها الإنسان وقد يلمسها كالرغيف وقد يحسها ولا يلمسها كخدمة الطبيب، وهناك أشياء معنوية يحسها ولا يلمسها كالفخر وكالثناء، وهناك أشياء روحية يحسها ولا يلمسها كخشية الله وكالتسليم له في الشدائد، فهذه معانٍ ثلاثة لها واقع يحس به الإنسان، ويتميز أحدها عن الآخر، فتكون الروح أو الناحية الروحية أو الروحانية واقعاً مشخصاً يقع الحس عليه فلا بد من تعريف هذا الواقع لبلورته للناس كما عرف العقل وبلور للناس.(1/15)
وبالتدقيق في واقع الروح والروحانية والناحية الروحية يتبين أنّها غير موجودة عند الملحد المنكر لوجود الله وأنّها موجودة فقط عند المؤمنين بوجود إله، وهذا يعني أنها متعلقة بالإيمان بالله، توجد حيث يُوجَد هذا الإيمان وتنعدم حيث ينعدم. والإيمان بوجود الله يعني التصديق الجازم بأن الأشياء مخلوقة لخالق خلقها يقيناً، فيكون موضوع البحث هو الأشياء من حيث كونها مخلوقة لخالق، فالإقرار بأنها مخلوقة لخالق إيمان، وإنكار أنّها مخلوقة لخالق كفر، وفي حالة الإقرار والتصديق الجازم توجد الناحية الروحية، والذي أوجدها هو التصديق، وفي حالة عدم الإقرار والإنكار لا توجد الناحية الروحية، والذي جعلها لم توجد هو الإنكار، فتكون الناحية الروحية هي كون الأشياء مخلوقة لخالق، أي هي صلة الأشياء بخالقها من حيث الخلق والإيجاد من عدم. فهذه الصلة، أي كونها مخلوقة لخالق، إذا أدركها العقل، حصل من جراء هذا الإدراك شعور بعظمة الخالق، وشعور بالخشية منه، وشعور بتقديسه، فكان هذا الإدراك، الذي ينتج هذا الشعور، لهذه الصلة، هو الروح. فتكون الروح هي إدراك الصلة بالله. وبذلك يتبلور معنى الناحية الروحية، ومعنى الروح، وهي ليست كلمات لها مدلول لغوي يرجع فيه إلى اللغة، ولا هي مصطلحات يصطلح عليها كل قوم كما يشاؤون، وإنما هي معانٍ لها واقع معين مهما أطلق عليها من ألفاظ، فالبحث هو عن واقع هذه المعاني وليس عن مدلول كلمات لغوية، وواقع هذه المعاني هو هذا، وهو أن الروح من حيث الناحية الروحية في الإنسان هي إدراك الصلة بالله، والناحية الروحية في الكون والإنسان والحياة هي كونها مخلوقة لخالق، فحيثما أطلقت هذه الألفاظ إنما يراد بها هذه المعاني لأنّها هي التي لها واقع محسوس يقوم البرهان عليه، ولأنّ هذا الواقع المحسوس هو الواقع الذهني والخارجي لها عند البشر المؤمنين بوجود إله أي بوجود خالق للأشياء.(1/16)
أما الروح التي هي سر الحياة فهي موجودة قطعاً وثابتة بنص القرآن القطعي، والإيمان بوجودها أمر حتمي، وهي ليست موضوع هذا البحث.
ولفظ الروح لفظ مشترك كالعين لها عدة معان، فكما أن العين تطلق على أشياء كثيرة فتطلق على العين الجارية والباصرة والجاسوس والذهب والفضة وغير ذلك، فكذلك الروح تطلق على عدة معان. وقد وردت في القرآن بمعانٍ متعددة، فوردت الروح وأريد بها سر الحياة: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) } ووردت وأريد بها جبريل عليه السلام: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } ووردت وأريد بها الشريعة: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } وهذه المعاني كلها ليست هي المقصودة من القول فيه ناحية روحية أو هذا شيء روحي أو فصل المادة عن الروح أو ما شابه ذلك. ولا علاقة لهذا القول عن الروح بمعاني الروح الواردة في القرآن، بل المعنى المقصود من الروح في هذه الإطلاقات الأخيرة هو المعنى المتعلق بخلق المادة أي من حيث كون الأشياء مخلوقة لخالق هو الله تعالى وإدراك الإنسان لصلة الأشياء بخالقها.(1/17)
والنظرة العميقة المستنيرة للإنسان تري أنه يعيش في دائرتين: إحداهما تسيطر عليه، والأخرى يسيطر عليها. أما التي تسيطر عليه فهي الدائرة التي تنطبق فيها عليه أنظمة الوجود، فهو يسير والكون والحياة طبق نظام مخصوص لا يتخلف، ولذلك تقع الأعمال عليه في هذه الدائرة على غير إرادة منه، وهو فيها مسير وليس بمخير، فقد أتى إلى هذه الدنيا على غير إرادة منه، وسيذهب عنها على غير إرادته، وهو لا يملك أن يخرج على نظام الكون. ولذلك لا يسأل عن الأعمال التي تحصل منه أو عليه في هذه الدائرة. وأما الدائرة التي يسيطر عليها فهي الدائرة التي يسير فيها مختاراً ضمن النظام الذي يختاره، سواء شريعة الله أو غيرها. وهذه الدائرة هي التي تقع فيها الأعمال التي تصدر من الإنسان أو عليه بإرادته، فهو يمشي ويأكل ويشرب ويسافر في أي وقت يشاء، ويمتنع عن ذلك في أي وقت يشاء: يفعل مختاراً، ويمتنع عن الفعل مختاراً، ولذلك يسأل عن الأعمال التي يقوم بها ضمن هذه الدائرة.
وهو - أي الإنسان - يحب أشياء تقع منه أو عليه في الدائرة التي يسيطر عليها والدائرة التي تسيطر عليه، ويكره أشياء فيهما، فيحاول أن يفسر هذا الحب وهذه الكراهية بالخير والشر، ويميل لأن يطلق على ما يحب أنه الخير، وعلى ما يكره أنه الشر. وكذلك أطلق على أفعال أنّها خير وعلى أفعال أخرى أنّها شر على أساس ما أصابه منها من نفع، أو ما لحقه منها من ضرر.(1/18)
والحقيقة أن الأعمال التي تقع من الإنسان في دائرته لا توصف بأنها خير أو شر لذاتها، لأنّها مجرد أفعال فقط ليس لها وصف الخير أو الشر باعتبار ذاتها، وإنّما جاء كونها خيراً أو شراً بناء على اعتبارات خارجة عن ذات الأعمال، فقتل النفس الإنسانية لا يسمى خيراً ولا شراً، وإنما يسمى قتلاً فقط. وكونه خيراً أو شراً إنّما جاء من وصف خارج عنه. ولذلك كان قتل المحارب خيراً وقتل المواطن أو المعاهد أو المستأمن شراً، فيكافأ القاتل الأول، ويعاقب القاتل الثاني، مع أنهما عمل واحد ليس فيه تمييز. وإنّما الخير والشر آت من العوامل التي تسير الإنسان للقيام بالعمل والغاية التي يهدف إليها من القيام به. فالعوامل التي سيرت الإنسان للعمل والغاية التي يهدف إليها هما اللذان عيّنا وصف العمل بالخير والشر، سواء أحب الإنسان أو كره، وسواء أصابه منه نفع أو ضرر.
وعلى هذا كان لزاماً أن تبحث العوامل المسيرة للإنسان للقيام بالعمل وأن تبحث الغاية التي يهدف إليها، فيفهم حينئذ متى يوصف العمل بالخير أو الشر. ومعرفة العوامل المسيرة والغاية التي يسعى إليها تتوقف على نوع العقيدة التي يعتقدها الإنسان. فالمسلم الذي يؤمن بالله ويؤمن بأنه أرسل سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشريعة الإسلام التي تبين أوامر الله ونواهيه وتنظم علاقته بربه وبنفسه وبغيره: هذا المسلم يجب أن تسيره في أعماله أوامر الله ونواهيه، وتكون الغاية التي يهدف إليها من هذا التسيير نوال رضوان الله. ولهذا كان العمل موصوفاً بأنه يغضب الله أو يرضيه، فإن كان مما يغضب الله لمخالفته لأوامره وإتباع نواهيه فهو شر، وإن كان مما يرضي الله بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه فهو خير.
وعلى ذلك نستطيع أن نقول: إن الخير في نظر المسلم ما أرضى الله والشر هو ما أسخطه.
وهذا ينطبق على الأفعال التي تحصل من الإنسان أو عليه في الدائرة التي يسيطر عليها.(1/19)
أما الأفعال التي تحصل من الإنسان أو عليه في الدائرة التي تسيطر عليه فإن الإنسان يصفها بالخير أو الشر تبعاً لمحبته وكراهيته، أو نفعه وضرره: { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } ، { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8) } لكن هذا الوصف لا يعني أنه وصف لها في حقيقتها، فقد يرى شيئاً خيراً وهو شر، وقد يراه شراً وهو خير: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } .(1/20)
والنظرة العميقة المستنيرة لأعمال الإنسان تُري أنّها مادة فقط باعتبار ذاتها مجردة عن كل ملابساتها واعتباراتها. وكونها مادة لا توصف بالحسن أو القبح لذاتها، وإنّما توصف بذلك من قبل ملابسات خارجة عنها، واعتبارات آتية من غيرها. وهذا الغير الذي يبين الفعل من كونه حسناً أو قبيحاً إما أن يكون العقلَ وحده، أو الشرعَ وحده، وإما أن يكون العقلَ، والشرعُ دليل عليه، أو الشرعَ، والعقلُ دليل عليه. أما وصفها من ناحية العقل وحده فباطل؛ لأنّ العقل عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض، إذ قياسات العقل للحسن والقبح تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها بل تتفاوت وتختلف بالعصور على تعاقبها، فإذا ترك قياس القبح والحسن للعقل كان الشيء قبيحاً عند فئة من النّاس وحسناً عند آخرين، بل قد يكون الشيء الواحد حسناً في عصر، قبيحاً في عصر آخر. والإسلام بوصفه المبدأ العالمي الخالد يقضي أن يكون وصف الفعل بالقبح أو الحسن سارياً على جميع بني الإنسان في جميع العصور. ولذلك كان لا بد أن يكون بيان الفعل من كونه حسناً أو قبيحاً آتياً من قوة وراء العقل، فكان لا بد أن يكون آتياً من قبل الشرع، لذلك كان وصف الفعل الإنساني بالقبح أو الحسن آتياً من قبل الشرع. ومن هنا كان الغدر قبيحاً، وكان الوفاء حسناً، وكان الفسق قبيحاً، وكانت التقوى حسنة، وكان الخروج على الدولة الإسلامية قبيحاً، وكان تصحيح اعوجاجها إذا انحرفت فعلاً حسناً، لأنّ الشرع بيّن ذلك. أما جعل الشرع دليلاً على ما دلّ عليه العقل فهو يقضي بجعل العقل حكماً في الحسن والقبح، وقد بينّا بطلانه، وأما جعل العقل دليلاً على ما دلّ عليه الشرع فهو يقضي بجعل العقل دليلاً على الحكم الشرعي مع أن الحكم الشرعي دليله النص وليس العقل، ومهمة العقل هي فهم الحكم الشرعي لا جعله دليلاً عليه. ومن هنا كان الحسن والقبح شرعيين فقط وليسا عقليين.(1/21)
والفرق بين وصف الأفعال بالخير والشر وبين وصفها بالحسن والقبح أن وصفها بالخير والشر إنّما هو من حيث أثرها في نظر الإنسان، ومن حيث الإقدام عليها والإحجام عنها، فالإنسان أطلق على ما يضره أو ما يكرهه من الأفعال بأنه شر، وأطلق على ما ينفعه وما يحبه من الأفعال بأنه خير من أثر ذلك عليه بغض النظر عن الحسن والقبح فإنه ليس وارداً عنده في هذه الحالة، وبناء على هذه النظرة يقدم على الفعل ويحجم عنه، فجاء التصحيح لهذه النظرة بأن الفعل لا يقال إنه خير أو شر حسب الكراهية والحب أو النفع والضر، وإنّما قياس كونه خيراً أو شراً هو مرضاة الله تعالى. فهنا البحث من حيث مقياس الخير والشر الذي تعارف النّاس عليه وليس من حيث الفعل نفسه.(1/22)
أما وصف الأفعال بالحسن والقبح فإنه من حيث الحكم عليها من قبل الإنسان ومن حيث العقاب والثواب عليها، فالإنسان أعطى نفسه صلاحية الحكم على الفعل بأنه حسن أو قبيح قياساً على الأشياء، فإنه لما وجد أنه استطاع أن يحكم على الشيء المر بأنه قبيح وعلى الشيء الحلو بأنه حسن، وعلى الشكل البشع بأنه قبيح وعلى الشكل الجميل بأنه حسن رأى أنه يستطيع الحكم على الصدق بأنه حسن وعلى الكذب بأنه قبيح وعلى الوفاء بأنه حسن وعلى الغدر بأنه قبيح، فأعطى نفسه صلاحية الحكم على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة بغض النظر عن موضوع الخير والشر فإنه ليس وارداً عنده في هذه الحالة، وبناء على حكمه هذا وضع العقوبات على الفعل القبيح ووضع المكافآت على الفعل الحسن. فجاء التصحيح لهذا الحكم بأن الفعل لا يقاس على الشيء، فإن الشيء يدرك الحس فيه المرارة والحلاوة والبشاعة والجمال فيمكنه أن يحكم عليه، بخلاف الفعل فإنه لا يُوجَد فيه شيء يحسه الإنسان حتى يحكم عليه هو بالقبح أو الحسن، فلا يتأتى أن يحكم عليه بالحسن أو القبح مطلقاً من نفس الفعل، فلا بد أن يأخذ هذا الحكم من غيره وهو الله تعالى. فهنا البحث من حيث الحكم على الفعل وليس من حيث مقياسه وهنا البحث من حيث العقوبات على الأفعال والإثابة عليها وليس من حيث الإقدام عليها والإحجام عنها، ولذلك كان هناك فرق بين الخير والشر وبين الحسن والقبح، وكانا بحثين منفصلين تماماً.
هذا بالنسبة لوصف الأعمال. أما بالنسبة للقصد من العمل فإنه لا بدّ أن يكون لكل عامل قصد قد قام بالعمل من أجله. وهذا القصد هو قيمة العمل. ولذلك كان حتماً أن تكون لكل عمل قيمة يراعي الإنسان تحقيقها حين القيام بالعمل، وإلا كان مجرد عبث. ولا ينبغي للإنسان أن يقوم بأعماله عبثاً من غير قصد، بل لا بد أن يراعي تحقيق قيم الأعمال التي قصد القيام بالعمل من أجلها.(1/23)
وقيمة العمل إما أن تكون قيمة مادية، كالأعمال التجارية والزراعية والصناعية ونحوها، فإن المقصود من القيام بهذه الأعمال هو إيجاد فوائد مادية منها، وهي الربح، وهي قيمة لها شأنها في الحياة، وإما أن تكون قيمة العمل إنسانية كإنقاذ الغرقى وإغاثة الملهوفين، فإن المقصود منها إنقاذ الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه أو أي اعتبار آخر غير الإنسانية، وإما أن تكون قيمة العمل خُلُقية، كالصدق والأمانة والرحمة، فإن المقصود منها الناحية الخُلقية بغض النظر عن الفوائد وبغض النظر عن الإنسانية، إذ قد يكون الخُلق مع غير الإنسان، كالرفق بالحيوان والطير، وقد تحصل من العمل الخُلقي خسارة مادية، ولكن تحقيق قيمته واجبة، ألا وهي الناحية الخُلقية. وإما أن تكون قيمة العمل روحية كالعبادات، فإنه ليس المقصود منها الفوائد المادية، ولا النواحي الإنسانية ولا المسائل الخلقية، بل المقصود منها مجرد العبادة، ولذلك يجب أن يراعى تحقيق قيمتها الروحية فحسب بغض النظر عن سائر القيم.
هذه هي القيم للأعمال جميعها، وهي التي يعمل لتحقيقها الإنسانُ عند القيام بكل عمل من أعماله.
وقياس المجتمعات الإنسانية في حياتها الدنيوية إنّما يكون حسب هذه القيم، ويكون بقدر ما يتحقق منها في المجتمع، وما يضمن تحقيقها من رفاهية وطمأنينة. ولذلك كان على المسلم أن يبذل وسعه لتحقيق القيمة المقصودة من كل عمل يقوم به حين أداء هذا العمل ومباشرته، حتى يساهم في رفاهية المجتمع ورفعته، ويضمن - في الوقت نفسه - رفاهية نفسه وطمأنينتها.(1/24)
وهذه القيم ليست متفاضلة ولا متساوية لذاتها، لأنّه لا توجد بينها خصائص تتخذ قاعدة لمساواتها ببعضها أو تفضيل بعضها على بعض، وإنّما هي نتائج قصدها الإنسان حين القيام بالعمل. ولذلك لا يمكن وضعها في ميزان واحد، ولا تقاس بمعيار واحد، لأنّها متخالفة إن لم تكن متناقضة. غير أن الإنسان من شأنه أن يفاضل بين القيم ليختار أفضلها، وإن لم تكن متفاضلة، ولا متساوية، إلاّ أن الإنسان لا يرضى بذلك بل يفاضل ويساوي بينها. وهذه المفاضلة والمساواة لا تكون بناء على نفس القيمة، بل بناء على ما يصيبه هو منها، وعلى ذلك بنى الإنسان التفاضل والتساوي بين القيم على نفسه، وما تجره هذه القيم له من نفع أو ضر. ولذلك يجعل نفسه المقياس أو يجعل الأثر الذي يصيب ذاته من هذه القيم هو المقياس، فتكون في الحقيقة مفاضلة بين آثار هذه القيم في نفسه لا بين القيم ذاتها. وبما أن استعدادات بني الإنسان تختلف بالنسبة لآثار القيم، لذلك تختلف مفاضلتهم بينها.
فالأشخاص الذين تتغلب عليهم المشاعر الروحية ويملكهم الميل لها ويهملون القيمة المادية يفضلون القيمة الروحية على القيمة المادية، فينصرفون للعبادات ويزهدون في المادة. ولذلك يعطلون الحياة لأنّها مادة، ويسببون تأخرها المادي، وينخفض بسببهم مستوى المجتمع الذي يعيشون فيه، بما يشيع فيه من كسل وخمول.
والأشخاص الذين تتغلب عليهم الميول المادية وتملكهم الشهوات ويهملون القيمة الروحية يفضلون القيمة المادية وينصرفون لتحقيقها. ولذلك تتعدد عندهم المثل العليا، ويضطرب بسببهم المجتمع الذي يعيشون فيه، ويشيع فيه الشر والفساد.
ولهذا كان من الخطأ أن يترك للإنسان تقدير هذه القيم، بل يجب أن تقدر القيم من قبل خالق الإنسان وهو الله. ولذلك كان لا بد أن يكون الشرع هو الذي يحدد للإنسان هذه القيم ويحدد وقت القيام بها، وبحسبها يأخذها الإنسان.(1/25)
وقد بيّن الشرع معالجات مشاكل الحياة بأوامر الله ونواهيه، وألزم الإنسان بالسير في هذه الحياة حسب هذه الأوامر والنواهي، كما بيّن الأعمال التي تحقق القيمة الروحية، وهي العبادات التي أوجبها وسنها. كما بيّن الصفات التي تحقق القيمة الخلقية. وترك للإنسان أن يحقق القيمة المادية التي تلزمه ليسد بها ضروراته وحاجاته، وما هو فوق الضروريات والحاجات، وَفق نظام مخصوص بينه له، وأمره أن لا يحيد عنه. وما على الإنسان إلاّ أن يعمل لتحقيق هذه القيم وَفق أوامر الله ونواهيه، وأن يقدرها بالقدر الذي بينه الشرع.
وبذلك تتحقق في المجتمع القيم بالقدر الذي يلزمه كمجتمع معين. ويقاس هذا المجتمع بمقاييسها. وعلى هذا الأساس يجب أن يعمل لتحقيق القيم، ليوجد المجتمع الإسلامي حسب وجهة نظر الإسلام في الحياة.(1/26)
وعلى ذلك فإن العمل الإنساني مادة يقوم به الإنسان قياماً مادياً إلاّ أنه حين يقوم به يدرك صلته بالله من كون هذا العمل حلالاً أو حراماً، فيقوم به أو يمتنع عنه على هذا الأساس، وهذا الإدراك من الإنسان لصلته بالله هو الروح. وهو الذي يجبر الإنسان أن يعرف شرع الله ليميز أعماله، فيفهم الخير من الشر حين يعرف ما يرضي الله من الأعمال وما يسخطه، ويميز القبيح من الحسن حين يعيّن له الشرع الفعل الحسن والفعل القبيح، وليرى القيم التي تلزم للحياة الإسلامية في المجتمع الإسلامي حسب ما يعيّنها الشرع. وبهذا يمكنه حين يقوم بالعمل ويدرك صلته بالله أن يقدم على العمل أو يحجم عنه حسب هذا الإدراك، لأنّه يعلم نوع العمل ووصفه وقيمته. ومن هنا كانت فلسفة الإسلام مزج المادة بالروح أي جعل الأعمال مسيرة بأوامر الله ونواهيه. وكانت هذه الفلسفة دائمية لازمة لكل عمل مهما قلّ أو كثر، دقّ أو جلّ. وكانت هي تصوير الحياة، ولما كانت العقيدة الإسلامية هي أساس الحياة، وهي أساس الفلسفة، وهي أساس الأنظمة، كانت الحضارة الإسلامية - التي هي مجموع المفاهيم عن الحياة من وجهة نظر الإسلام - مبنية على أساس واحد روحي، هو العقيدة، وكان تصويرها للحياة هو مزح المادة بالروح، وكان معنى السعادة في نظرها هو رضوان الله.
وإذا كانت العقيدة التي تحل العقدة الكبرى هي أساس أعمال الإنسان، وهي التي تتركز عليها وجهة النظر في الحياة والفلسفة هي التي تضبط هذه الأعمال، فإن الأنظمة التي تنبثق عن العقيدة هي التي تعالج مشاكل الإنسان وتنظم أعماله تنظيماً دقيقاً. ولذلك كان تطبيقها هو جزءاً مهماً من مقياس اعتبار الدار دار كفر أو دار إسلام.(1/27)
فالدار التي تطبق فيها أنظمة الإسلام ويحكم فيها بما أنزل الله، ويكون أمانها بأمان الإسلام تكون دار إسلام ولو كان أكثر أهلها من غير المسلمين، والدار التي لا يتوفر فيها هذان الأمران تكون دار كفر ولو كان أكثر أهلها من المسلمين، ومن هنا كان المعول - بعد العقيدة - على أنظمة الإسلام وعلى تطبيقها في معترك الحياة، لأنّ تطبيق هذه الأنظمة مع العقيدة يُكوّن في الأمّة العقلية الإسلامية، والنفسية الإسلامية، تكويناً طبيعياً، ويجعل المسلم شخصية سامية متميزة.
وقد نظر الإسلام إلى الإنسان على أنه كل لا يتجزأ، ونظّم أعماله بأحكام شرعية تنظيماً واحداً متسقاً، مهما تعددت هذه الأعمال وتنوعت. وهذه الأحكام الشرعية هي الأنظمة الإسلامية التي تعالج مشاكل الإنسان، إلاّ أنّها حين تعالج مشاكله تعالجها على اعتبار أن كل مشكلة تحتاج إلى حلّ أي باعتبار أنّها مسألة تحتاج إلى حكم شرعي. أي يعالج المشاكل كلها معالجة واحدة بوصفها مشكلة إنسانية لا بأي وصف آخر، فهو حين يعالج مشكلة اقتصادية كالنفقة مثلاً، أو مشكلة حكم كنصب خليفة، أو مشكلة اجتماع كالزواج، لا يعالجها بوصفها مشكلة اقتصادية أو بوصفها مشكلة حكم، أو مشكلة اجتماع بل يعالجها بوصفها مشكلة إنسانية فَيُستَنبط لها حلٌ، أي باعتبارها مسألة يستنبط لها حكم شرعي، وللإسلام طريقة واحدة في معالجة مشاكل الإنسان هي فهم المشكلة الحادثة واستنباط حكم الله فيها من الأدلة الشرعية التفصيلية.
والأنظمة الإسلامية أحكام شرعية تتعلق بالعبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات والمعاملات والعقوبات.(1/28)
فالأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات لا تعلل، قال عليه الصلاة والسلام: «حرّمت الخمرةُ لعينها» . وأما الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات والعقوبات فإنها تعلل، لأنّ الحكم الشرعي فيها مبني على علة كانت الباعث على تشريع الحكم. وقد اعتاد الكثيرون أن يعللوا جميع الأحكام بالنفعية، متأثرين بالقيادة الفكرية الغربية والحضارة الغربية التي تجعل النفعية البحتة أساساً لجميع الأعمال. وهذا يناقض القيادة الفكرية الإسلامية التي تجعل الروح أساساً لكل الأعمال، وتجعل مزجها مع المادة الضابط للأعمال. وعلى هذا فإن الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات لا تعلل مطلقاً، لأنّه لا علة لهذه الأحكام، وإنّما تؤخذ كما وردت بالنص ولا تبنى على علة مطلقاً، فالصلاة والصيام والحج والزكاة وكيفية الصلاة وعدد ركعاتها ومشاعر الحج وأنصبة الزكاة وما شاكل ذلك تؤخذ توقيفاً كما وردت، وتتلقى بالقبول والتسليم بغض النظر عن علتها، بل لا تلتمس لها علة. وكذلك تحريم الميتة ولحم الخنزير وغير ذلك لا تلتمس له علة أبداً، بل من الخطأ والخطر أن تلتمس علة له، لأنه لو التمست علة لأحكام هذه الأشياء لترتب على ذلك أنه لو زالت العلة لزال الحكم، لأنّ العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً.(1/29)
فلو فرضنا أن علة الوضوء النظافة، وعلة الصلاة الرياضة، وعلة الصوم الصحة... وهكذا، لترتب على ذلك أنه في حال عدم وجود العلة لا يُوجَد الحكم، مع أن الأمر ليس كذلك. ولهذا كان التماس العلة خطراً على الحكم، وعلى القيام به، فوجب أن تؤخذ أحكام العبادات كما هي دون التماس علة لها. وأما الحكمة فإن الله وحده هو الذي يعلمها، وعقلنا لا يمكنه إدراك حقيقة ذات الله، فلا يدرك حكمته. أما ما وردت به النصوص من حكم، كقوله تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وكقوله: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } وكقوله: { وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ(39) } وغير ذلك من حِكم نصت عليها النصوص، فإنه يقتصر فيها على النص وتؤخذ منه ولا يقاس عليه. وما لم يرد بحكمته نص لا تلتمس له حِكمة، كما لا تلتمس له علة.
هذا في العبادات، وأما الأخلاق فإنها قيمة جُعلت لها أحكام في بيان الفضائل والمكارم وأضدادها، كما جعلت من نتائج العبادات، ومما يجب أن يلاحظ في المعاملات، لأنّ الإسلام يهدف في تشريعه السير بالإنسان في طريق الكمال، حتى يصل إلى أعلى مرتبة يستطيعها، فيحرص على اتصافه بعليا الصفات ويحرص على بقاء الاتصاف بها. والخلق الحسن قيمة يراعى تحقيقها حين الاتصاف به، فهو خاص بالفضائل التي نص عليها الشرع، وتراعى قيمته حين القيام بهذه الفضائل وحين الاتصاف بها. والأخلاق جزء من الشريعة الإسلامية، وقسم من أوامر الله ونواهيه، لا بد من تحقيقها في نفس المسلم ليتم عمله بالإسلام ويكمل قيامه بأوامر الله ونواهيه.
والصفات الخُلقية لا يتصف بها المسلم لذاتها ولا لما فيها من منفعة، بل يتصف بها لأنّ الله أمر بها فقط لا لأي شيء آخر، فلا يتصف المسلم بالصدق لذات الصدق ولا لما فيه من منفعة، بل لأنّ الشرع أمر به.(1/30)
أما عدم اتصاف المسلم بالخُلق لذات الخُلق فيرجع إلى وصف الأفعال، فقد يكون الفعل الذي فعله الإنسان لذاته قبيحاً وهو يظنه حسناً فيقوم به، وقد تكون الصفة التي اتصف بها لذاتها صفة قبيحة وهو يظنها صفة حسنة فيتصف بها وهنا يقع الخطأ من قيام الإنسان بالأخلاق لذات الأخلاق. وما لم يعين الإسلام الصفات الحميدة والصفات الرديئة، ويقوم بها المسلم على أساس هذا البيان، لا يمكن أن يكون اتصافه بهذه الصفات متفقاً مع الأحكام الشرعية، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يتصف بالصدق لذات الصدق، ولا يرحم الضعيف لذات الرحمة، ولا يتصف بالأخلاق لذات الأخلاق، بل يتصف بها لأنّ الله أمر بها، إذ أن هذه الأخلاق إنّما تستند إلى العقيدة الإسلامية، وهذا هو الأمر الجوهري فيها. وهذا هو الذي يكفل تمكن الخلق من النفس، وبقاءه مطهِراً لها من كل دنس، ويجعلها بعيدة عن أن تتسرب إليها أسباب تفسدها. ولذلك كانت الوقاية للخلق، أن يقتصر فيه على ما ورد به النص، وأن يحصر في الأساس الروحي ويبنى على العقيدة الإسلامية.
وأما عدم اتصاف الإنسان بالخلق لما فيه من منفعة فهو يرجع إلى أن المنفعة ليست مقصودة من الخلق. ولا يجوز أن تكون مقصودة، لئلا تفسده ولئلا تجعله دائراً معها حيث دارت. والأخلاق صفات لا بد أن يتصف بها الإنسان طوعاً واختياراً بدافع تقوى الله. ولا يقوم المسلم بالأعمال الخلقية لأنّها تنفع أو تضر في الحياة، بل يقوم بها إجابة لأوامر الله ونواهيه. وهذا هو الذي يجعل الاتصاف بالخلق الحسن دائمياً وثابتاً: لا يدور حيث تدور المنفعة.
وهذه الأخلاق القائمة على تبادل المنفعة تجعل صاحبها منافقاً: يكون باطنه غير ظاهرة، لأنّ الخلق عنده بني على المنفعة، فيدور في نفسه حيثما تدور المنفعة، لأنّ الإنسان يدير الأحكام المعللة على عللها، ولا يعتقد بوجودها ولا بوجوبها إذا رأى أن علتها قد زالت.(1/31)
ولذلك كانت الأخلاق غير معللة، ولا يجوز أن تعلل، بل تؤخذ كما ورد بها الشرع بغض النظر عن أية علة من العلل. ومن الخطأ والخطر تعليل الأخلاق، حتى لا يبطل الاتصاف بها بزوال علتها.
ومن هنا يتبين أن المقصود من العبادات القيمة الروحية فقط، والمقصود من الأخلاق القيمة الخلقية فقط. ويجب أن يقتصر بها على هذه القيمة المقصودة منها دون غيرها. ولا يجوز بيان ما في العبادات والأخلاق من فوائد ومنافع، لأنّ هذا البيان خطر عليها يسبب النفاق في المتعبدين والمتخلقين، ويجر إلى ترك العبادات والأخلاق حين لا تظهر فوائدها ولا تبرز منافعها.
وأما الأحكام الشرعية المتعلقة بأعمال الإنسان في علاقته مع الإنسان فإن النصوص الواردة أدلة لها منها ما اشتمل على علة كقوله تعالى في إعطاء فيء بني النضير للمهاجرين دون الأنصار: { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } ومنها ما لم يشتمل على علة كقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فما ورد النص فيه من الأحكام معللاً فإنه يعلل ويقاس عليه، وما ورد النص فيه غير معلل لا يعلل مطلقاً وبالتالي لا يقاس عليه. والعلة المعتبرة إنّما هي العلة الشرعية أي التي دل عليها النص الشرعي من الكتاب والسنة لأنهما وحدهما النصوص الشرعية. ولذلك كانت العلة التي بني عليها الحكم الشرعي المعلل علة شرعية وليست علة عقلية، أي أنّها يجب أن تكون قد ورد بها النص إما صراحة أو دلالة أو استنباطاً أو قياساً، وهذه العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فتدور الأحكام مع عللها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لعلة شرعية فإذا زالت هذه العلة جاز هذا الشيء، فالحكم الشرعي يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإذا وجدت العلة وجد الحكم وإذا عدمت العلة عدم الحكم.(1/32)
إلاّ أن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعني مطلقاً أن الحكم تغير بل الحكم الشرعي للمسألة هو هو لم يتغير وإنّما زال الحكم بزوال علته ويرجع الحكم برجوع علته.
وكون الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً لا يعني تغير هذه الأحكام بتغير الزمان والمكان، بدعوى أن جلب المصالح ودرء المفاسد هي علة للأحكام الشرعية وهذه تتغير بتغير الزمان والمكان فيتغير الحكم بتغيرها، وذلك لأنّ جلب المصالح ودرء المفاسد ليست علة للأحكام الشرعية مطلقاً، فإنه لم يرد أي نص يدل على أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة للأحكام الشرعية، ولا ورد أي نص يدل على أنّها علة لحكم معين، فلا تكون علة شرعية.
ثمّ إن العلة الشرعية إنّما دل عليها النص الشرعي فلا بد أن يُتقيد به وأن يوقف عند دلالته، وهو لم يدل لا على جلب مصلحة ولا على درء مفسدة، فتكون العلة الشرعية هي ما جاء به وليست جلب المصلحة ولا درء المفسدة، وهذا الذي جاء به النص لم يدلّ عليه الزمان والمكان، ولا دلّ عليه الفعل، وإنّما دلّ عليه النص الشرعي في بيان علة الحكم، وهذا النص لا يتغير مطلقاً فلا قيمة للزمان والمكان هنا كما أنه لا قيمة لجلب المصلحة ودرء المفسدة.
وعلى ذلك فإن الأحكام الشرعية لا تتغير بتغير الزمان والمكان بل الحكم الشرعي هو هو لا يتغير مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة.(1/33)
وأما تغير العرف والعادة عند النّاس فلا يؤثر في تغير الحكم، لأنّ العرف ليس علة للحكم ولا أصلاً له. فالعرف إما أن يكون مخالفاً للشرع أو غير مخالف، فإن كان مخالفاً للشرع فالشرع جاء لينسخه ويغيره، لأنّ من عمل الشريعة تغيير الأعراف والعادات الفاسدة، لأنّها هي التي تسبب فساد المجتمع. ولذلك لا تتخذ أصلاً للحكم الشرعي ولا علة له، ولا يتغير الحكم من أجلها. وإن كان غير مخالف للشرع يثبت الحكم بدليله وعلته الشرعية لا بهذا العرف، ولو لم يخالف الشرع. وعلى ذلك فلا تحكم العادة بالشرع، بل يحكم الشرع بالأعراف والعادات، وعليه فللأحكام الشرعية دليل هو النص ولها علة شرعية، وليس العرف والعادة من ذلك مطلقاً.
وأما صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان فهي آتية من جهة أن الشريعة الإسلامية تعالج مشاكل الإنسان في جميع الأزمنة والأمكنة بأحكامها، وتتسع لمعالجة مشاكل الإنسان كافّة مهما تجددت وتنوعت، لأنّها حين تعالج مشاكل الإنسان إنّما تعالجه بوصفه إنساناً لا بأي وصف آخر.(1/34)
والإنسان في كل زمان ومكان هو الإنسان في غرائزه وحاجاته العضوية لا يتغير أبداً، فكذلك أحكام معالجاته لا تتغير، والمتغير هو أشكال حياة الإنسان، وهذه لا تؤثر في وجهة نظره في الحياة. أما ما يتجدد من مطالب متعددة للإنسان فهو ناجم عن تلك الغرائز والحاجات العضوية، وقد جاءت الشريعة واسعة لمعالجة هذه المطالب المتجددة والمتعددة مهما تنوعت ومهما تغيرت أشكالها. وقد كان ذلك سبباً من أسباب نمو الفقه. إلاّ أن هذه السعة في الشريعة لا تعني أنها مرنة بحيث تكون منطبقة على كل شيء ولو ناقضها، ولا تعني أنّها متطورة بحيث تتبدل مع الزمن، بل يعني اتساع النصوص لاستنباط أحكام متعددة، ويعني اتساع الأحكام لانطباقها على مسائل كثيرة، فمثلاً يقول الله تعالى: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فإن هذه الآية يستنبط منها حكم شرعي هو أن المطلقة تستحق أجرة الرضاع، ويستنبط منها حكم شرعي أيضاً أن الأجير أياً كان يستحق الأجرة إذا قام بعمله، سواء أكان أجيراً خاصاً أم أجيراً عاماً. وهذا الحكم ينطبق على مسائل عديدة منها أن موظف الحكومة، والعامل في المصنع، والفلاح في المزرعة، ومن شاكلهم يستحق كل منهم أجرته إذا أتم عمله، لأنّه أجير خاص. وأن النجار الذي عمل الخزانة، والخياط الذي خاط الثوب، والحذّاء الذي صنع الحذاء ومن شاكلهم يستحق كل منهم أجرته إذا قام بعمله لأنّه أجير عام. وبما أن الإجارة عقد بين مستأجر وأجير فإنه لا يدخل فيها الحاكم، لأنّه غير أجير عند الأمّة، وإنّما هو منفذ للأحكام الشرعية، أي مطبق للإسلام، وعلى ذلك لا يستحق الخليفة أجرة على قيامه بعمله، لأنّه بويع لتنفيذ الشرع وحمل الدعوة الإسلامية فهو ليس أجيراً عند الأمّة، وكذلك معاونوه أعضاء الهيئة التنفيذية والولاة لا يستحقون أجرة على القيام بعملهم لأنّ أعمالهم حكم فهم ليسوا أجراء، ولذلك لا يأخذون أجرة وإنّما يقدر لهم مقدار ما يقوم بحاجاتهم(1/35)
لانشغالهم عن القيام بأمورهم الخاصة.
فهذا الاتساع بالنصوص لاستنباط أحكام متعددة، والاتساع بالأحكام لانطباقها على مسائل كثيرة، هو الذي جعل الشريعة الإسلامية وافية بمعالجة مشاكل الحياة كافة في كل زمان ومكان وكل أمّة وجيل وهو ليس مرونة ولا تطوراً.
ودليل الحكم الشرعي من النص كتاباً كان أو سنة إنّما هو لمعالجة المشكلة القائمة، لأنّ الشارع قصد اتباع المعاني لا الوقوف على النصوص، ولذلك يراعى في استنباط الأحكام وجه العلة من الحكم، أي تراعى في النص حين استنباط الحكم من الناحية التشريعية.
والدليل إما أن يكون مشتملاً على علة الحكم أو تؤخذ العلة من دليل آخر أو من مجموع أدلة، والحكم وإن كان يُستنبط من دليله لكن يراعى فيه وجهُ العلة ولا تلتزم فيه الصورة الواردة في النص التي جاءت لمعالجة المشكلة التي كانت قائمة، مثال ذلك قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } فالحكم هو إعداد القوة، والمشكلة التي كانت قائمة تعالج بإعداد القوة ومنها رباط الخيل، ووجه العلة من الحكم هو إرهاب العدو. فحين نستنبط اليوم من هذا الدليل حكم الإعداد نراعي وجه العلة من الحكم فنعد ما يحقق إرهاب العدو، ولا نلتزم ما عولجت به المشكلة التي كانت قائمة، بما ورد في النص من رباط الخيل.
وهكذا يعمل في كل دليل يستنبط منه حكم لأنّ المراد تحقيق وجه العلة من الحكم. وعلى ذلك فالشرع الإسلامي يقضي في الأحكام المتعلقة بين النّاس في المعاملات أن تبنى على عللها وأن تراعى في النصوص عند استنباط الأحكام منها الناحيةُ التشريعيةُ لا الصورة الواردة في النص.(1/36)
وكما يكون نص الكتاب والسنة دليلاً شرعياً على الحكم فكذلك إجماع الصحابة والقياس يعتبران من الأدلة الشرعية. وعلى ذلك فالأدلة الشرعية الإجمالية للأحكام الشرعية هي الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس، وأما مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد فلا يكون دليلاً شرعيا لأنّ الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه، على أن الصحابة اختلفوا في مسائل وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر، فلو جُعل مذهب الصحابي حجة لكانت حجج الله مختلفة متناقضة.
وبذلك لا يعتبر مذهب الصحابي دليلاً شرعياً وإنّما هو كباقي المذاهب المعتبرة يجوز الأخذ به. أما ما اتفق عليه الصحابة من أحكام فهو ليس مذهباً لهم وإنّما هو الإجماع.(1/37)
وأما شرع من قبلنا فإنه لا يعتبر شرعاً لنا ولا يعتبر من الأدلة الشرعية. وإنه وإن كانت العقيدة الإسلامية توجب الإيمان بالأنبياء والرسل جميعهم وبالكتب التي أنزلت عليهم، لكن معنى الإيمان بهم هو التصديق بنبوتهم ورسالتهم وبما أنزل عليهم من كتاب، وليس معنى الإيمان بهم اتباعهم، لأنّه بعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام أصبح جميع النّاس مطالبين بترك أديانهم واعتناق الإسلام لأنّه لم يبق اعتبار لدين غير دين الإسلام، قال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وقال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وهذا صريح. وقد استنبط منه قاعدة: «شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا» والدليل على ذلك هو أن الصحابة أجمعوا على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع السالفة. ولأنّ الله تعالى يقول: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } أي مسيطراً ومسلطاً، وهيمنة القرآن على الكتب السالفة هي نسخ للشرائع السالفة. أي مصدقاً بها وناسخاً لها. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه رأى مع عمر بن الخطاب قطعة من التوراة ينظر فيها فغضب وقال: «ألم آت بها بيضاء نقية ولو أدركني أخي موسى لما وسعه إلاّ اتباعي»، على أن كثيراً من مشاعر الحج كالطواف حول الكعبة ولمس الحجر الأسود وتقبيله والسعي بين الصفا والمروة كانت في أيام الجاهلية، ونحن حين نعملها ونتعبد بها لا نقوم بها باعتبارها مشاعر لشريعة سابقة بل نقوم بها باعتبارها شريعة إسلامية، لأنّ الإسلام جاء بها أحكاماً شرعية جديدة، لا إقراراً بشريعة سابقة، وكذلك كل ما جاء في جميع الديانات السابقة لا نقوم به مطلقاً، ونقوم بما جاءت به الشريعة الإسلامية فقط. ولذلك كان النصراني واليهودي مخاطبين بشريعة الإسلام ومأمورين بترك شريعتهما، لأنّ(1/38)
الإسلام نسخ شريعتهما. فإذا كان ذلك واجباً على أتباع الشريعة اليهودية وهم اليهود والنصارى، فكيف يطلب من المسلم أن يتخذ شريعة من قبله شريعة له؟ وأما قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ } فإن المراد أنه أوحى إليه كما أوحى إلى غيره من النبيين وقوله تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } معناه شرع أصل التوحيد وهو ما وصى به نوحاً. وقوله تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } معناه اتبع أصل التوحيد لأنّ الملة معناها أصل التوحيد. والمراد بجميع هذه الآيات وما شابهها بيان أنه عليه الصلاة والسلام ليس بدعاً من الرسل بل أرسل كما أرسل غيره، وأن أصل التوحيد هو الدين وهو ما اشترك به جميع الأنبياء والرسل، أما ما عدا ذلك فكل رسول أرسل بدين، قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } .
وعلى ذلك فإن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا ولا يعتبر من الأدلة الشرعية التي تُستنبط منها الأحكام.
والأصل في استنباط الأحكام أن يكون للمجتهدين لأنّ معرفة حكم الله في المسألة لا تكون إلاّ بالاجتهاد، ولذلك كان لا بد من الاجتهاد. وقد نص علماء الأصول على أن الاجتهاد فرض كفاية على المسلمين ولا يجوز أن يخلو عصر من الأعصار من مجتهد، وإذا اتفق الكل على ترك الاجتهاد أثموا، وذلك لأنّ طريق معرفة الأحكام الشرعية إنّما هو الاجتهاد، فلو خلا العصر من مجتهد يمكن الاستناد إليه في معرفة الأحكام أفضى ذلك إلى تعطيل الشريعة واندراس الأحكام وذلك لا يجوز. إلاّ أن للاجتهاد شروطاً فصلها علماء الأصول وهو يحتاج إلى اطلاع واسع وفهم صحيح للنصوص ومعرفة كافية للغة العربية. ويحتاج إلى فقه بالمسائل الشرعية ووقوف على أدلتها.(1/39)
ولذلك لا يسمى أخذ الحكم دون روية ولا إنعام نظر استنباطاً، كما لا يسمى مجرد ظهور مصلحة في حكم ما ثمّ الاحتيال على النصوص وتحميلها ما لا يقصد منها لاستنباط هذا الحكم اجتهاداً، بل ذلك جرأة على دين الله يستحق المقدِم عليها العذاب من الله.
نعم إن باب الاجتهاد مفتوح ولكنه مفتوح للعلماء لا للجهلاء. والمجتهدون ثلاثة: مجتهد مطلق، ومجتهد مذهب، وهذان النوعان لهما شروط خاصّة. وأما الثالث فهو مجتهد المسألة الواحدة. وهو القادر على فهم النص وتتبع المسألة الواحدة ودليلها ودليل المجتهدين فيها. وهو لازم لكل مسلم يريد أن يعرف أحكام الله. فإن الشرع جعل الأصل في المسلم أن يأخذ بنفسه الحكم من الدليل، أي أن يكون مجتهداً في الدين في المسائل التي تلزمه.
ولكن بعد تدوين مذاهب المجتهدين وتركيز القواعد والأحكام ضعفت فكرة الاجتهاد في النفوس وقل المجتهدون فغلب على المسلمين التقليد وندر فيهم الاجتهاد، حتى وصل طغيان فكرة التقليد أن وجد من يقول بإقفال باب الاجتهاد وبوجوب التقليد، ومن أجل ذلك صارت الأكثرية الساحقة في المسلمين إن لم يكن كلهم من المقلدين.(1/40)
والمقلد فريقان: متبع وعامي، والفرق بين المتبع والعامي أن المتبع يأخذ الحكم الذي استنبطه أحد المجتهدين بعد اقتناعه بالدليل الذي استند إليه ولا يتبعه دون أن يعرف دليله، وأما العامي فهو الذي يقلد المجتهد بالحكم الشرعي دون أن يبحث عن الدليل. والمتبع أحسن حالاً من العامي وقد كان المتقدمون أكثرهم من المتبعين لعنايتهم بالأدلة، ولما جاء العصر الهابط وتعسر على النّاس الاتباع صاروا يقلدون الأئمة والمجتهدين بالأحكام من غير بحث عن الدليل، وقد شجعهم على ذلك سكوت العلماء ورضاهم بأن يكون الشخص عامياً ولو كان من المتعلمين، وإنّما سكت العلماء عن ذلك لأنّ التقليد من حيث هو جائز سواء أكان المقلد متبعاً أم عامياً، إلاّ أن الأصل في المسلم أن يأخذ الحكم من دليله، ولكنه يجوز له أن يقلد فيجوز له أن يكون متبعاً، أي يعرف الحكم ويعرف دليله ويقتنع به، وهذا يجعل المسلم أهلاً للاجتهاد ولو في المسألة الواحدة. وهذا يلزمنا في العصر الحاضر. وليست الفتاوى من باب الاجتهاد في المسألة الواحدة، لأنّها لا تدخل في الاجتهاد، بل هي أحطّ أنواع التأليف في الفقه، وذلك أنه أتى بعد عصر المجتهدين عصر تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم، وانصرف هؤلاء إلى شرح آراء المذهب وبيان قواعده وتركيز آرائه. ويعتبر هذا العصر هو العصر الزاهر للفقه ألفت فيه أمهات كتب الفقه في مختلف المذاهب. وهي التي تعتبر عمدة المراجعة للمسائل الفقهية. واستمر هذا حتى القرن السابع الهجري، ثمّ جاءت بعده عصور الانحطاط الفقهي وهي عصور الشروح والتحشية، وأكثرها خالٍ من الإبداع والاستنباط والاجتهاد حتى في المسألة الواحدة، ثمّ جاء بعد ذلك عصر أحط جاء فيه علماء جروا على طريقة سرد المسائل والأحكام دون إيراد وجوهها وفروعها، وسميت هذه المسائل بالفتاوى. ولذلك لا يصح أن تتخذ مرجعاً للأحكام كما لا يصح أن تتخذ هذه الفتاوى مرجعاً للأحكام الشرعية لبعدها عن طريقة الاجتهاد في(1/41)
استنباط الأحكام.
وكذلك لا يجوز أن تتخذ المراجع التي ألفت على طريقة التقنين التشريعي مرجعاً للأحكام الشرعية ومستنداً لها، لأنّها مظهر من مظاهر التقليد للقوانين الغربية، ولأنّ هذا التقنين يسير بشكل اختصار للفقه ويغلب عليها أخذ المسائل الفقهية التي ليس لها دليل أو ضعيفة الدليل، كما تغلب عليها روح مسايرة العصر والتأويل ليوافق وجهة نظر الغرب في حل المشاكل، فضلاً عن انعدام الناحية التشريعية وانعدام الاجتهاد فيها. فهي لا تصلح لأن تطبق كما لا تصلح لأن تكون مرجعاً. ووجودها كان وبالاً على الفقه والتشريع، لأنّها كانت محاولة تقليدية أضعفت معرفة النّاس بالفقه الإسلامي، مع أن الثروة الموجودة في الفقه الإسلامي غزيرة جداً. وهي أوسع الثروات الفقهية عند جميع الأمم. وهي ضرورية للقضاة والحكام، ولكن صوغها بشكل تقليدي على الصورة القانونية قد اختصرها ومسخها، وجعل القضاة جهلاء في الفقه حين يقتصرون على معرفة هذه القوانين، فضلاً عن أنّها تفقد الصوغ القانوني، لأنّها عبارة عن مجموعة نصوص فقهية لبعض الفقهاء أوردت تحت أرقام متسلسلة، ولم يحاول فيها إيجاد قواعد عامة تكون هي موضوع المواد، وتخضع لها المسائل، بل جعلت المسائل نفسها هي المواد. وهذا ما لا يتفق مع الصياغة القانونية، حتى أن ما جاء من بعض المواد في قواعد قد جاء بقواعد غير شاملة وما هي إلاّ تعاريف منقولة عن كتب الفقه وتكاد تكون جميعها على هذا المنوال. ولذلك لا يجوز أن تؤخذ هذه القوانين ولا تتخذ مرجعاً لفساد أسلوبها وضحالة معلوماتها وبعدها عن الأحكام الشرعية المعتبرة المستندة إلى الأدلة التفصيلية.
ولوضع الدستور والقوانين لضمان فقه القضاة والحكام لها تسلك في التشريع الطريق الآتية:(1/42)
1- أن تدرس المشاكل الإنسانية وأن يوضع دستور عام لها يكون بشكل قواعد كلية عامة أو أحكام شرعية كلية، وأن تكون مستمدة من الفقه الإسلامي، على أن تؤخذ إما من رأي مجتهد من المجتهدين مع معرفة أدلتها والاقتناع بها، وإما من الكتاب والسنة أو إجماع الصحابة أو بالقياس ولكن باجتهاد شرعي ولو اجتهاداً جزئياً وهو اجتهاد المسألة، وأن يشار في الأسباب الموجبة في كل مادة إلى المذهب الذي اعتمدت عليه ودليله أو إلى الدليل الذي استنبطت منه، وأن لا ينظر إلى الواقع السيئ عند المسلمين ولا إلى واقع الأمم الأخرى ولا إلى الأنظمة غير الإسلامية مطلقاً.
2- أن توضع الأحكام الشرعية مشاريع لقوانين العقوبات والحقوق والبينات وغيرها على الأساس السابق وَفق الدستور مع الإشارة للمذهب والدليل، على أن يكون الصَوغ قانونياً بقواعد عامة ليكون مرجعاً فقهياً للقضاة والحكام.
3- أن تجعل النصوص الشرعية والفقه الإسلامي وعلم أصول الفقه المرجع لتفسير الدستور والقانون للقضاة والحكام حتى تهيأ لهم وسائل الفهم العميق.
وليس للقاضي أن يحكم بما يخالف ما تبنته الدولة من أحكام شرعية لأنّ: «أمر الإمام نافذ ظاهراً وباطناً» وأما ما قد يرد عليه من قضايا لم تتبن الدولة لها أحكاماً فالقاضي يحكم بالحكم الشرعي الذي يجده منطبقاً على القضية سواء أكان هذا رأياً لمجتهد من المجتهدين أم رأياً استنبطه هو باجتهاده.
4- أن يلاحظ حين استنباط الأحكام وحين تبنيها فهم الواقع والفقه فيه وفهم الواجب في معالجة الواقع من الدليل الشرعي وهو فهم حكم الله الذي حكم به في هذا الواقع، ثمّ يطبق أحدهما على الآخر، وبعبارة أخرى أن يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله.(1/43)
وتنفذ الدولة الشرع الإسلامي على كل من يحمل التابعية، سواء من كان مسلماً أو غير مسلم. أما غير المسلمين فيتركون وما يعتقدون وما يعبدون، ويعاملون في أمور المطعومات والملبوسات حسب أديانهم ضمن النظام العام، وتفصل أمور الأحوال الشخصية بينهم كالزواج والطلاق مثلاً حسب أديانهم. وأما باقي أمور الشريعة الإسلامية من معاملات وعقوبات ومن نظمِ حكمٍ واقتصادٍ وغيرها فإنها تنفذ على الجميع، ويكون تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين سواء. وأما المسلمون فإن الدولة تنفذ عليهم الشرع الإسلامي جميعه من عبادات وأخلاق ومعاملات وعقوبات... الخ، وواجب الدولة أن تطبق الإسلام كاملاً، وأن تعتبر تطبيقه على غير المسلمين دعوة لهم إلى الإسلام، لأنّ الشرع عام لبني الإنسان، فتطبقه الدولة في أي بلاد تحكمها، لحمل الدعوة لها، لأنّ سر الفتوحات الإسلامية إنّما هو حمل دعوة الإسلام.(1/44)
والإسلام عقيدة ينبثق عنها نظام، وهذا النظام هو الأحكام الشرعية المستنبطة من الأدلة التفصيلية. وقد بيّن الإسلام في النظام الكيفية التي تنفذ بها أحكامه بأحكام شرعية. وهذه الأحكام الشرعية التي تبين كيفية التنفيذ هي الطريقة وما عداها هو الفكرة، ومن هنا كان الإسلام فكرة وطريقة. فالعقيدة والأحكام الشرعية التي تعالج مشاكل الإنسان هي الفكرة، والأحكام الشرعية التي تبين كيفية تنفيذ هذه المعالجات والمحافظة على العقيدة، وحمل الدعوة، هي الطريقة، ولهذا كانت طريقة الإسلام من جنس فكرته وكانت جزءاً منه. فلا يجوز أن يقتصر في الدعوة إلى الإسلام على بيان فكرته بل يجب أن تشمل الطريقة أيضاً. ولهذا كان المبدأ هو مجموع الفكرة والطريقة. والإيمان بالطريقة كالإيمان بالفكرة، فكان لزاماً أن تكون الطريقة مع الفكرة كلاً لا يتجزأ وأن تربطا معاً ربطاً محكماً بحيث لا تستعمل في تنفيذ الفكرة الإسلامية إلاّ الطريقة الإسلامية ويكون مجموعهما هو الإسلام الذي يحكم به وتحمل الدعوة له. وما دامت الطريقة موجودة في الشريعة فيجب أن يقتصر فيها على ما ورد به الشرع وما يستنبط من نصوصه. وكما وردت في الكتاب والسنة أحكام الفكرة كذلك وردت فيهما أحكام الطريقة، فقوله تعالى: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } من أحكام الطريقة، وكذلك قوله عليه السلام: «لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا» من أحكام الطريقة، وهكذا سائر أحكام الطريقة تستنبط بالاجتهاد من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس كسائر الأحكام. ولما كانت السنة مبينة للكتاب كانت الفكرة مجملة في الكتاب مفصلة في السنة، وكانت الطريقة كذلك مجملة في القرآن مفصلة في السنة. ولذلك كان لزاماً علينا أن نجعل نبراس الهدى سيدنا محمداً رسول الله، فنأخذ أحكام الطريقة من عمله الموجود في سيرته ومن قوله وسكوته كما نأخذها من القرآن لأنّ ذلك(1/45)
كله شريعة، ونجعل قدوتنا في فهم السيرة الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة، كما نجعل عقلنا الأداة الفعّالة للفهم والاستنباط حسب الوجه الشرعي.
والأحكام الشرعية التي تبين كيفية التنفيذ تدل على أعمال، فلا بد من القيام بهذه الأعمال، سواء منها ما يتعلق بالتطبيق وما يتعلق بحمل الدعوة. وليست هذه الأعمال وسائل لأنّ الوسيلة أداة تتخذ أثناء القيام بالعمل وتختلف باختلاف الأعمال، وتتغير حسب الظروف، ويقررها نوع العمل. ولذلك لا تلتزم فيها حال معينة، أما الأعمال التي تدل عليها الطريقة فإنها لا تتغير، بل يقام بها حسب دلالة النص، ولا يجوز أن يؤتى بعمل غير الذي بينه الشرع. ولا يقام بعمل في غير الموضع الذي بينه الحكم الشرعي.
والمدقق في هذه الأعمال التي دلت عليها الأحكام الشرعية المتعلقة بالطريقة يجد أنّها أعمال مادية تحقق نتائج محسوسة وليست هي أعمالاً تحقق نتائج غير محسوسة، حتى لو كان هذان النوعان من الأعمال يحققان قيمة واحدة. فمثلاً الدعاء عمل يحقق قيمة روحية، والجهاد عمل مادي يحقق قيمة روحية، لكن الدعاء وإن كان عملاً مادياً فإنه يحقق نتيجة غير محسوسة وهي الثواب، وإن كان قصد القائم بالدعاء تحقيق قيمة روحية، بخلاف الجهاد فإنه قتال الأعداء وهو عمل مادي يحقق نتيجة محسوسة وهي فتح الحصن أو المدينة أو قتل العدو وما شاكل ذلك، وإن كان قصد المجاهد هو تحقيق القيمة الروحية. ومن هنا كانت أعمال الطريقة أعمالاً مادية تحقق نتائج محسوسة وتختلف عن الأعمال الأخرى. ولذلك لا يتخذ الدعاء طريقة للجهاد وإن كان المجاهد يدعو الله، كما لا يتخذ الوعظ طريقة لردع السارق وإن كان يوعظ ويوجه. قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وقال تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .(1/46)
ولذلك ينكر كل الإنكار أن تكون جميع الأعمال التي يراد بها تنفيذ فكرة الإسلام أعمالاً تحقق نتيجة غير محسوسة ويعتبر ذلك مخالفاً لطريقة الإسلام، ولا فرق بين الأعمال التي تستعمل لتنفيذ الأحكام المتعلقة بمعالجة المشاكل وبين الأعمال التي تستعمل لحمل الدعوة الإسلامية، فمثلاً الصلاة تعتبر من الفكرة، وطريقة تنفيذها هي الدولة، فلا يجوز أن تتخذ الدولة التعليم والتوجيه فحسب طريقة لقيام النّاس بالصلاة، بل يجب أن تعاقِب تاركَ الصلاة عقاباً مادياً كالسجن مثلاً، وإن كانت تقوم بالتعليم والتوجيه. ومثل ذلك أيضاً حمل الدعوة الإسلامية فإنه فكرة، وطريقة تنفيذها من قبل الدولة الجهاد أي قتال الأعداء. فلا يجوز أن تستعمل قراءة صحيح البخاري في إزالة الحواجز المادية من أمامها، بل لا بد أن تستعمل الجهاد وهو قتال الأعداء قتالاً مادياً، وهكذا جميع الأعمال.
إلاّ أنه يجب أن يعلم أنه وإن كان العمل الذي دلت عليه الطريقة عملاً مادياً له نتائج محسوسة، لكن لا بد أن يسيّر هذا العمل بأوامر الله ونواهيه، وأن يقصد من تسييره بأوامر الله ونواهيه رضوان الله. كما أنه لا بد أن يسيطر على المسلم إدراكه لصلته بالله تعالى فيتقرب إليه بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن ونحوها، ويجب أن يعتقد المسلم أن النصر من عند الله. ولذلك كان لا بد من التقوى المتركزة في الصدور لتنفيذ أحكام الله، وكان لا بد من الدعاء ولا بد من ذكر الله، ولا بد من دوام الصلة بالله عند القيام بجميع الأعمال.(1/47)
هذا من ناحية الطريقة وكونها أحكاماً شرعية يجب أن نلتزم بها ولا نخالفها، ومن ناحية الأعمال وكونها أعمالاً تحقق نتائج محسوسة. أما من ناحية الوصول إلى نتائج فيجب أن تتبع القاعدة العملية، وهي أن يكون العمل مبنياً على الفكر، ويكون من أجل غاية معينة. وذلك أن الإحساس بالواقع مع المعلومات السابقة يجب أن ينتج فكراً، ويجب أن يقترن هذا الفكر بالعمل، وأن يكون الفكر والعمل من أجل غاية معينة، وأن يكون ذلك كله مبنياً على الإيمان حتى يبقى الإنسان سائراً في الجو الإيماني سيراً دائمياً. ولا يجوز مطلقاً أن يفصل العمل عن الفكر أو عن الغاية المعينة أو عن الإيمان، فإن في هذا الفصل - مهما قل - خطراً على العمل نفسه، وعلى نتائجه، وعلى استمراره، ولذلك كان لا بد أن تكون الغاية المعينة مفهومة وواضحة لكل من يحاول العمل حتى يبدأ به. وكان لزاماً أن يكون منطق الإحساس هو الأساس، أي أن يكون الفهم والتفكير ناجمين عن إحساس لا عن مجرد فروض لقضايا خيالية، وأن يكون الإحساس بالواقع مؤثراً في الدماغ، موجداً مع المعلومات السابقة الحركة الدماغية التي هي الفكر، وهذا هو الذي يحقق العمق في التفكير والإنتاج في العمل. ومنطق الإحساس يؤدي إلى الإحساس الفكري أي إلى الإحساس الذي يقويه عند الإنسان الفكر. ولهذا يكون إحساس حملة الدعوة مثلاً بعد تفهمها أقوى من إحساسهم قبل ذلك.(1/48)
ومن الخطر أن ينتقل من الإحساس إلى العمل رأساً لا إلى الفكر، لأنّ هذا لا يغير الواقع بل يجعل الإنسان واقعياً رجعياً: يسير في عقلية منخفضة، ويجعل الواقع مصدر التفكير لا موضع التفكير. فلا بد أن يؤدي الإحساس إلى الفكر أولاً، ثمّ يؤدي هذا الفكر إلى العمل. وهذا هو الذي يمكن من الارتفاع عن الواقع، ويمكن من العمل للانتقال إلى الأوضاع الحسنة انتقالاً انقلابياً. فالذي يحس بالواقع ثمّ يعمل، لا يعمل لتغيير الواقع بل يعمل لتكييف نفسه حسب الواقع، فيبقى متأخراً منحطاً. والذي يحس بالواقع ثمّ يفكر في كيفية تغييره، ثمّ يعمل بناء على هذا التفكير، هذا هو الذي يكيف الواقع حسب مبدئه ويغيره تغييراً كلياً. وهذا هو الذي يتفق مع الطريقة الانقلابية التي هي الطريقة الوحيدة لاستئناف الحياة الإسلامية، لأن هذه الطريقة تفرض أن يكون الفكر ناتجاً عن إحساس، وأن يتبلور هذا الفكر بحيث يرسم المخطوط الهندسي للفكرة والطريقة في الذهن، فيدرك الإنسان المبدأ إدراكاً صحيحاً يؤدي إلى العمل، حتى يكون الفكر قد حدث فيه انقلاب كامل، فيسير حينئذ في تهيئة الأشخاص والمجتمعات والأجواء بهذا الفكر، ليحدث انقلاباً في الرأي العام بعد أن يُوجد الوعي العام على المبدأ فكرة وطريقة، ثمّ يبدأ عن طريق الحكم في تطبيق المبدأ تطبيقاً انقلابياً دون قبول أي تدرج أو ترقيع. وهذه الطريقة الانقلابية توجب أن يكون الفكر ناتجاً عن إحساس، وأن يقترن بالعمل من أجل غاية معينة. ولا يؤدي إلى هذا إلاّ الفكر العميق.(1/49)
وهذا الفكر العميق يحتاج إلى ما يوجده، أو ينميه ويخصبه. وتحتاج الطريقة الانقلابية إلى إعداد الأشخاص بالمبدأ الإسلامي، وإلى إعداد المجتمع به. وإيجاد هذا الفكر العميق وإعداد الأشخاص بالمبدأ يقتضي درس الإسلام من قبل أولئك الذين يريدون العمل، ويقتضي كذلك درس المجتمع، ولا يتأتى ذلك إلاّ عن طريق تثقيف الذهن بالمعلومات. والدراسة أسهل الطرق وأقربها لإيصال هذه المعلومات للذهن لتساعد على إيجاد الفكر.
وللإسلام طريقة خاصّة في الدرس. واتباعها هو الذي ينتج الأثر لهذه الدراسة. تلك الطريقة هي أنه يجب أن تدرس المعلومات للعمل بها، وأن يتلقاها الدارس تلقياً فكرياً مؤثراً: يؤثر في مشاعره حتى يكون إحساسه بالحياة وتبعاتها إحساساً ناتجاً عن فكر مؤثر، حتى يُوجد في نفس الدارس التلهب والحماس والفكر وغزارة المعرفة في آن واحد ويصبح التطبيق نتيجة طبيعية. وهذه الطريقة في الدراسة فضلاً عن كونها تحدث الفهم عند الدارس، وتحدث فيه القدرة على أداء ما فهم بشكل مؤثر، فإنها توسع الفكر وتربط الفكر بالشعور، وتعلم الدارس الحقائق التي يعالج بها مشاكل الحياة. ولهذا يجب أن تتجنب الدراسة لمجرد العلم فقط، حتى لا يكون الدارس كتاباً يتحرك، وأن لا تكون مجرد مواعظ وإرشادات، وإلا كانت سطحية خالية من حرارة الإيمان. ويجب أن لا يعتبر الدارس للإسلام الدراسة مجرد علم ومواعظ، بل يعتبر كونها علماً ومواعظ خطراً على العمل والهاء وتخديراً عنه.
وللوصول إلى الغاية التي كان من أجلها العمل يجب أن يتصور أن هذه الغاية يحتاج الوصول إليها إلى الجد والاهتمام، والتقيد بالتزامات توجبها التبعة الحزبية بالإضافة إلى التزامات الإسلام.
وللإسلام التزامات معينة: سلبية وإيجابية.(1/50)
وهي ذات تكاليف مالية وجسدية ونفسية. وهذه الالتزامات منها ما هو فرض وواجب على كل واحد، ومنها ما هو فوق الفروض والواجبات، يقوم به اختياراً أولئك الذين لديهم السمو الروحي والعقلي، وهم الذين يريدون أن يزدادوا تقرباً من الله تعالى. والقيام بهذه الالتزامات لا بد منه للوصول إلى الغاية. ولذلك يجب أن توطد النفس وتجبر على القيام بالالتزامات المفروضة بجميع نواحيها: مالية وجسدية ونفسية، حتى يُوجَد الأمل بالوصول إلى الغاية.(1/51)
ولإنتاج العمل لا بد من تحديد المكان الذي يبدأ فيه، والجماعة التي يبدأ العمل بها. نعم إن الإسلام عالمي وهو ينظر إلى الإنسانية كلها، ويعتبر جميع بني الإنسان سواء، ولا يقيم وزناً لاختلاف البيئات والمناخ والتربة وما شاكل ذلك في الدعوة، بل يعتبر جميع بني الإنسان صالحين لاعتناق الدعوة، ويعتبر المسلمين مسؤولين عن تبليغ هذه الدعوة لجميع بني الإنسان، ولكنه مع ذلك لا يبدأ بالعالم لأنّ البدء به يعتبر عملاً مخفقاً ولا يؤدي إلى نتيجة مطلقاً، بل لا بد أن يكون البدء بالفرد، وأن يكون الانتهاء بالعالم. ولذلك وجب أن تحمل الدعوة في مكان تتركز فيه حتى يصبح نقطة ابتداء، ثمّ يؤخذ هو أو غيره من الأمكنة التي تركزت فيها الدعوة ويتخذ نقطة انطلاق تنطلق منها الدعوة في طريقها، ثمّ يتخذ هو أو غيره نقطة ارتكاز تقوم فيها الدولة التي تركز فيها الدعوة وتسير في طريقها الطبيعي: طريق الجهاد، غير أنه وإن كانت الأمكنة تتخذ موضع العمل في كل نقطة، إلاّ أن الذي ينتقل من نقطة إلى نقطة هو الدعوة وليس المكان، فتنتقل الدعوة في جميع الأمكنة التي تعمل فيها في آن واحد، وأنه وإن كان لزاماً أن يحدد المكان ليكون نقطة ابتداء ثمّ توجد نقطة الانطلاق ونقطة الارتكاز، إلاّ أن تحديد المكان في كل نقطة من هذه النقاط الثلاث ليس داخلاً في الدائرة التي يسيطر عليها الإنسان، لأنّه لا يملكه، ولا يستطيع أن يملكه، وإنّما هو داخل في الدائرة التي تسيطر على الإنسان. وما على الإنسان إلاّ أن يسير في الأعمال التي تدخل في الدائرة التي يسيطر عليها. وأما الأعمال التي في الدائرة الأخرى فتأتي حسب مشيئة الله وقضائه.(1/52)
وأما تعيين نقطة الابتداء فتكون - قطعاً - في المكان الذي يُوجَد فيه من تشرق في ذهنه اللمعة الأولى للدعوة، ويهيئه الله لحملها. وقد يتحسس عدة أشخاص بهذه الأحاسيس، ولكن الذي هيأه الله لحمل الدعوة لا يعرف حتى يُوجَد فتبدأ الدعوة في المكان الذي يكون فيه، ويكون ذلك المكان نقطة ابتداء.
أما نقطة الانطلاق فإنها تتوقف على استعداد المجتمعات، لأنّ المجتمعات تتفاوت في الأفكار والمشاعر والأنظمة، فالمكان الذي يكون فيه المجتمع أصلح والجو أوفق، يكون نقطة الانطلاق، وفي الغالب يكون المكان الذي كان نقطة ابتداء هو نقطة الانطلاق، وإن كان ذلك ليس ضرورياً لأنّ أصلح الأمكنة للانطلاق المكان الذي يكثر فيه الظلم السياسي والاقتصادي ويستفحل فيه الإلحاد والفساد.
وأما نقطة الارتكاز فإنها تتوقف كذلك على نجاح الدعوة في المجتمع، فالمكان الذي لم تؤثر الدعوة في مجتمعه، ولم تستطع أن توجد لنفسها أجواء، لا يصلح لأن يكون نقطة ارتكاز مهما كثر عدد الحاملين للمبدأ. والمكان الذي تهضم فيه الفكرة والطريقة من قبل المجتمع وتسيطر على أجوائه يصلح لأن يكون نقطة ارتكاز مهما كان عدد الحاملين للمبدأ.(1/53)
ولذلك لا يجوز لحملة الدعوة أن يقيسوا الدعوة بعدد الحاملين لها، فهذا القياس خطأ محض وخطر على الدعوة لأنّه يصرف حملة الدعوة عن المجتمع إلى الأشخاص، وهذا يسبب البطء، وربما سبب الإخفاق في ذلك المكان. والسر في ذلك هو أن المجتمع ليس مؤلفاً من أفراد كما يتوهم الكثيرون وإنّما الأفراد أجزاء في الجماعة والذي يجمع بين هؤلاء الأفراد في المجتمع أجزاء أخرى هي الأفكار والمشاعر والأنظمة. ولذلك تبعث الدعوة لتصحيح الأفكار والمشاعر والأنظمة، وهذه دعوة جماعية ودعوة للمجتمع لا للأفراد. وما إصلاح الأفراد إلاّ ليكونوا أجزاء في كتلة جماعية تحمل الدعوة إلى المجتمع. ولذلك يعتمد حملة الدعوة الفاهمون لحقيقتها على المجتمع لحمل الدعوة له، ويعتبرون أن إصلاح الفرد لا يمكن أن يصلح المجتمع بل لا يمكن أن يصلحه هو إصلاحاً دائمياً، وإنّما يكون إصلاح الفرد بإصلاح المجتمع، فمتى أصلح المجتمع أصلح الفرد. ولذلك يجب أن يوجه هم الدعوة إلى المجتمعات وأن تكون القاعدة (أصلح المجتمع يصلح الفرد ويستمر إصلاحه).(1/54)
على أن المجتمع يشبه الماء في القدر الكبير: إذا وضعت تحته أو حوله ما يسبب البرودة جمد الماء وتحول إلى جليد (ثلج) ، وكذلك إذا وضعت في المجتمع المبادئ الفاسدة جمد على الفساد وظل في التدهور والانحطاط، وإذا وضعت فيه المبادئ المتناقضة ظهرت فيه التناقضات، وظل المجتمع يتخبط في تناقضاته وميوعته، وإذا وضعت تحت القدر ناراً مشتعلة ملتهبة سخن الماء ثمّ غلى فصار بخاراً دافعاً محركاً. وكذلك إذا وضعت في المجتمع المبدأ الصحيح كان شعلة في المجتمع حولته حرارتها إلى غليان ثمّ إلى حركة واندفاع، فيطبق المبدأ ويحمل دعوته لغيره من المجتمعات، وأنه وإن كان تحول المجتمع من حال إلى حال مناقضة، أو بعبارة أخرى: انقلابه من حال إلى حال لا يشاهد، كما لا يشاهد تحول الماء في القدر، ولكن العليمين بالمجتمعات والواثقين من أن المبدأ الذي يحملونه نار ونور تحرق وتضيء يعلمون أنه في حال تحول، وأنه سيصل إلى درجة الغليان ثمّ درجة الحركة والدفع قطعاً، ولذلك يعنون بالمجتمعات.
ولهذا فإن المكان الذي يصلح لأن يكون ارتكازاً لا نعلمه، لأنّه يتوقف على استعداد المجتمع لا على قوة الدعوة فحسب، فإن الدعوة الإسلامية في مكة كانت قوية، ومع ذلك فإن مكة، وإن كانت نقطة ابتداء لها، وصلحت لأن تكون نقطة انطلاق فانطلقت فيها الدعوة، ولكنها لم تكن صالحة لأن تكون نقطة ارتكاز، وإنّما كانت نقطة الارتكاز في المدينة، ولذلك هاجر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اطمأن إلى مجتمعها، وأقام فيها الدولة التي انطلقت بقوة الدعوة إلى باقي أنحاء الجزيرة ثمّ إلى أنحاء الدنيا.(1/55)
ومن هنا نستطيع أن نقول إن حملة الدعوة لا يمكنهم أن يعلموا المكان الذي يصلح لأن يكون نقطة انطلاق، ولا المكان الذي يصلح لأن يكون نقطة ارتكاز، ولا يمكنهم معرفته مهما أوتوا من ذكاء وتحليل، وإنّما علم ذلك عند الله تعالى. ولهذا يجب أن يكون استناد حملة الدعوة إلى شيء واحد هو الإيمان بالله تعالى، وأن يكون كل عملهم متركزاً فقط على هذا الإيمان لا على غيره. وبالإيمان بالله لا بغيره يكون نجاح الدعوة.
والإيمان بالله يوجب صحة التوكل عليه، واستمداد العون منه، لأنّه وحده الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يوفق حملة الدعوة ويهديهم سبيل الرشاد وطريق الهدى. ولذلك كان لا بد من قوة الإيمان ولا بد من كمال التوكل على الله ودوام استمداد العون منه تعالى. والإيمان يحتم على المؤمن الإيمان بالمبدأ، أي الإيمان بالإسلام، لأنّه من عند الله تعالى. ويحتم أن يكون هذا الإيمان إيماناً راسخاً ثابتاً لا ارتياب فيه. ولا يحتمل أن يتطرق إليه ارتياب، لأنّ كل خطرة ريب في المبدأ تجر إلى الإخفاق، بل ربما جرت إلى الكفر والتمرد والعياذ بالله.(1/56)
وهذا الإيمان القوي الذي لا يتطرق إليه ريب أمر حتمي لحملة الدعوة، لأنّه هو الذي يضمن دوام سير الدعوة بخطى سريعة واسعة في طريقها المستقيم، وهذا الإيمان يوجب أن تكون الدعوة سافرة متحدية كل شيء، متحدية العادات والتقاليد، والأفكار السقيمة، والمفاهيم المغلوطة، متحدية حتى الرأي العام إذا كان خاطئاً، ولو تصدت لكفاحه، متحدية العقائد والأديان ولو تعرضت لتعصب أهلها. ولذلك تتميز الدعوة المبنية على العقيدة الإسلامية بالصراحة، والجرأة والقوة، والفكر، وتحدي كل ما يخالف الفكرة والطريقة، ومجابهته لبيان زيفه، بغض النظر عن النتائج، وعن الأوضاع، وبغض النظر عما إذا وافق المبدأ جمهور الشعب أو خالفه، قبل به النّاس أو رفضوه وقاوموه، ولذلك لا يتملق حامل الدعوة الشعب ولا يداهنه، ولا يداجي من بيدهم ثقل المجتمع من الحكام وغيرهم ولا يجاملهم، بل يتمسك بالمبدأ وحده دون أن يدخل في الحساب أي شيء سوى المبدأ.(1/57)
وهذا الإيمان يوجب أيضاً أن تجعل السيادة للمبدأ وحده أي للإسلام وحده دون سواه، وأن يعتبر غيره من المبادئ كفراً مهما تنوعت واختلفت تلك المبادئ: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } ، فكل من لا يؤمن بالإسلام كافر في نظر الإسلام، ولذلك لا يجوز مطلقاً لحاملي الدعوة الإسلامية أن يقولوا لمن يحملون غير الإسلام سواء أكان ديناً أم مبدأ: تمسكوا بمبدئكم ودينكم، بل يجب أن يدعوهم للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ليعتنقوه، لأنّ الدعوة تحتم على حملتها أن يعملوا لأن تكون السيادة للإسلام وحده، وليس معنى ترك غير المسلمين وما يدينون به وما يعتقدون إقراراً بأديانهم بل هو إجابة لأمر الله الذي أوجب عدم إكراه النّاس على اعتناق الإسلام، وأوجبَ ترك الأفراد وعقائدهم وأديانهم وعباداتهم على أن تبقى فردية لا جماعية وأن لا يكون لها كيان في داخل كيان الإسلام، ولذلك يمنع الإسلام وجود أحزاب أو تكتلات سياسية غير إسلامية تقوم على أساس يناقض الإسلام، ويسمح بالأحزاب والتكتلات داخل حدود الإسلام، وهكذا يقتضي الإيمان بالمبدأ إفراده وحده بالمجتمع، وأن لا يشترك معه سواه.(1/58)
والإيمان بالإسلام غير فهم أحكامه وتشريعاته، لأنّ الإيمان به ثبت عن طريق العقل، أو عن طريق ثبت أصلها بالعقل، ولذلك لا يتطرق إليه ارتياب. أما فهم أحكامه فلا يتوقف على العقل وحده وإنّما يتوقف على معرفة اللغة العربية ووجود قوة الاستنباط، ومعرفة الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، ولذلك كان على حملة الدعوة أن يعتبروا فهمهم للأحكام فهماً صواباً يحتمل الخطأ، وأن يعتبروا فهم غيرهم خطأ يحتمل الصواب، حتى يتسنى لهم أن يدعوا للإسلام ولأحكامه حسب فهمهم لها واستنباطهم إياها، وأن يحوّلوا أفهام الآخرين التي يعتبرونها خطأ يحتمل الصواب إلى أفهامهم التي يعتبرونها صواباً يحتمل الخطأ. ولذلك لا يصح أن يقول حملة الدعوة عن فهمهم، أن هذا هو رأي الإسلام، بل عليهم أن يقولوا عن رأيهم، إن هذا رأي إسلامي. وكان أصحاب المذاهب من المجتهدين يعتبرون استنباطهم للأحكام صواباً يحتمل الخطأ، وكان كل واحد منهم يقول: «إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط» . وكذلك يجب أن يعتبر حملة الدعوة آراءهم التي يتبنونها، أو يصلون إليها من الإسلام باعتبار فهمها، آراء صائبة تحتمل الخطأ، في حين أن إيمانهم بالإسلام عقيدة لا يجوز أن يتطرق إليها أي ارتياب. وإنّما يعتبر حملة الدعوة فهمهم هذا الاعتبار لأنّ الدعوة تغرس في نفوس أهلها النزوع إلى الكمال، وتفرض فيهم أن ينقبوا دائماً عن الحقيقة وأن يقلّبوا دوماً في كل ما عرفوه وفهموه، حتى ينقوه مما عسى أن يكون قد علق به من شيء غريب عنه، ويبعدوا عنه كل ما يؤدي قربه منه إلى احتمال أن يلصق به ويعتبر جزءاً منه، وذلك حتى يظل الفهم صحيحاً، والفكر عميقاً، وحتى تبقى الفكرة نقية صافية، لأنّه بقدر صفاء الفكرة ونقائها يمكنهم أن يقوموا بالدعوة، لأنّ صفاء الفكرة ووضوح الطريقة هو الضمان الوحيد للنجاح ولاستمرار النجاح.(1/59)
إلاّ أن هذا التنقيب عن الحقيقة والبحث عن الصواب، لا يعني مطلقاً أن يكون فهمهم في مهب الريح، بل يجب أن يكون فهماً ثابتاً لأنّه ناتج عن فكر عميق، ولذلك فهو فهم اثبت من كل فهم سواه، ولهذا كان على حملة الدعوة أن يكونوا يقظين على دعوتهم، وعلى فهمهم لها، حذرين من أن يفتنهم غيرهم عن هذا الفهم، وهذه الفتنة هي اخطر ما يكون على الدعوة، ولذلك حذر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - منها فقال له: { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } وقال سيدنا عمر لقاضيه شريح حين أوصاه بالنظر في كتاب الله، قال له: «ولا يلفتنك عنه الرجال» ولذلك يجب أن يحذر حملة الدعوة من كلمة قد تصدر من مخلص، أو رأي قد يراه حريص على الدعوة ويلقنه بحجة المصلحة، وهو يخالف الإسلام، فليحذروا منه، ولا يمكنوا أحداً من ذلك، لأنّ في هذا الضلال المبين، ويجب التفريق بين الدعوة إلى الإسلام والدعوة إلى استئناف حياة إسلامية، وإلى أنه يجب التفريق بين الدعوة يحملها جماعة في أمّة ككتلة إسلامية وبين الدعوة التي تحملها الدولة الإسلامية.
أما التفريق بين الدعوة إلى الإسلام، والدعوة إلى استئناف حياة إسلامية، فهو لمعرفة الغاية التي تسير إليها الدعوة، والفرق بينهما هو أن تحمل الدعوة للإسلام إلى غير المسلمين، فيدعوا لاعتناقه والدخول في حظيرته، وهؤلاء تكون الطريقة العملية لدعوتهم أن يحكموا بالإسلام من قبل الدولة الإسلامية حتى يروا نور الإسلام، وأن يدعوا إلى الإسلام في بيان عقائده وأحكامه حتى يدركوا عظمة الإسلام. ولذلك كان لزاماً أن تحمل الدعوة إلى الإسلام دولة إسلامية.(1/60)
وأما الدعوة إلى استئناف حياة إسلامية فيجب أن تحملها كتلة لا أفراد. وهذه الدعوة إلى استئناف حياة إسلامية هي: أن المجتمع الذي يكون أفراده بجملتهم مسلمين ويحكمون بغير الإسلام، يكون مجتمعاً غير إسلامي، وينطبق عليه أنه دار كفر، فيدعى فيه لأن تقوم دولة إسلامية تطبق الإسلام فيه، وتحمل دعوته إلى غيره، هذا إن لم تكن هنالك دولة إسلامية قط، وإن كانت هنالك دولة إسلامية تطبق الإسلام كاملاً، يدعى فيه لأن يصبح إقليماً من أقاليم الدولة الإسلامية، ليحكم من قبلها بالإسلام، ويصبح جزءاً منها، يحمل الدعوة الإسلامية، حتى يصبح مجتمعاً إسلامياً ويصدق عليه حينئذ أنه دار إسلام. لأنّه لا يجوز للمسلم أن يعيش في دار الكفر، بل عليه إذا أصبحت دار الإسلام التي يعيش فيها دار كفر أن يعمل لجعلها دار إسلام، أو أن يهاجر إلى دار الإسلام.
وأما التفريق بين الدعوة التي يحملها جماعة في أمّة إسلامية، وبين الدعوة التي تحملها دولة إسلامية، فهو لمعرفة نوع العمل الذي يقوم به حملة الدعوة. والفرق بينهما هو أن الدعوة التي تحملها الدولة الإسلامية، تتمثل فيها الناحية العملية، فهي تطبق الإسلام في الداخل تطبيقاً كاملاً شاملاً حتى يسعد المسلمون في الحياة، ويرى غير المسلمين ممن يعيشون في كنف الدولة الإسلامية نور الإسلام فيدخلون فيه طوعاً واختياراً عن رضا واطمئنان، وتحمل (أي الدولة) الدعوة إلى الخارج، لا بطريق الدعاية وشرح أحكام الإسلام فقط، بل بإعداد القوة للجهاد في سبيل الله، لحكم البلاد التي تليهم بالإسلام، باعتبار أن حكمها إياهم هو الطريقة العملية للدعوة، وهي الطريقة التي استعملها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما استعملها خلفاؤه من بعده حتى آخر الدولة الإسلامية، ولذلك كان حمل الدعوة من قبل الدولة هو الناحية العملية في الدعوة داخلياً وخارجياً.(1/61)
وأما الدعوة التي تحملها جماعة أو كتلة، فهي أعمال تتعلق بالفكر ولا تتعلق بالقيام بأعمال أخرى، ولذلك تأخذ الناحية الفكرية، لا الناحية العملية، فتقوم بما يفرضه عليها الشرع في مثل هذه الحال، حتى توجد الدولة الإسلامية ثمّ تبدأ الناحية العملية في الدولة. ولذلك فهي مع كونها تدعو مسلمين إنّما تدعوهم لتفهم الإسلام حتى يستأنفوا الحياة الإسلامية، وتكافح من يقفون في وجه هذه الدعوة بالأسلوب الذي يستوجبه كفاحهم.(1/62)
ويجب أن تؤخذ حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة أسوة للسير حسبها في الدعوة، فتبدأ في خطوة الدراسة والتفهم مع القيام بالتزامات الإسلام، كما كان الحال في دار الأرقم، ثمّ ينتقل الدارسون الفاهمون للإسلام المؤمنون الصادقون إلى التفاعل مع الأمّة، حتى تتفهم الإسلام وتتفهم ضرورة وجود دولة إسلامية، وعلى الكتلة أن تبادئ النّاس بذكر مفاسدهم وتعيبها، وتتحداهم في مفاهيمهم المغلوطة وآرائهم الفاسدة وتسفهها، وتبين لهم حقيقة الإسلام وجوهر دعوته، حتى يتكون لديهم الوعي العام على الدعوة ويكون رجال الدعوة جزءاً من الأمّة، وتكون الأمّة معهم كلاً لا يتجزأ، فتعمل الأمّة في مجموعها العمل المنتج تحت قيادة كتلة الدعوة، حتى يصلوا إلى الحكم، فيوجدوا الدولة الإسلامية، وحينئذ تتخذ حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة قدوة للسير بحسبها في تطبيق الإسلام وحمل الدعوة له. ولهذا كان لا شأن للكتلة الإسلامية التي تحمل الدعوة بالنواحي العملية، ولا تشتغل بشيء غير الدعوة، وتعتبر القيام بأي عمل من الأعمال الأخرى ملهياً ومخدراً ومعوقاً عن الدعوة، ولا يجوز الاشتغال بها مطلقاً. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو للإسلام في مكة وهي مملوءة بالفسق والفجور، فلم يعمل شيئاً لإزالته، وكان الظلم والإرهاق، والفقر والعوز ظاهراً كل الظهور، ولم يروَ عنه أنه قام بعمل ليخفف من هذه الأشياء، وكان في الكعبة والأصنام تطل من فوق رأسه، ولم يرو عنه أنه مس صنماً منها، وإنّما كان يعيب آلهتهم، ويسفه أحلامهم، ويزيف أعمالهم، ويقتصر على القول، وعلى الناحية الفكرية، ولكنه حين صارت لديه الدولة، وفتح مكة لم يبق شيئاً من تلك الأصنام، ولا من ذلك الفسق والفجور، ولا الظلم ولا الإرهاق، ولا الفقر ولا العوز.(1/63)
ولهذا لا يجوز للكتلة، وهي تحمل الدعوة، أن تقوم ككتلة بأي عمل من الأعمال الأخرى، ويجب أن تقتصر على الفكر والدعوة، غير أن الأفراد لا يمنعون من القيام بما يرغبون من أعمال خيرية، ولكن الكتلة لا تقوم بها، لأنّ عملها إقامة دولة لحمل الدعوة.
ومع أنه يجب أن تتخذ حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة قدوة للسير حسبها، فإنه ينبغي أن يلاحظ أن الفارق بين أهل مكة ودعوتهم للإسلام، وبين المسلمين الآن ودعوتهم لاستئناف حياة إسلامية، هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو كفاراً للإيمان، وأما الدعوة الآن فهي دعوة مسلمين لتفهم الإسلام والعمل به.
ولهذا كان لزاماً على الكتلة أن لا تعتبر نفسها غير الأمّة التي تعيش معها، بل تعتبر نفسها جزءاً من هذه الأمّة، لأنّ النّاس مسلمون مثلهم، وهم ليسوا بأفضل من أحد من المسلمين، وإن فهموا الإسلام وعملوا له، ولكنهم أثقل المسلمين حملاً، وأشدهم تبعة في تحمل مسؤولية خدمة المسلمين أمام الله والعمل للإسلام. وعلى رجال الكتلة الإسلامية أن يعلموا أنه لا قيمة لهم مهما كثر عددهم بغير الأمّة التي يعملون فيها. ولهذا كانت مهمتهم التفاعل مع الأمّة، والسير معها في الكفاح وإشعارها أنّها هي التي تعمل. ويجب أن تبعد الكتلة عن كل عمل أو قول أو إشارة توهم انفصالها عن الأمّة بأي شيء صغر أم كبر، لأن هذا يبعد الأمّة عنها وعن دعوتها، ويجعلها عقدة من عقد المجتمع التي تحول دون نهوضه، فالأمّة كل لا يتجزأ، تقوم الكتلة لتقيم الدولة، وتظل حارساً على الإسلام في الأمّة والدولة، حتى إذا لاحظت في الأمّة تنكباً، نبهت فيها إيمانها وعبقريتها، وإذا لاحظت في الدولة اعوجاجاً اشتركت مع الأمّة في تقويمها بما يفرضه الإسلام، وبذلك تسير الدعوة الإسلامية التي تحملها كتلة في طريقها الطبيعي سيراً ممتازاً.(1/64)
وإذن فغاية الكتلة استئناف الحياة الإسلامية في البلاد الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وطريقتها إلى ذلك الحكم، ومن طريقتها إلى الحكم دراسة الإسلام وتفهمه، وتثقيف النّاس به تثقيفاً يحدث الأثر في إيجاد العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية، لتكوين الشخصية الإسلامية وكذلك التفاعل مع الأمّة في إفهامها الإسلام، وإفهامها حقيقة مصالحها، ومعالجة الإسلام لها، وضمان تحقيقها، وتبني مصالح الأمّة، على أن يجري التفاعل والكفاح في سبيل الدعوة مع الدراسة في آن واحد. وهذا العمل من الكتلة الحزبية هو عمل سياسي، ولذلك كان لا بد أن يكون الوجه البارز على هذه الكتلة هو الوجه السياسي، لأنّه الطريق العملي الأول الذي يبدأ فيه للدعوة إلى الإسلام، وهذا لا يعني الدعوة إلى السياسة فقط، أو إلى الحكم وحده، بل يعني الدعوة إلى الإسلام، والكفاح السياسي للوصول إلى الحكم كاملاً، لإيجاد الدولة الإسلامية التي تطبق الإسلام وتحمل دعوته. ولذلك يجب أن تكون الكتلة التي تحمل الدعوة الإسلامية كتلة سياسية، ولا يجوز أن تكون كتلة روحية ولا كتلة خُلُقية، ولا كتلة علمية، ولا كتلة تعليمية ولا شيئاً من ذلك، ولا ما يشبهه، بل يجب أن تكون كتلة سياسية. ومن هنا كان حزب التحرير - وهو حزب إسلامي - حزباً سياسياً، يشتغل بالسياسة، ويعمل لأن يثقف الأمّة ثقافة إسلامية، تبرز فيها الناحية السياسية، وينكر ما يفعله الاستعمار وعملاؤه من منع الطلاب والموظفين من السياسة، ومن محاولة إبعاد عامة النّاس عنها، ويرى أنه يجب أن يعرف النّاس السياسة، وأن تظهر عليهم التربية السياسية. وليس من العمل السياسي أن يبين أن الإسلام يشمل السياسة، ولا أن القواعد السياسية في الإسلام هي كيت وكيت، بل السياسة هي أن ترعى مصالح الأمّة جميعها داخلية وخارجية، وأن تسير تسييراً إسلامياً ليس غير، وأن يكون ذلك من قبل الدولة، ومن قبل الأمّة تحاسب فيه الدولة، وحتى(1/65)
يتأتى ذلك عملياً لا بد أن يكون الحزب هو الذي يتولى ذلك في الأمّة وفي الحكم، ولذلك يحمل الدعوة إلى الإسلام دعوة شاملة ويبين للأمّة الأحكام الشرعية التي تعالج مشاكل الحياة، ويعمل لأن يحكم بالإسلام وحده ويجاهد الكافر المستعمر لقلعه من جذوره، ويكافح عملاء الاستعمار، سواء الذين يحملون قيادته الفكرية ومبادئه والذين يحملون سياسته وأفكاره.
وحمل الدعوة الإسلامية والكفاح السياسي في سبيلها، إنّما يكون في المجتمع الذي يحدده الحزب مجالاً له. وحزب التحرير يعتبر المجتمع في العالم الإسلامي كله مجتمعاً واحداً، لأنّ قضيته كلها قضية واحدة هي قضية الإسلام. ولكنه يجعل نقطة الابتداء البلاد العربية، بوصفها جزءاً من البلاد الإسلامية، ويرى أن قيام دولة إسلامية في البلاد العربية نواة للدولة الإسلامية هو الخطوة الطبيعية في ذلك.(1/66)
والمجتمع في العالم الإسلامي، في مستوى سياسي سيئ، فهو في جملته قد استعمر من قبل الدول الغربية، ولا يزال مستعمراً رغم ما يبدو عليه من مظاهر الحكم الذاتي، فهو خاضع للقيادة الفكرية الرأسمالية الديمقراطية، خضوعاً تاماً، وتطبق عليه في الحكم والسياسة الأنظمة الديمقراطية. وفي الاقتصاد النظام الرأسمالي، وهو في الناحية العسكرية مقود للأجنبي في أسلحته، وتدريبه، وسائر الفنون العسكرية، وفي السياسة الخارجية تابع للسياسة الأجنبية المستعمرة له، ولذلك نستطيع أن نقول إن البلاد الإسلامية بلاد لا تزال مستعمرة، ولا يزال يتركز فيها الاستعمار، لأنّ الاستعمار هو فرض السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية على الشعوب المستضعفة لاستغلالها، وهو يسخر جميع القوى من أجل فرض قيادته الفكرية وتركيز وجهة نظرها في الحياة، وأشكال الاستعمار المختلفة تشمل ضم البلد المغلوب على أمره إلى أراضي البلد المستعمِر وإنشاء المستعمرات، وإقامة الحكومات المستقلة اسمياً والخاضعة للدولة الاستعمارية عملياً. وهذا هو الواقع في البلاد الإسلامية فإنها كلها خاضعة للسيطرة الغربية، وتسير وفق البرامج الاستعمارية الغربية من ناحية ثقافية، ومع خضوعها لسيطرة الاستعمار الغربي، إلا أنها كذلك كانت هدفاً لغزو الاتحاد السوفيتي السابق حيث كان يعمل فيها بواسطة عملائه لاعتناق الناس للشيوعية، ولسيطرة قيادته الفكرية ووجهة نظره في الحياة بالدعوة إلى المبدأ الشيوعي.(1/67)
وعلى ذلك فالبلاد الإسلامية مستعمرة للدول الغربية، ومسرح للقيادات الفكرية الأجنبية، وكذلك كانت محط أنظار الاتحاد السوفييتي السابق وهدفاً لغزوه واحتلاله لها لا لاستعمارها، بل لتحويلها من بلاد إسلامية إلى بلاد شيوعية، وتحويل المجتمع كله إلى مجتمع شيوعي يمحى فيه أثر الإسلام، غير أنه بسقوط الاتحاد السوفييتي فقد تلاشى كل ذلك وإن بقي بعض من ينتسبون للأحزاب الشيوعية في البلاد الإسلامية دون أي تأثير فاعل لهم.
ومن هنا كان لزاماً أن يقوم العمل السياسي لمكافحة الاستعمار، ولمحاربة القيادات الفكرية الأجنبية، والعمل على اتقاء خطر الغزو الأجنبي الذي يستهدف بلادنا. كما أن حمل الدعوة الإسلامية حملاً صحيحاً يكافح خطر القيادات الفكرية الأجنبية، وإذن يجب أن تكون مكافحة الاستعمار الغربي حجر الزاوية في الكفاح السياسي.(1/68)
والكفاح السياسي يوجب عدم الاستعانة بالأجنبي أياً كان جنسه، وأياً كان نوع هذه الاستعانة، ويعتبر كل استعانة سياسية بأي أجنبي وكل ترويج له خيانة للأمّة. ويوجب أيضاً العمل لبناء الكيان الداخلي في العالم الإسلامي بناء سليماً، ليكون قوة عالمية لها كيانها المتميز، ومجتمعها السامي. وهذه القوة تعمل لأخذ زمام المبادرة من كلا المعسكرين لتحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم وتتولى قيادته. ويوجب الكفاح السياسي أيضاً محاربة الأنظمة والقوانين والشرائع الغربية، وجميع الأوضاع الاستعمارية، كما يوجب رفض جميع المشاريع الغربية، ولا سيما البريطانية والأمريكية، سواء المشاريع الفنية والمالية على اختلافها، أو المشاريع السياسية على تنوعها. ويوجب أيضاً نبذ الحضارة الغربية مطلقاً، ولا يعني ذلك نبذ الأشكال المدنية، لأنّ المدنية تؤخذ إذا كانت ناتجة عن العلم والصناعة، ويوجب أيضاً قلع القيادة الفكرية الأجنبية من جذورها. ويوجب كذلك نبذ الثقافة الأجنبية التي تتناقض مع وجهة النظر الإسلامية. ولا يعني ذلك العلم، لأنّ العلم عالمي، ويجب أن يؤخذ من أية جهة لأنّه من أهم أسباب التقدم المادي في الحياة.(1/69)
والكفاح السياسي يقتضي أن نعلم أن الاستعماريين الغربيين ولا سيما البريطانيين والأميركان يعمدون في كل بلد مستعمر إلى مساعدة عملائهم من الرجعيين الظلاميين، ومن المروجين لسياستهم وقيادتهم الفكرية، ومن الفئات الحاكمة، فيهرعون إلى إسداء المعونة لهؤلاء العملاء في مختلف الأقاليم، لوقف هذه الحركة الإسلامية، وسيمدونهم بالمال، وغير المال، وبجميع القوى التي تلزمهم للقضاء عليها، وسيقوم الاستعمار مع عملائه بحمل علم الدعاية ضد هذه الحركة التحريرية الإسلامية، باتهامها بمختلف التهم: بأنها مأجورة للاستعمار، ومثيرة للفتن الداخلية، وساعية لتأليب العالم ضد المسلمين، وبأنها تخالف الإسلام، وما شابه ذلك من التهم. ولهذا يجب أن يكون المكافحون واعين على السياسة الاستعمارية، وعلى أساليبها، حتى يكشفوا خططها الاستعمارية داخلياً وخارجياً في حينها، لأنّ كشف خطط الاستعمار في حينها يعتبر من أهم أنواع الكفاح.
ولهذا فإن حزب التحرير يعمل لتحرير الأقاليم الإسلامية من الاستعمار كله. فهو يحارب الاستعمار حرباً لا هوادة فيها، ولكن لا يطلب الجلاء فقط، ولا يطلب الاستقلال المزيف، بل يعمل لاقتلاع الأوضاع التي أقامها الكافر المستعمر من جذورها، بتحرير البلاد، والمعاهد والأفكار، من الاحتلال، سواء أكان هذا الاحتلال عسكرياً، أم فكرياً، أم ثقافياً، أم اقتصادياً، أم غير ذلك. ويحارب كل من يدافع عن أية ناحية من نواحي الاستعمار حتى تستأنف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية التي تحمل رسالة الإسلام للعالم كافة، والله نسأل، وإليه نبتهل، أن يمدنا بعون من عنده، للقيام بهذه التبعات الجسام، إنّه سميع مجيب.
حزب التحرير(1/70)
حزب التحرير حزب سياسي، مبدؤه الإسلام، وغايته استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة إسلامية تنفذ نظم الإسلام وتحمل دعوته إلى العالم. وقد هيأ هذا الحزب ثقافة حزبية ضمنها أحكاماً إسلامية في شؤون الحياة. والحزب يدعو للإسلام قيادة فكرية تنبثق عنها الأنظمة التي تعالج مشاكل الإنسان جميعها سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وغير ذلك. وهو حزب سياسي يضم إلى عضويته النساء كما يضم الرجال، ويدعو جميع النّاس للإسلام ولتبني مفاهيمه ونظمه، وينظر إليهم مهما تعددت قومياتهم ومذاهبهم نظرة الإسلام. وهو يعتمد على التفاعل مع الأمّة للوصول إلى غايته، ويكافح الاستعمار بجميع أشكاله ومسمياته لتحقيق تحرير الأمّة من قيادته الفكرية واجتثاث جذوره الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها من تربة البلاد الإسلامية، وتغيير المفاهيم المغلوطة التي أشاعها الاستعمار من قصر الإسلام على العبادة والأخلاق.(1/71)