مقدمة الشيخ / أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي, يحفظه الله تعالى
الحمد لله, وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فَعَلَمٌ من أعلام النبوة: قيام أهل السنة بالرد على المبتدعة والزائغين, وتصديقاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين, لا يضرهم من خالفهم, ولا من خذلهم, حتى يأتي أمر الله, وهم على ذلك )) فأهل السنة هم الذين كشفوا عَوَار الخوارج،وأهل السنة هم الذين رفضوا أباطيل الروافض، وأهل السنة هم الذين أزهقوا تراهات الجهمية، وأهل السنة هم الذين وقفوا أمام تلبيسات المعتزلة وخزعبلاتها.
فإنك إذا قرأت التاريخ, تجد الذين تصدوا لرد هذه الأباطيل هم أهل السنة، وإنك إذا قرأت في ردود أئمتنا على المبتدعة الزائغين لينثلج صدرك، وصدق الله إذ يقول في كتابه الكريم: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } الحجر. فقد حفظ دينه من التغيير والتبديل والتحريف, حتى وإن حرّف المبتدعة, فإن أهل السنة يتصدون لرد تلك التحريفات، وصدق الله إذ يقول: { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } الإسراء,ويقول: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } الأنبياء، ويقول: { فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } الرعد، ويقول سبحانه وتعالى : { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار } إبراهيم، صدقت يا رب.
كم من زمن يكون للباطل فيه صولة وجولة, فلا يمكث إلا زمنا يسيرا, فيموت أصحابه, وتموت تلك الأباطيل, ولا يذكر أصحابها إلا باللوم والتحذير منهم.(1/1)
وفي زمننا هذا تحرك ذوو الزيغ من أفراخ العلمانية والشيوعية بثوب واحد، والذين كشفوا عوارهم هم أهل السنة، وكذا تحرك المبتدعة من صوفية وشيعة وحزبيين ومن جماعة تكفير. والذين تصدوا لهم وردوا أباطيلهم هم أهل السنة، ويا سبحان الله من تصدوا له أحرقوه, وأحرقوا فكرته. وصدق عليه قول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ إنما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياء
إنما الميِّت من يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء
فكم من حزبي كانت له صولة وجولة, بل تطلق عليه الألقاب الضخمة, وبعد بيان أهل السنة حاله, مات وماتت فكرته .
ومن علماء أهل السنة الأفاضل المعاصرين الواقفين في وجه أصحاب الباطل
الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، والشيخ/ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ/ ربيع بن هادي، وآخرون.
وفي اليمن الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب الوصابي، والشيخ/ أبو الحسن المأْرِبي، والشيخ/ عبد العزيز البرعي، والشيخ/ عبد الله بن عثمان الذماري، والشيخ/ عثمان بن عبد الله العتمي، والشيخ/ يحيى الحجوري، والشيخ/ أحمد بن سعيد الحُجَري، والشيخ/ عبد الرقيب الإبّي.
ومن بين هؤلاء ، الشيخ الداعية محمد بن عبد الله الريمي الملقّب بـ"الإمام", فهو حفظه الله جامع بين العلم والعمل والدعوة، وله من الطلاب ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وأما العطلة الصيفية فلا يعلم عددهم إلا الله، وقد آتت مدرسته ثمارها الطيبة، وهو حفظه الله قد صبر على الحزبيين حتى أحس بالخطر على طلابه: أن يربي ويُعلِّم ثم يغرونهم بالمال، وأيضا أيس من رجوع كثير منهم ثم قام حفظه الله بالتحذير من الحزبيين.
وكتابه: هذا الكتاب المبارك الذي ناقش فيه الحزبيين مناقشة طيبة, ولا أعلم لهذا الكتاب نظيرا في بابه، فجزى الله أخانا محمداً خيراً, ووفقه للمزيد من الدفاع عن الدين وعن أهل السنة, ودفع عنا وعنه كل سوءٍ ومكروهٍ .
أبو عبد الرحمن/ مقبل بن هادي الوادعي.
7/شعبان/سنة1417 هجرية.(1/2)
مقدمة الشيخ/ محمد بن عبدالوهاب العبدلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أما بعد:
فقد قرأت كتاب أخينا الشيخ الفاضل السلفي/ أبي نصر محمد بن عبد الله الريمي الملقّب بـ"الإمام"، حول موضوع "مفاسد الانتخابات" فألفيته كتاباً قيماً ناطقاً باسم أهل السنة والجماعة. فجزاه الله خيراً على ما بذل من نصح للمسلمين عامة, وللمسؤولين خاصة, ولقادة الأحزاب بصورة أخص، وهكذا ليكن أهل السنة والجماعة نَصَحَةً للأمة المسلمة.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وكتبه/أبو إبراهيم / محمد بن عبد الوهاب العبدلي
11/ 8 / 1417هجرية
المقدمة
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } آل عمران.
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } النساء.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } الأحزاب.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - , وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:(1/3)
فقد حصل في هذه الآونة الأخيرة -وبالذات في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين- هجوم على المسلمين بوسائل كثيرة، وأساليب متنوعة، وقوة فكرية رهيبة، وحارب اليهود والنصارى الإسلامَ في كل اتجاهاته، فقد حاولوا أن ينقضوا عرى الإسلام عروة عروة، فأدخلوا التلبيسات على المسلمين في القرآن الكريم, وفي السنة النبوية الصحيحة، وفي اللغة العربية, وفي التاريخ, وطعنوا المسلمين هذه الطعونات عند أن كان غالب المسلمين في الغرة والغفلة, وسبات النوم واللهو.
وكانت أعظم طعنة طعنوا بها المسلمين: هي طعنة نشر الخلاف الفكري والمذهبي، أي فيما يتعلق بكثير من حكام المسلمين وأمرائهم وقضاتهم ورؤسائهم الذين وُضِعُوا من قِبَل الأعداء، وعند أن تمكنوا من نشر الخلافات الفكرية والمذهبية بين المذكورين آنفا, استطاعوا أن يتوصلوا إلى نقض الخلافة الإسلامية, واستمروا في توسعة هذه الفجوة الكبيرة، فجزّءوا بلاد المسلمين إلى أجزاء وأشلاء، وبعد أن نجحوا في تجزئة المسلمين إلى دويلات, حاولوا بكل الوسائل فصل المسلمين عن الإسلام، في حياتهم مع المجتمع؛ في الحكم وغيره، وذلك بفرض القوانين الوضعية، وصوروها بأنها روح العصر, وقمّة الحضارة، ورقي الأمم, فصارت مصيبة المسلمين في دينهم قبل كل شيء، وفي دنياهم تبعاً لذلك.
وعُزّزت هذه المصيبة بطريق أخرى, وهي "الديموقراطية", وقالوا: هي منهج يتناسب مع العصر، وحكم يقوم برعاية الحقوق, ويعطي كل ذي حق حقه، وقوّى ذلك جهْلُ المسلمين بدينهم، فصارت هذه الفكرة والمنهج ألا وهي"الديموقراطية" إلَهَ المؤمنين بها, وبالذات القائمين عليها, الحارسين لها.(1/4)
والقرآن والسنة كفيلان بكشف وفضح هذا الإجرام، قال الله تعالى { وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } الأنعام, فهو تفصيل ربنا الذي يعلم السر وأخفى، والذي يعلم خائنة الأعين, وما تخفي الصدور. وجاءت هذه الآية تبين أن التحذير من الكفر والشرك والإجرام -بما في ذلك "الديموقراطية" بكافة وسائلها- ضرورة حتمية.
فهي السبيل الإجرامي الذي لا يقوم دين المسلمين إلا بفصله وتمييزه عن منهج الحق, وأوفى الناس معرفة بربهم ودينهم, هو ذلك الرجل الذي يحيط علماً بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة, وبهذه الكفريات القائمة باسم التقدّم والرقي, ورعاية حقوق الإنسان, ورحمة الأمم المستضعفة، والله يقول: { ولتستبين سبيل المجرمين } الأنعام.
فلا بد من أن نعلم أن أعظم ما يعيننا على مكافحة هذا الخطر الداهم بجميع وسائله؛ هو العمل بالوسائل الشرعية، وأن الإسلام غني بجميع الأحكام والتشريعات, بما في ذلك معرفة حقيقة الإسلام, ومعرفة حقيقة الكفر، وربنا جل شأنه تولى هذا التوضيح, من أجل أن نعرف الحق من الباطل، ولقد قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { ولا يأتونك بمثلٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً } الفرقان.
إنه الحق الذي يدمغ الباطل فيزهقه، فقد وضّح الله في(1/5)
كتابه الكريم ونبيه - صلى الله عليه وسلم - أحوال المضلين والمفسدين في الأرض, ومما زاد الأمر فسادا أن وُجد من يدعي العلم، من كُتّاب ومثقفين وعلماء يلهثون وراء الأطماع الدنيوية، فقاموا بالرد على أعداء الله، وكانت ردودهم لا ترتكز على قوة الحجج, وعمق المعتقد الصحيح، فكانوا على عجز كبير من المؤهلات الشرعية، فبينما هم بالأمس يردون ويحاولون إقناع الأمة بفساد ما تدعيه أوروبا من الحضارة، إذا بهم قد وافقوهم فيما كانوا ينكرونه عليهم, وكل واحد من هؤلاء المذكورين سبّب دخول الشر من جهة، فبعضهم من باب الدعوة إلى التبرج والسفور، وبعضهم من باب الدعوة إلى الربا، وبعضهم من باب الدعوة إلى تقليد الغرب، وبعضهم من باب الدعوة إلى الاستضاءة بقوانينهم، وبعضهم من باب الدعوة إلى نبذ الماضي بما في ذلك نبذ التحاكم إلى القرآن والسنة المطهرة، وبعضهم دعا إلى التعديل في الشريعة، وبعضهم دعا إلى وحدة الأديان، وبعضهم دعا إلى التقارب بين السنّة والفرق الضالة, كالروافض وغيرهم، وبعضهم دعا إلى الحزبيات، وبعضهم دعا إلى قبول "الديموقراطية", باسمها ومعناها, وبعضهم دعا إلى "الانتخابات" باعتبار أن المحرّم هي "الديموقراطية" فقط, لأنها منهج كفري، وأما"الانتخابات" فليست كذلك عندهم.
ولمّا حصل لهؤلاء تقاعس عن الحق, وصار الحق -الذي كان بالأمس حقا- صار اليوم عندهم باطلاً، وانطلت عليهم الشبهات, فصاروا بعد ذلك مدافعين عن هذه الأفكار والنظريات التي جاء بها الأعداء, وصاروا حريصين على إقناع الناس أنها لا تخرج المسلم عن تعاليم دينه, فسهّلوا الأمور المحرّمة، وقال قائلهم: المسلم بإمكانه أن يقبل الأنظمة الوضعية, وهو باقٍ على عقيدته.
وصدق عمر حين قال لزياد بن حدير: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟" قال: قلت لا: قال: "يهدم الإسلام زلة عالم، أو جدال منافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". أخرجه الدارمي وابن عبد البر في (الجامع)، وهذا الأثر صحيح.(1/6)
وقد جاء عند أحمد وابن عدي من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أخوف ما أخاف على أمتي: كل منافق عليم اللسان))، وقد جاء عند أحمد والطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن أخوف ما أخاف على أمتي: الأئمة المضلين ))، وقد جاء عند الطبراني أيضا، والبيهقي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
وخوفه - صلى الله عليه وسلم - هو لما أطلعه الله عليه من الفتن التي ستقع على أمته، وقد أطلعه الله وعرّفه بمن يقوم بذلك, وسمّاهم: الأئمة المضلين، وهؤلاء سخروا أنفسهم للجدال والمراء في القرآن وبثّ الشبهات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((المراء في القرآن كفر)) رواه أبوداود والحاكم من حديث أبي هريرة، وأخذوا المتشابه من القرآن ليضلوا الناس ويُلبّسوا على المسلمين، وقد قال الله تعالى: : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } آل عمران.
وبسبب هؤلاء تكثر الخصومات والانحرافات بين المسلمين، وقد دعانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الحذر من هذه الأصناف، ففي البخاري ومسلم وأحمد، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } إلى قوله : { وما يذّكر إلا أولوا الألباب } آل عمران فقال: (( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه, فأولئك الذين سمّى الله, فاحذروهم))".(1/7)
فهو الحذر الدائم, والخوف المستمر من آراء هؤلاء وتلبيساتهم، وقد كان السلف يعاقبون هذا الصنف من الناس, ويوقفونه عند حده, وذلك لمعرفتهم بخطر هذا الصنف, الذي لم يُرزق علماً نافعاً, ولا ثباتاً ولا إخلاصاً, بل تواردت عليهم الشكوك والأوهام، وظنوا أنها حقائق وحجج, وصاروا يتطاولون بها على العلماء الربانيين, ويناطحون بها كل داع إلى الحق، واعترضوا على علماء السلف وفهمهم, بل وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - , حتى قال قائلهم: "لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حياً لما حكم إلا "بالديموقراطية" ولو كان حيا لبارك لنا في هذه الحضارة"!. وكل منحرف من هذا الصنف يصحح مذهبه, وما عليه حزبه, بالرغم من ظهور الانحرافات للناس، ولكن الشيطان يقول لهم: أنتم على صراطٍ مستقيم، وكلما ظهرت وانكشفت أحوالهم, وعرفهم الناس, ظهروا بوجوه أخرى, وصور شتى. ومهما كان أهل الزيغ من الكثرة والنشاط والقدرة على التلبيس, فقد وكّل الله قوما بفضحهم, وتبيين أخطائهم, وتفنيد شبهاتهم, وإظهار انحرافاتهم عن الحق, وخطرهم على الأمة, وضررهم على الإسلام, وهذه المجموعة المباركة هم أهل العلم, الذين وفقهم الله للعمل بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على فهم سلف الأمة اعتقاداً وقولاً وعملاً, فهم الذين اصطفاهم الله واختارهم للدفاع عن دينه, وقد تواترت الأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - ببقاء هذه الطائفة على مر العصور، قال - صلى الله عليه وسلم - :((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق, حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)) متفق عليه من حديث المغيرة.(1/8)
وفي البخاري ومسلم من حديث معاوية رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله, لا يضرهم من خذلهم, ولا من خالفهم, حتى يأتي أمر الله, وهم ظاهرون على الناس)) وقد جاء هذا الحديث متواتراً فقد جاء عن ثوبان، وابن عمر، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، وعقبة بن عامر، وقرة بن إياس، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وسعد بن أبي وقّاص، وأبي عنبة الخولاني، وغيرهم.
فقد حفظ الله بهذه الطائفة المنصورة دينه قديما وحديثاً؛ ولا يشك علماء السنة والجماعة أن هذه الطائفة هم أهل الحديث, كما جاء ذلك عن أحمد بن حنبل، وابن المبارك، وابن المديني، ويزيد بن هارون، والبخاري، وغيرهم.
وما يقوم به علماء الأمة اليوم من الردود على أهل الباطل والزيغ والانحراف والحزبيات، فإن ذلك امتداد لذلك الخط المبارك, الذي سار عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
وقضية "الانتخابات" التي نحن بصدد بيان الحكم الشرعي فيها, من القضايا التي فُتِن بها بعض المسلمين, وبعض من يدعي العلم والمعرفة, فلزم علينا أن نزنها بميزان الشرع, كما سترى ذلك موضحاً في أثناء هذا البحث إن شاء الله.
وقد حاولت أن لا أذكر إلا حديثاً صحيحاً لذاته، أو لغيره، أوحسناً لذاته، أو لغيره، وهذا هو الذي يتفق مع عقيدتنا الجازمة أن الإسلام كامل شامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهذا ما كان عليه الصحابة, وذلك من تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم كما هو معروف، وهذا العمل ـ أعني: مجانبة الأحاديث المنكرة والضعيفة ـ هو الواجب علينا كي لا نُدْخِلَ في الدين ما ليس منه, وهو عمل علماء أهل الحديث.
وقد قسمت هذا الكتاب إلى ثلاثة فصول: مفاسد "الانتخابات" النيابية, ومفاسد "الانتخابات" الرئاسية, والشبهات والرد عليها. وجعلت له مقدمة فيها تعريفات مختصرة عن "الديموقراطية", ثم ذكرت نصيحة للمسلمين, وخاتمة الكتاب.(1/9)
أبو نصر / محمد بن عبد الله الإمام .
1- "الديموقراطية"
تعريف "الديموقراطية":
عرفها عبد الغني الرحّال في كتابه (الإسلاميون وسراب الديموقراطية) بقوله: "حكم الشعب بالشعب" ومعناها: الشعب مصدر السلطة, وذكر أن أول من عبر عن "الديموقراطية" هو أفلاطون, فبيّن أن مصدر السيادة هي الإرادة المتحدة لا الموسعة ، وقال بهذا التعريف محمد قطب في كتابه (مذاهب فكرية معاصرة), وعرّفها بهذا التعريف صاحب كتاب (الديموقراطية في الإسلام), وغيره.
تطور "الديموقراطية":
قامت الثورة الفرنسية وكان شعارها "الحرية،الإخاء، المساواة" ثم أدخلت فرنسا "الديموقراطية" في دستورها بعنوان حقوق الإنسان في المادة الثالثة "الأمة مصدر السيادة ومستودعها وكل هيئة وكل شخص يتولى الحكم إنما يستمد الحكم منها" ثم أدخلت ذلك في دستورها الصادر عام 1791م فنصّ على أن السيادة ملك للأمة, ولا تقبل التجزئة, ولا التنازل عنها, ولا التملك بالتقادم.
وصارت "الديموقراطية" يُنَص عليها في دساتير بعض الدول العربية والإسلامية، وعلى سبيل المثال: مصر في دستورها الأول عام 1923م وفي عام 1956م وفي عام 1971م فيه مادة تنص على "أن السيادة للشعب, وهو مصدر السلطات, وتكون على الوجه المبيّن في الدستور". وهذه المادة موجودة في دساتير الدول العربية والإسلامية إلا القليل ، وهذه المادة نفسها موجودة في دستور بلادنا اليمن، ففي المادة الرابعة: "الشعب مالك السلطة ومصدرها, ويمارسها بشكل مباشر عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة, كما يزاولها بطريقة غير مباشرة عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية وعن طريق المجالس المحلية المنتخبة"أهـ.
ومن هنا يُعْلَم أن "الديموقراطية" تشريع من دون الله.(1/10)
فلا يخفى على كل مسلم أن هذا هو الكفر الأكبر والشرك الأكبر والظلم العظيم ، قال الله تعالى عن لقمان الحكيم: { يا بني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم } لقمان. وأي شرك أكبر من تعطيل عبودية الله.
تقوم "الديموقراطية" على ثلاث نقاط:
1- التشريع:
فلا شرع إلا للـ"ديموقراطية", والله أحكم الحاكمين, الذي له الملك كله, والأمر كله, والقادر على كل شيء, أحكامه معطلة عند "الديموقراطيين", فلا يجوز له أن يشرِّع لعباده، والتشريع هو سنّ القوانين، ولهذا وُضِعت دساتير لتعميق "الديموقراطية" وحمايتها.
2- القضاء:
وهو أنه لا يُسمح لأي حاكم أن يقضي إلا بتشريع الدستور, وإلا كان معاقباً ولا قبول له أبداً، والدليل على هذا ما تقوله المادة (147) من الدستور اليمني: "القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً، وتتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون". فتأمّل قول المادة: "لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون".
3- التنفيذ:
أي أنه لا ينفّذ أي حكم إلا ما كان خاضعاً للدستور، ومعنى هذا تجميد جميع الأحكام الشرعية، فإلى الله المشتكى. وانظر المادة (104) من الدستور التي تقول: "يمارس السلطة التنفيذية نيابة عن الشعب رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ضمن الحدود المنصوص عليها في الدستور".
وإذا علمنا أن "الديموقراطية" منهج حياة في نظر واضعيها والمدافعين عنها؛ تأكد لنا جيداً وبكل وضوح: أنها لا تقبل التنازل أو التغيير, فهي أحكام دولية ثابتة، اتفقت عليها دول كبرى، وصارت نظاماً عالمياً ومنهج حياة، ولا مانع في نظر حماة "الديموقراطية" من تغيير مادة أو كلمة من المادة لمصلحة "الديموقراطية" لا للإحاطة بـ"الديموقراطية" كما هو الواقع في أيامنا، { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
وهنا يبرز سؤال مهم وهو:(1/11)
ما حكم الإسلام فيمن يؤمن بـ"الديموقراطية" ويعمل من أجل تطبيقها, بدون أي تأويل يرجع للشرع؟
الجواب: قال الله تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } آل عمران، فجعل سبحانه من يريد غير الإسلام, وإن لم يصل إلى ما أراد, ولم يفعل ما أراد, أنه خاسر يوم القيامة، وقد قال الله في خسارة هذا : { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين } المؤمنون.
وقال الله : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } المائدة، فبيّن سبحانه أنه لا يوجد إلا حكمان: حكمه سبحانه, وحكم أحد من خلقه، وبيّن سبحانه أن حكم غيره هو حكم جاهلي, لا يمكن أن يرتفع عن هذا الحكم الرباني، فهو حكم جاهلي مهما قالوا: إنه حضاري و"ديموقراطي"، فـ"الديموقراطية" جاهلية. وقال سبحانه: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } , { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } , { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } المائدة.(1/12)
وإذا كان سبب نزول هذه الآيات هو أن أهل الكتاب, أنكروا حكم الزاني, الذي شرعه الله في كتابهم, ورضوا بحُكْمٍ أحدثوه, فحَكَمَ الله عليهم بالكفر والظلم والفسق، فما بالك بمن يصادر أحكام الله مستهزئاً بها أو مستنكراً لها؟ أفلا يكون كفره أشد, وظلمه أعظم, وفسقه أكبر؟ ، وقد قال الله: { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً وكان ذلك على الله يسيراً } النساء، وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقُضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم } الشورى، وقال تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً } النساء.
سؤال آخر وهو:
هل يمكن أن يكون هناك تقارب بين الإسلام و"الديموقراطية"؟
الجواب:
لا, وذلك لأمور:
1- أن المشرِّع في الإسلام هو الله وحده لا شريك له، قال سبحانه: { ولا يشرك في حكمه أحدًا } الكهف، وقال الله سبحانه وتعالى: { إن الحكم إلا لله } يوسف, وقال سبحانه: { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } الأعراف. والأمر هنا: الحكم، وقال سبحانه: { بل لله الأمر جميعاً } الرعد.(1/13)
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - مشرِّع بأمر الله, لا استقلالاً، قال الله تعالى: { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } الحاقة, وأخبر الله عنه بقوله: { إن أتبع إلا مايوحى إليّ } الأنعام،الأحقاف، وقال الله له: { قل إنما أنذركم بالوحي } الأنبياء، وقال سبحانه تنزيهاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى } النجم، وقال الله مخاطباً نبيه: { وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم } النحل، وقال سبحانه: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } النساء, وجعل سبحانه طاعة رسوله, هي عين طاعته سبحانه, فقال: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } النساء، بل جعل سبحانه المسلم غير مهتدٍ, حتى يطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: { وإن تطيعوه تهتدوا } النور، وبين الله سبحانه أن أعظم حسرة على العبد يوم القيامة, عدم طاعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: { ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني } الفرقان، وأما "الديموقراطية" فالمشرِّع فيها هو المخلوق الجاهل -مهما بلغ من العلم- لأنه إن علم شيئا فقد جهل أشياء.(1/14)
2- لا يجوز التقارب بين الإسلام و"الديموقراطية" ولو في أمور جزئية, لأن الإسلام شامل كامل لكل قضايا الحياة، قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } النساء، فإذا كان إيماننا لا يتم إلا بتحكيم رسولنا - صلى الله عليه وسلم - , دل هذا على أن كل مسلم مطالب بقبول الحق في كل مسألة، فقد قال الله: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } النساء، فقوله سبحانه: { في شيء } يشمل كل مسألة وقع فيها التنازع، لأنه نكرة في سياق الشرط, وقوله سبحانه: { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر } دليل على أن من لم يرد محاكمته ومنازعته إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كاذب في دعوى الإيمان الواجب.
3- لو تقاربنا معهم, لن ننجو من عذاب الله، قال الله: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } الجاثية، أي لن يردوا عنا غضب الله، وسخطه, والخزي بين يديه, وسوء العذاب في الدنيا والآخرة. وإذا كنا سنتعرض لسخط الله من أجل طاعتنا لهم؛ فالسلامة والخير كل الخير أننا نرضي ربنا, لأن طاعة المخلوق في معصية الله, ثمرتها الذل والهوان، قال الله تعالى: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } هود. فإذا كان مجرد الركون إليهم يؤدي بدون تأخّر إلى مس النار، فما بالك بمن يقبل شيئا من أحكامهم؟.(1/15)
4- لو أطعناهم في بعض الأمور الجزئية, ورفضنا أن نطيعهم في الأمور الكلية, لن يرضوا عنا، ولن يكونوا معنا، ولن يدعونا من الأذى أبداً, حتى نقبل دينهم كله, ونترك ديننا كله، قال سبحانه: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } البقرة.
وهذا الذي جعل بعض المسلمين وبالذات بعض الحكام يَقْبَلُوْنَ تشريعات من اليهود والنصارى، يقولون: سنطيعهم في بعض الأمور، وقد قال الله في كتابه الكريم: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } محمد.
5- كما أنه لا يجوز لنا أن نقبل الكفر والشرك، فـ"الديموقراطية" كفر وشرك وإجرام، فكيف يجوز للمسلم أن يتناقض؟ ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: "إذا رأيتموني أردّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فاشهدوا أن عقلي قد ذهب". والذي يقبل أن يكون في تقارب مع "الديموقراطية" يكون بدون عقل سديد.(1/16)
6- نحن نختلف تماماً عن أهل "الديموقراطية" من يهود ونصارى وغيرهم من ملل الكفر، لأنهم كفروا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - , بخلاف المسلمين, فإنهم يعيشون في بلاد الإسلام, وبين أيديهم القرآن والسنة والعلماء الناصحون المخلصون والدعاة إلى الله, فليس لهم أي مبرر في سعيهم وراء "الديموقراطية", قال الله تعالى: { قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدًا } الإسراء، وقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم } آل عمران، وقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقبلوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } آل عمران، والشاهد من الآية قوله: { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } .
7- وبالمقابل أيضا يجب أن نثبت على الإسلام, كما ثبتوا هم على الكفر والباطل.
فإذا كانوا يصرون على كفرهم, وهم على باطل, فكيف لانُصِرّ على الحق وهو معنا؟ قال الله تعالى: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون } النساء.
فالله معنا حافظ، وناصر، ومدافع، وولي، ومكرم لنا في الدنيا والآخرة، والجنة مأوى كل مؤمن، والنار مأوى كل كافر. لو لم يكن من الإسلام إلا النجاة من عذاب الله، والدخول في جنته، فهل يرضى أي مسلم بالصفقة الخاسرة، نعوذ بالله من الخذلان. فالمؤمن لو كفر أهل الأرض كلهم, لما شكّ في الحق أبداً, فضلاً عن أن يتركه.(1/17)
8- اُمِرْنا بدعوة جميع الناس إلى دين الإسلام بما فيهم اليهود والنصارى، قال الله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } آل عمران.
فإذا كنا مطالبين أن ندعوهم إلى الإسلام, ليتركوا شركهم وكفرهم, ويدخلوا في الإسلام، فكيف يجوز لأي مسلم حاكماً أو محكوماً, رئيساً أو مرؤوساً, أن يتنازل من كونه داعياً لهم, إلى أن يكون مدعواً قابلاً لما جاءوا به من الشر والباطل؟ فهذا غبن فاحش, وضلال مبين.
9- أيضا لو آمنا بصحة "الديموقراطية", لما استقر لنا الإيمان بالله, لأنه لا يصحّ إسلامنا حتى نكفر بها، قال الله: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } البقرة. فجعل الله الكفر بالطاغوت شرطاً في صحة الإيمان.
وهنا أمر مهم وهو: لماذا قدم الله الكفر بالطاغوت؟
الجواب: أن وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط في كل حال, بخلاف افتقاد الشرط, فإنه يستلزم فقدان المشروط، فربنا سبحانه جعل الكفر بالطاغوت شرطاً في صحة الإيمان، فإذا افتقد هذا الشرط, بطل الانتفاع بالإيمان، وإن كان هنا يستلزم وجود المشروط، فكلاهما لازم ومستلزم. قال الله في كتابه الكريم: { ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } النحل، وقال الله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } النساء، ولا شك ولا ريب أن "الديموقراطية" هي أكبر الطواغيت.
فإذا كان الساحر طاغوتاً، والحاكم الذي يحكم في مسألة أو مسألتين بخلاف حكم الله البيّن طاغوتاً، فما بالك بـ"الديموقراطية" التي هي في حقيقة الأمر عند أصحابها آلهة تشرّع كل الأحكام, وتصادر أحكام الله عز وجل؟(1/18)
وإذا كان رفع الصوت من قبل المسلم عند كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - , سبباً لإحباط العمل الصالح, كما قال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } الحجرات. فما بالك بمن يزيد إلى جانب رفع الصوت, رد حكم الله وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الإعراض، والاستهزاء بحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - , والتكبر والصدّ، بل والمعاداة بماله وجاهه وكل ما يملك لحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ألا يكون هذا أولى أن يحبط الله إيمانه وعمله الصالح؟!.
10- لو فرضنا جدلاً أن المسلمين قبلوا "الديموقراطية" –واغتروا بما يلمعه أصحابها- فمن يضمن لهم بقاءها؟ أليس هذا النظام كغيره من الأنظمة السابقة, التي ظهرت ما بين الحين والآخر, وشاعت وذاعت, وظن الناس أنه لا يمكن أن تُزحزح، ثم سرعان ما يظهر للناس فسادها, فيتركونها من ذات أنفسهم.
ولا نذهب بعيداً, فهذه الاشتراكية التي هي في الحقيقة كـ"الديموقراطية" في الكفر, من كان يظن من أهلها في الستينات والسبعينات, أنها ستنهار وتنتهي، فقد كان من الناس من يقول: " اُنقذت الأمة بالاشتراكية"!. وانظر كيف زالت, وأوّل من تنكّر لها هم واضعوها, ولماذا فشلت؟
أيسر جواب: لأنها من وضع البشر. و"الديموقراطية" كذلك هي من وضع البشر الذي لا يملك من الأمر شيئا، فإن الحياة يُدبّرها الله سبحانه وتعالى كما يريد, لا كما نريد نحن، قال سبحانه: { فعّالٌ لما يريد } البروج، وقال سبحانه: { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قدير } آل عمران.
فهل يجوز أن نردّ ما جاءنا من الله, من أجل أن نقبل رأي فلاسفة ضائعين تائهين وثنيين؟!.(1/19)
وهل يجوز أن نرد شريعة الله, وهي شريعة الكمال والشمولية على مر العصور, وهي صالحة لكل زمان ومكان؟
إن لنا منذ بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ألف وأربعمائة سنة, والشريعة لم ينقص منها حرف واحد, وستبقى شريعة الله خالدة بإذن الله إلى قيام الساعة.
فكيف يصح أن نتقارب معهم, والمفكرون منهم يقولون: "إنه لا حل لأزمات الأمة إلا بأخذ الإسلام". وقد ذكر الدكتور/ عماد الدين خليل في كتابه (قالوا عن الإسلام) عن أكثر من عشرين مفكراً غربياً, أنهم قالوا: "ليس هناك أي دين آخر غير الإسلام لديه الإمكانية لحل كافة مشكلات الناس في العالم الحديث, وهذا هو امتياز الإسلام" وكل كلام هؤلاء يدور حول هذا المعنى.
وذكر في غضون الكتاب ذكر أقوالاً كثيرة, تبيّن عظمة القرآن وعظمة النبي - صلى الله عليه وسلم - . والحق ما شهدت به الأعداء.
فالإسلام حق لاشك في ذلك, شهد الأعداء أم لم يشهدوا, ولكنه يزداد عظمة في نفوس كثير من الناس, يوم أن يعترف الأعداء بأنه حق مع كثرة معاداتهم له وإعراضهم عنه، وقد قال الله : { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } البقرة.
فما المانع لهم من أن يؤمنوا؟
الجواب: هو الحسد الكامن في نفوسهم، وذلك أن الله فضّل هذه الأمة بالرسالة المحمدية, واختصها بما لم يختص غيرها به، فلذلك حسدونا، قال الله تعالى: { ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } البقرة.
فبسبب ما اختصنا الله به من الخير, تفجّرت قلوب اليهود والنصارى حسداً، وأدى حسدهم إلى أن يدبّروا لنا المكيدة بعد المكيدة, فلا يهدأ لهم بال, ولا يقر لهم قرار, إلا إذا تنفسوا بشيء من هذا الحسد, الذي هو الداء الدفين، والذي ظهر عند أن عظمت نعمة الله على عباده الذين اختارهم لطاعته ولنصرة دينه.(1/20)
فاليهود والنصارى وغيرهم يروِّجون للـ"ديموقراطية" و"الانتخابات" وهم سائرون على ذلك، ولابد منها في نظرهم, لأنها دينهم. فمن اعتنق الكفر روّج له، وهذا ما قاله الله ــ عن حملة الديموقراطية اليهود والنصارى ومن شايعهم ــ { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } البقرة، وقال سبحانه: { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } آل عمران، وقال الله سبحانه: { وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } آل عمران.
فهذا دأب اليهود: أنهم دائماً يجيدون التلبيس والزعزعة والخلخلة والفوضى في صفوف المسلمين، وانظر: ماذا عملت هذه التلبيسات في مسلمي هذا الزمان؟!.
إذاً: فلا غرابة أن يكون اليهود بالذات مع إخوانهم النصارى هم قادة وخبراء التلبيس والفتن التي تخرب صفوف المسلمين، ولكن الغريب أن يوجد من المسلمين من يلبّس على المسلمين، ويجعل قضية "الديموقراطية" و"الانتخابات" قضية ينبغي أن تُتلقى بالقبول, أو السكوت على الأقل، وأنها من مزايا الحضارة العصرية, وأنها تدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة، وقد شرحنا شيئاً من هذه الألفاظ في فصل سبق.
فلا يجوز لأي مسلم أن يتشبّه باليهود والنصارى في تلبيس الحق بالباطل، فما سلب الله من أهل الكتاب نعمة الشريعة, إلا بسبب كتمان الحق وتلبيسه بالباطل، والله قد تولى حفظ هذا الدين إلى قيام الساعة.
ما حكم القول بأن "الديموقراطية والانتخابات" هي الشورى الإسلامية؟
الجواب:
والله لولا أننا نخشى على جهّال الناس أن يتأثروا بمثل هذه الكلمات, لكان الواجب الإعراض عن الرد عليها.(1/21)
وقبل أن ندخل في بيان المجازفة في هذه المساواة، أذكّر هؤلاء بحديثين عظيمين، وهما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من قال: إني بريء من الإسلام, فإن كان كاذباً؛ فهو كما قال, وإن كان صادقاً؛ لم يعد إلى الإسلام سالماً)) رواه النسائي وابن ماجه والحاكم من حديث بريدة .
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها, يزلّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) متفق عليه من حديث أبي هريرة, ففي هذين الحديثين نصيحة لمن يقول على الله عز وجل, بغير علم, ولا هدى, ولا كتاب منير.
وعلى كلٍ: فـ"الديموقراطية" و"الانتخابات" لا تلتقي مع الشورى التي شرعها الله, لا في الأصل ولا في الفرع، لا في الكل ولا في الجزء، لا في المعنى ولا في المبنى، والدليل على ذلك أمور:
أولاً : من شرع "الديموقراطية"؟
الجواب: الكفّار.
? من شرع الشورى؟
الجواب: الله.
? وهل للمخلوق أن يشرع؟
الجواب: لا.
? وهل يقبل تشريعه؟
الجواب:لا.
? المشرّع للـ"ديموقراطية" هو المخلوق، والمشرّع للشورى هو الله سبحانه. فإله الشورى وأهلها هو الله عز وجل، وإله "الديموقراطية" وأهلها هم الكفار والأهواء. فهل لنا إله غير الله ؟!. قال الله تعالى: { أفغير الله أبتغي حكماً } الأنعام، { أفغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يطعِم ولا يطعَم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين } الأنعام، { قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء } الأنعام. فهي المفاصلة التامة بين "الديموقراطية" و"الانتخابات", وبين الشورى الإسلامية.
ثانياً: الشورى الكبرى وهي: ما يتعلق بسياسة الأمة، يقوم بها أهل الحل والعقد من علماء وصالحين ومخلصين، و"الديموقراطية" يقوم بها أهل كفر وإجرام وجهل من رجال ونساء، وإذا أدخلوا مسلمين أو علماء معهم؛ فهي لعبة فقط على المسلمين.(1/22)
وهل يجوز أن يُسوّى بين المسلم المؤمن الصالح الطيب, الذي اصطفاه الله واختاره، وبين المجرم الذي أبعده الله وأخزاه؟!!، قال تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون } القلم، وقال سبحانه: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } الجاثية، وقال سبحانه: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ص.
ثالثاً: أهل الشورى لا يُحلّون حراماً, ولا يحرمون حلالاً، ولا يحقّون باطلاً, ولا يبطلون حقاً، بخلاف أصحاب "الديموقراطية" فإنهم يحلون الحرام ويحرمون الحلال، ويبطلون الحق وينصرون الباطل. فأهل الشورى يتشاورون فيما أشكل عليهم من أمور الحق وتنفيذه, فهم متبعون ومقتدون, ولا يأتون بأحكام تخالف حكم الله, وأولئك مبتدعون فارضون للباطل مشرّعون من دون الله، قال الله سبحانه: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } الشورى، وقال جل ذكره: { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } الأنبياء. وقال سبحانه: { مالهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً } الكهف.
رابعاً: الشورى ليست إلا في أمور نادرة، فما حَكَمَ الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وظهر ذلك الحُكْمُ فلا شورى فيه، أما "الديموقراطية" فإنها مضادّة لأحكام الله قال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } المائدة، وقال سبحانه: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة. { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } المائدة { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } المائدة.(1/23)
خامساً: الشورى ليست فرضاً ولا واجبة في كل وقت، بل هي تختلف باختلاف الظروف والأحوال، فتكون في وقت واجبة, وتكون في وقت آخر غير واجبة، ولهذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفعل الشورى في التحرك لبعض المعارك والغزوات, ولا يفعلها في وقت آخر، فهي تختلف باختلاف الأحوال.
أما "الديموقراطية" فهي فرض على أهلها, ولا يُسمح لأي إنسان أن يخرج عنها أبداً من الحكام والرؤساء، ولابد أن ينفّذوها ويطبقوها على شعوبهم. ومن فرض على الناس مالم يفرضه الله, فقد استعبد الناس، قال الله: { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً } الكهف.
سادساً: "الديموقراطية" ترفض الشريعة الإسلامية, وتتهمها بالعجز وعدم الصلاح, والشورى أثبتت قوّة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان.
سابعاً: الشورى جاءت حين جاء الإسلام، وأما "الديموقراطية" فما جاءت إلى بلد المسلمين إلا في هذين القرنين ـ الثالث عشر والرابع عشر الهجريين ـ فهل معنى هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان "ديمقراطياً" وكذا كان الصحابة وجميع المسلمين؟!.
ثامناً: "الديموقراطية" معناها: "حكم الشعب نفسه بنفسه".
أما الشورى: فهي من التشاور, فليس فيها إنشاء حكم لم يكن له أصل في الشرع، وإنما فيها التعاون على فهم الحق, ورد الجزئيات للكليات, والمستجدات للأمور العتيقة.
2- الانتخابات
الانتخاب معناه: الاختيار, وهو: "إجراء قانوني يُحَدَّدُ نظامه ومكانه في دستور أو برنامج أو لائحة, ليُختار على مقتضاه شخصٌ أو أكثر لرئاسة مجلس أو نقابة أو ندوة أو لعضويتها أو نحو ذلك".
وهذه طريقة غير شرعية, كما سيظهر من خلال هذا الكتاب المبارك -إن شاء الله-.
الفصل الأول
مفاسد الانتخابات النيابية
المفسدة الأولى
الإشراك بالله(1/24)
"الانتخابات" داخلة في الإشراك بالله، وذلك في شرك الطاعة، حيث إن "الانتخابات" جزء من النظام "الديموقراطي"، وهذا النظام من وضع أعداء الإسلام، ليصرفوا المسلمين عن دينهم.
فمن قبله راضياً به, مروّجاً له, معتقداً صحته, فقد أطاع أعداء الإسلام في مخالفة أمر الله عز وجل، وهذا عين الشرك في الطاعة، قال الله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم } الشورى. وقال تعالى: { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزّل الله سنطيعكم في بعض الأمر } محمد, وقوله تعالى: { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } الأنعام.
فهل "الانتخابات" من شرع الله, أم من شرع البشر؟.
فإن قالوا: هي مِن شرع الله.
فهذا تجرّؤٌ وافتراء على الله، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ووجود الدساتير العلمانية الموجودة في بلاد المسلمين أكبر شاهد على أن "الانتخابات" من النظام العلماني.
وإن قالوا: هي مِن تشريع البشر.
فالجواب: كيف قبلتم تشريع البشر؟ وما الحكم على من قبل هذا التشريع؟ أليست الآية واضحة في أنهم قد جعلوا مؤسسي "الديموقراطية" الذين وضعوا "الانتخابات", شركاء لله في التشريع ووضع المناهج للخلق؟
وإذا كان من قَبِلَ نظام "الانتخابات" ليس متخذاً المخلوق مشرِّعاً, فمتى يكون المخلوق مشرِّعاً؟! وكيف نفهم الآية السابقة؟
ولم يكتف المخالف بدعواه: أن "الانتخابات" جائزة عنده، بل زاد الطين بِلّةً, فقال: هي واجبة, وتاركها آثم, وفاسق, ولم يؤد الأمانة...الخ.(1/25)
وإذا كان الله عز وجل قد عاب على الذين: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } . أي اتخذوهم: مشرّعين لهم, وهم يعتقدون صحة ما شرعوه لهم؛ مع أنهم أعطوا هذه المكانة للأحبار والرهبان, رمز الدين والشرائع السماوية, فما ظنك بمن يجعل أهل التشريع أجهل الناس وأضلّهم من اليهود والنصارى والوثنيين, عليهم لعنة الله؟!!. وقد قال الله في كتابه: { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } الأنعام.
قال ابن كثير في تفسيره: "أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه, إلى قول غيره, فقدمتم عليه غيره, فهذا هو الشرك".
وإذا كان من أطاع المشركين -معتقداً صحة قولهم- في مسألة واحدة, وهي مسألة إباحة الذبيحة التي تُركت التسمية عليها عمداً، إذا كان فاعل ذلك مشركاً, فما بالك بمن يطيع أشد الناس عداوة للذين آمنوا, وهم اليهود, في أكثر من مسألة، وفي مسائل مصيرية تتعلق بقيادة الأمة؟ أفلا يكون هذا أخطر من طاعتهم في تحليل الذبيحة؟!
قال الله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } الأحزاب، وقال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } النساء.
وقال تعالى -وهو يخاطب المؤمنين-: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } الحجرات، وقال تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } النور.(1/26)
والآيات كثيرة في التحذير من مخالفة شرع الله، فلا يجوز لنا أبداً أن نسهّل للناس المخالفة, وذلك بسكوتنا عن بيان الحق بالدليل الشرعي, وما سيأتي من المفاسد توضيح وتبيين لما يغيب من الحق عن إدراك كثير من الناس, والله المستعان, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المفسدة الثانية
تأليه الأغلبية
"الانتخابات" سلّم الوصول ومرقاة الصعود للمجالس
ــ سواء كانت رئاسية أم نيابية أم محلية أم غير ذلك ــ التي تقوم على تأليه الأغلبية، واعتماد ما قبلته, وإن كان باطلاً، ورد ما رفضته, وإن كان معلوماً من الدين بالضرورة.
فهي إذاً ذريعة لهذا التفويض الذي لا يكون إلا لرب العباد أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال الله تعالى: { والله يحكم لا معقّب لحكمه } الرعد، وهؤلاء لم يكونوا معقّبين فقط, بل ومصادرين لدين الله، قال الله تعالى: { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } الأنبياء. ومن الذي يسأل ربنا وهو القائل: { وهو القاهر فوق عباده } الأنعام، أي فوقهم بقهره وسلطانه وذاته العلية سبحانه وتعالى, فهو القادر على البطش بالجميع، والمحيط بهم والحاكم عليهم.
ثم كيف يُصادَر حكم الله؟ وهل هذه إلا نفخة شيطانية, عن طريق العُجْب والغرور عياذاً بالله؟، قال الله سبحانه وتعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } يس. ثم إنّ المجلس لو أقرت فيه الأغلبية حكماً يوافق الشرع, فإنهم يعتمدونه, لا لأنه وافق الشرع، إنما لأنه وافق حكم الأغلبية, فمن قضى قضاءً وافق فيه الحق غير قاصدٍ إحياء حُكْم الله؛ فهو من قضاة النار، كما أخبر بذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار, وقاضٍ في الجنة, الذي في الجنة: رجل علم الحق فقضى به, واللذان في النار: رجل عالم بالحق فقضى بخلافه, ورجل جهل بالحق فقضى بخلافه)) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي والحاكم وغيرهم من حديث بريدة.(1/27)
والمسلمون بصنيعهم هذا يعمقون النظام "الديموقراطي" في نفوس أهله وأصحابه. والله المستعان.
المفسدة الثالثة
اتهام الشريعة بأنها ناقصة
الذين يجيزون "الانتخابات" وما وراءها؛ أساءوا إلى الإسلام، حيث أعطوا أعداء الإسلام شرعية اتهام الشريعة الإسلامية بأنها ناقصة وعاجزة عن إصلاح حياة الناس، واتهموا الشريعة بالنقص أيضاً. فهم لو كانوا موقنين بكمالها من كل الوجوه, لما وافقوا على "الانتخابات", وهذا لابد منه، ومهما قالوا: شريعتنا كاملة, مع عدم تحكيمها, فهو زعم باطل.
والأدلة كثيرة على كمال الشريعة.
قال الله سبحانه وتعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } المائدة. فهو الإكمال الإلهي الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحاط علمه بما كان وما سيكون وما هو كائن، وهكذا شريعته سبحانه وتعالى أحاطت بكل ما يحتاجه الناس في ماضيهم وفي حاضرهم وفي مستقبلهم، فالشريعة كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا في زمان ولا في مكان، وقد رضيها سبحانه, فمن ابتغى الرضى في غيرها, فقد نسب إلى الله النقص والعجز, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال الله سبحانه وتعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً } الفرقان، وهذه الآية تضمنت مقارعة أصحاب الفساد والشبهات، والقرآن والسنة يضمنان لنا مقارعة المفسدين بشتى أنواعهم وفسادهم, حيث كانوا, وكيفما كانوا، وقال الله عز وجل: { وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } الأنعام، ولا يأتي أحد بِشَرٍّ؛ إلا بيّن القرآن والسنة حقيقته في كل زمان ومكان، قال الله تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } الإسراء. فما من قضية إلا والقرآن والسنة حكما فيها بما هو أنفع وأصلح وأعدل، وهذه هداية القرآن لا دَجْل البشر، وقال الله: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } العنكبوت.(1/28)
فمن لم يكفه القرآن فلا كفاه الله، والله لو تناطحت الجبال بين يديه من خشية الله ما صلح ولا استقام إلا أن يشاء الله، قال الله: { فماذا بعد الحق إلا الضلال } يونس، ويقول سبحانه: { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } النحل. ومادام القرآن تبياناً لكل شيء، فما بقي لأحد حجة بعده ولا عذر.
فمن شاء الهداية, فهي في القرآن والسنة, ومن شاء الرحمة من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة, فهي في القرآن والسنة. ويقول الله: { ما فرّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } الأنعام، وهذا على أحد التفسيرين للكتاب. وقال سبحانه: { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } طه، وقال سبحانه: { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة، وقال سبحانه وتعالى: { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين } النمل، فإذا كان يُصلِحُ أهل الكتاب, ويردهم عن عيوبهم ويهديهم إلى الطريق المستقيم, فكيف نتلقى عنهم ما هو من كفرهم واختلافهم وشرهم؟. ويقول الله: { وأنزلنا عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } المائدة، فالقرآن هو المرجع في منهج الحياة، وشرائع الناس، ونظام حياتهم, بلا تعديل ولا تبديل، وكل خلافٍ حكمه في القرآن، وكل خير يوجد في القرآن والسنة، ومالا يقبله القرآن والسنة فليس بهدى.(1/29)
والآيات كثيرة في إثبات كمال الدين وصلاحه لكل زمان ومكان، ولننظر إلى ألفاظ هذه الآيات, وما فيها من تبيين الكمال من جميع الوجوه في الآية الأولى { أكملت لكم دينكم } أفادت أن الإكمال من أجلنا, حتى لا نتخبط، ثم قال تعالى: { وأتممت عليكم نعمتي } فعندنا "إكمال" وعندنا "إتمام" وهذا الإكمال والإتمام مصدرهما من عند الله. فهل يتصور عاقل أن الله يُنْقِص مثقال ذرة مما نحتاجه؟ معاذ الله. وفي الآية الثانية { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } لم يقل سبحانه وتعالى: إلا جئناك بمثَل, بل قال: { إلا جئناك بالحق } فهم يأتون بالباطل، وهو يأتيهم بالحق, مع كمال الوضوح, فلا يلتبس بالباطل، فهل هناك حق يزيل الشبهات, ويزهق الباطل سوى القرآن والسنة؟ وفي الآية الثالثة { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } فهو البيان الشامل في كافة المجالات، والهداية الكاملة، والرحمة التامة، وفي الآية الرابعة { ومهيمناً عليه } فهو المسيطر، والحاكم على كل قول وعلى كل فعل، وعلى كل حركة أياً كان القائل، وأياً كان الفاعل, وفي أي مكان، وفي أي زمان, إذاً فما الذي يخرج من حياة الناس عن هذه الإحاطة؟
وإكمال القرآن والسنة أيضا من جهة الحفظ على الدوام, حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(1/30)
فالقرآن الذي كان في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفي عهد الصحابة والتابعين, هو القرآن الموجود في أيامنا, فلم ينقص منه حرف واحد, ولا تغير منه حرف واحد، وسيكون هكذا إلى قيام الساعة, والسنة المطهرة مليئة بإثبات كمال الشريعة الإسلامية، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً, فعليكم بسنتي, وسنة الخلفاء الراشدين)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن العرباض. ولا يمكن أن يردنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مالا خير فيه، فعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدلّ أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم)).
بل إن السنة كافية في معالجة الاختلافات, ورد الأمور إلى نصابها, وتعريف الناس بالحق، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي, ولن يتفرقا حتى يَرِدا عليّ الحوض)) من حديث أبي هريرة عند الحاكم، وصدق الله إذ يقول: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } الحجر، فقد صدق سبحانه, وأنجز وعده, وأتم عدله, وأسبغ رحمته ونعمته.
فإذا كان القرآن الكريم يتكوّن من ثلاثين جزءًا, وأكثر من ستة آلاف آية، والسنة الصحيحة تتكون من عشرات الآلاف من الأحاديث, فما قيمة دساتير "الديموقراطية" التي تتكون من مواد فاسدة؟!.
المفسدة الرابعة
تمييع الولاء والبراء
تقوم "الانتخابات" على تضييع الولاء والبراء. ولا يخفى على كل مسلم ذاق طعم الإيمان؛ أن الحب يكون لله ورسوله وأوليائه، والمعاداة تكون لمن عادى الله ورسوله وأولياءه، قال الله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } المائدة.(1/31)
انظر إلى وعد الله بالغلبة للمؤمنين على أعداء الله بعد ذكر قاعدة الإيمان، وهي: الولاء الثابت لله ولرسوله وللمؤمنين, مع المفاصلة التامّة للأعداء، ولهذا افتتح الله هذه الآية بقوله: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليمٌ إنما وليكم الله ... } المائدة، فما قيمة مؤمن لا يوالي أولياء الله, ولا يحارب أعداء الله؟ وتأمّل قوله سبحانه: { فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه } فهم لا يحتفلون أبداً بمحبة الشخصيات ذات الزعامة والرئاسة والوجاهة والمال والتكتل ضد المؤمنين، ثم بيّن موقفهم من المؤمنين والكفار, فقال: { أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين } انظر ما أعظم هذه الصفة، وما أبعد كثيراً من الناس عنها, وخاصة الدعاة إلى "الانتخابات" { أذلةٍ على المؤمنين } أي: أنهم لينون منقادون لبعضهم بعضاً، فيما يرضي الله، فلا يتكبر على أخيه المؤمن، ولا يحتقره, فهو سمْح ودود معه، وقال سبحانه: { محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } محمد. ومنذ أن جاءت الحزبية, وبالذات في "لانتخابات" –لأنها تظهر كل إنسان على حقيقته ومع من هو- استفحل الخلاف, وتغلبت القسوة بين المسلمين.(1/32)
والإسلاميون يجعلون الناصح لهم عدواً، فما أن تأتي تبين خطأ من أخطائهم, إلا ويقول: هو يسب ويعادي العلماء..! إلى غير ذلك، وتجد قادتهم مع العلمانيين أصدقاء وأحباباً، وأعني بذلك المرشّحين والقادة لهذه الجماعات, إلا من رحم الله، والله يقول: { لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } إلى قوله تعالى: { رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } المجادلة.
فحزب الله هو الذي لا يوادّ من حادّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - , وليس حزب الله من يدافع عن "الديموقراطية" ويروّج لها، بل الله يقول: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } التوبة. فهذا مطلب الله من الجماعة المسلمة التي تريد أن تسلم من مصير الفاسقين, فلا علاقة مع أحد, ولا مصلحة لأحد, إلا من أجل الله، كل الجاهلية موضوعة تحت الأقدام: المباهاة والمفاخرة بالآباء والأخوة والعشائر والأموال والتجارة، هذه كلها لا تسعف فاعلها ولا تنجيه من المصير الأسود.
فيا دعاة الأحزاب: أين المعاداة لأصحاب الشركيات والشعوذة والخرافات؟ ألستم تدخلونهم في أحزابكم, وتتركونهم على ما هم عليه, بحجة أن هذا ليس وقت الكلام في هذه الأمور؟ أو أنها قشور, وليست بلباب، المهم أنه ينتخب؟!.
أين المعاداة لدعاة التصوّف؟
أين المعاداة لدعاة البعثية والناصرية والاشتراكية الذين ظهرت منهم القناعة بهذه الأنظمة؟
أين المعاداة لتاركي الصلاة؟ ألستم تجالسونهم دون نكير عليهم؟!(1/33)
أين نصحكم للحكام المخالفين للشرع؟ إن رضيتم عنهم؛ نفّذتم ما قالوا وإن كان باطلاً, بحجة أن هذا نظام وقانون، وإن سُلبتم مصلحة مادية؛ قامت قيامتكم، وأثرتم الانقلابات والثورات وكفرتموهم في المساجد.
ثم ألستم تشاركون دعاة تقارب الأديان بالحضور والكلام المميّع, وإن سميتموه: محاورة بين الأديان؟
ألستم تتحالفون مع أحزاب علمانية, وإن سميتموه: تنسيق برامج لا مناهج؟
نحن نحب لإخواننا هؤلاء أن يتوبوا إلى الله، ويتعاملوا كما يريد الله سبحانه، وعليهم أن يغسلوا هذه الذنوب بدموع التوبة الصادقة.
وليس بعيب أن يتوب المسلم إلى ربه، فهذا وحشي قاتل حمزة, لمّا دخل في الإسلام, ورأى أنه قد أساء في أيام كفره إلى الإسلام كثيراً، وبالذات أنه قتل حمزة، قال: إنه لا يغسل ذنبي إلا أن أنصر الإسلام كما خذلته، فقام بقتل مسيلمة الكذاب, ولسنا نقول لإخواننا: إنهم كفار, معاذ الله، ولكن نقول: أساءوا إلى الإسلام بهذه التصرفات، فالتوبة سبيل كل مذنب وصادق. والله المستعان.
المفسدة الخامسة
الخضوع للدساتير العلمانية
معروف أنه لا يمكن أن تدخل الأحزاب الإسلامية في "الانتخابات" إلا بعد الموافقة منها, على شكل ومضمون الدستور, بما فيه من مواد مخالفة للإسلام.
فهذا يُثْبت لنا أن الأحزاب الإسلامية وافقت على هذه المواد وما تضمنته، وإلا لم يوافق شركاؤهم على دخولهم في "الانتخابات"والمجالس النيابية، وهذه الموافقة على ما في هذه المواد الموجودة في الدساتير "الديموقراطية", تجعل الأحزاب الإسلامية المشاركة غير قادرة على فعل شيء في مجلس النواب.
وإذا علمت هذا فاعلم أن كل حزب أو جماعة طالبت بالدخول في "الانتخابات", لا تُقْبَل إلا بشروط.ومنها:
عدم انتقاد الأفكار التي مع الأحزاب الأخرى، ويعترف بها, ويوافق على أن يكون قوله -ولو كان هو من تعاليم الإسلام- كالأفكار الوضعية, قابلاً للنقاش, والرأي للأغلبية.(1/34)
ومنها: الموافقة على قبول التعددية السياسية العقدية, وبالذات في البلاد الإسلامية.
ومنها: الموافقة على "قانون ميثاق الشرف" بين الأحزاب الإسلامية والعلمانية: "أن لا يكفّر, ولا يفسق, ولا يبدع بعضهم بعضاً".
ومنها: الالتزام بالدستور وقانون مجلس النواب ولوائحه.
ومادامت الموافقة من الأحزاب الإسلامية حاصلة على أصول وفروع "الديموقراطية", ومضمون هذه الأصول مع العلمانيين؛ فهذا دليل واضح على أن غاية الأحزاب الإسلامية –في المآل- هي الكراسي, وليس الإسلام، -سواء علموا ذلك أم جهلوا- لأن موافقتهم للعلمانيين لا تضمن إلا البقاء على الكرسي الصوري المؤقت, دون أن يحققوا للإسلام شيئاً يُذكر, ولهذا سهل منهم التنازل عن الحكم بالشريعة الإسلامية إلى الحكم بالأغلبية.
والكلام في هذا الكتاب حول الدستور اليمني بعد التعديل، حتى لا يُفهم أنني أقصد الدستور السابق، وإنما الدستور الجديد الذي عُدِّل في عام 1994م. والذي أوهموا الناس أنه قد أصبح على الكتاب والسنة!.
المفسدة السادسة
إيهام المسلمين
تقوم "الانتخابات" على المغامرة من قبل الناخب والمنتخَب، وتقوم على مبدأ التنازل كما ذكرنا في هذا البحث.
فهل عند الناخب والمنتخَب ضمان بالنجاح؟
الجواب:لا.
فإذا كانوا ليسوا ضامنين لأنفسهم النجاح, فكيف تعدّوا حدود الله بمجرّد الظن والتخمين والأوهام؟!. وهذا هو الخروج عن الحق إلى ما هو مشكوك فيه، قال الله: { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } النجم، وقال سبحانه: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } الأنعام. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وإذا كانوا ليس عندهم ثقة في أنفسهم, فهل خصومهم ضمنوا لهم شيئاً؟(1/35)
الجواب: لا نعلم أن الخصوم ضمنوا للإسلاميين المشاركين أي شيء إذا فشلوا, وإذا كانوا لم يضمنوا لهم, فلماذا يدفعون بعشرات أو مئات الملايين من المسلمين على مر العصور إلى هذه المعاصي؟, وبعد هذا يقولون: "فشلنا, زوّروا علينا". والبلاء عند أن يكون المسلم لا هو بالذي سلم من الإقدام على معصية الله وسخطه سبحانه وتعالى, ولا هو بالذي نال مراده الدنيوي.
أليست هذه هي الخسارة الحقيقية لمن لبّس على الناس, وخالف الكتاب والسنة, وأظهر التمسّك بكلام العلماء إذا وافقوا قوله؟ وإن اجتمعوا على خلاف حزبيته, ما أقام لإجماعهم وزناً، قال تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } الحج.
العلمانيون عندهم تأكّد أن الكفة بأيديهم، فهم وإن خسروا المال, فعندهم في نظرهم ما يضمن لهم حق البقاء والوجود، وأيضاً إذا تحصّل الإسلاميون على مقاعد في الدولة, فهذا لا يعني أنهم انتصروا, بل هم مخيّرون بين أن يستمروا ويطبّقوا "الديموقراطية", أو يخرجوا من الوظائف, فإن طبقوا "الديموقراطية", وقعوا في العلمنة, وتعلمنوا, كما تعلمن غيرهم، وإن تركوها فقد ضيّعوا الجهود والأموال بالملايين.
فيُقال لمن ولج هذا الباب: أنت أقررت على نفسك بأن النظام الذي يجب الالتزام به, هو النظام "الديموقراطي", الذي ظهر للقاصي والداني مجانبته لشرع الله عز وجل ، بل المخالف نفسه يقر بذلك، ودعك من المائعين الذين يقولون: "الشورقراطية".
فنقول لهذا المخالف الذي بقي معه شيء من الإنصاف والاعتدال:
لو سلمنا جدلاً -من باب إرخاء العنان- أن زمام الأمور تُسلّم لك, فهل ستحكم بشرع الله, أم بـ"الديموقراطية"؟ وهل ستسمح بالتعددية الحزبية العقدية الفكرية, أم ستلغيها؟ وهل ستُبْقِي مقرات الأحزاب المنحرفة, وتصرف لها ميزانياتها من بيت مال المسلمين, أم ستلغيها؟(1/36)
فإن قال: سنبقي كل ذلك درءاً للمفسدة، أو تقليلاً للشر, فيا حسرة من أوهمتموه بأنكم ستقيمون دولة الإسلام من جديد، ويا ضياع الأموال والجهود والأوقات التي أنفقت في سبيل إبقاء "الديموقراطية" في البلاد.
ثم ما الفارق بين أن يحكمنا بـ"الديموقراطية" رجل ببنطال وكرفتة, أو رجل بجبة وعمامة, إذا كان الجميع يدعون بأنهم "ديمقراطيون"؟.
ومع أنه لا يجوز للمسلمين أن ينصوا في دستورهم على أنهم يأخذون برأي جمهور العلماء مطلقاً, سواءً وافق الدليل أم خالفه، فكيف بمن ينص في دستوره بالعمل برأي جمهور مجلس النواب, وليسوا بعلماء؟.
وإن قال: سنغير النظام "الديموقراطي" إلى نظام إسلامي، ونلغي كل الأحزاب المخالفة للشرع...الخ ما سبق ذكره.
فهذا إما أنه لازال يمارس دور التلبيس على الناس، وإما أنه أحمق، لا يدري حاله ولا مآل كلامه, وإما أنه يفتح باب فتن وقتل وقتال بين الناس.
والعاقل منهم هو الذي يحار في الجواب, ويعلم أن الكفار لا يأتون بخير.
ولا يتجرأ على القول بفتح باب الفتن قبل إعطاء الجانب العقدي والتربوي حقه, إلا من ليس بأهل لإصلاح شأنه, فضلاً عن إصلاح شأن الأمة.
فاتضح أن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - , القائم على الدعوة والبيان والنصح وتصحيح العقائد والمفاهيم, فإن أعرض الناس عن ذلك وكان للمسلمين قوة جاهدوا بمن أطاعهم من عصاهم -على تفاصيل معروفة عند أهل العلم-. والله المستعان.
المفسدة السابعة
إعطاء "الديموقراطية" الصبغة الشرعية
لقد اتخذ العلمانيون وغيرهم الأحزاب الإسلامية وسيلة لتطبيق رغباتهم، وتقوية مبادئهم, فالعلمانيون يقولون: قد أعطيناكم فرصة لتشاركوا في الحكم، وتأتوا الأمور من أبوابها, وهم يريدون بهذا أن يعطيهم المسلمون الصبغة الشرعية في أن منهج الإصلاح والتغيير, جاء عن طريق نظام "الديموقراطية"، ويقولون: هذا دليل على أن أنظمة البشر أخذت حظاً كبيراً في نفع الناس.(1/37)
ولو حصل أن الإسلاميين لم يقبلوا "الانتخابات", لاضطرت الدول في البلاد العربية والإسلامية إلى إلغاء "الانتخابات", لأن الكثرة ستكون مع الإسلاميين في مقاطعة "الانتخابات", لكنهم ذهبوا يدعون الناس إلى "الانتخابات", ويقررون نفعها وشرعيتها وأهميتها.
ولم يتوقف الأمر عند الدفاع عن "الانتخابات", بل دافعوا عن "الديموقراطية" نفسها, حتى قالوا: "نسير على الديموقراطية الصحيحة غير الزائفة".
وهل هناك "ديموقراطية" صحيحة, و"ديموقراطية" غير صحيحة؟!
هذا التقسيم لا وجود له في الإسلام، إذ أن "الديموقراطية" كلها نظام كفري، أسسه الكفار، فما الذي سيكون منها صحيحاً؟
ولكن هذه تلبيسات يقنعون بها السُذَّج والعوام من المسلمين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المفسدة الثامنة
"الانتخابات" تخدم اليهود والنصارى
تقوم "الانتخابات" على الدعم الخارجي من قبل دول أو منظمات كفرية يهودية صليبية, وهذا يدلّنا على أمر مهم وهو: أن "الانتخابات" في صالحهم؛ ولو لم تكن في صالحهم ما بذلوا هذا الدعم، قال الله تعالى: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة } الأنفال.
وهذا مما يجعل الأحزاب الإسلامية المشاركة في "الانتخابات" ستجني الفشل، وترجع بخفي حنين, وهذا هو الواقع, ولكن كما قيل:"وعين الرضى عن كل عيب كليلة".
فإذا جارينا الأعداء في ذلك, فنحن منفّذون لمخططاتهم, وبلا شك نكون مخالفين لمنهج نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ونكون أيضاً مضيّعين لأموال الأمة، وطاقاتها فيما لا فائدة منه، ومفوّتين لمصالح عدة, في استعمال مال المسلمين في غير حقه، وقد جاء خارج (الصحيح) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نُهينا عن التكلف)) وهو عند البخاري من قول عمر رضي الله عنه، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) رواه البخاري عن خولة.
المفسدة التاسعة(1/38)
مخالفة منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كيفية مواجهة الأعداء
حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجه الأعداء مع كثرتهم، فلم يتخذ معهم حلولاً مخذولة ليتقارب معهم في دينهم، وبالذات اليهود الذين كانوا في المدينة، بل كان يبالغ في مخالفتهم، وقد كان على قبلتهم, فلم يطمئن بالبقاء عليها, فأمره الله أن يتحول إلى الكعبة، قال تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } البقرة. وهذا حرص على مخالفتهم في العبادة، بل خالفهم في العبادة التي هي على صفة واحدة، وفي وقت واحد، وهيئة واحدة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)) رواه مسلم وغيره من حديث ابن عباس، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم عاشوراء، ولكنه أراد مخالفتهم بصيام اليوم التاسع، وقد كان اليهود مجاورين له، فاستمر - صلى الله عليه وسلم - مدة كبيرة معهم, فأخرج يهود بني قَيْنُقاع وبني النضير، وقتل رجال بني قريظة, وفتح خيبر، ولم يعاملهم بالتنازل, بل أوصى عند موته بإخراج المشركين من جزيرة العرب, فأجلاهم عمر بن الخطاب، ومنع عمر المسلمين أن يتشبّهوا بشيء مما عليه أهل الكتاب، حتى منع أهل الكتاب من لُبْسِ القلنسوة، ومنع أهل الكتاب من أن يظهروا أي شعيرة من شعائر دينهم, إلى آخر ما ذكر عن عمر رضي الله عنه، والعلماء كلهم على هذا.
ونحن الآن يُطْلَبُ منا: أننا لا نقبل من أعداء الله هؤلاء, ما يأتون به إلينا, ويعرضونه علينا, لا من قريب, ولا من بعيد.
وقد يقول قائل: لقد كانت للمسلمين دولة عند أن حصل هذا التمييز.(1/39)
نقول: التمييز حاصل، فالمسلمون متميزون عن غيرهم, وإن كانوا مستضعفين, وقد ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه الفذّ (اقتضاء الصراط المستقيم) وكذا تلميذه ابن القيم ألّف كتابه القيم (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) بيّنا فيهما أحكام الشريعة مع اليهود والنصارى، حتى المرور في الطريق, فقد دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مضايقتهم، فقد روى مسلم في (صحيحه) وأبو داود والترمذي وأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام, وإذا لقيتموهم في الطريق؛ فاضطروهم إلى أضيقه)) هذا التوجيه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبيّن أن الأمور لابد لها من حسم وتمييز.
وكم يلتبس على الناس من أمور الحق, إذا وجد مايشوبها ويشاكلها ويشابهها من الباطل, ومن أجل هذا دعا الله إلى المفاصلة والوضوح مع كل من لا يلتزم بالحق، وجعل آكد المفاصلة مع اليهود والنصارى.
قال الله سبحانه وتعالى آمراً رسوله - صلى الله عليه وسلم - : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابدٌ ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم وليَ دين } الكافرون، سورة كاملة تُكَرِر وتؤكّد المفاصلة مع كفار قريش، لأنهم أرادوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتقارب معهم, أو أن يداهنهم.
ونعني بالمفاصلة التامة: أننا نترك كلما هو من عبادتهم, ونُقْبِل على عبادة الله, التي شرعت لنا، ونترك جميع مناهجهم المخالفة للشرع, ونُقْبِلُ على تطبيق منهج الله, وهذه البداية هي حجر الأساس, والذي يحتاج المسلمون عموماً والعلماء والدعاة خصوصاً أن يقفوا عنده طويلا.
فلا حلول, ولا تقارب, ولا التقاء أبداً مع المحاربين لدين الله عز وجل, فمهما أرادوا أن يقتربوا فسنبتعد, يقول الله عز وجل: { لكم دينكم ولي دين } .
ما عندنا ترقيع مناهج.(1/40)
فمن كان منهجه فيه خلل, فلسنا مطالبين أن نرقّع معه, بل نقول له: اترك هذا المنهج واقبل على المنهج الذي شرعه الله لنا جميعاً, وحفظه لنا, وهدانا به. -وهذا كله بتفاصيل وضوابط معروفة عن أهل العلم-.
وبغير هذه المفاصلة سيبقى الغبش والخلط والمداهنة, وبالتالي تقوم الدعوة على أسس مدخولة مغشوشة واهية ضعيفة, لا تنفع أصحابها، بل قد تخدم الأعداء.
ولهذا فإنه مِنْ أَنْكر المنكر أن يذهب المسلم -الذي يدّعي أنه عالم- إلى الاجتماع في "تقارب الأديان", وهذا حصل من أكثر من واحد من بلاد شتى. والله المستعان.
فهذه الاجتماعات محظورة شرعاً، ومهما قال الذي يذهب: أنا سأتكلم بالحق, وأدعوهم إلى الإسلام, فهذا ليس بصحيح, لأن الاجتماع جاء من أجل التقارب معهم, لا من أجل شيء آخر.
ويا ليت الذين ذهبوا تكلموا بما ينبغي, ولكنهم ميّعوا الإسلام، وما أكثر التلبيس على أهل الإيمان والصلاح من قبل أهل الشر, ليصل هؤلاء إلى أغراضهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم, شبراً بشبر, وذراعاً بذراع, حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه)) قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن)) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. وقد جاء من حديث غيره.
فالذي نعتقده وندين الله به أن "الانتخابات" طاغوتية، وأن "الديموقراطية" نظام كفري، وأن الذين وافقوا على الدخول في "الانتخابات" خالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قضية مواجهة الأعداء في كل وقت وحين, سواء علموا ذلك, أو ظنوا أنهم يحسنون صنعاً.
المفسدة العاشرة
"الانتخابات" وسيلة محرمة
إن هذه الوسيلة وهي وسيلة "الانتخابات" فيها تعميق وتأصيل للقاعدة التي تقول:"الغاية تبرر الوسيلة!" وهي قاعدة صهيونية يهودية. قال الله تعالى: { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } آل عمران.(1/41)
وقد ذكر ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين:3/134-159) تسعة وتسعين دليلاً على تحريم الوسائل التي تؤدي إلى الحرام، وأذكر مما ذكره رحمه الله, قال:
"الوجه العاشر: أن الله حرّم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه, لكن حرم القطرة الواحدة منها، وحرم إمساكها للتخليل, لئلا تتخذ ذريعة إلى الحسوة, ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب"أهـ.
قلت: وحرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البناء على القبور, لأنها ذريعة إلى الشرك، وحرّم الله القرب من المعاصي, لأن القرب منها ذريعة للوقوع فيها، وحرّم الله سب آلهة المشركين, إذا كان يؤدي إلى سب الله، قال الله تعالى: { ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } الأنعام. ونحيلك أيها القارئ إلى قراءة الفصل المذكور من كتاب "إعلام الموقعين".
فهذا ابن القيم رحمه الله قد سرد تسعة وتسعين أمراً محرّما, وذكر مع كل أمر الوسيلة التي تحرم الوصول إليه.
فنقول: التفريق بين المحرّم ووسيلته, هو اعتماد على قاعدة وضعها اليهود وهي : "الغاية تبرر الوسيلة!".
وقد دلّ القرآن الكريم على أن حكم الوسيلة, هو حكم ما أوصلت إليه، قال الله: { لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } آل عمران.
فالله شرع التُقْيَةَ عند الضرورة، فمن اتخذ هذه الرخصة وسيلة ليحب الكافرين ويبغض المؤمنين, باسم أن الله شرع التقية مع الكافر، فيقال له: قد قال الله تعالى: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } آل عمران.
فالوسيلة التي تؤدي إلى الكفر؛ استعمالها كفر، والتي تؤدي إلى حرام؛ استعمالها محرّم.(1/42)
وانظر كيف لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرة، كما جاء من حديث ابن عمر، عند أبي داود والحاكم، والذي شربها هو واحد فقط من العشرة، والباقون لم يشربوها, ومع هذا لُعِنوا جميعاً, لأنهم كانوا وسيلة إلى توصيلها إلى من شربها.
وإذا كان الحامل للخمر قد لُعِنَ لمجرد حملها، أفلا يكون من جعل وسيلةً من الوسائل تؤدي إلى الكفر آثماً؟
أيضاً ههنا سؤال, وهو: من قال من علماء السنة والجماعة على مرّ العصور: إن الوسيلة التي تؤدي إلى الحرام يجوز استخدامها؟.
فالجواب: أن اتخاذ "الانتخابات" وسيلة جائزة أمر لم يقل به الشرع، وإنما هي من فتن الأحزاب.
والقاعدة المعتبرة عند أهل العلم "الوسائل لها أحكام المقاصد" على تفصيل ليس هذا محل بسطه.
المفسدة الحادية عشر
تمزيق وحدة المسلمين
إنّ "الانتخابات" لها دور كبير في تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت وحدتهم، وهي لا تقلّ شراً عن الحزبية, التي فرّقت المسلمين فُرقةً ليس بعدها تلاقٍ، إلا أن يشاء الله، ومن أجل وحدة المسلمين، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد, وأراد أن يشق عصاكم, فاقتلوه كائناً من كان)) رواه مسلم وغيره من حديث عرفجة، وجاء عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)).
انظر يا أخي كيف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتل هذا الرجل, ولو كان يدعي الخلافة، وما ذاك إلا لأنه يُوجِد فُرْقَةً, إذ أنه عند أن يطالب بالخلافة له، يتعصب معه أناس، ويؤدّي ذلك إلى سفك دماء المسلمين، وشُرع قتله حرصاً على وحدة المسلمين.(1/43)
ولسنا نحمّل الإسلاميين كل الفُرْقَة, فالفُرْقَة قديمة, ولكنّهم جددوها بالدخول في التحزب, وصبغوها بالصبغة الشرعية, فهم في نظر الناس أصحاب صلاح واستقامة، وإن كان الناس قد غيّروا هذه النظرة لمّا علموا أن دعاة الأحزاب الإسلامية دعاة تحزب، ومنذ أن جاءت "الديموقراطية" ودخلت الأحزاب الإسلامية فيها, لم تستقم لهم قائمة الدين أبداً.
ونبدأ بذكر بعض الآيات التي تبيّن أن الدخول في التحزب ضلال مبين، قال سبحانه: { إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيْ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } الأنعام.
والله لو لم يوجد في القرآن إلا هذه الآية؛ لكانت كافية للمسلم أن يهرب من الحزبية, وكيف لا تكون كذلك, والآية فيها: { فرّقوا دينهم } . وتفريق الدين خطير, إذ أنه يفيد ترك مالا يُترك ورد مالا يُرد، والتنازل عما خالف أهواء الناس, ليرضى الناس, { وكانوا شيعاً } فلما فرقوا الدين, تفرقوا هم, لأنه لا يمكن أن يجمعنا إلا الدين.
وما أسهل الدعاوى والشطحات على من لم يتمكن من أمر دينه, إذ قد يقول هذا الذي فرق الدين: نحن سنجتمع, باعتبار أنه يريد أن يجمع الناس على نظام مبتكر، والقرآن يصرّح أن هذا لا يكون أبداً، وإذا أردت أن تعرف خطورة كلمة { شيعاً } فانظر إلى أحوال المسلمين حين دخلوا في تفريق الدين.
فانظر هل نستطيع أن نوفّق بين الخوارج والروافض؟ ودعوى الرافضة حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ودعوى الخوارج بغضه؟.
الجواب: لا نستطيع. لأن كل طائفة خرجت عن الحق.
وهل نستطيع أن نوفّق بين المعتزلة والجهمية, مع أنهما متقاربتان في الضلال؟ وهل نستطيع أن نوفّق بين الصوفية والشيعة؟ وهل نستطيع أن نوفّق بين الفرق الإسلامية الموجودة في الساحة؟
الجواب: لا نستطيع ذلك, إلا في حالة ما إذا تركت كل فرقة ما هي عليه من الباطل, ورجعت إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , على فهم سلف الأمة.(1/44)
ولا شك ولا ريب أن بداية انحراف هذه الفرق, هو الخروج عن منهج السلف، فالخوارج كان منهم من هو من أهل الزهد والفضل، وهكذا قل في المرجئة، والمعتزلة، فإن واصل بن عطاء -رأس المعتزلة- من تلاميذ الحسن البصري. فكون الرجل يكون سلفياً سنياً، ثم يخرج ويدخل في البدع، هذا دليل على انحرافه.
ولاتظن أن جمع هذه الفرق في التكتل الحزبي السري, هو الدعوة الصحيحة إلى الإسلام، بل هذا منهج يجمع في طياته شرورا عظيمة, لاتخفى على أهل العلم وغيرهم.
لما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخوارج وذكر أنهم سيفعلون ما يفعلون بالأمة, لم يقل اجتمِعوا بهم, وإنما قال: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وثمود)). وانظر بقية الآية { لست منهم في شيء } فلم يقل الله: ليسوا منك في شيء، لأن الإسلام هو دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - , ولهذا قال الله سبحانه: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } يوسف.
فلمّا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - متميزاً منفرداً بكل أحكامه، قال الله له: { لست منهم في شيء } وهذا تهديد ووعيد للذين فرقوا دينهم, ومعنى ذلك: أنت مع دينك وشرعك ودعوتك على مفترق الطرق مع هؤلاء. وانظر بقية الآية: { إنما أمرهم إلى الله } يتولى حساب عباده, ويعلم المفسد من المصلح, { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } إنه النبأ الذي لا يسمعه أحد يوم القيامة إلا سكت وانقطعت حجته ووهى عذره. قال سبحانه وتعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا } النساء. والمراد بالمؤمنين هنا: الصحابة, ومن سار على نهجهم، ومن أعظم العذاب الذي سلطه على الأمة، هو التفرق عن طريق التعصب للأهواء والأحزاب والآراء، قال سبحانه: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } الأنعام.(1/45)
انظر كيف جعل الله الحزبية المذمومة لباساً لمن دخل فيها، لم يسهل الخروج منه، فمن دخل فيها, وسعى إليها؛ فقد صارت له مثل اللباس, حيث إنها تلازمه, لأنه ملازم لها وداعٍ إليها, فجعل الله هذا العذاب, ولهذا قال سبحانه: { ويذيق بعضكم بأس بعض } .
فلابد أن يتجرّع الذين أنشئوا هذه الأحزاب التمزّق الداخلي والخصومة والنزاع المستمر.
وانظر إلى ما حدث مؤخراً في السودان, فقد أصبح الخلاف على أوجه, بين قيادات الحزب الإسلامي الحاكم هناك, وبالذات بين عمر البشير وبين أستاذه وشيخه حسن الترابي!؛
فقد افترقوا, وصار لكلٍ منهما حزباً رسمياً!!!, والله أعلم بما سيحدث في الأيام القادمة.
المفسدة الثانية عشر
هدم الأخوة الإسلامية
هدم الأخوة التي جعلها الله ميدان التعاون على البر والتقوى، وعلى إصلاح الأحوال.
والأخوة الإسلامية هي الركن الثاني لإقامة الدين، وقد جمع الله هذين الركنين بقوله سبحانه: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون } آل عمران. والحزبيون يستدلون بقوله: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا } على الدخول في أحزابهم, ظناً منهم أنهم جماعة الحق في الساحة.
فربنا جل شأنه جعل نعمة الأخوة الإسلامية, هي نعمة إنقاذ من الوقوع في جهنم، فالنعمة العظمى والكبرى التي لا تقاس بها أي نعمة، هي نعمة الإسلام، والنعمة التي تدانيها وتقاربها هي نعمة الأخوة في الإسلام.
وقد جعل سبحانه جميع البشر عاجزين عن إيجاد هذه النعمة، واختص بها نفسه عطاءً، واختصنا بها إكراماً، قال سبحانه : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيزٌ حكيمٌ } الأنفال.(1/46)
فأخوة المسلمين معجزة ربانية, تفضّل الله بها على أهل العقيدة الواحدة، والمنهج الواحد، والعمل ابتغاء مرضاته، وقد أمر الله المسلمين أن يكونوا ضد من يريد هدم هذه الأخوة، قال سبحانه وتعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } الحجرات. فأمر سبحانه بالمقاتلة للطائفة المعتدية، وأمر بالإصلاح، وأمر بالتقوى لعل الرحمة تحصل بعد هذه كلها، وإلا فلا رحمة من الله.
فانظر ما أشقى المسلمين حين يضيعون أخوّتهم لمصالح وأغراض شخصية. فلا نستحق رحمة الله إلا بالحفاظ على الأخوة كما أراد الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } التوبة. وقد جعل الإسلام التمزيق لهذه الأخوة, محاربة يستحق فاعلها محاربة الله له.
ولا شك أن من يحارب أخاه المسلم, لكونه استقام على الدين, واتبع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , ويرفض البدع والعصيان والحزبية المذمومة, فهو الذي يستحق المحاربة من الله، قال الله تعالى كما في الحديث القدسي, وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)). فقد اشتدت في أيام "الانتخابات" المحاربة لمن تمسّك بالحق، ولم ينتخب فلاناً ولا فلاناً.(1/47)
فإننا نشاهد إخواننا الإسلاميين يصرحون بأنه لا بد من المشاركة لكل فرد في "الانتخابات", ولو مع غيرهم من الأحزاب العلمانية. لكن الذي يقاطع "الانتخابات" ويرى أن الدخول فيها غير جائز, تجدهم يشنون عليه الحملات, ويحتقرونه, ويسفِّهون كلامه, وربما طردوه من المسجد أو الوظيفة, ويكيلون له الاتهامات الكثيرة، وربما لو استطاعوا ضربه لضربوه؛ وهذا كله انتصاراً للحزبية.
ولا شك أن "الانتخابات" مُمَزِّقَة لأخوة المسلمين عموماً، فإنك تجد الولد والأب في البيت في مطاحنة عجيبة، ولم تسلم حتى المرأة، والجار مع جاره، والمصلي مع المصلي، والعالم مع العالم، والداعي مع الداعي.
واستحكمت العداوة, وتسلط الشيطان، وصار كلٌ ضد الآخر، وتحولت القوة الفكرية والسلاطة اللسانية إلى إذاعة من الأخ ضد أخيه، وكل هذا بسبب الانتخابات والحزبية، والله المستعان.
صحيح أن التحزب موجود من قبل "الانتخابات", ولكن مفسدته ما ظهرت بوضوح إلا في أيام "الانتخابات"، وهل يجوز تضييع هذه الأخوة, من أجل تطبيق نظام طاغوتي؟
أنت لا تنظر أن القضية قضية صوت فقط، فكم سلبت من حقوق الأخوة بسبب وجود هذا الشر.
والعجيب الغريب أن الأحزاب الإسلامية تنادي بين الحين والآخر, أننا لا نختلف, بل يجب علينا أن نحرص على الأخوة, ونتمسك بالكتاب والسنة، فإذا جئنا عند التطبيق وعند الجد, قالوا:نتفق على أن تكونوا معنا, وتدخلوا في حزبنا، ولهذا فنحن لا نقبل منهم الشعارات، لأنهم يستغلون بها عاطفة المسلم الذي يحب الخير, ولكنه لم يعرف طرقه.
وكم جاءنا من أشخاص يقولون: لماذا لا تتفقون مع الأحزاب الإسلامية, وهم مستعدون؟
فنقول: ما أدراكم ما في الحزبية من شر ودهاء, ومكر وبلاء؟
والعجيب أنهم يجاهرون باحترام الرأي والرأي الآخر, مع أن الآخر هذا –حسب قولهم- هو الكفر, لأنهم يقولون: رأينا هو الإسلام { فما ذا بعد الحق إلا الضلال } .(1/48)
وهل هؤلاء الذين يحترمون الرأي الآخر ـ وهو رأي اشتراكي أو علماني أو قومي أو ناصري أو بعثي أو بدعي ـ هل يحترمون رأي إخوانهم أهل السنة؟ أم أنه التطفيف في الكيل؟! صدق الله القائل: { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } المطففين.
المفسدة الثالثة عشر
التعصّب الممقوت
تقوم "الانتخابات" على التعصّب للأشخاص باعتبار القبيلة، والقرابة وما أشبه ذلك، قال سبحانه وتعالى: { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } الفتح. هذه الحمية التي تقف في وجه الحق، نصرة للباطل، وبسببها تُنْتَهَكُ حرمات كثيرة, مِن قتلٍ وسلبٍ ونهبٍ، وبالذات أن القبائل لقلّة إدراكهم للحق, سرعان ما يخرجون عنه، وبالذات في باب العصبية، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا رأيتم الرجل يتعزّى بعزاء الجاهلية, فأعضوه بَهَنِ أبيه, ولا تكنوا)) رواه أحمد والترمذي من حديث اُبَيٍّ رضي الله عنه، والتعزي المراد به الانتماء والانتساب إلى القوم, كأنه على جهة الفخر، والهن هو "فرج الرجل".
ومعنى الحديث: من دعا إلى التعصب للقوم, فقولوا له: عض هن أبيك، وقد جاء من حديث جندب عند مسلم والنسائي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قُتل تحت راية عِميّة, ينصر العصبية, ويغضب للعصبية, فقِتْلته جاهلية)) وجاء في البخاري وغيره من حديث ابن عباس
رضي الله عنهما, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبغض الرجال إلى الله ثلاثة)) وفيهم ((ومبتغٍ في الإسلام سنّة الجاهلية)).
فقد أغنانا الله بالإسلام، فمن كان عنده شجاعة وقوة؛ فلينصر دين الله، وقد جاءت هذه الأحزاب وأعطت الصبغة الشرعية للمتعصّب, فازداد الناس تعصّباً لبعضهم بعضاً.
المفسدة الرابعة عشر
الانتصار للحزبية(1/49)
تقوم "الانتخابات" على أن كل واحد ينصر حزبه, وينتخب الشخص المرشّح في حزبه، مهما كان فيه من انحراف، وهذه هي ثمرة التحزب، وهذا حرام في الإسلام، والدليل ما جاء في البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله, متى الساعة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة)) قيل: يا رسول الله, وما إضاعتها؟ قال: ((إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) ومعنى وُسِّد أي اُسْنِد إليه القيام والتصرف، أي إذا أعطيت المسئوليات لغير أهلها، وأهلها هم القادرون على القيام بها من جهة العدل والشجاعة والصلاح، فإذا أعطيت لغير هذا الصنف, فانتظر قيام الساعة.
وجاء في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يُبقِ عالماً, اتخذ الناس رؤوساً, جُهّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) وقد جاء عند الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((اتخذ الناس رؤوساً جهالاً)) عندما يصير كل واحد مقتنعاً بمرشّح حزبه, مهما كان فيه من شر, لا يختار غيره, فهذا من اتخاذ الناس رؤوساً جهالاً.
فالحزبيون علّموا تلاميذهم أنهم حملة الإسلام وحدهم، ومن عداهم ليسوا بشيء, فجعلوا التمسّك بالحق الذي يخالف حزبيتهم تفرّقاً، والتمسّك بالحزبية التي فرّقت كلمة المسلمين اجتماعاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ((فضّلوا وأضلوا)) ضلوا في أنفسهم, ومن كان ضالاً, فهل يُرجى منه الخير؟ قال الله عز وجل عن أهل النار: { لو هدانا الله لهديناكم } إبراهيم. وأضلوا شعوبهم, وضيعوا دين الله, وأنتم السبب يا معشر الناخبين, انظروا هذه الشهادة ماذا عملت لكم؟.(1/50)
قال الله: { ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ ألا ساء ما يزرون } النحل. فبسبب وجود الشهادة من الناخب, تسلّط هذا الرجل وترأس على الناس, فالظالم مَن اختاره, وإذا حكم بالقوانين, فالذي اختاره شريكُه في ذلك، وإذا سلب أحداً ماله, فالذي اختاره شريكه في ذلك، وإذا ترك الصلاة, فالذي اختاره شريكه في ذلك، فإذا سجن رجلاً ظلماً وعدواناً, فالذي اختاره شريكه، وإذا حارب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - , كما هي عادة الحكّام ــ إلا من رحمه الله ــ فالذي اختاره شريكه في ذلك -على تفاصيل معروفة عند أهل العلم-.
فما الذي يبقى معك يا أخي المسلم؟ قال الله: { وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب } المائدة.
كان المتوقّع منك أن تكون غيوراً على الإسلام, وأن تقوم في وجه هذا الذي يريدك وسيلةً إلى شره وفساده, ناصحاً ومحذراً له من عواقب الأمور، لكن للأسف الشديد فقد تعاونت معه على الإثم والعدوان.
وليس الإثم والعدوان في قضية واحدة, بل في عشرات القضايا، لأن المسئولين, وبالذات أعضاء مجلس النواب, تتوارد عليهم قضايا كثيرة، والله يقول: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } هود. وإذا كان مجرد الركون إليهم, يجعل الرجل ماله وليٌ ولا نصير ولا شفيع ولا مجير ولا مغيث، فما بالك بالذي يشاركهم؟(1/51)
وإليك ما روى البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وأمّر عليها عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه, فلما كانوا في سفرتهم, قال لهم: اجمعوا لي حطباً, فجمعوا، فقال: احفروا حفرة، فحفروا حفرة، فقال: أوقدوا ناراً, فأوقدوا, ثم قال: ادخلوا في النار, فنظر بعضهم إلى بعض, فقال شاب منهم: نحن ما دخلنا في الإسلام إلا لننجوا من النار, وأنت تريدنا أن ندخل فيها؟لنخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فرجعوا فبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ فقال:((لو دخلتموها ما خرجتم أبداً))".
فانظر إلى هذه العقوبة, لمن يطيع المسئول في أخطائه، وقد علمت أن "الانتخابات" محرمة لاشك في ذلك.
فلهذا كانت النجاة بترك "الانتخابات" أساساً، ولو وجد من يدعي أنه صالح, فلو كان صالحاً ما دخل في ذلك، وقد نَصَحَ العلماءُ, وقالوا: الحزبية في الإسلام حرام، ونحن مسلمون بحمد الله, ولكن لن ندخل جنة الله بمعصية الله.
فقد طُرِدَ إبليس من رحمة الله بتلك المعصية، قال سبحانه وتعالى: { اخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } الحجر. ولم يستحق رحمة الله أبداً بعد تلك المعصية.
وأبونا آدم عليه السلام, كان في بحبوحة الجنة, فما أخرجه منها إلا معصيته، فما كان أبونا آدم يتوقع أن يخرج من الجنة أبداً، ولكن لمّا عصى؛ جاء الأمر الذي لا يرد والحكم الذي لا يعقّب { اهبطوا منها جميعاً } البقرة. ثم تاب أبونا آدم عليه السلام, فتاب الله عليه ، قال تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } البقرة.
إنها الخسارة بسبب ذنب واحد، وا أسفاه.. فكيف بمن ملأ السهل والجبل ذنوباً؟ فهل من نجاة؟ يقول الله: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } النساء.(1/52)
أين المفر من عذاب الله؟ أين الملجأ أخي الكريم؟ التوبة هي سبيل كل مؤمن، يحب النجاة. فلتبادر إلى ترك الذنوب, وعليك بملازمة الطاعة. والله المستعان.
المفسدة الخامسة عشر
التزكية حسب المصلحة
تقوم الانتخابات على أن كل رجل يدلي بصوته إلى من أعطاه مالاً أكثر, أو وَعَدَهُ بمشروع أو وظيفة، وما أشبه ذلك إلا من رحمه الله, وهذا الفعل محرم في الإسلام، يقول الله في كتابه الكريم: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم } آل عمران. وروى البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلاً أقام سلعةً في السوق, فحلف فيها, لقد اُعْطِيَ بها ما لم يعطَ, ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } وصدق الله إذ يقول: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } الحج.
هذا الصنف من الناس هو في الحقيقة عَبْدُ بطنِه وفرجِه وهواه، فصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((تعس عَبْد الدينار, وعبد الدرهم, وعبد الخميصة, وعبد القطيفة, إن اُعْطِيَ, رضي وإن لم يُعطَ سخط, تعس وانتكس, وإذا شِيك فلا انتقش))رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((بادروا بالأعمال.. فتناً كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل مؤمناً, ويمسي كافراً, ويمسي مؤمناً, ويصبح كافراً, يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا)) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفتنة المال هي التي أوصلت الناس إلى العداوة والبغضاء والقتل والقتال، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال))رواه أحمد والترمذي والحاكم والبخاري في (التاريخ).(1/53)
وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((من كانت الدنيا هَمَّه, فرّق الله شمله, وجعل فقره بين عينيه, ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له, ومن كانت الآخرة هَمَّه, جمع الله شمله, وجعل غناه في قلبه, وأتته الدنيا وهي راغمة)) رواه الترمذي من حديث أنس، وعند ابن ماجه من حديث زيد بن ثابت.
والله المسؤول أن يحفظ المسلمين من كل سوء ومكروه, وأن يعظِّم في نفوسهم أمر دينهم, فلا يبيعونه بدنيا غيرهم.
المفسدة السادسة عشر
حرص المرشّح على إرضاء الناخبين
المرشّح يصير همه الوحيد ـ وهذا حال الكثير ـ أن يرضي الناخبين له بصورة أو بأخرى، إما أن يحاول إيصال مشروع لهم، أو يشفع ليتوظف مجموعة منهم، أو يقوم معهم في قضية معينة ـ وإن كانوا على باطل ـ إلى غير ذلك من هذه الأمور، لأنه يخشى أن يقولوا فيه ما يقولون، ويخشى في نظره أنهم مرة ثانية ما يقبلونه, ولا ينتخبونه، بل بعضهم يشترطون على المرشّح أن يفعل كذا وكذا من أمور الدنيا، وإن كانت محرمة, وهذا محرم في شرع الله قطعاً، بل هذا من عمل المنافقين، قال الله: { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } التوبة. وإذا كان الحاصل هو إرضاء المخلوق على حساب إسخاط الله، فالله يقول: { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم } التوبة.(1/54)
هذا جزاء من أرضى الناس بسخط الله، وأي رجل يدعي الإيمان, وهو يسعى ليرضي المخلوق، فاعلم أن ذلك لضعف إيمانه وجبنه، والله يقول: { يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } التوبة. بل قال تعالى: { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } الجاثية. وقد جاء من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من أرضى الناس بسخط الله, سخط الله عليه, وأسخط عليه الناس, ومن أرضى الله بسخط الناس, رضي الله عنه, وأرضى عنه الناس))رواه الترمذي وأبو نعيم في (الحلية).
إذاً لا داعي أبداً لإرضاء المخلوق فيما يُسْخِطُ الله, لأن الخسارة تتضاعف، فلا هو بالذي أرضى الله, وبقي مع أرحم الراحمين, وأكرم الأكرمين، ولا بقي معه المخلوق, فنعوذ بالله من الخسارة في الدنيا والآخرة.
المفسدة السابعة عشر
التزوير والمغالطة
تقوم "الانتخابات" على التزويرات والمغالطة والغش والخداع والكذب، وكل هذه الأمور محرمة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من غشنا فليس منا)). وفي (صحيح مسلم) وغيره من حديث أبي هريرة, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ في السوق فأدخل يده في الطعام, ثم قال: ((ما هذا يا صاحب الطعام, أفلا جعلته فوق الطعام, حتى يراه الناس؟ من غشنا فليس منا)). وجاء من حديث قيس بن سعد عند البيهقي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((المكر والخديعة في النار)). وقال الله تعالى في كتابه الكريم في وصف المؤمنين : { والذين لا يشهدون الزور } الفرقان. ومعنى { يشهدون } قيل: يحضرون، وقيل:لا يقولون الزور. وقال الله تعالى: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } الحج. فقد حرم على المسلم فعل الزور وقول الزور. وفي (الصحيحين) من حديث أسماء بنت أبي بكر، وعند مسلم من حديث عائشة, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور)).(1/55)
والإسلام أمانة في عنق كل مسلم، وهذا الخداع والمكر والتزوير فيه عداوة المسلم لأخيه، وتشجيع أصحاب النفوس المريضة على التوسع في هذا المجال، وكذلك أصحاب القلوب المريضة, يشمتون بالدعاة وطلبة العلم والعلماء، أي لو شاركوا في "الانتخابات", لأنهم يقولون: قد عرفناكم, كنا نظن أنكم صادقون, فإذا أنتم مزورون، وهذا يسبب تراجع الناس عن قبول الحق كما هو معلوم.
والغش من علماء الأحزاب لمجتمعهم, أكبر من غش الناس مع بعضهم البعض، لأن العلماء محل ثقة وقبول، ولكن الواقع أن بعض علماء الأحزاب غشوا قومهم، لأني أعلم علم اليقين أن كثيراً منهم يعلمون أن الحزبية هذه حرام، ولكن صَعُبَ عليهم أن يبينوا، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((...ومن أشار على أخيه بأمر, يعلم الرشد في غيره, فقد خانه)) رواه أبوداود والحاكم وغيرهما، من حديث أبي هريرة.
ولا تعيش دائما هذه الأحزاب إلا في تجمعات تَنْفُقُ عندهم التزويرات والدجل والكذب, لأنهم لا يقبلون توجيهات علماء أهل السنة والجماعة، أو أنهم لا يبحثون عن العلم الشرعي, الذي هو نور القلوب, فيجعل صاحبه يميز الحق من الباطل.
هذا والله المسئول أن يصلحنا جميعاً, وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
المفسدة الثامنة عشر
ضياع الوقت في الدعاية وغيرها
تقوم "الانتخابات" على كثرة الترويجات الإعلامية في الداخل والخارج، أما الدول فبأيديها وسائل الإعلام، وليس عندهم شيء اسمه كذب وحرام، وإنما هي السياسة الكاذبة من أساسها، فهم على سيرهم في الترويج.
فالأحزاب الإسلامية تضطر إلى الترويج بقدر الاستطاعة, وبالتالي شغلوا المسلمين في الداخل والخارج.
والناس يضيعون أوقاتهم ليلهم ونهارهم بالكلام حول "الانتخابات", سواء كانوا في سيارة، أو في عمارة، أو في تجارة، أو في زراعة، وسواء كانوا مع أصدقاء أو أعداء, مع جُهّال أو علماء، مع سادة وقادة أو مع حمقى ومغفلين.(1/56)
ولم يقف هذا الأمر عند هذا الحد فحسب, بل صارت الخطب والمحاضرات والدروس عن "الانتخابات"، فنُسي الحقُّ الذي يحتاجه الناس، وقالوا:"أخِّروه معنا عمل مهم". وضُيّعت الدعوة إلى الله والنصح للأمة، ونسي الأب ولده وزوجته وقريبه، ونسي العالِمُ مهمته في الحياة.
وبعد هذا العرض السريع لصرف الناس عن دينهم وتضييعهم لأوقاتهم مدّة ليست يوماً ولا يومين بل شهوراً. فهل يجوز للأحزاب الإسلامية أن تدخل في "الانتخابات"، وهذا الشر حاصل؟ وهل هذا حرص على سلامة المجتمع وانشغال المجتمع بالخير؟ وهل يمكن أن يسلم المسلمون من الإثم بسبب ذلك؟ ولو سلموا من الإثم, هل يكون لهم أجر؟ ولو كان لهم أجر فهل يكون تاماً كاملاً؟.
هذا ما لا يكاد القلب السليم أن يسلّم به. والله أعلم.
وهذه نبذة مختصرة عن أهمية الوقت والحرص عليه، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك)) رواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس، وقد جاء مرسلاً من حديث ميمون ابن مهران عند أحمد في (الزهد) والبيهقي وأبي نعيم في (الحلية).
انظر ما أغلى هذه النصيحة، فالساعة غنيمة، واليوم غنيمة، والدقيقة غنيمة، فهل الدعاة إلى الله بحاجة إلى أن يدعوا الناس إلى تضييع أوقاتهم بعد هذا الخطاب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟. وانظر إلى ما قاله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد جاء عند أبي داود والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من قوم يقومون من مجلس, لا يذكرون الله فيه, إلا قاموا عن مثل جيفة حمار, وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة)).
سبحان الله..مجلس من مجالس الحياة, يأخذ مدة قصيرة, يكون حسرة علينا يوم القيامة!.(1/57)
فما بالك بمن ضيّع عشرات المجالس, بل مئات المجالس؟ وما بالك بمن تسبب في ذلك؟ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من دعا إلى هُدى, كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة, كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) رواه أحمد ومسلم والأربعة من حديث أبي هريرة. وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((من سن في الإسلام سنة حسنةً, فله أجرها. وأجر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئةً, فعليه وزرها ووزر من عمل بها, بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً)) رواه مسلم وأحمد والترمذي من حديث جرير بن عبد الله، فانظر إلى هذه الحمولة لمن سن شراً للناس، إنها لحمولة مالها نظير, يتحمل أوزاره، ولا طاقة له أبداً أن يتحمل أوزاره، إن الذنوب أثقل من الجبال، فكيف يتحمل أوزار خلائق لا يحصيهم إلا الله.
ألا يتحتم علينا أن نفعل الخير, ونترك الشر؟ و"الانتخابات" ليست ضلالة فحسب, بل هي من أسوأ أنواع الضلالات، فدعاة "الانتخابات" لو خرجوا لا لهم ولا عليهم؛ لكان الأمر هيناً، وإن تعبوا كثيراً, وسهروا كثيراً ولكن أنّى لهم ذلك، وقد وقعوا في محرمات كثيرة.
المفسدة التاسعة عشر
صرف الأموال في غير موضعها الشرعي
تقوم "الانتخابات" على الإغراء المادي، وشراء الذمم بالمال، وهذه مفسدة عظيمة جداً، لأنها تخرج الناس عن الحق وطلبه، والتوجه إلى البحث عن المال.(1/58)
وأما الذين هم على إيمان قوي وعقيدة صحيحة, ويرون أن ذممهم غالية, فقد تركوا "الانتخابات" من أساسها، وقالوا: علماء أهل السنة يفتون بأنها حرام ولا فائدة منها، والله سبحانه وتعالى يقول: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } النساء. وقد جاء عند البخاري مرفوعاً من حديث خولة رضي الله عنها: ((إن رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق, فلهم النار)). وجاء من حديث أبي هريرة في البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي الرجل من أين اكتسب ماله أمن حرام أم من حلال)).
ومادام أنه حرام، فلا بد من أن يفسد القلب، ويطفئ نور الإيمان، ويمحق المال الطيّب الذي مع المسلم، ويسبب دخول النار, قال - صلى الله عليه وسلم - : ((أيما جسم نبت من سحت, فالنار أولى به)) رواه الطبراني وأبو نعيم من حديث أبي بكر، وجاء عن جابر عند أحمد. وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل مؤمناً, ويمسي كافراً, ويمسي مؤمناً, ويصبح كافراً, يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
فالقضية ليست قضية أكلة أو شربة، وإنما القضية قضية دين, فإلى الله المشتكى.
المفسدة العشرون
المرشّح يُفْتَن بالمال
يُعطى المرشح مبلغاً من المال من الحزب الذي هو فيه، وقد لا يُعطى مالاً، وإنما يبيع شيئاً ثميناً كبيت أو أرض، أو يستدين الملايين، فإن كان المال مدفوعاً من قبل جهة مختصة، فهو مطالب أن يجمع أناساً ويستميلهم، والحزب يعطيه ما خسره.(1/59)
وهذا الصنف من المرشحين يُعْطَى أموالاً باهظة، من أجل أن يجدّ في القضية، فهذا المال يدفع الناس إلى طلب الترشيح، ولسان حال المرشّح يقول: إن فزت في "الانتخابات"؛ فذاك ما أبغي، وإن لم أفز؛ فقد حصلت على المال. فالمرشح هذا يكرس جهوده في الدعوة إلى "الانتخابات", فيرتكب محظورات كثيرة, كالمداهنة والمجاملة، حتى إن بعضهم يترك الصلاة من أجل أن يستميل شخصاً يريد أن يكون معه في صف "الانتخابات". والرياء والكذب والغش والتزوير والخيانة أمور حاصلة. وقد يتعرض لسب الحزب الآخر، وقد يكون مخالفه مسلماً, بل قد يسب العلماء، لا لشيء إلا لأنه مُكلَّفٌ أن يكرس جهوده في جمع أكبر عدد ممكن من الأصوات.
انظر إلى هذه المحاذير الشرعية, كيف تُرتكب وتُنتهك من أجل تفاهة الدنيا، أسألك بالله: هل يرجى من هؤلاء نصرة الإسلام؟ فإذا كان يضيّع دينه من أجل الدرهم والدينار، فكيف يقال هذا سيقيم الإسلام؟! { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } الكهف.
والأدلة التي ذكرناها في المفسدة التي قبل هذه, هي نفس الأدلة لهذه المفسدة.
والحقيقة أن الخطر في هذا الأمر يفوق كل تعبير، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لكل أمة فتنة, وفتنة أمتي المال)) رواه الترمذي وأحمد والحاكم والبخاري في التاريخ، من حديث كعب بن عياض.
ومن طبيعة النفس الطمّاعة, أنها كلما اُعطي لها مال؛ كلما تشوقت إلى ما هو أكثر منه من أي باب كان، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لأحب أن يكون له ثانٍ, ولو أن له ثانياً, لأحب أن يكون له ثالث, ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على ما تاب)) جاء هذا الحديث في (الصحيحين) من حديث أنس، ومن حديث ابن عباس ، وقد جاء عن غيرهما من الصحابة.(1/60)
نسأل الله أن يتوب علينا جميعاً. وما منا من أحد, إلا ونفسه تتوق إلى المال, لأن هذه غريزة، ولكن المؤمن القوي يوقف نفسه عند الحلال، ويجانب الشبهات والحرام، والمؤمن يقنع نفسه دائماً بأن الملك والنعيم في الجنة، فلا يحتفل كثيراً بالبحث عن الدنيا وأطماعها، ثم ما موقف هؤلاء بين يدي الله, وقد ضيّعوا الحق؟ فلا المال أبقوه، ولا الحمد كسبوه، بل الخزي بين يدي الله، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لتؤدن الحقوق إلى أهلها, حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء يوم القيامة)) رواه أحمد ومسلم والبخاري في الأدب المفرد والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ... )) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو سؤال جدير بالانتباه لِغُصَص يوم القيامة، فليست الشجاعة في الآخرة كالشجاعة هنا، لأن هنا شجاعة اللف والدوران بين يدي المخلوق، وأما هناك فإنه ذل المعصية.
فليتق الله المسلم. والله لأن نأكل تراباً أهون من أن نأكل من باب الشبهة والمحرمات, وقد رزقك الله يا أخي المسلم كثيراً منذ أن عرفت نفسك، فلا تظن أن الرزق معقود بنواصي أصحاب "الانتخابات"، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأما المرشح فاليوم يعطيك لأنه يريد صوتك، وفي الغد ما يلتفت إليك.
فلا تكن أهون الخلق عند الخلق، وأهون الخلق عند الله، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((من أرضى الناس بسخط الله, سخط الله عليه, وأسخط عليه الناس, ومن أرضى الله بسخط الناس, رضي الله عنه, وأرضى عنه الناس)) رواه الترمذي وأبو نعيم في الحلية، عن عائشة رضي الله عنها.
المفسدة الحادية والعشرون
الاهتمام بالكم لا بالكيف(1/61)
تقوم "الانتخابات" على الاهتمام بالكم لا بالكيف, وهذه قضية مذمومة في شرع الله رب العالمين، قال الله تعالى في كتابه الكريم: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } الأنعام.
فهل أكثر أهل الأرض على حق, أم على باطل؟ يحكمون بشرع الله, أم بشرع غيره؟ يقولون الحق, أم الباطل؟ يدعون إلى الحق, أم إلى الباطل؟ يغضبون من أجل الحق, أم من أجل الباطل؟.
يقول الله تعالى: { وما وجدنا لأكثرهم من عهدٍ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } الأعراف. ويقول سبحانه في كتابه الكريم, إخباراً عن إبراهيم عليه السلام: { رب إنهنّ أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } إبراهيم. وقد جاءت لفظة "أكثر الناس" ثم تختم بقوله: "لا يعقلون" أو "لا يعلمون" أو "لا يؤمنون" أو "لا يشكرون" أو "أكثرهم يجهلون" أو "أكثرهم فاسقون" جاءت هذه الألفاظ في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن الكريم.
وقال الله في المسلمين أنفسهم: { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } النساء. وقال في علماء أهل الكتاب ورهبانهم: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } التوبة. وقد خاطب الله المؤمنين بقوله: { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد } الحديد. فاتضح من هذه الآيات أن الكثرة مذمومة، لأنها لا تتقيد بالحق, والسير عليه, والعلم به والصبر عليه, والتسليم له.(1/62)
وهذه الأكثرية هي -في الغالب- أتباع كل ناعق، وقد مدح الله عز وجل القلة الذين هداهم لعبادته، قال سبحانه وتعالى: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } البقرة. وكم هنا للتكثير، بمعنى: كثيراً ما تحصل الغلبة للفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله، وقال سبحانه: { وقليل من عبادي الشكور } سبأ. وقال سبحانه: { وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } ص. والمؤمنون والمسلمون هم كثير بالعدد، لكن هذه الأكثرية فيهم لا تمثل جانب الحق والدفاع عنه، بل قد تكون بالفعل ضد الحق، في غالب الأحيان، قال سبحانه وتعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً } الأنفال. فهذا الحصر إنما هو لإخراج المؤمنين الذين لم يتصفوا بهذه الصفات الجليلة، وقال سبحانه: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً } الأحزاب، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم, كما تداعى الأكلة على قصعتها)) قيل: يا رسول الله, أوَ مِن قِلَّةٍ يومئذٍ نحن؟ قال: ((لا, ولكنكم غثاء كغثاء السيل, يجعل الوهن في قلوبكم, ويُنزع الرعب من قلوب عدوكم, لحبكم الدنيا, وكراهيتكم الموت)) رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان رضي الله عنه.
فهذه الكثرة مذمومة في المسلمين في هذا المجال, أعني: اختيار حكام يحكمون الأمة.(1/63)
وهذا يرجع فقط إلى أهل الحل والعقد، من العلماء الناصحين الصالحين، ومن عرف بجودة الرأي، والخبرة الكافية في مجاله، والحرص على الخير، ولم يكن متلوثاً بالاستهانة بالمعاصي، وهؤلاء هم زبدة المجتمع, ونخبة الأمة, وهم الذين جاز لهم شرعاً أن يختاروا من يقوم بشؤونهم، ولكن في قضية "الانتخابات"لم يقف الأمر عند الغثائية فقط من الناس، بل تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك، فلم يكتفوا بالمسلمين، حتى ضموا إليهم العلمانيين والملاحدة، ولم يكتفوا بالرجال, حتى ضموا إليهم النساء، ولم يكتفوا بالنساء فقط, حتى ضموا إليهن المغنيات والمائعات، ولم يكتفوا بالرجال والنساء, حتى ضموا الأطفال والبنات عن طريق المغالطة.
فما قيمة الأكثرية هذه في شرع الله؟ وما قيمتها في الواقع؟ وما قيمتها عند عقّال الناس, الذين هم دائماً ينظرون إلى الأمور من منظار شرعي, ومنظار يصلح المجتمع؟
جمعوا السَّقَطَ في الأمة والضائعين والتافهين، وخلطوا بينهم وبين من بقي فيهم بقايا الخير, وقالوا: سنقيم دولة الإسلام! والله عز وجل يقول: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } آل عمران. والأكثرية مطلوبة ممدوحة, متى كانت تمثّل جانب الحق.
المفسدة الثانية والعشرون
الاهتمام بالوصول إلى القمة دون النظر إلى الفساد العقدي
وهذا من إتيان الأمور من غير أبوابها التي شُرعت لنا، وقد قال الله: { وأتوا البيوت من أبوابها } البقرة، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((نبدأ بما بدأ الله به)) عن جابر عند أحمد والثلاثة, والأحزاب الإسلامية التي تنادي بتحكيم الإسلام, لم تأت الأمور من أبوابها، وهذا التصرف تظهر فيه المخالفة للشرع، والانحراف عنه بما سيأتي.(1/64)
فالأساس الصحيح مفقود الاعتناء بنشره، والدعوة إليه، عند الأحزاب الإسلامية، وهو توحيد الله رب العالمين، بأنواعه الثلاثة: وهي توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات, وهذا الأساس هو الذي اختاره الله وأرسل به رسله، وجعله سبحانه محطّ دعوتهم، وقد استمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً, يدعو إلى التوحيد، فهلك قومه, ولم يستجب له إلا قليل, فلم يكن همه الوصول إلى الحكم بالصالح والطالح, وهكذا إبراهيم عليه السلام، فقد استمر يدعو وما آمن له إلا لوط, وهكذا جميع الأنبياء والرسل, دعوا إلى هذا الأصل العظيم، قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } النحل. وعلى رأسهم خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - , فقد استمر في مكة ثلاثة عشر عاماً, يدعو إلى عبادة الله وحده، وترك ما يُعْبَدُ من دونه. ومن أجل هذا التوحيد, وهذه الدعوة الصريحة, الصحيحة قام عليه قومه قومة رجل واحد, حتى وصل بهم الأمر إلى أن اجتمعوا وهمّوا بقتله, ولكن الله حفظ نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، واستمر يدعو إلى الله, ولا يحابي، ولا يتوانى, حتى أقام الله دينه.
والأحزاب الإسلامية تركت هذا الأصل الأصيل الذي لا يصح دين المسلم إلا به، فإذا كان دين الفرد غير قائم، فكيف يستقيم الحكم على ما أنزل الله عز وجل؟! والذي سيقوم به هو الفرد الذي لم يوحد الله التوحيد الكامل الصحيح بل ويرى الدعوة إليه تفرقةً للصفوف.
وبسبب التنكُّب والتنكُّر لهذا الأصل الذي لا تقوم حياة الفرد والجماعة إلا به، وسعادتها مرهونة به في الدنيا والآخرة، كما هو معلوم من القرآن والسنة, حصلت نتائج سيئة، ومنها:
1- افتقاد القوة التي يقوم عليها الحكم في أرض الله بشرع الله، وهي الأساس كما تقدم.
2- تجزئة التوحيد, وبالذات توحيد الألوهية, فإنه لا يتجزأ في أي حال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف.(1/65)
وتظهر التجزئة لأنهم حصروا الحكم بشريعة الله على حد زعمهم بإقامة الحدود على السُرّاق والزناة والسكارى، ويا ليت هذا حاصل, ولكنه لم يحصل, لأنهم تركوا إقامة ما هو أهم من ذلك، من إصلاح عقائد الناس, فإن الناس يذهبون إلى المشعوذين والسحرة ويتعلقون بهم، ويقعون في أنواع الشرك الأكبر من الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة والتمسح بأتربة الموتى، وتركت الأحزاب الإسلامية المشعوذين والسحرة يعلنون الدعوة إلى الشركيات, ولم يمنعوهم، ولم ينصحوهم على الأقل، بل جعلوا هذه الشركيات أموراً فرعية ومن القشور، بل يوجد في الأحزاب الإسلامية من أعضائها, بل ومن كبارها وغيرهم من يمارس الشركيات، وإقامة الموالد التي تقوم على البدع، بل والدعوة إلى عبادة القبور, أو على الأقل التهوين من أمر ذلك، ولا ينكر عليهم باعتبار أن هذه قشور.
3- حصل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دُعي إلى أن يكون ملكاً له الحكم المطلق, بشرط أن يتخلى عن دعوته إلى التوحيد، لأنه كان في مكة لا يدعو إلا إلى التوحيد، فقد جاء عند ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي يعلى والبيهقي في (الدلائل) وأبي نعيم في (الدلائل) أن الوليد بن المغيرة عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملك فقال: (إن أردت ملكاً ملّكناك ...) والحديث ثابت بمجموع طرقه.
وهذا واقعه - صلى الله عليه وسلم - , الذي يدلّ أنه لم يستجب لهم، فهذا مما يقوي قبول هذه الرواية، ونفهم من هذا جلياً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتنع عن الموافقة لهم, لأنه يعلم أن هذه الطريقة غير نافعة ولا مجدية، فلو كانت طريقة مثلى؛ لسلكها, وما تأخر عنها لحظة، فهو أعلم الخلق بما يصلح الخلق. فما عمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو عين الحق والصواب.(1/66)
4- جعلت الأحزاب الإسلامية الوصول إلى الحكم غاية مقدمة على كل أصل من أصول التوحيد، ومن أصول العقيدة، وهذه مجازفة, لأن الحكم الإسلامي جزء من توحيد الألوهية، وهو يعد آخر ما يتحقق من توحيد الألوهية، بدليل نهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبدليل أن فترة الدعوة إلى التوحيد أخذت أكثر من فترة التشريع، وإقامة الحكم الإسلامي، وأيضاً لم تشرع الأحكام إلا في المدينة، وبعد إقامة التوحيد، وبعد وجود الجماعة القوية التي تستطيع أن تدافع عن الدين, وأن تقوم بحراسته, وكان هذا على أيدي المهاجرين والأنصار، وكان بأمر الله، ولم يحصل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تخلّى عن نشر الدعوة إلى الله, باسم: أنه يقيم الدين عن طريق الحكم، ولم يأمر أصحابه بذلك, وهم لم يفعلوا ذلك، بل استمر واستمر أصحابه على نشر الإسلام, حتى لاقوا ربهم بالدعوة، وهي الأصل الأول, وهي الجهاد في سبيل الله, في ذلك الوقت, بخلاف ما عليه الأحزاب الإسلامية المعاصرة، فقد شغلت نفسها وغيرها من المسلمين بالاستغراق في الحركات السياسية, كمحاربة نظام معين, أو قانون معين, أو حزب من الأحزاب, وأضاعت الوقت في الأحداث الجارية، المتفرعة عن ترك المنهج الصحيح, وأنفقت الأموال الباهضة في غير مصرفها, كالدعاية للـ"انتخابات" وغيرها. وكل هذا على حساب أصول الإسلام وفروعه، وجعلت هذا هو حقيقة الإسلام وجوهره، وجعلت هذا الفعل هو الغاية المنشودة.
ولا شك ولا ريب أن ما كان من الأمور الإيجابية من كشف مخططات الأعداء, وفضح مكائدهم, أن هذا أمر مطلوب منا جميعاً، لكن لا يُجعل ذلك هو الغاية, بحيث يطغى على الأصل والفرع والأهم والأنفع من الإسلام.
5- الأحزاب الإسلامية تشغل أنفسها بمطالبة الحكومات بإقامة الإسلام, ويظهرون الغيرة على ذلك، فلما وصلوا هم إلى الوظائف؛ لم يقيموا الإسلام, فكيف يقيمه غيرهم؟!(1/67)
وهذا دليل على أنهم لا يحرصون على التأهيل، فليس عندهم المعتقد الصحيح، فهم على سلّم التنازلات دائماً وأبداً، وقد انتقلوا من شعار: "إقامة الخلافة الإسلامية" إلى شعار: { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } ثم إلى شعار: "ما هو البديل؟!".
6- كيف يمكن أن يحْكُم هؤلاء بشريعة الله، والناس غير مؤهلين لذلك، لعدم تحقيق التوحيد والعقيدة الصحيحة، والمنهج الشامل الذي وضعه الله عز وجل, وسار عليه سلف الأمة، فكل الفرق الإسلامية يخالف بعضها بعضاً، ويهدم بعضها بعضا، فكل فرقة من هذه الفرق تقف ضد من يريد أن يخالف فكرتها ومعتقدها وما تسير عليه، والملاحظ على الأحزاب الإسلامية البحث عن الحكم دون البحث عن الإمامة في الدين، مع العلم أن هنالك فرقاً بينهما، فالإمامة في الدين منوطة بالاستقامة على الحق.
وأما الوصول إلى الحكم عند هؤلاء, فهو قائم على التنازلات، وهذا مراد أعداء الإسلام, قال الله تعالى: { ودّوا لو تدهن فيدهنون } القلم. وأما من يستحق الإمامة في الدين, فقد قال الله تعالى: { وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } السجدة. فهذه صفة من يستحق الإمامة في الدين، فهم منفذون لشرع الله, بدليل قوله: { يهدون } وموقنون ومطمئنون بالحق، فلاشك عندهم ولا ريب ولا تضعضع، والوصول إلى الحكم والرئاسة في هذا الزمان يحدث غالباً بطرق غير مشروعة، لأنه لا يقوم إلا على ما ذكرنا، ولم يُرِد الله أن يعطي الإمامة لهذا الصنف، قال عز وجل عن إبراهيم: { قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } البقرة.(1/68)
7- الملاحظ على الأحزاب الإسلامية: النشاط في الدعوة إلى تحكيم شرع الله في مواقف موسمية، فإذا حيل بينهم وبين الوصول إلى الحكم, وانقطع الأمل فيه, تقاعسوا عن أمر الدعوة إلى الله، واكتفوا بالتخطيطات السرية التي تجعلهم يتوصلون إلى الحكم عن طريق آخر، وهذا خطر عليهم, حيث تكون عقولهم متعلقة بحب الوصول إلى الحكم, والسعي له بكل ما أمكن مهما كلفهم من انحراف وزيغ عن الحق وانجرار وراء التغيرات السياسية ولعبة الأمم الدولية.
وحجتهم وراء هذه الأمور تلك النغمات التي يرددونها وهي "إلى متى هذا الواقع الذي نعيشه؟", "إلى متى هذا الظلم الذي نعاني منه؟", "إلى متى سيبقى الإسلام بعيداً عن الحكم؟", "إلى متى سيبقى الذل والهوان الذي أصاب المسلمين؟".
وهذه كلمات استعطافية لشباب حائرين وأناس جاهلين يريدون النصرة للأمة، وبعد هذه الاندفاعات كلها العاطفية, والاستعجال في الأمور, وإتيان الأمور من غير أبوابها، نوجه أسئلة ونريد الجواب عليها:
هل تكون نصرة الإسلام بدون قواعده وأسسه؟
هل حصل من الأحزاب الإسلامية ما وعدت به, من إصلاح الأوضاع وإقامة الإسلام؟ هل تحقق خلال المدة التي أضاعتها الأحزاب الإسلامية في الجري وراء "الانتخابات" شيء يذكر مع طول المدة؟.
فلو اتجهت الأحزاب الإسلامية في خلال هذه المدة الطويلة الضائعة لتربية الناس على الإسلام، وإقامة الدعوة إلى التوحيد، والعقيدة الصحيحة، والمنهج الذي وضعه الله، وسار عليه سلف الأمة، لكانوا قد نفعوا المسلمين، وأوجدوا رجالاً مؤهلين لإقامة حكم الله في الأرض.(1/69)
ولقد انتشر الإسلام, وقامت قوائمه, وأرسيت قواعده, في خلال ثلاثين سنة، وذلك في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم, رغم الظروف القاسية التي واجهها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فتلك ظروف لا نظير لها في أيامنا, فلا غرابة أبداً أن نقول: إن الطريق الأقرب والأسهل لإقامة الإسلام هو الطريق الذي وضعه الله عز وجل, وسار عليه نبيه - صلى الله عليه وسلم - , وقد تحقق العدل والخير في خلال سنتين من خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
المفسدة الثالثة والعشرون
قبول المرشّح دون النظر إلى فساده العقدي
يُفتح باب الترشيح "للانتخابات" لمن هب ودب, فيدخل في ذلك البعثي والناصري والاشتراكي والباطني وأصحاب ملل شتى، فهل هذا جائز؟.
الجواب: هذا حرام في دين الإسلام، وإنما هو نظام الكفر, الذي ربّى أحزاباً إجرامية تعمل ضد الإسلام، والدليل على تحريم اختيار هؤلاء وترشيحهم:(1/70)
قوله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } البقرة. فقد أعطى الله إبراهيم الإمامة في الدين, وطلبها إبراهيم من ربه لبعض ذريته، قال - أي إبراهيم- : { ومن ذريتي } ولم يقل: و"ذريتي", فأعطاه الله ذلك, وحرّم على الظالمين الإمامة في الدين، فالظَلَمَة لا يجوز أن يختارهم المسلم، فأي مسلم اختار الظلمة فهو ظالم, لأنه رضي للناس بالظلم, والله يقول في كتابه الكريم: { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } النساء. استدل مجموعة من العلماء بهذه الآية على أن الكافر لا يجوز أن يتولى أمور المسلمين، ولهذا قال سبحانه: { سبيلاً } بلفظ التنكير، فهو يشمل أي سبيل، لا رئاسة ولا وزارة ولا قيادة ولا إدارة، لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وقد جاء في (صحيح مسلم) و(مسند أحمد) وأبي داود وابن ماجه من حديث عائشة مرفوعاً قال - صلى الله عليه وسلم - : ((إنا لا نستعين بمشرك))، فإذا كانت الاستعانة بمشرك لا حاجة لها في باب المشاركة في الجهاد, فما بالك في إمامة المسلمين, وتولي شؤونهم العامة والخاصة؟؟(1/71)
وإن كان العلماء لهم كلام حول الاستعانة بالمشركين في القتال بشروط, إلا أنهم متفقون على تحريم ذلك في هذا الباب، ولهذا منع - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن أبّيٍ من أن يتولى أمراً من أمور المسلمين، ومنع جميع المنافقين، ولهذا قال الله سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } النساء. فربنا قال: { منكم } ومفهوم الآية أنه: لا طاعة لأي والي أمر إذا لم يكن مسلماً. ولمّا اتخذ أبو موسى كاتبا نصرانياً, قال له عمر: "قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } المائدة. ألا اتخذت حنيفياً؟" فقال: "يا أمير المؤمنين ليَ كتابته, وله دينه" قال: "لا أكرمهم إذ أهانهم الله, ولا أعزهم إذ أذلهم الله, ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله, ولا نأمنهم وقد خونهم الله". وهذا الأثر قال عنه الشيخ الألباني: إنه حسن.
والخطأ والمفسدة هنا التي أريد أن أوضحها, هي: أن الأحزاب الإسلامية يعلمون أن هذا الصنف يحميه قانون "الانتخابات"، فكيف وافقوا على ذلك ولم يغيروه؟ أليس الواجب زحزحة هذا الصنف من أول وهلة؟.
إن قالوا: عجزنا, فيقال: أنتم في مجلس النواب أعجز، لأن هذا العلماني يقول في المجلس: قد اختارتني الأمة, وأنا يحميني القانون، فالقانون الذي أوصلكم إلى هنا, هو القانون الذي أوصلني.
فهذا الخطأ الأول في هذه المفسدة، وهو: أنه لا يجوز أبداً الموافقة على أن يتولى علينا الصنف العلماني بشتى أنواعه، ولا يجوز للمسلمين أن يختاروا هذا الصنف الذي اتصف بالفساد، والموافقة هنا جاءت عن طريق الرضوخ لقانون "الانتخابات".(1/72)
فهم محكومون من الآن بالقوانين, فإذا قالوا: عجزنا عن تغيير قانون "الانتخابات", نقول لهم: فالواجب عليكم ترك "الانتخابات" لأنكم بدخولكم في "الانتخابات" أعطيتم عدوكم سلطة عليكم، بل: لا أقول سلطة عليكم, ولكن سلطة على الشعب. فلو أنكم تركتم "الانتخابات" وصرتم معارضين للمنكر -ولو بالاعتزال- لبقي هناك لكم قول وهيبة, والمجتمع معكم يعترف لكم أنكم على حق، لكن بالموافقة على هذا الأمر المزيج, رفضكم المجتمع، وهذا مراد خصمكم!!!.
فأنتم تنازلتم عن حقٍ خضوعاً للنظام "الديموقراطي"، فافتقدتم الحق, وأعطيتم غيركم الصبغة الشرعية, إذ أن الخصوم يقولون: لو كان نظام "الانتخابات" باطلاً, ما دخلت معنا الأحزاب الإسلامية!.
وما أدري أين تذهب سياستكم عند أن تكونوا بحاجة إليها؟ وإلا فالأمر واضح: أن هذا التصرف هو لصالح الأحزاب الزائغة عن الحق. والله تعالى أعلم.
المفسدة الرابعة والعشرون
قبول المرشّح دون النظر إلى الشروط الشرعية
تقوم "الانتخابات" على قبول المرشّح بدون شروط شرعية، وهذا أمر مخالف للقرآن والسنة وأقوال أئمة العلم والهدى، قال الله تعالى: { لا ينال عهدي الظالمين } البقرة. والظلم يقع بأدنى ملابسة، ولكن المراد بالظلم هنا: البيّن الواضح، لا الخفي، ولهذا أخبر سبحانه, أنه لا يظلم مثقال ذرة، قال تعالى: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } النساء.(1/73)
استفدنا أن الظلم يقع بمثقال ذرة, ولكن كما قلنا: المراد هنا بالظلم: الواضح البين من المعاصي والذنوب، فأفادت الآية أن الظالم لا يجوز أن يُختار إماماً لا في الدين ولا في الدنيا, لما بينهما من الترابط, ومما يدلنا على أن المراد بالظلم هنا: البين، قوله سبحانه وتعالى: { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } الصافات. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم, وتدعون لهم ويدعون لكم, وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم, وتلعنونهم ويلعنونكم)) رواه مسلم من حديث عوف بن مالك.
وقال الحسن البصري رحمه الله: "أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس, ولا يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، ثم قرأ: { يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } ص. وقرأ: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة."
وقال عمر بن عبدالعزيز: "خمس إذا أخطأ القاضي منهن واحدة كانت فيه وصمة: أن يكون فهماً حليماً عفيفاً عالماً سؤولاً عن العلم".(1/74)
وقال الكرابيسي صاحب الشافعي في كتابه (آداب القضاء): "لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافاً؛ أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين؛ من بان فضله وصدقه وورعه وعلمه, قارئاً لكتاب, الله عالماً بأكثر أحكامه, عالماً بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , حافظاً لأكثرها, وكذا أقوال الصحابة، عالماً بالوفاق والخلاف وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم, يتبع في النوازل القرآن, فإن لم يجد؛ عمل بالسنن، فإن لم يجد؛ عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا؛ فما وجده أشبه بالقرآن والسنة, ثم بفتوى أكابر الصحابة، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة, مع فضل وورع, ويكون حافظاً لسانه وبطنه وفرجه"أهـ. راجع (فتح الباري 13/146).
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه: (السياسة الشرعية ص26): "الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: { إن خير من استأجرت القوي الأمين } القصص. وقال تعالى في وصفه لجبريل: { إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } التكوير.
والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب, ترجع إلى شجاعة القلب, وإلى الخبرة في الحروب, والمخادعة فيها..." إلى أن قال: "والقوة في الحكم بين الناس, ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام" ثم ذكر الأمانة, فقال: "فالأمانة ترجع إلى خشية الله { ولا تشتروا بآياته ثمناً قليلاً } ، وترك خشية الناس".
وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حاكم على الناس في قوله تعالى: { فلا تخشوهم واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة.(1/75)
قال - صلى الله عليه وسلم - : ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار, وقاض في الجنة، القاضي الذي في الجنة: رجل علم الحق فقضى به، واللذان في النار: رجل عالم بالحق فقضى بخلافه، ورجل جهل الحق فقضى بخلافه)) الحديث أخرجه أبوداود والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وغيرهم من حديث بريدة رضي الله عنه.
وإذا كان الإسلام يحتّم على من يريد أن ينفع هذه الأمة, وأن يتولى أمراً من أمورها العامة, أن يكون متصفاً بهذه الصفات العظيمة، فما حال من يريد أن يتولى أمور الأمة, ولكنه لا يلتزم بهذه الأمور؟ روى البخاري ومسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رفع الأمانة إلى أن قال: ((... فيصبح الناس يتبايعون, ولا يكاد أحد منهم يؤدي الأمانة, فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً, فيؤتى بالرجل, فيقال: ما أظرفه, ما أعقله, ما أجلده, وما في قلبه مثقال حبة, من خردل من إيمان)). أليس هذا هو واقعنا؟ بل أشد من ذلك، فهل يجوز لأي مسلم يحب النجاة لنفسه ولمجتمعه, أن يقدم على أمور لا تحمد عقباها، وهذا ابن مسعود يقول:"نفس تنجيها؛ خير من إمارة لا تحصيها".
فهل تعلم أخي المسلم أنك إذا أصبحت مسؤولاً على أمر من أمور الأمة, سواء كنت رئيساً أو وزيراً أو وكيلاً أو مديراً أو قاضياً .. أو غير ذلك, وأنت تفتقد العلم الشرعي والعدل والصلاح, ولم تكن ناصحاً في عملك, فأنت على خطر، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية, يموت وهو غاش لرعيته, إلا حرّم الله عليه رائحة الجنة)) متفق عليه من حديث معقل بن يسار، وفي لفظ((حرّم الله عليه الجنة)).(1/76)
أخي المسلم: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) فهل ترضى أن تكون يوم القيامة مسخوطاً عليك؟ فالنصيحة للأخ المسلم؛ أن لا يدخل في سلك المسئولية والوظائف, إلا وهو على علم بدينه, أو يستنصح علماء السنة في أمره, ويرجع إليهم، فإن لم يقبل هذه النصيحة؛ فلا خير فيه لنفسه, فضلاً عن أن يكون فيه خير لغيره.
وهنا سؤال يُوجّه للذين يدعون الناس إلى التحزب والدخول في معركة "الانتخابات": ماذا عملتم لهؤلاء الناس؟ هل فتحتم لهم أماكن ليتعلموا أحكام الله, ويحكموا بدينه؟ أم تلقون بهم إلى الوظائف فيغشون ويظلمون, ظناً منهم أنهم على خير، أليس هذا غشاً لهؤلاء؟ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يا فاطمة بنت محمد, أنقذي نفسك فإني لا أملك لك من الله شيئاً)) ما قال لها: اركني عليّ, وعليك فقط أن تخدميني، ولكن دعاها إلى البحث عن نجاة نفسها, تاركة خلف ظهرها كل الملابسات والاغراءات والأماني الباطلة.
وواجب العلماء هكذا, أن يقولوا لكل مسلم: انقذ نفسك أولاً، قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } المائدة.
وإذا أنقذت نفسك فانقذ أولادك وأهلك أولاً, ثم ما استطعت من مجتمعك، فإن أعطاك الله علماً وقدرة وجرأة لتقول الحق, وتنفّذ الحق, فهذا مما يريده الله منا على حسب قدرتنا.
والعجيب أنك تسمع الدندنة للناس: اختاروا الرجل الصالح!.
والسؤال: ماذا تعنون بالرجل الصالح؟ هل تعنون به الذي في حزبكم؟ لأننا ما رأينا صالحاً على وصف القرآن والسنة إلا نادراً, وهذا النادر ليس بيده شيء, وإنما نرى متحزبين فقط.(1/77)
فإن كان مرادكم بالصالح: الحزبي, فقد خبتم وخسرتم، فلو كان ناصحاً لنفسه, ما دخل في الحزبية المخالفة للشرع, ولا قبل "الانتخابات" ودافع عنها، وإن كنتم تريدون الرجل الصالح الذي يترك "الانتخابات" والتلبيسات والبدع, وهو مستقيم على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فهذا ليس معكم فيما تدعون إليه، فما بقي إلا أنكم تعنون الحزبي فيكم فقط أو الذي يوافق هواكم.
تنبيه:
قد يقول قائل: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر)) الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
فالجواب:
هذا الحديث لا دليل فيه, لأننا نقول: إن دخول الرجل الصالح - فضلاً عن الرجل الفاجر- في هذا المجال, فإنه يُفسده ويفسد الدين, فلو سلّمنا لكم بأن من دخل في هذا المجال, يؤيد الدين وينصره, ما عارضناكم، وما ذكرناه من المفاسد السابقة واللاحقة دليل على ذلك، فكيف تستدلون علينا بموضع النزاع؟.
فالنزاع بيننا: هل الدخول في هذا المجال, هل يؤيد الدين, أم يخذله؟ فأنتم ترون الأول، ونحن نرى الثاني، ثم نراكم تستدلون علينا بالحديث الذي هو فرع عن ثبوت نصرة الدين أولاً, أما ونحن ننازعكم في هذا, فليس لهذا الاستدلال منكم قبول ولا سماع، وهل يجوز لنا أن ندعوا الناس إلى أن يتولوا على أمور المسلمين وهم فجرة؟ هل دعا بهذه الدعوة أحد من أولياء الله فضلاً عن أن يكونوا علماء؟.
فإن قلنا: لهم فجورهم, ولنا خيرهم, فقد خرجنا عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) متفق عليه من حديث أنس، وعند النسائي وغيره ((من الخير)).(1/78)
وذكر ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) نقلاً عن بعض العلماء عند أن سئل: عندنا عالم فاسق, وجاهلٌ دَيِّنٌ, فأيهما يقدّم؟ فأجاب: "إن كانت الحاجة إلى الدَّيِّنِ أكثر, لغلبة الفساد؛ قُدِّم الدَّيِّنُ، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر, لخفاء الحكومات, قُدِّم العالم", قلت: أي في أمور خفية دقيقة, إلى أن قال:"فإن الأئمة متفقون على أنه لابد في المتولي أن يكون عدلاً أهلاً للشهادة".
المفسدة الخامسة والعشرون
استخدام النصوص الشرعية في غير موضعها
تقوم "الانتخابات" على الدعاية للمرشّح, فيضع المرشح لنفسه الدعايات الزائفة, ويصوّر نفسه، ويقول: مرشحكم فلان, ويكتب له آية من القرآن, مثل قوله تعالى: { من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً } الأحزاب. وبعضهم يكتب قوله تعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } الحج. وقوله تعالى: { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } الخ.
وهذا الفعل غير صحيح, فالمرشح طالب للوظيفة، وليس همه نصرة الإسلام والمسلمين -وإن ادعى ذلك-، روى البخاري في (صحيحه) ومسلم وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له:((يا عبد الرحمن, لا تسأل الإمارة, فإن أعطيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها, وإن أعطيتها عن غير مسألة اُعِنْتَ عليها)) وفي لفظ ((لا يتمنين)) وهي أبلغ من ((لا تسأل الإمارة)), انظر إلى هذا التوجيه الكريم, ممن هو أرحم بنا من أنفسنا جميعاً، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((وكلت إليها)). قال الحافظ ابن حجر في (الفتح13/124): "أي صُرِفَ إليها, ومن وُكِلَ إلى نفسه هلك، ومنه الدعاء ((ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين))" إلى أن قال: "ومعنى الحديث، أن من طلب الإمارة, فأعطيها, تُرِكَتْ إعانته من أجل حرصه عليها" أهـ.(1/79)
قلت: كلمة ((وُكِلْتَ إليها)) كلمة مخيفة لكل مسلم, لأن المسلم لا يملك ضراً ولا نفعاً, ولا يقدِّم ولا يؤخِّر، فقد علّمنا - صلى الله عليه وسلم - أن نقول عند أن نسمع "حي على الصلاة": لا حول ولا قوة إلا بالله", ومعنى هذا أنه لا يمكن أن نتحوّل إلى فعل خير, أو ترك شر, إلا بتحويل الله لنا بعونه وحفظه ورعايته، فإذا كنا نعجز عن الخطوات القليلة إلى المسجد, إلا بقوة الله وتيسيره، فما بالك في قضايا الحكم؟ والإنسان يلام ويُعارَض ويُهدَّد من قبل المخلوق ويثبَّط, فكيف يستطيع أن يحكم بما أنزل الله، وقد تركه الله, وسلّط عليه شياطين الإنس والجن؟.
يقول الله: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء } النور. ويقول سبحانه: { وما بكم من نعمة فمن الله } النحل. ويقول سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفةٌ منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء } النساء. فإذا نسينا الله عز وجل, فلو اجتمع أهل السماء والأرض ما استطاعوا حفظنا ورعايتنا، بل الله سبحانه وتعالى يقول: { ومن يهن الله فما له من مكرم } الحج. ويقول سبحانه: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون } الحشر. فهذه العقوبة والفساد في كثير من مجالات المسلمين, بسبب نسياننا لأوامر الله عز وجل.(1/80)
وأما أصحاب مجلس النواب, فلن يكلهم الله لأنفسهم فقط, وإنما سيحاربهم الله, لأنهم صاروا حرباً على الله, وعلى دينه وأوليائه, وذلك إذا رضوا بأن يكونوا مشرّعين من دون الله عز وجل, إلا أن يتوبوا إلى الله, وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت أنا ورجلان من قومي, فقال أحد الرجلين: أمِّرْنا يا رسول الله؟ وقال: الآخر مثله, فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((إنا لا نولي هذا الأمر من سأله, ولا من حرص عليه)) وفي لفظ ((إنا والله لا نولي...)) بلفظ القسم، وفي هذا الحديث وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاعدتين:
الأولى: ((لا نولي هذا الأمر من سأله)) فبمجرّد السؤال؛ يمنع من إعطائه الوظيفة, بل تقدم أنه محرّم على المسلم أن يتمنى الوظائف والأعمال في مصالح الأمة العامّة, إلا في حالة معينة سيأتي ذكرها بعد قليل, والجواب عنها.
الثانية: ((ولا مَنْ حرص عليه)) فهناك سائل إذا قيل له: لن نعطيك, ترك واقتنع, وهناك سائل حريص يستعمل وسائل شتى للوصول إلى الوظيفة, فهذا الثاني واقع في خطر أشد من الذي اكتفى بمجرد سؤال، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" عند شرح هذا الحديث, عن ابن المهلب أنه قال: "الحرص على الولاية, هو السبب في اقتتال الناس عليها, حتى سفكت الدماء, واستبيحت الأموال والفروج, وعظم الفساد في الأرض بذلك".(1/81)
وقد روى البخاري رحمه الله في (صحيحه) والنسائي في (سننه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة, فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة)) وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة، حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن شيء لم يكن واقعاً, ثم وقع كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله: ((إنكم ستحرصون)) خطاب لنا جميعاً, ولا يخرج عن ذلك إلا من عافاه الله، وقوله: ((وستكون ندامة يوم القيامة)) فالمسلم لا ينظر إلى الوظيفة وكفى, وإنما ينظر إلى ما سيلاقي يوم لقاء الله، وهذا الفهم السليم هو الذي جعل كثيرا من المسلمين يخافون القرب من الوظائف, وإن تولوها فعن حذر شديد وانتباه كبير، وقوله: ((فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة)) قال الحافظ في (الفتح): "قال الداودي: أي في الدنيا, وبئست الفاطمة أي بعد الموت, لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك". فيا ويله يوم أن يُقال: { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } الحاقة.
فهذا الحديث يبين لنا أن الحرص على الإمارة سواء كانت كبيرة أو صغيرة داهية من الدواهي على صاحبها, والله المستعان.
وقد جاء في (صحيح مسلم) أن أبا ذر قال: يا رسول الله, ألا تستعملني؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((يا أبا ذر, إنك رجل ضعيف, وإنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزي وندامة, إلا من أخذها بحقها, وأدى الذي عليه فيها)). وعند مسلم وأبي داود والنسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً, وإني أحب لك ما أحب لنفسي, لا تتأمرن على اثنين, ولا تتولين مال يتيم)).
فتأمل هذه المواقف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع مجموعة من أصحابه, وهم أهل بر وتقى وصلاح وعلم وزهد وورع، ومع هذا كله فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يمنعهم من الوصول إلى الإمارة أياً كان نوعها.(1/82)
ويتضح لنا هنا أمران:
الأول: أن بعض علماء الحزبية لم يقوموا بإرشاد المرشحين, حتى يكونوا على حذر.
الثاني: أن الذي يترشّح, هو الذي دفع نفسه إلى هذا العمل المحرم.
واستفدنا من هذه الأحاديث أن الأصل في الولاية أنها لا تعطى لمن طلبها, وتحرم عليه، وتحرم على من كان يبحث عن ولاية أن يعطاها, وقد استثنى بعض العلماء من ذلك مسألة, وقالوا: إذا طلبها وهو كفء, ولا يوجد من يقوم بها, فهنا يجوز له ذلك، واستدلوا على ذلك بقول يوسف عليه السلام: { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } يوسف. وهذا الاستثناء غير صحيح.
فهذا نبي معصوم، وهذا لا يوجد أصلاً فينا، وكذلك هذا في شرع من قبلنا، وإذا جاء في شرعنا ما يخالف شرع من قبلنا, فالأخذ بشرعنا متحتم.
وشرعُنا قد حذّر من سؤال الإمارة فدل هذا على عدم الاحتجاج بما فعله يوسف عليه السلام، بعد أن قال له الملك: { إنك اليوم لدينا مكين أمين } يوسف. فعند ذلك قال: { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } فمن يستطيع أن يكون كيوسف عليه السلام؟ وأهم من هذا كله؛ أن يوسف دخل في الولاية ليحكم كما أراه الله, لا بحكم الملك, أما عضو مجلس النواب فقد دخل من أجل أن يحكم بالقانون, فافترقا, فبطل الاستدلال بفعل يوسف عليه السلام.
والذي أقول به: إنه ينبغي البحث عن دليل لهذه القضية من شرعنا, لما سمعت من التشديد من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما ما جاء عند أبي داود والبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من طلب قضاء المسلمين حتى يناله, فغلب عدله جوره, دخل الجنة، ومن غلب جوره عدله, دخل النار)) فهو ضعيف, لأنه من طريق موسى بن نجدة, وهو مجهول، ومعناه منكر لمخالفته للأحاديث العامة, وأما قولهم: تأمّر خالد في غزوة مؤتة, بدون أن يؤمّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فهذه ضرورة اقتضتها الظروف.(1/83)
وعلى كل حال فهَبْ أننا قلنا بأنه يجوز للرجل أن يتولى وظيفة بعد أن طلبها, لأنه رجل صالح حين طلبها، والحاجة تدعو إلى ذلك..., إلى آخر ما سبق ذكره، فهنا أمر مهم وهو: أن يوسف عليه السلام قد اُعْطِيَ الحرية في الإنفاق، وخالد بن الوليد حين تولى الإمارة من نفسه كان غير مقيد بحكم حاكم يخالف حكم الله، فهذه هي مصيبة المجتمعات، أن الموظفين أنفسهم -في كثير من الأحيان- إذا رأوا موظفاً فيه خير تآمروا ضده حتى يكون مثلهم، أو يُطْرَد من العمل, أو يكون محكوماً بالقانون, فلا يخرج عنه، فمهما كان عند الرجل من الصلاح, ومهما كان حبه لنصرة الإسلام, فإنه يعجز عن أن يفعل، والواقع أكبر شاهد.
وهاهي بعض الأحزاب الإسلامية الذين دخلوا في الوزارات وفي مجلس النواب, لم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً يُذكر, لماذا؟ قالوا: من يسمح لنا؟ من يعمل بما نقول؟ وأخيراً فقد عرفنا أن من المفاسد؛ طلب الوظائف والحرص عليها.
فهذه "الانتخابات"فتحت الباب لأهل الأطماع, وأهل الجشع, والذين لهم أغراض شخصية مادية كجمع المال, فلا يكاد يأتي رجل فيه خير إلا وقد أعدوا له من يخنقه خنقاً. والله المستعان.
المفسدة السادسة والعشرون
عدم مراعاة الشروط الشرعية للشهادة
تقوم "الانتخابات" على التصويت, فيصوت الناخب للمرشّح، وهذا التصويت شهادة, يدلي بها هذا المصوّت، ولا يوجد لدى الناس الضوابط الشرعية حول الشهادة, ولا تتوافر فيهم الشروط, فهي مخالفة شرعية تفضي إلى فتح باب القول بغير علم ولا معرفة، قال تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } البقرة، والوسط: العدل، وقال تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } الطلاق. وقال سبحانه: { ممن ترضون من الشهداء } البقرة. فشرط العدالة في الشهادة.
والعدالة: ملازمة التقوى، وقال الجمهور: "العدل: هو المسلم المكلف الذي لا يرتكب كبيرة, ولا يصر على صغيرة" راجع (فتح الباري 5/52).(1/84)
فإذا أمر الله بأخذ الشهادة من العدل في قضية امرأة, فما بالك بمسألة تتعلق بالأمة كلها، وهي الولاية على أمور المسلمين، وقوله: { ممن ترضون من الشهداء } هي مثل الأولى، فأسند سبحانه الرضى إلى أهل الصلاح والخبرة والمعرفة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - للصحابة عند أن مُرّ بجنازة, فأثنوا عليها خيراً, ومُرّ بجنازة أخرى, فأثنوا عليها شراً: ((أنتم شهداء الله في أرضه)) والحديث في (الصحيحين) من حديث أنس ومن حديث عمر, وبعض العلماء خصّص هذا الحديث بالصحابة، وذلك لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، والصحيح أنه ليس خاصاً بالصحابة، بل يشمل كل من كان فيه الخيرية التي اتصف بها الصحابة، ولهذا قال الحافظ:"هذا خاص بالثقات المتقنين". وقال الداودي:"المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق".
وإذا كان يشترط في الشاهد العدالة, فأين العدالة في كثير من الناخبين؟ فلابد أن يكون عنده المعرفة والعلم بأحوال من سيشهد له، فقد قال سبحانه: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } الزخرف. والشاهد من الآية: { وهم يعلمون } ماذا يشهدون به, ولمن يشهدون.
وقد جاء عند العقيلي أن رجلاً شهد عند عمر بن الخطاب, فقال عمر للرجل:" إني لا أعرفك, ولا يضرك أني لا أعرفك, فأتني بمن يعرفك" فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين, قال: بأي شيء تعرفه؟ فقال: بالعدالة, فقال: هو جارك الأدنى, حتى تعرف ليله ونهاره, ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعامَلَكَ بالدينار والدرهم, حتى تعرف ورعه؟ قال: لا، قال فصاحبَك في السفر, الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه". وقد حسّن سنده الشيخ الألباني في (الإرواء).
والغالب على الناس أنهم إذا رأوا للرجل هيئة, كأن يكون عنده لحية وجبة, أو يكون خطيباً بليغاً, أو يتهجم على الحكام كثيراً, هرولوا وراءه.
وليس من منهج أهل السنة هذا التشهير المفضي للفتنة, وسفك الدماء, والحماس الفارغ, الذي يصد الناس عن العلم النافع.(1/85)
بل منهج أهل السنة قائم على عدم الطاعة في الشر, مع بذل النصح, بما يزيل الشر أو يقلله. وما سُمِّيَت الشهادة شهادة؛ إلا من الحضور والمعاينة, لأن الشاهِد شَاهَدَ ما غاب عن غيره, ولهذا جاء عند الحاكم وأبي داود وابن ماجه وابن الجارود من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)) أي حاضرة، وهذا للتباعد بينهما، كذلك إذا كان الشاهد خائناً، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة)) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني والبيهقي وغيرهم من حديث عبدالله بن عمرو.
فمن كان يصر على معصية من المعاصي, فلا تقبل شهادته. ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن اللعّانين ليسوا بشهداء ولا شفعاء يوم القيامة)) رواه أحمد ومسلم والحاكم وأبو نعيم والبخاري في (التاريخ) من حديث أبي الدرداء. فكيف بمن هو أشد عصياناً, كالذين عرفوا بالزنا أو الربا أو الرشوة؟!، وهناك من هو أشد من هذا الصنف, كأن يكون متلاعباً بالصلاة والصيام، مبغضاً للدين, محباً لأهل الكفر, أو يكون ممن يذهب عند المشعوذين والمخرفين والسحرة, أو جاسوساً أو قاتلاً لنفس مسلمة ظلماً, أو معروفاً بقطع الطرقات والسلب والنهب...إلخ.
فهؤلاء شهادتهم غير مقبولة شرعاً.
فهذه المفاسد التي ذكرناها, لاشك ولا ريب أنها موجودة في المجتمع، ومن سَلِمَ من بعضها, لم يَسْلَم من البعض الآخر, إلا أن يشاء الله، فكيف جاز قبول شهادة هؤلاء؟ ومن الذي أجازها؟
إنه النظام "الديموقراطي".
ونحن لا نعترف به, بل نتبرأ منه, وممن وضعه من أعداء الإسلام, الذين لا يريدون لأمتنا الخير.
فلماذا أهمل علماء الحزبية هذه الفوارق العظيمة بين الإسلام وبين القانون، ولم يبينوها للناس؟.
أليست هذه الموافقة على "الانتخابات" –بما فيها من المفاسد-, فيها موافقة ضمنية -على الأقل- على "الديموقراطية"؟
تنبيه:(1/86)
يأتي الرجل الحزبي, ويدعو الناس إلى "الانتخابات", ويقول: هذه شهادة واجب عليك أن تدلي بها, فالله يقول: { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } البقرة. أو يقول: أدِّ الأمانة ولا تكن صِفْراً!
والله ما هذا إلا تلبيس على الناس, لماذا ما ظهر كتمان الشهادة إلا في حق "الانتخابات"؟ هذه هي عادتكم, من لم يدخل في حزبكم, قلتم: منافق يفرق الأمة، وإذا دخل في حزبكم, فهو أصلح الناس, وأتقى الناس, وأبرهم وأذكاهم, حتى وإن كان مشركاً بالله, أو ساحراً, أو دجّالاً, أو كذّاباً, أو مرابياً, أو مرتشياً, أو ظالماً!.
ومن أشرب قلبه حب هذه الحزبية, فمهما تذكُر له من الخلل العقدي في بعض أتْباعِ حزبه, فإنه يقول لك: لكن فيه خير, وقلبه سليم’ ومحب للدين, وغيور على نصرة الإسلام، ومنفق لماله في مصالح الدعوة, ويُرجى منه خير, وإن كان عنده شيء من الوضوح في الفجور؛ قال: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر", مع أنه لا يوضّح له فجوره, فيموت الصوفي على خرافاته، والرافضي على طعنه في الصحابة، ونحو ذلك.
وربما قال لك: "الكلام الآن في التوحيد يفرق الصفوف"!.(1/87)
فتباً لهذه الصفوف التي لا ترفع بالعقيدة رأساً, وصدق الله عز وجل القائل: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } , وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((تتداعى عليكم الأمم, كما تداعى الأكلة على قصعتها)) وفيه: ((ولكنكم غثاء كغثاء السيل)). مع أنك لو ذكرت لهذا الحزبي رجلاً من العُبّاد أو النُسّاك أو العلماء الذين لا يرون حزبيته, فلا تراه يذكره إلا بالغفلة عن واقع الأمة, والعيش في خيال وأوهام سطحية, أو اشتغاله بشرك القبور دون شرك القصور! أو اشتغاله بمعركة لا خصم فيها، مثل قضايا الأسماء والصفات!، وإن ذكرت له إنتاجه العلمي, وجهده في السنة, قال: المكتبة الإسلامية مليئة بالكتب, فلا يفيدها تأليف كتب أخرى، ونحن بحاجة إلى تأليف صفوف, لا تأليف كتب, أو نحن في زمن "فتح الآلي" -أي الرشاش الكلاشنكوف- لا "فتح الباري"، أو أن هذا العالم مشتغل بالقشور وناسٍ لِلُّباب, وربما اتهمه بأنه عميل لأعداء الإسلام، أو أنه نعل لحاكم ظالم, أو أنه من أصحاب ذيل بغلة السلطان!, أو غير ذلك مما يتكلم به من لا يدري ما يخرج من رأسه, ولو كان يعُدّ كلامه من عمله, الذي به يَبْيَضّ وجهه أو يَسْوَدّ, لقل كلامه إلا فيما ينفع, أو تثبّت منه, لكن: { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } يوسف.
ومع ذلك فكل هذه الافتراءات مردود عليها في موضعها, لكني ذكرت هذا ليُعْلَمَ أن دعاة الإنصاف والاعتدال ما عملوا بذلك إلا مع أهل البدع، ولم يتعاملوا بذلك مع أهل السنة، وأن دعاة فقه الواقع, جهلوا حقاً الواقع, وإن لسان حالهم ينذر بشر خطير, فنعوذ بالله من الخذلان, والله المستعان.
المفسدة السابعة والعشرون
المساواة غير الشرعية
تقوم "الانتخابات" على المساواة بين صوت الرجل والمرأة, والصالح والطالح, والمسلم والكافر, والعالم والجاهل, وأهل الحل والعقد وأهل الموسيقى والرقص.(1/88)
وهذا هو نهج "الديموقراطية"! فلا فرق عندها بين الأسد والكلب، بل إن الحيوانات أفضل من الكفار, فقد قال الله { أولئك كالأنعام بل هم أضل } . وقال تعالى: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } الأنفال.
لكن"الديموقراطية" لا تعترف بهذا, لأنها من صنع من يرون أن منزلة الكلب تتجاوز في الرفعة والقيمة منزلة الأب والأم, بل ومنزلة شعب كامل, بل ومنزلة أمة كاملة، وهذا يُعَدّ في الإسلام إجراماً.
ولا غرابة في هذه المساواة في "الديموقراطية", لأنها منهج أهل الغبن والغلط, الذين قال الله عنهم: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } آل عمران. فهذه صفة اليهود أنهم يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل, وهم يعنون بالأميين: العرب، فهم يقولون: ليس علينا أي ذنب وإثم إذا خدعنا العرب, وعملنا بهم أي عمل إجرامي.
ولم يقفوا عند هذا الحد, بل قالوا: هذا حكم الله، ونسبوا باطلهم إلى الله عز وجل, فرد الله عليهم بقوله: { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . فليس على اليهود سبيل -في اعتقادهم- إذا ساووا بين العرب وبين الحُمُر والكلاب، بل ليس عليهم سبيل -أي عندهم- إذا كان الكلب عندهم أفضل من المسلمين, لأنهم ينطلقون من منطلقات شيطانية, وضعها لهم شياطينهم وأئمتهم في الضلال.
والأدلة على تحريم هذه التسوية معلومة, فمن ذلك: قال سبحانه: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون } القلم.(1/89)
ومهما بلغ الحسبان عند أي مجرم أن يسوّي بين المؤمن والكافر، فهذا حسبان باطل لا قيمة له في ميزان أحكم الحاكمين، قال سبحانه: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } الجاثية. فما أسوأ هذا الحكم الذي يجعل من ظلَم كمن عدَل، ومن فسد كمن صلح، ومن كفر كمن آمن بالله.
هل يجوز أن يُسوّى بين مكنّس الشارع ووزير الدولة في رتبته وأجر وظيفته؟ إذا كان هذا لا يجوز, فيكف يُسمح لـ"الديموقراطية" أن تعبث هذا العبث, وأن تفسد في الأرض هذا الفساد؟ وقال عز وجل : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } العنكبوت. وقال سبحانه: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ص.ويقول سبحانه: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } الأعراف.
هذا هو حكم الله: لا مساواة, لأن درجة الكافر لا تقاس بدرجة المسلم أبداً، وإنما تقاس بدرجة الحيوانات, بل وأسقط، قال الله: { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } التين.
فهل بقي من هو أردأ وأسقط من اليهود الذين أحيوا "الديموقراطية"؟, ولبّسوا على المسلمين دينهم.
فالإسلام أعطى كل ذي حق حقه، وأي إهانة تبلغ بالشعوب كهذه الإهانة؟ والقرآن يدافع عنا, ويرفع من قدرنا, لأننا مسلمون، ولكن بعض المسلمين –للأسف- لسان حاله يقول: لابد أن نكون كما أراد اليهود, وأن نتحضر كما تحضروا -زعموا-.(1/90)
وبعض الناس ممسوخ, يرى هذا الكلام علقماً, لماذا نقول: "الديموقراطية" فاسدة؟ لماذا نقول: "الديموقراطية" كفر؟ نسيت يا هذا أنك كنت قبل أيام ترى"الاشتراكية الحمراء" أنها العدل الذي بلغ عنان السماء، ومع هذا لم يوجد فيها مثقال ذرة من ذلك، ومن ثم اتضحت لك الأمور, وعُدْت ترى أنه لا ظلم أخطر وأقبح في الأرض من ظلم "الاشتراكية"؟ وإن أراد الله بك خيرا, عرفت بعد ذلك حقيقة "الديموقراطية".
فلا تجعل رأيك القاصر, وفهمك الضعيف, وإدراكك الضئيل, وجهلك العميق, حجة على الخلق في قبول " الديموقراطية".
وقد قامت دولة المسلمين لأكثر من عشرة قرون, فهل احتاجوا إلى هذا النظام؟ وهل قالوا: نستورد لنا نظاماً من الشرق أو الغرب؟ مع أن أولئك الحكّام كان في كثير منهم جور وظلم، لكنهم في باب تولّي أمور المسلمين أغنياء بدينهم، لم يحتاجوا إلى غيرهم, فما ظنك بزمن الصحابة؟
وأنا أسأل العلماء الغارقين في الحزبية، الذين شغلتهم الحزبية عن العلم والبحث عن المسائل الشرعية:
يا أيها العلماء: هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدخل المنافقين وأهل الذمة في التشاور بين المؤمنين؟.
يا أيها الأساتذة: هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدخل الجهال والحمقى في التشاور مع المؤمنين؟
يا أيها الدكاترة: هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدخل نساء المؤمنين في سياسة الأمة, وأعطى لهن الحق كالرجال سواء كن صالحات, أو غير ذلك؟
يا أيها المثقفون الحركيون: هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدخل نساء المدينة بما فيهن الجواري والإماء في التشاور مع المؤمنين؟
ظلمتم عبد الرحمن بن عوف, وقلتم: استشار النساء, مع أن القصة لم تثبت, وسيأتي مزيد بيان لهذه القصة في "الشبهات/ الشبهة الثانية" من هذا الكتاب.(1/91)
وأين الثرى من الثريا؟ وأين هذه القضية التي يدعون إليها, من قضية عبد الرحمن المنسوبة إليه؟ هؤلاء جعلوا "انتخابات" النساء فرضاً, يسألون المرأة الجاهلة والمغنية بل والعاهرة.
أما الذين يقولون عنها: إنها "الشورى الإسلامية" فنقول لهم: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } الكهف. فكيف تكون شورى, وهي قضية لاوجود لها أبداً, لا في الشريعة, ولا في التاريخ؟ وإنما جاءت من قبل أعداء الإسلام، وقد تكلمتُ عن الفرق بين "الديموقراطية" والشورى" في الكلام على "الديموقراطية", فارجع إليه تجده هناك.
وكيف يجوز أن يُسوّى بين صوت مسلم من أهل السنة, وبين صوت علماني أو كافر أو مبتدع أو عاهرة؟!.
وكيف يُسوّى صوت العالم التقي النقي الصالح, بصوت فاجر منافق؟ وكيف يُسوّى صوت رجل عاقل برجل جاهل أحمق سبّاب شتّام لعّان كذّاب خدّاع مكّار؟! أي ظلم بعد هذا؟
من كان منا يريد أن يهين نفسه فليهنها، أما نحن فوالله إن أنفسنا كريمة علينا، لا يمكن أن نقبل هذه القسمة الضيزى.
وقانون " الانتخابات" يُسوّي بين صوت الرجل والمرأة، والله يقول: { وليس الذكر كالأنثى } آل عمران، وقد جعل الله شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وبين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وعلل ذلك بنقصان عقلها, فكيف نجعل عقلها كعقل الرجل؟ وقانون "الانتخابات" سوّى بين صوت العالم والجاهل, والله يقول: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين يعلمون } ويقول أيضاً: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } النحل. فجعل سبحانه من لا يعلم يسأل الذي يعلم, لا يعارضه بصوته الجاهل, ويتعقّب عليه, فالله المستعان, ونعوذ بالله من الخذلان.
المفسدة الثامنة والعشرون
فتنة النساء في الانتخابات
بما أن "الانتخابات" فرع من "الديموقراطية", ومن منهج "الديموقراطية" المساواة بين الرجل والمرأة في كل الأمور, ومنها: "الانتخابات".
فمن هنا نبدأ بمناقشة هذا التصرف، وما فيه من الأخطاء, وهي كالآتي:(1/92)
1- من أجاز من العلماء "انتخابات" النساء؟
تقدم أنه لا يوجد شيء من ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - , ولا عن صحابته, ولا عن علماء الأمة, منذ ثلاثة عشر قرناً، وإذا كانت هذه القضية خارجة عن الكتاب والسنة وعلماء الأمة، فما أبعدها عن الحق والصواب، ولا يقول قائل: هذه القضية حادثة جديدة، لأن اختيار الولاة والقضاة والحكام أمر كائن منذ جاء الإسلام، بل منذ جاءت الحياة, وسواء كان في حق أو باطل.
وهذا كافٍ في بطلان جواز "انتخابات" النساء, إلى جانب ما سبق من الحكم على "الانتخابات"، ومعنى هذا أن الحزبيين ليس عندهم اقتناع بما يفتي به العلماء، ولا يعتبرون العلماء مرجعاً للأمة، وكفى بهذا انحرافاً، أما علماء التحزب فلا تقبل فتاواهم.
2- إنّ اختيار النساء مسئولات في قيادة الأمة, يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري عن أبي بكرة.
والأمر هنا الذي يتعلق بالناس, هو اختيار المسئول، ولن يفلح هؤلاء.
وقد لقي أبو بكرة مجموعة من الصحابة وهم سائرون إلى الكوفة من أجل قضية قتلة عثمان, والمطالبة بالقصاص, فقال لهم: من أميركم؟ قالوا: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال أبو بكرة: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) وأبَى أن يذهب معهم, فانظر كيف لامهم على تأميرهم لها في سفرتهم، والاختيار لها بأن تكون المتكلمة مع علي رضي الله عنه, مع أن عائشة هيَ هيَ في الفضل والهدي. وتحقق أنهم ما أفلحوا, وقد تمنت عائشة رضي الله عنها أنها ما خرجت.(1/93)
3- من الذي أجاز لهؤلاء أن يصوروا النساء؟ التصوير محرم في حق الرجال والنساء, إلا لضرورة لابد منها، ولا ضرورة هنا للرجال, فضلاً عن النساء، وكيف لا يكون التصوير محرماً, والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كل مصوّر في النار, يجعل الله له بكل صورة صورها نفساً تعذبه في جهنم)) رواه مسلم عن ابن عباس، والأحاديث كثيرة جداً في هذا الباب.
والسؤال هنا: لماذا صورتم النساء؟ قالوا: ضرورة!.
ولماذا دعوتم النساء إلى المشاركة في "الانتخابات"؟ قالوا: ضرورة!.
فيقال لهم: إذاً فكل شيء تحتاجونه, فهو ضرورة عندكم، ويكون في نظركم أنه حق دون الرجوع إلى الكتاب والسنة؟.
الإسلام يرى أن الضرورة ستر النساء وإبعادهن عن الفتن، وأنتم ترون أن الضرورة إخراجهن والزج بهن في مصالحكم!. فهل الحكم لا يقوم إلا بمشاركة النساء؟.
فإن قلتم: نعم؛ أخطأتم, فإن هذا لاوجود له أبداً, وهذا العمل خزي في الحقيقة.
وإذا كانوا يخافون من غيرة الناس, جعلوا المصوِّرة لهن امرأة، وإذا كانوا يعلمون أن الناس هؤلاء عوام, أو ما عندهم التزام جيد, جعلوا الرجال يصورون النساء، وبالذات عندما تكون "الانتخابات" في كل قرية أو مركز, فيحصل التعرف في تلك القرية على نساء الجيران، وبنات الجيران، وتبقى الصورة محل تمتع بجمال المرأة, وربما أدى ذلك إلى مالا تحمد عقباه, والعياذ بالله.
وقد جاء من حديث علي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((رأيت شاباً وشابة يمشيان, فلم آمن الشيطان عليهما))رواه أحمد والترمذي.
وقد جاء في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((كُتِبَ عَلَىَ ابن آدم الزنا, مدركاً ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما السمع، واليدان زناهما البطش، والرجلان زناهما المشي، واللسان زناه التكلم، والقلب زناه التمني، والفرج يصدقه أو يكذبه)).(1/94)
4- يأتي المسجلون لأسماء الناخبات, فيدعون النساء إلى "الانتخابات", ولا يستأذنون أحياناً من أزواجهن وأوليائهن، بل قد يعلمون أن زوجها لا يرضى بهذا الأمر، وكأن المرأة في ملكهم، ويأتون إلى نساءٍ أزواجهن غائبون, ويدعونهن أن يأتين وينتخبن.
وبهذا يفتنون بين الرجل وزوجته، فإن الرجل يقول: لا تخرجي هذا حرام، ولكن المرأة تقول: قد ذهبت فلانة، وقد خرجت فلانة لنصرة الإسلام -زعموا!- فتخرج رغم أنف زوجها.
5- معروف أن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل، فكيف جاز لهم أن يسووا بين شهادة الرجل والمرأة؟ قال الله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } البقرة.
فإذا كانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في قضية الشهادة على الدَّيْن، فما بالك في قضية ولاية الأمة كلها, والتي جعلها الشرع بأيدي أهل الحل والعقد؟ أتكون قضية سهلة, وهي ولاية المسلمين؟! والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين, أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن, أمَّا نقصان العقل؛ فشهادة امرأتين بشهادة رجل وأما نقصان الدِّين؛ فإن إحداكن تفطر في رمضان وتقيم أياماً لا تصلي))رواه مسلم وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فكيف جاز لهم أن يتجاوزوا هذه الأدلة؟ والله يقول: { وليس الذكر كالأنثى } آل عمران.
6- هذا زج بالنساء في عمق الحزبية والانتصار لها، فكل امرأة تنتمي إلى الحزب الفلاني, فتقوم بينهن المعارك والخصومات بسبب هذه الأمور، وهن بعيدات عن الهُدَى، ولسن مؤهلات شرعاً لذلك، وما هذا إلا لشر الحزبية، وأنها تحصد الأخضر واليابس.
والمرأة التي تنتخب فلاناً لاشك أنها معلَّمة أو مأمورة من قبل زوجها الحزبي أو أخيها أو أبيها, فهي ليس عندها أي خبر عن هذا الأمر.(1/95)
إذاً: كيف تصح شهادتها؟ وأيضاً هذا يجعلها تفتح مشاكل مع أقربائها، لأن الحزبية فرّقت بين الناس, حتى المرأة مع المرأة, والأب مع الأب, فقد تطيع أباها في التحزب لفلان, وتغضب زوجها وأخاها, أو العكس, وقد تفتح لها مشكلة مع جيرانها, فتعظم العداوة والبغضاء بسبب من يريد أن يقوي سلطانه وملكه, حتى ولو برأي امرأة.
أما تعلم يا هذا أن أقوال الرجال ما نفعت عند الأعداء ورُدَّت أقوال كثير من الرؤساء والوزراء والقادة؟
فالأعداء ينفذون ما أرادوا دون التفات لقولهم فضلاً عن قول عجوزك، وأنت يا مسكين تريد أن تدعم الوظيفة بالعاهرة فلانة, والصعلوك فلان, والضائع فلان؟!. هذا مع أنك قد تدعم رأيك بصوت رجل فيه خير, أو امرأة فيها خير, لكن هذه الأمور رغوة صابون, قال تعالى: { فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } , والله المستعان.
المفسدة التاسعة والعشرون
حث الناس على الحضور إلى أماكن الزور
تقوم "الانتخابات" على دعوة الناس وحثهم على الحضور إلى مراكز القيد والتسجيل، وهذه المجالس محرّمة، لأنها مجالس بعيدة عن الله عز وجل, قال الله تعالى: { والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً } الفرقان.
والآية معروف أن لها تفسيرين:
الأول: لا يحضرون مجالس الزور، وهذا يدل عليه أنّ { يشهدون } بمعنى يحضرون، ولو كان "يشهدون" بمعنى الشهادة, لقال: بالزور, هكذا قال بعض المفسرين.
والثاني: المراد بها الشهادة المعروفة، والمعنى أنهم لا يشهدون الزور, لما في ذلك من تضييع الحقوق والجرأة على الله, والتنكر لأحكام الله. وعلى كلٍ فالآية محتملة للأمرين.
وقوله: { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } دليل على أنهم ينفرون من سماع الكلام الباطل، واستماع الكلام الباطل لا يكون -في الغالب- إلا إذا وقع الحضور.(1/96)
فالآية تبين أن من صفات المؤمنين عدم حضور أي مجلس فيه محرم ومنكر وباطل, ومعروف أن هذه الصفة للمؤمنين تفيد النهي عن الحضور إلى أماكن اللغو والباطل, وذلك أن مفهوم الآية أن من حضر في أماكن اللغو والباطل؛ فقد خرج عن صفات المؤمنين, الذين عرفوا بالموالاة والمعاداة من أجل الله، لأنه بحضوره يكثّر مجلس أهل المعاصي.
ولهذا قال الله تعالى في وصف المؤمنين: { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } القصص.
ويستفاد من هذا أن المؤمنين التزموا بمنهج الله عز وجل, فقالوا: { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } وانظر ما أحسن هذه الكلمة منهم { سلام عليكم } أي ندعوا لكم بالسلامة, ولا نريد لكم شراً أبداً, فضلاً عن أن يقاتلوا أو يضاربوا أو يلعنوا، ويقول الله مخاطباً نبيه: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } الأنعام. وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ألا يجالس هذا الصنف، فقال سبحانه: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً } الكهف.
ومن حديث علي رضي الله عنه, قال:"صنعت طعاماً فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فجاء فرأى في البيت تصاوير, فرجع, فقلت: يا رسول الله, ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال: ((إن في البيت ستراً فيه تصاوير, وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير))رواه ابن ماجه وأبو يعلى في (مسنده).(1/97)
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - امتنع من الدخول عند علي، وعلي هو الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((لأعطين الراية غداً, رجلاً يحب الله ورسوله, ويحبه الله ورسوله)), متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه, وامتنع من الدخول لوجود تصاوير، وقد جاء عند أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يقعد على مائدة يُدار عليها الخمر)), وجاء عند الترمذي والحاكم من حديث جابر، وجاء من حديث غيرهما.
وهذه الأحاديث فيها الامتناع من الحضور إلى الأماكن التي فيها معاصٍ. والمعاصي مختلفة: فمنها الصور، ومنها الخمر, كما نصّت الأحاديث على ذلك، فيستفاد منها أن الحضور ممنوع عند وجود أي معصية, وإن كان الناس يحتقرون هذه المعصية.
وعلى سبيل المثال: فالناس في مسألة الصور يجعلونها أمراً سهلاً, وهذا تساهل ظاهر، والذي يتساهل في الصور وأمثالها؛ فهو مستعد أن يرتكب غيرها، وهكذا قل في الأغاني والمزامير والاختلاط ... الخ.
وقد سار سلف الأمة على هذا العمل الذي شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء عند البيهقي أن عمر رضي الله عنه استضافه عظيم من عظماء الشام, فقال له عمر: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها".
وقد جاء عن أبي مسعود أن رجلاً صنع طعاماً, فدعاه فقال أبو مسعود:"أفي البيت صور؟ قال: نعم، فرجع". وجاء عن الأوزاعي وغيرهما كذلك.
ولما غاب هذا المنهج وهو منهج مناصرة الطائع، وترك مجالسة أصحاب المعاصي, صار أهل الباطل كثيرين, ومع أن أهل الخير قليلون، إلا أن فيهم الخير والبركة, بحمد الله رب العالمين.
فالمؤمن لا يرضى أن يكون عدواً لله لا في ظاهره ولا باطنه، يقول الله في محكم كتابه: { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } الصف.(1/98)
أسألك بالله: أترضى أن تكون من أنصار هؤلاء؟ تكثّر سوادهم, وتُغضب ربك, وتُغضب إخواناً لك يدعونك إلى الخير؟ فحضور مجالس التسجيل لـ"الانتخابات" من المجالس المحظور حضورها, والبقاء فيها, ومناصرة القائمين عليها:
والله لأن نأكل تراباً خير من أن نأكل أكلة محرمة.
فلا تغتر بالمال, فتضيع دينك, وتخسر دنياك، قال الله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } الحج.
المفسدة الثلاثون
التعاون على الإثم والعدوان
ومادام أن "الانتخابات" تقوم على أمور مخالفة للشرع, وستوصل إلى طريق مسدودة, كما هو الواقع في بلدان العالم، فهل عند الناخبين استعداد أن يتبرءوا من عمل المرشحين, إذا بقوا في المجلس على الحكم بالقوانين؟ ويقولون: نحن اخترناكم من أجل الحق فقط، وأنتم نصرتم الباطل.(1/99)
لأنهم إذا لم يتبرءوا؛ فالإثم ما يزال عليهم أيضاً, لأنهم تسببوا في إيصالهم إلى هذا الظلم والفجور والدفاع عن "الديموقراطية", وإذا لم يفعلوا هذا, فهم محكومون بما صنع أصحاب مجلس النواب، فعليهم إثم كإثمهم. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما عند مسلم وأحمد والترمذي من حديث أم سلمة: ((إنه يستعمل عليكم أمراء, تعرفون وتنكرون, فمن أنكر فقد برئ, ومن كره فقد سلِم, ولكن من رضي وتابع)) وعند الطبراني وابن أبي شيبة من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيكون أمراء, تعرفون وتنكرون, فمن نابذهم نجا, ومن اعتزلهم سلِم, ومن خالطهم هلك))، فإذا رضيتم ودافعتم –وإن لم تعملوا بنفس العمل- فأنتم شركاء باعتبار الموافقة والسكوت والرضى، فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري.
فإذا كان الذي رأى منكرا, مطالباً أن يغير بما استطاع، فما بالك بالذي ساعد على هذا المنكر، ألا يكون من باب أولى أنه مفرط في أمر ربه؟ بلى والله إنه أكثر تفريطا, والله المستعان.(1/100)
أم أنك أيها المنتخِب قد أن يجعلوك سُلّماً لهم يصعدون عليك، وأنت تتحمل التعب والنصب والعذاب في الآخرة. وقد جاء في البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل خالد بن الوليد إلى بني جَذيمة –بفتح الجيم- فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا, فقالوا: صبأنا صبأنا, فجعل خالد يقتل ويأسر ... فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد, مرتين)) والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ حتى لا يفهم أنه أذن لخالد، ولا يكون مشاركاً له, ويُعلِّم أمته أن أعمال العصاة المخطئين لا ينبغي السكوت عليها، وإن كان المخطئ مجتهداً، وقد يكون غير آثم, كخالد بن الوليد فإنه مجتهد مخطئ، لكن التبرؤ مهمٌّ, حتى لا يجعل السكوت على ما حصل دليلاً على أن الأمر سهل، وأيضاً ففيه زجر للآخرين من الولاة والأمراء، ويقول الله سبحانه وتعالى آمراً نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون } الشعراء.
وهذه القاعدة من المهم جداً أن يقوم بها المسلم وإن لم -وإن لم يكن مشاركاً- وليس هذا في حق الناخبين فقط، بل هي في حق المسلمين عموماً, ولكن خصصنا هؤلاء بالذكر, لأنهم باشروا في هذا الانحراف، ولأن أعضاء مجلس النواب مُشرِّعون من دون الله, والله عز وجل يقول: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } الشورى.
وأعضاء مجلس النواب, على ثلاثة أصناف:
فمنهم من دخل من أجل نصرة حزبه, سواء بحق أو بباطل.
ومنهم من دخل من أجل أمور مادية كحصانة دبلوماسية، أو مكانة اجتماعية, أو من أجل المال, ولا يرفع بالآيات والأحاديث رأسا.
ومنهم من دخل وظن أنه يستطيع أن ينصر دين الله من ذلك الموضع, وغفل بذلك عن الأدلة والتاريخ والواقع.(1/101)
فمن مثلك يا أيها المسلم الكريم زج بنفسه إلى هذه المزالق، والله يقول: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } هود.
فليست القضية قضية ركون فقط، وإنما انتم اخترتم هؤلاء, ودافعتم عنهم, وقد نحملك على حسن الظن، وذلك لجهلك بهذا الأمر, وقد تُحمل على أنك ما أردت إلا الخير, ولكن إذا اتضح أن المسألة ما فيها خير, أو أن الشر فيها أعظم من الخير, فكيف تريد من الناس أن يحسنوا بك الظن؟
هذا أقل ما نفعله –وهو البيان والنصيحة- إذا أنت تورطت في شبكة "الانتخابات", والذي نحسن به الظن هو: المسلم الذي إذا عرف الحق رجع إليه, وكيف يرجع إلى الحق والصواب, وهو إما جاهل لا يهتم بالبحث عن الحق, أو هو يعرف الحق, ولكنه مغرم بحب المال, أو أنه يظن أنه يحسن صنعاً -مع وجود كل هذه المفاسد-؟(1/102)
المفسدة الحادية والثلاثون
إهدار الجهود بدون فائدة
أيها الناخبون: أنتم انتخبتم المرشّح من أجل أن يحكم بشرع الله, كما تزعمون!.
أما علمتم أنه من المهم جداً والواجب أن يكون لهذا المسؤول بطانة صالحة -وهذا غير موجود في الغالب- لأن المسألة كما يسمّونها "لعبة ديموقراطية!" وخداع للمسلمين, وسواء علم المسلم بذلك, أو لم يعلم.
صحيح أن المرشح هو الذي ألقى بنفسه إلى هذا المزلق الخطير, لكن الواجب عليكم أن تنصروه, وتحجزوه عن هذا, كما قال رسول الله( ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قيل: "يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً, فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟" قال: ((تحجزه عن الظلم)) وهو عند البخاري من حديث أنس, وقد جاء من حديث جابر في (الصحيحين).
فأنت شاركته ولم تنصره, وإذا عجزت عن نصره, كان الواجب أن لا تشاركه, لأنك تزيده توغلا وإمعانا فيما هو فيه.
وهذه الأدلة على اشتراط البطانة ووجوبها:
روى البخاري وأحمد والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله(: ((ما بعث الله من نبي, ولا استخلف من خليفة, إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف, وتحضه عليه, وبطانة تأمره بالشر, وتحضه عليه, فالمعصوم من عصمه الله)).
وقد جاء عند النسائي بهذا اللفظ من حديث أبي أيوب في بطانة السوء: قال(: ((وبطانة لا تألوه, خبالاً فمن وُقي بطانة السوء؛ فقد وُقي)), وقد جاء عند أبي داود والبيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله(: ((إذا أراد الله بالأمير خيراً؛ جعل له وزير صدق, إن نسي ذكَّرَه, وإن ذكَر أعانه, وإن أراد الله بالأمير غير ذلك؛ جعل له وزير سوء, إن نسي لم يذكِّرْهُ وإن ذكَرَ لم يُعِنْهُ)).
بل الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يَأْلُونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخُفي صدورهم أكبر( آل عمران.(1/1)
انظروا يا معشر المؤمنين هذا التحذير والإنذار من رب العالمين, ونحن في غفلة لا نلقي لهذا التوجيه أهميته البالغة, كما تفيده الآية الكريمة, فالخطاب للمؤمنين الذين يحادّون الله في مودة هذا الصنف الماكر المخادع, الذي ملأ قلبه حقداً وعداوة وبغضاء على الإسلام والمسلمين, هذا بينما نرى بعض المسلمين غارقا في غفلته, مولعا بأفكار اليهود والنصارى, بل ربما صار البعض بوقاً لهم, والله المستعان.
انظر يا أخي: ماذا حول المسؤول الذي رشّحته من زبانيةٍ يحرصون على إفساده, ما يسلم في نفسه, فضلاً عن أن يفعل الخير, وهؤلاء الذئاب من حوله!.
هل جعلتم القرآن والسنة محل إهمال لا قيمة لتوجيهاتهما؟ وهل وجدتم خيراً يُدْرَك في غيرهما؟!.
نحن ناصحون لكم –والله- ومشفقون عليكم, ونريد أن جهودكم تكون حيث ينفع الله عز وجل بها, ولكن الأمور كلها بيد الله سبحان وتعالى, فنحن نسمع من الناس كلاما تقشعر من الجلود:
ألم تمتلئ أسماعكم من كلام العامّة أنكم كذبتم علينا فيما وعدتمونا به؟!.
ألم تسمعوا أنهم قالوا: لمّا وصلوا عند أصحابهم, صاروا أصدقاء, ليس بينهم خلاف؟!.
ألم تسمعوا أنهم قالوا: يلعبون علينا؟!.
ألم تسمعوا أنهم قالوا: هم مداهنون؟!.
ألم تسمعوا أنهم قالوا: تلاعبوا بحقوق الأمة؟!.
ألم تصبحوا مدافعين عن "الديموقراطية"؟!.
ماذا تريدون بعد هذا؟.
نحن نغار عليكم, لأننا نحب لكم الخير يا معشر المسلمين.
إن تغافلكم صار عقوبة من الله عليكم.
وإلا فكم انكشفت لكم من مكائد, وظهرت لكم من حقائق, لكن نشكوا إلى الله عز وجل.
ألم تقولوا في الأيام الماضية: ما استطعنا أن نغير شيئاً, لأنهم وضعوا بجانبنا من يعارضنا؟!. هل تريدون أن تخرجوا من هذه الدوامة مطرودين؟ أو تُضَحّوا بالمسلمين باسم مقاومة الحكم الفاسد؟!.
على أن لكم أكثر من ستين عاما تجرون وراء هذا السراب!!!. لكن اعلموا أن خير الهدي هدي محمد(, القائل: ((وإياكم ومحدثات الأمور)).(1/2)
المفسدة الثانية والثلاثون
الوعود الخيالية
ومن المفاسد: مفسدة المغالطة والوعود الخيالية, فالإسلاميون وعدوا الناس عموماً بمصالح نفّاعة لا نظير لها, إلا في عهد عمر بن الخطاب, وهي كالتالي:
1- حماية الدعوة الإسلامية, وستكون حمايتها والدفاع عنها من منبر الحكم. فأين هذه المصلحة؟ وهل حميتم الدعوة, أم ضيعتموها؟ وهل دعوتم إلى الله على منهج الرسول( من تقرير التوحيد والتحذير من الشرك أم لا؟.
كل هذه أسئلة مطروحة للإجابة عليها بدون مغالطة.
2- حماية حقوق المسلم, والدفاع عن المال العام, وعدم العبث به في أيدي الحكام, وتوزيع الثروة... فأين حقوق المسلم أولاً؟, وهل حميتم حقوق المسلم أم أكلتموها مع الآكلين, أم اُكِلَتْ وأنتم تنظرون؟, وهل بقيت حقوق المسلم كما هي في ضياعها الأول, أم زاد ضياعها؟. لأنكم قلتم ـ على حد زعمكم ـ ستحمون حقوق الإنسان برمتها.
وما هذا إلا لأنكم لا تدرون ما يخرج من رؤوسكم, إنه سُكْر الكراسي, وطوفان الجهل, والله المستعان.
3- إقامة الشريعة الإسلامية: فأين الشريعة أولاً؟ وما أبقيتم للشريعة؟ وماذا حميتم منها؟ وماذا أقمتم منها؟. فقد ضيعتم كثيرا من الإسلام بزعمكم: "هذه قشور, وهذا ما جاء وقته, وهذا الحرام المصلحة تقتضي فعله ... وهلم جرا!!!".
4- عدم تمكين الأعداء, بل نزحزحهم ونقضي عليهم: فأين زحزحتكم لهم؟ ولماذا زحزحوكم؟ وهل هم أعداء, أم أصدقاء؟ وهل هم محقّون, أم مبطلون؟ وهل هم علمانيون, أم إخوة مسلمون؟ وهل هم ضد الإسلام, أم حماة الإسلام؟ وهل أظهرتم موقفكم هذا بوضوح, أم لبّستم عليهم أيضاً؟.
هذه الحقوق والمنجزات الكبيرة المنعدمة, ناديتم بها في أفغانستان وفي باكستان ومصر والسودان وسوريا والجزائر
واليمن والكويت والأردن وغير ذلك من الدول العربية والإسلامية.(1/3)
وهنا نأتي إلى ذكر نبذة تبيّن أن المصالح التي وعد الله بها أولياءه لا تختلف, لأنه وعد صدق, قال سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً( النور. فوعد الله لن يُخلف أبداً, فإذا تخلفنا نحن؛ فمن الحماقة أن نطلب التمكين في الأرض بلا شيء, وربنا هنا يجعل هذا التمكين مضموناً لنا بالإيمان والعمل الصالح, ولكن الإيمان الذي يرتضيه هو, ولهذا قال: (منكم(, فمَنْ لم يكن على إيمان الرسول وصحابته, فما وفّى بشرط الله سبحانه: (وعملوا الصالحات( العمل كله.
إذا أردنا أن نعرف الإيمان بكل مقوماته والعمل الصالح بكل شرائعه؛ فلابد من أن نرجع إلى تلقي العلم الشرعي, والعمل بما نعلم, والله تعالى يقول: (إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبّت أقدامكم( محمد. وقد نصر الله المؤمنين حقاً على أهل الأرض, وذلك بسبب صدقهم وإخلاصهم وثباتهم والتزامهم بشرع الله, قال الله تعالى: (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً( الأحزاب. وهل هناك أعظم دلالةً من هذه الآيات على أن المصالح التي وعد الله بها أولياءه تتحقق بنشر الدين على أيدي أولئك الرجال.
ولسنا كما يبهتنا البعض: نكره نصرة الإسلام, فنحن بحمد الله لم يكن عندنا يأس أبداً, بل عندنا الثقة الكاملة بتحقيق وعد الله في هذه الحياة, وأما على أيدي من؟ فالله أعلم, ولكن من عمل لهذا الدين, ويسّر الله له أسباب النصر, فهو الذي سيقيم الخلافة الراشدة.(1/4)
ونحن وإن كنا نرى أننا لسنا مؤهلين لأن نقيم الخلافة الراشدة, ولكن هذا لا يجعلنا نتقاعس عن خدمة الإسلام, بل الواجب أن يعمل المسلم حيث يستطيع, وعلى الله التمام والسداد, فقد جاء عن مجموعة من الصحابة قالوا: قال رسول الله(: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار, ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر, إلا أدخله الله هذا الدين, بعز عزيزٍ, أو بذل ذليلٍ, عزاً يعز الله به الإسلام, وذلاً يذل الله به الكفر)) رواه أحمد والطبراني في (الكبير) وابن منده في "الإيمان".
وهناك أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
المفسدة الثالثة والثلاثون
تسمية الأمور بغير أسمائها
كل الأحزاب بما في ذلك الأحزاب الإسلامية تضع مصطلحات وأسماء شرعية لأمور محرّمة في الإسلام, ومن أمثلة ذلك: "الانتخابات" فإن لها قانونها وهيئتها ومضمونها على حسب ما وضع ذلك الأعداء, وكلنا متفقون -حتى الأحزاب الإسلامية- إلى قبل أيام أن "الانتخابات" حرام, لأنها نظام طاغوتي غربي, والأحزاب الإسلامية, بأنفسهم يقولون هي مفروضة علينا, والأشرطة عندنا تثبت ذلك, ثم فجأة إذا ببعض الأحزاب الإسلامية تقول في "الانتخابات" هي "الشورى الإسلامية!".
فوضعوا لها هذا الاسم الشرعي, الذي يتضمن أموراً إسلامية بعيدة عن كل معنى ومضمون "الانتخابات", فلما وضعوا هذا الاسم الشرعي؛ أخذوا يسردون جميع الأدلة الواردة في الشورى الشرعية في صحة شرعية "الانتخابات", وهذا أمر مسموع في المحاضرات الكثيرة, التي لا تخفى على أحد, فالناس عند أن سمعوا مثل هذا التناقض: فمنهم من يعترض ويدرك أن هذا تناقض, ومن الناس من يُسلِّم, ويقول: يا أخوة, هم يأتون بالدليل على شرعيتها, فما بقي علينا إلا أن نسلّم, وهذا التصرف –وهو وضع اسم شرعي, لنظام محرّم, ليجعله شرعياً- محرّم في دين الله عز وجل, لأمور:(1/5)
1- أن هذه حيلة, والحيل محرّمة في الإسلام التي يتوصل بها إلى ارتكاب الحرام والوقوع في الشبهات, أو ترك ما شرع الله.
والدليل على تحريمها ما جاء في البخاري ومسلم من حديث جابر, وأبي هريرة, وعمر, وعند أحمد وأبي داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً, أن رسول الله( قال: ((قاتل الله اليهود, إن الله عز وجل لما حرّم عليهم الشحوم, جملوها, ثم باعوها, وأكلوا ثمنها)) وفي حديث ابن عباس بلفظ: ((لعن الله اليهود)). فانظر إلى هذا اللعن على استعمال هذه الحيلة لاستحلال الحرام, فاليهود قبّحهم الله, ظنوا أنهم إذا أذابوا الشحم, ولم تبق صورته, ولا اسمه, أنه قد صار مباحاً لهم, لأنهم عند أن أذابوه, صار دهاناً, وارتفع عنه اسم الشحم, فهذه حيلة.
ومعلوم أن الله إذا حرّم شيئا حرّم بيعه وشراءه والانتفاع به, وكل مسألة في الإسلام إنما تؤخذ بالأدلة على وفق ما شرع الله, فالذي يعمل هذه الحيل, ليتوصل بها إلى ارتكاب المحرمات, أو ترك الواجبات فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد.
2- أن هذا الفعل لا يخرج المحرَّمَ إلى الحلال والواجبَ إلى الندب, بل يبقى الحرامُ حراماً, والواجبُ واجباً, والحقُ حقاً, والباطلُ باطلاً, فقد روى أحمد وأبوداود والطبراني وابن ماجه وابن حبان والبيهقي وأصله عند البخاري في كتاب الأشربة من (صحيحه) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه, قال: قال رسول الله(: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر, يسمّونها بغير اسمها...)) فبالرغم من أنهم يسمونها بغير اسمها, ولكن الرسول( قال: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر)).(1/6)
وقد جاء الحديث من حديث عبادة عند أحمد, وهؤلاء الذين سموا الخمر بغير اسمها, لم يُعْذَرُوا أبداً, بل عليهم العذاب والنكال المعد لمن شرب الخمر, وزيادة على ذلك: ففي الحديث نفسه المذكور قبل قليل: ((فيبيّتهم الله, ويقع عليهم العَلَمُ, ويمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)). فالدخول في الحزبية حرام, وإن سموها تحزباً للإسلام, فهذا مثل الأول, والدخول في "الانتخابات", والقبول لها حرام, وإن سموها بالشورى.
3- ما ذَكَرَ النبي( فعلهم؛ إلا تحذيراً لنا من التشبه بهم, وقد قال( : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أبوداود وأحمد من حديث عبدالله بن عمر, وهو عند الطبراني في "الأوسط" من حديث حذيفة.
بل قد وقع من المسلمين الاتباع لهم في مصطلحاتهم المنحرفة, وهذا مما حذر منه الرسول( فقال: ((لتتبعن سَنَن من كان قبلكم, شبراً بشبر, وذراعاً بذراع, حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه)), قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟)) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
من المعلوم أن الوقوع في الحيل كثيرها وقليلها ربما يقع في الغالب من الحكّام الظلمة والجهال الطائشين, الذين قل علمهم, وفسد يقينهم, وضعف إيمانهم, وقوي شرهم... فكيف يأتي هذا الأمر من قبل علماء تنتظر منهم أمتهم النصح لها, والحرص عليها, والتحذير لها من الانزلاقات؟ فأين اتباعهم للدليل, ووقوفهم مع البراهين, وإحياؤهم لسنن سيّد المرسلين(؟
لأن في هذه الأحكام التي يضعونها خدمةً لأهل الباطل ونصرةً لمبادئهم وتقويةً لشوكتهم وإبطالاً للحق الذي يريده الله!! –وإن كانوا يظنون أنهم يحسنون صنعا-.
أليس هذا يؤول إلى خيانة الأمة وضياعا الأمانة؟!.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المفسدة الرابعة والثلاثون
التحالف المشبوه(1/7)
ومن أجل "الانتخابات" وحاجة الإسلاميين إلى كثرة الأصوات, فيلجؤون إلى التحالف مع الأحزاب الزائغة عن الحق, دون النظر إلى حكم الشرع في هذه التحالفات, وهذه مفسدة عظيمة.
فقد تحالفوا في بلاد شتى مع العلمانيين والاشتراكيين والقوميين والناصريين والبعثيين, وهذا أمر حاصل ومعروف -وإن قالوا: إنه تنسيق- بل يدعي بعضهم عندما يلامون على عملهم هذا, أن هذه الأحزاب المذكورة آنفاً قد تابت إلى الله!, رغم أنه لم يحصل من هذه الأحزاب حتى الادعاء بأنهم تابوا, بل أعلنوا أنهم يرفضون هذه التوبة, فضلا عن أن تكون واقعية. أما الذي لم يتحالف معهم من هذه الأحزاب عندهم فهو العدو الأكبر للإسلام والمسلمين, وهذا من القول على الله بغير علم, ومن التأثر بحظ النفس في الفتوى
والعداوة القائمة بين الإسلاميين المشاركين في "الانتخابات" والمجالس النيابية مع غيرهم هي عداوة ليست من أجل الإسلام, وإنما هي عداوة لأغراض مادية ومسابقة إلى الكراسي العالية, وإلا كيف جاز لهم هذا التحالف؟.
وهذه التحالف جعل الناس ينفرون منهم, وهذا الفعل ضياع للركن الأكبر والقاعدة العظمى الأساسية لإقامة الإسلام, ألا وهي: "الولاء والبراء".
والقرآن فيه التحذير الكثير للمؤمنين من موالاة أعداء الله, ومن ذلك قوله جل وعلا: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه( المجادلة. وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده( الممتحنة.(1/8)
والآيات كثيرة جداً في تحريم الموالاة لغير المؤمنين, واقتصرنا هنا على ذكر التحالف من أجل "الانتخابات" فقط, وإلا فهنالك تحالف بين الإسلاميين وهذه الأحزاب من أجل التصويت في مجلس النواب, أو من أجل البقاء في الوزارات, بما يسمى بـ"الحكومة الائتلافية", أو أن يكونوا غير مقبولين في "الانتخابات", فيدخلوا تحت حزب علماني, أو أن يكونوا معارضين لحكومة ما, فيتحالفوا مع المعارضة الأخرى من الأحزاب الزائغة عن الحق, وهذا موجود لا يُنْكِرُه أحد منهم.
وخلاصة القول: إن إخواننا إذا رضوا عن أحد وإن كان في غاية الانحراف أعلنوا توبته وصدق نيته وصلاح سريرته.
وإن خالفهم أحد رموه بكل قبيح, وإن كان أتقى من يسير على ظهر الأرض, وحالهم في هذا التحالف بعد الفتوى -"السياسية" لا "الشرعية"- بتوبة المخالفين, كحال أهل قرية استنفرهم علماؤهم ضد لصوص وأعداء دهموهم بليل, فخرج أهل القرية للدفاع عن أعراضهم ودينهم, والأعداء يجرون أمامهم, فكلما تمكنوا من أحدهم, أفتاهم علماؤهم بأن هذا قد تاب, والعدو غيره!, فيواصلون السير, وكلما تمكنوا من آخر, جاءتهم الفتوى من علمائهم: ليس هذا العدو فقد تاب, العدو غيره, وهكذا..! حتى يواصل أهل القرية سيرهم لا لشيء, فإن الأعداء في صفوفهم وربما كانوا من المتحكمين في قرارهم, وتوجيه دفة السفينة فيهم, ومع ذلك لا زالوا يرددون: أعداء الإسلام أعداء الإسلام!!!. فمن هم أعداء الإسلام؟.
ونحن نراكم كل يوم تتحالفون مع حزب, وتعلنون توبته وتراجعه!. ويا ليت ذلك يكون صحيحاً.(1/9)
فإننا والله نحب التوبة النصوح للخلق جميعا, لكنها توبة سياسية, فرضتها القاعدة السياسية القائلة: "لا نعرف عداوة دائمة, ولا صداقة دائمة, بل نعرف مصلحة دائمة!!". فاتقوا الله يا هؤلاء, واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه, واصدقوا للخلق في النصيحة والبيان, وربما تكون الخشونة سبباً للتصفية, كغسل اليدين لا يكون إلا بفرك وخشونة -وإن لم تكن الخشونة مقبولة غالباً-. وإياكم أن تقنعوا المخالف؛ بأنه مع مخالفته من قادة الإسلام وأعلام الهدى, بل صارحوا الخلق لله سبحانه لا للسياسة والحزبية.
والله المستعان.
الفصل الثاني
مفاسد
الانتخابات
الرئاسية
مقدمة
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد:
فهذه نبذة مختصرة عن حكم "الانتخابات" الرئاسية, وما اشتملت عليه من مخالفات شرعية.
وقبل أن نذكر المفاسد الناجمة عن هذه "الانتخابات", نذكر الطريق الشرعي لانعقاد الرئاسة لرئيس الدولة.
اعلم وفقني الله وإياك؛ أن الإمامة الشرعية تنعقد لصاحبها بطريقتين:ـ
الطريقة الأولى, وهي:
اختيار أهل الحل والعقد من يكون رئيساً، وهذه الطريقة هي الأصل، وهي ثابتة بالسنة والإجماع.
ومن هم أهل الحل والعقد في الاصطلاح الشرعي؟
الجواب: هم مجموعة من خيار المسلمين في الدين والصلاح وحسن الرأي والتدبير من علماء ورؤساء ووجهاء الناس.
وما هي الشروط التي يجب توافرها في أهل الحل والعقد؟
الجواب كالآتي:
1- الإسلام: فلا يجوز أبداً أن يكون الكافر من أهل الحل والعقد, لأن الله يقول:(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً(النساء. فلا ولاية للكافر على المسلم أبداً بإجماع العلماء.
2- العقل: لابد أن يكون كل فرد من أهل الحل والعقد عاقلاً، فغير العاقل إما لصغر, أو لزوال عقله, أو لنقصان عقله, لا يجوز أبداً أن يتولى شيئاً من هذا الأمر وأمثاله.(1/10)
3- الرجولة: فلا يجوز أن يكون في أهل الحل والعقد امرأة، قال تعالى: (الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم...( النساء، ولقوله(: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري.
والمرأة ناقصة عقل ودين, كما جاء ذلك في الأحاديث، وهذا ليس طعناً فيها البته، ودعك من الذين تشرّبت عقولهم أفكاراً غربية وشرقية, فهم في ضلالاتهم يعمهون، فقد تشعّبت بهم الانحرافات, وتاهت بهم الضلالات, وصاروا مع الإسلام كالعميان بجانب المبصرين.
4- الحرية: يشترط في كل فرد من أفراد الحل والعقد أن يكون حراً, لأن العبد لا يملك نفسه, فهو تحت طاعة سيده.
5- التقوى: وهي هيئة راسخة في النفس, تحمل صاحبها على اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر, ويُعرف هذا بالاستفاضة والشهرة بين أهل العلم, لثقة المسلمين به, والانقياد له.
6- العلم: يشترط أن يكون عند أهل الحل والعقد من العلم الشرعي ما يجعلهم يعرفون من يستحق الخلافة والرئاسة، فالذي لا يعرف الصفات التي تؤهل فلاناً للخلافة, لا يصلح أن يشارك مع أهل الحل والعقد، وينبغي أن يكون معروفاً بالرأي والحكمة, وأن يكون صاحب خبرة في علمه وفنّه -وإن كان دنيويا-.
7- عدم الانتماء إلى أهل الأهواء: فإذا كان من أفراد أهل الحل والعقد, من ينتمي إلى أهل الأهواء من أصحاب البدع والضلالات فإنه يسعى إلى اختيار من ينصر ما هو عليه من الانحراف, أو يخذل ويروج.
8- البلوغ: أن يكون بالغاً.
تنبيه:
أهل الحل والعقد لا يُشترط فيهم عدد معين، ولا يلزم أن يكون كل من يصلح لهذا الأمر موجوداً, ولكن أهل الحل والعقد المعتبر بهم أن يكونوا أهل قدوة وشوكة وأغلب وجهاء الناس.
العمل الذي يقوم به أهل الحل والعقد(1/11)
? إذا وُجِدَ أكثرُ من واحد يصلح للإمامة والرئاسة, فالمطلوب من أهل الحل والعقد أن يميزوا بين من هو أحق بها بالمواصفات الشرعية، ولهم أن يختاروا من شاءوا بعد هذا التمييز، ومما يجدر التنبيه عليه؛ أنه ينبغي لهم أن يولّوا من هو أنفع –وإن لم يكن أفضل- وإن لم يكن أفضل, فإن اجتمع في الشخص هذان الوصفان؛ فذلك الكمال الذي يقلّ وجوده، وعليهم أن ينظروا إلى من يكون الناس أسرع انقياداً له, ويراعوا أيضاً أحوال الزمان الذي هم فيه.
? ومن أعمالهم البيعة لمن يرون أنه أحق بالخلافة والإمامة.
والبيعة هي:
إعطاء العهد للمبايَع له على السمع والطاعة في غير معصية, في المنشط والمكره, والعسر واليسر, وعدم منازعة الأمر أهله, وهو عليهم وجوب كفائي -على الصحيح-.
ما تصح به البيعة:
1- أن يكون المبايَع له قد توافرت فيه شروط الإمامة.
2- أن يبايعه أهل الحل والعقد.
3- أن يستجيب المتأهِّل للبيعة إذا دُعِيَ لذلك, فإذا امتنع لم تنعقد إمامته.
4- أن تكون البيعة على الكتاب والسنة قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً.
ماذا بعد البيعة على المبايِع؟
1- يحرم عليه نكث البيعة, فإنّ نَقْضَهَا كبيرة من كبائر الذنوب، فقد جاء عند الإمام مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي ( قال: ((من بايع إماماً, فأعطاه صفقة يده, وثمرة قلبه, فليطعه إن استطاع, فإن جاء آخر ينازعه؛ فاضربوا عنق الآخر)).
2- عليه أن يصبر إن رأى من أميره شيئاً يكرهه، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ( قال: ((من رأى من أميره شيئاً فكرهه, فليصبر, فإنه ليس
أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت؛ إلا مات ميتة جاهلية)) رواه البخاري ومسلم.
3- تشرع البيعة من غير أهل الحل والعقد من جماهير الناس ومن عوامهم للأمير المبايَع له من قبل أهل الحل والعقد، وبيعتهم هذه تسمى بيعة الطاعة, وبيعة أهل الحل والعقد هي بيعة الانعقاد والسمع والطاعة.(1/12)
4- لا يجوز للمبايِع أن يبايع إماماً آخر, كما تقدم.
5- ومن أعمال أهل الحل والعقد: مراقبة الولاة ومحاسبتهم -بالضوابط الشرعية- وخلعهم إذا دعت الحاجة الشرعية لذلك, بشرط أن لا تحدث مفسدة أكبر.
الطريقة الثانية في اختيار الخليفة, وهي:
العهد أو "الاستخلاف". وصورتها: أن يعهد الخليفة القائم بالإمامة لرجل، وهذا الاستخلاف مشروع، ولهذا فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أوصى بالخلافة بعده لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الشروط التي لابد من توافرها في المستخلَف ليكون الاستخلاف صحيحاً وهي كالآتي:
1- أن تكون الشروط المطلوبة في الإمام موجودة في المعهود إليه, كالإسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورة والعدالة.
2- أن يقبل المعهود إليه العهد, ويرضى به, فإن امتنع لم تقبل الوصية له بالعهد.
3- أن يكون المعهود إليه حاضراً, أو في حكم الحاضر.
4- أن يكون الإمام قد عهد بهذا العهد, وهو ما يزال إماماً.
5- أن يكون الإمام العاهد قد تشاور مع أهل الحل والعقد, ووافقوه على ذلك بدون إجبار أو إكراه.
6- لا يكون العهد من الإمام لأصوله أو فروعه، وهذا على الراجح لأمرين:
أ- إقتداء بالخلفاء الراشدين، ولو لم يكن في هذا إلا أنه شبهة, لكفى في البعد عنه، ولم يعهد أبو بكر لابنه ولا عمر لابنه وكذا عثمان وكذا علي رضي الله عنهم.
ب- أن الإمام مهما يبلغ من التقوى والصلاح والورع فإنه ما يزال بشراً, فيه ميول وغرائز وطبائع ونوازع نحو الخير وأخرى نحو الشر, فهو يخطئ ويصيب, ويذنب ويستغفر, فليس بمعصوم، وقد يجامله بعض أهل الحل والعقد، وقد يتعامل معهم بشيء من الإكراه، فالذي تطمئن إليه النفس الابتعاد عن هذه الشبهة، وأداء الأمانة كاملة. ولا أحسب من عَهِدَ إلى أصوله وفروعه سالماً من غش الأمانة -في غالب الأحوال-.
ج- إذا كان هذا الميول يحصل من أهل التقوى, فما بالك بمن يضعف إيمانه, ويقل علمه؟.(1/13)
د- إلى جانب ما سبق ذكره, فقد عُلِمَ أن الغالب على من يعهدون بالإمامة لآبائهم أو أبنائهم وما أشبههم, إنما فعلوا ذلك لدنياهم, وإيثاراً لأنفسهم على دينهم وأمتهم, وفي هذا من الغش للأمة مالا يخفى، وهؤلاء يجعلون منصب الإمامة الذي هو أمر ديني يؤتيه الله من يشاء, وراثة لهم ولأبنائهم.
ه- حصر الإمامة والخلافة في ذرية الإمام, وجعلها وراثة لهم يتتابعون عليها, عمل مخالف لما كان عليه الرسول( وخلفاؤه الراشدون.
تنبيه:
من المعلوم أن كثيراً من دول الإسلام كالأموية والعباسية وغيرها, كانت بالعهد للفروع ونحوها, ولكن الأولى ما كان عليه الخلفاء الراشدون, وعلى كل حال: فالعهد للفروع ونحوها, لا يسوِّغ عدم البيعة, ولا ترك السمع والطاعة في المعروف, كما كان عليه علماء الإسلام مع الدول السابقة, والله أعلم.
تنبيه آخر:
بعض العلماء يفضّل طريقة الاستخلاف على طريقة اختيار أهل الحل والعقد, والراجح اختيار أهل الحل والعقد, كما ترك رسول الله( الناس بدون استخلاف, لكن: إذا رأى الإمام أن من وراءه قد يختلفون ويفسدون, فيجزم
باختيار أحد المسلمين للخلافة من بعده, درءاً للخلاف, وسعيا للائتلاف, والله أعلم.
الطريقة الثالثة لانعقاد الرئاسة للرئيس, وهي محرمة في الشرع, وهي:
أخذها بالقوة كالثورة والانقلاب, وما أشبه ذلك، فهذه محرمة, ولكن إذا تغلّب من له القوة, حتى صار إماماً, وجبت له الطاعة’ فيما لم يكن فيه معصية الله ورسوله (, وعليه إثمه بما فعل من القهر للناس.
ومن خلال هذا العرض السريع, يتضح لك جلياً مدى عناية الإسلام بقضايا الإمامة والولاية على المسلمين. ولقد تحققت هذه الشروط والضوابط في عهد الخلفاء الراشدين, فكان العز والأمان والخير والدين.
والآن نبدأ بذكر مفاسد الانتخابات الرئاسية -مستعينين بالله تعالى-.
المفسدة الخامسة والثلاثون
الخروج على الحاكم المسلم(1/14)
وهذا محرّم في دين الله, وكيف لا يكون محرّماً, وقد تضافرت الأدلة الصحيحة الصريحة في تحريم ذلك , منها:
1- حديث عبادة في الصحيحين وغيرهما, قال عبادة: ((بايعنا رسول الله( على السمع والطاعة, في اليسر والعسر, والمنشط والمكره, وعلى أثرة علينا, وعلى ألا ننازع الأمر أهله, إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان)). والحديث واضح جدا في أن منازعة الحاكم المسلم الظالم لا تجوز أبدا, بل قد أمر الله سبحانه ورسوله( بالطاعة له فيما ليس في ذلك معصية لله ولرسوله( .
2- حديث أم سلمة عند مسلم والترمذي وأبي داود وغيرهم أن رسول الله( قال: ((إنه يستعمل عليكم أمراء, فتعرفون وتنكرون, فمن كره فقد برئ, ومن أنكر فقد سَلِمَ, ولكن من رضي وتابع)) قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: (( لا, ما صلَّوا)).
قلت: فقد جعل رسول الله( المانع من قتال الحكام الظلمة صلاتهم, مع ذكره لظلمهم.
3- حديث ابن عباس في (الصحيحين) أن رسول الله ( قال: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه, فليصبر, فإنه من فارق الجماعة شبراً, فمات إلا مات ميتة جاهلية)). فقد أمر رسول الله ( المسلمين عند حصول جور الحاكم بالصبر, ونعم العلاج الصبر.
4- حديث عوف بن مالك في (صحيح مسلم) أن رسول الله( قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم, وتصلون عليهم ويصلون عليكم, وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم, وتلعنونهم ويلعنونكم)) قلنا: يا رسول الله, أفلا ننابذهم؟ قال: ((لا, ما أقاموا فيكم الصلاة, إلا من ولي عليه والٍ, فرآه يأتي شيئاً من معصية الله, فليكره ما يأتي من معصية الله, ولا ينزعن يداً من طاعة)).
وأكتفي بهذه النبذة الطيبة من الأحاديث الصحيحة الصريحة, مع أن الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذه المسألة متواترة, وقد استقر اتفاق العلماء على تحريم الخروج على الحاكم الظالم المسلم.(1/15)
أما النظام "الديموقراطي" فهو يبيح للناس منازعة الحاكم المسلم, وله طرق في ذلك, منها:
أ- الثورات والانقلابات. كما حصل في بعض البلدان باسم"حماية الديموقراطية".
ب- "الانتخابات" الرئاسية, التي تسوِّغ لمنازع ولي الأمر, أن يقدح علنا في سيرة ولي الأمر, وأن يشهر به وبطريقته, ويقع في كثير من المفاسد السابقة, والواجب أن ولي الأمر لا ينازع, إلا بضوابط شرعية معلومة, تغافل عنها النظام "الديموقراطي".
أما الثورات والانقلابات فهي سبب للشرور العظيمة والنتائج الخطيرة, إذ بها تتغير الأحوال, وتكثر الاضطرابات, والقلاقل, والسلب والنهب, وانتهاك الحرمات, وسلب الحقوق, وقطع الطرق, وانتشار الخوف, وتفشي الباطل بشتى أنواعه, واحتقار الحق, وزيادة التمزّق في الأمة.
وهذا الشر مما يفرح به أعداؤنا ـ اليهود والنصارى ـ ويسعون إلى إشعاله بكل ما أوتوا من قوة.
وهذه الفتنة لا تنتهي ما دامت تقوم على النظام "الديموقراطي", لأن هذا النظام يجعل كل حزب يرى أنه أحق بهذا المنصب, ولا يحتاج إلا إلى توطيد العلاقة مع أعدائنا ـ من يهود ونصارى ـ والارتماء بين أحضانهم, وإظهار ما يرضيهم من أنواع الإجرام.
وأما "الانتخابات" الرئاسية: ففيها مفاسد كثيرة, منها: السماح بمنازعة حاكم البلاد, ومنازعته من قبل شخص فأكثر, وهذه المفسدة أخطر من مفاسد تنازع الأحزاب فيما بينها من أجل الوصول إلى المجالس النيابية, يوضِّح ذلك الآتي:
أ- الحاكم ليس عنده استعداد أن يتنازل, بل عنده استعداد أن يحمي منصبه بكل ما يمكن, ولو أدى ذلك إلى أخطار فادحة.
ب- الحاكم الذي مِنْ قِبَل النُّظم "الديموقراطية" -في الغالب- يجد نفسه متورطاً مع اليهود والنصارى, فهو في نظره مضطر إلى أن يرضيهم بما يريدون من نشر الفساد وحمايته.(1/16)
ج- يضطر الحاكم إلى إنفاق الأموال الطائلة في شراء الذمم, لينتخبه الشعب, وهذه الأموال إما من حق الشعب, وهذا فيه من الظلم ما الله به عليم, وإما أن يكون من قبل الأعداء قرضاً أو منحةً. وهذا لا يكون إلا بمقابل, والمقابل في الغالب يكون فيه تنازلات عن أمور عظيمة من دين الإسلام.
د- من المعلوم أن الأحزاب المعارضة في الساحة تريد أن يكون الحاكم لذلك الشعب منها, وما تحزبت إلا من أجل هذا, فالحاكم مضطر إلى إرضائها, وهذا الإرضاء يكون في الغالب قائما على ارتكاب محظورات شرعية.
ه- الحاكم إذا لم يخضع لأعداء الإسلام, ويطبّق ما يريدون, فهم مستعدون أن يثيروا ضده الأحزاب, لتبقى البلاد ميداناً للصراع والنزاع.
فانظر إلى هذه الأضرار الخطيرة الناجمة عن "الانتخابات" الرئاسية.
فإن النظام "الديموقراطي" لا يتفق مع الإسلام من أساسه, ولا يخفى هذا على كل مسلم عاقل.
ومن المعلوم من ديننا بالضرورة أنه لا يجوز أبداً منازعة الحاكم المسلم المستقيم على دين الله المدافِع عنه, ولا الحاكم المسلم الجائر, لأن هذه أو تلك المنازعة تنقض الإسلام عروةً عروة, وهذه طريقة المعتزلة ومن إليها.
فقد قال رسول الله (: ((لينقضن عرى الإسلام, عروة عروة, فكلما انتقضت عروة, تشبّث الناس بالتي تليها, وأولهن نقضا الحكم, وآخرهن الصلاة)) رواه أحمد والحاكم وغيرهما.
فهل أبقت "الديموقراطية" أمراً من أمور ديننا ـ بل ودنيانا ـ على حقيقته؟.
المفسدة السادسة والثلاثون
رفض السمع والطاعة في المعروف للحاكم
"الديموقراطية" تقوم على إباحة عصيان الحاكم, إلا إذا كان مطبّقاً لها. ولا يخفى عليك أن الإسلام قد جعل الطاعة للحاكم المسلم -في كل ما لم يكن فيه معصية لله ورسوله(- دعامة من دعائم الحكم الإسلامي, وقاعدة من قواعده.
فليست الطاعة له واجبة فحسب, بل هي ضرورة من ضرورات إقامة الحكومة الإسلامية, وأعظم حق للراعي عند الرعية.(1/17)
وإليك بعض الأدلة على وجوب طاعة ولاة أمور المسلمين طاعة مقيدة:
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( النساء.
ولما كانت طاعة أولي الأمر طاعة مقيدة, لم يقل الله: وأطيعوا أولي الأمر منكم.
وقوله تعالى: (وأولي الأمر منكم( تشمل العلماء والحكّام, فإن هذين الصنفين لا يقوم دين الناس ودنياهم إلا بطاعتهما.
قال عبادة: ((بايعنا رسول الله ( على السمع والطاعة, في العسر واليسر, والمنشط والمكره, وعلى أثرةٍ علينا, وعلى أن لا ننازع الأمر أهله, وعلى أن نقول الحق)).
المفسدة السابعة والثلاثون
فتح المجال للأقليات اليهودية
والنصرانية وغيرها للوصول إلى الحكم
"الديموقراطية" تفتح المجال للأقليات اليهودية والنصرانية وغيرها في بلاد المسلمين ليستولوا على الحكم, وليس أمام الأقليات هذه إلا أن تتكتّل وتشتري الذمم.
وقد حدث ذلك في أكثر من بلد إسلامي, ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: نيجيريا وأوغندا وأريتيريا ولبنان وغيرهن.
فنيجيريا مثلاً: نسبة السكان المسلمين فيها تتجاوز 80% ومع ذلك يحكمها رئيس نصراني باسم "الديموقراطية".
وكذلك أوغندا وأريتيريا ولبنان...
وأما البلدان التي لم يستطيعوا الوصول إلى كرسي الحكم فيها إلى الآن, فقد وصلوا إلى أعلى "سلطة تشريعية" كما يسمونها, ألا وهي: "المجالس النيابية". فأصبح اليهودي أو النصراني أو غيرهما يعبّر عما في نفسه, بل ويدعو إلى دينه بكامل الحرية, وعلى الأكثرية المسلمة أن تحميه تحت مادة من مواد الدستور وهي: "المواطنون كلهم سواسية, فلا اختلاف بينهم باختلاف اللون أو الجنس أو العقيدة"!.(1/18)
ولا يخفاك ما في هذا من الخطر البالغ على مستقبل المسلمين, بل والمصادمة الصريحة لكلام رب العالمين, قال تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون( القلم. وقال تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون( الجاثية.
ولهذا حرّم الإسلام ولاية الكافر على المسلم تحريماً قطعياً, وهذا معلوم من الدين بالضرورة؛ وقد أجمع العلماء على ذلك.
والأدلة على ذلك كثيرة. قال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً( النساء. ولفظ (سبيلاً( نكرة في سياق النفي, فهو يعم كل سبيل, فليس للكافرين أي سبيل على المسلمين, فكيف لو كان قائداً أو وزيراً؟!.
وقد جاء في "صحيح مسلم" أن رسول الله ( قال : ((أنا لا أستعين بمشرك)) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وإذا رأيت النصارى قد تربّعوا على مناصب كبيرة في أوساط المسلمين, فانتظر نشر الديانة النصرانية, وإلى الله المشتكى.
المفسدة الثامنة والثلاثون
عزل الحاكم بعد مرور مدة يحددها الدستور
وهذا العزل محرم في دين الله, والأدلة على ذلك كثيرة, منها:
حديث عبادة بن الصامت في (الصحيحين) وغيرهما, وفيه: ((على أن لا ننازع الأمر أهله, إلا أن تروا كفراً بواحاً, عندكم من الله تعالى فيه برهان)).
وحديث عوف بن مالك في شأن أئمة الجور, وفيه: أفلا ننابذهم يا رسول الله؟ قال: ((لا, ما أقاموا فيكم الصلاة)), وغير ذلك من الأدلة.
وهذه الأدلة واضحة في أن إمام المسلمين لا ينازع إلا بسبب ظهور الكفر منه.
ولا يوجد في القرآن ولا في السنة دليل على أن الحاكم المسلم بعد مضي مدة من حكمه يُعزَل, بل الأدلة الصريحة الصحيحة تدل على أن الواجب أن يصبروا على الحاكم المسلم الظالم -مع نصحه- دون الخروج عليه أو عزله.
وهكذا لا يوجد -فيما أعلم- أن العلماء جعلوا من أسباب عزل الحاكم الوصول إلى مدّة معينة.(1/19)
نعم: يُعزل إذا طرأ عليه ما يوجب عزله كالجنون وغيره.
والنظام "الديموقراطي الانتخابي" يعلن المنابذة للحاكم عند انقضاء مدة معينة, عن طريق "الانتخابات" وغيرها.
والسؤال هنا: لِمَ هذا التغيير والتبديل في أوساط المسلمين؟.
الجواب:
من أجل أمور, منها:
إذا كان الحاكم أو القائمون على مجلس النواب يعملون لصالح الإسلام فيما لا يرضى به اليهود والنصارى, فيُعزلون, ويُؤتى بغيرهم ممن هم أكثر التزاماً بما يريده اليهود والنصارى من أنواع الإجرام والإفساد ومحاربة الإسلام.
هذا وإذا ظهر لك هذا السبب للتغيير, فاعلم أن حالة المسلمين ستكون من سيءٍ إلى أسوأ. فكلما أراد المسلمون أن تتحسن أحوالهم, ساءت أكثر, وكلما أرادوا أن يقيموا شيئاً من دينهم, وجدوا العقبات أمامهم, فيظهر الباطل, ويُخنَق الحق, وتنتشر الرذيلة, وتُحارَب الفضيلة, ويصير المجرم سيّداً, والمؤمن عبداً, والمحقّ عدواً, والمبطل صديقاً.
وإلى الله المشتكى.
المفسدة التاسعة والثلاثون
تولّي المرأة للحكم
النظام "الديموقراطي" يسعى إلى تولية المرأة للحكم, وهذا محرّم في دين الله لأدلةٍ كثيرة, منها:
ما جاء في البخاري والنسائي والترمذي وغيرهم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله(: ((لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)).
وقال تعالى: (الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض( النساء.
وفي البخاري من حديث أبي سعيد الخدري, وفي مسلم من حديث ابن عمر أن النبي ( قال في النساء: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين, أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم مِنْ إحداكن)).
وقال تعالى في شهادة النساء: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى( البقرة.
وليس في هذه الأدلة انتقاص للمرأة أبداً, بل الإسلام قد رفع من شأن المرأة المسلمة, بما لا يجهله أو يتجاهله عاقل.
وقد خلق الله كل البشر وجعلهم مُيَسَّرِيْنَ لما خلقوا له.(1/20)
فالمرأة يسر الله لها أموراً تخصها, والرجال يسّر الله لهم أموراً تخصهم.
قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير( الملك.
ولم يحصل قط أنّ رسول الله( أو خلفاءه من بعده ولّوا امرأة القضاء, أو أي ولاية خاصة بالرجال, وعلى مرور التاريخ لم يحصل هذا, وعلى هذا إجماع العلماء.
وإنْ حصل مِنْ قِبَل بعض طوائف الضلال كالباطنية, فلا عبرة بذلك.
وعلى هذا فلا تنعقد الإمامة والحاكمية لامرأة, وإن اتصفت بجميع الصفات الحميدة.
وكيف تكون حاكمةً للبلاد, وليس لها أن تكون قاضية في شُعبة من شُعَب القضاء؟!.
فالنظام "الديموقراطي" يسخّر في انتخابها جميع الإمكانيات. ويقف وراء ذلك قادة اليهود والنصارى وعملاؤهم.
بل لقد أصبحت دول الكفر الكُبرى -وعلى رأسها أمريكا- تسعى بكل ما أوتيت من قوة مادية لجعل المرأة في موقع اتخاذ القرار في بلاد المسلمين, وقد استغلت ضعف المسلمين, وسعت لفرض هذا الأمر بالقوة, باسم: "حقوق المرأة السياسية!". والواقع أكبر شاهد على ذلك.
وانظر مثلاً: ما حصل في : باكستان, وتركيا, وبنجلاديش, وإندونيسيا.. وغيرهن. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المفسدة الأربعون
عدم وجود العلم النافع في حاكم البلاد
الذين خططوا للنظام "الديموقراطي" من اليهود والنصارى, يريدون اختيار أسوأ الرجال وأفجرهم, إن تيسّر لهم ذلك, ليكون هذا الصنف هو الذي يحكم البلاد, وبه تتحقق مصالح الأعداء.
والإسلام قد جعل العلم النافع المنبثق من كتاب الله وسنة رسوله ( وما يتبعهما من علوم نافعة؛ سبباً لصلاح الشخص لتولي رئاسة الدولة, والأدلة الشرعية الدالة على ذلك كثيرة. ولكن نقتطف منها ما يلي:(1/21)
روى مسلم في (صحيحه) من حديث ابن مسعود أن رسول الله( قال: ((يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله, فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)). فإذا كان من يؤم الناس, يحتاج إلى أن يكون عالماً بما يتعلق بالعبادة, فما بالك بمن هو إمام مُطالب أن يقيم الإسلام فيمن ولاّه الله عليهم؟.
وكيف يقدر على أن يُسيّر الأمور على وجهها, ويقيم دين الله, وهو لا يعرف دين الله؟
فلا أحد أحوج إلى العلم النافع ممن يتولى أمور المسمين, والجاهل لا يحسن رعاية شاة, فكيف يرعى الأمةَ الجهّالُ؟.
ولهذا قال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون(.
المفسدة الحادية والأربعون
عدم اشتراط العدالة الشرعية
النظام "الديموقراطي الانتخابي" لا يشترط تحقيق العدالة في رئاسة الدولة. ومن المعلوم من الدين بالضرورة أنه لا يتولى على المسلمين في صقع من أصقاع الأرض, إلا من كان عدلاً. وأنه لا يجوز لأهل الحل والعقد أن يختاروا غير العدل.
والعدالة المعنية هنا هي:
مجموعة صفات حميدة, كالأمانة والصدق والتقوى, وغير ذلك, تحمل الحاكم على مراقبة الله, وتعظيم رعاية الحقوق.
ولا تنعقد الإمامة لفاسق ابتداءً, إلا إذا غلب عليها, أو دعت الحاجة له, فتنعقد له حينذاك.
وكيف تنعقد, والغرض من وجود الحاكم الأعلى, هو إقامة الإسلام, وسياسة الأمة بالسياسة الشرعية.
والأدلة على اشتراط العدالة كثيرة, منها:
قوله تعالى في قصة إبراهيم: (إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين( البقرة. بمعنى أن : الإمامة لا ينالها ولا يستحقها ظالم, أياً كان نوع الإمامة.
فكيف يجوز أن يكون رئيس الدولة فاسقاً؟
والفاسق لا تُقبل شهادته ولا حكمه, قال تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..( الحجرات.
فإذا كان قول الفاسق لا يقبل إلا بعد التبيّن, فكيف إذا كان الحاكم فاسقاً؟. قال تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون( الشعراء.(1/22)
فقد نهى الله عباده أن يطيعوا المسرف والمفسد.
فإن كان حاكماً؛ فلا يطاع إلا في ما لم يكن فيه معصية لله ورسول(.
والحاكم الفاسق لابد أن يأمر بما فيه معصية الله, ومن هنا يحصل الشر, ويهلك هو ويهلك من أطاعه.
فالنظام "الديموقراطي" يدفع الناس لكي ينتخبوا لرئاسة الدولة الظالمين والمفسدين, فبئس النظام.
وتبّاً لمن يقبل نظاماً مفاسده لا حصر لها, فلا تلتفت يميناً ولا شمالاً, إلا وجدت عيوباً لهذا النظام, والله المستعان.
المفسدة الثانية والأربعون
الموالاة لليهود والنصارى
إنّ قبول "الانتخابات" الرئاسية, فيه تضييع الواجب العظيم والركن الأصيل الذي لا يجوز للمسلم أن يتنازل عنه مهما كانت الظروف والأحوال, وهو الولاء لله، فقد جعل الله الولاء له خالص حقه سبحانه, لأن الولاء هو الحب والنصرة, ولم يأذن بشيء منه لغيره، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ ومن يتولهم منكم فإنه منهم( إلى قوله تعالى:( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ( إلى قوله تعالى:(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون( المائدة.
وقال الله تعالى: (لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه... (المجادلة.
فبين ربنا في هذه الآية أنه لا يمكن أن يوجد مؤمن صادق يوالي أعداء الله, هذا لاوجود له, فمن أين جاءت الموالاة لأعداء الإسلام والمسلمين؟ أمن صدق في الإيمان, أم من ضعف في الإيمان, أم من تلاعبٍ بدين الله عز وجل؟؟؟.
اعلم أخي أن كل عمل تعمله مما فيه تشبّه بالأعداء, أو موافقة لهم, مما هو مخالف للشرع, مع العلم بذلك, فهو دليل على وجود صورة من صور الموالاة لهم, فكيف إذا استقرت المحبة لهم والرغبة فيما عندهم من عادات وتقاليد وقوانين؟!!.(1/23)
أخي المسلم: احذر أن يغيب عن ذهنك قوله تعالى:( فإنه منهم(.
المفسدة الثالثة والأربعون
فتنة التصوير
إن "الانتخابات" تقوم على تصوير المرشحين للرئاسة وغيرها, على هيئات متعددة ملفتة للنظر, وتبلغ هذه الصور كميات هائلة جداً, وتمتلئ جدران الشوارع والبيوت وأعمدة الكهرباء ووسائل النقل والدكاكين ومحلات الأعمال... بصور المرَشَّحين والمرشَّحات, ولربما وُضِعَت عشرات الصور دفعة واحدة في مكان واحد.
وحكم الإسلام في هذه الصور -التي لا ضرورة لها, والتي فتنت الناس- التحريم, لما يلي:
1- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ( :((إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون, يقال: أحيوا ما خلقتم)) رواه البخاري ومسلم، والحديث وارد بسبب صورة كانت على قطعة قماش, أي ليست نحتاً، وقد جاء الحديث بهذا المعنى عن ابن عمر وابن مسعود وغيرهما.
2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( : قال الله تعالى: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, فليخلقوا حبة, أو ليخلقوا ذرة, أو ليخلقوا شعيرة)) متفق عليه، ومن حديث ابن عباس أن رسول الله( قال: ((من صوّر صورة في الدنيا, كُلِّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة, وليس بنافخ)) متفق عليه.
3- حديث أبي طلحة رضي الله عنه في (الصحيحين) أن رسول الله( قال:((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة)) وقد جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة, ومن حديث عائشة في (الصحيحين).(1/24)
وهذه الأحاديث كافية في بيان خطر التصوير, وخطر اقتناء هذه الصور. والواجب على المسلم أن ينكر المنكر، فقد قال رسول الله (: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بل أمر النبي ( بطمسها, فقد جاء عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله (: ((لا تدعن صورة إلا طمستها, ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)).
وإذا دعونا المسلمين إلى محاربة الصور, فليس معنى هذا أننا ندعو إلى بغض رئيس الدولة على الإطلاق. فالقاعدة المعروفة عند أهل السنة والجماعة أن كل شخص مهما علت رتبته في الدنيا, يُحَب بقدر ما فيه من الخير, ويُكْرَه بقدر ما فيه من الشر، فلا يُحَب أحد حباً عاماً إلا الله ثم رسوله(. ولا يلزم من تقطيع صورة فلان بغضه, فإننا قد نقطِّع صور آبائنا وإخواننا وأبنائنا, وصورنا إذا لم تدع ضرورة لبقائها.
وإلى جانب الافتتان بالتصوير, تُنفق عليها الأموال الطائلة وهذا إنفاق في غير محله.
واعلم أن أحوال الناس تتفاوت في افتتانهم بهذه الصور, فهم أقسام:
أ- صنف ينظر إليها بمنظار التعظيم لها. فهذا إن بلغ حبه وتعظيمه لها كحب الله أو أشد, فهذا قد وقع في الشرك بالله، لأن التعظيم العام ـ أي من كل وجه ـ لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، قال الله : (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله( البقرة.
ب- صنف يصاب بالعجب والفخر عند حملها وتعليقها, وهذا مرتكب لكبيرة من الذنوب, واجب عليه أن يتوب إلى الله منها.
ج- صنف يحملها ويعلقها للمراوغة ليقول: أنا اُعظّم صاحب هذه الصورة، وهو في قرارة نفسه لا يُعظّمه, فهذا ارتكب إثماً أخف من الذي قبله بقبولها, وفيه نفاق أيضاً.(1/25)
د- صنف مقلد للآخرين, فيراهم يعملون الشيء فيعمله, فهذا آثم, ومرتكب لكبيرة, ويجب عليه أن يتوب إلى الله.
ه- صنف دنيوي يتقاضى عطاء ليروّج لهذه الصور, أضف إلى ذلك: أنه تكتب بعض العبارات التي فيها الغلو والتقديس لصاحب الصورة.
المفسدة الرابعة والأربعون
الإكثار من مدح "الديموقراطية"
في أيام "الانتخابات" تقام المهرجانات الواسعة الضخمة التي تجمع عشرات الآلاف من أجل الإشادة بـ "الديموقراطية" وتقديسها. وتُملأ بطون الصحف والمجلات بذلك. وكذلك المذياع ـ فهو البوق في أذن الشعب ليلاً ونهاراً ـ وكذا القنوات الفضائية ـ المحلية والخارجية ـ التي لا تتوقف ليل نهار عن خلع العبارات الضخمة على "الديموقراطية", لتمجيدها, وتقوم بالتلبيس على الناس, حتى يظن بعض الناس أن "الديموقراطية" أعظم من عدالة الإسلام.
بل ربما جعلت خطبة الجمعة والمحاضرات من قبل بعض علماء ودعاة الحزبية في هذا الأمر, بل يرسلون برقيات التهاني وفيها: "نهنئكم بأعراس الديموقراطية!".
بل ربما اُلِّفَت الكتب, وطُبعت الردود من أجل الدفاع عنها.
ولا يخفاك ما في ذلك من مفاسد, فهو مدح للكفر, وتعظيم له, ودفاع عنه, ودعوة إليه, وترسيخ لبقائه, وبذل النفس والنفيس في سبيله.
فالمهرجانات تشوّق القلوب إليها, والأموال تعلّق النفوس بها، والواجب علينا جميعاً أن نكفر بهذا النظام جملةً وتفصيلاً, كمّاً وكيفاً, ومضموناً وشكلاً, -إلا ما وافق الحق, فنحن نؤمن به لوروده في ديننا الحنيف-.
ولا يستقيم دين المسلم, ويكون مخلصاً لله في عبوديته, له إلا بالكفر "بالديموقراطية", والتبرؤ من كل باطل، قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى( البقرة، وقال تعالى:(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذي آمنوا سبيلاً(.
المفسدة الخامسة والأربعون
محاربة الناس في أعمالهم وأرزاقهم(1/26)
ومن ذلك حبس المرتبات مدة معينة عن أهلها من أجل هذا الأمر, ويخوفون الناس بأنّ من لم يشارك وينتخب "فلاناً", فسيُفصَل من العمل, أو يُوقَّف راتبه.
وهذا حمل للناس بالترهيب والترغيب على قبول هذا النظام, وهذه المحاربة للإسلام والمسلمين داخلة في قوله (: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً, فشَقّ عليهم, فاشقق عليه, ومن ولي من أمر أمتي شيئاً, فرفق بهم, فارفق به)) رواه مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها.
وإذا كان الرسول ( يقول في المحتجب دون حاجتهم: ((من ولي من أمور المسلمين شيئاً, فاحتجب دون خلتهم, وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم, احتجب الله عنه يوم القيامة, دون خلته وحاجته وفقره وفاقته)) رواه أحمد عن عمرو بن مرة وعن أبي مريم عند أبي داود وغيره.
فما بالك بمن منع الناس حقوقهم ظلماً لهم, وإصراراً على باطل, ألا يكون الإثم أشد؟.
وربما يترك الموظف عمله بأمر منهم ويغيب عنه شهوراً, فإذا كان مدرّساً يترك طلابه بدون تدريس, يضيعون في الشوارع. وإذا كان موظفاً في إدارة خدمية, فإنه يترك عمله لهذا الغرض, وتبقى مصالح الأمة معطّلة, والإدارات شبه مغلقة, طوال مدة "الانتخابات" والإعداد لها.
بل حتى إن بعض النساء تترك بيتها وأهلها, وتذهب إلى مكان يبعد الكثير من الكيلومترات, وتبقى هناك فترة طويلة تعمل في الإعداد للـ"انتخابات", وربما تكون بلا محْرَم.
بل إن إحداهن جاءها خاطب يريد التزوّج بها, فقال له أهلها: إنها خارج المنطقة تعمل في لجنة "الانتخابات", وبقي منتظراً قرابة الشهر حتى عادت!.
فهذه مفسدة عظيمة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل الثالث
الشبهات
والرد عليها
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (.
أما بعد:(1/27)
فبما أن الشبهات التي يرددها القائلون بشرعية "الانتخابات" كثيرة, ولا يقل خطرها عن خطر المفاسد, من حيث أنها تجعل المسلم في حيرة وتشكك في الحق وقبوله, وتدخل عليه الوهن والضعف.
وبسبب هذه الشبهات ربما انحرف المسلم عن الحق, واتجه إلى الباطل, فكان لزاما على أهل العلم أن يتصدوا لهذه الشبهات, وأن يبيّنوا الحق فيها, ولهذا فقد حذّر رسول الله( من الاقتراب من أهل الشبهات, فقد جاء عند أحمد وأبي داود والحاكم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه, أن رسول الله( قال: ((من سمع بالدجّال فَلْيَنْأَ عنه, فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن, فيتبعه مما يبعث به من الشبهات)).
وكم من أخوة فيهم خير وصلاح, ولكنهم وضعوا أنفسهم في مهبّ الشبهات, فإذا هم في اضطراب وتغير وتقلّب.
والشبهات التي تحاك لطلبة العلم والدعاة إلى الله وغيرهم تكون غاية في الغموض والخفاء, وبالذات عند بدايتها.
فكان لابد من ذكر هذه الشبهات التي حول "الانتخابات", ثم الرد عليها, رداً مختصراً إن شاء الله تعالى, إذ أن معرفة الشبهات أكبر عون للمسلم ليبتعد عن الباطل.
ولاشكّ أن السلامة لك أخي المسلم تكون بالابتعاد عن الشبهات, كما وجّهك رسول الله(. بل تكون بهذا الفعل طائعاً لله ولرسوله (, وإذا لم تبتعد فيُخشى عليك أن تكون عاصياً لله ولرسوله(, وهذا إذا كنت غير مؤهّل للرد على القائلين بالشبهات, وتبيين وجه الصواب بالأدلة الشرعية, ولا يكفي مجرد العلم الشرعي في ذلك, بل لابد أن يضم إليه المعرفة التامة بمنهج السلف الصالح, ومعاملاتهم مع أصحاب البدع والأهواء, وكذلك لابد أن يكون كثير اللجوء إلى الله عز وجل, ويطلب من الله الثبات, فقد جاء أن النبي( كان يقول: ((اللهم يا مقلّب القلوب, ثبّت قلبي على دينك)).
وهنالك علاج للشبهات, وهو أن ترد الشبهات إلى "القواعد الصحيحة الواضحة", مثال ذلك:(1/28)
لو أن الأطباء اختلفوا في شيء, فقال بعضهم: إنه سم قاتل, وقال آخرون: إنه ضار, وليس بِسُمٍّ, وقال بعضهم: لا يخلو من نفع مع الضرر, أفلا يقضي العقل أن يُترك هذا الشيء المختلف فيه؟.
وهكذا الشبهات في "الانتخابات", فإن العلماء المتبعين لمنهج السلف, قد اتفقوا على أنها جاءت من قبل الأعداء, فليست واردة في كتاب الله, ولا في سنة رسول الله(, ولا عن سلف الأمة, فهذا الاتفاق النافع لا خلاف في وجوب الأخذ به, ثم اختلفوا فمنهم من قال: إن "الانتخابات" ما فيها خير, بل فيها الشر الذي سبق بيانه, فنتركها بالكلية.
ومنهم من قال: إن "الانتخابات" فيها خير وشر, ولكن شرها أكبر من خيرها, فتركها بالكلية أولى.
ومنهم من قال إن "الانتخابات" فيها خير وشر, ولكن خيرها أكبر من شرها.
أفلا يقضي العقل بأن ترك "الانتخابات" ورفضها هو أسلم وأبقى للإسلام؟.
إلا أن الهوى قد حال بين الحق وبين كثير من الناس, ويدل على هذا قول الله تعالى: (وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون( السجدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بالصبر تُتْرَكُ الشهوات وباليقين تُتْرَكُ الشبهات".
وهاك الشبهات والرد عليها:
الشبهة الأولى
قولهم: النظام "الديمقراطي" يوافق الإسلام في الجملة
الجواب:
المخالفون لنا لم يثبتوا على جواب, إذا قيل لهم: لماذا قبلتم "الديموقراطية"؟ فمرة يقولون: هي في بلادنا بمعنى "الشورى", وفي القرآن سورة اسمها "سورة الشورى", والله يقول: (وشاورهم في الأمر( ويقول الله: (وأمرهم شورى بينهم(.
ومرة يقولون: "الديموقراطية" قسمان:
قسم يخالف الشرع, فنحن نكفر به, وهو: رد الحكم للشعب, لا لله.
وقسم يوافق الشرع, وهو: حق الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم وتوليتهم وعزلهم, وهذا نؤمن به, ونسعى لخدمة الإسلام من خلاله!.
ومرة يقولون: نحن مُكرَهون على هذا كله.(1/29)
ومرة يقولون: هو من باب أخف الضررين. ويتخلل ذلك أمثلة عقلية غير مطردة ولا صحيحة, فحدّث بها ولا حرج.
وأريد أن أكشف النقاب عما في هذه الأجوبة من العجب العجاب:
? أما الجواب عن الأول, فهذا تلبيس قد سبق بيانه بجلاء في هذا الكتاب.
? وأما عن قولهم: هي توافق الإسلام من جهة, أو توافقه في الجملة, مستدلين بأن الرسول( لم يستخلف, وأن أبا بكر استخلف عمر, وأن عمر استخلف ستة, وجمع الأمر في أحدهم.
فأقول: لو سلمنا أن الرسول( لم يرد عنه الإشارة بخلافة أبي بكر بعده, علم ذلك من علمه, وجهله من جهله, فالرسول ( هو القائل: ((يأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر)) وهو القائل: ((ائتوني بكتاب, كي أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي, كي لا يتمنى متمنٍ...)) إلى غير ذلك.. لو فرضنا حقاً أن الرسول ( لم يستخلف, فأين ما ذكرتموه من الدلالة على محل النزاع؟.
فنحن نسألكم: هل من حق الأمة أن تختار حكامها, بأي وسيلة ولو خالفت الكتاب والسنة؟.
فإن قلتم: نعم. فُضِحْتم, وعلم الناس مذهبكم الفاسد, وتداعت عليكم سهام الأدلة من أطرافها, فأزهقت هذا الباطل, وأرست دعائم الحقّ.
وإن قلتم: لا, فليس للأمة الحق في اختيار ولاتها إلا بطريقة شرعية صحيحة, أو على الأقل بطريقة لم يرد في الشرع النهي عنها. قلنا: هنا انقطع النزاع.
وقد سبقت أدلة كثيرة تدل على بطلان هذه الجزئية, لأنها فرع من شجرة خبيثة, بل "الانتخابات" جذور "الديموقراطية" وسُلّمها الذي ترتقي عليه في تعبيد الناس لبعضهم البعض, باتباع ما أحله لهم النواب, وترك ما حرموه عليهم.
فالله قد عاب على من اتخذ العلماء والعبّاد مشرّعين من دون الله, قال الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم...( الآية.
فكيف بمن يتخذ حُطّاب الليل مشرّعين من دون الله؟!.
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
? وأما عن دعوى الإكراه, فمن المعلوم أن للإكراه شروطاً, فأين هذه الشروط منكم؟(1/30)
? وكذا الكلام على قاعدة "أخف الضررين", فهل راعيتم ضوابطها وقيودها عند أهل العلم, وكل هذا سيأتي الجواب عليه مفصّلاً في موضعه -إن شاء الله.
أما الأمثلة العقلية فالجواب عليها: أن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح, كما بسط ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي لا نظير له في بابه (درء تعارض العقل والنقل).
ولو كان العقل كافياً وحده لما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب.
الشبهة الثانية
قولهم: "إن الانتخابات كانت في صدر الإسلام"
وقالوا: "اُنتُخِب أبو بكر وبويع", وذكروا "انتخابات" عمر وعثمان!. راجع (ص15) من كُتيّب (شرعية الانتخابات!).
الجواب:
هذا الذي قلتموه ليس بصحيح, لأمور, منها: لقد اتضح للجميع أن "الانتخابات" تقوم على مفاسد كثيرة, وقد ذكرناها سابقاً, فحاشا الصحابة من أن يكونوا قد ارتكبوا مفسدة واحدة من هذه المفاسد, فضلاً عن أن يكونوا قد فعلوا جميعها, فالصحابة اجتمعوا وتشاوروا: من يكون خليفة على المسلمين؟. وبعد الأخذ والرد, اتفقوا على مبايعة أبي بكر خليفة, ولم يشارك في ذلك امرأة واحدة, فكان ماذا؟!
وأبو بكر أوصى أن يكون الخليفة بعده عمر, فنفّذ الصحابة وصية أبي بكر, أما عمر فقد جعل الأمر شورى في "الستة الذين توفى النبي ( وهو عنهم راض", وهم من العشرة المبشرين بالجنة.
فهذا هو الأمر الصحيح الثابت.
وأما عن استشارة عبدالرحمن بن عوف للنساء؟! فإليكم بيان الحق فيها:
هذه القصة أخرجها البخاري (7/61 مع الفتح), وليس فيها ذكر استشارة عبدالرحمن للنساء. بل فيها: أن عبدالرحمن بن عوف قام بجمع الستة الذين جعل عمر الأمر فيهم, وهم:
عثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد وعبدالرحمن رضي الله عنهم, والقصة تذكر هؤلاء الستة أنهم أهل الشورى دون غيرهم, وهي ثابتة صحيحة.(1/31)
وذكرها الحافظ ابن حجر في (الفتح 7/69) والذهبي في (تاريخ الإسلام ص303) وابن الأثير في (التاريخ 3/36) وابن جرير الطبري في (تاريخ الأمم والملوك 4/231), وليس عند هؤلاء: أن عبدالرحمن رضي الله عنه استشار النساء, وإنما يذكرون: أنه استشار الرجال, كما قال الحافظ, وأنه دار تلك الليلة على الصحابة, وعلى من في المدينة من أشراف الناس, لا يخلو برجل منهم إلا أمره بعثمان, وهكذا عند البقية المذكورين.
تنبيه:
ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية 4/151) استشارة عبدالرحمن للنساء, ولكن القصة كلها بدون سند عنده.
فعلى هذا التحقيق نستنتج أموراً:
1- صحة القصة, وهي في (البخاري) أن عبدالرحمن اجتهد في الستة فقط.
2- أنه أيضا استشار أشراف الناس, ومن قدم من الأجناد, وهذه القصة سندها عند الطبري, ولها طرق يقوي بعضها بعضاً.
3- قصة استشارة عبدالرحمن للنساء, ليس لها سند, ومعنى هذا أنه: لا أصل لها, أي لا وجود لها بسند يصحّ في كتب السنّة, كما قاله أكثر من واحد من العلماء, كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره, ومما يدل على أن ذكر استشارة النساء لا أصل له: أن أهل التواريخ -كما ذكرنا آنفا- لم يذكروها حتى بدون سند, باستثناء ابن كثير رحمه الله تعالى.
هذا نقد القصة من جهة سندها, أما من جهة متنها: فهي أيضاً مخالفةٌ لنصوص شرعية, فاختيار الأمراء على عهد رسول الله( كان عن طريقه ( وعن طريق الصحابة في الاستشارة, كما حصل من أبي بكر وعمر في شأن: الأقرع بن حابس وعيينة, والقصة في (صحيح البخاري) وغيره, ولما توفي رسول الله(, وقام الصحابة باختيار الخليفة لهم, لم يطالب واحد منهم بمشاركة النساء في اختيار الخليفة, فضلاً عن أن يكون ذلك مشروعاً, كذلك جعل أبو بكر الأمر بعده لعمر, وعمر جعل الأمر في الستة المذكورين آنفا.
فعلى فرض وجود سند لها -ولا يوجد- وعلى فرض صحته, فهي مخالفة لفعل الرسول( والصحابة مِنْ قَبْلِ عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه.(1/32)
وعلى كل: فقد ظُلِم عبدالرحمن بن عوف عند أن نُسب إليه أنه يتعدّى ويخالف نصوصاً واضحة. ولكنه بريء من ذلك كما برئ الذئب من دم يوسف عليه السلام.
وعلى هذا: فلا يجوز أن تنسب هذه القصة إلى عبدالرحمن بن عوف, لأنها منكرة.
ثم لو سلّمنا جدلاً بأن عبدالرحمن بن عوف استشار النساء والصبيان, فالسؤال: هل استشار الفَجَرَة وأهل المُجُون والخلاعة من هؤلاء؟ أم استشار الصالحين: أهل الفهم والمعرفة؟.
فإن قلتم بالأول: سقطتم. وإن قلتم بالثاني؛ سقطت حجتكم, لأن محل النزاع في إباحة "الديموقراطية" هو أخْذُ الرأي من أهل المجون والخلاعة, واعتباره موازياً لرأي أهل العلم والفضل والاستقامة.
ومن المعلوم أن دولة الإسلام قد اتسعت رقعتها زمن عمر, فهل جَعَلَ عبدالرحمن أميراً مؤقتا, ثم قسَّم ديار الإسلام إلى "دوائر انتخابية" ثم جمع أصوات المسلمين جميعاً, ثم رجّح من كثرت أصواته؟ أم أنه اقتصر على أهل المدينة مهبط الوحي, وفيها أهل الحل والعقد؟.
فأين هذا مما نحن فيه, وأين الثرى من الثريا؟!!.
الشبهة الثالثة
قالوا: يجوز الأخذ بجزئية من "النظام الجاهلي"!
قولهم تحت عنوان: "موقفنا من النظم الأخرى" (ص19) من كُتيّب (شرعية الانتخابات): "ولكن هل يحرم أن نأخذ بجزئية من نظام جاهلي, وهذه الجزئية صحيحة؟.
قالوا: يجوز ذلك, إن لم يتوجب عليك أن تأخذ بالجزئية الصحيحة النافعة المشروعة من مجموعة جزئيات تكوّن نظاماً يمكن أن نطلق عليه بمجموعه: "النظام الجاهلي".
قالوا: ودليلنا على ذلك شيئان:
الأول: هي مسألة الجوار, أي أن شخصاً يعلن أنه يجير فلاناً الفلاني, وبهذا الإعلان صار في حمايته, وهذا النظام أخذ به النبي(, وأخذ به أصحابه, فقد رضي بجوار عمه أبي طالب, ودخل مكة بجوار مطعم بن عدي". أهـ كلامهم.
قلت:(1/33)
وهذه القصة لم تثبت, أخرجها ابن إسحاق مُعْضَلَة, وكل من ذكرها كابن هشام وابن كثير اعتمدوا على رواية ابن إسحاق, فهي غير صحيحة, مع أن قصة جوار أبي بكر مع ابن الدغِنّة ثابتةٌ في (البخاري) وغيره. فكان الأولى بهم -لو أنهم يهتمون بنظافة الأسانيد- أن يستدلوا بما صحّ, لا بما هو ساقط السند. وهذه ثمرة قولهم: " ليس هذا زمان: حدثنا وأخبرنا, ولا نشتغل بقول من قال: حديث صحيح أو ضعيف, فإن هذا تضييع وقت".
ونأتي إلى مناقشة هذا الاستدلال, وادعاء أن هذا أخذ بنظام جاهلي, فنقول:
هذا الاستدلال على جواز أخذ نظام "الانتخابات" وغيره مردود من وجوه:
الوجه الأول:
هذه القصة على فرض صحتها, لا تنطبق على مسألة "الانتخابات", لا من قريب ولا من بعيد, فما هي علاقة قضية "الانتخابات" بجوار النبي( عند مطعم بن عدي؟ ألسنا نحن في بيوتنا؟. لسنا مشرّدين بحمدالله, ولا مطارَدين, فالنبي( كان مطارَداً, بخلافنا.
هذا الاستدلال في غير موضعه, ولا صلة له بالموضوع الذي نحن فيه, وما أكثر الفساد في الدين إذا كان الفقه هكذا...!
الوجه الثاني:
على سبيل الافتراض جدلاً أن قضية الجوار المذكورة يستدل بها على جواز الدخول في "الانتخابات", فهنا سؤال, وهو:
هل حصل أن الرسول( تنازل عن شيء من الحق حين آواه مطعم بن عدي إلى جواره؟ أو ارتكب شيئاً من المفاسد السابقة؟.
الجواب: لا. فإذا كان النبي( ما تنازل عن شيء من الحق. –هذا على فرض صحة القصة- فهل حصل من الذين دخلوا في "الانتخابات" تنازل عن حق أم لا؟.
الجواب: نعم. فقد تنازلوا عن أحكام كثيرة شرعها الله عز وجل, حرصاً على الوصول إلى مآربهم, وارتكبوا في سبيل ذلك كثيراً من المفاسد, كما سبق بيانها مفصلاً.
الوجه الثالث:
قولهم: "إنّ لنا أن نأخذ من أنظمة الكفر ما كان صحيحاً".
قلت: كلمة "صحيحاً" غير صحيحة, وأين الصحة من نظام "الانتخابات" الذي أخذتم به؟!.(1/34)
أليس قد سبق أن قلنا: إن قبول نظام "الانتخابات" يوقع الآخذين له في مفاسد كثيرة, ومنها: الشرك بالله, -في كثير من الحالات-, فما قيمة كلمة "صحيحاً"؟, وهل يوجد في نظام الكفار قضية صحيحة, وليست موجودة في الإسلام, فيما يتعلق بما نحن بصدده من كيفية إقامة حكم الله في الأرض؟.
فالواقع يشهد أن ما عندنا في أي قضية من قضايا رعاية الحقوق, وإصلاح أحوال الناس, وإزالة الشرِّ, وتحقيق العدل, ونشر دين الله, هو أضعاف أضعاف ما عندهم, قال تعالى: (ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون( المائدة. وقال تعالى: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون( البقرة. وقال تعالى: ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم( المائدة. وقال تعالى: ( ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً( الجاثية.
فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم ليس عندهم إلا الهوى.
وعلى كلٍ: فقد اتضح لنا من هذا كله؛ أن هذا تَقَوُّل على الله وعلى رسوله( وعلى الإسلام بدون علم وفقه, وأن سبب ذلك عدم رد المسائل إلى العلماء القادرين على إخراج الأمة من المزالق.
وأذكرهم بقول الله تعالى: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين( الحاقة.
أما الدليل الثاني الذي استدلوا به على جواز أخذ نظام جاهلي جزئي على حد زعمهم فنصه: "أن النبي( قال: ((حضرت في بيت عبدالله بن جدعان حلفاً, قبل أن يكرمني الله بالنبوة, ما أود أن يكون لي به حمر النعم, اجتمعت بطون قريش, وتحالفوا على نصرة المظلوم بمكة, ولو دعيت لمثله لأجبت)).
ووجه الدلالة: أن أولئك الذين اجتمعوا وكانوا ينتمون للنظام الجاهلي والعصبية الجاهلية, اجتمعوا على خصلة حميدة, وهي: تكاتفهم على نصرة المظلوم, فأجازها النبي( وباركها". أهـ, يُنظر كُتيّب (شرعية الانتخابات).(1/35)
قلت: أما حديث شهوده( حلف قريش فقد رواه أحمد والبخاري في (الأدب المفرد) والحاكم وصححه, وسكت عليه الذهبي, وصححه الشيخ/ الألباني في (السلسلة الصحيحة 4/524) وله شواهد أخرى عند الطبراني وغيره, فالحديث صحيح, وقد شهد هذا الحلف وأشاد به (, لكن : ما هو النظام الجاهلي الذي أخذه النبي( من هذا الحلف؟
الجواب: ما حصل أن النبي( أخذ من هذا الحلف نظاماً واحداً, ولا قضية واحدة, فكيف جاز لهم أخذ نظام "ديموقراطي"؟ سواء أخذوا به كله أو ببعضه؟. والنبي( ما أخذ شيئاً من نظام الكفر.
واُلخِّص الجواب على استدلالهم بإقرار النبي( بعض الأحلاف التي كانت في الجاهلية, بما يلي:
اختلف العلماء في حكم هذه الأحلاف, فمن قائل: إن هذه الأحلاف نسخها الإسلام, وأبدلنا الله عنها بإخوّة الدين, لقوله(: ((لا حلفَ في الإسلام)) رواه مسلم. ومن قائل: إنها محكمة وباقية في نصرة المظلوم.
فعلى قول من يرى النسخ؛ فلا دليل لكم في هذا الإقرار لبعض أحلاف الجاهلية, وعلى قول من يرى أنها محكمة؛ فنسأل المخالف: هل ارتكب النبي( أي مفسدة في إقراره لهذه الأحلاف؟ وهل تنازل عن شيءٍ من دعوته بسبب هذه الأحلاف؟
فإن قلتم: نعم, فبيّنوه لنا, وإن قلتم: لا, -وهو الصواب- فلماذا تستدلون به على نظام "الانتخابات" التي قد بيّنا الكثير من مفاسدها, ومن تنازلات مَنْ رفع لواءها.
ثم نسألكم: هل أنتم عندما قلتم: "إن أخذ جزئية نافعة صحيحة مشروعة من نظام جاهلي لا بأس بذلك", اكتفيتم بهذه الجزئية النافعة على حد زعمكم, أم أخذتم النظام "الديموقراطي" ورضيتم بأن يكون تغيير المنكر -على حد زعمكم- من خلاله.
فأخبروني: ما هي بقية الجزئيات التي رفضتم الخضوع والرضوخ لها؟ حتى نقول: إنكم اقتديتم بالنبي(, فإن قلتم: نحن نكفر بحاكمية الشعوب, قلت: هذا كلام نظري, لكن ما بالكم سلمتم للأغلبية عملياً في المجالس النيابية.(1/36)
أما الرسول( ـ مع شهوده بعض الأحلاف النافعة, وإقراره لها ـ فإنه تبرّأ من كل أمر يخالف الإسلام, ولم يمارسه, بل هجر أهله وأماكنه والأسباب المفضية إليه, ولكن هكذا فقه الخَلَف, فرحم الله السلَف.
الشبهة الرابعة
قولهم في "الانتخابات": إنها مسألة اجتهادية
يقولون في قضية "الانتخابات": هي مسألة اجتهادية.
فنقول لكم:
ماذا تعنون بقولكم: إنها مسألة اجتهادية؟.
فإن قلتم: أي إنها مسألة جديدة لم تكن معروفة في زمن الوحي والخلفاء الراشدين. فالجواب من وجهين:
1- أن هذا يناقض قولكم السابق بأنها كانت في صدر الإسلام, فتذكّروا ما تقولون وتكتبون, ولا تحملكم قناعتكم بفكرة, أن تقولوا قولاً لينفعكم في مجلس ما, ثم تحكمون عليه بالنقض في مجلس آخر, فلا يغرنكم عدم إدراك كثير ممن يسمعونكم لهذا التناقض, فإن في الزوايا بقايا.
2- نعم, لم تكن هذه الطامات موجودة في زمن الوحي, وليس معنى ذلك أنه ما لم يكن موجوداً بذاته في زمن الوحي, أن يكون الأمر متروكاً فيه للاجتهاد, ولا ينكر فيه على المخالف, فالعلماء في هذا ينظرون لكل حادثٍ جديدٍ, ويردونه إلى الأصول والكليات, ويعرفون الأشباه والنظائرو ويلحقونها بها, ومن ثَمّ يلحقونها بالحكم الأول إباحةً أو حظراً, إيجاباً أو تحريماً, وما نحن فيه قد سبق بيان مفاسده.
وإن قلتم: هي مسألة اجتهادية بمعنى: أنه لم يرد فيها نص, فالجواب السابق شامل لهذا أيضا.
وإن قلتم: هي مسألة اجتهادية بمعنى: أننا ندرك حرمتها, لكن نرى أن الدخول في ذلك يحقق مصالح لا تكون بدون هذا الدخول, وأنتم أيها السلفيون ترون المفسدة في ذلك, فهي اجتهادية, بمعنى تحقيق المناط, وتطبيق الأحكام الشرعية على الواقع القائم. وهذا مجال تختلف فيه الأنظار, فلا ينكر على أحد.
قلت:(1/37)
ولو سلمنا بذلك لكان لهذا وجه قبل خمسين عاماً مثلاً, وذلك عند ابتداء فرض هذه الفكرة ـ فكرة النظام الديموقراطي ـ على بلاد المسلمين, فالأنظار تختلف في الشيء الجديد.
أمّا أنّ المسلمين لهم قدر ستين عاما يلهثون وراء ذلك, وما رجعوا إلا بخفي حنين, فهل نضرب بتجارب المسلمين خلال أكثر من نصف قرن عرض الحائط؟ ونعيد أذهاننا إلى الوراء ستين عاماً؟, فأين حديث رسول الله( ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين))؟ متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وإن قلتم: إنها مسألة اجتهادية بمعنى: أنها نِزاعيّة بين العلماء وليست إجماعية.
فالجواب:
من المعلوم أنه ينكر على مخالف الإجماع الصحيح, لكن بقي تفصيل في مسائل الخلاف:
فمنها: ما هو ظاهر الحجة لأحد الطرفين, مع وجود مخالف لهذا الأمر الظاهر, فليس معنى ذلك إرخاء الحبل لمن أخذ بأي قول.
وكم هي المسائل الإجماعية بالنسبة للخلافية؟.
وبطون الكتب طافحة بردود أهل العلم على بعضهم البعض, في مسائل لم تسلم من وجود مخالف فيها.
نعم, هناك مسائل خلافية تتجاذب فيها الأدلة, ولا يوجد وجه صريح أو ظاهر في الترجيح, فعند ذلك يتنزل قول أهل العلم: "المسائل الخلافية لا يتعين فيها الإنكار".
وألفت النظر في هذه العبارة إلى أمرين:
الأول: استقراء وتتبع المواضع التي ورد فيها هذا القول من أهل العلم: هل ورد ذلك في مسائل تفضي إلى مثل تلك المفاسد السابقة؟ أم في مسائل دون ما نحن فيه؟.
الثاني: قولهم: "لا يتعين", ليس معناه أنه لا يجوز, بل من سكت فلا إثم عليه, ومن أنكر بالشروط الشرعية في الإنكار, المفضية للمصلحة الشرعية, لا للمفسدة, فهو جائز, بل مستحب.(1/38)
ثم إني أسأل سؤالاً آخر, فأقول: وهل أنتم ـ معشر القائلين بأنها مسألة اجتهادية, لا يُنْكَر فيها على المخالف ـ التزمتم بهذا القول مع إخوانكم طلبة العلم الذين أنكروا ذلك, ولم يشاركوكم في هذا؟ أم قلتم: "هم إخوان الاشتراكيين من الرضاع"؟! ومنكم من قوّى نسبتهم وصلتهم بالاشتراكيين فأطلق: أنهم اشتراكيون وعملاء للحكام, وغير ذلك من التهم التي لو عاملناكم بظاهر أعمالكم, وجازفنا كما تجازفون, لقلنا: إن هذه الفِرَى أنتم أحق بها وأهلها.
لكن يحملنا ديننا وخوفنا, من يومٍ تُنشر فيه الصحف, فتَبْيَضُّ فيه وجوه, وتَسْوَدُّ وجوه, على عدم معاملتكم بالمثل.
والشكوى إلى الله عز وجل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الشبهة الخامسة
قولهم: إن "الانتخابات" مصلحة من المصالح المرسلة
يقولون: نحن دخلنا في "الانتخابات" من باب أنها مصلحة من المصالح المرسلة!.
الجواب:
1- المصلحة المرسلة ليست أصلاً من أصول الدين التي يُعمل بها, وإنما هي وسيلة متى توفرت شروطها, عُمِل بها, ومتى لم تتوفر, لم يُعمَل بها.
2- تعريف المصلحة المرسلة هي: ما لم يأت نص فيه بعينه بتحريم ولا وجوب, مع اندراجها تحت أصل عام.
وتعريف آخر يذكره الأصوليون وهو: الوصف الذي لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه مِنْ قِبَلِ الشارع.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموافقات4/210):
"فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح, بشرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج" أهـ.
فالمصالح المرسلة هي التي ليس هناك دليل باعتمادها أو إلغائها, ومنها: مصلحة عامة أو خاصة, أما ما نحن فيه, ففيه من المفاسد السابقة الذكر التي لا يشك عاقل أنها كافية في إخراج محل النزاع من باب المصالح المرسلة, إلى المفاسد المحرمة, والله أعلم.(1/39)
وقد أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة, وهكذا التابعون وأتباعهم, فتأليف الكتب الفقهية, وكتب اللغة العربية, وكتب علوم الحديث, وجمع القرآن والاقتصار على النُّسَخِ التي اختارها عثمان وإلغاء ما عداها.. إلى غير ذلك من المصالح, وكما ذكرنا سابقا أنها ليست من الأصول, وإنما هي مسألة اجتهادية يصيب فيها الرأي ويخطئ, والشريعة كلها جاءت لتحقق مصالح الناس, كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة 2/23), ورفع المشقّة والعسر والحرج.. إلخ, كلها من لوازم المصالح للناس. ومن خلال هذا العرض السريع نستفيد أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد.
فعلى هذا فالمصلحة المرسلة لها شروط يجب أن تراعى, فإذا توافرت شروط المصلحة عُمِل بها, فهل تقيّد المخالفون بهذه الشروط؟.
وسيأتي ذكر الشروط بعد الكلام على الشبهة الخامسة عشر –إن شاء الله-.
الشبهة السادسة
قولهم: إن "الانتخابات والحزبية"
أشياء شكلية, وليست جوهرية
يقولون: نحن لم نَحِدْ عن الكتاب والسنة قيد أنْمُلَة.
فنقول:
قولكم في هذه الأشياء: إنها شكلية, وليست جوهرية, مغالطة واضحة.
1- كيف تكون شكلية, وفيها بذل أموال؟ وفيها مواجهة للأعداء كما تزعمون؟! وفيها حب وبغض؟ وفيها تقرّب إلى الله -على حد زعمكم-؟!.
2- كيف تكون شكليةً, وظاهر حالكم قولاً وعملاً أنها المنهج الوحيد والخيار المناسب لإقامة دين الله؟ فهل أنتم صادقون مع أنفسكم في هذا القول؟.
إن قلتم: نعم. فأين الشكليات في مسألة من أهم مسائل الدين, وهي: تمكين التوحيد في الأرض؟.
وإن قلتم: لا, لسنا مصدّقين لأنفسنا في هذا القول, فحسبكم هذا من أنفسكم. والله المستعان.
والإسلام كله جوهر -إن صح التعبير- فهو العقيدة الصحيحة الراسخة, والتوحيد الشامل, والولاء والبراء, والخضوع للحق, وليس فيه قشور, بل كله لباب وخير.(1/40)
3- الشكلية التي تتكلمون بها, قد حذّر منها الإسلام, لأنها من أعمال المنافقين, يظهرون خلاف ما يسرّون, ويقولون خلاف ما يفعلون, ويفعلون خلاف ما يؤمرون, قال الله سبحانه وتعالى: (اتخذوا أيمانهم جُنّةً فصدوا عن سبيل الله, إنهم ساء ما كانوا يعملون( المنافقون. ورصيد المنافقين هو شكليات, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عن صلاتهم: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى يُراؤون الناس..( النساء.
هذه هي الشكليات التي حذّر منها الإسلام, ولكنها شكليات تضر وترمي بصاحبها في الدرك الأسفل من النار, قال الله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً إلا الذين تابوا وأصحلوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين( النساء.
فالله عز وجل قد دعا عباده إلى الصدق في عبادته والإخلاص, والخوف من عذابه, والرضى بحكمه, والتسليم لشرعه, والمراقبة لأمره ونهيه, والتوكل عليه, والثقة به, والأنس بكلامه. فهذه جواهر.. والإسلام يدعو إلى هذا كله.
4- الظاهر أن عندكم جراباً للمصطلحات!. فأنتم على استعداد أن تملؤوا الدنيا بالمصطلحات التي تشغلون بها المجتمع وطلبة العلم, وتروّجون لها, وتخدعون بها الناس إلى أجل قريب, والأحكام جاهزة لكل ما يناسب نظامكم وأهواءكم.
والدمج عندكم مشروع: أن يندمج الحق بالباطل, والباطل بالحق, إذا كان في ذلك مصلحة تتماشى مع الحزبية في نظركم.
وهذا نقوله لا من باب الشماتة ـ والذي نفسي بيده ـ ولكن للأسف أن هذا واقع, ومن حق المسلم على المسلم الصدق والوضوح في النصيحة.
وقد تكلمنا كثيراً في المجالس العامة والخاصة, فما رأينا تجاوباً يُذْكَر, بل رأينا الاستمرار في مخالفة الشرع, والجد في التحذير من أهل السنة, ورميهم بأبشع التهم, والتدخل في ضمائرهم, والطعن في إخلاصهم وصدقهم... إلخ.
فكان لزاماً علينا أن نظهر الرد كما أظهرتم خلاف الحق.
والله من وراء القصد, وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/41)
الشبهة السابعة
قولهم: نحن دخلنا في "الانتخابات" وما قصدنا إلا الخير!
ويريدون أن يقولوا: ليس علينا إثم لحسن نياتنا, وصلاح مقصدنا, لأننا لا نريد إلا نصرة الإسلام.
ولكن نقول لهم:
كم من مريد للخير لا يصل إليه, ولا يوفّق له بسبب اقتصاره على النية الطيبة, وإهماله للبحث عن الحق, ومن المعلوم قطعاً أن كل عمل لا يقبل عند الله إلا بشرطين:
1- أن يكون العمل خالصاً لله.
2- أن يكون موافقاً لهدي محمد (.
فإذا افتقد أحد الشرطين, فلا يُقبَل العمل عند الله.
فنحن من باب التسليم الجدلي أنكم جميعاً قصدتم الخير: فهل هذا يكفي في أن يكون العمل صحيحاً, وهو مخالف للشرع؟ أم لابد من الموافقة الشرعية كمّاً وكيفاً وصفةً وهيئةً, بدايةً ونهايةً, في الأصل والفرع, في المكان والزمان؟؟؟.
ولا شك أن الثاني هو الجواب.
وإليك بعض الأدلة على ذلك:
قال الرسول(: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه من حديث عائشة, وفي (صحيح مسلم): ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
و"مَنْ" مِنْ ألفاظ العموم, وهذا عمل, وهذا إحداث, فهو مردود.
وقد رُدّت بالفعل عبادة المبتدع, فقد قال(: ((إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة, حتى يدع بدعته)) رواه الطبراني والبيهقي والضياء من حديث أنس رضي الله عنه.
فهذا متعبِّد, أجهد نفسه, وشمّر في عبادة ربه, ومع هذا لم يتقبل الله منه شيئا من ذلك, مع حبه للأجور عند الله, وإخلاصه العمل, لكنه لم يبحث عن شرعيته.
فكلما تاب وَجَدَّ في التوبة, فهي مردودة عليه, مهما حسنت النية, وعظم المقصد, فلا يخرج صاحبه من أخطائه أبداً.(1/42)
وفي (الصحيحين) من حديث أسامة أنه قال: "تبعت ومعي رجل من الأنصار رجلاً من المشركين, فلما وجد أننا سنقتله قال: "لا إله إلا الله" فتأخر صاحبي, وضربته حتى برد, أي: مات, فسألت رسول الله(, فقال: ((أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟)), قلت: يا رسول الله, إنما كان متعوِّذاً, فقال: (( أشققت على قلبه؟ فكيف تصنع بـ" لا إله إلا الله" إذا جاءت يوم القيامة؟)). قال: فلم يزل يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ".
انظر: فهذا أسامة ما أراد إلا نصرة الإسلام, وهل أراد بذلك شراً؟ بلا شك: لا, لكن الرسول( لامه على فعله, ولم يعذره بحسن قصده.
ولأهمية هذا القصد ألّف العلماء الكتب الكثيرة في التحذير من البدع وأهلها.
والبدعة هي: التعبُّد لله بما لم يشرعه, ولا شرعه نبيه(, وارجع إلى كتاب: "الاعتصام" للشاطبي, فقد أجاد وأفاد رحمه الله في الكلام على خطورة البدع, وبيّن أقسامها وشُعَبَها.
ولو فُتِح المجال لأصحابِ هذا القول: "أنا نيتي طيبة, ومقصدي حسن". لأدى إلى أن يقتل القاتل, ويقول: أنا نيتي طيبة, ويشرب الخمرَ الشاربُ, ويقول: أنا نيتي طيبة.
وهذا عمل قلبي ليس لنا قدرة على إثباته ولا نفيه إلا بدليل خارجي.
فالله عز وجل قد أرشدنا إلى الأخذ بظاهر الأمور, وهو يتولى السرائر, ولهذا قال عمر كما في "البخاري" وغيره: "إن الوحي قد انقطع, وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم, فمن أظهر لنا خيراً؛ أمناه, وقربناه, وليس إلينا من سريرته شيء, الله يحاسبه على سريرته, ومن أظهر لنا سوءاً؛ لم نأمنه, ولم نصدقه, وإن قال: إنّ سريرته حسنة".
فليس عندنا استعداد أن نقبل من يدعي صلاح قلبه, وعندنا أدلة واضحة على أن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن, وفساد الظاهر دليل على فساد الباطن. قال(: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه, وإذا فسدت فسد الجسد كله)) متفق عليه من حديث النعمان.(1/43)
ومن عُلِم منه الصلاح, فحصل أن زلّ بكلمةٍ أو فعلٍ, فهذا يحمل على حسن مقصده, ويبقى عليه تبعة العمل الذي زلّ فيه.
أما من عُلِم بالمخالفات الشرعية ولم يقبل الحق, فهذا لا يحمل هذا المحمل.
والذي يظهر أن قيادات الحركات الإسلامية يعرفون أن "الانتخابات" حرام, ولكنهم سائرون على ذلك مهما كانت الظروف. ونحن نحسن الظن بكثير منهم, أنهم أرادوا بذلك نصرة الإسلام, لكن كم من طالب للحق لا يدركه, ولا يعني ذلك أننا نتألى على الله, وندعي أن الله عز وجل يحرم فلانا الأجر أم لا, إنما الذي يهمنا بيان الحكم الشرعي فيما نحن بصدده, أما الآخرة فالناس فيها عند حَكَمٍ عدل, لا يظلم الناس شيئا.
لكن إذا أردنا حقا أن ننصر الإسلام, فخير الهدي هدي محمد(, ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها, والله المستعان.
الشبهة الثامنة:
قولهم: نحن دخلنا في "الانتخابات"
من أجل أن نقيم دولة الإسلام!
الإسلاميون يقولون: نحن ندخل في "الانتخابات" من أجل أن نقيم دولة الإسلام!.
فكيف يقيم دولة الإسلام, ويحكم بشرع الله, من بدأ بالتنازل من أول وهلة؟!. أليس قانون "الانتخابات" جزءاً من الدساتير العلمانية المستوردة مِنْ قِبَل الكفار؟.
الجواب: بلى.
فإذا كانوا حقا سيقيمون دولة الإسلام على حد زعمهم فلماذا ما يبدءون بإقامتها برفض "الانتخابات", ويقولون: نحن ما نقبل "الانتخابات" لأنها نظام طاغوتي؟.
ما سمعنا أحداً منهم تبرأ ورد هذا البلاء. فعند خضوعهم للدستور في قضية "الانتخابات" صاروا محجوجين بهذا التنازل, إذا أرادوا أن يصححوا أي حكم من أحكام "الديموقراطية".
كيف يرضون أن يحكمهم نظام الغرب, ويقولون: نحن سنقيم حكم الله؟!. فالقضية قضية شعارات فقط.(1/44)
ونحن نعد هذا التصرف من إخواننا تنازلاً, وهم دائماً يهبطون على سلّم التنازل, وعلى سبيل المثال: كانوا يقولون: سنقيم دولة الإسلام, ودندنوا بهذه الكلمة, ثم ما شعرنا إلا وعندهم شعار جديد, وهو: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت(.
فتنازلوا من إقامة دولة, إلى الإصلاح ما استطاعوا على حد زعمهم!.
ولا شكّ أن المسلمين يصلحون ما استطاعوا.
وهذا الشعار الذي أبدوه أخيراً من جملة تنازلاتهم, ومفاده أنهم قد فشلوا في إيهام الناس حول إقامة دولة الإسلام, وما داموا على سلم التنازلات فنخشى أن يضيعوا أكثر فأكثر, لأن الانحرافات تبدأ شيئاً فشيئا, وصدق الله إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتّبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر( النور.
فانظر إلى نهاية الذي يريد الإصلاح ما استطاع, إذا به يأمر بمخالفة الشرع باسم المصلحة, والتنازل عن شيء من الحق, سبب لإنزال العذاب الإلهي عاجلاً وآجلاً. قال الله سبحانه وتعالى: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرًا( الإسراء.
إذاً فما قيمة التنازلات؟ وما مدى الانتفاع بها, إذا كان هذا المتنازل سيذوق من الله سوء العذاب في الدنيا والآخرة؟ (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى(, (ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون(.(1/45)
فالكفار هنا لا يطلبون من النبي ( أن يترك دينه, لأنهم قد علموا أنه لا يترك دينه, لكنهم يطالبونه بالتنازل, ولو في بعض الحقّ, فربنا يمتنّ على نبيه( بما منحه من الخير والفهم الصحيح والثبات والعصمة عند مواجهة المشركين. وأفادت الآية أن اكتساب أصحاب الزعامات والسلطات, ليكونوا في صف الدعوة على حساب الدعوة إلى الله؛ لا يجوز, لأن التنازل عن شيء من هذا الدين, باسم تحقيق مصلحة الدعوة؛ لا يجوز, والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون( المائدة.
خاب وخسر من ظن أنه سيعيش سالماً, ويتنازل عن شيءٍ من الإسلام, وهو في مقام الدعاة والعلماء والقدوة الحسنة.. وإلى الله المشتكى.
تنبيه:
كثير من الناس يطلق قوله: نريد أن نقيم دولة إسلامية, ونحن -ولله الحمد- في بلاد إسلامية, ليست كافرة, وإن كان فيها كثير من المخالفات الشرعية, إلا أن ذلك لا يسوّغ تكفيرها, وإخراجها من جملة البلاد الإسلامية. وإذا جارينا غيرنا في هذا الاصطلاح, فمرادنا به: قيام الدولة الإسلامية الراشدة, التي تسير على منهاج النبوة ما أمكن, فليُتَنَبَّه لهذا, والله أعلم.
الشبهة التاسعة
قولهم: إقامة الشريعة يكون بالتدرج
يقولون ـ وهو من باب المغالطة ـ لمن قال لهم: أنتم ما حققتم في خلال هذه الفترة شيئاً يذكر, يقولون: "إقامة الشريعة تكون عن طريق التدرّج"!.
وهذا ليس بصحيح لأمور, منها:
1- تكون إقامة الشريعة عن طريق التدرج بالطرق الشرعية, لا بالأنظمة الغربية.(1/46)
2- هذا الكلام يقوله دعاة "الانتخابات" الإسلاميون, لكي يقنعوا الناس بـ"الانتخابات", والدخول فيها, وأما أعضاء مجلس النواب من الإسلاميين, فهم ليسوا حول إقامة الإسلام بالتدرج ولا بغيره, بدليل أنهم كلما جاء حُكْمٌ, وافقوا عليه مهما كان فيه من المخالفة الشرعية, بدون أي تأخّر, إلا من رحم الله سبحانه,وذلك تحت مبررات واهية, هذا إن استُشيروا, وأما إن قُطِع الأمر بدونهم, فهذا أمر آخر, وما أشبه حالهم بمن قال:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يُستأذنون وهم شهود
3- لماذا لا تشرحون طريقة التدرج هذه؟ فأنتم تركتموها مفتوحة ـ والله أعلم ـ من أجل أنكم كلما أراد أن يحتجّ عليكم محتج, قلتم: أما نحن فقد قلنا: "إن تطبيق الشريعة بالتدرج", وأظن والله أعلم أنكم ما دمتم هكذا فقد تقوم الساعة, وما حققتم هذا الهدف.
4- ليس لكم حُكْمٌ نافذ إلا من العلمانيين, وليس في أيديكم شيء وإن كثرتم, فلا تكونوا خياليين, لأنكم سلطتم القانون على أنفسكم, فاتقوا الله, وكونوا مع الصادقين.
وعلى هذا فدعوى: أنكم ستقيمون الشريعة بالتدرج, دعوى عارية عن الحقائق والأدلة.
وأخشى -والله- أن تضيّعوا بقية ما عندكم من الخير, باسم أنكم في التدرج.
والله سبحانه وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون( الصف.
الشبهة العاشرة
قولهم: عدّلنا "الدستور" من علماني إلى دستور إسلامي!
ويقول بعضهم: أبشر أيها الشعب, فقد جعلنا "الدستور" إسلامياً!.
وأما نحن فلسنا من هذا الصنف, صنف الذين أرهقوا أسماع الناس بقولهم: "ابشروا, فقد عدّلنا الدستور".
ماذا عملت يا مسكين؟!. الحبر على الورق مكسب إعلامي فقط, أمّا الواقع فلا نرى إلا ما هو أشد, ونسأل الله صلاح المسلمين.
ومادة التعديل هي: "الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات".(1/47)
أسألك يا فضيلة المفتخر بتعديل الدستور: هل القرآن الآن هو السائد, والمرجع في كل الشؤون, أم الدستور؟؟؟
ماذا يغنينا تعديل مادة بحبر على ورق فقط, وبقية المواد تنضح بالباطل؟.
وانظر ما بعد هذه المادة في "دستورنا" اليمني, وهي التي تلي المادة المعدّلة, وهذا نصها: "الشعب مالك السلطة, ومصدرها, ويمارسها بشكل مباشر, عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة, كما يزاولها عن طريق غير مباشر: عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية"!.
فماذا أبقت هذه المادة للمادة المعدَّلة؟ وأين عيونكم عند أن عدّلتم مادة على حد زعمكم, وما عدّلتم بقية المواد.
وقد أقيمت دولة الإسلام من مشرقها إلى مغربها بحكم القرآن, وما احتاجوا إلى سطر واحد من مناهج اليهود والنصارى وغيرهم.
تنبيه:
حصل تعديل في بعض المواد, ولكنها لا تُسمِن ولا تغني من جوع, ومن أشهر ذلك تعديل مادة القسم, وهذا نصها: "أقسم بالله العظيم: أن أكون متمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله, وأن أحافظ على النظام الجمهوري, وأن أحترم الدستور والقانون"!.
والواقع أن "الدستور أو القانون" هو المحترم, وليس بكاف أن نتمسك بكتاب الله وسنة رسوله( على حد زعمكم, فإن معنى هذا الكلام تجميد كتاب الله وسنة رسوله(.
بل كان الصواب أن يقال: "أقسم بالله العظيم: أن أحكم بكتاب الله وسنة رسوله( ولا أحكم بغيرهما".
والأيام القادمة ستظهر لنا كل شيء, ويعرف كل واحد ما الذي وصل إليه.
أما الذين يدندنون بأنهم عدّلوا "الدستور", إما أنهم جهلة بما يتكلمون به, وإما أنهم يعلمون حقيقة الحال, فإن كانوا جهلة؛ فلا يستحقون أن يكونوا قادة للأمة, وهم يجهلون واقعاً يدركه الباعة في الأسواق, والشحاذّون في الطرقات, والمكنِّسون في الشوارع.(1/48)
وإن كانوا يعلمون حقيقة الحال, وأن هذا التعديل حبر على ورق وليس له أي واقع, بل لا يستطيعون هم أنفسهم أن يحتجوا به ويستدلوا به, فمعنى ذلك أنهم يُلبِّسون على الأمة, وفاعل ذلك غاشّ للأمة, وليس ناصحاً لها, وهذا يزحزحه عن مرتبة القيادة والتوجيه.
واذهبوا واسألوا جميع الطبقات والطوائف عن أحوال المسلمين في مجالسهم التشريعية, ومعاملاتهم, وإعلامهم, ودوائر الحكومات, ومحافلهم, وغير ذلك: هل الكتاب والسنة عندهم فوق الدستور والقانون, أم لا؟
ومثلكم لا يخفى عليه الجواب, ولكن الشكوى إلى الله في كيلكم بصاعين: فلو عمل أهل السنة من الأخطاء عشر معشار ما تعملون؛ لرميتموهم بالغفلة والسطحية, والسذاجة, وعدم فقه الواقع, بل رميتموهم بذلك وهم بعيدون عن كل ما يخالف شرع الله.
فإلى الله المشتكى.
الشبهة الحادية عشر
قولهم: نحن لا نريد أن نترك الساحة للأعداء
يقولون: نحن لا نريد أن نترك الساحة للأعداء, من علمانيين واشتراكيين وغيرهم!.
الجواب:
ونحن أيضا ما نريد أن يكون لأعداء الله سبيل على مؤمن, ولكن نقول للإخوة: ماذا أعددتم لهذا العمل؟, فإذا كنتم تأخذون بنفس وسائلهم, وتخضعون لقوانينهم, فلن تحصلوا على شيء إلا على التنازلات تلو التنازلات.
وقد يقولون: نحن نحرص على أن تكون الأغلبية في مجلس النواب معنا, ونفترض أنكم حصلتم على الأغلبية, فهل يجوز لكم أن تحكموا بحكم الأغلبية؟.
الجواب:
لا يجوز, وقد كنا نسمع هذه النغمة, وهي: كيف نترك الساحة للأعداء؟.
وهل تحبون أن يتولى عليكم علمانيون أو اشتراكيون أو غيرهم, يمنعونكم من التدريس والدعوة إلى الله, ويصادرون الإسلام؟, هكذا نسمع كثيرا من القوم.
والواقع يثبت لنا أن هذه النغمات هي من باب الدعاية الانتخابية, وإلا فما هي الثمرة خلال أكثر من ستين عاماً؟.(1/49)
فقد حصلوا على نسبة كبيرة في المجالس النيابية في الباكستان وفي تركيا وفي الأردن وفي الكويت وفي مصر وفي اليمن وغيرها, ولم يحصل أنهم غيروا من مناهج الخصوم, بل خدموهم وتحالفوا معهم في أكثر من بلد, وهذا واضح كوضوح الشمس.
أما نحن فلا نحب أن يتولى أحد إلا الصالح, فإن لم يوجد صالح, ولم يتيسر, صبرنا على حكامنا الموجودين, ونصحناهم بالكتاب والسنة, فإن أمروا بمعصية؛ لم نطعهم, وذكرناهم بأيام الله في الأمم السابقة, عندما أعلنوا بالمعصية, وحاربوا الله بالانحراف عن نهجه, كيف نقض الله بنيانهم, وأذهب ملكهم, وسلّط عليهم الأعداء, فأخذوا ما بأيديهم, وساموهم سوء العذاب, فلسنا أصحاب حماس فارغ, ولا ثورة تضر أكثر مما تنفع, ولسنا ممن يدق أبواب السلاطين, ولا ممن يمد يديه إليهم, ولا نبرر انحرافهم عن الصراط المستقيم, وهل كان منهج سلف الأمة إلا هذا؟
لكننا ابتلينا في هذا العصر بأقوامٍ إن أعطاهم الحُكّام من دنياهم ووظائفهم رضوا, وقالوا: هؤلاء الحكام أحسن من غيرهم, وإن منعوهم؛ سخطوا وفزعوا إلى المساجد والمنابر يكفرونهم, ويدعون إلى الجهاد ضدهم, ويحرضون عليهم.
فإن حاججناهم بمنهج السلف الذي يأمر بالنصح وعدم التشهير المفضي إلى الشر, قالوا: أنتم عملاء للحكام!.
ولست أدري من أحق بهذا الوصف؟ أهو الذي يهرب من مجالسهم, أم الذي يقف عند أبوابهم صباح مساء؟!!.
الشبهة الثانية عشر
قولهم: نحن مكرهون على دخول الانتخابات والبرلمانات
والجواب:
الإكراه في الاصطلاح: حمل الشخص على فعل أو قول لا يريد مباشرته. هذا تعريف الإكراه.
وعليه فلا بد من مُكْرِهٍ (بكسر الراء), ومن مُكْرَهٍ (بفتح الراء).
وهذا ما دلّ عليه القرآن الكريم, يقول الله تعالى: (إلا من أُكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليه غضبٌ من الله( النحل. ويقول الرسول(: ((وُضِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) رواه الطبراني عن ثوبان.(1/50)
فدلّت الآية والحديث أن هناك من يُكْرِه المسلم على فعل محرم, أو قول محرم.
والعلماء يقسمون الإكراه إلى قسمين:
1- مُلجئ. وضابطه: أن يُهدَّد بالقتل, أو بما لا يطيقه, مع توقع حصول ذلك الفعل, وأقوال العلماء في تحديد الإكراه متقاربة, ولهذا رأى المتأخرون أن يقسموه إلى قسمين.
2- إكراه غير ملجئ. وضابطه: أن يُهدَّد الإنسان بما لا يؤدي إلى هلاكه, أو يكون المُهدِّد (بالكسر) ليس عنده قدرة ولا سلطة على ذلك, والأخذ بالرخضة من أجل الإكراه في الدين جائز بهذا الشرط.
ولنأت إلى إخواننا فنقول لهم: من الذي أكرهكم على الدخول في "الانتخابات"؟
فإن قالوا: هم أكرهونا, فنقول: الواقع عدم الإكراه لكم, ولا يتحقق هنا نوع الإكراه, لا الأكبر ولا الأصغر, لأن المُكرِه (بكسر الراء) غير موجود, بل أنتم الذين تدعون لهذا, وتلتمسون له الأدلة, وتحاربون من خالفكم في الفهم, فدعوى أنكم مكرهون دعوى غير صحيحة, فإذا كانت دعوى غير صحيحة, فما فائدة هذا القول والإعلان به بين الناس؟.
الجواب: هذا كله تبرير مواقف, وخداع للجماهير, حتى يصيروا في رأي الجماهير معذورين إذا فشلوا.
ولو قالوا: نحن مكرهون, بمعنى: أننا لا نحب ذلك, لكن رأينا أن المصلحة تقتضي ذلك!.
فالجواب سيأتي بعد قليل, لكن هنا سؤال: لماذا يضعون قاعدة شرعية في غير محلها؟. أليس هذا تلاعباً بالقواعد الشرعية ليلتبس بعضها ببعض.
الجواب: هو هذا, وإلى الله المشتكى.
الشبهة الثالثة عشر
قولهم: دخولنا "الانتخابات" للضرورة
والجواب:
الضرورة مشتقة من الضَّرَر, وفي الاصطلاح: قال الزركشي: "الضرورة بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب", وهو من المنثور في القواعد.
وعرّفها غيره بقوله: "هي أن تطرأ على الإنسان حالة من المشقة والخطر والشدّة, بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعِرْض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها".(1/51)
وينبغي عندئذٍ -أو يباح- ارتكاب محرم, أو ترك واجب, أو تأخيره عن وقته, دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه, ضمن قيود شرعية".
وهذا تعريف جامع لا مزيد عليه.
قلت: هناك فرق بين الضرورة والمصلحة, حيث أن المصلحة أعم, والضرورة أخص, فالضرورة تكون عند حالة شديدة وخشية ضرر, كما رأيت.
القرآن يبين الضرورة:
قال الله تعالى: (حُرِّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبح على النُّصُب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ (المائدة.
فهذه المحرمات اُبيح أكلها عند اشتداد جوع الذي يخشى على نفسه الهلاك, وقد جعل الله شريعته قائمة على اليُسْر, ورفع الحرج في مجالات كثيرة, لا يتسع الوقت لذكرها.
فما هي الضرورة التي جعلت أصحاب "الانتخابات" يختارون هذا الطريق؟.
هم يقولون: نحن مضطرون, وإن لم نفعل فسيسحبونا بلحانا, ويمنعونا من إقامة الإسلام, حتى من الصلاة في المساجد, وتعليم القرآن, وعدم السماح بالخطب والمحاضرات.. إلى آخر ما يقولونه.
ومن جهة ثانية: أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر, فهل سيزول الضرر الذي بالمسلمين, بدخولكم في المجالس البرلمانية؟
فإن قالوا: نعم, فهذا غير صحيح, وخذ مثالاً على ذلك, وهو: أن الرئيس/ أنور السادات في آخر حكمه اعتقل عشرات الآلاف من الإسلاميين, وكان يوجد في مجلس الشعب المصري كتلة برلمانية لهم, فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً, وكذلك في السودان عندما اعتقل النميري الإسلاميين, وكان من الإسلاميين مستشارون له في أعلى قمة السلطة, فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً, إذ أن أحوال المسلمين هي هي, ولم يحصل إلا زيادة شر في أماكن, وقلة شر في أماكن أخرى.(1/52)
إذاً هذا الأمر الأول يبطل الاحتجاج بأنها ضرورة, وذلك أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر, وهنا لم يحصل, وها هي ستون سنةً قد مضت على هذه الأقوال, ونحن نجد الأمور كل يوم تزداد سوءاً, حتى في سلوك القائلين بذلك.
والظاهر أن إخواننا سامحهم الله, وقفوا في عدة خنادق, فإن أحيط بهم في خندق, صاحوا من آخر, فأول ذلك أنها شورى, ثم مصلحة مرسلة, ثم أخف الضررين, ثم ضرورة وإكراه.
فإن لم ينفع هذا كله, فالجواب منهم: ماذا تريدون أن نفعل؟!. أنترك الأمور لأعداء الإسلام؟!. واستطردوا من الأمثلة العقلية غير الصحيحة, وإلا فالعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح, كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ومن لم تنفعه الأدلة, ولم ينفعه واقع المسلمين في هذه المجالس النيابية منذ أكثر من نصف قرن, وهم ينحدرون فيها إلى الأسفل, فلا يبالي بالأدلة المذكورة هنا, إلا أن يشاء الله عز وجل, وإلى الله المشتكى.
وأما قولهم: "وإن لم نفعل فسيسحبونا بلحانا..." إلخ.
فجوابه:
من المعلوم أن الله جعل العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل, وقد يسلّط الله أهل الباطل على أهل الحق.
فالواجب على أهل الحق الصبر, ولا يجوز لهم أن يسلكوا طرقاً غير مشروعة, من أجل مقاومة الأعداء.
الشبهة الرابعة عشر
قولهم: نحن ندخل في "الانتخابات"
ونرتكب أخف الضررين
يقولون: نحن نشارك في "الانتخابات" وهي شرٌّ, ولكننا نرتكب أخف الضررين, لتحقيق مصلحة كبرى!.
فنقول:
أخف الضررين عندكم المشاركة في المجالس النيابية. وإليك بيان هذا الضرر الخفيف عندهم:
سؤال1: من الحاكم في مجلس النواب: الله أم البشر؟.
الجواب: البشر.
سؤال2: إذا كان حكم البشر هو السائد في المجالس النيابية, فهل هذا شرك أكبر أم أصغر؟.
الجواب: شرك أكبر.
سؤال3: ولماذا كان شركاً أكبر؟.
الجواب: لأن حكم الله معطّل, وهناك من لم يقرّ بحاكمية الله عز وجل, وإنما الحكم للأغلبية.(1/53)
وقد تقدم أن المجالس البرلمانية الحاكم فيها هو البشر, بل يُردّ حكم الله ويُعترض عليه, فهذا شرك أكبر بلا شك. وإذا كان شركاً تصادر فيه شريعة الله, فهل بقي ذنب أكبر من الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر الذي يقول الله تعالى فيه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً( النساء.
فلما كان الشرك -وهو أعظم الذنوب- لا يغفر الله لصاحبه إذا مات عليه, والرسول( سُئل: أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نِدّاً وهو خلقك)) قيل: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك..)) الحديث متفق عليه من حديث عبدالله بن مسعود.
فاتضح لنا أنهم في بعض الحالات قد يفعلون شركاً أكبر, وليس هو بأخف الضررين, وقد قال الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم( فهذا حكم الله فيمن والى اليهود والنصارى.
وقال الله: (وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذاً مثلهم( النساء.
لم يقل سبحانه: ما عليكم من شيء, ولم يقل: إلا الأحزاب الإسلامية فإن ذلك مشروع لهم.
ونقول لهم: هل سألوا العلماء عن الشر الذي ارتكبوه؟ وهل وضّحوا لهم حقيقة هذا العمل؟ أم أنهم يغالطون العلماء؟.
إذاً هذه القاعدة استعملت في غير محلها.
صحيح أنه يُرْتَكَب بعض الشر لتحقيق مصلحة كبرى, كما حصل أن الصحابة نظروا إلى عانة أولاد اليهود ـ يهود بني قريضة ـ من أجل أن يعرفوا من كان قد أنبت فيُقتَل ومن لم يُنبِت فلا يُقتل.. وما أشبه ذلك. لكن اتضح لنا أن القاعدة لم تطبق على حقيقتها.
وهذه مصيبة الأحزاب الإسلامية, أنهم يطبقون الأشياء على أهوائهم, فيُحْرَمُون من الاتِّباع, والتوفيق من الله.(1/54)
ثم ما هي المصلحة الكبرى على حد زعمهم التي حققوها؟ فقد عرفنا الشر الذي وقعوا فيه, فنريد أن نعرف المصلحة لأنهم قالوا: سيحققون مصلحة كبرى.
الجواب: أن الواقع من مدة ستين عاماً, يثبت لنا أنهم ما حققوا مصلحةً كبرى للإسلام كما زعموا.
أما قولهم: إنهم دخلوا في "الانتخابات", وارتكبوا أخف الضررين, من أجل أن يقيموا دولة الإسلام, ويحكموا بالشريعة الإسلامية, وذلك على حد زعمهم.
فهل تقام الشريعة مع أن المجتمع ليس عنده أهلية لذلك؟.
جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما, في قصة هرقل عند أن أخبره أبو سفيان عن أوصاف الرسول( عن طريق عظيم بُصْرى, فلما قرأ هرقل كتاب رسول الله( قال ـ أي هرقل ـ : "يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد, وأن يثبت ملككم, فتبايعوا هذا النبي؟". فحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب, فوجدوها قد غلقت, فدعاهم هرقل, وقال: "أنا أريد أن أعرف شدتكم على دينكم, فسجدوا له", الحديث في (الصحيحين).
والشاهد في الحديث أن هرقل مع كونه ملكاً, لم يستطع أن يرغم قومه على الدخول في الإسلام, باعتبار أنه ملك وبيده السلطة, وهكذا النجاشي أسلم, ونزلت فيه آيات, منها قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق...( المائدة. كما في (الصحيح المسند من أسباب النزول) لشيخنا/ مقبل بن هادي الوادعي يحفظه الله, ولمّا مات ما وُجِد من يُصلي عليه, وإنما صلى عليه رسول الله(, والنجاشي ملك النصارى في الحبشة.
فليس من صعد على الكرسي أقام الإسلام ولابد, هذه قضية فيها مجازفة وعدم فقهٍ للواقع.
فلا بد من إصلاح المجتمع قبل الوصول إلى الحكم.
وقد قيل للأحزاب الإسلامية: تعلموا العلوم الشرعية, فما وُفِّقوا لهذا الخير.
وقيل لهم: علّموا الناس الدين, ولا تعلّموهم الأطماع, فما وُفِّقوا لهذا الخير.(1/55)
لقد رأينا كثيراً من الإسلاميين عند أن تمكنوا من بعض الوزارات, يلتزمون بالنظام والقانون الوضعي أشد من غيرهم, وإذا قيل لهم: هل أمر الله بهذا؟ قالوا: "هذا النظام"!.
فأين تغييركم للفساد الذي أرهقتم أسماع الناس به, واستنزفتم به أموالهم, وصرفتموهم عما هو أنفع من الاعتصام بنشر السنة والتحذير من البدع؟ (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(.
الشبهة الخامسة عشر
قولهم: قد أفتى بشرعية "الانتخابات" علماء أفاضل
قد يقول قائل: قد أفتى بشرعية "الانتخابات" علماء أفاضل من أهل السنة, وليسوا حزبيين, كمحدّث العصر فضيلة الشخي الألباني, وسماحة المفتي العام الشيخ/ عبدالعزيز ابن باز, رحمهما الله تعالى, وفضيلة الشيخ العلامة/ ابن عثيمين حفظه الله, فهل ندخل هؤلاء فيما سبق؟.
الجواب:
كيف ندخلهم فيما سبق, وهؤلاء العلماء الأفاضل هم علماؤنا وقادتنا وقادة هذه الدعوة المباركة, وهم حماة الإسلام, وما تعلمنا إلا على أيديهم, ومعاذ الله أن يكونوا حزبيين, بل هم المحذّرون من الحزبية, وما سلمنا من الحزبية إلا بتوفيق الله ثم بنصائحهم, ونصائح أمثالهم كالشيخ الجليل المُحدِّث/ مقبل بن هادي الوادعي يحفظه الله تعالى. وكتبهم وأشرطتهم طافحة بالتحذير من الحزبيات.
فإذا كانوا يحرمون الحزبية, فليس لأصحاب الحزبية فيهم نصيب لتبرير ما يريدون أن يمضوه ويخدعوا به المسلمين, وبالذات الشباب المسلم, المتمسك بدينه, الراضي بالحق, السائر عليه.
وأما بالنسبة لفتوى هؤلاء العلماء فهي مقيدة بضوابط شرعية, ومنها: تحقيق المصلحة الكبرى, أو دفع المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى, مع بقية ضوابط هذه القاعدة, ولكن دعاة "الانتخابات" لم يراعوا هذه الضوابط.
تنبيه:
لماذا نرى الحزبيين لا يشيدون بفتاوى علمائهم الذين يفتون بشرعية "الانتخابات", وإنما يشيدون بفتاوى علماء أهل السنة كالألباني وابن باز وابن عثيمين حفظهم الله؟(1/56)
الجواب: إن علماء السلطة والأحزاب في بلاد المسلمين أحرقتهم الحزبية, فإنها مرض فتّاك, فصار الناس غير مقتنعين بفتاواهم, لأنهم يعرفون أنهم يُلبّسون عليهم في مسائل من الدين, فرأوا أن يكون علماء السنة في واجهة هذه الحزبية, وهكذا من تلبيساتهم يستخدمون فتاوى علماء السنة لصالحهم, متى اضطروا إلى ذلك, ومتى استغنوا عنهم قالوا: هم جهّال لا يفقهون الواقع, وكالُوا لهم التهم.
وعلى سبيل المثال: عند أن أفتى الوالد/ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى في قضية الصلح مع اليهود بشروط وضوابط, قامت قيامتهم, ولم تقعد, ومن يستطيع أن يسكتهم؟ ومن يستطيع أن يقنعهم؟ وصار كل واحد من هؤلاء يصدر الفتوى.. ولم يبق الأمر عند الكبار فقط. وكأن ابن باز رحمه الله رجل لا خبرة عنده, ولا علم عنده, بل صارت خطب الجمعة بهذا الصدد حنّانة رنّانة, والحمد لله أن علماء "السنة والجماعة" يحسنون الظن بالناس ويصبرون. والله يعلم المفسد من المصلح.
وأيضاً يلزمهم إذا كانوا يعتمدون على فتوى الألباني وابن باز وابن عثيمين أن يقبلوا فتاواهم في تحريم الحزبية, وتحريم الموالد, والذبح لغير الله, والتقليد لليهود والنصارى.. وما أشبه ذلك من المحرمات التي يفعلونها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
شروط الأخذ بقاعدة:
"ارتكاب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى"
1- أن تكون المصلحة المرجوة حقيقية لا وهمية, فلا نرتكب المفسدة المحققة, لجلب مصلحة وهمية, ولو كانت "النظم الديموقراطية" خادمة للإسلام وشريعته خدمة حقيقية, لنجحت في مصر أو الشام أو الجزائر أو الباكستان أو تركيا أو أي بلد في الدنيا من ستين عاماً.
2- أن تكن المصلحة المرجوة أكبر من المفسدة المرتكبة, بفهم العلماء الراسخين في العلم, لا بفهم المولعين بالحزبية أو الحركيين أو المنظِّرين للأحزاب.(1/57)
ومن عَلِم أن من مفاسد "الديموقراطية" الكثيرة: نسخ شريعة الإسلام, والاستغناء عن الرسل عليهم السلام, لأن الحلال والحرام يدرك بما تراه الأغلبية, لا بما تخبر به الرسل عليهم السلام.
ومن عَلِم أن من مفاسد "الديموقراطية": ضياع مبدأ الولاء والبراء من أجل الدين, وتمييع الوضوح العقائدي, لكسب القلوب, ومن ثَمّ الأصوات, ومن ثَم المقاعد البرلمانية, من عَلِم هذا؛ فما كان له أن يقول: إن دخول هذه المواضع أخف الضررين, بل العكس هو الصواب, ولو سلّمنا بالتساوي هنا, فدرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.
3- ألا يكون هناك سبيل آخر لجلب هذه المصلحة, إلا بارتكاب هذه المفسدة؟.
وهنا لو قلنا: بذلك فقد حكمنا على نهج محمد( بأنه غير صالح لإقامة حكم الله في الأرض مرة أخرى.
أما أهل الحق فيعلمون أن سبيل"الديموقراطية والتعددية الحزبية" ما تزيد الأمة إلا وهناً, ولذا حرص عليها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم, وقاموا بحراسة هذا الوثن طيلة هذا الوقت.. والله من ورائهم محيط.
بعد أن كتبت ما سبق, وقفت على قصيدة لأحد العلماء الذين كثر دفاعهم عن بعض المناهج الحزبية, بيّن فيها كاتبها -زاده الله بصيرةً- بعض مفاسد "الديموقراطية والانتخابات" والبُعد عن المنهج السماوي في تربية الأمم, ووافقه على ذلك جمعٌ من كبار الدعاة لذاك المنهج. وهذه هي القصيدة:
فتنة "الدُّهَيْمَاء" في العالم الإسلامي
(الفساد والديموقراطية)
*محمد الصادق مغلِّس, مدرس بجامعة الإيمان,
عضو مجلس النواب السابق:
خطابي ليس بدعاً في الخطابِي إلى الأحبابِ طُلاّب الصوابِ
بذلتُ القولَ والرحمنُ حسبي رجاءَ النفعِ في يومِ الحسابي
كذلك أرتجي بالقولِ رشداً يُزيلُ يقينُهُ وهمَ السرابِ
غَزَتْنا فتنةُ "الدهماءِ" غزواً كما قالَ النبيُّ بلا ارتيابِ
تصيبُ المسلمينَ بكلِّ أرضٍ وما يُغني مُصابٌ عن مُصابِ
فَحامَت في حِمَى الإسلام حتى تَشَعَّبَ جمعُنا أيّ انشِعابِ(1/58)
وأضْحَى الدِّيْنُ فُسْطاطَين: هذا على صدقٍ وهذا في كِذَابِ
صَحَافاتٌ سَخَافاتٌ خَرابٌ وتِلفازٌ لإنجازِ الخرابِ
صُحُونٌ في حُصُونٍ جارِفاتٌ جُذورَ الخيرِ مِنْ عُمْقِ التُّرابِ
وتمْيِيْعٌ وتضييعٌ وقبح ونَشْرٌ للرّذيلةِ في الشّبابِ
وتجويعٌ وتطبيعٌ وفتحٌ لأمريكا لِتُدْخُلَ كلَّ بابِ
مُراباةٌ وعَوْلَمَةٌ وَنَزْعٌ لأيّةِ شَوْكَةٍ ولأيّ نَابِ
ولِلنِّسوانِ شَهْرٌ كُلَّ شَهْرٍ مُساواةٌ ونَبْذٌ لِلْكِتَابِ
حَمَلْنَا بَعْدَهُمْ فِكْرَ التَّساوي فَجَاءَتْنا الجَنَادِرُ بالعِقَابِ
وكَمْ مِنْ مُنْكَرٍ قَد صارَ عُرْفَاً بِتَقْرِيْبِ الخِطابِ مِنَ الخِطابِ
وألوانُ الخَلاعَةِ ألفُ لونٍ بِلا ردعٍ.. وَعَزْفٍ كالشّرابِ
وَعُرْسٌ كلَّ يومٍ وانتِخابٌ تعيشُ الدهرَ أعراسُ انتِخَابِ
وللعُمّالِ تَرشِيْحٌ وفَرْزٌ وللطُّلابِ من أجل الطِّلابِ
وللفَنَّان والحِيْطانِ فَوزٌ نَقَاباتٌ تُكالُ بِلا حِسابِ
يعيش الناخبون على ظُنونٍ وقانونِ لتمليكِ السَّحابِ
وكَمْ أفنَوا جُهودا أو نُقودا وكم ساروا ذَهابا في إيابِ
فَلم يجنوا سوى همٍ طويلٍ وأوهامٍ بِتَبْيِيْضِ الغُرابِ
ولو عملوا قليلاً مِنْ كَثِيرٍ على نورِ لَعادُوا بالجوابِ
ولِلتزوير فَنٌ لا يُبارى وقد يعلوا الرُّوَيْبِضُ كالشّهابِ
ومَنْ لم يفعلِ التزوير مَكْراً أعادَ الفَوز قهرا بانقلابِ
وأَحلامٌ التداولِ في انتخابٍ لأحكام التحايُلِ في انتخابِ
وإنّا في الحديث لفي زمانٍ يُقامُ الملكُ جَبْراً بالحِرَابِ
وقد جزمَ الرسولُ فلا مجالٌ لتنظيرٍ وأحلامٍ كذابِ
سَلُوا مصراً, سلوا الإخوانَ فيها سلوا الأردنَّ في العملِ النيابي
سَلُوا الأتْراكَ واليَمَنَ المُعَنَّى وما جنتِ الجزائرُ مِنْ مُصابِ
أما تكفِي تجاربُهم دُرُوْساً ليرتدعَ المُؤَمِّلُ في السَّرابِ
وزدْ يا صاح؛ فـ"المِقْراطُ" نَهْجٌ يُناقِض غَيَّهُ نَهْجُ الكِتابِ(1/59)
"دِمُقْرَاطِيَّةٌ" وردت شَعَاراً مُزَيَنَةً مُزَيَفَةً الثِّيابِ
تُخادعُ كلَّ قَوْمِ كلَّ يومٍ بألفاظٍ مُنَمَّقَةٍ عِذَابِ
يُساوَى الوغدُ والمُرْتَدُّ فيها بأكبرِ عالمٍ بَلْ بالصّحابي
بلْ التدّليلُ بالقرآنِ رأيٌ يُسَاوِي أيَّ رأيٍ في الخِطَابِ
يَقُوْلُونَ الشريعةُ نَفْتدِيْها ويُثْخِنُها الذِّئابُ بِألف نابِ
وفي التَّصْوِيْتِ حسمٌ واختيارٌ وكمْ حسمُوا بإسقاط الصوابِ
فَهلْ قدْ أصبحِ "المِقْرَاطُ" ربّاً وفي القاعاتِ يُعْبَدُ بالنصابِ؟
وهل هو سافِرٌ عِند النصارى؟ وعندَ المسلمينَ مَعَ الحِجَابِ؟
وبالشُّورى يُشَبِّهُهُ أناس وأين التبر مِنْ أدنى الترابِ
يُجاري نَهْجَهُ نَفَرٌ نَفِيرٌ مجاراةً لِتَخْفِيفِ الخرابِ
فطَوْراً قَدَّرُوا في الصَمتِ عُذراً وطَوْراً في مُسايَرَةِ الرِّكابِ
وطوْراً يُقْحَمُ الإرهابُ قَسْراً ولا يخلو الجهادُ مِنَ المُصابِ
وتمضي المُنْكَراتُ بلا أَنَاةٍ وتُسْرِع بالجميعِ إلى تَبَابِ
ونهيُ المُنْكَراتُ بهِ نجاةٌ ولكن المُجَارِي كمْ يُحَابي
ونعصِي كي نُطِيْعَ ولا فلاحٌ لمن شابَ الوسيلةَ بالشِّيَابِ
وما الطاعاتُ تُطلبُ بالمعاصي ولا الغاياتُ تُكسبُ بالمُعَابِ
وإنَّ التارِكِين لمنكراتٍ بزعم الجِدِّ في نيلِ اكتسابِ
كمُصْطادِ الجَرادةِ بعدَ جُهدٍ وعشرٌ قد هربنَ مِنَ الجِرابِ
ومَنْ رَكِبَ السَّفِينَ بلا احتسابٍ سيغرق في السفين مع الصحابِ
ومن للمُدبِرِينَ يَكُنْ جَلِيساً يكُنْ أيضاً شَرِيكاً في العذابِ
وأنت بمنطقِ "المِقْرَاطِ" حرٌ فكيف تلام من اجل الغيابِ؟
ولو دخلَ الفِرَنْجَةُ جُحْرَ ضبٍ فهل تلج الجحور مع الضبابِ؟
ولنْ ترضى الذيولُ وإن حرصنا فأذيالُ الذئابِ مِنَ الذِّئابِ
وهلْ ترضى اليهودُ أو النَّصارى وقد حَكَمَ الكِتابُ بلا ارتيابِ
وللإسلامِ ربٌّ لَنْ تَضِيْعُوا وإدمانُ التُنازُل شرّ غابِ
وحسْبُ العاجِزين عنِ التناهي إذا حجبوا التهاني عن خرابِ(1/60)
فقُل للحائرينَ: كفَى اغْتِراباً فلَن ترِثوا الخِلافة باغترابِ
وخَلْطُ الدِّين بالطاغوتِ نُكرٌ وإن طَرَق المُؤَمِّلُ كُلَّ بابِ
ومَنْ رام الحلاوةَ لم ينلْها إذا خَلَطَ الحلاوة بالتُّرابِ
وهذا القولُ قولٌ مِنْ خَبِيرٍ تَشَبَّعَ مِنْ سرابٍ وانتخابِ
وهذي الفتْنةُ الكُبرى بلاءٌ فكُنْ يا صاحِ مِنْ أهلِ الصوابِ
وما قَصْدُ القَصِيْدةِ لَومَ قَومٍ ولكنْ دَعْوةٌ نحو الإيابِ
أقَدِّمُها عموماً لا خصوصاً لِمَنْ شَرُفُوا بميراثِ الكِتابِ
لكُلِّ المُسْلِمِينَ بِكُلِّ أرضٍ وأرجو اللهَ حُسنْاً في الثوابِ
تعليق على القصيدة:
ولي على هذه القصيدة بعض التعليقات:
1- أننا نحمد الله عز وجل على توفيقه لنا, أن بصّرنا بالحق, وثبتنا عليه, مع الهجمة الشرسة المسعورة -التي كانت ولا زالت- ضدنا.
2- أن من لزم منهج السلف لا يتناقض ولا يتخبط, وقد عافاه الله مما ابتلى به كثيرا من خلقه.
3- أن الأمور تؤول إلى القابضين على منهج السلف, العاضين عليه بالنواجذ, وإن كان عددهم قليلا, فكيف وأنصار هذا الطريق القويم قد ملأوا السهل والجبل -زادهم الله بصيرة وثباتا وعافية-.
4- لا نغتر بالكثرة, ولا نستوحش من قلة السالكين, وما كان لله يقوم ويدوم.
5- أن المناهج المخالفة لمنهج السلف, تحمل في طياتها أسباب انهيارها ونقضها.
6- أن المنهج السلفي هو الذي يحافظ على عقيدة الأمة وأموالها, وطاقات أفرادها وأوقاتهم, وغير ذلك يبعثر الجهود, ويبدد الطاقات.
7- أن العقل إذا خالف النقل زل وضل, وأن العصمة في لزوم الأثر.
8- عسى أن يستفيد من مثل هذه القصيدة من كان يستدل بأنه لا يسير إلا على فتوى أهل العلم, وأنه في حزب العلماء, فماذا سيقول بعد فتوى جمع من العلماء بمثل ما ذهب إليه السلفيون في هذا الباب؟ أليست هذه خبرة المجرِّبين؟ أم ماذا سيقول فيهم؟.(1/61)
9- أسجِّل شكري للباحثين عن الحق الواقفين عنده –إذا ظهرت لهم دلائله- وأذكِّر بأن هناك أمورا كثيرة لا زالت مخالفة للدعوة السلفية العتيقة, فيجب النظر فيها, وإعطاؤها حقها من البحث العلمي القائم على أصول أثرية صحيحة, ولزوم الصواب, والدعوة إليه.
10- أرجو أن يقدِّر هؤلاء العلماء موقف إخوانهم السلفيين, وأنهم قالوا ما قالوا نصرة للحق, الذي ظهر لهم, وغاب عن غيرهم, لا كما يتهمهم الغارقون في حزبيتهم.
نصائح
النصيحة الأولى
احذروا الدفاع عن الباطل
بما أنه اتضح لنا جلياً أن "الانتخابات" محرّمة, فإن من المفاسد بقاء أي مسلم أو أي جماعة في مقام الدفاع عنها, وبالذات في حق من علم أو سمع بتحريمها, فقد قال الله مخاطباً نبيه( : (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً( النساء.
فربنا جل شأنه يذكّر نبيه( أنه صاحب حق, متبع له وحاكم به, ومتحاكم إليه, وأنه ليس بحاجة أبداً إلى المدافعة عن صاحب خيانة, ويدعوه إلى الاستغفار مما يمكن أن يكون قد حصل منه(, ثم يوجه الله التحذير مرة ثانية لنبيه(, فيقول: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إنّ الله لا يحب من كان خواناً أثيماً( النساء.
ولا تغفل عن العقوبة هنا, فربنا يقول: (إنّ الله لا يحب من كان خواناً أثيماً(.
والآيات في ذكر فضائح من لا يخشون الله واضحة, كقوله سبحانه وتعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يُبيّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً( النساء.
فأين المفر؟ وأين الذهاب؟ وإلى من يلجأ مَنْ أحاط الله به علماً وقدرة وسمعاً وبصراً؟, فهو في نظر الله وفي قبضته وتحت سيطرته وقهره,. وقد صار خوفه من الناس لا من الله.(1/62)
ومهما يمكن أن يقدّمه المدافع والمجادل عن الباطل وصاحبه, فإنه لا يغني عن صاحبه شيئا يوم القيامة, قال الله سبحانه وتعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمّن يكون عليهم وكيلاً( النساء.
وهل الخير كله إلا يوم القيامة؟.
وهل الشر كله إلا يوم القيامة؟.
يوم لا ولي ولا نصير ولا شفيع ولا مجير ولا مغيث ولا مدافع إلا الله (وعَنَت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً (طه.
وقد جاء عند أبي داود وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله(: ((من أعان على خصومة بظلم, لم يزل في سخط الله حتى ينزِع)).
وقال( : ((إن العبد ليتكلّم بالكلمة, ما يتبين فيها, يزِلُّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإذا كانت الكلمة الواحدة من الشر تهوي بصاحبها في جهنم هذه المسافة الطويلة! فما بالك بمن هذا حاله ليله ونهاره؟!!
أخي المسلم:
لا تأمن العواقب ما دمت على هذه الأخطاء, فإنك ما تدري إلا وأشد أعدائك هو أخوك المسلم, الذي لم يدخل في هذه الأمراض, وأنت تعرف حقوق المسلم, وما أخطر الوقوع في مخالفتها, فقد قال( : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) متفق عليه من حديث ابن مسعود. وقال( ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة. فالشر الذي يجلبه المحتقر للمسلم يفوق كثيراً من الشرور, ويكفيه مصيبة هذا الفعل, فقد حمّل نفسه ما لا يطيق.
حَذَارِِ من التلاعب بحق المسلمين, فقد قال(: ((من أكل برجل مسلم أكلة أطعمه الله مثلها من نار جهنم, ومن اكتسب برجل مسلم ثوباً, ألبسه الله مثله يوم القيامة من نار جهنم)) رواه الحاكم وأبو داود وأحمد عن المستورد بن شداد رضي الله عنه.
فما أخطر هذا العذاب على من جعل المسلم وسيلته للوصول إلى مآربه وأهدافه!!.
حسبك يا أخي المسلم أن تكون ناصحاً للمسلمين, وعليك بنفسك.(1/63)
والله المستعان.
النصيحة الثانية
احذروا اعتقاد القول قبل الدليل
اعلم أيها المسلم أن من الآفات في الدعوة إلى الله عز وجل؛ اعتقاد القول قبل معرفة دليله, ولأن هذا فيه تقوّلٌ على الله عز وجل بغير علم, قال تعال: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً( الإسراء, وقال سبحانه وتعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم( النحل.
وقد جعل الله التقوّل عليه بدون علمه من أكبر الكبائر, قال تعالى: (قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون( الأعراف.
فانظر إلى هذا الوعيد الشديد, لمن قال: هذا حلال وهذا حرام, ولم يستند إلى أدلة شرعية.
وهذا النهي موجّه إلينا جميعاً: للعالم والجاهل والحاكم والمحكوم, وإذا اجتهد المسلم في قضية لم يبلغه حكمها الشرعي, أو لم تكن هذه القضية من الأمور الشرعية الجلية؛ فلا يُشْرَع له أن يقول: هذا حكم الله, بل يقول: هذا حكمي واجتهادي.
فقد روى مسلم والأربعة والدارمي من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله ( قال لأمير من أمرائه -وهو يوصيه-: ((...وإن حاصرت حِصْناً, فأرادوا أن ينزلوا على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله, ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله, أم لا)).(1/64)
فالأخوة الذين يفتون بشرعية "الانتخابات" يا ليتهم قالوا: اجتهد بعض العلماء, ونحن اجتهدنا, فقد نكون مصيبين, وقد نكون مخطئين, وقد خالفنا غيرنا, ولهم مكانة علمية... إلى آخر هذا الكلام. ولكن يصدرون الأحكام بأن من لم يشارك في "الانتخابات" فهو "آثم أو منافق أو عميل أو جاسوس أو من المخابرات الأمريكية" أو غير ذلك, مثل قولهم إن "الانتخابات فريضة شرعية واجبة".
وكل هذه الأحكام صادرة عن طريق الهوى, وكيف لا يكون هوىً, وهو إيجاب على الناس أن يقبلوا نظاماً طاغوتيا, قد عُرِفت أضراره للقاصي والداني؟
ولم يستطيعوا أن يأتوا بدليل واحد ينص على جواز المسألة. والأدلة في ذلك قاطعة بالتحريم, وإنما يستندون إلى آيات لا تدل على ما يدعونه, وقواعد فقهية وأصولية يضعونها في غير محلها.
النصيحة الثالثة
خذوا العلم من أهله
اعلم أخي المسلم حفظك الله: أنه لا يستقيم دينك إلا بتلقي العلم الشرعي من أهله ـ وهم علماء السنة والجماعة ـ لأنهم يحرصون على التمسك "بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح" في مجال الاعتقاد والسياسة والمنهج والدعوة إلى الله والمعاملة مع الأعداء من يهود ونصارى وأذنابهم.
وقد قال النبي(: ((البركة مع أكابركم)) رواه ابن حبان وأبو نعيم والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس, وجاء من حديث غيره.
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم, فإذا أخذوا العلم عن صغارهم وشرارهم هلكوا".
وأقوال أهل العلم كثيرة في أهمية أخذ العلم من أهله. فقد ذكر مسلم في مقدمة (صحيحه) بسند صحيح عن محمد ابن سيرين أنه قال: " إن هذا العلم دين, فانظروا عمّن تأخذون دينكم".
وجاء عن ابن عمر أنه قال: "دينَك دينَك, دمك ولحمك, فخذ عن الذين استقاموا, ولا تأخذ عن الذي مالوا".
وقال الإمام مالك: "أوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل, تركنا ما علمنا من سنة رسول الله( لقوله؟!".(1/65)
وقال بعض العلماء: "إني لأسمع النكتة –أي الفائدة- من القوم, فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين هما كتاب الله وسنة رسوله( .
وقال الإمام أحمد: "لا تقلّدني, ولا تقلّد الأوزاعي ولا الثوري, وخذ من حيث أخذوا".
وقال الإمام الشافعي: "أجمع المسلمون أن من استبانت له سنة رسول الله( لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس" ذكره ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله).
وقال ابن عبد البر في الكتاب المذكور: "أجمع الناس على أن المقلّد ليس معدوداً من أهل العلم, وأن العلم معرفة الحق بدليله".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله ـ يعني ابن عبد البر ـ والرسول( قد أطلعه الله عز وجل على هذه الاختلافات الواقعة في الأمة, فأرشدنا( إلى أن علاجها التمسك بسنته وسنة صحابته, فقال: ((.. من يَعِشْ منكم, فسيرى اختلافا كثيراً, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور)) رواه أبو داود وغيره من حديث العرباض رضي الله عنه.
فالرسول( لم يرشد أي مسلم إلى أن يدخل في أي حزب من الأحزاب المبتدعة, وإنما أرشد إلى الرجوع إلى هديه( وهدي أصحابه. وهذا لا يكون إلا عن طريق علماء يتمسكون بهديه ( وهدي صحابته, ويعرفون ذلك جيداً, ويسيرون عليه سيراً صحيحاً, لا ادعاءً كما هو حاصل من بعض من يدعون سلفية المنهج وعصرية المواجهة.
النصيحة الرابعة
لطلبة العلم(1/66)
ننصح طلبة العلم الشرعي أن يُقْبِلوا على الاستفادة من كتاب الله ومن سنة رسول الله( على منهج سلف الأمة ومن تبعهم, والتزود من هذا العلم النافع, إذ أن هذا الإقبال والتوجه العظيم يجعلهم بإذن الله ينتفعون بهذا العلم, ويصيرون ممن اقتدى بالسلف الصالح, وسار على نهجهم, ونال هذا الخير العظيم, ويُرجى لهم أن يكونوا في الآخرة مع من قال الله فيهم: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله( النساء.
وأنصحهم أيضاً بعدم كثرة الجدال والخصام مع المخالفين, إذ أن كثرة الجدال والخصام تُقسّي القلوب, وتُنافر الطباع وتذهب الحرمة التي شرعها الله للمؤمن.
وننصحهم أيضاً أن يكونوا على أخلاق عالية طيبة مع المخالف, فكما أننا لا نقبل ما عند المخالف من أخطاء قديماً وحديثاً, فكذلك نستعمل العدل والإنصاف معه, قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى(, وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً( النساء.
فنحن مع المخالف نطيع الله ولا نعصيه, نطبق حكم الله عليه ولا نتجاوز الحدود الشرعية مع المخالفين والمبتدعة, ونعتقد أن بيان الخطأ أو التحذير منه من قول القسط والشهادة به, ومن العدل الذي هو أقرب للتقوى.
ولا يجوز لأي مسلم وبالذات "العلماء وطلبة العلم" أن يخرجوا عن هذا, لأن الخروج عن ذلك يضرنا ضرراً بالغاً, لأننا نكون بذلك قد عصينا الله, ونخدم المخالف فيما هو عليه من المخالفة, فإن المخالف يستغل هذه المهاترات لنشر شبهاته, إلى جانب ما يحصل من ضياع للأوقات, وشغل للفكر, وكثرة الشرود في العبادة.(1/67)
وكل مسألة تُشْكِل عليك يا طالب العلم, فارجعها إلى العلماء, وإياك أن تسابق العلماء, ظناً منك أنك أعلم وأدرك لهذه القضايا, واحرص على الدعوة إلى الله.
بل إن أي شخص لا يتقيّد بهذا القيد المذكور -وهو رد المسائل إلى أهلها- يعد "شاذاً" وأخشى عليه من الفشل.
اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفعني وإخواني المسلمين جميعاً بهذه النصيحة, إنّه خير مسؤول.
كلمة شكر
وأخيراً أتقدم بالشكر, فأقول : شكر الله الأخوة الذين ساعدوني في هذا الكتاب وأخص بالذكر:
الأخ الفاضل أبو سليمان / محمد بن صالح بن علي النهمي, فزاده الله من فضله, وأصلح له ذريته, وزاده بصيرة وثباتاً, وأجزل له العطاء والمثوبة, جزاء نصرته لهذه الدعوة. وكذلك الأخ/ محمد الصغير بن قائد بن أحمد العبادلي المقطري. وبقية الأخوة الذين ساعدوني.
فأقول حفظهم الله تعالى, وشكر الله سعي الجميع, وسدد خطانا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخاتمة
بفضل ربنا جل شأنه تم هذا الكتاب. ومن خلاله يظهر للقارئ بجلاء حكم "الانتخابات" في الإسلام.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يوفّق الجميع للبحث عن الحق والعمل به, كما نسأله سبحانه أن يوفقنا لما يحب ويرضى, إنه على كل شيء قدير, وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين.
كان الانتهاء يوم السبت 9صفر/ سنة 1421هـ.
كتبه : أبو نصر / محمد بن عبد الله الإمام – اليمن – معبر.
الفهرس
مقدمة الشيخ/ أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي.........
مقدمة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب......... ......... ......... ........
المقدمة......... ......... ......... ......... ......... ......... ......... ......... ....
1- الديموقراطية......... ......... ......... ......... ......... ......... ....
تعريف الديموقراطية......... ......... ......... ......... ......... ......(1/68)
تطور الديموقراطية......... ......... ......... ......... ......... ........
النقاط التي تقوم عليها الديموقراطية......... ......... ......... ..
1- التشريع......... ......... ......... ......... ......... ........
2- القضاء......... ......... ......... ......... ......... .........
3- التنفيذ......... ......... ......... ......... ......... ..........
سؤال مهم......... ......... ......... ......... ......... ......... .........
الجواب عليه......... ......... ......... ......... ......... ......... .......
سؤال آخر......... ......... ......... ......... ......... ......... .........
الجواب......... ......... ......... ......... ......... ......... ......... ....
سؤال آخر......... ......... ......... ......... ......... ......... .........
الجواب......... ......... ......... ......... ......... ......... ......... ....
حكم القول بأن "الديموقراطية والانتخابات"
هي الشورى الإسلامية......... ......... ......... ......... .........
2- الانتخابات......... ......... ......... ......... ......... ......... .....
معنى الانتخابات......... ......... ......... ......... ......... .........
الفصل الأول: مفاسد الانتخابات النيابية......... ......... .........
المفسدة الأولى: الإشراك بالله......... ......... . ......... .........
المفسدة الثانية: تأليه الأغلبية......... ......... ......... ......... ..
المفسدة الثالثة: اتهام الشريعة بالنقص......... ......... ........
المفسدة الرابعة: تمييع الولاء والبراء......... ......... ......... ...
المفسدة الخامسة: الخضوع للدساتير العلمانية......... .......
المفسدة السادسة: إيهام المسلمين......... ......... ......... .....(1/69)
المفسدة السابعة: إعطاء الديموقراطية الصبغة الشرعية.....
المفسدة الثامنة:
الانتخابات تخدم اليهود والنصارى ... ........... ......... ....
المفسدة التاسعة:
مخالفة منهج الرسول( في كيفية مواجهة الأعداء.........
المفسدة العاشرة: الانتخابات وسيلة محرمة......... ......... .
المفسدة الحادية عشر: تمزيق وحدة المسلمين......... ........
المفسدة الثانية عشر: هدم الأخوة الإسلامية......... ........
المفسدة الثالثة عشر: التعصب الممقوت......... ......... ......
المفسدة الرابعة عشر: الانتصار للحزبية......... ......... ......
المفسدة الخامسة عشر: التزكية حسب المصلحة......... ...
المفسدة السادسة عشر:
حرص المرشح على إرضاء الناخبين......... ......... ......... ..
المفسدة السابعة عشر: التزوير والمغالطة......... ......... .....
المفسدة الثامنة عشر:
ضياع الوقت في الدعايات وغيرها......... ......... ......... ...
المفسدة التاسعة عشر:
صرف الأموال في غير موضعها الشرعي......... .........
المفسدة العشرون: المرشح يُفْتَن بالمال...........................
المفسدة الحادية والعشرون:
الاهتمام بالكم لا بالكيف.. ................................. .....
المفسدة الثانية والعشرون: الاهتمام بالوصول
إلى القمة دون النظر إلى الفساد العقدي................. ....
المفسدة الثالثة والعشرون:
قبول المرشح دون النظر إلى فساده العقدي......... .........
المفسدة الرابعة والعشرون:
قبول المرشح دون النظر إلى الشروط الشرعية.......... .....
تنبيه......... ......... ...................................... .... .....
المفسدة الخامسة والعشرون:
استخدام النصوص الشرعية في غير موضعها............. ....
المفسدة السادسة والعشرون: عدم مراعاة
الشروط الشرعية للشهادة......................................... ...(1/70)
تنبيه......... ......... ..... ......... ......... ..... ......... .........
المفسدة السابعة والعشرون: المساواة غير الشرعية..........
المفسدة الثامنة والعشرون: فتنة النساء في الانتخابات.....
المفسدة التاسعة والعشرون:
حث الناس على الحضور إلى أماكن الزور......... ...........
المفسدة الثلاثون: التعاون على الإثم والعدوان...............
المفسدة الواحدة والثلاثون: إهدار الجهود بدون فائدة...
الأدلة على اشتراط البطانة, ووجوبها................ ...
المفسدة الثانية والثلاثون: الوعود الخيالية.......................
المفسدة الثالثة والثلاثون:
تسمية الأمور بغير أسمائها................................... ..... ....
المفسدة الرابعة والثلاثون: التحالف المشبوه............ .......
الفصل الثاني: مفاسد الانتخابات الرئاسية.......... ..... .... .......
مقدمة.......... ..... .... .......... ..... .... .......... ..... .... ..........
الطريقة الأولى لانعقاد الإمامة الشرعية..... .... .......... .....
من هم أهل الحل والعقد في الاصطلاح الشرعي؟ ... ..
الشروط الشرعية التي يجب توافرها في أهل الحل والعقد
تنبيه..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..
العمل الذي يقوم به أهل الحل والعقد ..... .... .......... .....
ما هي البيعة ..... ..... ..... ..... .... ..... ..... ..... .... ..... ..... ..
ما تصح به البيعة ........ .... .... .... .... .... .... .... .... .... ....
ما ذا بعد البيعة على المبايع؟ ... ... ... ... ... ... ... .........
الطريقة الثانية في اختيار الخليفة ... .. ... .. ... .. ... .. ... ..
تنبيه..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... .............. .....
الطريقة الثالثة لانعقاد الرئاسة للرئيس
وهي محرمة في الشرع..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... ..... .....(1/71)
المفسدة الخامسة والثلاثون:
الخروج على الحاكم المسلم............................. .............
المفسدة السادسة والثلاثون:
رفض السمع والطاعة في المعروف للحاكم............. ......
المفسدة السابعة والثلاثون: فتح المجال للأقليات
اليهودية والنصرانية وغيرها للوصول إلى الحكم........ .....
المفسدة الثامنة والثلاثون:
عزل الحاكم بعد مرور مدة يحددها الدستور.... ............
المفسدة التاسعة والثلاثون: تولي المرأة للحكم...............
المفسدة الأربعون:
عدم وجود العلم النافع في حاكم البلاد......... ... ...........
المفسدة الواحدة والأربعون:
عدم اشتراط العدالة الشرعية................................... ......
المفسدة الثانية والأربعون: الموالاة لليهود والنصارى.. ....
المفسدة الثالثة والأربعون: فتنة التصوير................ .........
المفسدة الرابعة والأربعون:
الإكثار من مدح الديموقراطية............................. ..........
المفسدة الخامسة والأربعون:
محاربة الناس في أعمالهم وأرزاقهم...................... ... ......
الفصل الثالث: الشبهات والرد عليها............ ........... .... ....
الشبهة الأول: قولهم: النظام الديموقراطي
يوافق الإسلام في الجملة... ................ .............. ...... ......
الشبهة الثانية
قولهم إن الانتخابات كانت في صدر الإسلام....... ........
أما عن استشارة عبد الرحمن بن عوف للنساء .. ......
الشبهة الثالثة: قالوا:
يجوز الأخذ بجزئية من النظام الجاهلي.......................
الرد على هذه الشبهة من وجوه:......... ...... ....
الوجه الأول................... ........................
الوجه الثاني................................ ...... ....
الوجه الثالث........ ........ ........ ....... ...... .
الشبهة الرابعة:
قولهم في الانتخابات إنها مسألة اجتهادية...... ...... ...(1/72)
الشبهة الخامسة: قولهم: إن الانتخابات
مصلحة من المصالح المرسلة...................... ...... .........
الشبهة السادسة: قولهم: إن الانتخابات
والحزبية أشياء شكلية وليست جوهرية............. .......
الشبهة السابعة: قولهم: نحن دخلنا في
الانتخابات وما قصدنا إلا الخير................... ............
الشبهة الثامنة : قولهم: نحن دخلنا في
الانتخابات من أجل أن نقيم دولة الإسلام... ..... ..... ....
الشبهة التاسعة: قولهم:
إقامة الشريعة يكون بالتدرج................... ..... ..... ...... ...
الشبهة العاشرة: قولهم: عدلنا الدستور
من علماني إلى دستور إسلامي.................. ..... ..... ......
الشبهة الحادية عشر: قولهم:
نحن لا نريد أن نترك الساحة للأعداء........... ..... ..... .....
الشبهة الثانية عشر: قولهم نحن مكرهون
على دخول الانتخابات والبرلمانات............ ..... ..... .......
الشبهة الثالثة عشر: قولهم:
دخولنا الانتخابات للضرورة......... ..... ..... ....................
الشبهة الرابعة عشر: قولهم: نحن ندخل في
الانتخابات ونرتكب أخف الضررين.......... ..... ..... ......
الشبهة الخامسة عشر: قولهم: قد أفتى
بشرعية الانتخابات علماء أفاضل............................. ....
شروط الأخذ بقاعدة:
"ارتكاب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى" .................. ..........
قصيدة/ فتنة الدهيماء ........... ........... ......... . ........................
التعليق على القصيدة ........... ........... .......... ...... .......... نصائح............ ............ ............ ............ ..... ....... ........ ........
النصيحة الأولى: احذروا الدفاع عن الباطل. .................
النصيحة الثانية:
احذروا اعتقاد القول قبل الدليل.............. ....................(1/73)
النصيحة الثالثة: خذوا العلم من أهله......... ...................
النصيحة الرابعة: لطلبة العلم........... ........... ..................
كلمة شكر ...........................................................................
الخاتمة........... ........... ........... ........... ................... ......... .......
الفهرس........... ........... ........... .......................... ...................(1/74)