مطالع التمام ونصائح الأنام
ومنجاة الخواص والعوام في رد إباحة إغرام ذوي الجنايات والإجرام
زيادة على ما شرع الله من الحدود والأحكام
للقاضي أبي العباس أحمد الشماع الهنتاتي (ت 833هـ)
دراسة وتحقيق
الدكتور عبد الخالق أحمدون
تقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد، فإن العناية بالتراث الفقهي المالكي وإحيائه مسؤولية كبيرة على الباحثين والدارسين المهتمين بالفقه الإسلامي وقضاياه بالجامعات المغربية، لارتباط هذا التراث بالأصالة المغربية وتاريخ المغرب وحضارته وثوابته الدينية والمذهبية من جهة، ولما يعكسه هذا التراث من دينامية المذهب المالكي وحركيته، وانفتاحه على قضايا المجتمع المتجددة وأواعه المتطورة ونوازله المتغيرة في مجالات الحياة المختلفة: الدينية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك بما يحتفظ به هذا المذهب من آليات محكمة في الاجتهاد، وقواعد مرنة في استنباط الأحكام، وضوابط فقهية دقيقة في تتبع المشكلات والنوازل والوقائع وإيجاد الحلول الملائمة لها في ضوء هذه الآليات والقواعد، مثل: قاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان، وقاعدة العمل بأخف الضررين، وقاعدة الأخذ بما جرى به العمل.
وقد كان فقهاء المذهب المالكي في المغرب ـ بما أسسوه من قواعد التخريج والاستنباط ـ أكثر انفتاحا على مشكلات عصورهم، وأشد ارتباطا بأوضاع مجتمعاتهم، وأكثر انشغالا بحياة الناس وقضاياهم في ظروفها المتغيرة والمتجددة، فأجابوا بذلك عن كثير من الأسئلة المطروحة، وأفتوا في العديد من النوازل الوقتية، ووضعوا الحلول المناسبة والأحكام المنسجمة مع واقع الناس وبيئتهم وعوائدهم وأعرافهم، وجمعوا هذه الفتاوى والأجوبة في مصنفات ورسائل وتآليف مفيدة، يرجع إليها المفتون والفقهاء والقضاة والمشتغلون بالنوازل والفتاوى عموما من الباحثين والمهتمين.(1/1)
ومن بين التآليف الفقهية المفيدة في المذهب المالكي هذا الكتاب الذي وقع عليه اختيار الباحث الأستاذ الدكتور عبد الخالق أحمدون، وعزم على تخريجه وتحقيقه وتقديمه إلى الباحثين والدارسين والمهتمين بالفقه المالكي بالمستوى الذي هو عليه من التحقيق، لتتم الاستفادة منه وينتفع به من قرأه.
والكتاب الذي بين أيدينا هو نص تراثي نادر في المذهب المالكي لصاحبه القاضي أبي العباس أحمد الشماع الهنتاتي (ت 833هـ)، وهو من أصل مغربي وأحد قضاة الدولة الحفصية بتونس، والمدافعين المخلصين عن المذهب المالكي وإمام مالك بن أنس رضي الله عنه. وقد عالج فيه مسألة ذات أهمية بالغة في التشريع الجنائي الإسلامي والتشريعات الجنائية المعاصرة، ويتعلق الأمر بالعقوبة المالية، أو الجزاء النقدي والغرامة باصطلاح رجال القانون. والعقوبة المالية كما أشار الباحث من القضايا المهمة التي شغلت حيزا كبيرا من اهتمام علماء المغرب منذ القرن العاشر الهجري، فألفوا فيها رسائل، وحرروا أجوبة مفيدة، وذلك في إطار اهتمامهم بما استقر عليه الرأي عندهم من الأخذ بما جرى به العمل في بعض المسائل التي وقع فيها الخلاف، درءا لمفسدة أو جلبا لمصلحة أو إقرارا لعرف سائد، استنادا إلى اختيارات الشيوخ المتأخرين القائمة على تصحيح بعض الروايات والأقوال الموجبة لذلك، جريا مع تطور الأوضاع الاجتماعية، بناء على قاعدة "تغير الأحكام بتغير الأزمان، وهي قاعدة كما أكد الباحث مكنت فقهاء المذهب المالكي من الانفتاح على عصورهم، واستنباط الأحكام الملائمة لما استحدث من القضايا في أزمانهم.(1/2)
والكتاب عبارة عن جواب رد به القاضي الشماع على فتوى الفقيه الحافظ أبي القاسم أحمد البرزلي أحد أعمدة الفقه المالكي في الغرب الإسلامي في مسألة العقوبة بالمال، وقد سمى كتابه "مطالع التمام ونصائح الأنام، ومنجاة الخواص والعوام، في رد القول بإباحة إغرام ذوي الجنايات والإجرام، زيادة على ما شرع الله من الحدود والأحكام"، وهو كتاب قيم في بابه ومفيد في موضوعه، ويستحق التحقيق والنشر.
ولقد كان الباحث موفقا في الالتزام بالضوابط المنهجية والقواعد العلمية في تحقيق هذا النص وإخراجه في صورة علمية مفيدة، حيث عرف بالمؤلف وعصره وحياته وسيرته العلمية، وتطرق إلى موضوع الكتاب ومنهج المؤلف في التأليف وأسلوبه في الكتابة والمصادر التي اعتمد عليها، وتتبع نقول المؤلف وعزاها إلى مصادرها الأصلية المخطوطة والمطبوعة، وقابل النسخة المعتمدة مع المصادر الأخرى وسجل الفروق بينهما في الهامش، وترجم للأعلام، وتتبع الشواهد الشعرية، وخرج الآيات والأحاديث، وأرجع المسائل العلمية التي ناقشها المؤلف إلى أصولها، ووضع فهارس عامة للنص المحقق لتسهل قراءته والاستفادة منه.
والباحث بهذا العمل الذي بذل فيه جهدا مشكورا يكون قد أسدى خدمة جليلة إلى التراث الفقهي المالكي، وأضاف ثمرة علمية مفيدة إلى النصوص التراثية المالكية التي تزدان بها المكتبات المغربية، فيستحق بذلك الثناء والشكر.
ويسعد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن تقوم بطبع هذا الكتاب القيم، وأن تتقدم به أولا إلى السدة العالية بالله، وإلى أصحاب الفضيلة العلماء والأساتذة الباحثين المهتمين.(1/3)
وتسأل الله العلي القدير أن يجعله في سجل الأعمال الصالحة، والمآثر العلمية الطبية، والحسنات الخالدة لمولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، وأن يقر عين جلالته بولي عهده المبجل صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، ويشد عضده بشقيقه الأسعد صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وأن يحفظه في كافة أسرته الملكية الشريفة، إنه سبحانه سميع مجيب ونعم المولى ونعم النصير.
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
أحمد توفيق
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
وصلى الله وسلم على رسوله وعلى آله وأصحابه أجمعين
اللهم إني أستلهم الصواب باسمك، وأستمد العون بقدرتك، وأتقي مواطن الزلل بهديك وشريعتك وأحمدك علة ما أنعمت، وأشكرك على ما أوليت، وأثني عليك لما وفقت، وأسألك الهداية إلى شرعة الحق وطريق الهدى والصواب.
وأصلي وأسلم على أشرف أنبيائك وأفضل خلقك، رسول السلام، وحامل لواء العدل والوئام، نبي الهدى والرحمة، ومنار النور والحكمة، الفارق بين الحق والباطل، الذي جاء بالحجج الواضحة، والتشريعات المحكمة، والبراهين القاطعة التي لا يعتريها باطل، ولا يتطرق إليه شك أو تقصير.
أما بعد
إن من فضل الله تعالى على الإنسان أن جعله خليفته في الأرض، وزوده بالملكات الفطرية العليا من العقل والوجدان والإرادة ووسائل المعرفة ومناقذ العلم ليحقق هذا الاستخلاف على هدي من شريعته، ويتحمل الأمانة بكل وعي ومسؤولية، ويبلغ الرسالة التي صيغت تعاليمها وتوجيهاتها ومقاصدها وفق مقتضيات الفطرة الإنسان، ويستأصل بواعث الشر والفساد والضلال التي تتنافى ودواعي الحق والخير والقضية والصلاح.(1/4)
ولهذه الغايات الأسمى، والأهداف المثلى، وضع الإسلام من الأحكام والتشريعات والتدابير ما يمكن الهداية من الضمير الإنساني، ويغلب أصول الخير في الإنسان، ويكفل له الاستقامة في الفكر والسلوك والإحساس، ويقطع عنه مسالك الفساد والانحراف والتخلف الخلقي، ويصهر شخصيته في بوتقة القيم والمثل العليا التي دعا إلها، ويوجه إرادته وسلوكه ووجدانه وفكره في إطار القواعد الكلية والمبادئ العامة والمقاصد الشرعية التي شرعها وسنها، وذلك من جانب الوجود ـ على حد تعبير الإمام الشاطبي ـ بتشريع الضمانات والحقوق والالتزامات التي تكفل له الكرامة والعدالة، ومن جانب العدم بوضع التدابير الزجرية لقمع كل اعتداء على الحقوق، وقطع كل سلوك مشين، واستئصال بذور الجريمة ومظاهر الانحراف، وحماية المجتمع من كل أنواع الفساد والانحلال.
وقد أدرك فقهاء الإسلام بعمق هذه التدابير الزجرية وأثرها في حماية الحقوق، وصيانة الفضائل، وتحقيق الكرامة والعدالة والأمن. يقول شهاب الدين القرافي من المالكية: "إن الشرع خص المرتبة العليا بالوجوب وحث عليها بالزواجر صونا لتلك المصلحة عن الضياع، كما خص المفاسد العظيمة بالزجر والوعيد حسما لمادة الفساد عن الدخول في الوجود تفضلا منه تعالى عند أهل الحق"(1).
ويقول الماوردي من الشافعية: "والحدود ـ العقوبات ـ زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به، لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة. فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع ذا الجهالة، حذرا من ألم العقوبة، خيفة نكال الفضيحة، ليكون ما حظر من محارمه ممنوعا، وما أمر به من فروضه متبوعا، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم"(2).
__________
(1) : الفروق 3/94 ـ وانظر معه: الموافقات للشاطبي 2/182 و191 ـ وحاشية العدوي على الرسالة 2/263.
(2) : الأحكام السلطانية ص:221.(1/5)
ويقول أبو الفضل الموصلي من الحنفية: "والحكمة في شرع الحدود ـ العقوبات ـ حسبما لهذا الفساد، زواجر عن ارتكابه، ليبقى العالم على نظام الاستقامة، فإن إخلاء العالم عن إقامة الزواجر يؤدي إلى انخرامه، وفيه من الفساد ما لا يخفى"(1).
ويقول ابن قيم الجوزية من الحنابلة: "فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال.. فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحته الردع والزجر.. لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه"(2).
__________
(1) : الاختيار لتعليل المختار 4/79 ـ وانظر معه: فتح القدير للكمال بن الهمام 4/112 ـ وتبيين الحقائق للزيلعي 3/164.
(2) : اعلام الموقعين 2/114.(1/6)
وقد كان بديهيا أن يعنى الفقهاء ببحث التدابير الزجرية والمشكلات الجنائية في ظواهر الإجرام المختلفة، فكما اهتموا ببحث الحقوق والالتزامات والأحوال المدنية والشخصية، اهتموا كذلك ببحث ظاهرة الإجرام، ووسائل ردعها على أسس المبادئ العادلة، فعرضوا لبيان أنواع الجرائم والعقوبات التي تناسبها، وحددوا لكل نوع مجاله وشروطه للتطبيق، وميزوا على هذا الأساس بين نوعين من العقوبات: عقوبات مقدرة، حددتها نصوص الكتاب والسنة بصفة مطلقة، فلا يجوز تبديلها أو تعديلها بالزيادة فيها والنقص منها، وعقوبات غير مقدرة، ترك الشرع أمرها إلى سلطة القاضي واجتهاده وحقه في تقدير أجناسها وأوصافها ووسائل تنفيذها. وقد عرف الفقهاء هذه السلطة تحت لفظ "السياسة الشرعية"، يقول الطحطاوي: "السياسة استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة.. للقضاة تعاطي كثير منها، حتى إدامة الحبس والإغلاظ على أهل الشر بالقمع لهم لاختبار حالهم.. وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي"(1).
__________
(1) : حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2/392 ـ وانظر: حاشية ابن عابدين 3/147 ـ 175 ـ وقارن مع تبصرة الحكام لابن فرحون 2/132 ـ والطرق الحكمية لابن قيم الجوزية 5/13/25 ـ وما ذكره الدكتور علي راشد في: القانون الجنائي / المدخل وأصول النظرية العامة ص: 668.(1/7)
ويندرج تحت هذه السياسة عقوبات التعزيز بأنواعها، وهذا النوع من العقوبات غير منضبط، ويختلف باختلاف الجاني وحاله وحال جنايته في الخطورة والضرر. يقول ابن أبي البركات: "يرجع إلى اجتهاده وما يراه، على حسب الحال في تلك الجنايات من العقوبة الشديدة أو الخفيفة، أو العفو أو المسامحة أو الغفلة من أول، بقدر الجناية وقدر فاعلها ومن فعلت به، وبقدر القول والقائل"(1). والاهتمام بشخص الجاني وحاله في هذا المجال ينبغي أن يكون في حدود حماية مصلحة الجماعة، عملا بالقاعدة "الحكم على الخاصة لأجل العامة"(2). فيكون تنفيذ العقوبة في هذه الحالة تطبيقا لأصل عام صرف، يتيح توفير الحماية القانونية للمصالح الاجتماعية المتطورة، بحيث لا يقف جمود النص حائلا دون العقاب على الإخلال بهذه المصالح. وعلى هذا الأصل ناقش علماء المغرب العقوبة المالية واستندوا في جوازها، وعلى رأسهم أبو حامد العربي الفاسي(3).
__________
(1) : بشائر الفتوحات والسعود في أحكام التعزيزات والحدود 163/164 ـ وقارن مع الدرر المكنونة للمغيلي 137/ب ـ وبلغة السالك للصاوي 2/407.
(2) : الموافقات 2/369 و3/259 ـ والاعتصام 2/124 ـ وقارن بنوازل البرزلي 2/143ب ـ وجواب أبي حامد العربي الفاسي في العقوبة بالمال ص 9.
(3) : انظر بتفصيل هذه المسألة في القسم الأول من أطروحتي: العقوبة المالية في الفقه الإسلامي وتطبيقاتها بالمغرب 149.(1/8)
والتعزيز هو أوسع العقوبات نطاقا في الفقه الجنائي الإسلامي، وهو نظام تفردت به الشريعة الإسلامية لتكفل للأحكام الجنائية مسايرة الأوضاع الاجتماعية المتغيرة، وهو أقوى دليل على خصوبة التشريع الجنائي الإسلامي ومرونة أحكامه، وقدرته على مواجهة قانون التطور البشري في أوضاعه المختلفة(1). ويبدو من خلال نصوص المالكية أنهم أكثر توسعة في نطاق التعزيز من غيرهم، حيث لا يحددون للتعزيز حدا أو مقدارا معينا، بل يعطون للقاضي حرية كاملة وسلطة واسعة فيما يراه صالحا للجاني والجناية والمجتمع للانزجار والردع(2). وقد يتجاوز نطاق التعزيز بدن الإنسان ونفسه ليشمل ماله وتركته، وهو ما يسمى اليوم بالجزاء النقدي أو الغرامة المالية(3)،
__________
(1) : راجع: النظرية العامة للموجبات والعقود صبحي محمصاني 1/129 ـ العقوبة في الفقه الإسلامي لفتحي بهنسي 140 ـ في أصول النظام الجنائي لمحمد سليم العوا 278. لذلك يرى بعض الباحثين في القانون أن دراسة طبيعة العقوبة في الشريعة لإسلامية ينبغي الرجوع فيه إلى نظرية التعزيز وحدها. توفيق الشاوي: محاضرات في التشريع الجنائي في الدول العربية 91 ز ويرى الدكتور علي راشد أن التعزيز في النظام العقابي الإسلامي يضم كل مستحدث من تدابير الدفاع الاجتماعي أو ما يطلق عليه اصطلاحا في السياسة الجنائية المعاصرة "التدابير الاحترازية" ـ المرجع السابق 115. وقارن مع الدكتور عبد الفتاح خضر: التعزيز والاتجاهات الجنائية المعاصرة ص 17. ويرى الدكتور عبد الرزاق السنهوري أن باب التعزيز في الفقه الإسلامي بقي واسعا يدخل منه التشريع والقضاء والفقه لتقرير المبادئ الحديثة في القانون الجنائي ـ مصادر الحق 1/48.
(2) : انظر: البيان والتحصيل لابن رشد 16/279 ـ والتمهيد لابن عبد البر 4/477 ـ وتبصرة الحكام 2/262 ـ وأسهل المدارك 3/190 ـ وبشائر الفتوحات 190.
(3) : المدخل الفقهي العام مصطفى الزرقا 2/627..(1/9)
ويصطلح عليه في الفقه بالتعزيز المالي أو العقوبة المالية.
والفقهاء في بحثهم لعقوبات التعزيز مدينون للتطبيقات النبوية واجتهادات الصحابة المعتمدة على تلك التطبيقات، خاصة اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي عرف عهده كثرة الحوادث التي طبقت فيها التعازيز. ومع تطور الأحداث باتساع رقعة الدولة الإسلامية، وظهور المذاهب وتعددها، وانتشار أتباعها في الأطراف، ظهرت هذه التطبيقات في أشكال تلائم التغيرات الاجتماعية الطارئة، نزولا عند القاعدة التي أسسها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقد ما أحدثوا من الفجور". قال أبو حفص عمر الفاسي(1): "فمقالته هذه تلقاها أهل العلم بالقبول، ورأوا اطرادها في سائر الأزمان، والعمل بها في كثير من الأحكام. ولم يزل الأئمة يثنون على الخليفة المذكور، ويذكرون مآثره ومناقبه، ويحتجون بكلامه"(2).
__________
(1) : هو أبو حفص عمر بن عبد الله الفاسي الفهري، الفقيه العلامة، المحقق درسا وتصنيفا. أخذ عن الشيخ العراقي وابن العباس بن المبارك ومحمد بن عبد السلام بناني، وأخذ عنه الكثير. من كتبه: غاية الأحكام شرح تحفة الحكام، وحاشية على مختصر السنوسي في المنطق، وشرح قصيدة ابن فرح الاشبيلي في مصطلح الحديث، توفي سنة 1188هـ. شجرة النور الزكية لابن مخلوف 356 ـ ومعجم المطبوعات المغربية 267/268.
(2) : تحفة الحذاق 250 ـ وانظر: مسائل أبي الوليد بن رشد 1/680ـ681. وقد نسب للإمام مالك قوله: "تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا". قال الزرقاني: "إن مراده أن يحدثوا أمورا تقتضي أصول الشريعة فيها غير ما اقتضته قبل حدوث ذلك الأمر. وهذا نظير قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية...". شرح الموطأ للزرقاني 2/204 ـ وقارن بحاشية العدوي على الرسالة 2/312 ـ وبلغة السالك للصاوي 2/291 ـ والفواكه الدواني لأحمد بن غنيم 2/299ـ300.(1/10)
وقد فرع العلماء على هذه المقولة كثيرا من المسائل، ومنها العقوبة المالية. قال أبو الشتاء الصنهاجي تعقيبا عليها: "من ذلكما أحدثوه من العقوبة بالمال"(1).
وقد اختلف الفقهاء في هذا النوع من العقوبة اختلافا كبيرا، فأباحها البعض بإطلاق، ومنعها البعض كذلك، وأجازها الآخرون بشروط معينة، ولكل فريق أدلة يستند إليها تختلف في مدى قوتها وصحتها، وتبقى مهمة الباحث أن يختبر هذه الأدلة ويقارن بينها ويوازن ليصل إلى النظر الشرعي السديد فيها.
وهذا الاختلاف أتاح الفرصة لبعض الباحثين الادعاء بأن الشريعة الإسلامية لا تعترف بالعقوبة المالية، وهو كما يبدو حكم سريع ينم عن قصور في معرفة الآراء الفقهية، ونقص في إدراك ما كتبه الفقهاء في هذه المسألة. كما دفع البعض إلى القول بأن الفكر القانوني الإسلامي لا يقبل فكرة الغرامة المالية، ويعتبرها من قبيل أخذ ما لا يستحق إلى بيت المال(2).
اهتمام علماء المغرب بالمسألة
__________
(1) : مواهب الخلاق 2/291 ـ وانظر: جواب العربي الفاسي في العقوبة بالمال ص 10 ـ ونوازل الزياتي 2/33 ـ والمعيار الجديد للمهدوي الوزاني 10/192 ـ وحاشية محمد التاودي على لامية الزقاق م 21 ص 4 ـ وأجوبة التسولي 20 ـ وشرح ميارة على اللامية وحاشية الشدادي عليه م 44 ص 1 ـ والأجوبة الفقهية للولاتي 215. وقارن بجواب الشماع على البرزلي استدلاله على العقوبة بالمال بهذه المقالة التمام مطالع التمام 201/ب. وقارن كذلك كلام الشماع بفصل الأقوال للأخميمي 64 ـ وراجع أطروحتي: العقوبة المالية في الفقه الإسلامي وتطبيقاتها بالمغرب 1/102ـ103.
(2) : عبد الرحيم صدقي: الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية 197.(1/11)
لقد كانت مسألة العقوبة المالية من المسائل المهمة التي بحثها الفقهاء واختلفت وجهات نظرهم فيها، واضطربت أقوالهم وأحكامهم. فهي من القضايا الجديدة التي طرأت على الحياة العامة في الدولة الإسلامية، فكان لزاما أن يبحثوا لها عن سند شرعي يؤكدها أو يبطلها، ولذلك جاءت آراءهم في شأنها مختلفة ومضطربة، إلى درجة أننا لا نكاد نستقر على رأي واحد داخل مذهب واحد(1).
وكان فقهاء المذهب المالكي أكثر المذاهب الفقهية اهتماما ببحث هذه المسألة، وتفصيلا للكلام فيها، بحثوها في إطار تفريعهم لمسائل الاستدلال المرسل المسمى عندهم بالمصلحة المرسلة، وهو المعنى المناسب الذي يربطه به الحكم ويلائم تصرفات الشرع، ويوجد له جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين(2). وهو طريق من طرق الاستدلال بالنصوص الشرعية، مفاده أن المسألة وإن لم يشهد لها نص معين، فقد شهد لها أصل كلي علمت ملاءمته لتصرفات الشرع من مجموع نصوصه.
وكانت المسألة كذلك من المباحث الفقهية المهمة في كتب المغاربة الذين اشتغلوا بالمسائل التي جرى بها العمل(3). والعمل مصطلح خاص بهم، معناه: العدول عن القول الراجح أو المشهور في بعض المسائل إلى قول ضعيف فيها، رعيا لمصلحة الأمة وما تقتضيه أحوالها الاجتماعية(4)، بناء على قاعدة "تغير الأحكام بتغير الأزمان"، وهي قاعدة مكنت فقهاء المذهب المالكي من الانفتاح على عصورهم واستنباط الأحكام الملائمة لما استحدث من القضايا في أزمانهم(5).
المسائل التي جرى بها العمل عندهم مسألة العقوبة المالية، وقد أشار إلى ذلك عبد الرحمن الفاسي في نظمه لعمل أهل فاس فقال:
__________
(1) : راجع بتفصيل: العقوبة المالية وتطبيقاتها بالمغرب 1/140ـ232.
(2) : الاعتصام 2/115ـ123ـ والموافقات 1/16.
(3) : العرف والعمل في المذهب المالكي: عمر الجيدي 488/492.
(4) : نفس المرجع 342.
(5) : نفس المرجع 312 وما بعدها ـ وقارن مع 143 و158.(1/12)
ولم تجز عقوبة بالمال ... أو فيه عن قول من الأقوال
لأنها منسوخة إلا أمور ... ما زال حكمها على اللسن يدور(1)
وقد قسم فقهاء المذهب المالكي، خاصة المتأخرين منهم، العقوبة المالية إلى قسمين، العقوبة في المال، والعقوبة بالمال. ومعنى العقوبة في المال عندهم أن يعاقب الحاكم الجاني بأخذ المال الذي ارتكب به المعصية أو كان سببا فيها، ويصرفه في وجوه المصلحة التي يراها باجتهاده، وقد اتفقت جميع التعارف على هذا المعنى. ومن هذه التعاريف:
ـ قول ابن غازي(2): "هي ما وجب التصرف في ذلك المال بما لا يحل، كإراقة اللبن المغشوش"(3).
ـ وقال عبد الواحد الونشريسي(4): "هي قصر عقوبة الجاني على ما عصى الله به أو فيه"(5).
__________
(1) : شرح نظم العمل الفاسي للسجلماسي 2/423.
(2) : هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي أصلا الفاسي قرارا، الإمام العلامة، المحدث الحافظ، الفرضي المقرئ، شيخ الجماعة بفاس، وخاتمة علماء المغرب، ولى الخطابة والإمامة والتدريس بمسجد القرويين. له: شفاء الغليل في حل مقفل خليل، وتكميل التقييد، كمل به تقييد أبي الحسن الزرويلي، ونظم مشكلات الرسالة، والكليات الفهية، توفي سنة 919هـ. شجرة النور الزكية 276 ـ ومعجم المطبوعات المغربية 255 ـ ودوحة الناشر 45/46 ـ ولقد الفرائد لابن القاضي 284.
(3) : تكميل التقييد 374 ـ وقارن مع فصل الأقوال للأخميمي 4 و52.
(4) : هو أبو مالك عبد الواحد بن أحمد الونشريسي الفاسي، قاضيها سبعة عشر عاما ثم مفتيها بعد ابن هارون، الإمام العلامة المحقق، أخذ عن أبيه وابن غازي وابن هارون وأبي الحسن الزقاق وجماعة، وعنه أخذ المنجور واليسيتني وغيرهما. له شرح على ابن الحاجب الفرعي، وشرح الرسالة، ونظم قواعد أبيه شرحه المنجور، توفي سنة 955هـ. شجرة النور 283 ـ ودوحة الناشر لابن عسكر 52/54 ـ تعريف الخلف برجال السلف 2/258 ـ لقط الفرائد 264.
(5) : نوازل العلمي 3/159.(1/13)
ـ وقال العربي الفاسي(1): "هي إتلاف المال الذي وقعت به معصية الله تعالى وحصل به الفساد"(2).
ـ وقال عبد الرحمن المجاجي(3): "هي أن يعاقب الجاني في ماله بإتلافه عليه"(4).
ـ وقال على الخصاصي(5): "هي تفويت الشيء المعصي به أو فيه على ربه تفويتا لا يحصل بسببها انتفاع له ولا لغيره غير الزجر والردع"(6).
__________
(1) : هو أبو حامد محمد العربي بن أبي المحاسن يوسف الفهري، نسبة إلى بني الجد الفهريين الذين نزلوا من الأندلس إلى فاس، عالم كبير، أطبقت شهرته الآفاق وملأ الأذهان في شتى العلوم والمعارف، أخذ عن أبيه وعمه عبد الرحمن وأخيه أحمد وأبي القاسم بن القاضي وغيرهم، وعنه أخذ عبد القادر الفاسي ومحمد المرابط الدلائي وعبد العزيز الزياتي صهره وغيرهم كثير. له: شرح لامية كعب بن زهير، وشرح قصيدة الشقراطسية، وشرح عقد الدرر في مصطلح الحديث، ومرآة المحاسن ومراصد المعتمد في مقاصد المعتقد... توفي 1052هـ. أزهار البستان لعبد القادر الفاسي 20 ـ مرآة المحاسن 159/205 ـ تحفة الأكابر 211 ـ نشر المثاني 2/10 ـ 20 ـ شجرة النور 302 ـ عناية أولي المجد للسلطان مولاي سليمان العلوي 92/32.
(2) : جوابه عن المسألة ص 7 ـ وقارن بالمعيار الجديد 10/188 ـ وشرح نظم العمل للرباطي 2/424 ـ وفصل الأقوال ص 4.
(3) : هو أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر المجاجي الراشدي الفاسي، تفقه بمجاجة على الشيخ محمد بن علي، ثم رحل إلى تلمسان وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى فاس. تعريف الخلف 2/224 ـ ومعجم المطبوعات المغربية 316ـ317.
(4) : أحكام المغارسة 316 ـ والأمليات الفاشية في شرح العمليات الفاسية للعميري 110 ـ ومواهب الخلاق 2/291 ـ وفصل الأقوال 4 و51.
(5) : هو أبو الحسن علي بن أحمد الخصاصي، كان قاضيا بفاس للشيخ محمد السعدي. الاستقصا 5/37.
(6) : نوازل العلمي 3/159.(1/14)
ونستخلص من هذه التعاريف أن العقوبة في المال جزاء يوقعه القاضي على الجاني بأخذ ماله الذي وقعت المعصية بعينه أو كان سببا للوقوع فيها، ويصرفه في وجوه المصلحة التي يراها باجتهاده في الواقعة بالإتلاف أو بأي طريق من طرق التمليك للغير كالتصدق أو البيع.
ويظهر أن المصلحة تختلف باختلاف المال المصادر، فقد تكون المصلحة في إتلافه واستئصاله إن كان فيه ضرر بالمصلحة العامة، لكونه غير صالح للاستعمال أو الاستهلاك، بناء على قاعدة "الحكم على الخاصة لأجل العامة"(1).
أما العقوبة بالمال فمعناها عندهم: أن يأخذ الحاكم من الجاني قدرا من المال على وجه التغريم تعزيزا وأدبا له على معصيته. وتختلف عن الأولى في كون المال المأخوذ لا صلة له بالمعصية التي ارتكبها، فالأولى قصد بها إتلاف ما وقعت به المعصية، والثانية قصد بها تأديب فاعل المعصية(2). ولذلك قيل في تعريفها: هي إغرام أهل الجنايات المال لزجرهم وردعهم عما هم عليه(3).
ولم يحدد الفقهاء الجهات التي يصرف فيها هذا المال، إلا ما أفتى به أبو القاسم البرزلي بأن هذا المال يصرف في جهات أربع حددها حيث قال: أن يوقف من ماله ما يحسم به مادته، إما بإعطائه المجني عليه، أو يرد عليه إن حسنت حاله، أو يوضع في بيت المال، أو يتصدق به(4).
__________
(1) : نوازل البرزلي 2/143 ب ـ وجواب العربي الفاسي 9 ـ والمعيار الجديد 10/191.
(2) : جواب العربي الفاسي 8 ـ والمعيار الجديد 10/191.
(3) : أجوبة التسولي على أسئلة الأمير عبد القادر الجزائري 20 ـ وانظر بتفصيل: العقوبة المالية في الفقه الإسلامي 1/88ـ89.
(4) : مطالع التمام 198/ب ـ وراجع العقوبة المالية في الفقه الإسلامي 1/90.(1/15)
ولم أجد واحدا من فقهاء المذاهب من حدد هذه الجهات غيره، ومن ثم يمكن اعتبار فتواه رأيا جديدا في المذهب المالكي لا يمكن إغفال أهميته في مجال الفتوى والتشريع، وقد اعتبرت هذه الفتوى غريبة في عصره، مما جعل فقهاء الوقت يقومون عليه ويتهمونه بخرق الإجماع ومخالفة مشهور المذهب، ومنهم صاحب الرسالة موضوع التحقيق. وكان يؤيد فتواه بما نقله عن شيخه ابن عرفة أنه كان يستسهل غرم أهل قرى تونس إذا أرسلوا البهائم في الكروم فأفسدتها، ويأمر حاكم الفحص أن يغرمهم على ذلك لحسم المادة(1).
ونظير ذلك ما أفتى به العلامة البعقيلي السوسي(2)فيما أتلفه الغنم من أشجار الناس، وقد صدرت الفتوى بخط يده في جمادى الثانية سنة 964هـ، وهي نموذج للأعراف المطبقة بالأقطار السوسية(3).
__________
(1) : نوازل العلمي 3/158 ـ وقارن بأجوبة في شأن القوانين العرفية 12 ـ وأجوبة السكتاني 29/ب ـ والمنهل العذب للأزاريفي 2/253 ـ ونوازل الزياتي 2/298 ـ وأحكام المغارسة للمجاجي 319 ـ والمعيار الجديد 10/177 ـ ونوازل العباسي 87 ـ وانظر رد الشماع في مطالع التمام 202/أ و213/أـ ب و219/أ ـ وقارن بالمعيار المعرب للونشريسي 6/156. وراجع أطروحتي 1/181.
(2) : هو عمرو بن أحمد بن زكريا البعقيلي، العالم المفتي المحقق، كان من طبقة السوسيين التي تخرجت بابن غازي والونشريسي، كان يقضي ببلدته ببعقيلة، توفي بفاس ما بين 968 هـ و969 هـ. المعسول للمختار السوسي 8/151- وطبقات الحضيكي 2/301- رجالات العلم العربي بسوس 18.
(3) :المعسول 8/151- 152.(1/16)
وقد أيد كثير من علماء المغرب فتوى البرزلي، وقيدوا الجواز بما تعذر إجراء الأحكام الشرعية في الحدود على أصلها، وأمكن إيقاع الزواجر دونها، فإنه يؤتى بما تبلغه الاستطاعة في ذلك، وتنزل أسباب الحدود منزلة أسباب التعزيرات قياسا على الرخص المباحة للضرورة، ودفعا للمفسدة، وتوخيا تغيير المنكر على قدر الاستطاعة، وعملا بأخف الضررين، ورعيا للمصلحة العامة، وحملوا فتوى البرزلي الضرورة(1).
__________
(1) :جواب العربي الفاسي 4- والمعيار الجديد 10/184- وشرح نظم العمل الفاسي 2/426- شرح لامية الزقاق للشيخ ميارة ومعه حاشية الشدادي ملزمة 44- وشرح التاودي على اللامية ملزمة 21 ص4- وأجوبة التسولي 21- ونوازل محمدنا السوسي 39/ب و40/أ- والأجوبة الفقهية للولاتي 214.(1/17)
ومن الذين أيدوا فتوى البرزلي نظرا وعملا الفقيهان المصلحان أبو محمد عبد الله الهبطي(1)وأبو القاسم بن خجو(2)، وكتبا في ذلك رسما أرسلاه إلى قبائل غمارة للعمل بمضمنه، ومما اشتمل عليه هذا الرسم: أن من ارتكب معصية يؤخذ منه مقدار من المال ويصرف في فداء الأسرى وسد الثغور. وكانا يطوفان على القبائل صحبة بعض الفقهاء، كالفقيه موسى الوزاني، والفقيه أبي علي الحسن بن عرضون، يأمرون رؤساء القبائل بأخذ المغرم لصرفه في الغاية المذكورة(3).
__________
(1) :هو المصلح أبو محمد عبد الله الهبطي، ولد بضواحي طنجة سنة 890 هـ، نزحت أسرته إلى قرية تجساس من قبيلة بني زيات بغمارة، ثم انتقلت إلى قرية تلمبوط بقبيلة بني زجل. أخذ العلم عن الشدادي، وزروق الزياتي، وأحمد العبادي، ودرس التصوف على ابن يجبش التازي وعبد الله الغزواني. تشبع بالأفكار الصوفية وقام يحارب البدع والخرافات، ويدعو الناس إلى الطريق السوي، له: الألفية السنية في تنبيه العامة والخاصة فيما أوقعوه من التغيير في الملة الإسلامية. توفي سنة 963 هـ. خصه بترجمة وافية عبد القادر العافية في رسالته: الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية بشفشاون وأحوازها 367/ 386 - وانظر معه الحركة الفكرية على عهد السعديين لمحمد حجي 2/466.
(2) :هو أبو القاسم بن علي بن خجو الحساني الخلوفي، ينتسب إلى أسرة عريقة ببني حسان، أخذ العلم بجبال غمارة ثم انتقل إلى فاس حيث مكث هناك طويلا فأخذ عن شيوخها كابن سرحان وابن غازي والزقاق وابن العقدة وغيرهم. توفي بفاس سنة 956 هـ. انظر عبد القادر العافية - مرجع سابق 352/366 - ومحمد حجي مرجع سابق 2/461.
(3) :مقنع المحتاج 129- ومفتاح التيسير للغسال 10- والعرف والعمل للجيدي 490- ومعلمة الفقه المالكي لعبد العزيز بن عبد الله 27 - والإحسان الإلزامي للتجكاني 547 - راجع بتفصيل أطروحتي 1/154- 158.(1/18)
وقد كتبا في شأن ذلك إلى السلطان محمد السعدي وهو نازل بوادي سبو قبل دخوله فاس، فأقرهما ورضي بفتوى البرزلي(1).
وسئل الفقيه موسى بن علي الوزاني(2)عن المسألة فأجاب بكلام طويل ذهب فيه إلى جواز العقوبة بالمال، وأن فتوى البرزلي ثابتة، دفعته إليها غيرته على الدين، ونظره إلى المصالح المتغيرة(3).
وحرر أبو حامد العربي الفاسي رسالة طويلة في المسألة ذهب فيها إلى أن العقوبة بالمال من الأمور التي لم يرد فيها نص ولا حكم بخصوصها يختص بها، فلها عمومات تشملها ونظائر وشواهد تستجملها(4).
ورد أبو القاسم العميري رأي من ذهب إلى أن العقوبة بالمال منسوخة، وأيد فتوى البرزلي ومن قيد مذهبه بالضرورة، وقال في ذلك نظما:
قلت: على النسخ حكيت الإجماع ... ما القول في مخالف ابن الشماع؟
وتابع البرزلي ابن العقدة ... مع ابن خجو أحلى ما قد عقده
وأوضح القول به الوزاني ... موسى بما اعتنى عن الأوزان
وفي جواب العربي الفاسي ... كلام قد جل عن القياس
مثل الذي لابن ميارة الودود ... جوازه عند تعذر الحدود
وقبله قال ابن عرفة ... وغيره يعرفه من عرفه
والنووي قال هو المختار ... أتى به الحديث والآثار
__________
(1) :نوازل العلمي 3/154- وأجوبة التسولي 20- والأمليات الفاشية 112- والمعيار الجديد 10/179.
(2) :هو أبو عمران موسى بن علي الوزاني، فقيه مصلح متصوف، لازم مجالس الشيخ الهبطي وتأثر بطريقته الإصلاحية، تتجلى مقدرته الصوفية في رسالته حول القطب بعث إلى السلطان محمد الشيخ السعدي. كان كثير الانتساخ لكتب العلم بيده، وكان الشيخ ابن خجو يقول في حقه: فقهاء بادية المغرب من كعبة الوزاني إلى أسفل. توفي سنة 970هـ. دوحة الناشر 40 ـ الحركة الفكرية على عهد السعديين لمحمد حجي 2/472ـ473.
(3) : نوازل العلمي 3/162ـ163 ـ الأمليات الفاشية 112ـ أجوبة التسولي 22ـ23 ـ المعيار الجديد 10/179.
(4) : جوابه ص1- 3 ـ وقارن بالمعيار 10/182- 183.(1/19)
وهو قول الشافعي في القديم ... فالخلف جار في الحديث والقديم(1)
وأيد فتوى البرزلي كذلك كل من الشيخ يحيى الولاتي(2)واعتبرها محكمة غير منسوخة(3)، والشيخ الرهوني(4)كذلك(5).
والعقوبة المالية من التدابير الزجرية الشهيرة بالأقطار السوسية، أيدها كثير من علماء سوس، وطبقها رؤساء القبائل والأشياخ والأعيان على المخالفين(6)، بمقتضى قوانين تعارفوا عليها وسجلوها في سجلاتهم وألواحهم(7).
دوافع تحقيق رسالة الشماع:
__________
(1) :الأمليات الفاشية 112- 113- أجوبة التسولي 24- المعيار الجديد 10/179- 180.
(2) :هو أبو عبد الله محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي الشنقيطي، الفقيه العالم الحجة، كان متبحرا في الحديث والتفسير والفقه، وكان يجمع بين التدريس والقضاء، ولى القضاء في جهة الحوض بالصحراء، توفي سنة 1329 هـ. راجع ترجمته في مقدمة الرحلة الحجازية – نشر محمد حجي 7- 9.
(3) : الأجوبة الفقهية 214- 215.
(4) : هو أبو العباس أحمد بن محمد الرهوني التطواني، قاضيها ووزير عدليتها وشيخ جماعتها، قرأ العلم بفاس، وولى العدالة والفتوى ثم القضاء، توفي سنة 1373 هـ. له: عمدة الراوين في تاريخ تطاوين- ومنهل الوارد شرح لامية ابن المجراد. تاريخ تطوان لمحمد داود 1/50 - معجم المطبوعات المغربية 132- 133.
(5) : الجامع لنتائج الأحكام 145.
(6) : المعسول لمحمد المختار السوسي 3/276- 277.
(7) : راجع بتفصيل الجزء الثاني من أطروحتي: العقوبة المالية في الفقه الإسلامي وتطبيقاتها بالمغرب.(1/20)
لقد شغلت مسألة العقوبة المالية حيزا مهما من اهتمام المتأخرين من فقهاء المذهب المالكي، خاصة بالمغرب وتونس، وقد اهتم بها علماء المغرب في إطار اهتمامهم بما استقر عليه الرأي عندهم من الأخذ بما جرى به العمل في المسائل التي وقع فيها الخلاف بينهم، درءا لمفسدة أو جلبا لمصلحة أو إقرارا لعرف سائد، استنادا إلى اختيارات الشيوخ المتأخرين القائمة على تصحيح بعض الروايات والأقوال الموجبة لذلك(1).
وقد ظهر النزاع حول المسألة بتونس في أوائل محرم من سنة 828 هـ بين فقيهين مالكيين، هما: الشيخ الحافظ أبو القاسم أحمد البرزلي(2)، والشيخ أبو العباس أحمد الشماع الهنتاتي، حيث أفتى الأول بجواز العقوبة بالمال وألف في ذلك تأليفا، وخالفه فقهاء الوقت واتهموه بالخروج عن الإجماع، منهم القاضي الشماع الذي ألف في الرد عليه رسالته"مطالع التمام، ونصائح الأنام، ومنجاة الخواص والعوام، في رد القول بإباحة إغرام ذوي الجبايات والإجرام، زيادة على ما شرع الله من الحدود والأحكام". وقد سبق القول أن فقهاء المغرب أيدوا فتوى البرزلي وناقشوها بالحجج والأدلة. وإلى هذا الخلاف أشار صاحب نظم العمل الفاسي بقوله:
والبرزلي أخذ بالعموم ... وهو كقول الشافعي القديم
ورده المعاصر ابن الشماع ... فنسخها مضى عليه الإجماع(3)
__________
(1) : راجع: حسام العدل الإنصاف للولاتي 16- 17.
(2) : ستأتي ترجمته فيما بعد
(3) :شرح نظم العمل الفاسي للسجلماسي 2/423.(1/21)
ومن المؤسف أن العديد من الأبحاث والدراسات التي قدر الاطلاع عليها، والتي تناولت العقوبة المالية بالدراسة والبحث أغفلت كثيرا من النصوص المالكية في هذه المسألة، وفي مقدمتها رسالة القاضي الشماع، وجواب أبي سالم إبراهيم الكلالي(1)وجواب أبي حامد العربي الفاسي، ورسالة الشيخ محمد كمال الدين الإخميمي المسماة" فصل الأقوال في الجواب عن حادثة السؤال ونفي العقوبة بالمال". وقد أدى إغفال هذه النصوص إلى الخلط في طرح المفاهيم، والاضطراب في إصدار الأحكام. ويبدو هذا جليا في كونهم لم يتفطنوا إلى التفرقة التي قال بها المالكية بين العقوبة في المال والعقوبة بالمال، فخلطوا بين الأدلة، ومزجوا بين الأحكام، وجمعوا جزئيات كل منهما في سياق واحد.
__________
(1) :هو أبو سالم إبراهيم بن عبد الرحمان الكلالي، ولد في بني ورياغل حوالي 980 هـ، وقدم فاس ودرس على شيوخها، كأبي العباس المنجور، والشيخ يعقوب البدري، والقاضي اليحمدي، وغيرهم. اشتغل بالفتوى والعدالة، وتولى قضاء غمارة. توفي سنة 1047. من تآليفه: المسألة الشهية الإمليسية، وتنبيه الصغير من الولدان. صفوة من انتشر 1/173- طبقات الحضيكي1/123- سلوة الأنفاس 3/256 - ومؤرخو الشرفاء 181. أشار إلى هذا الجواب كل من الأفراني والحضيكي، والسناني في التقاط الفوائد 1/98 - وابن عجيبة في أزهار البستان 155.(1/22)
إن الرسالة التي ألفها القاضي الشماع جوابا على فتوى البرزلي تعتبر من النصوص النادرة في الفقه المالكي التي تناولت العقوبة المالية بنوع من الاستيعاب، استنادا إلى أقوال العلماء المؤيدة بالأدلة النقلية والعقلية. وقد عثرت عليها ضمن المخطوطات النادرة التي تحتفظ بها مكتبة الإسكوريال بمدريد بإسبانيا، ولا أعلم واحدا أفرد على هذه المسألة بتأليف خاص وتناولها بتفصيل قبله، وهذا يدل ـ في نظري ـ من الناحية التاريخية أن بداية الاهتمام بالقضية بشكل موسع إنما كان مع ظهور فتوى البرزلي ورد الشماع عليها. ويؤكد ذلك، أن جميع المتأخرين من فقهاء المذهب المالكي الذين كتبوا في المسألة يشيرون على ذلك الخلاف الذي وقع بين الفقيهين في عهد الدولة الحفصية.
وقد دخلت رسالة القاضي الشماع إلى المغرب وتداولها العلماء، فانقسم الرأي حولها بين مؤيد ومعارض. ولا يمكن الجزم في شأن تاريخ دخولها إلى المغرب بشيء، وما يمكن أن نشير إليه في هذا الصدد أن الرسالة كانت مصدرا أساسيا للتأليف في المسألة لدى علماء المغرب في القرن العاشر والحادي عشر. وأصبحت الرسالة من المصادر المغمورة التي لم تصل إليها يد الباحثين، وظلت مجهولة عندهم إلى الآن، ولم يعرفوها إلا من خلال بعض فقراتها المتفرقة في كتب المغاربة. فكانت الحاجة إلى إظهارها وتحقيقها وإخراجها كاملة إلى الوجود أكيدة وملحة، حتى يتم الاطلاع عليها والإفادة منها واستثمار نصوصها.
ثم إن الرسالة لها قيمة علمية خاصة، حيث تتجلى من خلالها مدى انفتاح الفقه المالكي على القضايا المتجددة، ومرونته في التعامل مع المتغيرات الاجتماعية وفق أصول وضوابط وقواعد مكنته من الاحتفاظ بهذه الميزة العظيمة داخل منظومته الفقهية المتطورة، كما تؤكد على اهتمام الفقهاء بقضية العقوبة المالية منذ القديم، وانفتاحهم على قضايا أصبحت في عصرنا ذات أهمية بالغة، ومنها هذه القضية موضوع الرسالة.(1/23)
لهذه الأسباب وجهت اهتمامي بهذا النص، ووطدت العزم على تحقيقه وإخراجه بالصورة التي هو عليها ليكون في متناول الباحثين والدارسين.
ولتحقيق هذه الغاية اتجه النظر إلى التعريف أولا بصاحب المخطوط، ثم عرفت بموضوع الرسالة، ثم بينت المنهج المتبع في التحقيق، وعرضت النص المحقق، وأخيرا ذيلت النص بما يحتاج إليه من فهارس عامة تسهل معها الاستفادة من الكتاب وقراءته.
الحياة السياسية والثقافية في عصر المؤلف
تمهيد:(1/24)
قبل الحديث عن عصر المؤلف وحياته تجدر الإشارة هنا إلى أن المصادر التي ترجمت له قليلة جدا، وهي مع قلتها شحيحة، لاتقدم لنا معلومات كافية لبناء ترجمة وافية، وتسكت عن جوانب مهمة في حياته تتعلق بمولده ونشأته ومرحلة الطلب والتحصيل ثم مرحلة التدريس، إلى غير ذلك من الأمور التي تكون السمات البارزة في حياة هذا الرجل. ومن خلال المعلومات التي وقفت عليها في هذا الصدد قدرت أن تكون الفقرة التي عاشها في ظل الدولة الحفصية بتونس امتد من النصف الثاني من القرن الثامن إلى وفاته في أوائل العقد الرابع من القرن التاسع (748 هـ /1347م – 833هـ/1429م). وهذه الفترة قد تزامنت مع تصدع السلطنة الحفصية عقب وفاة السلطان أبي بكر سنة 747هـ، وظهور اضطرابات قوية، كادت تقضي على الدولة، بسبب التنافس على السلطة بين بني حفص من جهة، وبين بني حفص وبني مرين الذين استولوا على تونس من جهة ثانية، وما نتج عن ذلك من أحداث دامية مؤلمة، خاصة في عهد السلطان أبي الحسن المريني الذي قويت أطماعه بشكل في ضم تونس الحفصية إلى ملكه، كما تزامنت هذه الفترة مع تعاقب اثنين من خلفاء بني حفص على الحكم، وهما السلطان أبو العباس أحمد الملقب بالمتوكل على الله (772هـ/1370م – 796هـ/1394م)، والسلطان أبو فارس عبد العزيز (796هـ/1394م-837هـ/1433م) ألمع سلاطين بني حفص في العهد الثاني لهذه الدولة، أي بعد توحيدها على يد والده أبي العباس. وقد حظي القاضي الشماع في عهد هذا الخليفة بمكانة كبيرة وجعله في خاصته.
أولا – عصر المؤلف من الناحية السياسية :
1- ظهور الدولة الحفصية:
ينتمي المؤلف إلى الدولة الحفصية، وهي الدولة الإسلامية الرابعة التي تولت الحكم في افريقية، وقد دام حكمها ثلاثة قرون ونصف، من سنة 634هـ/1236م إلى سنة 981هـ/1573م. تعاقب على الملك فيها أربع وعشرون خليفة، أولهم أبو زكرياء يحيي الحفصي، وآخرهم محمد بن الحسن الحفصي.(1/25)
يرجع نسب هذه الدولة إلى الشيخ أبي حفص عمر بن يحي الهنتاتي، نسبة إلى هنتاتة، إحدى قبائل مصمودة البربرية بجنوب مراكش، وكانوا على عهد الموحدين تلو القبيلتين هرغة وتنملل، ومن جاءوا بعدهم كانوا على أثرهم وتبعا لهم(1). واسم حدهم هنتات، او ينتي بلسان المصامدة(2).
وقد ارتبطت الدولة الحفصية في بدايتها بالدولة الموحدية ارتباطها وثيقا، وكان أبو حفص عمر، ويسمى فاصكت بلسان المصامدة(3)، ذا مكانة عالية فيها. فهو أحد العشرة الذين انبنت عليهم دعائم الدعوة الموحدية، أولئك الذين بايعوا محمد بن تومرت بالإمامة بعد عودته من المشرق وشروعه في نشر دعوته بين قبائل المصامدة في جيل درن، وأطلقوا عليه لقب "المهدي" في الرابع والعشرين من رمضان سنة 515هـ/1122م. وكان أبو حفص أول المستجيبين لدعوته وأقوى دعاية لها ودفاعا عنها، وأبرز هؤلاء العشرة وأنفذهم كلمة وأوسعهم نفوذا، حتى لقب "الشيخ أبو حفص"، كما لقب المهدي بالإمام(4).
ويدل على المكانة المتميزة التي كان يتمتع بها أبو حفص أنه عندما توفي المهدي ابن تومرت وأوصى بالأمر من بعده لعبد المومن بن علي، فان موته أخفي مدة ثلاث سنوات خوفا من عدم استجابة قبائل المصامدة لذلك، لأن الشيخ أبا حفص لم يبايعه بعد، ولم تتم البيعة إلا بعد ثلاث سنوات، فاطمأن عبد المومن وأشياخ الموحدين، وأعلنوا للناس عن وفاة المهدي وتولية عبد المومن بن علي الخلافة من بعده(5).
__________
(1) : العبر لابن خلدون 6/562 – والأدلة البينة النورانية للشماع ص : 37.
(2) : العبر 6/577 - 578
(3) : العبر 6/578 – وانظر R.Brunchvig . La bérberie oriental sous les Hafsides.
Tome: 1 – P . 13-14
(4) : العبر 6/578 – والفارسية لابن قنفذ ص : 100.
(5) : السلطنة الحفصية : محمد العروسي المطوي – ص 99.(1/26)
ويتحدث ابن خلدون عن مكانة الشيخ أبي حفص عند الموحدين فيقول: "وكان أبو حفص محل الحل والعقد في المهمات في أيام عبد المومن وابنه يوسف. وكان عبد المومن يقدمه في المواقف فيجلي فيها ..."(1). ويقول ابن قنفذ: "وكان المعين له على أمره، جامع شمل عسكره الشيخ المقدس المجاهد أبو حفص عمر بن يحي رحمه الله ..."(2).
ويدل كذلك على منزلة الشيخ أبي حفص في دولة الموحدين أنه بعد وفاة عبد المومن بن علي وتولية ابنه أبي يعقوب يوسف، لم يلقب هذا بأمير المؤمنين، ولاخطب له بذلك، ولا كتب في صدور كتبه العلامة، لامتناع الشيخ من مبايعته حتى يختبر حاله، ويعرف مدى صلاحيته للخلافة، فكان يقول : "لا أبايعه حتى يظهر منه من الخصال الحميدة ما يستوجب به المبايعة"، وبقي على ذلك نحو خمس سنوات، ثم استصوب الشيخ حاله وبايعه وجددت له البيعة سنة 563هـ(3).
وتوفي الشيخ أبو حفص سنة 571هـ، وكان أولاده من قبل يتداولون الإمارة بالأندلس والمغرب وافريقية مع السادة من بني عبد المومن(4)، وقاموا بعدة أعمال كان من أهمها ما قام به عبد الواحد بن أبي حفص من القضاء على أكبر ثورة جابهت الموحدين، وهي ثورة ابن غانية في افريقية(5).
__________
(1) : العبر 6/579 - 580
(2) : الفارسية ص : 102.
(3) : نفس المصدر ص : 102-103.
(4) : العبر 6/58.
(5) : عن ثورة ابن غانية الميورقي راجع : برينشفيك 1/7-13- والسلطنة الحفصية 15-81(1/27)
ونظر لقوة شخصية عبد الواحد بن أبي حفص، عينه السلطان محمد الناصر الموحدي وليا على افريقية، فشرع في ترتيب أمورها وتدبير شؤونها أحسن تدبير(1)، ولم يظهر رغبة في الاستقلال بها والخروج عن طاعة السلطة المركزية للدولة التي ناضل هو وأسرته في سبيل قيامها وتوطيد دعائمها. ويدل على ذلك أنه رفض مبايعة الستنصر، وهو أذاك طفل في السادسة من عمره، بعد وفاة والده محمد الناصر في شعبان 610هـ، لصغر سنه وعدم صلاحيته لتولية الخلافة الموحدية في رأيه(2). وبالفعل، لم يكن هذا الصبي في مستوى الخلافة "فشغلته أحواله عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم، وأغفل الأمور، وتوكل الموحدون بما أرضى لهم من طيل الدالة عليه ونفس عن مخنقهم من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور، وضعفت الحامية، وتهاونوا بأمرهم، وفشلت ريحهم،(3)، فكان ذلك بداية تصدع الدولة الموحدية، تلته مجموعة من الأحداث والفتن والاضطرابات، سارت بالدولة نحو الانقراض، وجعلتها مهملة يتنافس الطامعون على اقتسامها وانتهابها، وكانت مأساة الأندلس على الخصوص أفضع ما نتج عن الوهن الذي أصاب هذه الدولة. وبدأت الحركات الانفصالية تظهر شيئا فشيئا حتى في المغرب الأقصى نفسه، بظهور بني مرين على مسرح هذه الأحداث، فكان ذلك سببا في تفكير أبي زكرياء، يحيى الحفصي في فك الارتباط مع مراكش والانفصال عن السلطة الموحدية، والاستقلال بالحكم بافريقية بعد أن عينه الخليفة المأمون واليا عليها، مقابل مبايعته بالخلافة.
__________
(1) : الفارسية ص : 105- تاريخ الدولتين للزركشي ص : 18.
(2) : العير 6/523 – 524 – تاريخ الدولتين 19.
(3) : العبر 6/525.(1/28)
ويخلص ابن خلدون الأسباب التي اعتمدها في انفصاله عن الخلافة الموحدية واستقلاله ببناء دولة جديدة في افريقية فيقول :"..لما اتصل به (أبي زكرياء الحفصي) ما أتاه المأمون من قتل الموحدين بمراكش وخصوصا من هنتاته وتنملل ... وأنه أشاع النكير على المهدي في العصمة، وفي وضع العقائد، والنداء للصلاة باللسان البربري، وأحداث النداء للصبح، وتربيع شكل الدرهم، وغير ذلك من سنته، وأنه غير رسوم الدعوة، وبدل أصول الدولة، وأسقط إسم الإمام من الخطبة والسكة، وأعلن بلعنه.
ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم، وأعلن بخلعه"(1). وكان أول عمل قام به أبو زكرياء، لإعلان بداية الدولة الحفصية الجديدة، إغفال الخليفة الموحدي يحيى بن الناصر من خطبه، واقتصر على ذكر الإمام المهدي، وتلقب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته(2)، وظل على ذلك حوالي ثماني سنوات إلى سنة 634 هـ، عندما جدد البيعة لنفسه. وحاولت حاشيته على لسان بعض الشعراء – الإيعاز له بالتحلي بلقب "أمير المؤمنين" فامتنع وقال : ما للشعراء والدخول في هذا الفضول(3). ومن تم بدأ أبو زكرياء يعمل على توسيع نفوذه وسلطانه وترتيب أحوال دولته "باستجلاب محبة الناس بالمعاملة المشكورة والإحسان"(4).
__________
(1) : العبر 6/594 – والفارسية 108.
(2) : العبر 6/595 – والفارسية 108.
(3) : تاريخ الدولتين 27- والمؤنس لابن أبي دينار 132 – والحلل السندسية 2/143.
(4) : الفارسية 108.(1/29)
ولا أريد أن ادخل في تفصيل الحديث عن بداية هذه الدولة والأعمال التي قام بها أبو زكرياء والذين جاءوا من بعده، وحسبنا أن نذكر أن بداية ظهور الدولة الحفصية كانت على يديه، لنترك المجال للحديث عن الفترة التي عاشها القاضي الشماع في كنف هذه الدولة. يقول ابن قنفذ "ومن الله بالدولة الحفصية العمرية، وأنار بها الآفاق الإفريقية، وحرك لانتشار كلمتها الملك أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ المقدس المجاهد أبي حفص فنشر ذكرها، وأظهر أمرها، وخلفه ابنه الأمير أبو زكرياء فزاد في محاسنها"(1).
II- الفترة التي عاش فيها القاضي الشماع:
ليس الغرض من الحديث عن هذه الفترة هو تفصيل القول في أحداثها وظروفها وأحوالها، ولذلك سأقف عند العلامات الكبرى التي ميزتها من الناحية السياسية، وأثرت بشكل كبير على الحياة العامة في الدولة الحفصية. ويكن تقسيم هذه الفترة بحسب هذه العلامات إلى مرحلتين:
أولا : مرحلة الانقسام والتفكك
ثانيا : مرحلة التوجه نحو التوحد وإعادة الاستقرار.
المرحلة الأولى (748 هـ/772 هـ )
ظهرت على مسرح الأحداث في هذه المرحلة مجموعة من الأمور كادت تفضي إلى انقراض الدولة الحفصية. وأجملها فيما يلي :
1- وفاة السلطان أبي بكر الحفصي فجأة في 2 رجب 747 هـ، والناس كما يقول ابن خلدون "في غفلة من الدهر، وظل ظليل من العيش، وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز، وذمة واقية من العدل، إذ ريع السرب، وتكدر الشرب، وتقلصت ظلال العز والأمن، وتعطل فناء الملك، نعي السلطان أبو بكر فجأة من جوف الليل، فهب الناس من مضاجعهم متسائلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي. وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى"(2).
__________
(1) : نفسه
(2) : العبر 6/807 – وانظر : الأدلة النورانية 102-107 – وتاريخ الدولتين 66- والمؤنس 143-144.(1/30)
نشأت عن هذه الوفاة المفاجئة اضطرابات قوية بسبب تنازع أولاد أبي بكر، الذين كانوا ولاة على مختلف عواصم السلطنة الحفصية بقسميها الشرقي والغربي، على كرسي الخلافة، وكان قد جعل ولاية العهد لابنه أبي العباس أحمد، المتولي على مناطق الجنوب بكاملها، الذي دبرت ضده مؤامرات لتنحيته عن ولاية العهد وتحويلها إلى أخيه أبي حفص عمر، وكان رأس المدبرين حاجب والده ابن تافراجين.
ويتحدث الزركشي عن ذلك بقوله : "لما مات السلطان بادر (أبوحفص عمر) بملك القصر، وضبط أبوابه، وبعث للقاضي ابن عبد السلام وقاضي الأنكحة الآجمي فقال لهما : تبايعاني، فقالا له : نحن شهدنا في بيعة أخيك أحمد صاحب قفصة فأعطنا شهادتنا نقطعها فحينئذ نشهد في بيعتك. قال الشيخ ابن عرفة فخاض الناس بعضهم في بعض وهو جلوس في القبة الكبرى، فأمر الحاجب (ابن تافراجين) ألا يخرج أحد من القبة، وفسخ المجلس بقوله للقاضيين: نحن نمشي نشتغل بمؤونة دفن السلطان وحينئذ نجتمع، واستدعى وجوه الموحدين وبعض وجوه البلد، وأخرج لهم الأمير عمر فبايعوه. وما شعر القاضيان ومن معهما حتى سمعوا جلبة الطبول والبوقات والسلام. فقالوا : ما هذا؟ فقيل: قد بايع الناس الأمير عمر. واستدعي القاضيان ومن معهما فرأوا تمام القضية، ووقوع البيعة وانعقادها من الجم الغفير، فكتبت وثيقة بعقد البيعة للأمير عمر لاختيار العامة والخاصة إياه عن ولي العهد ..."(1)وبهذه البيعة دخلت البلاد في الفوضى والاضطربات.
__________
(1) : تاريخ الدولتين 80 – انظر : العبر 6/808 – والمعيار 10/5-6- والحلل السندسية 1/581- والاستقصا للناصري 3/154.(1/31)
2 ـ موقف أبي الحسن المريني من الحالة في الدولة الحفصية بعد فتك أبي حفص عمر بإخوته داخل البلاد وخارجها حتى لا ينازعوه الحكم، دفعه إلى تحقيق رغبته التي كان يحلم بها من قبل، وهي الاستيلاء على افريقية وضمها إلى ملكه. وكانت بداية هذه الرغبة في حياة أبي بكر حيث تم زفاف ابنته عزونة بأبي الحسن لتقوية الصلة بالبلاط الحفصي واستغلال ذلك في تحقيق مطامحه السياسية. وقد أفصح ابن خلدون عن ذلك عندما قال:"كان السلطان أبو الحسن يحدث نفسه. منذ ملك تلمسان وقبلها – بملك افريقية، ويتربص بالسلطان أبي بكر، ويسر له حسوا في ارتغاء"(1). وكان يتمنى ذلك لولا مكانة صهره أبي بكر الحفصي عنده(2).
وقد تقوى عزم الخليفة أبي الحسن المريني على تحقيق مطامعه عند وصول الحاجب ابن تافراجين إليه وتحريضه على غزو إفريقية، فصادف هذا هوى في نفسه. يقول الناصري: "فأقام يتحين لها الأوقات، ويترقب لها الفرص، حتى كانت هذه وإنما تنجع المقالة في المرء إذا صادفت هوى في الفؤاد "(3)، وهكذا شرع أبو الحسن في الاستعداد الكبير لهذا الغرض، وفتح ديوان العطاء، ونادى في الناس بالمسير إلى افريقية. وفي شهر صفر من سنة 748 هـ تحرك الجيش المريني يجر الدنيا بما حملت(4)في اتجاه افريقية الحفصية، وسار إلى الجنوب التونسي حيث يوجد عمر الحفصي فأدركوه بموضع يعرف ب " المباركة"، وقتلوه شر قتلة. وكان مآل الذين فروا من المعركة، وهو كبار الدولة القتل حرابة حسب الفتوى التي أفتاها الفقهاء(5). و هكذا استولى أبو الحسن المريني على دولة الحفصيين، واكتسب بذلك شهرة عريضة في العالم الإسلامي.
__________
(1) : العبر 6/811
(2) : الاستقصا 3/155.
(3) : الاستقصا 3/155.
(4) : العبر 6/812
(5) : الاستقصا 3/155.(1/32)
لم تطل مدة استيلاء أبي الحسن على سلطنة بني حفص، بسبب سياسته مع أصهاره من أولاد أبي بكر الذين أبعدهم عن السلطنة، وشعور النخبة من رجالات الدولة الحفصية بأن بني مرين يعتمدون على رجالهم، يولونهم الحظوة والامتيازات في المناصب والوجاهة، مما ولد شيئا من الاحتراز ضد السيادة المرينية على افريقية(1)، ثم موقف الأعراب من أبي الحسن الذي منع الإقطاعات التي كانت لهم من بني حفص، وتعويضها بعطايا تفرض لهم من ديوان السلطنة مثل بقية الجنود(2)، مما أدى إلى تمردهم وإعلان الفوضى والحرب ضد أبي الحسن بزعامة أحد أحفاد عبد المومن بن علي الموحدي الذي بايعوه بالحكم وعاهدوه على الاستماتة في مناصرته(3)، فكانت معركة "الثنية" في محرم 749هـ حاسمة وبداية التراجع لنفوذ أبي الحسن الذي انهزما انهزاما ساحقا(4)، وأيقن أنه لامفر من الانسحاب من تونس والرجوع إلى المغرب. ولذلك جهز أسطوله وأقلع من ميناء تونس سنة 750هـ، فكانت بداية نقمة أخرى عليه، حيث اعترضته عاصفة هوجاء وأتت على أسطوله. ويصور الناصري هذه الفاجعة فيقول: "وجاءهم الموج من كل مكان، وتكسرت الأجفان، وغرق الكثير من بطانة السلطان وعامة الناس، وقذف الموج بالسلطان فألقاه على حجر قرب الساحل من بلاد زواوة عاري الجسد، مباشرا للموت. وقد هلك من كان معه من الفقهاء والعلماء والكتاب والأشراف والخاصة، وهو يشاهد مصارعهم"(5).
__________
(1) : برنشفيك 1/167
(2) : الاستقصا 3/158.
(3) : العبر 6/817 تاريخ الدولتين 84
(4) : العبر 6/818 – وتاريخ الدولتين 84 – والاستقصا 3/160.
(5) : الاستقصا 3/171(1/33)
3- الوباء العام الجارف الذي طوى البساط بما فيه(1)في المغرب والمشرق سنة 749هـ، والذي هلك فيه كثير من العلماء، نذكر منهم : عبد المهيمن الحضرمي، وأبا عبد الله محمد بن النجار التلمساني، وأبا العباس أحمد بن شعيب الجزنائي التازي، وقاضي الجماعة بتونس الفقيه محمد بن بعد السلام الهواري، والفقيه يحيى السليماني، والفقيه محمد بن الحباب(2)، والفقيه محمد بن هارون الكناني(3). ويصف ابن خلدون حالة البلاد في تلك الفترة فيقول : "فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه، وتبدلت بالجملة بما طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب.. هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل، طوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وقل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخرجت الأمصار والمصانع، وذرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل ... وكأنما نادى لسان الكون بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها"(4).
__________
(1) : التعريف بابن خلدون ص 28
(2) : التعريف بابن خلدون ص 42 وما بعدها
(3) : الحلل السندسية 1/583
(4) : المقدمة 32- 33(1/34)
4- الصراع على السلطنة والتدخل المريني مرة ثانية للسيطرة على إفريقية الحفصية من قبل أبي عنان المريني، فما أن دخل الفضل بن أبي بكر، المتوكل على الله، الحضرة تونس، وقعد بمجلس آبائه من الخلافة، وأخذ يجدد ما طمسه بنو مرين من معالم الدولة(1)، ويرتب أمورها، حتى ظهرت من جديد الدسائس والمؤامرات للإطاحة به، كان زعيمها الحاجب ابن تافرجين مرة أخرى، الذي استطاع بدهائه أن يلف حوله زعماء أولاد أبي الليل من الأعراب الكعوبيين، ويعزل السلطان سنة 751 هـ، ويستولي على العاصمة، ويقعد أحد إخوة السلطان المعزول على كرسي الخلافة، وهو ابراهيم بن أبي بكر الحفصي، وكان طفلا صغيرا لايتجاوز الثالثة عشرة من عمره(2)، فبايع له الناس خاصة وعامة، وهو يومئذ غلام مناهز، فانعقدت بيعته، ولقب بالمستنصر بالله(3)، ثم أوتي له بأخيه الفضل يستوثقه، فاعتقل وقتل ليلته في ظروف غامضة "الله اعلم بكيفيتها"(4)ويقول ابن خلدون، وتابعه الزركشي: "وغط بجوف الليل بمحبسه حتى فاظ"(5).
ونتج عن هذه المؤامرات صراع كبير بين ابن تافرجين والأعراب من أولاد مهلهل خصوم أولاد أبي الليل، الذين استحثوا أبا زيد عبد الرحمان بن محمد الحفصي والي قسنطينة على النهوض إلى إفريقية واستخلاص ملك آبائه ممن استبد به واحتازه لنفسه(6).
__________
(1) : العبر 6/825-826
(2) : برونشفيك 1/171-172
(3) : العبر 6/828 – تاريخ الدولتين 92
(4) : الفارسية 174.
(5) : العبر 6/828 – تاريخ الدولتين 92
(6) : العبر 6/829(1/35)
وقد استغل أبو عنان المريني هذا الوضع المتدهور، وعزم على استرجاع ما استولى عليه أبوه في المغربين الأوسط والأدنى، مبتدئا في ذلك بمملكة تلمسان الزيانية التي احتلها وقتل ملكها أيا سعيد عثمان الزياني بعد أن أفتاه الفقهاء وأرباب الفتوى بحرابته سنة 753هـ،(1). ثم جهز جيشه وقاد حملة عسكرية ضد بني حفص في قسنطينة التي كان يتولى أمرها أبو العباس أحمد الحفصي الذي استسلم أمام قوة أبي عنان فقبض عليه وبعث به في أسطول إلى سبتة واعتقل هناك(2). واستولى أبو عنان على كامل الحفصية الغربية، وكان هذا الاستيلاء نتيجة حتمية للخلافات والانقسامات بين أفراد الأسرة الحفصية(3).
وقد حاول أبو عنان غزو الحفصية الغربية، فتقرب أولا، شأن أبيه، إلى البلاط الحفصي يطلب المصاهرة، فأوفد الفقيه ابن مرزوق التلمساني الجد (ت 781هـ) يخطب له إحدى بنات السلطان أبي بكر، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل، وعوقب بسببها الفقيه ابن مرزوق وبعض من حاشية السلطان(4). فعزم أن يتوجه بعسكره إلى تونس، إلا أن هذه الرغبة لم تتحقق بسبب تخاذل الجيش وخوفه من المصير الذي لحق أباه من قبل(5)، فعاد مكرها إلى الغرب.
وإن تخلصت الحفصية التونسية من التوسع المريني، فإنها لم تتخلص من سوء أوضاعها الداخلية، وانشقاق المسؤولين فيها عن بعضهم.
المرحلة الثانية (772 هـ /833 هـ)
عرفت هذه المرحلة تغيرا واضحا في الحياة السياسية للدولة، حيث بدأت الأمور تسير نحو الاستقرار والوحدة مع ولاية أبي العباس احمد (772 هـ /796هـ) وولده أبي فارس عبد العزيز (796هـ /837هـ). وفي عهدهما ازدهرت البلاد، وعم الرخاء، واطمأن الناس، وعظمت الدولة.
__________
(1) : الاستقصا 3/182 - 183
(2) : الاستقصا 3/202
(3) : السلطنة الحفصية 427
(4) : الفارسة 175 – والاستقصا 3/203
(5) : تاريخ الدولتين 98(1/36)
عاد أبو العباس أحمد إلى إفريقية من منفاه بالمغرب، وتسلم ولاية قسنطينة في شهر رمضان 761 هـ. وبما أنه سيكون له شأن كبير في تاريخ هذه الدولة، مهد لذلك ابن خلدون بقوله: "واقتعد سرير ملكه منها، وتباشرت بعودته مقاصر قصورها، فكانت مبدأ لسطانه، ومظهرا لسعادته، ومطلعا لدولته"(1). لذلك اتجه الناس بأنظارهم إليه. فكان أول عمل قام به هو القضاء على ابن عمه أبي عبد الله محمد صاحب بجاية، لما اشتكى إليه أهلها من سوء سيرته، فقتله قصعا بالرماح بجهة لبزو(2). ويتحدث ابن خلدون عن هزيمة أبي عبد الله الذي كان منحازا له، ويساعده بجمع الأموال من القبائل، ويستفرغ الجهد في سياسة أموره وتدبير سلطانه(3)، فيقول : "وكسبه في مخيمه وركض هاربا، فلحقه وقتله، وسار إلى البلد بمواعدة أهلها وجاء في الخبر بذلك، وأنا مقيم بقصبة السلطان وقصوره، وطلب مني جماعة من أهل البلد القيام بالأمر، والبيعة لبعض الصبيان من أبناء السلطان، فتفاديت من ذلك، وخرجت إلى السلطان أبي العباس، فأكرمني وحباني، وأمكنته من بلده، وأجرى أحوالي كلها مع عهودها"(4).
ثم توجه إلى مدينة تدلس واستولى عليها وأعادها إلى ملكه الواسع في الحفصية الغربية(5)، ثم إلى مدينة تونس التي لم يجد عناء في الاستيلاء عليها وتوسيع مملكته، وقد سبقته إليها سمعته الطيبة ورجاحة عقله، وحميد سيرته، وأمان أهل مملكته(6).
فدخل أبو العباس تونس سنة 772هـ، فتم لم جمع شمل السلطنة الحفصية من جديد بعدما نالها من انقسام وتفكك، "ولاذ الناس منه بالملك الرحيم، والسلطان العادل، وتهافتوا عليه تهافت الفراش عللا الذبال يلثمون أطرافه، ويجازون بالدعاء له(7).
__________
(1) : العبر 6/852
(2) : التعريف بابن خلدون ص : 106
(3) : نفس المصدر ص : 104
(4) : نفس المصدر ص : 106
(5) : العبر 6/862
(6) : العبر 6/866
(7) : العبر 6/868(1/37)
وبالإضافة إلى ما وصف به ابن خلدون أبا العباس، فإن أبي قنفذ يلخص لنا عزم هذا السلطان على القيام بحركات إصلاحية كبيرة لاستقرار أحوال الدولة، وهو ما مكنه من الجلوس على عرش الملك أكثر من ربع قرن، فيقول : وقدم أمير المومنين ما تحول، وسكن ماتزلزل، وبحث عن الأحوال المؤدية إلى استخلاص الأموال، ورفع أنواع الفساد، وأمن الطرق والبلاد، وأقام شكلا جميلا، ورتب مجلسا جليلا، واختص خواص لمجلسه يتسابقون إلى نصحه وأنسه(1).
يعتبر أبو العباس أحمد الحفصي من أشهر خلفاء بني خفص، نظرا للجهود الكبيرة التي قام بها لإعادة الاستقرار والوحدة لدولة بني حفص، وقد دامت مدة حكمه ربع قرن (772 هـ - 796 هـ )، استطاع خلالها أن يتغلب على كثير من الانتفاضات والثورات. يقول ابن أبي دينار: "وهو الذي شيد رسوم بني حفص بعد اندراسها، وأقام منار بني حفص في الخلافة ودعم أسسها، وكملت في أيام ولده السعيد أبي فارس، ودرس عمر الأعراب، وعمر المدارس"(2).
ولم يسجل المؤرخون لفترة حكمه إنشاء معالم حضارية ذات أهمية، نظرا لكثرة الفتن والشغب والثورات، فصرف جهوده كلها للقضاء عليها، وإخضاع الأطراف، وتأديب القبائل، وقمع الفتن، مما جعله لا يهتم بالعمران. وغاية ما قاله ابن قنفذ في شأنه : أن ".. له بالحضرة حسنات دائمات، فمنها إقامة القراءة في الأسبوع بالمقصورة غربي جامع الزيتونة في كل يوم بالوقف المؤبد، ومنها إنشاؤه لسبالة الماء ببطحاء ابن مردوم بداخل المدنية، ومنها بناؤه للبرج الكبير بشرقي بلد قمرت بالمرسى، ومنها رفع التضييف عن قرطاجنة وقت خروج السلطان إلى ذلك المكان، إلى غير ذلك من محامد أفعاله"(3).
__________
(1) : الفارسية 177
(2) : المؤنس ص : 153
(3) : الفارسية 178 – وانظر الأدلة اليينة 104 – والحلل السندسية 2/180.(1/38)
وإذا كانت سياسته الداخلية قد اتسمت بنوع من التوتر والاضطرابات، فإن سياسته الخارجية كان يطبعها السلم والمهادنة، فكانت علاقته مع مماليك مصر أكثر صفاء وبعدا عن المكدرات، فقد بعث إليه السلطان المملوكي الظاهر برقوق برسالة مفعمة بعبارات الود والتقدير في 15 صفر 786 هـ، يرجوه فيها السماح لعائلة ابن خلدون بالالتحاق به(1)، كما بعث السلطان أبو العباس بدوره رسالة إليه يهنئه فيها بعودته إلى الحكم مصحوبة بهدية فاخرة سنة 792هـ.
وهذا السلطان هو ممدوح العلامة بدر الدين الدماميني (ت837 هـ) بقصيدة بديعية بعثها من ثغر الاسكندرية يهنئه فيها بافتتاح قابس، منها قوله:
ومن نوره أدى السناء لقابس ... ... فلاح لها نور على الحق يسفر(2)
وفي أيامه أقبل عبد الله الترجمان، وكان قسيسا من قساوسة النصارى بالأندلس، فأسلم على يديه، وهو صاحب كتاب تحقة الأريب في الرد على أهل الصليب"(3)، ولهذا كان العوام يسمونه "سيدي تحفة"(4).
وفي أيامه تقدم الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة للخطابة بجامع الزيتونة، وتقدم للفتيا في السنة الموالية لها 773 هـ،(5).
بعد وفاة السلطان أبي العباس احمد سنة 796هـ، أثر مرض النقرس الذي لازمه طويلا حتى كان في غالب أسفاره يحمل على البغل في المحفة(6)، تولى الخلافة ولده ابو فارس عبد العزيز في 4 شعبان 796هـ.
__________
(1) : انظر نص الرسالة في : التعريف بابن خلدون ص : 276-271
(2) : المؤنس 152 – والحلل السندسية 2/185
(3) : نفسه
(4) : اتحاف أهل الزمان لابن أبي الضياف 1/180 – وانظر : الدولة الحفصية لابن عامر 53.
(5) : الحلل السندسية 2/180 – وشجرة النور الزكية 2/148
(6) : العبر 6/909(1/39)
ويعتبر عصر هذا السلطان من أزهى فترات الدولة الحفصية بعد توحيدها، حيث استقر الملك، وعم الرخاء. وكانت العشر سنوات الاخيرة من حكمه خاصة فترة لم تعرفها السلطنة الحفصية، متمثلة في قوة جيشها، وسلامة حدودها، وفي هيبتها ومتنة علاقاتها الخارجية(1)، مما جعل المؤرخين يكثرون من الثناء عيه ومدحه ووصفه بشتى نعوت التقدير والإجلال. يقول ابن دينار : ما أطلت الكلام في هذا المحل إلا لكون هذا الإمام هو واسطة بني حفص، وإذا ذكرت خلافة الحفصيين بدونه يظهر في خلافتهم النقص"(2). ويجعله حسن حسني عبد الوهاب ذرة عقد الدولة الحفصية، ومفخرة من مفاخر البلاد التونسية، سار بعدل وسياسة وتدبير، فازدهرت افريقية في أيامه، وبلغت شأوا بعيدا في الثروة والعمران(3).
وقد سار أبو فارس على خطة أبيه، فأخضع المناطق المتمردة على السلطة المركزية في الجنوب الغربي من الحفصية التونسية، وأعاد طرابلس وبسكرة التي استبد بها بنو ثابت منذ زمن بعيد إلى نفوذه، بفضل تدخل جمع من صلحاء طرابلس وعلمائها(4)، واستطاع أن يخمد ثورة أولاد حكيم من قبائل سليم التي قادها الشيخ أحمد أبي صعنونة سنة 810 هـ(5)، وجرد حملة عسكرية ضد مملكة بني زيان في تلمسان سنة 827هـ، واستولى على جميع ما فيها، وأقام بها مدة يرتب شؤونها ويتدبر فيمن يوليه أمرها(6)، ثم اتجه صوب فاس يطارد عبد الواحد الزياني، ويأخذ بثأره من بني مرين الذين حرضوا ابن عمه محمد بن زكرياء ضده، وعندما أصبح على مسيرة يومين فقط من هذه المدينة بعث له السلطان المريني رسالة الأمان، فكر راجعا إلى تونس، ولحقته في طريقه بيعة أهل فاس ثم بيعه صاحب الأندلس(7).
__________
(1) : برنشيفيك 1/238
(2) : المؤنس 138
(3) : خلاصة تاريخ تونس 123.
(4) : تاريخ الدولتين 120.
(5) : نفس المصدر 123.
(6) : نفس المصدر 127.
(7) : تاريخ الدولتين 126-والاستقصا 4/91.(1/40)
وفي تلك الفترة كانت ممالك اسبانيا النصرانية الثلاث قشتالة وأرغونة والبرتغال تتنافس على توسيع مناطق نفوذها على إصقاع المغرب الإسلامي، فكانت مناطق التوسع البرتغالي متجهة نحو المغرب الأقصى، ومناطق التوسع الأرغوني متجهة نحو افريقية الحفصية، بينما كانت مملكة قشتالة ينصب اهتمامها على البقية الباقية من مملكة غرناطة بالأندلس.
ولم يكن السلطان أبو فارس بعيدا عن منطقة الصراع، كما لم يكن بعيدا عن الأحداث الداخلية الجارية في مملكة غرناطة نفسها، واتخذ من هذا كله سياسة الاحتياط والحذر والترقب، ولم يغامر في الدخول في الصراع مع هذه الممالك(1).
توفي السلطان أبو فارس سنة 837هـ، بعد أن قضى في الحكم إحدى وأربعين سنة، استطاع خلالها أن يوحد البلاد ويكسب دولته حسن السمعة والذكر الجميل في المشرق والمغرب، رغم المحاولات الانفصالية التي واجهته في عهده الأول، ورغم الأطماع الأجنبية التي حاولت النيل من سيادته في عهده الأخير، وعلى الخصوص المحاولة الفاشلة التي قام بها ملك أرغونة وصقيلية ألفونس الخامس للاستيلاء على جزيرة جربة سنة 835 هـ(2).
__________
(1) : راجع برونشيفيك 1/229 –230.
(2) : تاريخ الدولتين 130 - وبرنشفيك 1/232.(1/41)
وقد لخص ابن قنفذ الأعمال الجليلة التي قام بها هذا الخليفة في قوله : بويع بالحضرة العلية على رضا الناس، ورتب الأحوال، وأعطى الأموال، وألف بين إخوته، واعتضد بهم في السعيدة دولته، وأخذ بالحزم في إماراته ... وظهرت الدولة الحفصية الفارسية أتم ظهور، وتضاعف بها الفرح السرور"(1). ويقول في موضع آخر : "لأن أمير المؤمنين – أيده الله – بنى دولته السعيدة على مركز الحق، ورفع المظالم عن الخلق، وبذل المال الكثير للضعفاء، والواردين عليه من الشرفاء، وإزالة المنكرات والأخذ مع ذوي الحاجات، والتفقد للأمور، والقرب من الخاصة والجمهور .. ومهد للحضرة أتم تمهيد، وجدد في المشرق والمغرب آية التوحيد"(2).
ويقول الونشريسي: ".. وقد شاهدنا من ذلك رأس القرن التاسع من الله على أهل إفريقية بأمير المؤمنين ... أبي فارس عبد العزيز ...، فقطع الله به أهل الزيغ والفساد من أهل البادية والبلاد، وقاتل المحاربين وأهل الخلاف، كما قاتل الكفار حين نزلوا بالمهدية وجاهدهم في الله حق الجهاد .. وقطع كثيرا من المكائد والمكوس، وقهر أهل الشر والبغي وأحيى دولة الموحدين والحفصيين بعد أن كادت تدرس وغلبها أهل الخلاف، واشتهر عدله وسيرته في أقطار الأرض.."(3).
__________
(1) : الفارسية 189- 190.
(2) : نفس المصدر 195 من المعروف ابن قنفذ ألف مختصره التاريخي وسماه "الفارسية" نسبة إلى أبي فارس عبد العزيز، وأهداه لوالده أبي العباس.
(3) : المعار المعرب 10/10.(1/42)
ويعدد المؤرخون من فضائل الأعمال التي قام بها أبو فارس في مجال العمران والاجتماع أشياء كثيرة، منها: بناؤه للزاوية التي كانت تقع خارج باب البحر بعد أن كانت مأخورا يدر على خزانة الدولة عشرة آلاف دينار، فحوله إلى مكان تقام فيه الصلاة، ولتدريس العلم وقراءة القرآن وسكنى الطلبة، وأوقف عليها وقفا مؤبدا، وجعل فيها سماطا جاريا للمقيمين فيها والواردين عليها، وبناؤه للمجال الكبير بمصلى العيدين خارج باب سيدي عبد الله، وهو من الأبنية الضخمة التي قل أن يبني مثلها – كما يقول الزركشي، وبناؤه للزاوية خارج باب أبي سعدون، وجعلها منهلا للوارد من أي جهة يأوي إليها، وبناؤها للزاوية خارج باب علاوة المعروف بسيدي فتح الله، وبناء محارس جميلة تحوط الثغور.
وفي المجال الثقافي، فمن أهم إنجازاتها إقامته لمكتبة عامة بالمجنبة الهلالية بجامع الزيتون، مشتملة على أمهات الكتب والدواوين، جلبها من القصر، وأوقفها على الطلبة ينتفعون بها، وجعل لها قيمين يقومان برعايتها، وأوقف عليها أوقافا كثيرة.
ومنها أحداث قراءة البخاري كل يوم بعد صلاة الظهر، بجامع الزيتونة، وكتاب الشفا والترغيب والترهيب بعد صلاة العصر، وأوقف على ذلك أوقافا.
ومنها أحداث المارستان بتونس للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين، وأوقف عليه أوقافا تفي بمصالحه.
ومن إنجازاته كذلك، إزالة الكثير من المكوس والضرائب كانت بتونس، منها : مجبى سوق الرهادنة، ومجبى فندق الملح، ومجبى فندق البياض، ومجبى قائد الأشغال، ومجبى سوق القشاشين، ومجبى سوق الخضرة، ومجبى سوق الصفارين ومجبى سوق العزافين، ومجبى سوق الصابون، وأبيح للناس عمله بعد أن كان عمله محصورا، متوعدا فاعله بالعقوبة المالية.
وترك ما كان على المنكر من خراج، كالشرطة، كان غير واحد من المساكين التزمها بثلاثة دنانير ونصف دينار ذهبا في كل يوم.(1/43)
وفي نطاق الحفاظ على الآداب العامة، أمر بغلق المواخير والحانات، وأجلى المغنيات والمخنثين من البلاد ".. لما بلغه عنهم من عمل المناكر".
بالإضافة إلى هذا، فقد عد المؤرخون من مكرماته المساعدة السنوية التي كان يقدمها لمسلمي الأندلس، وتتمثل في ألفي قفيز من الطعام وما يلزمها من زيتون وشحم وغير ذلك(1).
وقد كان للشيخ القاضي أبي العباس أحمد الشماع مكانة في بلاط هذا الخليفة سنتحدث عنها في موضعها.
ثانيا: عصر المؤلف من الناحية الثقافية:
إن رصد المظاهر الثقافية في البيئة التي عاش فيها القاضي الشماع يستدعى البحث في العوامل التي أثرت في الحركة العلمية لهذه الفترة، إذ تعتبر هذه الفترة استمرارا لسابقتها وذيلالها. ويتفق الجميع على أن الفترة السابقة كانت من أخصب وأغنى الفترات من الناحية الثقافية في عهد الدولة الحفصية، بينما عرفت الفترة الموالية تراجعا ملحوظا بعد الوباء العام سنة749 هـ الذي مات بسببه كثير من العلماء ورجال الفكر.
من المعلوم أن الثقافة في عصر الشماع كانت هجينا من الثقافة الأصلية المحلية والثقافة الوافدة المؤثرة بعناصرها الأندلسية والمغربية والمشرقية، التي نفذ إشعاعها العلمي إلى افريقية الحفصية على يد ثلة من العلماء الذين هاجروا إليها من الأندلس بحثا عن الجو المناسب لممارسة النشاط العلمي، أو الذين جاءوا من المغرب مع الحملة التي قادها أبو الحسن المريني، أو الذين ذهبوا إلى المشرق لأداء فريضة الحج والاستزادة من العلم، ثم رجعوا إلى وطنهم حاملين مشعل المعرفة وزاد العلم.
لقد انتعشت الثقافة الحركة العلمية عموما في عهد الدولة الحفصية بفضل عدة عوامل، أبرزها:
__________
(1) : راجع : الادلة البينة 144-145 – وتاريخ الدولتين 116 – والحلل السندسية 2/186 –189 النور الزكية 2/149.(1/44)
أولا : ميل خلفاء بني حفص إلى العلماء، وتشجيعهم للعلم، وجمعهم أكثر ما يمكن من الأدباء والعلماء حولهم. ويذكر المؤرخون أن أبا زكرياء الحفصي كان مجلسه يضم كبار العلماء والأدباء والشعراء، وكان هو نفسه معدودا في العلماء والشعراء والنبلاء، وله شعر، وكان يجالس طلبة العلم ويشاركهم(1)، وكان يناظر العلماء في شتى العلوم، كابن عصفور النحوي، وابن الحاج الشاطبي(2). وهو الذي ألقى بين يديه ابن الأبار القصيدة الشهيرة يستحثه فيها ويستنجده لإنقاذ الأندلس من المأساة التي حلت بها، وفيها يقول:
أدرك بخيلك خيل الله، أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا(3)
وقد سار السلطان أبو العباس أحمد الحفصي على نهج الخلفاء السابقين، فكان يحضر بعض الدروس العلمية بانتظام، وكان مجلسه يضم كبار العلماء أمثال ابن خلدون، وابن عرفة وغيرهم.
ويقدم ابن خلدون صورة واضحة عن مجلس السلطان وعنايته بالعلماء فيقول: "...وعاد إلى تونس مظفرا ماهدا، فأقبل علي، واستدناني لمجالسته، والنجي في خلوته، فنص بطانته بذلك، وخاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح، وكانوا يعكفون على إمام الجامع، وشيخ الفتيا محمد بن عرفة، وكانت في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المربى بمجالس الشيوخ، فكثيرا ما كان يظهر شفو في عليه، وأن كان أسن مني .. فاتفقوا على شأنهم في التأليب علي .. والسلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك، وقد كلفني بالأكباب على تأليف هذا الكتاب العبر "لتشوفه إلى المعارف والأخبار، واقتناء الفضائل، منه أخبار البربر، وزناته ... وأكملت منه نسخة رفعتها على خزانته .."(4).
__________
(1) : الفارسية 112-113.
(2) : الحلل السندسية 2/144
(3) : انظر القصيدة في ازهار الرياض للمقري 3/207-210
(4) : التعريف بابن خلدون 247-250.(1/45)
وكان أبو فارس عبد العزيز أكثر سلاطين بني حفص حبا للعلم وتشجيعا للعلماء، وفي عهده ازدهرت الثقافة، وكثر الاشتغال بالعلم وطلبه. ومن حسناته في هذا المجال خزانة الكتب التي تضم أمهات العلوم، التي أوقفها على طلبة العلم. ويقربنا ابن قنفذ من مجلسه فيقول : ".. وفي سنة اثنين حضرت مجلسه – نصره الله – في العلم بقصبتهم السعيدة في الحضر العلية في التفسير والحديث والفقه، والقائم حينئذ برسم العلم في مجلس الأمر قاضي الجماعة بالحضرة الشيخ الإمام الحافظ أبو مهدي عيسى بن أبي العباس أحمد الغبريني، وهو شيخ نال من المعارف ما اشتهى، وحاز من العلوم الغاية والمنتهى، وهو في درسه حسن العبارة، لين القول قريب الإشارة .. وكان الشيخ الفقيه المدرس الخطيب المفيد أبو زكرياء يحيى بن منصور الأصبحي يحضر هذا الدرس، ولايختص الخليفة فيه بطنفسه ولا بغيرها، بل جلوسه على البساط الذي يجلس عليه الطلبة. وكان الخليفة يقرأ على القاضي المذكور دولته في "الرسالة" بعد افتراق المجلس"(1).
ثانيا: هجرة عدد وافر من رجالات الأندلس وعلمائها وأدبائها إلى المراكز العلمية المنتشرة في البلاد الإسلامية، هروبا من ظروف القهر والظلم والعسف التي لحقت الأندلس في عهدها الأخير، وبحثا عن الجو المناسب لممارسة النشاط العلمي. يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : "كان علماء الأندلس، لشعورهم بسوء العاقبة، يعملون في الهجرة إلى ما جاورهم من البلدان، وكان مقصدهم من ذلك تلمسان والمغرب الأقصى، ثم تونس. وبدخول رحالة الأندلس أصبحت هذه الأقاليم وراثة العلوم الأندلسية"(2). وقد كان وجود هذه الجماعة الأندلسية بافريقية الحفصية من عوامل ازدهار الحركة العلمية بها.
__________
(1) : الفارسية 197- وقارن بالأدلة البينة 144.
(2) : أليس الصبح بقريب 79-80.(1/46)
وقد سهل أبو زكرياء الحفصي هجرة الأندلسيين، فجلب العديد منهم، وجعل من بعضهم صنائع لغلبة الموحدين ومزاحمتهم(1)، وكذلك ابنه المستنصر. فكان منهم الجند، وكان منهم الكتاب والعلماء والأدباء. ومن أبرز الشخصيات الأندلسية التي هاجرت إلى افريقية، وكان لها دور كبير في السياسة والثقافة نذكر:
- أبو عبيد عبد الله بن أبي الحسن (ت 671 هـ)، من قرية بني سعيد القريبة من غرناطة. جاء إلى إفريقية في عهد أبي زكرياء، وأصبح من خاصته. ويذكر ابن خلدون أنه كان متفننا في العلوم، مجيدا في اللغة، يقرص الشعر، ويرسل فيجيد، وله تأليف في اللغة سماه "الخلاصة"، اعتنى فيه بترتيب كتاب الحكم لابن سيده على نسق الصحاح للجوهري(2).
- أبو بكر بن سيد الناس اليعمري الإشبيلي (ت 659 هـ). يقول ابن خلدون: "وكان قصدهم على تونس أكثر، لاستفحال الحفصية بها. فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس وقبح مصائرها وخفة ساكنها – أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء – الحفصيين - فأجاز البحر ونزل بتونس، فتلقاه السلطان تكرمة، وجعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهواء، التي أسستها أم الخلائف"(3).
وقد نال ابو بكر حظوة كبيرة عند السلطان المستنصر، ومكانة خاصة في مجلسه أكثر مما كان عليه في عهد والده أبي زكرياء، ويظهر ذلك من خلال هذه الفقرة التي أوردها المقري في نفح الطيب، يقول : "..ولما خاطب المستنصر ملك إفريقية ابن سيد الناس بقوله – في علة رمد بعينه - :
ما حال عينك يا عين الزمان فقد ... أورثتني حزنا من أجل عينيكا؟
وليس لي حيلة غير الدعاء فيا ... رب، براوي الصحيح حنانيكا
أجابه الحافظ أبو المطرف بن عميرة المخزومي، خدمة عن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس:
مولاي، حالها والله صالحة ... ... لما سألت، فأعلى الله حاليكا
__________
(1) : العبر 6/627
(2) : العبر 6/673
(3) : العبر 6/683(1/47)
ما كان من سفر أو كان من حظر ... حتى تكون الثريا دون نعليكا(1)
- أبو المطرف أحمد بن عميرة الخزومي (ت 658 هـ) الذي هاجر إلى إفريقية هو يقول:
وفي الحضرة العليا أماني مالنا ... ... إلى غيرها نميل ولا دونها صبر
واستقر ببجاية، وكانت في الرتبة الثانية بعد تونس عاصمة الحفصيين، وقد أصبحت بعد سقوط القواعد الأندلسية تموج بالمهاجرين الأندلسيين الذين توافدوا عليها من مختلف الجهات، وأصبحوا يكونون فيها العنصر الثاني بعد الإفريقيين(2). وكان مقامه بها مليئا بالنشاط العلمي والكتابي، حيث أقرا بها ودرس. يقول الغبريني: "وكان الطلبة مدة كونهم ببجاية يقرءون عليه تلحيقات السهروردي، وهي من مغلقات أصول الفقه عند طائفة ممن لم يمارس علم الأصول، ولا يتعرض لاقرائها إلا من له ذهن ثاقب"(3). وقد ولى ابن عميرة القضاء في الأقاليم كالأربس وقابس وقسنطينة، إلى أن عرف المستنصر قدره ومكانه، فاستدعاه إلى حضرته، وضمه إلى خواص مجلسه وكتاب دولته(4).
- أبو عبد الله بن الأبار الذي هاجر إلى تونس عندما سقطت بلنسية. وكان من أعيانها، فاستخدمه البلاط الحفصي حتى أصبح من رجالات الدولة المرموقين. فقد ضمه أبو زكرياء الحفضي إلى بلاط وأسند إليه رئاسة ديوان الإنشاء وكتابة العلامة في صدر المراسلات والمكاتبات(5).
__________
(1) : نفح الطيب 1/110
(2) : برنشفيك 1/383
(3) : عنوان الدراية 180-187.
(4) : راجع الفصل الثالث من كتاب "أبو المطرف بن عميرة: حياته وآثاره"، محمد بن شريفة ص : 141-158.
(5) : العبر 6/654(1/48)
بالإضافة إلى هؤلاء الشخصيات، هناك ابن عصفور النحوي الشهير، وحازم القرطاجني، وابن الجنان، وأحمد بن يوسف اللبلي، وأحمد بن الغماز، وبفضل هذه النخبة العلمية ازدهرت الثقافة في تونس حتى قال عنها العبدري: وما من فن من فنون العلم إلا وجدت بتونس به قائما، ولا مورد من موارد المعارف إلا رأيت بها حوله واردا وحائما، وبها من أهل الرواية والدراية عددا وافرا، يجلو الفخار بهم عن محيا سافر..."(1).
وقد استمرت الهجرة الأندلسية إلى تونس طيلة العهد الحفصي، ونذكر من بين الذين هاجروا إليها في فترة متأخرة : محمد الخير المالقي، الأديب الشاعر الذي هاجر إليها سنة 864 هـ، وتولى الكتابة لأميرها محمد بن عثمان، وأبو الحسن القلصادي الذي استقر بباجة افريقية في العقد الأخير من القرن التاسع قادما من غرناطة، وتوفي بها سنة 891 هـ، وقد تلقى عمله عن أعلام تونس الذين ورثوا عن الشيخ ابن عرفة وعن الشيوخ المعاصرين له كأبي العباس أحمد القلشاني، المتبحر في المذهب المالكي، المستحضر للنوازل الفقهية، والشيخ أبي العباس أحمد المنستيري الامام النحوي المقرئ، والشيخ أبي عبد الله محمد الدهان، والشيخ أبي عبد الله محمد بن عقاب الجذامي قاضي الجماعة بتونس وإمام جامع الزيتونة، وهو من أذكى تلاميذ ابن عرفة وأكثرهم تحصيلا(2). ومنهم كذلك أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الجابري الشهير بالزليحي، توجه إلى تونس سنة 896هـ، وأبو عبد الله محمد المجاري الأندلسي الذي نزل تونس وأخذ عن أمامها ابن عرفة(3).
وكانت هذه النخبة الأندلسية من الأدباء والمؤرخين والفقهاء والنحويين صلة وصل بين الثقافة الأندلسية والثقافية الإفريقية، وهم الذين حملوا معهم ما تلقوه في الأندلس، خاصة ذلك الإنشاء الراقي الذي أعجب به الأفارقة، وعدوه من محاسن الأندلسيين وامتيازهم.
__________
(1) : الرحلة المغربية ض : 42
(2) : راجع : رحلة القلصادي 115 –122
(3) : برنامج المجاري ص : 138(1/49)
ثالثا: الحملة التي قام بها أبو الحسن المريني إلى افريقية قصد توحيدها مع المغربين الأوسط والأقصى، وقد اصطحب بهذه المناسبة عدد ضخم من العلماء، كان يلزمهم شهود مجلسه، ويتجمل بمكانهم فيه(1). وقد ترك هؤلاء العلماء أثرا في الحركة الثقافية بالحفصية التونسية. فقد كانت المجالس التي يعقدها أبو الحسن تضم أعلام الأقطار الثلاثة، وتجري فيها محاورات علمية، يتداول المجتمعون الأنظار، ويتبادلون الأفادات، ويتجاوب طابع الثقافة كل من الجهتين : المغاربة بأنقالهم وحفظهم العزيز، والتونسيين بأبحاثهم ومناقشاتهم الرصينة، مما خلق أصداء في المؤلفات التالية لهذه الفترة(2).
بالإضافة إلى هذه المجالس العلمية، ما كان يقوم به هؤلاء العلماء من إلقاء الدروس بمدينة تونس. فقد تحدث ابن خلدون عن شيخه أبي محمد بن عبد المهيمن الحضرمي فقال: "لازمته وأخذت عنه، سماعا وإجازة، الأمهات الست وكتاب الموطأ والسير لابن إسحاق وكتاب ابن الصلاح في الحديث ... وكانت بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة"(3). وقرأ ابن خلدون على المقرئ المغربي أبي العباس أحمد الزواوي القرآن الكريم بالجمع الكبير بين القراءات السبع، وسمع عليه عدة كتب، وأجازه إجازة عامة(4). وكان يحضر مجلس أبي عبد الله محمد بن سليمان السطي ويستفيد منه(5). يقول عنه: "وقدم علينا تونس في جملته، وشهدنا وفور فصائله. وكان في الفقه من بينها لايجازي، حفظا وفهما، عهدي به وأخي محمد رحمه لله يقرأ عليه من كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخمي، وهو يصححه عليه من إملائه وحفظه في مجالس عديدة"(6).
__________
(1) : التعريف بابن خلدون 20.
(2) : الصلات الثقافية بين المغرب وتونس الحفصية – محمد المنوني – مجلة المناهل – عدد 17 – ص : 68
(3) : التعريف بابن خلدون ص 21
(4) : نفسه
(5) : نفسه
(6) : نفس المصدر ص 33- وانظر : الحلل السندسية 1/653.(1/50)
ومن الآخذين عن السطي الإمام ابن عرفة الورغمي، وفي هذا يقول الرصاع: "..ثم لما قدم الشيخ السطي – رحمه الله – مع السلطان أبي الحسن اجتمع به وطلب منه أن يقرأ عليه الحوفي، فقال له: إني لا أجد محلا للإقراء إلا في ساعة بين الظهر والعصر في باب جامع القصبة العلية، فكان الشيخ (ابن عرفة) – رحمه الله – يبكر ويجلس هناك ينتظره، فإذا قدم فتح عليه الكتاب وقرأ عليه، فقال له في أول قراءته: هلا اكتفيت بالشيخ ابن عبد السلام، لأنك ختمت عليه الكتاب؟، فذكر له رحمه الله أن مواضع أشكلت عليه، فلما وصلها بينها له كما يجب في الإقرارات والوصايا والمناسخات"(1). ويذكر المجاري أنه قرأ عليه جملة من كتاب التهذيب للبراذغي قراءة بحث ونظر، وجميع كتاب القاضي أبي القاسم الحوفي في الفرائض، قراءة بحث وتحقيق لأحكامه، وتصوير لأعماله الجزئية..."(2).
__________
(1) : شرع حدود ابن عرفة ص : 757
(2) : برنامج المجاري ص : 145(1/51)
وقد كان إلى جانب هذه النخبة المغربية التي أثرت بمناقشتها وأبحاثها وحفظها ونقلها مجالس الدرس والعلم بتونس، نخبة من العلماء التونسيين الذي أضافوا إلى معارفهم الواسعة تضلعا في ميادين البحث والحجاج، نذكر منهم الشيخ ابن عبد السلام الهواري. يصفه المقري وهو في مجلس السلطان أبي الحسن فيقول:"...فظهر فقهاء المغرب ممن صحبه على فقهاء تونس، لحفظهم كتاب التهذيب عن ظهر قلب، وزعيم فقهاء المغرب حينئذ الرجل الصالح، أبو عبد الله السطي – رحمه الله ونفع به – إلى أن جاءت نوبة الشيخ ابن عبد السلام، وعقد مجلسه بمحضر السلطان المذكور، ومن معه من الفقهاء والنحاة والكتاب الرؤساء، وتوجهت مطالبة فقهاء المغرب له، فكان رحمه الله على ما وصفه به من أرخ الواقع، كأنه بحر تلاطمت أمواجه، فكان يقطعهم واحدا بعد آخر، وتلميذه ابن عرفة كذلك، إلى أن قال ولي الله المنصف أبو عبد الله السطي للسلطان: يا علي، كذا يكون التحصيل، وكذا يقرأ الفقه، ولو لم يكن بتونس الا هذا الإمام لكان بها كل خير ! فلا بد من ملازمة هذا المجلس، حتى يتنفع به أصحابنا، وننتفع بطريقته"(1).
إذا كانت الفترة التالية، وهي الفترة التي عاش فيها القاضي الشماع، تقل من الناحية الثقافية عن سابقتها في مجال النظر والتعمق في البحث، فإنه مع ذلك جمعت نخبة من العلماء الكبار الذين ذاع صيتهم في الاقطاع الاسلامية، وكان القاضي الشماع في زمرتهم وإن لم يشتهر شهرتهم، ولعل ذلك يرجع إلى كون هؤلاء اشتغلوا بالتدريس والتأليف في حين كان القاضي منصرفا إلى خدمة البلاط الحفصي، حيث عينه أبو فارس عبد العزيز قاضيا على عسكره.
ونذكر من أقطاب الحركة العلمية في هذه الفترة:
__________
(1) : أزهار الرياض 3/28 – وانظر : الحلل السندسية 1/578(1/52)
1- أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي، الذي قال عنه المقري: امامته لا تنكر ولاتجحد، ومعرفته بالفنون، وتبريزه على أهل عصره، مما يعترف به كل منصف لو ذعي أوحد(1). وصرح طاش كبرى زاده بأنه فاق أقرانه في فقه المالكية بالمغرب وانفرد به(2). وفيه قال الأبي جوابا على قوله:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة ... وتقريرا يضاح لمشكل صورة
وغزو غريب النقل أو فتح مقفل ... ... أو إشكال أبدته نتيجة فكرة
فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهد ... ... وإياك تركا فهو أقبح خلة
قال: وقلت في جواب ابياته هذه:
يمينا بمن أولاك أرفع رتبة ... ... وزان بك الدنيا بأكمل زينة
لمجلسك الأعلى كفيل بكلها ... ... على حين ما عنها المجالس ولت
فأبقاك من رقاك للخلق رحمة ... ... وللدين سيفا قاطعا كل فتنة
قال : وإني لبار في قسمي هذا، فلقد كنت أقيد من زوائد الٌقائه وفوائد إبدائه، على الدول الخمس التي اقرأ بمجلسه من التفسير والحديث والدول الثلاث التي في التهذيب نحو الورقتين في كل يوم مما ليس في الكتب(3).
2 – أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الذي برز في علم السياسة والاجتماع والتاريخ وفلسفته، وألف في ذلك كتابيه "المقدمة" و"العبر"، وهما شاهدان على علو مرتبته، وارتفاع كعبه في العلوم.
__________
(1) : أزهار الرياض 3/38
(2) : الشقائق النعمانية ص :22
(3) : نيل الابتهاج 465-466 والحلل السندسية 1/561 – والضوء اللامع 9/249 والبستان لابن مريم 192-193 وانظر ابياتا أخرى في مدحه في ص 198-200 ومسامرات الظريف السنوسي 1/209-210.(1/53)
3 – أبو القاسم بن احمد البرزلي مفتي تونس وفقيهها وحافظها، صاحب النوازل المشهورة في الفقه. كان إماما علامة حافظا للمذهب، بحاثا نظارا في الفقه. لازم الإمام ابن عرفة نيفا وثلاثين سنة، وقد قال في حقه: "كيف أنام وأن بين أسدين الأبي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه ونقله"(1). حلاه العلماء بالحافظ وشيخ الإسلام شيخ الشيوخ. وهو الذي جرت بينه وبين القاضي الشماع المناقشة حول مسألة العقوبة بالمال، وألف كل واحد فيها تأليفا. وكان – رحمه الله- كثير المناقشة للعلماء بما وهبه الله من القدرة على الحفظ والفهم، فقد ناقش أبا حفص عمر الزكراكي في مسائل منوعة، وقد أثبت هذا اعتراضاته خلال رسالته "هداية من تولى .." عند البابين الثالث والرابع، ثم عرض ذلك على الحافظ البرزلي فأجاب عنها مسألة مسألة في رسالة أثبتها بنصها في نوازله(2)، ولخص ذلك تلميذه البوسعيدي في اختصار النوازل البرزلية(3).
4 – أبو يوسف يعقوب الزغبي، الشيخ المدرس. تولى الجماعة بتونس بعد الغبريني. وهو من أكابر أصحاب ابن عرفة. وكان القاضي الشماع يجله كثيرا ويقدره، فقد حلاه في إحدى رسائله إليه: بالشيخ الفقيه، الإمام الجليل الأفقه الأعلم، المحقق المدرس الخطيب الحسيب، سيدنا قاضي القضاة بالحضرة العلية .."(4).
__________
(1) : نيل الابتهاج 488 - والحلل السندسية 1/670
(2) : نوازل البرزلي، مخطوط الخزانة الحسنية رقم 8441- الجزء الأول – آخر كتاب الصلاة
(3) : انظر : شجرة النور الزكية ص 250- هامش 1.
(4) : المعيار 5/358 – وانظر مسامرات الظريف 3/56 – وتكميل الصلحاء ص : 11-13.(1/54)
5 – أبو مهدي عيسى الغبريني، قاضي الجماعة بتونس ، وخطيب جامع الزيتونة وامامه ومدرسه. نقل عنه البرزلي في نوازله ووصفه بصاحبنا، وأثنى عليه القرافى بحفظ المذهب دون مطالعة، حكى ذلك في شرحه لتهذيب البراذغي في كتاب الظهار عند قوله: وجائز أن ينظر إلى شعر المرأة ووجهها، بعد أن حكى عن المغربي، يريد أبا الحسن الصغير، قولين بالجواز والمنع في نظر المرأة بغير لذة من غير عذر، فقال: والقول بالمنع لا أعرفه، وقد سألت عن ذلك من يظن به حفظ المذهب دون مطالعة فكل لم يعرفه، كشيخنا أبي مهدي عيسى الغبريني(1).
6 – أبو العباس أحمد الأزدي، الشهير بابن القصار، الإمام النحوي المتقن. كان معاصرا لان عرفة، وعنه اخذ ابن مرزوق الحفيد والبسيلي وغيرهما. له شرح على البردة، وشرح شواهد المغني، وحاشية على الكشاف(2).
7- أبو عبد الله محمد الوانوغي، كان عارفا بالتفسير والأصلين والمنطق والفرائض والفقه، له حاشية على التهذيب للبراذعي في غاية الجودة، محتوية على أبحاث جليلة مرتبة على مقدمات منطقية، وضع عليها المشذالي ذيلا. وكان شديد الذكاء، سريع الفهم، حسن إيراد التدريس والفتوى. وله تأليف في الرد على قواعد ابن عبد السلام، وعشرون سؤالا في فنون العلم، بعثها للجلال البلقيني فأجابه، ولم يستحسن الجواب. يعاب عليه إطلاق لسانه في العلماء(3).
__________
(1) : الحلل السندسية 1/595 – ومسامرات الظريف 1/211
(2) : نيل الابتهاج 107 – والحلل السندسية 1/645 – 646
(3) : نيل الابتهاج 485 – 486 والحلل السندسية 1/662-662(1/55)
8 – أبو عبد الله محمد بن مرزوق الحفيد. قال في نيل الابتهاج: "الإمام المشهور العلامة الحجة الحافظ المحقق الكبير الثقة الثبت المطلع النظار المصنف ..، الفقيه المجتهد الأبرع الأصولي المفسر المحدث المسند الراوية ... شيخ الشيوخ وآخر النظار الفحول، صاحب التحقيقات البديعة، والاختراعات الأنيقة، والأبحاث الغريبة، والفوائد الغزيرة، المتفق على صلاحة وهدية ... اما الفقه فهو فيه مالك، ولأزمة فروعه جائز ومالك، فلوا رآه الامام لقال له: تقدم فلك العهد والولاية، وتكلم فمنك يسمع فقهي ولامحالة، أو ابن القاسم لأقر به عينا وقال له: طالما دفعت عن المذهب عيبا وشينا، أو أدرك الإمام المازري لكان من أقرانه الذي معه يجاري، أو الحافظ ابن رشد لقال له: هلم يا حافظ الرشد، أو اللخمي لأبصر منه محاسن التبصرة، أو القرافي لاستفاد من قواعده المقررة"(1).
وقال القلصادي:"توغل في فنون العلم واستغرق إلى أن طلع إلى الأبصار هلالا، لأن المغرب مطلعه، وسما في النفوس موضعه وموقعه، فلا عليك أن ترى أحسن من لقائه، ولا أسهل من إلقائه، بقي الشيوخ الأكابر، وبقي حمده متعرفا من بطون الكتب وألسنة الأقلام وأفواه المحابر"(2).
9 – أبو عبد الله محمد بن خلفة الأبي الوشتاني الإمام المحقق المدقق، أخذ عن ابن عرفة ولازمه، وكان من أعيان أصحابه ومحققيهم. ويحكى أنه ليم ابن عرفة على كثرة اجتهاده وتعبه في النظر، فقال: كيف أنام وأنا بين أسدين الأبي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه ونقله.(3)
10 – أبو القاسم بن عيسى بن الناجي، شارح المدونة والرسالة، أخذ عن ابن عرفة والغبريني والبرزلي، وكان اشتغاله عليه أكثر، مدحه الغبريني بأنه ممن يظن به حفظ المذهب دون مطالع(4).
__________
(1) : نيل الابتهاج 499-500. والبستان لابن مريم 201-214
(2) : رحلة القلصادي ص : 96
(3) : نيل الابتهاج 488- والحلل السندسية 1/669.
(4) : الحلل السندسية 1/692- البستان لابن مريم 149.(1/56)
كل هؤلاء العلماء البارزون وغيرهم أثروا الثقافة بأبحاثهم وتآليفهم وتعليقاتهم ومناقشاتهم.
وكان جامع الزيتونة أحد المراكز العلمية الكبرى التي كان يقصدها الطلاب الشيوخ ورواد المعرفة من مغاربة وأندلسيين، وبجانبه مدارس العلم التي تخرج منها كبار العلماء والأدباء، كالمدرسة الشماعية التي ذكرها الرحالة في رحلاتهم ووصفوا مجالسها وترجموا لشيوخها، كابن رشيد السبتي في رحلته "ملء العينة .."، وخالد البلوي في رحلته " تاج المفرق في تحلية علماء المشرق".(1/57)
ومن الكتب الدراسية التي كانت متداولة في حلقات العلم نذكر في القراءات: قصيدة الشاطبي "حرز الأماني ووجه التهاني.." المعروفة بالشاطبية، والمفردات في القراءات الثمان، والتسيير في القراءات السبع، والمقنع، لأبي عمر والداني، وعقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد للشاطبي...، وفي علم الكلام: الإرشاد لأبي المعالي الجويني، والمعالم الدينية للخطيب الرازي، والمحصل في أصول الدين له ..، وفي المنطق: كشف الحقائق بن عمر الأبهري، وفي الحديث: الكتب الصحاح، وكتاب المحدث الفاصل للرامهرمزي، وكتاب التقصي لابن عبد البر، والملخص لأبي الحسن القاسبي، واقضية الرسول لابن الطلاع، والأحكام الكبرى والصغرى لعبد الحق الاشبيلي، وشرحها لابن بزيزة، وعمدة الاحكام لعبد الغني المقدسي، والإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد، وفي السيرة: كتاب الشفا لعياض، والقصيدة الشقراطسية للشقراطسي، والبردة وشروحها، وفي اللغة: الألفية والكافية والتسهيل وسائر كتب ابن مالك، وكتاب سيبويه، والجمل للخونجي، وفي الفقه: التهذيب للبراذغي، ومختصر ابن الحاجب الفرعي، والرسالة لابن أبي زيد والحوفية في الفرائض، والذخيرة للقرافي، والعتبية، والنوادر والزيادات، والتبصرة للخمي ...، وفي الأصول: مختصر منتهى السول والأمل لابن الحاجب، والمحصول للرازي، ومختصره الحاصل لتاج الدين الارموي، والمستصفى للغزالي، والاحكام، للآمدي،، وتنقيح الفصول القرافي .. وغيرها من أمهات الكتب.
ومن التأليف الشهيرة التي كتبت في ذلك العصر، نذكر:(1/58)
- المختصر الفقهي لابن عرفة، قال الابي: ما وضع في الإسلام مثله، لضبطه في المذاهب مع الزيادة المكملة، والتنبيه على المواضع المشكلة، وتعريف الحقائق الشرعية(1). وقد ضم فيه فروع المذهب موشحا بالمناقشات النفيسة لابن الحاجب، وشرحه لشيخه ابن عبد السلام بنقول أهل المذهب، مصدرا جميع الأبواب بالحدود البديعة التي تقف فحول العلماء عند دقائقها(2).
وقد ذكر بعضهم في مدح هذا الكتاب هذه الأبيات:
إذا ما شئت أن تدعى إمام ... ... فخذ في درس مختصر الإمام
تنال به السعادة والمعالي ... ... وتضحى ظاهرا بين الأنام
كتاب قد حوى من كل علم ... ... كبستان سقى غيث الغمام
فدع عنك السامة وادرسنه ... ... وعن عينيك دع طيب المنام
وحل بدره جيد المعالي ... ... تفخر بالخلد في أعلى مقام(3)
ومما يذكر أحمد بابا في نيل الابتهاج أنه لما حج الإمام احمد بن قاسم القباب اجتمع في تونس بابن عرفة، فأوقفه هذا على ما كتب من مختصره الفقهي، فقال له: ما صنعت شيئا، فقال ابن عرفة: ولم؟ قال: لأنه لايفهمه المبتدئ، ولايحتاج إليه المنتهي، فتغير وجه الشيخ. ويقال: إن كلامه هذا هو الحامل لابن عرفة على أن بسط العبارة في أواخر المختصر، ولين الاختصار(4). قال الونشريسي: هذه حكاية لا رأس لها ولا ذنب(5).
- صدق المودة في شرح البردة، والاستيعاب لما في البردة من البديع والأعراب، لأبي عبد الله محمد بن مرزوق.
- اكمال اكمال المعلم في شرح صحيح مسلم لأبي عبد الله محمد الأبي، جمع فيه بين المازري وعياض والقرطبي والنووي، مع زيادات مفيدة من كلام شيخه ابن عرفة وغيره.
__________
(1) : الحلل السندسية
(2) : الحلل السندسية 1/568-569. وانظر 573
(3) : أزهار الرياض 3/96-37.
(4) : نيل الابتهاج 103- أزهار الرياض 3/73 – الحلل السندسية 1/639
(5) : أزهار الرياض 3/73(1/59)
- جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، لأبي القاسم بن احمد البرزلي. جمع فيه مسائل اختصرها من نوازل ابن رشد وابن الحاج والحاوي لابن عبد النور، وأسئلة عز الدين، وغيرها من فتاوي المتأخرين من أئمة المالكية المغاربة والافريقيين ممن أدركهم وأخذ عنهم، أو غيرهم ممن نقلوا عنهم.
- تكملة معالم الإيمان لابن الدباغ، وشرح رسالة ابن أبي زيد، وكلاهما لأبي القاسم ابن ناجي. وله كذلك: شرح المدونة، الشتوي والصيفي.
ترجمة القاضي الشماع
لقد سبت الإشارة من قبل إلى أن المصادر التي ترجمت للقاضي الشماع قليلة، وهي مع قلتها سكتت عن حياته ولم تقربنا منها إلا بما يفيد اسمه وبغض وظائفه وتاريخ وفاته، ومن تم يصعب وضع ترجمة وافية له. ولذلك سنقتصر على ما ورد في هذه المصادر، دون أن نغامر في افتراض أمور قد تكون بعيدة عن حياة هذا الرجل وأحواله.(1/60)
... تتفق جميع المصادر على أن اسمه الكامل هو : أحمد بن محمد الشماع الهنتاتي، أبو العباس. والهنتاتي نسبة إلى هنتاتة، إحدى قبائل مصمودة البربرية الكبرى بجنوب مراكش، فيكون على هذه النسبة من أصل مغربي. ولايستبعد أن تكون عائلته قد هاجرت من مراكش مع أنصار الموحدين واستقرت بافريقية لخدمة الدعوة الموحدية هناك، خاصة إذا علمنا أن المهدي بن تومرت أمام الموحدين كان من هنتاتة، وقد أثنى عليه الشماع كثيرا في رسالته، وأن بني حفص هم من هذه القبيلة كذلك. ولعل ما يؤكد مغربيته أن نسب "الشماع" كان متداولا بمراكش، وبعد عرف أحد أقطاب الفكر في القرن الثامن الهجري، وهو الفقيه أبو العباس احمد بن محمد الشماع المراكشي المتوفى سنة 789 هـ(1).
__________
(1) : أبو العباس أحمد بن محمد بن ابراهيم الاوسي المراكشي، شهر الشماع. ولد بمراكش وبها نشأ. فأخذ عن شيوخها، ثم طاف المغرب بحثا عن الشيوخ فنزل فاس وسبتة. أخذ عن الآبلي، وأبي القاسم السبتي، وسليمان بن سعدون، ويحيى بن رشيد الفهري، وابن جابر الوادي آشي وغيرهم. وكتب اليه خلق من تونس والاندلس، وانصرف مأخذه من مواد العلم إلى القراءات، ورواية الحديث، وعلم الاصول، وعلم اللغة والآداب، وتصدر للتدريس في مراكش وفاس. أخذ عنه أبو زكريا السراج، وابو الوليد ابن الاحمر، وابن مرزوق الحفيد، وابن قنفذ، وابن حياتي وغيرهم توفي 789هـ.
ترجمته في: فهرسة السراج ص 124- مخطوط خع 2643 – وفيات ابن قنفذ 87- أنس الفقير 68- وفيات الونشريسي 131 – وفيات ابن القاضي 224 – نيل الابتهاج 105 – فهرس الفهارس 2/413 – الاعلام للمراكشي 2/218 – دليل مؤرخ المغرب الاقصى 2/309 – اعلام المغرب العربي 4/391.
وقد خلط محققا الفارسية لابن قنفذ بينه وبين محمد الشماع، ولد القاضي الشماع، صاحب "الادلة البينة النورانية"، انظر فهرس الاعلام ص:296. والصفحات:18-21-60-86. وخلط محمد الحبيب الهيلة محقق الحلل السندسية للسراج بينه وبين القاضي الشماع. قارن 1/623 مع لائحة الاعلام 3/569.(1/61)
وقد شذ عن مألوف ترجمته الأستاذ محمد محفوظ، ونسبه إلى الولي الصالح المرجاني، فقال: هو احمد بن الولي الصالح أبي عبد الله محمد المرجاني الهنتاتي، شهر الشماع(1). وهذه النسبة في نظري بعيدة جدا، ولايعرف مصدرها. ويبدو في رأيي أنه لاعلاقة بين المرجاني والقاضي الشماع من وجوه:
1- أن المصادر التي ترجمت للقاضي الشماع لم تذكره بهذه النسبة(2).
2- ان الولي الصالح المرجاني هو أبو محمد عبد الله بن محمد المرجاني، متصوف، له معرفة بالفقه، ودراية بالتفسير على طريقة الصوفية، قدم مصر والاسكندرية ووعظ بهما. قال عنه الذهبي: لم يصنف شيئا، ولا كان أحد يقدر أن يعيد ما يقوله لكثرة ما يقول على الآية. ولد سنة 637 هـ وتوفي سنة699هـ. له : الفتوحات الربانية في المواعظ المرجانية، وهي دروس تفسير جمعها أحد مريده يعرف بابن السكري(3).
3- أن المترجمين للولي المرجاني لم يذكروا نسبته إلى الهنتاتي.
ومن المؤسف أننا لا نعرف شيئا عن مراحل نشأة القاضي الشماع، وأحوال والديه وأسرته. وكل ما أفادتنا به المصادر في هذا الشان أنه أخذ العلم بتونس على كبار علماء وقته بجامع الزيتونة، منهم:
1 – أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي (ت 803 هـ)، المنوه به سابقا، درس عليه التفسير والفقه والأصول(4).
2- أبو العباس أحمد القصار، أخذ عنه النحو واللغة وشروح البردة(5).
__________
(1) : تراجم المؤلفين التونسيين 3/208 – رقم: 298
(2) : يشير محمد الحبيب الهيلة في الاحالة علة صاحب "الأدلة البينة" فيجعله : ابن الشماع محمد بن احمد المرجاني، أبو عبد الله الحلل السندسية 3/569.
(3) : انظر العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين 1/151 – 152 - رقم: 13 – والمصادر التي يحيل عليها في الهامش.
(4) : ترجمت له في ص: 743 - هامش - 83
(5) : ترجمته في : نيل الابتهاج 107- والحلل السندسية 1/645 – وشجرة النور 226.(1/62)
3- أبو العباس أحمد بن حيدرة، قاضي الجماعة بتونس. كان اماما عالما حافظا للمذهب، نقل عنه البرزلي كثيرا في نوازله(1).
4 – أبو عبد الله محمد بن احمد الطبرني (ت 773 هـ)، الفقيه الراوية المحدث(2).
إن المطالع لرسالة القاضي الشماع "مطالع التمام" يلمس ملامح ثقافية أصيلة، تدل على إحاطته بشتى علوم عصره من أدب وفقه وأصول ونحو ولغة وتصرف، مما يفيد أن ثقافته كانت واسعة ومتشعبة. ويجد بالإضافة إلى هذا، مدى تمسكه بالمذهب المالكي ودفاعه عنه واستيعابه لاحكامه. وكان تمهره في هذه العلوم سببا في وصفه بأوصاف العلماء الكبار، فقالوا فيه: الشيخ، العالم، الفقيه، الصالح، الزاهد، الأديب، الشاعر(3).
وبالرغم مما كان يحظى به في وسط العلماء من التقدير والإجلال، إلا أنه لم يشتهر شهرة أقرانه من تلاميذ ابن عرفة، كالبرزلي، والأبي، وابن ناجي، لأن هؤلاء اشتغلوا بالتدريس والتأليف، في حين انصرف هو إلى خدمة السلطان وملازمته في أسفاره.
وكانت تربطه ببعض أصدقائه الذين درسوا معه على ابن عرفة روابط الود والتقدير والاحترام، كأبي يعقوب يوسف الزغبي(4). في حين كانت بينه وبين بعضهم خصومات خرجت عن نطاق اللباقة والادب، حتى أصبحت هجوا صريحا وسبابا مقذعا، مثل الذي وقع بينه وبين الحافظ البرزلي في مسألة العقوبة بالمال، حيث ألف هذا رسالة صغيرة وأفتى بجوازها ردا على رأي الشماع بتحريمها، ثم ألف الشماع بدوره جوابا طويلا عنها ضمنه كلاما كله طعن في شخصية البرزلي وعلمه ومكانته، وهجاه بقصيدة طويلة يحذر فيها السلطان أبا فارس من فتواه(5).
__________
(1) : نيل الابتهاج 106 – وشجرة النور 225 – الحلل السندسية 1/638. مسامرات الظريف 3/53.
(2) : نيل الابتهاج 461 – شجرة النور 226 – وفيات ابن قنفذ 378 – الحلل السندسية 1/681
(3) : فهرس الرصاع 31. 105 – وتاريخ الدولتين 128.
(4) : المعيار 5/358 – وتكميل الصلحاء ص : 11
(5) : مطالع التمام 232/ب و 233/أ(1/63)
ولقد أهلته مكانته العلمية إلى أن يتبوأ منزلة رفيعة ومقاما عاليا في بلاط السلطان أبي فارس عبد العزيز(عزوز). حيث عينه قاضيا على العسكر، وهو الذي يعرف عندهم بقاضي المحلة، وهي وظيفة جليلة، موضوعها أن صاحبها يحضر بدار العدل مع القضاة، ويسافر مع السلطان إذا سافر، ويفصل في الخصومات بين الجند، ويبين لهم أحكام الشريعة في المشكلات التي تعرض لهم(1)، كما كان خطيب جامع القصبة بجوار قصره، والامام الذي يصلي به مع الجماعة، والأستاذ الذي يظاهر به إذا غشي قصره وجوه العلماء من الأندلس والمغرب، وكان جليس أسماره، ورفيق أسفاره، يقيم في الحاضرة بإقامته، ويظعن إذا سافر إلى جهة من الجهات بظعنه. وهو الذي قرأ بجامع تلمسان الكبير بيعة أهلها له لما دخلها يوم 13 جمادى الثانية عام 827 هـ بحضور فقهائها الكبار(2). يقول الشيخ الرصاع: "وكان قاضي عسكره الشيخ الإمام العالم الصالح سيدي (أبي العباس أحمد الشماع)(3). ورأيت الشيخ القاضي المذكور قد قرأ البيعة بالجامع الأعظم بالبلدة، وحضر بها فقهاء وقتها وعلماء عصرها مثل الشيخ الامام العالم وحيد عصره وفريد دهره سيدي أبي عبد الله محمد بن مرزوق، وسيدي ابي القاسم العقباني، وسيدي أبي الفضل بن الامام، وابن النجار، وغير هؤلاء من العلماء والصلحاء"(4).
__________
(1) : راجع حول هذه الوظيفة: نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي لظافر القاسمي 2/258-263
(2) : اعلام المغرب العربي 5/24
(3) : ذكر الرصاع ان الذي قرأ البيعة هو ابنه محمد الشماع أبو عبد الله، ولعله خطأ من النساخ، وقد نقله كذلك ابن أبي دينار في المؤنس 154- وقارن كذلك بالحلل السندسية 2/187
(4) : فهرسة الرصاع ص : 31(1/64)
وكان السلطان عبد العزيز يقدر القاضي الشماع ويجله كثيرا، ويسني جائزته، ويشهد له بحوز قصب السبق والتقدم في العلم على غيره من الفقهاء والعلماء. ومن مظاهر عنايته به وتقديمه إياه، ان جعله ناظرا على جميع قضاة المحال وقضاة الكور وعدولها، وأنه كان يعينه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1).
ولعل ما يؤكد ما سبق ذكره من مظاهر الرعاية والحظوة والمكانة التي تبوأها القاضي الشماع لدى السلطان عبد العزيز، هذه الفقرة التي أوردها ابنه محمد الشماع في معرض الحديث عن فضائل السلطان المذكور، قال:
"ومن فضائله (أبو فارس) ملازمته لقراءة العلم بمجلسه سفرا وحضرا، وتواضعه وجلوسه الحصير حين قراءته للحديث النبوي، شاهدت ذلك منه – رحمه الله – أيام حضوري مع الوالد، وكانت تصدر منه حين القراءة نكت تدل على جودة فهمه وقوة ذهنه، وكان هو الذي يستدعي الوالد في كثير الأوقات للقراءة، ولاسيما حين يرد عليه من يرد من فحول العلماء من الأندلس والمغرب، وكان مولعا بتمييز الرجال، وكان يعترف للوالد بأنه أحرز قصب السبق ...
وأخبرني الوالد – رحمه الله – قال: استدعاني يوما للصلاة، اعني صلاة الصبح بغلس، وكان رحمه الله من عادته أن يصلي الصبح بغلس جماعة، ويركب فرسه في مآربه، فلما فرغنا من صلاة الصبح وركب وسار مع جنده قال: فبقيت في مكاني الذي صليت فيه وأنا مفكر في إعادة الصلاة، لأنه وقع عندي شك في طلوع الفجر، وهل وقعت الصلاة في وقتها أو لا؟. قال: وإذا به قد رجع منفردا من جنده إلى أن وصل إلي فقال لي: يا فقيه احمد، أما نصلي بعد هذا اليوم إن شاء الله حتى يتبين طلوع الفجر"(2).
__________
(1) : اعلام المغرب العربي 5/24-25
(2) : الأدلة البينة النورانية 144-145(1/65)
وإلى جانب حظوته عند السلطان أبي فارس، كان القاضي الشماع أثيرا عند ولي عهده محمد المنصور أبي عبد الله، ومحبوبا لديه. يقول ابنه في الأدلة البينة: "وكان رحمه الله خالص المحبة في الوالد – رحمه الله – وكان له نعم العون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جبله الله على فعل الخير والمسارعة إليه.
ولم يزل مثابرا على ذلك إلى أن توفاه الله سعيدا شهيدا ظاهر مدينة طرابلس في شهر رجب من عام 833هـ، وتولى الوالد - رحمه الله- غسله وتكفينه والصلاة عليه، ونقل إلى تونس فدفن بتربته بالقرب من دار الشيخ سيدي محرز بن خلف، وحزن الوالد لفقده إلى أن لحقه في شهر شوال من العام المذكور.
ولما قدمت على مونا المنتصر المرحوم عزاني في الوالد وقال: علمت انه سيلحق به في أقرب وقت من شدة وجده عليه"(1).
وللقاضي الشماع شعر في مدح السلطان عبد العزيز وابنه محمد المنصور، منه هذه الأبيات التي ضمنها قصيدته التي هجا بها الإمام البرزلي. يقول فيها:
أيا ذلك الإمام ومن إليه ... ... تناهى العز والشرف الخطير
ومن عظمت وقائعه وجلت ... ... صنائعه، فتم به السرور
على أساس مجدك في البرايا ... ... وجدك التقى نصب السرير
شددت الملك بالتقوى فتمت ... ... خصال المجد وانتظم النفير
وشيدت المنابر إذ بنتاها ... ... بنو حفص فعز لك النظير
عززت بنصره عند الاعادي ... ... ظفرت وحزت والله النصير
عقدت العزم في ترك الخطايا ... ... فمثلك لايجار ولايجور(2) ...
ومن شعره كذلك قصيدة يدعو فيها السلطان عبد العزيز إلى الجهاد ويمدح ولده محمد، عدد أبياتها 59 بيتا، يقول في بعضها:
تروح ليالي النصر فينا وتغتدي ... ... برجمة ذي الجاه العظيم الممجد
وأشرف خلق الله أصلا ومحتدا ... وخير نبي ضمه الحشر والندى
وأشرف مبعوث واكرم مرسل ... ... وأفضل آت بالهدى لمهتدي
فشد مطايا العزم واقصد محمدا ... نبيك يا عبد العزيز بن احمد
__________
(1) : نفسه 148-149
(2) : مطالع التمام 232/ب – والادلة البينة 146.(1/66)
حباك اله العرش سعدا مجددا ... ونصرا على مر الزمان المجدد
ويخاطب الامير محمد فيقول:
ويا عدة التوفيق والفضل والهدى ... وخير مليك للزمان مؤيد
تلقب بالمنصور في البأس والندى ... وفي الفضل كهف المسلمين محمد
شددت القوى والعزم من خير ملكه ... أفديك من بار على البر مسعد
فضوءك يهوي في هبوط إلى الثرى ... وجدك في خير صروف مسعد
اذكرك الله الذي عز شأنه ... وسلطانه من سيد وابن سيد
إلى أن يقول فيها:
واسالك اللهم ذا الطول آية ... من النصر تستولي على كل معتد
تخص بها عبد العزيز ونجله ... ... وأعوانهم في الحق من كل مهتد
بحرمة كهف العز والمصطفى الذي ... ... رفعت بناه فوق كل مشد
محمد المحمود في كل مشهد ... ... وأصحابه من راكعين وسجد
عليه سلام الله ما دامت الذنى ... ... وما ذكر الرحمن في كل مسجد(1)
ان المعلومات القليلة التي وقفنا عليها تفيد بان القاضي الشماع اشتغل بالتدريس قبل أن يلتحق بوظيفته في بلاط عبد العزيز قاضيا لعسكره. ومن أشهر التلاميذ الذين أخذوا عنه نذكر:
- ولده محمد الشماع أبو بعد الله صاحب "الادلة البينة النورانية"(2)
- أبو زيد عبد الرحمن بن مخلوف الثعالبي الجزائري (ت 877هـ) الامام العالم الشهير. صاحب التصانيف الكثيرة(3).
- أبو العباس بن كحيل، احمد بن محمد التجاني (ت 869 هـ)، كان عارفا بالفقه والتصوف، ألف فيهما كتابيه المقدمات، وعون السائرين إلى حق(4).
__________
(1) : الادلة البينة 147
(2) : لم أقف على ترجمته.
(3) : ترجمته في : نيل الابتهاج 257 – شحرة النور الزكية 264 – 265 الحلل السندسية 1/611-615 الضوء اللامع 4/152 – فهرس الفهارس 2/131 – فهرسته "غنيمة الوافد وبغية الطالب الماجد"، تقديم وتحقيق محمد الزاهي – نشرت بمجلة الحياة الثقافية التونسية – عدد 25 سنة 1983 ص : 135 – 160 – وتعريف الخلف برجال السلف 1/68.
(4) : نيل الابتهاج 126 – الضوء اللامع 2/126 – ردة الحجال 1/88 – شجرة النور 258(1/67)
تتفق المصادر التي ترجمت للقاضي الشماع على أن وفاته كانت في 30 من شوال عام 833 هـ. فتولى بعده خطتي الخطابة والقضاء الفقيه أبو عبد الله محمد المسراتي(1).
رسالة "مطالع التمام ونصائح الأنام"
لقد سبقت الإشارة إلى أن مسألة "العقوبة المالية" من المسائل الاجتهادية التي بحثها العلماء والدارسون قديما وحديثا، واختلفت فيها آراؤهم بين الإباحة والمنع، فلا نكاد نستقر داخل المذهب الواحد على رأي واحد.
وعرفنا مما سبق كذلك أن فقهاء المذهب المالكي هم اكثر الفقهاء اهتماما بهذه المسالة وتفصيلا للقول فيها. وذلك راجع إلى كون مبنى هذه المسألة عندهم اعتبار المصلحة، واعتبار المصالح أصل من أصولهم، فرعوا عليه كثيرا من المسائل، ومنها مسألة "العقوبة المالية".
__________
(1) : مصادر ترجمة القاضي الشماع:
- ... الأدلة البينة النورانية 144-149
- ... فهرسة الرصاع ص : 31- و 105
- ... المؤنس لاين أبي دينار 154
- ... الحلل السندسية 1/593
- ... تاريخ الدولتين للزركشي 128
- ... تكميل الصلحاء والاعيان ص : 11و309 – رقم:43
- ... نيل الابتهاج ص : 111
- ... مسامرات الظريف بحسن التعريف 3/56.
- ... الاعلام بمن حل مراكش من الاعلام 2/220-221
- ... الضوء اللامع 2/263
- ... شجرة النور الزكية ص : 244- رقم:876
- ... النشرة العلمية للكلية الزيتونية – السنة الاولى – العدد الأول – ص: 206
- ... اتحاف أهل الزمان لابن أبي الضياف 1/183
- ... كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين 2/773-774 – قم:215
- ... تراجم المؤلفين التونسيين 3/208 – رقم 298
- ... اعلام المغرب العربي 5/24-27- رقم 1388
- R.Brunschvig : la Berbérie orientale sous les Hafsides 2/123.(1/68)
وقد أشرت إلى ان هذه المسألة شغلت حيزا كبيرا من اهتمام المتأخرين من فقهاء المذهب المالكي بالمغرب، في إطار اهتمامهم بما استقر الرأي عندهم على الأخذ بما جرى به العمل في بعض القضايا التي وقع فيها الخلاف بينهم، درءا لمفسدة، او جلبا لمصلحة، أو إقرارا لعرف سائد، استنادا إلى اختيارات الشيوخ المتأخرين القائمة على تصحيح بعض الروايات والأقوال الموجبة لذلك.
لقد قسم فقهاء المالكية العقوبة المالية إلى قسمين:
- العقوبة في المال، وهي أن يعاقب الجاني بأخذ ماله الذي ارتكب به المعصية أو كان سببا فيها وإتلافه او صرفه في وجوه المصلحة التي يراها القاضي باجتهاده. ولاخلاف بين الفقهاء في كون هذه العقوبة جائزة، وهي ثابتة عند الامام مالك. قال أبو حامد الفاسي:"اما القسم الأول فإنه مما ينخرط في سلك العقوبة في المال، والمقصود منها إتلاف المال الذي وقعت به معصية الله تعالى وحصل الفساد، ورفع ضرره عن المسلمين. قال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي: وهي ثابتة عند مالك، ولها أصل ثابت على كل حال"(1).
- العقوبة بالمال، وهي أن يأخذ الحاكم من الجاني قدرا من المال تعزيرا وأدبا له على معصيته وجريمته، في غيرما ارتكبه من الحدود. وقد اختلفت آراء الفقهاء فيها، فمنعها البعض، وأجازها البعض الآخر، ولكل فريق وجهة نظره المبنية على الأدلة التي استند إليها.
__________
(1) : جوابه في مسالة العقوبة بالمال ص :7 – وقارن بالاعتصام للشاطبي 2/124- وبدائع السلك لابن الأزرق 1/297- والمعيار الجديد 10/189 – وتحفة الحذاق 266 – وشرح نظم العمل 2/428 – وفصل الأقوال 4- والأبحاث السامية 1/48(1/69)
وقد جاءت رسالة القاضي الشماع "مطالع التمام.." لتعكس الرأيين معا، الرأي المجيز ويمثله الحافظ أبو القاسم البرزلي(1)،
__________
(1) : هو الحافظ أبو الفضل، أبو القاسم بن حامد بن محمد بن المعتل البلوي، المعروف بالبرزلي القيرواني. من اعلام المالكية في عهد الحفصي. يلقب بشيخ الإسلام، وشيخ الشيوخ. ولد بالقيروان سنة 741 هـ. قرأ على الفقيه الخطيب محمد بن مرزوق التلمساني شيئا من الصحيحين،والشاطبيتين (حرز الأماني، وعقيلة أتراب القصائد)، وعلى الفقيه الصالح بن الحسن اليطرني القراءات السبع، وعلى الامام ابن رعرفة بعض صحيح مسلم، وجميع صحيح البخاري، والموطأ، والشفا للقاضي عياض، وعلوم الحديث لابن الصلاح، وجميع تهذيب المدونة للبرادعي مرارا، وتاليف ابن الحاجب الفرعي، وكثيرا من تأليف ابن الحاجب الاصلي، ومعالم الدين لابن التلمساني، وجمل الخونجي، وكثيرا من محصل الأرموي في الأصول، وقرأ عليه مختصره المنطقي، وفي الاصلين، واكثر مختصره الفقهي، وأجزه الجميع. لازمه نحو أربعين سنة، فأخذ عنه علمه وهديه وطريقته، وكان من تلامذته النبغاء، يفتخر به هو والأبي. وقرأ على الفقيه أبي محمد عبد الله الشبيبي القراءات السبع وغيرها، وتهذيب المدونة، والتفريغ لابن الجلاب، والرسالة لابن أبي زيد لازمه عشر سنوات من 760 هـ إلى 770. قدم القاهرة سنة 806هـ وأجاز للحافظ ابن حجر العسقلاني.
من تلامذته: ابن ناجي، وحلولو، والرصاع، والثعالبي، ومحمد القلشاني، ومحمد التريكي، احمد التجاني، وغيرهم كثير.
تولى البرزلي التدريس بمدرسة ابن تافراجين، ولما توفي الشيخ أبو مهدي عيسى الغبريني سنة 815 هـ، تولى بعده الامامة والخطابة بجامع الزيتونة – والفتيا بعد صلاة الجمعة.
من مؤلفاته : جامع مسائل الأحكام، يعرف بديوان البرزلي، والحاوي في الفتاوي ، وفهرسة بأسماء مروياته. توفي – رحمه الله – سنة 843هـ او 844 هـ.
ترجمته في : نيل الابتهاج 368- شجرة النور 245 – درة الحجال 3/282 – الضوء اللامع 11/113 – البستان لابن مريم 150- الحلل السندسية 1/685 – تكميل الصلحاء 9-11 تاريخ الدولتين 96-118-122 – توشيح الديباج 266 – مسامرات الظريف 1/212.(1/70)
وهو رأي – كما أوضحت – مخالف لمشهور مذهب الإمام مالك، وقد أيده جمهور من الفقهاء بالمغرب. والرأي المانع، ويمثله القاضي الشماع، وهو الرأي الراجح في مذهب الامام مالك.
وقعت مناقشة المسألة ومراجعتها بين الفقيهين المذكورين بمجلس السلطان الحفصي أبي فارس عبد العزيز في أوائل شهر محرم من سنة 828 هـ(1)، فأملى فيها الحافظ البرزلي جوابا مطولا على تلامذته في قدر ساعتين(2)، ذهب فيه إلى جواز العقوبة بالمال. وكان رأيه تعبيرا عن الاتجاه الرسمي للدولة في معاقبة الجناة بالعقوبة المالية. يذكر السراج نقلا عن عبد الله الترجمان في كتابه "تحفة الأريب" أن أبا فراس عبد العزيز أبطل امكاسا كانت بتونس، منها مجبى الصوابنيين ومقداره ستة آلاف دينار، وأباح للناس عمله (الصابون)، بعد أن كان عملة محصورا، متوعدا فاعله بالعقوبة المالية(3).
وتتلخص فتوى البرزلي في هذه الفقرة التي أوردها الشماع بالحرف في رسالته "مطالع التمام"، قال:
"والذي أقوله الآن في بوادي افريقية وأعرابها والبلاد النائية عنها من الحواضر التي هي محل بث الشرع، وغلب الجهل، والتعرض للأموال، والأخذ بالدماء، والهروب بالحريم، وأخذ الأموال بالخيانة والغش والحرابة والمعاملات الفاسدة، أن يفعل بهم ما يقطع هذه المفاسد من التعرض لبعض مال الجاني وبدنه وسجنه عقوبة له، فيوقف من ماله ما يحسم به مادته، أما بإعطائه للمجني عليه، أو يرد عليه أن حسنت حاله، أو يوضع في بيت المال، أو يتصدق به، كما هو في بعض المسائل الآتي ذكرها. وهذا الذي تدل عليه بعض المسائل المالكية والقواعد الشرعية والاجتهادية"(4).
__________
(1) مطالع التمام 186 / ب – 187 / أ – و196 / أ
(2) : مطالع التمام 232/أ
(3) : الحلل السندسية 2/186
(4) : مطالع التمام 199 / أ(1/71)
وقد اعتبرت فتواه في ذلك الوقت مخالفة لأصول الشريعة، ومشهور مذهب الإمام مالك، وخارجة عن إجماع الأمة. وممن ناقض فتواه الشيخ محمد بن مرزوق، ويعقوب الزغبي والقاضي أحمد الشماع(1)الذي رد هذه الفتوى وألف في ذلك رسالته "مطالع التمام".
وقد وصلت هذه الفتوى إلى فقهاء المغرب في القرب 10 الهجري، وناقشوها وألفوا فيها رسائل صغيرة، منها تقييد أبي سالم الكلالي في العقوبة بالمال، وجواب أبي حامد محمد العربي الفاسي. وقد اختلفت آراؤهم في المسألة بين مؤيد ومانع، وكان مما استند إليه المؤيدون رعاية المصلحة للضرورة، فأجازوا تطبيق العقوبة بالمال خاصة في المناطق البعيدة عن حكم السلكان. قال سيد العربي الفاسي: "ومقتضى هذا أنه إذا تعذرت إقامة الحدود ولم تبلغها الاستطاعة، وكان التغيير يحتاج إلى إيقاع الزواجر، وكانت الاستطاعة تبلغ إلى إيقاع تعزير يزدجر به، تنزلت أسباب الحدود منزلة أسباب التعزيرات، فيجري فيها ما هو معلوم في التعزير. وليس المراد أن الحد يسقط بذلك، ولكن ذلك غاية ما تصله الاستطاعة في الوقت، دفعا للمفسدة ما أمكن، وتوخيا لتغيير المنكر على قدر الاستطاعة، فإن أمكنت بعد ذلك إقامة الحد أقيم، ان اقتضت الشريعة إقامته، والظالم أحق أن يحمل عليه، وذلك ثمرة عدم الإذعان لإقامة حدود الله تعالى"(2).
ألف القاضي الشماع رسالته "مطالع التمام" سنة 828 هـ حسبما صرح به هو نفسه، فقال:"ثم هذا الاجتهاد إخراج إلى شيء لم يقل به أحد، ولم يوجد مثله على تطاول الإعصار.. من مبدأ الإسلام إلى اليوم ثمانمائة سنة وثمان وعشرون ونيف"(3).
__________
(1) : مطالع التمام 187 / ب
(2) : جوابه ص : 5
(3) : مطالع التمام 195/ب(1/72)
كان الغرض من تأليف هذه الرسالة هو مناقضة البرزلي وردها والجواب عنها بما يبطلها، قال القاضي الشماع: "ولما وجب تغيير هذا المنكر الفضيع، ورد هذا المنكر الشنيع، وكلت الكلام فيه مرة لأهل البأس في الدين والشدة، واستنجدت في ذلك من من استنجدني ممن اعتقد ان لديه الحمية الإيمانية بأوفر نصيب، وقلت لعل الله يكفي بما شاء، فلم أر من تعرض لذلك من مخطئ ولامصيب، بل كلهم أحجم وقال: هذا يوم عصيب، وعلمت أن خيرا مما عند الناس ما عند الله، وتحققت أنه إذا ظهرت البدع وسكت فعليه لعنة الله، فاستخرت الله تعالى فيما أنبه به الغافل، وأبصر به الجاهل، رجاء الموعود به فيمن دعا إلى الهدى..."(1).
وقد تتبع الشماع رسالة البرزلي فقرة فقرة، وناقش كلامه وأدلته، مستحضرا في ذلك نصوص من تقدمه من الفقهاء وأدلتهم في المسألة، وسمى رسالته: "مطالع التمام ونصائح الأنام ومنجاة الخواص والعوام في رد القول بإباحة اغرام ذوي الجنايات والإجرام زيادة على ما شرع الله من الحدود والاحكام". وهذا هو العنوان الرئيسي للرسالة المكتوب على وجهها. وقد اقترح المؤلف تسعة عناوين أخرى، وأعطى للقارئ حرية اختيار ما يراه ملائما منها فقال: وإن شئت فسميه:
أو ... ... - النصائح الجلية في فضائح القول بتحليل الخطية
أو ... ... - نصح البرية في تخطية من حلل الخطية
أو ... - رد الرأي المضلل في الظلم المحلل
أو ... - الرماح الخطية في دفع القول بتحليل الخطية
أو ... - العضب الباترة للآراء الخاسرة
أو ... - طعان الأسنة لمن خالف الكتاب والسنة
أو ... - رمي السهام لمن ضلل الحكام
أو ... - العذب السلسال في تحقيق الحق في منع العقوبة بالمال
أو ... - نصح الخلفا في التحصن بحصون الوفا والاعراض عن مقالات أهل الغلو والجفا اتباعا لشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم(2).
__________
(1) : مطالع التمام 185/أ
(2) : مطالع التمام 186 / ب(1/73)
سلك القاضي الشماع في تحرير الرسالة منهج أهل الجدل الذي اتخذوه أساسا في المناظرة والمحاورة، وهو إيراد كلام الخصم بلفظه أولا، ثم التعرض لنقضه ثانيا، حتى يتخلص من التهمة بتغييره أو نقصه، ويكون كلامه موازنا لكلام خصمه وموازيا له في النظر العقلي. وهذا منهج محمود عند أهل المناظرة وأصحاب الأساليب الجدلية ومثال على ذلك قوله: "قال المفتي المذكور: وقعت مسألة بين يدي الخليفة أمير المؤمنين، الملك الصالح العدل المجاهد في سبيل الله، أبي فارس عبد العزيز أيده الله ونصره، وهي ما يعاقب به الجاني إذا ارتكب جرحا، أو قطعا، أو هروبا بامرأة، أو أخذ مالا بسرقة أو خيانة أو بحرابة، أو نحو ذلك من التعدي والغصب، وهي مسألة مشهورة بافريقية بالعقوبة بالمال في هذه الجنايات.
أقول: أن أرادانها مشهورة الحرمة بين العلماء يذكرونها في مجالسهم ومذاكراتهم فصحيح، وهو حجة عليه فيما رام من التحليل. وان أراد بأنها مشهورة، بأنها من الحق والعدل، فبهتان مبين .."(1).
"قال: هذه المسالة ينبغي أن تجري على حكم المصالح المرسلة، وهو الوصف المناسب الذي لم يشهد له الشرع بإهدار ولا اعتبار.
أقول: هذا كلام فاسد، وقول عن سبيل الحق حائد، وذلك من وجوه ..."(2).
ويعزز القاضي جوابه بأدلة من الكتاب والسنة، وآراء الفقهاء وأقوالهم في المسألة، خاصة ابن رشد الذي أكثر النقل عنه في الكتاب "البيان والتحصيل".
ويتلخص رأيه في المسألة فيما يلي :
1- أن العقوبة بالمال المسماة بالخطية معلوم تحريمها بالضرورة من الدين، حرمتها نصوص الشريعة القاضية بتحريم أموال الناس بالباطل، وهي نصوص قطعية متظاهرة لا تقبل النسخ والتبديل والابطال.
__________
(1) : مطالع التما م 186/ب
(2) : مطالع التمام 188/ ب(1/74)
2- أن الاجتهاد في المسألة وبناءها على المصالح المرسلة غير مقبول وخارج عن المعقول، ومخالف للإجماع وأهل الأصول، لأن تحريمها منصوص عليه في الكتاب والسنة، ولايجوز الاجتهاد مع وجود النص.
3- أن الامام نص على أنه لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وان قتل نفسا، فيستفاد من عموم قوله المنع من بناء المسألة على المصالح المرسلة وعلى غيرها، لأن النص المذهبي للمقلد بمنزلة النص النبوي للمجتهد المطلق.
4- أن العقوبة في الأموال أمر كان أول الإسلام ثم نسخ، وعادت العقوبات على الجرائم في الابدان، على ما حكاه ابن رشد وغيره، فإذا وقع نسخ الوجوب رجع أخذ المال إلى أصله المشروع، وأصله المعلوم المقطوع به حرمة أخذه بغير حق.
5- أن غرم المال لا ينهض زاجرا على الشهوات والاهواء الغالبة، لأن من غلبت عليه شهوة اللذة أو الانتقام يستسهل في طلبها دفع المال وانفاقه، وكل شهوة تمكنت وعلاقة استحكمت سهل على صاحبها بذل المال لتحصيلها.
6- إذا ثبتت الحدود وجب إقامتها على صاحبها، وإذا لم تثبت وجب درؤها بالشبهة، كما قضت بذلك السنة، فلا موجب لاستبدال الحد بغرم المال.
وقد ختم المؤلف رسالته بقصيدة تشتمل على خمسة وسبعين بيتا ضمنها الأفكار التي ناقش بها الحافظ البرزلي، تتخللها عبارات الهجو والقدح والتقريع.
اعتمد القاضي في تأليفه على مصادر متنوعة، أكثرها في الحديث والفقه والاصول. وهي مصادر معروفة، كانت متداولة في حلقات الدرس في تلك الفترة. أذكرها على الترتيب التالي:(1/75)
في الحديث: صحيح البخاري – صحيح مسلم – سنن الترمذي - السنن الكبرى للنسائي – سنن أبي داود – الموطأ للإمام مالك – معالم السنن للخطابي – الإكمال للقاضي عياض – الاستذكار لابن عبد البر – شرح صحيح البخاري لابي حفص عمر الانصاري – الاحكام الصغرى لعبد الحق الاشبيلي – المنتقى لابي الوليد الباجي – شرح صحيح مسلم للنووي – عارضة الأحوذي لأبي بكر بن العربي – شرح الاحكام الصغرى لابن بزيزة.
في التفسير: أحكام القرآن لابن العربي – أحكام القرآن للقرطبي – جامع البيان للطبري.
في السيرة: الاكتفاء في المغازي والسير لأبي الربيع الكلاعي – كتاب الاقضية لابن الطلاع.
في الفقه: رسالة البرزلي في العقوبة بالمال – مسائل أبي الوليد بن رشد، سماه كتاب الاسئلة – الاشراف على مذهب أهل العلم لابن المنذر النيسابوري – الاقناع في مسائل الاجماع لابن القطان – البيان والتحصيل لابي الوليد بن رشد – الوثائق المجموعة لابن فتوح البنتي – النهاية والتمام للمتيطي – المدونة للامام مالك برواية سحنون – الرسالة لابن أبي زيد القيرواني – التبصرة للخمي – التنبيه على مبادئ التوجيه لابن بشير – مختصر ابن الحاجب الفرعي – الاحكام السلطانية للماوردي – النكت والفروق على المدونة لعبد الحق الصقلي – قواعد الاحكام للعز بن عبد السلام.
في الاصول: البرهان لامام الحرمين الجويني – مختصر ابن الحاجب الاصولي – الاحكام للآمدي – المستصفى للغزالي – المحصول للفخر الرازي – شرح تنقيح الفصول للقرافي – الاستشفاء بما في تحصيله شفاء (في القياس) لابي بكر بن العربي.
في علم الكلام: شرح المعالم في أصول الدين لابن التلمساني – شرح العقيدة للتادلي.
في التاريخ والتراجم: ترتيب المدارك للقاضي عياض – تاريخ لمتونة لابن الصيرفي.(1/76)
جمع القاضي الشماع في كتابة رسالته بين أسلوب الفقهاء والاصوليين وبين أسلوب أهل البلاغة والبيان، ويتميز أسلوبه في الغالب بمسحة أدبية تتسم بالمبالغة والتكلف في البحث عن الكلمة، وتزدحم فيها المحسنات البديعية من جناس وطباق. ومثال على ذلك نورد هذه الفقرة. قال:
"... واعتقاد أن ما شرعه لا يفي بزجر العباد، وان ما احدث من اخذ الأموال هو الرادع، وتسهيل طريق العصيان على من أراد رفع القليل من الإيمان، وتكمين حب المعاصي من قبول الولاة والعلماء، إذا انتهى اليهم جناية أو معصية يأخذون فيها المال، وذلك كله مسبب لسخط الرحمن واستجلاب النيران وحرمان الجنان، وإلى متى تمد العنان فيما هو ضروري بالمشاهدة والعيان؟. هدى الله هو الهدى، ومن اتبع رسول الله فقد اهتدى، وإياكم والمحدثين وما أحدثوا، فإنهم عن آرائهم التي لم يشهد لها كتاب ولاسنة حدثوا، اتوا من الافتراء بكل أعجوبة، وقلوبهم عن الانوار محجوبة..."(1).
إن ما يمكن مؤاخذته على القاضي الشماع في رسالته هو كثرة استعماله لعبارات الهجو والتجريح والقدح، والمبالغة في التشنيع على الحافظ البرزلي بكلام لا يليق بمكانته وعلمه وعلو شأنه وارتفاع قدره بين العلماء، ورميه بأمور هي بعيدة عن الحقيقة والصواب منها، قوله: "ولقد حدثني ثقات ذو عدد أن شيخنا الامام ابن عرفة – رحمه الله – كان يدعو غير مرة ربه أن يحفظ دين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من البرزلي"(2)، فهذا مخالف للحقيقة. فقد نقل العلماء أن ابن عرفة كان يعترف به ويقدره، وهو تلميذه المخلص الذي لازمه نحوا من 40 سنة، وكان يقول فيه هو والامام الابي: "كيف أنام بين أسدين، الابي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه ونقله".
__________
(1) : مطالع التمام 202 / أ
(2) : مطالع التمام 228/ أ(1/77)
وقد بالغ الشماع في تقريع البرزلي مبالغة خارجة عن آداب المناظرة والمناقشة والمذاكرة، فقال في آخر رسالته: "... فليت الأمة فقدتك قبل أن تقول ما قلت، وليت أمك لم تلدك، وليتها اذ ولدتك لم تتعلم، وليتك اذ تعلمت لم تتكلم، وليتك اذ تكلمت لم تلج لجاجك، ولم تقم على هدم الشريعة حجاجك، وليتك إذا تكلمت لم تصدر للأخذ عنك، وليتك إذ صدرت، وأنت لاتحسن ما صدرت له في ورد ولا صدر، لم تقبل، وليتك إذ قبلت أمسكت عنانك عما لايعني، واتبعت جنانك ليتبين لك ما أنت على الدين تجني، ولقد بلغني تواترا عن شيخنا الامام – رحمه الله – مقالات جملة من جملتها أنه سأل الله أن يحمي دينه منك"(1). غفر الله له وعفا عنه.
إذا استثنيا عبارات التجريح والهجو والقدح، فإن الرسالة تبقى لها قيمة كبيرة بين الكتب التراثية الفقهية من ناحيتين:
- الناحية العلمية: فالرسالة من النصوص النادرة ان لم نقل الفريدة في المذهب المالكي، التي تناولت مسألة "العقوبة المالية" بنوع من التوسع والاستيعاب، وناقشتها بالأدلة النقلية والعقلية.
- الناحية التوثيقة: فقد احتفظت الرسالة بنصوص نقلها القاضي الشماع من مصادر تعتبر عند الباحثين في عداد المفقود من التراث الإسلامي، منها: رسالة الحافظ البرزلي في العقوبة بالمال – وكتاب "الاستشفاء بما في تحصيله شفاء" للقاضي أبي بكر بن العربي، وهي رسالة في القياس – وكتاب تاريخ لمتونة لابن الصير في أبي بكر يحيى بن محمد الغرناطي، كاتب الأمير تاشفين بن علي، ويسمى "الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية"، وقد ضاع الكتاب وبقيت منه شذرات تناقاتها المؤلفات بعده، كالبيان المغرب لابن عذاري، والإحاطة وأعمال الاعلام لابن الخطيب، والجمان في اخبار الزمان للشطيبي.
__________
(1) : مطالع التمام 232/ أ(1/78)
لقد تداول علماء هذه الرسالة، وجعلوها مرجعا لهم في بحث مسالة العقوبة المالية(1). ولايمكن أن أجزم في شأن تاريخ دخولها إلى المغرب بشيء.
منهج التحقيق
ان النسخة التي اعتمدتها في تخريج النص وتحقيقه هي النسخة المحفوظة بخزانة الاسكوريال باسبانيا والمسجلة تحت رقم:1140، وقد حصلت عليها مصورة على الشريط، وهي النسخة الوحيدة - فيما أعلم – التي قدر لي الاطلاع عليها، وتوجد في معهد المخطوطات العربية مصورة عنها تحت رقم "ف 34 فقه مالكي". وقد قمت بالبحث عن النسخ الأخرى في الخزائن المغربية المعروفة فلم يسعف ذلك في الحصول على المقصود. واستشرت في هذا الصدد نخبة من العلماء والباحثين الذين لهم إلمام واهتمام بالكتب التراثية، أذر منهم: العلامة محمد المنوني، والعلامة سعيد أعراب، والعلامة محمد بو خبزة التطواني والدكتور محمد أبو الاجفان، والدكتور جمعة شيخة قيم دار الكتب الوطنية بتونس، فأكدوا لي هؤلاء جميعا – بعد البحث – عدم معرفتهم بنسخ أخرى من الرسالة.
ولا أستبعد أن تكون هناك نسخة أو نسخ أخرى من الرسالة موجودة بالخزائن المغربية ضمن مجاميع غير مفهرسة، أو محفوظة في خزانات خاصة، مما يجعل مهمة البحث عسيرة وشاقة، ويعكس في آن واحد واقع البحث في الكتب التراثية المخطوطة وما يكتنفه من عقبات وصعوبات.
تقع النسخة المعتمدة ضمن مجموع يتألف من 321 ورقة، ويحتوي على خمسة كتب منسوخة بخطوط مختلفة ومرتبة على النحو التالي:
- تحرير ما اشتمل عليه مختصر الشيخ ابن عرفة من الحقائق الشرعية من 3/أ إلى 28/ أ.
- الهداية الكافية الشافية لأبي عبد الله محمد الرصاع – من 30/أ إلى 183/ب
__________
(1) : ورد ضمن فهرس الكتب المتخلفة عن العلامة المؤرخ أبي الربيع سليمان الحوات (ت 231/ هـ) كتاب: ابن الشماع في تحريم المغارم. انظر: أربع خزائن لأربعة علماء من القرن الثالث عشر – الأستاذ عبد الله كنون – مجلة معهد المخطوطات العربية – المجلد 9-1963- ص: 64.(1/79)
- مطالع التمام ونصائح الانام لأبي العباس الشماع – من 184/ب إلى 233/ب
- جمع الجوامع في الأصول لأبي البقاء محمد السبكي – من 238/أ إلى 263/ب
- عمل من طب لمن حب لابي عبد الله محمد المقرى – من 264 / أ إلى النهاية.
تتألف رسالة "مطالع التمام" من 99 صفحة، بقياس 23 x 15,5، في كل صفحة 25 سطرا، باستثناء الصفحة 193/ أ التي تضمنت 26 سطرا، في كل سطر 18 كلمة في المتوسط.
كتبت النسخة بخط مغربي مقروء، دقيق ومدموج. وناسخها هو أبو العباس احمد بن يحيى الونشريسي الذي جاء ذكر اسمه واضحا في الصفحة الأخيرة من الرسالة، وكان الفراغ من النسخ يوم الاثنين 29 جمادى الاولى عام 885 هـ(1). كتب الناسخ بعض الكلمات بقلم غليظ، مثل عبارات الترتيب: الأول الثاني .. والعبارت التي تفيد السؤال والجواب مثل : قال ... قلت، ... قلنا– سلمنا جدلا – وأسماء الأعلام كابن عبد البر – وابن عرفة – والقاضي عياض – والمازري - ... والعبارات التي تدل على الاستنتاج مثل: والحاصل من ...، وأسماء بعض الكتب مثل: الاكمال – والاستشفاء – والبيان والتحصيل – والنهاية والتمام، وبعض الأبيات الشعرية.
تمتاز النسخة بمميزات تجعلها من النسخ الجيدة، منها:
- أن ناسخها من العلماء المشهورين والمتخصصين في الفقه والنوازل، ومن المشتغلين بالتأليف فيهما. له في ذلك تأليفا مشهورا جمع فيه نوازل فقهاء الأندلس والمغرب وتونس سماه "المعيار المعرب والجامع المغرب". وهذه ميزة تجعل احتمال ورود الخطأ والتصحيف والمسخ الذي يقع فيه النساخ عادة أمرا نادرا وضئيلا جدا.
- ان النسخة كتبت بخط مقروء خال من الاخطاء والتصحيفات، إلا قليلا مما يعتبر من سبق القلم.
__________
(1) : ورد الإعلام للزركلي 1/269 في أثناء ترجمة أبي العباس الونشريسي صورة للصفحة الأخيرة من رسالة "مطالع التمام"، مصورة عن النسخة المعتمدة.(1/80)
- ان النسخة خالية من أي أثر من آثار الإتلاف والتلاشي، فهي نسخة كاملة تامة لابتر فيها ولانقص.
- ان النسخة كتبت سنة 885 هـ، فهي قريبة من زمن المؤلف، ولايفصلها عن تاريخ وفاته إلا بنحو 52 سنة.
- ولما كانت النسخة المعتمدة هي النسخة الوحيدة التي وقفت عليها، فقد رجعت إلى المصادر التي نقلت منها، وجعلت هذه النقول بمثابة نسخ المقابلة، فاستأنست بها في المقارنة والموازنة بينها وبين المتن في الأصل. وقد وردت هذه النقول في المصادر التالية:
- جواب أبي حماد محمد العربي الفاسي في العقوبة بالمال. مخطوط الخزانة الحسنية رقم:9566.
- التيسير والتسهيل في ذكر ما أغفله خليل من أحكام المغارسة والتوليج والتصيير، لعبد الرحمن بن عبد القادر المجاجي – مخطوط الخزانة العامة رقم: د 2425.
- الأمليات الفاشية في شرح العمليات الفاسية – لأبي عثمان سعيد بن قاسم العميري – مخطوط مكتبة عبد الله كنون – رقم: 6427.
- المعيار الجديد المعرب – للمهدي الوزاني – الطبعة الحجرية
- شرح نظم العمل الفاسي – لأبي عبد الله محمد بن قاسم السجلماسي – الطبعة الحجرية.
- تحفة الحذاق شرح لامية الزقاق – لأبي حفص عمر الفاسي – الطبعة الحجرية
- أجوبة أبي الحسن علي التسولي على أسئلة عبد القادر الجزائري – الطبعة الحجرية.
- الجواهرة المختارة فيما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة – لأبي فارس عبد العزيز الزياتي – مخطوط خاص.
- حاشية محمد البناني على شرح الزرقاني.
- فصل الأقوال في الجواب عن حادثة السؤال ونفي العقوبة بالمال للشيخ محمد الاخميمي.
- بدائع السلك في طبائع الملك لأبي عبد الله محمد بن الأزرق.
يتمثل عملي في تخريج النص وتحقيقه في الخطوات التاالية:
1- أعدت قراءة النص ووضع علامات التنقيط حسب ما سمحت به مقدرتي على القراءة واستيعاب الأفكار وتصور المعاني.(1/81)
2- قابلت النسخة مع المصادر التي نقلت بعض فقرات الرسالة، وأحلت على الفروق في الهامش، وقد ساعد ذلك إلى حدما على قراءة النص قراءة سليمة.
3- قمت بتخريج الآيات القرآنية، بإثبات اسم السورة ورقم الآية، وتصحيح بعض الأخطاء القليلة في كتابتها الناتجة عن سبق القلم.
4- قمت بتخريج الأحاديث النبوية والآثار التي ذكرها المؤلف بالإحالة على مظانها الأصلية المعتمدة، والإشارة إلى الفروق بين ألفاظها وروايتها في الأصل.
5- قابلت النقول التي أوردها المؤلف مع مصادرها الأصلية المخطوطة والمطبوعة. مما ساعد على تصحيح بعض الأخطاء، وإكمال بعض النقص. وقد أحلت على الفروق بين النقل والأصل في الهامش.
6- ترجمت للإعلام الواردة في النص بذكر الإسم كاملا، والتخصص، والشيوخ، والتلاميذ، والمؤلفات، وتاريخ الوفاة، مع الإحالة على مصادر الترجمة.
7- تتبعت الشواهد الشعرية التي أوردها المؤلف، وقابلتها مع المصادر التي وردت فيها، وتركت ما تعذر علي الوقوف عليها في مظانها.
8- أرجعت المسائل العلمية التي ناقشها المؤلف إلى أصولها، كلما تيسر لي ذلك، وأحلت على المصادر في الهامش.
9- وضعت عناوين فرعية للفقرات الرئيسية في النص وميزتها بين معقوفين حتى يسهل على القارئ تصور مضمون الرسالة وتتبع أفكارها.
10 – وضعت فهارس عامة للنص: فهرس للآيات – فهرس للأحاديث والآثار – فهرس للكتب – فهرس للإعلام – فهرس للقوافي الشعرية.
كتاب مطالع التمام ونصائح الانام
ومنجاة الخواص والعوام في رد القول
باباحة اغرام ذوي الجنايات والاجرام
زيادة على ما شرع الله من الحدود والاحكام
تأليف
الشيخ الفقيه الامام العالم العلامة المحقق
والاصولي الفاضل المدقق قاضي المحلة المظفرة
السيد أبي العباس احمد الشماع قدس الله روحه
بسم الله الرحمن الرحيم ... ... وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم تسليما(1/82)
قال قاضي المحلة، ومفتي الحضرة التونسية، أبو العباس أحمد الشماع رحمه الله: الحمد لله الذي أقام لدينه العلماء المهتدين، والخلفاء الراشدين، في كل عصر حفظه، وجعل الشياطين على السنة الجهلاء والحائرين في كل دهر لفظه(1)، ليبلو بعض العباد ببعض، فيميز من أضاع دينه ممن حفظه.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الآتي ابلغ بيان وأكمل عظه. ورضي الله عن أصحابه الذين جاهدوا في الله باليد واللسان أشد الجهاد أغلطه، فنبهوا الغافل، وعلموا الجاهل، وردعوا الظالم، وبعثوا النائم عن غمرات الموت إلى اليقظة، وعن التابعين لهم بإحسان، الناصحين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولائمة المسلمين وعامة أهل الإيمان، الذين أخبر عنهم الصادق الامين صلى الله عليه وسلم أنهم "لايزالون على الحق ظاهرين إلى أن يأتي أمر الله"(2)،
__________
(1) : من اللفظ، وهو أن ترمي بشيء كان في فيك. قال ابن بري: واسم ذلك الملفوظ لفاظة ولفاظ.
لسان العرب 7/461 – وتاج العروس 5/263
وفي الحديث النبوي:"ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض الزمهم مهاجر ابراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع الفردة الخنازير. رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو. سنن أبي داود – باب سكنى الشام – رقم 2482 – الجزء 3 /4 .
(2) : في الحديث النبوي عن المغيرة ين شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون"
رواه البخاري في كتاب الاعتصام- باب قول النبي (لاتزال طائفة من امتي ظاهرين ععلى الحق وهم أهل العلم). فتح الباري لابن حجر العسقلاني 13/293 . وفي صحيح مسلم 6/52 – لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خالفهم".
وانظر سنن أبي داود ح : 2484 – ومسند احمد 4/434 و 437 – والحاكم في المستدرك 4/450.
بإسناد صحيح عن عمران بن حصين مرفوعا: "لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرها المسيح الدجال".(1/83)
ولو اجتمع عليه الثقلان، الآتين من الحجة والبيان، والمدافعين بالسيف والسنان، أشد ذلك على الشيطان وأغيظه.
سبب تأليف الكتاب
وبعد:
فلما كان بيان ما التبس من الدين، والذب عن شرائع المرسلين، وحفظ عقائد المسلمين، مما أخذ الله فيه على العلماء الميثاق، وشدد فيه من العبد الوثائق، وذمهم أبلغ الذم على ترك البيان، ووبخهم غاية التوبيخ على نبذ الكتاب وراء الظهر، وبيعه بالقليل من الاثمان، وتوعد على السكوت والكتمان بتسعير النيران، وعلى ترك النصيحة بحرمان الجنان، والبعد عن جوار الرحمان. وكان في بعض هذا أبلغ رادع عن السكوت، وأتم قامع عن التغافل والخفوت. ووقع في بعض ما علم تحريمه بضرورة الدين، واستوى فيه علم اليقين وعين اليقين، تلبيس من كبير في الزمان، حيث أطلق فيه العنان، وكانت أكثر الطباع مجبولة على التقليد لفقدانه النظر السديد، وتعرفه الحق بالرجال، لا يميز الجائز والمحال، وكتب فيه من الهذيان والوسواس ما جاز بهرجه على كثير من الناس. وكان مما يجب على الانام، اعتقاد ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من الاحكام. فمن استحل شيئا مما حرمه الله، عالما به، فخارج بإجماع عن الدين والإسلام، ولم يشترط العلم به، بل قال في باطل أنه حق وواجب أو لازم، وأنه كان في بعض العلماء الاعلام.(1/84)
ولما وجب تغيير هذا المنكر الفضيع، ورد هذا المنكر الشنيع، وكلت الكلام فيه مرة لأهل الباس في الدين والشدة، واستنجدت في ذلك من استنجدني ممن اعتقد أن لديه الحمية الإيمانية بأوفر نصيب، وقلت لعل الله يكفي بما شاء، فلم أر من تعرض لذلك من مخطئ ولامصيب، بل كلهم أحجم وقال هذا يوم عصيب، وعلمت أن خيرا مما عند الناس ماعند الله، وتحققت انه إذا ظهرت البدع وسكت العالم، فعليه لعنة الله. فاستخرت الله تعالى فيما انبه به الغافل، وأبصر به الجاهل، رجاء الموعود به فيمن دعا إلى الهدى، وأن يكون ذلك لأمر الله عز وجل وادا، وحسنة باقية على مر المدى. وكم نصحت في ذلك وأفصحت، وبينت وأوضحت، والشياطين تجرف من السطوات، وتحذر من الهفوات، فأقول مجيبا:
أشد على الكتيبة لا أبالي ... ... احتفي كان فيها ام سواها
فليتك تحلو والحياة مريرة ... ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... ... وكل الذي فوق التراب تراب(1)
وهذا حين اشرع فيما اجملته على التفصيل، مؤكدا بالبرهان والدليل، معتمدا على الله حسبي ونعم الوكيل.
__________
(1) : الابيات الثلاثة الاولى لأبي فراس الحمداني – راجع ديوانه + شرح خليل الدويهي ص: 48 وقد ورد البيت الثاني مضمنا في قصيدة لابن حمدون اوردها المقري في نفخ الطيب 2/611 اما البيت الأخير فهو من قصيدة للمتنبي يمدح بها كافور. وروايته في الديوان شرح البرقوقي 1/372 : إذا نلت الود فالمال هين ...(1/85)
والقضية التي وقعت فيها المنازعة، وكثرت فيها المراجعة، حرمة المغرم المسمى بافريقية في هذه الأعصر بالخطايا، المتضمن لأجناس البلايا(1)وأنواع الرزايا، وهو عبارة عن أخذ المال من ذوي الجنايات، كالفتل والجرح والقطع والسرقة، وسائر الفواحش، كم عطل بسببه من الحدود التي وصف الرب سبحانه بالظلم متعديها، وتتبع لأجله من العورات التي اشتد وعيد متتبعها ومبديها، وتطرق منه إلى اتهام الرئ، وبحث لأجله على المستور والخفي، واجترأ ذو السعة بها على الشهوات، وهناك ما شاء من الآيات، وأخذ فيها بقول قائل، وتوصل إليها مما ليس تحته طائل، وطلت بها الجراح والدماء، وصار الحكام من أجلها في عمى وعمه. لطالما اشتدت إليها الأطماع، واشتهرت حتى قدرت بالمد والصاع، وأخذ فيها الجر بالجار، والمتبوع بالاتباع، وصارت سنن وأحكام الشريعة فيها ابتداع، كأن لم يقرع نهي الله سبحانه عن أكل المال بالباطل قط الاسماع، ولم يجمع بينه وبين القتل في النهي حتى لم يبق فيه اتساع. وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما عظم تحريمه بمحضر الاشهاد في خطبة حجة الوداع، وكأن المال لم يجمع على تحريمه على كل التقدير والأوضاع، وكأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله"(2)، وقد انعقد على صحته الإجماع. لكن منع عين الحرص يعوذ الشعاع، وحب الشيء يعمي الابصار ويصم الاسماع، وما لما رفعه الله من واضع، وما لما وضعه الله من ارتفاع.
__________
(1) : في فصل الأقوال : المتضمن لاجناس المبالغة. ص : 42
(2) : رواه البخاري وغيره. انظر فتح الباري – كتاب الإيمان –1/75 – والهداية في تخريج أحاديث البداية لأحمد بن الصديق، حيث ذكر المصادر الحديثية التي أوردت الحديث. ج5/18.(1/86)
إلى أن وفق لقطعها من الهمه الله رشده، وقرن باتباع أحكامها الكتاب والشريعة يمنه وسعده، وشد بأدعية المؤمنين ملكه وأيده، وصدقه الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعده فاعلى كعبه ومجده، وأذل أعداءه، وأعز أولياءه وجنده، أمير المؤمنين، المهدي لاحياء سنة المرسلين، أبو فارس عبد العزيز، جعله الله في حصن حصين وحرز حريز، انه عرف ما فيها من الغوائل، وما دخل على المسلمين فيها من الدخائل(1)، ولم يخف عنه فيها ان الاسم هو المسمى، وانكشف له انكشافا، لم يفتقر معه إلى إخراج المعمى، وتجلى له الحق، وكيف يخفى إلا عن بصيرة أعماها حب دنياها واتباع هواها؟ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا(2)،
__________
(1) : في النسخة : ما فيه من الغوائل، وما دخل عن المسلمين فيه من الدخائل. والصواب الذي يستقيم معه الكلام إسناد الضمير إلى المؤنث: أي إلى القضية التي وقعت فيها المنازعة. ويدل عليه قوله: إلى أن وفق لقطعها ... وشهر إسقاطها.
(2) : في النسخة فهي في الآخرة أضل واعمى. وهو خطأ من الناسخ..والصواب ما ذكرناه – سورة الاسراء، الاية:72(1/87)
فأثر النجاة من شرها والسلامة، و تبرأ من موجبات الخزي والندامة، وشهر إسقاطها رجاء أن يثقل ميزانه في عرصات القيامة، وأمر بالسياسة الشرعية التي مضى عليها الخلفاء الراشدون، ومن يرتضي من أهل الإمامة، وأنفذ ذلك من حكمه وقضائه، وعزمه الصادق في تحقيق الحقائق وإمضائه، وثبت ذلك في ديوان المكرمات التي أفادها، والمظالم التي محاها وأبادها، والسنن التي أميتت فأحياها وأعادها، ملأ الله قلبه خشية ورحمة، وشرح صدره بنور العلم والحكمة، وضرب عليه سرادق الحفظ والعصمة، فصفر منها وطاب المعتدين، وحسده الشيطان اللعين، فخيل إليهم أنهم إليها غير عائدين، الا أن يجمعوا مكر الماكرين وكيد الكائدين 3/185 ب، فأجمعوا أمرهم على امهال الرعية، وامهال الشريعة، وامهال السياسية الشرعية، وترك حدود الله غير محفوظة ولا مرعية، وإن بعثوا من كل ناحية شكية، ويوذنوا أن كثرة الفساد قطع الخطية. وسبق القلم على من ذكر، فألقى إليهم الاباحة فتمت لهم الامنية، وقد كانوا قبل ذلك في محاورة ومصانعة، ومقاولة ومراجعة، فاستطاعوا ان ينزلوا الخليفة أيده الله عن تلك المنقبة العلية، والرتبة الرفيعة المرضية، حتى زل معينهم في مزلة الهوى، وأغوى لما غوى.
وأنا أسأل الله أن يعصم أمير المسلمين من سواهم، وينجيه من مكيدة إلباسهم. وإليه أضرع في ذلك، فهو الذي بيده أزمة الالسنة والقلوب، وهو الذي يصعد إليه الكلم الطيب غير محجوب.
مسألة علم حكمها من الحرمة بضرورة الأديان، فكيف تفتقر إلى دليل، ويقام على المحسوس برهان؟ قالوا إذا لم يكن ردعهم إلا بالمال(1)،
__________
(1) : في احكام المغارسة للمجاجي ص : 317 – وشرح نظم العمل الفاسي للسجلماسي 2/424 – والمعيار الجديد للوزاتي 10/176 – وفصل الاقوال للاخميمي ص : 42 : "قالو إذا لم يكن ردع الجناة إلا بالمال".
- وفي الاميات الفاشية للعميري 96/ب : "قالوا إذا لم يكن ردع الجناية إلا بالمال".(1/88)
قلنا هذه دعوى عرية(1)عن الاستدلال، في مقابلة الدليل العاصم للمال، والروادع الشرعية أردع على التفصيل والاجمال. قالوا: (هذا من)(2)المصالح المرسلة. قلنا: هذا من الغباوة والبله(3)، المرسل ما لم يقم دليله على اعتباره وإلغائه(4)، وتحريم أكل المال(5)ضروري من الدين، لا سبيل إلى انتفائه، مع أن عقوبات الجنايات في الشرع مشهورة، وفي كتب الشرائع مسطورة. أفتزيدون في شرائع ربكم؟ أم تريدون ان تأتوا بها من عندكم؟، أأنتم أعلم أم الله؟، أأنتم أحكم أم ليس الأحكام لسواه؟، أخطأتم بالطول من المصالح والعرض؟، أم تنبئون الله بما لا يعلم ما في السموات والأرض ؟، أتجهلون الله في علمه؟، أم تجورونه في حكمه، ما الفرق بينكم وبين من يبدل الجلد بالقطع؟ أو يزيد عليه؟، والقتل بالقطع أو العكس، أو يضيفه إليه؟. أليس هذا من المصالح انما يصير ما زاده مرجوحا، وما زدتموه الراجح. ولو ساغت الزيادة في المشروع لكنتم أولى منه بالنزول إليه والرجوع، لأنه وان أمر بالزيادة، فما خالف في الحق اعتقاده.
__________
(1) : في أحكام المغارسة، وشرح نظم العمل الفاسي، والمعيار الجديد – السابق: هذه دعوة عارية.
(2) : ساقط من النسخة واتبتناه من المصادر الساقة. وفي الأمليات الفاشية – السابق: هذه من دعوى عارية.
(3) : في أحكام المغارسة، والمعيار الجديد – السابق - : هذا تجاهل منكم وبله.
(4) : راجع: المحصول للرازي 2/ق 2/230 – والمستصفى 1/310 – 311 والاحكام للآحدي 4/216 – والابهاج للسكى 3/44 – وتنقيح الفصول للقوافي: 447 –448 وحاشية السعد على العقد 2/242 و 289 والتلويح على التوضيح للتفهواني 2/71 – والاعتصام للشاطبي 2/311-115.
(5) : في الأمليات الفاشية 96/ب " "وتحريم أكل المال بالباطل ضروري"(1/89)
هذا، وما رأه أردع عن المفاسد مما رأيتم، وأقرب للشريعة عمارمتهم، لأن العقوبات البدنية في الجنايات كثيرة مشهورة، والمالية جمع على تركها، وعلى القول بها في بعض الأنواع محصورة، والوارد منها متأول على وجوه ظاهرة، والنصوص على تحريم أكل المال بالباطل قطعية متظاهرة. فما لكلمات الله تبديل، وليس لقضاء الله تحويل، وتلاشت علوم العالمين في عمله، والله يحكم لامعقب لحكمه. فقفوا عند أحكام الله ولا تكونوا من الجاهلين، "إن الحكم إلا لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين"(1)؟. هل يتعدى الحدود أو يزيد عليها إلا من فقد عقله وحسه؟، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"(2). أي عذر لكم إن زدتم على حكم ربكم أو نقصتم؟ ، وأي خلاص؟ وقد سمعتم الله تعالى يقول: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"(3). أما سمعتم الله يقول في هذه الجنايات: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وأولئك هم الظالمون، وأولئك هم الفاسقون(4)؟ هذه أردية من أراد أن يزيد أو ينقص في شريعة ربه، فإن استطعتم، فارتدوها وأنتم هالكون خاسرون. و"تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون"(5).
وهذه الظلمات التي أوجبت الغرور، ونحن إن شاء الله نتتبعها. بما يشفي الصدور (4=186/أ) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عنوان الكتاب
__________
(1) : سورة الأنعام، الآية: 58
(2) : سورة الطلاق، الآية :1
(3) : سورة المائدة، الآية: 45
(4) : سورة المائدة، اللآيات: 46-47 و 49. وقارن إلى هنا مع أحكام المغارسة: 317 – والمعيار الجديد 10/176- والأمليات الفاشية 96/ب.
(5) : سورة البقرة، الآية: 229.(1/90)
وسميته: بمطالع التمام ونصائح الأنام، ومنجاة الخواص والعوام، في رد القول بإباحة اغرام ذوي الجنايات والإجرام، زيادة على ما شرع الله من الحدود والأحكام(1). وإن شئت، قسميه: بالنصائح الجلية في فضائح القول بتحليل الخطيئة. وان شئت : فنصح البريئة في تخطية من حلل الخطية(2). وإن شئت: فرد الرأي المضلل في الظلم المحلل(3). وان شئت: فالرماح الخطية في دفع القول بتحليل الخطية. وان شئت: العضب الباترة للآراء الخاسرة. وإن شئت فطعان الأسنة لمن خالف الكتاب والسنة(4). وإن شئت: فرمى السهام لمن ضلل الحكام. وإن شئت: فالعذب السلسال في تحقيق الحق في منع العقوبة بالمال. وإن شئت: فنصح الخلفاء في التحصن بحصون الوفاء، والاعراض عن مقالات أهل الغلو والجفاء، اتباعا لشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فكلها أسماء وافقت معناها، وطابقت مسماها. والله المسؤول أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، وسببا للنجاة من طعام الأثيم وغل الجحيم، ولدخول جناة النعيم، فهو البر الرحيم، الجواد الكريم.
طرح المسألة في مجلس الخليفة أبي فارس
__________
(1) : في أحكام المغارسة ص: 317-318 – مطالع التمام، ومصابيح الظلام، ومنجاة الخواص والعوام، في رد القول في إباحة أخذ المال من أصحاب الجنايات والإجرام، وتبديل ما شرعه الله في الحدود والأحكام.
(2) : في مفتاح التيسير للغسال ص : 9-10 : نصح البرية في الرد على القول بتحليل الخطية.
(3) : قارن مع أحكام المغارسة. السابق. من خلال مقابلة النسخة مع ما نقله المجاجي، ويتبين أنه تصرف من نقل النص واختصره، ويدل عليه كذلك قوله: انتهى كلامه باختصار.
(4) : قارن مع أحكام المغارسة. السابق. من خلال مقابلة النسخة مع ما نقله المجاجي، يتبين أنه تعرف في النص واختصره، ويدل عليه كذلك قوله: انتهى كلامه باختصار.(1/91)
قال المفتي المذكور: وقعت المسألة بين يدي الخليفة أمير المؤمنين، الملك الصالح، العدل المجاهد في سبيل الله، أبي فراس عبد العزيز، أيده الله ونصره، وهي ما يعاقب به الجاني ارتكب جرحا أو قطعا أو هروبا بامرأة، أو أخذ مالا بسرقة او خيانة، او بحرابة أو نحو ذلك من التعدي والغضب. وهي مسألة مشهورة بافريقية بالعقوبة بالمال في هذه الجنايات.(1/92)
أقول: إن أراد انها مشهورة الحرمة بين العلماء، يذكرونها في مجالسهم ومذاكراتهم ويأنفون من وقوعها فصحيح، وهو حجة عليه فيما رام من التحليل. وان أراد بانها مشهورة بأنها من الحق والعدل، فبهتان مبين، ولاحجة في السكوت عن التغيير على الحكام لما علم أنه لا ينفع الانكار عليهم، بل وبما صار حرمة الخطايا من ضروريات الشرائع. ومن خفي عليه مدرك الضرورة في ذلك، فعليه باستقراء مواقع الأحكام، فيجد الله تعالى قد حكم بالقصاص. وان أراد أنها مشهورة الوقوع، وشهرة وقوعها بافريقة دليل على تحليلها، فهذا استدلال باطل، وكلام عن الحقيقة حائل. فكم اشتهر بالبلاد من المظالم والمكوس والمنكرات والمحرمات بالإجماع؟. فوقوع الفعل من المكلفين، لايدل على الإباحة والجواز، إلا في حق من ثبتت عصمته، وهذا جلي عن أن يفتقر إلى دليل، لمن له أدنى فهم ودين. لكنه ربما استمر المنكر فخف وقعه على القلوب، فتنوسي انكاره، لاعتياده واعتياد السكوت عنه، فيعتقد البعداء عن الشريعة حقيقته، ويسندون ذلك الوهم إلى أنه لو كان منكرا لما اشتهر، ولو كان منكرا لأنكره علماء العصر، أو لم كان منكرا لأنكره فلان العالم، وفلان الصالح، وفلان المعتقد، وما يلقون البال إلى مانع الانكار، ولا إلى ما للساكتين من الاعذار، وإلى ما يقع لهم من انكار ذلك لي مجالس التعليم والمذاكرة، بل يجازفون (5 = 186 / ب بذلك) القول مجازفة الجاهلية في قولهم: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"(1). وقد انتهى الأمر إلى أن صار انكار المنكر اغراء عليه، وتنبيها على المسارعة إليه، للقوة الغضبية، وبعثا للعصبية على تحليله، وتفسيق من قال: يستوي قولهم وتضليله. فكيف لا يسكت الناس عن تغيير المنكر خوف الزيادة؟، وقد صار هذا المشار إليه بالعلم يستدل على التحليل بالشهرة والعادة.
__________
(1) : سورة الزخرف، الآية: 22(1/93)
وان اراد أنها مشهورة الوقوع، وليس ذلك بدليل على الإباحة، فهو كلام لا يفيد إلا مجرد التلبيس، وإيهام الباطل، وليس هكذا أخذ الله على العلماء، إنه لا يفعل هذا إلا منسلخ من الآيات، مخلد إلى الأرض، أرض الشهوات. وليس يحتمل الكلام من الإقناع غير هذا.
قال : وقد أسقطها كما أسقط غيرها من المظالم أثابه الله الحسنى
أقول: هذا الذي تقدمت الإشارة إليه، وهو صحيح في أن الخطايا مظالم أن ثبتت عليه، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت.
قال: فلما أسقطها، كثر الضرر وعلا وارتفع، وصار الذي يقتل ويجرح تحت والي الجور، يرشيه ويقع التجاوز عنه.
أقول: ان أراد أن كثرة سبب الضرر عند إسقاطها، دخول الجاني تحت والي الجور وقبول الرشوة على إسقاط الجنايات، فصحيح. والعلة في كثرة الضرر حينئذ، جور الولاة، وقبول الرشا على الجنايات. وهذا الداء موجود مع إسقاط الخطايا، ومع وجودها أكثر، إذا لم ينه عنها، كان أقل نفرة منها، بل أخذ المال من الجاني يبرد غليلهم، ويشفي غيضهم، فكيف يتنقمون منه لله تعالى بعد ذلك؟ فإذا كوقت الجاني، ومنع الوالي من الجور وقبول الرشا، وأمر بإقامة الحدود، وإنصاف المظلوم، انحسم الداء واستقام الأمر وقل الضرر، كما قال تعالى: "ولكم في القصاص حياة"(1)، ولا مبدل لكلمات الله. وقد قالت العرب في جاهليتها: "القتل أنفى للقتل"(2)، ولم يقولوا: الدنانير والدراهم أنفى للقتل، ولا قال الله تعالى: ولكم في الدنانير والدراهم حياة.
__________
(1) : سورة البقرة، الآية: 178
(2) : انظر نهاية الأرب للنويري 3/123(1/94)
وإذا أراد أن سبب الضرر وعلوه وارتفاعه، هو الإسقاط لذلك الظلم، كما دلت عليه آنفا، ولما مر كلامه، لا جور الولاة وإهمال الحدود، فهذا قول يدفع بعضه بعضا، ويعقب الإبرام فيه نقضا. فإنه إذا ثبت أن أخذ المال في ذلك ظلم، كما دل عليه سابق كلامه، فإسقاط الظلم واجب في جميع الملل، لا تختلف فيه أمة من الأمم، وذلك معلوم من الأديان بالضرورة، لا يقبل نسخا ولارفعا، ولايجوز أن يكون دينا ولا شرعا، ومنكر ذلك والشاك فيه كافر. فإذا ثبت أنه محرم بإجماع، وكل محرم مأمور بتركه، وكل مأمور بتركه فالأمر به عدل، أن الله يأمر بالعدل والإحسان، والعدل مالا ضرر فيه ولاحيف. وإذا كان ترك عدلا في حكمه تعالى، امتنع أن يحدث منه ضرر، فضلا عن علوه وارتفاعه، لأنه لو حدث منه الضرر العالي المرتفع، لم يكن عدلا، وما ليس بعدل فهو جور، فيلزم أن يكون العدل عند الله جورا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. من اعتقد هذا فقد جهل الله في علمه، وجوره في حكمه، وغنما نشأ هذا من اعتقاد أن إسقاط الخطايا هو السبب في كثرة الفساد. إنما السبب في ذلك، هو ترك الحدود بالرشا، وإهمال العباد. هل الخير كله إلا في العدل، وهل الشر كله إلا في الجور؟، وهذا اعتقاد ينزه عنه كل ذي قلب سليم، والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال: فأعاد ذكر المسألة في المجلس المذكور في أوائل من محرم فاتح عام ثمانية وعشرين وثمانمائة، لينظر حسم (6 = 18 /أ) هذا الباب وقطعه، لعظيم مصيبته.
أقول: مراده بهذا الباب الذي وصفه بعظيم المصيبة، والله أعلم، هو ما أشار إليه من كثرة الضرر وعلوه وارتفاعه عند إسقاط الخطايا.
قال: منحه الله التوفيق، وهدانا وإياه إلى أقوم طريق : فقال بعض من ينتمي للطلب بسد الباب.(1/95)
أقول: أما القيام لله فواجب، قال الله تعالى: "قل إنما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى"(1). وما فعله هذا المنتمي للطلب من سد باب الظلم الذي اعترف به هذا المفتى بأنه ظلم، ودعا لأمير المؤمنين إذ قطعه، فرض الله على جميع من حضر، ومن بلغه ذلك ممن غاب، ونصحه لله تعالى في نصرة دينه، ولكتابة فيما دل عليه من أحكامه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم في لزوم شريعته، ولأئمة المسلمين في عدم غشهم والتغرير بهم، وتخييل الباطل لهم حقه والجور عدلا، ولعامتهم في حفظ دينهم وحدودهم وأموالهم وأعراضهم، وحملهم على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وحفظ عقائدهم من أن يعتقدوا حلية ما حرم الله.
فان قلت: من أراد بقوله: بعض من ينتمي للطلب؟
قلت: الذي سد الباب أولا، وقال لا أصل لها في الشريعة، قاضي الجماعة بالحضرة العلية(2)في تاريخ النازلة، ومنزلته في الفقه معلومة، والشيخ أبو عبد الله بن مرزوق(3)، ورتبته في التحقيق والعلم معروفة، ومعلق هذا الشرح. ونسأل الله أن يحقق لنا النسبة إلى طلاب العلم العالمين، ويحشرنا مع العلماء الراسخين.
فان قلت: فكيف قال هذا المفتى: بعض من ينتمي إلى العلم، هل هذا إلا بمنزلة من نقول لصحيح النسب: يا دعي، مع أن قطع النسب الديني أعظم من قطع النسب الظني؟
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... ... إذا افتخروا بقيس أو تميم(4)
__________
(1) : سورة سبأ، الآية: 46
(2) : هو أبو يوسف يعقوب بن أبي القاسم الزغبي، الإمام العلامة والفقيه المحقق، من أكابر أصحاب ابن غرفة. ولي قضاء القيرء وان ثم قضاء الجماعة بتونس. توفي سنة 833هـ. انظر: نيل الابتهاج 621 – والحلل السندسية 2/191 – وشجرة النور244.
(3) : هو محمد بن احمد بن مرزوق الحفيد العجيسي التملساني، أبو عبد الله، العالم الشهير والفقيه المجتهد. توفي سنة 824هـ. انظر: نيل الابتهاج 499-510 والضوء اللامع 7/50- رحلة القلصادي 96.
(4) : نسبه الابشيهي في المشتطرف لسلمان الفارسي 1/201.(1/96)
يا عبد نادني عبد زهر ... ... يعرفه السامع والرائي
لاتدعي بيا عبدها ... ... فإنه أشرف أسمائي(1)
قلت : الغضب غول العقل. وهذا ما نحسبه عند الله ونتركه لوجه الله، ولو لا حماية الشريعة، ما استجزنا مراجعته، ولا اخترنا منازعته. لكن كما قال الحكيم: تخاصم الحق وأفلاطون وكلاهما صديق، والحق أصدق منه.
... قال: وتابعه على ذلك بعض من الطلبة، لعدم تظلعهم في العلوم، واستنباط الأحكام من قواعد العلم.
أقول، وأما متابعة بعضهم على ذلك، فمتابعة الحق أمر واجب، وضربة لازب. وهو قد أقر أن الخطايا ظلم، ودعا لأمير المؤمنين إذ أسقطها، فكيف يذم بالمتابعة على سد بابها؟.
فإن قلت: ما له يقلل اتباعهم الحق بعد تضلعهم في العلوم، واستنباط الأحكام من قواعد العلم؟ وما الذي فاتهم في هذه المسألة؟.
قلت: ما فاتهم إلا إقامة الحجج على كتاب الله، وعلى القواطع من سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إهمال الوقوف عند حدود الله، والزيادة في الشرائع وتغييرها، بحيث لا يزعهم عن ذلك وازع. والسلامة من هذا العلم غنيمة المؤمن ورأس ماله، وخير صفات العالم وأحسن خلاله. ولله در قول القائل:
إذا لم يفدك العلم خيرا ... ... فخير منه أن لو قد جهلت
وإن ألقاك فهمك في مها و ... ... فليتك ثم ليتك ما فهمت
فإن قلت : ما بال ضاء انقلبت ظاءا؟.
قلت : لاعتب على المملي في ذلك، وإنما العتب على الكاتب.
فإن قلت: هلا أثبتها أنت على الصواب
قلت : إلا حسن أن يحكى الكلام على هينته، مم ينبه على علته.
__________
(1) : في زهر الأكم لليوسي 1/157 :
يا قوم قلبي عند زهراء ... يسمعه السامع والرائي
لا تدعني الأبيا عبدها ... ... فإنه أشرف أسمائي
والبيت الثاني يتمثل به العلماء في قصة تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، واختياره أن يكون عبدا، وهو أشرف الأمرين وأجل، فإن الإضافة إلى شريف تفيد شرفا. ...(1/97)
فإن قلت: ما معنى التضلع في العلوم، وكان اللفظ يقتضي عظمة إضلاعه فيها، وما لهذا معنى؟، وإنما العبارة المتداولة الدالة على الامتلاء (7=187/ب) من الشيء، أن يقال: تصلع من كذا لا تضلع فيه.(1)
قلت : هذا مما ينبغي عنه الأعراض، والمسامحة في حق الشيخ.
فإن قلت : ما معنى استنباطه الأحكام من قواعد العلم، والاحكام تستنبط من أدلتها التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحوها، وإنما القواعد آلة للاستنباط.
قلت : وهذا أيضا مما ينبغي أن ينظر إلى مثله في هذا الكلام.
فإن قلت: من هؤلاء الطلبة التابعون، الذين لم يتضلعوا في العلم واستنباط الأحكام من قواعد العلم.
قلت: هم رؤساء العصر وفقهاء الزمان، النازلون من الدهر منزلة الأرواح من الأبدان، والنظر من عين الإنسان. فإن النازلة كانت في محفل مشهود، ومنهل مورود.
فإن قلت: فهذا إذن غض من نصابهم، وتنقص لجنابهم. على أنه لم نعلم منهم إلا اتباع الحق، والنطق بالصدق، مع أن القضية تشهد بثقوب أفهامهم، ورسوخ أقدامهم.
قلت: ما من القوم من تؤاخذه بمثل هذا العلم سنه، وتقادم نظره في مسائل الفقه وفنه، وكلهم يوقره توقير الآباء، لولا ما ظهر منه في هذه المسألة من الآباء. ولولا أنها تهدم من أصول الشرائع أصلا كبيرا، فلم يسمع من أحد منهم قليلا ولا كثيرا، ولبقوا كما كانوا تعزيزا وتوقيرا.
فإن قلت: وتضمن كلامهم أيضا فخرا على غيره بالتضلع في العلوم، واستنباط الأحكام من قواعد العلم.
قلت: لا شك ولا ارتياب أنه في طلب العلم شب شارب، ولكن العلوم منح الهية، ومواهب ربانية. وليس في كل أن تأتي على قدر الكبر والاكتساب، فالناس بين مكدود محدود، ومعان مجذود، ومقرب ومطرود. نسأل الله خاتمة السعداء وميتة الشهداء.
فإن قلت: مابالك لا تالو لمناقبه تصحيحا، وهو يغض من الحاضرين تارة تعريضا وتلويحا، وتارة تنصيص وتصريحا؟، فما حملك على ذلك؟.
__________
(1) : راجع: تاج العروس 5/435 – ولسان العرب 8/266.(1/98)
قلت : قول القائل:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... ... وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
لولا الاغترار بكلامه في تحليل ما علم تحريمه، ما كنا لنتعرض إليه بوجه، وقد اختلط بالبر عليمه.
قال: فقلت له على وجه المذاكرة.
أٌقول: لو أنصف، بصره الله، لقال: فقلت على وجه الفتوى والإشارة، و لا سيما أنه وقع في غير هذه النسخة من الإملاء، أن أمير المؤمنين استشار في هذه القضية.
قلت: وما يستشير إلا ليقف على الحق، وجواب المستفتي والمستشير إنما هو الفتوى والإشارة لا المذاكرة. وتبريه من الواقع الذي هو الفتوى، مشعر بأنه بين له ضعف ما فاه من الدعوى. فليت شعري ! ما الذي حمله على أن نبذ بالعراء ما طوقه وحمله؟، فبدأ في المسألة وأعاد، وطول، فما أجدى ولا أفاد، وزاد وأكثر، فما قل منه خير مما كثر، من غير مبالاة فيما جاء به من التناقض، ما اشتمل عليه الكلام من التدافع والتعارض. ثم هو يجيء في استدلاله، إنما هو بمتروك، أو بمنسوخ، أو بمأول، أو بمردود، أو بضعيف، أو بباطل، فيكتم ما أوجب الله من البيان، ويركض فيما لا يعتمد عليه من ذلك ملء العنان. وهيهات، فما لشمس الضحى من خفاء، وما لنور الله من انطفاء، وصولة الحق للباطل دامغة، ولله الحجة البالغة. لايثبت للباطل مع الحق قدم، والدجاج فيه غايته الملامة، وعقابه الندم.
بناء المسألة على قاعدة المصالح المرسلة والجواب عنه من وجوه
قال: هذه المسألة ينبغي أن تجري على حكم المصالح المرسلة، وهو الوصف المناسب الذي لم يشهد له الشرع بإهدار ولا باعتبار.
أقول: هذا الكلام فاسد، وقول عن سبيل (8=188/أ) الحق حائد، وذلك من وجوه:(1/99)
الأول: أن الكلام مفروض على ما حكاه أول كلامه فيما يعاقب به الجاني إذا ارتكب جرحا، أو قطعا، أو قتلا، أو هروبا بامرأة، أو أخذ مالا بسرقة، أو خيانة، او بحرابة، او نحو ذلك من التعدي والغضب. هذا نصه وعين لفظة. وإذا كان هذا فرض المسائل المسؤول عنها، فأحكامها من الكتاب والسنة وإجماع الأمة قطعا على وجه من التنصيص، لايحتمل التأويل، وليس إلى تبديله والزيادة عليه، أو النقص منه من سبيل. ومن قواعده التي أشار إلى أن غيره لم يتضلع فيها، وهو وحده تضلع فيها، أنه لا يحل الاجتهاد ولا يصح، بل لا يعقد إلا فيما لم يعلم حكمه من كتاب ولا سنة نصا، ولا من الإجماع. ثم أن المصالح المرسلة، من أغمض طرق الاجتهاد. ثم هي، على القول بدلالتها، من أضعف الأدلة، ولذلك اتفقت الشافعية والحنفية وأكثر الفقهاء على امتناع التمسك بها(1). والاجتهاد في العقوبة الرادعة لهذه الجنايات، فضلا عن بنائها على المصالح المرسلة، مع القطع بأحكامها من الكتاب الوسنة، خارج عن المعقول، مخالف لاجماع أهل الفروع والأصول، سيما في مسائل الحدود، لدخول التعبد في مقدارها، والتشديد الوارد في الشريعة في حق من لم يلزم أحكامها في إيراد وإصدارها.
والدليل على ما قلناه من كتاب الله، قوله تعالى: "وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا(2). وقد دل على حرمة الاجتهاد فيه، نص الله وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم من وجوه:
الأول : أنه سبحانه جعل ذلك منافيا لوصف الإيمان.
الثاني : سجل على فاعل ذلك العصيان.
__________
(1) : انظر : المستصفى 1/284 وما بعدها – وشفاء الغليل 142 و 266 – والأحكام اللآمدي 4/216 وروضة الناظر لابن قدامة 87 والاعتصام للشاطبي 2/111-112 وشرح تنقيح الفصول 516- وتخريج الفروع على الاصول للزنجاني 170 –173.
(2) : سورة الأحزاب، الآية: 36(1/100)
الثالث: أنه سبحانه حكم عليه بالضلال المبين، وذلك غاية الخسران.
وأيضا فقد علمت أن من هذه الجنايات الزنا، وما في الصحيح(1)من أن بني اسرائيل قد انزل الله عليهم في التوراة أن يرجم الزاني، فكثر في إشراف بني اسرائيل، فكانوا إذا أخذوا الشريف تركوه، وإذا أخذوا الضعيف أقاموا عليه الحد، ثم رأوا أن ذلك جور، فنظروا بنظر المصالح حكما يعدلون به بين الشريف والمشروف والقوي والضعيف، واصطلحوا على أن يجعلوا ذلك التحميم والجلد، فذمهم الله تعالى، إذ عدلوا إلى الاجتهاد مع وجود النص، بقوله سبحانه:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمومنين"(2)مع أن اجتهاد بني اسرائيل في هذه النازلة، أقرب إلى الصحة ممن يرى أن يغرم في مسائل الحدود المال من ثلاثة أوجه:
الأول: أن حكم المصلحة الذي(3)اعتبروه، شهد الشرع بجنسه من العقوبات البدنية، وبنوعه الذي هو الجلد. وحكم المصلحة التي اعتبر هذا الذي يريد أن يجعل المسألة اجتهادية، لم يشهد الشرع بها في حد من الحدود.
الثاني: أن الردع بالجلد والتحميم أبلغ من الردع بأخذ المال، لأن العلق يفدي بدنه وعرضه بماله، لا ماله ببدنه. ولذلك قيل:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... ... لابارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال أن أردى فأجمعه ... ... وليس للعرض أن أردى محتال
الثالث: أن اجتهاد بني اسرائيل أفضى بهم إلى نوع من الردع لم ينهوا عنه بالتنصيص، وهو الجلد والتحميم، وأما الذي يريد أن يجتهد ليشرع أخذ المال في الجنايات، فيفضي به الاجتهاد إلى ما علم تحريمه بالضرورة من الشرائع، وهو أكل المال بالباطل.
__________
(1) : أنظر فتح الباري – كتاب الحدود – الباب 24- حديث : 6819 – 12/128
(2) : سورة المائدة، الآية : 43
(3) : في النسخة : التي. والصواب الذي يستقيم معه الكلام ما أثبته.(1/101)
فإن قال: ما قلت بتعطيل الحد الواجب، كما فعله بنو اسرائيل، لأن الحدود إذا وجبت لم يكن غيرها، ولا يحل اغرام المال فيها، بل يجب على من ولاه الله إقامتها. وإنما أقول بذلك فيما لم يجب فيه الحد، لعدم ثبوت ما يجب به. أو قال: إنما نقول بالمال زيادة على الحد المشروع. وقد صرح المملي بهذا، والتزمه في بعض مراجعاته: لابد منه.
فالجواب: إنه أن أراد ذلك، وجب عليه أن يبين الموضع الذي يريد أن شرع بالمصلحة فيه (9=188/ب) الردع، ولايطلق في موضع التقييد، ولا يعمم في محل التخصيص.
فان قيل: اعتمد في التقييد على المتعارف المعتاد.
قلت: هو يعلم وغيره أن المعتاد بذلك غير منضبط، بل الأمر عندنا من يباشر ذلك في ازدياد، لايقال: اعتمد على ما عرف الشريعة من أن تعطيل الحدود غير جائز. قلنا: واقعات الوجود الخارجي لا تتغير بالتعارف من الشريعة، وهو قد أجرى على المصلحة المرسلة العقوبة بالمال المشتهرة بقوله في مفتتح كلامه: مال يعاقب به الجاني، وهي مسألة مشهورة بالعقوبة بالمال(1). وفي آخره قال: ينبغي أن يجري على المصالح المرسلة. فما هذا ممن أنصف واتقى، إلا تصريح بالاجتهاد في الأمر الخارجي المعتاد.
قال: إباحته من المصلحة. ثم هذا ليس بالذي ينجيه، فإن الجهة التي تعلق الذم بها، الاجتهاد في موضع النص، وهذا قدر مشترك، سواء جعل أخذ المال من الجناة زائد على الحد أو بدل، مع أن الزيادة فيها تعد الحدود الله، "ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون"(2).
فان قال: أنا لا أقول بإغرام المال إذا ثبت موجب الحد بوجه، وإنما أقول به إذا لم يثبت، وأرجع عما اقتضى ثم ظاهر الكلام، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل.
__________
(1) : في النسخة : مشهورة في العقوبة بالمال. وقد صححناه مما سبق من كلامه. انظر الصفحة: 713.
(2) : سورة البقرة، الآية : 227.(1/102)
قلنا: وهذا أيضا لا ينجيك، حتى ترجع عن المقالة بأسرها، فان حرمة أكل المال بالباطل معلوم بالأدلة القاطعة من الشريعة، بل بالضرورة الدينية، لم تختلف فيها ملة من الملل، ولا قال بخلاف ذلك أحد من أهل النحل. وقد صرحت أيها المملي في آخر كلامك، أن من أحل ما دل على تحريمه القاطع فقد كفر، ولا تمتري أنت وغيرك في أن من شك في كفر هذا فهو مثله. وما لم يثبت من هذه الجنايات على صاحبه، فأخذ المال فيه أيضا أكل للمال بالباطل، لأن الباطل ما ليس بحق، وكل ما لم يثبت فليس بحق، لأن الحق عبارة عن الثابت باتفاق علماء اللسان والشريعة. فنقول: أن أخذ المال فيما لم يثبت من الجنايات أخذ له بما ليس بحق، وكل أكل للمال بما ليس بحق، فهو أكل للمال بالباطل، وكل أكل للمال بالباطل، فهو محرم قطعا وضرورة، فأخذ المال فيما لم يثبت من الجنايات محرم قطعا وضرورة، وكل من أحل ما هو محرم قطعا وضرورة فقد كفر. فمن أحل أخذ مال الجاني الذي لم يثبت جنايته فقد كفر. ولذلك حكم الله على بني اسرائيل بالكفر والفسق والظلم، حيث اجتهدوا فيما يعاقبون به الجاني، غير ما شرع الله لهم. وقد بين لك مما سبق، أن اجتهادهم أقرب من اجتهاد من أراد أن يشرع الزجر بالمال. وهذه جزئية ما اشتمل عليه قوله صلى الله علية وسلم: "لتتبعن سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"(1). فصل الله على هذا النبي الشريف، الذي لا تنقطع على مدى الدهر معجزاته، ولا تنقضي آياته.
__________
(1) : فتح الباري - كتاب الاعتصام. باب 14 – حديث : 7320 – ج 13/300.(1/103)
فان قلت: فما سر ذلك الضب دون سائر الحيوانات في سياق التحذير والإعلام لنفوذ القضاء في هذا الاتباع، الذي هو غايته راجع لترك المعلوم، والتحيز ونسيان ما أمر الله به في عدم الهداية إلى الطريق المستقيم، والمخادعة عن الحق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل من اتباعه، مع الركاكة والخبث، وتعاطي ما تعافه القلوب، بل العقول السليمة، والبلادة، والبعد عن العلم النافع.
أما التحيز والنسيان والضلال، إلى آخره، فلأنه يضرب به المثل في ذلك، فيقال: أضل من ضب(1)ولذلك يحفر جحره عنه أكمة أو صخرة لئلا يضل إذا خرج لمطعمه. ويقولون: أخدع من ضب(2)ومن خداعه، أنه يوادد العقارب، ويهينها في جحره لتلسع المحترش إذا أدخل يده لأخذه.
قال: وأخدع من ضب إذا جاء حارش أعد له عند الذئابة عقربا(3).
وأما العقوق فيقال: أعق من ضب(4)، وذلك أن انثاه تأكل أولادها مع كثرتها، وذلك أنها تبيض (10=189/أ) نحو السبعين في التراب وتتغذاها كل يوم حتى تخرج في نحو أربعين يوما.
وفي ذلك يقول الشاعر:
أكلت بنيك أكل الضب حتى ... تركت بنيك ليس لهم عديد(5)
__________
(1) : حياة الحيوان للدميري 2/70 – زهر الأكم لليوسي 2/187
(2) : نفسه
(3) : حياة الحيوان 2/70 – زهر الاكم 2/105 و 187
- وفي الكامل للمبرد 1/272:
وأخضع من ضب إذا خاف حارشا ... اعد له عند الذنابة عقربا
- وفي كتاب الحيوان للجاحظ 6/53، ونسب البيت لأبي المنجوف السدوسي:
... وأفطن من ضب إذا خاف حارشا ... ... أعد له عند التلمس عقربا
- وفي بهجة المجالس لابن عبد البر 3/176 : عند التأنس، بذل التلمس.
(4) : مجمع الأمثال للميداني. المثال: 2616. 2/47 - 48
(5) : قارن بالدميري 2/68(1/104)
وأما الخبث وتعاطي ما تعافه النفوس الشريفة، فلأنه يرجع في قيئه كالكلب، ويأكل رجيعه، وفي الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم، لما رأى الضبين "فأجدني أعافه"(1)، وفي أبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما رأى الضنين المشويين كف فقال خالد: يارسول الله أراك تقذرته"(2)الحديث. وروى عنه أنه صلى الله وسلم من طريق عبد الرحمان بن حسنة: نزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها، وان القدر لتغلي إذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟، فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: إن أمة من بني اسرائيل مسخت دواب في الأرض، فأنا أخشى أن يكون هذا منها فلم أكلها ولم أنه عنا(3).
وأما البلادة فإنه يقال أيضا: أبلد من ضب. وهو في الخلق شبيه بالورل والوزع والحرباء وشحمة الأرض.
وأما البعد عن العلم، فلأنه لا يرد الماء، وهو مثال للعلم والهدي. وتقول العرب: لا أفعله حتى يرد الضب(4). ويقولون: قالت السمكة : رد يا ضب، فقال: أصبح قلبي مردا، لا يشتهي أن يردا، الاعراد عردا، وصليانا بردا، وعنكشا ملتبدا(5).
__________
(1) : فتح الباري 9/534 – 663 – صحيح مسلم 6/68 – عارضة الأحوذي 7/285 -286
(2) : معالم السنن للخطابي 5/310 – ح: 3645- 3646.
(3) : صحيح مسلم 6/70 – شرح معاني الآثار للطحاوي 4/197 – سنن أبي داود 3/379
(4) : حياة الحيوان 2/67 – وقارن بأوجز المسالك للكاندهلوي 15/150.
(5) : حياة الحيوان السابق.(1/105)
ولما تعرف العرب من البلادة ما عرفوه، صنع السلمي بالضب ما صنع من قوله: لا أومن بك أو يومن هذا الضب، فأنطلق الله الضب بالإيمان، فكان له صلى الله عليه وسلم من أكبر معجز. روى الدارقطني والبيهقي وشيخه الحاكم وشيخه ابن عدي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه، إذ جاءه أعرابي من بني سليم قد صاد شيئا وجعله في كمه، فذهب به إلى رحله، ورأى جماعة محتفين بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال)(1): على من هؤلاء الجماعة؟، قالوا : على هذا الذي يزعم أنه نبي، فأتاه(2)فقال: يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أن تسميني العرب عجولا لقتلتك، فسررت بذلك الناس أجمعين. فقال عمر: دعني أقتله يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا، ثم أقبل الأعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: واللات والعزى لا آمنت بك ان(3)يومن هذا الضب، وأخرج الضب من كمه فطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ان آمن بك آمنت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ضب، كلمه الضب بلسان فصيح عربي مبين تفهمه القوم أجمعين(4): لبيك وسعديك يا رسول الله، يا رسول رب العالمين.
__________
(1) : هذه الزيادة نقلناها من الدميري 2/68.
(2) : الزيادة: من الدميري السابق.
(3) : في الدميري: حتى يومن. سابق.
(4) : في الدميري: فكلمه الضب بلسان طلق فصيح عربي مبين صريح يفهمه القوم جميعا. سابق.(1/106)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعبد؟ قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه. قال: من أنا يا ضب؟، قال أنت رسول الله رب العالمين وخاتم النبيئين، قد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك. فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وانك محمد رسول الله حقا، لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد أبغض إلي منك، والله لأنت الساعة أحب إلي من نفسي وولدي، فقد آمن بك شعري وبشري وداخلي وخارجي، وسري وعلانيتي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحمد لله الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه، ولا يقبله الله الا بصلاة، ولا يقبل الصلاة الا بقرآن، قال: فعلمني. فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الحمد، وقل هو الله أحد. فقال: يا رسول الله صلى عليه وسلم، الحمد لله هو لك؟، ما سمعت في (البسيط)(1)ولا في الوجيز أحسن من هذا. فقال صلى الله عليه وسلم: هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، إذا قرأت قل هو الله أحد فكأنما قرأت ثلث القرآن، وان قرأتها مرتين فكأنما قرأت القرآن كله. فقال الأعرابي: الله يقبل اليسير ويعطي أكثر(2)ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك مال؟، فقال: ما في بني سليم قاطبة أفقر مني، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعطوه، فأعطوه حتى أبطروه. فقال عبد الرحمن بن عوف: يارسول الله، إني أعطيه ناقة عشراء تلحق ولاتلحق، أهديت لي يوم تبوك. قال: وصفت ما تعلم، وأصف لك ما يعطيك الله جزاء؟ قال: نعم.
__________
(1) : في النسخة، البسيطة، والصواب ما أثبتناه المراد به: البحر البسيط.
(2) : في حياة الحيوان 2/69: يعطي الكثير.(1/107)
قال: لك ناقة من درة جوفاء، قوائمها من زمرد أخضر، وعيناها من زبرجد أخضر، عليها هودج، على الهودج السندس والاستبرق، تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف، فخرج الأعرابي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقته ألف أعرابي على ألف دابة بألف رمح سيف، فقال لهم : أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا الذي يكذب ويزعم انه نبي. فقال الأعرابي: أني اشهد ألا إله الله وأن محمدا رسول، الله، قالوا: صبوت. فحدثهم بحديثه، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم قالوا : يا رسول الله مرنا بأمرك، فقال: كونوا تحت راية خالد بن الوليد. فلم يومن من العرب ولا من غيرهم ألف غيرهم(1).
وسر الحكمة في ذلك التنبيه على منشأ هذه البدعة المشار إليها طول العمر واستمرار الوقت، وذلك أن الضب يضرب به المثل في ذلك، ومن ثم صادق الحيات ولا يراد به أنه غير واقع بحمد الله تعالى، فلم يبق إلا ما دون ذلك من البدع في العقائد الفاسدة والأعمال. نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
__________
(1) : قال القسطلاني في المواهب: هو مشهور على الألسنة، رواه البيهقي في أحاديث كثيرة، لكنه حديث غريب ضعيف، قال الحافظ المزي: لا يصح إسنادا ولامتناء وهو مطعون فيه، وقيل أنه موضوع. وقال الذهبي: أنه خبر باطل، انظر: دلائل النبوة للبيهقي 6/36 – 38 ودلائل النبوة لأبي نعيم رقم 274 – والمعجم الصغير للطبراني رقم: 948 – ومجمع الزوائد للهيثمي 8/297 – والشمائل لابن كثير 285 – 287 – والخصائص الكبرى للسيوطي 2/275 – والشفا للقاضي عياض 1/309 – 310 والوفا باحوال المصطفى لابن الحوزي 5/148 – 149 وحياة الحيوان للدميري 2/68-69- والمستطرف للأبشيهي 2/133 –134.(1/108)
فإذا تقرر وجه الشبه في هذه البدعة المتبعة وبين جحر الضب من صعوبته، وعبثه وقدراته، وضيقه، وغير ذلك ولا أضيف مولجا ممن أراد أن يدخل بين الله وبين عباده في أحكامه التي أحكمها، وحدوده التي حدها، ولا أضيق جحرا، ولا أخبث ممن أراد أن يتحكم على الله أو يحكم بمصلحة رآها برأيه مع نهي ربه عنها، ولا أضيق مولجا ممن أراد أن يبدل عقائد عباد الله المؤمنين فيما حرمه رب العالمين.(1/109)
فاللطيفة التي نشير إليها، وفائدة نقل الحديث عليها، وهو أنه لم يبق إلا ما ينتظر من اتباع بني اسرائيل، بل هذا هو الغاية والنهاية. نسأل الله سبحانه النجاة والوقاية. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل أتباعهم في دخول جحر الضب غاية الاتباع، ولا لما قضى الله من واق، وما عنه من دفاع. غير أنا الآن لسنا في مقام التكفير بإحلال المحرم، وإنما المقصود من هذا بيان قيام القاطع المانع من أخذ المال في جميع وجوه الجنايات، كيفما تصرفت وتنوعت، حتى يتبين أن هذا ليس هو بموضع الاجتهاد البتة، لأنه لا يصح الاجتهاد مع النص. ومن الاجتهاد المعارض للنص، ما حكاه الله عن أكل الربا في قوله: "الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا(1). فقاسوه عليه، والجامع بينهما ظاهر، وهو أن كل واحد منهما عقد معاوضة عن تراض، وهذا وصف مناسب ملائم أو مؤثر، وقد علق سبحانه به الحلية فقال: "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"(2)، فذمهم تعالى وتوعدهم بقوله: "لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"220 وعلل ذلك الذم العظيم والعذاب الأليم بقوله: "إنما البيع مثل الربا"220، وبين أن جهة الذم والوعيد الاجتهاد عند وجود النص بقوله: "وأحل الله البيع وحرم الربا"220، يعني قد حرمت الربا، فما لكم تجتهدون وتستنبطون حليته بالاجتهاد بعدما سمعتم تحريمه. فكذلك يقول سبحانه لمن أراد أن يجتهد حتى يستنبط حلية شيء من أخذ المال بالباطل: قد حرمت عليكم أكل المال بالباطل، فكيف يسوغ لكم الاستنباط والاجتهاد لتحللوا ما حرمت عليكم؟.
__________
(1) : سورة البقرة، الآية: 275
(2) : سورة النساء، الآية: 29.(1/110)
هذا، والقياس دليل عند أكثر الأمة أو كلها، لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم عليه، والاستنباط به عند المعارضة غير ممتنع عند الجميع. والمصالح المرسلة أكثر الأئمة على أنها ليست بدليل، فإذا ذم هؤلاء على المعارضة بالدليل الأقوى، فكيف لمن أراد معارضة النصوص بالذي هو أدنى، فإن قلت: لعل هؤلاء أرادوا الربا جملة، وهذا الذي رأى أن يحلل أخذ المال من الجناة بالمصلحة، إنما أراد أن يشرع بعض الباطل لأكله. وكثير ما بين التعطيل والتخصيص، قلت: الباطل والظلم لا يقبل المشروعية عقلا عند خلق، وشرعا عند الكثير، "وما ربك بظلام للعبيد"(1).
فإن قلت: وهذا بناء على أن ما يؤخذ من الجناة ظلم وباطل، وهذا المملي يمنع من ذلك. قلت: قد أقمنا الدليل القاطع على أنه ظلم وباطل من قبل، والمملي لم يخالف في هذا، بل وافق في أول كلامه وآخره على أنه ظلم وأكل للمال بالباطل، إلا أنه أراد أن يشرعه من باب ارتكاب الضرر الأدنى لرفع الضرر الأعلى بزعمه، وهذا مما تبدع بهذا الجواب، وإلا فالقدر المشترك هو الاجتهاد مع وجود النص، وهو غاية الذم والوعيد حسبما دل عليه التعبير بقوله تعالى: "ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا". والواو واو الحال، أي قالوا ذلك في حال أن الله تعالى قد حرم الربا، أي قاسوا في مقابلة النص، وبيان ذلك أن الله قد شرع البيع ونهى عن الربا، كما شرع الحد ونهى عن أكل المال بالباطل.
__________
(1) : سورة فصلت، الآية: 45.(1/111)
فالذي يريد أن يشرع أكل المال بالمصلحة المرسلة زيادة على الحد، كالذي يريد أن يشرع أكل الربا بالقياس الذي هو أقوى من المصلحة المرسلة قياسا على البيع، فيكون الاجتهاد هنا باطلا لوجود النص ومن الاجتهاد مع النص قصة السجود لآدم. فإن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، وكان ابليس مندرجا في الأمر العام، فأراد أن يخصص ذلك العام بنوع من القياس أو المصالح في زعمه، وهو أول من صنع ذلك، أعني الاجتهاد في مقابلة النص بالقياس الذي دل عليه قوله: "خلقتني من نار وخلقته من طين"(1). فإنه رأى جوهر النار لطيفا علويا شفافا نورانيا فاعلا قاهرا، وجوهر الطين كثيفا سفليا مظلما منفعلا مقهورا، فصح عنده أن جوهر النار أشرف. ثم أضاف إلى ذلك مقدمة أخرى، وهي أن المخلوق من الأشرف أشرف، فصح عنده أنه أشرف. ثم رأى أن من الحكمة أن يسجد المشروف للأشرف، لا الأشرف لغيره، فصح عنده أنه أحق بالسجود له من آدم عليه السلام. وأقل الدرجات هي اعتقاده أن لايكون آدم أهلا لأن يسجد له. وهذا المعنى الذي لاحظه من اعتبار صفة الشرف في كونه مسجودا له، اعتبر الشرع نوعه فيما هو سبب السجود، وهو الولاية، إذ كل ما زاد شرفا كان أحق بالولاية من غيره. وهذا أقوى من اعتبار المصلحة في أخذ المال في مسائل الحدود، ومع ذلك ذمه الله ولعنه وطرده حيث اجتهد مع وجود النص، وكان اجتهاده مفضيا إلى إبطال الأمر جملة في حق كل من تعلق به الأمر في زعمه إلى إخراج بعض المأمورين منه. كما أن الذي يجتهد مع وجود النص على تحريم أكل المال بالباطل في تخصيص بعض متعلقات هذا النهي.
__________
(1) : سورة الأعراف، آية : 12.(1/112)
وأدلة القرآن الكريم على إبطال الاجتهاد مع وجود النص أكثر من أن تحصى، وفيما أجلبناه من ذلك كفاية لمن كانت بغيته معرفة الحق واتباعه. ويدل أيضا على ما قلناه من السنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا، معلما القرآن وشرائع الإسلام، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين كانوا باليمين. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين وجهه: بم تقضي أو بما تحكم؟ قال: بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: بما في سنة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي(1)، فهذا خبر تلقته علماء الأمة بالقبول. واستدل به على ما قلناه من أن الاجتهاد مع وجود النص باطل على ما قاله علماء الأصول(2)، وهو صحيح في معناه، صريح في مبناه، فقال المفتي في هذه المسألة وإجرائه إياها على المصالح المرسلة مع وجود أحكامها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
فإن قلت: ما لمعاذ لم يذكر الإجماع؟
قلت : لأنه لم ينعقد ما دام الوحي ليس له انقطاع.
فان قلت: قد عرفنا دليل ذلك من الكتاب والسنة، اعني دليل أنه لايهم الاجتهاد مع وجود النص، فأين الإجماع على ذلك، وأين دليل الإجماع؟
__________
(1) : الحيدث أخرجه أبو داود في سننه 2/1949. والترمذي 1/171 والدرامي 170. والبيهقي 10/114. والطيالسي 1/286. وابن ابي شيبة في المصنف 10/177. لكهم من طريق شعبة عن أبي العون الثقفي عن الحارث بن عمرو الهذلي بن أخي المغيرة بن شعبة عن رجل من أهل حمص من اصحاب معاذ.
وقد ضعفه لجهالة الحارث بن عمرو وجهالة شيوخه، وصححه غير واحد من الأئمة قال ابن الوزير في الوزير في العواصم: هو حديث مشهور متلقى بالقبول، ثم أجاب عمن طعن فيه بوجوه 1/282 – 283.
(2) : انظر: البرهان للجويني 2/865-868(1/113)
قلت: أما الإجماع، فما من علماء الإسلام إلا بين ذلك، واشترطه في الاجتهاد. ولا يفتقر الإجماع إلى الإطلاع على مستند أهله، فإنه حجة شرعية بالدلائل القطعية(1)، ولكن لا بأس بذكر شيء تزداد به بصيرة.
فمن ذلك أنه لما توفي صلى الله عليه وسلم(2)، وهمت الأنصار ببيعة سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقال فليؤم منا أمير ومنكم أمير، احتج عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"(3)، فترك الانصار وغيرهم الاجتهاد ومنازعة قريش في الخلافة، وقد عدها أهل الإجماع في مسائل الإجماع(4)، وعليها مضت القرون الأولى، فلا ينقض ذلك خلاف النظام والخوارج، أعني أن الامامة هل تتعين لقريش، كذا في الاكمال وغيره، والا فلا خلاف فيما قلناه من أن الاجتهاد لا يكون الا حيث نهي ولا إجماع.
__________
(1) : البرهان 1/434 - 438
(2) : ساقطة من النسخة.
(3) : رواه الحاكم والبيهقي والطبراني. انظر المعجم الكبير 1/252 – ح: 725 – ومجمع الزوائد 5/192 – وفيض القدير3/189.
(4) : المحصول للرازي ق 1/ج 190- 191 و272 – وانظر : التبصرة للشيرازي 364.(1/114)
وأيضا، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختلف عليه المسلمون في الاقدام على أرض الوباء، اذ استشارهم في ذلك، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فأخبرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيه عن القدوم عليه فرجعوا كلهم وسقط الخلاف(1).
__________
(1) : عن عبد الله بن عباس قال: خرج عمر بن الخطاب يريد الشام، حتى إذا كان في الطريق لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. قال فاستشار الناس، فأشار عليه المهاجرون والأنصار أن يمضي، وقالوا: خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال الذين أسلموا يوم الفتح: معاذ الله أن نرى هذا الرأي، أن نختار دار البلاء على دار العافية. وكان عبد الرحمن بن عوف غائبا، فجاء فقال: أن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، قال: فنادى عمر في الناس فقال: أني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله. المصنف لعبد الرزاق 11/147- وانظر شرح الزرقاني على الموطأ –79 4/73 – والتمهيد لابن عبد البر 2/210 –211 والسنن الكبرى للبيهقي 3/378 والمعجم الكبير للطبراني 1/130 و 5/145.(1/115)
وكذلك جميع وقائع الصحابة رضي الله عنهم كلما شرعوا في الاجتهاد فعرفوا النص أقصروا عن النظر، ووقفوا عندما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من الخبر. وجاء عن رسول الله صلى اله عليه وسلم "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، وأعظمهم على أمتي قوم يقيسون كلامه بآرائهم، فضلوا وأضلوا(1). حمل الحديث علماء الأصول على من اجتهد بالقياس في معارضة النص، فمن باب أحرى من عارضه بالمصالح المرسلة !
وفي رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهي التي نقلها عدة من نقلة الأخبار(2)، واتخذها الحكام عمدة في الأحكام، إليها يرجعون وعليها ويعولون. ولنقتصر على موضع الحاجة منها، طلبا للاختصار، ورفقا بالطباع التي لاتتحمل الإكثار. قال له فيها رضي الله عنه: "الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم أعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور بعضها ببعض، وأعمد إلى أقربها إلى الحق وأشبهها بالصواب،(3)فها هو هذا رضي الله عنه إنما أباح له القياس والاجتهاد عند فقد النظر من الكتاب والسنة، وإذا خرج القياس مع وجود الحكم فيهما، وهو دليل عند أكثر الأمة والأئمة، فكيف بالمصالح المرسلة التي هي بالعكس منه.
__________
(1) : جامع بيان العلم 2/134 – والخطيب في الفقيه والمتفقة 1/180 – ابن حزم في الأحكام 8/25- وقارن بسنن الدارقطني 4/146 – كتاب النوادر ح : 12 – والمستدرك للحاكم 4/430 – واعلام الموقعين 1/53
(2) : راجع : رسالة القضاء لعمر بن الخطاب (ص) – تحقيق : احمد سحنون – ص : 161-202.
(3) : نفسه ص : 317.(1/116)
وروى الأئمة عن ابن شهاب قال: أصاب الناس طاعون بالجابية فقام (14=191/أ) عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: تفرقوا عنه فانه بمنزلة نار، فقام معاذ بن جبل فقال: لقد كنت فينا راشدا ولأنت أضل من حمار أهلك، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هو رحمة لهذه الأمة" اللهم فاذكر معاذ وآل معاذ فيمن تذكره بهذه الرحمة(1).
__________
(1) : المصنف لعبد الرزاق 11/149 – ومسند احمد 4/196 – والطبراني في المعجم الكبير رقم 7209 – وابن حبان في صحيحه رقم 2951 –7/305 - ومجمع الزوائد 2/316.(1/117)
فها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه قاس الوباء على النار بجامع أن كلا منهما يهلك أهلاكا، وينتشر فيما حوله لامتوانيا ولابطيئا، ليستنتج حكم الفرار، كما يفر وجوبا من النار. فلما سمع ذلك لم يخرجوا، بل وهكذا فرض الله سبحانه على أهل الإيمان، وجعله من اللوازم التي لا تنفك عن الأديان. وقال تعالى محذرا في ذلك من العصيان، ومتوعدا، ومسجلا بالضلال عليه: "وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا"(1). قال علماء الأصول النص للشافعي: كيفية الاجتهاد إذا رفعت إليه واقعة أن يعرضها على نصوص الكتاب، فان أعوزه فعلى الأخبار المتواترة ثم على لآحاد، فان اعوزه لم يخضي في القياس، بل يلتفت إلى ظواهر القرآن، فإن وجد ظاهرا نظر في المخصصات من خبر أو قياس، فإن لم يجد مخصصا حكم به، وان لم يعثر على لفظه من كتب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نظر في المذاهب، فان وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع، وان لم يجد إجماعا خاص في القياس(2). قالوا: وإنما أخر الشافعي الاجماع وهو مقدم في العمل، لأنه لابد أن يتضمن نصا أو يستند إليه، وإذا أعوزه الجميع رجح إلى البراءة الأصلية. هذا نص العلماء، وإذا أعوزه الجميع رجح إلى البراءة الأصلية. هذا نص العلماء.
__________
(1) : سورة الاحزاب، الآية : 36.
(2) : قارن بالرسالة ص : 39-40-477-479-509-511 والبرهان 2/855.(1/118)
ومملي هذه الفتوى، القائل أن ما يعاقب به الجناة من القاتلين والقاطعين والسراق والزناة، لو وقف عندما جاء في الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة، ورتبه في طريق الاجتهاد الأئمة، لعرض هذه النازلة التي سئل عنها، وهي ما يعاقب به القاتلون والجارحون والمحاربون والسراق والزناة وغيرهم وعلى كتاب الله، لوجد ما يعاقبون به مبينا في كتاب الله، يعرفه الصبيان، وكل من سمع القرآن وعرف الأديان. ولو عرض هذه المسائل على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجدها على أكمل وجه وأتمه بيانا، ولو عرضها على الإجماع الواجب الاتباع، لوجده أجلى من الشمس، لا يخفى إلا على من ليس له حس. لو عرضها على آخره مرتبة الأدلة، وهي البراءة الأصلية، لتخلص وخلص من هذه البلية. وعندما يجد ما يعاقب به الجاني على هذا الوجه، فيجب عليه الجواب. ثم ينظر في استبدال هذه الحدود بالمال أو زيادة المال عليها، فيجده أيضا منهيا عنه في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وتدل عليه البراءة الأصلية. فإن كل نهي أو وعيد أوعذاب متعلقه الظلم وأكل المال بالباطل وصريحات النهي المؤكد تحريمه إلى الغاية القصوى، كما قال عليه الصلاة والسلام في خطبة يوم الحج الأكبر في حجة الوداع: "أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا هل بلغت، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أشهد على ذلك"(1).
والحاصل أن تحريم أكل المال بالباطل والظلم معلوم في الرؤساء بالضرورة، والاستدلال على الضروريات يزيدها غموضا.
__________
(1) : متفق عليه : انظر فتح الباري 1/157 و 3/157 وصحيح مسلم بشرح النووي 8/162.(1/119)
فإن قلت : إنما وجود ما يعاقب به هؤلاء الجناة في الكتاب والسنة فقطعي، وأما تناول هذه العمومات في تحريم الظلم وأكل المال بالباطل لهذه المسائل فمعلوم، ولاشك في حرمة تبديل الحد الزيادة عليه، ولا في عدم مشروعية شيء من الظلم، لأن الرب سبحانه قدس نفسه عنه، وهو محال عليه، وأن هذه العمومات لاتقبل التخصيص بإغرام الجناة الأموال، ولادليل شرعا يخصص به، لكن هل هناك ما يدل على التنصيص على نفس العقوبة (15= 191/ب) بالمال في هذه الحدود أو في غيرها مما ثبت ولم يثبت، ووصل إلى حد التهمة أو لم يصل؟ فإن مثل هذا أردع للمعائد وأبين عند الغي.
قلت: نعم، أجمعت الأمة، ودلت دلائل الكتاب والسنة، أن الكفر بعد الإسلام أكبر ما يرتكبه المسلم، وانعقد إجماع الأمة على أن من ارتد لايوخذ ماله، ولايوضع في بيت المال ولا غيره، ولا يزول ملكه عنه، إلى أن يموت بمنيته أو يقتل على ردته. قال ابن المنذر في كتاب الأشراف: "أجمع كل من يحفظ عنه العلم أن المرتد لايزول ملكه عنه لارتداده، وانه إذا راجع الاسلام يرد اليه"(1). وإذا كان المرتد لايخرج ملكه عنه بإجماع الأمة، فكيف يحل لأحد أن يقول: أن أخذ المال من العصاة والجناة ينبغي أن يجري على المصالح المرسلة فيعارض الإجماع، لأنه انعقد الإجماع على أن أكبر الجنايات لا يبيح المال، فكيف بما دون ذلك.
فإن قلت: لاشك في الأحروية، وانه يلزم من الاجماع على عدم نزع المال في الكفر بالاجماع على ما دونه من باب أحرى. فهل ثم نص معين فيما دون الكفر ليحفظ، والا فقد حصل الاكتفاء وأتيت بالغاية من الشفاء.
قلت: نعم، أكبر الجنايات بعد الكفر: القتل والحرابة والفساد في الأرض والخروج على أئمة العدل والبغي عليهم.
فان قلت: فقد نقل غيره الخلاف في مال المرتد، وأنه لا يعود إلبه بعد الوقف، ولو راجع الإسلام.
__________
(1) : نقله عنه ابن القطان بلفظه في: الاقناع في مسائل الاجماع – ص: 73(1/120)
قلت: ان صحت الرواية، فوجهه أن الردة لما كانت تحبط العمل، وتحل عصم الزوجات وترفع الملك عنه، سرى ذلك إلى رفع الملك عن المتمولات، فبطل الملك وبقي ماله ضائعا، فمن ثم جعل في بيت المال، وليس من العقوبة بالمال في شيء، ولا يصح إجراء باب المعاصي عليه بوجه، لأن المعاصي لا تحبط، ولايكفر مرتكبها، ولا ترفع ملكه عن شيء مما يملك، ولا عصمة مملوكاته ومتمولاته البتة.
وفي كتاب الإجماع لابن القطان(1)من المراتب ما نصه: "واتفقوا أن من قاتل الفئة الباغية ممن له أن يقاتلها، وهي خارجة ظلما واعتداء على إمام عدل واجب الطاعة صحيح الإمامة، فلم يتبع مدبرا، ولا أجهز على جريح، ولا اخذ لهم مالا، وأنه قد فعل في القتل ما يحل"(2).
فهو هذا قد اشترط في حلية القتال أن لايأخذ للبغاة على الإمام العدل الصحيح الامامة، وان كانوا قد اتصفوا بالافساد والمحاربة مالا، لا ممن كانت جنايته أخف من هؤلاء. كيف يصح أن يقال: يؤخذ ماله بالمصالح المرسلة؟ وأي مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأئمة وقواطع الأدلة أكبر من هذا؟
وفي كتاب الإجماع لابن القطان في الفصل المذكور: "واتفقوا على أن لا يحل تملك شيء من أموالهم ما داموا في الحرب، ما عدا السلاح والكراع، فانهم اختلفوا في الانتفاع بسلاحهم وخيلهم مدة حربهم، وفي تخميسها وقسمها إذا ظفر بهم"(3).
__________
(1) : هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الحميدي، عرف بابن القطان، ولد بفاس سنة 562هـ. سمع أبا عبد الله بن الفخار وابا ذر الخشني وغيرهما. كان عالما بصناعة الحديث وأشدهم عناية بالرواية. له تآليف منها: الإقناع في الإجماع – والنزاع في القياس – وشرح أحكام عبد الحق الاشبيلي. توفي بسجلماسة سنة 628 هـ. انظر: الذيل والتكملة 8/165-125 ونيل الابتهاج 317 – وشجرة النور 179.
(2) : الاقناع في مسائل الإجماع ص: 12 وص: 73 وفيه: .. انه قد فعل في القتل ما وجب عليه.
(3) : الاقناع ص: 73(1/121)
فانظر هل اعظم من هذا الذنب بعد الكفر ذنب. وها هو ذا إجماع المسلمين على أنه لا يؤخذ شيء من أموالهم، ما عدا الكراع والسلاح في زمان الحرب، على اختلاف فيه. فإذا كان هؤلاء لايؤخذ شيء من مالهم بالإجماع، ويختلف في السلاح الذي يحاربون بها، وفي الخيل التي يقاتلون عليها، فكيف يحل لمن خاف مقام ربه أن يعرض أموال المسلمين بدون من هذه الجناية لمن يأخذها بغير حق، ويفتي بالتحليل بالمصلحة، مع مراغمة هذه القواطع الجليلات الجليات. وكيف يدعي العاقل هذا أنه يفلح في العلم والقواعد التي استنبط منها. ويرحم الله إمام العلماء مالك بن أنس في قوله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يقذفه الله في القلوب(1). وقال سبحانه "يهدي الله لنوره من يشاء"(2). اللهم اهدنا لنورك بقدرتك، واهد بنا من قسمت له الهداية في سابق علمك، واعذنا مما يكون من العلم عيالا، لا يألو صاحبه خبالا واضلالا (16=192/أ).
ليس العلوم بكثرة الانقال ... ... والجمع والتكثير والاقوال
والاخذ بالرأي السقيم ... ... وكل ما ترويه السن الكبير العال
العلم كشف الشك عند وروده ... ... وإزاحة الالباس والاشكال
نور به صور الحقائق تنجلي ... ... فيميزها عن باطل ومحال
فضل الإله ينيله من شاءه ... ... والله اهل الجود والافضال
ميراث تقوى الله يشهد بالذي ... ... قد قلت ما في سورة الانفال
__________
(1) : في جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/25 : وذكر ابن وهب في كتاب العلم من جامعه قال: سمعت مالكا يقول: "أن العلم ليس بكثر الرواية، ولكنه نور جعله الله في القلوب" وقارن مع التمهيد 4/267 والموافقات 1/76.
وفي ترتيب المعارك 4/81: وكان سحنون يقول: ... وانما العلم نور يضعه الله تعالى في القلوب.
(2) : سورة النور، الآية: 35.(1/122)
وفي كتاب الاكمال للقاضي أبي الفضل عياض رحمه الله وغيره، واللفظ للاكمال: جمهور العلماء وأئمة الفتوى والامصار أن الغال يعزر بقدر اجتهاد الامام، ولا يحرق رحله. ولم يثبت عندهم الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما في تحريق رحله. ولم يثبت عندهم الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما في تحريق رحله، لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل الرجل الذي وجد عنده الخرزة والعباءة. وقال قوم، لحديث ابن عمر على تفصيل ذكره. قال الطحاوي: "ولو صح حديث ابن عمر لمحمد على أنه كان إذ كانت العقوبة في الأموال، كما جاء في التضعيف على مانع الزكاة وضالة الابل وسارق التمر. قال الطحاوي: والعقوبة بالمال منسوخة(1)، فهذا أيضا الطحاوي حكى بالنسخ، وتلقته الأئمة الذين نقلوه عنه بالقبول، فكيف يحل لهذا المفتي بعدما اتفق أهل مذهبه وغيرهم علي النسخ. ما قال بالمال في مسائل الحدود أحد من أهل الأديان، وإنما كان على القول به فيما لأحد فيه، وفيما لاوقعت فيه المعصية، إنما هذا إتلاف لمحل المعصية ثم نسخ الإتلاف. وسيأتي تفاصيل تلك الوقائع أن شاء الله تعالى.
__________
(1) : انظر: شرح الأبي على مسلم 5/176 – وشرح النووي كذلك 12/218 – وعارضة الاحوذي 7/69 – 70 والمنتقي للباجي 3/204 – والتمهيد 2/22 – والبيان والتحصيل 17/254 –255 – والمعتصر من المختصر 1/238 - وشرح معاني الآثار 3/146 – 147 وفصل الاقوال ص 11-12 وراجع الهداية على البداية لاحمد بن الصديق 72-6/70 حيث تناول بتفصيل كلام العلماء حول الحديث. وانظر ص : 210-213 من القسم الأول من هذا البحث – وراجع أقوال العلماء في عقوبة الغال في الاستذكار لابن عبد البر 14/209-210(1/123)
فان قلت: حاصل ما قدرته وأبديته وأوضحته إذا وقع الاجتهاد في غير محله، وأجرى النظر، والإجراء على المصالح في غير مجراه، وفي ضمن هذا انك سلمت بلوغه رتبة الاجتهاد، وهذا أمر يئس الناس منه منذ زمان، وقد قال العلماء، وهو نص القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله: أن الواصل إلى هذا الطريق، وهو طريق الاجتهاد والحكم به في الشرع قليل، وأقل من القليل بعد الصدر الأول والسلف الصالح والقرون المحمودة الثلاثة. وقد قال الامام المازري: انه انقطع الاجتهاد منذ مئين من السنين، وشهد بانقطاعه العيان(1)، وقد سمعت شيخنا أبا عبد الله محمد بن عرفة(2)الامام يحكي عن أشياخه الاعلام أنه قد انقطع المجتهدون منذ توفي عز الدين بن عبد السلام. أو رأيته، وان فاته الاجتهاد المطلق، فقد وصل إلى رتبة الاجتهاد في المذهب لما نقح منه وحقق. وهذا ـ علم الله ـ رتبة سامية، ودرجة منيفة عالية، لم يصل إليها إلا أهل التحقيق، وناهيك برتبة تلحق بمثل ابن القاسم وأشهب وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن سريج والامام ابي حامد، فهلا حسمت الباب من هاهنا، فإنه ممن لا يظن به أنه يدعي أنه في رتبة هؤلاء.
قلت: هذا مما تركناه اختصارا، ولئلا يظن من لايميز رتب العلماء انا قصرنا في ذلك تنقيصا واستقصارا. وما أوردنا من فقد شرط الاجتهاد في المجتهد فيه من أي صنف كان، مجتهدا أو مقلدا.
__________
(1) : قارن بتبصرة الحكام لان فرحون 1/58.
(2) : هو ابو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي. تفقه على الامام ابن عبد السلام، ومحمد بن هارون، وابن قداح وغيرهم، وأخذ عنه كثيرون منهم: الشماع، والبرزلي، والأبي، وابن ناجي، والوانوغي. تلوى الامامة والخطابة بجامع الزيتونة، وانقطع للعلم. توفي سنة 803هـ. ترجمته في: نيل "الابتهاج 63/452 وتوشيح الذيباج 251-255- الضوء اللامع 9/240 – 241 درة الحجال 2/280 –283 الحلل السندسية 3/589 – شجرة الزكية 227.(1/124)
فان قلت: هذه النصوص كافية اتم كفاية، فهل لامامة في كتب مذهبه نص فيما يحق فيه، حتى يكون ممنوعا من الفتيا بغيره؟، ولو كانت؟، فالفرض والتقدير خلافه.
قلت:لامعنى لفرض الاختلاف مع وجود الاجماع، ولكن أردت زيادة تنصيص الامام وتخصيص في كتاب السلطان من العتبية من سماع أشهب، أن مالكا رحمه الله سئل هل يجوز انهاب متاع أهل السوق إذا خالفوا ما أمروا به؟، فقال: "لايحل ذنب من الذنوب مال انسان، وان قتل (17=192/أ) نفسا، وأرى أن يضرب من انهب او انتهب"(1). فانظر إلى عموم قوله: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان، وإلى الغاية في قوله: وان قتل نفسا، وإلى الحكم بالضرب على من أمر بالنهب وعلى من أطاعه. فهذا أيضا نص يمنعه من تعديه إلى بناء آخر الخطايا على المصالح المرسلة وعلى غيرها، لأن النص المذهبي المقلد بمنزلة النص النبوي للمجتهد المطلق(2). وقد نقل أبو الفضل عياض رحمه الله في كتابه المدارك عن بعض المشايخ: أن الإمام لمن التزم تقليد مذهبه كالنبي عليه السلام مع امته، لا تحل مخالفته، قال: وهذا الصحيح في الاعتبار، وبما شرطناه وبسطناه يظهر صوابه لأولى البصائر والابصار(3).
__________
(1) : البيان والتحصيل لابن رشد 9/359 و 16/297.
(2) : قارن بالفروق للقرافي 2/107 – 108 الفرق 78.
(3) : ترتيب المادرك 1/62-63 وفيه: ... لايحل له مخالفته . وهذا صحيح في الاعتبار، وبما بسطناه وشرطناه يظهر...(1/125)
وفي وثائق ابن فتوح(1)وأكثر كتب الأحكام: قال محمد بن عمر يعني ابن الفخار(2): لانعلم ذنبا يوجب استباحة مال الإنسان إلا الكفر وحده(3)وتلقاه الائمة بالقبول.
قلت: ولابد من تقييد أن كان كفرا بعد إسلام، يكون قتل على ردته أو مات، وأما مادام حيا فلا، كما تقدم فيه من الإجماع على أن الردة لاترفع ملك المال إلا بالشرط المذكور. وهذا المنقول عن ابن الفخار انما سببه انه سمع قول غيره(4)ممن دعاه خصمه فألد حتى أحوجه إلى غرم أجرة العون، فقال: اللدد والمطل ذنب، والذنوب والمعاصي لا تحل مال العاصي. وإنما قال غيره: أنه يؤدي أجرة العون لكونه تسبب في غرم خصمه، وأما لكونه أذنب بالمطل واللدد عن القاضي فلم يقل به أحد.
__________
(1) : هو أبو محمد عبد الله بن فتوح بن موسى بن عبد الواحد البنتي. من الفقهاء النبهاء، ألف الوثائق المجموعة، وهو تأليف مشهور جمع فيه امهات الوثائق وفقهها. توفي سنة 460 هـ أو 462هـ. ترتيب المدارك 8/166 – الصلة لابن بشكوال ص: 280-281.
(2) : أبوعبد الله محمد بن عمر بن يوسف المالكي، المعروف بابن الفخار، من أهل قرطبة. كان من كبار العلماء، عارفا بمذاهب الأئمة وأقوالهم، يحفظ المدونة وينصها من حفظه توفي ببلنسيه عام 410هـ. الصلة لابن بشكوال 510-512.
(3) : وثائق ابن فتوح ص : 495- وانظر: تنبيه الحكام لابن المناصف 62 – ومختصر النهاية للكناني ص: 396 – ومعين الحكام 2/614 – 615 –والاعتصام 2/124 – وتحفة الناظر 220 وتكميل التقييد 374- والبهجة للتسولي 1/36 وشرحه على لامية الزقاق – ملزمة 25 ص: 5 – وشرح نظم العمل للسجلماسي 2/492 وحادي الرفاق للرهوني 4/45 - وأحكام ابن دبوس 2/96.
(4) : هذا الغير هو: ابن العطار، أبو عبد الله محمد بن أحمد، وقد خالفه ابن الفخار وانتقده، انظر كتابه: الوثائق والسجلات 493-494.(1/126)
وفي كتاب الأحكام لابن العربي رحمه الله: لا عقوبة في المال، ولكن يؤدب لجنايته بالاجماع، قاله في سورة آل عمران وسورة الانفال(1). من أحكامه أيضا: العقوبة بالمال لاتجوز بحال.
وفي كتاب النهاية والتمام أن ما ورد من العقوبات في الأموال منسوخ كله(2).
وفي جامع البيان لابن رشد أيضا: لا يحل مال أحد بذنب من الذنوب وأن قتل. وفيه: أن العقوبة في الأموال أمر كان في أول الإسلام. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: أنا آخذوها وشطر ماله عزمه من عزمات ربنا، ثم نسخ ذلك وعادت العقوبات على الجرائم في الأبدان(3). وفيه: قد قال صلى الله عليه وسلم: "لايحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس(4)، استدلال على نفي العقوبة في المال.
وفي كتاب السلطان من البيان أيضا أن كل ما ورد من العقوبات في الاموال منسوخ كله بالإجماع على أن ذلك لا يجب. وقد قال في موضع آخر، وأظنه في الحدود: أن ذلك كله كان في أول الإسلام، وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم انعقد الاجماع بان ذلك لا يجب(5).
__________
(1) : أحكام القرآن لابن العربي 1/126.
(2) : مختصر النهاية والتمام للكناني ص: 389- وانظر: تحفة الناظر للعقباني ص : 217.
(3) : البيان والتحصيل 9/320 – و 16/278 و 297.
(4) : مسند احمد 5/74 و113 سنن البيهقي 6/100 – سنن الدارقطني 2/26- نيل الاوطار 5/316 – أرواء الغليل 5/279 –282.
(5) : البيان والتحصيل 16/278 – وقارن بالرزقاني على المختصر 8/115.(1/127)
وفي الاستذكار لأبي عمر بن عبد البر: خرج قاسم بن أصبغ، أن عمر بلغه أن امراة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليها ففرق بينهما وقال: لاينكحها أبدا، وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس، فلما بلغ عليا قال يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال، إذا جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة. قيل: فما تقول أنت فيها؟، قال لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولاجلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء الله. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فخطب الناس فقال: "يا أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة"
وروى الثوري أن عمر جعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان(1).
قلت: وإلى نحو من هذا، والله أعلم، أشار القاضي ابن لاشد أنه حكم أولا، ثم انعقد الاجماع بأن ذلك لا يجب. وكذلك في طرح عمر اللبن المغشوش، ولذلك انكره مالك(2).
وفي سماع أشهب وابن نافع أيضا من كتاب الحدود: وسئل مالك: أيحرق بيت الخمار الذي يوجد فيه الخمر يبيعها؟، قال: لا قال القاضي ابن رشد رحمه الله: هذا صحيح (18-193/أ) على المعلوم من مذهبه أنه لايرى العقوبات على الجرائم في الأموال، وانما يراها في الابدان(3). وقال في سماع أشهب في كتاب السلطان: لايحل ذنب من الذنوب مال أحد من الناس ولو قتل نفسا، وذكر أنه كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك كله بالإجماع على أنه لايجب، وعادت العقوبات على الجرائم في الأبدان لا في الأموال(4).
__________
(1) : الاستذكار لابن عبد البرج 16/ص : 16/ص : 224 – وقارن بالتمهيد 9/91 – وارواء الغليل 7/203 – 204 – ح:2124-2125 –2126.
(2) : البيان والتحصيل 9/319 – وقارن بجواب العربي الفاسي ص: 7.
(3) : البيان والتحصيل 16/297.
(4) : البيان والتحصيل 9/320 و 359.(1/128)
فان قلت: هذا الذي حكاه القاضي ابن رشد من الإجماع انما يدل على نسخ الوجوب، فترجع المسألة إلى الخلاف، هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب؟، والأكثر على بقائه.
قلت: ليس المراد ما فهمته، وإنما أرشدك إلى صحة ما نقله من الإجماع، لأنه لم يقل أحد بوجوب العقوبة في المال، وليس من العقوبات والزواجر ما هو في حكم الاباحة، فالعقوبات كلها واجبة، الا أن منها ما يصح العفو عنه مما يرجع إلى حقوق المخلوق، ومنها ما ورد الشرع بالتحايد عنه أو بالتخفيف فيه بالنسبة إلى غيره، وتحقيق ذلك يرجع إلى أن القدر الذي أمر الشارع بالتخفيف فيه والتجاوز عنه لم يجب في موضع الأمر بالتجاوز، وأيضا فلا يلزم من بقاء الجواز في غير هذا بقاؤه في هذه، أنه إذا نسخ الوجوب رجع أخذ المال إلى أصله المشروع، وأصله المعلوم المقطوع به، حرمة أخذه بغير حق. ولذلك اتبعه ابن رشد رحمه الله في بعض المواضع التي نقل فيها هذا الاجماع على هذه الصورة بقوله صلى الله عليه وسلم: "لايحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس(1)، احترازا من هذا الوهم العارض.
وأيضا، فإن ما سبق ذكره من الاجماعات ليس فيها تقييد بنسخ الوجوب، فكانما صورة الكلام، لو كانت العقوبة في المال صحيحة كانت واجبة، لكنها لا تجب اجماعا فليست بصحيحة. وبرهانه أن الأصل تحريم مال الغير الا عن رضى منه.
__________
(1) : سبق تخريجه في ص : 746.(1/129)
وأيضا فنقول: كل مال مأخوذ كرها فلا يصح أخذه من صاحبه، إلا أن يكون الأخذ واجبا، كالزكاة من مانعها، والدين مما هو في ذمته، وقيم المتلفات من الغصاب والمعتدين، وليس في الشريعة إكراه على جائز على أخذ المال، فلا يجب الإكراه أبدا، إلا فيما كان فيه واجبا حقا. وهذا الإكراه لم يقل به أحد من الأئمة بوجه، فوجب أن يكون باطلا، لان اللزم المساوي له الوجوب، ويلزم من نفي اللزم المساوي نفي مساويه. وإنما أوردنا هذا السؤال والجواب، لان هذا المفتي أراد أن يضعف هذا الاجماع بما يخيل في السؤال، وهيهات !فلا تبطل الحقيقة بالخيال.
وكذلك قال: أن هذا بناء على أن الاجماع يكون ناسخا، والاجماع لاينسخ ولاينسخ به(1). وهذا الكلام هنا في غاية العجب، فإنه قال في حكاية الاجماع: انعقد الاجماع على النسخ أو على أنه لايجب، وإنما يعني انها منسوخة عند جميع العلماء، لا أن الاجماع ناسخ. نعم، إجماع العلماء تضمن ناسخا، لانهم لايجمعون إلا عن دليل. وإلى متى تمن النفس على أن هذه المسائل المسؤول عنها لا يحل لمجتهد كهذا فضلا عمن لم يصل إلى درجة الاجتهاد أن يستدل، ولا أن يستنبط حكما فيها، لوجود أحكام الله ورسوله فيها نفيا وإثباتا.
فان قلت: وقد سبق من كلامه أن الاجتهاد في مثل هذا غير معقول بما معناه.
قلت: الاجتهاد عبارة عن بذل من له أهلية الاجتهاد جهده، وإفراغه وسعه في طلب الحكم الشرعي(2). فإذا كان الحكم حاصلا، فكيف يطلب ما هو حاصل؟
__________
(1) : انظر المحصول ج 1 / ق 3/ص531 وما بعدها . والاحكام اللآمدي 3/226
(2) : المحصول ج 2/ق ص 58 – ج2/ق 3/ص7 – والمستصفى 2/350 – حاشية التفتزاني 2/289 شرح تنقيح الفصول ص 429.(1/130)
الوجه الثاني: ما يدل على فساد قوله: تجري هذه المسائل على المصالح المرسلة، وهو أنه قد سبق منه، ويأتي التصريح بأن هذه الخطايا ظلم، ودعا لأمير المؤمنين أيده الله اذ أسقطه، والظلم لا مصلحة فيه اجماعا، فكيف يصح مخرجه على المصالح. هذا قياس معكوس، وعلى أم رأسه منكوس، ولا عجب من أمر الله، ولا من نفوذ قدره وقضائه (19=193/ب).
الوجه الثالث: أنه قد سبق من كلامه أن سبب كثرة الفساد جور الولاة، وأخذ الرشا، والتغافل عن حدود الله وحقوق العباد، ومن أراد الخلاص من ضرر التبعات، أن ينظر إلى علته وأصل الداء ويستفرغه، فإذا هو ذاهب. فالواجب على مقتضى العقل والحكمة، وما لزم العباد من اتباع الكتاب والسنة، وما وجب من النصح لله ورسوله ولائمة المسلمين ولسائر الأمة، أن يشير أو يفتي بتولية الثقات، ويأخذ عليهم موليهم العهد بإقامة الحدود وتخليص الحقوق، وإنصاف المظلوم من الظالم، والمنع من قبول الرشا وتفقدهم، فمن استقام على الطريقة أكرمه وشرفه، ومن اعوج وكان مرجو التقويم، قومه، ومن اعقل حماره ولم ينفع فيه دواء، أخذ فيه بما أشبه من عقوبة مثله وابرأه وعزله. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن من الرشوة ثلاثة: الراشي والمرتشي والرائش"(1).
ومن ظهر له فساد في عمالته، دل على ضعفه أو خيانته، وهو لاخير في ولايته، قال الله في كتابه المبين "إن خير من استأجرت القوي الأمين"(2).
هذا هو السبيل إلى حسم الفساد وقطع العناد، وإصلاح البلاد والعباد. وأما فتح باب الأعواض في الجنايات، فوسيلة إلى قضاء الاغراض والخيانات، إذ هو أصل الادء. والعالم بمنزلة الطبيب، والطبيب من دبر إزالة الداء ونقصانه، لا زيادته وطغيانه.
__________
(1) : رواه أحمد وغيره انظر: فيض القدير للمناوي 5/268 – وأرواء الغليل 8/243 – 246.
(2) : سورة القصص، الآية 26.(1/131)
دع الملام فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء(1)
نسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وأن يلهمنا إلى فيه الصلاح والرشاد.
"ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضل"(2).
رب كلمة يقال لصاحبها دعني.
المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم(3).
قال صلى الله عليه وسلم: "الدين نصيحة" قيل: لمن يا رسول الله، قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(4).
ليس من النصيحة الغرور، وعدم التنبيه على مواقع الشرور. وليس من النصيحة لعامة المسلمين أن يحلل أموالهم، إلا بحق واضح مبين. وليس من النصيحة اضلال الحكام، ولا إباحة أخذ الأموال في الاحكام.
"لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت، لبيس ما كانوا يصنعون"(5).
وهذا ذم الله لمن ترك من الربانيين والاحبار النهي عن قول الاثم وأكل السحت، فكيف يكون ذمه لمن زاد على ذلك، ولم يكتف بالسكوت، أمر بقول الاثم، والافتراء على الله بالتصريح بحلية ما حرمه، وبأكل السحت من أخذ الأموال في الذنوب؟، فقياس على الاغترار، وبقاء على شفا جرف هار.
"فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون"(6).
__________
(1) : ورد في ديوان ابي نواس: دع عنك لومي ... ص: 6
(2) : في النسخة:فمن يهد الله فما له من مضل ومن يضلل فما له من هاد. والصواب ما أثبتناه من سورة الزمر، الآية:35.
(3) : بذل المجهود 20/66 – ح : 5128 – فيض القدير 268.
(4) : شرح مسلم للأبي 1/163 – 164 – معالم السنن 7/247- ح: 4777 – سنن النسائي بشرح السيوطي 7/156 وانظر تخريج الحديث في الهداية لأحمد بن الصديق – 2/302-301 التمهيد 21/203.
(5) : سورة المائدة، الآية: 63. ...
(6) : سورة البقرة، الآية: 79.(1/132)
"إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعدما بيناه للناس في الكتاب أولئك لعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم"(1).
"واذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولاتكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبيس ما يشترون"(2).
"من سئل من علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة"(3).
"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله"(4).
"يا داود أنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"(5).
إذا جعلت أرزاق الولاة في الخطايا والمغارم، أحبوا كثرة وقوع الناس في المآثم، لأنها منابة أرزاقهم، فهم يلحظونها بألحاظهم. ومن أحب كثرة الفساد والعصيان، فهو في الحقيقة شيطان، وان كان في صورة إنسان. "من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئان من دعا إلى ظلال كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"(20=194/أ)(6).
"أن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وان الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه يوم يلقاه"(7).
__________
(1) : سورة البقرة، الآية: 159-160
(2) : سورة آل عمران، الآية: 187.
(3) : رواه أصحاب السنن. فيض القدير 6/146 – والمستدرك للحاكم 1/101.
(4) : سورة المائدة، الآية : 48.
(5) : سورة ص، الآية: 25.
(6) : فيض القدير للمناوي 6/125.
(7) : الموطأ – كتاب الكلام – حديث: 5-ص :855- وقريبا من هذا اللفظ في البخاري – فتح الباري 11/308 – باب : 23- حديث 6478 – وانظر المسترك للحاكم 1/45.(1/133)
هذه الكلمة باتفاق أهل التحقيق، ومن شهد له بالنظر الصائب الدقيق، ممن تعاطى تفسير الحديث في القديم والحديث، هي الكلمة عند الأمير تنقله من الجور إلى العدل، وتحضه عليه، أو من العدل إلى الجور أو تميله إليه(1).
كان الشافعي رحمه الله إذا سئل سكت، فسئل عن سكوته قال: حتى أنظر إلى السلامة في السكوت أو في الجواب، "رحم الله عبدا قال خيرا أو صمت"(2)، رحم الله عبدا تكلم فغنم، او سكت فسلم"(3)، "لاخير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس" الآية(4).
فان قلت: المراد بكون هذه الغرامات مصلحة، أن أخذ المال معنى مناسب للزجر عن المفاسد، لأن أخذه شاق على النفوس، وما كان زاجرا انبغى أن يكون مشروعا.
__________
(1) : التمهيد 13/51 – وفتح الباري 11/311.
(2) : رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق. فيض القدير للمناوي 4/25.
(3) : رواه البيهقي عن أنس. فيض القدير للمناوي 4/25.
(4) : سورة النساء، الآية: 113.(1/134)
قلت: فنعود معك إلى جميع الوجوه السالفة فنزيدك هنا بيانا، وهو أن غرم المال لاينهض زاجرا عن الشهوات والأهواء الغالبة، إذ مخالفة الهوى أصعب شيء على المرء، ألا ترى من عرضت له شهوة الانتقام من عدوه ينفق عليه الأموال، وستسهل في طلبه المشقات والأهوال، وقد لا يظفر به، ثم لا يزعه ذلك من معاودة الطلب والجد في قضاء الأرب. وهذا مما يدل على أن شهوة الانتقام ولذته، تفوق لذة المال ومحبته، وكذلك من غلبت عليه شهوة فرجه، لايبالي بما أخرج في الوصول إليها من مال، ولا ما آل إليه أمره من الافتقار والإقلال. فعن الشهوة الأولى يتولد القطع والجرح والقتل والقذف، وعن الثانية تتولد الفواحش، وكل شهوة تمكنت وعلاقة استحكمت، سهل على صاحبها بذل المال لتحصيلها. ولذلك يجري على ألسنة الناس: الأموال تحتاج إما للأمراض وإما للأغراض(1). والاموال مبلغة النفوس إلى الهوى. والمعاصي للقلوب علل وأدواء، ومن شرط الدافع أن يكون أقهر وأقوى. فكيف شرع الداء لإزالته ونقصانه، وهو لا يألو في زيادته وطغيانه؟. وإذا صار غرم المال لأهل الولايات في الفواحش والجنايات معنى صحيحا مؤثرا لتحصيل الأغراض والشهوات، فكيف يستجير العاقل أن يشرعه عالم الخفيات، والذي أحاط بما تغيب الأرض والسماوات. جلت أحكام العليم الخبير أن يكون فيها نقص في الحكمة، أو يصحبها تقصير.
ما قلنا لك هذا إلا ليتأيد لك المنقول بالمعقول، ولتعلم أنا لحكمة ما قال الله والرسول، ولينزاح عنك الالباس، ويذهب ما رام من الوسواس. وإلا فقد علمت أن من علم الله ورسوله فرفض أمرا وأخذ يبحث برأيه، فقد أتى أمرا إمرا، وجاء منكرا أنكرا.
__________
(1) : قارن مع بدائع السلك لابن الأزرق 1/297.(1/135)
قال إمام الحرمين رحمه الله: ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لايخالف أصلا من أصول الشريعة(1). وقد علمت مما سبق أن هذا الاستدلال مخالف لنصوصها القطعية المتواترة، وأدلتها الجلية الظاهرة، وإجماعاتها الصحيحة المتواترة، زيادة على مخالفة أصولها، وما يلزم من اعتبار هذه المصلحة من غروب شمس الشريعة وأفولها. ولقد اعترض في الحصول على من أفتى الملك في كفارة الفطر في رمضان بالصوم، وعلل ذلك بأنه لو أفتاه بغيره لما شق عليه الإطعام والعتق في الفطر، فإنه قد خالف النص، وأوهم الملك ـ إذا عرف ذلك ـ أن ما يفتي به العلماء تحريف من جهتهم، فلا تحصل الثقة بأقوالهم(2).
__________
(1) : البرهان 2/784 – الفقرة 1256 وفيه الذي لايخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة.
(2) : المفتي هو يحيى بن يحيى الليثي الاندلسي تلميذ مالك، (ترجمته في الديباج 350 –ونفح الطيب 2/217. وقد ذكر فتواه في 218 – وترتيب المدارك 35/379). والملك هو: عبد الرحمان بن الحكم بن هشام، جامع جاربته طروب في رمضان (ذكرها ابن الاثير في الكامل 5/292). فأفتاه يحيى بصوم شهرين متتابعين ولم يأمره باعتاق رقبة، وقال: لو امرته بذلك لسهل عليه، ولاستحقر اعتاق رقبة في قضاء شهوته. قال الرازي: واعلم أن هذا باطل، لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه. ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء، لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.
المحصول ج 2/ق 3/ص 9/2 و 302 – وقارن بالمستصفى 1/285 – والآمدي 3/410-411 – ونهاية السول 4/91 – 43 – والابهاج 3/44- حاشية التفتزاني 2/244 – شرح الابي على مسلم 3 /242.(1/136)
ومن المعلوم ما عليه حكام الزمان من أخذ المال من العصاة وإعطائهم الامان. ولقد سمعت (21=194/ب) أمير المؤمنين أيده الله يحكي أنهم مروا بشيخ معه ماشية كثيرة فسألوه، فقال: والله مالي بها من حاجة، إلا أن لي أولادا يفعلون ويصنعون، فأنا في نماء هذه الماشية لنؤدي عنهم من الخطايا مابه يطلبون.
الوجه الرابع:(1)نص شهاب الدين القرافي، وهي قاعدة أصولية، أن مالكا رحمه الله اشترط في الاخذ بالمصلحة أهلية الاجتهاد، ليكون الناظر مكتفيا بأخلاق الشريعة فينبو طبعه وعقله عما يخالفها(2). بخلاف العالم بالسياسيات، إذا لم يكن كذلك، فإنه يهجم على مخالفة أصل الشريعة من غير شعور. ورتبة الاجتهاد ما في أشياخه وأشياخ أشياخه من يدعيها، وشروطها مفقودة منه قطعا.
سلمنا جدلا أن المسألة اجتهادية، وان المتكلم فيها عن أهل الاجتهاد، قوله: مصلحة مرسلة باطل، لأن المرسل ما لم يشهد الشرع بإلغائه. والمرسل عند ابن الحاجب ما لم يعتبره الشرع ثم منه غريب وملغى، وكلاهما مردود باتفاق(3)والغريب هو ما لم يعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم، فان اعتبر كان ملائما، كحرمة قليل الخمر بكثيره، لعلة أن قليله يدعو إلى كثيره.
وهذا وان لم يكن جنسه القريب، فقد اعتبر في تحريم الخلوة بالأجنبية، لأنه داعية اليه. لهذا اتفق الجمهور على المقيس بدليل، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وذكر عن مالك(4)وانكره أصحاب مالك عنه، والمختار رده من الشيرازي(5).
والشرع زاد على الإلغاء في هذا الموضع بان رحم أخذ المال بالباطل، حتى على وجه الأخذ بالعقوبة. ولا معنى للإطالة في هذا، وقد سبق ما يكفي. فان النهي والتحريم منصوص ومجمع عليه، قد تقدم كثير منه فراجعه.
__________
(1) : في النسخة : الوجه الثالث, وهو خطأ بين يتتبع ما سبق.
(2) : شرح تنقيح الفصول ص : 447.
(3) : حاشية التفتزاني على شرح العضد 2/242.
(4) : شرح تنقيح الفصول ص : 447.
(5) : حاشية التفتزاني على شرح العضد 2/242.(1/137)
سلمنا جدلا أنه مرسل، فالمرسل الصحيح أنه لا يستند الحكم إليه، قال الآمدي: اتفقت الحنفية والشافعية وغيرهم على لغو المصالح المرسلة، وهو الحق. وعن مالك أنه قال به، وأنكر أصحابه أن يكون قاله. ولعله ان صح عنه، إنما قاله في المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعا، كتتريس الكفار بجمع من المسلمين، بحيث لو تركنا فعلهم، غلب الكفار واستأصلوا المسلمين، وان قتلنا الترس استأصلناهم، وهو موجب لقتل مسلم لا حرمة له(1)، وهذا لم يصدر من الشرع فيه اعتبار ولا إهدار(2).
قلت: وقد تقدم أنه هذه الصورة لا تكون إن شاء الله، لقوله صلى الله عليه وسلم:"دعوت الله أن لايسلط على أمتي عدوا من غيرهم يستأصل بيضتهم، فأعطيناها"(3).
القول بجواز قتل الثلث لمصلحة الثلثين والجواب عنه من عدة وجوه.
قوله : لما قيل لا بأس بإفساد الثلث لإصلاح الثلثين
أقول : هذا كلام باطل
قال : هذا كلام العامة أو كلام شرعي
أقول: قال المحكي شارح كلام الحاكي
قلت له: هذه كلمة عامية، أو قالها أحد العلماء. فما أبدى حينئذ جوابا، ولا أدار خاطبا.
وزدته أن قلت له: أن من الناس من ينقل عن الامام المهدي بعض الوقائع، ويليق هذا به، ولا ينبغي أن يصحح عنه لعلو شأنه.
قال: لقلة نظره في العلوم الشرعية.
أقول: لا تقبل دعوى الخصوم، لاسيما عند هيجان الحمية.
قال: وما علم المسكين أنه من قول مالك، وجرة عليه عمله.
أقول: بل علمت أنه ليس من قوله ولاجرى عليه عمله، بل قال بخلافه وجرى عليه عمله. ولا أنفر من مسكين، فنسأل الله أن يحييني ويميتني ويحشرني فيهم وعلى صحبتهم.
قال: في مسائل كثيرة
أقول:تأمل ما جاء به فيه شيء من القول بفساد الثلث في صلاح الثلثين.
قال: في مسائل أذكرها
__________
(1) : في الأحكام للآمدي: لاجريمة له 4/216.
(2) : تصرف المؤلف في نقل كلام الآمدي من الأحكام. انظر 4/216 – 217.
(3) : شرح الأبي على مسلم 7/242 - بذل المجهود 17/149 – كتاب الفتن – ح: 4252.(1/138)
أقول: لم يف من هذا الوعد بشيء.
قال: ففي شرح المعالم لابن التلمساني(1)قال: مما اختلف في العمل به، المصالح المرسلة، والمعني به لكل وصف مناسب لم يلف للشرع ما يدل عليه اعتبارا(22=195/أ) وإهدارا، ولا بطريق تأثير ولا بطريق ملاءمة، فالبقلاني والاكثرون على منعه، واعتمده قوم ويعزى إلى مالك. ونسبه الامام إلى أنه استرسل فيه حتى رأى قتل ثلث الأمة لاستصلاح تلثيها(2).
أقول: زاد الباء في: بإهداره، فأفسد تركيبه. وهذه حجة على إثبات هذا القول لمالك لاغير. فانظر بين دعواه: وما علم المسكين انه من قول مالك وجرى عليه عمله، واقتصاره على هذا النص فقط، وهو كلام باطل من وجوه:
الأول: أن الدعوى أن مالكا قال: لابأس بافساد الثلث في إصلاح الثلثين مطلقا، والذي نقل من كلام ابن التلمساني حاكيا عن الامام، انما هو ثلث الأمة وثلثها، لا الثلث والثلثين مطلقا. وهذا لو صح عن مالك، فبين العبارتين فرق كبير.
__________
(1) : هو عبد الله بن محمد بن علي، أبو محمد، شرف الدين الفهري، المعروف بابن التلمساني. فقيه أصولي شافعي من تلمسان، أشتهر بمصر وتصدر للاقراء، وصنف كتبه منها: شرح المعالم في اصول الدين – وشرح التنبيه في الفقه – توفي: 644 هـ. انظر طبقات الشافعية 8/160- كشف الظنون 2/1727 والاعلام 4/125.
(2) : لم أعثر على النص بلفظه في شرح المعالم لابن التلمساني قارن مع الصفحة: 163.(1/139)
المسألة التي ألزمه الامام أو نقلها عنه، لاتقرر الا في مثل ماقاله الامام الغزالي رحمه الله أن المسألة إذا كانت ضرورية قطعية عامة، كما إذا لم يبق من المسلمين إلا طائفة واحدة وتترس العدو بمسلمين، وعلمنا انا ان لم نقتل الترس قتلونا وقتلوه قطعنا بذلك، فلا يبعد أن يقول قال هذا: ومعنى أنها ضرورية، أي لاتكميلية ولاحاجية، فان المؤمن أجل الضروريات من المصالح. ومعنى أنها قطعية، أي لاشك في قتلهم الترس وقتلنا. ومعنى انها عامة، أنه يخشى منها على جميع المسلمين(1). وقد قال بعض المتأخرين من المالكية أنه لا ينبغي مخالفته في هذه، مع أن هذا انما يذكر على سبيل الفرض، والا فالأمة أن شاء الله مأمونة منه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوت الله أن يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستأصل بيضتهم فأعطانيها"(2).
الثاني: إن هذا الذي زعمه الامام لم ينقله أحد من أصحاب مالك عنه، ولا هو في مسألة، وهذا مما يدل على بطلانه.
الثالث: إنه ما أخبر عنه رواه، لعله(3)انما ألزمه ذلك.
الرابع: أن هذا مما تتوفر الدعاوي على نقله، فلا يقبل فيه الواحد، ولو كان ممن لقي مالكا وأخذ عنه، فكيف وبينه وبينه أعصار.
الخامس: إن مذاهب الأئمة لامعول على ما وجد منها في كتب المخالفين لهم.
__________
(1) : المستصفى 1/284 – 294 وانظر: شفاء الغليل 142 – 266 – والمحصول 2/ق 3/220 –222.
(2) : قارن ما ذكره عن الغزالي هنا بنوازل الزياتي 2/17-18، من جواب طويل لخاله سيدي محمد العربي الفاسي عن المسالة.
(3) : في نوازل الزياتي 2/16: ولم يخبر أنه رواه نقلته، انما ألزمه ذلك. وقارن بخاشية البناني على الزرقاني 7/30-31.(1/140)
السادس: إن هذا الناقل الذي انفرد بنقله عن مالك، وهو إمام الحرمين لعله انما نقلها عن مالك على الصورة التي حكينا لا على الصورة التي أداها المفتي الاعلى أنها زلة. وهذا نصه في كتاب البرهان، قال: إن مالكا زل في نظره. كان أثر زلله تجويز قتل ثلث الأمة(1). وزلات العلماء لاينبغي أن تعد لهم مذهبا. وهذا الذي حملنا على أنكار هذا عليك.
السابع: أن إمام الحرمين رد هذه الزلة بالقطع بتحرز الأولين عن أراقة محجمة من دم من غير سبب متأصل في الشريعة.
__________
(1) : البرهان 2/785 – فقرة: 1256 قال: أن مالكا لما زل نظره، كان أثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة.
وقارن بنوازل الزياتي 2/16، حيث نقل كلام الشماع بلفظه.(1/141)
الثامن: إن إمام الحرمين اضطرب في نقله. وهذا نصه في البرهان، قال: إذا وجدنا أصلا واستنبطنا منه معنى مناسبا لحكم، فيكفي، والحالة هذه(1)فيه أن لا يناقضه أصل من أصول الشريعة. فيكفي في الضبط فيه استناده إلى اصل متفق على الحكم فيه. ومرجوعنا في ذلك إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترسلين(2)في استنباط المصالح من أصول الشريعة، ثم ترقى كلامه إلى أن قال: ولايجوز التعلق به في كل مصلحة عندنا، ولم يرد ذلك أحد من العلماء، ومن ظن ذلك بمالك رضي الله عنه فقد أخطأ، فإنه قد اتخذ اقضية الصحابة وشبه بها مأخذ الوقائع(3). فمال فيما قال إلى فتاويهم وأقضيتهم، فإذا لم ير الاسترسال في المصالح، وهذا كبنائه قواعد على سيرة عمر رضي الله عنه في أخذه شطر مال خالد وعمرو، وقدر ذلك تأديبا له. وهذا زلل، فإنه لا يمتنع أنه رآهما أنهما (آخذان)(4). من مال الله تعالى ما لا يستحقان أخذه على ظن وحسبان، فكان يراعي طبقات الرعية بالعين الكالئة، فاللائق بشهامته وإيالته، أن نظره الثاقب كان بالمرصاد، وكانوا مولين(5)على مال الله، فمتى أمكن ذلك، وهو الظاهر، فحمله على التأديب لاوجه له، ولو صح عنه أنه أخذ مال رجل غير متصرف في مال الله لكان يظهر (23=195/ب) ما تخيله مالك.
وكذلك كل واقعة ربط مالك أصلا من أصوله بها، فإنه لايراه استحداث أمر، وهو عند الباحثين ينعطف على أبلغ وجه إلى قواعد الشريعة.
__________
(1) : لاتوجد هذه الجملة في البرهان، وانما في زيادة من المؤلف.
(2) : في البرهان 2/783 – فقرة: 1254: ومرجوعنا في ذلك وجداننا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترسلين في استنباط المصالح..
(3) : في البرهان 2/783- فقرة : 1255 : فإنه قد اتخذ من اقضية الصحابة رضي الله عنهم أصولا، وشبه بها مأخذ الوقائع.
(4) : في النسخة آخذين. وفي البرهان، السابق: أنه رآهما آخذين.
(5) : في البرهان 2/783 – فقرة: 1255 : إذ كانا موليين على مال الله.(1/142)
فخرج من ذلك أن مالكا رضي الله عنه ضم وقائع الصحابة إلى الأمور الظاهرة في الشريعة، ولم يظن بهم افتتاح أمر من تلقاء أنفسهم، ولكنه قال: الأخبار محمولة على ما ينقل صريحا، وعلى ما فهم ضمنا، فأنا لا نظن بأئمة الصحابة استقلالهم بأنفسهم في تأسيس الأصول. فهذا بيان مذهبه.
ثم قال: فالاستدلال المقبول هو الذي(1)لا يخالف أصلا من أصول الشريعةن كما ذكرنا في المعنى المستنبط من الأصول.
ثم قال: كل معنى يلزم من طرده ما لم يكن مثله في الزمان الأطول، دل على خروج المعنى عن كونه معتبرا(2).
فانظر هذا الامام الذي نقل هذه المقالة عن مالك لم ينقلها على الوجه الذي نقله المملي، الا من نقلها عنه، ثم اعترف أنها زلة، ولم ينقلها أحد من علماء المذهب، ولا كثر عند المخالفين(3). ثم إنه في هذا الكلام الذي سردناه عنه اشترط فيما يعتبر من الأوصاف أن لايناقض مقتضاه أصلا من أصول الشريعة، وكذلك قوله: ولايجوز التعلق بكل مصلحة، ومن ظن ذلك بمالك فقد أخطأ. ثم قال: إن مالكا انما بنى مأخذه على أقوال الصحابة، وأنه لم يسترسل في المصالح، وصدق فيما قال، فانه لم يقل برأيه إلا في نوازل قليلة بالنسبة إلى ما أخذ عن السلف. والظاهر من حاله انما كان يختار في فتاويهم.
__________
(1) : في البرهان 2/784 – فقرة: 1256 : ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة.
(2) : في البرهان، السابق: وهو أن كل معنى لو اطرد جر طرده حكما بديعا لم يعاهد مثله في الزمان الأطول، فيدل خروج أثره عن النظير على خروج معناه المقتضى عن كونه معتبرا.
ويبدوا من خلال هذه المقابلة أن المؤلف يتصرف في نقل النصوص تصرفا كبيرا قد يخل أحيانا بالمعنى المراد به في الأصل.
(3) : قارن بنوازل الزياتي 2/16.(1/143)
وهذا الذي أراد أن يجتهد مع فقد شرط الاجتهاد، وشرط عمله كما سبق، أضاف إلى ذلك، أن استدل بالمصلحة استدلالا أخرجه إلى مخالفة أصول الشريعة، وقد تقدم أن ما أخرج إلى خلاف الأصول فهو باطل، ثم نسبه هذا إلى مالك خطأ بنص الامام.
ثم هذا الاجتهاد أخرج إلى شيء لم يقل به أحد، ولم يوجد مثله على تطاول الاعصار، ولم يوجد في أٌقوال الصحابة. ومالك على ما قاله الامام، انما جاء بما جاء منها اتباعا لأقوالهم رضي الله عنهم، وهذا الاستدلال مخالف لأقوال الصحابة ومن بعدهم هذه النوازل من الجراح، والقتل، والزنا، والحرابة، والغضب، ومافيه من الكتاب والسنة حدا وعقوبة من مبدأ الإسلام إلى اليوم ثمانمائة سنة وثمان وعشرون(1)سنة ونيف، فلم يسمع بهذا القول مع تكرر هذه الوقائع.
فهذه فتوى بديعة، خارجة خروجا كليا عن النصوص والاجماع والاصول من الشريعة، هذا امام الحرمين في كتبه، والفخر بن الطيب في محصوله وغيرهم خطأوا من أفتى الملك الذي أفطر عمدا في رمضان بالصيام، لمخالفته الحكم، واعتذاره بأنه لو أفتاه بالعتق والاطعام، لكان ذلك ذاعية لاستحقاره ذلك في قضاء شهوته، فقالوا: هذه فتوى باطلة، لانها على خلاف حكم الله، لمصلحة تخيلها الانسام بحسب رأيه، وان كان القاضي بن العربي أجاب بابن إمام الحرمين خفي عنه مذهب مالك أن كفارة الافطار على التخيير.
فإن كان هذا المفتى مالكيا، لم يخالف حكما. وأنت ترى أن كلام الجميع يقتضي أن كل اجتهاد بالمصلحة أدى إلى اعتبار ألغاه الشرع، أو إلى خلاف ما حكم به، فهو باطل.
__________
(1) : في النسخة: ثمانمائة سنة وثمان وثلاثون سنة، وهو خطأ من الناسخ. والصواب ما ذكرته. وقد ضبطته مما تقدم من كلامه ي ص: 716 ومما سيأتي بعد، حيث سيصرح المؤلف بالسنة المشار إليها. وقارن بالاعلام للمراكشي 2/221.(1/144)
قال الفخر في المحصول- تتميما للتغيير على هذا المفتى ـ: فإذا عرف ذلك من جميع العلماء تحصل الثقة بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف في جهتهم(1).
التاسع(2): أن المنصوص عن مالك خلاف ما نقل إمام الحرميين. قال الشهاب في شرح المحصول: ما نقل إمام الحرميين في البرهان أن مالك يجيز قتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثها، المالكية ينكرون ذلك انكارا شديدا، ولم يوجد ذلك في كتبهم، إنما نقله المخالف، وهم لم يجدوه أصلا.(3)
العاشر(4): أن الكتاب العزيز يدل على بطلان هذا القول، وهذا النوع من الاجتهاد بطلانا يقينيا. أعين قول القائل بإفساد الثلث في صلاح الثلثين.
وقد قدمنا أن الذي نسب على مالك على أنه لم يقل ولا أصحابه لا هذا ولا هذا: فساد ثلث الأمة (24=196/ا) في صلاح ثلثيها. وقد قدمنا ما بين العبارتين من الفرق. قال الله تعالى: "ولولا رجال مومنون ونساء مومنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما"(5).
__________
(1) : المحصول 2/ق 3/ص: 220
(2) : في النسخة: الثامن، وهو خطأ انظر الترتيب قبله وبعده.
(3) : انظر: نوازل الزياتي 2/16 - وقارن بحاشية البناني على الزرقاني 7/30.
(4) : في النسخة: التاسع. والصواب ما أثبته.
(5) : سورة الفتح، الأية : 25.(1/145)
وبيان وجه الدلالة منها، أن المراد بالرجال والنساء من كان من المستضعفين بمكة يكتم إيمانه، فبين سبحناه أنه لم يعذب الكافرين من أهل مكة بأيدي المومنين، يكون بعضهم معهم، أو بعض المسلمين فيهم، فهؤلاء كانوا أناسا قليلين، كالوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم، فروعي الكافر في حرمة المؤمن إذا كان اذاية الكافر يخاف منها اصابة المؤمن، وقد علم أن مصلحة المؤمنين في تعذيب الكافرين وقهرهم علما قاطعا، وان قتال الكفار واجب قطعا، ونكايتهم وعدم الابقاء عليهم متحتم شرعا، وان في ذلك صلاحا للإسلام بجملته، وللمسلمين بجملتهم، فمنع الله سبحانه مما قد يؤدي إلى فساد هذا العديد، الذي هو أقل القليل في مصلحة الإسلام والمسلمين والجم الغفير(1).
ومن المعلوم في هذا من قول القائل ـ والعياذ بالله ـ لا بأس بإفساد الثلث في صلاح الثلثين يقتضي العموم، لو كان فساد الثلث محققا وصلاح الثلثين مضنونا. وهذا قول خارج عن دين الإسلام.(2)
__________
(1) : قارن بنوازل الزياتي 2/21.
(2) : قارن بحاشية البناني 7/30(1/146)
وبيانه من الآية، أن صلاح دين الإسلام والمسلمين على كثرتهم بتعذيب الكفار أمر قطعي، وهلاك من كان فيهم من ضعفاء المؤمنين عند قتالهم أمر قد يكون أو لا يكون، ولذلك يقدرون، أعني علماء اللسان والمعاني وأهل التفسير، في مثل هذا التركيب، خشية أن يصيبوهم، فان كان أقل قليل يخشى فساده مع عدم تحققه، ولا يجوز إفساده لأجل صلاح أكثر الكثير مع تحققها، فكيف يجوز اهلاك الثلث محققا لاجل صلاح الثلثين المضنون أو المحقق، وكيف يجترئ المرء أن ينقل هذا عن إمام العلماء، ثم يجعله أصلا من أصول فتواه. فانا لله وأنا إليه راجعون على فقد العلماء. "ان الله لا يقبض العلم انتزاعا، ولكن ينزعه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"(1).
الحادث عشر: أن قول القائل: فساد الثلث في صلاح الثلثين يقتضي انه يجوز الاقدام على علم فساد الثلث لإصلاح الثلثين، وهذه أيضا فتوى خارجة عن الدين،(2)والدليل عليه، قوله تعالى: "لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم "فدل أن هذا الفساد والإصابة في القليل من المومنين أن وقعت في قتال الكفار، فإنها تقع بغير علم، ومع ذلك حمى الله الكفار ومنعهم، لئلا يصاب معهم العدد القليل على غير علم ممن أصابه، فكيف يجوز للمومن الذي يخاف ربه أن يطلق لسانه: " لابأس بإفساد الثلث في صلاح الثلثين" إطلاقا؟. يقتضي أن إفساد الثلث المعلوم للمفسد في إصلاح الثلثين لا بأس به.(3)
__________
(1) : فتح الباري 1/194 – كتب العلم – باب 34 – حديث : 100.
(2) : قارن بنوازل الزياتي 2/20
(3) : قارن بنوازل الزياتي 2/22.(1/147)
الثاني عشر: أن قول القائل: لا بأس بإفساد الثلث في صلاح الثلثين يقتضي جواز القصد إلى ذلك، والآية رد عليه، لأن الله تعالى حمى الكافرين لأجل مافيهم من العدد القليل من المؤمنين، اتقاء أن يخطئ مخطئ بقتلهم، أو يقتل أحدا منهم على وجه الخطأ لا على وجه العمد، فإذا كانت هذه المصلحة العظمى من قتل الكفار وصلاح الإسلام والمسلمين حمى الكافر معها، خشية أن يصاب المؤمن خطأ، فكيف يستجيز المؤمن أن يبيح إصابة مؤمن عمدا لصلاح غيره، أو يطلق هذه العبارة التي تقتضي ذلك؟(1).
الثالث عشر: أن الآية صريحة في سد الذرائع. فتجنب المصلحة المحققة في الكثير خشية مفسدة متوهمة في القليل، هو أصل محقق عند مالك لم يختلف عنه فيه، والإجماع على أنه مذهبه، فكيف يليق (25=196/ب) هذا بمن خاف الله ووقر العلماء، وهو يعلم من مذهب مالك رحمه الله سد الذرائع على هذا النحو، ثم ينقل عنه فساد الثلث في صلاح الثلثين؟(2).
الرابع عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين، أن كانت مصلحتهم في تعذيب من كان من الكافرين بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم يرجع بأمته وأضعافهم، فإذا كان الله عز وجل قد حمى الكافرين خشية أن يخطئ المسلمون فيصيبوا مسلما، ولو كان في ذلك مصلحة النبي صلى الله عليه وسلم، عن جلالة قدره ورفعة شأنه، فتصير نسبة ذلك القليل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم قريبا من العدم، فكيف يصوغ لمومن بعد هذا أن يقول بفساد الثلث في صلاح الثلثين؟.
الخامس عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه يومئذ عترته الاكرمون، والخلفاء الراشدون، وبقية العشرة، وجميع من بايع تحت الشجرة وأهل بدر وأحد، وماعسى أن تكون نسبة من بمكة من ضعفاء المؤمنين إلى إبي بكر الصديق رضي الله عنه وحده الذي رجح إيمانه بإيمان الجميع، فضلا عمن سواه معه.
__________
(1) : قارن بنوازل الزياتي 2/22 – 23.
(2) : قارن بنوازل الزياتي 2/23.(1/148)
فّإذا كان أكثر المسلمين وصدورهم الأكرمون عند الله يمنعون من قتل الكافرين، وهو واجب عليهم، خشية أن يصيبوا مومنا خطأ، فكيف يستجيز مسلم بعد هذا أن يقول أثرا، او ذاكرا مفتيا، أو مشيرا أو مذاكرا: لا بأس بفساد الثلث في صلاح الثلثين؟
السادس عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم يجب على كل مومن أن يفديه بنفسه وأن يحميه بها، لو كان من شوكة تصيبه كما قال خباب(1)، وقد هيء للقتل فقيل: أتحب محمدا مكانك وأنت في أهلك؟، فقال: والله ما سرني أني في أهلي ويشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة.
وما كان يلاقي عليه الصلاة والسلام من المشركين في ذات الله من القتال والأذى بكل وجه أمكنهم أعظم من الشوكة، فأي مصلحة أعظم من وقاية النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته وخلاصه من أعدائه، وإهلاك من بمكة من الضعفاء بالنسبة إلى هذه المصالح، لو كان الهلاك محققا، فضلا عن كونه مظنونا أو مشكوكا أو متوهما؟.
فإذا لم يجز فساد المشركين خوف إصابة هذا النزر القليل، لأجل وقاية محمد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ارتفع قدره عن جميع العالمين، فكيف تسمع الآذان قول من ألقى على لسانه الشيطان: لا بأس بفساد الثلث في صلاح الثلثين.(2).
__________
(1) : هو خباب بن الارث بن جندلة التميمي، ويقال الخزاعي أبو عبد الله. سبي في الجاهلية فبيع بمكة. من الأوائل الذين أظهروا إسلامهم، وكان من المستضعفين، وعذب عذابا شديدا لأجل ذلك. شهد بدرا وما بعدها، ونزل الكوفة ومات بها سنة سبع وثلاثين. قال فيه علي: رحم الله خباب، أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا. انظر: الإصابة لابن حجر العسقلاني 3/76 رقم: 1486.
(2) : قارن بنوازل الزياتي 2/21 – 22.(1/149)
السابع عشر : في الآية أدل دليل على حرمة المؤمن، ومساواة حرمة القليل لحرمة الكثير والواحد للجماعة، لو عظمت، لو زادت من أوصاف الرفعة وخصال الشرف، وارتقت الغاية، ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم "أنه لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مومن واحد لأدخلهم الله النار"(1).
وكيف يسوغ لعاقل بعد هذا أن يقول: لا بأس بإفساد الثلث في إصلاح الثلثين، وهو نص قوله تعالى: "من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا"(2).
__________
(1) : الحديث مروي عن أبي سعيد الخذري. انظر: كشف الاستار للهيثمي 4/122- ح: 3348 – والمعجم الصغير للطبراني رقم: 565 – ومجمع الزوائد 7/300.
(2) : سورة المائدة، الآية: 34. وفي النسخة: وهو نص قوله تعالى: "من اجل ذلك كتبنا عليهم فيها أنه من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل، والزيادة الأولى غير واردة في الٌقرآن الكريم.(1/150)
الثامن عشر: أن هذه المقالة لو ثبتت، لكانت بناء على القول بالمصلحة المرسلة، اذ لا أصل لها غير ذلك، وبناؤها على المصلحة المرسلة باطل، لأن المرسل من شرطه أن لا يكون ثبت إلغاؤه، ووصف الكثرة التي فضل بها الثلثين على الثلث ملغى بدليل الآية، لأنها اقتضت أن حرمة الواحد كحرمة الجماعة، وحرمة القليل كحرمة الكثير، لأن الجماعة إذا تمالؤوا على قتل واحد قتلوا كلهم، عذبوا كلهم على ما اقتضاه الحديث السابق آنفا. وإذا كان (26=197/أ) وصف الكثرة ملغى شرعا، فكيف يصح المبني ويبطل ما بني عليه، ولأنها قضية بديعة خارجة عن أحكام الإسلام وأصول الشريعة لم يعهد مثلها في الأولين. قال إمام الحرمين: "وأما التأديب بالقتل لضبط الدول وضبط السياسة لمن عادات الجبابرة، وماحدثت إلا بعد العصر الأول"(1).
التاسع عشر: يكفيك من بطلان المقالة، اعني: فساد الثلث في إصلاح الثلثين، أنها لم توجد على هذه الصفة، والموجود منها وهو فساد ثلث الأمة في صلاح ثلثيها تبرأ منه جميع أهل المذاهب. وما نقله إمام الحرمين على أنه زلة، وشنع به ولم يعرفه، وأنكره المالكية على ما سبق.
العشرون: مما يدل على بطلانه، أعني: هذا النقل عن مالك رحمه الله، أعني قول القائل: لابأس بإفساد الثلث في صلاح الثلثين، أن مالكا رحمه الله سئل عن حصن العدو يكون فيه مسلم، ومركب العدو يكون فيه مسلم، قيل: أيجوز أن يحرق ويغرق؟، فقال: لا(2)واحد من الحصن والسفينة أقل من الثلث، وكيف يقول بإفساد الثلث في إصلاح الثلثين، ويدعي أنه مذهبه الذي جرت عليه أحكامه مع هذا؟.
__________
(1) : البرهان 2/1207 – فقرة: 1256، وفيه: "ومنه تجويزه التأديب بالقتل في ضبط الدولة، وإقامة السياسة، وهذا وان عهد، فهو من عادة الجبابرة، وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصحابة".
(2) : المدونة 1/386 – وقارن بالبيان والتحصيل 3/28.(1/151)
الحادي والعشرون: انه رأى الآية محكمة فيما دلت عليه من مساواة القليل بالكثير في الحرمة، وبطلان القول بأن فساد الثلث في صلاح الثلثين جائز. والدليل على ذلك أنه استدل بها حسبما أثبت عنه في المدونة وغيرها.
الثاني والعشرون: مما يدل على بطلان نسبة هذا القول إليه، أنه قال: إذا كان حصن العدو ليس فيه إلا المقاتلة، فلا بأس أن يحرق أو يغرق إذا كان معهم ذرية، أونساء، فلا يعجبني(1)، ومن المعلوم أن حرمة المومن أعظم من حرمة ذرية المشركين ونسائهم. فإذا منع من إفسادهم لمصلحة المسلمين ولم ير ذلك، فيكف يصح عنه القول بفساد الثلث في صلاح الثلثين، أو ثلث الأمة في صلاح ثلثها.
الثالث والعشرون: انه يلزم على طرد هذه المقالة، أن الإنسان لو اضطر إلى فلقة من فخذه جاز له أن يقطعها، ولو كانوا ثلاثة جاز لهم أن يأكلوا أحدهم، ولا قائل به من أهل الإسلام، وان كان بعض الشافعية ذكر وجها ضعيفا فيما إذا تلاشى ضرر الفلقة بالنسبة إلى حالة في المخمصة(2).
قال: ولا خلاف انه لا يجوز أن يفعل ذلك بنفسه.
فكيف يدعي هو هذا على المذهب المالكي أن فساد الثلث في صلاح الثلثين جائز، ويؤثر به رفيقه المضطرد.
__________
(1) : نفسه.
(2) : انظر: المحصول 2/ق 3/220 - والمستصفى 1/296 – 297 وشفاء الغليل 142 و 266.(1/152)
الرابع والعشرون: مما يدل على فساد هذه المقالة، أن أصحاب مالك لا يعرفونها عنه ولا يعولون عليها، أعني قول القائل: لا بأس بإفساد الثلث في صلاح الثلثين. ما وقع للقاضي ابن رشد رحمه الله في كتاب الأسئلة. وهذا فقد قال: وأم السؤال عن العدو أهلكه الله، لو قدم البيت الحرام، أو قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال للمسلمين: أما دفعتم إلينا رجلا منكم، يسمونه، وإلا هدمنا البيت ونبشنا نبيكم. فهي من المسائل التي بثها في الناس أهل الزيغ والتعطيل، حتى يلزموهم بزعمهم قتل النفس المحرمة، واستباحة حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، فيسخروا بهم وبدينهم. والنبي صلى الله عليه وسلم اكرم على الله من أن يمكن أعدائه الكفرة من استباحة حرمته ونبشه من مضجعه، وكما عصمه الله عز وجل ممن أراد سوءا او مكروها في حياته، فكذلك عصمه ممن أراد استباحة الشيء من حرمته بعد وفاته، ويهلك من تعرض إلى شيء من ذلك، ولو يصلوا إلى قبره، والله يعيذ من ذلك، لهابوه وعظموه وحفظوه وتمسحوا بترابه واستشفعوا بضريحه. الا ترى أن الروم إلى اليوم على قبر أبي أيوب الأنصاري(1)يستصبحون ويستسقون إذا اجذبوا لمكانه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف به صلى الله عليه وسلم (27-187/ب).
ولما وقع السؤال عن هذا، امتنع بفضل الله المحال، ولم يكن به من الجواب عن رفع شبهة من رام الطعن في الدين، لأن ذلك لا يخشى وقوعه بفضل الله ومنته، فيفتقر إلى معرفة الحكم.
__________
(1) : أبو أيوب الأنصاري، خالد بن زيد بن كليب، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين مصعب بن عمير. وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها.
قال محمد بن عمر: توفي عام غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية سنة 52هـ. وقبره بأصل حصن بأرض الروم. فلقد بلغني أن الروم يتعاهدون قبره ويرمونه ويستسقون به إذا قحطوا. الطبقات لابن سعد 3/484.(1/153)
فنقول: أن الجواب: كان يكون على جميع المسلمين في ذلك أو يموتوا عن آخرهم، دون استباحة حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، ولا يدفع إليهم الرجل الذي طلبوه ليقتلوه، إذ ليس هو أولى من أن يكون فداء لحرمته سمن كل واحد منهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم، والخبر تفسير بيده، "لايومن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين"(1).
وقال سعد بن أبي الربيع(2)رضي الله عنه يوم أحد ليأتيه بخبره: اقرأه السلام عني، وأخبره أني قد طعنت ثلاث عشرة طعنة، وأني قد أنفذت مقاتلتي، وأخبر قومك انه لا عذر لهم عند الله أن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم(3). وحرمته صلى الله عليه وسلم حيا وميتا سواء. وقد قال صلى الله عليه وسلم "كسر عظم المومن ميتا ككسره حيا"، يريد في الاثم(4). فكيف به صلى الله عليه وسلم في ذلك، وبالله التوفيق. انتهى نص السؤال فانظره(5).
لأن نسبة رجل واحد من الأمة بالنسبة إليهم، والنسبة بالنسبة إلى حرمته صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يسلم إلى العدو، والرجل الذي طلبوه وان كان وقاية للمومنين ولجسد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك، لم يجز إسلامه.
__________
(1) : فتح الباري 1/58 – كتاب الإيمان – باب 8 – حديث: 14-15.
(2) : سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن الخزرج. شهد العقبة، وهو احد النقباء الاثني عشر آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمان بن عوف. قتل يوم أحد شهيدا، وليس له عقب. الطبقات لابن سعد 3/522 – 523.
(3) : قصته رواها ابن سعد في الطبقات 3/523 – 524.
(4) : الموطأ - كتاب الجنائز ـ باب 15 ـ حديث: 45 ـ ص:229 وانظر فيض القدير 4/550 ـ وارواء الغليل 3/213 ـ 216 ـ وسنن الدارقطني 3/188-189- كتاب الحدود ـ ح : 313-314.
(5) : مسائل أبي الوليد ابن رشد الجد، مع اختلاف بسيط. 1/535 – 537- المسالة: 122- فرع: 11.(1/154)
الخامس والعشرون: إن هذه المقالة لا مدخل لها في المسائل التي سئل عنها فيما يعاقب به الجاني من المخرج المسمى الخطايا، فإنه لا ثلث فيها ولاثلثين.
نسبة المقالة السابقة إلى المهدي بن تومرت والجواب عنه:
قال المفتي المذكور: وكذلك حفظ من كلام المهدي إمام الموحدين وقاعدتهم، وكان قام بالمعروف والنهي عن المنكر، وعمل بذلك في بعض أمور وقضاياه على ما ذكره المؤرخون، ظهر له بالاجتهاد(1).
أقول : هذا مردود من أوجه:
الأول: أن الأحكام الشرعية، ولاسيما في مثل هذه المسائل المعضلة، لاتبنى على كلام المؤرخين، لما علم من استرسالهم وتساهلهم في تلقي أخبار الدول وعدم الوثوق بأكثرهم. والإمام المهدي غير معدود في المنفردين بالمذاهب، فإن كان على مذهب أبي حنيفة والشافعي، فهذا لايصح عنه والقول عندهم به من أشنع شنيع، وإن كان على مذهب مالك فقد تقدم أن مالكا لم يقل به، وانما قال بضده على ما سبق من الأوجه المذكورة قبل هذا، وأن أئمة المذهب ينكرون عنه ذلك، فلم يوجد في مسائله دليل عليه. وما نسب المؤرخون إلى الإمام المهدي هو الذي أشرنا إليه حتى نطق هذا المفتى به في مقام تحليل ما علم تحريمه من أكل المال بالباطل، وأراد أن يبني عليه إباحة الخطايا، لأنه من كلام العامة، إذ لا يصح هذا عن الإمام بعدما علم من قيامه بالعدل، وصح والحمد لله أنه كلام لم ينزل في كتاب الله، ولا جاء به رسول عن الله، ولم يقله أحد من علماء الملة. وما نقل عن مالك في ذلك فباطل حسبما صرح به أصحاب مالك، وما دلت عليه مسائله إلى ما دل على بطلانه من كتاب الله تعالى.
__________
(1) : وفيات الأعيان لابن خلكان 4/137 ـ 146 والحلل السندسية للسراج 2/98 ـ106.(1/155)
الثاني: إن ذلك لا يليق به على ما هو معروف به من الورع، حتى ذكر من عرف به أنه كانت له أخت، وكان يأكل من غزلها وكان شديدا في ذات الله، غليظا على أهل المنكر. فكيف يصح عنه أنه كان يقول بفساد الثلث في صلاح الثلثين، ويلزم ما فيه من الشناعات والمخالفة للكتاب والسنة وما عليه علماء الأمة، لكن من استجاز أن يجعل مذهب مالك غير ما هو مذهبه يستجيز مثله في الامام المهدي. وانظر كيف لم يجد عاملا على زعمه بين مالك والامام المهدي على كثرة الأئمة والاعلام.
الثالث: إن الناس اختلفوا (28-198/أ) في قول الصحابي هل يكون حجة أم لا؟، ولم يختلفوا في قول غير الصحابي رضي الله عنهم.
قال: ظهر له ذلك بالاجتهاد
أقول: ما أبعد هذا في حقه، ولاسيما قد قرأ على الغزالي، وهو لا يقول وأحد من الأئمة ـ على ما سبق بأخذ المال من الجناة، وهو حرام على ما تقدم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا سيما في مسال الحدود. وكيف يليق ذلك وقد ورد في نبأه أنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؟. وأين العدل من بيع الحدود بالأموال وزيادتها عليها.
قال: والأعمال بالنيات.
أقول: هي الأعمال الصحيحة الجارية على وفق الشريعة، وأما الأعمال التي لا على وفق كتاب ولا سنة، فنيتها لا تزيدها إلا فسادا. وحاشى الامام المهدي من ذلك. ومن كلام الشيخ أبي محمد في رسالته رحمه الله: "ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة"(1).
فليت شعري بأي كتاب من كتب الله أهتدي؟، وبأي سنة من سنن الرسول صلوات الله عليه وسلامه أقتدي؟، ولكن الزلل وان كان من العمل والنية تشد عقده، وتنجز لصاحبها من التمادي في الغي وعده.
__________
(1) : انظر: الرسالة مع حاشية العدوي 1/88.(1/156)
قال: وأصله من السوس الأقصى، ودخل جده في جيش موسى بن نصير وانتشرت ذريته، فكان هذا منها، وقرأ العلم في أقصى المغرب، وعلى فقهاء الأندلس في زمن بن رشد رحمه الله، وحج ولحق بغداد وقرأ على الغزالي، وقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدثور الشريعة عنده في ذلك الزمان وذكر أصحابه أنه المعني في الخطبة، الذي يملأ البسيطة ... إلى آخره. وقدم إلى المهدية، وكان يحضر مجلس الامام المازري، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وطاف في نواحي افريقية وبلاد المغرب إلى أن انتهى إلى بلاد تينمل وجبال الدرن، فمن ثم ظهر أمره وفعل ما فعل من المصالح المرسلة.(1)
أقول: إن ما كان رأى من التغيير والجور والعتو ما حمله على تغيير المنكر فقام بذلك إلى أن كان من أمر الله ما كان. ودفع المنكر باليد ليس من المصالح المرسلة لمن أقدره الله عليه، بل من المصالح المعتبرة المأمور بها على شروط معروفة من أهل العلم.
اشتهار المسألة في بلاد الموحدين والجواب عنه من وجوه:
قال: وقد تكون هذه القضية المذكورة من أفعاله، لشهرتها في بلاد الموحدين، وقد تكون على كيفية خاصة مما يقبله الشرع والعقل، وإنما غيرها ولاة الجور حتى زادوا فيها وعال أمرها.
أقول: هذا من عجيب الأمر من وجوه:
الأول : إن الإمام يثني عليه، ويرضى عنه في خطبته، ويعترف له بالامامة، ثم ينسب إليه ما اعترف أولا انه ظلم في قوله: أسقطها كما أسقط غيرها من المظالم أثابه الله.
الثاني: أنه اعترف أن الخطايا الموجودة اليوم على كيفية لا يقبلها الشرع ولا العقل، ثم هو قبل هذا يعتب على ما سد الباب فيها ونسبه إلى الجهل، ويقول يجري على المصالح المرسلة، وفساد الثلث في صلاح الثلثين.
الثالث: انه أولا نسبة إلى المهدي تحقيقا وأنه فعلها، ثم هو الآن يقول: وقد يكون من أفعاله، واستدل على أنها من أفعاله شهرتها في بلاد الموحدين.
__________
(1) : الحلل السندسية 2/102.(1/157)
الرابع: انه أراد أن يثبت قوله بالتعصب، فهجا هؤلاء الخلفاء لأنها منتشرة في بلادهم على وجوه لا يقبلها الشرع ولا العقل، إذ ولوا ولاة الجور، وفي ضمن ذلك تجويرهم.
الخامس: كيف يحل له أن يسند قولا إلى مظنون به بالخير، بمجرد التجويز واستصحاب الحالة اللاحقة، ولا تعرف هذه الخطايا للقدماء من الموحدين ولا يظن ذلك بهم.(1/158)
سمعت الشيخ العالم أبا العباس أحمد بن القصار(1)يقول: بعث الأمير أبو زكريا أول ولايته إلى أعيان بلد تونس، فسألهم عما يكسون أهاليهم ليقتدي بهم في ذلك، حتى لا يأكل وينتفع من بيت المال إلا بالمعروف. فمن كان على هذه الحالة في الصرف، فكيف يرضى في الجمع بإدخال ما لا يقبله شرع ولا عقل؟، وهذا حال متأخري الموحدين، فانظر كيف حال متقدميهم، والعدل جديد لم يخلق. ثم انظر على هذا المفتي هو الآن (29=198/ب) يرى إثبات قاعدة هي بزعمه شرعية، بنى عليها من الأحكام ما يملأ بين السماء والأرض، يبنى أساسها على نقل مجرد عن مخالف شنع بها واعترف أنها زلة، وهي منكرة عند المالكية، دلت قواعد الشريعة والمذهب على خلافها، ثم يثبتها عن الامام المهدي بالتقدير والحذر، فكم بين هذا وبين عدد من رد عليه بعدها، بأنه يرد قوله، وهو باطل مجمع عليه، بالحذر والتخمين،"فأي الفريقين أحق بالأمن أن كنتم تعلمون"(2)، وما قاله والله أشنع. فان المثبت مطالب بالدليل، والنافي غير مطالب به، وإثبات قاعدة في الدين بالحذر والتخمين عظيم في الدين"فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون"(3).
__________
(1) : أبو العباس احمد بن عبد الرحمان الازدي التونسي، الشهير بابن القصار. من علماء تونس المعاصرين لابن عرفة. كان فقيها محققا عارفا بالنحو. أخذ عنه لبن مرزوق الحقيد، وأبو العباس البسيلي وغيرهما. له شرح البردة، وشرح شواهد المقرب. نيل الابتهاج 107- توشبح الديباج 75- الحلل السندسية 1/645 – 646 – شجرة النور الزكية 226.
(2) : سورة الأنعام، الآية: 81.
(3) : سورة البقرة، الآية: 79.(1/159)
ثم انه ينسب إلى المهدي أنه خالف النصوص من الكتاب والسنة، وزاد في الحدود، وتحكم على مولاه، وأراد أن يشرع بهواه أحسن مما شرع الله. ثم أن هذا الكلام يقتضي أن رسوما غير هذا المنهاج، مسألة الخطايا من بقايا تلك الرسوم. فأعجبوا لمثل هذا المدح بمثل هذا الذم، والرفع بمثل هذا الوضع، وأعجب منه قوله: وقد تكون على كيفية خاصة وقبلها الشرع والعقل.
السادس: أن العقل لا مدخل له في الأحكام الشرعية، ولكنه وقع هنا تسامحا وسهوا.
فتوى البرزلي والجواب عنها من وجوه:
قال: والذي أقوله الآن في بوادي افريقية واعرابها، والبلاد النائية عنها من الحواضر التي هي محل بث الشرع، وغلب عليهم الجهل، والتعرض للأموال، والأخذ بالدماء، والهروب بالحريم، وأخذ الأموال بالخيانة والغش والحرابة والمعاملات الفاسدة، أن يفعل بهم ما يقطع هذه المفاسد من التعرض لبعض مال الجناة وبدنه وسجنه، عقوبة له، فيوقف من ماله ما يحسم به مادته، أما بإعطائه للمجني عليه، أو يرد عليه أن أحسنت حاله، أو يوضع في بيت المال، أو يتصدق به، كما هو في بعض المسائل الآتي ذكرها. وهذا الذي تدل عليه بعض المسائل المالكية والقواعد الشرعية والاجتهادية.
أقول: هذا كلام فاسد من وجوه:(1/160)
الأول : موضوع الكلام، والمسؤول عنه، كما فرضه هو، ما يعاقب به الجاني إذا ارتكب قطعا، أو قتلا أو جرحا، أو حرابة، أو هروبا بامرأة، أو غصبا، أو تعديا، كما فرضه في أول كلامه. فهذه الجنايات التي كان تجوز المعاقبة عليها بالمال لأجل الجناية، بلا فرق أن يكون الجاني بدويا، أو أعرابيا، أوحضريا ببلاد قريبة من الحواضر أو بعيدة عنها، لأن الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن أحكام المسلمين في هذه الجنايات على وتيرة واحدة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول فيمن أسلم من الأعراب والبوادي أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، وأنهم يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين. فافتراق البدو والحضر في موجبات الحدود والجنايات لا أصل له.
الثاني : هؤلاء الذين أباح أخذ بعض أموالهم، لا يخلوا ما أن يكون جنوا شيئا من تلك الجنايات أولا، فإن كانوا جنوا، فإن كانت جنايتهم القتل، أو السرقة، أو القطع، أو الجراح، أو الحرابة، أو الزنا، أو القذف، أو شرب الخمر، أو إما فيه حد معين من الشارع أولا، فإن كان الأول، فالقول بأخذ المال فيه خروج عن الشرع والدين، وإن جنايات مالية، كالسرقة والحرابة، فقد علم ما فيها، وأما غير ذلك من الاختلاس والغضب والتعدي والخديعة، فالعقوبة في هذا محله الضرب والسجن، هذا المنصوص للعلماء، ولم يقل أحد تكون العقوبة فيها مالا.
الثالث: أن هذا الذي عللوا به، كثير منه في الحواضر، لا سيما المعاملات الفاسدة، مع أن الناس اليوم بافريقية، بحمد الله تعالى في غاية الطاعة، أقرب منهم (30=199/أ) من الحواضر، وما بعد كلهم تنالهم أحكام الخلافة، بل البعيد منهم أتم أذعانا، لبعد نصرتهم، وقد يكون التقي لله فيما بعد من البلاد وما قرب، والمسلم لا تستباح نفسه، ولا عرضه، ولا ماله لمجرد الشك.(1/161)
فإن كان أراد أنهم تؤخذ أموالهم أو بعضها، وان ارتكبوا شيئا من هذه الجنايات، لان الغالب عليهم الجهل، إلى آخره، فهذا خطأ أيضا، لأن دار الإسلام تمنع ما فيها، والمسلم معصوم الدم والمال قطعا، فلا تستباح إلا بيقين بالحق أنه أن ثبت أن منهم من استغرق ماله الغصب والنهب ونحو ذلك وكان المظلوم معدوما، أخذ من الظالم وأعطي للمظلوم، أعني إذا كان الظلم أخذ مال، لا كما قال المفتي: إذا كان جنى عليه بقتل أو جرح أو هروب، وإن لم يعرف المظلوم كان بمنزلة الأموال الضائعة، لايتفق على اختصاص الفقراء بها. وما أدري كيف يفهم قوله صلى الله عليه وسلم: "الحدود كفارة لأهلها"(1)، إذا كان يقول: يؤخذ من مالهم؟، فإنه مما يدل على بطلان أخذ المال، لأنه يلزم عليه ألا يكون يجزيه في الكفارات.
الرابع: انه قد تقدم أن أخذ أموال مرتكبي الجنايات لا أصل له، وحكينا الإجماع في غيرما موضع على أن ما كان من العقوبة بالمال، أن كان منه شيء فهو منسوخ. فأن تنزلنا، قلنا: سلمنا جدلا أنه غير منسوخ. فقد تقدم أن القول به في مسائل الحدود وما شرع حكمه نصا استحال، لما علم تحريمه القاطع، وهو كفر. وأقمنا الدلالة أيضا، على أنه لا عقوبة في غير مسائل الحدود بالمال.
__________
(1) : لم يرد الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وإنما جعله العلماء ترجمة لأحاديث الباب في الحدود. انظر: فتح الباري 12/84- باب 8 ـ وشرح الأبي على مسلم 4/477 ـ وعارضة الاحوذي 6/218 - وسنن الدارقطني 3/214 ـ والأم الشافعي 6/138 ـ وارواء الغليل 7/366- 367- ح:2334 قال البرزلي في نوازله 3/426: الحدود كفارات لأهلها، سواء في حق الله تعالى فقط كالزنا وشبهه، او اجتمع فيه حق الله وحق العباد كالقتل، فتجري هذه المسألة عليه والله أعلم".(1/162)
سلمنا انه يعاقب في غير الحدود في المال، فما معنى: فيعرض لبعض مال الجاني؟، فما الذي يبيح البعض دون الكل؟، وكم هو هذا البعض؟، وفي أي شيء هو؟، وهو يكون بمقدار واحد في الجنايات، أو يختلف؟، وهل يختلف بالغنى والفقر أو لا؟، وإذا اختلف بالغنى والفقر، فهل درجة الأغنياء فيه واحدة جنايتهم، وإيجاب الغرم سواء، أو يختلف كما تختلف الزكاة، أم يكون ذلك بالاجتهاد من الوالي؟، وهل يشترط في المجتهد في ذلك أن قال به أن يكون عدلا، أو كيفما كان؟، كما هو اليوم. هل هذا الأعين الضلال، والله أمركم بهذا، أم تقولون على الله ما لاتعلمون؟، الله أذن لكم، أم على الله تفترون؟،"أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم، وان الظالمين لهم عذاب أليم"(1).
الخامس: إن كان المال رادعا، فلم زاد البدن؟، وإن كان عقوبة البدن رادعة، كنا اقتضت الشريعة، فلم زاد المال؟.
السادس: انه قال: يوقف من ماله ما تحسم به مادته، اما بإعطاءه المجني عليه، واما بوضعه في بيت المال، واما بالصدقة به. فهل في هذه الأقسام الثلاثة شيء من الإيقاف؟. فلفظ الإيقاف يوهم به أنه لا يقول بأخذ المال، ثم يعرض عنها، ويفسرها بالتصرف في المال. يريد بذلك أن يجعل فتياه ذات نفقين، فان نازعه علماء الشريعة، قال: ما قلت الا بوقف، وان كان مع الأمراء، قال: ضعوه في بيت المال، أو اعطوه للمجني عليه، أو تصدقوا به. ثم هذا كله تمويه، وإلا فهو، والله، يعلم انهم يأخذون أعواض هذه الجنايات لأنفسهم، فيصرفونها كيفما شاءوا.
وكذلك قوله في الأعراب، أن ما جاء به ليهينه لمن يعدله في مخالفة الشرع. يقول: قلته في الاعراب، وهو يعلم أن الخطايا إنما هي من الرعايا أهل المواشي والعمال بأنفسهم، وأكثر مكاسبهم حلال، بل هي أحل من أرزاق كثير من أهل الحواضر أو أكثرهم.
__________
(1) : الشورى، الآية: 21.(1/163)
وكذلك قوله: البلاد البعيدة، لا يخلو من أن يكونوا تحت الإيالة والطاعة أولا. فإن كان الأول، فلم لا يسار فيهم بسيرة الإسلام، من إقامة الحدود، وتوفية الحقوق. فإن كانوا على خلاف ذلك، فلا يستطاع أخذ المال منهم ولا غيره. ثم كبر حد هذا البعد، ما هذا إلا ليوهم الرعاع من الطلبة (31=199/ب)، وأهل التحريف والميل إلى الهوى والشهوات، إلى الاعتذار عنه بأنه ما أفتى بالعقوبة بالمال، وما أفتى فيها إلا في مستغرقي الذمم، والكلام معه وما سئل وشوور واستفتي وذوكر، على زعمه، إلا في الواقع، وهو أن المرتكب جرحا، أو قطعا، أو سرقة، أو حرابة، أو زنى، أو هروبا بامرأة، أو تعديا، أو نحو هذا، كما ذكر أولا، كان مستغرق الذمة أو لم يكن، وهو يعلم أن مستغرقي الذمة لايوصل منهم إلا إلى المستضعف، وإنما هذه الخطايا على ضعفة الرعايا. فهو يريد أن يجعل لفتياه وجهين، أن نظرها أهل الهوى وجدوا فيها متمسكهم، وفيه أكمل متسع، وان احتاج هو إلى دفع أهل الشريعة عن الإنكار عليه دفع، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، وسيعلم غب هذه الفتيا يوم يخضر الخلائق بين يدي الله خصماء.(1/164)
السابع: قوله: إنه يؤخذ من ماله ما يعطي للمجني عليه، أخذ للمال بغير ما أنزل الله، وإطعام السحت وما حرم الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه"(1). والدليل على ذلك في الصحيح من قول الرجل: يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا وانه زنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فأخبروني انما على ابن جلد مائة وتغريب عام، وان على امرأة هذا الرجم، فقال صلى الله وسلم:"والذي نفسي بيده، لأفضين بينكما بكتاب الله، أما الغنم والوليدة فرد عليك، واغديا انيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" الحديث.(2)فلو كان مال الجاني يحل أخذه ودفعه للمجني عليه، كيف ينتزع النبي صلى الله عليه وسلم المال من زوج هذه المرأة، وقد زنى بها؟، وإذا كان يجوز أن يكره على هذا، فكيف يرد إليه، وقد أخرجه طوعا عن ولده؟.
__________
(1) : رواه الخمسة وصححه الترميذي بلفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه". انظر نيل الأوطار 5/189.
(2) : رواه الجماعة. انظر : نيل الأوطار 7/97 – وارواء الغليل 7/359.(1/165)
وهذا الذي أمر به هذا المفتى هو الذي يسميه أهل العرف اليوم الحشمة. وهذا أن يهرب الرجل بزوجة الرجل، فإذا وجد، أخذ امرأته منه، ودفع له مالا عوضا عما أصاب منها، يسمونه الحشمة، وهذا هو مهر البغي، الذي نص الرسول صلى الله عليه وسلم على تحريمه(1)، وهو قد أدرجه في هذه الجنايات التي يؤخذ فيها مال الجاني ويعطي للمجني عليه. فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ذهاب العلم والعلماء، "إن الله لا ينزع العلم انتزاعا، ولكن ينزعه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"(2).
__________
(1) : رواه الجماعة بلفظ. "نهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن". انظر ارواء الغليل 5/131. قال المازري في المعلم 2/109: وأما مهر البغي فهو ما يعطي على النكاح المحرم، وإذا كان محرما ولم يستبح بعفد صارت معا وضة عليه لاتحل، لأن ما حرم الانتفاع به فكأنه لا منفعة فيه أصلا- وانظر التمهيد 8/397.
(2) : رواه البخاري وغيره. انظر فتح الباري 1/194 – كتاب العلم – باب 34 – ح: 100-13/282- كتاب الاعتصام – باب 7 – ح : 7307.(1/166)
وقد ترجم البخاري ـ رحمه الله ـ باب إذا اصطلحوا على صلح جور فهو مردود، ثم قال: الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق، أقض بيننا بكتاب الله، فقام الأعرابي فقال: إن ابني عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا لي: علي ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. وأما أنت يا أنيس فاغد على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها، فغدا عليها أنيس فرجمها"(1).
ودل هذا الحديث على بطلان هذه الفتوى من وجوه:
الأول: تسمية أخذ المال في هذا جورا، ولم يخالفه أحد في ذلك من العلماء، ولم ينكر عليه.
الثاني: إذا كان جورا، وهو مأخوذ بالرضا، فما بالك بالمأخوذ كرها.
الثالث: ما دل عليه الحديث بالفحوى مرات، وبالنظر تارات (32=200/ا) من أن أخذ المال هنا مخالف لكتاب الله فانظر إلى قول الأول: اقض بيننا بكتاب الله، ثم إلى قول الثاني: صدق، فاقض بيننا بكتاب الله ثم إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك القضاء بقوله: أما الغنم والوليدة فرد عليك، بما يقتضي كتاب الله رده، ولو أخذ عن رضا، كيف يقتضي إكراه من رد إليه، ودفعه إلى من رده، ويدعي المفتي، مع ذلك، انه ناقل عن الله؟"فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، وويل لهم مما يكسبون"(2).
__________
(1) : فتح الباري 5/301 – كتب الصلح – باب: 5- ح: 2695-2696.
(2) : سورة البقرة، الآية : 79.(1/167)
ثم الخطايا التي يريد أن يستدل على تحليها، تؤخذ كرها، مع إنكار الجاني لمجرد الرمي أو التهمة، قويت أوضعفت، مع إنكار المرمي والمتهم. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد المال المأخوذ في الجناية على المقر، فكيف أنه يقتضي أخذه كرها من المنكر المرمي، بحق رمي أو باطل، "ومن يضلل الله فما له من هاد"(1).
الرابع: قوله: سألت أهل العلم ... إلى آخره، ولم ينكر عليه السلام سؤاله ولاجوابهم فأقره وحكم به.
الخامس: قوله: فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام. وانما موضوعة للحصر، يقتضي أنه لا شيء عليه من المال ولا من غيره، غير الحد.
السادس: اتباعه عليه الصلاة والسلام هذه الدلالات بصريح الحكم النافي للمال في جانبي الرجل والمرأة. وإذا تبين هذا، كان القضاء بأخذ المال من الجاني بالعصيان، وإعطائه للمجني عليه في غير المقدمات والمتلفات المالية والبدنية، كالجراح والنفوس والأعضاء، إلا على معنى الصلح فيما يجوز فيه، جورا مردودا على قائله، مضروبابه وجهه.
في البخاري عنه صلى الله عليه وسلم، في الباب بعينه، وفي غيره من روايته عن يعقوب بن محمد قال: حدثنا ابراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"(2).
__________
(1) : سورة غافر، الآية: 33.
(2) : فتح الباري 5/301 – كتاب الصلح ت باب: 5 – 7 : 2697 – وانظر: سنن الدارقطني 4/227 – كتاب الأقضية – ح: 81.(1/168)
السابع: نقض النبي صلى الله عليه وسلم الصلح، يدل على حرمة أخذ المال من الجاني ودفعه إلى المجني عليه كرها من باب أخرى كما سبق. والدليل عليه، قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا، أو أحل حراما". هذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن(1).
الثامن: قوله: أو يريد عليه أن حسنت حاله. يدل على أنه حجر على الرشيد بمجرد وقوع زلة منه في غير المال، وهذا لم يقله أحد بحال. وليت شعري، ماذا يقول إذا حبس عنه ماله، هل يرزق فيه ويكسي بالمعروف، كما أمر الله في اليتيم؟، أويترك هزلا، وماله محبوس. وربما يكون هو محبوس أيضا، فتكون هذه الأحكام البديعة ناسخة لما علم بالقطع من الشريعة.
__________
(1) : عارضة الأحوذي 6/104 – كتاب الأحكام – باب 17. ورواه أبو داود وابن ماجة واحمد. انظر: ارواء الغليل 5/142 –250 والهداية لأحمد بن الصديق 8/91 – 96 ح : 1554.(1/169)
التاسع: قوله: أو يوضع في بيت المال، ينبغي أن يسأل في أي بيوت المال يجعل؟، أفي بيت مال الصدقات؟، أو في بيت مال الفيء والجزية والخراج وخمس الغنيمة؟، فإنه لا بد من تمييز ذلك، وكل باطل وخلاف الإجماع، والدليل عليه ما خرجه قاسم بن أصبغ "أن عمر رضي الله عنه بلغه أن امرأة تزوجت في العدة، فبعث فيها وفي زوجها، وفرق بينهما، ووضع الصداق في بيت المال، وانتشر الخبر، وبلغ عليا رضي الله عنه فقال: يرحم الله أمير المؤمنين ما للصداق وبيت المال؟، فخطب عمر الناس وقال: "أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة، وردوا على المرأة الصداق"،(1)ولم ينكر ذلك أحد، فكان إجماعا. هذا وصداق المعتدة دفعه الزوج برضاه، واستمتع به، إلا أن العقد لا يحل، فأشبه من وجه ثمن الخمر ونحوه، فأكنه رأى أن المرأة لا يحل لها أخذه شرعا، والرجل دفعه لعوض أبانه، فسار كالمال (33=200/ب) الضائع، فطرحه في بيت المال، ثم لما أنكر ذلك عليه رده، وخطب به عن رؤوس الإشهاد، فكيف يسوغ أن يقال: يؤخذ من الإنسان ماله كرها بسبب معصية فيها حد أو تعزيز، ويوضع في بيت المال؟، هذا أمر بديع لم يسمع قط من عالم. هذه ثمانية وعشرون وثمانمائة سنة، مع تكرر هذه الوقائع في الاعصار وانتشارها في الامصار.
__________
(1) : قارن بالموطأ 476 – كتاب النكاح – باب 11 – ح: 28 – والسنن الكبرى للبيهقي 7/441 – ومسند الشافعي 301 – والكافي لابن عبد البر 2/530 – 531. وارواء الغليل 7/203-204.(1/170)
العاشر: قوله: أو يتصدق به. هذه صدق يصرف بها المال في غير حقه كما أخذ من غير وجهه. وما أدري ما يقول ان كان يزعم أن لهذه الصدقة ثوابا، لمن يكون ثوابا؟، لصاحب المال؟، أم للوالي؟، أم للمسلمين؟، والثلاثة باطلة، أما الوالي فلا حق له فيها البتة، ولا ملك له عليها، وأما المسلمون فليست لهم، ولا يدعي أحد منهم فيها ملكا، وأما صاحب المال فلا يثاب على الصدقة، لأنه لم يتصدق، فهي، إذن، صدقة لا ثواب لها باطلة، فهذه باطلة، أما الأولى، فلما تقدم، وأما الثانية، فلأن الثواب لازمها غير المنفك عنها، كلما انتفى اللازم انتفى الملزوم.
فان قلت: أليس المأخوذ منه مأجورا على ما أصابه؟.
قلت: بلى، ولكنه ثواب المصيبة لا الصدقة.
فإن قلت: فما تصنع بالمسائل التي ورد فيها الصدقة في المذاهب من هذا الباب؟.
قلت : هذا إنما فيما خرج عنه دافعه بعوض رضيه، لم يبق فيه مطمع بعده، ولا يحل لأخذه، لأنه عوض عما لا يحل فسار مالا ضائعا لا مدعي له، فوجب للمسلمين، فإما أن يصرفه في مصالحهم، وإما أن تسد به خلة فقرائهم فيكونون مثابين على ذلك، أما ما كان مملوكا محترما شرعا، فلا سبيل إلى الصدقة به، وقد ورد في ذلك من الوعيد ما هو معلوم.(1/171)
الحادي عشر: إن هؤلاء الذين أراد أن يشرع أخذ المال منهم، لايخلو أما أن يكون ثبت عليهم موجبات الحدود أولا، فإن زعم أنهم الذين ثبتت عليهم موجبات الحدود، فذلك خروج عن الإسلام، كما قاله جماعة من الأئمة الاعلام في نظير هذا الكلام، وإن كان شرع منهم الأخذ بمجرد الدعوى أو بها، وبالتهمة الضعيفة أو القوية، فهذا باطل أيضا، وذلك لأن حرمة المال أقوى من حرمة الحدود، إذ أثبت موجباتها، ثم عارض ذلك بشبهة درء الحد الواجب بالشبهة، وليس المال كذلك، فإنه أسقط الحد الذي وجب ما درأه من الشبهة، فلأن يسقط غرم المال الذي لا أصل له للزومه أولى وأيضا، فإن الحد يسقط بعد الإقرار بالرجوع، بخلاف المال. وأيضا، فإن المقر بالحد يستفسر لعل له تأويلا ولو بعد، بخلاف المال. وأيضا، فإن العبد يقر بالحد فيقام عليه، بخلاف المال. فدل على أن حرمة المال أقوى من حرمة الحد، فكيف يجب الحد حيث لا يجب المال؟
قوله:وهذا الذي تدل عليه بعض المسائل المالكية، والقواعد الشرعية والاجتهادية.
أقول: حاشى لله أن تشهد لذلك مسألة أو قاعدة، بل الشريعة طافحة بمنع الظلم أو أكل أموال الناس بالباطل، وهذا كله قطعي، حسبما تقف على أدلته.(1/172)
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب الاستشفاء(1)، في القياس: "إن من يقول: عن الوظائف الشرعية، والزكوات، والجزية، وغيرها لاتقوم بحفظ النظام إلا بزيادة عليها، فهو بمثابة من يقول: أن الحدود الموضوعة للزجر من قبل الشرع لاتفي بكف الطغاة، فلابد من تعديها إلى قطع من لم تثبت سرقته، وقتل من لم يصح قتله".
نعوذ بالله من هذه المقالة، فما وضع الحكيم هذه الزواجر إلا نهاية في الحكمة وغاية في الزجر والمصلحة، ولا يمكن حكيما عليما بصيرا بالعواقب، مطلعا على الموارد والمصالح، محيطا بالجليات والخفيات أن يصنع فوق هذا النظام. فقائل ذلك خارج عن دين الإسلام.
فإن قيل: ما يال الحدود لا تفي ولا تقوم بالردع.
قلنا: لأنها لا تستوفي، ولكن تباع وتشترى، وحكمة الله وحكمه في من ظهر عليه الحد (34=201/أ) انفاذه فيه، ومن خشيت معرته، وقويت ظنته، ولم يثبت عليه شيء، حبس حتى يموت أو يتوب، والمحبوسون يجب أن يكونوا أضعاف المقتولين، لأن التهمات أضعف من البينات، ولا جعل الله لهم تحقيقه، ولا شرع لأحد ذلك عدولا عن طريقه.
فإن قلت: فكيف قد جاء "تحدث للناس أقضية بقدر ما يحدث من الفجور"(2).
قلت : عن هذا ثلاثة أجوبة:
__________
(1) : يعد هذا الكتاب من كتب ابن العربي المفقودة وقد ذكره ابن العربي في أحكام القرآن 2/755، وأحال عليه في شأن مسألة أصولية هي تخصيص القياس ببعض العلة قال: "ولم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة ولا رأى تخصيص العلة ... وقد بينت ذلك في المحصول والاستشفاء بما في تحصيله شفاء". كتبه المحقق: الاستيفاء، ولعل الصواب هو ذكره الشماع، وهو الذي يقتضيه المعنى.
(2) : تنسب هذه المقالة إلى عمر ابن عبد العزيز. انظر: تحفة الحذاق ص: 250- ومواهب الخلاق 2/291، ومسائل ابن رشد الجد 1/680-682 وتبصرة الحكام 2/218. كما ينسبها البعض إلى الامام مالك. انظر : ترتيب المدارك 4/122 وراجع القسم الأول من هذا البحث ص : 102.(1/173)
الأول: إن هذا قول ليس له في الدين أصل، ولا في الشريعة فصل.
الثاني: إن محققا لا يد معينا في الدين بقول من لايعرف قوله من التابعين.
الثالث: إنه إذا حسن الظن برواية، فحمله على أنه يؤخذ بالأغلظ من أقوال العلماء كما اتفق في مدينة السلام وقد جيء ببعض الباطنية وأحضروا مجلس الخليفة، وأحضر العلماء، فأفتى كل منهم بمذهبه، والخليفة وراء ستر فخرج الأمر بأن يؤخذ فيهم بفتيا أهل مذهب مالك. انتهى.
قلت: ومما شهد لما قاله، قضية الخمر، فانظر ما نقل ابن عباس في ذلك من الاستذكار، وحقق أن معنى الأثر فيما ليس فيه حد معلوم، فتبلغ العقوبة فيه إلى حد لا يتجاوز ما هو أعظم مفسدة منه، فإنه بسبب ذلك بلغ أربعين على عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم ثمانين بإشارة علي رضي الله عنه. وانظر فتيا علي فيمن حلل الخمر بتأويل، وزعم أنه لاحد فيها في الاستذكار(1).
وانقل مثل ذلك الحكم فيمن حلل الخطايا، فإنه ينتقل أحرويا لقوة دليل: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"الآية(2)، عن الاستدلال بالمصالح المرسلة، والاستشهاد بالأقوال الضعيفة وبالأحاديث المنسوخة في مقابله. فاعلم دلالته على الحرمة قطعا.
قال:كما فعله عز الدين والقرافي وغيرهم ممن ألف في القواعد الشرعية وأصولها في ذكر المصالح الشرعية والأمور الفرعية.
__________
(1) : الاستذكار 24/265 –266 والإقناع 139 – وقارن بالكافي 2/1079 – ومسائل ابن رشد الجد1/681 – 682 – وانظر تخريج المسألة في ارواء الغليل 8/45 –48 – ح: 2377.
(2) : سورة المائدة ، الآية: 93.(1/174)
أقول: هذا أغرب وأعجب. والله ما قال عز الدين ولا القرافي ولا غيرهم من علماء الأمة ولا مالك ولا المنذري، ولا صاحب أصول ولا فروع: أن من جرح، أو قتل أو زنى، أو سرق، أو حارب، أو قذف، أوقارف شيئا من الذنوب، يؤخذ قطعة من ماله، أو يؤخذ ماله فيوقف حتى تحسن حاله، أو يعطي للمجني عليه، أو يوضع في بيت المال، أو يتصدق به، ولا يجده ولو بحث عنه هو وسائر المبطلين. وما أدري أيهما أعجب، أنقله أواستدلاله.
قال: و لايقال: هذا لا ينضبط، ولا يتوقف عليه الأمراء، من غير زيادة، لأنا نقول:عن هذا قطع مفسدة ظاهرة معلومة بارتكاب ما هو أخف منها على يد ثقة، وتقرير الزيادة فيها في المستقبل مشكوك فيه، فلا تسقط مصلحة ظاهرة بأمر قد يكون وقد لا يكون.
أقول: وأما كونه لا ينضبط، فهو من أصله غير منضبط، ولا يغني عنه، إلا أن يقدر ما بكل ذنب من مقدار الدنانير والدراهم، وهل الغني والفقير في ذلك سواء؟، فإنه رب إنسان يضره درهم وآخر لا يضره مائة ألف. فإذا عرف الولي ما يطلبه وكان ثقة، كما يزعم فإنه تؤمن زيادته. ولابد أيضا من أن يبين هل يستوي في ذلك من أقيم عليه الحد وغيره، أو من عوقب في بدنه أو غيره؟. وهذا إبراء ما بعده. فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/175)
وأما أنه قطع مفسدة ظاهرة فكلا، بل زيادة مفسدة، واحداث بيع وشراء في الحدود والحقوق والأعراض، وفتح لباب السحت والرشا، وأخذ لاثمان المعاصي، سواء أخذها من عصى الله أومن عصي فيه الله، ومراغمة النصوص القطعية الدالة على تحريم أكل المال بالباطل، وإفساد لمجابي المسلمين بإدخال الغصوب فيها واثمان الحدود والمحرمات، وتمكين لتغيير عقائد أهل الإيمان في اعتقادهم تحليل ما حرم الله وإخراجهم من حيز الإيمان بذلك، وتسبب لتنافي الحدود والزواجر الشرعية، وتغيير الشرائع التي شرع الله تعالى، واعتقاد أن ما شرعه لا يفي بزجر العباد، وأن ما أحدث من أخذ (35=201/ب) الأموال هو الرادع، وتسهيل طريق العصيان على من أراد برفع القليل من الإيمان وتمكين حب المعاصي من قلوب الولاة والعمال إذا انتهى إليهم جناية أو معصية، يأخذون فيها المال، وذلك كله مسبب لسخط الرحمن، واستجلاب النيران، وحرمان الجنان. وإلى متى نمد العنان فيما هو ضروري بالمشاهدة والعيان. هدى الله هو الهدى، ومن اتبع رسول الله فقد اهتدى، وإياكم والمحدثين وما أحدثوا فإنهم عن آرائهم التي لم يشهد لها كتاب ولا سنة حدثوا، أتوا من الافتراء بكل أعجوبة، وقلوبهم عن الأنوار محجوبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هم يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي"(1).
__________
(1) : أحاديث افتراق الأمة في المستدرك 1/6 – 128 – 129 – وبذل المجهود 18/116 – كتاب السنة – ح : 4596 – والمقاصد الحسنة للسنحاوي ح: 340 – وكشف الخفا للعجلوني 1/369-ح: 1001 قال ابن الوزير في العواصم 1/186 : إياك والاغترار ب "كلها هالكة الأواحدة، فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة القاعدة، لا يومن أن تكون من دسيس الملاحدة.
ورد عليه المقبلي في العلم الشامخ ص : 414 فقال: حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة رواياته كثيرة يشد بعضها بعضا x بحيث لا يبقى ريبة في حاصل معناها.(1/176)
خير الهدى كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن شر هؤلاء الفرق قوم يقيسون الأمور بآرائهم. قال الامام فخر الدين الرازي، هم الذين يقيسون مع النص(1).
وأما قوله : فلا تسقط مصلحة ظاهرة بأمر قد يكون وقد لا يكون، فهذا تعام عما علم من الدين ضرورة من ولاة الزمان، وأنه قد كان وهو كذلك في الحال.
قال: ولا يقال: أنه تعرض لأكل المال بالباطل.
أقول: لا والله، بل هو عين أكل المال بالباطل، وأي باطل، بوجوه ظاهرة ودلائل، ولكن ما دون ما قضى الله من حائل.
قال: لانا نقول: انما ذلك لظلم يظهر له وجه صواب، يقابله من المصالح الشرعية.
أقول: هذا أيضا من الغرائب وبديع العجائب. أن الباطل والظلم يتضمن المصالح !،وناهيك ممن يقر بالظلم أنه ظلم ويشرعه !، ولا يترك وجها مع ذلك بالباطل والظلم ولايدعه.
قال: ولاسيما من أموال هؤلاء البوادي.
أقول: قد تقدم أن مكاسب البوادي اليوم أطهر من مكاسب كثيرة ممن يتعامل بالربا، ويأكل الرشا، ولاسيما وأكثر كسبهم الماشية والحرث، ويؤدون من المغارم ما لا يوفيه غيرهم، ولهم أقرب إلى أكل الحلال من أهل الحواضر، لوجدوا من يدعوهم إلى الله، يؤكد عليهم، ويعلمهم ما جهلوا. وهب أن في أموالهم شيئا من الحرام، أقل أو أكثر من غيرهم، ما الكلام في أخذ مال من استغرق ذمته الحرام من هذه الجهة، انما الكلام في أن الجنايات هل لها عقوبة مالية؟، ولايجدونه إلا في مسائل معدودة.
قال: قواعد الشريعة عند أهل التحقيق مردودة، والمثبتون منها قاعدة الزجر بالمال، كان ذلك عندهم في أول الحال ثم نسخ، والمنسوخ لا تقوم به حجة.
بناء المسالة على أربع قواعد والجواب عنه:
قال: ويحضرني الآن في هذه المسألة أربع قواعد:
الأول منه : المصالح المرسلة
__________
(1) : المحصول 2/ق 2/85 –146 . وقد جعل الرازي الرأي عبارة عن القياس في مقابلة النص. وقارن بالتبصرة للشيرازي 429-432- والأحكام في أصول الاحكام لابن حزم 8/25.(1/177)
أقول: هذا شروع في الاجتهاد المطلق. وهيهات فيما ادعاه قبلك بإعصار ممن أنصف وحقق !شرائط الاجتهاد محفوظة. وهي في فقهاء هذا العصر منبوذة بالعراء. غير ملحوظة. أكبر فقهائهم من اشتغل: بجمع المسائل، وأكثر علمائهم من يتهم بحفظ الحاصل، وربما تعلق بقول ليس تحته طائل. هذا شيخنا الإمام يقول، ومن قلبه،: وانقطع الاجتهاد بموت عز الدين ابن عبد السلام. وهذا الامام المازري والفخر ابن الطيب نص على ذلك، مع أن الدعوى تخصصها الشواهد، وكم من نائم يتخيل أنه نائم، وهو قاعد أو راقد.
قال: فأقول بها، كما قال الامام مالك.
أقول: سبحان الله، لقد كان يكفيه أن يقول: فأبني عليها، إذ هي أصل مالك، فربما يقال: أن هذا اجتهاد في المذهب ولم يظفر أيضا في هذا العصر أحد بهذا المطلب، إنما يبلغ إلى هذا من نقح وحقق، وأمعن النظر في أصول مذهبه وفروعه ودقق. وأما من اشتغل بجمع أضغاث (36=202/أ) الأقاويل من غير استبصار، هو مخرج منها بغير وزن ومقدار، حتى لا يحفظ عنه قط قول: لا أدري، بل أجوبة كمياه الحدور تجري بصبب عن كل ما عنه يسأل، ويحمل من غير انتفاء من كل ما يحمل.
ولقد حدثتي هذا المملي عن بعض أذكياء أعراب الزمان ممن خالط الفقهاء، أنه قال: عجبت من مالك ومن الفقهاء، قال: وكيف؟، قال:علمهم بمنزلة المسك عند صاحب العطر، وعلمك كجوالق الحطب، ولقد كان دراكا ـ رحمه الله ـ .
وأغرب من هذا !، فهم هذه الحكاية على معنى المدح والسرور بها، والتبجيح بها.
قال : وحاصلها يرجع إلى درء مفسدة، هي أقل منها عند الموازنة.(1/178)
أقول : ليس هذا بشيء، لأنه ان أراد تفسير المصلحة بما هي مصلحة أعم من أن تكون معتبرة أو ملغاة، فليس ما ذكر حاصلها. إذ من أقسام المصالح مطلقا: معتبرها، وملغاها، ومرسلها ما كان خالصا عن المفسدة، كما أن منها: ما كان راجحا، وهو جلب خير الخيرين، ودفع شر الشرين. وان أراد تفسيرها بغير كونها مرسلة، فمعنى الإرسال الا يشهد لنوعها أولجنسها القريب شاهد، اعتبارا وإلغاء. ثم هذا ليس فيه على زعمه الا تقسيم المصالح المرسلة وقد مضى ما فيه.
فإن أراد أن أخذ المال للردع شر قليل يدفع به شر كثير، فقد بينا أن شرع أخذ الخطايا، وهي المال، في الجنايات شر كبير كثير يشمل على مناكر ومحرمان سبق ذكرها. ثم هو داعية إلى كثرة المعاصي لا وازع عنها. فإن شئت، فراجع ما سبق، يتبين لك ذلك.
قال: والقاعدة الثانية: الكليات التي أجمعت الملل على حفظها. الأولى حفظ الأديان، ومن أصلها شرع الجهاد، وهي آكدها، ثم حفظ الأبدان، ومن أجل ذلك شرع القصاص.
أقول: لذلك تزيد المال في الجراح والقطع والقتل، وتجعله عوضا عن القصاص. ولو علم الله خيرا فيما قلته، لشرعه.
قال: لقوله "ولكم في القصاص حياة"(1)
أقول: نعم، ولم يقل: ولكم في أخذ الدنانير والدراهم حياة، ولا: ولكم في أخذها من الجاني، وجعلها في بيت المال حياة، ولا: ولكم في حبسها عن صاحبها، حتى يصلح حاله حياة، ولا: في الصدقة بها حياة، وهذا جميع الذي قلت، تأخذ به.
قال: وإذا كان الإنسان يعلم انه إذا قتل قتل، كان ذلك أبعد له عن القتل.
أقول: وان علم أنه أن قتل غرم المال، فانه اقرب وأدعى إلى القتل.
أقول: قالته العرب في جاهليتها، ولم يسع في عقولها أن تجعل غرم المال زاجرا عن القتل وغيره، كما زعمت.
قال: ثم حفظ الانساب، ومن ثم شرع الحد.
__________
(1) : سورة البقرة، الآية: 179.(1/179)
أقول: ولم يشرع فيمن هرب بامرأة رجل أن يؤخذ منه المال ويعطي لزوج المرأة، أو يوضع في بيت المال، أو يتصدق به، فيوكل مهر البغي وقد صح النهي عنه، ولا يخالف غيره فيه، ولكنك أتيت به.
قال: ثم حفظ الأعراض، ومن أجل ذلك شرع حد القذف.
أقول: ولم يشرع أخذ المال من القاذف، لا للمقذوف، ولا لبيت المال، ولا للمساكين.
قال: ثم حفظ العقول، ومن أجل ذلك شرع حد الخمر.
أقول: دون أخذ المال، لأنه يردعه، لأن الخمر يغلو أو يرخص فما يدفع عن ماله يحسب أنه زيادة في الثمن.
قال: ثم حفظ الأموال، ومن أجل ذلك شرع القطع في السرقة، وقتل المحارب.
أقول: ولم يشرع الزجر عن ذلك بالمال الزائد على مقدار أخذ الجاني، خلافا لما تقوله.
وانظر أما اعجب حال هذا الرجل !. هذه الواجبات التي وجبت المحافظة عليها هل ذكر منها أنه شرع أخذ المال في شيء منها؟، فهو يحكي المشروع، ثم يخالفه، هل ذكر منها أنه شرع أخذ المال في شيء منها؟، فهو يحكي المشروع، ثم يخالفه، ما يكون هذا وفي العقل مسكة. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله، لقد أتعب نفسه وغيره وضلل من ضلل بمجرد كبر السن. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وحد السرقة مشروع لحفظ الأعراض، لئلا يلطخ عرضه برذيلة السرقة، على (37=202/ب) ما في كتب من حقق من أهل الأصول. وبهذا يجاب على قول القائل:
يد بخمس مئين عسجدوديت ... ... ما لابالها قطعت في ربع دينار(1)
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ... ... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري(2)
__________
(1) : ورد البيت في اللزوميات لأبي العلاء المرعي 1/544.
(2) : في جواب للقاضي عبد الوهاب اليغدادي:
وقاية النفس أغلاها وأرخصها ... ... وقاية المال، فافهم حكمة الباري
- شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 1/129.
وفي فتح الباري 12/98: صيانة، بدل وقاية. وفي العلم الشامخ للمقبلي ص: 143 كذلك ونسب الجواب للشريف الرضي. قال مصححه: عز الأمانة ... دل الخيانة ...... وقارن بمنح الجليل للشيخ عليش 4/521- وحاشية الشرقاوي 2/432.(1/180)
قال: فأقواها حفظ الأديان، وأضعفها حفظ الأموال، فإذا تعارض حفظ الأديان بحفظ الأموال، فمراعاة حفظ الأديان أولى، ويسقط الأبدان وما بعده حفظ الأموال، فمراعاة حفظ الأبدان وما بعده أولى من حفظ الأموال من حيث الجملة. وهذه المسألة من هذا المعنى.
أقول: مراده أنه لما كانت أموال في المرتبة الأخيرة، كان حفظ جميع ما قبلها أكد منها، فتحفظ تلك الأمور كلها بالمال. فهذا نص أن العقوبة المالية تكون في جميع ما قبل. المال من الكليات المتفق عليها، فشرع الخطايا لحفظها. فعلى هذا تكون الخطايا في الردة والقتل والجرح وشرب الخمر والزنا والقذف.
والكلام على هذا، مع ما فيه من الفضائح، وأخذ المال في الجميع اما مع الحدود أو دونها، ومراغمة الشرع بكل وجه، وفساد الحكمة من الردع بالأهون والأخف على النفوس من الأصعب والأشد عليها. وهو، كما سبق غير مرة، ينقلب سببا لوقوع الفساد وكثرته، فإن النفس تفدى بكل شيء، ولا شك أن كثيرا من العلم يضر كثيرا من الناس، كما تضر رياح الورد بالجعل.
ويعمي بصائرهم، كما يعمي الخفاش نور الشمس، فليث الإنسان إذا حاول أمرا، فصعب عليه تركه، واشتغل بما يقدر عليه، فالعلم رحمة قسمها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى غيره، والفهم نور الله الذي يمد به من يشاء من عباده، كما قسم الأرزاق سبحانه: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون"(1).
ولله در الأصمعي، فإنه رغب إلى الخليل في تعليم العروض، فزاوله معه، فرأى بعدا عن فهمه، فقال له يوما كيف تقطع:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع(2)
فترك ذلك.
__________
(1) : سورة الزخرف، الآية: 32.
(2) : في كتاب المستطرف للأبشيهي: إذا لم تستطع أمرا ....1/48.(1/181)
وهذا سمع الناس يقولون: عن حفظ الأديان آكد، ثم الأبدان، إلى آخرها .. أي إذا نزل أمران، ولم يوجد من أحدهما تخلص، اختير الأدنى على الأعلى، وتكون مصيبة يصبر عليها. كما إذا ملكان، أحدهما كافر والآخر سفاك أو ظالم، فإنه يطلب الفرار إلى الظالم عن الكافر. فتوهم أن مرادهم أنه شرع الأدنى زاجرا للأعلى، فشرع هو العقوبة المالية لحفظ الجميع، أي جميع ما قبلها من المفاسد، وهذا غير معقول، كما سبق. ثم لايغنيه، فإن مفسدة المال أيضا، تحتاج رادعا، ثم هو جعل القتل في المحارب، والقطع في السارق لحفظ المال، فالمال في آخر الرتب، فإذا كان الزاجر عنه شرعا العقوبات البدنية لا المالية، فكيف ما هو أهم منه؟.
قال: القاعدة الثالثة: تقابل الضررين، فينفي الأصغر الأكبر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا التقا ضرران نفى الأصغر الأكبر"(1).
أقول: الذي يجب، ومضى عليه العمل، التحرز والتحصيل، لا يقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما صح عنده. ثم إن قاعدة نفي أصغر الضررين لأكبرهما ألا تطاول بالكلام على هذا الاستدلال، فإنه إنما يلزم ارتكاب أخف الضررين، إذا كان لا محيص عنهما، وضرر إخراج المال عن الحدود والجنايات على غير ضمان المتلف أمر لم يضطر إليه، وكفى الله عنه بما شرع من الحدود والزواجر.
ثم هو لا يفيد ـ كما سبق غير مرة ـ الا اغراء على الشهوات وضروب الجنايات، فان المال ليس مقصودا لنفسه، وإنما هو لتحصيل اللذات، ودفع الآلام.
قال: القاعدة الرابعة الرخصة، وهي ارتكاب المحظور مع قيام المانع للضرورة.
أقول: ماهي الضرورة التي الجأت إلى استباحة (38 = 203/أ) الأموال من غير وجهها، والتصرف لشرع الغرامات في غير محلها؟، فما شرعه الله اتم رادع.
__________
(1) : لا يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، وإنما هو قاعدة فقهية صاغها الفقهاء. انظر: إيضاح المسالك للونشريسي. قاعدة: 101 – ص: 370.(1/182)
قال: وبيان هذه الجملة في مسائل نذكرها على مذهب مالك في طريقته، مع أحاديث نبوية، فمنها: رمي الترس. وهي إذا تترس الكفار بأسارى المسلمين، ويخاف على جيش المسلمين أن لم يرموا بالنار، على ما نص عليه اللخمي. وكذلك قطع الماء أو إرساله، والرمي بالمنجنيق، ووفيهم النساء والذرية، على ما قيل في ذلك. ومنها: الإلقاء بالقرعة من السفن، أن خيف عليهم الغرق، وان كان الغزالي لم يرتض هذا، لكونهم في معينين(1).
أقول: إن كان المقصود من هذا إثبات عقوبة الجناة بالمال والاستدلال عليه، فقد بينا من قبل أن الاستدلال والاجتهاد في مواضع النص والإجماع وبعد النسخ باطل. وقد بينا أن العقوبات الشرعية في تلك الجنايات التي جعلها المملي فرض المسألة، وكذا النهي في الموانع ثبتت كلها بالقواطع. فلا مدخل للاجتهاد فيها، لمن ثبتت له أهلية الاجتهاد، فضلا عمن لم تثبت له.
وإن كان القصد الاستدلال على أن مالكا يقول بإفساد الثلث في صلاح الثلثين، فقد قدمنا أن الروايات عن مالك بنقيض ذلك في مسألة التغريق والتحريق للحصن أو المركب يكون فيه مسلم أو فيه ذرية المشركين ونساؤهم. قال القاضي أبو بكر بن العربي في مسألة السفينة: "هذا ما قاله مالك قط، ولا أحد من أصحابه، بيد أن القوم لما سمعوا أن مالكا يقول بالمصالح ألزموه هذه الصورة ولا تلزمه، إنما ترمي من السفينة الأموال لصيانة الأنفس، أما رمي الأنفس لصيانة الأنفس فلا تشرع صيانة نفس بنفس. ولذلك قلنا: إذا أكره رجل، لزمه أن يصبر على البلاء، ولا يفدي نفسه بقتل ذلك المبتلي". صح من كتاب الاستشفاء.
__________
(1) : المستصفى 1/296 – 302-303 وانظر: شرح الزرقاني على المختصر ومعه حاشية البناني 2/114.(1/183)
قال بعض أئمة الشافعية: مسألة سفينة هذه مما تساوت فيه رتب المفاسد، فإذا اغتلم البحر بحيث ركبان السفينة لا نجاة لهم إلا بتغريق شطرهم لتخف السفينة، فإنه لا يجوز إلقاء واحد منهم بقرعة ولا بغيرها، لأنهم مستوون في العصمة، وان أدى ذلك إلا إهلاك الجميع. نعم، لو تفاوتت رتب المفاسد، قدمنا الأخف فالأخف، كما أنه إذا كان في السفينة مال وحيوان محترم، فإنه يجب إلقاء المال ثم الحيوان المحترم دفعا لمفسدة إتلاف الآدميين.(1)
فإن قلت: ما نقله، وإن لم يكن قول مالك، فهو قول من اخذ بمذهب مالك والتف على طريقته.
قلت: عن هذا أجوبة:
الأول : اختيارات اللخمي كثير منها خرج فيه عن مذهب مالك، فلا يثبت باختياره قول مالك، ولا جرى على طريقته، وقد علم منه ذلك(2).
الثاني : أن اللخمي لم يقطع بذلك، وإنما قال: أرجو.
الثالث: إن اللخمي لم يقل بذلك، إلا إذا كان العدو طالبا بجيش المسلمين، واضطروا إلى الدفع عن أنفسهم، والقتل في قتال الدفع لا حرج فيه، وأما لو لم يتبعهم العدو وإنما أرادوا افتتاح حصنهم، أو أخذ سفينتهم، فليس يباح لهم أن يصنعوا ما يؤدي إلى قتل مسلم اتفاقا.
__________
(1) : قواعد العز بن عيد السلام 1/82 – والغرر البهية للأنصاري 5/124 – 125- ومغني المحتاج 4/224 – وعبر عنه قريبا من هذه العبارة ابن قيم الجوزية في مفتاح دار السعادة 2/20.
(2) : ترتيب المدارك 8/109.(1/184)
الرابع: إن هذا الذي قاله اللخمي، انفرد به وأنكر عليه كل المحققين. ففي كتاب التنبيه: "ولاشك أنه متى خالطهم ذرية أو مسلمون، فإنا لانحرقهم، إلا أن يخاف على المسلمين في مسألة الذرية، فإن خفنا وخالطهم مسلمون فلا نحرقهم. ورأى أبو الحسن اللخمي أنه متى خفنا على جماعة كثيرة، وقل من معهم من المسلمين، فأن نحرقهم"(1). وهذا لعل رأيه في الشرح، من السفن بالقرعة إذا حقت الضرورة إلى طرح الرجال. وهذا مما انفرد به، وقد أنكر عليه كل المحققين، لتساوي الحرمة، ولا نظر (39-204/أ) في الكثرة والقلة، فإن كل إنسان في نفسه محترم، ولا يفيده بقاء العالم.
والذي وقع للتونسي، هل الخمي في ذلك أنه جعلها محل نظر؟، شرط أن يكون المسلمون أهل الجيش وعدد كثير، والذين في الكفار من المسلمين الاثنان فقط، وفي هذا يقول اللخمي:
أرجو، لأن عادته أن ما يجعله التونسي محل نظر يقول به هو، فتارة يصادف صوابا، يخرج باختياره عن المذهب، مع أن الشيخ نقل من الواضحة أنه لو كان الاسرى بركب العدو، ورمونا بالنار، فإنهم يرمون بها عند أشهب، خلافا لابن القاسم. وما تقدم عن مالك في الحصن أو المركب يكون فيه أحد من المسلمين، فظاهره كان العدو طالبا للمسلمين أو لم يكونوا طالبين.
__________
(1) : التنبيه على مبادئ التوجيه لابن البشير ص: 246 – (نسخة الخزانة العامة).(1/185)
فحاصل هذا الفعل أنه إذا لم يكن العدو طاليا للمسلمين وفيهم مسلمون، فلا يمرمون بالنار ولايغرقون، قولا واحدا إجماعا، وان كانوا طالبين لنا، لم نجد ملجأ للدفع إلا بما يخشى منه هلاك من معهم من المسلمين وهم قليل، فهذه هي التي جعلها التونسي محل نظر، وقال اللخمي فيها: أرجو. ومذهب مالك وأصحابه المنع. وأجاز أشهب أن يرموا بالنار أن رموا بها. وقال ابن شاس(1): "ولو تترس كافر بمسلم، وخفنا على أنفسنا، لم نرم، ولم نقصد الترس، لأن دم المسلم لا يباح بالخوف. ولو تترسوا في الصف، أن تركوا انهدم المسلمون، وخيف استئصال قاعدة الاسلام، أو جمهور المسلمين، وأهل القوة منهم، وجب الدفع، وسقطت حرمة الترس. والذي نقله ابن الحاجب: انه ان كان ترك الترس يؤدي إلى هلاك كل الأمة لا جمهورها، ففيه خلاف للشافعية، يتلخص أيضا أنه على القول بالدفع عند الاضطرار لا لقصد المسلم، وإنما يقصد الدفع، وأما قتل المسلم لاحياء أكثر منه، أو لجلب مصلحة لأكثر منه، لا على معنى الدفع عن النفس، فهذا لم يقل به أحد. أما القائل بالدفع فلا يقول بقصد المسلم بالقتل، وانما أباح الدفع، ولو أدى إلى قتل مسلم، كما يباح الدفع للباغي، ولو أدى إلى ذلك وقد يكون مراده بالبغي المال، وانتهاك حرمة دون النفس، والدافع لايقصد قتل الباغي، وإنما يقصد دفعه، فإن مات في أثناء الدفع".(2)
__________
(1) : هو نجم الدين الجلال أبو محمد بن محمد بن شاس الجذامي السعدي. من بيت امارة وجلالة واصالة. الفقيه العمدة المحقق. الف الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة علم ترتيب الوجيز للغزالي، دل على غزارة علم. اختصره ابن الحاجب، توفي سنة 610هـ. شجرة النور 165.
(2) : قارن بالبيان والتحصيل 3/28 –44-52 – وتبصرة الحكام 2/194.(1/186)
والحاصل في هذا كله، أنه ليس في الشريعة قتل مسلم لاحياء مسلمين ولا أكثر، ولا بمصلحة من كان أكثر، وأما في الدفع عن النفس فأمر آخر. قال الامام القاضي أبو بكر بن العربي ـ رحمه الله ـ: "الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لايجوز، فكيف بالمسلم. وإنما كان ذلك في يونس عليه السلام مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه، فانه لا يجوز لمن كان عاصيا أن يقتل ولا أن يرمي به في النار والبحر، وإنما تجري عليه الحدود والتعزيز على قدر جنايته. وإنما وقفت السفينة وأشرفت على الموت، فقالوا: هذا من حادث فينا، فلم يتعين، فسلطوا عليهم مسبارا لأشكال، وهي القرعة، فلما خرجوا بالقرعة إليه مرة بعد أخرى، علم أنه لا بد من رميهم إياه، فرمى هو نفسه، وأيقن أنه بلاء من ربه، ورجا حسن العاقبة. وظن بعض الناس أن البحر إذا هال على قوم، واضطروا إلى تخفيف السفينة، أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفا، وهذا فاسد، فإنها لا تخف برمي بعض الرجال، وإنما ذلك في الأموال، ولكنهم يصبرون على قضاء الله".
فتبين أنه لا حجة فيما جلبه على أخذ الخطايا، وليست مما يصح إقامة الدليل عليه، لمعارضة ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا على ما استطرده، وذكر من فساد الثلث في صلاح الثلثين.(1/187)
ولا حاجة بنا في الجنايات، ولا ضرورة إلى أخذ الأموال، قد شرع الله ورسوله فيها من الحدود والتعزيرات ما هو أردع من أخذ المال، لو كان أخذ المال رادعا. لكنا بينا أنه انقلب باعثا، فلم يبق إلا محض الشهوة وحب الدرهم (40=204/أ) والدينار. سلط الله عليه من سلط تلك الشهوة على أن يتوسل إلى جمعه بأدنى شيء، أو بلا شيء مصور في صورة شيء، فهو بلاء يصبر عليه، كما قال الله تعالى: "لتبلون في أموالكم وأنفسكم"(1)، فما للمفتي والافتاء بجوازه، وإيهام حليته، ليزدادوا إقداما على البلاء بفتواه. وفي العبارة والمعنى ومصادمته للمنقول من خارج في هذه الجملة التي تكلمنا عليها، لأن من كلامه ما لا يخفى على المتأمل، فرأينا التشاغل به من العناء.
قال: ومنها ما ذكرناه عن أبى عمران: إذا قال الأمير لرجل اضرب هذا خمسين سوطا وإلا ضربت عنقه، فإنه يضرب به خمسين سوطا من باب تقليل المفسدة.
__________
(1) : سورة آل عمران. الآية : 196.(1/188)
أقول: ولعله سرى إلى ذهنه أن من حصل، ان لم يفتد منه بالمال، سلط عليه أنواع العذاب، من القتل فما دونه، فأراد أن يبين أن الافتاء بالمال من بلاء أعظم منه جائز. وهذا شبه ما إذا طلب الشيء الخفيف، فإن كان أراد هذا فالأمر خفيف، وهو من دفع الجنايات. وفي أي معنى اشتركا؟، وما تحرير هذا القياس؟، وأين أركانه؟، اما يفرق بين الإقدام على الشر ظلما، كإقدام الأمير على الضرب أو القتل، وبين أن يقول الفقيه للأمير: كل مال هذا إذ جنا ليرتدع؟. ما أبعد باب دفع البلاء النازل ممن لا يلتفت إلى قول قائل، ولا يتوقف على حكم من الله نازل، من أمر يشرع لغير فاعله من غير حاصل. ثم يقال له: إذا شرعت هذا الزاجر بزعمك المالي، أتوجب ذلك أم تجعل الوالي فيه بالخيار، ان شاء أن يأخذ المال أو يترك فإن زعمت أنه يجب عليه ذلك فالاجماع أنه لا يجب وإن زعمت أنه فيه بالخيار، خالفت قاعدة الزجر، لأنه واجب المفاسد، ولا يحل تركه إلا حيث خفف الشرع أمره، فلم يوجبه. كذي المروءة يهفوا الهفوة، ويعثر العثرة.
فان قلت: انه مخير بين العقوبة بالمال أو البدن.
قلت : فالعقوبة بالبدن تكفي إذن، ولاضرورة لأخذ المال. وإذا كانت كافية، فمن أين أبحث أخذ المال من الجاني، والأصل تحريمه؟. أكنت قبل هذا تزعم أنه لازاجر غيره، ثم بدا لك أن ثم زاجرا آخر، وهو عقوبة البدن؟، أم كنت إلى الآن في نوع ووسن؟، أم طغى على عقلك الهوى حتى خالفت في حكم منزل الفرائض والسنن.
قال: ومنها من وجب عليه قصاص، وهو في جيش بأرض العدو، ويخاف على الجيش أن اقتض منه، فإنه يوخذ إلى بلد الإسلام.(1/189)
أقول: في كتاب القطع في السرقة من المدونة "ويقيم أمير الجيش الحدود ببلد الحرب على أهل الجيش في السرقة وغيرها، وذلك أقوى له على الحق"(1). وإنما وقع السؤال عن هذا لحديث بشر بن أرطأة بن أبي أرطأة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لاتقطع الأيدي في الغزو"(2).
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "تكلم الناس فيه، وقيل: طعن يحيى بن معين فيه، وغمزه الدارقطني. واختلف الناس فيه على قولين: أحدهما: رده لضعفه، والحكم بعموم القطع على كل سارق، وحيث كان من البلاد. والثاني: قبوله واختلف في تعليله على وجهين:
الأول: أنه لا تقطع يد من سرق في الغزو أي من الغنيمة، لأنه شريك بسهمه فيه، كذلك ان زنى، لايحد. وقال عبد الله: ان كان في الذي سرق من الغنيمة مكا يزيد ربع دينار على نصيبه، قطع. قاله ابن الماجشون وغيره.
الثاني: انه لا يقطع، لئلا يفر إلى العدو، ويكون ذلك على معنى تأخير الحد، خوف وقوع ما هو أعظم منه، قاله الأوزاعي. وهذا ما لا أعلم له أصلا في الشريعة، والحدود تقام على أهلها، كان فيها ماكان ومثل هذه التقية لا تراعى في الآحاد (41=204/ب)، وإنما تراعى في العموم لما يتقي فيه من العصبية وترامي الحال، كما يقال في أحد التأويلات: أن عليا رضي الله عنه إنما أخر القصاص عن قتلة عثمان طالبا لوقت يتوطأ فيه الحال حتى يتمكن منهم دون عصبية"(3).
قال: وليس يعارض لما وقع في المدونة: أن أمير الجيش يقيم الحدود بأرض العدو، ومعناه أن أمنت المفسدة.
أقول: قد تقدم من كلام القاضي أنه لم ينسب ذلك إلا للأوزاعي. وقوله: لا أعلم لهذا أصلا في الشريعة، إلى آخره...
فانظر هذا المقر بأمن المفسدة، أي مفسدة يعني، المفسدة العامة أم الخاصة؟. وبذلك قال المملي لهذا التقييد.
__________
(1) : المدونة 4/425.
(2) : رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. انظر: نيل الأوطار 7/137
(3) : عارضة الأحوذي 6/231-232.(1/190)
ثم أقول: هذا وإن صح، فلا متمسك فيه للمعنى المقصود من هذا الإملاء، وهو توظيف الأموال على الجناة، فإنه ليس منها. وإن أريد الاستدلال به على فساد الثلث في صلاح الثلثين أيضا، فليس منه. وان أريد الاستدلال على المصالح المرسلة، فمالك وان كان يقول بها، فليس هذا منها، لأن المرسل ما لم يعتبر. وإقامة الحد إذا أدى إلى إضرار الغير، الحكم بتأخيره له شاهد من تأخير حد الحامل والمرضع إذا خيف ضياع الولد. وكذلك إذا كان الحد يقضي إلى ما لم توجبه الجناية، فإنه يؤخر أن رجي زوال المانع بالتأخير، ويسقط أن لم ترج. فالاول: كمن سرق في شدة البرد فخيف عليه الموت في القطاع، واختلف في شدة الحر على أنه متلف أو لا. والثاني: المرض المخوف، والضعيف الجسم يخاف عليه الموت، يسقط الحد، ويعاقب ويسجن، وان كان القطاع عن القصاص، رجع إلى الدية. وكذلك من وجب عليه حدان، فخيف عليه من جمعهما، ونحو ذلك.
قال: ومن هذا المعنى: إذا بعث القاضي رجلا لسجن، ويعلم أنه لايوصل إليه إلا بالدراهم، وقال: لابد للقضاة من هذا.
أقول: هذا هو الفرع الذي احتج به المملي المذكور في المجلس الذي كان أصل هذه المسألة على جواز العقوبة بالمال، وهو في غاية السقوط عن درجة الاستدلال. لان القاضي إنما حكم بالسجن على من وجب عليه السجن لمن وجب له، ولم يحكم بغرم الدراهم، ولا أمر به، ولا يقدر على منع المظلومين أن كانت الدراهم تؤخذ منهم في ذلك ظلما. وان كان المراد أجرة موصلة إلى السجن فالأول أن أجرة العون في ذلك وغيره من بيوت الأموال، فإن لم يفعل من هي بيده، كانت أجرته على القاضي، فإن لم يفعل أو تعذر عليه، كانت على رب الحق.
قال: وكذلك من لد وبعث له الأعوان، ان اجارته عليه.(1/191)
أقول: قد قدمنا هذه المسألة(1)وانكار أبي عبد الله محمد بن الفخار على أن الملد يغرم أجرة العون. فان اللدد معصية، والمعاصي لاتحل مال العاصي. قال: ولا أعلم ذنبا من الذنوب يحل مال المذنب إلا الكفر. وان من قال: انه لايغرم الملد، فليس عذره من جهة العقوبة بالامل اتفاقا منهم، ولا خالف ابن الفخار أحد منهم، أي من مخالفيه، فيما احتج به من أن المعاصي لا تحل مال العاصي، إلا الكفر، على تفصيل فيه. وإنما نزاعهم معه في أن هذا ليس من باب إحلال مال المذنب بالذنب، وإنما هو من باب غرم المتلف. والإتلاف كما يكون بالمباشرة يكون بالتسبب. وهذا قد تسبب بلدده وتغيبه في اغرام غريمه أجرة العون.
فان قلت : ما الصواب من هذا الخلاف.
قلت: الملد وان تسبب، فلم يتسبب بفعل وإنما تسبب بترك الانقياد إلى الحكم، فيردد النظر أولا في أن الترك فعل أم لا؟. ثم إذا تحقق أنه فعل، فيبقى النظر في هذا اللدد هل يسوغ له؟، ولا شك أنه يحرم عليه، أن كان الحق جليا، وكان هوبما يطالب به مليئا، والحاكم المدعو إليه (42-205/أ) من حكام العدل. فان تبين مثل هذا، فالصواب ـ والله أعلم ـ اغرامه، لأنه ظالم بلدده. وان كان له عذر ظاهر من عدم، ويخاف أن يسجن، إذ لا يعرف عدمه، وكان طالبه آخذا له شهادة زور مثلا، أو كان الحاكم من حكام الجور فخاف سطوته، أو غير ذلك. من الاعذار، فلا غرم عليه. وان لم تعرف حقيقة الأمر في ذلك، فالأصل عصمة مال المسلم، فلا يباح بالاحتمال والشك، إذ لايرتفع اليقين إلا بيقين(2). والله سبحانه أعلم.
__________
(1) : انظر : ص : 745.
(2) : قارن هذه الفقرة مع شرح نظم العالم الفاسي للسجلماسي 2/429 فقد نقلها بالحرف.(1/192)
قال: وكذلك سمعت من شيخنا الفقيه المحدث الراوية الرحال أبي عبد الله بن محمد بن مرزوق التلمساني(1)ـ رحمه الله تعالى ـ فقال في مجلس تدريسه في حدود عام سبعين وسبعمائة (770هـ) أو قبل ذاك، عند قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا اماء الله مساجد الله"(2)من حديث عائشة رضي الله عنها. قال: أن الشيخ "أبا الحسن الصغير(3)ـ رحمه الله ـ ولي قضاء فاس، وكان نساء البلد يخرجن كثيرا، فجعل أعوانا في كل شارع يمنعون النساء من الخروج، فخاف مفسدة مباشرتهن من الأعوان، فجعل محابس من الغراء في كل شارع يلطخون أكسية من جاز من النساء بها، فانتهين عن ذلك، ورآه من العقوبة بمفسدة المال.
أقول: بل رآه من باب شهرة أرباب المخالفات، إذا تمادوا عليها، بعلامة يعرفون بها، وهو نوع من الردع مشروع في حق من لم يرعو، وله أصول في السنة، وليس فيه شيء مما قاله المملي، وهو أنه يؤخذ بعض مال الجاني فيوضع في بيت المال، أو يحبس عنه إلى أن يتوب وتحسن حاله، أو يتصدق به. وليس فيه كبير إفساد في المال، وليس هو المقصود، إنما المقصود شهرتهن ليرتدعن، وما يصيب الاكسية من الغراء يزول بالغسل.
__________
(1) : تقدمت ترجمته .
(2) : رواه احمد وأبو داود انظر: نيل الاوطار 3/130.
(3) : القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الحق الزرويلي، عرف بالصغير. الامام الحجة في التحقيق والتحصيل. كان إليه المفزع في المشكلات والفتوى. أخذ عن راشد بن أبي راشد، وابن مطر وغيرهما. له فتاوي قيدها عن تلاميذه. توفي سنة 719 هـ. انظر شجرة النور ص: 215 – شرف الطالب لابن قنفذ 77 – وفيات الونشريسي 102-103 درة الحجال 3/243.(1/193)
قال: ومنها ما حكاه ابن الصيرفي في تاريخ لمتونة(1)أن ابن العربي أوتي بزامر في أيام قضائه فثقب شدقيه حتى أفسد الهواء، ولعله أخذه من قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في نزع ثنية ابن عمرو حين أسر يوم بدر، وكان خطيب قريش، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لعله يقوم مقاما يسرك يا عمر"، فقام بمكة حين بلغتهم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فخطب كخطبة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بالمدينة، وأمسك الناس عن الردة. ولابن العربي أحكام شديدة استنبطها من الأحكام المرسلة، حتى أدت إلى قيام العامة عليه.
أقول: (الأول)(2)أما نسبة القول بالمصالح المرسلة إلى مذهب مالك، فقد علمت ما فيه من الخلاف. والظاهر أن ابن العربي إنما اعتمد في تقويل مالك بها على ما في البرهان لإمام الحرمين فقط. فإنه قد ذكر في كتاب الاستشفاء الذي له في القياس أن أهل المذهب أنكروا ذلك من مالك، وأنكروا أن تدل مسائله عليه، حتى أغرب هو عليهم بما في البرهان.
__________
(1) : أبو بكر يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري، ابن الصيرفي. مؤرخ وشاعر مجيد من أهل غرناطة. ألف تاريخ الدولة اللمتونية، وكان من أعيان شعرائها ومداح أمرائها. قال ابن الآبار في وصف تاريخه، مفيد، قصره على الدولة اللمتونية. سماه في دليل مؤرخ المرغب الاقصى ص:125 : الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية. توفي بأريولة سنة 557 هـ. التكملة لابن الابار 723 المغرب في حلى المغرب 2/118 الاعلام 8/164-165.
(2) : لم يذكر هذا الترتيب في النسخة، وإنما أثبتناه ليسهل تتبع الترتيب الذي بعده.(1/194)
وصاحب البرهان لم يقطع به قول مالك، إنما قال: نقل عن مالك الأخذ بها(1)وهذا بناء من صيغ التمريض، والتحري نسبة القول إلى مالك، ولكن ابن العربي ادعى أن مالكا يقول بها، وجلب مسائل كلها أو أكثرها لم يقل فيها مالك برأيه. ونحن لاننكر أن مالكا يقول بهذا الأصل من المصالح المرسلة، ولاندعيه له على التحقيق، ولكن أكثر أصحابه على انكاره، إذ لايوجد في تآليف المالكية، وإنما تبع ابن العربي فيه ماقاله الامام في البرهان على صيغة التمريض. لكن ابن العربي كلامه يقتضي تحقيقه لذلك من مذهب مالك، وثبوت هذه القضية عن ابن العربي بمجرد وجود ذلك في تاريخ تقويل ابن العربي، فيه نظر، لأنه لا يحل نسبة القول إلى قائل بمجرد ذلك. لكن المملي قد نسب إلى المهدي من قبل أن عقوبة أهل الجنايات ذوات الحدود بالمال من مذهبه، بقوله: وقد يكون ذلك من بقايا رسومه.
فهذا وجه من الاعتراض على هذا النقل.
الثاني: أن ابن العربي لم يصادم نصا من نصوص الشريعة على تقدير أن (43-205/ب)يثبت ذلك عنه، وهو قد قال في غير موضع أن شرط الاجتهاد بالمصلحة وغيرها أن لايكون الحكم منصوصا، كما هو معلوم من القواعد. وعقوبة المشتهر بالغناء غير محدودة، أما أنتم فقد اجتهدتم في مجال النصوص، رمتهم زيادة على المشروع، أو تبديلا فيه.
الثالث: أن ابن العربي قد سلم له رتبة الاجتهاد، أم أنتم فلا تدعونها ولا تدعى لكم.
الرابع: انه اجتهد في عقوبة بدنية بإفساد آلة المنكر على من لا يرعوي بدون ذلك. والعقوبات البدنية لا نزاع في مشروعيتها ابتداء، ثم في عدم نسخها، بل الصحيح والحق، انها أن كانت، فهي منسوخة.
__________
(1) : في البرهان 2/873 – فقرة: 1499: وقد اشتهر مذهبه في استعلامات مرسلة يراها، وقارن بالاعتصام للشاطبي 2/132-133- والمحصول 2/ق 3/222 – 225.(1/195)
الخامس: أن تعطيل آلة المنكر، كأيدي السراق والمحاربين وأرجلهم، أمر معهود، فهذا مما اعتبر جنسه في جنس الحكم. أما أنتم فلا تجدون من الشرع اعتبار اغرام المال زاجرا عن الفواحش البتة.
استدلال البرزلي على المسألة بأدلة شرعية والجواب عنها
الأول: الحديث : "لقد هممت أن أخالف على أقوام فأحرق عليهم بيوتهم .."
قال : وأما العقوبة بالمال، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم "لقد هممت أن أخالف إلى أقوام فأحرق عليهم بيوتهم لتركهم الجمعة"(1). ولا يهم إلا بحق.
أقول: الكلام عليه وجوه
الأول: هذا أيضا نوع من الاجتهاد، فيطالب بحصول رتبته، وليس لمفتي المذاهب استنباط الأحكام من الأحاديث، لا سيما أصحاب مالك. وقد علموا أنه ترك أحاديث كثيرة قدم العمل عليها.
الثاني : إن هذا خرج مخرج الوعيد والتهديد وتقبيح التخلف على فاعله، فيؤخذ زبدة الأمر الذي سبق الكلام له فقط. ولذلك أخذ منه العلماء بالأخف إذا أمكن.
الثالث: أن عبارة ابن رشد وغيره من أئمة المذاهب أنهم يقولون: العقوبة في المال لا بالمال أي في المال الذي عصى الله في، لا أنه زاجر عن معصية أخرى.
__________
(1) : انظر: فتح الباري 2/125 و 5/74 – وصحيح مسلم بشرح النوري 5/153 – وبشرح الابي 2/322 ومعالم السنن 1/378 – وشرح سنن النسائي لسيوطي 2/107 – والمنتقى للباجي 1/222 – ونصب الراية 2/22 – ونيل الأوطار 3/123 – والهداية لاحمد بن الصديق 1/141.(1/196)
الرابع: أن إخراجهم إلى الصلاة واجب، فإحراق البيوت عليهم ليس المقصود منه إتلاف المال، إنما المقصود إبرازهم وإخراجهم عن التستر بالبيوت، حتى إذا برزوا حملهم ذلك على شهود الصلاة، وليس هذا من العقوبة في المال ولا به. وإلى هذا ذهب البخاري ـ رحمه الله ـ فإنه ترجم عليه باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة.(1)وأين هذا من إنسان يجني جناية، فيها حد أو لا حد فيها، أجنبية عن المال، فيغرم مالا ويترك.
الخامس: إن هذا الذي هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي تحريق البيوت عليهم وهو فيها، يدل على أنهم منافقون، ولأنه لاتسمح نفس المومن بترك الصلاة خلفه صلى الله وسلم. والدليل عليه أن في بعض طرق الحديث: فأحرق بيوتا على من فيها، ولا يقول أحد من العلماء: أن تارك الجمعة والجماعة يقتل، فدل على أنه غير معمول به، بل منسوخ.
قال القاضي عياض: قال الإمام: فيه العقوبة بالمال، قال القاضي: قال الباجي: ويحتمل أن يكون شبه عقوبتهم بعقوبة أهل الكفر في تحريق بيوتهم، وتخريب ديارهم(2)وقد ذكره غيره.
والإجماع على منع العقوبة بتحريق البيوت إلا في المتخلف عن الصلاة، ومن غل من المغانم، ففيه خلاف. لكن قوله: عليهم، دليل على أن العقوبة ليست قاصرة على المال، ففيه قتل تارك الصلاة متهاونا، وقد نقل الإجماع في ذلك سراح الأمة أبو حفص عمر الأنصاري(3)في شرحه لكتاب البخاري، قال: وفيه العقوبة بالمال، وعزي إلى مالك، وكان في أول الإسلام ثم نسخ عند الجمهور(4).
__________
(1) : فتح الباري 5/74- كتاب الخصومات – باب 5 – ح : 2420.
(2) : المنتقى للباجي 1/230.
(3) : أبو حفص عمر بن محمد، شهر بالعطار، الفقيه الامام العالم الصالح، كان من أقران ابن محروز أبي إسحاق التونسي. توفي بالقيروان. انظر: شجرة النور 107.
(4) : قارن بفتح الباري 2/130- وانظر شرح النووي لمسلم 5/153.(1/197)
السادس : إن إحراق العاصي ليس في الشرع بوجه، فدل على أن الحديث أيضا غير معمول به فيما أردت استخراجه منه.
السابع: عن التعذيب بالنار منسوخ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال (44=206/أ) لسرية سرة بها:"إذا ألقيتهم فلانا وفلانا، فأحرفهما بالنار، وأنه لا يعذب بالنار إلا الله، فإن ألقيتموهم(1)فدل هذا صريحا على أن الحديث منسوخ، لا يصح الاستدلال به(2).
الثامن: أئمة عدة من العلماء الراسخين نصوا على أن العقوبة بالمال ان كان وقع ومنها شيء فهو منسوخ، فراجعه حيث تكلمنا على قوله: تجري على المصالح المرسلة(3).
الثاني : الحديث: "من غل فإنه يحرق رحله"
قال: ومنها، قوله: "من غل فإنه يحرق رحله".
أقول: هلا قال: صلى الله عليه وسلم، ان كان أراد الحديث. وهل عدل عن لفظ قوله الذي يدل على أنه حكى لفظ الحديث؟، وهل صلى الله عليه وسلم نقله بهذا اللفظ، ولا نقل عنه؟. وإنما لفظ الحديث:"إذا وجدتم الرجل الذي قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه" وفي بعض ألفاظه: "واضربوا عنقه، واحرقوا متاعه"(4).
__________
(1) : فتح الباري 6/149 – كتاب الجهاد – باب 149 – ح: 6/30 – وعرضة الأحوذي 7/66 – كتاب السير باب 20 – وبذل المجهود 12/24 – كتاب الجهاد – ح: 2673 – ومسند أحمد 2/307-338 – وانظر نيل الأوطار 7/248.
(2) : أخبار أهل الرسوخ لابن الجوزي ص : 7 ح: 20.
(3) : انظر : الصفحة 746 ومابعدها.
(4) : شرح صحيح مسلم للنووي 12/217 – وشرح الأبي 5/175 – ومعالم السنن 5/39 – وعارضة الاحوذي 7/69 – وتحفة الاحوذي 5/29- وبذل المجهود 12-291 ومسند احمد 1/22 – والتمهيد 2/22 – والمنتقي 3/303 – والمستدرك للحاكم 2/127 – والسنن الكبرى 9/103.(1/198)
قال جماعة من الأئمة، منهم الشيخ أبو محمد عبد الحق الاشبيلي(1)، والقاضي أبوالفضل عياض والنووي، واللفظ لعبد الحق: "هذا حديث يدور على صالح بن محمد، وهو منكر الحديث، ضعيف لا يحتج به، ضعفه البخاري وغيره.(2)
وفي المنتقى للقاضي ابي الوليد الباجي:"فان ظهر على الغال، أدب وتصدق برحله، قاله محمد عن مالك. وأنكر مالك أن يحرق رحله. وبه قال أبو حنيفة والشافعي"(3)وقال أبو عمر بن عبد البر في استذكاره: "وقال اللييث والشافعي: لايحرق رحله، ويؤدب أن كان عالما بالنهي. والحديث الذي جاء: من غل فاحرق متاعه، انفرد به صالح بن محمد بن زائدة، وليس ممن يحتج بحديثه"(4).
وفي الاكمال:"جمهور العلماء، وأئمة الفتوى، وفقهاء الأمصار أنه يعزر بقدر اجتهاد الإمام، ولا يحرق رحله. ولم يثبت عندهم الحديث، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل الذي وجد عنده الخرز ولا رحل الذي وجد عنده العباءة. ونقل عن مكحول والحسن والأوزاعي أن رحله يحرق، على تفصيل. ثم قال الطحاوي: لو صح حديث ابن عمر، لحمل على انه كان إذ كانت العقوبة في المال، كما جاء في التضعيف على مانع الزكاة، وضالة الإبل، وسارق التمر، وذلك كله منسوخ"(5).
__________
(1) : أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الاشبيلي، يعرف بابن الخراط. الامام الحافظ العالم بالحديث وعلله. نزل بجابية وأخذ عنه علماؤها. له الأحكام الكبرى والصغرى في الحديث وكتاب المعتل في الحديث وغيرها. توفي بجباية سنة 581هـ. شجرة النور 156.
(2) : تهذيب ابن القيم 5/39 – وبذل المجهود 12/292 – وفتح الباري 6/187 – وتهذيب التهذيب 4/401 والتمهيد 2/22 – والمنتقى 3/203 – 204 وعارضة الاحوذي 7/69 –70 والهداية 6/70-72.
(3) : في المنتقى 3/204 : "وان ظهر عليه قبل أن ينفصل منه فإنه يؤدب ويتصدق بمثله. قال مالك في كتاب ابن المواز.
(4) : الاستذكار 14/208 – وقارن بالتمهيد 2/22.
(5) : راجع الصفحة : 742.(1/199)
الثالث : جزاء الصيد في الحرم:
قال : ومنه جزاء الصيد في الحرم
أقول: صيد الحرم لما جعله الله محترما، جعل له جزاءه، كالدية في الآدمي الحر، والقيمة في العبد، وحيوان الغير، ولذلك لا يجزي الخنزير، ولا ما لا يؤكل لحمه. ولذلك سماه الله جزاء، وسمى الطعام فيه كفارة. وان هذا ممن يحيا بإتلاف مقوم، فيغرم مالا آخر. ولو صح القياس على جزاء الصيد واستنباط العقوبة المالية منه، لصح استنباطه من العتق والإطعام في الكفارات من باب أولى، فإنه لامقوم هناك من ظهار ولايمين وحنث، وما وقع لابن بشير(1)من تخريج ذلك على الكفارات سيأتي الكلام عليه عند ذكر هذا المملي له ان شاء الله(2).
ثم إن الله جعله من باب غرامة المتلفات المحترمة، فكيف يصح أن يقاس عليه ما ليس بمقوم؟، ثم كيف يصح القياس مع وجود النص في مسائل الجنايات؟.
الرابع : أخذ سلب الصائد في حرم المدينة:
قال : وسلب الذي صاد في حرم المدينة(3)
أقول: قد نص جمهور من العلماء الراسخين أن هذا مما نسخ، قاله القاضي ابن رشد في مواضع عديدة من البيان، والمتيطي في كتاب النهاية والقاضي عياض في إكماله والنووي في شرحه في كتاب مسلم عن الطحاوي: "أن العقوبة في المال منسوخة"(4).
__________
(1) : ابراهيم ين عبد الصمد بن بشير التنوخي المهدوي، ابوطاهر. من تلاميذ السيوري. كان إمام مبرزا في مذهب مالك. كان يستنبط أحكام الفروع من قواعد أصول الفقه، وعلى هذه الطريقة مشى في تآليفه. الديباج 1/265-266 – شجرة النور 126 تراجم المؤلفين التونسيين 1/143.
(2) : انظر ص : 867 وما بعدها.
(3) : معالم السنن 2/532- ونيل الأوطار 5/33..
(4) : انظر الصفحة : 742 وما بعدها.(1/200)
وفي الكلام على هذا الحديث من الاكمال: "لم يثبت عند أئمة الفتوى هذا، يعني أخذ سلب الصائد في حرم المدينة، فلم يقل به أحد منهم، يعني من الصحابة، إلا الشافعي في قوله القديم(1).
ثم إن الاصطياد، إن صح القياس عليه، لم يرد في العقوبة تحديد ولا حد معين حتى يمنع الاجتهاد فيه.
الخامس : أخذ شطر المال من مانع الزكاة
قال: ومنه ما في الأحكام السلطانية عن مالك وأحمد: أنه يؤخذ من مانع الزكاة شطر ماله إذا كان كتمه ليغلها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من غل صدقة، فانا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات الله تعالى، ليس لآل محمد فيها نصيب"(2)فإن كان تأوله (45=206/ب) هو، فإنه خرج مخرج الزجر والإرهاب، لا على ظاهرة من الإيجاب.
أقول: هذا لاينقله أصحاب مالك عنه، وهو أعرف بمذهبه ممن يخالفه. بل أهل المذهب ينقلون في غير هذه النازلة وغيرها مما يوهم العقوبة بالمال أنها منسوخة، وممن نص على ذلك ابن رشد ـ رحمه الله ـ في كتاب السلطان، ونص ابن رشد في غيرما موضع من بيانه أن مذهب مالك والمعلوم من مذهبه أنه يرى العقوبة بالمال(3).
__________
(1) : الامليات الفاشية 111 – شرح لامية الزقاق لميارة . ملزمة: 44-ص: 2 شرح اللامية للتاودي ملزمة 21 – اجوبة التسولي 22 – أجوبة الولاتي 214 – شرح مسلم للنووي 9/139 – نيل الاوطار 5/34 المعيار الجديد 10/181- نوازل العلمي 3/156 أحكام المغارسة للمجاجي 321 – شرح التسولي على اللامية ملزمة 25 ص : 5 شرح معاني الآثار للطحاوي 3/145 –146.
(2) : الأحكام السلطانية للماوردي ص:121. وليس فيه نسبة القول إلى الإمام أحمد.
(3) : البيان والتحصيل 9/320 – و 16/278 و 297 و 17/254 – 255.(1/201)
ولئن سلمنا صحة هذا القول عن مالك وأحمد، فيكون وجهه أن الذي غل زكاته يجب أخذ ما وجب عليه في الحال، والباقي بعد الزكاة يتطرق إليه الاحتمال أن يكون لربه تدليس له، وذلك أن الرجل إذا ظهر منه شبهة، دل على أن له عنده أخوات، فهذا إذا ظهر من أمره أنه معتاد بمنع الزكاة، والمعتاد كثيرا ما تستغرق ماله الزكاة، فصار ماله في حيز الشك فشوطر فيه، كما شاطر عمر رضي الله عنه العمال.
الإجماع على نسخ العقوبة المالية :
قال: وقول ابن رشد أن هذا قد نسخ بالإجماع على أنه لا يجب، وعادت في الأبدان(1)، فنفي الوجوب لا يستلزم نفي الجواز. ويرد الإجماع بما نقله الماوردي عن احمد ومالك، وبأنه لاينسخ ولا ينسخ به، وبالظواهر التي نقلناها.
أقول: أما قوله: أن نفي الوجوب لا يستلزم نفي الجواز، فهو بناء على أنه أراد به حكاية الإجماع على عدم الوجوب فقط، وهو إنما أراد أن يستدل على وقوع النسخ في العقوبات المالية، وأنه لا عقوبة في المال بوجه، حسبما صرح هو وغيره بذلك. ووجه الدليل أنه لامخالف في أن أخذ مال الجاني ليس بواجب، لأن القائل قائلان، أما محرم له، وأما قائل بجوازه في أن أخذ مال الجاني ليس بواجب، لأن القائل قائلان، أما محرم له، وأما قائل بجوازه غير موجب له. فالقدر المشترك بين القائلين، وهو عدم الوجوب، مجمع عليه. وإذا كانت العقوبة بالمال غير واجبة إجماعا، كانت غير جائزة، لأن الأصل تحريم أخذ مال الشخص إلا عن رضى منه. وهذا أصل مقطوع به، فإذا عوقب به فلابد أن يؤخذ منه كرها، ولا يصح الإكراه إلا على واجب الديون الحالة على الغرماء، والزكاة الوجبة على الأغنياء، والغرامات على أهل الغصب والاعتداء، فلازم الإكراه المساوي هو وجوب ما أكره عليه على المكره، لكن هذا اللزوم المساوي منتف إجماعا، فلينتف ملزوما المساوي.
__________
(1) : المصدر السابق 9/320 – 16/278 – 297 – و 17/254 – 255.(1/202)
قلنا: ولهذا اتبع ابن رشد ـ رحمه الله ـ هذا الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم:"لايحل ما امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"(1)
لا يقال: قولكم أن لازم الإكراه المساوي هو وجب ما أكره عليه المكره صحيح.
قولكم : لكن العقوبة بالمال غير واجبة على المكره إجماعا ممنوع.
قولكم: إن الإجماع انعقد على أنها ليست بواجبة، أن أردتم ليست بواجبة على الوالي أن يعاقب بها فمسلم، ولاينفي ذلك وجوبها على الجاني، وإنما تكون أيضا جائزة، ففي حق الحاكم باعتبار أن الحاكم مخير، إن شاء أن يعاقب بها، وإن شاء أن يتركها إلى عقوبة أخرى، فتحقيق القول فيها أنها من الواجب المخير بالنسبة إلى الحاكم، كما في مسائل العقوبات التي فوضت إلى اجتهاده، فقد يعرض نوعان من العقوبات لا يترجح أحدهما على الآخر، فيكون مخير فيها، وصار ذلك بمنزلة الدين الواجب ليتم على مديان، فإن شاء ربه أخذه بعينه، أو باعه ممن هو عليه، أو غيره. لأنا نقول يلزم على هذا أن تكون الجنايات معمرة لذمم الجناة بالأموال، وأنما ينبغي الخيار للحاكم الأخذ كرها، أو يأخذ عوضا عنه ما رآه عنه من العقوبات البدنية، وهذا معنى لاقائل به، ولايصح القول به لوجهين:
الأول: من خير بين مسألتين يعد منقلا، فصار هذا بيعا للعقوبات الواجبة بالإثمان.
الثاني: إن أصل الاثمان تحريم أخذه، إلا عن رضى من معطيه، وأما الدين (46=207/أ) والإتلاف، فهما سيان من قبل الدين والمتلف، دلا على رضاه، وما كان من الإتلاف عن خطا أو سهو، وما تعلق بالمال من الزكوات والحقوق الواجبة فدليل قطعي. أما رفع ما علم قطعا من حرمة أكل المال بالباطل، فأحاديث منسوخة، نص على نسخها أكثر الأمة، وهي مع ذلك مختلفة التخريج على وجه صحيح ترجع إلى قواعد الدين، فلا يتم.
__________
(1) : سبق تخريجه.(1/203)
ثم التخيير في أخذ المال لآخذ من غيره جبرا، انما يكون فيما تقرر وجوبه سابقا بالذات أو بالزمان على تخييره سبب الإيجاب ذلك عليه عند اختياره لممنوع. ألا ترى أن تحقق شرعا فبل اختيار الحاكم، أما المال فليس بثابت شرعا على الجاني بغير إتلاف للمتمولات إجماعا. وإذا ثبت ذلك، انتفى كونه عقوبة، لأنه ليس شيء من العقوبات غير واجب على التعيين ولا على البدلية. فهذا، والله أعلم، معنى قوله: فالإجماع على أنه لا يجب.
ثم إنا قد قدمنا أنا إذا حملنا اللفظ على ظاهره، وقلنا: إن الإجماع انعقد على نسخ العقوبة بالمال، أي علي وجوبها، لا يصح هنا أن يبقى الجواز بعد الوجوب، كأن المال المعصوم كالبدن والدم المعصوم، فإذا ارتفع وجوب التهلكة، رجع إلى أصل العصمة. وإنما ذلك أعني بقاء الجواز بعد الوجوب فيما ليس الأصل تحريمه.
وأيضا، فإن ابن رشد وغيره متى حكوا هذا الإجماع، يقولون: وصارت العقوبة في الأبدان لا في الأموال. فهذا من تمام المنقول في سياق الإجماع، ودخوله أصوب. فأي جواز يبقى بعد هذا؟.
وأما قوله: ويرد الإجماع بما نقل عن أحمد ومالك.
أقول: الإجماع دليل على ما نقل عن أحمد ومالك، فإن كانا لم يقولا به، وهو الظاهر، فإن أصحاب مالك أولى بان ينقلوا هذا القول، لو ثبت عن الماوردي، وكذلك أصحاب أحمد. ولا يصح به الفتاوي على المذاهب المرتبة على نقل قول المخالف، لاسيما فيما لم يعرفه أهل ذلك المذهب. أما كثرتهم، أو يحمل التأويل. فإن المخالفين مولعون بضروب من التشنيعات والالزامات.(1/204)
سلمنا انهما قالاه، فهذا الإجماع دليل عليهما، فإن مخالفة أحمد ومالك وغيرهما إنما يمنع انعقاد إجماع انعقد في عصرهما، أما إجماع سبق المجتهد، فإنه يجب عليه الرجوع إليه وإذا كان يجب على المجتهد الرجوع للنص، فما بالك بالإجماع؟، وهو مقدم عليه؟. وقد اتفق لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وغيره من الصحابة الرجوع في مسائل كثيرة لما ذكرناه، يطول تعداد ذكرها أو بعضها.
وأما قوله: وبأنه لا ينسخ به، فهو بناء على فهمه أن الإجماع ناسخ، وليس كذلك. أنما مرادا بن رشد وغيره ممن حكي ذلك أن الإجماع انعقد على النسخ بسبب انعقاده على أن العقوبات في المال غير واجبة. وفرق كبير بين انعقاد الإجماع على النسخ، وبين كونه ناسخا.
وهذه الحكاية في الإجماع تكررت في مواضع من البيان، من كتاب الحدود وكتاب السلطان وكتاب الجامع. ووقفت في كتاب الحدود في القذف من سماع ابن القاسم على وجه يرفع الأشكال عما قلناه بلفظ: انعقد الإجماع على النسخ، لا بلفظ: أنه منسوخ بالإجماع، حتى يوهم ذلك، وسننقل إن شاء الله نصها عند ذكره لقضية مروان.
قوله: وبالظواهر التي نقلناها.
فأقول: وقد أبطلنا الاعتماد على تلك الظواهر بما سبق.
قال: وقد حكى ابن رشد في البيان(1)أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حكم بذلك. وان مروان ابن الحكم فعل ذلك في امرأة ادعت على رجل أنه كشفها، وقد سجنه، فأبى من إطلاقه حتى ينقدها ألف درهم بما كشف منها. وأنه يوتي بالرجل قد قبل المرأة فينزع ثنيته، وهو نحوما قدمناه عن ابن العربي.
أقول: وقد نص في البيان أنه انعقد الإجماع على النسخ. وقال عقب قصة مروان ما نصه، بل هذا نص على الرواية.
__________
(1) : البيان والتحصيل 16/278.(1/205)
فقال ابن القاسم: قيل لمالك افترى هذا (47=207/ب) من القضاء الذي يعمل به،؟. فقال:ليس هذا عندي من القضاء الذي يعمل به(1)، ولكن على غلظة من مروان في الحدود. ولقد كان مروان(2)يوتي بالرجل يقبل المرأة فينزع ثنيته، فلم ير مالك(3)مع التهمة البينة(4)أن يؤخذ بها، ولكن يطال سجن المتهم رجاء أن توجد عليه بينة. هذا تمام الرواية.
ويقول: ما فعل مروان ليس من باب العقوبة في شيء، ولا فهم مالك ذلك منه، ولا من نقل الرواية عن مالك. ألا ترى قول الراوي وهو ابن القاسم: فلم ير مالك مع التهمة البينة(5)أن يؤخذ بها، ولكن يطال سجنه رجاء أن توجد عليه بينة. فهذا يدلك على كل وجه ما أنكره مالك من هذا القضاء. وبيانه: أن مروان إنما حكم بالمال لما كشفها على وجه غرمه للغاصب صدا للمصابة غصبا. وهذا القضاء لو ثبت سببه لم ينكر، لكنه لم يثبت إلا بالقرائن المجردة عن البينة المفيدة قوة التهمة والظنة، فرأى مالك أن مروان قضى مستندا إلى قوة التهمة من غير تثبت. وهذا ليس عنده سبب يستقل، تبني الأحكام عليه عن كان مرجحا لقول المدعى. وأما القضاء بالصداق لم ينكره لو ثبت سبب، فتبين لك حينئذ وجه الانكار انما هو بناء الغرم الواجب على مصيب المرأة غصبا على مجرد الظنة والتهمة من غير بينة، والخطأ على هذا ليس في الحكم بالمال، إنما الخطأ في طريقه. هذا نص الراوي ولا ينبغي العدول عنه مع صحته.
__________
(1) : في البيان والتحصيل 16/277: قلت لمالك : أترى هذا من القضاء الذي يؤخذ به.
(2) : ساقطة من النسخة المعتمدة.
(3) : بياض في الأصل، وأتبثاناه من البيان السابق.
(4) : في النسخة : مع تهمة الشبهة وصححناه من البيان 16/278.
(5) : في النسخة: مع تهمة الشبهة وصححناه من البيان 16/278.(1/206)
ولقائل أن يقول: إنما وجه ما صدر من مروان ليس هو على القضاء بها لمجرد التهمة، كما أنكره مالك، أن حمله عليه، وإنما هو لأن مروان وان كان رأى إطالة سجنه للتهمة وقوتها، لأن صحة القرائن دليل على صحة الدعوى، وإنكار المدعى عليه حينئذ لدد ظاهر، والملد مستحق طول السجن ليرجع عن لدده، أو تقوم البينة بما هو معلوم. ثم إن أبا لرجل المصيب للمرأة جاء وكلمه، حسبما وقع في السماع وما كلمه في إطلاقه، فقال مروان: لاها الله، إذن لايخرج منه حتى ينقذها ألف درهم لما كشف منها. يريد: لايخرج عاجلا كما طلبت، لأنه الذي يقتضيه سياق الكلام. فقال أبوه: هي علي، فأمر به مروان فأخرج في الحال. وهذا بين لاشك، فلأنه يقول: لابد من سجنه لقوة التهمة حتى تثبت عليه الدعوى بالبينة أو يعترف فيغرمه صداقها، فلما قال الأب: هو علي، يعني الألف الذي هو الصداق، لم ير مروان ـ رحمه الله ـ لإطالة السجن فائدة، لان البينة التي توجب عليه حد الزنا ليست تم. والاعتراف بالزنا لا يوجب الحد إلا مع التمادي، ولا يلزم سجن المتهم بالزنا ليقر، ليحد، ولا يصح. فلم يكن للسجن ثمرة إلا غرم الصداق، فلما تطوع الأب به سقطت ثمرة طول السجن. والدليل عليه أن مروان لم يلزم ذلك، بل الأب من تلقاء نفسه قال: هي علي. يريد بذلك ألا يطيل سجن ابنه في حق المرأة. فإذا تأملت، لم يكن فيها من مروان إلا التصلب في القدر الواجب للمرأة المكشوفة.
ومما يتبين ذلك به نص السماع، وسنبين لك ذلك بنص السماع، وهو سماع ابن القاسم في رسم كتاب مسجد القبائل من كتاب الحدود في القذف:(1/207)
"حدثني مالك عن يحيى بن سعيد أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار، فلما نزلت قرقوة عرض لها رجل من أصحاب الحمر، فنزل إليها ثم أرادها عن نفسها وكشف ثيابها عنها فامتنعت منه فرمته بحجر فشجته ثم صاحت، فذهب، فأتت مروان بن الحكم فقال لها: أتعرفينه إذا رأيته؟، قالت: نعم، فأدخلت بيتا، ثم قال: إيتوني بالمكارين الذين يكرون الحمر، وقال: لايبقى أحد منهم إلا جئتموني به، فأتي بهم، فجعل يدخلهم عليها رجلا رجلا، فتقول: ليس هو هذا، حتى أدخل عليها مشجوجا، (48-208/أ) فقالت: هو هذا، فأمر به مروان أن يحبس في السجن، فأتاه أبوه فكلمه، فقال له مروان:
جانيك من يجني عليك وقد ... يعدي الصحاح مبارك الجرب
فلرب مأخوذ بذنب عشيره ... ... ونجى المقارف صاحب الذنب
فقال له ليس ذلك، قال الله تعالى: "ولاتزر وازرة وزر أخرى"(1)، فقال له مروان: لاها الله، إذن لايخرج من السجن حتى ينقدها ألف درهم لما كشف منها، قال أبوه: هي علي، فأمر به مروان فأخرج.
قال ابن القاسم: قبل لمالك: أترى هذا من القضاء الذي يعمل به؟، قال: ليس هذا عندي من القضاء الذي يعمل به"(2)، إلى آخر ما تقدم ذكره.
فانظر إلى المحاورة التي وقعت بين مروان وبين أب المسجون، وقول مروان لا يخرج حتى ينقدها، أي بإقراره أو بقيام البينة، وقول الأب: هي علي.
فإن قلت: فما قوله: جانيك من يجني عليك ... إلا آخر البيت؟
__________
(1) : سورة الأنعام : الآية: 164.
(2) : انظر البيان والتحصيل 16/277-278 و 17/44.(1/208)
قلت: تفرس إن الأب تحمله الرقة على ابنه على أن يعجل خروجه من السجن، وأن الولد لا يقر، خشية زيادة العقوبة عليه، ولايتأتى ذلك إلا بغرم حق المرأة. ثم ما تفرس به وقع. وقوله: لاها الله إذن، أي إن كنت تتبرأ من جناية ابنك فلك ذلك، لقول الله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، فأنا لا أدع حق هذه المرأة فأطيل سجنه، فلا يخرج حتى ينقدها إن شاء الله، أو يطول سجنه. فلم ير مالك ولا ابن القاسم ذلك من العقوبة بالمال في شيء. وإنما تكلما في قضية مروان بناء على أنه قضى على الولد بالألف، فالتزم الأب دفعها، ولو تأول قول مروان بما قلناه لم يكن في ذلك ما أنكره مالك، غير أن ابن رشد ـ رحمه الله ـ سرة ذهنه إلى إغرام المال في المهر قبل الثبوت من باب العقوبة بالمال، وتحرز ـ رحمه الله ـ في ذلك بناء على فهم حقيقة القضاء من مروان. ولو تأمل لما وجده إلا من باب الاغرام لما وجب فبل ثبوت سببه، لكنه استطرد ذكر ذلك، وبين أنه منسوخ إجماعا. ولعل مروان رأى أن وجود الجرح بالرجل كما وصفت المرأة، وأنها بلغت من فضح نفسها بصياحها أولا، واستصراخها حتى فرعنها، وبمجيئها للأمير ثانيا بما كان عنده بمنزلة الشاهد على صدق دعواها، فلم يبق القضاء موقوفا إلا على إقراره، أو بيمينها، أو يرى ما اتفق لها من الأمر ليس بأقل دلالة على صدقها ما لو أتت متعلقة بالرجل، وهو ممن تليق به الدعوى، أو رأى أن دلالة ما ذكر على صدقها ليس بأقل من دلالة غيبته عليها على صدقها.
ففي رسم الاقضية من كتاب الحدود في القذف، قال سحنون: قال لي ابن القاسم: ولو شهد رجلان أنهما رأيا امرأة اعتصبها رجل فأدخلها منزله وغاب عليها فشهدا بذلك، فادعت المرأة أنه أصابها، وأنكر ذلك الرجل، فحلفت المرأة مع شاهديها، واستوجبت الصداق وأن لم يكن عليه في ذلك حد.(1/209)
قال القاضي ابن رشد: أما إذا ثبت اغتصابه لها وغيبته عليها فلا اختلاف في أن القول قولها في أنه وطئها وأنها تستوجب بذلك صداق مثلها، وكذلك إذا كانوا جماعة، ادعت على كل واحد منهم أنه وطئها، أخذت من كل واحد صداق مثلها، قيل: بيمين، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وقيل: بغير يمين، وهو قول مالك في كتاب محمد بن المواز(1). وقول مالك في سماع أشهب من كتاب الغصب: ويثبت اغتصابه لها وغيبته عليها بشهادة شاهدين، على ما قاله في رواية سحنون هذه عنه، وفي رواية مرة عن ابن القاسم أن المغتصبة التي يجب هلا الصداق على من اعتصبها، لايجب لها إلا بما يجب به الحدود، وذلك أربعة شهداء، معناه على معاينة الوطء. وذلك بين من قوله: وإلا كانوا قذفة يجلدون الحد، فالصداق يجب لها (49=208/ب) مع ثبوت مغيبه عليها، أو لايجب عليه الحد بذلك، وإنما يجب الحد بمعاينة أربعة شهداء، فإذا وجب الحد وجب الصداق.
وأما إذا ادعت عليه أنه اغتصبها وغاب عليها ولم يعلم ذلك إلا بقولها، فإن الأمر يفترق في ذلك بين أن تأتي متشبهة به وهي تدمى إن كانت بكرا، أو لاتاتي متشبهة بهن وبين أن تدعي ذلك على من يليق به ام لا، على ما مضى بيانه في سماع أشهب من كتاب الغصب منها.(2)والذي في كتاب الغصب من سماع أشهب وابن نافع: أنها إذا تعلقت به بكرا كانت تدمى أو ثيبا، أنها تصدق بغير يمين. فقيده ابن رشد انه ممن يليق به ذلك. فلذلك سقط عنها حد القذف والزنا، وإن ظهر الحمل لما بلغته من فضيحة نفسها، إلا أن تسمع في الأمة الفارهة، وفي كتاب أبن المواز، وكذلك الوغدة. واختلف في وجوب الصداق على ثلاثة أقوال:
ـ مالك في رواية أشهب: يجب
ـ وابن القاسم في رواية عيسى عن كتاب الحدود: لا يجب.
ـ الثالث لابن الماجشون: يجب للحرة لا للأمة.
__________
(1) : البيان والتحصيل 11/311-312.
(2) : البيان والتحصيل 11/234 – 236.(1/210)
وعلى القول بالوجوب فبغير يمين في رواية أشهب، وقال ابن القاسم باليمين، وهو أصح.
قال ابن رشد: وهذا الاختلاف في اليمين في الفارهة، وأما الوغدة فلا ترها منه والله أعلم.
قال: وتحصيل القول: أن ادعت غير متشبثة به، وهو ممن لايشار إليه بالفسق بل من أهل الصلاح، حدت للقذف والزنا، وإن ظهر بها حمل، وإن لم يظهر فعلى الخلاف فيمن أقر بوطء حرة وادعى نكاحها، أو أمة وادعى ملكها. فعلى ابن القاسم: تحد، إلا أن ترجع، وقول أشهب: لاتحد وان كان معلوما بالفسق سقط عنها الحد، إلا أن يظهر بها حمل، يعني فتجري على الخلاف، ويكشف الإمام عن أمره، فإن لم يظهر له شيء استحلفه، فإن نكل حلفت وأخذت صداق مثلها. فإن كان مجهول الحال وهي من أهل الصدق، تخرج حدها للقذف على قولين، على القول بأنها لا تحد له بحلف، فإن نكل حلفت وأخذت صداق المثل، وإن جاءت متعلقة به، وهو من أهل الصلاح، بكرا تدمى أو ثيبا، سقط عنها حد الزنا لما بلغته من فضيحة نفسها وان ظهر بها الحمل. وفي حد القذف قولان: أوجبه ابن القاسم، ونفاه ابن حبيب، وعلى أنها لا تحد يحلف، فإن نكل حلفت واستحقت صداق مثلها، وهذا إن كانت ممن تبالي فضيحة نفسها، بالصياح عليه والمجيء إلى الأمير والا حدت(1).
قال: وإن كان معلوما بالفسق فعل ما ذكر له أولا(2). فلعل مروان رأى أن ما بلغته من فضيحة نفسها بالصياح عليه والمجيء إلى الأمير، وقرينة الشجة، وأنه ممن يليق به ذلك، رأى أن يعطيها بغير يمين.
لا يقال: هذه التوجيهات كلها بناء على أن معنى كشفها: أصابها. ولعله أنما كشف الثوب.
__________
(1) : نفسه
(2) : نفسه(1/211)
قلت: لم يقع من مالك إنكار سبب الغرم، أي غرم الصداق. إنما أنكر على مروان القضاء، مثل أن يثبت بالشاهدين، بل بمجرد الدعوى حسبما صرح به ابن القاسم. فلو كانت الدعوى أيضا لاتوجب عليه غرم الصداق لكان إنكاره لذلك ألزم وأظهر، فبانحصار جهة الإنكار في القضاء قبل قيام البينة، دليل على أنه قد أتى في دعواها ما يوجب عليه الغرم للصداق.
قال محمد بن رشد: ما تضمنته هذه الحكاية من أن مروان قضى للمرأة بدعواها على الكري الذي ادعت عليه أنه أرادها عن نفسها وكشف عنها ثيابها مع الشبهة التي ألحقت به التهمة وتحققت التهمة والظنة هو من القضاء الذي لا يأخذ به مالك، ولايرى العمل عليه، ولا يرى القضاء به، إذ لايرى العقوبات في الأموال، لأن العقوبات في الأموال أمر كان في أول الإسلام ثم نسخ. من ذلك ما روي عن النبي (50=209/أ) صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة "أنا آخذوها وشطر وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا"، وماروي عنه في حريسة الجبل "أن فيها غرامة مثيلها وجلدات نكال"، وما روي عنه أيضا: "من وجدتموه يصيد في الحرم فسلبه لمن وجده"، كل ذلك كان في أول الإسلام وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم انعقد الإجماع على أن ذلك لا يجب وعادت العقوبات على الجرائم في الأبدان. وقد أنكر ذلك على مروان بن الحكم، فقال على وجه الإنكار عليه: ولقد كان يوتي بالرجل يقبل المرأة فينزع ثنيته. وهذه نهاية في الإنكار والعقوبات على الجرائم عند مالك إنما هي في الأبدان على قدر اجتهاد الوالي وعظم جرم الجاني(1).
فانظر كيف بتر هذا الكلام، فنقل عن صاحب البيان أن عمر ـ رضي الله عنه ـ حكم به، ولم يذكر النسخ. ونقل أن مروان بن الحكم حكم به، ولم يذكر إنكار مالك لذلك. هذا كله ليوهم أن هذه الأشياء التي جاء بها معمول بها، وهي على العكس من ذلك.
__________
(1) : تصرف المؤلف في نقل النص، قارن مع البيان والتحصيل 16/278-279.(1/212)
ومما يصحح قوله في الإجماع، رجوع عمر ـ رضي الله عنه ـ عما يوهم ذلك، حسبما رواه القاسم بن أصبغ عنه في المعتدة التي تزوجت، وقد تقدم، ذكرها.
وتخريجنا المسألة على أنه رأى الصداق أولا من قبيل المال الضائع، لأن الزوج دفعه عوضا عن الاستمتاع، وقد استمع والزوجة أخذته عوضا عن محرم، فلم ير لها تملكه حتى بلغه خبر علي، فخطب وقال: ردوا الجهالات إلى السنة، وردوا إلى المرأة صداقها.
وما وعدنا بذكره عند قوله: الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، من أن ابن رشد أنما أراد أن الإجماع انعقد على النسخ، لا أن الإجماع ناسخ. هو ما أنصح به في هذا المحل من قوله: ثم انعقد الإجماع.
وأما نزع مروان ثنيه المقبل للمرأة فليس فيه عقوبة بالمال بل في البدن على أنه من غلظته في الحدود. وما ذكره مالك إلا في غلظته مروان، حتى خرج فيها عن النظير.
السادس : الحديث : "أصبت عمي ومعه راية..."(1/213)
قال: خرج النسائي فيما نقل عنه ابن بزيزة(1)في شرح الأحكام عن البراء بن عازب قال:"أصبت عمي ومعه راية، فقلت: أين تريد، فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله"(2). فقال ابن بزيزة: هذا الحديث يدل على أن للإمام أن يجتهد ويعاقب بحسب ما يراه في الدماء والأموال.
أقول: الكلام عليه من وجوه
الأول: إن النسائي ذكر عقوبة من أتى ذات محرم وذكر اختلاف الناقلين لخبر البراء بن عازب فيه، فذكره من رواية أبي الجهم عن البراء، ومن رواية عدي بن ثابت عن البراء. ونص الأول: أنا هناد بن السري عن أبي زيد عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء، وذكر كلمة معناها: "إني لأطوف في تلك الأحياء على إبل لي ضلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رهط معهم لواؤهم، فجعل الأعراب يلوذون بي، لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخرجوا رجلا فضربوا عنقه، فسألت عن قصته فقيل: عرس بامرأة أبيه"(3).
__________
(1) : عبد العزيز بن ابراهيم بن احمد، عرف بابن بزيزة، التميمي القرشي، أبو فارس وأبو محمد. الإمام العلامة، والمؤلف المحصل، ولد بتونس سنة 606هـ. أخذ عن البرجيني تلميذ المازري، برز في علوم العربية والفقه والأدب، وعد من الأئمة المعتمد عليهم في المذهب المالكي. له: البيان والتحصيل في التفسير، والإسعاد في شرح إرشاد للجويني، وشرح الأحكام الصغرى لعبد الحق الاشبيلي. توفي سنة 696هـ. ترجمته في: نيل الابتهاج 268- شجرة النور 190 – الحلل السندسية 1/645 – وكتاب العمر 1/394 – 396 – تراجم المؤلفين التونسيين 1/127 – 129.
(2) : سنن النسائي 3/307 – 308 – كتب النكاح – ح: 5489.
(3) : سنن النسائي 4/295 – كتاب الرجم ح: 7220/1 – وانظر: مسند احمد 4/295 – والسنن الكبرى للبيهقي 8/208 – ومعالم السنن للخطابي 6/266 – والمستدرك للحاكم 4/357.(1/214)
ونص الثاني: أنا يحيى بن حكيم البصري قال: فأحمد بن جعفر قال: ناشعبة عن الربيع بن البراء بن الربيع عن عدي بن ثابت قال: "مر بنا ناس ينطلقون فقلنا لهم: أين تريدون؟، قالوا: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل يأتي امرأة أبيه أن نقتله"(1). أنا أحمد بن عثمان بن حكيم الكرمي قال: حدثنا أبو نعيم قال: نا الحسن بن صالح عن السدي عن عدي بن ثابت قال:"لقيت خالي ومعه الراية، فقلت، أين تريد؟، قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله"(2). وفي مثله وفي مسند ابن أبي شيبة على ما نقله الشيخ أبو عبد الله محمد بن فرج بن الطلاع(3)في كتاب الأقضية(4).
وفي النسائي أيضا: أخبرنا محمد بن رافع قال: نا عبد الرزاق قال: نا معمر عن أشعث عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه قال: "لقيني عمي ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟، فقال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أقلته"(5).
وهذا جميع مانقلته في هذا الفصل عن البراء، وليس (51=209/ب) فيه ذكر أخذه ماله بوجه(6).
__________
(1) : سنن النسائي 4/295 – كتاب الرجم – ح : 7221/2.
(2) : السنن الكبرى للنسائي 3/307- كتاب النكاح – ح: 5488 – وانظر: المستدرك 2/191.
(3) : أبو عبد الله بن فرج، مولى ابن الطلاع. الإمام الحافظ الشهير. تفقه بابن القطان وغيره. توفي سنة 497هـ. شجرة النور 123.
(4) : انظر المصنف لابن أبي شيبة 10/104 – 105 – ح:8916 – وأقضية الرسول لابن الطلاع 130 – والسنن الكبرى للبيهقي 8/305.
(5) : السنن الكبرى للنسائي 4/296 / كتاب الرجم – ح: 7223/4.
(6) : ورد الحديث في كتاب النكاح 3/307 – ح: 5489 وفيه: أن اضرب عنقه وآخذ ماله. انظر: هامش 260.(1/215)
وكذلك خرجه الترمذي في كتاب الأقضية: عن سعيد بن الأشج نا خفص بن غياث عن أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء قال:"مر بي خالي أبو بردة ومعه لواء، فقلت: أين تريد، فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن آتيه برٍأسه"، فلم يذكر أيضا الترمذي أخذ ماله بوجه. قال أبو عيسى: حديث البراء حسن غريب. وقد روى محمد بن اسحاق عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن البراء عن أبيه، وروي عن أشعت عن يزيد بن البراء عن خاله.(1)
الثاني: إن الحديث في سنن أبي داود قال حدثنا احمد بن قسيط الرضى قال: نا عبد الله بن عمرو عن يزيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه قال: لقيت عمي ومعه ثلاثة فقلت: أين تريد؟، فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله"(2).
نعم، في النسائي: أخبرنا العباس بن محمد الدوري قال: نا يوسف بن منزل قال: نا عبد الله بن ادريس قال: نا خالد بن أبي كريمة عن معاوية بن قرة عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أباه جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله"(3). قال ابن الطلاع: وفي غير الكتابين، يعني لنسائي ومسند أبي شيبة: "أن أجيء برأسه وأستفيء ماله". قال: وفي كتاب الصحابة لابن السكن، وذكره أيضا ابن أبي خيثمة: أن خالد بن أبي كريمة حدث عن معاوية بن قرة عن أبيه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أباه جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله"، قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح(4).
__________
(1) : عارضة الأحوذي 6/117.
(2) : معالم السنن 6/267 – ح: 4292 – وبذل المجهود 17/420 – وانظر : المستدرك 4/357- وسنن الدارمي 2/153.
(3) : سنن النسائي 4/296 – كتاب الرجم – ح : 7224/5.
(4) : كتاب الأقضية ص : 130 – وانظر تخريج الحديث وطرقه في ارواء الغليل 8/18 ح: 2351.(1/216)
الثالث: الحديث ذكره عبد الحق عن النسائي وابن بزيزة شارح كتابه، فلا معنى لنقله عن ابن بزيزة وهو موجود في الأم(1).
الرابع: إنه لاحجة في هذا الحديث على العقوبة بالمال لوجوه:
الأول: لو يقل بظاهر الحديث إلا أهل الظاهر وأحمد، وأما غيرهم فمن قائل بالحد المعروف مالك والشافعي وأبي حنيفة وسفيان والحسن البصري وأبي يوسف ومحمد ابن الحسن، ولايرون العقوبة شبهة تدرأ عنه الحد. وقال سفيان يدرأ عنه الحد إذا كان التزويج بشهوده. وقال ابو حنيفة يعزر ولايحد. فهذا يمنع الاستدلال على إثبات العقوبة بالمال في هذا الحديث على أن يجعل مذهبا لمالك ومن ذكر معه.
الثاني: إن هذا على خلاف القاعدة المعلومة من حد الزاني إجماعا. إن الزاني كان غير محصن فحده الجلد إجماعا، وإن كان محصنا فحده الرجم إجماعا، قال أبو عمر بن عبد البر: والسنة أن الزاني إذا لم يحصن حده الجلد، وأجمعوا أن المحصن من الزناة حده الرجم. قاله في حديث العسيف. وقال أيضا فيه، ونقل ابن القطان أن الإجماع في حد الزنا إذا لم يحصن الجلد دون الرجم، ولا خلاف بين الأئمة فيه، قال الله تعالى:"الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة"(2). وأجمعوا أن هذا الخطاب يدخل فيه الأبكار(3).
وفي الإشراف لابن المنذر(4)
__________
(1) : لم أقف عليه في كتاب النكاح والحدود من كتاب الأم.
(2) : سورة النور، الآية: 2.
(3) : الاقناع لابن القطان ص : 140.
(4) : أبو بكر محمد بن ابراهيم ابن المنذر النيسابوري، فقيه مجتهد من الحفاظ. كان شيخ الحرم بمكة له: المسبوط في الفقه، والأوسط في السنن والإجماع. توفي بمكة سنة 319هـ.
انظر: تذكرة الحفاظ 782 – طبقات الشافعية 3/102 – والاعلام 5/294 – ووفيات الاعيان 4/207.(1/217)
نقله عنه ابن القطان أيضا: وثبتت الأخبار عن رسوله الله صلى عليه وسلم أنه أمر بالرجم ورجم. فالرجم ثابت بسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم باتفاق عوام أهل العلم، مالك وأهل المدينة والاوزاعي وأهل الشام والثوري وأهل العراق، وهو قول عوام أهل القياس وعلماء الامصار(1).
وفي الاستذكار أيضا، ونقله ابن القطان: وأجمع الجمهور من الصحابة ومن بعدهم أن المحصن حده الرجم، واختلفوا هل الجلد معه، وأما المبتدعة كالخوارج والمعتزلة فلا يرون رجم الزاني وأن أحصن ذلك، وإنما حده الجلد. ولايعرج عليهم، ولا يعتبر خلافهم(2). وإذا ثبت الإجماع على أن البكر تجلد فقط، والثيب المحصن ترجم، فهذا الحد الوارد في الحديث (52=210/أ) على خلاف هذا الإجماع، فهو متروك العمل، فلا يكون حجة، لان ضرب العنق هو الذي ثبت فيه.
الثالث: إن الظاهر أن هذا كان مستحيلا لذلك، فيكون باستحلاله مرتدا. والدليل عليه أنه مذهب أهل الجاهلية. كان أحدهم يرى أنه أولى بامرأة أبيه من الأجنبي فيرثها كما يرث ماله، فقتل للردة وأخذ ماله، لأنه لا يرثه ورتثه. وأيضا بمخالفة حد الزنا فيه من الجلد والرجم دليل على ذلك. وأيضا فقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على جماعة، وإقامة الصحابة بعده، ولم يأخذوا شيئا من أموالهم، ولا أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أقاموه في الزنا قط بضرب العنق، فدل هذا على أنه أمر وراء الزنا.
__________
(1) : الاقناع ص : 141.
(2) : الاستذكار 24/52 – الاقناع 141 – وقارن بالكافي 2/1070.(1/218)
الرابع: أن هذا لو كان حدا للزنا لا للردة، لكان الزنا الصرف الذي لا عقد نكاح فيه أولى مما فيه عقد النكاح، ولو كان على محرم، والدليل على هذه الأولوية أن من العلماء من لم ير إقامة الحد في نكاح ذات المحرم، قال أبو حنيفة: يعزر و لايحد(1)، وقال سفيان: إذا كان شهود لا يحد(2). فهذا قد اختلف العلماء في أنه زنا أولا. فإذا وقع التغليط في ذلك بضرب العنق وأخذ المال، فما كان من زنا مجمعا عليه لا عقد فيه يوجب الشبهة عند قائل أولى أن يؤخذ فيه بذلك، ولم يقل أحد بذلك.
لايقال: أن هذه الحرمة زوجة الأب، وقوة ذلك عما سواه من الزنا بالأجنبية لتأكد الحرمة.
لأنا نقول: ولنفرض ذلك فيما إذا زنى بأمه، فإن من قال بضرب العنق وأخذ المال هو أحمد وإسحاق، وما قالا بذلك إلا في نكاح ذات المحرم، اتباعا للظاهر وقصر الحكم عل موردها.
لايقال: أن النكاح الوارد في الحديث المراد به الوطء لا العقد.
__________
(1) : فتح القدير 4/147 – 148 – بدائع الصنائع 7/35 – تبيين الحقائق 3/179 – حاشية ابن عابدين 3/158- حاشية الطحاوي 2/396 – حاشية الدرر على شرح الغرر 267- الاشباه والنظائر لابن نجيم 128.
(2) : فتح القدير 4/148 - وانظر معالم السنن 6/267- وبذل المجهود 17/422.(1/219)
لأنا نقول: ذلك مردود، لأن من طرق حديث البراء ما رواه أبو داود قال: نا مسدد قال: حدثنا خالد بن عبد الله نا مطرف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب قال: بينما أنا أطوف على ابل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معه لواء، فجعل الاعراب يطيفون بي لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا عنقه. فسألت فذكروا أنه عرس بامرأة أبيه(1). قال الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: أن قوله في الحديث عرس كناية عن النكاح والبناء على الأهل، وحقيقته الإلمام بالعروس بليل، ويدل على أن المراد بالنكاح العقد. أن أحمد بن هشام الحميدي نا أحمد بن عبد الجبار العطاردي نا حفص بن غياث عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: مر بي خالي ومعه لواء فقلت: أين تذهب؟ قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه. قال: فهذا قد جاء بلفظ التزويج كما ترى(2). لذلك أتى أيضا في الترمذي بلفظ التزويج كما سبق.
لايقال: لو جاز تأويل القتل بالاستحلال لجاز تأويل الرجم بالاستحلال، فقد كان أهل الجاهلية يستحلون الزنا.
لانا نقول: علم من الكتاب والسنة والإجماع أن الرجم على من أحصن من المسلمين، ولرجم من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان والتوبة التي أحد مقامات اليقين، فلا محوج إلى التأويل، ثم لا مصحح له، لو تأول لما صح وثبت بالوجوه السابقة من رجم من أحصن من المسلمين.
السادس: مما يدل على استحلاله أنه عقد النكاح وبنى بامرأة أبيه، ولو كان غير مستحل لقدم على هذه المعصية كما يقدم سائر العصاة على المعاصي في تستر وتخف، لا بإشهاد على ما راموه من ذلك الإشهار له، والعقد ليس مما يخفى.
__________
(1) : معالم السنن 6/266 – ح: 4291 - بذل المجهود 17/421.
(2) : معالم السنن 6/267 – وبذل المجهود 17/422.(1/220)
السابع: إن في أحد الحديث: وأستفيء ماله، فلو كان مسلما لم يسم ماله فينا قال الله تعالى:"وما أفاء الله على رسوله منهم"الآية(1)، ولا تجد في كتاب الله ولا سنة رسوله تسمية مال المومن فينا، وذلك لمعنى صحيح وهو أن (53-210/ب) معنى أفاء في اللغة: رجع، وأفاء: أرجع، فما أخذ من مال الكفار يسمى فيئا، لأنه برجوعه إلى المؤمنين رجع إلى مقره وأصله ومحل ملكه. والدليل عليه قوله تعالى:"قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الزرق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا"(2)، ووجه الدلالة أن المراد بالعباد المخرج ذلك الرزق والزينة لهم المومنون، بدليل قوله: "قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا"، واللازم لام التمليك، فدل أيضا على أن تلك الزينة وطيبات الرزق مقرون بالإيمان، فما حصل بأيدي الكفار لم يحصل على وجه الإذن الشرعي، إنما هو بالتقدير والقضاء، كما يقع غير ذلك مما هو جار على المنهاج الشرعي، ولما أراد الله من عمارة العالم وابتلاء البعض بالبعض، فّإذا انفصل شيء من أموال الكفار عن أمر منهم إلى المسلمين، فقد رجع الملك إليهم فيسمى فيئا، أي راجعا لهذا المعنى. أنا المؤمن فما بيده من مال مأذون له فيه شرعا، ما لم يكتسبه من وجه غير جائز، فإذا أخرج من يده، فلا معنى لتسميته فيئا، ولذلك لا يطلق هذا الاسم على المواريث، بل ولا على الأموال الضائعة التي لا يعلم مالكها من أهل الإسلام، كأموال المستغرقين. وإنما اختلف العلماء هل يكون حكمها حكم الصدقات أو حكم الفيء، أما إطلاق الفيء على ذلك، فلم يقل به أحد من الناس.
الثامن : إن في حديث معاوية بن قرة عن أبيه جد معاوية ضرب عنقه وخمس ماله، والخمس مخصوص بما أغنم من أموال الكفار لا ما أخذ من أموال المسلمين، ورجال الحديث مشهورون، وهذا أيضا يدل على أن الفاعل لذلك مستحل كافر.
__________
(1) : سورة الشورى، الآية: 6-7.
(2) : سورة الاعراف، الآية: 32.(1/221)
فان قلت: هي قصة واحدة وهما قصتان، فإن كانا قصة واحدة فما الجمع بين مختلف الحديثين؟، وإن كانا قصتين، فما وجه التفريق بين حكميهما والجناية واحدة؟.
قلت: يحتمل أن تكون القصة واحدة، ولكون جد معاوية مرسل مع البراء، وهما مأموران معا، فقد كانوا جميعا وعقدوا الراية، فلا تنافي حينئذ بين أمر البراء وجد معاوية. وأما قول البراء: وأخذ ماله، ومرة قال: وأستفيء ماله، وقول معاوية: وخمس ماله، أطلق مجازا على أخذ المال، على أن المأخوذ منه المال كافر، وهو وإن مرة يؤخذ على وجه الفيء، ومرة على وجه الغنيمة التي تخمس، فذلك لا يمنع إطلاق اسم أحدهما على الآخر، فتكون الحقيقة: أخذه فيئا ثم استعير له اسم الغنيمة، ولم يصرح بتلك الاستعارة، وإنما كنى عنها بقوله: وخمس ماله. وهذا بناء على أن ما أخذ من مال المرتدين ولو تحيزوا بدراهم على وجه القتال والإيجاف بالخيل والركاب يكون فيئا، ولايغنمون كما لايسبون ولايسترقون، ويحتمل العكس، وهو أن يكون قول البراء: وآخذ ماله، وأستفيئ ماله المراد به أخذه على وجه الغنيمة، كما يفعل بأهل الحرب غير المرتدين، فيرجع بهذا التأويل إلى قول معاوية بن قرة: وخمس ماله.
وهذا بناء على أموالهم تغنم ويسبون، وتكون أرضهم فيئا كعبدة الأوثان من العرب، لأن دراهم صارت بالردة دار حرب، والقولان للعلماء في هذه المسألة. وهذا بناء على أن أخذ مال هذا المستحيل احتاج للإيجاف، بقرينة الجمع له والراية التي تدل على نصب القتال. ويحتمل أن تكونا قصتين، وأن قصة البراء: آخذ فيها جميع المال، لأن المأخوذ عنه ذلك مرتد لم يحتج إلى قتال، فكان ماله فيئا لا يفتقر إلى خمس، كأموال المرتدين، غيره، وقصة جد معاوية بن قرة افتقر فيها إلى نصب قتال وكان المأخوذ غنيمة فخمس.(1/222)
إنا قد جمعنا لك الألفاظ التي قد ورد الحديث بها فيما وجدناه واحتج به هذا المحتج، وليس في شيء منها أن الرجل المبعوث إليه كان مسلما. ولعله كان من الأعراب الذين لم يسلموا بعد، أو هو بنفسه ظهر (54=211/أ) أنه لم يلتزم شرائع الإسلام من قبل بما أظهر من هذا الفعل الجاهلي، وهو نكاح امرأة أبيه، فلم يكن عنده عهد يمنعه، ولا إسلام يعصمه، فأبيح دمع وماله. بل نقول: إنه الظاهر من الوجوه التي سلفت، وكونه أعرابيا أقدم على هذا الصنع خرج عن صنائع أهل الإسلام، وحملت الراية في الخروج إليه، وضربت عنقه، ولم يجد حد الإسلام، وأخذ ماله، وما صنع ذلك بمسلم واتبع معصية الزنا في ذات محرم ولا غير هذا.
التاسع:(1)هذا لحديث على أية وجه فهم، وبأي معنى استقر ليس من العقوبة بالمال في شيء. وبيانه أن هذا الرجل المقتول لنكاح امرأة أبيه، لا يخلو أن يكون كافرا أصليا أو مسلما لم يرتد، نصا أو حكما، أو مرتدا. فإن كان الأول، فأخذ مال الكافر على وجه الغنيمة والفيء خارج عن العقوبة بالمال بالمعنى المتنازع فيه، وكذلك إن كان مرتدا، لان المرتد ميراثه لبيت المال في القول الصحيح مطلقا، فإن كان الثالث فليس من العقوبة في المال في شيء، لأن أخذ المال بعد الموت، وهو بعد زهوق نفسه بالقتل خرج المال عن أن يكون ملكا له، وكل ما لم يكن ملكا له تعقل عقوبته به.
العاشر: إن القول بأن هذا عقوبة بالمال خلف من القول، لأنه بعد الموت ملكه لوارثه، سواء كان مسلما فيرثه ورثته، أو مرتدا فيكون لبيت المال، فالعقوبة لو صحت بالمال لكانت عقوبة للوارث بأخذ ماله لأجل جناية الموروث، وهذا على خلاف حكم الله تعالى بقوله "ولاتزر وازرة وزر أخرى".
__________
(1) : في النسخة: العاشر. وهو على خلاف الترتيب المذكور سابقا. وقد كتب الناسخ، وهو أبو العباس الونشريسي في الهامش: انظر أين التاسع؟.(1/223)
الحادي عشر: إنه قول على خلاف المعقول، لأن العقوبات بالمال للجاني لاتعقل بعد موته، إذ لايتصور عقاب بعد الموت إلا في عالم الآخرة، وأما قي الدنيا فلا.
الثاني عشر: لو صح أن هذا من العقوبة بالمال لكان مندرجا فيما صح نسخه من ذلك. وقد تقدمت نصوص العلماء بنسخ العقوبة بالمال جملة، فلا معنى لإعادتها.
الثالث عشر: لو يصح النسخ لكان يكفي في ردها الذي يقتضيه الخبر، أنه خبر واحد على خلاف الأصول، وقد سبق من دفع الأصول له ما فيه كفاية، فلا معنى لإعادته.
الرابع عشر: يرد الاستدلال به ما تقدم من الإجماعات على أن الذنوب لاتحل مال المذنب.
فإن قلت: قد سبق الإجماع الذي نقلته من كتاب الإشراف أن الردة لا تبيح المال فضلا عما سواها، وأنت في هذا الكلام على هذا الحديث قد نقلت أخذ مال المرتد من الخلاف في أنه غنيمة أولا.
قلت: الجواب عن ذلك أنه إنما الإجماع بشرطين، الأول: مادام جاء، الثاني: ما لم يتحيز ويحتاج فيها إلى حربهم، أما إذا تحيزوا واحتيج إلى حربهم صارت دراهم بالردة دار حرب على القول به، فاعلم ذلك.
السابع : حديث: "الصفحة التي كسرها بعض أزواج النبي..."
قال: ومنها الصحفة التي كسرها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه، فأعطاها صحفتها ولم يبال هل كانت قيمتها أكثر أو أقل، وان تأول إن ذلك كله كان في بيته وتأول الجوزي(1)الحديث بأن فعله صلى الله عليه وسلم كان عقوبة للكاسرة. قال: والعقوبة بالمال مشروعة، وذكر أحاديث، منها ما قدمناه من تحريق رحل الغال، قال: وكل ذلك حكم باق عندنا(2).
أقول: الكلام عليه من وجوه:
__________
(1) : المراد به هنا ابن قيم الجوزية، وهو من الذين قالوا بجواز العقوبة بالمال.
(2) : لم يذكر ابن قيم الجوزية هذا الحديث ضمن الأحاديث التي استدل بها على العقوبة بالمال في مؤلفاته التي وقفت عليها في المسألة.(1/224)
الأول: قصة القصعة رواها أنس، وخرجه البخاري قال: "نا مسدد قال: نا يحيى ابن سعيد عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعة فيها طعام وقال: كلوا، وحبس القصعة والرسول حتى فرغوا، فدفع الصفحة الصحيحة وحبس المكسورة". وهذا نصه من كتاب المظالم، فترجم عليه باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره(1).
وفي باب الغيرة من كتاب النكاح قال: حدثنا علي نا ابن علية عن حميد عن أنس قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نساء، فأرسلت إحدى (55=211/ب) أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع الني صلى الله عليه وسلم فلق الصفحة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيه"(2).
__________
(1) : لم يذكر المؤلف النص كاملا من البخاري، وأسقط منه: فضربت بيدها فكسرت القصعة. فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ... كتاب المظالم – الباب 34 - حديث 2481. فتح الباري 5/124.
(2) : كتاب النكاح – باب 107 – حديث 5225 – فتح الباري 9/220.(1/225)
وخرجه أبو داود في السنن في أبواب الضمان بالسند المذكور أولا عند البخاري. ومن روايته أيضا عن محمد بن المثني عن خالد عن حميد(1)وخرجه أيضا من رواية عند مسدد عن يحيى عن سفيان قال: حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قال: قالت عائشة رضي الله عنها:"ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به إليه، فأخذتني الغيرة فكسرت الإناء، فقلت: يارسول الله ما كفارة ما صنعت؟، قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام"(2). فيستفاد من هذا الحديث أن باعثة الطاعم صفية، وكاسرة القصعة عائشة رضي الله عنها.
وكذلك خرجه الترمذي في كتاب القضاء، وترجم عليه: باب ما جاء فيمن كسر له الشيء ما يحكم له به من مل الكاسر. ونصه: حدثنا محمد بن غيلان نا أبو داود الجعبري عن سفيان الثوري عن حميد عن أنس قال: "أهدت بعض أزواج النبي صلى عليه وسلم طعاما في قصعة، فضربت عائشة القصعة(3)بيدها فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام وإناء بإناء. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وأردفه بقوله: نا علي بن حجر أن سويد بن عبد العزيز عن حميد عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار قصعة فضاعت فضمنها لهم"(4).
__________
(1) : بذل المجهود 15/244 – 245 – كتاب البيوع – ح: 3567.
(2) : بذل المجهول 15/246 – 247 – كتاب البيوع – ح: 3568.
(3) : زاد المؤلف هذا: وهذا أيضا يدل أن الكاسرة عائشة رضي الله عنها، ثم أتم الحديث، وقد أشرت إلى هذه الزيادة في الهامش، إذ لامعنى لورودها في المتن.
(4) : عارضة الأحوذي 6/113 – 114(1/226)
وخرجه النسائي أيضا عن محمد عن المثني عن عبد العزيز عن سفيان عن فليت عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كفارته، فقال: إناء كإناء وطعام كطعام"(1).
وقال: انا محمد بن المثني نا خالد نا حميد قال أنس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المومنين، فأرسلت أخرى بقصعة فيها طعام، فضربت يد الرسول فسقطت القصعة فأنكرت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى أخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: غارت أمكم، كلوا. فأكلوا حتى جاءت بقصعتها التي في بيتها فدفعت القصعة الصحيحة إلى الرسول وترك المكسورة في بيت التي كسرتها"(2).
أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا أسد بن موسى نا حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي المتوكل عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم وبين فلقتي الصحفة وهو يقول: كلوا، غارت أمكن ـ مرتين ـ ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطى صحفة أم سلمة لعائشة" انتهى(3). وهذا يدل على أن المكسور صحفتها هي أم سلمة رضي الله عنها، ويحتمل تكرار القضية لحامل الغيرة والله أعلم، وبذلك تتفق الأحاديث، إذا الطرق اختلفت.
__________
(1) : سنن النسائي بشرح السيوطي 7/71 – كتاب عشرة النساء – باب الغيرة.
(2) : نفس المصدر 7/70.
(3) : نفس المصدر 7/70-71.(1/227)
الثاني: إن هذا ليس من باب الحكم بين الناس وما يحملون عليه، وإنما هو من باب تصرف النبي صلى الله عليه وسلم في ملكه، لأن البيتين له صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن ما فيهما من طعام وآنية له. وإذا لم يكن هذا من باب الحكم في شيء، فالعقوبة بالمال أو غيره فرع الحكم وأخص منه، وإذا انتفى الأعم انتفى الأخص.
الثالث: سلمنا أن الطعام (56=212/أ) والإناء للكاسرة، فهو خارج مخرج الإصلاح لا مخرج الحكم، أنه صلى الله عليه وسلم في هذه القضية دفع المثل في المقوم.
قال الأمام سليمان الخطابي ـ رحمه الله ـ :"ولا أعلم أحدا من الفقهاء ذهب إلى أنه يجب في غير المكيل والموزون المثل، إلا حكي عن داود أنه يوجب في الحيوان المثل، فأوجب في العين العين وفي العصفور العصفور، وشبهه بجزاء الصيد". قال الشيخ أبو سليمان الخطابي:"الذي ذهب إليه من ذلك خلاف مذاهب عامة العلماء. والحكم في جزاء الصيد خاص، وحقوق الله سبحانه تجري فيها المساهلة ولا تحمل على الاستقصاء وكمال الاستيفاء لحقوق الآدميين، وقد أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العتق شركا له في عبد القيمة لا المثل، فدل على فساد ما ذهب إليه، قال علي: أن في إسناد الحديث، يعني حديث جسرة مقالا" انتهى(1).
وقوله: إن حقوق الله تعالى تجري فيها المساهلة إلى آخره، يعني أن المثل في المقوم كجزاء الصيد، فيه نوع من المساهلة، لأن المثل في المثليات قائم مقامها لتحقق المماثلة، وأما المقومات التي تتعلق الأغراض بأعيانها وتقصد بأشخاصها وإيجاب المثل فيها، فيه نوع من المساهلة، فلا يقضي به في حقوق الآدميين، انتهى. هي مبنية على الاستقصاء وكمال الاستيفاء، وإذا صح أن دفع المثل على خلاف القاعدة في أحكام الآدميين، والحديث مشتمل عليه، دل على أن ذلك من الإصلاح لا من باب الحكم.
__________
(1) : معالم السنن 5/201 –202.(1/228)
الرابع:(1)إن عدم أخذ الجمهور بالقضاء بالمثل من هذا الحديث يدل على أنه غير معمول به في باب الحكم، فضلا عن كونه عقوبة بالمال، ولاوجه إلا حمله على الإصلاح أو على أن المال ماله صلى الله عليه وسلم. على أن القضاء في اليسير من ذوات القيم وقع منه في المذهب المالكي ما يدل على الأخذ بهذا الحديث، ويبقى ما قاله الخطابي من أنه: لايعلم من قال بذلك الكثير من المقومات، وزعم بعض المتأخرين أن الحكم على من حرق الثوب برفوه، من الحكم بالمثل في يسير المقومات. ورده اللخمي(2)بأنه لو كان كذلك ما غرم النقص بعد إصلاحه.
فإن قلت: فما تصنع بحديث جريح؟، فإن ظاهر حكايته صلى الله عليه وسلم لقصته أنه حكم به فيها من إعادة صومعته طينا كما كانت،(3)جار على منهاج الصواب، وهو قضاء بالمثل.
__________
(1) : في النسخة: الثالث، وهو مخالف للترتيب المذكور سابقا.
(2) : هو علي بن محمد الربعي، أبو الحسن، شهر باللخمي، فقيه فاضل، حاز رئاسة الفقه والفتوى بافريقية. أخذ عنه المازري وغيره، كان مغرما بتخريج الخلاف في المذهب واستقراء الأقوال. توفي سنة 478. انظر: ترتيب المدارك 8/109 - الديباج 2/104-105 معالم الإيمان 3/199 شجرة النور 117.
(3) : الحديث في فتح الباري 5/126- كتاب المظالم – باب 35- ح: 2482. عن أبي هريرة (ص) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان رجل في بني اسرائيل يقال له جريح يصلي، فجاءته امه فدعته فأبى أن يجيبها، فقال: أجيبها أو أصلي؟، ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. وكان جريح في صومعته، فقالت امرأة: لافتنن جريحا، فتعرضت له فكلمته فأبي، فأتت راعيا فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما، فقالت: هو من جريح، فأتوه وكسروا صومعته، وأنزلوه وسبوه، فتوظأ، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟، قال: لا، إلا من طين. وانظر شرح الأبي لصحيح مسلم 7/4-5 – كتاب البر والصلة.(1/229)
قلت: ليس من باب الحكم بالمثل في المقومات لوجهين:
الأول: أنا نمنع كونه حكم، أو أنهم احتاجوا معه بعدما ظهرت براءته وكرامته على الله تعالى بنطق الصبي في مهد ببراءته، بدليل قولهم: نبني لك صومعتك من ذهب وفضة، فتواضع عليهم، قال: بل أعيدوها طينا كما كانت، والحكم إنما يحتاج له عند التشاح.
الثاني: سلمنا أنه من باب الحكم، فهم إنما تعدوا على الصومعة بهدم ما هدموا منها حتى أخرجوه، ومثل هذا لايبعد القضاء فيه بالبناء، حسبما تشهد له مسائل التعدي، ويبقى النظر في أن الصومعة بعد الرم هل نقصت قيمتها، ولكن ما كان الرجل يستقصي معهم في مثل هذا، ولا هم بالذين يقصرون في بنائها حتى تنقص قيمتها، وإذا كان ما نقص البناء بعد الرم إنما سقط لكونهم سومحوا فيه وأتوا به على أحسن وجه حتى لم ينقص، هذا من القضاء بالمثل حسبما أشار إليه اللخمي في مسألة الثوب.
وفي الإكمال: القضاء على من هدم حائطا ببناء مثله مذهب الكوفيين والشافعي وأبي ثور(1). وفي العتبية عن مالك مثله(2). ومذهب أهل الظاهر في كل متلف(3). ومشهور مذهب مالك وأصحابه وجماعة من العلماء أن فيه وفي سائر المتلفات المضمونة القيمة، إلا ما يرجع إلى الكيل والوزن، ولاحجة لأولئك في الحديث، لأنه في شرع غيرنا، وليس فيه أن نبينا صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ولعله بتراضيهما. ألا ترى إلى قولهم: نبنيها لك بالذهب(4).
__________
(1) : راجع: بدائع الصنائع 6/9 – والمجموع شرح المهذب 9/277 –278 – والمعتصر من المختصر 2/5 – وفتح الباري 5/125-126 أعلام الموقعين 3/44 –45.
(2) : البيان والتحصيل 9/257 – 392.
(3) : المحلى 8/135 –المسألة: 1259.
(4) : قارن بإكمال الاكما ل للابي 7/5-6.(1/230)
الخامس: من وجوه الكلام على الاستدلال على العقوبة بالمال بحديث الصحفة (57=212/ب) أن نقول أن المال لكاسرة الصحفة، فليس ذلك من قبيل الحكم، بل إنما الكاسرة اختارت ذلك وطلبته من النبي صلى الله عليه وسلم على معنى التكفير لما فعلت، بدليل ما خرجه أبو داود والنسائي من قولها للنبي صلى الله عليه وسلم: ما كفارة ماصنعت؟، فسألت النبي عن كفارته.
السادس: من الدليل أيضا على أنه ليس بحكم، قول النبي صلى الله عليه وسلم: إناء كإناء وطعام كطعام، وإن كان الطعام والإناء ملكا لصفية أو لأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ فقد خرجت عن الطعام ببعثه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وإن كانت العادة تقتضي رد الصحفة، فإنها لا تقتضي رد الطعام، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم: وطعام كطعام. ولذلك بعثت صحفتها، ولم يذكر أنها بعثت طعاما. وما ذلك إلا لأن الطعام لم يبق فيه حق لمن كسرت صحفتها بوصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وما صار إخراج عائشة الطعام إلا على معنى الكفارة، والقاعدة تقتضي أن طعام الكفارة للفقراء، فلذلك ـ والله أعلم ـ لم تبعث الطعام في الصحفة.
السابع: أنه صلى الله عليه وسلم قد ضم الطعام وأمر من كان معه من أصحابه بأكله، فلم يتلف الطعام، وهذا ما يبين أن إلزام الطعام ليس على معنى الحكم.
الثامن: سلمنا أن الطعام والصحفة لمن بعثه، وأن هذا ليس على معنى الصلح، بل على معنى الحكم، فهو من باب ضمان المتلف لا من باب عقوبة الجناة بالمال، كما توهمه المستدل. والدليل على ذلك أن البخاري ـ رحمه الله ـ ذكره في كتاب المظالم وترجم عليه: باب ما إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره، يعني ماذا يحكم به على المتلف في ذلك عوضا عن ذلك.(1/231)
إن الترمذي خرجه في باب القضاء وترجم عليه: ما جار فيمن يكسر له الشيء ما يحكم له به من مال الكاسر(1)، ولذلك استدل الظاهرية به على إلزام المثل في المقومات أو في بعضها(2). واستدل به من يرى القضاء بالمثل في يسير المقومات. ولم يقل أحد منهم باب عقوبة من جنى بالمال، ولا باب من أفسد شيئا يعاقب بمال زائد على التلف، ولا باب من يكسر له الشيء يؤخذ من مال الكاسر ما يوضع في بيت المال ويوقف ويعطي للمجني عليه زائدا على المتلف، كما صدرت به هذه الفتيا البديعة التي لم تسبق إلى مثلها.
التاسع: إن غرم المتلفات قاعدة متفق عليها، والعقوبة بالمال لا على معنى غرم المتلفات قاعدة مختلف في وجودها شرعا. ثم على القول بوجودها، فالجمهور على نسخها. وفي المحل من القرائن الصارفة النازلة عن باب الغرم إلى باب العقوبة بالمال عدول عن صرف مصرف الشارع إلى حكم وافق الأصول وأجمع على صحته، وشهدت قرائن الحال والمفتي به ماهو بالضد من ذلك إلى ما ليس كذلك، وذلك تحريف للكلام عن مواضعه، وتعصب بارد غير مقبول ببداهة العقول.
العاشر: قوله: وتأول الحديث الجوزي بأن فعله صلى الله عليه وسلم كان عقوبة للكاسرة.
أقول: إن صح هذا عنه، فإن كان أراد ما قصده هذا المملي من العقوبة بالمال على الجنايات لا على غرم المتلفات على متلفيها، فكل ما أوردناه وارد عليه، والظاهر أنه لم يرده لوجوه:
الأول: ما علم من ذكائه
الثاني: إن هذا المعني جلي لا يحيد عنه إلا غبي أو متغاب.
الثالث: إنهم يعدون غرم المتلفات من التعزيزات، ويسمونه عقوبة بالمال. وهو بهذا المعنى مجمع على صحته، ولم يبق إلا الإطلاق اللفظي، لا مشاحة في الألفاظ، فاعتنى هذا المملي بالاشتراك اللفظي، وهو لايفيد مقصوده.
فإن قلت: ما سند هذه الدعوى، أعني الدليل على صحة هذا الإطلاق بهذا الاصطلاح (58=213/أ).
__________
(1) : عارضة الأحوذي 6/113.
(2) : المحلى 8/141 – مسألة: 1259.(1/232)
قلت: أما تقسيم الجنايات على ما يوجب الغرم وغيره فأمر أشهر من أن يستدل عليه، وأما إطلاق العقوبة عليه فصحيح لغة وشرعا واصطلاحا.
أما لغة، فالعقوبة أن يجريه معاقبه ما فعل، هذا تفسير أهل اللغة.
أما شرعا، فقد قال تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"(1).
أي أن صنع بكم صنيع سوء فعاقبوا أن عاقبتم بمثله ولا تزيدوا عيله. ويسمى الفعل الأول باسم الثاني للمشاكلة(2). وقد يطلق عليهما للمزاجة.
__________
(1) : سورة النحل، الآية: 126 .
(2) : المشاكلة: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته. والاثر الذي تحدثه المشاكلة في نفس السامع هو إيقاظها إلى التشاكل والتشابه بين الامرين نتيجة للإيحاء الذهني الذي يحدثه التعبير عنهما بلفظ واحد، مع أنهما مختلفان في الحقيقة : ليتأثر السامع بذلك التشاكل في اتجاهه نحوهما. راجع: الاتقان للسيوطي 2/94 – وشرح لامية الزقاق للصنهاجي 1/23 –24.(1/233)
وجمهور المفسرين أن الآية مدنية، نزلت في شأن الممثل بحمزة ـ رضي الله عنه ـ يوم أحد، وروى الدارقطني عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:"لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى منظرا أساءه، رأى حمزة قد شق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، وقال: لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطيور، ولأمثلن بسبعين رجلا، ثم دعا (ببردة)(1)وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه، فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه، وجعل من الادخر على رجليه، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ... إلى قوله: "واصبر وما صبرك إلا بالله"(2). فصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يمثل بأحد(3).
وخرجه اسماعيل بن إسحاق من حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ.
قال الطبري: وقالت فرقة: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لاينال من ظالمه إذا تمكن إلا بمثل ظلامته، لا يتعداه إلى غيره. ومن قاله به ابن سيرين ومجاهد وحكاه الماوردي(4).
فها هو لفظ العقوبة شرعا وسنة يطلق على الاقتصاص من الظالم بمثل ما ظلم على تفصيل فيه يطول ذكره.
__________
(1) : بياض في الأصل.
(2) : سورة النحل، الآية: 125-127.
(3) : تفسير القرطبي 10/201- وانظر سنن الدارقطني 4/118 – كتاب السير، ح: 74 – وشرح معاني الآثار 3/183 –184.
(4) : الكلام كله إلى هنا موجود بنصه في تفسير القرطبي السابق وانظر تفسير الطبري: 14/132 –وقد ورد الكلام فيه بالمعنى.(1/234)
وترجم البخاري ـ رحمه الله باب قصاص إذا وجد مال ظالمه. وقال ابن سيرين: يقاصه، وقرأ: "وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به":أخبرنا أبو اليمان قال: أنا شعيب عن الزهري قال: حدثتي عروة أن عائشة قالت: "جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت: يا رسول الله، أن أبا سفيان رجل مسيك، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟، فقال: لاحرج عليك أن تطعميهم بالمعروف"(1).
نا عبد الله يوسف نا الليث حدثني يزيد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: "قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم أنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا، فقال لنا: أن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فأقبلوا، فان لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف" انتهى(2).
فأنت ترى كيف أطلق المعاقبة على أخذ ما وجب من الحق على منعه، وأدرجه في معنى الآية. فإذا صح إطلاق المعاقبة على أخذ ما ترك من الحق، كان إطلاقه على إغرام ما أتلف على ريه أولى. فإذا كان هذا الإطلاق صحيحا من كل وجه، وقضية الصحفة وإن كانت من باب الحكم على كاسرتها، فما هو إلا حكم بالغرم للمتلف، لا للمعاقبة على الجناية بمال لا على معنى الغرم. وهو بهذا المعنى مجمع عليه، لم يكن في قول الجوزي: هذا عقوبة للكاسرة دليل على المعنى المقصود الاستدلال عليه من أن من جنى جناية أجنبية على إتلاف المال يغرم مالا لبيت المال وللمجني عليه، أو للإيقاف، إلا لمن أفحش في الغلط أو قصد المغالطة.
قوله : قال: والعقوبة بالمال مشروعة
أقول : الكلام عليه من وجوه.
__________
(1) : فتح الباري 5/107 – كتاب المظالم – باب 18 –ح :2460.
(2) : فتح الباري 5/108 – كتاب المظالم - باب 18 –ح: 2461. وانظر المعلم للمازري 2/270-271.(1/235)
الأول : أنه أن أراد، إن صح النقل عنه، أن العقوبة بالمال، أي إغرام المتلف لما أتلفه مشروع، فهو كلام صحيح. وان أراد المعنى الذي أفتى به المفتي آنفا، فهو كلام باطل إجماعا، كما سبق غير مرة، أعني أخذ مال المذنبين على غير نظام الوقائع التي نقلت. وإن كان أراد المعاقبة فيما عصى الله به من غش بإتلافه أو التصدق به والإفساد بمحال المعاصي على النمو الوارد منه، فهو متأول عند الجمهور، وما أوهم ذلك عندهم من الجزئيات مردود إلى ما علم من أصول الشريعة ردا ظاهرا في أكثر الوقائع، وبالتأويل في أقلها المختلفة (59=213/ب)، الأصول، وهو صحيح عند غيرهم. ثم الذين صححوا، جمهورهم نقلوا نسخة، وأنه أمر كان في أول الإسلام ثم نسخ.
الثاني: أن قصد هذا المملي أن يجعل نقل الجوزي هذا دليلا على أنه يرى العقوبة بالمال في مسائل الحدود وغيرها، وليس في كلامه هذا دليل على ذلك، بل نقله لهذه الجزئيات التي رآها دليلا، وزعمه بقاء حكمها، دليل على أنه إنما أراد إنكار نسخ بقاء الحكم فيه.
الثالث: ان كان يرى القياس على ما ورد من ذلك، فلا بد من مراعاة شرائطه. وما قصد إليه هذا المملي قياس فاسد الوضع، فلا يقول به الجوزي ولا غيره.
الرابع: ينظر هذا الجوزي من هو، فإن عنى به ابن قيم الجوزية، فالذي نقل عنه ما تقل عنه أن العقوبة بالمال من باب التعزيرات. وقد نقل هو اتفاق العلماء على أنها في غير مسائل الحدود. وهذا نصه، قال:(1/236)
الفصل التاسع: في الزواجر الشرعية:"التعزيرات والعقوبة بالحبس وهو تأديب واستصلاح وزجر على الذنوب التي لم يشرع فيهاحدود ولاكفارات". قال ابن قيم الجوزية: "اتفق العلماء على أن التعزيز مشروع في كل معصية ليس فيها حد، بحسب الجناية في الكبر والصغر، وبحسب الجاني في الشر وغيره" انتهى(1).
هذا كلامه في التعزير المتفق على صحته ووجوده، فكيف تتوزع في صحته؟، والجمهور على عدمها، ثم جمهور من قال بوجوده على ثبوت نسخه، ومنهم جماعة حكوا انعقاد الإجماع على نسخه.
الخامس: إن هذا من هذا المفتي نوع من الاجتهاد لم يسبق إلى مثله، يريد أن يثبت في مذهبه قولا، نصوص امامه متظاهرة على نقيضه، "فإنه لاذنب من الذنوب يحل مال إنسان ولو قتل نفسا"(2). ونصوص أئمة مذهبه على ذلك، فقياس فاسد في محل الإجماع، فكلام وقع لمخالف لمذهب امامه لم يعطه من الفهم حقه، ولا أنزله منزلته من مراد قائله. سبحان الذي يحول بين المرء وقلبه.
قوله: وذكر أحاديث، منها ما قدمناه من تحريق رحل الغال.
أقول: وقد قدمنا الكلام فيما ذكره هذا المملي من ذلك على التفصيل، وأرشدنا إلى ما لم نذكره من ذلك، وجهة رده على الإجماع.
قال: وكل ذلك حكم باق عندنا.
__________
(1) : لقد تعذر علي الوقوف على هذا النص في كتب ابن قيم الجوزية التي رجعت إليها في المسألة. وأورد تقريبا منه في : اعلام الموقعين 2/118 – والطرق الحكمية 265-266 إغاثة اللهفان 1/331-333 بدائع الفوائد 3/154 – رحمة الأمة في احتلاف الأئمة 290 – زاد المعاد 3/371 وقارن بتبصرة الحكام 2/187، حيث عقد الفصل التاسع في الزواجر والسياسة الشرعية، ثم قال في الصفحة 293. الفصل الحادي عشر في الزواجر الشرعية والتعزيزات والعقوبة والحبس، والتعزيز تأديب استصلاح وزجر على ذنوب لم يشرع فيها حدود ولا كفارات.
(2) : البيان والتحصيل 9/359 – و 16/297.(1/237)
أقول: وهو أن قال ذلك، فلا حجة لك فيها أيها المملي لما أردته، لإنكار أكثر العلماء العقوبة بالمال، والإجماع على أن النسخ فيما وقع من ذلك حسبما قال أكثر من قال بصحة ذلك في أول الإسلام. وتغافل عن رد الوقائع إلى الأصول المعلومة شرعا، ولأن القياس بعد تسليم البقاء الحكم إلى ما رمته باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة حسبما تقدم.
الثامن: تخريج ابن بشير العقوبة بالمال على الكفارات.
قال: وإلى هذا ونحو منه أشار ابن البشير(1)فقال: الصدقة بالمال الكثير عقوبة بالمال، وقد وردت العقوبة به في الكفارات، وبين الأصوليين خلاف في المقدرات.(2)
أقول : والكلام على هذا أيضا من وجوه :(3)
__________
(1) : تقدمت ترجمته.
(2) : التنبيه لابن بشير ص : 355 (نسخة خاصة).
(3) : سيذكر المؤلف وجهيين فقط.(1/238)
الأول: إنه قد تقرر من قول مالك ـ رحمه الله ـ نصا لا يحتمل التأويل بوجه أن ذنبا من الذنوب لا يحل ماله إنسان، وإن قتل نفسا. فهذا كما تراه نفي للعقوبة بالاموال. وعلى هذا النص تبعه إعلام من أئمة مذهبه، وهو النص الذي يعضده إجماع الأمة كما حكيناه كثيرا من هذا أول كلامنا معه حيث أراد البقاء على المصالح المرسلة، ويعضده قواطع الكتاب والسنة التي دلت على تحريم أكل المال بالباطل، وعصمة المال بالإسلام، وتشديد حرمة الأموال حتى قدمت على الأعراض، وجمعت مع النفوس في وعيد واحد، فراجع ما سبق إن شئت، فالعقوبة بالمال إنما أصل مقطوع بنفيه مذهبا وشريعة متيقنة جزما، ولم ينقل مما يعارض ذلك ويوهم خلافه، الأجزئيات محتملة للتأويل تأولها جمهور الأئمة، وردوها إلى ما علم من يقين الشرائع، وما عسر عليهم من ذلك حكموا بنسخه، أو بأنه من القضايا العينية التي لا تتعدى (60=214/أ) أحكامها إلى غيرها. ألا ترى أنه لا يوجد قط عن مالك صريحا أن الذنب يحل المال، ولا أن العقوبة بالمال جائزة، ولا يوجد ذلك أيضا عن لفظ عمر ولا غيره من خلفاء النبوة، ولا من متقدمي العلماء؟، ووإنما وقع ذلك على شهادتهم إن امام مذهبهم لم يقل به قط، وإنما خرجوه وألزموه ذلك من جزئيات، لو سمع ذلك منهم ما التزمه ولا قال به.(1/239)
ألا ترى إلى قوله في الرواية: "وأرى أن يؤدب من أنهب وانتهب"(1)، مع أنه لم يسأل عن ذلك وإنما جاء به عن طريق "قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقريبن"(2)دليلا على تعظيمه لحرمة المال، وأنه لا يجترئ على عقوبة مسلم إلا بقاطع، لا سيما ولم يسأل عن ذلك، فمن أبعد بعيد أن يخالف قوله في ذلك. غير أن وقائع الصحابة ربما أنس بها فيما أراده من الاستدلال، فيوهم من لم يحط بحقيقتها أنه يرى العقوبة بالمال. ألا ترى إلى كلام ابن بشير الذي نقله هذا المملي، وهو واقع في كتاب الصرف من تنبيه كيف قال: والصدقة بالمال الكثير عقوبة بالمال، وقد وردت العقوبة في الكفارات، إلى آخره؟.
فانظر كيف التجأ إلى تخريج العقوبة في المال على الكفارات على فساد هذا التخريج، حسبما أبينه لك إن شاء الله تعالى. فلو وجد أصلا من أصول الشريعة يشهد له أبين من هذا لجاء به، ولو جد نصا لامامه أوخلاف لقوله:"لاتحل الذنوب مال إنسان ولو قتل نفسا" لاتى به.
والكلام معه في كون هذا عقوبة بالمال ثم في التخريج، وإذا علمت هذا تبين لك ضعف إطلاق من أطلق وجود العقوبة بالمال في المذهب ونسبته إلى مالك ـ رحمه الله-.
الثاني: إن الذي دعا ابن بشير إلى ما قاله في ذلك ما وقع في المدونة في مٍسألة الدراهم الستوق. قال: "ولايعجبني أن يباع الدرهم الستوق الرديء بدرهم فضة وزنا ولا بعرض، لأن ذلك داعية إلى إدخال الغش وإفساد لأسواق المسلمين، وقد طرح عمر ـ رضي الله عنه ـ في الأرض لبنا غش أدبا لصاحبه، لكن يقطعه، فإذا قطعه جاز بيعه إذا لم يغر به الناس ولم يكن يجوز بينهم". زاد عن أشهب أنه إذا خاف بعد كسرة أن يسيل فيجعل دراهم أو يباع على وجه الفضة، لم يبع حتى يصفوه، فتباع فضته على حدة ونحاسه على حده" انتهى(3).
__________
(1) : البيان والتحصيل. السابق.
(2) : سورة البقرة، الآية: 215.
(3) : المدونة 3/115(1/240)
فوجه إدخاله مافعله عمر من طرح اللبن المغشوش انه حكم أن الدرهم المغشوش لا يباع البتة بعين ولا بعرض لما رأى بيعه ذريعة إلى إدخال الغش وفساد الأسواق، وذريعة المحرم الموصلة غالبا إليه عنده محرمة، رأى أن يرد عليه أن يقال: أن في ذلك تعطيلا للمرء عن الانتفاع بماله، والأصل إباحة الانتفاع للمالك، فاجاب عن ذلك بقوله: وقد طرح .. إلى آخره.
ووجه الاستشهاد بما فعله عمر أن يقال: مغشوش وجب صرف مفسدته عن المسلمين، ولا يتأتى إلا بكسره أو بتصفيته، فوجب من باب ما لايتوصل إلى الواجب إلا به قياسا على ما صنع عمر ـ رضي الله عنه ـ في اللبن المغشوش، وهو احروي، لأن طرح اللبن إتلاف له جملة، بخلاف كسر الدرهم فقد فعله عمر ـ رضي الله عنه ـ وحكم به في مثل ما حكمت به. ألا ترى كيف أبطل منفعته باللبن المغشوش لما كان تركه بيده ذريعة إلى أن يغش به غيره؟.
ثم ما قلته من كسر الدرهم المبطل لغشه ثم يباع بعد ذلك، أسهل مما صنعه عمر، إذ عطل جميع وجوه الانتفاع به. فمالك ـ رحمه الله ـ لم يستشهد بالأثر عن عمر على العقوبة على الذنب بالمال، بل على أنه لم يتأت صرف مفسدة الدرهم عقوبة عن المسلمين إلا بتعطيل منفعة المغشوش صير إليه. فليس كسر الدرهم عقوبة للذي غشه، ولا طرح اللبن متمحض لذلك، وإنما المقصود الأول من ذلك إذهاب الغش، ولو تأتي تخليص ما غش به الدرهم واللبن من غير إتلاف ولا كسر، لما فعل في المال ذلك، وإنما يعاقب بغيره ذلك من عقوبات الأبدان. ألا تراه أجاز بيعه بعد الكسر وأنه خيف الغش به مكسورا أجاز بيعه بعد تصفيته؟. ألا ترى أنه لم يقل هنا" يتصدق بالدرهم الستوق (61=214/ب)، ولا: يوضع في بيت المال، ولا: يوقف، كما قال هذا المملي في احكامه البديعة التي خالف بها الشريعة؟.
فان قلت: فما وجه ما فعله عمر من طرح اللبن مع إمكان أن يتركه لصاحبه فيشتريه أويتصدق به، إن لم يكن من باب العقوبة بالمال كما زعمته؟.(1/241)
قلت وجهه أن اللبن لما كان بعد غشه لا يتأتى تخليصه من الغش، وكان من غشه غير مأمون عليه أن يبيعه، لم يتأتى بقاؤه بيده لا لينتفع به، ولا ليتصدق به، فانحصر الأمر بحكم الحال بعد ذلك على وجهيين، أما أن يطرح، وأما أن يتصدق به، فرأى عمر ـ رضي الله عنه ـ ترك الصدقة به وطرحه. اما لان الصدقة بمال الغير على خلاف الأصل، اما لأن ذهاب الغش بإبطال المغشوش الذي لا يتأتى تمييزه، أما لأن الصدقة لا يومن معها أن يغش المتصدق عليه به غيره ببيعه له، وأما لأنه رأى خلطه بالماء على وجه أخرجه عن حرمة الطعام، فصار طرحه كطرح الماء مع إذهاب الغش، واما انه لم يجد في الحال من يتصدق به عليه، اما لأنه خبيثا فلا يصلح للصدقة، واما لأنه رأى ذلك أخف من أن يأمر صاحبه بشربه، إذ لايشتهيه، أو يضر به، أو لغير ذلك مما شاء الله. فهذا هو المقصود الأول من ذلك، إذ لو لم يغش اللبن ما تصرف فيه بذلك.
فإن قلت: فقد قال أدبا لصاحبه.
قلت: نعم، والأدب حاصل في ضمن ما لا يتوصل إلى إزالة الغش إلا به، فمصاحبته للمقصود الأصلي ليس بالذي يصيره مقصودا، وليس بالذي يبيح القياس عليه مع إلغاء أصله. فإذا فهمت ذلك علمت أن ما قيل من أن هذا عقوبة بالمال، كلام خرج على غير أصل، ولا تحصيل مع معارضته القواطع الشرعية والبراهين النقلية. فهل يسوغ، مع إمكان رد هذه الوقائع الجزئية إلى الأصول الشرعية، هدم ما علم من الدين ضرورة بمجرد تحميلها على وجه لايسعها من القواعد أصل ولا من صحيح التوجيه.
فإن قلت: فهل يقول مالك في اللبن بما قاله عمر ـ رضي الله عنه ـ من طرحه؟.
قلت: في العتبية في رسم مالك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان: وسئل مالك عن الرجل يشتري الزعفران فيجده مغشوشا افترى له أن يرده؟، قال: نعم، أرى له أن يرده، وليس عن هذا صاحب السوق، إنما سألني عمل أراه من أنه يحرق المغشوش بالنار لما فيه من الغش، فنهيته عن ذلك.(1/242)
وسئل مالك عمن يغش اللبن، أترى أن يهراق؟، فقال: لا، ولكني أرى أن يتصدق به على المساكين بغير ثمن، إذا كان هو الذي غشه. قيل له: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟، قال: مايشبهه بذلك إذا كان هو الذي غشه.
وسئل ابن القاسم عن هذا قال: أما الشيء الخفيف فلا أرى به بأسا، وأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك، وأرى على صاحبه العقوبة، لأنه تذهب في ذلك أموال عظام.
قال ابن رشد ـ رحمه الله ـ "لم ير مالك ـ رضي الله عنه ـ أن يحرق الزعفران المغشوش على صاحبه بالنار، ولا أن يهراق اللبن المغشوش على الذي غشه. قال في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب: وأرى أن يضرب من أنهب وانتهب، وأرى أن يتصدق به على المساكين أدبا له. فسواء كان على مذهبه يسيرا أو كثيرا، لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره. وخالف ابن القاسم في ذلك، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا باليسير، وذلك إذا كان هو الذي غشه، وأما من وجد عنده شيء من ذلك مغشوش لم يغشه هو، وإنما اشتراه أو وهبه أو تصدق به عليه أو ورثه، فلا اختلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك، الواجب أن يباع لمن يومن أن يبيعه من غيره مدلسا بذلك، وكذلك أوجب أن يتصدق به من المسك والزعفران على الذي غشه، يباع ممن يومن أن يغش به ويتصدق بالثمن أدبا للغاش الذي غش به.(1/243)
وقول ابن القاسم: انه لايتصدق من ذلك على الغاش إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك، لأن الصدقة بذلك إنما هي من باب العقوبات (62=215/أ) في الأموال، والعقوبات في الأموال أمر كان في الإسلام، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة "انا آخذوها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا"، وماروي عنه في حريسة الجبل من أن "فيه غرامة مثيلها وجلدات نكال"، وماروي عنه من أن "من أخذ الصيد في الحرم فإن سلبه للذي يأخذه". ومثل هذا كثير، نسخ ذلك كله بالإجماع على أن ذلك لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا، والقياس أن لا يتصدق بشيء من ذلك، لا بالقليل ولا بالكثير"(1).
هذا نص هذا السماع وكلام القاضي عليه، وهو وإن كان المقصود منه نقل قول مالك انه لا يطرح اللبن المغشوش، لكن رأينا الاتيان به على التمام لما يحتاج منه إلى الكلام عليه فيما يأتي من الكلام إن شاء الله.
__________
(1) : البيان والتحصيل 9/318 – وقارن بالذخيرة للقرافي 10/54. وثلاث رسائل في آداب الحسبة ص: 87 و 92.(1/244)
فإن قلت: فإذا كان مالك ـ رحمه الله ـ لا يرى بطرح اللبن المغشوش، فكيف يصح له الاستدلال بتلك القضية العمرية بكسر الدرهم؟، فهو يقيس على أصل يخالف فيه، وهذا امر لايصح فمن شرط القياس أن يتحد نوعه، فإن اختلف حكم الفرع والأصل لم يصح، وها هو ذا مختلف، لأن الحكم في الفرع الكسر، والحكم في الأصل على مذهب عمر ـ رضي الله عنه ـ الطرح، وعلى مذهبه هو الصدقة. وأيضا، ضمن شرط حكم الأصل أن لايكون منسوخا. وقد نقل الائمة النسخ فيما وقع من العقوبات المالية، وعد منها هذا باللزم أحد هذين الأمرين، أما بطلان قياس مالك، وأما أن لاتكون العقوبة المالية منسوخة. وأيضا، فان الحكم في المسلمين منوط بالغش، وتحريم الغش وصرف الضرر عن المسلمين أدلة متناولة الأصل كما هي للفرع، فنسبتها إلى الأدلة الشرعية نسبة واحدة، فكيف يصح ومن شروط الأصل أن يكون دليلا قاصرا عليه دفعا للحكم.
فالجواب: أن نختار أن الحكم عند مالك ثبت لا بهذا القياس، بل بالدليل الدال على دفع الضرر وإبطال الغش وحسم الفساد، وقد قال الله تعالى: "ولاتبخسوا الناس أشياءهم ولاتعتوا في الأرض مفسدين"(1)، وجاء"لاضرر ولا ضرار"(2)، ومن ضار مسلما فعليه لعنة الله. والإجماع على أن الغش منكر، وعلى تغيير المنكر باليد لمن قدر عليه، وهذا من تغييره باليد، وهذا ذريعة للمحرم وصلة إليه غالبا، فأدلة حسم الذرائع تتناوله، فلا بد من رفع الفساد بأقل ما يمكن، وأقله هنا كسر الدرهم، وهو أن أبطل انتفاعا بصورة الدرهم غير ممتنع إذ لا يتأتى الوصول إلى الواجب إلا به، بل أن كان لايكفي فلابد من تصفيته كما قال أشهب.
__________
(1) : سورة هود، الأية : 85.
(2) : أخرجه الامام مالك في الموطأ. انظر: النمهيد لابن عبد البر 20/157 – وانظر كذلك تخريج الحديث وطرقه في ارواء الغليل 3/408-415- ح: 896 – و8/272 – ح:2653- وسنن الدارقطني 4/227 –كتاب الاقضية – ح: 83-84.(1/245)
وإنما جاء مالك ـ رحمه الله ـ بمسألة اللبن ليتبين أن رفع الغش والفساد وان أدى إلى إبطال المال المغشوش جملة، فلا يكون ذلك الإبطال مانعا من رفع الفساد به، ودلالته على كسر الدرهم أحروية كما سبق، فكان الفرع إنما جاء به لإزالة تخيل المانعية كما توهم مانعا.
سلمنا انه أراد إثبات الحكم بالقياس، فالحكم المستنتج بالقياس إبطال للغش الذي هو أعلم من الطرح والإتلاف، لاخصوصية الإتلاف. وهذا المستنتج بالقياس لاينازع مالك فيه في مسألة اللبن، لكنه يرى الصدقة كافية في إبطال الغش، وأرجح من اراقته، والمستنج بالقياس لا يخالف فيه مالك، وليس بخلاف حكم الفرع، ولا هو أيضا معاقبة بالمال، وإنما هو إبطال للغش بالقصد الأول، فجاء إتلافه والتصدق به من حيث ما حصل به إبطال الغش، لا من حيث المجازاة عل ذنب بغرم المال. ألا ترى أنه لما أمكن إبطال الغش بكسر الدرهم لم يتصدق به على الذي غشه ولم يطرح. وهذا المعنى من إبطال الغش ليس بمنسوخ، وإطلاق من أطلق عليه عقوبة بالمال أن أراد ماقصده المملي فقد تبين بطلانه، وإن أراد إبطال الغش حيث لم يتأت إلا بإتلاف المال وبعض منافعه صير إليه، فصار في صورة العقوبة بالمال، وليس منه بصحيح ى نص. وكذلك ترى عبارة ابن رشد في هذا وابن بشير وغيرهما بالعقوبة في المال (63=215/ب) لا بالعقوبة بالمال، كما قاله المملي عنهم. فالعقوبة في المال أقرب، لأن هذه العبارة تقتضي: الذي وقعت فيه المعصية يوقع فيه ما يزيل ضرر تلك المعصية، لا أن من أذنب ذنبا يوخذ منه مال لبيت المال، كما زعمه المملي، وخلص من هذا الجواب عن مالك الاسئلة بأسرها.
فإن قلت: فلم عاد مالك ـ رحمه الله ـ في اللبن إلى الصدقة ، وترك قول عمر ـ رضي الله عنه ـ بالطرح؟.(1/246)
قلت: يرى أن غشه لا يقبل الزوال، ولايصح بقاؤه بيد من غش، لأنه غير مأمون عليه أن يغش به، ورأى له حرمة الطعام التي يمنع طرحه. ولعله فيما خف ما خولط به من الماء، فصار بمنزلة الاموال الضائعة، فصرف للفقراء.
فان قلت: قول عمر ـ رضي الله عنه ـ أشفى للنفس، وأذهب للغش، لايومن ممن يتصدق عليه أن يغش به، ولاسيما على ما قاله القاضي ابن رشد: أن ما كان للصدقة من المغشوش يباع ممن لا يغش به ويتصدق به. فإذا بيع ممن لايغش به، فهب أنه لايغش، ولكن قد يبيعه ممن يغش. لكن مالكا رأى أنه إذا لم يبق بيد الذي غش واعتاد الغش كان من المحذور مظنونا.
فإن قلت: ان لم يكن هذا من باب العقوبة بالمال، فهلا قال: يباع ممن يغش.(1/247)
قلت: فإتلافه أذهب الغش من أسواق المسلمين، ويمنع من بيعه، أن الغش إذا لم يتأت انفصاله، ولم يعرف مقداره رفض بيعه، مع ذريعة بقاء الغش به إلى بيع مجهول، لأنه لا يعرف مقدار الغش فيه. وأيضا، فإذا بيع الدرهم المغشوش بغيره، والدينار المغشوش بالدينار الجيد من باب بيع الفضة بالفضة والنحاس، والذهب بالذهب والفضة والنحاس، وذلك لا يجوز. ولهذا منع أشهب في المدونة بيعه، ولم يجزه إلا في المبادلة على وجه المعروف.(1)وهو الذي نسبه ابن رزق(2)إلى مالك وقال: لايجوز على مذهبه بيع العبادية بالعبادية والشرقية بالشرقية، لأنه ذهب وفضة بذهب وفضة، وذهب ونحاس بذهب ونحاس، حسبما حكاه ابن رشد، وهو الذي نسبه المازري لبعض الشيوخ، وان كان ابن محرز(3)رأى أن ذكر الوزن يدل على أن المراد بالمبادلة عنده في هذا المراطلة بالمغشوش كغيره بالغش فيه، كما نص ومال إليه معظمهم. والأول هو الذي صححوه فاعلمه.
فإن قلت: ما نقله المملي عن ابن بشير من أن الصدقة بالكثير عقوبة بالمال يقتضي أن التصدق بالقليل ليس كذلك، فهل الامر بالقليل كذلك أم لا؟
قلت: لافرق بين التصدق بالقليل والكثير في ذلك؟ ولذلك رأى ابن رشد تفريق ابن القاسم بين القليل والكثير من المغشوش استحسانا، وقال: القياس أن لايتصدق بشيء من ذلك قليلا كان أو كثيرا.
__________
(1) : المدونة 3/115.
(2) : هو أبوجعفر أحمد بن محمد بن رزق القرطبي، الفقيه العالم، وشيخ الفتوى المشاور، أخذ عن ابن القطان وابن عتاب، وأجاز له عبد الحق الصقلي. تققه به القرطبيون، منهم: ابن رشد وابن الحاج وأصبع. توفي سنة 477هـ. انظر: شجرة النور الزكية ص: 121.
(3) : هو أبو بكر بن محمد، عرف بابن محرز. الشيخ الفقيه الحافظ. قرأ بالاندلس ولقي بها العلماء، ثم ارتحل إلى بجاية فاستوطنها، وكان معظما عند اهلها. توفي سنة 655هـ. انظر: عنوان الدراية للغبريني 283- توشيح الديباج ص: 239 – نيل الابتهاح 380- شجرة النور 194.(1/248)
والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة واعلام الأئمة أن الإسلام يعصم المال عصمة محققة، وان الذنوب وان عظمت لا تحل مال مسلم، وان التخيل فيه أنه عقوبة بالمال مردود بالتأويل عند أكثر العلماء إلى أصل يخرجه عن العقوبة بالمال، ومنسوخ عند من لم يهتد إلى رد تلك الشوارد إلى أصولها، حسبما نص عليه الجمهور.
فمالك أصل مدركه في الصدقة بالمغشوش أنه معنى يذهب الغش من أسواق المسلمين، وهو الذي حمل عمر ـ رضي الله عنه ـ على إراقة اللبن، وهو الذي حمل صاحب السوق على أن يسأل عن حرق الزعفران المغشوش، إذ رآه أقرب إلى قضاء عمر ـ رضي الله عنه ـ، إذ لا يتأتى تخليصه من الغش كما يتأتى سبك المغشوش من النقدين وتخليصه، ولايحاط بمقدار الغش حتى يصح بيعه ممن لا يغش. فرأى أن حرقه، كطرح اللبن. ورأى مالك انه بقي فيه وجه من وجوه النفع، وهو ارفاق الفقراء به بغير ثمن، إذ الوجوه المذكورة إنما منعت أخذ العوض عنه، ورأى غيره أنه قد يكون الغش مما يخلط به فلا ينتفع يبيعه للجهل بل لخشية الغش فقط. وهذا المحذور يتوصل إلى زواله ببيعه ممن لا يغش.
فمدرك الحكم عند عمر ـ رضي الله عنه ـ (64=216/أ) ومالك وابن القاسم وغيرهم ـ رحمهم الله ـ إنما هو إبطال الغش، وصرف الضرر عن أسواق المسلمين. وكل هذه الوجوه التي ذهبوا إليها مبطل للغش، ومحصل للقصد، وأن تفاوتت في ذلك كما عرفت.(1/249)
فإذا علمت مدرك الامام، وما قصد إليه بالذات، فكيف يسوغ الإعراض عن المقصود بالذات، وشد اليد على ما حصل بالعرض، يتخرج لامامك منه ما نص على خلافه، ودلت القواطع الشرعية على نفيه، وانت تعلم أن إتلاف المغشوش على ربه إنما كان لإذهاب مفسدة الغش؟. فليس لك أن تنقض مبنى حكمه وأساس مدركه، وإنما لك النظر في استقامة بنائه أو اعوجاجه، فترده إلى أصله، وأنت بين أمرين: إن كنت مجتهدا في المذهب، فليس لك هدم أصل امامك، أو كنت مجتهدا مطلقا، فليس لك هدم أصل نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من العصمة المحققة للمال بالإسلام. لا يغرنك ما وقع في لفظ من ذكر الأدب في ذلك، فقد تقدم تأويله بما فيه الشفاء.
ونزيدك بيانا، وهو أن الشارع متى ما قصد إلى تحصيل مصلحة بقاعدة، أسسها عما في طريقها مما ليس مقصودا، بل أفضى إليه الأمر على غير عمد. ألا ترى أن من حد الحد الواجب عليه، وعزر التعزير اللائق به من غير تعد، وأفضى الأمر زهوق نفسه لا يودي. وكذلك أن أدى صرف الفساد وصور الغش إلى إتلاف المغشوش من المال لانعتبره. فالتحقيق صرف هذه التصرفات عن العقوبة بالمال جملة، ولايحتاج حينئذ إلى ذكر نسخ، ولا إلى تخريج وتصحيح لما خالف الأصول. وقد أشار إمام الحرمين في البرهان وأشار غيره إلى أن ما أوهم شيئا من ذلك انبغى رده إلى أصل معلوم، لا احداث أصل به يخالف ما حقق وحصل من القواعد.
قالوا: وانما ذلك لو أنه اتفق أن جنى إنسان جناية غير مالية فأخذ عمر أو غيره ماله، وتأولوا ما ورد عن عمر وغيره مما أوهم ذلك، كمشاطرته العمال، بما أوقفناك عليه عند ذكر المملي لذلك، والله المستعان.
فإن قلت: فهذا ابن بشير خرج العقوبة بالمال على الكفارات، إذ قال: والصدقة بالمغشوش عقوبة بالمال، فما قولك فيه؟.
قلت: كلامه مشتمل على قضيتين:(1)
__________
(1) : لم يذكر المؤلف القضية الثانية.(1/250)
الأولى: قوله: والصدقة بالمال المغشوش عقوبة بالمال. وقد علمت بطلان هذه القضية، فلا حاجة إلى التكرار، وإذا بطلت بطل تخريجها. فإنه ما أراد بذلك التخريج احداث حكم، وإنما أراد به توجيه واقع بزعمه، إذ كتابه ليس موضوعا لأحداث أحكام، بل لتوجيه ماوجد منها. فإذا كان ذلك واقعا لم يصرح به أمامه، بل صرح بنقيضه وأمكن تخريج الفرع الذي استخرجه هو منه وألزمه إياه على مدرك لايناقض ما صرح به، فوجب المصير إلى الجمع، والعدول عن تناقض القول وتدافع المذهب. فسقط التخريج.
فإن قلت: وان كان ساقطا بحسب قصده، فمن قصد إلى إثبات العقوبة بالمال تخريجا من الكفارات وقياسا عليها؟، فهل يصح قياسه وحكمه أو يبطل؟
قلت: لا بل يبطل من وجوه.
الأول: انه قياس في معرض النصوص القاطعة بعصمة المال بالإسلام.
الثاني: انه أن أراد القياس، فلاد بد أن يكون الحكم المستنتج بالقياس لا يخالف الإجماع. وقد تقرر الإجماع كما دل النص، فراجع مواقعه أن شئت.
الثالث: ما أشار إليه ابن بشير من الخلاف بطل القول يمنع القياس في الحدود والكفارات والمقدرات. فهو أيضا قياس فاسد الوضع، ولو لم يكن ثم نص ولا إجماع.
الرابع: انه قياس في الاسباب، لأن كون الجناية سببا لإخراج مال هو المقصود بهذا القياس المستنتج.
الخامس: إن القياس في الأسباب إنما يستنتج به الحكم بالسببية على شيء المسبب الذي في ثبت أنه في الأصل سبب. وهاهنا المسبب في الفرع غير ما في الأصل، لأن العقوبة على الكفارة.
سلمنا جدلا أن الحكم ليس بمنصوص ولامجمع على نفيه، ولاممنوع القياس فيه لمانع التقدير والكفارات عند من قال به، فهذا قياس استتنتج (65=216/ب) به خلاف حكم الأصل، وصفه يشعر بنقيض حكمه، لأن حكم العقوبة الجبر عليها، وحكم الكفارة غرم الجبر عليها.(1/251)
فالقياس إما أن يقول: في الجراح مثلا وفي الزنا والسرقة، أو في الحرابة جناية، فتشرع فيها الكفارة قياسا على القتل. فالكفارة غير العقوبة، لما تقدم من افتراقها في الجبر، وفي أن الكفارة شرعت رافعة لا ثم سبق، والحدود زاجرة عن مفسدة يتوقع العود إليها، أما من الجاني أو غيره. والكفارة تفتقر إلى النية وقصد التقرب. فالعقوبة نكال يوقع بالجاني بالرغم والاكراه، إلى ما في ذلك من القياس في الأسباب، وما يلزمه من العكس في كفارات الإيمان مثلا. فيقال: دفع مال يكون باحياء الاثم يوجب الجبر عليه، قياسا على الزكوات(1).
والحاصل أن الشرع جعلها أبوابا مفترقة ذوات الاحكام، متباعدة متضادة، فلا يصح قياس بعضها على بعض، وثبت أن هذا كله لا تأويل له. فليس لهذا المملي فيه صحة، أنه لم يجعل اللبن ولا ثمنه في بيت المال، ولا المسك ولا الزعفران المغشوش في بيت المال، ولا كرها عن أحد من أهل المال.
التاسع: طرح عمر رضي الله عنه اللبن المغشوش وأحرق البيت الذي فيه الخمر
قال: ومنها طرح عمر اللبن الذي غش أدبا لصاحبه.
أقول: تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية، وأنه ليس من العقوبة بالمال، انما هو إزالة الغش والفساد، وإن استلزم إتلاف المال.
قال: وإحراق بيت رويشد، ذكره في آخر كتاب السلطان. وقد رواه يحيى بن يحيى عن مالك أنه: حرق بيت الخمار. وروي عنه أن مالكا كان يستحب أن يحرق بين المسلم الذي يبيع فيه الخمر، وكذللك النصراني بعد التقدم إليه.
__________
(1) : في إجراء القياس في الحدود والكفارات انظر: المحصول للرازي 2/ق 2/471 – 477 والاحكام للآمدي 4/82 – والمستصفى 2/332-334 والتمهيد للاسنوي 463-467 وفواتح الرحموت 2/318 التبصرة 440 – روضة الناظر 181 –احكام الفصول 545 – شرح تنقيح الفصول 415 –إرشاد الفحول 195 – نهاية السول 3/22- والابهاج 3/22.(1/252)
أقول: وقع هذا الذي ذكره في كتاب السلطان، ووقع في كتاب الحدود في القذف من سماع أشهب وابن نافع باتم من هذا، ونصه:
"وسئل مالك أيحرق بيت الرجل الذي وجد فيه الخمر يبيعه؟، قال: لا.
قال القاضي ابن رشد ـ رحمه الله ـ : إنما وقع السؤال عن هذا لما جاء عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه أحرق بيت رجل من ثقيف يقال له رويشد الثقفي، كان يبيع فيه الخمر، فوجد في بيته خمرا، فاتى به فحرق بيته وقال: أنت فويسق ولست برويشد. إذ قوله في الرواية: لايحرق بيته صحيح على المعلوم من مذهبه، لانه لا يرى العقوبات على الجرائم في الأموال، إنما يراها في الابدان. وقال في سماع أشهب من كتاب السلطان: وأرى أن يضرب من انهب وانتهب. وقد حكى ابن لبابة عن يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أن يحرق بيت الخمار. وحكى يحيى بن عمر أنه بلغه عن بعض أصحاب مالك أن مالك استحب أن يحرق بيت المسلم الخمار الذي يبيع فيه الخمر. قيل له: فالنصراني يبيع الخمر من المسلمين؟ قال: أرى أن يتقدم إليه الا يفعل، فإن لم ينته، رأيت أن يحرق بيته بالنار، واحتج بفعل عمر. وهذه روايات شذوذ في المذهب، لأن العقوبات على الجرائم في الأموال أمر كان في أول الإسلام، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة "انا أخذوها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا"، وقوله في حريسة الجبل يسرقها الرجل"أن فيها غرامة مثليها وجلدات نكال"، وروي من أن من وجد يصيد في الحرم فسلبه لمن وجده، ومثل هذا كثير، ثم نسخ ذلك كله بالإجماع على أنه لايجب، وعادت العقوبات على الجرائم في الأبدان لا في الأموال" انتهى(1).
إذا عرفت هذا، ففيما جاء به أجوبة:
الأول: إن هذه الروايات شذوذ كما نص عليه ابن رشد.
الثاني: إنها مع شذوذها غير صحيحة، لنسخ العقوبة في الاموال.
__________
(1) : البيان والتحصيل 9/417 و 16/297.(1/253)
الثالث: إذا كان المعلوم من مذهبه كما نص عليه القاضي ابن رشد أنه لا يرى العقوبات على الجرائم منه، فإنه سمع (66=217/أ) حكمه بضرب من انهب وانتهب.
فبعد أن يخالف القول إلى ما يضاده مع قطعه بأصله ودليله، وتناصر الأدلة عليه من تحريم أكل المال بالباطل وعصمته بالإسلام، فحينئذ نقول: أما إحراق عمر ـ رضي الله عنه ـ بيت رويشد، الوجود الخمر فيه، واتخاذ البيت لبيعه، وستره في ذلك المعصية به، فصار البيت باعتبار إعداده لهذا المنكر كإناء الخمر، فلما جاز كسره جاز إخراق البيت، وكآلة المعصية، فلما كسر آلات الغناء جاز حرقها، وكسلاح المحارب، فلما جاز إفسادها جاز إحراقها، ولأن المقصود بالذات إخراجه من البيت كما يخرج أهل الدعارة والفسوق من بيوتهم، فكما يجوز إخراجه وإكراؤها عليه أوبيعها، يجوز إخراجه بإحراقها، وصار كإحراق البيوت على المتخلفين عن الجماعات(1). وقد بوب البخاري عليه: باب إخراج الخصوم من البيوت أونحو هذا، كما قد سبق.
والحاصل أنه إذا كان المقصود إخراجه من البيت جاز الوصول إلى إرخاجه بما يتسر للمجتهد في وقت الحكم. وتلف المال في طريق دفع المفسدة لا يبالي به، ولا سيما إذا كان دفع المفسدة أبلغ بما يفضي إلى تلف ملحل المعصية، لو كان متمولا.
__________
(1) : نقل هذا الكلام بنصه العربي الفاسي في جوابه عن مسألة العقوبة بالمال ص : 7- والمهدي الوزاني في المعيار الجديد 10/189.(1/254)
الرابع: إن هذا لوسلمت صحته فهو عقوبة بإتلاف محل المعصية، وأن هذا من أخذ المال منه وجلعه في بيت المال أو تحجيره عليه، إلى أن يتوب أو يتصدق به. ولهذا وقعت عبارة ابن رشد في المواضع كلها بالعقوبة في المال لا بالعقوبة بالمال، وإتلاف محل المعصية لا يناقض ما علم من مذهب مالك وغيره، وانعقد الاجماع أن الذنب لا يحل مال المسلم لعصمته، فإنه ليس في الإتلاف استحلال بوجه، بخلاف ما جاء به المملي، فإنه مخالف لتلك النصوص والإجماعات من وقوع العقوبة فيه تابعة لدرء المفسدة الذي هو المقصود بالذات، لا ينافي قواعد الشرع بوجه. ولهذا رجحنا طرح عمر ـ رضي الله عنه ـ للمغشوش، واذهاب الغش بالاتلاف أن لم يتأت غيره عن التصدق به. على أن هذا حجة على أن المستدل في قول مالك، فإنه لم ير في هذا عقوبة غير إحراق البيت، مع أن هذا الخمار المعتاد لبيع الخمر الغالب عليه استغراق ذمته بثمن الخمر وكان جديرا بأن يؤخذ ماله أو ما يظن به ذلك، أعني حصل ماله من أثمان الخمر ويتصدق به. إلا أن مالكا ـ رحمه الله ـ أقوم سبيلا من أن يستبيح مال المسلم بالشك العارض، مع أن يقين العصمة له بالإسلام، فليس ممن يطرح يقينا، لاشك بشك لايقين فيه. وعدوله عن مثل ما حكم به المملي إلى ما رآه من الإتلاف في شاذ قوله، وعدوله أيضا عن الإحراق في مشهور قوله، مانع من أن يخرج له ذلك الذي عدل عنه، وهو على خلاف نصه، فلا معنى لحمل نصوصه على التدافع والتناقض، مع انتفاء ذلك عنها في أصول شرعية محققة إجماعية.
قال: قلت: وعليه اجراها ذوو البغاة من الزناة بتونس اليوم إذ اشتهر ذلك عنهم.
أقول: هذا يقتضي أن ذلك أما حكم شرعي في المسألة، أو صادف فاعله حكما شرعيا، وفيهما معا نظر.(1/255)
أما الأول: فإن هذا الواقع مايعلم انه صدرت به فتيا أمام للمتعاطين لذلك من أهل السياسات الجبروتية، إنما يتعاطون ذلك بحسب آرائهم، ومثلهم، ولو صادف الصواب لايخرج على أفعالهم ولا أقولهم، ولا تخرج أفعالهم وأقوالهم، ولاتكون عليهم حجة بإجماع المسلمين.
اختلف الناس في عمل أهل المدينة في القرن الأول ـ على ساكنها السلام ـ وهو من القوة على ما لايخفى، فمابالك بعمل غيرهم ومن ليس من أهل العلم، ولا يتوقف في سياستهم على فتيا أهل العلم، في القرن التاسع، بل ربما في تلك الامور (67=217/ب) بأنفسهم من غير مشورة الخليفة، وفي غالب الأمر مايصنعونه إلا إذا إيهاما على الأوهام القاصرة التي لاتعرف حقائق أمورهم، وإلا فالمتولون لذلك في غالب الأمر ما يصنعونه إلا إذا إيهاما على الأوهام القاصرة التي لاتعرف حقائق أمورهم، وإلا فالمتولون لذلك في غالب الأمر يومنون أهل المفاسد من البغاء والقمار ونحوها بما يأخذون منهم، حسبما يعلم هذا المملي أتم علم وغيره. وقد بلغني عن بعض أئمة الهدى أنه بلغه أن بعض الأمراء ورفعت إليه مسألة فصادف فيها الصواب من مقالات العلماء فزجره ذلك الإمام واشتد غضبه عليه وقال له: من اذن لك أن تتعاطى ما ليس لك من الاحكام الشرعية، وما ليس لك مراده. فسئل الامام عن ذلك وقيل له: فما هذا الانكار وقد صادف الحق، فقال: أخاف أن يتغير فيحكم بهواه بالباطل.
وأقول: أن مثل هذا من المنكر المحرم نصا وإجماعا، أعني الحكم على جهل، سواء صادف الحق أو لم يصادف، لحديث "القضاة ثلاثة: قاضي في الجنة، وقاضيان في النار"، وفيه أن أحد القاضين اللذين في النار: رجل قصى على جهل(1). فهذا إذن قد انكر المنكر، فلا ينبغي استحسانه ولا السكوت عنه، فضلا عن تخريجه على الشريعة.
__________
(1) : رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي والحاكم. انظر تخريجه في ارواء الغليل 8/235-237 ح:2614.(1/256)
وأما الثاني: وهو هل وافق فعلهم ذلك الحكم الشرعي أو لا؟. ففي سماع أبي زيد لابن القاسم آخر كتاب السلطان من العتبية قال أبو زيد: قال ابن القاسم: سئل مالك عن فاسق يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به؟، قال: يخرج من منزله وتكرى عليه الدار والبيوت. قال: قلت: فلا تباع عليه؟، قال: لا، لعله يتوب فيرجع إلى منزله. قال ابن القاسم: يتقدم إليه المرة بعد المرة ثلاث مرات، فان لم ينته أخرج وأكري عليه منزله. قال القاضي ابن رشد: وقال مالك في الواضحة: انها تباع، خلاف قوله في هذه الرواية، وقوله فيها أصح، لما ذكره من أنه يتوب فيرجع إلى منزله، ولو لم تكن الدار له وكان فيها بكراء أخرج منها وأكريت عليه ولم يفسخ كراؤه، فيما قاله في كتاب كراء الدور والأرضين من المدونة(1). وقد روى يحيى بن يحيى .. فذكر ما تقدم من حرق بيت الخمار وبيت المسلم الذي يبيع فيه الخمر، والنصراني إذا تقدم إليه، وحرق عمر ـ رضي الله عنه ـ بيت رويشد، وقد تقدم الكلام في هذا، وذكر شذوذ هذه الرويات قبيل هذا(2).
__________
(1) : المدونة 3/452 –453.
(2) : البيان والتحصيل 9/416 –417.(1/257)
فأنت ترى أن الرويات ليست في المذهب بهدم دار البغاة، إنما فيه بيعها إن كانت ملكا، وكراؤها، كانت ملكا أو بكراء. وان كانت تعقيب ابن رشد في المسألة بحرق بيت الخمار يحتمل أن يكون القصد به تقوية الروايات بالبيع والكراء كما فعل مالك، حيث استدل على قطع المغشوش من الدراهم بطرح عمر اللبن المغشوش، وإن كان لايقول بطرحه كما سبق ويحتمل أن يكون جاء بذلك لينظر فيه ولم يقطع به. ولكن على كل حال، ولو قيل بالقياس على هذه الرواية الشاذة في بيت المال، فينبغي التفريق بين أن يكون الدار ملكا لهم أو بكراء ولكن إذا خطر لهم هذا الخاطر، لم يبالوا كانوا بكراء او في ملك. على أن في القياس، أعني قياس دور البغاة على دار الخمر نظر، فأن الخمر إذا كانت تصنع في الدار أوتباع فيها مظنة لخفائها حتى لا يستطاع تغييرها، فصارت الدار آلة لذلك الإخفاء. وكذلك المسكر المعينة عليه، وأما الزنا فعلى كل حال لايكون إلا خفية. وإنما يكون له في الشيء من ذلك حجة لو وردت الروايات بأخذ دورهم للمخزن أو بيعها وجعل أثمانها فيها، لكنها إنماجاءت (68=218/أ) بتحريق محل المعصية وإفساده ثم بيع الدار وإكراؤها أصرف للضرر من هدمها أو هدم شيء منها، فإن صاحب الدار يبني ما هدم منها ويسكن مع وجود الهدم، وقد لا ينصرف ضرره عن الجيران كما هو الواقع، فالاصرف للضرر إخراجه والاكراء والبيع عليه، والله سبحانه أعلم.
قال: وكذلك التصدق بالمسك إذا وقع الغش به كما وقع فيه.
أقول: انظر ما سر مجيء الباء مرة داخلة على الضمير ومرة في على، ويعود الضمير الثاني، فأن كان على المسك كما عاد الأول، فما فائدة هذا الكلام. وقد تقدم الجواب عن الصدقة بالمغشوش وإفساده قبل هذا؟، فلا معنى لإعادته.
العاشر: عتق العبد بالمثلة
قال: وعتق العبد بالمثلة
أقول: الكلام عليه من وجوه:(1/258)
الأول: إن على القول بالعتق بها، فالشارع جعلها سببا من أسباب العتق، كعتق البعض من غير تملكه أو بعضه، كما جعل الحنث والإفطار والقتل والظهار سببا للكفارة من خواص العتق وأحكامه الجعلية التي تخصه، فلا يتعدى إلى غيرها، ولا سيما على إحدى الروايتين عن مالك أنه يكون الممثل به حرا بنفس المثلة، لاتحتاج إلى حكم، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من مثل بعبده عتق عليه"(1)، ولقوله: "من مثل بعبده فهو حر"(2)، وإن كان البزار قد رواه عن السليماني عن ابن عمر، وهو ضعيف عنه، وروى أيضا عن أبن عباس، وفي سنده عمرو بن عيسى وهو مجهول(3).
__________
(1) : لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ، وإنما هو ترجمة لأحاديث الباب – نيل الأوطار 6/83 اعلام الموقعين 2/45
(2) : لم أعثر بهذا اللفظ، وأخرجه احمد بلفظ قريب منه في المسند 2/225 - وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد للطبراني في الكبير 4/242: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مثل بعبده أو حرقه بالنار فهو حر، وهو مولى الله وسوله".
(3) : لايوجد في مسند البزار – وليس له ذكر في كشف الاستار للهيثمي.(1/259)
الثاني: إن ذلك على منهاج اتباع الحسنة السيئة لمحو أثرها، لا على معنى العقوبة بمال يخرج عن الجاني للصدقة، أو يحجز عليه إلى أن يتوب كما قال المملي، أو يوضع في بيت المال. والدليل عليه أن الكفارة والخلوص من الاثم والنار مشروع فيما دون المثلة، لما رواه أبو مسعود الانصاري قال: "كنت اضرب غلاما لي، فسمعت من خلفي صوتا: اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت، فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يارسول الله هو حر لوجه الله، فقال: اما انك لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار"(1)، ولحديث سويد بن مقرن ـ رضي الله عنه ـ :"لقد رأيتنا سبعة من ولد مقرن، ما لنا إلا خادم، للظم أصغرنا وجهها، فأمر النبي فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعتقها"(2)، ولما رواه أبو صالح بن ذكوان عن زاد أن قال: "أتيت ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وقد أعتق مملوكا له، فأخذ من الأرض عودا أو شيئا، فقال: مالي فيه من الأجر ما يساوي هذا، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه"(3).
فإن قلت: فقد وقع لبعض العلماء إطلاق العقوبة على العتق بالمثلة.
قلت : عنه جوابان:
الأول: لا عبرة بإطلاق غير الرسول صلى الله عليه وسلم مع إطلاقه، لأن العصمة واقية من الخطأ في حقه عليه الصلاة والسلام، لوم يثبت ذلك لغيره.
__________
(1) : مسلم بشرح الأبي 4/358 – كتاب الإيمان – وبذل المجهود 20/96 – 97 – كتاب الأدب – ح: 5159 – والمصنف لعبد الرزاق 9/439 – وتيسير الوصول 3/183.
(2) : مسلم بشرح الأبي 4/384 –385 –كتاب الإيمان – وعارضة الاحوذي 7/27 كتاب الأدب – وبذل المجهود 20/102 –103 كتاب الأدب – ح:5167 – وتيسير الوصول 3/182-183.
(3) : مسلم بشرح الأبي 4/383 – كتاب الإيمان – وبذل المجهود 20/105 –ح:5168- وعارضة الأحوذي 7/28 وانظر تخريجه في :الهداية 8/344 –346 –ح: 1649.(1/260)
الثاني : إن إطلاق العقوبة ممن أطلقه مجاز، إذ قد يطلق ذلك على الكفارة باعتبار أنها وان كان أصل مشروعيتها ماحية للآثم، فإذا علم ممن رام الاثم أنه لا براءة له إلا به، ربما كف أن لايحتاج إلى الكفارة وان سهل عليه الاثم.
الثالث : من وجوه الكلام على أصل الاستدلال بتعق المثلة أنه لو كان عقوبة على غير معنى التكفير، لما كان الورء له، وانعقاد الولاء له دليل على أنه لم يخرج عن ملكه، لأن الولاء لازم العتق الذي هو فرع الملك. وإذا لم يخرج عن ملكه، فأين العقوبة بالمال على النحو الذي شرعتم من أخذ المال من الجاني وجعله في بيت مال المسلمين؟.
لايقال: لو كانت كفارة لما أجبر (69=218/ب) عليها.
لانا نقول: عن ذلك جوابان:
الأول: إنا نمنع كون الكفارات لايجبر عليها مطلقا، بل إنما ذلك ما كان منها على التراخي فقط، على أن اللخمي خصص هذا الصيام بأن قال: إنما لا يجبر إذا علم أنه يخرج أو يعتقد وجوب الكفارة، أما من ينكر وجوب ذلك عليه فإنه يجبر. واحتج بجبر مانع الزكاة وغير ذلك على ما يأتي.
الثاني: أن في العتق بالمثلة روايتين:
الاولى: أنه يكون الرقيق بنفس وقوعها حرا، حكما جعليا، كملك الغريب ونحوه، فهذا لايعقل فيه الجبر ولا الاختيار، لأنه حكم من الله لزم مع وجود سببه لايفتقر إلى إجبار حاكم، ولايتوقف على اختيار مكلف.(1/261)
والرواية الثانية: أنه يفتقر إلى الحكم(1)، فعلى هذه الرواية، فالجواب: أن الاجبار والحكم بحصول سببه، فألحق بما هو من صنفه أو نوعه القريب، وهو العتق بسبب أحدثه المالك في المعتق. فإلحاقه به أولى من إلحاقه بالكفارات التي هي مسببات لأسباب في غير محل تلك المسببات، فإن القتل والظهار والحنث وان كانت أسباب للعتق ليست فيمن يحكم بعتقه، وليس ذلك لمخرج لها على جنس الكفارات، بل الكفارات ضربان، ضرب سببه في غير متعلقه، وضرب سببه في متعلقه، وهو ما نحن فيه. فكما أن من أعتق شقصا من عبده يستتم عليه ما فيه، كذلك ما نحن فيه.
الرابع: سلمنا أنه عقوبة بالمال جدلا، لكن على غرم المتلفات وتعدي المرء على ما لايملك، والغرم بالتعدي والإتلاف أمر لا خلاف فيه، وقد تقدم صحة إطلاق العقوبة عليه لغة وشرعا وعرفا. فمن تعدى على مملوك غيره أو على مملوك له، فغرمه للمتلف على الأوضاع التي قدرها الشرع أمر لا يتنازع فيه، ومن ثم منعنا الاستدلال على عقوبة الجاني إذا سرق أوزنى أو أتى معصية خارجة عن باب إتلاف الممتلكات بأخذ ماله أو شيء منه، ووضعه في بيت المال ونحوه، إذ هو اغترار بلفظ مشترك تحته معنيان، أحدهما مجمع على صحته والآخر مجمع على بطلانه كما سبق.
فإن قلت: هذا صحيح في نفسه، أعني أن باب الغرامات على الأوضاع التي قدرها الشرع في التعدي على ملك الغير من المتمولات، أو على ما يملكه المتعدي من مال الغير، بغير اغرام المال على الذنب، فإنه خارج من ذلك. ولكن بقي عليك تحقيق العتق بالمثلة من ذلك القبيل، وإخراجه عن الذنوب القاصرة، فانا نعرف من غير شك أن العبد ملك سيده، وما مثل إلا بعبده، وما تصرف إلا في ملكه، فاعتاقه عنه اتلاف لماله عقوبة لذنبه ليرتدع هو وأمثاله عن العود إلى مثل ذلك.
__________
(1) : انظر شرح زروق وابن ناجي على رسالة 2/186 –وشرح الابي على صحيح مسلم 4/384.(1/262)
قلت: بل تصرف في ملك غيره، وتعدى على ما لا يملكه. وبيانه أن العبد ملك الله على الحقيقة، ملك الحر من عباده أن ينتفع بخدمته وخراجه على التأبيد، ولم يملك الذوات لأحد من خلقه. ويدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم" الحديث(1)والدلالة فيه من وجوه:
الأول: جعلهم إخواننا، والإخوة تنافي الملك، وإذا أذن في الانتفاع لم يبق وجه من الشبه إلا نفي الملك عن الذوات.
الثاني: قوله صلى الله ليعه وسلم: خولكم، وهو يطلق على العبيد بالمعنى الذي يطلق على غيرهم، فيقال أيضا في حاشية الرجل: خولة، لأنهم يحفظونه ويرعونه ويخدمونه، وكما يقال: خال الراعي يخول خولا، إذا حفظ والراعي: خائل وخولي، وتخولت (70=219/أ) الرجل: تعهدته(2). وهذا أولى من جعل اللفظ من قبيل المشترك.
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم: جعلهم الله تحت أيديكم، أي لا يتصرفون إلا عن إذنكم وتحت إيالتكم، وأنفذ فيهم آثار قدرتكم، فصاروا لكم كالآلة التي تجلبون بها لأنفسكم، وتدفعون بها عنها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ :"أنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم منهم فبيعوه، ولاتعذبوا خلق الله، إلى غير ذلك.
ووجه الدلالة من جميع ذلك لايخفى، فالحاصل أن السيد لم يملكه الله من العبد إلا ضروبا من الانتفاع على أقدار شرعها الله من الأمور التي لايمنعها الشرع، ولاتخرج عن الطاقة. أما الذات فلم تملك لأحد، فإذا تعدى السيد على ذات العبد بالتمثيل والتشويه لخلقه، فقد تعدى على ما يملكه، فإخراج العبد عنه إلى الحرية كإلزام الجزاء في الصيد ونحوه، من باب الغرامة والتكفير. ان الاغراض حيث عينها الشارع تعينت، فكما جعل جزاء الصيد مثله من النعم، كذلك جعل أرش المثلة ما ملك من منافع العبد وخدمته.
__________
(1) : فتح الباري 5/173- كتاب العتق – باب 15 – ح: 2545.
(2) : بذل المجهود 20/93 – كتاب الأدب – ح: 5161.(1/263)
لايقال: لو لم يكن في الذات تصرف للزمه بأدنى تصرف فيها ما يلزم كل متعدي على ما يملك.
قلت: الأمر كذلك أولى، إن الله تعالى أذن في التأديب للاستصلاح، كما أذن في ضرب الزوجات والأولاد وغيرهم ممن يراد استصلاحه مع انتفاء المالكية للمأذون له في التأديب على المأذون فيه.
الخامس: من وجوه الكلام على أصل الاستدلال أن هذا ليس مما أراد المملي شرعه في ورد ولا صدر، فأين العتق المكفر للآثام من أخذ مال المذنب لبيت المال أو دفعه لغيره، اوتحجيره عليه كما يحجر على السفهاء والأيتام؟.
السادس: سلمنا أنه من باب العقوبة، فهي في المال الذي وقعت فيه المعصية، لاالمعاقبة على ذنب بأكل مال. وعلى هذا احتج اللخمي في كتاب الصرف كما احتج باكفاء القدور التي طبخ فيها لحم ما لم يقسم من الغنيمة.
السابع: أن جميع ما أوردناه مانع من الاجتهاد في المسألة من معارضة النصوص والاجماعات، وغير ذلك مانع من الالتفات إلى كل استدلال بأي نوع كان من الأدلة على التعيين.
الحادي عشر: منع القاتل عمدا من الميراث
قال: ومنع القاتل عمدا للميراث.(1/264)
أقول: يعني عمدا عدوانا، لئلا يدخل في ذلك من قتله في حد ثبت عليه بإقرار أو بينة، وإن وجد الخلاف في الجملة. والعقوبة بالمال نزع المال من مالكه، فهي إذن فرع الملك، وملك المال المورورث فرع عن ارثه، والارث هنا باطل، فلا ملك للمال الموروث للقاتل، ولا إخراج له عن مالكه، ولانزع لماله منه. وفرق بين منع المال بالسبب الذي يملكه به من ليس له مانع ونزع المال بعد الملك. ولو صح جعل هذا من العقوبة بالمال لانصرف مثله إلى جميع الموانع من الرق والكفر والشك، وان صح إطلاقه في الكفر، لم يصح إطلاقه في الشك، أنه لا أثر فيه للمكلف، فالتحقيق أن منع المانع للميراث والملك ليس من العقوبة بالمال في شيء. ولايغرنك إطلاق من أطلق عليه المعاقبة بنقيض المقصود، فانه أن كان كلاما صحيحا في نفسه، ليس له دلالة على العقوبة بالمال، لأن المقصود بالقتل أن يرث، فعةقب بحرمان الإرث، وفرق بين حرمان الإرث المانع من حصول الملك، وإخراج المملوك بعد ملكه، وانما تكون العقوبة بالمال في حق هذا، أو كان إذا قتل موروثه أو غيره أخذ مال القاتل وجعل في بيت المال كما قاله المملي، أو وقف ماله حتى يتوب كما زعم، أو أعطي للمظلوم. وأما منع الميراث (71=219ب) فمن باب سد الذرائع، لئلا يتخذ القتل وسيلة إلى إرث المقتول. فلما كان هذا التوسل من الأمور الظاهرة بالأكثرية، أي أن الوارث يستعجل موروثه فيقتله ليتصل بإرث المال، منع الشارع من إرثه حتى لايبقى له هذا الحامل على قتله.
الثاني عشر: التصدق باجارة من آجر نفسه فيما لايجوز بثمن الخمر وأراقته.
قال: والتصدق باجارة من اجر نفسه فيما لايجوز بثمن الخمر واراقته على مشتريه او بائعه، ولايقال: أنه ثمن ما لايجوز، لأنه لم يرده إليه.(1/265)
أقول: الاجبارات المحرمة والفاسدة، والبياعات الفاسدة، والبياعات المحرمة والفاسدة إما أن تقع فيما لايجوز تملكه أو فيما يجوز تملكه، لكن وقعت على الوجه الممنوع. فأما الثاني فلم يقل به احد بأن يتصدق بثمنه، وسواء كان ذلك الشيء المبيع مما لايجوز بيعه كالآبق والشارد، أو مما يجوز لكن وقع على وجه فاسد، والحكم في جميع ذلك فسخ البيع ورد المبيع للبائع والثمن للمشتري مع القيام ولزومه القيمة مع الفوات، وأما ما لايجوز تملكه كالخمر والخنزير وما لايجوز فعله كقتل النفس ظلما وحمل الخمر ونحوه، فهذا هو الذي قيل فيه بالصدقة بالثمن، وبالاجارة في بعض صوره. وما أن للعوض عليه محرم، وإلا يقل بالصدقة في كل عقد فاسد، فإذا باع المسلم خمرا من مسلم فعثر على ذلك الخمر بيد البائع لم يدفعها إلى المشتري بعد كسرت عليه وانتقض البيع وسقط الثمن عن المشتري ان كان لم يدفعه، قولا واحدا. ولو كانت هناك عقوبة بالمال لأخذ ثمن الخمر منه أو غيرها وتصدق به عليه، وكذلك أيضا، لو كان باعها المسلم من نصراني ولم يدفعها له ولم يقبض الثمن، لكان الحكم كذلك، فإن العقوبة بالمال ها هنا.
فإن قلت: العقوبة بالمال كسر الخمر، كما قال المملي، واراقتها. فاحتج باراقة الخمر على بائعها أو مشتريها على العقوبة بالمال.
قلت: هذا نهاية الغباوة أو التغابي. إذا كان يقال باراقة الخمر من العقوبة بالمال، والخمر غير متملكة، وما لا يملك ليس بمال.
فان قلت: هذا وان تم لك في المسلم، فقد تكسر على مبتاعها النصراني في بعض الصور وفي بعض الاقوال، والنصراني يملك الخمر.
قلت: إنما يكون ذلك إذا اشتراها من مسلم، وإذا كان الأمر كذلك لم يقع عليها ملك بوجه.(1/266)
بيانه: أن الملك الحادث للنصراني ليس إلا بالنقل من المسلم، والمسلم لا يملك الخمر اتفاقا، وإذا لم يكن ثم ملك للمسلم، لم يكن ما ينتقل للكافر ملكا، فليست الخمر حينئذ متملكة البتة، فلا تكون اراقة الخمر في هذه الوجوه من العقوبة بالمال في شيء، ولم يبق النظر إلا في الصدقة بالثمن عند من يقول به حيث يقول به. وقد تقدم حكم ما إذا باعها المسلم من مسلم أو نصراني ولم يقبضها المبتاع لو يدفع الثمن، وأن الخمر تكسر على المسلم ويبقى الثمن على المشتري، ولايوخذ منه، ولايتصدق به، ولايغرم مالا غيره.
فأما ان كان المشتري قد دفع الثمن للبائع، فها هنا اختلف، فقيل: يرد الثمن إليه، وقيل: يتصدق به على المساكين. فأما رده إليه فعلى المعروف من المذهب أن المبيع بيعا فاسدا لا يضمنه مشتريه إلا بالقبض، ولا عقوبة بالمال على هذا القول ولاما يوهمها. وأما القول بأنه يتصدق به فمبني على القول بأن ضمان المبيع بيعا فاسدا من مبتعاه بقبض البائع ثمنه، وعلى هذا القول فّإذا قبض البائع الثمن انتقل الملك إلى ضمان المبتاع، والملك لازم الضمان (72=220/أ) فينتقل الملك. وإذا كان الأمر كذلك، فإذا أريقت الخمر بعد قبض الثمن فصل ذمة المبتاع، وإذا أريقت على ذمة المبتاع لم يرد الثمن إليه، إذ لا يجمع الثمن والمتمون، ولا يحل الثمن ايصا للبائع، فصار من الخمر على هذا التقرير كالمال الضائع، إذ لا يحل للبائع ولايمكن منه المشتري فصرف للصدقة. وإذا كان الأمر على ذلك، لم يكن من العقوبة بالمال في شيء، بل من الصدقة بثمن لا يصح للمشتري ولا يحل للبائع.(1/267)
وهذا هو الجواب عن قول المملي: انه لو كان من الصدقة بثمن ما لايحل لرد للمشتري. والقول الذي نبني عليه هذه المسألة، أعني أن الضمان في الفاسد ونقل الملك يكونان بقبض البائع الثمن، وهو قول أشهب فيما نقله أبو عمران وابن محرز، وكذلك عنده التمكين من القبض ينزل منزلة القبض في نقل الضمان والملك، وإذا لوحظ التمكين أيضا في هذه المسألة انبغى أن يكون الحكم فيه كقبض الثمن، فيجري فيه الخلاف السابق.
ولابن قاسم في العتيبة من سماع سحنون:من اشترى زرعا بعد يبسه بثمن فاسد فأصابته عاهة فتلف قبل حصاده مصيبته من مشتريه، وهو قابض. بخلاف مشتريه قبل بدو صلاحه،على أن يتركه فيصاب بعد يبسه فمصيبته من بائعه،قال القاضي ابن رشد:لأنه إذا ابتاعه بعد يبسه بثمن فاسد يحل بالعقد في ضمانه ،إذ لا توفية فيه على البائع لأنه جزاف، كما لو اشتراه شراء صحيحا فضمنه بالعقد،لأن حصاده عليه ولا جانحة فيه،فهو كصبرة جزافا، انتهى.(1)وهذا أيضا كقول أشهب: أن الفاسد من المبيع ينتقل الضمان فيه والملك بالتمكين.
وفي العتيبة أيضا، لابن القاسم من سماع أبي زيد فيمن ابتاع كلبا فهلك بيده ضمانه من بائعه.قالوا: وعليه يرد المبتاع مما انتفع به من الخراج، لحديث " الخراج بالضمان ".(2)
ولابن القاسم أيضا من سماع عيسى في مسلم اشترى من مسلم خنزيرا يرد ثمنه لمشتريه ويقتل، فظاهره من البائع، وقيل: يقتل على مشتريه إن قبضه،فعليه،يكون ضمان الكلب من مشتريه، والأول هو المعروف.انتهى(3)
__________
(1) : البيان والتحصيل 7/478-479.
(2) : رواه الترمذي وقال:حديث حسن غريب-عارضة الاحوذي6/27-وانظر تخريج الحديث وطرقه في ارواء الغليل5/158.
(3) : البيان والتحصيل 8/69-70-و4/380-381.(1/268)
ومثل هذا أيضا ما لو اشترى الخمر من مسلم ولم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع، فقيل: إنها تكسر على البائع أيضا، وينتقض البيع، ويكون الحكم في الثمن على هذا أن يرد إلى المشتري إن كان قد دفعه، ويسقط عنه إن كان لم يدفعه، وقيل يتصدق به، وهذا أيضا بناء على أنها كسرت على ذمة المشتري، أو على مراعاة الفعل به، وأجرى ابن رشدـ رضي الله عنه ـ كسرها على ذمة المشتري للتصدق بالثمن، قبض أو لم يقبض، على إمضاء البيع، فقال:وقيل:أنه يمضي في البيع ويتصدق بالثمن، قبض أو لم يقبض، إذ لا يحل للبائع، ولا يصح تركه للمشتري. يعني أنه لا يجمع له بين له بين العوض والمعوض منه.(1)وإذا كان هكذا صار ثمنا لا ملك له، فصار بمنزلة الأموال الضائعةـ فيتصدق به على الفقراء. وعلى هذا التقدير أيضا، فلاعقوبة بالمال.
هذا حكم المسألة فيما باعه المسلم من خمر فعثر عليه قبل قبض الثمن والخمر، أو بعد قبض الثمن فقط، أو بعد قبض الخمر فقط، أو بعد قبضهما و قبل الاستهلاك. أما إذا لم يعثر على ذلك حتى استهلك المشتري الخمر، فإن كان المبتاع مسلما تصدق بالثمن على المساكين، قبض أو لم يقبض، قولا واحدا،إذ لا سبيل إلى نقض البيع بإغرام المسلم مثل الخمر الذي استهلكه وكسرها على البائع، وإن كان نصرانيا، فقيل:إنه يغرم مثل الخمر ويكسر على البائع،فينتقض البيع ويسقط الثمن عنه إذا كان لم يدفعه ،وإن كان قد دفعه رد إليه أو تصدق به على المساكين. قال ابن رشد: أدبا له، على الاختلاف المذكور(2).
__________
(1) : مسائل أبي الوليد ابن رشد 2/864-865-وانظر أصول الفتيا للخشني 434
(2) : نفسه 2/865. وقارن بثلاث رسائل أندلسية في الحسبة ص:95(1/269)
وأقول: تأويله ـ والله أعلم ـ أن الصدقة به بها وقع أدب، أي لزم عنها في الواقع، لا أنه الباعث على حكم الصدقة به على القول بها، لأن الخمر إذا استهلكت (73=220/ب) لمسلم لا حق له في المطالبة بها،ولا يقبلها ملكه،واستقر عليها، إلا أن تكسر على ذمته، ولو كان استهلاكها على وجه العداء، كيف وهو في هذا بتسليطه ودفعه لها بيده، وإنما ألزم النصراني أن يأتي بخمر فتكسر،لئلا يكون ترك ذلك إمضاء للبيع، وقد وقع فاسدا، فإذا أتى بالخمر تستهلك ولم تخرج بعد عن كونها مقبوضة لمن يرى ضمان الفاسد من مشتريه بالقبض، يقول به هاهنا أحرويا، فصار كسرها على هذا التقدير على ذمة المشتري، فلا جمع له بين العوض والمعوض عنه، ولا يحل تركه للمسلم، فصار إلى ما علم من حكم الأموال الضائعة، تصرف للفقراء لا على ذمة البائع ، لأنه لا يحل له، ولا على ذمة المشتري، لأنه لا يرد له. ولذلك لم يكن لواحد منهما ثواب فيها، وجبر الكافر على الصدقة غير معقول، لأنه لا يعقل تقربه مع كفره، وإذا كان الأمر كذلك، لم يكن أيضا في هذا عقوبة بمال البتة.(1/270)
ومما يحقق عندك هذا التأويل، تفريقه في هذا الموضع بين أن يشتريها مسلم أو نصراني باتفاقهم على أن المسلم المشتري لا يلزم بأن يأتي بخمر لينقض البيع، ولو كان اشتراها على الكيل، واختلافهم فيما إذا كان نصرانيا هل يلزم أن يأتي بها أولا؟، ويتصدق بها على المساكين، قبض أو لم يقبض، يدل على ما قلناه، إذ لا فرق. إلا أن المسلم لا يتصور أن يملكها فيأتي بها، بخلاف النصراني، فكما لم يعقل ذلك من جانب المسلم إذا كان مشتريا، فكذلك إذا كان بائعا، ووجه ابن رشد القول الثاني في هذه المسألة، وهو أنه لا يلزم النصراني المشتري إذا استهلك الخمر المشتراة من المسلم أن يأتي بها إمضاء للبيع.فقال: وقيل يمضي البيع ويتصدق بالثمن على المساكين، قبض أولم يقبض، يعني لأنه لا يحل للبائع ولا يترك للمشتري(1). وهذا أحرى لإمضاء البيع واستهلاكه المبيع، فإذا كان ليس لهذا ولا لهذا، صار إلى ما تقدم من كونه مالا ضائعا فيتصدق به. فهذا حكم بيع المسلم الخمر من مسلم أو نصراني. وأما بيع النصراني لها من مسلم وهي مسألة المدونة، ففيها: وإذا ابتاع مسلم خمرا من نصراني كسرتها على المسلم، فإن لم يقبض الذمي الثمن تصدقت به أدبا له، ولا أنتزعه منه إن قبضه، وكذلك إن ابتاعها نصراني لمسلم، والنصراني عالم بذلك، فإما إن لم يعلم فالثمن له. وفرق بين أن يقبض الذمي ثمن الخمر فلا ينتزع منه، وبين أن لا يقبضها فتصدق به(2).
__________
(1) : نفسه
(2) :المدونة 3/279.(1/271)
وهذا مما يَدُلُّك على أن الأدب ليس هو العلة الحقيقية، إذ لو كان الأمر كذلك، لم يكن فرق بين أن يقبض الثمن أو لا. فما الفرق على مذهب ابن قاسم إلا أنه إذا كسرت الخمر على المسلم تبين أن ضمانها منه، وأنها لا تقر بيده حتى ترد إلى النصراني، وما بقي إلا مطالبة النصراني للمسلم بثمن الخمر. فالمسلم لا يحل له دفع ثمن الخمر، والنصراني لا يمكن من ذلك لنهيه عن أن يبيع الخمر من مسلم. لكن هذا النهي لا يخرج الخمر عن أن تكون ملكا له، فما بات بين المسلم، ثم لما عاق عن صرفه إلى النصراني أنه لا يمكن شرعا من ثمن خمر من مسلم، صار ذلك المتمول بمنزلة المال الضائع أيضا، فيتصدق به، وإن كانت راجعة لصرف الأموال الضائعة للفقراء أدبا للذمي، لأنه إذا لم يرجح أخذ الأثمان لما يبيعه من خمر لمسلم،لم يبق له باعث على البيع به.فليس إذن من العقوبة بالمال على الذنب في شيء، ولو كان المقصود ذلك، أخذ من ماله أو من مال المسلم، وعرفنا به، سواء كان ثمن خمر وخنزير أو لا.
ومما يدلك على ما قلناه، ما وقع لعبد الحق في النكت.(1)قال: سألت بعض شيوخنا من غير أهل بلدنا عن النصراني يبيع خمرا من مسلم فيجب أن يتصدق بالثمن عليه {74=221/أ}إن لم يقبضه. فقلت أرأيت إن كان عليه دين هل يكون الثمن لأهل دينه، لأن الصدقة عليه إنما هي من باب العقوبة، وهذا لو حصل له الثمن في يده لم ينزع منه، فلا يضر بأهل الدين بالصدقة به منعه منه.فقال لي: ليس بشيء لأهل دينه ما يتملكه ويكون له قبضه، فلا حق لأهل دينه فيه.انتهى(2).
__________
(1) :أبو محمد عبد الحق بن محمد بن هارون التميمي القرشي الصقلي.كان فقيها مقدما بعيد الصيت. لقي أمام الحرمين بمكة، فكان يجله كثيرا. ألف كتاب النكت والفروق والمسائل المدونة وغيره. توفي بالسكندرية سنة 466 هـ.ترتيب المدارك 8/71-74-شجرة النور 116 .
(2) : النكت والفروق ص:128.(1/272)
فهذا دليل صريح أنه ليس من باب العقوبة بالصدقة، بل إنما تصدق به لأنه ليس له قبضه ولا أن يتملكه. فهو نص في أن ثمن الخمر للمحكوم بصدقته غير متملك بإطلاق الأدب والعقوبة عليه، إنما هو بالمجاز لا بالحقيقة، وبالعرض لا بالذات، لأنه معاقبته به فرع عن كونها له، لكنه ليس بمال له، فلا تكون الصدقة به عقوبة له. وهذا معنى تعليل ابن رشد ـ رحمه الله ـ الصدقة بثمن الخمر فيما تقدم بقوله:إذ لا يحل للبائع ولا يصح تركه للمشتري، فتأمله. فمال المشتري غير ثمن الخمر، فعوقبا به، ولم يقل به أحد.
وقوله: وإن قبضه النصراني فلم ينزع منه، إنما كان ذلك لأنه مال لا طالب له، حصل عليه حوز النصراني إلقاء النظر إلى كونه ثمن خمر باعه من مسلم، بناء على أن الحكم بالثمنية لما كان باطلا شرعا، صار دخولهما من كونه ثمنا وعقدهما على ذلك كل عقد. قال سحنون: ينزع من النصراني وإن أخذه، ويتصدق به بناء على أنه إنما قبضه أنه ثمن خمر بيع من مسلم، وهذا لا يقر ولا يمضي، فإذا نزع منه رجع إلى الحال التي قبل القبض، كما لا يبقى بيد المسلم، لا يرد إليه ولايمكن منه النصراني، وصرف للفقراء على حكم الأموال الضائعة، وإجرائها مجرى الزكاة. ولو كانت العلة الحقيقية عند سحنون أيضا الزجر بالمال من غير سبب سواه، فحكم بأخذ شيء من مال البائع أو هما معا، وعوقبا به بأن يجعل في بيت المال كما يقوله المفتي، أو يتصدق به.(1/273)
وفي المسألة قول ثالث: أنه لا يتصدق بالثمن إذا كانت الخمر قائمة، بل إن كان النصراني لم يقبضه ترك للمسلم، وكسرت الخمر على النصراني،وإن كان قد قبضه ترك له، وكسرت الخمر على المسلم، فقال: إن عثر على ذلك والخمر قائمة بيد النصراني البائع قد أبرزها المسلم، فإنها تكسر على البائع النصراني، ويسقط الثمن عن البائع المسلم إن كان لم يدفعه للبائع، وإن كان قد دفعه إليه، فقيل:يرد إلى المبتاع، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وقيل أنه لا يرد إليه ويتصدق به عليه أدبا له(1).
وهلا يأتي على ما في المدونة أنه إذا كسرت الخمر على المسلم بعد قبضها وبل فوتها واستهلاكها، وكان النصراني قد قبض الثمن ترك له بمنع المسلم من الرجوع في الثمن على البائع قبل الاستهلاك. وتلك حالة يأتي فيها الفسخ على المشهور ويرد الثمن إلى المشتري، فكذلك قبل القبض. قال ابن رشد:وإن لم يعثر على ذلك حتى قبضها المبتاع، فقيل إنها تكسر على المبتاع، ويتصدق بالثمن إن لم يقبضه البائع أدبا له، وإن قبضه ترك له عند ابن قاسم، وعند سحنون يتصدق به، قبضه أو لم يقبضه أدبا له، وقيل أنها تكسر على البائع ويفسخ البيع، فيسقط الثمن عن المبتاع إن كان لم ينقده، وإن كان قد نقده كسرت على المبتاع ومضى الثمن للبائع ولم يؤخذ منه، وهذا قول ابن حبيب في الواضحة، إن لم يعثر على ذلك حتى قبض المسلم الخمر وفاتت عنده أخذ منه الثمن وتصدق به على المساكين، إن كان لم يدفعه {75=221/ب}إلى النصراني أدبا له، وإن كان قد دفعه إليه ترك له ولم يؤخذ منه عند ابن قاسم وابن حبيب، وعند سحنون يتصدق به على كل حال أدبا له.انتهى(2).
__________
(1) : مسائل أبي الوليد ابن رشد.السابق.
(2) : نفسه.(1/274)
ولا يخفى عليك، لأن توجيه الصدقة بثمن الخمر حيث قيل به إلا تأويل ما أطلق من الأدب. فقد قدمنا من ذلك ما فيه كفاية وبالله التوفيق. ثم لا يخفى عليك أن أحدا من أهل المذهب لم يقصد في هذه إلى المعاتبة على الذنب بغرم المال، إذ لو قصدوا إلى ذلك ما صح منهم التفصيل في الموضع الذي تسوغ فيه الصدقة بثمن الخمر والعمل الحرام، وألزموا الصدققة بالثمن على كل حال، قبض الثمن أو المثمون أو لا، استهلك المثمون أو لا. بل كانوا لا يقتصرون على ثمن الخمر، وأغرموا العاقدين ما لا يحل من أصول أموالهما ما يكون ردعا لهم.
فالعجب من استخراج حكم عام أو مطلق مما نص على تخصيصه أو تقييده بمعنى يخص الخاص، والمقيد لا يوجد في العام والمطلق مع ظهور التعاليل فيما خصوا في ذلك الحكم به من التفاصيل!، ولقد كان العلم في غنى عمن يفسد الذكية بالخداع دون اشتباه واجتماع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قد علمت غير ما مرة أن تتبعها لهذه الجزئيات المستدل بها محض تبرع، لئلا يغتر بكثرتها غمر، وإلا فقد تبين خروج موضوع الكلام مع هذا المفتي عن محل الاجتهاد مطلقا، وعن اجتهاده خصوصا، بما نحن نرى الإشارة إليه عيا، لولا اغترار من شاء الله.
ثم هو يقول: إن العقوبة بالمال من المصالح المرسلة، ثم يأتي بأدلة على زعمه على اعتبار العقوبة بالمال، فإن صح له الاختيار خرجت عن حيز الإرسال، فاعجب بما شئت من تدافع وتناقض اشتمل عليه هذا الاستدلال!.(1/275)
قال: وكذلك إذا كان يأخذ الدراهم على صحبة الأحداث على ما حكاه الداودي،(1)وكان شيخناـ رحمه الله ـ يقول:الصواب التصدق به كثمن الخمر.
أقول: إن كان أراد بأخذ الدراهم على صحبة الأحداث أن يكون أخذها على أن يقودهم إلى من أعطاه إياها فهو من معنى الاستئجار على المحرم، والاستئجار عليه كبيعه، وقد سبق ما يكفي فيه.
الثالث عشر: الإجبار على الكفارات.
قال: ومنها ما أحفظه عن اللخمي في تبصرته أنه من ظهر عليه الفطر في رمضان فإنه يعاقب عقوبة موجعة ويجبر على الكفارة، وكذلك سائر الكفارات من الظهار والقتل، وإن كان ابن بشير تعقب الأول بأن العقوبة بالمال لا تضاف إليها العقوبة بالأبدان، وبالقياس على المقدرات، ولإجراء اللخمي مسألة الفطر على شاهد الزور، وإذا جاء تائبا من تلقاء نفسه.
أقول: إن كان مراده الاستدلال على العقوبة بالمال بشرع الكفارات، فقد تقدم رده حيث نقل ذلك القياس عن ابن بشير، وإن كان مراده وهو الظاهر الاستدلال بالجبر على الكفارة، فهو مردود من وجوه:
__________
(1) : أبو جعفر أحمد ابن نصر الداودي الأسدي الطرابلسي، الإمام الفاضل العالم المتفقه ،من أئمة المالكية بالمغرب. لم يتفقه في أكثر علمه على إمام مشهور .له شرح الموطأـ والواعي في الفقه والنصيحة في شرح النجاري .توفي بتلمسان سنة 402هـ.شجرة النور 110-111-فهرست ابن خير 533-الديباج53 –ترتيب المدارك 7/104.(1/276)
الأول: أن الجبر على الكفارة على خلاف الأصل، فإن الإكراه عليها يخرجها على أن تكون منوية، إذ المكره الذي ليس معه باعث على الفعل والإكراه لا نية له، وفقد النية يخرجها عن كونها قرب، وفقد القرب يفقد معنى التكفير.فإن هذه العبادات من الصدقة والعتق والصيام إنما كانت مكفرة بالفطر انتهاكا في رمضان وغيره من الأيام لأن القلب بإقدامه على الفطر انتهاكا، استجوب بعدا من الله تعالى، وما فقد من التعظيم للمحرمات فلهذا أتى المكلف بشيء من هذه الكفارات، تعظيما لله وخوفا من عقابه.فجبر ثلم الجرأة وفقد التعظيم السابق، وكفر أيضا العمل،اتبع السيئة حسنة تمحها.
الثاني: وإن كان يتخرج الجبر على الكفارات من الجبر على الزكاة بناء على القول أن الكفارة لا تفتقر إلى نية ،لكن القائل بذلك إلى ما يريد ـوالله أعلم ـ إلحاقها بقصد الوزر ونحوه مما صوره فعله كافية لتحصيل مصلحته، فإن في الكفارات شائبة من ذلك لتعلق حق الفقراء بها كتعلق حقهم بالزكاة.
والتحقيق، أن الذي يفتقر إلى النية وصول الحق إلى مستحقه، والذي يفتقر إلى النية معنى التعبد والتقرب، وما عليه الثواب لم يحصل دون نية – والله أعلم – فالجبر على الكفارة ليس فيها مال زائد على الكفارة حتى يحتج بها ويقال: أنه عقوبة بالمال.(1/277)
الثالث: أنه لو صح الاستبدال بالجبر على الكفارة على العقوبة للمال لصح الاستدلال بالجبر على الزكاة، لا سيما والذي قال به وهو اللخمي بها استدل. وهذا نصه:قال أهل المذهب إنما تجب الكفارة على من قصد الفطر جرأة وانتهاكا وإذا كان ذلك نظر إلى من له فطر بتأويل، فإن جاء مستغيثا، ولم يظهر عليه صدق فيما يدعيه، وإن لم يفعل ذلك جرأة فلا كفارة عليه، وإن ظهر عليه نظر فيما يدعيه: فإن كان ما يرى أن مثله يجهله صدق وإن أتى بما لا يشبه لم يصدق، وألزم الكفارة، وهذا فائدة قولهم أن هذا ينوي ولا ينوي ويجبر على الكفارة إليه إذا ادعى ما لا يشبه لم يكن للتفرقة وجه.وهذا الأصل في الحقوق لله عز وجل في الأموال فبمن كان لا يؤدي زكاتها ووجبت عليه كفارة أو عتق عن ظهار أو قتل أو هدي فامتنع من أداء ذلك، انه يجبر على أدائه وانقياده، وقاله محمد ابن المواز فيمن وجب عليه الكفارة فمات قبل إخراج ذلك أنها تؤخذ من تركته إذا لم يفرط.
فإن قيل: الكفارة يختلف فيها هل هي على الفور أو على التراخي، قيل: يصح أن يؤخر بها إذا معتقدا أنه يخرجها، فأما من علم منهم جحودها وأنه يقول لا شيء علي فلا يؤخر بها، وهذا في الحقوق التي تجب عليه لله ولم يوجبها على نفسه، واختلف فيما تطوع بايجابه على نفسه، فقال مالك: صدقة للمساكين في غير يمين، فقال ابن القاسم: لا يجبر على انفاد ذلك، وقال في كتاب الصدقة من كتاب محمد يجبر.انتهى كتاب اللخمي في هذا القصل.(1)
وله في فصل آخر: ومن ظهر عليه أنه أكل أو شرب في رمضان عوقب على قدر ما رأى أن فيه ردعا له ولغيره من الضرب والسجن.أو يجمع عليه الوجهان جميعا الضرب والسجن، والكفارة ثابتة بعد ذلك، مجمع عليه العقوبة في المال والجسم(2).
__________
(1) : قارن بالتنبيه ص: 163(نسخة الخزانة العامة)
(2) : نفس المصدر ص: 165.(1/278)
وفي قول اللخمي: لم يجبر على الكفارة، لما كان للتفرقة وجه نظر، لأن التفرقة فيمن ظهر عليه فاعتذر بما يعذر به مثله راجعة إلى ترك عقوبته دون من لم يصدق، فإنه يعاقب. وهذا كاف في الفرق ولو لم يجبر على الكفارة.
وفي احتجاجه أيضا بمسألة من مات قبل إخراج الكفارة ولم يفرط نظر لأنه إذا لم يفرط تبين أنه من الواجب المضيق، فصارت كالزكاة. فلايلزم الجبر على الكفارة وهي على التأخير، والله سبحانه أعلم، وكذلك قوله: وأما من علم منه جحودها إذاك لا يخرجها على التراخي، على القول به إلا بدليل. وأما تعقب ابن بشير على اللخمي بأن العقوبة بالمال لا يضاف إليها العقوبة بالأبدان، فحامله عليه قول اللخمي: يعاقب بالضرب أو السجن أو بهما والكفارة ثابتة، يخرج عليه العقوبة بالمال والجسم.وإنما مراد اللخمي ـ رحمه الله ـ أن العقوبة على المعصية التي ظهرت بالسجن والضرب لا ترفع الكفارة التي شرعت ماحية لاثمة الانتهاك بمجرده، من غير إظهار لهولا ظهور عليه. وتسمى الكفارة عقوبة بمعناها اللغوي، لأنها آتية عقب الذنب،ومرتبة عليه،ولم يرد أنه يؤخذ منه مال غير الكفارة التي شرعت.
فإن اعترض (77=222/ب) ابن بشير الجمع بين العقوبة والكفارة الجواب:أن الكفارة لمطلق الانتهاك.ألا ترى أنها واجبة على من انتهك حرمة الشهر في خلوة، والعقوبة بالسجن والضرب إذا ظهر على المنتهك وأشهر ذلك تعظيم جرءته. فما لأجله الكفارة في التحقيق غير ما لأجله العقوبة.(1/279)
ثم انظر إلى هذا المفتي المملي كيف يحتج بما هو حجة عليه. هذا اللخمي يقول: فمن ظهر عليه أنه أكل أو شرب في رمضان ولم يعذر، أنه يعاقب بالضرب والسجن، ويجبر على الكفارة حيث لا تكون الكفارة على التراخي لحجود من هي عليه بزعمه، والكفارة مشروعة(1)، والمملي يسمع: يعاقب بالسجن والضرب، ويقول يعاقب المذنب بوضع ماله في بيت المال وبالحجز عليه أو بالصدقة. وهل درى لو استقر أنواع الذنوب وأصنافها وأجناسها، وما اتفق من جزئيات للمفتين قبلهم، لوجدهم ينصون على العقوبة بالضرب والسجن والتعزيز بما دون ذلك على الاجتهاد فيما ليس فيه حد من حدود الله سبحانه، وبالحدود فيما علمت فيه من غير زيادة مال، حيث لم يشرعه الله تعالى. ومسائل الغش والتصرف في المال بما يحرمه غالب ما يتحيل فيه العقوبة بالمال، وما ذلك إلا إفساد للمغشوش وإذهاب للباطل، ليس من العقوبة بالمال التي انتصب هذا المستدل ليستدل عليها في شيء.
ثم كلما وجد كلاما من مؤلف أو شبهه بمسألة لا يجد قائلها ينفي نسخ العقوبة بالمال فإذا عورض ذلك الجم الغفير الذي انكروها جملة، لم ينص جمهور من سواهم على النسخ، اضمحل الخيال ولم يبق له منه شيء مما جيء به من ذلك على المعارضة، سيما والنصوص المتظافرة القاطعة على عصمة مال المسلم بالإسلام ومنع ماله إلا برضى تكاد تخرج عم الحصر؟.
هذا المفتي لا شيء بعد وجه يحتمل التأويل. وفي وقائع الأئمة وتفاصيل سالمة عن لمعارضة ولم يهدم أصلا من أصول الشريعة، ولا صرح بها تصريحه.
وأما ذكر المملي قول اللخمي فيمن جاء مستفتيا، وإجراؤه على شاهد الزور فاستطراد غير بعيد ولا نافع فيما هو بصدده ولا ضار، فلا معنى للتشاغل به.
قال: وإن كان ابن بشير تعقب الأول بأن العقوبة بالمال لا تضاف إليها العقوبة بالأبدان، وبالقياس على المقدرات.
__________
(1) : قارن بشرح الزرقاني على المختصر 2/207-وتبصرة الحكام 2/192.(1/280)
أقول: أفلا تنظر أنت المملي وتعتبر، هذا اللخمي يقول بالكفارة الواجبة شرعا لانتهاك دون إظهار، ويقول بالعقوبة فيمن ظهر عليه الذنب فصرف له الإنكار، فكيف بمن يقول بزيادة إغرام المال فوق الحدود فيجمع بين الحد والمال؟، أليس الجمع بين عقوبة البدن، وهي موكولة إلى الاجتهاد، والمال المشروع أسهل من الجمع بين الحد الممنوع فيه من الزيادة وأخد مال ليس له إلى قواعد الشريعة رجوع؟.
الرابع عشر: انتزاع النبي صلى الله عليه وسلم المال من ابن اللتبية
قال: ومنها انتزاع النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي وهب لابن اللتبية، ولم يجىء في الأحاديث أنه رد ذلك إلى أربابه.
أقول: الحديث خرجه الشيخان وأبو داود عن أبي عروة عن أبيه حميد الساعدي ـ رضي الله عنا ـ قال: " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من السد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما تقدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى له أم لا؟، والذي نفس محمد بيده لا ينال أحدكم منها سيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله، على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي أبطه ثم قال: هل بلغت، مرتين " هكذا رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة. (78=223/أ).
ورواه معمر عن الزهري عن عروة فقال فيه: "فجاء بالمال فدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا مالكم، وهذه هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى لك أم لا؟. ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيبا" ثم ذكر نحو حديث سفيان.(1/281)
ورواه مسلم من طريق هشام عن أبيه فقال: "استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الاسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه قال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هدية إن كنت صادقا، ثم خطبنا فحمد الله ...الحديث "(1).
فلم يقع في الحديث ذكر بنزع المال كله، وإنما فيه لأنه حاسبه، وكان هذا قبل موعظته صلى الله عليه وسلم للعامل وخطبته، فأفضت المحاسبة إلى أن يأخذ العامل بعضا وحبس بعض، فيحتمل نزع جميع المال منه، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اقتصر على الموعضة ليستخرج بها ما كان من غلول: وأما حبسه الرجل وقال: هذا أهذي لي: إن كان كله مال الله.
قال القاضي أبو بكر بن العربي ـ رحمه الله ـ وقد ذكر الحديث: وذلك ـ والله أعلم ـ أنه استكثر الهدية واستشرف صلى الله عليه وسلم إلى أنه زادت على طريق المعروف، فيتوقع أن يكون تصنعا أو استرواعا لباطل، أو لجلب ما لا يجوز من الصدقة.
قال: ولا يخلو قصد المهدي من المهدي إليه وده أو عونه أو ماله. فإن قصد ماله أو وده فذلك، لكن قصد الود أفضل، وأما طلب العون على أمر، فإن كان معصية فلا يحن، وهو الرشوة، وإن كان طاعة فذلك جائز يريد ـ والله أعلم ـ ما لم تكن الطاعة واجبة عينا.
__________
(1) : فتح الباري 13/164 ـ باب 24 ـ ح: 7174 ـ شرح مسلم للنووي 12/218 ـ ونيل الأوطار 7/297.(1/282)
قال:وإن كان دفع مظلمة، فإن كان قادرا على دفعها عنه بالحكم والأمر والنهي والإيعاز والإيزاع كانت رشوة، وإن كان بسعي وحيلة وتخدم ورغبة فذلك جائز، لأن دفع المظالم عن الخلق من مفروض الأعيان على ذوي الأمر، ومن مفروض الكفاية على غيرهم، فإن قام به واحد سقط عن الباقين، وإن تخلى عن المظلوم واحد من الناس وأعانه آخر لم يأثم المتخلي حتى ولو تخلى الناس كلهم عنه أثموا. وإذا لم يكن ذلك فرض عين لم يمتنع أن يقبل عليه مكافأة، وفي ذلك آثار وأدلة.
وقال: كل ذي أمر إنما يتلقاه من المأمور الأول، والمأمور الأول به نقتضي وبهديه نهتدي، وعلى القيام بسنته نروح ونغتدي. ومن أجل الأعمال بعد الفرائض مما يتعلق بالمصالح ويعود بالألفة امتثال حديثه في الهدية في حديث الكراع، وقد جاء في الصحيح: ولو فر سن شاة. وكان صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية من اللبن وغيره من جيران من الأنصار. وكان إذا جاء طعام سئل عنه، فإن كان صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل معهم، وإن كان هدية أكل معهم. وكان يخص بالهدايا في يوم عائشة رضي الله عنها. وكان يقبل لهدية ويكافئ عليها، ولا يرد الطيب. جميع هذا في الصحيح.
قال: والفرق بين الهدية والرشوة، أن الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونا على ما لا يجوز، والهدية كل ما أعطي على محبة أو مودة يثبتها أو يستديمها. قال والهدية ما بدلت عفوا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء غلول" انتهى(1).
__________
(1) : انتهى النقل من عارضة الأحوذي 6/79-82. وفي حديث: " هدايا الأمراء غلول " انظر المسند أحمد 5/ 425 ـ وعارضة الأحوذي 6/79 ـ والجامع الصغير للسيوطي 2/195 ـ وراجع تخريجه بتفصيل في أرواء الغليل 8/246 ـ 250 ـ ح: 2622.(1/283)
وإذا كان الأمر على هذا، انقسمت هدية الأمير إلى ما يهدي إليه من أجل الإمارة، فهو الذي جاء التحدير منه، وعليه نزل قول النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا جلس في بيت أبيه. فهو يدل على أن ما يهدي إليه لو كان في بيت أبيه قبل الإمارة لا يحرم عليه بعدها، ولما جاء هذا العامل سواد كثير دلت الحال على أنه إنما أخده بالإمرة ، أو ليدع ظلما، أو ليترك حقا. فإن صح أنه لم ينتزع منه بمجرد دلالة الحال فلا حجة فيه إن صح منه انتزاع، فموجب الانتزاع أنه غلول، وانتزاع الغلول ممن غله واجب، وليس بشيء من العقوبة في المال، اللهم لو انتزع منه ما غل وأغرمه شيءا آخر لم يكن لغرمه سبب شرعي، احتمل أن يكون من العقوبة بالمال، وما غله الغال (79=223/ب) يجب التنصل منه، ولو تاب لأخرجه مما يجب عليه.
وأما قول المملي: ولم يجيء في الأحاديث أنه رده على أربابه، فنقول: ولم يجيء في الأحاديث التصريح بانتزاعه، ولئن جاء فلا حجة في ذلك لأنه لم يتظلم منه أحد، ولم يقر هو بأنه ظلم أحدا إنما ادعى أنه أهدي إليه منكرا للغلول والظلم. فلذا صح أن ما بيده ليست له، فإنه أيضا ليس لغيره معينا هذا إن أخذه من غير ما جاء به من الصدقات، أمل إذا كان من مال الصدقات فأبين.
الخامس عشر: مشاطرة عمر ـ رضي الله عنه ـ العمال أموالهم.
قال: وكذلك مشاطرة عمر ـ رضي الله عنه ـ العمال، ولم يأت أنه رده لأربابه.(1/284)
أقول: عمال عمر ـ رضي الله عنه ـ أكثرهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل ولاته عدول، إذ لا يجوز تولية غير العدل، وليس عمر ـ رضي الله عنه ـ ممن يتعاطى ما لا يجوز، فمرتبته الثقوى ونهاية العدل والنصيحة معلومة بالضرورة. وإذا كان الأمر كذلك، فليس لما بأيديهم طالب، ولم يظلموا أحدا ولم يتظلم منهم أحد، ولم يطلبهم فيما في أيديهم. غير أنه ـ رضي الله عنه ـ استكثر ما بأيديهم ورأى فاضلا على ما رزقوه، فأشكل عليه أن يكون مكتسبا بالجاه وغيره، فصار كما لو تنازعه أثناء. أو رأي أنهم إن اكتسبوا ذلك بنوع من التنمية سائغ، إلا أن رأس المال كان لبيت المال فرأى أن يجعله مضاربة كما فعل مع ولده.
ثم انظر كيف يستقيم من له عقل سليم أن يستدل بهذا والذي قبله على أن من سرق أو زنى أو حارب أو هرب بامرأة أو جرح أو قتل أو قطع يأخذ من ماله ما يكون عقوبة؟. وليت شعري، ما الذنب الذي ارتكب عمال عمر ـرضي الله عنهم ـحتى عاقبهم بأخذ شطر أموالهم؟، وما هو الذنب الذي أخذ لأجله مال ابن اللتبية غير ما وعظ النبي صلى الله عله وسلم فيه من الغلول الذي لعله لم يكن يعرف حكمه؟، أو هل أخذ له مال قط إن كان أخذ ما بيده؟، فما أخذهما مال الصدقة.
قال: وأحفظ عنه في جامع الموطأ أو جامع البيان لابن عبد البر ذكره أنه أخذ مال رجل وطرحه في بيت المال(1).
__________
(1) : لا يوجد في كتاب الجامع من الموطأ ولا في جامع البيان لابن عبد البر!.(1/285)
أقول:كان يجب عليه تحقيق النقل.ولم أخذ عمر مال هذا الرجل؟، وهل أخذه بغير سبب؟، ولكنه أجل من أن يصنع هذا بغير سبب، وهم أجل من أن ينقلوا هذا عن غير عمر، فضلا عن عمر، فلم يبق إلا يبين سبب أخذ المال أن المأخوذ منه أتى ذنبا من الذنوب غير مال، بقي ماله معه على حال عصمة الإسلام له، ثم استجاز ذلك لأجل الذنب. وهيهات! فلا يظفر بمثل هذا، ولا يلتفت في هذه قاعدة من قواعد الدين، وهي عصمة مال المسلم إلا بحقها، ورفع يقينها بمجرد الظن والتخمين من غير تحقيق ولا تعيين.
السادس عشر: إنها من مسائل المالكية في باب رعي المصالح العامة.
قال: فهذه مسائل المالكية في باب رعي المصالح العامة.
أقول: الشريعة كلها مصالح ونصائح. فإن أراد الاستدلال بهذه المسائل على ما أراد إحداثه، فقد بينا بطلانه. وإن كان مقصوده الاستدلال على القول بالمصالح المراسلة التي لم يعتبرها الشرع، فقد بينا رجوع ما جاء به من المسائل التي استدل بها إلى ما اعتبره الشرع لا إلى ما ألغاه، ولا إلى ما سكت عنه، وأن ذلك بمعزل عن ما أراد هو إثباته وقياسه. وإن أراد الاستدلال على اعتبار المصلحة شرعا، فالاستدلال على هذا عي عند العلماء لأن ذلك ضروري من الدين معرفته. ثم لا يفيد ذلك في مقصوده الذي يريد أن يركب عليه، وهو أن في أخد المال من الجنات مصالح فيجب أخذه، لأنا نمنع أولا وجود المصلحة في ذلك، بل هو عين المفسدة، لما صار الأخذ منه وسيلة إلى تمام الأغراض في الشهوات، وبيع الجرائم من أهل الشرورات.
وتاليا، فإنا وإن سلمنا وجود مصلحة في الجملة، فليس كل مصلحة يجب اعتبارها، والذي يجب اعتباره منها له شرائط لا يعرفها إلا من أتعب نفسه (80=224/أ) في تحصيل وفهم أسرارها. ولو صح الاستناد إلى مجرد المصلحة لصح الاجتهاد من كل من يميز المصلحة من المفسدة، ولم يكن شرط الاجتهاد إلا مطلق التمييز.(1/286)
قال: ومنها التلقي للركبان لمصلحة العامة وإن كان الله أباح البيع من حيث الجملة على العموم أو على الإجماع. ومنها جبر المجاورين للجامع على بيع رياعهم للتوسعة في الجامع، وحكى المازري الإجماع عليه، وحكى ابن رشد الخلاف فيه(1). ومنها القسمة بالقرعة في المتجانس، وكذلك الشفعة وسائر مسائل الضرر إذا تعارضت نفى الأصغر منها الأكبر. وكان المازري يحكي عن عبد الحميد هذا الطريق، يعادل بين الضرر الحادث والقديم، فما رآه أرجح رجحه. وكذلك غير هذا من مسائل المالكية في باب رعاية الأصلح.
__________
(1) : مسائل أبي الوليد بن رشد 1/216-217. وانظر نوازل البرزلي 2/143/أ.(1/287)
أقول: هذا أيضا الاستدلال على أن الشريعة جاءت برعي المصالح ورفع الضرر الأعلى ولو بضرر دونه. وهذا ما لا نزاع فيه في الجملة. ولكن ارتكاب ضرر لرفع أكبر منه، أو تحصيل مصلحة تربي عليه بعد ثبوت أن هذا الضرر صارف لما هو أعظم منه، وأن لا ينصرف إلا به بحكم الحال، وإلا شرع الله ما هو أصرف للضرر على تقدير أوضاع رتبتها الشريعة، أما الاسترسال في صرف الضرر ربما يخيل أنه صارف له وليس بصارف، بل هو جالب له ومسهل لطريقه، كشرع أخذ المال في المعاصي التي تشتهيها النفوس، ويسهل عليها فيها بدل الدنانير والدراهم والفلوس فلا صرف في الضرر الذي هو أخذ المال ولا دفع عن هذه المعاصي وإن دفعت من لم تتمكن شهوته، وعظمت بالدنانير والدراهم والفلوس علاقته بعض الدفع. وكذلك أيضا، شرط ارتكاب الضرر الأدنى لرفع الضرر الأعلى بعينه طريق إليه بعد تحقق كونه وازعا وصارفا، وأخذ المال في المعاصي غير متعين الصرف. وكذلك أيضا، الشرط أن لا يكون غير ما يخيل صارفا أقوى منه في الصرف والعقوبات البدنية أردع عما. وكذلك هذا أيضا مشروط بأن يكون الشرع إما قد اعتبر ذلك النوع من الضرر في الصرف عما هو أعلى منه، وليست مسألتنا من ذلك. كذلك أيضا، أنه لم يبلغ ذلك النوع من الاستصلاح، وقد بينا أنه ألغاه، فما تصلح بنا إعادته. وكذلك أيضا، يشترط في ذلك النوع من الاستصلاح أن لا يكون الشرع تكفل بغيره واستصلح العباد به، ومسائلنا مما تولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الاستصلاح بما شرع فيها من الحدود والزواجر، فلا ندع أمره ولا نزيد عليه ولا نستقصر حكمته ولا نسفه حكمه، ولا نضع النصوص القرآنية والأخبار النبوية لآراء فاسدة وأوهام مضمحلة نشأت عن هوى راسخ في حب المال، وما جبلت عليه النفوس من الظلم.(1/288)
فلو فتحنا باب صرف كل ضرر لكل من تخيل، تبت أو لم ثببت أنه صارف، أو شرعناه بغير تحديد ولا تقدير، لكانت سياسات الفرسية والزواجر الجاهلية أنسب بما رآه هذا المملي "أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون"(1).
قال: وأصله من القرآن قصة الخضر مع موسى عليه السلام في قتل الغلام، لقوله: "فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا "(2).وخرق السفينة. وإن كان هذا شرع من قبلنا والقياس على أفعال الله تعالى، فإن مالكا قال به في قصة البقرة، ورجم فاعل فاحشة قوم لوط. وكذا إرساله النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فبلغ الرسالة صلى الله عليه وسلم، ودعا إلى الإسلام والإيمان وما يجب لله، وسب ألهتهم وسفه أحلامهم، وبقي على ذلك عشرين سنة بل عشر سنين أو أكثر على الخلاف في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، وما آمن معه إلا القليل، فحينئد شرع الجهاد (81=224/ب) في حق الله تعالى، فقتل مقتل وسبى الذرية وأخذ الأموال وفرض الجزية على من لا يومن صغارا لهم لكي يرجعوا إلى الله، وأشار القرافي إليه كله في حق الله تعالى(3)، ثم جاء أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقاتل مانعي الزكاة، فمنهم من قال أن الزكاة كانت أخت الجزية، ومنهم من قال: إنما خوطب بأخذها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من منعها ضنا بها، ومنهم من توقف حتى يرى مآل الأمر، فطوى ـ رضي الله عنه ـ أمرهم، ورأى الأقل تبعا للأكثر، فقتل مقاتله، وأخذ أموالهم، وسبا ذريتهم، وجعلهم كالكفار المتأصلين. وإن كان عمر ـ رضي الله عنه ـ رد بعض هذا، فلعله استطاب أنفس بعض بأنفس من حصل بيده من هذا شيء.ومنها إذا ارتد أهل مصر وفيهم النساء والصبيان والشيخ الكبير لم يتعرض لجميعهم أم لا؟.
__________
(1) : سورة المائدة الآية: 50.
(2) : سورة الكهف: الآية: 80.
(3) : الفروق 3/10.(1/289)
اختلف في ذلك أصحاب مالك وهي شبه قضية أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ .ومنها خروج عبد الرحمان ابن الأشعت مع فقهاء العراق على الحجاج وخروج فقهاء القيروان مع أبي يزيد مخلد ابن كيداد الزناتي الخارجي الأباضي على أبي عبيد، رأو أن بدعتهم أخف من بدعته(1)إلى غير ذلك من القضايا مما خرج فيه الأصلح عن غيره.
والحاصل مما قدمناه: إذا ثبت جنس العلة في الأصل واطراد جنسها في الفرع وكان قوي الرجحان، فيجب أن تعتبر المصلحة الراجحة المحظة، لأن ترك الخير الكثير للشر القليل شر كثير، وترك مصلحة عدم الإقدام على القتل لأجل أخد مال يسير من الجاني مرجوح لاشتهار هذه المسألة في الوطن وانتشارها في البوادي والقبائل.
أقول: زبدة هذا الكلام بحسب مقصوده إقامة الدلالة على أن الشريعة منوطة بالمصالح ورجوع الضرر، ثم تحرر دلالته على إباحته أخذ أموال المذنبين بزعمه. أما الأول فلا نزاع فيه، وهو معلوم بالضرورة، وكل من لتفت إلى التضلع بحكم الشرع في أحكام فهو في غنى عن الاستدلال به. ثم إنه أنصف نفسه للاستدلال عليه، ففي اقتصاره على ما ذكر قصور ظاهر.
__________
(1) : في عهد القائم بأمر الله الفاطمي ( 322 هـ /334هـ ) ظهر على المسرح السياسي أبو يزيد مخلد ابن كيداد الخارجي، وهو من أهل قسطيلية من ضواحي مدينة توزر. كان على مذهب طوائف الصفرية الخارجية استطاع بدهان أن يستميل إليه شيوخ القيروان من الفقهاء والعلماء حيث شاركوه في هجومهه على المهدية سنة 333 هـ . إلا أنه خذلهم عندما تركهم وجها لوجه مع قوات أبي عبيد الشيعي، حيث استشهد منهم في يوم واحد خمسة وثلاثون فقيها منهم: اللإمام أبو الفضل عباس الممسي، والإمام أبو سليمان ربيع القطان وغيرهما. انظر: الكامل لابن الأثير 8/428- ومعالم الإيمان للدباغ 3/34- والحلل السندسية 2/29.(1/290)
أما قصة الخضر عليه السلام فمبناها على العلم اللذن والأمر الرباني المنوط بما غيبت حكمته على العباد وخفي فلم يعد ولم يطلع الله سبحانه عليه إلا من أراد، وهنا أحكام الشريعة العامة على الأمور الظاهرة المنضبطة سواء كان باطنها على ما يقتضيه ظاهرها فب علم الغيب أم لا، " أمرت أن أحكم بالظاهر "(1)، ( إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار(2)، "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون"(3). ولذلك كان الحق أن حكم الحاكم لا يحل حراما، وهي مسألة اجتماعية في الأموال، وإن خالف أبو حنيفة في الفروج. لذلك قال الله تعالى لموسى عليه السلام: بل عبد من عبيدي بمجمع البحرين أعلم منك. وعلم من تفسير الخضر أنه ليس هذا على عموم، وإنما المراد أنه خفي عنك بعض علومه، وإن كنت النبي المكرم والرفيع النصاب والمصطفى للرسالة المعظم، بقوله "يا موسى إنك على علم من علم الله علمك لا أعلمه، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه. ولما بين العلمين وقع الإنكار من موسى عليه السلام بعد التزام الصبر، وفي ذلك لعامة المؤمنين أنواع من اللطف ظاهرة، وآيات لمن غاب عن علم الكشف باهرة.
__________
(1) : فتح الباري 12/73- وشرح الأبي على مسلم 4/471- وانظر: المقاصد الحسنة للسخاوي 91-92- والمعتبر للزركشي 99-100
(2) : رواه المسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومالك وأحمد. انظر تخريجه في: الهداية لأحمد ابن الصديق 8/637-639-ح: 1778.
(3) : سورة البقرة، الآية: 188.(1/291)
فإنا نرى الأحكام ملوطة بالمصالح ومحوطة (82=225/أ) باطراح المرجوح وإتباع الراجح، ونرى من الأفعال ما لا نفهم حكمته ولا نتصور علته، كإيلام البريء، وتوفير السعادات الدنيوية على الغبي، وإرخاء عنان المفسر الجريء، وجعل زمام الرشيد بيد القوي، مع قيام البرهان على أن الرب تعالى أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، والقطع بجريان أفعاله على وفق الحكمة ومنهاج الرحمة، وإن كان لا يسأل تعالى عن أفعاله وتتبلد الأفكار خيفة من جلاله، ويجب الرضا بأفعاله وقضائه، كما يجب الشكر لمنواله ونعمانه. فكانت القضايا الخضرية كالبرزخ بين الأحكام الشرعية والأفعال الإلهية، وضربت مثالا للفعل الإلهي والقضاء الربي، لا تضطرب النفوس عند وقوع الآثار، وتطمئن وإن خفي عليها وجه الحكمة فيما يخلقه الرب جل جلاله ويختار، وان الشريعة والحقيقة لولا ارخاء الجحاب، لما عقل بينهما افتراق، وإنه عندما ينكشف الغطاء يدركما بينهما الإتساق والإتفاق. فكذلك الأفعال الإلهية، كله جارية على ألطاف خفية وآثار رحمانية، وأن أقلق النفوس ظواهرها، وخفيت عن العقول سرائرها، ثم أن كلا لما أبرزه لطيف التدبير، لم يصدر إلا عن أمر اللطيف الخبير، رحمة من ربك "وما فعلته عن أمري"،(1)أي لم يكفيني في الإقدام على شيء من ذلك فألقي إلي من علمه إذ لا يحكم الحاكم بما يعلمه، بل لولا الأمر الحتم والقضاء الحزم، ما قلت ولا خرقت ولا أقمت جدار القرية إذ كل مفعول عن غير أمر الله فرية ما فيها مرية.
__________
(1) : سورة الكهف، الآية: 82(1/292)
وذلك من أسرار ما قص علينا من أخبارهما، وبقي بأيدينا من أنبائهما وآثارهما، ولم يحد ذلك، أعني ما اتفق من الخضر عليه السلام عن أمر الذي بيده النقض والإبرام، من خرق السفينة، وإقامة الجدار وقتل الغلام، لما يتوقع من غضب هذه ورفق هذين وخروج هذا عن الإيمان والإسلام لولا أمر الذي بيده تدبير الأنام، مجري الشرع والمشروع، والقانون الموضوع، والمنهج المتبوع، لما يلزم عليه من قتل ما لم يجن قبل جنايته وإتلاف البريء قبل غوايته، وإهلاك كذا دفعا لما يتوقع من آفاته، والتصرف في ملك الغير اعتمادا على غايته. وهذا معنى لم يرسم في الشرائع، وإنما هو لعمر الله من الأحكام المخصوصة بخصوص الوقائع، توجه فيها الأمر الإلهي، وثبت الأمر على ما علم من العلم أللدني.ومثل هذا تولى الرب سبحانه صنعه، ولا جعله سبيلا لخلقه ولا شرعه، وهذا من أسرار التعقيب بقول:" وما فعلته عن أمري" لأن البناء الأول وهو أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر وراءهم غاصب يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، وأن الجدار تحته كنز يستخرجه صاحباه، أبيح للمرء خرقها قبل أن يأذن أهلها، ولا قامته قبل أن يأذن صاحباه، ولو كان ذلك عائدا عليهم بالصلاح، إذ هو تصرف في ملك الغير بظاهر ممنوع شرعا، وإن كان في الباطن من الاستصلاح، وأن الغلام يخشى أن يرهق الأبوين طغيانا وكفرا، ويرجى أن يبدلا خيرا منه زكاة وأقرب رحمة، ليس بالذي يبيح في الشرائع المرسومة القدوم على قتله قبل ظهور طغيانه وصريح كفرانه، فلابد من الإذن ممن لا مالك معه في الممالك، فاحتيج إلى الجواب بقوله:" وما فعلته عن أمري ". فهذا إذن من نهج الحقيقة التي خفيت أسرارها، لا من نهج الشريعة التي تتبع آثارها.(1/293)
فصار تلقي الخضر عليه السلام الأمر عن الله في هذه الأشياء تلقي ملائكة (83=225/ب) التصريف لا تلقي شرائع التكليف، وإطلاع موسى عليه السلام على ذلك إطلاع تنبيه وتعريف، والالزم وجود مثله في الشرائع: وكان موسى عليه السلام المتبوع لا التابع.
وإذا كان الأمر على ما قلناه، تخرجت القصة على ما قصدناه، لم يصح القياس عليها ولا إسناد شيء من الأحكام الظاهرة إليها، وعند ذلك صار النظر في كونها من شرع من قبلنا أو شرعنا، وهل شرع من قبلنا شرع لنا؟(1)
فإن قلت: قد ذكر في أخبار القاضي منذر بن سعيد البلوطي(2)أنه كان تحت يده يتيم له منزل مالك، وكان يأمر بنقض بعض ما في ذلك المنزل وبيعه، فأنكر عليه ذلك وسأل الحجة عليه، فتلا:" أما السفينة..." الى آخر الآية، وهو من أئمة النظار، وفيما قيد قد استدل بالآية واستنبط منها.
قلت: لم يكن استنباطه هذا حكما حكم به على دار اليتيم ببيع نقضها وهدمها، وإن المكان ما فعل من ذلك من وجه النظر المصلحي كما ينظر الأب والوصي في مال ولده ويتيمه لذلك، فلا يعد ذلك من نظره حكما، كما ينظر الإنسان في ماله فيخفيه من ظالم أو يغير هيئته حتى يزهد فيه ذلك الظالم.
__________
(1) : انظر الموافقات للشاطبي 2/296: قال: وإن سلم فهي قضية عين، ولأمر ما، وليست جارية على شرعنا. وقارن بفتاوي ابن تيمية 11/425
(2) : منذر بن سعيد البلوطي، الإمام الفقيه المحدث غلب عليه التفقه المذهب داود الظاهري والأخذ به، فإذا جلس للخصومة قضى بنذهب مالك وأصحابه. تولى قضاء الجماعة بقرطبة. توفي سنة 355 هـ. انظر: شجرة النور 90- تاريخ علماء الأندلس 144-145—أزهار الرياض 2/272- نفح الطيب 1/372 وما بعدها-(1/294)
والمقام الآن مقام استنباطه الحكم الشرعي لا مقام لاستبدال على أن هذا من النظر المصلحي. وقد بدأناك بتبيان أن الأحكام الربية والقضايا الإلاهية لا تعرى عن المصالح التي تقتضي الحكمة الإلهية، وإن خفيت مداركها، وضاقت عن الأفهام مسالكها، فلابد أن يعلم الإنسان أن الحامل لمن يريد قهره على ماله نوع من الأنواع المثيرة لغبطته، وأن إزالة ما به الغبطة أصلح له وأعود بنفعه، وكذلك في مال ولده ويتيمه قاضيا كان أو وصيا، وأذكر منهما ولي اليتيم والتحاكم في أن هذا مصلحي أو لا، شهادة أهل النظر في الأموال، والتعارف في ذلك بينهم، فلم يبق في ذلك إلا تلاوة الآية على معنى الاستئناس، وقطع ضرب من عسى أن تشتد شكيمته في ذلك من الناس. وأين هذا مما تختلف فيه الشرائح، أعني كون الشيء أعود على المال بالبقاء، وكون المصالح سببا لاستبقاء. ولإن سلم أن الآية في باب الحكم الشرعي، وأنه مما تحل فيه الشرائع، فإن شرع من قبلنا شرع لنا، فأين العقوبة بالمال؟، وأي نوع هذا من أنواع الاستدلال؟. هاهنا إلا قتل من علم قطعا ما هو عليه من الكفر والطغيان، وخرق السفينة مصلحة لأهلها، وإقامة جدار اليتيمين من الإحسان.
فإن قلت : إن كان الأمر على ما قلت دليلا مضمحلا، وعيا على قائله وكلا، فما تصنع في الصحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى نجدة، إذ كتب إليه يسأله: هل كان رسول الله صللى الله عليه وسلم يقتل الصبيان، وكتب: تسألني عن قاتل الولدان، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتله، وأنت فلا تقتلهم إلا أن تعلم ما علم صاحب موسى عليه السلام من الغلام فقتله(1). وظاهر هذا أنه عرض الآية لاستنباطه حكم القتل منها.
__________
(1) انظر: فتاوي ابن التيمية 11/425- وقارن بفتح الباري 6/148- كتاب الجهاد –الباب 147 –ح: 3014 وصحيح المسلم بشرح النووي 12/48- وعارضة الأحوذي 7/64.(1/295)
قلت: إنما خشي ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن يستدل بالآية على قتل الصبيان ولا دليل فيها، وكان من عادته وعادة الخوارج تأويل القرآن في غير كنهه. ويدل على ذلك قول ابن عباس – رضي الله عنه ـ: لولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه، ورأى ـ رضي الله عنه ـ صده عن ذلك مما لا يتأتى له معه نزاع، لأن علمه من الصبيان ما علمه صاحبه موسى عليه السلام من قبيل الممتنع عادة، إذ لا سبيل إلى ذلك إلا بالوحي، وقد انقطع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس قوله: إلا تعلم... إلخ من قبل التوقيف على آخر شروط القتل حتى أنه لو فرض أنه يعلم (84=226/أ) لجاز له القتل، لأن ذلك ليس بمشروع، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن ذلك في الصبيان، بل نهي عن قتلهم مطلقا وكف الأيدي عنهم وهو موجود صلى الله عليه وسلم، قادر على استعلام أمرهم من الله تعالى حتى يقتل منهم من يعلم ذلك منه، بل ربما علم صلى الله عليه وسلم من غير الصبيان من المنافقين بإعلام الله تعالى له ما علم، ومع ذلك كف عنهم إجراء الأحكام على الظواهر.
لا يقال: إنما ذلك لما علله عليه الصلاة والسلام في قوله: " لا يتحدث أع محمدا يقتل أصحابه "(1)
__________
(1) : الموافقات 2/294.(1/296)
لأنا نقول: إنما ذكر صلى الله عليه وسلم هذه العلة فيمن بان نفاقه وظهر عناده وشقاقه فاستأذن في قتله والكلام الآن في العلم الذي لم يزل في حيز الغيب، ولم يخرج بعد إلى الشهادة فلا يصح قتل من علم أنه صائر إلى الكفر إلا بإذن من الله تعالى خاص، كما أذن الخضر عليه السلام، إذ ليس ذلك بمشروع البتة، وإنما هي وقائع خاصة لا يقاس عليها، ولا يستند الأحكام الظاهرة إليها والحكمة أن الله سبحانه لو شرع للأنبياء بناء الأحكام على ما علمه من الغيوب لم يتأتى الاتساء بهم والإقتداء في ذلك، ولم تورت عنه تلك الشرائع، وإنما أراد الله سبحانه نصبهم إعلاما لهداية خلقه والقيام بحقه، فأمرهم بإجراء الأحكام على الظواهر، وتولى هو سبحانه أمر السرائر.
وأما قوله: والفياس على أفعال الله تعالى، فتركيب كلامه يقتضي أن الأصل رعاية الأصلح، والقياس على أفعال الله دليل على رعاية الأصلح، كما أن قصة موسى عليه السلام دليل على رعاية الأصلح لعطفه عليه، فتكون رعاية الأصلح في الأحكام حكم ثبت بالقياس على أفعال الله تعالى، وحينئد لركب عليه فنقول: أخذ المال من المذنبين أصلح فيجب اعتباره في حكم الله قياسا على مراعاة الأصلح في أفعاله. فأما رعاية الأصلح ثبت بالقياس فلا يصح، لأن رعاية الاصلح في أحكام الله تعالى، أي هل تتعين رعاية الأصلح، أو لا؟ فمسألة اعتقاده، والمسائل الاعتقادية لا تثبت بالقياس التمثيلي. وأيضا فمذهب أهل السنة أنه لا يجب على الله تعالى رعاية الأصلح في حق العباد، لأن له أن يفعل ما يشاء، وإن كانت أفعاله وأحكامه منوطة بالحكم، إلا أن الحكمة في الفعل والحكم عبارة عن كونه موصلا إلى المراد على الوجه الأتم. وأما أن أخذ المال من المذنبين أصلح، فقد تقدم رده غيرما مرة، وبيان ما في ضمنه من عظيم المفسدة، فصلا عن كونه أصلح، وتقدم من منع استنتاجه بالاجتهاد ما فيه كفاية.(1/297)
أما قوله:إن مالكا قال به في سورة البقرة، يعني بالقياس في أفعال الله في قصة البقرة، فهو كلام غير صحيح من وجهيين:
الأول: إن قصة البقرة ليس لمالك فيها قول. فإن قلت: مراده القول بأعمال التدمية قلت: وهو
الثاني: إنما مالكا قال في قصة البقرة بقياس على الأفعال، وإن كان احتج بها في أعمال التدمية. لأن أعمال التدمية. لأن أعمال التدمية وقول القتيل الذي حيي بالضرب ببعض البقرة: قتلني فلان من قبل الأحكام لا من قبيل الأعمال، إنما الفعل إحياء الله لذلك الميت، ,أما أخذ القاتل بقوله فهو من قبيل الحكم. غير أن المسألة من شرع قبلنا، ومسائل مالك تدل على اعتماد ما صح من ذلك. لا يقال: نطق هذا أية ومعجزة فلا يصح الاعتماد عليها في سائر الأحيان.
لأنا نقول: المعجزة إحياء الميت، فإذا صار حيا كان نطقه كنطق غيره من الأحيائ.
فإن قيل: فيلزمكم أن تقتلوا القاتل بمجرد التدمية من غير قسامة كما في القصة، لأنه ليس فيها قسامة. قلنا: وليس فيها ترك القسامة، مع أنا لا نحتاج إلى ذلك، فإن مالكا ـ رحمه الله ـ لم يحتج بها على ثبوت القسامة، إنما المراد الاحتجاج على أن نقول فلان مما لا يصح اعتماده في الأحكام في الجملة، إما أنه اعتمد كان مستقلا أو غير مستقل فأمر آخر وراء ذلك، ولأا يلزم من اتياث الأخص (85=226/ب) ولا نفيه، ويحتج على عدم الاستقلال بثبوت القسامة بالسنة.(1/298)
سلمنا أن القصة ألغي فيها حكم القسامة، فهو بناء على أن موسى عليه السلام حكم بما علم وعلم الحاضرون، وأن ذلك الخبر أوجب القطع للحاضرين بأن القاتل هو المدمى عليه، والسبب المقطوع به بخلاف المظنون أو علم موسى عليه بذلك كاف، فيكون من حكم الحاكم بعلمه على ما فيه من الخلاف بين أئمة المسلمين(1).
ثم انظر إلى بعد هذه المسألة عن العقوبة بالمال وإلى هذه المجازفة في الاستدلال، وكذلك أيضا ذكره لمقام رسول الله عليه وسلم بمكة ثم هجرة... إلى آخره، إلا أن يريد أن يدقق الاستدلال بضرب الجزية على الكفار وإحلال الغنائم والسبي المسلمين إذا أذنبوا بجامع، وأن يقول: لا فرق في ذلك بين الكافر والمسلم، فحينئذ يقال لهز قد أحل الله أموال المحاربين وعصم أموال المسلمين، بل أموال المعاهدين كما قال تعالى: "ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا"(2).
لا يقال: قصده من ذلك تعريف أن الشريعة مبني على المصالح.
لأن نقول: فليأت بشريعة من أولها إلى آخرها ومن الذي نازعه في ذلك حتى يستدل عليه؟.
انظر إلى قوله: وذكر هذا كله القرافي في حق الله تعالى، ما هو هذا كله؟، وما خصوصه القرافي بهذا المذكور، وهو لا يخلو من كتاب من كتب السير؟، وبم يتعلق قوله في حق الله تعالى؟. واستدل بذلك في قوله على التضلع في العلوم واستنباطه الأحكام من قواعد العلم.
__________
(1) : في هذه المسألة راجع: بدائع الصنائع 7/7- بداية المجتهد 2/470- المدونة 16/29 – أصول الفتيا للخشني 323- المعيار 10/28- تبصرة الحكام 1/167- المهذب 2/304- الإنصاف للمرداوي 11/32.
(2) : سورة البقرة، الآية: 275.(1/299)
وأما استدلاله بأن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ طوى أمر مانعي الزكاة وأهل الردة فقابل جميعهم ... إلى آخره، فأما قتالهم فحق مجمع عليه لا خلاف فيه، أعني قتال أهل الردة، ومن حجد وجوب الزكاة كأنه مرتد، وكذلك قتال من اعترف بوجوبها وامتنع من أدائها، إلا أن حكم هذا حكم الباغي يقاتل على منعها، وإن كان لأبي حنيفة فيه خلاف، فهو محجوج بفعل الصحابة ـ رضي الله عنه ـ، إلا أن يتأول أن الذين قاتلهم الصحابة كلهم كفار، فإن الذين منعوها شحا على أموالهم واعتقدو انقطاعها لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قول قائلهم: أطعنا رسول الله ما كان بيننا. فيا عجبا أكان مالك أبا بكر؟!. وهذا يقتضي أنه أنكر وجوب أداء الزكاة لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكر وجوبه بعده صلى الله عليه وسلم. وبهذا ونحوه استدل على أن هؤلاء ما يزالو مقرين بالوحدانية والرسالة. فإذا كان مآل قولهم القول بانقطاع وجوبها صاروا بذلك كحكم أهل الردة، وكذلك من منعها حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر دليل على أنه مرتاب غير مومن، فضلا عن كونه مقرا بوجوب الزكاة وهذا هو الذي يومن إن آمن الناس ويكفر إن كفروا.
والكلام الأن فيمن يقر بوجوبها ودوامه، أو يتركها شحا ويمنعها بخلا. وإذا كان الأمر على ما ذكر من الردة لم يكره طي غير المرتد إليه بل كلهم مرتدون وإن كانوا درجاة، ولم يكن الحكم فيهم بحكم المحاربين إذا تميزوا وقاتلو بقريب، وهو مذهب أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وبه أخذ أصبغ من أهل مذهبه فيما نقل عن ابن حبيب.(1/300)
وأما قوله: وإن كان عمر رضي الله عنه رد هذا، فلعله استطاب نفس من حصل بيده منه شيء، فهذا بناء على أن الشيء قد قسم. وفي الاكتفاء لأبي الربيع بن سالم(1).أن حذيفة ابن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال سبي أهل ديار أزد عمال المدينة وهم ثلاثمائة مقاتل وأربعمائة من النساء والذرية، فأوثقهم أبو بكر بدار رملة بيت الحارث يريد قتل المقاتلة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله صلى الله وسلم: قوم مومنون، وإنما شحوا لأموالهم وقالوا: والله ما رجعنا عن الإسلام فلم يدعهم أبو بكر (86=227/أ) بهذا القول، فتولى ـ رضي الله عنه ـ وهم موثقون فلما ولي عمر سرحهم، وكان فيهم أبو صفرة والد المهلب(2).
فهذا يقتضي أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لم ينجز فيهم الحكم، فلا يسلم في غير المرتدين، وأما رد عمر ـ رضي الله عنه ـ السبي إلى عشائرهم وتسريحهم فهو من الحق الذي خير فيه الإمام إن كان قبل الحكم بالاسترقاق، كما حكاه أبو الربيع ابن سالم، وهو ظاهر ما حكاه ابن رشد والشيخ أبو محمد عن ابن حبيب، وإن كان رأيه فيهم غير ذلك، ولكنه رآه حكما مضى عليهم؛ وإن كان بعد الاسترقاق والحكم فلابد من الاعتدار عنه بأن المسترقين طيبت نفوسهم بعوض أو دونه لألا يكون نقضا لحكم الحاكم قبله، ولا يصح.
__________
(1) : هو أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي، يعرف بابن سالم الأندلسي. شيخ الجماعة والإمام العالي الفقيه الحافظ المتقن روى عن ابن حبيش وابن زرقون وابن الجد وغيرهم. وأخذ عنه ابن الآبار وابن الغماز وابن عميرة. توفي شهيدا في واقعة أنجه سنة 634 هجرية. انظر ترجمته بتفصيل في لأطروحة تورية الليهي: أبو الربيع الكلاعي حياته وآثاره. مطبوعات وزارة الأوقاف
(2) :الاكتفاء 3/184.(1/301)
وأما أهل الحصن يرتدون، فقد تقدم ما في المرتدين. وأما القتال مع أمراء الجور لمن يقصدهم، فإن كان القائم عدلا وجب الخروج معه ليظهر دين الله، على ما نص عليه سحنون وصوبه القاضي أبو الحسن، وإن كان القائم عليه ظالما غير عدل لم يجز دفعه عنه، ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما، قاله مالك. وظاهره أن غير العدل لا يعان مطلقا. وقال عز الدين بن عبد السلام: يجوز القتال مع الفاسق دفعا لفسق أعظم من فسقه(1)، قال: وفيه وقفة أشكال من جهة أنه أعانه على معصية، ولكن درأها هو أشر بجوره، قال شيخنا أبو عبد الله بن عرفة ـ رحمه الله ـ: وعليه خروج فقهاء القيروان مع أبي يزيد على إسماعيل العبيدي لكفره وفسق أبي يزيد.
قلت: إن كفر كفرا بواحا وجب قتله، ويقاتل العدو مع كل بر وفاجر من الولاة. وموضع الأشكال فيها دون الكفر من المعاصي، كما كان أحدهم يتعرض إلى النفوس ويقاتل مع دافعه إذا كان لا يتعرض إلا للأبضاع، ويقاتل من دفعهما إذا كان يتعرض للأموال.
قال: والحاصل ما قدمناه... إلى آخره. كأن هذا إشارة إلى أن القول بتحصيل المغارم في مسائل الحدود من باب القياس، وعبر عن ذلك بقوله: إذا ثبت جنس العلة في الأصل وانطرد، وجنسها في الفرع، وكان قوي الرجحان، فيجب اعتبار المصلحة المحضة والراجحة. وقوله: ثبت جنس العلة، إن أراد تبث وجود جنس العلة...إلى آخره، كما هو ظاهر الكلام، لأن ثبوت ثبت انتسابه إلى سيء، كان عبارة عن وجوده أو دوامه، فالقياس لا يصححه وجود الوصف حتى يكون ذلك الوصف غير ملغى عند قوم، ومعتبر عند الأكثر، ولعله اكتفى في ذلك باسم العلة.
__________
(1) : قواعد الأحكام 1/91.(1/302)
ثم القياس يتوقف على وجود العلة، ولا معنى لقول القائل: وجد جنس العلة، فإن الأجناس لا وجود لها إلا في الأشخاص، وإنما يحتاج إلى العبارة بالجنس في مقام تفصيل اعتبار العلة، لأنها تارة يعتبر الشرع عينها في عين الحكم، وتارة يعتبر جنسها في جنس الحكم، وتارة عينها في الجنس والعكس. فسمعهم يعبرون بالجنس ولم يرد ما مرادهم به، فعبر بذلك في غير محله.
وانظر إلى تكرار لفظ الجنس في الفرع، وهل للإتيان بالظاهر هنا معنى، وإلى العبارة بقوله: وانظر جنسها في الفرع، فإن حقيقة هذا اللفظ: انتفى، لأنه مضارع طرد، وطرد بمعنى انتفى. وإنما سمعهم يعبرون بالاطراد، فيقول أحدهم: اطرد الحكم أو العلة أو نحو هذا، واطراد في اللغة معناه: تتابع، ومنه اطراد الأنهار، فلم يحسن في ذلك سمعا ولا فهما.
وانظر إلى قوله: وكان قوي الرجحان، ما المفسر لاسم كان. والذي سبق مما يحتمل عود الضمير إليه: الأصل (87/227/ب) والفرع وجنس العلة والاطراد، ولا واحد منها يصلح للتفسير، ولا معنى له ولا حاجة إليه، فإنه إذا وجدت العلة في الفرع على وجه التحقيق كفى ذلك في الإلحاق. وأما هذا الرجحان الذي اشترطه المجتهد وقواه فهو بديع في بديع اجتهاده.
ثم انظر أيضا إلى هذا المرتب المعقب بالفاء في قوله: فيجب أن تعتبر المصلحة المحظة والراجحة، كيف جعله ناشئا عن ثبوت العلة في الأصل واطراد ذاك الجنس في الفرع. وليته قال: من الفرع حتى يأخذ بعض هذا الكلام بأعناق بعض، ويتألف ثم ائتلاف عمد في كلماته. وإذا وجدت العلة التي ركب الحكم عليها في الأصل في الفرع ترتب عن ذلك الإلحاق بالقياس، إذ النظر في ترتيب جانب المصلحة على ذرء مفسدة دونها فمقام آخر لا يترتب ولا ينبني على تبوت العلة في الفرع.(1/303)
ثم انظر نتيجة هذا كله عند قوله: وترك مصلحة عدم الإقدام على القتل لأجل أخذ مال يسير من الجاني مرجوح، لاشتهار هذه المفسدة في الوطن وانتشارها في البوادي والقبائل؛ كيف صرح كما به افتتح أن القتلة المشروع فيه القصاص يؤخذ فيه مال يسير من الجاني لتنشأ عنه هذه المصلحة بزعمه وهي الكف عن القتل، فكيف رأى ما شرع الله من القصاص غير كاف إن كان يقول بالقصاص، وإن كان جعل المال بدلا منه؟، فأدخل في الكفر. وليته قدر هذا اليسير أو بين على أنه على قدر المقتول أو القاتل أو المال. ولعل هذه الشريعة خاصة بأصحاب الأموال أو عامة، فمن لا مال له تعمر به ذمته أو تؤدى عنه، كما هو المتعارف اليوم.
فانظر على هذا المفتي كيف يريد أن يشرع غير ما شرع الله، ثم يراه أردع مما به ردع الله. وليت شعري كيف يتلو "وكتبنا علهم فيها أن النفس بالنفس"، الآية(1)؟، أيبدل النفس بالمال أن يزيد عليها المال؟، فيكون على الأول نسخا بالإجماع، وعلى الثاني عند الحنفية. وما هذا الناسخ؟، أهو اجتهاد أم غيره؟. وكيف خفي هذا العلم الذي تعم به البلوى عن الصحابة والتابعين إلى أن ذهب ثلث القرن التاسع؟. وكيف غاص على هذه النكتة التي حلل بها ما حرم الله من أكل المال بالباطل، وعصمه الله بكلمة الإسلام وانعقد الإجماع الواجب الاتباع على حرمته، ثم لا يستقيل من عثرته ولا يرجع عن زلته؟.
هذا الزمان الذي كنا نحاذره ... في قول كعب وفي قول بن مسعود
إن دام هذا ولم يرجى له فرج ... لم يبك ميت ولم يفرح لمولود
وهذا كله يدلك على التحقيق بالعلوم والتضلع فيها واستنباطه لأحكام من القواعد العلم!، وهذه أضغات هذا الكلام كما تراها على غير نظام، وليس بينها اتصال ولا التئام، وإليك الخيرة بعد هذا أن تتلقى من مثل هذا المفتي الأحكام، وينقض بقوله ما استحكم ففيه من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة العقد والإبرام.
__________
(1) : سورة المائدة، الآية:45.(1/304)
ولقد حدثني ممليه وفقه الله عن الشيخ أبي يحيى ابن أبي بكر الظاعني(1)، وكان من نبلاء الأعراب أنه قال لي يوما يا سيدي أبا القاسم علم العلماء مثل المسك عند العطار، وعلمك مثل جوالق الحطب. ولكن هذا الشيخ المملي فهم أن هذا الكلام غيره يغالي بعلمه، وهو عندك أنت مبدول، تعطي كل مسؤول. واللفظ كاف في تفسير معناه والإشارة إلى مبناه.
ولقد حدثني ثقات ذو عدل أن شيخنا الإمام ابن عرفة ـ رحمه الله ـ كان يدعو غير مرة ربه أن يحفظ دين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من البرزلي(2).
__________
(1) : لم أقف على ترجمته في المصادر التي بين يدي.
(2) : قارن بالحلل السندسية 1/593- وتراجم المؤلفين التونسيين لمحمد محفوظ 3/209.
وفي هذا الكلام تحامل كبير على الإمام البرزلي، وهو مخالف للحقيقة!. فقد كان ابن عرفة كثير الثناء عليه حتى قال في حقه: " كيف أنام وأنا بين أسدين: الأبي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه ونقله.
انظر نيل الابتهاج 488- والحلل السندسية 1/670- وتراجم المؤلفين 1/46.
كيف يقال فيه ذلك وهو الذي حلاه العلماء بالحافظ والإمام وشيخ الشيوخ وشيخ الإسلام؟.(1/305)
قال: والذي أوجب هذا التقييد إنكار من يدعي المعرفة (88=228/أ) بالأصول، وقد أنكر المصالح المرسلة لإنكاره صورة مشهورة فيها، وإن هلاك الثلث في إصلاح الثلثين جائز، وادعى أنه من كلام العامة، وقد نص عليه إمام مذهبه مالك ابن أنس، وعليه تدل مسائل مذهبه، وجعلها كما ذكرناه في المسائل المذكورة، وقد أخذ به واقتدى الإمام المهدي أمام طائفة الموحدين ومن جاء بعده من أتباعه، وعاقبوا بالقتل وغيره لمصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم، واستقر ذلك بطريقتهم، حتى جعلوا أتباع السنة وذهاب البدعة في أرض إفريقية، وكما أشاروا إليه في خطبة الجمعة والعيد حسب ما ذكرناه، وقد حدثني الشيخ عبد الكريم البرجيني(1)من نسخة الشيخ أبي يوسف يعقوب حفيد الشيخ الصالح أبي يوسف يعقوب الشهير بالدهماني(2)أن لإفريقية لا تزال على السنة والجماعة ما دامت دولة بني الشيخ المعظم أبي حفص فيها، وإن كان بعض ولاتهم يتعرضون لأهل السنة بوجه من الوجوه.
__________
(1) : لم أقف على ترجمة في المصادر التي بين يدي.
(2) : أبو يوسف يعقوب بن ثابت الدهماني القيرواني. كان من أكابر الأعلام طريقة الإرادة ومشايخها. سمع الفقه من ابن عوانه ولازمه، والحديث عن ابن حوط الله وغيرهما. لقي أبا الغوت وأخذ عنه توفي بالقيروان سنة 671 هـ . شجرة النور الزكية 169.(1/306)
وبقي الأمر على هذا حتى جاء الله بهذا الملك الصالح العادل على رأس القرن التاسع وابتدائه، فأزاح المظالم، حتى ذكر أنه أسقط من حضرته العلية تونس نحو الأربع وتسعين وظيفة من المظالم، ومنها هذه: مظلمة العقوبة بالمال. فعظمت حينئد المفسدة المذكورة وطلب في (إزالتها)(1)، فظهر لي ما ذكر، ولأن درء مفسدة الدماء والحدود والأعراض مع ارتكاب أخذ بعض المال من الجاني ليرتدع عنها أولى، بدليل ما قدمناه في حفظ الكليات، وتأكد بعضها على بعض.
أقول: أن قوله. والذي أوجب هذا التقييد إنكار من يدعي المعرفة بالأصول، حذف مفعول إنكار ما أفتى به من تحليل الخطايا. ولعمري إنه منكر، والسكوت على إنكاره أنكر. وأما ادعاء معرفة الأصول، فأرجو الله أن لا يسألني عن الادعاء.
وأما قوله: وقد أنكر المصالح المرسلة لإنكاره مسألة مشهورة فيها، فإن فساد الثلث في صلاح الثلثين جائز انظر هذا الاستدلال العجيب على إنكار هذه المسألة، كأن القول بها من لوازم التي تنفك عنها، وقد علمت مما سبق بطلانها نقلا ودليلا. وانظر ما أراد بإنكار المصالح المرسلة قبل إنكار ذكرها في كتب الأصول، وإنكار وجودها، أو إنكارالقول باعتبارها مطلقا، أو باعتبارها في تحليل الخطايا.
فأما الوجوه الأولى فلم يقع إنكارها بوجه. وأما الاستدلال بها في تحليل الخطايا فانكر عليه. وجود الإنكار سلفت في افتتاح كلامه فلا نطيل بتكرارها، على اعتبار إنكارها غير منكر، فإنه مذهب الأكثر.
__________
(1) : بياض في الأصل، وقد أثبتناها مما سيأتي بعد، حيث سيكرر المؤلف هذه الجملة في 92=229 أب. انظر ص. 951(1/307)
انظر إلى ادعائه أنها مسألة مشهورة، فإن أراد عند نقله المقالات والعلماء بأنواع الدلالات، فقد قال ما ليس بصحيح. فإنها مقالة لم ينقلها أحد من العلماء عن أحد بالصورة التي نقلها هذا المملي. نعم، انفرد إمام الحرمين بها بلفظ ثلث الأمة وثلثيها، لا الثلث والثلثين مطلقا. وقد عرفت الفرق بين العبارتين مما سبق على أنه نقلها على وجه التشنيع على مالك، وقال: زل مالك، ولعله إنما ألزمه ذلك إلزاما، وقد تقدم ما فيه كفاية.
وأما قوله: وادعى أنه من كلام العامة، فالذي وقع من ذلك، أو قلت له: هذه كلمة من كلام العلماء هي من كلام العامة؟، لأنه إنما أعرف إطلاقا هكذا من غير تقييد بكل المة فيما نسمع، وينسب ذلك للإمام المهدي أبي عبد الله بن تومرت، فالله حسيب من نسبه إليه في قضية شنيعة ينزه عنها من له دين.
وأما قوله: إن مالك بن أنس إمام مذهبنا نص عليه. فأما على الوجه الذي نقله فلم ينسبها أحد (89=228/ب) إليه ولإ إلى غيره. وأما على الوجه الذي نقله أمام الحرمين، فقد تقدم أن ذلك النقل عن مالك زور منكر عند أصحاب مالك الذين هم أعلم بمذهبه.
وأما قوله: وعليه تدل مسائل مذهبه أو جلبها كما ذكرناه في المسائل المذكورة، فقد تقدم أنه ليس منه ولا من غيرها مسألة تدل على صحة ما نسب إليه، بل أقواله واستدلاله بأية سورة الفتح ونصوصه تدل على ضد ذلك وأنه لجماعة العلماء.
وأما قوله: وقد اخذ به وأفتى الإمام المهدي أمام طائفة الموحدين ومن جاء بعده من أتباعه، فهذا سوء ظن به ونسبته على ما لم يصح القول به، ولا يليق بورعه كيف لم ينقل القول بذلك عن أخذ من أئمة مذهب مالك؟. ويكفي في رد هذا على تقدير صحته أن أصحابه لم يقل أحد منهم به.(1/308)
وأما قوله: أنهم عاقبوا بالقتل وغيره لمصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأئمة إذا لم تستطع إزالة المنكر إلا بالقتل فلهم أن ينصبوا القتال حيث شرع لهم من ذلك، فمن مات في القتال فهدر. وإن كان عني إنهم يعاقبون بالقتل من لم يحب عليه القتل، فقد تقدم من قول إمام الحرمين أن هذا إنما أحدثه الجبابرة، وعلى ذلك تدل نصوص الكتاب والسنة. والأصل العصمة للمال والدم بالإسلام، حتى يدل دليل على سقوطها، وفي قوله: عندهم، ما يدل على أنهم على غير ذلك غير موافقين ولا هو بموافق لهم، حيث تبرأ بقوله: عندهم، ولم تجر قط عادة عالم بالإستشهاد بفعل الولاة منذ انقرض الخلفاء الراشدون، وجاء ما صح الوعد به من الملك العضوض. وإنما قصد هذا المملي بالاستشهاد بهذا أن يبقى الكلام فيه، خيفة أن تأخذ الملوك الحمية، فسول لهم الشيطان أن الناظر في ذلك بين أمره، إما أن يخالف فيسكت، وإما أن يتكلم فينتقم منه، وهكذا يكون المكر في آية الله عز وجل "ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين"(1).
__________
(1) : سورة آل عمران، الآية: 54.(1/309)
وانظر قوله: حتى جعلوا أتباع السنة وذهاب البدعة، ما مفهوم جعلوا الثاني؟، وإن كان المجرور في قوله: في أرض إفريقية. فانظر هذا الجعل بأي معنى هو؟. وانظر ما خصوصية لأرض إفريقية؟، كأنهم مالهم دعوة في القديم والحديث إلا بها، وهم قد ملكوا المغارب بأسرها. وهذا الكلام يقتضي أنهم ما جعلوا في أرض إفريقية إتباع السنة وذهاب البدعة حتى قالوا من لا يستحق القتل، وكفى بها شرا وبدعة، وأما الحكاية التي عن حفيد الشيخ سيدي ابن يوسف من أن لإفريقية لا تزال على السنة والجماعة مادام بنو الشيخ أبي حفص فيها فأسأل الله أن يجعل ذلك كذلك، وأن يرينا الحق حقا، وأن لا يزيغ قلوبنا، وإني لأرجو صحة ذلك فإن هذا الذي قصده إليه المملي من تغيير عقائدهم في تحليل ما علم تحريمه من مغرم الخطايا لم يخف بطلانه عن أمير المؤمنين أيده الله ونصره، ولاعن الأذكياء نمن عماله وفقهم الله للخير والحق وإتباعه، بل ربما نطق بذلك بعضهم عند الفراغ من قراءة ما أملاه وسماعه. وإنما حملني على هذا المكتوب ميل كثير من رعاع طلبته وغيره إلى مقالته، وما يتوقع على مرور الزمان من سريان دائه في النفوس وآفته.(1/310)
وأما ثناءه على أمير المؤمنين ـ أيده الله ونصره ـ يإسقاطه كثير من المظالم وأنها نحو الأربع والتسعين، ومنها هذه: مظلمة العقوبة بالمال. انظر كيف يأبى إلا أن ينطق على لسانه أصرح قول بأن العقوبة بالمال مظلمة؟ وانظر إلى مدحه لأمير المؤمنين حيث أسقط هذه المظالم ولم يستفت (90=229/أ) فيها هذا ولا من على منهاجه، وأقسم بالله أن منهاج هذه الفتية يقتضي انه لو شاورهم في شيء منها لأحلوه، فإنها أقرب لإقامة شبهات التحليل فيها من الخطايا، وأخف ضررا على الشريعة وعلى الأمة، فما منها شيء غير حدودا ولا أوجب تركها. إنما كان مغارم موظفة على أموال من الأعشار وغيرها، وأخذ المال عن المال أقرب من أخذ المال في الذنوب والحدود. فالحمد لله الذي ظهر ذلك عن إشارة المتفقهة والمتعلمة، لطفا بالبرية ونظرا للخليقة. وإني لأرى الشيطان قد عظم حسده له في هذه أعظم مما حسده في غيرها، لأن أخذ المال هنا يزعم آخذه ردعا للجناة وقمعا للشهوات فيحسب أنه يحسن صنعا، وأنه لا يألو لأحكام الله رفعا، ولحدود الله بيعا، ولمنهاج السنة إخمادا أو وضعا، وبقاءها يكفيه عن جميع المظالم، ولا يحتاج معها إلى الوقوع في شيء من الزلات والمآتم. ومما رويناه عن بعض أئمتنا: لعن الله الشيعة ومغيري الشريعة. وليتها رفعت وحمل الناس على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في حدودهم وعقوبات ذنوبهم، وأخذ منهم أضعاف ما كان يأخذ من المغارم المالية المتعلقة بالمال، فإن ذلك غير ضار في الدين ولا مبدل لعقائد المسلمين، وإنما هي مظالم يأجرون عليها ويرحمون بها.(1/311)
أما هذه الخطايا صار الاعتقاد وصار عامة الخلق يتوهمون أنها لم تدرأ الفساد، ونسيت حدود الله عز وجل حتى لا تذكر إلا على وجه التمليح، وإن ذكرت، سارع الناس في أخذ الأموال على الترجيح، وأنه القانون المستقيم والمذهب الصحيح. وتزيد الشيطان بؤسا ودهاء إن ذلك هو الحق الصريح. وقد شمت الشيطان بنا وشفى غيظه وبرد من غليله أعراضنا عن الحق وعن سماع دليله، ونبذ بالعراء لقول ربنا عز وجل: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبع السبل فتفرق بكم عن سبيله"(1).
وأما قوله: فعظمت المفسدة، فقد تقدم أن هذا قول باطل، لا يعقل أن سبب كثرة الفساد قطع الظلم، بل بقاؤه، فإنه وسيلة على أخذ الرشا وعدم الأخذ بالحدود والاستيفاء وصيرورتها إلى أن تباع بالبخس من الأثمان وتشترى.
وأما قوله: فطلب بإزالتها، باطنه توهم بعربية أو همته تعدى الفعل بغيره، إن كان لا يشم كثيرا من ذلك، ولكن هذا يوجبه الواقع، قصد أو لم يقصد.
وأما قوله: فظهر لي ما ذكر وأخذه مما ذكر، لأن ذرأ مفسدة الدماء والحدود والأعراض مع ارتكاب أخذ بعض المال من الجاني ليرتدع عنها أولى، تصريح، وهو خاتمة كلامه ونتيجة نظامه، بغرم الأموال في مسائل الحدود بأسرها درءا لمفسدتها بزعمه. والمخرج إلى التنبيه على صراح هذا اللفظ في مدلوله أن ممليه يتلون، فتارة يقول: وسمعته منه في آخر موطن نزله أنه يزاد غرم الأموال على الحدود. وكل هذا منكر من القول باطل، فإن المال ثبتت عصمته بالإسلام: والحدود كافية في الردع لو كانت تقام، ونصوص العلماء متواترة على أن الذنوب ولو كثرت لا تحل الأموال، والشوارد التي قدرت في الشريعة متأولة عند قول العلماء على أوجه لا تنافي اصل العصمة للمال، ومن لم يتأولها اعترف جمهورهم بأنها منسوخة، فلم يبقى غلا تركه الحجة والإتيان بما ترك العمل به أو لم يصح سنده أو شذ عن قائله مما ليس فيه حجة.
__________
(1) : سورة الأنعام، الآية: 153.(1/312)
وقوله: وتأكد بعضها على بعض، استعمل " على " فيه، بمعنى عن.
قال: وقد جاء الله بهذا الخليفة المبارك في الوقت الذي جاء فيه، صادف قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث على رأس كل قرن (91=229/أ) من يحيى السنة ويميت البدعة"(1).
أقول: لا أدخل الآن تحت هذه العهدة في هذا الحديث أنه بهذا اللفظ، ولعله "على رأس كل سنة من يجدد لهذه الأمة دينها" أو قريب من هذا أو نحوه(2)، ولم تيسر الآن مراجعته.
قال: وقد رأينا ذلك عيانا.
أقول: صدق في هذا، ولكنه لم يجد على الخير أعوانا.
قال: والله يديم دولته بخير وعافية، ويطيل عمره.
أقول: في الطاعات بمنه آمين.
قال: وبالجملة، فالمنكرون لهذه المسألة لهم باع في العلوم.
أقول: إن عني: ليس لهم باع في علوم التخليط وجمع الأضغاث والخروج عن المنهاج الواجب على العلماء، فنسأل الله السلامة من تلك العلوم وجمعها، فإن ضررها أكثر من نفعها.
__________
(1) : لم أقف على هذا الحديث.
(2) : الحديث في سنن أبي داود –كتاب الملاحم- ح: 4291.انظر بذل المجهود 17/201-202-(1/313)
قال: لا سيما في كتاب القياس ونحوه، ولم تكن لهم قوة حفظ في الفقهيان، ولا طول عمر في الجزئيان، حتى يطردوا فيه القياس التمثيلي الذي هو عمدة الفقهاء، ولا القياس الحقيقي عند الأصوليين، وهو استنباط الكليات من الجزئيات وتطبيقه عليها، وخطهم المنع والإعتراض بالتخمين، وردهم الكلام المستدل عليه بغير نقل ولا دليل ولكن بالخطة التي ارتكبوها للضرورة التي دعت إليهم، وربما كان بعضهم ضيق العطن يعتقد أن العلم في المسائل التي جعلها، وربما وقعت له خطابات قولية لا طائل تحتها، وربما كانت فارغة، فإنا لله وإنا إليه راجعون من فقد الأحباب وذهاب الأتراب. وقد ذكر التادلي في شرح العقيدة عند قوله: وترك كل ما أحدثه المحدثون، قال: البدعة المحرمة إجماعا، وهي ما تناولته أدلة التحريم وقواعده، كالمكوس والمظالم، وتقديم لجهال على العلماء، وتولية المناصب الشرعية بالتوارث والجاه لمن لا يصلح ها.
أقول: طالما أثنى هذا الشيخ على نفسه، وحلاها حلى جرد غيره عنها، وتشبع بما لم يعطه منها. فانظر كيف نسب نفسه إلى معرفة كتاب القياس وإحسان الاستدلال، وتولي المناصب بالاستحقاق واتساع العطن والكلام المحكم المباني والمفهوم المعاني، وغاية ما يشهد له بحفظ الجزئيات.
وأما الجري على القواعد ونفوذ الذهن في القياس، فشأن تقدم عليه فيه من الناس، وليس له من العقل المطبوع كبير نصي، ولا هو في اكثر كلامه بمصيب.
وأما تأسفه على فقد الأحباب وذهاب الأتراب، فمن رأس عليه بعدم أحق بالأسف عليهم منه، لما كانوا عليه من حماية الدين، ووقاية المسلمين، والوقوف على الحق المبين. وما نقله عن التادلي من البدع المحرمة فحجة عليه فيما حلله من مظلمة الخطايا، فإنها شر من المكوس كما سبق.(1/314)
وأما ما عرض به من تقديم الجهال على العلماء، وانحصر العلم فيه بزعمه، فكذلك الخطط من الفتيا والخطابة والتدريس والإمامة، وما للناس بعده إلا ما فضل بعده، والمومن الذي إذا غضب لا يحمله غضبه أن يخرج عن الحق، وإذا رضي لا يحمله رضاه على الدخول في باطل. وانظر كيف يصف من خالفه في تحليل هذه المظلمة الشنيعة بأوصاف تخرجه عن جميع العلوم والكمالات؟، وهو مع ذلك متواتر عنه التحلية بالفقه والسؤدد، فمن لاهل المكوس والخيانات.
قال. وفي مثل هذا القسم أنشد الشيخ أبو حيان ـ رحمه الله ـ :
بلينا بقوم صدروا في المجالس ... لاقراء علم ضل عنهم مراشده
لقد أخر التصدير عن مستحقه ... ... وقدم غمر جامد الذهن خامده (92=230/أ)
وسوف يلاقى من سعى في جلوسهم ... من الله عقبى ما أكنت عقائده
علا عقله فيهم هواه أما درى ... بأن هوى الإنسان للنار قائده(1)
أقول: انظر إلى عظيم ما ارتكب هذا السيخ من التعويض لأمير المومنين بأنه قدم الجهال على العلماء، والجهال على زعمه كل من خالفه في هذه القضية، وهو عالم الدنيا وحده في زعمه. ثم انظر إلى تمثله بقوله: وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم... إلى آخره، هل قصد به غير أمير المؤمنين أيده الله؟ الذي أجمع أهل عصره على فضله. ثم انظر إلى قوله: علا عقله فيهم هواه، كيف نسبه إلى أن هواه غلب عقله، ثم انظر إلى قوله: وقدم غمر جامد العين خامده، هل ترك من الهجو شيئا؟ فزن هذا بما تقدم من النظم يتبين لك أيهما أهجى. على أن ما تقدم لنا من الكلام إنما هو في المسألة والمقالة، وتبيين الحق والتحذير منها. وقلت جوابا للتمثيل:
بلاؤك في فتواك أكبر محنة ... ... ولكنما مقويك دقت مكائده
وتصديرك الخطب العظيم ولم تزل ... ... جريئا على الحق المبين تعانده
وما الغمر الامن يزيغ عن الهدى ... ... ويجهل أن قد زاغ والحق كائده
__________
(1) : الأبيات ذكرها ابن الخطيب في الإحاطة 3/55- في ترجمة الشيخ أبي حيان ـ وهي مذكورة كذلك في مختصر مسائل البرزلي للحللو ص: 55.(1/315)
وسوف تلاقي غب أمرك كله ... ... وما سطرت يمناك فالله شاهده
جعلت الهوى فوق الحجا وتعيب من ... ... نهي وتحليه بما أنت واجده
خليفتنا خير الخلائف بيننا ... ... وأطهر سر سره وعقائده
قال: وقلت. ولله در القائل. (الكامل)
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... ... والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... ... بعضا ليستر معور عن معور(1)،
أقول. وتممتها بأبيات فقلت.
الخلف من لم تنهه صلواته ... ... عن سيء يأتيه أو عن منكر
ويقول غير الحق ميلا للهوى ... ... وإذا نهي عن غيه لم يقصر
هذا الذي في مريم تفسيره ... ... وبسورة الأعراف فاتل وفكر
قال: وقول الآخر.
ذهب الزان بجملة العلماء ... ... وبقيت في ظلما وفي عمياء
وقلت:
وخلت لك الأجواء حتى نلت ما ... ... قد شئته من رتبة الرؤساء
فلذاك زغت عن الطريق ونهجه ... وخبطت في عشوا وفي ظلماء(2)،
قال: نسأل الله أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، ونستعيد من هفوات ذنوبنا وقبيح أعمالنا، ويجعل (93=230/ب) أعمالنا كلها خالصة لوجه الكريم، وينفعنا بالعلم يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
أقول: إن قلت: إن الرب سبحانه يجيب الدعاء كما وعد، وهو الذي لا يخلف وعده، فما بال الفرق على اختلافها تدعوا بالعصمة من الزلل، ثم ترى زللها مستمرا؟.
قلت: لان الداعي لم يدع بكف ذلك اللبس، ولا بالعصمة من ذلك الزلل، ولا هو مندرج في عموم دعائه، لأن كل حزب بما لديهم فرحون، فهم يرون ما انتحلوه هدى واستقامة، لا زللا وخزيا وندامة، فلذلك استمروا على أهواءهم، إذ لم يندرج ما هووه في دعائهم.
__________
(1) : في ترتيب المدارك 55/156: وكان ابن لبابة ( محمد بن عمر القرطبي ) إذا رأى من يستفتى ممن لا يرضى ينشد هذين البيتين. وفيه: ليسكت معور عن معور.
(2) : نقل المراكشي الأبيات الثلاثة الأخيرة من مجموع الفقيه ابن المعطي، ثم قال: ولعل قائل هذه الأبيات هو أحمد بن أحمد الهنتاتي شهر بالشماع. الاعلام 2/220-221- رقمز 193.(1/316)
فإن قلت: لا يضر مع الإخلاص في العمل ما فيه من الزلل.
قلت: أما ما كان من الزلل راجعا لكون العمل على خلاف السنة، فهو بين الضرر ومستطير الشرر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"(1). نعم، ويزيده الإخلاص شرا، والإخلاص توجيه العمل لله وحده، وما كان على خلاف الحق والسنة لا يرضاه الله، وما لا يرضاه لا يحب توجيهه إليه. فلو أنه وجه لغيره لكان اخف شرا، وقد قال الشيخ في الرسالة: "ولا ينفع قول الإيمان إلا بالعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة"(2).
وكذلك الدعاء بالنفع بالعلم لا معنى له إلا أن يكون العلم النافع، وأما العلم الضار الذي يصل به صاحبه لإقامة حجج الله تعالى على كتابه وتغيير شريعته فالدعاء بالنفع به غير مقبول، والرجاء فيه خائب غير مأمول.
هجاء المؤلف للشيخ البرزلى
وهذه مقالة هدمت من الدين ركنا عظيما، وركب بها قائلها خطبا جسيما، يجب التبري منها، وأن يعذر الله من نفسه كل من أتاه الله علما بإظهار التنصل والتنحي عنها. وهذا الذي حملني أن قلت: (الوافر).
برئت إلى الذي برأ البرايا ... من الفتوى بتحليل لخطايا
لقد عظمت مصيبتها وجلت ... وحلت بالأنامي بها الرزايا
فذونك أيها المفتي تهيأ ... لعذرك يوم تختبر الخفايا
رجعت القهقرا وخبطت عشوا ... وخالفت القواطع والجلايا
طويت شريعة الإسلام طيا ... ... ولم تخف الذي علم الطوايا
وراغمت الكتابة ومن تلاه ... ... وسنة خير من ركب المطايا
جلبت على شريعته جيوشا ... ... وجهزت العساكر والسرايا
متى قلنا:الشريعة قلت: زيدوا ... ... فإني مخرج لكم الخبايا
حدود الله لا تكفي قفارا ... ... وخير أدائها غرم الخطايا
تعديت الحدود وزدت فيها ... ... وما أبقيت فيها من مزايا
__________
(1) : فتح الباري 5/301 كتاب الصلح – ح 2697- و 13/317 كتاب الاعتصام- باب 20- وللمعلم للمازري 2/266- ونيل الأوطار 2/79.
(2) : رسالة ابن أبي زيد مع حاشية العدوي 1/87.(1/317)
بوسواس هديت به جهارا ... ... ركبت به العظائم والبلايا
لقد غرتك أمال ومنت ... ... وقد غرتك أوهام الثرايا
تنبه ثم راجع قبل تطوى ... ... صحيفتك التي ملئت خطايا(1)،
فقالوا: هجا، فقلت: (المتقارب)
نصرنا الشريعة قالوا هجا ... ... إلى الله لا غيره المرتجا
وهذا زمان حللنا به ... ... يرى المستقيم به أعوجا
فإن شئت فاصبر وإلا فكن ... ... صريعا لسكر الهوى أهوجا
فالصبر خير فإن لله ... ... إذا ما انتهت شدة فرجا
يبين لنا الرب أحكامه ... ... فنفسح ما فيه قد حرجا
تزيد المغارم فوق الحدود ... ... وتصحبها باطلا لجلجا
عذرت الذين يشكون في ... ... جلي الأمور لفقد الحجا
إذا فقد القلب أنواره ... ... تشابه شمس الضحى والدجا
إلى الله عودوا وأحكامه ... ... ولا تسمون الهدى بالهجا
ولا تكتموا ما علمتم فما ... ... يجوز على الله من بهرجا
فقالوا: وهذا هجاء، وهجوت فقلت: (94=231/أ) [ بسيط ]
قالوا:هجوت إمام العصر قلت لهم: ... كلا ولكن نصرت الحق بالحجج
فإن الإمام إمام ما استقام وإن ... يعوج فقومه من زيغ ومن عوج
فإن يراجع قبلناه على حذر ... وإن يلح رفضناه مع الهمج
هذا أبو بكر الصديق سيد من ... بعد الرسول على الأحقاب والحجج
يقول إن زغت فيكم قوموا أودي ... ولا تبالوا بمن قد زل عن نهج
إن الرسول رسول الله سن لنا ... من الشريعة نهجا واضح البلج
فمن يبدل، يبدل من كرامته ... ... إهانة ويلاق أضيق الحرج
الانتصار لدين الله منقبة ... ... والنظم يجمع ثغر الحق والفلج
لي أسوة في الآلي من قبل قد رجوا ... في الصالحين فإن تهو الهدى فلج
وإن هجوت ففي ذات الاله وما ... يضر ناصر الحق أن يكون هج
حار الدليل وخفنا أن يحل بكم ... في ظلمة الظلم والأهوى بلا سرج
وفي السفينة ملاح أراد بها ... ... قطع الشراع لهلك القوم في اللجج
أنجيتكم بسلاحي من مكائده ... حتى استقام مسير الفلك بالتبج
وأنشأ الله ريحا من خزائنه ... ... تجري رخاء وهزا مبدأ الفرج
قال: ولعلي ارتكبت في هذه ما لا يغنيني.
__________
(1) : الأبيات ذكرها المجاجي في أحكام المغارسة ص 319- باستثناء ما قبل الأخير(1/318)
أقول: أي والله، وهو مع كونه لا يغني عنك من الله شيئا
قال: وإنما كان على وجه المذاكرة لتحصيل ما يجري على أصل المذهب في ذلك، والمباحثة في مجالس العلماء، وما ينتج فيه من ذلك من الحق.
أقول: لا والله، ما كان إلا على وجه الإشارة والاستفتاء من أمير المؤمنين أيده الله، وما كان الكلام من غيره إلا على وجه الفتوى، وفي مقام يعود فيه على المنقول، وبعثنا فيه بجواب المسؤول.لكنها الكلمة التي يهوي بها صاحبها في جهنم، وهو لا يلقي لها بالا كما ورد،فصلى الله على سيدنا محمد الذي لم يدع شرا إلا حذر منه ولا خيرا إلا ندب إليه.
قال: كما قال القائل:
إذا اجتمعوا جاءوا بكل فضيلة ... ويزداد بعض القوم من بعضهم علما.
لا سيما من مثل من كبرت سنه،وكلت جوارحه وحواسه وبعد عن المطالعة والنظر في المسائل.(1/319)
وقد قال ابن زرب(1): إذا كبرت سن الحافظ للعلوم فحظه معرفة موضع المسائل.ورضي الله عن ابن هرمز عبد الرحمن ابن هرمز الأعرج(2)أنه كان يجلس في آخر عمره إلى مالك ابن أنس وابن أبي ذنب ويقول لهما: إذا أفتيت في المسألة انظر فيها، إني أخاف أن يكون ضعف علمي كما ضعف جسمي(3)وبالله التوفيق.
__________
(1) : القاضي أبو بكر محمد ابن يبقى بن زرب القرطبي.كان أبوه يبقى أحد قراء القرآن للناصر.كان من أحفظ أهل زمانه لمسائل مذهب مالك، ولى قضاء الجماعة. له كتاب: الخصال في الفقه.توفي سنة 381هـ.ترتيب المدارك 7/14/118.
(2) : أبو داوود عبد الرحمن ابن هرمز مولى ربيعة ابن الحارث الهاشمي المدني،كاتب المصاحف.سمع أبا هريرة وأبا سعيد الخذري وجماعة.كان تقة ثبتا عالما مقرئا.توفي بثغر الاسكندرية 117هـ.انظر:تذكرة الحفاظ97-
(3) : في ترتيب المدارك 3/20:قال سحنون:كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد ابن دينار يختلفون إلى ابن هرمز فيسألونه فيجيب مالكا وعبد العزيز ولا يجيب الآخر فتعرض له ابن دينار، وقال له: لم تستحل ما لا يحل لك؟ وذكر له القصة.فقال له إني كبرت سني، أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في جسمي.ومالك وعبد العزيز فقيهان عالمان يسألان عن الشيء فأجيبهما، فما رأياه من حل قبلاه، وما رأياه من خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه.(1/320)
أقول: هذه مسألة لم تكن على المذاكرة، وإنما كانت على وجه الاستفتاء، وهو رئيس القوم وأكبرهم سنا، والمصدر للفتوى، وما كان ينبغي له إلا أن يحمي حمى الله من محارمه التي هي مظالم العباد، وأكل المال بالباطل، والخلق كلهم في غنى عن كلماته التي أباح بها غرم الأموال في مسائل الحدود وفي غير هذا. فأي علم ازداد الناس؟؛ ازدادوا والله عين الجهل. كانوا على شريعة من الدين واضحة، يعتقدون حرمة أكل المال بالباطل، وأن ما يؤخذ من الجناة ثبتت عليهم الجنايات أولم تثبت لا أصل له، وأن إقامة الحدود واجبة وكافية في ردع الجناة، حتى لو علم الله أنها لا تكفي لزاد. والله لو كان هذا من الأمور السائغة شرعا ما ساغ لمن يتقي الله أن يبيح لهم هذه الأمور التي هي معلوم وجودها من الدين بالضرورة الا يألوها زيادة، وأن يأتوها على غير وجوهها. فكيف يباح التعرض لأموال الناس بالتجني والتعسف؟، وما أجدر بك على كبر سنك أن تتودا في مثل هذا، وأن تنظر فيما تتكلم به، وما به تلقى الله. فرب كلمة تقول لصاحبها دعني. وهلا اقتديت بابن هرمز، فإذا رد الناس عليك رجعت ولم تبصر غلطتك، وحملت منك على وجه الهفوة والزلة، ثم ما يغنيك إلا أن تؤسسها وتستدل عليها بشواذ ومنسوخات، وتترك النصيحة لله عز وجل في ذكر ما عقبها به العلماء من ذكر النسخ والشذوذ والبطلان، حتى يتوهم من لا خبرة له بحقائق الأمور أنك مصيب.فإذا جنيت على نفسك بالجناية على كتاب الله وسنة رسوله (95=231/ب) صلى الله عليه وسلم وأمته وأمير المؤمنين وعامة المسلمين هلا عليك بأنك لا تعلم ولم تقف عليه، لكن غلبك الهوى وحملك على أن تلبس الحق بالباطل على علم منك، "لتتبعن سنن من قبلكم"، ثم لم تتبع حتى جهلت من وقف مع الحق وأراد حسم الداء وقرأت بمحضر الاشهاد واخترت لقراءته صدى الصوت جهيره، ليلا تترك من النصيحة للغوي شعيرة. ثم أنت مع ذلك تزعم وترى أنك على هدى، وأنك مظلوم، وأنك لم توقر.(1/321)
فليت الأمة فقدتك قبل أن تقول ما قلت، وليت أمك لم تلدك، وليتها إذ ولدتك لم تتعلم، وليتك إذ تعلمت لم تتكلم، وليتك إذ تكلمت لم تلج لجاجك، ولم تقم على هدم الشريعة حجاجك، وليتك إذ تكلمت لم تصدر للأخذ عنك، وليتك إذ صدرت، وأنت لا تحسن ما صدرت له في ورد ولا في صدر، لم تقبل، وليتك إذ قبلت أمسكت عنانك عما لا يغني، واتبعت جنانك ليتبين لك ما أنت على الدين تجني. ولقد بلغني تواتر عن شيخنا الإمام ـ رحمه الله ـ مقالات، جملة من جملتها أنه سأل الله أن يحمي دينه منك، ولتعلمن نبأه بعد حين.
قال: قال أبو القاسم ابن أحمد البرزلي لطف الله به: أمليت هذه الجملة من حفظي على بعض من كتبه بين يدي من الطلبة في قدر ساعتين أو أقل إلا شيئا قليلا، حتى حفظته من موضعه
أقول: يريد قدر ساعتين، إلا أن العبارة عبارة جهال العامة. وصرح المملي هنا باسمه تنويها بذكر اسمه وابتهاجا بحفظه، ولا إشكال في حفظه. وإنما الكلام معه في استعمال محفوظه على الوجه السائغ، وقدر ساعتين يغني عن قوله: أو أقل، وهما معا يغنيان عن قوله: إلا شيئا قليلا. وقوله: حتى حققته عن موضعه غير ملتئم مع ما قبله، ولكن شبه الشيء منجذب إليه. فالتصرف منه في المعاني وفي الألفاظ قريب من قريب من قريب.(1/322)
قال: فمن عارض ذلك وأفتى بخلافه وصححه، وأبطل ما قلناه وجب الرجوع إليه، فالحق أحق أن يتبع، ما يزال الناس بخير ما رجعوا إلى الصواب، ونضر الله امرءا قدم إلي معرفة عيوبي فاجتنبتها، فالرجوع إلى الحق واجب، والحكم به لازم ويرحم ويرحم الله الأصيلي فإنه كان يقول: لا أحب أن أخطئ، فإذا أخطأت لا أحب أن أمادى على خطئي، واتباع الباطل حرام.وإن كان سنده قطعيا، فهو كفران اعتقد حليته، لقوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون"(1)، في الكفار كلها على قدر ما ورد في الأحاديث. وتحليل ما حرم الله،أو تحريم ما أحل الله داخل في معناها، "ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون"(2).
فنسأل الله أن يهدينا إلى الصواب، ويرزقنا حسن المآب ويستعملنا بأعمال أهل الثواب، ويعيدنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله، ويختم لنا بخاتمة الإسلام، بحرمة نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والسلام الاتم على من يقف عليه ورحمة الله وبركاته.
أقول: إلى هنا انتهى هذا الإملاء.وقد كتبت هذه الجملة على نحو ما وجدتها، سوى أنه أسقط اسم الله تعالى بعد قوله: نسأل، فكتبته، إلا بما فيها من اللحن، فقد تقدم أمثاله.
وأما ما زعم من أنه يرجع إن عورض بأدلة صحيحة، ويتبين له بطلان ما أتى به، ولكنه من الكلام الذي ظاهره الإنصاف، وباطنه خلي عما يقارب ذلك من الأوصاف. ولقد اجتمعت بممليه بعد ما اشتد النكير عليه مني، وتأول أهل الوقت فيما جاء به إلا القليل، فأخذ يذكر شدائد الإنكار عليه، وأنه يرغب إلى الله.
__________
(1) : سورة المائدة، الآيات: 44-45-47..
(2) : سورة المائدة، الآية:50.(1/323)
قلت: وأخبرك أيضا(96=232/أ) أني أرغب إلى الله، لكن شتان ما بيننا أنا أسأل الله صلاحك، وأن يمن علينا بالرجوع إلى الحق، وأن لا يتوفاك وهي في صحيفتك. وهذا بعد محاورة ومراجعة بين له منها خطأه في المسألة، ونقل له فيها في درب من الإجمال ما تقدم به من الاستدلال.فقال ما يعرف أحد شيئا كانت بعد صحيفتي.فعرفت أنه لم يرد بهذا الكلام الاسترشاد، وقد كنت اغتررت به حتى لج في المكابرة والعناد’ لكنه على الجملة شعر بأنه سفه نفسه، وقوله: ولكنه منعه من الرجوع ما منع غيره القبول للحق والنزوع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الكبر بطر الحق وغمط الناس"(1)، يريد صلى الله عليه وسلم أن التواضع في قبول الحق وإنصاف الخلق، لا في البزة واللباس. وما أتى به من قوله: "فالحق أحق أن يتبع" إلى آخره كلمات انتحل لفظها، ولم يحسن لحظها، فأضرت به كما تضر رياح الورد بالجعل : وما قال علي-رضي الله عنه-مما يذكر عنه:
فإن العقل عقلان ... ... فمطّّّّّّبوع ومسموع
ولا ينفع مسمع ... ... اذا لم يكن مطبوع
كما لا تنفع الشمس ... ... وضوء العين ممنوع(2)
وقد قال تعالى في أهدى هاد" يضل به ويهدي به "(3)
وأما قوله: واتباع الباطل حرام، فهو قضية معلمة بالضرورة من كل دين.
وأما قوله: وإن كان سنده قطعي فهو كفر.صوابه قطعيا، فإن من الكفر تكذيب الله ورسوله،ومخالفة القواطع تتضمن ذلك.
__________
(1) : التمهيد 21/243-وعارضة الأحوذي 8/165-وشرح الابي لصحيح مسلم 1/201
(2) : في أدب الدنيا والدين للملوردي: رأيت العقل نوعين فمسموع ومطبوع ص: 30-31 وفي احباء علوم الدين للغزالي: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع. 1/76-و3/14.
(3) : سورة البقرة الآية: 26. وأما الذين كفروا ماذا أراد الله بهذا مثلا، يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا.(1/324)
وهذا يدل على أن ما أنكره علينا من قوله فيه: وراغمت الكتاب ، ليس بمنكر فإنها مبنية على مقدمتين، إحداهما مستدل عليها أنه خالف القاطع، والثانية مسلمة وهي قوله: من خالف القاطع فقد كفر.
قصيدة نظم فيها المؤلف ما تقدم ذكره في المسألة.
ومما قدمناه من الاستدلال على تحرير هذا المحلل، ورد الرأي المضلل كفاية.وقد جمعنا ذلك في منظوم جعلناه كالفذلكة لكتابنا والتذكرة، خاطبنا به إمام الدهر وخليفة العصر، ذا الأيام الزهر والوقائع الغر، أبقاه الله حاميا للإسلام، واقيا للانام، راقيا إلى دار السلام وأرفع ما رقت إليه الأقدام.(1)[ الوافر]
1 ... أيا ملك الأنام ومن إليه ... تناهى العز والشرف الخطير
2 ... ومن عظمت وقائعه وجلت ... صنائعه فتم به السرور
[على أساس فخرك في البرايا ... وجب الريدك في التقى نصر](2)
3 ... شددت الملك بالتقوى فتمت ... خصال المجد وانتظم النفير
4 ... وشيدت المباني إذ بناها ... بنو حفص فعز لك النظير
5 ... عززت نصرت عاديت الأعادي ... ظفرت وفزت والله النصير
6 ... عقدت العزم في ترك الخطايا ... ومثلك لا يحور ولا يجور
7 ... وأشهدت العبيد بذلك أن لا ... أن لا يغرك حاسد أو كفور
8 ... فوف بما عقدت ولا تماطل ... فما تدري متى يأتي السفير
9 ... ولا تتبع هوى من لا يبالي ... بما يريد فالمولى غيور
10 ... فقد وضح السبيل لمن يراه ... وبان الحق واتجه المسير
11 ... وإن الحد لا يعتاض منه ... ولا معه فتيل أو نقير
12 ... حدود الله كافية لزجر ... ومن قد قال لا تكفي كفور
13 ... كما شرع الإله لنا وفيها ... إذا لم تبع فاعلم ظهور(3)
14 ... أقيموا الدين قال الله حقا ... وعما به شرعت فلا تجور.
__________
(1) : ذكرها المجاجي في أحكام المغارسة ص:318-319- مع اسقاط بعض الأبيات وفي الأدلة النورانية الأبيات 1إلى 12-ص: 145-146- ونقل عنه كل من: تراجم المؤلفين التونسيين 3/209- وأعلام المغرب العربي 5/26.
(2) : البيت في أحكام المغارسة، وفي الأدلة البينة:مجدك، بدل فخرك.
(3) : البيت 13لم يذكره المجاجي.ص:318.(1/325)
15 ... فلا يخدعكم عنها خيال ... ووسواس يلم به الغرور
16 ... يقيس مع النصوص وذاك خرق ... تعاطاه مع النهي الغرور
17 ... إذا ما قد قضى الرحمن أمرا ... تقاصرت المذاهب والأمور
18 ... وقول المال أردع فارفضوه ... فما نصح المجيب ولا المشير
19 ... أليس المال للأهواء عونا ... وللشهوات وهو لها مثير
20 ... يروح الأغنياء بما اشتهوه ... ويبقى غلف حسرته الفقير
21 ... يجل الرب أن يختار حكما ... به سفه وجهل أو قصور
22 ... ومن رام العقوبة بالخطايا ... فقول ظاهر البطلان بور
23 ... وفي الاسراف أجمع من تسمى ... من أهل العلم وهو به شهير
24 ... بأن المال للمرتد حتى ... يراجع أو يزار به القبور(97=232 ب)
25 ... ولا ينزاح عنه بارتداد ... وذاك وقلتم الجرم كبير
26 ... أيوخذ مال من يعصي انتقاما ... ويعصم مال ذاو هو الكفور(1)
27 ... فلا تعبأ بقول غير هذا ... ولو ضمته في الطرس السطور(2)
28 ... فكم زورا من الشيطان ألقى ... على غار تضيق به الصدور
29 ... فهذا الزور لجلج ذو التباس ... وقول الحق أبيض مستنير
30 ... وعقبى ذاك شر وافتضاح ... وميراث التقى كرم وخير
31 ... نعم وحكى ابن حزم أن من قد ... بغى وبه تكاملت الشرور
32 ... بعدوان الخروج على إمام ... تقي لا يحيف ولا يجور
33 ... وقد صحت إمامته وحقت ... يدايع بالقتال ولا يشير(3)
34 ... بأخذ المال منه قال هذا ... جميع العاملين ولم يحور
35 ... يملك مالهم إلا سلاحا ... وخيلا لا يحل ولا يصير
36 ... وفي هذين بينهم اختلاف ... ووجه الحق متضح منير
37 ... وقد قال الإمام الحبر أعني ... بذلك مالكا وهو الأمير
38 ... وصرح لا يبيح الذنب مالا ... ولو قتل النفوس، فلا يجور
39 ... نعم، ورأى وأفتى وهو حق ... بضرب مبيحه وهو الخبير
40 ... فمن يبح المغارم بالمعاصي ... أقل جزائه فاعلم جدير
41 ... فلا تجزع مبيح الغرم مما ... رأى إمامك الحبر البصير
42 ... وما علم الأئمة أن ذنبا ... يبيح المال، قال بذا كثير
__________
(1) : في أحكام المغارسة: أيوخذ مال معصوم انتقاما-ص: 318
(2) : الابيات:27-28-29-30-غير مذكورة عند المجاجي ص: 318.
(3) : الأبيات 33-34-35-36-غير مذكورة عند المجاجي ص: 318.(1/326)
43 ... وتابعه الجماعة ليس يبدو ... لهم في قوله هذا نكير(1)
44 ... وفي الأحكام تنصيص صريح ... بان عقوبة الأموال زور
45 ... وفيها لا يجوز وباتفاق ... على حال ومن هذا كثير
46 ... وهذا قطب مذهبنا عليه ... جواب إمامنا فاعلم يدور
47 ... كذا قال ابن رشد في بيان ... مرارا، والرواة له ظهير
48 ... فكم حبر يصدقه عليه ... وما لمخالف فيه نصير(2)
49 ... على هذا فعول لا تعاقب ... بمال فهو خسران كبير
50 ... وإذا أوتيت ملتبسا فدعه ... بتأويل أحاط به خبير
51 ... يرد به إلى أصل صحيح ... بنور بصيرة، والعلم نور(3)
52 ... على أن الذي قد جاء منه ... حكى نسخا له الجم الغفير(4)
53 ... ففي الأحكام و الإكمال نص ... وفي التوضيح وهو له وزير
54 ... نعم، وحكاه أحمد والنووي ... كذاك نهاية، وله ظهور
55 ... وفي كتب البيان حكى اتفاقا ... واجماعا، وذا أمر شهير
56 ... وخرج قاسم فيما روى عن ... أبي حفص إذ أخبره خبير(5)
57 ... بانكاح جرى قبل اعتداد ... ففرق بين ما دخل العشير
58 ... وألقى مهرها في بيت مال ... رآه لا يحل ولا يصير
59 ... لزوج إذ أصاب، فنم هذا ... إلى أقضى القضاة ومن يشير
60 ... خفي العلم ملتبسا فيبدو ... على صفحاته قمر منير
61 ... أبو حسن علي ذو المعالي ... إمام الحق والحبر الكبير
62 ... فأنكر وضعه في بيت مال ... وبث نكيره خلق كثير
63 ... إلى عمر الإمام فقال قولا ... ... بمنبره غدا مثلا يسير
64 ... رأيه بلأنام: ألا فردوا ... جهالات لسنة من يجير
65 ... لسنة أحمد الآتي بعدل ... يلوذ به الضعيف المستجير
66 ... فصل ربنا أبدا عليه ... وسلم كلما نم العبير
67 ... وذا أيضا صريح في اجتماع ... من الصحب الكرام، ولا نكير
68 ... وتحقيق الأئمة مثل هذا ... يصدق ما حكى الجم الغفير
69 ... من الاجماع: والشبهات جهل ... رأيك لا يتابعها بصير
__________
(1) : البيت:43غير موجود عند المجاجي ص:319.
(2) : هذا البيت غير مذكور في أحكام المغارسة ص:319.
(3) : البيتان: 50-51 غير مذكوران في أحكام المغارسة ص:319.
(4) : في أحكام المغارسة ص:319:على أن الذي قد جاء منه وفي التوضيح وهو له وزير.وقارئ بالبيت التالي.(1/327)
70 ... بذلت نصيحتي شغفا وحبا ... وألجأ إلى الله وأستجير
71 ... به من شر من يردي ويعدي ... فما لله ضد أو نظير(1)
72 ... فلا تحتج لأكل المال ظلما ... فظلم الناس شر مسطير
73 ... ولا يغررك غرار فيوم ... عبوس من ورائك قمطرير
74 ... ولا ترجع بما عاملت ربا ... ... به إن التجارة لا تبور
75 ... وقم بالشكر إن الله يرضى ... بشكر عباده وهو الشكور98=233/أ
وأما استدلاله على أن المخالفة بتحليل المحرم كفر بالآية فصحيح، بل الدلالة أحروية،لأن الله سبحانه رتب الكفر والظلم والفسق بصحيح الآية على من ترك الحكم بما أنزل الله فقط، فتأول الآية بظاهرها أنه يكفي في علوق هذه الأوصاف بصاحبها إعراضه عن حكم الله، ولو لم يحكم هؤلاء بغيره، فكيف بمن ترك حكم الله وحكم بسواه؟، كإهمال الحدود في الخطايا، أوزيادتها عليها،اتباعا للمصالح التي رأى القائل بها أنه اهتدى إليها وخفيت على الأولين.
على أنا قد بينا من قبل أن نظر اليهود في التسخيم والجلد عوض الرجم أقرب وأدفع للمفسدة ممن رام شرع المال في ذلك، لما تقدم من العقوبة البدنية، ولا سيما الجلد، وشهرة الجاني مشروعة في الجملة، بخلاف العقوبة بالمال وأخذه في الجنايات بخلاف المال، وأردع عن المعاصي، لأن كل ذي جاه يود فداء نفسه وبدنه بماله.
وتعجب مما شئت من تلاوة هذه الآيات، وعدم الانتفاع بها، بل بتلاوتها مع الاتصال بضد ما دلت عليه، حتى يتحقق أن خالق الهدايات هو الله تعالى.
وأما قوله: في الكفار كلها، كأنها جملة اعتراضية قصد بها نقض ما أراده من الاستدلال، فلذلك صار تركيبه ظاهر الاعتلال، بادي الاختلال. لأنها إذا كانت في الكفار، كيف يستدل بها على تكفير من قال بتحليل المحرم من غير الكفار من مدعي الإسلام؟.
لا يقال: وجه الدلالة أنها إذا كانت في الكفار كيف يستدل على أن ترك الحكم بما أنزل الله كفر؟.
__________
(1) : الأبيات من 61 إلى 71.غير مذكور عند المجاجي ص:319.(1/328)
لأنا نقول: إذا كانوا كفارا بغير ذلك من جحود الرسالات، وادعاء الابن لله تعالى، فمن أين يعلم أنهم ما سجل عليهم بالكفر إلا لأجل ذلك الوصف؟
لا يقال: ترتيب الحكم على على الوصف المناسب يشعر بالعلية، لأن الكلام أولا في مناسبته، وهذا بناء على أن الاية قاصرة على أهل الكفر. انظر إلى تعقيبه هذا الكلام بقوله: وفي معناه من حلل المحرم ونحوه، كأنه أراد إلحاقه بالقياس، وعلى تعقيبه بقوله: "ومن أحسن من الله حكما لقول يوقنون"(1)، كيف هذا الرجل مجازف في القول مجازفة من لم يعرف ما يقوله لفظه، إذ لو تأمل فيما تلاه لعرف أن الآية رد عليه، إذ زيادة المغارم على الحدود أو جعلها بدلا منها، وبيع الفواحش منها، كسنة الحاكمين بالخطايا، ليس مما أنزل الله قطعا ضرورة.
وإليك الخيرة أيها الناظر بعد في هذا الإملاء وما عليه انطوى، بأي السببين تهتدي، وبأي الكلامين تقتدي. وأسأل الذي به تقليب القلوب أن يرينا وإياك الحق حقا، ويحول بيننا وبين من يحول بين الحق وأهله، بمنه وطوله، وقوته وحوله.والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد نبيه المصطفى.
كمل بحمد الله.وكان الفراغ منه يوم الاثنين التاسع والعشرين جمادى الأولى عام خمسة وثمانين وثمانمئة على يد العبد المستغفر الفقير إلى الله تعالى أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الواحد الونشريسي وفقه الله وغفر له (99=233/ب).
فهارس الكتاب
? فهرس الآيات القرآنية
? فهرس الأحاديث النبوية
? فهرس الاعلام
? فهرس الكتب
? فهرس الطوائف والفرق والمذاهب
? فهرس الأماكن
? فهرس اللقوافي
I - فهرس الآيات القرآنية
أفكم الجاهلية يبغون
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين
ان الحكم إلا الله يقص الحق
إن خير من استأجرت القوى الأمين
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيان
إن وجدنا آباءنا على أمة
__________
(1) الابيات:27-28-29-30-غير مذكورة عند المجاجي ص: 318.(1/329)
خلقتني من نار وخلقته من طين
ذلك بانهم قالوا إنما البيع مثل الربا
الذين يأكلون الربا
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
فأي الفريقين أحق بالأمن
فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم
قل إنما أعظكم بواحدة
قل من رحم زينة الله
لاخير في كثير من نجواهم
لتبلون في أموالكم وأنفسكم
لولا ينهاكم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح
من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل
نحن قسمنا بينكم معيشتكم
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به
وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
وتلك حدود الله فلا تعتدوها
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة
ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
ولاتبخسوا الناس أشياءهم
ولاتزر وازرة وزر أخرى
ولكم في القصاص حياة
ولولا رجال مومنون ونساء مومنات
وما أفاء الله على رسوله منهم
وما ربك بظلام للعبيد
وما كان لمومن ولامومنة
وما فعلته عن أمري
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
ومن كان في هذه أعمى
ومن لم يحكم بما أنزل الله
ومن يتعد حدود اله فأولئك هم الظالمون
ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه
ومن يضلل الله فما له من هاد
يا داود أن جعلناك خليفة في الأرض
يا موسى انك على علم من علم الله
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا
II ـ فهرس الاحاديث النبوية
الائمة من قرش
أجدني أعافه
إخوانكم خولكم
إذا لقيتم فلانا وفلانا
إذا وجدتم الرجل قدغل
استعمل رسول الله رجلامن الاسد
اعلم ابا مسعود لله أقدر عليك
أمرت أن احكم بالظاهر
أمرت أن أقاتل الناس
أن أمة من بني اسرائيل
أن بني اسرائيل قد انزل عليهم في التوراة
أن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله
عن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام
أن فيها غرامة مثليها
انكم تختصمون إلي(1/330)
إن الله لايقبض العلم انتزاعا
أن الله يبعث على رأس كل سنة
إن الله يبعث على أرس كل قرن
أن النبي كان في محفل
أن نزلتم بقوم فآمرلكم بما ينبغي للضيف
إنه لو اجتمع أهل السموات والأرض
بعثني رسول الله إلى رجل
بما تقتضي او بما تحكم؟
الحدود كفارة لأهلها
الخراج بالضمان
دعوت الله ألا يسلط على أمتي عدوا
الدين النصيحة
رحم الله عبدا تكلم فغنم
رحم الله عبدا قال خيرا أو صمت
ستفرق أمتي على ثلاث سبعين فرقة
الصلح جائز بين المسلمين
القضاء ثلاثة
كان النبي عند بعض نسائه
لكبر بطر الحق
كسر عظم المومن ميتا
كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد
لاتقطع إلا يدي في الغزو
لاتمنعوا اماء الله مساجد الله
لاحرج عليك ان تطعميهم بالمعروف
لاضرر ولا ضرار
لايتحدث ان محمدا يقتل أصحابه
لايحل مال امرئ مسلم
لايزالون على الحق ظاهرين
لتتبعن سنن من قبلكم
لعله يقوم مقاما يسرك يا عمر
لعن الله آكل الربا
لقد رأيتنا سبعة من ولد مقرن
لقد هممت أن أخالف إلى أقوام
لم يحرق الرسول رحل الغال
لولا ان يحزن النساء ان تكون سنة
لمستشار مؤتمن
من أحدث في أمرنا هذا
من دعا إلى هدي كان له من الأجر
من سئل عن علم فكتمه
من غل صدقة فانا اخذوها وشطر ماله
من لطم مملوكه أو ضربه
من مثل بعيده فهو حر
من وجدتموه يصيد في الحرم
نهي الرسول عن الاقدام على أرض الوباء
نهي الرسول عن ثمن الكلب ومهر البغي
هدايا الامراء غلول
هو رحمة لهذه الامة
والذي نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله
III - فهرس الاعلام
الألف :
ابراهيم بن سعد
احمدبن جعفر
احمد بن حنبل
احمد بن عثمان الكرمي
اسماعيل بن اسحاق
اسماعيل العبيدي
أشهب
اصبغ
الاصمعي
الاصيلي
ام سلمة
أنس بن مالك
الاوزاعي
أبو أيوب الانصاري
الباء:
الباجي أبو الوليد
الباقلاني
البخاري
البرزلي
ابن بزيرة
ابن بشير
أبو بكر الصديق
البيهقي
التاء والثاء:
التادلي
الترمذي
ابن التلمساني
الثقفي رويشد
الثوري سفيان
الجيم والحاء والخاء:
جسرة بنت دجاجة(1/331)
الجويني امام الحرمين
ابن الحاجب
الحاكم
ابو حامد
ابن حبيب
الحجاج
ابن حزم
الحسن البصري
أبو الحسن الصغير
ابو حفص عمر الانصاري
حماد بن سلمة
حمزة
أبو حنيفة
أبو حيان الأندلسي
خباب
الخطابي أبو سليمان
الخليل بن احمد
الدال والذال:
الدارقطني
أبو داود
الداودي
ابن أبي ذئب
الراء والزاي:
الرازي الفخر
أبو الربيع بن سالم
الربيع بن سليمان
ابن رزق
ابن رشد
ابن زرب
أبو زكريا الأمير
الزناتي أبو يزيد
الزهري بن شهاب
السين والشين:
سحنون
ابن سريج
سعد بن أبي الربيع
سعد بن عبادة
سفيان
سلمة بن هشام
سويد بن مقرن
ابن سيرين
ابن شاس
الشافعي
الشماع
ابن أبي شيبة
الشيرازي
الصاد والطاء:
صالح بن محمد
أبو صالح بن ذكوان
أبو صفرة بن المهلب
صفية
الصقلي عبد الحق
ابن الصيرفي
الطبري
الطحاوي
ابن الطلاع
العين والغين:
عائشة
ابن عباس
ابن عبد البر
عبد الحق الاشبيلي
عبد الرحمن بن الاشعث
عبد الرحمن بن حسنة
عبد الرحمن بن عوف
عثمان بن عفان
ابن عدي
عدي بن ثابت
ابن العربي
ابن عرفة
عز الدين بن عبد السلام
علي بن أبي طالب
عمر
ابو عمران
عمر بن العاص
عمرو بن عيسى
عياش بن أبي ربيعة
عياض أبو الفضل
الغزالي
ابن عمر
الفاء والقاف:
أبو فارس عبد العزيز
ابن فتوح
ابن الفخار
فليت العمامري
ابن القاسم
قاسم بن أصبغ
القاسم بن محمد
القرافي
ابن القطان
القصار أحمد
القيرواني ابن أبي زيد
ابن قيم الجوزية
اللام والميم والنون:
ابن لبابة
ابن اللتبية
اللخمي
الليث
ابن الماجشون
المازري
مالك
الماوردي
المتيطي
مجاهد
ابن محرز
محمد بن الحسن
ابن مرزوق
ابو مسعود الانصاري
مسلم
معاذ بن جبل
مكحول
ابن المنذر
منذر بن سعيد
المندري
المهدي بن تومرت
ابو موسى الاشعري
ابن المواز
مروان بن الحكم
موسى بن نصير
نافع
النسائي
النووي
الهاء والواو والياء:
ابن هرمز عبد الرحمن
أبو هريرة
هناء بن سري
هند بيت عتبة
الوليد بن الوليد
الونشريسي احمد
يحيى بن حكيم
يحيى الظاعني
يحيى بن سعيد(1/332)
يحيى الليثي
يحيى بن معين
يعقوب بن محمد
يعقوب بن محمد
أبو يوسف
أبو يوسف يعقوب الدهماني
IV- فهرس الكتب
الاحكام السلطانية للماوردي
أحكام القرآن لابن العربي
الاستذكار لابن عبد البر
الاستشفاء بما في تحصيله شفاء (في القياس) لابن العربي
الإشراف على مذهب أهل العلم لابن المنطر النيسابوري
اقضية الرسول لابن الطلاع
الاكتفاء في المغازي والسير لأبي الربيع الكلاعي
اكمال المعلم للقاضي عياض
البيان والتحصيل لابن رشد الجد
البرهان في أصول الفقه لامام الحرمين الجويني
تاريخ لمتونة لابن الصيرفي
التبصرة في الفقه للخمي
التنبيه على مبادئ التوجيه لابن بشير
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر
رسالة ابن أبي زيد القيرواني
سنن أبي داود
سنن الترمذي
سنن النسائي
شرح الاحكام الصغرى لابن بزيزة
شرح صحيح البخاري لأبي حفص عمر الانصاري
شرح صحيح مسلم للنووي
شرح العقيدة للتادلي
شرح المحصول للقرافي
شرح المعالم في أصول الدين لابن التلمساني
صحيح البخاري
صحيح مسلم
الصحابة لابن السكن
العتبية لعبد العزيز العتبي
المدارك (ترتيب المدارك) للقاضي عياض
المدونة للإمام مالك
مسائل ابن رشد الجد (كتاب الاسئلة)
مسند ابن أبي شيبة
معالم السنن للخطابي
المنتقي في شرح الموطا لأبي الوليد الباجي
الموطأ للأمام مالك
النكت والفروق على المدونة لعبد الحق الصقلي
النهاية والتمام للمتيطي
الوثائق المجموعة لابن فتوح
الواضحة لابن حبيب
V- فهرس الطوائف والفرق والمذاهب
الاعراب
أهل بدر
أهل ديار أزد
أهل الشام
أهل الظاهر (الظاهرية)
أعل العراق
أهل القياس
بنو اسرائيل
بنو سليم
الحنفية
الخلفاء الراشدون
الخوارج
الروم
الشافعية
العرب
فقهاء القيروان
المالكية
مذهب أبي حنيفة
مذهب الشافعي
مذهب المالكي = مذهب مالك
المعتزلة
الموحدين
VI - فهرس الأماكن
افريقية
الاندلس
بغداد
بوادي افريقية
البيت الحرام
تبوك
تونس (الحضرة العلية)
تينمل
الجابية
جبال الدرن
دار رملة(1/333)
السوس الأقصى
فاس
القيروان
المغرب
مكة
المهدية
VII – فهرس القوفي
الباء:
إذا صح .............................. تراب
جانيك .............................. الجرب
وليت ............................... خراب
فلرب ............................... الذنب
وأخدع ............................. عقربا
التاء:
إذا لم .............................. جهلت
وان ألقاك .......................... فهمت
الجيم:
أن الرسول ......................... بالبلج
انجيتكم ............................ بالثبج
قالوا .............................. بالحجج
هذا ............................... الحجج
فمن يبدل .......................... الحزج
حار ............................... سرج
فان الامام........................... عوج
وأنشأ ..............................الفرج
الانتصار ........................... بالفلج
لي اسوة ............................. فلج
وفي السفينة .......................... اللجج
يقول ................................ نهج
وان هجوت ........................... هج
فان يراجع............................ الهمج
وهذا زمان ........................... اعوجا
فان شئت ............................ أهوجا
ولاتكتموا ............................ بهرجا
عذرت ............................... الحجا
يبين ................................. حرجا
فالصبر ............................... فرجا
تزيد ................................ لجلجا
نصرنا ............................... المرتجا
إلى الله .............................الهجا
الدال :
أكلت................................ عديد
هذا الزمان .......................... ابن مسعود
أن دام .............................. لمولود
وان الذي............................. جدا(1/334)
إذا أكلوا ........................... مجدا
الراء:
بذلت ............................... أستجير
أذاما .............................. الأمور
وقد قال ........................... الأمير
فلا ............................... البصير
من الإجماع......................... بصير
ومن ............................... بور
ولاترجع ........................... تبور
فمن .............................. الخبير
وخرج ............................. خبير
وإذا .............................. خبير
أيا ملك .......................... الخطير
وإذا .............................. خير
يد ............................... دينار
وفي .............................. زور
ومن عظمت ...................... السرور
على أساس ....................... السرير
فوف ............................. السفير
نعم .............................. الشرور
وفي الاشراف ...................... شهير
وفي كتب ......................... شهير
فصل ............................. العبير
بانكاح............................ العشير
فلا يحدعكم ...................... الغرور
يقيس ............................ الغرور
على ............................. الغفير
وتحقيق ........................... الغفير
ولاتتبع ........................... غيور
يروح ............................. الفقير
هذا الذي .......................... وفكر
بأن المال............................ القبور
يجل............................... القصور
ولايغررك .......................... قمطرير
أبو حسن........................... الكبير
على هذا ........................... كبير
ولاينزاح ........................... الكبير
فأنكر .............................. كثير
وفيها .............................. كثير(1/335)
أيوخذ ............................ الكفور
حدود ..............................كفور
وأشهدت............................ كفور
أليس .............................. مثير
لسنة .............................. المستجير
فلاتحتج ............................ مستطير
فهذا الزور .......................... ستنير
فقد وضح............................ المسير
وقول ............................... المشير
وبقيت ............................. معور
الخلف ............................. منكر
ذهب .............................. منكر
وفي ................................ منير
خفي .............................. منير
عززت ............................ النصير
فكم .............................. نصير
به من ............................. نظير
وشيدت ........................... النظير
شددت ............................ النفير
وان الحد .......................... نقير
وتابعه ............................. نكير
وذا أيضا .......................... نكير
يرد به ............................. نور
ففي ................................وزير
وصرح ............................ يجوز
أقيموا ............................ تجور
وأيه............................... يجير
ولي عمر ......................... يسير
بعدوان ........................... لايحور
بأخذ ............................. يحور
وهذا ............................ يدور
لزوج ............................ يشير
وألقى ........................... يصير
يملك ............................. يصير
عز .............................. الباري
العين:
إذا لم .......................... تستطيع
فان العقل ...................... مسموع
ولاينفع ......................... مطبوع(1/336)
كما ............................ ممنوع
اللام والميم:
العلم........................... الاشكال
فضل ........................... الأفضال
ليس ............................ الأقول
ميراث .......................... الانفال
والأخذ ......................... العال
أصون ........................... المال
نور............................... محال
احتال............................ محتال
أبي الاسلام....................... تميم
إذا اجتمعوا...................... علما
الهاء:
وتصديرك .................... تعانده
لقد أخر..................... خامده
وسوف ...................... شاهده
وسوف ...................... عقائده
خليفتنا...................... عقائده
علا ......................... قائده
وما الغمر.................... كائده
بلينا ........................ مراشده
بلاؤك ...................... مكائده
جعلت ...................... واجده
أشد ........................ سواها
الياء:
بوسواس .................... البلايا
لقد غرتك .................. ثرايا
رجعت ..................... الجلايا
متى ....................... الخبايا
تنبه ........................خطايا
حدود ...................... الخطايا
فدونك ..................... الخفايا
لقد عظمت ................. الرزايا
طويت ..................... الطوايا
جلبت ..................... السرايا
تعديت ...................... مزايا
وراغمت ................... المطايا
الهمزة:
دع .......................... الداء
وخلت .................... الرؤساء
فلذاك...................... ظلماء
ذهب ...................... عمياء
لاتدعني ...................أسمائي
ياعبد ..................... الرائي
I ـ فهرس المصادر والمراجع
1- المخطوطات
الأجوبة الفقهية
أبو سليمان داود بن محمد التملي-مخطوط خاص(1/337)
الأجوبة الفقهية
أبو مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني-رتبها تلميذه أحمد بن الحسن الروداني مخطوط بالخزانة العامة بالرباط-رقم: ج 1016
أجوبة في شأن القوانين العرفية
جماعة من فقهاء الحضرة المراكشية-مخطوط الخزانة الحسنية-رقم: 5813.
أزهار البستان في طبقات الأعيان
أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني-مخطوط خاص.
أسئلة فقهية وأجوبتها
أسئلة الخطيب أبي زيد عبد الرحمن بن محمد التلمساني واجوبتها لأبي مهدي عيسى بن عبد الرحمن السكتاني-مخطوط الخزانة الحسنية-رقم 6337.
الأقناع في مسائل الاجماع
أبو الحسن علي بن محمد بن القطان (ت 628 هـ)- مخطوط بالخزانة العامة بالرباط-رقم: د 1394.
الاكتفاء في مغازي الرسول(ص) ومغازي الخلفاء
أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي-مخطوط جيد بالخزانة العامة-بالرباط-رقم: د 3238.
الامليات الفاشية في شرح العمليات الفاسية
أبو عثمان سعيد بن القاسم العميري التادلي (ت 1131 هـ)-مخطوط مكتبة عبد الله كنون-طنجة- رقم: 6427.
بشائر الفتوحات والسعود في أحكام التعزيرات والحدود
أبو زكريا يحي بن أبي البركات الغماري (ت 910 هـ)-مخطوط بالخزانة الحسنية رقم: 103.
تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر
محمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني-مخطوط بالخزانة العامة-بالرباط رقم: د 2577.
تكميل التقييد-أو اتحاف ذوي الذكاء والمعرفة بتكميل تقييد أبي الحسن وتخليل تعقيد ابن عرفة.
أبو عبد الله محمد بن غازي العثماني المكناسي (ت 919 هـ)- مخطوط بالخزانة العامة-بالرباط رقم: د 3217.
التنبيه على مبادئ التوجيه
أبو الطاهر إبراهيم بن الصمد بن بشير التنوخي المهدوي مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم: ق 397.
التيسير والتسهيل في ذكر ما أغفله خليل من أحكام المغارسة والتوليج والتصيير.
عبد الرحمن بن عبد القادر المجاجي الجزائري-مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم:د 2425.
الجامع من نتائج الأحكام(1/338)
أحمد بن محمد بن الحسن الرهوني –مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم: د 2164
جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا والحكام
أبو القاسم بن أحمد بن المعتل البلوي البرزلي (ت 841 هـ) مخطوط الخزانة الحسنية رقم: 4884-4885- ونسخة الخزانة العامة بالرباط- رقم: ق 656.
جواب عن مسألة العقوبة بالمال
محمد العربي الفاسي، أبو حامد (ت 1052 هـ)- مخطوط الخزانة الحسنية رقم: 9566.
الجواهر المختارة فيما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة
أبو فارس عبد العزيز الزياتي (ت 1055هـ)-مخطوط خاص.
حسام العدل والإنصاف القاطع لكل مبتدع باتباع الأعراف
محمد بن يحي بن محمد الشنقيطي الولاتي-مكروفيلم بالخزانة العامة بالرباط رقم: 1399.
شرح معالم أصول الدين للرازي
شرف الدين أبو محمد عبد الله بن محمد الفهري المعروف بابن التلمساني (ت 644هـ) -مخطوط جيد بالخزانة العامة بالرباط-رقم: 230.
شرح المنهج المنتخب في الأحكام
محمد بن علي اليعقوبي-مكروفيلم بالخزانة العامة بالرباط-رقم: 1025.
فتاوي علماء جزولة أو نوازل ابن عبد السميح
أبو العباس أحمد بن يعزى بن عبد السميح التغاتيني (ت 1008 هـ)-مخطوط بالخزانة العامة رقم: ق 725.
فتاوي فقهية
محمد بن يحيى بن محمد المختار الولاتي-مخطوط بالخزانة العامة- بالرباط رقم" د 2457.
فتح الملك الناصر في مرويات بني ناصر
محمد المكي بناصر الدرعي-مخطوط خاص.
فهرسة الورزازي الصغير
محمد بن علي التطواني-مخطوط خاص.
فهرسة اليوسي
أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي-مخطوط خاص.
الفوائد الجمة في إسناد علوم الأمة
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد التمنارتي (ت 1060هـ)-مخطوط مصور بالمكتبة العامة بالرباط- رقم: 1420 د.
كتاب الوثائق المجموعة
أبو محمد عبد الله بن الفتوح-مخطوط بالخزانة العامة رقم: ق 468.
مختصر النهاية والتمام للمتيطي
أبو عبد الله محمد بن هارون الكناني-مخطوط بالخزانة العامة-الرباط- رقم: د 3660.
مطالع التمام ونصائح الأنام(1/339)
أبو العباس أحمد الشماع الهنتاتي (ت 833هـ)-مكروفيلم بخزانة الاسكوزيال بإسبانيا رقم: 1140.
مفتاح التيسير في أحكام التسعير
الحسن بن محمد الغسال الطنجي-مخطوط خاص.
المفيد للحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام
أبو الوليد هشام بن عبد الله الأزدي القرطبي (ت 606هـ)-مخطوط بخزانة عبد الله كنون بطنجة- رقم: 6548.
مقنع المحتاج في آداب الزواج
أبو العباس أحمد بن عرضون-مخطوط بالخزانة العامة بالرباط- رقم: ك 1026.
النكت والفروق لمسائل المدونة
أبو محمد عبد الحق بن هارون الصقلي-مكروفيلم بالخزانة العامة-رقم: 448.
نوازل البوسعيدي
أحمد بن علي البوسعيدي الهشتوكي الفيلالي (ت 1046هـ)-مخطوط بالخزانة العامة بالرباط رقم: ق 1139- وبالخزانة الحسنية رقم: 7144.
نوازل التسولي
أبو الحسن التسولي-مخطوط بالخزانة الحسنية- رقم: 12574.
نوازل السملالي
علي بن محمد السوسي السملالي-مخطوط بالخزانة الحسنية- رقم: 30.
نوازل العباسي
أحمد بن محمد العباسي-مخطوط خاص.
نوازل فقهية
أبو عبد الله محمدنا السوسي-مخطوط بالخزانة الحسنية- رقم: 5746.
نوازل الورزازي
أبو عبد الله الدليمي الورزازي-مخطوط بالخزانة الحسنية- رقم: 5768- وبالخزانة العامة- رقم: 2590 د-
II- الطبعات الحجرية
أجوبة أبي الحسن علي التسولي
وهي أجوبة على مسائل الشيخ الأمير عبد القادر محيي الدين الجزائري، وردت من الجزائر فيعهد الملك عبد الرحمن بن هشام العلوي الذي كلف التسولي بالرد عليها.
الأجوبة الفقهية الكبرى
عبد القادر بن علي الفاسي (ت 1116هـ).
الأجوبة الناصرية في بعض مسائل البادية.
محمد بناصر الدرعي.
تحفة الحذاق شرح لامية الزقاق
أبو حفص عمر الفاسي.
حاشية الشدادي على شرح ميارة للامية الزقاق
... أحمد الشدادي الشفشاوني.
سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس
... محمد بن جعفر الكتاني.
شرح نظم العمل الفاسي
... أبو عبد الله محمد بن قاسم السجلماسي الرباطي.
طلعة المشتري في النسب الجعفري(1/340)
... أحمد بن خالد الناصري.
فتح العليم الخلاق شرح لامية الزقاق
... محمد ميارة الفاسي.
المعيار الجديد الجامع المعرب عن فتاوي المتأخرين من علماء المغرب
... أبو عيسى محمد المهدي الوزاني (ت 1342هـ)
III- الرسائل الجامعية
العقوبة المالية في الفقه الاسلامي وتطبيقاتها وبالمغرب. عبد الخالق احمدون ـ اطروحة لنيل دكتوراه الدولة – دارالحديث الحسنية. 3 ج – 1996.
IV- المطبوعات
... ... -كتب التفسير وعلوم القرآن
أحكام القرآن
... أبو بكر أحمد بن علي الرزاي الجصاص (ت 370هـ) ـ المطبعة البهية ـ مصرـ1347هـ ـ
أحكام القرآن
... أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (ت 543هـ) –تحقيق: محمد البجاوي دار إحياء الكتب العربية-1376هـ 1957م.
تفسير القرآن العظيم
... أبو الفداء اسماعيل بن كثير (ت 774هـ) –دار المعرفة-بيروت- 1403هـ-1983م.
جامع البيان في تفسير القرآن
... أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ) تحقيق: محمود محمد شاكر-راجعه وحققا حديثه: أحمد محمد شاكر دار المعارف ـ مصرـ 1969م.
الجامع لأحكام القرآن
... أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671هـ) ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1408هـ-1988م.
-كتب السيرة النبوية
أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم
... أبو عبد الله محمد بن فرج، المعروف بابن الطلاع (ت 494هـ) تحقيق: محمد ضياء الرحمن الأعظمي-دار الكتاب اللبناني- بيروت-1402هـ-1982م.
دلائل النبوة
... أبو نعيم الاصبهاني تحقيق: محمد رواس قلعجي –وعبد البر عباس –دار النفانس-1986م.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة
... أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ) خرج حديثه: عبد المعطي قلعجي -دار الكتب العلمية –بيروت- 1405هـ- 1985م.
شرح المواهب اللدنية للقسطلاني
... محمد بن عبد الباقي الزرقاني –المطبعة الأزهرية المصرية - 1326هـ-1908م.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى
... أبو الفضل عياض اليحصبي (ت 544هـ) –دار الكتب العلمية- بيروت 1399هـ 1979م.(1/341)
شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه
... أبو الفداء إسماعيل بن كثير تحقيق: مصطفى عبد الواحد –مطبعة البابي الحلبي-مصر- 1386هـ-1967م.
كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (الخصائص الكبرى)
... جلال الدين عبد الرحمان السيوطي (ت 911هـ) تحقيق: محمد خليل الهراس ـ دار الكتب الحديثة ـ مطبعة المدني ـ مصرـ (د.ت).
...
-كتب الحديث وأحكامه ورجاله
الاحسان في تقريب صحيح ابن حبان
... ابن بلبان الفارسي ـ تحقيق: شعيب الأرنؤوط ـ مؤسسة الرسالة- 1988م.
أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
... ابن دقيق العيد تقي الدين القشيري ـ دار الكتاب العلمية ـ بيروت ـ (د.ت).
اخبار أهل الرسوخ في الفقه والحديث بمقدار المنسوخ من الحديث.
... أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ـ المطبعة الحسنية ـ مصر- 1322هـ.
ارواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل
... محمد ناصر الدين الألباني ـ إشرف زهير الشاويش ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت 1399هـ ـ 1979م.
الاستنذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار
... أبو عمر يوسف بن عبد البر ـ تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي ـ دار قتيبة ـ ودار الوعي مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1414هـ ـ 1993م.
أسهل المدارك شرح ارشاد السالك
... أبو بكر بن حسن الكشناوي ـ دار الفكر ـ (د.ت).
اكمال اكمال المعلم في شرح صحيح مسلم
... أبو عبد الله محمد بن خلفة الوشتاني الأبي (ت 827هـ) ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ (د.ت).
أوجز المسالك إلى موطأ مالك
... محمد زكريا الكاندهلوي –دار الفكر-بيروت- 1410هـ -1989م.
بذل المجهود في حل ألفاظ أبي داود
... خليل أحمد السهارنفوري –تعليق: محمد زكريا الكاندهلوي-دار الكتب العلمية-بيروت- (د.ت).
بلغة السالك لاقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك.
... أحمد الصاوي-دار المعرفة-بيروت-1398هـ-1978م
تقريب التهذيب
... أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني –تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف –دار المعرفة- بيروت-1395هـ- 1975م.
تخليص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير(1/342)
... ابن حجر العسقلاني-تصحيح: عبد الله هاشم اليمني-دار المعرفة-بيروت- 1384هـ-1964م.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
... أبو عمر يوسف بن عبد البر-تحقيق: جماعة من الأساتذة ـ مطبوعات وزارة الأوقاف مطبعة فضالة –المغرب-
تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث.
... عبد الرحمن بن الديبع الشيباني ـ مطبعة محمد علي صبيح وأولاده ـ مصر ـ 1347هـ.
تهذيب سنن أبي داود وايضاح مشكلاته
... ابن قيم الجوزية ـ بهامش معالم السنن ـ دار المعرفة-بيروت- (د.ت).
تهذيب التهذيب
... ابن حجر العسقلاني ـ مطبعة دائرة المعارف النظاميةـ حيدر أباد-الهند- 1335هـ.
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول
... عبد الرحمان بن علي بن الديبع الشيباني-تحقيق: محمد حامد الفقي-دار المعرفة- بيروت-1397هـ-1977م.
الجامع الصغير وزيادته الفتح الكبير
... جلال الدين السيوطي-تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني –المكتب الإسلامي- بيروت- 1399هـ-1979م.
الجرح والتعديل
... أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي- الكتب العلمية-بيروت-(د.ت).
سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام
... محمد بن إسماعيل الصنعاني –مكتبة الرسالة الحديثة- الأردن-1391هـ-1971م.
كتاب السنن
... علي بن عمر الدارقطني-تصحيح: عبد الله هاشم اليمني –دار المحاسن للطباعة –مصر-1386هـ-1966م.
سنن الدارمي
... أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمان الدارمي –دار الكتب العلمية- نشر دار احياء السنة النبوية-بيروت- (د.ت).
السنن الكبرى
... أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي –دار المعرفة للطباعة والنشر –بيروت- (د.ت).
السنن الكبرى
... أبو عبد الرحمان أحمد بن شعيب النساني-تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن –دار الكتب العلمية-بيروت- 1411هـ-1991م.
سنن ابن ماجه
... أبو عبد الله محمد ابن ماجه القزويني –تعليق: محمد فؤاد عبد الباقي- نشر احياء التراث العربي-1975م.
شرح سنن النسائي(1/343)
... جلال الدين السيوطي –دار احياء التراث العربي-بيروت- (د.ت).
شرح الزرقاني على الموطأ
... محمد الزرقاني –تصحيح: لجنة من العلماء-دار الفكر-1355هـ - 1936م.
شرح السنة
... أبو محمد الحسين بن مسعود، الفراء البغوي-تحقيق: شعيب الأرنؤوط- وزهير الشاويش المكتب الإسلامي –بيروت-1403هـ-1983م.
شرح صحيح مسلم
... محي الدين بن شرف النووي-دار احياء التراث العربي-بيروت-1392هـ-1972م.
شرح معاني الآثار
... أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي-تحقيق: محمد زهري النجار –دار الكتب العلمية- بيروت 1399هـ-1979م.
عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي
... أبو بكر محمد بن العربي-المطبعة المصرية-1350هـ-1931م.
العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ
... صالح بن مهدي المقبلي اليمني (ت 1108هـ) –مطبعة مصر- 1328هـ.
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم
... محمد بن إبراهيم الوزير اليماني (ت 840هـ) –تحقيق: شعيب الأرنؤوط –دار البشير-عمان- 1405هـ-1985م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري
... أحمد بن حجر العسقلاني –المكتبة السلفية- (د.ت)..
فيض القدير شرح الجامع الصغير
... محمد عبد الرؤوف المناري- دار المعرفة- بيروت- 1399هـ-1972م.
الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة
... أبو عبد الله شمس الدين محمد الذهبي –دار الكتب العلمية-بيروت- 1403هـ-1983م.
كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة
... نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ)-تحقيق: حبيب الرحمن الاعظمي-مؤسسة الرسالة- 1405هـ-1985م.
كشف الخفا ومزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس
... اسماعيل بن محمد العجلوني-تصحيح: أحمد القلاش –مؤسسة الرسالة-بيروت- 1403هـ-1983م
كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين
... أبو حاتم محمد بن حبان البستي-تحقيق: محمود إبراهيم زايد –دار المعرفة –بيروت (د.ت).
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد
... أحمد بن حجر الهيثمي-إخراج: حسام الدين القدسي-تصوير مكتبة المعارف 1986م.(1/344)
المستدرك على الصحيحين في الحديث
... أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري –مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية- حيدر أباد- الهند- 1342هـ.
المسند
... أحمد بن حنبل –مصورة المكتب الإسلامي ودار صادر عن طبعة أحمد البابي الحلبي بمصر سنة 1313هـ. ...
المسند
... أبو عبد الله محمد بن ادريس الشافعي –دار الكتب العلمية-بيروت 1400هـ-1980م.
مشكاة المصابيح
... محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي –تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني –المكتب الإسلامي –بيروت- 1399هـ-1979م.
المصنف
... أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني –تحقيق: حبيب الرحمان الأعظمي –منشورات المجلس العلمي- المكتب الإسلامي-بيروت- 1403هـ- 1983م.
المصنف في الأحاديث والآثار
... عبد الله بن محمد بن أبي شيبة –تحقيق: مختار أحمد الندوي –الدار السلفية-بومباي- الهند-1401هـ-1981م.
معالم السنن
... أبو سليمان محمد الخطابي البستي –شرح به سنن أبي داود-المكتبة العلمية –بيروت 1401هـ-1981م.
المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر
... بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي-تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي-طبعة دار الأرقم- الكويت.
المعجم الصغير
... أبو القاسم سليمان الطبراني –تحقيق: محمد شكور- ومحمود الحاج أمرير- نشر المكتب الإسلامي ودار عمار-بيروت- 1985م.
المعجم الكبير
... أبو القاسم الطبراني-تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي-مكتبة ابن تيمية- والتوعية الإسلامية-مصر- 1985م.
المعلم بفوائد مسلم
... أبو عبد الله محمد بن علي المازري-تحقيق: محمد الشاذلي النيفر-دار الغرب الإسلامي- بيروت- 1992م.
المنتقى شرح الموطأ
... أبو الوليد الباجي-دار الكتاب العربي-بيروت- 1403هـ-1983م.
ميزان الاعتدال
... الحافظ الذهبي –تحقيق: علي محمد البجاوي- مصورة دار المعرفة- (د.ت).
نصب الراية لاحاديث الهداية
... جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي-دار الحديث –القاهرة- والمركز الإسلامي للطباعة والنشر-بيروت-(1/345)
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار
... محمد بن علي الشوكاني –دار الحديث- القاهرة- (د.ت).
الهداية في تخريج أحاديث البداية
... أبو الفيض أحمد بن الصديق –عالم الكتب-بيروت- 1407هـ-1987م.
-كتب الفقه
... I-الفقه المالكي
الإشراف على مسائل الخلاف
... القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي –مطبعة الإدارة-مصر- (د.ت)
أصول الفتيا على مذهب الإمام مالك
... محمد بن حارث الخشني –تحقيق: محمد المجدوب –محمد أبو الأجفان-وعثمان بطيخ- مطبعة الدار العربية للكتاب –تونس-1405هـ-1985م.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد
... أبو الوليد محمد بن رشد –دار المعرفة –بيروت- 1402هـ-1982م.
بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك
... أحمد محمد الصاوي –دار المعرفة-بيروت- 1398هـ- 1978م.
البهجة شرح التحفة
... أبو الحسن علي التسولي –دار الفكر- (د.ت).
البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة
... لأبي الوليد محمد بن رشد القرطبي (ت 520هـ)- ضمنه المستخرجة من الأسمعة المعروفة بالعتبية-إعداد جماعة من الأساتذة-دار الغرب الإسلامي-بيروت-1408هـ-1988م.
التاج والأكليل شرح مختصر خليل
... أبو عبد الله محمد يوسف العبدري المواق –مطبعة السعادة-مصر- 1329هـ.
التلقين في الفقه المالكي
... القاضي عبد الوهاب البغدادي-طبعة وزارة الأوقاف-1413هـ-1993م.
جني زهرة الآس في شرح نظم عمل فاس
... عبد الصمد كنون- مطبعة الشرق الوحيدة-مصر- (د.ت).
حادي الرفاق إلى فهم لامية الزقاق
... أحمد بن محمد الرهوني –مطبعة المهدية-تطوان-1348هـ-1930م.
حاشية الدسوقي على شرح الدردير
... شمس الدين محمد بن عرفة الدسوقي –مطبعة التقم العلمية-مصر- 1330هـ-1912م.
الذخيرة
شهاب الدين أحمد القرافي ـ تحقيق: جماعة من الاساتذة دار الغرب الإسلامي – 1994م.
شرح حدودابن عرفة
... أبو عبد الله محمد الأنصاري الرصاع –مطبعة وزارة الأوقاف- 1412هـ-1992م.
شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني(1/346)
... قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي –مطبعة الجمالية- مصر-1332هـ –1914م.
شرح الزرقاني على مختصر خليل
... عبد الباقي الزرقاني-المطبعة الأميرية ببولاق –مصر- 1306هـ.
الشرح الكبير على مختصر خليل
... أبو عبد الله محمد الخرشي –المطبعة الأميرية ببولاق-مصر- 1317هـ.
الشرح الكبير على مختصر خليل
... أبو البركات أحمد الدردير –مطبعة السعادة –مصر- 1329هـ-1911م.
شرح المجموع الفقهي
... محمد الأمير –المطبعة البهية- مصر- 1304هـ.
العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام
... أبو القاسم سلمون بن علي الكناني –المطبعة المعاصرة الشرقية- والمطبعة البهية مصر- (د.ت).
فصل الأقوال في الجواب عن حادثة السؤال ونفي العقوبة بالمال
... محمد بن محمد كمال الدين الاخميمي، الشهير بالقصير –مطبعة مصطفى البابي الحلبي-مصر- 1340هـ-1912م.
فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام
... أبو الوليد سليمان الباجي –تحقيق: محمد أبو الاجفان-الدار العربية للكتاب- والمؤسسة الوطنية للكتاب-تونس- 1405هـ-1985م.
القوانين الفقهية
... أبو القاسم محمد بن جزي الغرناطي ـ مطبعة الأمنية-الرباط- 1370هـ-1951م.
الكافي في فقه أهل المدينة المالمي
... أبو عمر يوسف بن عبد البر-تحقيق: محمد أحيد الموريتاني ـ مكتبة الرياض الحديثة- الرباط- 1400هـ-1980م.
المدونة الكبرى
... مالك بن أنس ـ برواية سحنون- مطبعة السعادة-1323هـ- ومطبعة دار الفكر- (د.ت).
مذاهب الحكام في نوازل لأحكام
... القاضي أبو الفضل عياض وولده محمد –تحقيق: محمد بنشريفة-دار الغرب الإسلامي- بيروت- 1990م.
مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة
... أبو الفيض أحمد بن الصديق –تصحيح: عبد الله بن الصديق-دار العهد الجديد- مصر- (د.ت).
مسائل ابن رشد الجد
... أبو الوليد محمد بن رشد (ت 520هـ)- تحقيق: محمد الحبيب التجاني- دار الأفاق الجديدة المغرب- 1412هـ-1992م.
المسائل المختصرة من كتاب البرزلي(1/347)
... أبو العباس أحمد اليزليتني، المعروف بحللو-تحقيق: أحمد محمد الخلفي-منشورات كلية الدعوة الإسلامية –ولجنة الحفاظ على التراث الإسلامي-طرابلس- 1411هـ-1991م.
المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب
... أبو العباس أحمد بن يحي الونشريسي خرجه جماعة من الفقهاء-اشرف محمد حجي- نشر وزارة الأوقاف- 1401ه-1981م.
معين الحكام على القضايا والأحكام
... أبو اسحاق إبراهيم بن عبد الرفيع –تحقيق: محمد بن قاسم بن عياد –دار الغرب الإسلامي-بيروت- 1989م.
المقدمات الممهدات ببيان ما اقتضته المدونة من الأحكام.
أبو الوليد بن رشد –دار الغرب الإسلامي-بيروت-1408هـ.
منح الجليل شرح مختصر خليل
... محمد عليش –دار الكتب العربية الكبرى –مصر- 1394هـ.
المنح السامية في النوازل الفقهية (النوازل الصغرى)
... أبو عبد الله محمد المهدي الوزاني –طبعة وزارة الأوقاف –1413هـ-1993م.
المنهل العذب السلسبيل
... محمد بن أبي بكر الشابي الأزاريفي –شرح به نظم أبي زيد الجشتيمي-مطبعة النجاح- الدار البيضاء- 1400هـ-1980م.
مواهب الجليل شرح مختصر خليل
... أبو عبد الله محمد الرعيني الحطاب –دار الفكر- 1398هـ-1978م.
مواهب الخلاق
... أبو الشتاء بن الحسن الصنهاجي-وهو حاشية على شرح التاودي للامية الزقاق-المطبعة الجديدة –فاس-1349هـ.
كتاب النوازل
... أبو الحسن علي بن عيسى العلمي –تحقيق: المجلس العلمي بفاس-طبعة وزارة الأوقاف 1403هـ-1983م
... ... II-الفقه الحنفي
الاختيار لتعليل المختار
... أبو الفضل عبد الله بن محمد الموصلي –دار المعرفة-بيروت-1395هـ-1975م.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق
... زين العابدين بن نجيم –المطبعة العلمية- القاهرة-1311هـ.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
... علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني ـ مطبعة الجمالية- مصر- 1328هـ-1910م.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
... فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي –مطبعة الأميرية ببولاق –مصر- 1315هـ.
تحفة الفقهاء(1/348)
... علاء الدين محمد بن أحمد السمر قندي –تحقيق: محمد المنتصر الريسوني –ووهبة الزحيلي دار الفكر-دمشق- (د.ت).
الجامع الكبير
... أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني-قابل أصوله: أبو الوفا الافغاني- مطبعة الاستقامة مصر- 1356هـ.
حاشية الشلبي على الزيلعي
... شهاب الدين أحمد الشبلي –المطبعة الاميرية ببولاق –مصر- 1315هـ.
حاشية على الدرر الحكام في شرح غرر الأحكام
... أبو سعيد محمد بن مصطفى الخادمي –المطبعة العثمانية- 1310هـ.
حاشية على الدر المختار شرح تنوير الابصار
... أحمد الطحطاوي- دار المعرفة- بيروت- 1395هـ-1975م.
حاشية على شرح العناية على الهداية
سعد الله عيسى المعروف بسعدي جبلي –المطبعة الأميرية ببولاق- 1316هـ.
الدر المختار شرح تنوير الأبصار.
... محمد علاء الدين الحصكفي –دار المعرفة-بيروت- 1395هـ –1975م.
رد المحتار على الدر المختار
... محمد أمين بن عابدين –المطبعة الكبرى ببولاق –مصر- 1323هـ.
فتح القدير
... كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام –المطبعة الأميرية ببولاق 1316هـ.
المختصر
... أبو جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي –تحقيق: أبو الوفا الأفغاني- دار احياء العلوم- بيروت- (د.ت).
المعتصر من المختصر من مشكل الاثار
... أبو المحاسن يوسف بن موسى الحنفي –لخصه من مختصر الباجي من كتاب مشكل الاثار للطحاوي –عالم الكتب-بيروت- (د.ت).
III-الفقه الشافعي
حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب
... عبد الله بن حجازي الشرقاوي –دار المعرفة-بيروت- (د.ت).
روضة الطالبين
أبو زكريا يحيى بن شرف النووي –المكتب الإسلامي –دمشق- 1388هـ –1986م.
الغرر البهية في شرح البهجة الوردية
... أبو يحيى زكريا الأنصاري –وبهامشه حاشية ابن قاسم العبادي –المطبعة الميمنية –مصر (د.ت).
الفتاوي الفقهية الكبرى
... ابن حجر الهيثمي –بهامشه فتاوي محمد الرملي –دار الكتب العلمية-بيروت- 1403هـ- 1983م.
فتح الوهاب بشرح منهاج الطلاب(1/349)
... أبو يحيى زكريا الأنصاري –دار المعرفة-بيروت- (د.ت).
المجموع شرح المهذب
... أبو زكريا يحيى بن شرف النووي –مطبعة التضامن –إدارة الطباعة المنيرة- (د.ت).
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج
... محمد الخطيب الشربيني –مطبعة دار الكتب العربية- 1329هـ.
منهاج الطالبين وعمدة المفتين
... أبو زكريا يحيى النووي –دار المعرفة- بيروت- (د.ت).
المهذب في فقه الإمام الشافعي
... أبو اسحاق إبراهيم الشيرازي –دار المعرفة-بيروت- 1379هـ-1959م.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج
... شمس الدين محمد الرملي –مطبعة مصطفى افندي-مصر-1304هـ.
الوجيز في فقه الإمام الشافعي
... أبو حامد الغزالي –مطبعة الآداب والمؤيد –مصر-1317هـ.
... ... ...
IV-الفقه الحنبلي
الاختيارات الفقهية
... تقي الدين تيمية-اختارها علاء الدين أبو الحسن علي البعلي الدمشقي –تحقيق: محمد حامد الفقي –دار المعرفة- بيروت- (د.ت).
الاقناع في فقه أحمد بن حنبل
... أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي –دار المعرفة –بيروت- (د.ت).
الانصاف في معرفة الراجح من الخلاف
... علاء الدين بن الحسين المراداوي –تحقيق: محمد حامد الفقي –دار احياء التراث العربي- 1400هـ-1980م.
الروض المربع بشرح زاد المسقنع
... منصور بن يونس البهوتي –دار الكتب العلمية –بيروت- (د.ت).
الكافي في فقه الإمام أحمد
موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي –تحقيق: زهير الشاويش –المكتب الإسلامي- بيروت –1402هـ-1982م.
كشاف القناع عن متن الاقناع
... منصور بن ادريس الحنبلي –المطبعة الشرفية –مصر- 1319هـ.
المبدع في شرح المقنع
... أبو اسحاق برهان الدين ابراهيم بن مفلح –المكتب الإسلامي- بيروت 1399هـ-1979م.
مجموعة فتاوي ابن تيمية
... ابن تيمية الحرازي –جمع وترتيب: عبد الرحمان بن قاسم –مكتبة المعارف-الرباط- 1383ه.
المحرر في فقه أحمد بن حنبل
... أبو البركات بن تيمية مجد الدين –مطبعة السنة المحمدية –1369ه-1950م.
... ... ... V- فقه المذاهب الاخرى
المحلى(1/350)
... أبو محمد علي بن حزم –تحقيق: لجنة احياء التراث العربي –طبعة دار الافاق الجديدة-بيروت- (د.ت).
... ... ... VI-الفقه العام والسياسة الشرعية
الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية
... محمد المرير –منشورات معهد الجنرال فرنكو للأبحاث العربية الإسبانية –تطوان- 1951م.
الأحكام السلطانية والولايات الدينية
... أبو الحسن علي البصري الماوردي –دار الكتب العلمية-1398هـ-1978م.
إحياء علوم الدين
... أبو حامد الغزالي –عالم الكتب-مكتبة الدروبي –دمشق- (د.ت).
الاعتصام
... أبو اسحاق إبراهيم الشاطبي –دار المعرفة –بيروت- 1400هـ-1980م.
اعلام الموقعين عن رب العالمين
... ابن قيم الجوزية –تعليق: عبد الرؤوف طه-دار الجيل- 1973م.
اغاثة اللهفان من مصايد الشيطان
... ابن قيم الجوزية –تحقيق: محمد حامد الفقي-دار المعرفة-بيروت- (د.ت).
بدائع الفوائد
... ابن قيم الجوزية-دار الكتاب العربي-بيروت-(د.ت).
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام
... برهان الدين بن علي بن فرحون –مطبعة التقدم العلمية –مصر- 1320هـ.
تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام
... محمد بن عيسى ابن المناصف-اعداد: عبد الحفيظ منصور-دار التركي-تونس-1988م.
التيسير في أحكام التسعير
أبو العباس أحمد بن سعيد المجيلدي-تحقيق: موسى لقبال-الشركة الوطنية للنشر- الجزائر-1971م.
ثلاث رسائل اندلسية في آداب الحسبة والمحتسب
يشتمل الكتاب على: رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة...
ورسالة أحمد بن عبد الرؤوف في آداب الحسبة والمحتسب...
ورسالة عمر الجرسيفي في الحسبة...
... اعتنى بتحقيقه: إ.ليفي بروفنسال –مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للاثار الشرقية بالقاهرة- 1955.
جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله.
... أبو عمر يوسف بن عبد البر-دار الكتب العلمية-بيروت-1398هـ-1978م.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية
... ابن قيم الجوزية-تحقيق: محمد حامد الفقي –دار الكتب العلمية-بيروت- (د.ت).
الفقيه والمتفقه(1/351)
... أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي –تصحيح وتعليق: إسماعيل الأنصاري-دار الكتب العلمية-بيروت-1400هـ-1980م.
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي
... محمد بن الحسن الحجوي الثغالبي-المطبعة الجديدة -فاس- (د.ت).
معالم القربة في أحكام الحسبة
... محمد بن محمد القرشي ابن الاخوة (ت 669هـ)-ضمن كتاب: في التراث الاقتصادي الإسلامي –تحقيق: محمد محمود شعبان –وأحمد المطيعي-دار الحداثة- بيروت- 1990م.
الوثائق والسجلات
... محمد بنأحمد الأموي ابن العطار –تحقيق: شالميتا وكورينطي- مجمع الموثقين المجريطي –المعهد الاسباني العربي للثقافة- 1983م.
كتب الأصول والقواعد والفروق
أحكام الفصول في أحكام الأصول
... أبو الوليد سليمان الباجي –تحقيق: عبد الله محمد الجبوري-مؤسسة الرسالة-بيروت- 1409هـ-1989م.
الأحكام في أصول الأحكام
... علي بن محمد أبو الحسن الآمدي-دار الكتب العلمية-بيروت-1400هـ-1980م.
الأحكام في أصول الأحكام
... أبو محمد علي بن حزم-تحقيق: أحمد محمد شاكر-دار الآفاق الجديدة-1400هـ-1980م.
ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول
... محمد بن علي الشوكاني-مطبعة السعادة-مصر- (د.ت).
الاشباه والنظائر في الفروع
... عبد الرحمن السيوطي-مطبعة الحاج مصطفى محمد-مصر- (د.ت).
الاشباه والنظائر
... زين العابدين بن نجيم –دار الكتب العربية-بيروت- 1400هـ-1980م.
ايضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك
... أحمد بن يحيى الونشريسي-تحقيق: الصادق الغرياني-منشورات كلية الدعوة الإسلامية ولجنة الحفاظ على التراث-طرابلس- 1991م.
البرهان في أصول الفقه
أبو المعالي عبد الملك الجويني –تحقيق: عبد العظيم محمود الديب-دار الوفاء المنصورة- مصر-1412هـ-1992م.
التبصرة في أصول الفقه
... أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي-تحقيق: محمد حسن هيتو-دار الفكر-دمشق- 1400هـ-1980م.
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول(1/352)
... جمال الدين عبد الرحيم الاسنوي –تحقيق: محمد حسن هيتو- مؤسسة الرسالة-بيروت 1401هـ-1981م.
تهذيب الفروق والقواعد السنية
... محمد علي بن حسين المكي -عالم الكتب-بيروت- (د.ت).
الرسالة
... محمد بن ادريس الشافعي-تحقيق: أحمد محمد شاكر-دار التراث-القاهرة-1399هـ-1979م.
روضة الناظر وجنة المناظر
موفق الدين بن قدامة –دار الكتب العلمية-بيروت-1401هـ-1981م.
شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول
... أبو العباس أحمد بن ادريس القرافي-تحقيق: طه عبد الرؤوف –دار الفكر-مصر- 1393هـ-1973م.
شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل
أبو حامد الغزالي-تحقيق: حمد الكبيسي –مطبعة الارشاد- بغداد 1390هـ-1971م.
عدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق
... أحمد بن يحيى الونشريسي-تحقيق: حمزة أبو فارس-دار الغرب الاسلامي –بيروت- 1410هـ-1990م.
الفروق
... أبو العباس أحمد القرافي –عالم الكتب-بيروت- (د.ت).
القواعد الفقهية
... أبو عبد الله محمد المقري-تحقيق: أحمد بن عبد الله بن حميد –معهد البحوث واحياء التراث الإسلامي –جامعة أم القرى-مكة المكرمة-
قواعد الأحكام في مصالح الانام
أبو محمد عز الدين بن عبد السلام –مطبعة الاستقامة-مصر- (د.ت).
المحصول في علم الأصول
... فخر الدين محمد بن عمر الرازي –تحقيق: طه جابر العلواني-مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية –1401هـ-1980م.
المستصفى من علم الأصول
... أبو حامد الغزالي –دار الكتب العلمية-بيروت- 1403هـ-1983م.
الموافقات في أصول الشريعة
... أبو اسحاق إبراهيم الشاطبي-شرح: عبد الله دراز-المطبعة الرحمانية-مصر- (د.ت).
-كتب اللغة والآداب
بهجة المجالس
... أبو عمر يوسف بن عبد البر-تحقيق: محمد مرسي الخولي-دار الكتب العلمية-بيروت- 1402هـ-1982م.
تاج العروس من جواهر القاموس
أبو الفيض مجد الدين محمد مرتضي الزبيدي-المطبعة المنيرية-مصر- 1306هـ.
حياة الحيوان الكبرى(1/353)
... كمال الدين الدميري-المطبعة الخيرية-دار القاموس الحديث- بيروت- 1309هـ
الحيوان
... أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ-تحقيق: عبد السلام هارون-منشورات المجمع العلمي العربي الإسلامي-بيروت- 1388هـ-1969م.
ديوان أبي فراس الحمداني
... شرح خليل الدويهي –دار الكتاب العربي- بيروت- 1412هـ-1991م.
ديوان أبي نواس
... الحسن بن هانىء-تحقيق: أحمد عبد المجيد الغزالي-دار الكتاب العربي-بيروت- 1402هـ-1982م.
ديوان المتنبي
... أبو الطيب المتنبي –شرح: عبد الرحمن البرقوقي-دار الكتاب العربي بيروت- (د.ت).
زهر الاكم في الأمثال والحكم
... أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي-تحقيق: محمد حجي- ومحمد الأخضر-منشورات معهد الأبحاث والدراسات للتعريب-دار الثقافة-الدار البيضاء- 1401هـ-1981م.
لسان العرب
... أبو الفضل محمد بن منظور-دار صادر-بيروت- (د.ت).
اللزوميات
... أبو العلاء المعري –دار صادر-ودار بيروت-بيروت- 1381هـ-1961م.
مجمع الأمثال
... أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني-تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد-مطبعة السنة المحمدية- 1374هـ-1955م.
المستطرف في كل فن مستظرف
... شهاب الدين محمد بن أحمد الا بشيهي –دار مكتبة الحياة-بيروت- (د.ت).
كتب التاريخ والطبقات والتراجم والرحلات
اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان
... أحمد بن أبي الضياف التونسي –تحقيق: لجنة من الأساتذة- المطبعة الرسمية-تونس- 1963م.
أبو المطرف أحمد بن عميرة المخزومي: حياته وآثاره.
... محمد بن شريفة –منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي-مطبعة الرسالة-الرباط- 1385هـ-1966م.
الاحاطة في أخبار غرناطة
... لسان الدين بن الخطيب –تحقيق: محمد عبد الله عنان –مكتبة الخانجي-القاهرة- 1395هـ-1975م.
الادلة البينة النورانية على مفاخر الدولة الحفصية
... محمد بن أحمد الشماع الهنتاتي-تعليق: عثمان الكعاك-لجنة الطلبة للنشر والتعريب- مطبعة العرب- تونس- 1355هـ-1936م.
الأزهار الرياض في أخبار عياض(1/354)
... شهاب الدين أحمد بن محمد المقرى التلمساني-طبعة لجنة نشر التراث الإسلامي
الاصابة في تمييز الصحابة
... ابن حجر العسقلاني-تحقيق: طه محمد الزيني-مكتبة الكليات الأزهرية-مصر- 1396هـ-1976م.
الاستقصا لاخبار دول المغرب الأقصى
... أحمد بن خالد الناصري –دار الكتاب-الدار البيضاء-1955م.
الاعلام
... خير الدين الزركلي –دار العلم للملايين-بيروت- 1980م.
الاعلام بمن حل مراكش وأغمات من الاعلام
... العباس بن ابراهيم التعارجي المراكشي –تحقيق: عبد الوهاب بن منصور-المطبعة الملكية-الرباط-1403هـ-1983م.
اعلام المغرب العربي
... عبد الوهاب بن منصور –المطبعة الملكية-الرباط- 1410هـ-1990م.
افريقيا
... مارمول كربخال-ترجمة: محمد حجي وآخرون –مكتبة المعارف- الرباط-1404هـ-1984م.
أليس الصبح بقريب
محمد الطاهر بن عاشور –الدار التونسية-تونس- (د.ت).
بدائع السلك في طبائع الملك
... أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزرق –تحقيق: علي النشار-منشورات وزارة الاعلام العراقية –دار الحرية للطباعة –1397هـ-1977م.
برنامج المجاري
... أبو عبد الله محمد المجاري الأندلسي –تحقيق: محمد أبو الاجفان- دار الغرب الإسلامي- بيروت- 1982م.
البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان
... أبو عبد الله محمد بن مريم التلمساني-المطبعة الثعالبية-الجزائر- 1326هـ-1908م.
تاريخ الدولتين
... أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الزركشي –تحقيق: محمد ماضور –المكتبة العتيقة- مطبعة 20 مارس-1386هـ-1966م.
تاريخ علماء الأندلس ...
... أبو الوليد عبد الله ابن الفرضي –الدار المصرية للتأنيف والترجمة-1966م
تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر
... محمد بن عبد القادر الجزائري –المطبعة التجارية-الاسكندرية- 1903م.
تراجم المؤلفين التونسيين
... محمد محفوظ –دار الغرب الاسلامي-بيروت- 1982م
ترتيب المدارك وتقريب المسالك
... أبو الفضل عياض-طبعة وزارة الأوقاف-المغرب.
التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا(1/355)
... عبد الرحمن بن خلدون –دار الكتاب اللبناني- ودار الكتاب المصرية- 1979م.
تعريف الخلف برجال السلف
... أبو القاسم محمد الحفناوي-مؤسسة الرسالة – 1402هـ-1982م.
تكميل الصلحاء والأعيان لمعالم الايمان
... محمد بن صالح عيسى الكناني القيرواني –تحقيق: محمد العنابي-المكتبة العتيقة-تونس: 1970م.
توشيح الديباج وحلية الابتهاج
... بدر الدين القرافي-تحقيق: أحمد الشتيوي-دار الغرب الإسلامي- 1403هـ-1983م.
جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الاعلام مدينة فاس
... أحمد بن القاضي المكناسي –دار المنصور الملكية-الرباط- 1974م.
الجواهر المضية في طبقات الحنفية
... أبو محمد عبد القادر القرشي-تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو-مطبعة عيسى البابي الحلبي- 1398هـ-1978م.
الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين
... محمد حجي-منشورات دار المغرب-مطبعة فضالة –1396هـ-1976م.
الحلل السندسية في الأخبار التونسية
... محمد بن محمد، الوزير السراج الاندلسي –تحقيق: محمد الحبيب الهيلة-دار الغرب الإسلامي-1985م.
الحياة السياسية والإجتماعية والفكرية بشفشاون وأحوازها
... عبد القادر العافية-مطبوعات وزارة الأوقاف-1402هـ-1982م.
خلاصة تاريخ تونس
... حسن حسني عبد الوهاب- المطبعة التونسية- 1344هـ
خلال جزولة
... محمد المختار السوسي-مطبعة التونسية- 1344هـ
درة الحجال في غرة أسماء الرجال
... أبو العباس أحمد بن القاضي-تحقيق: محمد الاحمدي أبو النور –دار التراث-القاهرة- (د.ت).
دليل مؤرخ المغرب الأقصى
... عبد السلام بن عبد القادر بنسودة –دار الكتاب-الدار البيضاء- 1960م.
الدولة الحفصية
... أحمد بن عامر –دار الكتب الشرقية-مطبعة الاتحاد التونسي-تونس-1974م.
الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب
... برهان الدين بن فرحون-دار الطتب العلمية-بيروت- (د.ت).
الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة
... أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المراكشي-تحقيق: محمد بنشريفة-مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية- 1984م.(1/356)
رجالات العلم في سوس
... محمد المختار السوسي-مؤسسة الشمال-طنجة-1409هـ-1989م.
رحلة القلصادي
... أبو الحسن علي القلصادي-تحقيق:محمد أبو الاجفان- الشركة التونسية للتوزيع- 1978م.
الرحلة المغربية
... أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري-تحقيق: محمد الفاسي-منشورات جامعة محمد الخامس-الرباط- (د.ت).
روضة الآس العاطرة الأنفاس
... أبو العباس أحمد المقري-المطبعة الملكية-الرباك- 1383هـ-1964م.
السلطنة الحفصية: تاريخها السياسي ودورها في الغرب السلامي.
... محمد العروسي المطوي-دار الغرب الإسلامي- 1406هـ-1986م.
شجرة النور الزكية في طبقات المالكية
... محمد بن مخلوف –المطبعة السلفية-القاهرة- 1349هـ.
الشذرات والتقاط الفوائد وغرر العوائد
... محمد الرضي بن ادريس السناني الفاسي-مطبعة النجاح-الدار البيضاء- (د.ت).
شرف الطالب في أسنى المطالب
... أحمد بن قنفذ القسنطيني –ضمن كتاب الف سنة من الوفبات-تحقيق: محمد حجي –دار المغرب للتأليف-الرباط- 1396هـ-1976م.
الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثماني
طاش كبرى زادة-دار الكتاب العربي-بيروت- 1395هـ-1975م.
الصلة
... أبو القاسم خلف بن عبد الملك ابن بشكوال –الدار المصرية للتأليف والترجمة- مطابع سجل العرب-القاهرة- 1966م.
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع
... شمس الدين محمد السخاوي –منشورات دار مكتبة الحياة -بيروت- (د.ت).
طبقات الشافعية الكبرى
... أبو نصر عبد الوهاب بن علي السبكي –تحقيق: محمود محمد الطناحي- وعبد الفتاح محمد الحلو- مطبعة عيسى البابي الحلبي- 1384هـ-1965م.
الطبقات الكبرى
... ابن سعد –دار بيروتودار صادر-بيروت- 1377هـ-1957م.
العبر وديوان المبتدأ والخبر...
... أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون-دار الكتاب اللبناني-مكتبة المدرسة-بيروت- 1983م.
كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين
... حسن حسني عبد الوهاب –مراجعة واكمال: محمد العروسي المطوي- وبشير البكوش-دار الغرب الإسلامي-بيروت- 1990م.
عيون الأخبار(1/357)
... أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة-المؤسسة المصرية العامة- مصر- 1383هـ-1963م.
فهرسة الرصاع
... أبو عبد الله محمد الرصاع التونسي –تحقيق: محمد العنابي- المكتبة العتيقة- مطبعة 20 مارس-تونس- 1967م.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية
... أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي- دار المعرفة-بيروت- (د.ت).
قبائل المغرب
... عبد الوهاب بن منصور-المطبعة الملكية-الرباط- 1388هـ- 1968م.
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون
... مصطفى عبد الله الشهير بحاجي خليفة-مكتبة المثنى-بيروت- (د.ت).
لقط الفوائد من لفاظة حقق الفوائد
... أحمد بن القاضي المكناسي ضمن كتاب: ألف سنة من الوفيات-تحقيق: محمد حجي-دار المغرب للتأليف-الرباط- 1396هـ-1976م.
مسامرات الظريف بحسن التعريف
... أبو عبد الله محمد بن عثمان السنوسي-تحقيق: محمد الشاذلي النيفر-دار الغرب السلامي-بيروت- 1994م.
معالم الايمان في معرفة أهل القيروان
أبو زيد عبد الرحمن الانصاري-الدباغ- المطبعة الرسمية- تونس- 1320هـ-1902م.
المعسول
محمد المختار السوسي-مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء- 1370هـ-1960م
معلمة الفقه المالكي
... عبد العزيز بنعبد الله-دار الغرب الإسلامي-1403هـ-1983م.
المغرب في حلى المغرب
... ابن سعيد المغربي-تحقيق: شوقي ضيف-دار المعارف-مصر- (د.ت).
المقدمة
... أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون –دار القلم-بيروت- 1398هـ-1978م.
مناقب الحضيكي
... أبو عبد الله محمد بن أحمد الحضيكي المانوزي-المطبعة العربية- الدار البيضاء- 1355هـ-1936م.
المؤنس في اخبار افريقية وتونس
... أبو عبد الله محمد بن القاسم الرعيني القيرواني المعروف بابن أبي دينار-تحقيق: محمد شمام- المكتبة العتيقة- مطبعة 20 مارس –تونس- 1387هـ-1967م.
نثير الجمان في شعر من نظمني واياه الزمان
... أبو الوليد اسماعيل بن الأحمر الغرناطي -تحقيق: محمد رضوان الداية- مؤسسة الرسالة- 1396هـ-1976م.
نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي(1/358)
... محمد الصغير اليفراني المراكشي –مكتبة الطالب-الرباط- (د.ت).
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
... أحمد بن محمد المقري-تحقيق: احسان عباس-دار صادر-1388هـ-1968م.
نيل الابتهاج بتطريز الديباج
... أحمد بابا السوداني-بعناية: طلاب كلية الدعوة الإسلامية-منشورات كلية الدعوة- طرابلس- 1989م.
ورقات عن الحضارة العربية بافريقية
... حسن حسني عبد الوهاب –مكتبة المنار- تونس- 1972م.
وصف افريقيا
... الحسن بن محمد الوزان-ترجمة: محمد حجي-محمد الأخضر-مطبعة وراقة البلاد-الرباط- 1400هـ-1980م.
الوفيات
... أحمد بن يحيى الونشريسي-ضمن كتاب: ألف سنة من الوفيات-تحقيق: محمد حجي-دار المغرب للتأليف- 1396هـ-1976م.
وفيات الاعيان وأنباء أنباء الزمان
... أحمد بن ابراهيم بن خلكان-تحقيق: احسان عباس –دار صادر –بيروت- 1971م.
الدراسات الفقهية والقانونية الحديثة
الاحسان الالزامي في الاسلام وتطبيقاته في المغرب
... محمد الحبيب التجكاني-مطبوعات وزارة الأوقاف- 1410هـ-1990م.
أصول قانون العقوبات في الدول العربية
... محمود مصطفى –القاهرة- 1970م.
الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية
... عبد الرحيم صدقي- مكتبة النهضة المصرية- 1408هـ-1987م.
... محمود إبراهيم اسماعيل –دار الفكر العربي-مطابع دار الهنا-القاهرة- (د.ت).
العرف والعمل في المذهب المالكي
... عمر بن عبد الكريم الجيدي –مطبعة فضالة –المحمدية-1404هـ-1984م.
العقوبة في الفقه الإسلامي
... أحمد فتحي بهنسي –دار الشرق-بيروت- 1400هـ-1980م.
في أصول النظام الجنائي الإسلامي
... محمد سليم العوا -دار المعارف-القاهرة- (د.ت).
القانون الجنائي- المدخل وأصول النظرية العامة
... علي راشد-مطبعة المدني-القاهرة- 1970م.
محاضرات في التشريع الجنائي في الدول العربية
... توفيق محمد الشاوي –منشورات جامعة الدول العربية- معهد الدراسات العربية العالمية- مطبعة دار الهنا –القاهرة- 1959م.
المدخل الفقهي العام(1/359)
... مصطفى أحمد الزرقا-مطابع دار ألف باء الأديب- دمشق- 1967م.
مصادر الحق
... عبد الرزاق السنهوري –مطابع دار المعارف –مصر- 1967م.
النظرية العامة للموجبات والعقود
... صبحي محمصاني –مطبعة الكشاف-بيروت-1948م.
المراجع باللغة الاجنبية
La berbère orientale sous les Hafsides: des origines à la fin
du Xve siècle.
Robert Brunschvig
Librairie d’Amérique et d’orient. Paris 2T. 1940-1947.
فهرس الموضوعات
تقديم ... ب
المقدمة ... 1
I- الحياة السياسية والثقافة في عصر المؤلف ... 16
تمهيد ... 16
1- عصر المؤلف من الناحية السياسية ... 17 ...
ظهور الدولة الحفصية ... 17
الفترة التي عاش فيها القاضي الشماع ... 21
1ـ مرحلة الانقسام والتفكك ... 21
العوامل المؤثرة في هذه الفترة ... 21
وفاة السلطان أبي بكر الحفصي ... 21
موقف أبي الحسن المريني من الحالة في الدولة الحفصية ... ... 22
الوباء العام الجارف ... 24 ...
التدخل المريني في افريقية مرة ثانية ... 24
2ـ مرحلة التوحيد وإعادة الاستقرار ... 26
حكم أبي العباس أحمد الحفصي ومظاهره ... 26
حكم أبي فارس عبد العزيز ومظاهره ... 29
2- عصر المؤلف من الناحية الثقافية ... 33
العوامل المؤثرة في الثقافة ... 33
تشجيع الحفصيين للعلم والعلماء ... 33
هجرة النخبة العلمية من الأندلس في افريقية ... 34
انتقال علماء المغرب إلى افريقية مع أبي الحسن المريني ... 35
بروز النخبة التونسية في مجال العلم ... 38
اقطاب الحركة الثقافية في عصر المؤلف ... 40
محمد بن عرفة ... 40
عبد الرحمن بن خلدون ... 41
أبو القاسم البرزلي ... 41
يعقوب الزغبي ... 41
عيسى الغبريني ... 42
احمد القصار ... 42
محمد الوانوغي ... 42
محمد بن مرزوق الحفيد ... 42
محمد بن خلفة الابي ... 43
ابو القاسم بن ناجي ... 43
الكتب الدراسية في تلك الفترة ... 43
التآليف الشهيرة في ذلك العصر ... 44
ترجمة القاضي الشماع ... 46
اسمه ... 46
شيوخه ... 46
علمه ... 47
وظائفه ومنزلته عند السلطان ابي فارس وولده محمد ... 47
شعره ... 50
تلاميذه ... 52
وفاته ... 52
3- رسالة "مطالع التمام" ... 53
? موضوعها ... 53(1/360)
? تاريخ تأليفها ... 56
? الغرض من تأليفها ... 56
? عنوانها ... 56
? منهجها ... 57
? مصادرها ... 59
? أسلوبها ... 60
? قيمتها ... 61
منهج التحقيق
? وصف النسخة المعتمدة ... 62
? مميزاتها ... 63
? مصادر المقابلة ... 64
? عملي في التحقيق ... 65
النص المحقق ... 67
خطبة الكتاب
سبب تأليف الكتاب ... 69
عنوان الكتاب ... 74
طرح المسألة في مجلس الخليفة أبي فارس ... 75
بناء المسألة على قاعدة المصالح المرسلة والجواب عنه من وجوه ... 82
القول بجواز قتل الثلث لمصلحة الثلثين والجواب عنه من عدة وجوه ... 111
نسبة المقالة إلى المهدي بن تومرت والجواب عنه ... 123
اشتهار المسألة في بلاد الموحدين والجواب عنه وجوه ... 125
بناء المسالة على أربع قواعد والجواب عنه ... 139
قاعدة المصالح المرسلة ... 139
قاعدة الكليات ... 140
قاعدة تقابل الضررين ... 144
قاعدة الرخصة ... 144
استدلال البرزلي على المسألة بأدلة شرعية والجواب عنها ... 153
الأول: حديث: "لقد هممت أن اخالف على اقوام.." ... 153
الثاني: حديث: "من غل فإنه يحرق رحله" ... 156
الثالث: جزاء الصيد في الحرم ... 157
الرابع: أخذ سلب الصائد في حرم المدينة ... 158
الخامس: أخذ شطر المال من مانع الزكاة ... 158
الاجماع على نسخ العقوبة المالية ... 159
السادس: حديث: "أصبت عمي ومعه راية" ... 169
السابع: حديث: "الصحفة التي كسرها بعض أزواج النبي .." ... 177
الثامن: تخريج ابن بشير العقوبة بالمال على الكفارات ... 188
التاسع: طرح عمر اللبن المغشوش واحراق البيت الذي فيه خمر ... 199
العاشر: عتق العبد بالمثلة ... 203
الحادي عشر: منع القاتل عمدا من الميراث ... 208
الثاني عشر: التصدق بإجازة من أجر نفسه بثمن الخمر ... 209
الثالث عشر: الاجبار على الكفارات ... 216
الرابع عشر: انتزاع النبي المال من ابن اللتبية ... 220
الخامس عشر: مشاطرة عمر العمال اموالهم ... 222
السادس عشر: أن المسألة من باب رعاية المصالح عن المالكية ... 223
هجاء المؤلف للشيخ البرزلي ... 247
قصيدة نظم فيها المؤلف ما تقدم ذكره في المسألة ... 253
فهارس الكتاب(1/361)
فهرس الآيات القرآنية ... 261
فهرس الأحاديث النبوية ... 263
فهرس الأعلام ... 266
فهرس الكتب ... 274
فهرس الطوائف والفرق والمذاهب ... 276
فهرس الأماكن ... 277
فهرس القوافي ... 278
فهرس المصادر والمراجع ... 286
فهرس الموضوعات ... 329(1/362)