مع ابن القيم في كتابه
حادي الأرواح إلى بلاد الأرواح
للدكتور عبد الرحمن بله علي
الأستاذ بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية
ابن قيم الجوزية من أعلام الدعوة السلفية، وهى الدعوة التي اختط منهجها الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قال: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع"؛ فهي تدعو الناس إلى أن يأخذوا دينهم من نبعه الصافي: كتاب الله وسنة رسوله وصلى الله عليه وسلم، وتحارب بحزم البدع والخرافات وأنواع الضلالات التي ألمت بدين الله المتين؛ فحجبت جماله وجلاله؛ فنهض جماعة ممن نوَّر الله بصائرهم وأحيى ضمائرهم يدعون إلى الله على بصيرة، ويردون عن دينه القويم كل حدث مبتدع، ويعملون في صبر وحكمة.. على تحكيم شريعة الله في واقع المسلمين فالحكم والتشريع لله وحده..
نراهم يركزون على العقيدة بناءً وإصلاحاً؛ لأنها حين تصلح فكل إصلاح دونها يسير، وكل خير يأتي بعدها تباعاً؛ فالحاكم إذا صلحت عَقيدته حكم بما أنزل الله تعالى، والقاضي عَدَل في حكمه، والعامل أخلص في عمله، والجندي كان للدين والوطن ذراعاً واقيا، والمرأة قامت بواجبات الأسرة نحوها، والتاجر نصح في بيعه وشرائه، والطالب اجتهد في تحصيل العلم، والمعلم نشّأ طلابه على الدين والخلق المتين وهكذا دواليك.. فالعقيدة هي (الزر) الذي إذا ضغط عليه أضاءت جميع الثريات.
عاش ابن القيم بين عامي: 691-751هـ، وهي الفترة التي شهدت تفشي الجهل وشيوع الغفلة، وظهور البدع، وبُعدَ الحكام عن الدين، وهجوم التتار على المسلمين.. فكان جنود الدعوة السلفية هم كتيبة الصدام التي نصبت وجوهها؛ حملت سلاحها.. خرجت تجاهد في سبيل الله مرة بالسنان ومرات بالحجة والبرهان.(1/1)
وقد احتل ابن القيم مكانه في الصفوف الأمامية؛ ولا غرو في ذلك فقد عاصر قائد مسيرتها وحادي ركبها العلامة ابن تيمية (661- 728هـ) فتتلمذ عليه ونشأ بين عينيه؛ إلماما بأنواع المعارف، وتمسكاً بمكارم الأخلاق، وإسهاما في مجال المؤلفات؛ فقد ألف من الكتب والرسائل ما قلّ له النظير وكثر إليه المشير، ويمتاز في كتاباته بعمق المعاني وحسن الديباجة وإشراق العبارة ووضوح الدلالة؛ فتأتي كتابته كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ومن كتبه التي رزقت القبول والشهرة كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح".
وعنوانه يدل على فحواه؛ فهو يتحدث عن الجنة ويصفها وصفا يجعل القارئ كمن رآها؛ فهو فيها منعم مما يحرك قلبه، ويحدو روحه، ويشعل شوقه عملاً لها وطمعاً فيها، وسعياً حثيثاً إليها؛ فهي عروس مجلوة، ولكن دونها خرط القتاد، وحولها شم الجبال، لا يدفع مهرها ويحظى بقربها إلا فتى بعيدة همته حازمة إرادته، قد ألف السهر وهجر الشبع وأدمن إطالة الفكر.. عرف ربه فعظم في قلبه وصغر ما دونه في عينه؛ فالتزم طاعته فعلاً للمأمورات، واجتناباً للمنهيات، وتمسكاً بسُنة نبيه الكريم؛ دفاعا عنها ودعوة إليها.
فالكتاب في تجليته للجنة وحديثه المشوق عنها يثير العزائم ويبعث الهمم العليات إلى العيش الهنيء في تلك الغرفات، هو كما ذكر المؤلف في مقدمته:(1/2)
(بشارة أهل السنة بما أمدّ الله لهم في الجنة؛ فإنهم المستحقون للبشرى في الحياة الدنيا والآخرة، ونعم الله عليهم باطنة وظاهرة، وهم أولياء الرسول وحزبه، ومن خرج عن سنته فهم أعداؤه، وحربه لا تأخذهم في نصر سنته ملامة اللوام، ولا يتركون ما صحّ عنه لقول أحد من الأنام، والسنة أجل في صدورهم من أن يقدموا عليها رأيا فقهيا، أو بحثا جدليا، أو خيالاً صوفيا، أو تناقضا كلاميا، أو قياسيا فلسفيا، أو حكما سياسيا؛ فمن قدم عليها شيئا من ذلك فباب الصواب عليه مسدود، وهو عن طريق الرشاد مصدود..
وقد رتب المؤلف كتابه على سبعين بابا، ولكن نريد أن ندخل من خمسة أبواب - لست متفرقة -إلى تلك الحديقة الفيحاء ذات الأشجار المثمرة والظلال الوارفة والمياه العذبة.
وتلك الأبواب الخمسة التي سوف ندخل منها هي التي نظم فيها اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، هل هي جنة الخلد أم هي جنة في الأرض؟ ثم ساق حجج من قال بأنها جنة الخلد، ثم ساق حجج الطائفة التي قالت إنها في الأرض، ثم ردّ كل طائفة على الأخرى.
اختلف أهل العلم في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ..} الآية، هل هي جنة الخلد التي وعد الله عباده المؤمنين، أو هي عبارة عن بستان كان في الأرض؟ ذهب جماعة إلى الرأي الأول، وذهب آخرون إلى الرأي الثاني بينما توقف الفريق الثالث في البت برأي؛ لتعارض الأدلة وصعوبة التوفيق بينها في نظرهم.
ولقد ساق ابن القيم رحمه الله هنا النقاش الذي دار بين العلماء، ساقه قي استيعاب عجيب ومهارة فائقة، وإنك لتجد فيه إلى جانب اللذة الروحية المتعة الذهنية، كما أنك واجد فيه من المعالم الهادية ما يجعلك تسير على بينة ورشاد، فنتهيأ إلى ما نراه لا يسوقك إليه إلا سلطان الحق وسطوة البرهان وجلال الحجة.
رأي من قال إنها جنة الْخلد وحجته:(1/3)
1- القول بأنها جنة الخلد الذي وعد الله عباده المؤمنين يوم القيامة، هو الذي فطر الله عليه الناس صغيرهم وكبيرهم، ولم يخطر بقلوبهم سواه، وأكثرهم لا يعلم في ذلك نزاعا.
2- ورد في صحيح مسلم من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله تعالى الناس، ويقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة؛ فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة؛ فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم.." وذكر الحديث. قالوا: وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها، وفي الصحيحين حديث احتجاج آدم وموسى، وقول موسى لآدم: أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولو كانت في الأرض فهم قد خرجوا من بساتين فلم يخرجوا من الجنة. وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا.
3- قال الله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}؛ فهذا يدل على أن هبوطهم كان من الجنة إلى الأرض من وجهين:
أحدهما: لفظة {اهْبِطُوا}؛ فإنه نزول من علو إلى أسفل.
ثانيهما: قوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} عقب قوله: {اهْبِطُوا}؛ فدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض، ثم أكد ذلك بقوله في سورة الأعراف: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}، ولو كانت الجنة في الأرض لكانت حياتهم فيها قبل الإخراج وبعده.(1/4)
4- وصف الله تعالى جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}، وهذا لا يكون في الدنيا أصلا؛ فإن الرجل ولو كان في أطيب منازلها لا بد أن يعرض له شيء من ذلك، وقابل سبحانه بين الجوع والظمأ والعري والضحى؛ فإن الجوع ذل الباطن والعرى ذل الظاهر، والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر؛ فنفى عن أهلها ذل الظاهر والباطن وحر الباطن والظاهر، وهذا أحسن من المقابلة بين الجوع والعطش والعرى والضحى، وهذا شأن ساكن جنة الخلد.
5- لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}؛ فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية وأن ملكها يبلى.
6- جاءت (الجنة) معرفة باللام في جميع المواضع كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ونظائرها، ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنة الخلد التي وعدها الله عباده بالغيب؛ فقد صار هذا الاسم علماً عليها بالغلبة، كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها؛ فحيث ورد اسمها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين، وأما إن أريد بها جنة غيرها فإنها تجئ منكرة أو مقيدة بالإضافة، أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض؛ فالأول قوله تعالى: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ}، والثاني كقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ}، والثالث كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}.
7- ومما يدل على أن جنة آدم هي جنة المأوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعرى قال: "إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمارها، وعلمه صنعة كل شيء؛ فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغبر وتلك لا تتغير".(1/5)
8- ضمن الله سبحانه وتعالى لآدم إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها، كما روى المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}، قال: يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي ربّ ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى؛ فهو قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}.
فدل هذا على أن الجنة التي أخرج منها هي التي سيعود إليها يوم القيامة وهي جنة الخلد.
حجج الذين قالوا إنها جنة في الأرض:
1- أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله أن جنة الخلد إنما يكون الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها بعد.
2- إن الله تعالى وصفها لنا في كتابه الكريم بصفاتها، ومحال أن يصف الله سبحانه وتعالى شيئا بصفات ثم يكون ذلك لغير تلك الصفة التي وصفه بها، قالوا: فوجدنا الله تعالى وصف الجنة التي أعدت للمتقين بأنها دار المقامة فمن دخلها أقام فيها ولم يقم آدم بالجنة التي دخلها، ووصفها بأنها دار الخلد ولم يخلد آدم فيها، ووصفها كذلك بأنها دار سلامة مطلقة لا دار ابتلاء وامتحان وقد ابتلي آدم فيها بأعظم الابتلاء، ووصفها بأنها دار لا يعصى الله فيها وقد عصى آدم ربه في جنته التي دخلها، ووصفها بأنها دار لا خوف فيها ولا حزن وقد حصل للأبوين من الخوف والحزن ما حصل.
3- كذلك نجد من أوصاف جنة الخلد أنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهي، وقد كلف آدم قي جنته التي دخلها مما يدل على أنها ليست هي التي أعدها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة.(1/6)
4- حرم الله تعالى على إبليس الجنة التي وعد الله عباده المتقين، فكيف دخلها وهو الملعون المطرود من رحمة الله، بل لقد لغا فيها والجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، كما أنه كذب فيها وحلف على كذبه، والله تعالى سمى جنته مقعد صدق؛ فكيف دخل هذا اللعين الجنة حتى فتن آدم عليه السلام ووسوس له، وهذه الوسوسة إما أن تكون في قلبه، وإما أن تكون في أذنه، وعلى كلا التقديرين فكيف توصل هذا الملعون إلى دار المتقين ومحل القدس.
5- يقول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، ولم يقل إني جاعل في جنة المأوى، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}، ومحال أن يكون ذلك في جنة المأوى.
6- لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم في الأرض ومن طينتها، ولم يذكر في موضع واحد أصلا أنه نقله إلى السماء بعد ذلك، ولو كان قد نقله بعد ذلك لكان هذا أولى بالذكر؛ لأنه من أعظم الآيات ومن أعظم النعم عليه؛ فإنه كان معراجاً ببدنه وروحه من الأرض إلى فوق السماوات.
7- أخبر الله تعالى عن إبليس أنه قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}؛ فإن كان الله تعالى قد أسكن آدم جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه، ويقول له: كيف تدلني على شيء أنا فيه، وقد أعطيته، ولم يكن الله سبحانه وتعالى قد أخبر آدم إذ اسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين، ولو علم أنها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس، ولا مال إلى نصيحته، ولكنه لما كان في غير دار خلود غرّه بما أطمعه فيه من الخلد.(1/7)
8- قال منذر: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم عليه السلام نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها بالنص وإجماع المسلمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أينام أهل الجنة في الجنة؟ قال: "لا؛ النوم أخو الموت، والنوم وفاة، وقد نطق به القرآن، والوفاة تقلب أحوال ودار السلام مسلمة من تتقلب الأحوال والنائم ميت أو كالميت".
9- لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أعلمه أن له عمراً محددا وأجلا معلوماً ينتهي إليه، وأنه لم يخلقه للبقاء، كما روى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة؛ فإنه صريح في أن آدم عليه السلام لم يخلق في دار البقاء التي لا يموت من دخلها، وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله تعالى لها ولسكانها أجلا معلوماً وفيها أسكن.
فإن قيل: فإذا كان آدم عليه السلام قد علم أن له عمرا مقدرا وأجلا ينتهي إليه، وأنه ليس من الخالدين؛ فكيف لم يعلم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}، وقوله: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الخلد لا يستلزم الدوام والبقاء، بل هو المكث الطويل.
الثاني: أن إبليس لما حلف له وغرّه وأطمعه في الخلود نسي ما قدر له من عمره.
قالوا: فإذا جمع ذلك بعضه إلى بعض، وفكر فيه المنصف الذي رفع له علم الدليل فشمّر إليه، وربا بنفسه عن حضيض التقليد تبين له الصواب.
فإذا قلنا لأرباب هذا القول فما هو ردّكم على الحجج القوية التي أوردها أصحاب القول الأول للذاهبين إلى أنها جنة الخلد التي وعد الله عباده المؤمنين؟ تجد هم يردون عليهم بالآتي:(1/8)
1- أما قولكم: إن قلنا هذا هو الذي فطر الله عليه عباده بحيث لا يعرفون سواه؛ فالمسألة سمعية لا تعرف إلا بأخبار الرسل، ونحن وأنتم إنما تلقينا هذا من القرآن لا من المعقول ولا من الفطرة؛ فالمتبع فيه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، ونحن نطالبكم بصاحب واحد أو تابع أو أثر صحيح أو حسن بأنها جنة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين بعينها، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا، وقد وجدنا لكم من كلام السلف ما يدل على خلافه، ولكن لما وردت الجنة مطلقة في هذه القصة، ووافقت اسم الجنة التي أعدها الله لعباده في إطلاقها وبعض أوصافها؛ فذهب كثير من الأوهام إلى أنها هي بعينها، فإن أردتم بالفطرة هذا القدر لم يفدكم شيئا، وإن أردتم أن الله فطر الخلق على ذلك كما فطرهم على حسن العدل وقبح الظلم وغير ذلك من الأمور الفطرية فدعوى باطلة، ونحن إذا رجعنا إلى فطرنا لم بحد علمها بذلك كعلمها بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات.
2- وأما استدلالكم بحديث أبي هريرة رضى الله عنه، وقول آدم عليه السلام: وهل أخرجكم منها إلاّ خطيئة أبيكم؛ فإنما دل على تأخر آدم عليه السلام لاستقباح الخطيئة التي تقدمت منه في الدار الدنيا، وأنه بسبب تلك الخطيئة حصل له الخروج من الجنة، كما في اللفظ الآخر: إني نهيت عن أكل الشجرة؛ فأكلت منها، فأين في هذا ما يدل على أنها جنة المأوى بمطابقة أو تضمين أو استلزام، وكذلك قول موسى عليه السلام له: أخرجتنا ونفسك من الجنة؛ فإنه لم يقل أخرجتنا من جنة الخلد.
وقولكم: إنهم خرجوا إلى بساتين من جنس الجنة التي في الأرض؛ فاسم الجنة وإن أطلق على تلك البساتين فبينها وبين جنة آدم ما لا يعلمه إلا الله، وهي كالسجن بالنسبة إليها، واشتراكهما في كونهما في الأرض لا ينفي تفاوتهما أعظم تفاوت في جميع الأشياء.(1/9)
3- وأما استدلالكم بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا..} عقيب إخراجهم من الجنة؛ فلفظ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض، غايته أن يدل على النزول من مكان عل إلى أسفل منه، وهذا غير منكر؛ فإنها كانت جنة في أعلى الأرض فاهبطوا منها إلى الأرض، وقد كان الأمر بالإهباط لآدم وزوجه وعدوهما، فلو كانت الجنة في السماء لما كان عدوهما متمكنا منها بعد إهباطه الأول لما أبى السجود لآدم عليه السلام، فالآية حجة عليكم لا لكم، ولا تغنى عنكم وجوه التعسفات والتكلفات التي قدرتموها.
وأما قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}؛ فهذا لا يدل على إنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض؛ فإن الأرض اسم جنس، وكانوا في أعلاها وأطيبها وأفضلها في محل لا يدركهم فيها نصب ولا جوع ولا ظمأ؛ فأهبطوا إلى أرض يعرض فيها ذلك، وفيها حياتهم وموتهم وخروجهم من القبور والأرض التي أسكناها لم تكن دار نصب ولا تعب ولا أذى، والأرض التي اهبطوا إليها هي محل التعب والنصب والأذى وأنواع المكاره.
4- وأما قولكم: إنه سبحانه وتعالى وصفها بصفات لا تكون في الدنيا؛ فجوابه أن تلك الصفات لا تكون قي الأرض التي أهبطوا إليها؛ فمن أين لكم أنها لا تكون في الأرض التي اهبطوا منها.
5- أما قولكم إن آدم عليه السلام كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية؛ فلو كانت الجنة فيها لعلم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ}؛ فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن اللفظ إنما يدل على الخلد، وهو أعم من الدوام الذي لا انقطاع له؛ فإنه في اللغة المكث الطويل، ومكث كل شيء بحسبه، ومنه قولهم: "رجل مخلد" إذا أسن وكبر، ومنه قولهم لأثافي الصخور: (خوالد) لطول بقائها بعد دروس الأطلال؛ قال أحدهم:
إلا رمادا هامدا دفعت ... عنه الرياح خوالد سحم(1/10)
ونظير هذا إطلاقهم القديم على ما تقادم عهده، وإن كانت له أول كما قال تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}، و {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}، و{إِفْكٌ قَدِيمٌ}.
الثاني: أن العلم بانقطاع الدنيا ومجيء الآخرة إنما يعلم بالوحي، ولم يتقدم لآدم عليه الصلاة والسلام نبوة يعلم بها ذلك، وهو إن نبأه الله تعالى وأوحى إليه وأنزل إليه صحفاً كما في حديث أبي ذر لكن هذا بعد إهباطه إلى الأرض بنص القرآن، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وكذلك في سورة البقرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً..} الآية.
6- وأما قولكم: إن الجنة وردت معرفة باللام التي للعهد فتنصرف إلى جنة الخلد؛ فقد وردت معرفة باللام غير مراد بها جنة الخلد قطعا كقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}.
وقولكم: إن السياق هنا دل على أن المراد بها هنا جنة في الأرض، قلنا: والأدلة التي ذكرناها دلت على أن جنة آدم عليه السلام في الأرض؛ فلذلك صرنا إلى موجبها؛ إذ لا يجوز تعطيل دلالة الدليل الصريح.
7- وأما استدلالكم بأثر أبي موسى: "إن الله أخرج آدم عليه السلام من الجنة وزوده من ثمارها"؛ فليس فيه زيادة على ما دلّ عليه القرآن إلاَّ تزوده منها، وهذا لا يقتضي أن تكون جنة الخلد.
وقولكم: إن هذه تتغير وتلك لا تتغير؛ فمن أين لكم أن الجنة التي أسكنها آدم كان التغير يعرض لثمارها كما يعرض لهذه الثمار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم"، أي: لم يتغير ولم ينتن. وقد أبقى الله سبحانه وتعالى في هذا العالم طعام العزيز وشرابه مائة سنة لم يتغير.(1/11)
8- أما قولكم: إن الله سبحانه تعالى ضمن لآدم عليه السلام إن تاب أن يعيده إلى الجنة؛ فلا ريب أن الأمر كذلك، ولكن ليس يعلم أن الضمان إنما يتناول عودة إلى تلك الجنة بعينها، بل إذا أعاده إلى جنة الخلد فقد وفى سبحانه وتعالى بضمانه حق الوفاء.. ولفظ العود لا يستلزم الرجوع إلى عين الحالة الأولى ولا زمانها ولا مكانها، بل ولا إلى نظيرها، كما قال شعيب لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}.
فإذا أتحنا الفرصة لأصحاب الرأي الأول القائل بأنها جنة الخلد؛ ليجيبوا عما احتج به منازعوهم قالوا:
1- أما قولكم: إن الله سبحانه وتعالى أخبر أن جنة الخلد إنما يقع الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها بعد؛ فهذا حق في الدخول المطلق الذي هو دخول استقرار ودوام، وأما الدخول العارض فيقع قبل يوم القيامة، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ليلة الإسراء، وأرواح المؤمنين والشهداء في البرزخ في الجنة، وهذا غير الدخول الذي أخبر به يوم القيامة؛ فدخول الخلود إنما يكون يوم القيامة؛ فمن أين لكم أن مطلق الدخول لا يكون في الدنيا.. وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة ودار الخلد.
2- وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة، وأنها لم توجد في جنة آدم عليه السلام من العري والنصب والحزن واللغو والكذب وغيرها؛ فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا أحد من أهل الإسلام، ولكن هذا إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها؛ فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها يوم القيامة، وهذا لا ينفي أن يكون فيها بين أبوي الثقلين ما حكاه الله سبحانه وتعالى من ذلك، ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين إياها إلى ما أخبر الله عنها؛ فلا تنافي بين الأمرين.(1/12)
3- وأما قولكم إنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف، وقد كلف الله سبحانه آدم بالنهى عن الأكل من تلك الشجرة فدل على أن تلك الجنة دار تكليف لا دار خلود؛ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه يمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة؛ فحينئذ ينقطع التكليف، وأما وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل على امتناعه ألبته، كيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دخلت البارحة الجنة؛ فرأيت امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت لمن أنت.." الحديث.. وغير ممتنع أن يكون فيها من يعمل بأمر الله، ويعبد الله قبل يوم القيامة، بل هذا هو الواقع؛ فإن من فيها الآن مؤتمرون بأوامر من قبل ربهم، لا يتعدونها، سواء سمي ذلك تكليفا أو لم يسمّ.
الوجه الثاني: أن التكليف فيها لم يكن بالأعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها، وإنما كان حجرا عليهما في شجرة واحدة من جملة أشجارها؛ إما واحدة بالعين أو النوع، وهذا القدر لا يمتنع وقوعه في دار الخلد، كما أن كل واحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها؛ فإن أردتم بكونها ليست دار تكليف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات فلا دليل عليه، وإن أردتم أن تكاليف الدنيا منتفية عنها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم.(1/13)
4- أما استدلالكم بقصة وسوسة إبليس له بعد إهباطه في السماء؛ فلعمر الله إنه لمن أقوى الأدلة وأظهرها على صحة قولكم، وتلك التعسفات لدخوله الجنة وصعوده إلى السماء بعد إهباطه الله له منها لا يرتضيها منصف، ولكن لا مانع أن يصعد إلى هناك صعوداً عارضاً لتمام الابتلاء والامتحان الذي قدره الله تعالى وقدر أسبابه، وإن لم يكن ذلك المكان مقعداً له مستقرأَ كما كان، وقد أخبر الله سبحانه عن الشياطين أنهم كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يقعدون من السماء مقاعد للسمع؛ فيستمعون الشيء من الوحي، وهذا صعود إلى هناك ولكنه صعود عارض لا يستقرون في المكان الذي يصعدون إليه مع قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}؛ فلا تنافي بين الصعود والأمر بالهبوط؛ فهذا محتمل.
5- وأما احتجاجكم بكونه خلق من الأرض؛ فلا ريب في ذلك، ولكن من أين لكم أنه كمل خلقه فيها، وقد جاء في بعض الآثار "أن الله سبحانه ألقاه على باب الجنة أربعين صباحا؛ فجعل إبليس يطوف به ويقول لأمر مّا خلقت؛ فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك؛ فقال: لئن سلطت عليه لأهلكنه، ولئن سلط علي لأعصينه".
6- أما ما ذكرتموه من أن آدم خلق في الأرض ولم يرد ما يفيد أن الله تعالى نقله إلى السماء؛ فإن قوله سبحانه وتعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} يدل على أنه كان معهم في السماء حيث أنبأهم بتلك الأسماء، وإلا فهم لم ينزلوا كلهم إلى الأرض حتى يسمعوا منه ذلك، ولو كان خلقه كمل في الأرض لم يمتنع أن يصعده الله سبحانه إلى السماء ثم ينزله إلى الأرض قبل يوم القيامة، وقد عرج ببدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه إلى فوق السماوات.(1/14)
7- أما أن آدم عليه السلام مال إلى نصيحة إبليس حين دلّه على شجرة الخلد؛ فليس ببعيد أن يكون عالما - بفطرته أو بوحي من الله تعالى - أنه ليس بخالد؛ فطمع فيه لما رأى من النعيم الذي لا ترغب النفس في مفارقته، فلما وجد ذلك في نفسه غرّه إبليس بما أطمعه فيه من الخلود؛ فميله إليه منبعث من ذات نفسه لا من علمه أنه في غير دار الخلود كما زعمتم.
8- وأما استدلالكم بنوم آدم فيها والجنة لا ينال أهلها فهذا - إن ثبت النقل بنو آدم - فإنما النوم ينفى عن أهلها يوم دخول الخلود حيث لا يموتون وأما قبل ذلك فلا.
9- وأما استدلالكم بأن الله سبحانه أعلم آدم عليه السلام مقدار أجله، وما ذكرتم من الحديث وتقرير الدلالة منه؛ فجوابه أن إعلامه بذلك لا ينافي إدخاله جنة الخلد وإسكانه فيها مدة.
و الله تعالى أعلم وفي تدبيره أحكم..
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه.
رواه البخاري.(1/15)